[20] رواه البخاري في (باب وُجوبِ الصفا والمروة وجُعِلَ مِن شعائرِ الله) ومسلم في (باب بيان أنَّ السعيَ بين الصفا والمروة ركنٌ لا يصحُّ الحجُّ إلا به) واللفظ لمسلم.
[21] تفسير القرآن العظيم 1/262.
[22] الأبيات لابن الشبل: مُثِيرُ الغَرامِ السَّاكِن إلى أشرفِ الأماكن لابن الجوزي ص 198.
مَراتِعُ الأشواق في مَرابع العُشاق
(3/3) د. محمد عمر دولة*
ذكريات المدينة والمواقيت**
ما أحلى الرحلةَ إلى طيبة
خرجنا في الساعة الخامسة صباحا من الحرم المكي.. وبلغْنا (مسجد عائشة) بالتنعيم بعد نحو ربع ساعة بمسافة 6600متر بعداد السيارة.
تتذكر.. حين تبدأ الرحلة إلى طَيبة.. كلمات يحيى بن معين رضي الله عنه : (سَفرةٌ إلى المدينة أحبُّ إليَّ من مائتي طواف).[1]
ولله دَرُّ الشيخ خليل إبراهيم ملا خاطر؛ فقد استفتحَ بهذه العبارة كتابَه: (فضائل المدينة المنورة).[2]
كل الرحلات.. مُتعِبةٌ وشاقة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : (السفرُ قِطعةٌ من العذاب).[3] إلا الرحلة إلى المدينة النبوية الشريفة؛ فإنها عَذبةٌ مُمتِعة
فالشوقُ يَحْدُوك إليها.. من قبلِ أن تبدأ الرحلة.. والذكرياتُ العذبة تصحَبك طُولَ الطريق.. والأحاديثُ الحلوة تطوي الأرضَ طَيّاً
أتاك حديثٌ لا يُمَلُّ سَماعُه ** حبيبٌ إلينا نَثرُه ونِظامُه
إذا سَمِعَتْه النفسُ زال عَناؤها ** وزال عن القلبِ المُعَنَّى ظلامُه
--------- (2) ---------
تحضرك في رحلة المدينة المنورة.. ذكرياتُ الصالِحين.. المتتبِّعين آثارَ النبي صلى الله عليه وسلم .. فقد أخرج البخاري عن سالم بن عبد الله بن عمر رضي الله عنهم في كتاب الحج (باب قول النبي صلى الله عليه وسلم : العقيقُ وادٍ مُبارَك): (قد أناخ بنا سالم يتوخَّى بالمُناخِ الذي كان عبد الله يُنِيخُ يتحرَّى مُعَرَّسَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وهو أسفل من المسجد الذي ببطن الوادي).
فهذه الأرض قد وطئتها أقدامُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم .. وفاحت في أرجائها أنفاسه الطاهرة, وسار في جنباتها أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير... رضي الله عنهم أجمعين..
وما ظنُّك بأرضٍ سار على أديمِها هؤلاء
وأستشرفُ الأعلام حتى يدلَّنِي ** على طِيبِها مَرُّ الرياحِ النَواسِمِ
وما أنسمُ الأرواحَ إلا لأنها ** تَمُرُّ على تلك الرُّبَى والمعالِمِ
---------- (3) ---------
ما أجملَ هذا الطريق الجبلي الطويل.. الذي يُذكِّرك بصعوبة الرحلة النبوية الشاقة.. في هجرة النبي صلى الله عليه وسلم مع صاحبه أبي بكر الصديق رضي الله عنه ..
وتتداعى إلى خيالك ذكرياتُ المحبِّين.. الذين كانوا يزورون المدينة المنورة.. ولا يستطيعون أن يتخلوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .. مهما صعب الطريق، وكثرت الأخطار..
وتتذكر.. ما أوردَه الحافظ ابن كثير في وقائعِ سنة أربعٍ وتسعين وثلاثمائة (394 هـ) أنّ وفداً من العراقيِّين حَجُّوا وكانوا يخافون قطّاعَ الطريق، ومعهما قارئان مِن أحسنِ الناسِ صوتاً، وقد كان أميرُ العراقِ عزمَ على العَوْدِ سريعاً إلى بغداد على طريقِهم التي جاؤوا منها، وأن لا يسيروا إلى المدينة النبويّة؛ خوفاً من الأعراب... فشقَّ ذلك على الناس، فوقف هذان الرجلان القارئان على جادّة الطريق التي منها يُعدَل إلى المدينة النبويّة، وقرءا: (ما كان لأهلِ المدينةِ ومَنْ حولَهم مِن الأعرابِ أن يتخلَّفُوا عن رسولِ اللهِ ولا يَرْغَبُوا بأنفُسِهم عن نفسِه)... الآيات؛ فضجَّ الناسُ بالبكاء، وأمالَت النُّوقُ أعناقَها نحوهما؛ فمال الناسُ بأجمعِهم والأمير إلى المدينة النبويّة؛ فزارُوا وعادُوا سالمين إلى بلادهم".[4]
-------- (4) ----------
ها هي الشمس.. تصحو من نومها؛ وتستعد لِفَتحِ جفونها.. في هذا اليوم السعيد.
أتوجه إلى المدينة المنورة.. على صاحبها أفضل الصلاة والتسليم.. ويعمر القلبَ رجاءٌ في الله.. أن يَمُنَّ علينا بالحياة في المدينة.. والممات في المدينة.. (المحيا محياكم، والممات مماتكم)
أي شرف وتكريم.. أن نعيش في المدينة ونموت فيها ونُبعَث منها فتلك أمنيةٌ عزيزة.. وقد تمنى أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه أن يموت بالمدينة.. كما روى البخاري في آخر كتاب (فضائل المدينة) أن عمر قال: (اللهم ارزقني شهادةً في سبيلك، وميتةً في بلد رسولك)
وقد روى أحمد والترمذي وابن حبان وابن ماجه عن ابن عمر رضي الله عنهما أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من استطاع أن يموتَ بالمدينة فَلْيَمُتْ بها؛ فإني أشفع لمن يموت بها).[5]
--------- (5) -----------(/5)
تتذكر دعاءَ السفر: (سُبحانَ الذي سَخَّرَ لنا هذا؛ وما كُنا له مُقرِنِين).. وأنت تقطعُ بالسيارةِ الطريقَ البعيد مِن مكة إلى المدينة.. في أربعِ ساعات.. وقد كانت الإبلُ تقطعُ هذه المسافةَ الشاقة في عشرةِ أيامٍ كاملةٍ وتقول: صدقَ الله العظيم: (وتحملُ أثقالَكم إلى بَلدٍ لم تكونوا بالِغِيهِ إلا بشِقِّ الأنفُس إنَّ ربَّكم لَرؤوفٌ رَحيم).[6]
---------- (6) -------
لله ما أسعدَ القلبَ.. بالقُدومِ على سَيدِ الأولِين والآخِرين.. وزيارةِ أكرمِ النبيِّين.. والوُقوفِ بين يَدَيْ أشرفِ الخلق أجمعين
إنَّ القلبَ لَيَطوي المسافات.. ويُسابقُ آلافَ السيارات.. لِيَصلَ إلى المبعوثِ رحمةً للعالَمين، والشفيعِ في الأوَّلِين والآخِرين صلى الله عليه وسلم
-------- (7) -------
اليوم يسعدك الله عز وجل برؤية مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم .. التي تَحِنُّ إليها قلوبُ الصالحين.. وتهوي إليها أفئدةُ الْمُحِبِّين
تستقبلُك قُربَ ذي الحليفة ـ وهو الميقات الذي يُهِلُّ منه أهلُ المدينة إذا أرادوا الحجَّ والعُمرةَ ـ لافتةٌ كُتب عليها: (قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : مثل المؤمنين في توادِّهم وتَراحُمِهم مثل الجسد؛ إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائرُ الجسدِ بالسَّهرِ والحمى). رواه البخاري ومسلم.
--------- (8) -------
يطير قلبُك.. من بين جوانِحِك.. حين تتراءى لك مئذنةُ المسجد النبوي.. بجمالِها وجلالها.. وتدمع عيناك لذكرى رسول الله صلى الله عليه وسلم
وتقف قدماك.. هنا.. لتعود بذاكرتك.. أربعة عشر قرناً من الزمان..
ورحم الله ابن عمر رضي الله عنهما؛ فقد وقفَ هذا الموقف، كما روى البيهقي في الزهد بسند صحيح (ما ذكر ابن عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بكى، ولا مرَّ على رَبعِهم إلا غَمضَ عينيه) [7]
ويحضرك شعورٌ من المهابة.. تتذكر فيه قولَ ابنِ قدامة رحمه الله: "وأما المدينة الشريفة، فإذا لاحتْ إليك فتذكَّرْ أنها البلدةُ التي اختارها الله لنبيِّهِ محمد صلى الله عليه وسلم وشرع إليها هجرته وجعل فيها تُربتَه، ثم مثِّلْ في نفسِك مَواضعَ أقدامِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم عند تردُّدِهِ فيها وتصوَّرْ خشوعَه وسكينتَه؛ فإذا قصدتَ زيارةَ القبرِ فأحْضِرْ قلبَك لتعظيمِهِ والهيبةِ له، ومثِّلْ صُورتَهُ الكريمة في خيالِك، واستَحضِرْ عظيمَ مضرتبتِهِ في قلبِك، ثم سَلِّمْ عليه، واعلَمْ أنه عالِمٌ بِحُضُورِك وتسليمِكَ كما وردَ في الحديث".[8]
---------- (9) --------
لله ما أحسنَ الصلاةَ في المسجد النبوي.. والروضة الشريفة كما قال صلى الله عليه وسلم : (صلاة في مسجدي هذا خيرٌ من ألفِ صلاةٍ في غيرِه من المساجد؛ إلا المسجد الحرام).[9]
ورحم الله المحبَّ الطبري ما أحسنَ قولَه: "ينبغي لمن قصدَ آثارَ النُّبوَّةِ أن يَعُمَّ بصلاتِهِ الأماكنَ التي هي مَظِنَّةُ صلاتِهِ صلى الله عليه وسلم فيها؛ رجاءَ أن يَظْفَرَ بِمُصَلَّى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِن كلِّ مكانٍ:
خليليَّ هذا ربعُ عزةَ فاعْقِلا ** قَلُوصَيْكُما ثم انزِلا حيثُ حَلَّتِ
ومسّا تراباً طيِّباً مسَّ ذيلَها ** وبيْتاً وظِلاً حيثُ باتَتْ وظَلَّتِ
ولا تيْأسا أن يعفوَ الله عنْكما ** إذا أنتُما صلَّيْتُما حيثُ صَلَّتِ"[10]
------- (10) ---------
الأحد الثامن من جمادى الآخرة 1425هـ الموافق له 25/7/2004م.
أي ذكرى تداعب خيالَك.. وأي تاريخ يخطر ببالك وأنت تنظر إلى (جبل أُحُد).. الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم وهو راجعٌ من خيبر: (أحُدٌ جبلٌ يحبنا ونحبه) [11]
هذه غزوة (أُحد) بأحداثها وخيولها.. تتراءى إلى ناظريك وهذا تاريخ الغزوة.. ينبض بين يديك بالحركة والحياة
هذا جبل (أُحُد).. حيث كان حمزة رضي الله عنه يجندل الرجال.. فتلك مصارع الأبطال
وها هو (جبل الرماة).. يروي قصة خالد رضي الله عنه .. وهو يهاجم المسلمين؛ فيبغتهم من ورائهم
وهذا قبر سيد الشهداء.. يطل على جبل (أُحُد).. ويتوسط جبل الرماة وجبل أُحُد.
ثم ترى وأنت راجعٌ.. منطقة (السبع مساجد).. حيث خندق النبي صلى الله عليه وسلم لغزوة الخندق.
وهذا (مسجد القِبلتَين).. حيث حُوِّلت قِبلةُ المسلمين.. من المسجد الأقصى إلى الكعبة المشرفة.
وهذه منطقة (عروة).. حيث خرج أهل المدينة رضي الله عنهم يستقبلون رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وهذه أرض البقيع.. مقبرة أهل المدينة.. من لدن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم أجمعين.. إلى يوم الناس هذا
بعد نحو ثلاثة وعشرين كيلا من المدينة.. يُودِّعك أهل المدينة بلافتةٍ كُتب عليها: (أستودعُ الله دينَكم وأمانتَكم وخواتيمَ أعمالِكم).
وشتانَ.. بين رحلةِ الذهاب والإياب.. فإنَّ فراقَ المدينة صَعبٌ على النفس.. وما أصدقَ قولَ الشاعر:
أسَعُ البلادَ إذا أتيتُك زائراً ** وإذا هَجَرتُك ضاقَ عنِّي مقعدي
-------------------------------
(الرحلة إلى المواقيت)(/6)
---------- (1) ------------
تصحبك الجبال الشماء.. عن اليمين والشمال؛ فلا تشعر بالملل والسآمة.. وأنت تذكر قولَ الله عز وجل: (وترى الجبال تحسبها جامدةً وهي تَمُرُّ مَرَّ السحاب).[12]
هذه الجبال الوعرة.. التي يشق على النفس أن ترتقي قمة واحدةً منها.. تذكِّرك بقول الشاعر:
ومَن لا يُحبُّ صُعودَ الجبال ** يَعِشْ أبدَ الدهرِ بين الحُفَرْ [13]
فتُصلِّي وتسلِّم على رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم .. الذي شقَّ هذه الجبالَ الوعرةَ في طريق هجرته بهذا الدين من مكة إلى المدينة.. في مسافة تقدر بـ450 ميلا فما الذي قدَّمناه نحن لهذا الدين؟ أستغفر الله العظيم
--------- (2) ---------
تُلاقيك اللافتاتُ الطيِّبة.. على طول الطريق: (اذكر الله).. (لا حول ولا قوة إلا بالله).. (سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين).. (اللهم صل على النبي).. (سبحان الله).. (الحمد لله).. (اشكر الله).. (استعن بالله).. (الله أكبر).. (لا إله إلا الله).. (توكل على الله).. (تعوذ من الشيطان).. (لا حول ولا قوة إلا بالله)
---------- (3) ---------
الاثنين 9 جمادى الآخرة 1425هـ الموافق له 26/4/2004م.
خرجنا في الرابعة والنصف عصراً.. لزيارة (يلملم) ميقات أهل اليمن.. فما خرجنا من مكة حتى عادت الجبالُ لمصاحبتنا في رحلتنا الجديدة.
وبعض هذه الجبال.. قد شُقَّ فيه طرقٌ ملتوية.. تصعد وتنزل..
سبحان الله.. ما أجملَ منظرَ المساجد بين الجبال
وترى الرمال تسفيها الرياح.. فتودي بها إلى جانب الطريق.. وتلك كثبان الرمال جاثمة تنطلق منها الرمال الناعمة.
----------- (4) ---------
بلغنا السعدية (ميقات يلملم) في السادسة والنصف مساء.. والشمس قد أوشكت على الغروب.. فلو رأيتَ مشهدَ الشمس وهي تنام على رمالِ الصحراء؛ لقلتَ: سبحان الله (ربَّنا ما خلقتَ هذا باطلا سُبحانك فقِنا عذابَ النار) [14]
وقد كُتب في لافتة.. قريبة من السعدية حديث النبي صلى الله عليه وسلم : (إماطة الأذى عن الطريق صدقة).
وفي بعض الطريق ترى أشجار الأراك.. فوق كثبان الرمال؛ فتتذكر قولَ ابن منظور رحمه الله:
بالله إنْ جُزتَ بوادي الأراكْ ** وقبَّلَتْ عِيدانُه الخضرُ فاكْ
فابعَثْ إلى عَبدِك من بعضِها ** فإنني والله ما لي سِواكْ
----------- (5) ---------
ها هنا يتذكر الإنسان.. في خدِّ الشمس المتوردِ قولَ الله عزَّ وجل: (إنَّ في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآياتٍ لأولي الألباب).
هاهي الشمس تودِّعنا الآن.. بمنظرها الجميل.. الذي يُذكِّرنا بانقضاء الدنيا ونهاية العالم.. فنستحضرُ قول الشاعر:
ولقد ذكرتك والنهارُ مُودِّعٌ ** والقلبُ بين مَهابةٍ ورجاء
وخواطري تبدو تُجاهَ نواظري ** كلمَى كداميةِ السحاب إزائي
والشمسُ في شفقٍ يسيل نُظارُه ** فوق العقيق على ذُرًى سوداء
سارت خلال غمامَتَين تحدَّرا ** وتقطَّرت كالدمعةِ الحمراء
فكأنَّ آخرَ دمعةٍ للكونِ قد ** مُزِجَت بآخرِ أدمُعي لرثائي
وكأنني آنستُ يومي زائلا ** فرأيتُ في المرآةِ كيف مسائي [15]
----------- (6) -----------
رحلنا من بعد صلاة الفجر يوم الأربعاء.. لزيارة قرن المنازل..
مررنا بـ(جبل النور) الذي فيه غار حراء.. فتذكرنا حديث عائشة رضي الله عنها: (ثم حُبِّب إليه الخلاء؛ فكان يخلو بغارِ حراء فيتحنث ـ وهو التعبُّد[16] ـ الليالِيَ ذواتِ العدد؛ حتى جاءه الوحي وهو على ذلك).[17]
ثم مررنا بالجعرانة.. ومسجدِها الذي اعتمر منه النبي صلى الله عليه وسلم .
---------- (7) ----------
ها هو الصبح يتنفس.. وكأنَّ الشمسَ نؤوم الضحى
الجبال تبدو ها هنا صخرية.. قد خَدَّت فيها الرياح أخاديد.. مثل الدموع على وجنات التائبين.. وخطت فيها السنون خطوطاً.. كخطوط الشيب
ها هو حاجبُ الشمسِ يُطِل من وراء الجبال.. فسُبحانَ الذي أحْسَنَ كلَّ شيءٍ خَلَقَه
-------- (8) ------------
نَمُر أحيانا ببعضِ حدائق النخيل في الشرائع.. فلو رأيتَ يا صاحِ بساتينَ النخيل بين الجبال.. لذكَرتَ قول الله تعالى: (والنخلَ باسقاتٍ لها طلعٌ نضيد).[18]
سبحان الله.. تلوح لك بعض الأشجار التي نبتت بين الصخور فوق الجبال.. فتقرأ قولَ الله عزَّ وجل: (وفي الأرض آياتٌ لِلمُوقِنِين وفي أنفُسِكم أفلا تُبصِرُون)
سبحانك ربَّنا.. ما أبدعَ صُنعَك.. وما أروعَ خلقَك
--------- (9) ---------
هذه الجبال التي تلاقيك.. شامخة شموخَ الرجال الأبطال.. الذين عمروا هذه الديار.. ونشروا الدِّينَ في سائر الأمصار
لقد كان لهذه البيئة الجبلية والصحراوية أثرٌ في تربية الصحابة رضي الله عنهم .. على الصبر والتحمل.. والقوة والجلد.. والعزة والأنفة.. حتى مدَحَهم الله عزَّ وجل بأنهم (أعزة على الكافرين).. و(أشداء على الكفار)
كيف لو رأيتم الجبال الصغيرة الرابضة في بطن الوادي.. والأشجار تحفها.. وقطيع من الأغنام يرعى هذه الأرض القاحلة.. إلا من بعض الأعشاب الجافة وشجرات الأثل الصحراوية.(/7)
ولو أنك شاهدتَ صخرةً جبليةً.. نبتت فيها شجرةٌ بريةٌ.. لقلتَ: (سبحان الله وبحمده؛ سبحان الله العظيم)
---------- (10) --------
وجدنا في واد بين ميقات (قرن المنازل) و(ذات عرق) مجموعةً متجاورةً من الجبال.. بعضها أسود.. وبعضها أحر.. حتى بلغنا جبالا بيضا.. فذكَّرتنا هذه اللوحة الطبيعية البديعة بقول الله عز وجل: (ومِن الجبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وحُمْرٌ مُختلِفٌ ألوانُها وغَرابِيبُ سُود).
كنا نسير قريبا من ذات عرق.. التي حدَّها عمر رضي الله عنه لأهل العراق؛ لأن قرن المنازل جَورٌ عن طريقِهم.. فإذا بالجبال الشاهقة تكسوها أشجار الأثل.. من سفوحها إلى قممها فلو رأيتَ الشجرَ على رؤوس الجبال كما أراها الآنَ أمامي لرأيت شيئاً عجبا
وترى بعض الرعاة بين قطعان الماشية.. في الأودية والجبال.. بعيدا عن الفتن.. والقاذورات التي تقذف بها القنوات الغربية الفاضحة إلى بلداننا المسلمة.. فتتذكر ما أن من خير معاش الناس لهم إذا اقتربت الساعة رجل في شعب من الشعاب يرعى غنمه ويدع الناس من شره..
اللهم احفظ علينا ديننا.. ولا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا.. وقنا شر الفتن ما ظهر منها وما بطن.. واجعل حياتنا ومماتنا في بلد رسولك صلى الله عليه وسلم ..
"يا دارَ خير المرسلين ومن به ** هُديَ الأنامُ وخُصَّ بالآياتِ
عندي لأجلك لوعةٌ وصبابةٌ ** وتشوُّقٌ متوقِّد الجمراتِ
وعليَّ عهدٌ إن ملأتُ محاجري ** من تلكم الجدرانِ والعرصاتِ
لأعفِّرنَّ مَصونَ شيبي بينها ** من كثرة التقبيل والرشفاتِ "[19]
---------
**(خواطر من رحلةِ العُمرة وذكرياتِ الزيارة)
------------------------------------------------
[1] معرفة الرجال 2/29، تحقيق محمد مطيع الحافظ وغزوة بدير، نشر مجمع اللغة العربية بدمشق.
[2] انظر فضائل المدينة المنورة لملا خاطر، دار القبلة للثقافة الإسلامية جدة ط5، 1415 هـ.
[3] رواه البخاري ومسلم.
[4] البداية والنهاية لابن كثير 6/406.
[5] راجع أحاديث الشفاعة لِمَن يَمُوت بالمدينة في كتاب (فضائل المدينة المنورة) لملا خاطر.
[6] النحل 7.
[7] الإصابة في تمييز الصحابة 2/347-349.
[8] مختصر منهاج القاصدين ص50
[9] رواه البخاري 1/398، في أبواب التطوع، باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، حديث 1133. ورواه مسلم 2/1012، كتاب الحج، باب فضل الصلاة بمسجدي مكة والمدينة، حديث1394.
[10] القرى لقاصد أم القرى ص 350.
[11] رواه البخاري ومسلم.
[12] النمل 88.
[13] البيت لأبي القاسم الشابي.
[14] آل عمران 191.
[15] من قصيدة المساء لخليل مطران.
[16] هذا التفسير لابن شهاب الزهري.
[17] راجع الحديث في كتاب بدء الوحي من البخاري.
[18] ق 16.
[19] الشفا للقاضي عياض 2/622-624.(/8)
قضايا حديثية
مَنْ صنف مسند أبي داود الطيالسي ؟
فضيلة الشيخ/خليل بن محمد العربي 27/8/1423
12/11/2001
لا يخفى عليكم مدى أهمية إثبات نسبة كل كتاب لمصنفه حتى لا يتم عزو قول ما إلى غير قائله ، أو نسبة وهم لغير صاحبه ، أو معرفة منهج صاحب هذا المصنف من خلال دراسة مصنفه ... إلى آخره .
ومما استرعى انتباهي "مسند" الإمام أبي داود الطيالسي – رحمه الله تعالى – حيث اختلفت آراء العلماء فيمن صنفه – فيما وقفت عليه – على أربعة أقوال :
القول الأول : أنه من تصنيف يونس بن حبيب .
القول الثاني : أنه من تصنيف أبي داود الطيالسي نفسه .
القول الثالث : أنه من تصنيف أبي مسعود أحمد بن الفرات الرازي .
القول الرابع : أنه من جمع بعض المتأخرين من حفاظ خراسان .
وسنذكر – بحول الله وقوته – بيان كل قول على حدة ، مع ذكر القائلين به ، مشفوعاً بأدلته ، مع ذكر الراجح منه :
القول الأول : أنه من تصنيف يونس بن حبيب :
وممن قال بذلك :
1- ابن أبي حاتم الرازي : صرح بذلك في موضعين من تصانيفه وهما :
أ – الجرح والتعديل ( 5/273رقم 1293) ، فقد قال – رحمه الله تعالى – لما ترجم لعبد الرحمن بن علقمة الثقفي : " أدخله يونس بن حبيب في كتاب (وفي نسخة من الجرح : مسند ، وكذا جاء في الإصابة 4/173 ) الوحدان ، فأخبرت أبي بذلك فقال : هو تابعي ، ليست له صحبة " .
فهذا تصريح بيِّن من ابن أبي حاتم بأن يونس بن حبيب هو الذي أنشأ "مسند" الطيالسي ، وجعله على مسانيد الصحابة – رضي الله عنهم – بدليل أنه هو الذي أدخل عبد الرحمن الثقفي في مسانيد الصحابة من الوحدان – يعني ممن لم يرو إلا حديثاً واحداً - .
وإن قال قائل : بأن هذا القول يُعد أيضاً من قول أبي حاتم الرازي نفسه لإقراره لابنه على ذلك لما أبعد .
تنبيه : جاء في ترجمة عبد الرحمن بن علقمة الثقفي المشار إليه آنفاً وإسناد حديثه من "مسند" الطيالسي (ص190رقم336) محرفاً ، وقد جاء على الصواب عند النسائي في الصغرى (6/279) فليصحح .
ب- كتاب " علل الحديث " (2/288رقم 369) ، فقد قال – رحمه الله تعالى – لما ذكر حديثاً رواه أبو داود الطيالسي من طريق أبي أيوب الأزدي : " ولم يفهم يونس بن حبيب أن أبا أيوب الأزدي هو العتكي ، فأدخله في مسند أبي أيوب الأنصاري".
قلت : وهذه الرواية في "مسند" الطيالسي (ص 81 رقم 596) .
وفي هذين القولين من ابن أبي حاتم دليل واضح على أن "مسند" الطيالسي هو من تصنيف يونس ابن حبيب .
وحسبك بذلك حجة من ابن أبي حاتم ، فهو من أعلم الناس بيونس بن حبيب ، وأكثر الناس رواية عنه .
2- ابن حبان البستي :
فقد ذكر يونس بن حبيب في :"الثقات" (9/291) وقال : "صاحب مسند أبي داود الطيالسي ".
وكلمة "صاحب" هذه لا تقال إلا على من صنف الكتاب لا من رواه عن مصنفه .
ولو أن ابن حبان يرى أن هذا "المسند" هو من تصنيف أبي داود الطيالسي لقال في يونس بن حبيب "راوي مسند أبي داود الطيالسي " وهذا أمر معلوم .
3- شمس الدين الذهبي :
قال – رحمه الله تعالى- في السير (9/382) في ترجمة أبي داود الطيالسي . " سمع يونس بن حبيب عدة مجالس مفرقة ، فهي المسند الذي وقع لنا " .
ويعني الذهبي بذلك : أن ما وصل إلينا من " مسند " الطيالسي هي عدة مجالس أملاها أبو داود ، فجمعها يونس بن حبيب ، جعلها على ترتيب "المسند" .
قلت : وثمة دليل آخر – قطعي – يثبت أن "المسند" هو من تصنيف يونس بن حبيب:
وهو ما جاء في المسند (ص 174 رقم 1238) :"... حدثنا أبو محمد عبد الله بن جعفر بن أحمد ابن فارس ، حدثنا يونس بن حبيب قال : أحاديث حارثة بن وهب – رضي الله عنه – حدثنا أبو داود الطيالسي ..." .
وكذلك في (ص 346 رقم 2650) : " ..... حدثنا أبو بشر يونس بن حبيب قال أبو العالية الريحاني عن ابن عباس – رضي الله عنهم – حدثنا أبو داود ..." .
ففي هذين الموضعين ترى أن يونس بن حبيب هو الذي صرح بأسماء الصحابة الذين سيورد لهم أحاديثهم فيما رواه عن شيخه أبي داود الطيالسي .
ولو أن أبا داود الطيالسي هو الذي صنف "المسند" لنسبت هاتان العبارتان له .
وفي كل ما أوردناه من أدلة تثبت لنا أن هذا "المسند" هو من تصنيف يونس بن حبيب – رحمه الله تعالى -.
القول الثاني : أنه من تصنيف أبي داود الطيالسي :
وممن قال بذلك :
1- الحاكم النيسابوري صاحب المستدرك : فقد قال – كما في المدخل ص 30-: "أبو داود الطيالسي هو أول من صنف المسند على تراجم الرجال في الإسلام ".
2- أبو يعلى الخليلي : قال – كما في الإرشاد 2/512-: " أول من صنف المسند على ترتيب الصحابة بالبصرة : أبو داود الطيالسي" .
3- ابن خير الأشبيلي : قال في فهرسته (141): " مسند أبي داود الطيالسي وهو أول مسند صنف في الإسلام " .
4- القرطبي : قال في تفسيره (1/9) : " مسند أبي داود الطيالسي هو أول مسند صنف في الإسلام ".
5- الحافظ العراقي : قال في فتح المغيث (1/50) : " مسند أبي داود الطيالسي، ويقال إنه أول مسند صنف ".(/1)
الجواب عن هذا القول بما يأتي :
1- ما أوردناه من أدلة صريحة في القول الأول تثبت أن هذا "المسند" ليس من تصنيف أبي داود الطيالسي .
2- القائل بأن أبا داود الطيالسي هو الذي صنف " المسند " إمام واحد فقط وهو : الحاكم النيسابوري ، ومن ذكر دونه فهو تبع له ، فإن أبا يعلى الخليلي تلميذ للحاكم ، وهو كثير ما يتبع شيخه في كتابه الإرشاد ، وهذا أمر يعلمه من له اطلاع عليه .
3- وأما ما ذكر عن ابن خير الأشبيلي ، والقرطبي ، والعراقي بأن " المسند هو أول مسند صنف في الإسلام "ليس بلازم منه أن الطيالسي هو الذي صنفه.
4- على أنا لا نسلم بصحة هذه المقولة – أعني القول بأن أبا داود هو أول من صنف المسند – فقد قال ابن عدي – رحمه الله تعالى – في كتابه الكامل (7/239) في ترجمة يحيى الحماني :" أول من صنف المسند بالبصرة مُسَدَّد" ومعلوم أن الطيالسي أعلى طبقة من مسدد ، ثم إن قول ابن عدي هذا هو أولى بالقبول ممن سواه ممن كان دونه في الرتبة والطبقة .
وقال الحافظ ابن حجر في "التقريب" : " مسدد بن مسرهد ... يقال إنه أول من صنف المسند بالبصرة " .
وقال الحافظ الكتاني في " الرسالة المستطرفة " (ص 61) : " مسند أبي داود الطيالسي ... قيل : وهو أول مسند مصنف ، ورد بأن هذا صحيح لو كان الجامع له لتقدمه ، لكن الجامع له غيره ...." .
القول الثالث : أنه من تصنيف أبي مسعود أحمد بن الفرات الرازي :
قال بذلك : الحافظ أبو نعيم الأصبهاني ، قال الذهبي في السير (9/382) : "وقال أبو بكر الخطيب : قال لنا أبو نعيم : صنف أبو مسعود الرازي ليونس بن حبيب مسند أبي داود الطيالسي ".
جوابه :
غاية ما في هذا القول أن أبا مسعود الرازي قد أعان يونس بن حبيب في تصنيفه للمسند ، أو أنه انتخب له بعض مروياته عن أبي داود الطيالسي ،
على أنا لا نسلم بذلك كله ، فقد تبين لنا من خلال دراستنا للمسند أن يونس بن حبيب هو وحده الذي صنف هذا المسند وذلك بما يأتي :
1- ما أوردناه سلفاً في القول الأول بما لا مزيد عليه في الاستدلال بأن يونس بن حبيب هو صاحب المسند .
2- وجدت في "المسند" كثيراً من الزوائد التي زادها يونس بن حبيب على مرويات شيخه أبي داود الطيالسي ، ومن هذه الزوائد : روايته عن حماد بن زيد رقم ( 622) ، وعن حماد بن سلمة رقم ( 911) ، وعن عبد الله بن المبارك رقم ( 1010) ، وعن سفيان الثوري رقم ( 1720) ، وعن عبد الحكم القسملي رقم (2212) .
وكذلك ما زاده يونس بن حبيب من مرويات على سبيل المتابعات والشواهد كما في
رقم ( 364، 992) .
فلو أن أبا مسعود الرازي هو الذي صنف المسند ليونس بن حبيب – كما ادعاه أبو نعيم – لما كانت هناك حاجة في إيراد هذه الزوائد في المسند .
ولكننا نستفاد من قول أبي نعيم هذا : أن "المسند" ليس من تصنيف أبي داود الطيالسي ، وفي هذا ترجيح قوي آخر لإثبات "المسند" ليونس بن حبيب .
القول الرابع : أنه من جمع بعض المتأخرين من حفاظ خراسان :
وممن قال بذلك :
1- الحافظ ابن نقطة : قال في التقييد (ص489) : " ويقال أن هذا المسند جمع له – يعني ليونس بن حبيب – مما وجد سماعه من أبي داود جمعه له بعض حفاظ الأصبهانيين ".
2- الحافظ السيوطي : قال في التدريب (1/175) متعقباً العراقي : "وظن أنه هو صنفه ، وليس كذلك ، فإنما هو من جمع بعض الحفاظ الخرسانيين ، جمع فيه ما رواه يونس بن حبيب خاصة عنه ، وشذ عنه كثير منه ".
3- الحافظ الكتاني : قال في الرسالة المستطرفة ( ص61) :" وهو [جمع] بعض حفاظ خراسان ، جمع فيه ما رواه يونس بن حبيب عنه خاصة ".
جوابه :
1- أنه هذا القول ظاهر البطلان ، فأقدم من قال بذلك – فيما وقفت عليه – هو الحافظ ابن نقطة ، ولا يمكن أن ننسب هذا القول إليه ، حيث نقله بصيغة التمريض ، ثم إنه قال بعد ذلك مباشرة :" حدث عنه – يعني يونس بن حبيب – بالمسند عبد الله بن جعفر بن أحمد بن فارس ". هذا إقرار من ابن نقطة أن المسند كان بين يدي يونس بن حبيب .
2- لم يعرج أحد ممن نقل هذا القول باسم ذاك الحافظ الخراساني المتأخر والذي نسب إليه بتجميعه "لمسند الطيالسي" .
3- من تتبع أقوال العلماء ممن تكلموا على "مسند الطيالسي" عَلِمَ عِلْم اليقين أن "المسند" كان بين يدي يونس بن حبيب وأانه كان مصنفاً في حياته ، ومن هذه الأقوال :
أ- قال ابن مردويه في " تاريخ أصبهان" – التقييد ص 88 - :" محمد بن علي بن محمد الجارود أبو بكر .... روى "المسند" عن يونس بن حبيب يعني مسند أبي داود الطيالسي " .
ب- وكذلك قال أبو الشيخ في طبقاته ( 3/579) في ترجمة ابن الجارود "سمع المسند من يونس بن حبيب ".
ج- وقال أبو الشيخ في طبقاته (4/299) في ترجمة محمد بن إسماعيل بن سمويه :" وعنده عن يونس بن حبيب المسند ".
د- وقال ابن نقطة في التقييد (314) لما ترجم لابن فارس "حدث عن يونس بن حبيب بمسند أبي داود الطيالسي ".(/2)
ففي هذا الأقوال كلها دليل – لا شك فيه ولا ريب – أن المسند كان بين يدي يونس بن حبيب ، وأنه كان يحدث به ، وسمعه منه الكثيرون .
وإذا انضاف إلى هذا الدليل ما سبق بيانه في الأقوال الثلاثة – سالفة الذكر- تبين لنا حقيقة أن "مسند" الطيالسي هو من تصنيف يونس بن حبيب رواية أبي داود الطيالسي .
هذا وإني أرجو من إخواني الأفاضل أهل الحديث من كان عنده مزيد علم عما ذكرناه فليفدنا به مأجوراً إن شاء الله تعالى .
وصلى الله على نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين .(/3)
مَوازينُ الإيمَانِ والمؤمنينْ في القرآنِ الكَريم
عز الدين بليق
ان من سِماتِ المؤمنين ابتعادُهُم عن الحَمِيّةِ الجاهلية، وتحلِّيهم بالسكينة، والتزامُهُم بكلمةِ التقوى: (إِذْ جَعلَ الَّذينَ كَفَرُوا فِي قُلوبِهِمُ الحَميَّةَ حَميَّةَ الجَاهليَّةِ فَأَنزلَ اللهُ سَكِينتَهُ عَلى رَسُولهِ وَعَلَى المُؤمِنينَ وَأَلزَمَهُمْ كَلِمةَ التَّقوَى وَكَانُوا أَحقَّ بِهَا وَأَهلَهَا وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيءٍ عَليماً) (الفتح/ 26) .
وإيثارُهُم محبَّة الله عمَّا سواه: (وَمنَ النَّاسِ مَن يَتَّخذَ مِن دُونِ اللهِ أَندَاداً يُحبُّونَهُم كَحبِّ اللهِ وَالَّذينَ أَمَنُوا أَشدُّ حُبّاً للهِ) (البقرة/ 165) .
واجتنابُ البغي بين الشركاء والخلطاء: (وَإِنَّ كَثيراً مِّنَ الخُلطَاءِ لَيبْغيِ بَعضُهُم عَلَى بَعضٍ إلاَّ الَّذينَ أمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَليلٌ مَّا هُمْ) (ص/ 24).
وعدمُ حرمانِ أنفُسِهِم من زينةِ الله التي اخْرَجَ لعبادِهِ والطيّباتِ من الرزق، واجتنابُهُم محارِمَ الله: (قُلْ: مَنْ حَرَّمَ زِينةَ اللهِ الَّتي أَخْرَجَ لِعبَادهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ؟ قُلْ: هِيَ للَّذينَ أمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنيَا خَالِصَةً يَوْمَ القِيامَةِ كَذلكَ نُفصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلمُونَ) (الأعراف/ 32).
والتواصي بالحق والصبر والمرحمة: (والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين أمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر) (العصر/ 1-3).
والاستجابةُ للتوبةِ والتقوى للعبور من نفق الظلمات إلى النور: (وَهُوَ الَّذِي يَقْبلُ التَّوبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعْلمُ مَا تَفْعلونَ وَيَستجِيبُ الَّذينَ أمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزيدُهُم مِّن فَضلِهِ وَالكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَديدٌ) (الشورى/ 25-26).
والاعتصامُ بالله لاستقبال ورحمته وفضله وهدايته: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنَزلنَا إِليْكُمْ نُوراً مُّبِيناً فَأَمَّا الَّذينَ أمَنُوا وَاعْتَصمُوا بِهِ فَسيُدْخلُهُم فِي رَحمةٍ مِّنهُ وَفَضلٍ وَيَهْديهِمْ إِليْهِ صِرَاطا مُّستَقيماً)(النساء/ 174-175).
وَعَدَمُ اتّباعِ الظالمينَ والمنحرفينَ حتى لا يكونوا من المحرومين من دخول جنّة النعيم: (وَبَرزُوا للهِ جَميعاً فَقالَ الضُّعفاءُ للَّذينَ اسْتكبرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُم تَبعاً فَهلْ أَنتُم مُّغنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللهِ مِن شَيءٍ؟ قَالُوا: لَو هَدانَا اللهُ لَهدَيناكُمْ سَواءٌ عَلَينَا أجَزعنَا أَمْ صَبرنَا مَا لنَا مِن مَّحيصٍ وَقَالَ الشَّيطانُ لمَّا قُضيَ الأمرُـ: إِنَّ اللهَ وَعَدكُم وَعدَ الحَقِّ وَوعَدتُّكُم فَأَخْلفتُكُم وَمَا كَانَ لِي عَليكُم مِّن سُلطانٍ إِلاَّ أَن دَعَوتُكُم فَاسْتجبتُم لِي فَلاَ تَلومُوني وَلُومُوا أَنفُسَكُم مَّا أَنَا بِمُصرخِكُم وَمَا أَنتُم بِمُصرخيَّ إِنِّي كَفرتُ بِمَا أَشركتُمونِ مِن قَبلُ إِنَّ الظَالمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَليمٌ وَأُدخلً الَّذينَ أمَنُوا وَعَملُوا الصَّالحَاتِ جَنَّاتٍ تَجرِي مِن تَحتِهَا الأَنهَارُ خَالدِينَ فِيهَا بإِذنِ رَبِّهِم تَحيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ) (إبراهيم/ 21-23).
ودستور إعلامهم (وَقُولُوا للِنَّاسِ حُسْناً) (البقرة/ 83) وعدم اختلافِ إعلامهم مع أعمالهم، وعدم تغاضيهم عن الظلم والعدوان: (يَا أَيُّهَا الَّذينَ أمَنُوا لِمَ تَقولُونَ مَا لاَ تَفعلُونَ؟ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللهِ أَن تَقولُوا مَا لاَ تَفعلُونَ إِنَّ اللهَ يُحبُّ الَّذينَ يُقَاتلُونَ فِي سَبِيلهِ صَفّاَ كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرصُوصٌ) (الصف/ 2-4).
وعدم ركونهم إلى زخارف الحياة الدنيا واشتغالهم بصالح الأعمال: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعدَ اللهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنكُمُ الحَياةُ الدُّنيَا وَلاَ يَغُرَّنكُم بِاللهِ الغَرُورُ إِنَّ الشَّيطانَ لَكُم عَدوٌّ فَاتَّخذُوهُ عَدُواً إِنَّما يَدعُوا حِزبَهُ لِيكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعيرِ الَّذينَ كَفرُوا لَهُم عَذابٌ شَديدٌ وَالَّذينَ أمَنُوا وَعَمِلُوا الصَالِحَاتِ لَهُم مَّغفرةٌ وَأَجرٌ كَبِيرٌ) (فاطر/ 5-7).
وإيثارهم هِجْرَةَ الأوطانِ وتَحَمُّلَ الأذى في سبيل الحرية والعقيدة ابتغاءَ مرضات الله: (قُلْ يَا عِبادِ الَّذينَ أمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُم: للَّذينَ أَحْسَنُوا فِي هَذهِ الدُّنيَا حَسنةٌ وَأَرضُ اللهِ وَاسعةٌ إِنَّما يُوفَّى الصَابِرُونَ أَجْرهُم بِغيْرِ حِسابٍ) (الزمر/ 10).(/1)
وإيمانهم بوعد الله سبحانه بالاستخلاف والتمكين والتبديل إذا ساروا على منهج الله: (وَعدَ اللهُ الَّذينَ أمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلوا الصَالِحَاتِ لَيستخِلفنَّهُمْ فِي الأَرضِ كَمَا استَخلفَ الَّذينَ مِن قَبْلَهمْ وَليُمكنَنَّ لَهُم دِينهُمُ الَّذي ارْتَضَى لَهُمْ وَليُبدلَنَّهُم مِّن بَعدَ خَوفِهِمْ أَمناً يَعبُدُونَني لاَ يُشْركُونَ بِي شَيئاً وَمَن كَفرَ بَعدَ ذَلكَ فَأولئكَ هُمُ الفَاسقُونَ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَأَتُوا الزَّكاةَ لَعلَّكُم تُرحَمُونَ) (النور/ 55-56) .
ويقينهم بوَعْدَ الله الصادق في الدنيا قبل الآخرة بنجاتهم من الهلاك والعذاب: (وَلمَّا جَاءَ أَمرُنَا نَجَّينَا هُوداً وَالَّذينَ أَمَنُوا مَعهُ بِرحْمةٍ مِّنَّا وَنَجَّينَاهُم مِّن عَذَابٍ غَلِيظٍ) (هود/ 58).
(إِنَّا لنَنصُرُ رُسُلنًا وَالَّذينَ أَمَنُوا فِي الحَياةِ الدُّنيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ يَوْمَ لاَ يَنفَعٌ الظَّالمينَ مَعْذرتُهُم وَلَهُم اللَّعنةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) (غافر/ 51-52).
واعتقادهم الجازم بوعد الله بالنجاح والفوز في الدنيا والآخرة: (وَلَو أَنَّ أَهلَ القُرى أَمَنُوا وَاتَّقَوا لَفَتحنَا عَليهِم بَركاتٍ مِّنَ السَّماءِ وَالأَرضِ وَلَكنِ كذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكسبُونَ) (الأعراف/ 96).
(إِلاَّ إِنَّ أَوليَاءَ اللهِ لاَ خَوفٌ عَليهِمْ وَلاَ هُمْ يَحزَنُونَ الَّذينَ أَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ لَهُم البُشرَى فِي الحَياةِ الدُّنيَا وَفِي الأَخرةِ لاَ تَبدِيلَ لَكلمَاتِ اللهِ ذَلكَ هُوَ الفَوزُ العَظِيمُ) (يونس/ 62-64).
ـــــــــــــــــــ
المصدر : موازين القرآن الكريم ص169-177 .(/2)
مُحاوَلةُ احتلالِ العقلِ المسلمِ
عباس المناصرة 19/6/1425
05/08/2004
جاءت الدّولة العثمانيّة بعد حالة الانحطاط والإنهاك العام الذي أصاب المجتمع الإسلامي، وكانت أهمّ فضائل الدولة العثمانيّة أنها جمعت الوطن العربي في كيان موحّد، بعد أنْ مزّقته دول العسكر المنشقة عن الدولة العباسيّة، كما أنها حمت الوطن العربيّ لعدّة قرون من محاولات التمدّد والانفجار السّكاني الاستيطانيّ الأوروبي، الذي ألقى بثِقْله الاستيطاني إلى البلاد الجديدة المكتشفة ( أمريكا الشمالية والجنوبية واستراليا وجنوب أفريقيا) إلا أنّ الطبيعة العسكريّة للدولة العثمانيّة جعلها تهمل البناء الحضاريّ والعلميّ والثقافيّ حتى وصل في أواخر أيامها إلى مرحلة التخلّف والفقر والأميّة التي عزلت المسلمين عن اللغة العربيّة، وعن مرجعيّتهم الفكريّة (القرآن والسنة) كما أنها أنهكت قوى المجتمع الإسلاميّ البشرية والماديّة، وامتصتها لصالح الجيش العثمانّي وحروبه الخارجيّة، والأغرب من ذلك أنّ هذه الدّولة في قرنها الأخير، لم تكن تشعر بأدنى مسؤوليّة تجاه مواطنيها؛ فأهملت الأمن، والعدل، والعلم، والثقافة، والمرافق، والخدمات وتركتهم تحت ظلم الولاة ونظام الالتزام، وتعاملت مع المواطنين كالبقرة الحلوب التي تدرّ لها (الجنود والمال والإنتاج) الذي يغذّي جيشها، وهكذا جنت الدولة العثمانيّة على نفسها وعلى المجتمع الإسلاميّ حين شاخت، ومرضت وأمرضت معها المجتمع الإسلاميّ بكامله، وجعلته لقمة سائغة أمام الاستعمار الأوروبيّ، الذي كان يتربّص بها الدوائر، وينتظر لحظات انهيارها.
وهكذا أفاق العقل المسلم بعد الاحتلال المغوليّ والصليبيّ على احتلال جديد من خلال طلائعه الثقافيّة التي تسبق جيوشه لتعهد إلى احتلال الأوطان والأدمغة معاً.
( فمنذ أواسط القرن الثامن عشر الميلاديّ والعالم الإسلاميّ كله مُخَلّع النوافذ والأبواب في وجه الفكر الغربيّ والنهج الغربيّ والثقافة الغربيّة، والعلم الغربيّ والحضارة الغربيّة والفنون والآداب والتقاليد الغربيّة بدرجات متفاوتة، فمنذ أنْ بدأ الغربيّون ينشئون كنائسهم التنصيريّة وبجوارها أو بداخلها مدارسهم التعليميّة في بيروت والقاهرة وبغداد والموصل والإسكندريّة واسطنبول وغيرها من حواضر المسلمين، والحصون الفكريّة والثقافيّة الإسلاميّة المتبقّية لدى هذه الأمة تتهاوى واحدًا بعد الآخر، والأجيال المسلمة تتعرض لعمليّة استلاب فكريّ وثقافيّ هائل، انتهت بأنْ أصبحت جميع معارفنا النظريّة غربيّة مائة بالمائة في قالب وإطار غربيّين! وقد شمل ذلك الفكر، والمنهج، والمصدر، والفلسفة المعرفيّة: موضوعاتها، وأهدافها، وغاياتها... وأصبحت الشخصيّة الإسلاميّة مائعة الملامح؛ لأنّ رؤيتنا للحياة أصبحت تشكّل من خلال نظريّات: علم النفس، وعلم الاجتماع، وعلم التربية، والنظريات السياسية، والتشريعات، والنظريات النقدية، كما صنعها العقل الغربيّ في بيئاته وخصوصيّاته وأمراضه.
فأصبحنا نعيش حالة من الانفصام النّكد، نفكّر ونحلّل بطريقة غربيّة، ونعبد الله على الطريقة الإسلاميّة. أصابنا الذهول والانبهار، ومارسنا الانفتاح حتى الانبطاح، ولم نميّز حكمتنا من فلسفة غيرنا، رمينا بمرجعيّة الحكمة، وأخذنا بمرجعيّة الفلسفة، فأخذت تشكل لنا عقولَنا وأذواقَنا وشرائعَنا، وأصبحت عقولنا مناطق نفوذ للثقافة الغربيّة، كما هو حال أوطاننا، لقد وصف شاعر كبير حال الأمة بقوله:
1- لقد أصبحوا حانة الأجنبيّ يضاجعهم
في خلايا الدّماغ.
2- أمامكَ رومٌ وخلفكَ روم
وفي الجنبِ روم
وفي كتبِ الجامعاتِ
وفي أسرّة زوجاتِنا والبنات
وقد حقق الغرب هذا كله في مرحلة الاستعمار والتّبعيّة، أما الآن وفي عهد الاستعمار الجميل (العولمة) فهو لا يرضى منا بالانفتاح الذي حقّق له احتلال الأوطان والأدمغة، بل يريد استكمال المعركة مع آخر حصون العقل المسلم وهي القلوب؛ ليفرّغها من المشاعر المضادّة والمُعادية له، وليملأها بقبول الكفر والإثم عن رضا وتسليم؛ لأنه لا يأمن على وجوده في الأوطان والأدمغة، وقلوبنا تلعنه في الصباح والمساء.
هو يريد منا تفريغ هذه المشاعر من قلوبنا واستبدالها ( بمتعة التّلذّذ بالتبعيّة) الكاملة والذوبان الكامل في حضارته، حتى يمضغنا ويتمثّلنا كغذاء جديد لذلك العقل الفلسفيّ الكافر، كما هضم المسيحيّة من قبل ،وتمثلها وجرّدها من حقائق التوحيد التي لا تناسبه، قال تعالى : ()وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ) [البقرة: 120]
لقد زُيّن مصطلح الانفتاح في مرحلة الاستعمار والتبعيّة من قبل دعاته المبهورين، فربطوه بالمرونة والوعي والعلم والتبادل الحضاريّ، مع أنّه لم يحقّق للأمة سوى التضليل الذي جعلها تقبل بالاستلاب، لأنّه في الأصل انفتاح قسريّ إجباريّ.(/1)
واتّضح لنا أنّ الانفتاح كان مصطلحًا عائمًا ومضللاً لم يخدم الأمّة، ولم يُبَصّرها بعواقب القبول بثقافة عدوّها، لأنّه فُرِض على الأمّة قسرًا ، ورغم كل الشروط التي حاولت أنْ تُقنّن له، أو تضبطه، إلا أنّه لم يُستثمر إلا استثمارًا سلبيًّا في تغريب الأمّة ومحاولة اقتلاعها من جذورها.
وتبيّن أنّه لم يعد مصطلحًا سليمًا، ولا دقيقًا في وصف علاقتنا مع الآخرين، ولذلك نحن بحاجة إلى إهماله وتجاوزه واستبداله بمصطلح جديد، يكون أكثر دقة في تبصير الأمة وهدايتها في التعامل مع الآخرين.
ونرى أنّ مصطلح الامتصاص أو (امتصاص الخبرة) أكثر دقّة منه في تبصير الأمّة، وحمايتها من حالة الاستغفال التي وُضع لها مصطلح الانفتاح.
ولا تزال ألسنة منا تلوك مصطلح الانفتاح بعلم أو بجهل وتسوّقه، وتحاول أنْ تستر عورته بآية أو حديث، وكم ظُلم الحديث الشّريف "الحكمة ضالّة المؤمن" رواه الترمذي وابن ماجة . وهو يكرّر من تلك الألسنة، ليدفع بالأمة إلى قبول ثقافة الاستعمار والتبعيّة، ومع أنّه كلمة حق، إلا أنّه أُريد به خدمة الباطل وأهله.
تحت الرّكام
وهكذا شكّلت الهجمات الثقافيّة التي وقعت في العصر العباسيّ، والهجمات العسكريّة (الحروب الصليبيّة وهجوم التّتار) وعصور الانحطاط، وما تبعها من هجمات ثقافيّة وعسكريّة للاستعمار الأوروبيّ والصهيونيّ في العصر الحديث، مجموعة من الانهيارات والأثقال والعقبات والمثبّطات والأشواك التي ينوء تحتها العقل المسلم، بل إنّ هذا العقل يعيش تحت رُكام كثيف من هذه المرجعيّات المخالفة، ومن أمشاج الثّقافات المعادية التي ألغت تميّزه، وحجبت عنه نور الحياة الإسلاميّة الصّحيحة.
أما الجانب الثقافّي والنقديّ – وهو موضوع اهتمامنا- فقد نشأ النقد العربّي في العصر العباسيّ تحت مرجعيّة واحدة تحكمت في خطوطه العريضة وتأسيس مقولاته، وهي عائدة للعقل الفلسفيّ، عندما اخترق العقل المسلم مرّتين: الأولى في العصر العباسي، والمرة الثانية في عصر الاستعمار والتبعيّة والانفتاح، ومعنى ذلك أنّه في المرتين خضع لمؤثرات الثقافة الأوروبيّة: الثقافة اليونارومانيّة (اليونانيّة الرومانيّة) والثقافة الأوروبيّة الحديثة.
هل معنى هذا أن نغلق أبواب عقولنا نندب حظّنا؟ لا، ليس هذا ما نقصده، ولكنّ السؤال الجادّ الذي يجب أنْ نشغل أنفسنا في البحث عن إجابته، هو كيف ننتشل هذا العقل من وسط الركام الذي يكاد يغرقه ويفسده؟ حتى ينفض عن نفسه هذا الركام ويعود إلى مرجعيّته وتميّزه من جديد.
تفكيك الركام:
أ-في البداية دعونا نفكرْ في طبيعة هذا الرّكام الذي يغمر عقولنا ذواتنا؛ لنتعرف على تجرِبة عدوّنا، من خلال مناهج عقله، فنعرف كيف يفكر هذا العدو؟ حتى نستطيع أنْ نفكّك هذا الرّكام عن وعينا.
وأظنّ أنّ النجاح في هذه المهمة سيتم - بإذن الله- إذا حقّقنا بعض الشروط الموضوعيّة، ومنها: ألا يدفعنا الاستعجال إلى النّهضة إلى التمسّك بالنهضة الموهومة التي تصنعها ثقافة الاستلاب والتبعيّة، وألا يقع في رُوعنا خوف من حصول فراغ علميّ إنْ نحن أوقفنا التعامل مع تلك الثّقافة، وأنْ نتأكّد من رغبتنا في العودة إلى مرجعيّتنا، والإيمان بها والانتماء الحقيقيّ لها، وأنْ نتخلّص من عُقدة الانبهار بالغالب؛ لأنّ المبهور محبٌّ أعمى، لا يملك التّمييز بين حكمته وفلسفة غيره، قال صلى الله عليه وسلم :"حبّك الشيء يُعْمي ويُصِمّ" رواه أبو داود وأحمد.
وبعد هذا يمكننا أنْ نوجز الخطوط العريضة لثقافة عدوّنا، من خلال التعرّف على فكره ومرجعيّته، التي تتحكم في تكوين عقله الفلسفيّ الحرّ، والتي يمكن أنْ نلخّصها من خلال المسار التالي:
1-العقل الفلسفيّ هو عقل الإنسان الكافر، الذي يتّكل على نفسه وقدراته الإنسانيّة، ويرفض أنْ يأخذ بمرجعيّة الوحي، ويعتبر عقله المرجعيّة الأولى والأخيرة في تفسير الحياة.
فهو عقل علمانيّ (دنيويّ) تكوّن من الخبرات التراكميّة للثقافة الأوروبيّة (الفلسفة اليونانيّة، والثقافة الرومانيّة، والمسيحيّة التي هضمها الفكر الروماني وأعاد تمثّلها بما يتناسب مع وثنيّته، بعد أنْ أفرغها من عقائد التوحيد، والفلسفات الأوروبيّة الحديثة التي عاصرت الثورة الصناعيّة أو ظهرت بعدها إلى عصرنا، والتي يمكن اختزالها في الثالوث المعاصر: ( العلمانيّة: الديمقراطيّة، العولمة) وما يتبعها من أنظمة اقتصاديّة كالرأسماليّة والاشتراكيّة.
2-ينظر العقل الفلسفيّ إلى الأُلوهيّة نظْرة المنكر أو المهمل لها، ويعتبرها من صناعة عقل الإنسان ووهمه، ويفسر ذلك من خلال نظريّة (الطوطم وتطوّر الأديان) وهو في أحسن الأحوال يعتبرها قضيّة فرديّة غير ملزمة للمجتمع، وعندهم من يقول: إنّ الله خلق الكون، ولم يعد يكترث له.(/2)
3-هو عقل يعتمد على الفرضيّات واختبارها، ولا يؤمن إلا بالمحسوس، فإذا عجز عن التفسير لجأ إلى أسلوب الإهمال أو الإنكار، وهكذا أنكرت الفلسفات الماديّة عالم الغيب؛ لأنّها عجزت عن تفسيره، ويأتي تعريف (اليونسكو) للمعرفة ليؤكّد ذلك بقوله: ( المعرفة كل علم معلوم خضع للحس والتجربة) وغيره يعتبره من عالم الخُرافات.
4-عقيدة العقل الفلسفيّ الكافر: هي عقيدة الحريّة المطلقة للإنسان، ولذلك هو عقل متقلب ملول، لا يقرّ له قَرار، ولا يؤمن بالثوابت ويجمع بين (العلمي والرمزي والخرافي) ويؤمن بالإشباع الحرّ لحاجات الإنسان، دون شروط إلا ما اختاره الإنسان لنفسه. ويؤمن بالغلبة والقوّة والصّراع من أجل تحقيق هذا الإشباع ليس له كابح سوى إشباع رغائبه وهوى نفسه.(/3)
مُقوِّمات الأمة وأَسباب النهوض بها
رئيسي :تربية :الاثنين 10 شوال 1425هـ - 22 نوفمبر 2004 م
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد،،،
فإن الأمة الإسلامية ليست حدثًا عارضاً في حياة الإنسانية، وليست نبتًا بلا قرار:
إنها – وفيها التوحيد – شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء.
إنها- وفيها الحق- ليست زبداً طافياً يذهب جفاء، وإنما هي معدن أصيل ينفع الناس، فيمكث في الأرض.
إنها- وفيها القرآن وبيانه - لن ينتهي مدها، ولن يطفأ نورها، ولن يخمد ذكرها بفضل من الله ورحمته.
إنها أمة الرسل والأنبياء جميعاً، تآخت فطرتها مع فطرة الكون الذي أسلم كل من فيه لله طوعاً وكرهاً.
إنها ذات أصل ثابت وفرع ممتد في ماضيها وحاضرها ومستقبلها، غيرها من أهل الباطل له في الزمن ساعة، وهي بفضل الله إلى قيام الساعة.
تأتى إليها الريح، فتميل بها ولا تقتلعها، وتهب عليها العواصف فتسقط من ورقها ما صار هشيماً، وتظل تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها.
ولئن مرت عليها فترات فتور أو خمول يراها أهل الكفر مواتاً، ويرون حماها بواحًا؛ فإن لها من مقوماتها ما يبعث الحركة فيها، ويجدد الحياة.
ومهما طال الليل فإن فجراً صادقاً يأتي عليه، فيطوى ظلامه، ونجماً رائداً متألقاً مجددًا يؤذن بطلوع الفجر، فتتحول الحياة- وهي تسمع الآذان- من حال إلى حال، فيصحو الغافل، ويستيقظ النائم، ويصبح نشيطاً طيب النفس.
فما مقومات هذه الأمة؟ وما أَسباب النهوض بها؟
ذاك ما سنحاول أَن نتحدث عنه، أو نشير إليه:
إن المقومات تمثل الثابت في تاريخ هذه الأمة؛ ولذا فإنها لا تتغير بتغير الزمان والمكان، وبها يرتبط ما هو متغير من أسباب النهوض في كل عصر.. ولكي تبقى الأمة قائمة برسالتها، لابد أن تحافظ على الثابت من مقوماتها، وألاّ تفرط في شيء منه، فهو مصدر عزها وقوتها، وبه تتميز أخلاقها وتتحقق إمامتها.
وهذا الجانب هو صمام الأمن للمجتمع الإنساني كله بل صمام الأمن لنتائج العلم - التي يخشى في غيبة الثابت من المقومات أو التفريط فيها- أن تدمر في لحظات عمر الإنسان في قرون، وأن تسوق الفناء إلى ما شيد من بناء.
بالأصل الثابت من المقومات يسارع الإنسان إلى الخيرات، ويسبق لها:{ إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ[57]وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ[58]وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ[59]وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ[60]أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ[61]}[سورة المؤمنون]. والمسارعة إلى الخيرات عمل إيجابي في محاربة الفساد، ومقاومة شره، وتأمين الناس من تسلطه وظلمه. ومن هذا نستطيع أَن نقف عند:
الأصل الأول من هذه المقومات:عقيدة التوحيد:
وهذه العقيدة يتم بها التحول من حال إلى حال، من ظلمات وجمود وخمول وموات إلى نور وحركة حية واعية راشدة، والإيمان تصديق وقول وعمل، وجميع الرسل قد طلبوا من أقوامهم أَن يفعلوا أو يتركوا على أساس من عقيدة التوحيد، فبدافع من هذه العقيدة يتم الفعل، أو الترك. { وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ[85]وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ[86]}[سورة الأعراف].
فعلى أساس من توحيد الألوهية يتم التحول من شر إلى خير، ومن إفساد إلى إصلاح، ومن ظلم وظلمات إلى عدل ونور، ومن صد وانحراف إلى استقامة واتباع. ويقترن الإيمان بالأعمال فعلًا وكيفًا، فيزيد وينقص، ويبقى ويذهب.
و بالتوحيد:
1- يتحدد موقف الإنسان من الأشياء، ومن الناس، وتترتب النتائج: { وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا[48]فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا[49]وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا[50]}[سورة مريم].
2- يتحدد موقف الإنسان من أقرب الناس إليه:{وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ[114]}[سورة التوبة].(/1)
3- لا تتميع المواقف ولا تختلط ولا تلتبس مع صدق الاعتقاد: { لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ[22]}[سورة المجادلة].
4- يتميز سلوك الإنسان في العسر واليسر، والشدة والرخاء، ويتبين الصادق من الكاذب: ولذا كان الابتلاء سنة من سنن الله، وكانت المحن والشدائد سبيلًا للتنقية والتصفية يميز الله بها الخبيث من الطيب:{مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ...[179]}[سورة آل عمران]. { الم[1]أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ[2]وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ[3]}[سورة العنكبوت]. ولولا ذلك لاختلط الأمر على الناس والتبس، ولم يتميز خبيث من أصيل، وادعى بعض الناس لأنفسهم ما ليس لهم: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ[10]وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ[11]}[سورة العنكبوت].
5- وبالتوحيد: نقاتل ونسالم، ونصاحب ونعادي، ومن أجله نجد في الحقل والمصنع، والدكان والديوان، والبر والبحر، والأعمال الصالحة تقترن بالإيمان، فلا تدع مجالًا في الحياة دون إصلاح وإحسان.
ومن الواجب على الأمة الموحدة أن تحسن ما تحتاج إليه في أي شيء، ولا تكون عالة على غيرها في شيء، والإعداد الذي نرهب به عدو الله وعدونا، والذي أمرنا الله به يستوجب شئون الحياة في ترابط واتساق، فالضعف في جانب قد يؤدي إلى الضعف في غيره..والحديد الذي أنزله الله فيه بأس شديد ومنافع للناس يقترن في ديننا بما أرسل الله من رسول وما أنزل من الكتاب.
6- وعقيدة التوحيد تفرض أن يطوع الحديد لإقامة العدل ونصرة الحق ومن وراء ذلك أعمال وأعمال، تستوجب قيام المصنع، ووجود الغواص في البحر، والطيار في الجو، والباحث في المعمل، كما تطلب قلم الكاتب، ودفتر المحاسب، وفقه العالم، وتدبير الحاكم، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ففي سورة واحدة بل في آية واحدة نقرأ قول الله:{ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ[25]}[سورة الحديد].
7- إن جميع ما يذكر من مقومات هذه الأمة يستند إلى هذا الأصل، ويقوم عليه: فما ندعو إليه من توثيق روابط الأخوة والمودة، وما نأمر به أو ننهى، لا يثمر ولا يغني ما لم يكن الدافع إليه والغاية منه القصد لله، وابتغاء مرضاته. وإذا تسرب الشرك إلى شيء من عمل أحبطه ودمره:{ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ[65]}[سورة الزمر].
8- والحياة التي تقوم على التوحيد تصان فيها الفرائض، وتؤدى الواجبات: ويتساند فيها أهل التوحيد معتصمين بحبل الله غير متفرقين، وتقوم نعم الله التي لا تحصى بين أيديهم لتكون عونًا على إعلاء كلمة الله في إحقاق الحق، وإبطال الباطل، ونصر المظلوم بإنصافه وتأمينه، والظالم بالأخذ على يده.. وبهذا تحافظ الأمة الإسلامية على خيريتها، وتعز بإيمانها وأداء رسالتها، وتفلح بالدعوة إلى سبيل ربها:{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ[104]}[سورة آل عمران].
إنها أمة مجاهدة ذات رسالة خالدة، فرض عليها أن تحيا مرابطة في سبيل الله تجير المظلوم وإن كان من غيرها، وتأخذ على يد الظالم وإن كان منها، وتعلي كلمة الله في كل شأن من شئونها.
والإسلام يعتبر المسلمين أمة واحدة تجمعها العقيدة ويشارك بعضها بعضًا في الآلام والآمال: وأي عدوان يقع على قطر من أقطارها، أو على فرد من أبنائها؛ فهو عدوان عليها جميعًا.(/2)
ولكي تستطيع هذه الأمة أن تنهض برسالتها، وأن تؤدي ما أوجب الله عليها؛ لابد أن تعمل دائمًا على تحقيق الأسباب التي تعينها على ذلك، وأن تحافظ على المقومات الأصيلة الثابتة التي تميز شخصيتها وتجعلها أمة دعوة ورسالة.
وواقع الأمة الإسلامية الآن لا يحتاج إلى بيان، ولكن من الخطأ أن نظن أن ما وصلت إليه يستحيل علاجه، ومن الخطيئة أن ندع اليأس يتسرب إلى النفوس، وأن نترك أولئك الذين لا يريدون لأمتنا إلا مزيداً من الفشل وذهاب الريح، أن يفرضوا عليها الرضى بالواقع، أو يجعلوها تؤمن بالتبعية لغيرها في شرق، أو غرب.
فإن أمتنا تملك- بفضل من الله- أن تبدأ البداية الصحيحة دون حاجة لشرق أو غرب، وعليها أن تدرك أن ما سلط عليها من أعدائها بسبب معاصيها وقعودها عن أداء رسالتها { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ[30]}[سورة الشورى].
فعلى أمتنا أن تبدأ بما أمر الله به:{...فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ[1]}[سورة الأنفال]..عليها أن تكف شرها عن نفسها وأن تأخذ على يد العابثين الذين يفسدون في الأرض، ويقطعون الأرحام.
في الجاهلية تداعت قبائل من قريش إلى حلف، وقد تعاهدت على أن لا يجدوا بمكة مظلومًا من أهلها وغيرهم ممن دخلها من سائر الناس إلا قاموا معه، وكانوا على من ظلمه حتى ترد مظلمته، فسمت قريش ذلك الحلف:' حلف الفضول'.
أفلا يتداعى المسلمون لما ينقذ حياتهم، ويرد كيد أعدائهم، ويدفع الشر والبلاء عنهم، أفلا يتداعى المسلمون لتحقيق أمر الله فيما بينهم، والأخذ على يد الظالم، وإنصاف المظلوم، إن تحقيق معنى الأمة الإسلامية في أدنى صورة ممكنةٍ قد غاب كثيراً عن حياة المسلمين، فغدت الأمة نهباً لكل طامع وتحقق ما حذر الرسول صلى الله عليه وسلم منه في قوله: [يُوشِكُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ الْأُمَمُ مِنْ كُلِّ أُفُقٍ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ عَلَى قَصْعَتِهَا] رواه أبوداود وأحمد. لقد تحقق ما حذر الرسول صلى الله عليه وسلم منه، وتداعى الأكلة من أمم الكفر في شراهة وضراوة لتمزيق الجسد الإسلامي، وفصل أجزائه بعضها عن بعض.
ومنذ فترة قيل عن تركة الرجل المريض، وأخشى أن يكون الاصطلاح لديهم الآن تركة الرجل الميت، ولكنني أؤمن أن الأمة لن تموت مهما بدت مظاهر الضعف والسكون فيها.
وسائل النهوض بأمتنا الإسلامية:
وعلينا أن نبحث في غير يأس في وسائل النهوض بأمتنا الإسلامية، فإنها أمة باقية بإذن الله إلى قيام الساعة، ومنها:
أولاً: أسلوب التربية والثقافة والإعداد للإنسان في عالمنا الإسلامي يحتاج إلى مراجعة إصلاح بحيث تتوحد الغاية، وتتسق الوسائل، وتمضي لما يجب أن يكون:
إن أصحاب المذاهب في شرق أو غرب يعملون على صياغة الإنسان في أمتنا الإسلامية ليكون لهم لا لأمته، وينفقون في سبيل ذلك من الجهد والمال لصياغة إنسان الغد لصالحه، وكل ما وقع من اغتصاب أرض المسلمين في أي مكان أو زمان قد مهد له من قبل بالاستيلاء على الإنسان.
الإنسان هو الأساس الذي تقوم به، ومن أجله الحضارة والنهضة، والعناية به هي السبيل للنهوض بأمتنا من كبوتها، ولا تصلح الأشياء إلاَّ بإيجاد الإنسان الصحيح، من أجل هذا أرسل الله الرسل وأنزلت الكتب.
وأمتنا الإسلامية - وأمامها من التحديات - ما لا يخفى على أحد عليها أن تعد الإنسان بالإيمان الموجه للنفوس إلى الخير والإصلاح، وبالعلم الذي تنشده النهضة في جميع شئون الحياة بحيث لا تكون الأمة الإسلامية في قبضة غيرها، فالأمة الإسلامية إذا احتاجت إلى مائة ألف طبيب عليها أن تعمل على إعداد هذا العدد بتخصصاته المتنوعة، وأن تدرس في صبر وأناة حاجتها في كل شأن، وأن تعرف ما تملكه من طاقات وإمكانات قبل أن تطلب عوناً من أحد. وفي جميع الأحوال تكون مهمة الدين إعداد الإنسان لكي يصلح في الأرض ولا يفسد.
والمهمل في عمله والمقصر فيه مفسد غير مصلح، والقعود عن الأخذ بالأسباب معصية ومفسدة تتيح للغير أن يتفوق أَمام قاعد، وعامل أمام خامل، والتنافس قائم بين الخلق، وأهل الباطل لن يسكتوا أبداً عن إضعاف أهل الحق {...لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا...[118]}[سورة آل عمران].
ويا له من ضياع.. ويا لها من مفسدة حين تظل أمة الحق عالة على أهل الباطل، لا تسل عن الاتباع والطواعية، إتباع أهل الحق لأهل الباطل حتى لو دخلوا جحر ضب، وطواعيتهم فيما يريدون لأهل الحق من ردهم بعد إيمانهم كافرين.
والأمة الإسلامية إن هي قصرت في أن تصنع الضروري من وسائل حياتها؛ احتاجت إلى غيرها من دول الكفر وقد يؤثر ذلك في مقومات حياتها من عقيدة وسلوك. والذين يتصورون أن العمل للدين يقف عند تعليم الناس بعض الفرائض التي لا تأخذ من حياة المسلم إلا دقائق معدودات يخطئون في فهم الدين، ويعزلونه عن الحياة، وهم يحسبون أنهم محسنون صنعًا.(/3)
إن العقيدة تتحرك بموجبها الحياة كلها لتكون في صلاتها وتشكلها ومحياها ومماتها لله رب العالمين. ومن أجل العقيدة طولِبنَا بالنظر في خلق السماوات والأرض، وفي أنفسنا لنظفر بثبات العقيدة ووسائل حمايتها، لذا فإن الإعداد والتربية لا يفصل فيهما مصنع عن مسجد، فيقال: هذا للدين وذاك للدنيا، لا يفصل كد وجهد عن تسبيح وذكر:{ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[10]}[سورة الجمعة].
وإعداد المسلم على هذا الفهم والعمل به؛ يزيل من دنيانا نحن المسلمين كثيراً من التوتر الذي يقع بين الأفراد والجماعات، ويقيم صراعاً في داخل الأمة الإسلامية يجني ثماره من يتربص بها ويضمر الشر لها.
الإسلام شامل كامل منظم لشئون الحياة كلها، باعث للنهضة في جميع أجزائها بلا تفرقة، والدين ليس إتباعا لأهواء الناس، وليس خاضعاً لما يرغبون إنه تكليف ومسئولية: { فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ[6]فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ[7]}[سورة الأعراف].
والذين يريدون الدين هوى لأنفسهم فيأخذون منه ما لا مشقة فيه، ويدعون ما فيه كره ومشقة؛ لم يحملوا ديناً، وإنما حملوا عليه، وكم من ناس أفرزتهم المشقات وألقت بهم في حظائر أهل النفاق:{وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ[20]طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ[21]}[سورة محمد].
وإعداد المسلم عملياً ليؤدي واجبه في الإصلاح في جميع شئون الحياة؛ يحفظ للأمة دينها وعزتها، ويجعلها في مأمن من تكالب الأعداء عليها.
وإذا اتسع فهم المسلم لما يطلبه إسلامه؛ انشرح صدره لكل من رغب في الإسلام، وأقبل عليه؛ لأن الساحة تسع الناس جميعاً، بل تسع الإنس والجن، وساحة الإسلام أرحب من عالمنا الذي نعيش فيه، وإسلام الناس أحب إلينا، ونبينا صلى الله عليه وسلم بعث هادياً ورحمة.
وإذا ضاق الفهم لما يطلبه الإسلام وما ينشده للعالمين قصرت الجهود عن الوفاء بحقه وغدت عبئاً عليه مسيئة إليه وإن قنعت مع نفسها أنها تقوم بفرائضه وتفي بواجباته. إن الواجب قد ينشدك في لحظة لتركب البحر وتحلق في الفضاء وتقف أَمام نيران المصنع وطلقات المدفع فإذا أجبت هذا الواجب بمزيد من ركعات وسجدات غير ما فرض الله وسن رسوله وقعدت ولم تستجب قد يذهب مع القعود دينك، وأنت تحسب أنك مستمسك به.
وهل ترك الثلاثة الذين خُلفوا وتاب الله عليهم إحسان صلاتهم والقيام بها؟! إذن لماذا قاطعهم الرسول صلى الله عليه وسلم، وأمر بمقاطعتهم؟ لأنهم لم يكونوا في لحظة ما حيث طلبهم الواجب وحثه النداء، ولما عاد الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه من أداء ما وجب جاءه من لم يخرج معه، فمن اعتذر كذبًا هلك، ومن صدق أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بمقاطعته حتى جاءت توبة الله عليه ولولا هذه التوبة لهلكوا مع الهالكين.
إن المسلم يكون حيث يدعوه واجب دينه لا حيث يرغب هو أو يحب: والتفريط في أداء ما يجب له عواقبه ومخاطره. ولقد تحولت في زمننا هذا بعض فروض الكفاية إلى فرض عين لتفريط المسلمين، وإذا أردت أن تحصر ذلك وجدت أَمتنا الإسلامية تحتاج إلى تخطيط شامل في حياتها كلها لتسد كل جانب بما يكفيه ليسقط الفرض عن الباقيين.
إذًا: أسلوب التربية والثقافة والإعداد للإنسان في عالمنا الإسلامي يحتاج إلى مراجعة إصلاح بحيث تتوحد الغاية وتتسق الوسائل وتمضي لما يجب أن يكون..وإعداد الإنسان الصحيح هو الأصل فيما ننشده من نهضة وما نطلبه من إصلاح.
ثانيًا: لابد من جهاز متخصص ذي إمكانات عصرية يقوم بمسح شامل لمعرفة الطاقات والإمكانات الهائلة في عالمنا الإسلامي، ويقدم الأسباب الصادقة لهجرة أبناء المسلمين من ديار الإسلام إلى غيرها وهي تمثل خطراً حقيقياً في تطوير عالمنا الإسلامي بما يتناسب وضرورات العصر.(/4)
وهؤلاء المهاجرون لم يهاجروا عقوقاً لأوطانهم وإنما هناك عوامل لا يجهلها كثير من الناس دفعتهم إلى الهجرة وأرغمتهم عليها وأكثر هذه العوامل تنتسب إلى الشعارات المنافية للإسلام التي رمي بها عالمنا الإسلامي في كثير من دياره، والتي سحقت معها كرامة الإنسان، وامتهنت آدميته وإنسانيته، ووضع في غير موضعه باسم وضع الإنسان المناسب في المكان المناسب، وصعب التكامل أَو التفاهم في عالمنا الإسلامي لاختلاف الشعارات، وتناقض الغايات، مع أن عالمنا الإسلامي يملك من التكامل فيما بينه ما يقنعه عن الحاجات إلى الغير ويملك من الطاقات البشرية المتخصصة ما يسد حاجته في كثير من ضروراته.
فهل من حصر لهذه الطاقات، وتهيئة الأسباب عودتها بل وتهيئة لأسباب الاستقرار في عالمنا الإسلامي بنبذ الشعارات المفرقة، والتمسك بالكلمة الطيبة الموحدة كلمة الإسلام الذي يجمعنا على إتباع صراط واحد، ويجنبنا إتباع السبل المفرقة: { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ[153]}[سورة الأنعام].
فلابد للإسلام أَن يحكم على أَرضه؛ ليؤمن أبناءه، ويفتح أمامهم أَسباب النهضة الشاملة الكاملة، ويجمعهم على كلمة سواء يكونون بها هداة ودعاة للإنسانية جمعاء.
نحتاج في كثير من ديارنا الإسلامية إلى تأمين الإنسان المسلم على أرضه، كما نحتاج إلى قيام الأخوة الإسلامية وهي -الأصل- مقام الشعارات الدخيلة المفرقة، إن عالمنا الإسلامي يحتاج إلى نهضة شاملة كاملة في الزراعة والصناعة وجميع مرافق الحياة، إن أمتنا تعيش مشلولة الحركة حين البأس إذا لم يكن على أرضها المصنع الذي يمدها بما تحتاج إليه، كما تعيش منكسة الرأس إذا لم تتعلم كيف تستغني بما أعطاها الله، وتجاهد عدو الله وعدوها، وأسلافنا من قبل قد نهضوا بالقليل الذي في أيديهم؛ لأنهم عرفوا أن الإيمان حركة حياة لا قعود معه، ولا تواكل، ولا يأس.
والرسول صلى الله عليه وسلم لم يخش على أمته الفقر فيما استقبلت وتستقبل من أيامها فيقول: [ أَبْشِرُوا وَأَمِّلُوا مَا يَسُرُّكُمْ فَوَاللَّهِ مَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ وَلَكِنِّي أَخْشَى أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمْ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ] رواه البخاري ومسلم.
تنافسنا عليها، وتقاتلنا، وقتلنا بها أَنفسنا، ولم نجاهد عدونا.. بسطت الدنيا فهل استطعنا أن نحقق بها غنى حقيقيا لأنفسنا، أم أَنها كثيرة في أيدينا، ونحن معها فقراء، وديارنا الإسلامية مع كثرة ما سلب منها هي أوسط وأَخصب بلاد العالم، ومعظمها يستورد ما يحتاج إليه من طعام وشراب ولباس وغير ذلك مما هو ضروري وغير ضروري.
ولقد وقع ما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم به وحذر منه، فاستفاد غيرنا وخسرنا، وانتصر بباطله وهُزمنا، وشغل بتمزيقنا وشغلنا بأنفسنا.
كم فرقت الفرقة والتنازع على المسلمين من ايجابيات وجلبت عليه مع الشعارات المنافية للإسلام شعارات اللؤم والغدر والسلبيات المدمرة في أَخص شئونهم وفي علاقتهم بعضهم ببعض. ويخطئ من يظن أننا بغير الإسلام تجتمع لنا كلمة، أَو يرتفع لنا بناء. إن ما صلح به ماضينا هو ما يصلح به حاضرنا ومستقبلنا، ولم تستطع القبيلة، ولا روابط الجنس والدم أن تجمع الناس على رسالة خير وإصلاح، وإن جمعت فرقت. والعرب لماذا لم تجمعهم روابط الجنس من قبل؟ لماذا لم يجتمع الأوس والخزرج وبينهم من الصلة ما بينهم؟ إنها الحروب والدماء والقطيعة والبغضاء، أزيلت حين شع نور الإسلام على الديار، فصفت النفوس، والتقت القلوب، وتعانقت الأرواح، وأَصبحوا بنعمة الله إخوانا.
بالإسلام صاروا خير أمة أخرجت للناس.. وبالإسلام امتد نورهم وسما ذكرهم، وعرف فضلهم. وبالإسلام بطل كيد عدوهم الذي أراد أَن ينفذ إليهم عن طريق إعادتهم إلى عصبية الجاهلية وتناحرها. بالإسلام تتماسك الصفوف، وتأتلف النفوس، وتتحول الطاقات والإمكانات إلى بناء حضارة تصان فيها كرامة الإنسان..بالإسلام تسقط جميع السلبيات التي حالت بيننا وبين التعاون على البر والتقوى.
قد تظن أن كل بلد يستطيع أن يبني نفسه ويستصلح أرضه، ويوفر حاجة أبنائه، ويختار لنفسه من المذاهب ما شاء، ولا تدخل لأحد في شئون غيره. وهل يطلب أعداؤنا أكثر من ذلك؟ إنه السبيل لإبتلاع كل فريسة على حدة يؤكل الأبيض والأحمر والأسود، وأي تفريط في ترابطنا وتماسكنا وتداعي بعضنا البعض سيجعلنا نقول في حسرة: أكلت يوم أكل الثور الأبيض.. أكلت يوم أكل الأندلس المفقود.. ويوم ابتلعت جزر البحر الأبيض المتوسط.. ويوم استعمرت روسيا الشيوعية ديار الإسلام واغتصبت أرضه ويوم.. ويوم.. ويوم.(/5)
ولن يتوقف جشع الأكلة من الكفرة والفجرة ما لم تؤد أمتنا الإسلامية رسالتها مع نفسها، ومع الناس وتحيا مرابطة في سبيل ربها قائمة بما أوجب الله عليها.. عندئذ تستطيع أن تجير المظلوم وإن كان من غيرها، وأن تضرب على يد الظالم وإن كان منها.
عندئذ تجيب نداء من قالت: وامعتصماه بمائة ألف مقاتل، لا بمائة ألف شكوى لمجلس الأمن، وهيئة الأمم..
عندئذ تستطيع أن تصحح مفهوم السلام بإقامة الحق والعدل في الأرض:{ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ[73]}[سورة الأنفال].
عندئذ نستطيع أَن نتكلم بلغة ديننا لا في شعارات غيرنا، وأن ننادي أهل الكتاب بما ناداهم الله به- { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ[15]يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ[16]}[سورة المائدة].
عندئذ نستطيع أن نقدم للإنسانية كلها أسباب الأمن والسلم وهي تعيش على بركان من النار يوشك أن يقضي عليها وعلى حضارتها.
عندئذ نستطيع أَن نحافظ على أقوات الناس التي أخذت من أفواههم وحشرت في بطون المدافع في ظل حضارة صار فيها الإنسان أرخص شيء.. لقد انتقل تجار الفساد، وموقدو نار الحرب إلى أرضنا، ولن يطفئ نارهم، ويقتلع فسادهم إلا صدق ولائنا لديننا، واعتصامنا بحبل ربنا: { وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ[120]}[سورة آل عمران].
فإن أمتنا الإسلامية تملك من المقومات ما يحفظ شخصيتها، وتملك من الأسباب ما يحقق نهضتها من نعم الله التي لا تحصى..والأمر يتوقف على مدى المحافظة على المقومات، والأخذ بالأسباب، وسنة الله لا تجامل أحداً ولا تحابي، والله لا يغير ما بنا حتى نغير ما بأنفسنا.
إن الأخذ بالأسباب يرتبط بالمحافظة على المقومات.. فهل يتفاعل المسلمون بمقوماتهم مع الأسباب تفاعل شكر لا كفران له، فتنبت الأرض، وينتج المصنع، ويعمر المسجد، ويشغل الفراغ، وتذهب المفسدة.
إن الأمر جد لا هزل فيه، وخطر محدق يحتاج إلى إعداد وحذر..والميدان يتسع لكل جهد من كبير وصغير، ورجل وامرأة، وطالب وعامل.
ورجاؤنا في الله أن تكون الصحوة الإسلامية بارة راشدة، أن تكون على فقه بدينها، ومعرفة لعصرها، وحكمة وهي تدعو إلى سبيل ربها..وأَن تكون على مستوى الأحداث التي تحيط بالأمة الإسلامية، وأن تعلم أن الأمور لا تدرك بالأماني ولا تطلب بالتمني، وإنما هو الجد والكد، والصدق والصبر، والأخذ بالأسباب.. ولقد وصف الله من يختارهم لنصره ومن يؤتيهم فضله { يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ[54]}[سورة المائدة]. نسأل الله أن يجعلنا منهم.
من:' مُقوِّمات الأمة وأَسباب النهوض بها' للشيخ/ محمد الراوي(/6)
مِمَّا حّدّث لي
أنا رجل يتصورني القراء من بعيد (شيئا) أكبر من حقيقتي، فلماذا أفضح نفسي عندهم؟ وعم أتحدث إليهم؟ والأحاديث كثيرة، وما حدث لي يملأ كتبا؟
ثم قلت: لماذا لا أتحدث عن هذا. عن حقيقتي في نفسي وصورتي عند القراء. ولي في هذا الباب طرائف عجيبة. وأنا أكتب منذ أكثر من عشرين سنة في جرائد الشام ومجلات مصر ولبنان كتابة شيخ مكتهل، فكان القراء يحسبونني شيخا أشيب الشعر محني الظهر يدبّ دبيبا. وعلى وجهه من كتابة الأيام والتجارب سطور من (الأخاديد) فوق سطور، وما كنت أحب أن أذيع هذه الطرائف لأنها لا تنفع السامعين وإن كانت قد تلذ لهم. ولكن المحطة أرادت أن أحدث المستمعين عن بعض ما حدث لي مضحكا كان أم غير مضحك. ولا بأس فالضحك ينفع الجسم ويدفع الدم، ويزيد الشهية، أما المصيبة أن تجيء النكتة باردة لا تضحك.. أو أن أكون ثقيلا يتخفف، والثقيل إذا تخفف صار طاعونا... والعياذ بالله.
سيداتي وسادتي!! مما وقع لي:
أن جاءني مرة وكنت في عنفوان الشباب أكتب في أوائل كتاباتي في الرسالة (عام 1933) ثلاثة من الغرباء عن البلد، لم يعجبني شكلهم، ولم يطربني قولهم، فوقفت على الباب أنظر إليهم فأرى الشكل يدل على أنهم غلاظ، وينظرون إليّ فيرون فيّ (ولدا)، فقالوا هذه دار فضيلة الشيخ الطنطاوي؟ قلت كارها: نعم… فقالوا: الوالد هنا؟ قلت: لا… قالوا: فأين نلقاه؟ قلت: في مقبرة الدحداح على الطريق المحاذي للنهر من جهة الجنوب. قالوا: يزور أمواته؟ قلت: لا. قالوا: إذن؟ قلت: هو الذي يزار... فصرخ أحدهم في وجهي صرخة أرعبتني وقال: مات؟ كيف مات؟ قلت: جاء أجله فمات... قالوا: عظم الله أجركم، إنا لله وإنا إليه راجعون، يا خسارة الأدب. قلت: إن والدي كان من جل أهل العلم ولكن لم يكن أديبا... قالوا: مسكين أنت لا تعرف أباك.
وانصرفوا وأغلقت الباب وطفقت أضحك وحدي مثل المجانين، وحسبت المسألة قد انتهت فما راعني العشية إلا الناس يتوافدون عليّ فأستقبلهم، فيجلسون صامتين إن كانوا لا يعرفون شخصي، ومن عرفني ضحك وقال: ما هذه النكتة السخيفة؟ قلت: أي نكتة؟ فأخرج أحدهم الجريدة وقال: هذه؟ هل تتجاهل؟ فأخذتها وإذا فيها نعي الكاتب الـ … كذا وكذا.. علي الطنطاوي… هذه واحدة.
ومما حدث لي أنني:
لما كنت أعمل في العراق سنة 1936 نقلت مرة من بغداد إلى البصرة إثر خصومة بيني وبين مفتش دخل علي الفصل فسمع الدرس. فلما خرجنا (نافق) لي وقال أنه معجب بكتاباتي وفضلي. (ونافقت) له فقلت إني مكبر فضله وأدبه. وأنا لم أسمع اسمه من قبل. ثم شرع ينتقد درسي قفلت: ومن أنت يا هذا؟ وقال لي وقلت له..
وكان مشهدا طريفا أمام التلاميذ.. رأوا فيه مثلا أعلى من (تفاهم) أخوين، وصورة من التهذيب والأخلاق. ثم كتبت عنه مقالة كسرت بها ظهره، فاستقال و (طار) إلى بلده، ونقلت أنا عقوبة إلى البصرة.
وصلت البصرة فدخلت المدرسة، فسألت عن صف (البكالوريا) بعد أن نظرت في لوحة البرنامج ورأيت أن الساعة لدرس الأدب. توجهت إلى الصف من غير أن أكلم أحدا أو أعرفه بنفسي.
فلما دنوت من باب الصف وجدت المدرس، وهو كهل بغدادي على أبواب التقاعد، يخطب التلاميذ يودعهم وسمعته يوصيهم (كرما منه) بخلفه الأستاذ الطنطاوي، ويقول هذا وهذا ويمدحني... فقلت: إنها مناسبة طيبة لأمدحه أنا أيضا وأثني عليه ونسيت أني حاسر الرأس وأني من الحر أحمل معطفي على ساعدي وأمشي بالقميص بالأكمام القاصر، فقرعت الباب قرعا خفيفا، وجئت أدخل. فالتفت إليّ وصاح بي ايه زمال وين فايت؟ (والزمال الحمار في لغة البغداديين) فنظرت لنفسي هل أذني طويلتان؟ هل لي ذيل؟… فقال: شنو؟ ما تفتهم (تفهم) أما زمال صحيح. وانطلق بـ (منولوج) طويل فيه من ألوان الشتائم ما لا أعرفه وأنا أسمع مبتسما.
ثم قال تعال لما نشوف تلاميذ آخر زمان. وقف احك شو تعرف عن البحتري. حتى تعرف إنك زمال ولاّ لأ؟
فوقفت وتكلمت كلاما هادئا متسلسلا، بلهجة حلوة، ولغة فصيحة. وبحثت وحللت وسردت الشواهد وشرحتها، وقابلت بينه وبين أبي تمام وبالاختصار، ألقيت درسا يلقيه مثلي.. والطلاب ينظرون مشدوهين، ممتدة أعناقهم، محبوسة أنفاسهم، والمدرس المسكين قد نزل عن كرسيه وانصب أمامي، وعيناه تكادان تخرجان من محجريهما من الدهشة، ولا يملك أن ينطق ولا أنظر أنا إليه كأني لا أراه حتى قرع الجرس..
قال: من أنت؟ ما اسمك؟ قلت: علي الطنطاوي؟
وأدع للسامعين الكرام أن يتصوروا موقفه!
والبصرة (بندقية العرب) فيها مع كل شارع قناة. فأنت إن شئت انتقلت بحرا، وإن شئت سرت برا، وفيها شط العرب، لا يعدل جماله وأنت تخطر فيه العشية بهذه الزوارق الحلوة مكان في الدنيا. والبصرة كانت دار الأدب، ومثابة الشعر ومنبع العربية، وتاريخها تاريخ البيان العربي، ولكن أيامي في البصرة، كانت شقاء دائما، وكانت إزعاجا مستمرا. ولي فيها أحاديث مضحكات، وأحاديث مبكيات، ولولا أن أجاوز هذه الدقائق التي منحتني إياها المحطة لعرضت لأحاديثها.(/1)
ولكن لا، ولك أيتها الإذاعة الشكر على أن حددت الوقت، فتركتني أتعلل بذكريات أمسي وحدي، وأن أعيش في ماضي على هواي، لا يراقبني المستمعون ولا يشاركني لذة الادكار أحد.(/2)
مِنْ صَمِيم الحَيَاة
هذه قصة شاب مدرس في ثانوية البنات حديث السن لم يجاوز الرابعة والعشرين حتى الآن، معتزل متفرّد عاكف على كتبه ودفاتره، لا يخالف الناس، وليس ممن يبتغي الظهور فيهم والحظوة لديهم، فلا يحاول أحد من القراء أن يبحث عنه أو يسعى إلى معرفته، وليكتفوا من قصته التي قصها عليّ بمكان العبرة منها، إذا كان قد بقي في القارئين من يحرص على العبرة أو يسعى إلى الاعتبار…
* * * * * * * *
وهذا الشاب ابن صديق من أدنى أصدقائي إلى قلبي، وكان في صباه تلميذا لي، وكان من أذكى الطلاب قلبا وأطهرهم نفسا، وأمتنهم خلقا، وأتقاهم لله في سر وفي علن، وكان في صغره جادا بعيدا عن المزاح، مجتنبا للهزل، بارا بأمه وأبيه، لا يعرف إلا مدرسته وبيته، لم ير قد واقفا في طريق، أو ماشيا إلى لهو، وثبت على ذلك حتى شب وأكمل الدراسة، وفارق المدرس، وهو لم يدخل قهوة ولا سينما، ولم يصاحب أحدا أبدا، ولم يجالس امرأة غير أمه ولم يكلمها..
وكان لذلك بمنزلة الأخ الأصغر مني، أحبه محبة الابن، ويُجلّني إجلال الوالد، وكان ينفض إلي دخيلته، ويكشف لي سريرته، وكان من مزاياه أنه صادق اللهجة، لم أجرب عليه في هذه المدة الطويلة كذبا قط…
* * * * * * * *
وانقطع عني مدة طويلة، ثم رأيته فأخبرني أن والديه قد توفيا بالتيفوئيد في شهر واحد، وأنه غدا وحيدا فاحترف التعليم، وبعثت به الوزارة لما تعلم من عظم أخلاقه إلى مدرسة ثانوية للبنات، فثار وأبى وطلب نقله إلى غيرها من مدارس البنين، فما زالوا به يداورونه ويقنعونه بأنه إن كان معلم البنات رجل مثله، فذلك خير لهن من أن يدخل عليهن فاسق خبيث، وإن قبوله التدريس في هذه المدرسة قربة إلى الله فخدع المسكين وقبل!
قال: وبتّ ليلة افتتاح المدرسة بليلة نابغيّة لم ينطبق فيها جفناي، من الفكر والوساوس والمخاوف، فلما أصبح الصباح ذهبت أقدم رجلا وأؤخر أخرى، حتى دخلت المدرسة، فما راعني عند الباب إلا أن فتاتين كاملتي الأنوثة ليستا بالصغيرتين ولا القاصرتين قد دخلتا أمامي، فلما صارتا من داخل ألقتا عنهما الخمار، فعادتا كأنهما في دارهما، وتلفت حولي فإذا ملء الساحة فتيات نواهد نواضج الأجساد، قد حسرن ورحن يلعبن ويمشين، شعورهن مهدلات على الأكتاف، فأحسست كأنما قد صبّ عليّ دلو من الماء الحامي، فاحترقت منه أعصابي، فاستدرت راجعا ونفضت يدي من الوظيفة، وقلت: الرزق على الله!
وقصدت بيتي فما وسعني والله البيت، ووسوس إليّ (لا أكتمك) الشيطان، وزيّن لي تلك المتعة بمعاشرة أولئك الفتيات، والحياة بينهن، فاستعذت بالله، وأعرضت عنه، وذهبت أفتش عن عمل غير هذا، فسدّت في وجهي الأبواب إلا هذا الباب، ولاحقتني الوزارة وإدارة المدرسة حتى عدت مكرها..
وأنا رجل رُضْت نفسي على العفاف، وأخذتها بضروب الرياضات حتى سكنت شرّتها، ولكنها مع ذلك كانت تثور بي كلما سبقت عيني وأنا غافل إلى فتاة في الشارع كاشفة، أو سمعت أذني حديثا من أحاديث الشبان سقط إليّ وأنا لا أطلبه، أو قرأت (وقلما أقرأ) قصة خليعة، أو نظرت (ونادر أن أنظر) مجلة من المجلات الداعرة الخبيثة وما المرأة التي يفتش عنها الشبان ويتحدثون عنها إلا هذه النَّصَف التي تصلح ما أبلى الدهر منها بالثياب والأصباغ وما عند العطار، والتي تقاذفتها الأيدي حتى صارت كالغصن الذاوي وكالثوب الخرق، فما بالك بشاب كتب عليه أن يعاشر النهار كله فتيات كزهرة الفلّ، أو كالغلالة الجديدة، لم تمسسهن يد بشر، ولم يعرفن من تجارب الحياة ما يتّقين به شباكها، ويطلب منه أن يكون عفيفا شريفا، وأن يكنّ هن أيضا عفيفات شريفات، وله في نفوسهن مثل الذي لهن في نفسه؟
يا أستاذ! إن الخطر أشد مما تتوهمون أنتم معشر الكتاب المعتزلين في بيوتهم أو في أبراجهم العاجيّة –كما يقولون عن أنفسهم- الخطر أشد بكثير… شباب وشابات، يُصبي كلاً منهما أن يشم ريح الآخر من مسيرة فرسخ، يجتمعون على دروس الأدب وقراءة أشعار الغزل… تصور (يا أستاذ) المدرس يلقي على طالباته حديث ولادة وابن زيدون، وأنها كتبت كما رووا (كذبا أو صدقا) على حاشية ثوبها
أمكن عاشقي من صحن خدي * * * وأمنح قبلتي من يشتهيها
ويمضي يشرح لهن ذلك ويفسره لهن.. حالة فظيعة جدا يا أستاذ… ولو كنّ كبيرات مسنات، أو كنّ مستورات محجبات، أو لو كن صائمات مصليات يخفن الله، لهان الأمر، ولكنهم يجتمعون بهن على سفور وحسور وتكشف، وتنطلق البنت حرّة تزور معلمها في داره، وتمشي معه إن دعاها للسينما، أو المنتزّه، كذلك يرى الآباء اليوم بناتهم فلا ينكرون ذلك عليهم!(/1)
أنا لا أقول أن الآباء كلهم لا يهمهم أعراض بناتهم، وأن كل أب قَرْنان، معاذ الله أن أقول ذلك، ولكن في الآباء قوما مغفلين، أعمى أبصارهم بريق الحضارة الغربية فحسبوا كل شيء يجيء من الغرب هو خير وأعظم أجرا، ولو كان ذهاب الأعراض والأديان والأبدان! إن هؤلاء كالنعامة يلحقها الصياد فتفر منه حتى إذا عجزت أغمضت عينيها ودسّت رأسها في التراب لظنها أنها لم تبصر الصياد، فإن الصياد لا يراها! إن هذا الأب يحسب أن كل رجل ينظر إلى ابنته بعينه هو، وطبيعي منه ألا ينظر هو إليها بعين الشهوة، فلذلك يطلقها في الشارع، ويبعث بها إلى المدرسة على شكل يفتن العابد، ويحرّك الشيخ الفاني!
* * * * * * * *
دخلت يا سيدي ودرّست، وكنت أغض بصري ما استطعت وأحافظ على وقاري، ولا أنظر في وجوه الطالبات إلا عابسا، وكنت مع ذلك أداري من أثرهن في أعصابي مثل شفرة السيف الحديد، وإذا قرع الجرس خرجت قبلهن مهرولا حتى لا أماشيهن ولا أدنو منهن، فذهبت مسرعا إلى داري أصلي وأسأل الله أن يصرف عني هذه المحنة، وان يجعل رزقي في غير هذا المكان، وكنت أصوم وأقلل الطعام لأطفئ هذه النار، فإذا مشيت إلى الفصل وسمعت كلامهن، وسبقت عيني إلى بعض ما يبدين من أعضائهن وزينتهن زادت ضراما واشتعالا!
وكان فيهن طالبة هي… لا.. لست أصفها ولا ينفعك وصفها، وحسبك أن تعلم انها ذكية ومتقدمة في رفيقاتها، وأنها من أسرة من أنبل الأسر، وأنها فوق ذلك جميلة جدا.. جدا.. إنها تمثال، وهل رأيت مرة تماثيل الجمال والفتنة…؟ وكانت كلما نظرتْ إليّ قرأت في عينيها كتابا مفتوحا، رسالة صريحة لي أنا وحدي، وأحسست منها بمثل شرارات الكهرباء تخرق قلبي… فكنت أزداد عبوسا وإعراضا، فلا يردها عبوسي ولا يثنيها إعراضي، وأسرعت مرة ورائي وأنا خارج وهي تناديني: ((سؤال يا أستاذ))… ولها في صوتها رنّة… يا لطيف..! فوقفت لها فجعلتْ تدنو مني حتى شعرت كأني ألامس… ألامس ماذا؟ لا أجد والله شيئا أشبهها به، لنه ليس في الدنيا شيء آخر له مثل هذا التأثير… فهربت منها وأسرعت إلى الدار، وحرصت على ألا أدعها أو أدع غيرها تفعل مثل هذا!
وعقدت العزم عقدا مبرما على ترك التدريس، وخرجت من الفصل بهذه العزيمة، وكان في الساحة تلميذات فرقة أخرى في درس الرياضة، وقد اصطففن بالشّلْحات، كاشفات الأفخاذ والأذرع، راسخات النهود، يقفن كذلك بين الرجال (والمعلمون كلهم رجال)… فكبر رأسي وأسرعت إلى الشارع، وقد حلفت ألا أعود ولو متّ جوعا، وبعثت بكتاب الاستقالة!
ومرت أيام وكنت وحدي في الدار –وأنا وحدي دائما ليس لي زوجة ولا قريب- فإذا بالباب يقرع، فقمت ففتحت وإذا بها تدخل عليّ، وتغلق الباب وراءها، وترفع الغشاء عن وجهها، وتلقي المعطف عن منكبيها، تحدثني تطلب درسا خصوصيا، وعيناها تحدثانني تطلبان أو لقد خيّلت لي أعصابي أنهما تطلبان غير الدرس… ولست يا أستاذي رجل سوء ولا أليف دعارة، ولكني رجل على كل حال… فلما رأيتها في داري… وتحت يدي… والباب مغلق… وهي تريد… ملكني الشيطان… ورأيت الدنيا تدور بي، ولما حاولت أن أتكلم اختنق صوتي ثم خرج وفيه بحّة غريبة كأني أسمع معها صوت إنسان آخر غيري، وهممت يا أستاذ… ولكن صوت الدين رنّ في أذني، ينادي لآخر مرة كما يصرخ الغريق آخر صرخاته… فاستجبت له… ولو أعرضت عنه لحظة لضاعت هذه الفرصة إلى الأبد، ولخسرت أنا والبنت الدنيا والآخرة من أجل لذة لحظة واحدة… ولم أتردد بل قلت لها بصوت بارد كالثلج، قاطع كالسيف، خشن كالمبرد: ((يا آنسة، أنا آسف، إن هذه الزيارة لا تليق بطالبة شريفة، فاخرجي حالا!))… وفتحت لها الباب وأغلقته خلفها، وتم ذلك كله في دقيقة!
* * * * * * * *
ولما خرجتْ ندمت… نعم ندمت… وعاد الشيطان يوسوس لي، وضاق بي المنزل حتى كأني فيه محبوس في صندوق مقفل، ولم أعد أدري ماذا أصنع، وأحسست أني أضعت كنزا وقع إليّ، وتغلّبت غريزتي، فأخفت صوت الدين والعقل، وأحسست توترا في أعصابي، حتى وجدت الرغبة في أن أعضّ يدي بأسناني، أو أضرب رأسي بالجدار، وعدت أتمثل حركاتها ونظراتها… فأراها أجمل مما هي عليه، وأحس بها في نفسي، فكأني لا أزال أشم عطرها، وأرى جمالها، بل لقد مددت يدي لأمسك بها، فإذا أنا أقبض على الهواء، وخيّل لي الشيطان أن هذه البنت لم تعد تستطيع الصبر بعد أن أذكى هذا النظام المدرسي نار غريزتها، وأنها ستمنح هذه الـ … هذه النعمة رجلا غيري… فصرت كالمجنون حقا، وحاولت أن أقرأ ففتحت كتابا فلم أبصر فيه شيئا إلا صورتها، وأردت الخروج فرأيتني أنفر من لقاء أيّ من أصحابي كان ولا أريد إلا إياها، وحسدت إخوتي المدرسين الذين لم يتربوا مثل تربيتي الصالحة، فتمنعهم من الانطلاق في هذه اللذائذ انطلاق الذئب في لحم القطيع الطريّ!(/2)
والعفو يا أستاذ إذا صدقت في تصوير ما وجدت، فأنت أستاذي أشكو إليك، وأنت الرجل الأديب قبل أن تكون الشيخ القاضي، فقل الآن ماذا أصنع؟ إني تركت التدريس واشتغلت بغيره، ولكني لم أستطع أن أنساها، ولو أنا أردت وصالها لقدرت عليه ولكني لا أريد، فماذا أصنع يا أستاذ؟ لقد حاولت الزواج، فرأيت الأب الذي لا يكاد يمنع ابنته حراما لا يمنحها حلالا إلا بمهر وتكاليف يستحيل دفعها على مثلي، فأيِسْتُ من الزواج، فماذا أصنع؟
* * * * * * * *
ماذا يصنع يا أيها القراء؟ قولوا، فإني لم أجد والله ما أقول!(/3)
نار ونور
شعر: محمد المجذوب
لستُ في حاجة إليك، فما با
كلما لحتُ في الطريق iiلعينيكَ
ويك!.. أتعبت ناظريك وأذكيت
فاستعدْ وعيَك السليبَ iiتجدْني
أصفع اللؤمَ بالإباءِ iiوأجزي
فيم هذا الكِبرُ الجديدُ على الصحبِ
مقعدُ البرلمان قد iiيخدع
ثم يعيا أن يجعل العبدَ iiحراً
ولعمري ما في النيابة iiمجد
كم على هذه الأرائكِ iiخِبٌّ
كل ما في يمينه من iiعَنادٍ
مِعْوَلٌ لم يُعَدَّ إلا iiلتهد
* * ii*
أيها المعرضُ المُدِلُّ iiعلينا
إن مجدَ الأخلاق فوق iiالنيابا
ولئن فاتنا الذي نلتَ من iiحظٍّ
حسبُ مثلي ذخرٌ من iiالعِزة
ويراعٌ قد فَجَّرَ الله من iiشقيه
هو في أعينِ الأحبةِ iiنور
فاغضضِ الطرفَ، لم iiيزدكَ ... لُك تَلوي يا "عبدُ.." جيدَك iiعني
تشاغلتَ أو تهربتَ iiمني!
على ذينك الضعفين iiحُزني
لم يزل –مثلما علمت- iiمِجَني
بالوفاء الوفاء من غير iiمَنِّ
فقد جاز ذلك الكبرُ iiظنّي
الوغدَ فينسيه أنه عبدُ iiقِن
ولَوَنَّ المكانَ مجلسُ ii(بِرن)
رُبَّ داءٍ من النيابة iiمضني
أتقن الشعوذاتِ من كلِّ فنِّ
ثرثراتٌ تَمُجُّها كلُّ iiأُذن
يمٍ، وكم مِعْوَلٍ أُعِدَّ iiليبني!
* * ii*
لستَ تِبْراً ونحنُ لسنا iiبتبن
تِ، ومجدَ الآدابِ فوق iiالتمني
فما الحظُّ للكريمِ iiبِخدن
القعساءِ يسمو به على كل iiغَبن
سحراً يهدي النفوس iiويُغني
وهو نار في مهجة المتجني
تعاليك على عارفيك غيرَ iiتدني(/1)
نافق ووافق وإلا فارق
احفظ الله يحفظك
لما فتح عبدالله بن علي العباس دمشق (هو ملك من الملوك. عم أبي جعفر المنصور ما كان يبتسم أبدا . وحرسه ما يقارب ثلاثين ألفا) دمشق . يقال قتل في ساعة واحدة ستة وثلاثين ألفا من المسلمين وأدخل بغاله وخيوله في المسجد الأموي الجامع الكبيرثم جلس للناس وقال للوزراء . هل يعارضني أحد؟ قالوا لا.
قال هل ترون أحد سوف يعترض علي ؟ قالوا إن كان فالأوزاعي - والأوزاعي محدث فحل أمير المؤمنين في الحديث . أبو عمرو كان زاهدا عابدا من رواة البخاري ومسلم - قال : تعالوا به ؟ فذهب الجنود للأوزاعي فما تحرك من مكانه . قالوا يريدك عبدالله بن علي قال : "حسبنا الله ونعم الوكيل " انتظروني قليلا فذهب واغتسل ولبس أكفانه تحت الثياب. ثم قال لنفسه الآن آن لك يا أوزاعي أن تقول كلمة الحق لا تخشى في الله لومة لائم . قال الأوزاعي وهو يصف دخوله على السلطان الجبار فدخلت فإذا أساطين الجنود صفان قد سلوا السيوف فدخلت من تحت السيوف حتى بلغت إليه وقد جلس على سرير وبيده خيزران وقد انعقد جبينه عقدة من الغضب - قال فلما رأيته والله الذي لا إله إلا هوكأنه أمامي ذباب . . "حسبنا الله ونعم الوكيل " قال فما تذكرت أحدا لا أهلا ولا مالا ولا زوجة وإنما تذكرت عرش الرحمن إذا برز للناس يوم الحساب قال فرفع بصره وبه غضب علي ما الله به عليم ، قال يا أوزاعي . ما تقول في الدماء التي أرقناها . قال الأوزاعي حدثنا فلان . . حدثنا ابن مسعود أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : "لا يحل دم امرىء مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث . الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة" رواه البخاري ومسلم . فإن كان من قتلتهم من هؤلاء فقد أصبت وإن لم يكونوا منهم فدماؤهم في عنقك قال فنكت بالخيرزان ورفعت عمامتي أنتظر السيف ورأيت الوزراء يستجمعون ثيابهم ويرفعونها عن الدم قال وما رأيك في الأموال ؟ قال الأوزاعي إن كانت حلالا فحساب وإن كانت حراما فعقاب ! ! قال خذ هذه البدرة - كيس مملوء من الذهب - قال الأوزاعي لا أريد المال . قال فغمزني أحد الوزراء يعني خذها، لأنه يريد أدنى علة ليقتل ، قال فأخذ الكيس ووزعه على الجنود حتى بقي الكيس فارغا فرمى به وخرج فلما خرج قال : "حسبنا الله ونعم الوكيل " قلناها يوم دخلنا وقلناها يوم خرجنا (فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سؤ واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم ) سورة آل عمران.(/1)
نبذة عن العلمانية
د. إسماعيل محمد حنفي*
أولاً: مفهوم العلمانية([1]):
العلمانية في الحقيقة تعني إبعاد الدين عن الحياة أو فصل الدِّين عن الحياة أو إقامة الحياة على غير الدِّين؛ سواء بالنسبة للأئمة أو للفرد.
أما أصل كلمة علمانية فهي ترجمة غير صحيحة للكلمة اللاتينية (SECULARISM) وترجمتها الصحيحة هي: اللادينية أو الدنيوية, بمعنى ما لا علاقة له بالدين ويؤكد هذه الترجمة ما ورد في دائرة المعارف البريطانية في مادة (SECULARISM) "هي حركة اجتماعية تهدف إلى صرف الناس وتوجيههم من الاهتمام بالآخرة إلى الاهتمام بهذه الدنيا وحدها؛ وظل الاتجاه إلى الـ(SECULARISM) يتطور باستمرار خلال التاريخ الحديث كله، باعتبارها حركة مضادة للدين ومضادة للمسيحية كما يؤكد أن ترجمة الكلمة اللاتينية هي اللادينية؛ ما أورده معجم أوكسفورد شرحاً لكلمة (SECULAR):
(1) دنيوي أو مادي، ليس دينياً ولا روحياً مثل التربية اللادينية، الفن أو الموسيقى اللادينية، السلطة اللادينية، الحكومة المناقضة للكنيسة.
(2) الرأي الذي يقول إنه لا ينبغي أن يكون الدين أساساً للأخلاق والتربية.
هل الاسم العربي له صلة بالاسم؟
ليس له صلة بالعلم لأنه كما ذكرنا أن أصل الكلمة باللاتينية ليس له علاقة بالعلم، والذين ابتدعوها لم يريدوا بها العلم من قريب ولا من بعيد. ولو أرادوه لاستخدموا ما يشير إلى النسبة إلى العلم هي (SCIENTIFIC) لأن العلم بالإنجليزية (SCIENCE) وأرى أن استخدام هذه الكلمة العربية كمصطلح لهذه الفكرة فيه تضليل وتعمية،ولو سموها باسمها لانصرف أهل الفطر السوية عنها ولحاربها أهل الغيرة على الدين.
ثانياً: نشأة العلمانية:
بداية النشأة في أوروبا، وكان ذلك بسبب عبث الكنيسة بدين الله المنزَّل، وتحريفه وتشويهه، وتقديمه للناس بصورة منفرة دون أن يكون عند الناس مرجع يرجعون إليه لتصحيح هذا العبث وإرجاعه إلى أصوله الصحيحة المنزلة كما هو الحال مع القرآن المحفوظ بقدر الله ومشيئته من كل عبث أو تحريفٍ خلال القرون([2]).
إنّ ما نبذته أوروبا حين أقامت علمانيتها لم يكن هو حقيقة الدين ـ فهذه كانت منبوذة من أول لحظة ـ إنما كان بقايا الدين المتناثرة في بعض مجالات الحياة الأوروبية أو في أفكار الناس ووجداناتهم، فجاءت العلمانية فأقصت هذه البقايا إقصاءً كاملاً من الحياة، ولم تترك منها إلا حرية من أراد أن يعتقد بوجود إله يؤدي له شعائر التعبّد في أن يصنع ذلك على مسئوليته الخاصة، وفي مقابلها حرية من أراد الإلحاد والدعوة إليه أن يصنع ذلك بسند الدولة وضماناتها([3]).
ويمكننا تلخيص تسبب الكنيسة في نشأة العلمانية في الآتي:
ـ عقيدة منحرفة: أن الله ثالث ثلاثة، وأنه هو المسيح ابن مريم.
ـ حصر الدين في العبادة بمعناها الضيق فقط، وفي العلاقة الروحية بالخالق.
ـ نفوذ رجال الدين على الملوك وعلى عامة الناس، بحيث لا يقع تصرف منهم فيكون صحيحاً إلا عن طريق رجال الدين؛ ولو كان ذلك وفق توجيه رباني صحيح ولمصلحة البشر لم يكن فيه إشكال؛ لكن لمصلحة رجال الدين.
ـ قيام رجال الدين بالتشريع من عند أنفسهم تحليلاً وتحريماً, حسب أهوائهم ومصالحهم مثل: تحليل الخمر والخنزير، وإبطال الختان.
ـ محاربة الكنيسة للعلم وقتلها للعلماء.
ـ استغلال رجال الدين لمكانتهم في فرض عشور في أموال الناس، وتسخيرهم للخدمة في أرض الكنيسة، وفرض ما يعرف بصكوك الغفران.
ـ الفساد الخُلُقي بكل أنواعه كان يمارسه رجال الدين.
ـ مناصرة الكنيسة للمظالم السياسية والاقتصادية والاجتماعية الواقعة على الناس.
كل تلك الأسباب وغيرها أدت إلى نبذ أوروبا للدين وإقبالها على العلمانية باعتبارها مخلصاً لها مما عانته من سطوة رجال الدين، وسبيلاً للانطلاق والتقدم الذي كان الدين ـ بذلك التصور وتلك الممارسات ـ حجر عترةٍ أمامه.(/1)
ولكن البديل الذي اتخذته أوروبا بدلاً من الدين لم يكن أقل سواءً إن لم يكن أشد؛ وإن كان قد أتاح لها كل العلم والتمكن المادي يطمح إليه كل البشر على الأرض تحقيقاً لسُنَّةٍ من سُنن الله التي تجهلها أوروبا وتجهل حكمتها، لأنها لا تؤمن بالله وما نزَّل من الوحي: (فلما نسوا ما ذكِّروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتةً فإذا هم مبلسون) [سورة الأنعام: 44]، وإذا كان الغالب على ردود الأفعال هو الاندفاع لا التعقّل ولا التبصّر ولا الرويّة ولا الاتزان فقد اندفعت أوروبا في نهضتها تنزع من طريقها كل معلم من المعالم الإلهية –سواءً كانت إلهيةً حقاً أو مدعاة من قبل الكنيسة- وتصنع مكانها معالم بشرية من صنع الإنسان، كما تنزع من طريقها كل ما يتصل بالآخرة لتصنع بدلاً منه ما يتصل بالحياة الدنيا([4])، والحاصل أنهم وقعوا في أسوأ مما فروا منه حين نبذوا الدين كله ونقول إنّ ذلك ليس غريباً؛ فالعقائد الباطلة والتصورات المنحرفة، والممارسات الضالة لا تأتي بخير فالذي خَبُث لا يخرج إلا نكِداً.
وإن كان ذلك قد جرى في أوروبا بسبب الكنيسة ورجال الدين، فليس ذلك موجوداً في دين الإسلام، ولا يمكن أن يقع مثل الانحراف الشامل ويغيب الحق والصواب عن الناس؛ لأن أصول هذا الدين معلومة ومحفوظة، ولا يزال أهل العلم وحملة الحق في كل زمان يُبيّنون ويُوضّحون للناس، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ولو حصل شئ من الانحراف فإنه يكون معلوماً، ولن يتفق عليه أهل الإسلام وهو يعالج بما يؤدي إلى مصالح أكيدة، فالخطأ عندنا أمة الإسلام لا يُعالج بالخطأ، والخطأ الذي يقع إنما هو منسوب للبشر فهي ممارستهم واجتهاداتهم, ولا يصح أن يُحمل على الدين وأن يكون ذريعةً لرفض منهج الله.
ثالثاً: من آثار العلمانية:
في مجال السياسة:
ـ استخدام المبدأ الميكافيلي "الغاية تبرر الوسيلة" من قبل الحكام، مما جرد السياسة من الأخلاق وأبعد عنها الدين، فأصبح استخدام كل وسيلة حلالاً كانت أو حراماً؛ أمراً عاديّاً، بل لم يكن سياسياً بارعاً من لم يفعل ذلك!!
ـ استغلال الناس للوصول إلى الحكم، عن طريق الديمقراطية المزعومة، ثم تسليط السلطة على نفي الناس وظلمهم.
ـ إبعاد الناس عن الحياة واستثناء النهج الإسلامي ذي التوجه الرباني من الوصول للحكم، بل ومحاربته والتنكيل بأنصاره، واتهامهم بالتطرف والإرهاب.
ـ نشأة التيارات المغالية التي كانت ردة فعل للأنظمة العلمانية بظلمها وفسادها.
ـ ولاء الأنظمة السياسية في بلاد المسلمين لدول الكفر، ولاءً كاملاً على حساب الإسلام والمسلمين.
في الاقتصاد:
ـ ترويج سلع العدو في بلاد المسلمين بما يقوي اقتصاده ويضعف المسلمين.
ـ أصبحت الثروة دُولةً بين عدد محدود من الأغنياء الذين لا تستفيد منه بلاد المسلمين كثيراً.
ـ أصبح المسلمون عالةً على غيرهم, معتمدين على عدوهم في كل شيء.
في الاجتماع والأخلاق:
ـ تحرير المرأة وتحللها من كل القيود التي تعصمها وتحفظ كرامتها.
ـ تفكك الأسر وضياع أفرادها.
ـ انتشار جرائم الأطفال وفسادهم.
ـ انتشار الخيانات الزوجية, وكثرة أبناء الزنا.
ـ الترويج للشذوذ الجنسي.
ـ ضعف الروابط بين الأقارب والأرحام؛ بسبب التركيز على الجانب المصلحي في الحياة والعلاقات بين الناس.
ـ انتشار ثقافة التحلل والتفسُّخ والشهوة, مما أدى إلى كثرة الفساد الأخلاقي, وانتشار الأمراض الفتاكة.
في التربية والثقافة:
ـ تفسير الدين تفسيراً ضيقاً, وتحديد علومه تحديداً قاصراً.
ـ التفريق بين نظام تعليم رسمي حكومي, ونظام تعليم أهلي ديني؛ مع إهمال الأول والاهتمام بالأخير.
ـ إهمال اللغة العربية والتربية الإسلامية, مع إظهار الاهتمام بغيرهما من المواد العلمية والعصرية.
ـ بث السموم والطعن في المقررات والمناهج الدراسية ضد الإسلام, مع الاهتمام بالثقافة الأوروبية.
ـ انتشار ترجمات الكتب الغربية في بلاد المسلمين, بل وكذلك الكتب الغربية بلغاتها الأصلية؛ تحت اسم الثقافة ودراسة الأدب...الخ.
ـ عودة كثير من أبناء المسلمين الذين درسوا وتربوا على مائدة الغرب ليساهموا في نشر ثقافته وفكره وينافحوا عنها.
ـ الفصل بين ما هو ديني وما هو غير ديني في الصحف والمجلات: مجلة دينية, صحيفة دينية, صفحة دينية, برنامج ديني...إلخ.
ـ انتشار الاختلاط في المؤسسات التعليمية؛ حتى أصبح أصلاً, ومن ينادي بفصل الجنسين يصبح شاذاً!
ـ حصر مفهوم الثقافة في أدب اللهو والمجون, والطرب والغناء.
رابعاً: كيف نواجه العلمانية:
لا حاجة ـ بعد كل ما ذكرناه ـ إلى الكلام عن حكم العلمانية, فقد اتضح لنا أنها دين مستقل؛ ابتدعه البشر ليكون مقابل دين الله وبديلاً لشرعه, وبذا فهي كفرٌ صراح, ومواجهتها واجب, لكن كيف؟
ـ بنشر العلم الشرعي وتوعية الناس بدينهم.
ـ بتربية أبناء الأمة على الإسلام, في الأسرة والمؤسسات المختلفة.(/2)
ـ بنشر الثقافة الإسلامية من خلال: الكتب, المجلات, المقررات الدراسية, أجهزة الإعلام...
ـ بتعرية فكر العلمانيين والرد عليهم.
ـ بالتمسك بشريعة الإسلام والعضِّ عليها بالنواجذ.
ـ بتوعية الأمة بخطورة العلمانية على الدين والمجتمع.
ـ بتقوية عقيدة الولاء والبراء.
----------
(1) د. سفر الحوالي، العلمانية، ص 21ـ24، Ency.Britanniea.Vol.lxp.19. Oxford Advanced Learner’s Dic. Of Current English:785
([2]) محمد قطب، العلمانية، ص7
([3]) المرجع السابق، ص11.
([4]) محمد قطب، مرجع سابق، ص17ـ29.(/3)
نبذة عن علم القراءات
جمع القرآن الكريم
تعريف علم القراءات
حديث الأحرف السبعة
أسماء أئمة القراءة ورواتهم
________________________________________
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره
ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادى له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلوات الله وسلامه عليه أما بعد /
فإن القرآن ينبوع العلوم ومنشوها ومعدن المعارف ومبدؤها ومبنى قواعد الشرع وأساسها وأصل كل العلوم ورأسها، والإستشراف على معانيه لا يتحقق إلا بفهم وصفه ومبانيه، ولا يُطمع في حقائقها التي لا تنتهي لغرائبها ودقائقها إلا بعد العلم بوجوه قراءاته وإختلاف رواياته ومن ثم صار علم القراءات من أجل العلوم النافعات،
أعلى الصفحة
________________________________________
"جمع القرآن الكريم"
لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم وقام بعده أحق الناس به أبوبكر الصديق رضي الله عنه وقاتل الصحابة رضوان الله عليهم أهل الردة وأصحاب مسيلمة الكذاب وقتل من الصحابة نحو الخمسمائة، أُشير على أبى بكر الصديق رضىالله عنه بجمع القرآن في مصحف واحد خشية أن يذهب بذهاب الصحابة فتوقف في ذلك من حيث أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر في ذلك بشئ ثم إجتمع رأيه ورأي الصحابة على ذلك فأمر زيد بن ثابت بتتبع القرآن وجمعه، فجمعه في صحف كانت عند أبى بكر رضي الله عنه حتى توفي ثم عند عمررضي الله عنه حتى توفي ثم عند حفصة بنت عمر رضي الله عنهما.
ولما كان في نحو ثلاثين من الهجرة في خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه حضر حذيفة بن اليمان رضي الله عنه فتح أرمينية وأذربيجان فرأى الناس يختلفون في القرآن ويقول أحدهم للأخر : قراءتى أصح من قراءتك، فأفزعه ذلك وقدم على الخليفة الراشد عثمان بن عفان وقال : أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا إختلاف اليهود والنصارى، فأرسل عثمان رضى الله عنه إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها ثم نردها إليك، فأرسلتها إليه، فأمر زيد بن ثابت وعبدالله بن الزبير أن ينسخوها في المصاحف، وقال : إذا إختلفتم أنتم وزيد في شيء فأكتبوه بلسان قريش فإنما نزل بلسانهم.
فكتب منها عدة مصاحف وأرسلها إلى المصار، وأرسل مع كل مصحف إماماً وإجتمعت الأمة من الخطأ على ما تضمنته هذه المصاحف وترك ما خلفها من زيادة ونقص وإبدال كلمة بأخرى مما كان مأذوناً فيه توسعةً عليهم، ولم يثبت عندهم ثبوتاً مستفيضاً أنه من القرآن، وجردت هذه المصاحف جميعاً من النقط والشكل ليحتملها ما صح نقله وثبت تلاوته عن النبي صلى الله عليه وسلم إذ كان الإعتماد على الحفظ لأعلى مجرد الخط.
فكتبت المصاحف على اللفظ الذي إستقر عليه في العرضة الأخيرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما صرح به واحد من أئمة السلف، وقرأ كل مصر بما في مصاحفهم وتلقوا ما فيه عن الصحابة الذين تلقوه من فِيٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
على الصفحة
________________________________________
"تعريف علم القراءات"
تعريفه:
" علم القراءات علم يعرف به كيفية إداء كلمات القرآن وإختلافها مع عزو كل وجه لناقله: وبذلك خرج النحو واللغة والتفسير وما أشبه ذلك"
موضوعه:
كلمات القرآن من حيث أحوال النطق بها وكيفية أدائها.
ثمرته وفائدته:
العصمة من الخطأ في النطق بالكلمات القرآنية وصيانتها عن التحريف والتغيير والعلم بما تقرأ به كل من أئمة القراءة التمييز بين ما يقرأ به وما لا يقرأ به.
فضله:
هو من أشرف العلوم الشرعية لشدة تعلقة بأشرف كتاب سماوي منزل.
واضعه:
أئمة القراءة. وقيل أبو عمرو حفص بن عمر الدورى وأول من دون فيه أبو عبيد القاسم بن سلام.
اسمه:
علم القراءات - جمع قراءة بمعنى وجه مقروء به.
استمداده:
من النقول الصحيحة المتواترة عن علماء القراءات الموصولة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
حكم الشارع فيه:
الوجوب الكفائي تعلماً وتعليماً
مسائله:
قواعد كلية كقولهم : كل ألف منقلبة عن ياء يميلها حمزة والكسائي وكل راء مفتوحة أو مضمومة وقعت بعد كسرة اصلية أو ياء ساكنة يرققها ورش وهكذا 000
على الصفحة
________________________________________
"حديث الأحرف السبعة"
روى البخاري في صحيحه عن انس بن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :-
" أقرأني جبريل على حرف واحد فراجعته فلم أزل أستزيده ويزيدنى حتى إنتهى إلى سبعة أحرف"
وروى أيضاً عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :- إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف، فإقرأوا ما تيسر منه"
وقد إختلف العلماء في المراد بالأحرف السبعة على أقوال كثيرة، ولما كان أكثر هذه القوال متداخلاً فسنقتصر على أقواها وأولاها بالقبول والإعتماد وقبل ذلك ننبه على أمور:-(/1)
أجمع أهل العلم على انه لايراد بالأحرف السبعة قراءة الكلمة الواحدة على سبعة أوجه لأن ذلك غير موجود في القرءان.
وأجمعوا أيضاً على أنه لايراد بالأحرف السبعة القراءُ السبعة المشهورون إذ لم يكونوا موجودين وقتما حدث بذلك النبي صلى الله عليه وسلم.
الإختلاف في الأحرف السبعة هو إختلاف تنوع وتغاير لا تضاد وتناقص إذ هو محال في كتاب الله تعالى :"أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه إختلافاً كثيراً"
إذا فالمراد من الحديث هو سبعة لغات من لغات العرب المشهورة في كلمة واحدة تختلف فيها الألفاظ والمعاني مع إتفاق المعاني أو تقاربها وعدم إختلافها وتناقضها، نحو:" هلم، أقبل، تعال،000000"
وليس معنى هذا أن كل كلمة تقرأ بسبعة ألفاظ من سبع لغات بل المراد أن غاية ما ينتهى إلية الإختلاف في تأدية المعنى هو سبع وهذا هو رأى الجمهور سلفاً وخلفاً ونسبة ابن عبد البر لأكثر العلماء.
على الصفحة
________________________________________
"أسماء أئمة القراءة ورواتهم"
1- نافع: "المدنى" ابن عبد الرحمن بن أبى نعيم (70-169 هـ ) أحد الأعلام ثقة صالح أصله من أصبهان وروى عنه:-
قالون: أبو موسى عيسى بن مينا الرزقى مولى بنى زهرة (120-220 ه) قارئ المدينة ونحويها.
ورش: عثمان بن سعيد القبطي المصري مولى قريش (197-110 هـ) شيخ القراء المحققين
2- إبن كثير: "المكى" عبدالله أبو معبد العطار الدارى الفارسي الأصل " " إمام اهل مكة في القراءة وروى عنه :-
البزى :أبو الحسن أحمد بن محمد بن عبدالله (170-250 هـ) مقرئ مكة ومؤذن المسجد الحرام.
قنبل: أبو عمرو محمد بن عبد الرحمن المخزومى بالولاء (165-291 هـ) شيخ القراء بالحجاز.
3- أبو عمرو بن علاء: زبان بن العلاء المازني البصرى (68-154 هـ) إمام العربية والأقراء- وروى عنه:-
حفص الدورى: ابن عمر بن عبد العزيز أبو عمرو الأزدى البغدادي "توفي سنة 246 هـ" إمام القراء وشيخ الناس في زمانه.
السوسى: صالح بن زياد، أبو شعيب السوسى توفي سنة "261 هـ" مقرئ ضابط محرر ثقة
4- ابن عامر الدمشقى: أبو عمران عبدالله اليحصبى "توفي سنة 118 هـ" إمام أهل الشام ومقرئهم وروى عنه:-
هشام بن عمار: أبو الوليد السلمى الدمشقى "توفي سنة 245 هـ" إمام أهل دمشق وخطيبهم.
ابن ذكوان: أبو عمرو عبدالله بن أحمد الفهدى الدمشقي "توفي سنة 242 هـ"
5- عاصم بن أبي النجود الكوفي: أبوبكر مولى بني أسد "توفي سنة 127 هـ" الإمام الراوى الثقة وروى عنه:-
شعبة: أبو بكر بن عياش الأسدي الكوفي "95-193 هـ" إمام علم من أئمة أهل السنة.
حفص بن سليمان: أبو عمرو الأسدى الكوفي "90-180 هـ" شيخ الإقراء بالكوفة
6- حمزة بن حبيب الزيات: أبو عمارة الكوفي التميمي بالولاء "80-165 هـ" حبر القرآن زاهد عابد وروى عنه:-
خلف بن هشام: أبو محمد الأسدى البغدادى "150-229 هـ" الإمام العلم الثقة كبير زاهد عابد.
خلاد: أبو عيسى بن خالد الشيباني بالولاد الكوفي "توفي سنة 220 هـ" وهو إمام في القراءة ثقة محقق.
7- الكسائى: أبو الحسن على بن حمزة، فارسي الأصل أسدي الولاد "119-189 هـ" إنتهت إليه رياسة الأقراء بعد حمزة وروى عنه:-
أبو الحارث: الليث بن خالد البغدادى "توفي سنة 240هـ" وهو ثقة معروف حاذق ضابط.
حفص الدورى: وهو راوى أبى عمرو بن العلاء أيضاً كما تقدم.
فهؤلاء هم السبعة المشهورون أصحاب القراءات المتواترة ولهم ثلاثة متممون لهم حتى تكتمل القراءات إلى عشر وهم:
8- او جعفر يزيد بن القعقاع: المخزومى المدنى توفي سنة 130هـ وهو إمام تابعي مشهور وروى عنه:-
عيسى بن وردان: أبو الحارث المدنى توفى سنة 160 هـ.
ابن جماز: أبو الربيع سليمان بن مسلم بن جماز الزهري المدني توفى سنة 171 هـ وهو مقرئ جليل.
9- يعقوب الحضرمى: ابن اسحاق بن يزيد أبو محمد "117-205 هـ" إمام أهل البصرة ومقرئها ثقة صالح وروى عنه:-
رويس: أبو عبدالله محمد بن المتوكل البصرى "توفي سنة 238 هـ" مقرئ حاذق ضابط.
روح بن عبد المؤمن: أبو الحسن البصرى النحوي الهندلى "توفي سنة 234 هـ" مقرئ ضابط.
10- خلف بن هشام البزار: وهو راوى حمزة المتقدم وروى عنه:-
إسحاق الوراق: أبو يعقوب المروزى البغدادى "توفي سنة 286 هـ" إمام ضابط متقن ثقة.
إدريس الحداد: أبوالحسن بن عبد الكريم البغدادى "توفي سنة 292 هـ" وهو إمام ثقة ضابط متقن.(/2)
نبوءة موسى .. بطل حتى النهاية
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره وأصلي وأسلم على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أما بعد ..عندما انقضت قوات وجحافل أحفاد القردة والخنازير على قرى الضفة الغربية في العام الماضي وأحدث تنعي في القتل والتشريد والاعتداء على الحرمات والأعراض صاح المغفلون في كل مكان أين احترام المعاهدات أين بنود اتفاقية أوسلو ؟ أين سلام الشجعان [القطعان] ؟ وأخذ العملاء والخونة يروجون أن السلام هو الخيار الوحيد المطروح لحل القضية الفلسطينية، وأن أهل فلسطين ليس لهم سبيل للأمن والأمان والرخاء إلا بالسلام وأنهم لن يحصلوا على حقوقهم بالسلام، وعرفات يتم محاصرته عدة أشهر في رام الله ثم يخرج من الحصار [مثل الفأر المذعور] فيقول نحن مصرون على التمسك بالسلام !رغم أن الآلة العسكرية للصهاينة ما زالت تتفنن في التمثيل والترويع والتقتيل للمسلمين هناك وما حدث بجنين ليس ببعيد، ولهؤلاء العملاء والخونة، ومعهم المغفلون ولكل مسلم يظن أن الأقصى سيتحرر بالسلام نهدي إليه تلك القصة من لباب الكتب لتبين المصير الذي ينتظر الجميع من معاهدات السلام مع أعدى أعداء الإسلام .عندما وصلت دولة الإسلام بالأندلس لمرحلة الاحتضار النهائي، وبلغت الروح الحلقوم كانت غرناطة هي معقل الإسلام الأخير، والتي ضرب عليها الصليبيون الأسبان حصارًا شديدًا طيلة سبعة أشهر حتى فنيت الأقوات ومن قبلها العزائم والهمم عدا رجل واحد لم تفنى عزيمته وإرادته وإيمانه بالله عز وجل هو فارس غرناطة موسى بن أبي الغسان الذي حاول أن يثير العزائم ويوقظ الهمم من أجل الدفاع عن المدينة حتى الموت، وعدم الموافقة على تسليمها بالسلام لأعداء الإسلام وقام أمير غرناطة أبو عبد الله بدعوة أكابر الجماعة بالبلد في قصر الحمراء للتباحث في الموافقة على شروط تسلمي البلد للصليبيين واسمع للرواية التاريخية المؤثرة التي تصف ما جرى .[اجتمع الزعماء في بهو الحمراء ليوقعوا عهد التسليم وليحكموا على دولتهم بالذهاب، وعلى أمتهم بالفناء والمحو عندئذ لم يملك كثير منهم نفسه من البكاء والعويل، ولكن موسى بن أبي الغسان لبث وحده صامتًا عابسًا ثم قال وهو يستثير عزائمهم [اتركوا العويل للنساء والأطفال فنحن رجال لنا قلوب لم تخلق لإرسال الدمع ولكن لتقطر الدماء، وإني لأرى أن روح الشعب قد خبت حتى ليستحيل علينا أن ننقذ غرناطة، ولكن ما زال ثمة بديل للنفوس النبيلة ذلك هو موت مجيد، فلنمت دفاعًا عن حرياتنا وانتقامًا لمصائب غرناطة، وسوف تحتضن أمنا الغبراء أبناءها أحرارًا من أغلال الفاتح وعسفه، ولئن لم يظفر أحدنا بقبر يستر رفاته فإنه لن يعدم سماء تغطيه وحاشا لله أن يقال إن أشراف غرناطة خافوا أن يموتوا دفاعًا عنها].ثم صمت موسى وساد المجلس سكون الموت وعندها قال الأمير الخائر الضعيف أبو عبد الله وصاح [الله أكبر لا إله إلا الله محمد رسول الله ولا راد لقضاء الله تالله لقد كتب عليّ أن أكون شقيًا وأن يذهب الملك على يدي] وصاحت الجماعة على أثره [الله أكبر ولا راد لقضاء الله] وكرروا جميعًا أنها إرادة الله، ولتكن ولا مفر من قضائه ولا مهرب] لاحظ استخدام القضاء والقدر في تبرير خوفهم وجبنهم عن نصرة الإسلام وحالهم كحال الجبرية الذين يقولون إننا مجبرون على المعاصي] .وعندما رأى موسى بن أبي الغسان أن محاولاته ذهبت أدراج الرياح نهض مغضبًا ثم قال لهم مقولته الشهيرة.نبوة موسى : قال لهم [لا تخدعوا أنفسكم ولا تظنوا أن النصارى سيوفون بعهدهم ولا تركنوا إلى شهامة ملكهم إن الموت أقل ما نخشى فأمامنا نهب مدننا وتدميرها تدنيس مساجدنا وتخريب بيوتنا وهتك نسائنا وبناتنا وأمامنا الجور الفاحش والتعصب الوحشي والسياط والأغلال وأمامنا السجون والأنطاع والمحارق، هذا ما سوف نعاني من مصائب وعسف وهذا ما سوف تراه على الأقل تلك النفوس الوضيعة التي تخشى الآن الموت الشريف أما أنا فوالله لن أراه] .بطل حتى النهاية :لله درك يا موسى عندما بررت بيمينك فلم تراه، خرج موسى غاضبًا من مجلس المهانة والضعف والخور دون أن يرمق أحدًا أو يفوه بكلمة ثم ذهب إلى داره وغطى نفسه بسلاحه واقتعد جواده المحبوب [غارب]، واخترق شوارع غرناطة حتى خرج منها إلى معسكر الجيش الصليبي فلقيته سرية منهم مكونة من خمسة عشر فارسًا على ضفة نهر [شنيل] فانقض موسى عليهم كالأسد، وأخذ يمضي فيهم طعنًا وضربًا وأثخنته الجراح، ولكنه استمر في القتال كأنه ما يشعر بالألم جراحاته،كثيرة وكانت ضرباته ثائرة قاتلة، وهكذا لبث يبطش بالفرسان الصليبيين حتى أفنى معظمهم غير أنه أصيب في النهاية بجرح خطير ثم قتل جواده فسقط على الأرض، ولكنه ركع على ركبتيه واستل خنجره وأخذ يناضل عن نفسه حتى الرمق الأخير، ولم يرد أن يقع أسيرًا في يد خصمه بل رضي بالشهادة والقتال حتى مات رحمه الله .ولا عزاء لأشباه الرجال ولا رجال في زمان ضاع فيه أبطال النضال(/1)
نبوة خالد بن سنان
الكاتب: الشيخ د.نايف بن أحمد الحمد
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
فقد اطَّلعت على المقالة التي كتبها الأستاذ/ فهد بن عامر الأحمد في جريدة (الرياض) عدد (13775) في 12/2/1427هـ وتحدث فيها عن خالد بن سنان، وقرر من خلال عرضه أنه نبي عربي من نسل إسماعيل، وذكر أن النبي -صلى الله عليه وسلم – قال عنه: (ذاك نبي ضيعه قومه)، وذكر بعض معجزاته !!...إلخ.
كما أنني اطلعت على بعض المنتديات في الشبكة العنكبوتية، والتي تتحدث كذلك عن نبوته، ولم اطلع على من ردَّ على ذلك، لذا أحببت بيان الحق في هذه المسألة، فأقول مستعينا بالله تعالى:
لاشك أن هذا القول الذي ذكره أخونا الكاتب قد ذكره بعض المؤرخين، ولكن العبرة بثبوت هذا الخبر من عدمه، وهل كان هناك نبي بين عيسى -عليه السلام -ونبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- حيث ذكر من ترجم لخالد بن سنان أنه بُعث قبل مبعث النبي -صلى الله عليه وسلم- وأن النبي - صلى الله عليه وسلم – رأى ابنته وسأل عنه، فقالوا: قد مات، فقال: (ذاك نبي ضيعه قومه)، ومن ذلك ما رواه ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رجلا من بني عبس يقال له خالد بن سنان قال لقومه: إني أطفىء عنكم نار الحدثان. قال: فقال له عمارة بن زياد -رجل من قومه -: والله ما قلت لنا يا خالد قط إلا حقا فما شأنك وشأن نار الحدثان تزعم أنك تطفئها ؟ قال:فانطلق وانطلق معه عمارة بن زياد في ثلاثين من قومه حتى أتوها وهي تخرج من شق جبل من حرة يقال لها حرة أشجع، فخط لهم خالد خطة فأجلسهم فيها، فقال: إن أبطأت عليكم فلا تدعوني باسمي. فخرجت كأنها خيل شقر يتبع بعضها بعضا. قال: فاستقبلها خالد فضربها بعصاه، وهو يقول: بدا بدا بدا كل هدى زعم ابن راعية المعزى أني لا أخرج منها وثناي بيدي. حتى دخل معها الشق قال: فأبطأ عليهم. قال: فقال عمارة بن زياد: والله لو كان صاحبكم حيا لقد خرج إليكم بعد. قالوا : ادعوه باسمه. قال فقالوا: إنه قد نهانا أن ندعوه باسمه، فدعوه باسمه، قال: فخرج إليهم وقد أخذ برأسه فقال: ألم أنهكم أن تدعوني باسمي قد والله قتلتموني فادفنوني فإذا مرت بكم الحمر فيها حمار أبتر فانتبشوني فإنكم ستجدوني حيا. قال: فدفنوه فمرت بهم الحمر فيها حمار أبتر، فقلنا: انبشوه فإنه أمرنا أن ننبشه. قال عمارة بن زياد: لا تحدث مضر إنا ننبش موتانا والله لا ننبشه أبدا. قال: وقد كان أخبرهم إن في عكن امرأته لوحين، فإذا أشكل عليكم أمر فانظروا فيهما فإنكم سترون ما تسألون عنه. وقال : لا يمسهما حائض. قال: فلما رجعوا إلى امرأته سألوها عنهما فأخرجتهما وهي حائض. قال: فذهب بما كان فيهما من علم. قال فقال أبو يونس قال سماك بن حرب سأل عنه النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: (ذاك نبي أضاعه قومه)، وقال أبو يونس قال سماك بن حرب أن ابن خالد بن سنان أتى النبي -صلى الله عليه وسلم - فقال: (مرحبا بابن أخي). رواه الحاكم (2/655)، و الطبراني في المعجم الكبير (11793)، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه، فإن أبا يونس هو الذي روى عن عكرمة هو حاتم بن أبي صغيرة، وقد احتجا جميعا به واحتج البخاري بجميع ما يصح عن عكرمة ا.هـ.
وقد تعقب العلماءُ الحاكمَ ولم يرتضوا قوله، وردوا تصحيحه، فقال الذهبي: " منكر " ا.هـ وقال الحافظ ابن حجر: قلت لكن معلى بن مهدي ضعفه أبو حاتم الرازي ا.هـ الإصابة (2/371)، وقال الهيثمي: " رواه الطبراني موقوفا وفيه المعلى بن مهدي ضعفه أبو حاتم، قال: يأتي أحيانا بالمناكير قلت: وهذا منها " ا.هـ مجمع الزوائد (8/213).
وعَنِ ابن عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما -قال: جَاءَتْ بنتُ خَالِدِ بن سِنَانَ إلى النبي -صلى اللَّهُ عليه وسلم- فَبَسَطَ لها ثَوْبَهُ وقال: (بِنْتُ نَبِيٍّ ضَيَّعَهُ قَوْمُهُ). رواه الطبراني في المعجم الكبير (12250)، وابن عدي في الكامل (6/46)، والأصبهاني في التاريخ (2/149)، قال ابن عدي: " وهذا الحديث لم يوصله، فقال فيه عن ابن عباس غير قيس بن الربيع " ا.هـ وقال الذهبي: "قلت لا يصح هذا" ا.هـ ميزان الاعتدال (8/222)، وقال الحافظ ابن حجر: "وقيس ضعيف من قبل حفظه" ا.هـ الإصابة (2/373).
وقد رواه ابن شبة في أخبار المدينة (786) بإسناد مرسل. وقال الهيثمي: " وفيه قيس بن الربيع وقد وثقه شعبة والثوري، ولكن ضعفه أحمد مع ورعه وابن معين.... قال البزار: رواه الثوري عن سالم بن سعيد بن جبير مرسلا. ا.هـ المجمع (8/314)، وانظر: فتح الباري (13/79)، وفيض القدير (3/47)، وقد ذكر ابن شبة آثارًا في أخبار المدينة (1/235) لا تخلو من مقال.
كما أن هذه الآثار لا تصح رواية فكذلك لا تصح دراية:(/1)
أولا: قال تعالى: [وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ] {الصَّف:6}
وعن أبي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه –قال: قال رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم-: ( أنا أَوْلَى الناس بِعِيسَى الْأَنْبِيَاءُ أَبْنَاءُ عَلَّاتٍ وَلَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَ عِيسَى نَبِيٌّ) رواه مسلم (2365).
قال ابن كثير -رحمه الله تعالى -: " وهذا فيه رد على من زعم أنه بعث بعد عيسى نبي يقال له خالد بن سنان كما حكاه القضاعي وغيره ". تفسير ابن كثير (2/ 36).
وقال السيوطي – رحمه الله تعالى -: " هذا يبطل قول من قال إنه بعث بعد عيسى في زمن الفترة نبي أو نبيان أو ثلاثة، ولم يرد في ذلك حديث يعتمد عليه، وهذا الذي في مسلم نص قاطع للنزاع " ا.هـ الديباج على مسلم (5/349).
ثانيا: قال الحاكم بعد روايته: "قد سمعت أبا الأصبع عبد الملك بن نصر وغيره يذكرون أن بينهم وبين القيروان بحرًا في وسط جبل لا يصعده أحد، وإن طريقها في البحر على الجبل، وإنهم رأوا في أعلى الجبل في غار هناك رجلاً عليه صوف أبيض، وهو مختب في صوف أبيض ورأسه على يديه كأنه نائم لم يتغير منه شيء، وإن جماعة أهل تلك الناحية يشهدون أنه خالد بن سنان " ا.هـ قال الحافظ ابن حجر متعقبا الحاكم: "قلت وشهادة أهل تلك الناحية بذلك مردودة فأين بلاد بني عبس من جبال المغرب" ا.هـ الإصابة (2/373).
وفي الجملة لا يصح شيء من الأحاديث الوارد فيها ذِكْر خالد بن سنان، والصحيح المقطوع به أنه لا نبي بين عيسى ومحمد – صلى الله عليهما وسلم – وقد ذكر ابن كثير عددًا ممن قيل إنه نبي، ومنهم خالد بن سنان، فقال: "والظاهر أن هؤلاء كانوا قوماً صالحين يدعون إلى الخير" ا.هـ فيض القدير (3/47)، والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.(/2)
نتائج الانتخابات البريطانية: فشل جديد للديمقراطية، ولكن ...
هيثم بن جواد الحداد
ليل انتخابي هادئ في لندن، عاصمة حرية الكلمة، ومركز ثقل الناخبين البريطانيين ... الساعة تقترب من العاشرة ليلاً، لكن الوقت - على خلاف عادة المدينة في أيام العمل - ليس متأخرًا جدًا لنوعين من الناس، أولهما الناخبون البريطانيون، فمراكز الاقتراع تغلق أبوابها الساعة العاشرة ليلاً، والنوع الثاني من الناس: هم المسلمون الذين انهوا للتو صلاة المغرب، ويستعدون لصلاة العشاء، فنهار الصيف الطويل في بلاد الضباب تغيب معه الشمس بعد قبيل الساعة التاسعة مساء.
ليس من العادة أن يطرق عليك أحد الباب في هذه الساعة المتأخرة –عرفًا-، لكنها ساعة الحسم للقوم، وإذا بأحد مؤيدي حزب العمال يطرق الباب سائلاً : هل انتخب صاحب هذا البيت؟ فأجبته بأنّ صاحب هذا البيت واسمه محمد لا يرغب في انتخاب حزب العمال، وكنت قد خرجت لاستقبال الطارق مرتديا "ثوبا – بحسب لهجة أهل الخليج، وقميص طويل بلهجة أهل المغرب، وهو الأصح لغة-"، المهم أجابني الطارق وقد أوحى له اسم صاحب المنزل مقرونًا بهذا اللباس العربي معرفة سبب عدم رغبة صاحب البيت في التصويت لحزب العمال، هذا إن صوّت أصلا لأحد الأحزاب ..فأجاب ببداهة المتابع للأجواء الانتخابية: من أجل العراق؟ فقلت: نعم، من أجل موضوع العراق، قال: أوافقك على ذلك، الأمر محزن، وأنا كنت سأترك الحزب لأجل ذلك، وتظاهرت ضد الحرب على العراق، ثم تابع قائلاً وبالمناسبة فإن عضو البرلمان الجديد الخاص بالمنطقة هو من حزب العمال، إلا أنه من المعارضين للحرب على العراق ...لقد كان الموقف من الحرب على العراق إحدى أهم "خيول الرهان" التي يسابق عليها المرشحون، أو خصومهم، وساهمت أو نجحت المظاهرات التي شارك فيها مئات الآلاف في وضع هذه القضية على سلم أولويات الشعب البريطاني بعد أن لم تكن مثل هذه الحرب قضية أصلا للشعب الذي يهتم بالشأن الداخلي من زيادة الضرائب، وتردي الخدمات الصحية، وانخفاض أجور التقاعد ونحوها.
-2-
بعد أداء صلاة فجر الجمعة، والتي تقام الساعة الرابعة صباحًا وهو وقت مبكر جدًا، أحد المصلين قال لي: رأيت النتائج؟ فتبسمت سائلاً: ومتى يمكن أن تكون قد أفرزت، وظهرت، وقد انتهت للتو، الساعة العاشرة مساءًا؟ ثم كيف نراها والوقت مبكر جدًا؟ قال: لقد استيقظت الساعة الثالثة فجرًا، وفتحت التلفاز وإذا بحزب العمال يحتفل بنصره، حيث حقق أكثر من ثلث المقاعد بقليل، فبادرته: وماذا فعل حزب المحافظين؟ قال حقق أقل من الثلث بقليل ...
ومع صباح يوم الجمعة ، 6 مايو، أيار ، 2005 تتناول الصحف النتائح الرسمية للانتخابات، فقد حصل حزب العمال "الحاكم" بقيادة توني بلير رئيس الوزراء الحالي على 36 في المائة من مقاعد البرلمان، بينما جاء في المرتبة الثانية حزب المحافظين بقيادة هاورد اليهودي الأصل 33 في المائة من الأصوات، وحصل المحافظين الأحرار، ثم تتبارى الصحف في تحليل هذه النتائج، لكن يكاد يكون أهمّ ما يمكن أن يطلع عليه ضعيف المتابعة للشأن الانتخابي تعليقات الشعب البريطاني على نتائج الانتخابات، ولو أعملنا قاعدة "متى ينسب القول إلى الجمهور" المقررة عندنا في أصول الفقه، لوجدنا أن "جمهور الشعب البريطاني" مستاء جدًا من نتيجة الانتخابات، ولم أجد أبلغ من هذه العبارة في وصف ما جرى، إذ علقت إحدى النساء بقولها "
We didn't have much of a choice really. All three parties are as bad as each other. When will we have the choice to voice our dissatisfaction with it all and have a box named 'none of the above' then we may have a better turn out”
ليس لدينا خيرات متعددة، كل واحد من الأحزاب الثالثة على درجة من السوء مثل الآخر، وحينما يكون لدينا خيار جديد، وصندوق جديد اسمه " لا خيار مما تقدم " يمكن أن نعبر فيه عن عدم رضانا، فربما حصلنا على ناخبين أكثر.
ثم تتابع التعليقات التي غلب عليها طابع الامتعاض من هذه النتائج -وهذا أمر غير مستغرب- فالكل يعاني من ارتفاع الضرائب، وكثرة الجرائم، وتدهور الخدمات الصحية، والتي يعتقد الجميع أنها نتاج لسياسات حكومة العمال ...(/1)
لكن ثمت حقيقة تطل علينا من خلال قراءة هذه التعليقات، وهي أعني تلك الحقيقة بيت القصيد في هذه المقالة، إنه فشل الديمقراطية الغربية، أو على الأقل: فشل هذا النوع من الديمقراطية، المعروف بالنظام البرلماني، والذي يتمكن فيه أحد الأحزاب من الفوز بالانتخابات وتمثيل الحكومة، بمجرد حصول على أكثر عدد من المقاعد البرلمانية، ففي هذه الانتخابات مثلاً حصل حزب العمال على أكثر عدد من المقاعد مقارنة بما حصل عليه منافسه، لكنه لم يحصل على أغلبية المقاعد في البرلمان، بل إن الواقع يمكن أن يُقرأ بطريقة عكسية -فبضدها تتميز الأشياء -إذ يمكن أن ينظر إلى حصوله على أكبر عدد من الأصوات فقط إذا ما قورن بالأحزاب الأخرى، وهذا قد يعني -كما هي الحال هنا - بأن أغلب المصوتين صوتوا ضد الحزب، لكن تفرق أصواتهم هو الذي منحه فرصة للفوز.
أحد المشاركين في استطلاعات الرأي الذي أجراه موقع البي بي سي حول الانتخابات يتساءل بطريقة تعكس فشل هذا النوع من الديمقراطية على الأقل، فيقول:
How can democracy allow an individual with the lowest share of the vote in modern history to form a government? Would proportional representation or compulsory voting have reflected a more balanced or fairer administration?
"كيف يمكن للديمقراطية في العصر الحديث أن تسمح لمن حصل على أقل نسبة من الأصوات أن يشكل الحكومة؟ أليس نظام التمثيل النسبي، أو التصويت الإجباري، يعكس طريقة أكثر عدلاً وتوازناً؟
وهكذا يجمع أكثر المشاركين في استطلاع الرأي بأن فوز حزب العمال بهذه الطريقة لا يعكس رغبة البريطانيين فيه، بل إنه على العكس من ذلك يشير إلى أن أغلب البريطانيين ضده، وضد سياساته، لكن هذا النوع من الديمقراطية، منح الأقلية، حكم الأكثرية، فأين تلك الديمقراطية، إذًا؟
وثمت أمر آخر تطالعنا به تلك الانتخابات، عبر عنه كثير من المحللين بقولهم: إن فوز بعض الأحزاب الأخرى غير الرئيسية ببعض المقاعد، وخسارة الحزب "الحاكم" –رغم فوزه بتشكيل الحكومة- مقاعد كثيرة، يدل على أن الناخبين البريطانيين سئموا حكم الحزب الواحد، أو الحزبين الحاكمين، وهم يبحثون الآن عن "التنوع".
-3-
أيها السادة الفضلاء:
في الوقت الذي يلفظ العقلاء من العالم الغربي هذه النظم الديكتاتورية المغلفة بنظام حرية الكلمة، تتلقف نخبنا التي تُدعى ظلمًا وزورا بالنخب المثقفة؛ الديمقراطية، وكأنها المنقذ للبشر في الدنيا والآخرة، وتحاول الولوج منها إلى الطعن في النظام الإسلامي، والتخلف الذي تمثله النخب المتدينة في المجتمع، وفي ظني أن هؤلاء أحد اثنين:
أولهما جاهل بحقيقة الديمقراطية الغربية، إذ قد أعشته حرية الكلمة عن إدراك كنه هذا النظام العفن، لكنّ الإعجاب بما عليه القوم ولّد لدينه هذا الاعتقاد.
وثانيهما خبيث السريرة، ماكر العلانية، يدعو في الظاهر للرقي والتمدن، وينطوي باطنه عن رغبة جارفة للاستغراب والتفرنج.
ومهما يكن من أمر، فإني وإن قسوت في العبارات على كلا من الطرفي، إلا أني أحب أن أتبع ذلك بعبرات تلطف من وقع كلماتي، فأقول: نعم كلاهما مخدوع، ولكن نظمنا القمعية في العالم العربي والإسلامي هي التي دفعت البعض منّا لهذه النظرة القاصرة.
نعم، في نظمنا العربية، لا ديمقراطية عفنة، ولا حرية كلمة، ولا إسلام، وتنظر الشعوب حيرى إلى الغرب، حيث يعيش الفرد نائيًا عن بطش الدولة، يقرأ مع الصباح الباكر نقدًا لاذعًا للحكومة التي أخفقت في التعامل مع تدهور الخدمات الصحية، وانخفاض مستوى التحصيل العملي لدى الطلاب، ويتناول سماعة الهاتف ليشارك باسمه الحقيقي ناقدًا وبقوة رئيس الوزراء على قرار سياسي لم يراه صحيحًا، وإن كان هذا الفرد البريطاني ممن حظي بجواز السفر الأحمر الذي جعله "بني آدميّ" بعد أن كان معدوم الشخصية والكيان بجواز سفره القديم، أقول إن كان حاله كذلك، ازداد التماس العذر له في القناعة بالنظام الديمقراطي، لا سيما حينما تجول به الذاكرة ليتذكر ذلك اليوم الذي بحث فيه عن علاج مناسب لابنه المريض، فداخ سبع دوخات، وفشل في الحصول عليه حتى بعد المعاناة الطويلة، وفي خضم تلك المعاناة يقرأ في الجريدة اليومية عن تقدم الخدمات الصحية المتميزة في بلاده، وبذل الدولة والقائمين عليها للقطاع الصحي، ثم يفتح المذياع، ليستمع للاتصالات المتصلين التي لم تلك نفسها إلا أن ترسل باقات الشكر لقيادة الدولة، ووزارة الصحة لسهرهم على راحة المواطن !!.
أظن أن الدول الغربية أحرص من نظمنا القمعية على بقاء الأخيرة في السلطة، إذ بقاء تلك النظم، هو مسوغ الإعجاب بالغرب وبنظمه، وهو أس الهزيمة العقدية، والفكرية، والنفسية التي تعاني منها أمتنا، كما أنه كذلك سبب رئيسي في بعد المسلمين عن الإسلام.(/2)
تخيلوا يا سادة وجود دولة إسلامية، تحكم بالدستور الإسلامي، والحاكم، محاكم من قبل الشعب، كما كان المسلمون يحاكمون عمر بن الخطاب عن ثوب لبسه، أو على الأقل تخيلوا يوما يفيض المال فيه عن حاجات الشعب، فيدار بالزكاة فلا تجد لها مصرفا، كما حدث في عهد عمر بن عبد العزيز، بل تخيلوا ما هو أضعف من ذلك: حينما ينتصر الخليفة لفرد من الشعب مظلوم، ولو كان ذلك بتيسير جيش الدولة كله، كما حدث في قصة المعتصم، أو هارون الرشيد، وتخيروا يا كرام الأضعف من ذلك يوم أن كان المسلم مصنفا على أنه أحد رعايا الدولة العظمى كما هو الحال في عصور خلافة ودولة العثمانيين، تخيلوا ذلك كله أو بعضه، فهل ترون المسلم حينئذ يعجب بنظام ديمقراطي بالٍ.
حقًا إنه كُفرٌ أن يحكم الحاكم بغير ما أنزل الله (ومن لم يحكم بما أنزل الله فألئك هم الكافرون).
بقلم هيثم بن جواد الحداد
موقع الرؤية الإسلامية islamicvision.info
Haitham1234@hotmail.com(/3)
نتيجة الفكر في الجهر بالذكر
للإمام جلال الدين السيوطي
رحمه الله تعالى
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى
سألتَ - أكرمك الله - عمَّا اعتاده الصوفية من عَقْد حلق الذكر، والجهر به في المساجد، ورفع الصوت بالتهليل، وهل ذلك مكروه أم لا ؟
الجواب:
إنَّه لا كراهة في شيء من ذلك، وقد وردت أحاديث تقتضي استحباب الجهر بالذكر، وأحاديث تقتضي استحباب الإسرار به، والجمعُ بينهما أنَّ ذلك يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص، كما جَمَعَ النَّوويُّ بمثل ذلك بين الأحاديث الواردة باستحباب الجهر بقراءة القرآن والأحاديث الواردة باستحباب الإسرار بها، وهاأنا أبين ذلك فصلاً فصلاً .
( ذكر الأحاديث الدالة على استحباب الجهر بالذكر تصريحاً أو التزاماً )
الحديث الأول:
أخرج البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : "يقول الله : أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني ؛ فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه "، والذكر في الملأ لا يكون إلا عن جَهْر.
الحديث الثاني:
أخرج البزار، والحاكم في المستدرك وصححه، عن جابر رضي الله عنه قال : خرج علينا النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : " يا أيها النَّاس، إنَّ لله سرايا من الملائكة تحلّ وتقف على مجالس الذكر في الأرض، فارتعُوا في رياض الجنَّة، قالوا : وأين رياض الجنَّة ؟ قال : مجالس الذكر، فاغدوا ورُوحوا في ذكر " .
الحديث الثالث:
أخرج مسلم، والحاكم - واللفظ له - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال النبي عليه الصلاة والسلام : " إنَّ لله ملائكة سَيَّارة وفضلاء يلتمسون مجالس الذكر في الأرض، فإذا أتوا على مجلس ذكر حَفَّ بعضُهم بعضاً بأجنحتهم إلى السماء، فيقول الله : من أين جئتم ؟ فيقولون : جئنا من عند عبادك يسبحونك ويكبرونك ويحمدونك ويهللونك ويسألونك ويستجيرونك، فيقول : ما يسألون ؟ وهو أعلم، فيقولون : يسألونك الجنَّة، فيقول : وهل رأوها ؟ فيقولون : لا يا رب، فيقول : فكيف لو رأوها ؟!، ثم يقول : ومم يستجيروني ؟، وهو أعلم بهم، فيقولون : من النار، فيقول : وهل رأوها، فيقولون : لا، فيقول : فكيف لو رأوها ؟!، ثم يقول : اشْهَدُوا أنِّي قد غفرتُ لهم، وأعطيتهم ما سألوني، وأجَرْتهم مما استجاروني، فيقولون : ربنا إنَّ فيهم عبداً خطاء جلس إليهم وليس منهم، فيقول : وهو أيضاً، قد غفرت له، هم القوم لا يَشْقَى بهم جليسهم " .
الحديث الرابع:
أخرج مسلم، والترمذي، عن أبي هريرة ، وأبي سعيد الخدري - رضي الله تعالى عنهما- قالا : قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : " ما من قَوْم يذكرون الله إلا حفتهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة، ونزلت عليهم السكينة، وذكرهم الله فيمن عنده " .
الحديث الخامس:
أخرج مسلم والترمذي عن معاوية أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم خَرَجَ على حلقة من أصحابه فقال : " ما يجلسكم ؟ "، قالوا : جلسنا نذكر الله ونحمده، فقال : " إنه أتاني جبريل؛ فأخبرني أن الله يباهي بكم الملائكة "
الحديث السادس:
أخرج الحاكم وصححه، والبيهقي في شُعَب الإيمان، عن أبي سعيد الخُدْري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : " أكثروا ذكر الله حتَّى يقولوا مجنون " .
الحديث السابع:
أخرج البيهقي في شعب الإيمان، عن أبي الجوزاء رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : " أكثروا ذكر الله حتى يقول المنافقون إنكم مُرَاءُون " مُرْسَل .
ووجه الدلالة من هذا والذي قبله أنَّ هذا إنما يقال عند الجهر دون الإسرار .
الحديث الثامن:
أخرج البيهقي عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : " إذا مررتم برياض الجنة فارتَعُوا "، قالوا : يا رسول الله، وما رياض الجنة ؟، قال : " حِلَقُ الذكر " .
الحديث التاسع:
أخرج بقيُّ بن مَخْلد، عن عبد الله بن عمرو، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم مرَّ بمجلسين، أحد المجلسيْن يَدْعُون الله ويرغبون إليه، والآخرُ يعلمون العلم، فقال : " كلا المجلسَيْن خير، وأحدهما أفضل من الآخر " .
الحديث العاشر:
أخرج البيهقيُّ، عن عبد الله بن مُغَفَّل رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " ما من قوم اجْتَمَعُوا يذكُرُونَ الله إلا ناداهُمْ مُنَادٍ من السماء : قُومُوا مغفورًا لكم، قد بدلت سيئاتكم حَسَنات " .
الحديث الحادي عشر:
أخرج البيهقي، عن أبي سعيد الخُدْري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "يقول الربُّ تعالى يوم القيامة : سَيَعْلمُ أهْلُ الجمع اليوم مَنْ أهل الكرم "، فقيل : ومَنْ أهل الكرم يا رسول الله ؟ قال : " مجالس الذكر في المساجد " .
الحديث الثاني عشر :(/1)
أخرج البيهقي، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : إنَّ الجبل لَيُنَادي الجبل باسمه : يا فلان، هل مرَّ بك اليوم لله ذاكر ؟ فإن قال نعم استبشر، ثم قرأ عبد الله: {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ } ... الآية [مريم : 89، 90]، وقال : أيسمعون الزور ولا يسمعون الخير .
الحديث الثالث عشر:
أخرج ابن جرير في تفسيره، عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما في قوله : { فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالْأَرْضُ } [الدخان : 29] قال : إنَّ المؤمن إذا مات بكى عليه من الأرض الموضع الذي كان يصلي فيه ويذكر الله فيه .
وأخرج ابن أبي الدنيا عن أبي عبيد قال : إنَّ المؤمن إذا مات نَادَتْ بِقَاعُ الأرض : عبدُ الله المؤمن مات، فتبكي الأرض والسماء، فيقول الرحمن : ما يبكيكما على عبدي ؟ فيقولون : ربَّنَا لم يمش في ناحية منَّا قط إلا وهو يذكرك .
وجه الدلالة من ذلك أنَّ سماع الجبال والأرض للذكر لا يكون إلا عن الجهر به .
الحديث الرابع عشر:
أخرج البزار، والبيهقي، بسند صحيح، عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : " قال الله تعالى : عبدي إذا ذَكَرْتَنِي خالياً ذَكَرْتُكَ خالياً، وإنْ ذَكَرْتَنِي في مَلأ ذَكَرْتُكَ في مَلأ خير منهم وأكثر " .
الحديث الخامس عشر:
أخرج البيهقيُّ، عن زيد بن أسلم قال: قال ابنُ الأدرع : " انطَلَقْتُ مع النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم ليلةً، فمرَّ برجُل في المسجد يرفع صوته، قلت : يا رسول الله، عسى أن يكون هذا مرائيا، قال : "لا، ولكنَّه أواه " .
وأخرج البيهقيُّ، عن عقبة بن عامر رضي الله عنه : " أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لرجُل يقال له ذو البجادين : "إنَّه أوَّاه، وذلك أنَّه كان يذكر الله " .
وأخرج البيهقيُّ، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه : " أنَّ رجلاً كان يرفع صوته بالذكر، فقال رجلٌ : لو أنَّ هذا خَفَضَ من صوته، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم : " دَعْهُ فإنَّه أوَّاه " .
الحديث السادس عشر:
أخرج الحاكم، عن شدَّاد بن أوس قال : " إنَّا لعند النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذ قال : ارفعوا أيديكم فقولوا : لا إله إلا الله، ففعلنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : اللهم إنَّك بعثتني بهذه الكلمة، وأمرتني بها، ووعدتني عليها الجنّة، إنك لا تخلف الميعاد، ثم قال : أبشروا، فإنَّ الله قد غفر لكم" .
الحديث السابع عشر:
أخرج البزار، عن أنس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : " إنَّ لله سَيَّارة من الملائكة يطلبون حِلَقَ الذِّكْر، فإذا أتَوا عليهم حَفُّوا بهم، فيقول الله تعالى : غَشُّوهُمْ برحمتي، فهم الجلساء لا يشقَى بهم جليسهم " .
الحديث الثامن عشر:
أخرج الطبراني، وابن جرير، عن عبد الرحمن بن سهل بن حنيف قال : نزَلَتْ على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو في بعض أبياته: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ } [الكهف : 28]، فخرج يلتمسهم، فوجد قوماً يذكرون الله تعالى، منهم ثائر الرأس، وجاف الجلد، وذو الثوب الواحد، فلمَّا رآهم جلس معهم، وقال : " الحمدُ لله الذي جعل في أمتي مَنْ أمرني أن أصبر نفسي معهم " .
الحديث التاسع عشر:
أخرج الإمام أحمد في الزهد، عن ثابت قال : كان سلمان في عصابة يذكرون الله، فمرَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم فكفوا، فقال : " ما كنتم تقولون؟ " قلنا: نذكر الله. قال : " إني رأيت الرحمة تنزل عليكم ؛ فأحببت أن أشارككم فيها "، ثم قال : " الحمد لله الذي جعل في أمتي من أُمرت أن أصبر نفسي معهم " .
الحديث العشرون:
أخرج الأصبهاني في الترغيب، عن أبي رزين العقيلي : أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال له : " ألا أدلك على ملاك الأمر الذي تصيب به خيري الدنيا والآخرة؟ " قال : بلى، قال : " عليك بمجالس الذكر، وإذا خلوت فحرك لسانك بذكر الله " .
الحديث الحادي والعشرون:
أخرج ابن أبي الدنيا والبيهقي والأصبهاني، عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : " لأن أجلس مع قوم يذكرون الله بعد صلاة الصبح إلى أن تطلع الشمس أحب إلي مما طلعت عليه الشمس، ولأن أجلس مع قوم يذكرون الله بعد العصر إلى أن تغيب الشمس أحب إلي من الدنيا وما فيها".
الحديث الثاني والعشرون:
أخرج الشيخان عن ابن عباس قال : إن رفع الصوت بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة كان على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال ابن عباس : كنت أعلم إذا انصرفوا بذلك إذا سمعته .
الحديث الثالث والعشرون:(/2)
أخرج الحاكم، عن عمر بن الخطاب، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : " من دخل السوق فقال : لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير، كتب الله له ألف ألف حسنة، ومحا عنه ألف ألف سيئة، ورفع له ألف ألف درجة، وبنى له بيتاً في الجنة " .
وفي بعض طرقه : " فنادى " .
الحديث الرابع والعشرون :
أخرج أحمد، وأبو داود، والترمذي وصححه، والنسائي، وابن ماجه، عن السائب أن رسول الله صلى الله عليه ةآله وسلم قال : " جاءني جبريل فقال : مُرْ أصحابك يرفعوا أصواتهم بالتكبير " .
الحديث الخامس والعشرون:
أخرج المروزي في كتاب العيدين عن مجاهد : أن عبد الله بن عمر وأبا هريرة كانا يأتيان السوق أيام العشر فيكبران، لا يأتيان السوق إلا لذلك .
وأخرج أيضاً عن عبيد بن عمير قال : كان عمر يكبر في قبته، فيكبر أهل المسجد، فيكبر أهل السوق، حتى ترتج مني تكبيرا .
وأخرج أيضاً عن ميمون بن مهران قال : أدركت الناس وإنهم ليكبرون في العشر حتى كنت أشبهها بالأمواج من كثرتها .
(فصل)
إذا تأملت ما أوردنا من الأحاديث عرفت من مجموعها أنه لا كراهة البتة في الجهر بالذكر، بل فيها ما يدل على استحبابه، إما صريحاً أو التزاماً كما أشرنا إليه .
وأما معارضته بحديث " خير الذكر الخفي " فهو نظير معارضة أحاديث الجهر بالقرآن بحديث: "المسر بالقرآن كالمسر بالصدقة "، وقد جمع النووي بينهما بأن الإخفاء أفضل حيث خاف الرياء أو تأذى به مصلون أو نيام، والجهر أفضل في غير ذلك، لأن العمل فيه أكثر، ولأن فائدته تتعدى إلى السامعين، ولأنه يوقظ قلب القارئ، ويجمع همه إلى الفكر، ويصرف سمعه إليه، ويطرد النوم، ويزيد في النشاط .
وقال بعضهم : يستحب الجهر ببعض القراءة والإسرار ببعضها، لأن المسر قد يمل فيأنس بالجهر، والجاهر قد يكل فيستريح بالإسرار . انتهى
وكذلك قول في الذكر على هذا التفصيل، وبه يحصل الجمع بين الأحاديث .
فإن قلت : قال الله تعالى : { وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ } [الأعراف: 25] .
قلت : الجواب عن هذه الآية من ثلاثة أوجه :
الأول : أنها مكية، كآية الإسراء {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا } [الإسراء : 110]، وقد نزلت حين كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يجهر بالقرآن فيسمعه المشركون فيسبون القرآن ومن أنزله، فأمر بترك الجهر سداً للذريعة، كما نهى عن سب الأصنام لذلك في قوله تعالى : {وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108]، وقد زال هذا المعنى، وأشار إلى ذلك ابن كثير في تفسيره .
الثاني : أن جماعة من المفسرين، منهم عبد الرحمن بن زيد بن أسلم شيخ مالك وابن جرير، حملوا الآية على الذاكر حال قراءة القرآن، وإنه أمر له بالذكر على هذه الصفة تعظيماً للقرآن أن ترفع عنده أصوات، ويقويه اتصالها بقوله : {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ} [الأعراف: 204] .
قلت : وكأنه لما أمر بالإنصات خشي من ذلك الإخلاد إلى البطالة، فنبه على أنه وإن كان مأموراً بالسكوت باللسان إلا أن تكليف الذكر بالقلب باق حتى لا يغفل عن ذكر الله، ولذا ختم الآية بقوله : {ِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ} [الأعراف: 205].
الثالث: ما ذكره الصوفية، أن الأمر خاص بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم الكامل المكمل، وأما غيره ممن هو محل الوساوس والخواطر الرديئة فمأمور بالجهر، لأنه أشد تأثيراً في دفعها .
قلت : ويؤيده من الحديث ما أخرجه البزار، عن معاذ بن جبل قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : " من صلى منكم بالليل فليجهر بقراءته، فإن الملائكة تصلي بصلاته وتسمع لقراءته، وإن مؤمني الجن الذين يكونون في الهواء وجيرانه معه في مسكنه يصلون بصلاته ويستمعون قراءته، وإنه ينطرد بجهره بقراءته عن داره وعن الدور التي حوله فساق الجن ومردة الشياطين " .
فإن قلت : فقد قال تعالى : {ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف: 55]، وقد فسر الاعتداء بالجهر في الدعاء .
قلت : الجواب من وجهين :
أحدهما: أن الراجح في تفسيره أنه تجاوز المأمور به أو اختراع دعوة لا أصل لها في الشرع، ويؤيده ما أخرجه ابن ماجه، والحاكم في مستدركه وصححه، عن أبي نعامة رضي الله عنه، أن عبد الله بن مغفل سمع ابنه يقول : اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة، فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: " سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الدعاء ".(/3)
الثاني: على تقدير التسليم فالآية في الدعاء لا في الذكر، والدعاء بخصوصه الأفضل فيه الإسرار، لأنه أقرب إلى الإجابة، ولذا قال تعالى : {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيًّا} [مريم : 3]، ومن ثم استحب الإسرار بالاستعاذة في الصلاة اتفاقاً، لأنها دعاء .
فإن قلت : فقد نقل عن ابن مسعود أنه رأى قوماً يهللون برفع الصوت في المسجد، فقال : ما أراكم إلا مبتدعين، حتى أخرجهم من المسجد .
قلت: هذا الأثر عن ابن مسعود يحتاج إلى بيان سنده، ومن أخرجه من الأئمة الحفاظ في كتبهم، وعلى تقدير ثبوته فهو معارض بالأحاديث الكثيرة الثابتة المتقدمة، وهي مقدمة عليه عند التعارض، ثم رأيت ما يقتضي إنكار ذلك عن ابن مسعود، قال الإمام أحمد بن حنبل في كتاب الزهد : ثنا حسين بن محمد، ثنا المسعودي، عن عامر بن شقيق، عن أبي وائل قال : هؤلاء الذين يزعمون أن عبد الله كان ينهى عن الذكر، ما جالست عبد الله مجلسًا قط إلا ذكر الله فيه .
وأخرج أحمد في الزهد، عن ثابت البناني قال : " إن أهل ذكر الله ليجلسون إلى ذكر الله وإن عليهم من الآثام أمثال الجبال، وإنهم ليقومون من ذكر الله تعالى ما عليهم منها شيء ".
- سبحانه وتعالى -- سبحانه وتعالى -- سبحانه وتعالى -
تم التصحيح والتدقيق والنشر بمعرفة
المسلم موسوعة إسلامية صوفية سلفية شرعية(/4)
نجاة الخلف في اعتقاد السلف
الحمد لله العلي العظيم، واجب الوجود، الحي القيوم، الدائم الباقي، الملك المعبود، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد الرسول المطاع الأمين المبلغ عن الله دينه القويم بقواطع الآيات والبراهين، فلم يترك باباً من أبواب الخير إلا أمر به ودل عليه، ولا باباُ من أبواب الشر إلا نهى عنه ، وحذر أن ينتمى إليه، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه الكرام الذين لم يزالوا على المحجة البيضاء، فالسعيد من تبعهم من الأنام .
وبعد ، فهذه تعليقة لطيفة تشتمل على مسائل من أصول الدين ينتفع بها إن شاء الله كثير من المبتدئين والمتوسطين ، وهي على مذهب الإمام المبجل، والحبر المفضل، الإمام الرباني والصديق الثاني أبي عبد الله أحمد بن محمد ابن حنبل الشيباني، رضي الله عنه وأرضاه، وجعل الجنة منقلبه ومثواه .
ورتبتها على مقدمة، وثلاثة فصول، وخاتمة، أسأل الله حسنها وقبولها، وبالله أستعين.
المقدمة في معرفة الله تعالى
فنقول وبالله التوفيق : تجب معرفة الله تعالى شرعا بالنظر في الوجود والموجود، على كل مكلف قادر، وهو أول واجب له تعالى، وأول نعم الله الدينية، وأعظمها أن أقدره على معرفته، وأول نعم الله الدنيوية الحياة العرية عن ضرر.
وشكر المنعم واجب شرعا، وهو اعترافه بنعمته على جهة الخضوع والإذعان، وصرف كل نعمة في طاعته.
ويجب الجزم بأنه تعالى واحد أحد، فرد صمد، عالم بعلم، قادر بقدرة، مريد بإرادة، حي بحياة، سميع بسمع، بصير ببصر، متكلم بكلام، وبأنه سبحانه ليس بجوهر ولا جسم ولا عرض، ولا تحكمه الحوادث، ولا يحل في حادث ولا ينحصر فيه، فمن اعتقد أو قال بأن الله تعالى في كل مكان أو في مكان فكافر ، بل يجب الجزم بأنه سبحانه بائن من خلقه ، فالله تعالى كان ولا مكان، ثم خلق المكان ، وهو على ما عليه قبل خلق المكان .
وكل شيء سوى الله تعالى وصفاته حادث، والله سبحانه وتعالى خلقه وأوجده، وابتدأه من العدم وجميع أعمال العباد كسب لهم، وهي مخلوقة لله تعالى، خيرها وشرها، والعبد مختار ميسر في كسب الطاعة واكتساب المعصية ، ومشيئته وإرادته تعالى ليستا بمعنى محبته ورضاه وسخطه وبغضه فيحب ويرضى ما أمر به فقط وخلق كل شئ بمشيئته.
تتمة في حدي الإسلام والكفر :
الإسلام: الإتيان بالشهادتين مع اعتقادهما، والتزام بقية الأركان الخمسة إذا تعينت، وتصديق الرسول فيما جاء به.
والكفر: جحد ما لا يتم الإسلام بدونه ومن جحد ما لا يتم الإسلام بدونه أو جحد حكما ظاهرا أجمع على تحريمه أو حله إجماعا قطعيا، أو ثبت جزما كتحريم لحم الخنزير أو حل خبز ونحوها كفر. أو فعل كبيرة ، وهي مافيه حد في الدنيا أو وعيد في الآخرة، أو داوم على صغيرة ، وهي ماعدا ذلك فسق.
والإيمان : عقد بالجنان، وقول باللسان، وعمل بالأركان يزيد بالطاعة وينقص هو وثوابه بالعصيان، ويقوى بالعلم، ويضعف بالجهل والغفلة والنسيان.
ويجوز الاستثناء فيه وقال ابن عقيل : ( يسن ) ، والمراد لا على الشك في الحال، بل في المآل أو في قبول بعض الأعمال ونحو ذلك.
الفصل الأول
مسألة العلو
فنقول وبالله التوفيق : مذهب سلف الأمة وأئمتها أنهم يصفون الله تعالى بما وصف به نفسه ، وبما وصفه به رسوله من غير تحريف ولا تعطيل ، ومن غير تكييف ولا تمثيل ، فيثبتون له ما أثبته لنفسه من الأسماء والصفات ، وينزهونه عما نزه عنه نفسه من مماثلة المخلوقات إثباتا بلا تمثيل ، وتنزيها بلا تعطيل ، قال تعالى : { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } . وقوله : { ليس كمثله شيء } رد على الممثلة ، وقوله : { وهو السميع البصير } رد على المعطلة ، قال بعض العلماء : ( المعطل يعبد عدما والممثل يعبد صنما ، والموحد يعبد إلها واحدا صمدا ).
وهو سبحانه قد قال في كتابه : { أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا فستعلمون كيف نذير } .
وثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن قال للجارية : ( أين الله ) ؟ قالت : في السماء . قال : ( من أنا ) ؟ قالت أنت رسول الله . قال : ( أعتقها فإنها مؤمنة ). وهذا الحديث رواه مالك والشافعي وأحمد بن حنبل ومسلم في صحيحه وغيرهم .
لكن ليس معنى ذلك أن الله في جوف السماء ، وأن السموات تحصره وتحويه ، فإن هذا لم يقله أحد من سلف الأمة وأئمتها ، بل هم متفقون على أن الله فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه ، ليس في مخلوقاته شيء من ذاته ولا في ذاته شيء من مخلوقاته .
وقد قال مالك بن أنس : ( إن الله في السماء وعلمه في كل مكان ) .
وقالوا لعبد الله بن المبارك : بماذا نعرف ربنا ؟ قال : ( بأنه فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه ) .
وقال أحمد بن حنبل كما قال هذا وهذا ، وقال الأوزاعي : ( كنا والتابعون متوافرين نقر بإن الله فوق عرشه ، بما وردت به السنة من صفاته ) .(/1)
فمن اعتقد أن الله في جوف السماء أو محصور محاط به ، أو إنه مفتقر إلى العرش أو غير العرش من المخلوقات ، أو أن استواءه على عرشه كاستواء المخلوق على كرسيه فهو ضال مبتدع جاهل .
ومن اعتقد أنه ليس فوق السموات إله يعبد ، ولا على العرش رب يصلى له ويسجد ، وأن محمدا لم يعرج به إلى ربه ، ولا نزل القرآن من عنده فهو معطل فرعوني ضال مبتدع ، فإن فرعون كذب موسى في أن ربه فوق السموات ، وقال : { يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب أسباب السموات فأطلع إلى إله موسى وإني لاظنه كاذبا } .
ومحمد صلى الله عليه وسلم صدق موسى في أن ربه فوق السموات ، فلما كان ليلة المعراج ، وعرج به إلى الله تعالى ، وفرض ربه خمسين صلاة ، ذكر أنه رجع إلى موسى ، وأن موسى قال له أرجع إلى ربك فسله التخفيف لأمتك فإن أمتك لا تطيق ( الحديث ) فرجع إلى ربه فخفف عنه عشرا ، ثم رجع إلى موسى فأخبره بذلك ، فقال أرجع إلى ربك فسله التخفيف لأمتك ، وهذا الحديث في الصحاح ، فمن وافق فرعون وخالف موسى ومحمدا فهو ضال ، ومن مثل الله بخلقه فهو ضال .
قال نعيم بن حماد : ( من شبه الله بخلقه فقد كفر ، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر ، وليس ما وصف الله به نفسه أو رسوله تشبيها ) والله قد فطر العباد عربهم وعجمهم على أنهم إذا دعوا الله توجهت قلوبهم إلى العلو لا يقصدونه تحت أرجلهم ، ولهذا قال بعض العارفين : ( ما قال عارف قط يا الله إلا وجد في قلبه قبل أن يتحرك لسانه معنى يطلب العلو ولا يلتفت يمنة ولا يسرة ) .
الذات والصفات :
والكلام في هذا المقام وشبهه يتبن بذكر أصل أصيل ، وهو أن الكلام في الصفات فرع الكلام في الذات ، فكما أنا نثبت له تعالى ذاتا لا تشبه الذوات ، فكذا نقول في صفاته إنها لا تشبه الصفات ، فليس كعلمه علم أحد ، ولا كقدرته قدرة أحد ، ولا كرحمته رحمة أحد ، ولا كاستوائه استواء أحد ، ولا كسمعه وبصره سمع ولا بصر ، ولا كتكليمه تكليم أحد ، ولا كتجليه تجلي أحد .
والله سبحانه قد أخبرنا أن في الجنة لحما ولبنا وعسلا وماء وسندسا وحريرا وذهبا ، وقد قال ابن عباس : ( ليس في الدنيا مما في الآخرة إلا الأسماء ) فإذا كانت المخلوقات الغائبة ليست مثل هذه المخلوقات المشاهدة مع اتفاقها في الأسماء ، فالخالق أعظم علوا ومباينة لخلقه عن مباينة المخلوق للمخلوق وإن اتفقت الأسماء .
والأصل في هذا الباب أن كلما ثبت في كتاب الله أو سنة رسوله ، وجب التصديق به ، مثل علو الرب ، واستوائه على عرشه ونحو ذلك ، فما جاء في الكتاب والسنة وجب على كل مؤمن الإيمان به ، وإن لم يفهم معناه ، وكذلك ما ثبت باتفاق سلف الأمة وأئمتها .
وأما ما تنازع فيه المتأخرون من الألفاظ المبتدعة في النفي والإثبات ، مثل قول القائل هو في جهة أو ليس في جهة ، وهو متحيز أو ليس متحيز ، ونحو ذلك من الألفاظ التي تنازع فيها الناس ، وليس فيها نص لا عن الرسول صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان ولا أئمة المسلمين ، فإن هؤلاء لم يقل أحد منهم أن الله في جهة ، ولا قال ليس هو في جهة ، ولا قال هو متحيز ولا ليس بمتحيز ، بل ولا قال هو جسم أو جوهر ، ولا قال ليس بجسم ولا بجوهر ، فليس على أحد ، بل ولا له أن يوافق أحدا في إثبات لفظ من هذه الألفاظ أو نفيه حتى يعرف مراده ، فإن أراد حقا قبل ، وإن أراد باطلا رد ، وإن اشتمل كلامه على حق وباطل لم يقبل مطلقا ولم يرد جميع معناه ، بل يوقف اللفظ ويفسر المعنى ، كما تنازع الناس في الجهة والتحيز وغيرهما ، فلفظ الجهة قد يراد به شيء موجود غير الله فيكون مخلوقا ، كما إذا أريد بالجهة نفس العرش ، أو نفس السموات ، وقد يراد بها ما ليس بموجود غير الله تعالى ، كما إذا أريد الجهة ما فوق العالم ، فمن أردا إثبات الجهة الوجودية وجعل الله منحصرا في المخلوقات فهذا باطل ، ومن أراد إثبات الجهة العدمية وأراد أن الله وحده فوق المخلوقات بائن عنها فهذا حق ، وليس في ذلك أن شيئا من المخلوقات حصره ، ولا أحاط به ، ولا علا عليه ، بل هو العالي عليها المحيط بها .
وكذلك لفظ التحيز إن أراد أن الله تحوزه المخلوقات ، فالله أعظم وأكبر ، بل قد وسع كرسيه السموات والأرض ، وإن أراد به أنه منحاز عن المخلوقات أي مباين لها منفصلا عنها ليس حالا فيها ، فهو سبحانه - كما قال أئمة أهل السنة - فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه .
الفصل الثاني
في مسألة الكلام
فنقول : القرآن كلام الله أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم معجز بنفسه ، متعبد بتلاوته .
والكلام حقيقة الأصوات والحروف ، وإن سمى به " المعنى النفسي " وهو نسبة بين مفردين قائمة بالمتكلم فمجاز .(/2)
والكتابة كلام حقيقة ، فلم يزل الله تعالى متكلما كيف شاء وإذا شاء بلا كيف ، يأمر بما شاء ويحكم ، هذا مذهب الإمام أحمد وأصحابه وهو إمام السنة بلا منازع ، ومذهب الإمام محمد بن اسماعيل البخاري إمام الحديث بلا دفاع ، وجمهور العلماء ، قاله ابن مفلح في أصوله وابن قاضي الجبل .
فقولنا معجز بنفسه ، اي مراد به الإعجاز ، كما أنه مقصود به بيان الأحكام والمواعظ ، وقص أخبار من قص في القرآن من الأمم . دليل التحدي قوله تعالى : { قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا } أي فاتوا بمثله إن ادعيتم القدرة ، فلما عجزوا تحداهم بعشر سور ، ثم بسورة ، ثم بحديث مثله .
وقولنا متعبد بتلاوته لنخرج الآيات المنسوخة اللفظ سواء بقي حكمها أم لا ، لأنها صارت بعد النسخ غير قرآن لسقوط التعبد بتلاوتها .
وقولنا والكتابة كلام حقيقة لقول عائشة : ( ما بين دفتي المصحف كلام الله ) ولأن من كتب صريح الطلاق وقع عليه الطلاق بذلك ولو لم ينوه على الصحيح .
وقولنا لم يزل الله تعالى متكلما كيف شاء إذا شاء بلا كيف يأمر بما شاء ويحكم ، لأن الله سبحانه وتعالى يتكلم بمشيئته وقدرته ، بمعنى أنه لم يزل متكلما إذا شاء ، فإن الكلام صفة كمال ، ومن يتكلم أكمل ممن لم يتكلم ، ومن يتكلم بمشيئته وقدرته أكمل ممن لا يكون كذلك .
وقولنا والكلام حقيقة الأصوات والحروف إلخ ، قال الإمام الطوفي من الحنابلة : ( إنما كان حقيقة في العبادة مجازا في مدلولها لوجهين :
أحدهما : أن المتبادر إلى فهم أهل اللغة من إطلاقه الكلام إنما هو العبادة ، والمبادرة دليل الحقيقة .
الثاني : أن الكلام مشتق من الكلم لتأثيره في نفس السامع ، والمؤثر في نفس السامع إنما هو العبارات لا المعاني النفسية ، نعم هي مؤثرة للفائدة بالقوة ، والعبارة مؤثرة بالفعل ، فكان ما هو مؤثر بالفعل أولى بأن يكون حقيقة ، وما هو مؤثر بالقوة مجازا ) .
ومما يبطل القول بأن القرآن هو المعنى النفسي وجوه كثيرة :
أحدهما : أن الله سبحانه تحدى الخلق بالإتيان بمثله ، والتحدي إنما وقع بالإتيان بمثل هذا الكتاب بغير إشكال ، لأن ما في النفس لا يدرى ماهو ، ولا يسمى سورا ولا تحديثا ، فلا يجوز أن يقال فأتوا بحديث مثل ما في نفس الباري ، ولأن المشركين إنما زعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم افترى هذا القرآن وتقوله ، فرد عليهم دعواهم بتحديهم بمثل ما زعموا أنه مفترى ومتقول دون غيره ، وهذا واضح لا شك فيه .
الثاني : أنهم سموه شعرا ، فقال الله تعالى : { وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين } ومن المعلوم أنهم عنوا هذا النظم ، لأن الشعر كلام موزون فلا يسمى به معنى ولا ما ليس بكلام ، فسماه الله تبارك وتعالى ذكرا وقرآنا مبينا ، فلم تبق شبهة لذي لب في أن القرآن هو هذا النظم دون غيره .
الثالث : أن بعض الكفار زعم أنه يقول مثله ومنهم من طلب تبديله ونهى بعضهم بعضا عن سماعه وأمروا باللغو فيه ، ومن المعلوم اليقيني أن هذا كله لا يتعلق إلا بهذا الكتاب دون ما في النفس ، فإن الكفار ما اعتقدوا في نفس الباري شيئا يريدون تبديله أو يزعمون أنهم يقولون مثله ، ولا ينهون عن سماعه ، مع إشارتهم إلى حاضر .
الرابع : إن الله سمى القرآن عربيا ، فقال : { قرآنا عربيا غير ذي عوج } أي غير مخلوق ، وحديثا بقوله : { فذرني ومن يكذب بهذا الحديث } وإنما يتعلق هذا الوصف باللفظ دون المعنى .
اشار إلى هذه الوجوه شيخ الإسلام الموفق صاحب المغنى في كتابه البرهان وأطال .
قال الطوفي رحمه الله تعالى : ( وأما قوله تعالى : { ويقولون في أنفسهم } فمجاز لأنه إنما دل على المعنى النفسي ، ولو أطلق لما فهم إلا العبارة ) وكذلك كل ما جاء من هذا الباب إنما يفيد القرينة ، ومنه قول عمر : ( زورت في نفسي كلاما ) وأما قوله تعالى : { وأسروا قولكم أو اجهروا به } فلا حجة فيه ، لأن الإسرار خلاف الجهر ، وكلاهما عبارة عن أن يكون أحدهما أرفع صوتا من الآخر ، وأما بيت الأخطل فيقال إن المشهور فيه : ( إن البيان لفي الفؤاد ) وتقديرا أن يكون كما ذكروا فهو مجاز عن مادة الكلام ، وهو التصورات المصححة له ، إذ من يتصور ما يقول لا يوجد كلاما ! ثم هو مبالغة من هذا الشاعر في ترجيح الفؤاد على اللسان .
وأدلة السلف على كون الكلام حقيقة هو الأصوات والحروف : الكتاب والسنة والإجماع :
أما الكتاب : فقول الله تعالى : { وكلم موسى تكليما } وقال : { وكلمه ربه } وقال : { منهم من كلم الله } والتكليم هو ما يسمعه المتكلم ويصل إلى سمعه ، والمسموع إنما هو الحروف والأصوات لا المعاني ، وكذلك قوله : { وإذ نادى ربك موسى } والنداء لا يكون إلا صوتا ، وفي القرآن من هذا الكثير .(/3)
وأما السنة : فقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( إذا تكلم الله بالوحي سمع صوته أهل السماء ) وروى هذا الحديث موقوفا على عبد الله أبن مسعود ، فروى عبد الله بن أحمد في كتاب الرد على الجهمية أنه قال : ( يزعمون أن الله لا يتكلم بصوت ، فقال كذبوا إنما يدورون على التعطيل ) ثم قال : ( حدثني عبد الرحمن بن محمد المحاربي عن الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق عن عبد الله بن مسعود ، قال : إذا تكلم الله بالوحي سمع صوته أهل السماء ) قال أبو النصر السجزي : ( وما في رواته الإمام مقبول ) ، وفي الحديث أن النبي قال : ( يحشر الله الخلائق يوم القيامة في صعيد واحد ، فيناديهم بصوت رفيع غير فظيع ) ذكره أبو حنيفة إسحاق بن بشر في كتابه ، وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أهل الجنة إذا رأوا ربهم تبارك وتعالى فيناديهم بلذاذة صوته وقال صلى الله عليه وسلم : ( من قرأ القرآن فأعربه فله بكل حرف عشر حسنات ، ومن قرأه فلحن فيه فله بكل حرف حسنة ) قال الموفق في الدهان حديث صحيح .
وأما الإجماع : فإنهم مجمعون على أن موسى سمع كلام الله تعالى منه بغير واسطة ، والصوت هو مايسمع ، وروي عن الصحابة رضي الله عنهم أجمعين إضافة الصوت إلى الله تعالى من غير نكير من أحد منهم كما تقدم عن ابن مسعود وغيره ، وجاء في الخبر أن بني إسرائيل قالوا يا موسى : ( بم شبهت صوت ربك ) ؟ قال : ( إنه لا شبيه له ) وقال أبو بكر وعمر رضي الله عنهما : ( إعراب القرآن أحب إلينا من حفظ حروفه ) وسئل علي رضي الله عنه عن الجنب هل يقرا القرآن ؟ قال : ( لا ، ولا حرفا ) وعنه أنه قال : ( من كفر بحرف من القرآن فقد كفر به كله ) وقال ابن مسعود : ( ما من مؤمن يقرأ حرفا من القرآن ولو شئت لقلت اسما تاما ، ولكن حرف إلا وكتب الله تعالى له عشر حسنات ) وأجمعوا على أنه من جحد سورة من القرآن أو آية أو كلمة أو حرفا متفقا عليه أنه كافر ، قال أبو النصر السجزي : ( هذه حجة قاطعة أنه حروف ) قال في البرهان .
فإن قيل : فالصوت لا يكون إلا من جرمين والحروف إنما تكون من مخارج ولا يوصف الله تعالى بذلك ، فالجواب من وجوه :
أحدهما : أن يقال : من أين علمتم هذا ؟ فإن قالوا : لأنها في حقنا كذلك ، فكذلك في حق الله تعالى قياسا له علينا ، قلنا : هذا خطأ واضح فإن الله تعالى لا يقاس على خلقه ولا يشبه بهم ولا تشبه صفاته صفاتهم ، ومن فعل ذلك كان مشبها ضالا .
الثاني : أن هذا باطل ، فإن الله تعالى قال : { وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم } { وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء } وأخبر أن السموات والأرض قالتا : { أتينا طائعين } ، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن حجرا كان يسلم عليه ، وأن الذراع المسمومة كلمته ، وقال ابن مسعود : ( كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل } ولا خلاف في أن الله تعالى قادر على إنطاق الحجر الأصم بغير مخارج ولا أدوات .
الثالث : أنه يلزمهم أن يقولوا في سائر صفات الله تعالى كذلك ، فيقولون أن العلم لا يكون إلا بقلب ، والبصر لا يكون إلا من حدقة ، والسمع لا يكون إلا من إنحراف ، فإن طردوا ذلك في الصفات كلها صاروا مجسمين كافرين ، وإن نفوا هذه الصفات صاروا معطلين ، وإن أثبتوها من غير أدوات لزمهم إثبات هذه الصفة أيضا وإلا فما الفرق .
وقال الغزالي : ( من أحال سماع موسى كلاما ليس بحرف ولا صوت ، فليحل يوم القيامة رؤية ذات ليس بجسم ولا عرض ) .
وقال الطوفي : ( كل هذا تكلف وخروج عن الظاهر ، بل عن القاطع من غير ضرورة إلا خيالات لاهية وأوهام متلاشية ، وما ذكروه معارض بأن المعاني لا تقوم شاهدا إلا بالأجسام ، فإن أجازوا معنى قام بالذات القديمة وليست جسما ، إذ كلا الأمرين خلاف الشاهد ، ومن أحال كلاما لفظيا من غير جسم فليحل مرئية من غير جسم ، ولا فرق ) انتهى .
قال الحافظ أبو نصر السجستاني : ( لو كان الكلام غير حروف ، وكانت الحروف عبارة عنه ، لم يكن بد من أن يحكم لتلك العبارة بحكم إما أن يكون احدثها في صدر أو لوح أو نطق بها بعض عبيده فتكون منسوبة إليه ، فيلزم من يقول ذلك أن يفصح بما عنده في السور والآي والحروف ، أهي عبارة جبريل أو محمد عليه الصلاة والسلام ) انتهى .
تتمة :
قال الحافظ بن حجر العسقلاني : ( والذي استقر عليه قول الأشعرية أن القرآن كلام الله غير مخلوق ، مكتوب عليكم في المصاحف ، محفوط في الصدور ، مقروء بالألسنة ) .
قال تعالى : { فأجره حتى يسمع كلام الله } وفي الحديث الصحيح : ( لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو ، كراهة أن يناله العدو ) وليس المراد ما في الصدور بل ما في المصحف .(/4)
وأجمع السلف على أن الذي بين الدفتين كلام الله ، ولصاحب المواقف عضد الدين رحمه الله تعالى مقالة مفردة في تحقيق كلام الله تعالى تطابق ما تقدم وذكرها السيد الشريف في شرحه للمواقف ، وقد ظهر مما ذكره الحافظ بن حجر وصاحب المواقف موافقة الأشعري للإمام أحمد في مسألة الكلام وأن ما روي عنه مخالفا لذلك فهو غلط من الناقل أو جهل بما استقر عليه قول الاشعري ، وقد أتى تاج السبكي في الطبقات في ترجمة الأشعري باصرح من ذلك فراجعه إن شئت والله أعلم .
الفصل الثالث
في قواعد نافعة
القاعدة الأولى :
أن يقال القول في بعض الصفات كالقول في بعض ، فإن كان المخاطب ممن يقر بأن الله تعالى حي بحياة ، عليم بعلم ، قدير بقدرة ، سميع بسمع ، بصير ببصر ، متكلم بكلام ، مريد بإرادة ، ويجعل ذلك كله حقيقة ، وينازع في محبته ورضاه وغضبه وكراهته ، فيجعل ذلك مجازا ، ويفسره إما بالإراده وإما ببعض المخلوقات من النعم والعقوبات ، قيل له : لا فرق بين ما نفيته وبين ما أثبته ، بل القول في أحدهما كالقول في الآخر ، فإن قلت : إن إرادته مثل إرادة المخلوقين ، فكذلك محبته ورضاه وغضبه ، وهذا هو التمثيل ، وإن قلت : إن له إرادة تليق به كما أن للمخلوق إرادة تليق به ، قيل له : وكذلك له محبة تليق به وللمخلوق محبة تليق به ، وله رضى وغضب يليق به ، وللمخلوق رضى وغضب يليق به ، فإن قال : الغضب غليان دم القلب للإنتقام ، قيل له : والإرادة ميل النفس إلى جلب منفعة أو دفع مضرة ، فإن قلت: هذه إرادة المخلوق ، قيل لك : وهذا غضب المخلوق ، وكذلك يلزم القول في كلامه وسمعه وبصره وعلمه وقدرته .
وإن كان المخاطب ينكر الصفات ويقر بالأسماء كالمعتزلي الذي يقول : إنه حي عليم قدير وينكر أن يتصف بالحياة والعلم والقدرة ، قيل له : لا فرق بين إثبات الأسماء وبين إثبات الصفات ، فإنك إن قلت : إثبات الحياة والعلم والقدرة تقتضي تشبيها وتجسيما لأنا لا نجد في الشاهد متصفا بالصفات إلا ما هو جسم ، قيل لك : ولا نجد في الشاهد ما هو مسمى حي عليم قدير إلا ما هو جسم ، فإن نفيت ما نفيت لكونك لم تجده في الشاهد إلا بجسم ، فانف الأسماء ، بل وكل شيء لأنك لا تجده في الشاهد إلا بجسم .
القاعدة الثانية :
إن الله سبحانه وتعالى موصوف بالإثبات والنفي ، فالإثبات : كإخباره أنه بكل شئ عليم وعلى كل شئ قدير وأنه سميع بصير ونحو ذلك.
والنفي : كقوله : { لا تأخذه سنة ولا نوم } وينبغي أن يعلم أن النفي ليس فيه مدح ولا كمال إلا إذا تضمن إثباتا، لأن النفي المحض عدم محض، والعدم المحض ليس بشئ ، وماليس بشئ هو كما قيل ليس بشئ فضلا عن أن يكون مدحا أو كمالا، ولأن النفي المحض يوصف به المعدوم والممتنع وهما لا يوصفان بمدح ولا كمال. ولهذا كان عامة ما وصف الله به نفسه من النفي متضمنا لإثبات مدح كقوله : { الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم} إلى قوله : { ولا يؤده حفظهما } فنفى السنة والنوم يتضمن كمال الحياة والقيام ، فهو مبين لكمال أنه الحي القيوم، وكذلك قوله : { ولا يؤده حفظهما } أي لا يكربه ولا يثقله، وذلك مسلتزم لكمال قدرته وتمامها ، بخلاف المخلوق القادر إذا كان يقدر على الشئ بنوع كلفة ومشقة ، فإن هذا نقص في قدرته وعيب في قوته، وكذلك قوله : { لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض } فإن نفي العزوب مستلزم لعلمه لكل ذرة في السموات والأرض وكذلك قوله تعالى : { ولقد خلقنا السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب } فإن نفي مس اللغوب الذي هو التعب والإعياء دال على كمال القدرة ونهاية القوة ، بخلاف المخلوق الذي يلحقه من التعب والكلال ما يلحقه، وكذلك قوله تعالى { لا تدركه الأبصار } إنما نفى الإدراك الذي هو الإحاطة كما قاله أكثر العلماء، ولم ينف مجرد الرؤية، لأن المعدوم لا يرى، وليس في كونه لا يرى مدح، إذ لو كان كذلك لكان المعدوم ممدوحا ، وإنما الممدوح في كونه لا يحاط به وإن رئي، كما أنه لا يحاط به وإن علم ، فكان في نفي الإدراك من إثبات عظمته ما يكون مدحا وصفة وكمال، وكان ذلك دليلا على إثبات الرؤية مع عدم الإحاطة لا على نفسها، وهذا هو الحق الذي اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها والله أعلم.
القاعدة الثالثة ( بين صفات الله وصفات المخلوقين ) :
إن كثيراً من الناس يتوهم في بعض الصفات أو كثير منها أو أكثرها أو كلها أنها تماثل صفات المخلوقين، ثم يريد أن ينفي ذلك الذي فهمه فيقع في أنواع المحاذير.
أحدها : كونه مثل ما فهمه من النصوص بصفات المخلوقين، وظن أن مدلول النصوص هو التمثيل.(/5)
الثاني : أنه إذا جعل ذلك مفهوما وعطله ، بقيت النصوص معطلة عما دلت عليه من إثبات الصفات اللائقة بالله، فيبقي مع جنايته على النصوص ، وظنه السئ الذي ظنه بالله ورسوله، حيث ظن أن الذي يفهم من كلامهما هو التمثيل الباطل ، فقد عطل ما أودع الله ورسوله في كلامهما من إثبات الصفات لله والمعاني الإلهية اللائقة بجلال الله.
الثالث: انه ينفي تلك الصفات عن الله بغير علم فيكون معطلا لما يستحقه الرب.
تتمة :
من تحقيق التوحيد أن يعلم أن الحقوق ثلاثة : حق الله تعالى لا يشركه فيه مخلوق، وحق رسول صلى الله عليه وسلم، وحق مشترك بينهما، فأما حق الله تعالى وحده فكالعبادة والتوكل والخوف والخشية والتقوى والإنابة والرجاء والإستعانة قال تعالى : { فلا تدع مع الله إلها آخر } وقال تعالى : { فاعبد الله مخلصا له الدين } وقال تعالى : { وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين} وقال تعالى : { ومن يطع الله ورسوله ويخشى الله ويتقيه فأولئك هم الفائزون } فأثبت الطاعة لله والرسول، وأثبت الخشية والتقوى لله وحده، وقال تعالى : { فلا تخافوهم إن كنتم مؤمنين} وقال صلى الله عليه وسلم: ( لا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد، ولكن قولوا ما شاء الله ثم ما شاء محمد) وهذا لأن مشيئة الله تعالى ليست مستلزمة لمشيئة أحد من العباد، ولا مشيئة أحد من العباد مشيئة الله، بل ما شاء الله كان وإن لم يشأ الناس، وما شاء الناس لم يكن إن لم يشأ الله. وأما حق الرسول صلى الله عليه وسلم المختص به فكالتعزيز والتوقير والإتباع والاستسلام لحكمه، قال تعالى : { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما } وقال تعالى : { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله } وأمثال ذلك.
وأما الحق المشترك بين لله ورسوله فكالحب والإيمان والتصديق والطاعة، قال تعالى : { من يطع الرسول فقد أطاع الله } وقال تعالى : { والله ورسوله أحق أن يرضوه } وقال تعالى : { قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال أقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين } ، ومن هذا الباب أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في خطبته : ( من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فإنه لا يضر إلا نفسه، ولن يضر الله شيئا) .
وإلى هذا أشار العلامة ابن القيم في نونيته بقوله :
لله حق لا يكون لغيره ولعبده حق هما حقان
لا تجعلوا الحقين حقا واحدا من غير تمييز ولا فرقان
فالحج للرحمن دون رسوله وكذا الصلاة وذبح ذي القربان
وكذا السجود ونذرنا ويميننا وكذا متاب العبد من عصيان
وكذا التوكل والإنابة والتقى وكذا الرجاء وخشية الرحمن
وكذا العبادة واستعانتنا به إياك نعبد ذان توحيدان
وعليهما قام الوجود بأسره دنيا وأخرى حبذا الركنان
وكذلك التسبيح والتكبير والتهليل حق إلهنا الديان
لكنما التعزيز والتوقير حق الرسول بمقتضى القرآن
والحب والإيمان والتصديق لا يختص، بل حقان مشتركان
هذى تفاصيل الحقوق الثلاثة لا تجمعوها يا أولي العرفان
قال جامعه شيخنا وقدوتنا إلى الله الشيخ العلامة عثمان النجدي الحنبلي رحمه الله تعالى : هذا آخر ماتيسر جمعه نسأل الله العظيم أن يعمم نفعه وأن يجعله لوجهه الكريم، مقربا لنقر في جنات النعيم، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وألي الفضل والكرامات.
وكان الفراغ من كتابته من خط المؤلف رحمه الله نهار الجمعة المبارك في نصف شعبان المعظم على يد الفقير أحمد بن عوض بن محمد بن الحنبلي المقدسي سنة (1111هـ). وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما(/6)
نجاح الاقتصاد الإسلامي .. رسالة إلى دعاة الليبرالية !
31-3-2006
بقلم عبدالله الخزمري
"...هل يعي دعاة الليبرالية سياسياً واجتماعياً فداحة الخطأ الذي يرتكبونه في حق وجودهم وشعبيتهم، وهل لهم أن ينظروا إلى هذه التجربة بعين المعتبر بغيره ؟! ..."
تتناقل وسائل الإعلام هذه الأيام عزم كثيرٍ من البنوك الغربية! فتح نوافذ للتمويل الإسلامي تلبية لرغبات عملائها المتزايدة للتمويل وفق ضوابط الشريعة الإسلامية .
إذاً، لم تعد الحاجة لفتح نوافذ إسلامية للتمويل والمتاجرة مقتصرةًً على البلاد الإسلامية وإنما تجاوزتها لفتح معاملات مصرفية إسلامية في بنوك غربية تعمل في مجتمعات ليبرالية خالصة .
مثل هذه التجربة الثرة والغنية يجب ألا نغفلها وأن نثير النقاش حول دلالاتها وإيحآتها الفكرية والسياسية والاجتماعية .
فكما يعلم الجميع أن عمر المعاملات المصرفية في البنوك وشركات التمويل لا يتجاوز عقدين الى ثلاثة عقود من الزمن . وقد كان الاقتصاديون ينظرون بتحفظ كبير إلى نجاح فكرة ما يسمى بالاقتصاد الإسلامي جهلاً منهم بغزارة البدائل الإسلامية حيناً وانحرافاً فكرياً ومنهجياً أحياناً أخرى .
وقد ترتب على هذه النظرة السوداوية قيام البنوك في فترة الستينات والسبعينات في مجملها على نظام المصرفية الرأسمالية المعروفة والتي تعتمد الفائدة "الربا" وسيلة للإقراض أو الاقتراض متجاهلة النصوص الكثيرة والمتوافرة والدالة على حرمة هذه المعاملات وخطرها على الفرد والمجتمع، بل ومتجاهلة رفض المجتمعات الإسلامية لهذه المعاملات وهروبها منها .
استطاعت بعض الشركات والمصارف قراءة الواقع قراءة صحيحة فتلمست تطلع شريحة كبيرة من الناس إلى البديل الإسلامي فقامت بإنشاء مصرفية إسلامية بأسلوب عصري يستفيد من التقدم التكنولوجي والمعطيات الاقتصادية ويتوافق في الجانب الأخر مع الضوابط الإسلامية التي وردت بها النصوص وأجمع عليها علماء الأمة . ولم تكن دهشة المتابعين فقط من كثرة البدائل والحلول الإسلامية بل ومن سرعة نجاح تلك الحلول والبدائل وتفوقها على بدائلها التقليدية .
أما أرباح و نتائج المصارف الإسلامية ونجاحاتها المتتالية في كل برامجها وأفكارها الخلاقة فقد أصبحت حديث كل الاقتصاديين محلياً وعالمياً بالرغم من حداثة التجربة وقلة الموارد . وكنتيجة طبيعية لهذا النجاح بدأ العديد من البنوك والمصارف العربية والخليجية تحديداً فتح نوافذ استثمارية وتمويلية إسلامية ولحق بها بعد ذلك الكثير من المصارف العالمية .
ويجب أن ننبه هنا إلى نقطة مهمة في هذا السياق ألا وهي أن الوعي الشرعي والاستثماري المتنامي لدى المجتمعات الإسلامية أصبح يفرق وبشكل واضح بين بنك وأخر حتى ولو كانا يقدمان نفس الخدمات الاستثمارية الشرعية وبدأت مطالبة من نوع جديد وهي أن تقيم البنوك وشركات التمويل هيئات شرعية محترمة من الجمهور ليس لوضع الضوابط الشرعية للمعاملات المختلفة فقط وإنما أيضاً للرقابة الفعلية على مدى جدية البنك في تطبيقه لهذه الضوابط ورصد التجاوزات وتصحيح الأخطاء متى وجدت .
أيها السادة : إن هذا النجاح يوصلنا إلى حقيقة دامغة وهي أن الشعوب الإسلامية رفضت رفضاً مطلقاً منطلقات الليبرالية الاقتصادية استجابة لأمر الله وأمر رسوله وتحملت جراء ذلك الكثير من العنت والتعب حتى فرضت قناعتها على النخب الاقتصادية المثقفة والتكتلات الاقتصادية وأجبرت المصارف للتحول ولو تدريجياً إلى المصرفية الإسلامية بما تحمله من تميزٍ ونجاح أثبتته النتائج الرائعة التي ينعم بها كلا الطرفين المصارف ودور التمويل في جانب والمسلم الذي أصبح ينام مرتاح الضمير قرير العين بعيداً عن ظلال الرهبة من الحرب التي كانت تعلنها تلك القلاع على الله في الجانب الأخر .
كانت هذه ليبرالية الاقتصاديين وكيف تحولت مع الوقت إلى مثلبة وعيب تتبرأ منه البنوك يوماً بعد أخر حتى أصبح رؤساء البنوك والمسؤلون فيها يؤكدون أنهم لا يكتفون بتقديم البديل الإسلامي فقط وإنما يعينون هيئات شرعية في بنوكهم لتأخذ على أيديهم إن هم أخطأوا أو تجاوزوا الخطوط الحمراء؛ بل ودفع هذا الضغط الشعبي الكثير من البنوك إلى أن تتحول بكامل معاملاتها إلى البدائل الشرعية لتحضى بجزءٍ من الكعكة التي تقدمها الشعوب لكل من يتوافق عمله مع معتقدات هذه الشعوب وأفكارها وسلوكها .
ويبقى السؤال الآن : هل يعي دعاة الليبرالية سياسياً واجتماعياً فداحة الخطأ الذي يرتكبونه في حق وجودهم وشعبيتهم، وهل لهم أن ينظروا إلى هذه التجربة بعين المعتبر بغيره ؟!(/1)
فإن كانوا يريدون أن يكون لهم موطأ قدم في مجتمعاتنا الإسلامية فليقيموا برامجهم وفق الضوابط الشرعية ومن يدري فقد نحتاج في يومٍ من الأيام لمطالبتهم ليس فقط بأن تكون منطلقاتهم شرعية وإنما ليكون لديهم هيئات للرقابة الشرعية حتى تطمئن قلوبنا إلى أن ما يدعون إليه من برامج إصلاحية مزعومة منسجمة فكراً وسلوكاً مع معتقدات الأمة وثوابتها .
فكم من مدعٍ وصلاً بليلى ولكن ... هل تقر لهم ليلى بذاك ! وإن كانت ليلى لا تستطيع الآن لسبب أو لآخر أن تبدي وجهة نظرها في أدعياء الحب فلا نشك بأنها ستستطيع ذلك(/2)
نجوى قبّرة
شعر: محمد المجذوب
حنانَكِ لا تخشي أذايَ ولا ضُرِّي
حنانَكِ، لا يَخفقْ جناحاك رهبةً
أحِذراً وفي جنبيَّ، يا طيرُ، iiللورى
أراعَكِ هذا الحِملُ ينآد iiتحتَه
وخطوٌ يثيرُ الأرضَ لولا iiنَداوةٌ
وسَوْرَةُ أنفاسٍ يكادُ iiزفيرُها
فلملمتِ أطرافَ الجناح iiتحفزاً
وقلت، وقد أسرفتِ: باغٍ من iiالورى
حنانَكِ.. بعضُ الظنِ إثمٌ فما iiأنا
حنانَكِ.. لستُ المرء يطلبُ iiيُسْرَه
سلي خفقاتِ النجمِ في لُجَّةِ iiالدجى
سلي عَرْفَ هاتيك الأزاهيرِ في الرُّبى
سلي الواديَ النشوانَ بالعِطر iiوالندى
سليها فمِن قلبي على كل iiنفحةٍ
سلي عن أغانيَّ الحياةَ فلم يزل
لئن أخفتَتْها قسوةُ الدهر iiفترةً
فقد يخرسُ الطيرُ الحبيسُ iiوملؤه
* * *
وددتُ لَوَنِّي جارُك العمرَ iiكلَّه
تضوء عشياتي بريَّاك فتنةً
ويسلقُني في الحقلِ ظلُّك iiعابثاً
وأنعَمُ تحتَ العشِّ في حضنِ iiمضجعٍ
فراشيَ فيه العشبُ غضَّاً مُمهَّداً
ومن ورق الدِِّفْلى عليّ غلالةٌ
مُنى من تهاويل الخيالات حاكَها
حَلمتُ بها في غفوةِ الخطبِ برهةً
وهمتُ بذكراها وقد حال iiبيننا
أَعدتِ إلى القلب المحطَّمِ iiطيفَها
وأَنسيتِه أوجاع دنيا هوت iiبها
طغا في مغانيها الدَّمارُ iiوصَوَّحتْ
فخلِّي جفوني المُغْمَضاتِ iiتضمُّها
ولا تُفسدي بالشكِّ نشوةَ iiحُلمِنا ... فما أنا ذو نابٍ ولا أنا ذو iiظفرِ
ولا ترمِني عيناك بالنظر iiالشَّزْرِ
وللطير دنيا من رؤى الحب iiوالشعر!
مَطايَ فلا ينفكُّ يُنجدُه iiصبري(1)
ذَرَتْها على مَيْتِ الثَّرى أدمعُ iiالقَطْرِ
يسيل شَعاعاً في لوافحِهِ iiسَحْري(2)
وأمسكتِ خوف الغائلاتِ عن iiالنقر
أخو شَرَكٍ يطوي الضلوعَ على iiمكر!
ودنيا الورى إلا الغريبُ مع iiالسَّفْر
بآلام مخلوقٍ سواه على iiعسري
وعربدةِ الأسحارِ في يقظةِ iiالفجر
وهينمَة الصفصافِ في عُدوة iiالنهر
يُطلُّ عليه السفحُ بالحُلَل iiالنُّضْر
بها أثرٌ يروي المكتَّم من iiسرْي
بمسمعِها رجعٌ من النَغَم iiالبِكر
لفي النفسِ لحنٌ عزَّ عن قسوة iiالدهر
حنينٌ يهزُّ الروحَ للأفق iiالحر
* * *
أذودُ بنفسي عنك عاديةَ iiالغدر
وتُسكرني نجواك في البُكَر iiالخُضر
فأقفزُ فوقَ الشوكِ في إثْره iiأجري
يسيلُ عليه الطَّلُّ من أكؤُسِ iiالزهرِ
وثيراً، ولكنَّ الوسادَ من الصخر
تقي جسميَ العاري أذى البرد iiوالحر
صَناعٌ من الوهمِ المجنَّحِ في iiصدري
فلما صحا جَفَّتْ رُؤايَ من الذعر
غياهبُ من ليلِ الحقيقةِ iiوالفكر
جديداً فعاد السحرُ في دمهِ يسري
زعازعُ تذرو الموتَ في البرِّ iiوالبحر
مفاتَنَها –رغمَ النُّهى- شهوةُ iiالشر
قليلاً وخلّي الطيفَ يَلمسُه iiثغري
فما هي إلا فترةٌ ثم.. لا iiندري!
(1) المَطا: الظهر.
(2) السَّحْر: القلب والرئة، والشَّعاع بالفتح مصدر شعَّ: تفرقَ.(/1)
· نحن باللَّه عزُّنا
بقلم الدكتورعدنان علي رضا النحوي
" نَحْنُ بِاللَّهِ عِزًُّنا ... ... لاَ بِمَالٍ ومَنْصِبِ " (1)
كُلُّ مَنْ رَامَ ذُلَّنَا ... ... أَو مَشَى مَشْي ثَعْلَبِ
أَوْ رَمَى فِتْنَةً جَرَتْ ... ... بَيْنَ نَابٍ وَ مِخْلَبِ
حَسْبُنَا اللَّهُ ... حَسْبُنا ... ... مُرْسِلُ الوَحْيِ و النَّبي
* * * ... * ... * * *
الرياض
1415هـ ـ 1995م ... ... ...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
· ديوان جراح على الدرب .
(1) مع طفولتي و بواكير شبابي كنت أقرأ هذا البيت مطرّزاً على قطعة قماش من المخمل ، معلقة في إطار جميل على الجِدار ، في بيتنا . فأكملت الأَبيات الأُخرى .(/1)
نحن أولى بالريادة ...
إن معظم الاكتشافات والاختراعات العلمية يقوم بها غير المسلمين في عصرنا الحاضر؛ والسبب في بذلك أن هؤلاء أخذوا بالأسلوب الصحيح في البحث والاستقراء والتمسك بقواعد وأصول البحوث العلمية الجادة، ووفرت لهم حكوماتهم بيئات علمية مناسبة، وسخرت لهم كل الإمكانيات المادية والوسائل المعينة، فانتقلت إليهم الريادة العلمية في شتى الميادين والمجالات العلمية، في حين أن المسلمين تخلفوا في هذا المضمار، فكانت النتيجة الطبيعية طبقاً لسنة الله في الكون، وتمشياً مع قاعدة "ولكل مجتهد نصيب" – وتلك عدالة الله بين خلقه - أن ووهب لهؤلاء العلمانيين ثمرة جهدهم وإخلاصهم لتلك العلوم التجريبية، وأعطاهم ما يستحقونه من سبق كشف وتقدم ونبوغ في الحياة الدنيا.
وإذا أراد المسلمون أن يعودوا إلى الصدارة في العلوم، ويحتلوا مكانتهم الريادية التي كانت في أسلافهم، فعليهم أن يعودوا إلى الإصلاح ومنهجه القويم، ويبحثوا عن أسباب التخلف العلمي ومواضيع النقص والخلل، لأن تشخيص الداء هو أول خطوة لمعالجة المرض. ولن يكون الدواء نافعاً إلا بعد معرفة الطبيب لنوع المرض وأسبابه؛ ولهذا فإن الدراسات التي تكشف عن مواطن الداء في بنية علماء الأمة، وتبين العلاج لها فائق الأهمية وكبير الأثر في النهوض بالأمة، وخروجها من التخلف العلمي، لتأخذ مكانتها اللائقة في الحياة، وتؤدي دورها الريادي الخالد في قيادة الأمم وأستاذية البشرية، خاصة في العصر الذي انكشف فيه زيف المناهج والمذاهب الوضعية والمادية التي أعلنت عن فشلها وإفلاسها في إسعاد البشرية أو وضع حد لمعاناتها المتزايدة بسبب بعدها عن منهج الله تعالى.
ويومئذ يستحقون نصر الله وتأييده، ليس فقط في المجال العلمي بل في قيادة الأمم والشعوب إلى الفلاح والنجاح وشاطئ الأمان. ولكن الخطر يكمن في سلوكيات علماء غير المسلمين – العلمانيين- إذ أن معظمهم لا يتقيدون بآداب الديانات، ولا بالتعاليم السماوية، ولا بأهداف شريفة لتسخير العلم لصالح البشرية، بل إنهم ينحرفون بالعلم إلى تطبيقاته المدمرة، ويعملون لصالح استعلاء جنس على جنس، أو حضارة ضد أخرى، أو للسيطرة السياسية والهيمنة الاقتصادية على الشعوب الضعيفة، واحتلال بلدانها، وفرض القيم والثقافات المعينة عليها، كما نلاحظ ونشاهد في أكثر من بقعة من بقاع العالم الإسلامي. أرأيت كيف تكون الأمور لو أن قيادة العلوم والتقنية تمسك بها أيدي مسلمة مؤمنة، تخشى الله واليوم الآخر، وتعمل على تسخير العلوم للبناء لا الهدم؟
إن من أهم وأسمى المبادئ في الإسلام الربط الوثيق بين تحصيل العلوم وتطبيقاتها بتقوى الله تعالى وطاعته والالتزام الدقيق بما أحله وبما حرمه، وتبعاً لذلك فإن العلوم واستخداماتها تستثمر لصالح الإنسان وسد حاجاته، والأخذ بيده إلى ما يصلح دينه ودنياه. والإسلام ينهى عن استخدام العلوم للإضرار بالخلق، مثل إفساد البيئة والحياة الحيوانية والنباتية والطبيعية، وإثارة الحروب، وتحقيق النزعات الشريرة في التسلط والظلم والاستعلاء في الأرض واحتلال الأوطان. وقد كان علماء الإسلام في أيام مضت يتصفون بضبط السلوك، والموضوعية، والبعد عن السيطرة على الآخرين، مع أنهم كانوا رواداً للعلوم التجريبية والكونية، ويحملون رصيداً ضخماً من المعارف التطبيقية والأبحاث العلمية، التي تعد الأساس المتين لتطور الحضارة الأوروبية والغربية، بشهادة العديد من المنصفين الغربيين.
وإذا كان الأمر كذلك، وعالمنا الإسلامي يملك ثروات اقتصادية وعقول علمية، كان على علمائه أن يدلو بدلوهم في صنع حضارة إنسانية شريفة، ويقوموا باجتياز الصعاب واختراق الحواجز وتذليل المعوقات، لبناء قواعد ومراكز علمية وتقنية، تخدم أهداف أسلمة العلوم التطبيقية، وتخرج العالم الإسلامي من دائرة الهوان والهزائم المتلاحقة. كما أن على الحكومات الإسلامية وأولياء أمورها أن تقوم برعاية الموهوبين، وتعتني بالعقول العلمية، وتوفر لهم البيئة المناسبة لممارسة التجارب والأنشطة العلمية، وتقدم لهم الدعم المادي والمعنوي، وتحثهم على البقاء في أوطانهم وعدم الخروج إلى العالم الآخر، وعدم تسخير طاقاتهم ومواهبهم لخدمة الغير. حينئذ نكون قد أخذنا بالمنهج الصحيح، وانتقلنا من مرحلة الضعف إلى مرحلة القوة مصداقاً لقول الله سبحانه وتعالى: (وعد الله الذين آمنوا منكم وعلموا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً... ) "النور:55".
كاتب المقال: فضل الله ممتاز(/1)
نحن في حاجة إلى حاكم يملك زمام رشده
علجية عيش
صحافية من الجزائر
ikhwaneessafa@yahoo.fr
إن ما حدث في العشرية الحمراء و يحدث اليوم من تغيير في القوانين و المنظومات و تدمير للمؤسسات كلف الشعب بعضا من أقدس حقوقه الديمقراطية، و ربما العشرية الحمراء كانت تشبه نوعا ما أسطورة الخطر الأحمر، لأنها تناسب الذهنية المسيطرة آنذاك عندما غرقت الشعوب في بحر الهستيريا الدموية، فكان ضحيتها الشعب دفع ثمنا غاليا ، وكما قال فرنكلين روزفلت الرئيس الثاني و الثلاثون للولايات المتحدة : " كان على هذه الأمة أن تتحمل حكومة لم تكن تسمع شيئا و لا ترى شيئا و لا تفعل شيئا، كانت الأمة تتوجه إلى الحكومة و لكن أنظار هذه كانت تحدق إلى مكان آخر فعاشت في سراب و دمار".وقد خلق هذا الدمار هوة سحيقة ما زالت تفصل و بشكل خاص المجتمع الجزائري عن ممارسته الفعلية للعمل السياسي رغم ما تعيشه الجزائر من مستجدات و هي تنتظر بشوق كبير متى تتحقق المصالحة الوطنية التي وعد بها رئيس الجمهورية عبد العزيز بوتفليقة منذ توليه كرسي الرئاسة في عهدته الأولى من سنة 1999، و مضى ما يقارب ست سنوات ولم يتحقق هذا المشروع الإصلاحي و لم تحن ولادته حتى و لو كانت بطريقة قيصرية ، لأن الفكر الدكتاتوري و هو فكر ظلامي ما يزال يعزل هذا المشروع و يشكل الهوة الكبرى للإنسان الجزائري باعتباره كائنا اجتماعيا بطبعه يريد إقحام نفسه في قضايا مجتمعه و مساهمته في طرحها و مناقشتها و اقتراح الحلول الناجعة لها. و في ظل سياسة تكميم الأفواه و قطع الألسن نجد الكل يخشى من ممارسة العمل السياسي و الابتعاد عن حفره و مطباته ونسمع الجميع يردد مخاطبا الآخر (دعك من البوليتيك évite la politique ، وكأننا ما زلنا نعيش عصر الاستبداد و الإستدمار ولما لا و نحن نعيش استدمارا فكريا مدمرا. لم تكن السلطة وحدها التي تمارس هذا النوع من الاضطهاد الفكري لإخضاع الفرد و ضمه تحت جناحها بل كانت جميع الأطراف مجندة لحصر الجميع في دائرتها المغلقة تشكله كما تريد داخل كتلتها و هو مضمد الأعين دون أن يعي ما يجري حوله ودون أن تفسح له المجال للممارسة السياسية. إن مفهوم الممارسة السياسية يعني لدى العامة حق الانتخاب و حق مراقبة السلطة وانتقادها و محاسبتها، و من هذه المفاهيم تجعلنا نتساءل من ينتقد السلطة؟ هل الشعب و بالتالي نكون قد حققنا القفزة المطلوبة و هي الديمقراطية الذي يكون فيها للشعب نصيب في الحكم عن طريق ممثليه و هي الأحزاب، هذه الأخيرة التي وضع فيها الشعب ثقته و هذا بالضرورة يدعوها إلى نوع من التحرر من كل القيود و الضغوطات و السؤال يطرح نفسه و الجزائر تعيش التعددية الحزبية ألا يفسح هذا الحق المجال لتضارب الأحزاب فيما بينها؟ هذا هو واقع اليوم، بعض الأحزاب الجزائرية شكلت ما يسمى بالتحالف ، هذا التحالف لا يعني بالضرورة ضعف كل حزب على حدا بل لضرب قوة ما و إعطاء الضربة القاضية رغم اختلاف برامجها و نظامها الداخلي. إن وجود الحزب يعني الكفاح من أجل الوصول إلى السلطة و كأن هذه الأخيرة تحولت إلى سلعة معروضة في سوق المزاد ، سوق يسيطر عليها المحتكرون و رجال النفط بينما المشترون النافذين لمنصب رسمي يتبادلون الشتائم و هذا ما يحدث بين جل الأحزاب الجزائرية سواء تلك التي تبنت النهج الديمقراطي أو التي اتبعت المنهج الإسلاموي أو الراديكالي العلماني و ما أكثرها الأحزاب السياسية في الجزائر ما يفسر تواجد الوعي السياسي و التحضر السياسي و هي في حقيقة الأمر لا تحمل من مبادئ سوى ما يسيء إلى الشعب و تكاد تقول له في سخرية : "احلم أيها الشعب ما طاب لك من الحلم فإننا بفضلك نصل إلى ما نريد و سننالك و نحملك كل المسؤوليات لأننا نتقن صنع المؤامرات و قلب الصفحات و ما أنت سوى ورقة انتخابية بيضاء..!"..
وهكذا كانت الخيانة العظمى و هي جريمة سياسية تهدف إلى الإضرار بسلامة الوطن من الداخل قبل الخارج و نظام الحكم فيه ، لأن الممارسة السياسية أدت إلى نشوء مشكلات انتهت بتفكك المجتمع بسبب التعددية الحزبية التي انقسمت بدورها إلى شريحتين: مستغِلة تقف إلى جانب النظام و مستغَلة يقصيها النظام فلا تجد بدا من مناهضته .إن خيانة ترتكب ضد حكومة ما لجريمة أخف وطأة من خيانة ضد الشعب، هناك ألوف الطرق لخيانة الشعب فمن الممكن الاستبداد به بواسطة العنف و الإرهاب و من الممكن تجريده من أملاكه و حقوقه بإعلان قوانين جائرة و تحويل المحاكم إلى أدوات قمع و نشر الدعاية الكاذبة و تحريض فئتين من المجتمع الواحدة منهما ضد الأخرى دون ما سبب، و إشعال نيران الحرب و هكذا تخان الشعوب من خلال مؤامرة حاكتها أيادي فئة معينة تتمتع بشيء من الامتيازات قررت أن تحتفظ بالحكم مهما كلف الأمر و إن تضاعفت امتيازاتها على حساب التضحية بالأكثرية العظمى...(/1)
إن الذي يتكلم و يخطب علينا على منبر حسن الإضاءة مكلل بالزهور و على رأسه أعوان ترقبه، ما هو سوى أداة تحركه تلك الأيادي، و بالتالي تجاوز وضعه كشخص و هكذا انقرضت شخصيته، لأن الحيلة و الكذبة و الخدعة كانت أسرار فكره، و الكراهية و زرع البلبلة نسيج كلماته تحت شعارات عديدة باسم الديمقراطية و الوطنية أحيانا و أخرى باسم التعددية و حرية الآخر أو باسم التمدن و التحضر و أخيرا باسم المصالحة الوطنية و العفو الشامل، وكانا هذين الأخيرين مجرد لعبة سياسية ، فقد بدأ بوتفليقة في عهدته الرئاسية من الخطوة التي تجعل المواطن يردد مقولة ما أشبه اليوم بالأمس و تحت هذا الغطاء و هو المصالحة الوطنية سمحت لكل دخيل أن تطأ قدماه الجزائر و كانت هذه المصالحة قد دخلت حيز التطبيق دون سن قوانين لها و دون أن تمر على الاستفتاء الشعبي و ذلك بعودة الأقدام السوداء في الوقت الذي كانت الجزائر تحتفل بالذكر الخمسون لاندلاع ثورة التحرير الكبرى تلاها الحج اليهودي إلى تلمسان التاريخية و المشي على تراب الأرض الطيبة، و لو نلقي نظرة فاحصة على جرائدنا اليومية نرى كم هي عميقة عزلتنا عن الوطنية و شغفنا بالشعارات المزيغة و الكلمات الرنانة المخادعة التي أجهضت كل ما هو وطني و ألقت عليه ظلالا أمام جمهور مخدر سجين مشاكله اليومية، وهو في حرب كبيرة من أين يدفع فاتورة الغاز و الكهرباء و..و..الخ، ووقف هذا الأخير (الجمهور) على عقارب الساعة ونسي أن عقارب الساعة تدور في حركة متواصلة ، فاختزله الزمن، و بقي في تناقض عسير دون أن يكون له دور مباشر في اتخاذ قراراته ، فاقدا بذلك لأي وعي اجتماعي أو سياسي ،يحركه رجل السياسة على هواه، حتى يكون له حق الانتساب إلى أعلى المراكز البرلمانية، هذا هو رجل السياسة في الجزائر ممثلا ميكيافليا بارعا يستعمل كل الوسائل لكي يفوز و ينتصر، كان تمثيله في كلمات منمقة تخدر الجمهور، فينساق هذا الأخير كالأعمى..
إنه عصر التخدير السياسي المحض ، كانت فيه السياسة هي المفهوم المطلق لكل واقع اجتماعي فأصبحت الوطنية سياسة، و العمل سياسة، و الفضيلة سياسة، و الحب سياسة و أضحت السياسة هي السبيل الأفضل للوصول إلى المركز، و ضاع من قاموس الفضيلة ذلك الفيلسوف الذي يترفع عن الأنانية و يعيش لأجل الآخرين.(/2)
ومن هذا المنطلق ألا يجدر بنا أن نتساءل في عفوية أين هو الوطني الحقيقي في الجزائر المستقلة؟ هل هو ذلك الجالس على كرسي المسؤولية في غرفة مكيفة، له سكرتيرة خاصة به، بحيث تقتصر وظيفته سوى توقيع الوثائق و الملفات و لا يدري ماذا يحدث من ورائه و في غيابه، فكان مجرد مظهرا أو لوحة حائطية تزين جدران الغرفة..، أم ذلك الذي يضرب الأرض بساعديه، إن الوطني الحقيقي في الجزائر هو ذلك الأسْوَدُ الذي أحرقته الشمس و هو ينبش من أجلنا المحاجر، يكسر الصخر ليتخذ منه أداة لإيوائنا، هو عون النظافة، القائم على ستر عوراتنا المنتشرة في القمامات، هذا هو المسؤول الحقيقي، لأنه واجه الواقع و فجر ثورة اسمها ثورة البناء، فكان سيدا على سيده، أما رجل السياسة فقد تناول الأشياء تناولا استغلاليا، تعامل بسياسة لا تتوافق و الجمهور فمسخ نفسه، أغواه الخطاب السياسي الأجوف الذي استخدمته الإيديولوجية السائدة القائمة على سياسة فرق تسد، باسم التغيير و التجديد، و هكذا داست السياسة على كل ما سمي بالاختصاص، و أصبحت مقولة الرجل المناسب في المكان المناسب أكبر أكذوبة عرفتها التعددية في الجزائر، و بدلا من أن يقوم من بيده زمام الأمر بتغيير الذهنيات و المعاملات (معاملة الحاكم لمحكومه)، ها هو يعمل على تغيير الوزراء و الوزارات فلو سألت أي مواطن جزائري عن أي وزير دولة أجنبية لأجابك فورا أما أن تسأله عن وزير دولته فلا يجد جوابا لأنه في الجزائر نسمع أن وزيرا قد استبدل بآخر بين عشية و ضحاها ، ذلك كله في غياب المنهجية السياسية التي كانت نتيجتها كارثة اقتصادية راح ضحيتها الشعب لأن أولئك القائمين على شؤون البلاد يدخرون فائضا احتياطيا و هم مؤمنون اقتصاديا في البنوك السويسرية دون أن يمنحوا فرصة لهذا الجمهور البائس أن يبني ذاته ووعيه في مناخ واع و رقعة يكون للإنسان فيها كرامة و كبرياء، و هنا كانت الخيبة السياسية فكان الاغتراب السياسي و كان الاغتراب الإنساني بأتم معنى الكلمة ، فهل يستطيع العقل الجزائري أن يجد صيغة جزائرية معاصرة مستمدة من تراثه و تاريخه لمعالجة هذا الاغتراب و استعادة الذات المفقودة ؟ و هذه الأحزاب التي تسعى دوما لعقد مؤتمراتها لإعادة بناء هيكلها ألا يجدر بها أن تعقد مؤتمرا جامعا يحضره الشعب غير المتحزب منه و الحكومة دون خرق المبدأ البديهي وهو حرية الشعب في اختيار حكومته و حاكم يحكمه ويسير شؤونه العامة، حاكم يملك تمام رشده، حاكما يبني السيادة الجماعية و يجمع بين الحزب و الدولة و الشعب، يكون الشعب هو الدولة ، دولة يمارس فيها الشعب حقه في السيادة، دولة هي من الشعب و بالشعب و إلى الشعب و يكون الحزب وسيطا بينهما ، فقد وجد الحزب من أجل الشعب يمارس من خلاله قيادته للشعب و من أجل الشعب وجدت الدولة.لكم نحن إذن في أمس الحاجة إلى هذا النمط من الرجال يكون النتاج الاجتماعي و السيد الواعي للمجتمع ، نمط يمكنه من السيطرة على المجتمع و على الطبيعة و على نفسه و بالتالي يمكن أن يكون هذا النمط ذا شخصية كاريزماتية تحركها روح الهجوم و لا تتراجع أمام الصعوبات(/3)
نحن مع السلام
غازي القصيبي
يذبحنا شارون ... كالأغنامْ
يشتمنا الحاخامْ
يصدّ عنا عمنا الحنونُ سام
ويرقب العالم ما يجري لنا
كأنه فلمٌ من الأفلامْ
ونحن، دون خلق الله كُلّهمْ
حمامة السلام
من قمّة ... لقمّة
نصرخ بانتظامْ
"! نحن مع السلام"
من محفل ... لمحفل
نُذَكِّر الأنامْ
:
"! نحن مع السلام"
* * *
ندعو على "حماس" في الظلام
ونستعيذ بالحاخام من شرور حزب الله
من حقده المميت
وغلطة التوقيت
كل الصواريخ التي نملكها
تؤمن بالسلام
مخزوننا قنابل ذكيّة
تؤمن بالسلام
جيوشنا ... كشّافة
تهتف للسلام
أمجادنا القومية
قامت على السلام
بوركتِ في الأيام
يا أمة السلام
* * *
ياطغمة الليكود
يامن تتلمذتم على هتلر في صناعة الإجرام
شارون...
يا أقذر من تقيأته أقذر الأرحام
الكاهن الخسيس
يوسف بن عادياء ... بن إبليس
لا ترهبوا ... مغبّة انتقام
نحن مع السلام
وذبِّحوا أطفالنا
نحن مع السلام
ومزِّقوا أوصالنا
نحن مع السلام
نعيش، عندما نعيش، في سلام
نقول: يا سلام
نعيش في سلام
نموت, حينما نموت, في سلامْ
نقول: ياسلام
نموت في سلام(/1)
نحن و الآخر هل يلتقي الضدّان؟!
الكاتب: الشيخ د. مسفر بن علي القحطاني
المنطق العقلي يقتضي -كجواب على العنوان- أننا والآخر لا يمكن أن نجتمع على شيء واحد في نمط متّحد، كاستحالة الجمع بين الليل والنهار والسواد والبياض, ولكن السؤال الصحيح الذي ينبغي أن يُطرح في علاقتنا مع الآخر هو: هل يمكن أن يجتمع المختلفان؟ ..
والمنطق هنا يقتضي أيضاً بإمكانيّته عقلاً وجوازه شرعاً. فقد نختلف مع غيرنا إلى حدّ التباين لكن تبقى هناك الكثير من العوامل المشتركة تجمع بيننا قد تحدّدها الظروف المحيطة والمصالح المتبادلة، وليست الشواهد النبويّة ببعيدة عنا، بل هي حاضرة وماثلة في المعاهدة مع اليهود، أو الصلح مع المشركين، أو أحكام أهل الذمة والمعاهدين؛ مما يقرّر و يؤصل منهج التعامل مع الآخر والتعايش معه.
وبعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر كمفصل تاريخي للعلاقة مع الغرب خرجت من بيننا أصوات و أطروحات عدة تدعو للتعايش والقبول بالآخر, بل وتذويب الفروق العقديّة والتاريخيّة بيننا, بينما قابل الآخر ذلك بثقافة الصدام بين الحضارات ونهاية العالم وتدنيس المقدسات بل وكَتَب جمعٌ من المثقفين الأمريكان بياناً للعالم سمّوه "على أي أساس نقاتل؟" تبريراً لكل صور الاعتداء والقمع والتدخل السافر في شؤون الآخرين.
هذه الملامح والرؤى هي ما يظهر لنا عند المنادة أو القبول في حوارنا مع الآخر.. والتوتر الحالي الذي تشهده المنطقة والتماهي العسكري والتباهي المادي يكرّس من نظرة الكره والتشاؤم والخذلان حول مصداقيّة هذا التعايش أو جدوى هذا الحوار .. وشعوب المنطقة وهي تذوق هذه المرارات الموجعة، و تصغي لبعض نخبها الفكريّة التي لاتزال تنفخ بانفعال عاطفي في رماد تأجيج الصراع مع الغرب من غير فقه وعدل؛ فلا ننتظر منها سرعة الولوج لباب التسامح والحوار لمجرّد كونه قيمة دينيّة أو رغبة سياسيّة, فالواقع الاستعماري قائم في عدد من دول العالم الإسلامي، والإصلاح الحقيقي لا تكاد تظهر مشاريعه حتى الآن، بل وتحارب أحياناً باسم الإصلاح ؟! فكيف يحصل التكافؤ في الحوار في ظل هذه الظروف، بينما الآخر لا يزال يسمعك من قمة الجبل.. لذا أجد أن هناك ملامح لابد أن تظهر في دعواتنا للحوار والتعايش مع الآخر يمكن أن أجمل الرأي فيها في النقاط التالية:
1- لقد تم التعامل مع الآخر على أنه شكل واحد ونمط ثابت ذابت كل الفروقات المتناقضة في شخصه الجديد، واختفت ندوب الشر و السوء من وجهه المقنع، بينما ظهرت ذواتنا في إعلامه وثقافته بأشكال غريبة، و تهم إرهابية، وتغليب للقلّة الناشزة على الكثرة الصامتة، أو المعتدلة التي تمثل الطيف الواسع الحقيقي لمبادئنا الدينيّة وثقافتنا الفكريّة. فلا يمكن والأمر كذلك أن يتقبل كل طرف الآخر ما لم تُصحّح الصورة النمطيّة التي صنعها الإعلام عن المقابل. فالحوار والتعايش هو نبض المجتمع وأفراده هم الميدان الحقيقي لنجاح أو فشل هذا المناخ, وأصوات الصقور والغربان لا تعلو إلا في ساحات المعارك والاقتتال، بينما معركتنا الراهنة هي معركة الوعي الديني والتنمية المستدامة والحضارة الرائدة!
2- يروج بعض المثقفين في الغرب أن الدين الإسلامي يقصي الآخر ويحارب الأديان والثقافات الأخرى و هذا الاتهام قد تكلم في ردّه و إبطاله الكثير من علمائنا المسلمين والشواهد الشرعيّة والتاريخيّة مازالت بين أيدينا لم يتقادمها الدهر، بل تجدّدت روحها مع كل أزماتنا المختلفة, لكن الأمر يبدو غريباً عندما نجد تلك التهم هي الأقرب التصاقاً للفلسفة والفكر الغربي الأوروبي ابتداءً من فلاسفة اليونان كأرسطو القائد الروحي لفتوح الأسكندر المقدوني بكل فظاعاتها, إلى قوانيين الرومان التعسفيّة التي قزّمت وعبّدت كل الشعوب الأخرى, وصولاً إلى عصر التنوير الأوروبي المنتج للفكر الغربي الحديث, فأشهر مفكري تلك المرحلة كديكارت كان يرى مفارقة بين "الأنا" الفرديّة الواعية وبين "الغير" لأن عمليّة الشكّ المعرفي التي يصل بها إلى الحقيقة لا تتم إلا من خلال إقصاء الغير، والتجرّد من كل الموروثات الاستدلاليّة، بينما هيجل لا يرى اعترافاً بالذات إلا من خلال اعتراف الآخر بها. واعتراف أحد الطرفين بالآخر لابد أن يُنتزع. هكذا تدخل الأنا في صراع حتى الموت مع الغير، وتستمر العلاقة بينهما في إطار جدلية العبد والسيد. هكذا يكون وجود الغير بالنسبة إلى الذات وجوداً ضرورياً عند هيجل .فهذان النموذجان من التطرف في النظر إلى الآخر لا ينسحب على كل المفكرين المؤثرين في الغرب بل هناك الكثير من العقلاء المعتدلين المنصفين سواء كانوا أفراداً أو مؤسسات، وهم من ينبغي التحاور ومد الجسور معهم, وعليهم ينبغي التركيز والاهتمام بدلاً من صرف ذلك نحو المؤسسات التجارية أو الإعلام المؤدلج أو الحكومات العسكريّة التي لا تنظر إلا مصلحتها وامتداد سيطرتها على الآخر باسم الحوار والتعايش.(/1)
3- غُلّب مصطلح الآخر في القرن الماضي على الغرب الأمريكي والأوروبي والمعطيات الديموغرافيّة والتنمويّة تشير أن المستقبل للقوى الشرقيّة كالهند والصين واليابان بالإضافة إلى دول الجنوب الإفريقي أو اللاتيني؛ فهي لا تحمل إرثاً معادياً للإسلام ومؤشرات نموها وموقعها وأثرها على منطقتنا كبير. وأعتقد أن المردود الإيجابي من التحاور معهم سيفتح لنا بعداً قيمياً في علاقتنا، وخياراً إستراتيجياً يعادل موازين القوى في العالم. وهذا ما نحتاجه من مراكزنا البحثيّة أن تكرّس جهدها في دراسة تلك المجتمعات، وفتح الأفق للتبادل المعرفي ونشر قيمنا الإسلاميّة فيها.
فإذا أردنا مستقبل حوار ناجح مع الآخر فهو لمن يمدّ يده ليسلم ويصافح، وليس لمن يمدّها ليخادع بالتسامح!!(/2)
نحن والحلول الشرعية
قال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً[2]وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2ـ3].
في سبب نزول هذه الآية أن رجلاً يقال له: عوف بن مالك الأشجعي كان له ابن وإن المشركين أسروه، فكان فيهم، وكان أبوه يأتي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيشكوا إليه مكان ابنه وحاله التي هو بها وحاجته، فكان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يأمره بالصبر والإكثار من: لا حول ولا قوة إلا بالله ويقول له:ـ 'إن الله سيجعل لك فرجًا'.
فلم يلبث بعد ذلك إلا يسيرًا أن انفلت ابنه من أيدي العدو فمر بإبل من إبل العدو فاستاقها فجاء بها إلى أبيه فنزلت الآية.
ُترى ماذا كان يحتمل في ذهن هذا الأب وهو يتوجه طالبًا الحل من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإن الاحتمالات التي ترد في عقولنا كإجابات لهذا السؤال لا تتجاوز الآتي:
1ـ أن يخبره الرسول صلى الله عليه وسلم بقرب مسير جيش إلى العدو فيتفاءل بقرب فلك أسر ابنه.
2ـ أن يرسل الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى العدو طالبًا فكاك أسر الابن مقابل فدية تدفع حين يستنقذه من أيدي المشركين.
3ـ أن يرفع الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يديه بالدعاء بفك أسر ولدهما.
4ـ أن يخبره الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن حال ابنه الآن تفصيلاً بكشف الله تعالى له فيطمئن عليه.
5ـ أن يأمره الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بسفر أو ما شابه ليحاول استنقاذ ولده بنفسه. ولكن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يفعل شيئًا من ذلك، بل إنه حتى ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يرفع يديه بالدعاء لفك اسر الابن [على الأقل ليس على مرأى من الأب].
بل وجه الأب إلى أن يكثر هو والأم من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله. فقط.
تريد أن يفك أسر ابنك أكثر من قول: 'لا حول ولا قوة إلا بالله'.
وهنا يستوقفنا سؤال:
ألم يكن بوسع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ القيام بواحد من الأمور التي جاء الرجل راجيًا في ذهنه من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم بها؟
بلى كان بوسعه إخباره عن جيش أو سرية تقوم قريبًا لفك أسر مسلم، أن يرسل الفدية لاستنقاذه، وأن يرفع يديه بالدعاء لفك أسره وهو الذي إذا دعا أجابه الله تعالى، لكن كلا لم يفعل صلى الله عليه وسلم شيئًا من ذلك. لم؟
لقد أتى الرجل طالبًا الحل عند رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لكن لفت انتباهه إلى الحل الذي يتسم بسمات:
الأولى: الحل عندك.
الثانية: الحل في حسن ظنك ورجائك في الله تعالى.
الثالثة: الحل له شق عملي وهو الالتزام بذكر معين 'لا حول ولا قوة إلا بالله'.
الرابعة: الحل يشترط الإكثار من الذكر لا مجرد قوله.
ما علاقة هذا الحل بفك أسر الابن من أيدي الأعداء؟
العلاقة لا شيء، وكل شيء.
لا شيء للباحث عن حل مادي ملموس تراه الأعين
وكل شيء لصاحب اليقين بالله الواثق بعلمه وقدرته والفرق بينهما كالفرق بين السماء والأرض.
أحدهما حدوده الأرض وما تحمل، والآخر مطلق الحدود، فلا راد لأمر الله، ولا معطي لما يمنع، ولا مانع لما يعطي سبحانه.
ترى كيف كان تفاعل الرجل صاحب المشكلة مع هذا الحل؟
لقد كان بوسعه أن يقترح على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حلاً من الحلول الدائرة في ذهنه، كان بوسعه أن يطلب منه أن يدعو لولده، لكنه أخذ الحل وانصرف ليس استغناءً عن دعاء النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لكن يقينًا وثقة وقناعة بالحل.
ويتضح ذلك جليًا في رد فعله وكيفية تفاعله حيث أوصى زوجه باتباع أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإكثار من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله.
بل والأعجب من ذلك استمرارها على الإكثار من هذا الذكر وهما على يقين أنه الحل لمدة أيام حتى قدم عليهم الابن، وقد ساق إبلاً كثيرة. حرية ومال، وهذا أعظم مما كان يطلب الأبوان الابن سليم معافى بفضل الله تعالى، ويرزقه الله نعمًا يسوقها في طريقه إلى المدينة.
والأعجب من العجب كيفية فراره، إذ يحكى كيف انفك قيده الحديد فجأة، وحرسه حوله، وكم حاولوا مرات عديدة من إحكامه عليه ثم يعود لينفك، فأطلقوا سراحه.
هم الذين أسروه وهم الذين أطلقوا سراحه، هكذا يكون الحل الرباني.
{فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} رسالة يبعثها الله تعالى إلى كل مؤمن به' قل إن الأمر كله لله'.
من أسره أطلقه وكله بأمر رب العالمين، كأني بالموقف من أوله إلى آخره امتحان يقين الأب والأم في الله تعالى.
عزيزي الأب .. عزيزتي الأم:(/1)
في أول سورة في المصحف بعد الفاتحة: { ألم[1]ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ..} [البقرة:2] هذه أولى صفاتهم وأعظم صفاتهم، وإنك لتلمح مواقف الاختبار والامتحان التي يتعرض لها العبد في الدنيا فترى مدارها كلها على الإيمان بغيب الله تعالى، فعند الأذى تصبر فالعاقبة هناك ونعمة, فاحذر أن تكون فتنة هناك فاشكر، وهكذا إنما يمتحن الله فينا نحن معاشر الآباء والأمهات إيماننا بالغيب في أبنائنا، وتأمل مصيبة فقد الواحد لابنه كيف يدور الحوار الرباني مع الملائكة:ـ
'قبضتم ولد عبدي .. قبضتم ثمرة فؤاده.. فيقولون: نعم يا رب. فيقول: وما فعل عبدي؟ 'وهو أعلم سبحانه: 'فيقولون: أي رب حمدك واسترجع [آمن بالغيب فرأى موعود الله تعالى] فيقول الله تعالى: 'ابنوا لعبدي بيتًا في الجنة وسموه بيت الحمد'.
وسيلقاه يوم القيامة ويكون سببًا في دخول هذا الأب والأم الجنة، فخلود بلا موت، وكأني بهذا الموقف في الدنيا مشهد امتحان لذلك المقام.
وهكذا يمتحن الله فينا إيماننا بالغيب وثقتنا به سبحانه ـ ويقيننا بعد له ورحمته وفضله وكرمه.
* ومشهد آخر نرقبه من بعيد مشهد الأب المكلوم بفقد ولده الحبيب يوسف عليه السلام ـ واستشعاره لكيد إخوته له، لكنه يزخر قلبه بصرخات اليقين لله وبث الشكوى إليه وحده سبحانه {قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ}.
يعلم من الله تعالى علمه وفضله وكرمه وبره بعباده وإحسانه غليهم ورحمته بهم، ولا يخيب الله ظنه فيكرمه و ويتفضل عليه ويبر به ويحسن إليه ويرحمه {فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ}.
نعم لقد علمت ما لا يعلمون من الله تعالى فرزقك الله الصبر والدعاء والثبات والطمأنينة إلى ما تعلم من الله {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} وعبرت الغمة وزالت بفضل الله تعالى وحده، ووفقت في الامتحان بعلمك من الله تعالى ما لا يعلمه غيرك وثقتك في رحمته وفضله وكرمه.
ومن نظر إلى شرائع الإسلام رأى الله تعالى يعامل العباد على قدر يقينهم بالغيب، وتأمل مثلاً الحل لمن أصابته ضائقة مالية ستجده من أعجب ما يكون، فمن ضاقت عليه الدنيا وفقد المال الحل الرباني له هو الصدقة والإنفاق، قال تعالى في الحديث القدسي: 'يا بن آدم أنفق ينفق عليك' وفي رواية 'أنفق أُنفق عليك'.
وينادي الملك كل صباح 'اللهم أعط منفقًا خلفًا، اللهم أعط ممسكًا تلفًا'.
إنه تصحيح التصور، لكن هذا الحل مستحيل وسهل ميسر:
مستحيل لأهل المادة والحلول العلمية الملموسة بالأيدي المنظورة بالعين.
وسهل ميسر لأهل اليقين بالله تعالى الذين يعلمون منه تعالى ما لا يعلمه الآخرون. والأمثلة، على ذلك كثيرة متواترة.
عزيزي الأب .. عزيزتي الأم:
الحلول سهلة ميسرة موجودة تستلزم من اليقين يقين يعقوب عليه السلام، وثبات أم موسى {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} فألقته بيقينها، فحقق الله موعده بفضل ثقتها. فأقبل على الحل الشرعي بيقين وثقة تنل فوق ما ترجو وأعظم مما تأمل. {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً}.(/2)
نحن والغرب والهوية نصر الدين أبشر*
اهتم الغربيون بالأفكار والظواهر والبحوث والعلوم اهتماماً مجرداً من أي رائحة سماوية؛ فلا طعم لوحي فيه، ولا فضل يردونه لمن سبقهم من الباحثين والعلماء وخاصة لو كانوا مسلمين، كما أن أغلب الأفكار والاختراعات الغربية تجد وراءها العسكريين والدوائر الاستخبارية.
أما العلوم التي جاءتهم من المسلمين – بحتة أو غير بحتة – فقد تسببت في تقدمهم المادي، وغيرت في مدنيتهم وسلوكهم الحضاري كثيراً؛ حيث لم تتجل الألفاظ العربية شاهدة على هذا في المصطلحات العلمية فحسب، ولا أسماء علماء المسلمين عندهم؛ بل بداية من التحية Hello، أو هلاً، والاستئذان please، أو بالإذن؛ مروراً بالتعامل مع نظرائهم another's؛ حسب القوانين canons، والعدالة والقسط just؛ حتى تأقلموا aclmise؛ على بيئة المسلمين، وحضارتهم، وكلامهم..
لكن الإعلام يردد وينوع أكذوبة أن الإسلام غير صالح لعصرنا، وتتضافر معه أساليب ووسائل التنشئة المغلوطة، والتاريخ المكذوب، والحقائق المبدلة.. ويردد هذه الأكذوبة حتى بعض أبناء الإسلام بحجة تطويره.. وتجد هذه الدعاوى طريقها بين الناس؛ لأنهم أكثر استعدادا لتصديق كذبة تذكر مائة مرة منهم لقبول حقيقة تسمع مرة؛ كما تقول الحكمة عن طبيعة البشر..
ولأنا فصمنا أنفسنا - إلا من رحم الله - عن وحي السماء؛ وصارت لا قيمة للبحث الموضوعي الجاد عندنا رغم اهتمامنا بالعلوم رسخ في كثير من الأذهان أن المسلمين هم أهل التخلف الحضاري والمدني، وهم في حاجة لحضارة الغرب الفريدة بما فيها ومن فيها.. وزاد المسلمون تخلفاً بانشغالهم بمحاربة المستعمرات الفكرية داخل عقول بعض المسلمين.
فإن كانت الحضارة الإسلامية ليست ذات أثر بالغ، وليست هي أساس حضارة أوروبا ومدنيتها المتغولة colonist فمن أين امتلأت قواميسهم بالألفاظ العربية الواضحة؟!.. علّ هذا ما شهد به جورج سارتون في كتابه المدخل إلى تاريخ العلوم؛ حيث أورده على سبيل الدفاع في كتابه (العلوم البحتة في الحضارة العربية والإسلامية) مع بعض الشهادات التي سأذكرها؛ حيث قال: (كانت اللغة العربية في منتصف القرن الثامن حتى نهاية القرن الحادي عشر الميلادي لغة العلم الارتقائية للجنس البشري؛ حتى إنه كان يستوجب على من أراد أن يلمّ بثقافة عصره، وبأحدث صوره أن يتعلم اللغة العربية).. بل وقال: (كتبت أعظم المؤلفات قيمة، وأكثرها أصالة، وأغزرها مادة باللغة العربية خلال العصور الوسطى)..
إذن فلن أستغرب حين أجد القاموس الإنجليزي مليئا بمثل الكلمات العربية: straight، street، arena، gide، captain، sigar، cave، start، وغيرها، وغيرها؛ ولكن هل يغطون الشمس بالأصابع؟!.. هذا ما ذكره لوسيان سيديو في كتابه (تاريخ العرب) من ذات المصدر: (ولقد حاولنا أن نقلل من شأن العرب، ولكن الحقيقة ناصعة؛ يشع نورها من جميع الأرجاء؛ وليس من مفر أمامنا إلا أن نرد لهم ما يستحقون من عدل إن عاجلاً أو آجلاً.. وقال في كتابه هذا: (خلال العصر الذهبي للحضارة الإسلامية تكونت مجموعة من أكبر المعارف الثقافية في التاريخ، وظهرت منتوجات ومصنوعات متعددة، واختراعات ثمينة؛ تشهد بالنشاط الذهني المدهش في هذا العصر؛ وجميع ذلك تأثرت به أوروبا؛ بحيث ينبغي القول بأن العرب كانوا أساتذتها في جميع فروع المعرفة)..
ومن الشهادات التقديرية التي منحها الغربيون للحضارة الإسلامية كذلك شهادة يرونلت في كتابه (تكوين الإنسانية) حيث قال: (العلم أعظم ما قدمته الحضارة الإسلامية إلى العالم الحديث عامة، والجدير بالذكر أنه لا توجد ناحية من نواحي النمو الحضاري إلا ويظهر للإنسان فيها أثر الحضارة والثقافة العربية، وأن أعظم مؤثر هو الدين الإسلامي؛ الذي كان المحرك للتطبيق العلمي على الحياة.. وأن الادّعاء بأن أوروبا هي التي اكتشفت المنهج التجريبي ادّعاء باطل، وخال من الصحة جملة وتفصيلاً).
مثل هذه الشهادات ينبغي أن يسمعها كل العالم؛ بكل اللغات؛ طالما تعذر سماعها باللغة العربية؛ بعد خصيها، وإقصائها، وغليها، وقليها.
فمن المضحك الذي يبكي أن يصير اللفظ العربي بمعناه عند الأوروبيين، ويتغير عندنا لفظاً؛ ككلمة كحول، وربما لفظاً ومعنى ككلمة تغوَّل colonization؛ مع اختلاف المخارج الحرفية، وصيغ الاشتقاق.. ولأن هذا اللفظ الأخير مرعب حتى إنا لنخيف به الأطفال (غول)، ودول الغرب هي الأنموذج الظاهر لشرح معناه أبدلوه لنا في ألفاظنا بكلمة (استعمار)؛ لطيفة الحروف، جميلة المعنى؛ كدليل واضح على توجيههم لحضارتنا وهويتنا وتاريخنا.. بل عندما استهلكنا اللفظ الجديد؛ لكثرة ما عكس حقيقة التغول الغربي - قدموا لنا كلمة (المستوطنات)؛ كبديل آخر من ألفاظ الاستعمار الحديثة..(/1)
وعندما يصنع الغرب لغتنا الجديدة، وديننا الجديد، ويدرسنا تاريخنا من زاوية سوداء، وتاريخه من زاوية ناصعة مكذوبة؛ حتى نمجد هنري الملاح، وفاسكوديجاما (قتلة المسلمين) وتنسب لهم زوراً الفتوح، وعندما يوجه تفكيرنا لا يأمرنا بذلك أمراً؛ وإنما هي أطياف ظريفة؛ تسوق الناس مع خطى الشيطان، ونسمات لطيفة تجري مجرى الدم؛ لنجد بعدها أعناقنا محنية، وعيوننا تنظر تحت الأقدام؛ بحثاً عن الهوية، وأيدينا ماسكة بها أوروبا لتهدينا.. نعم طالما أنهم أغنونا عن البحث في حضارتنا؛ فبحثوها - وما زالوا – وصنفوها، وبوّبوها، وفهرسوها، وأظهروا لنا منها ما أرادوا، ودلسوا ووسوسوا فيما أرادوا؛ فانبهرنا بجهدهم فيها؛ لا بها ولا بمن أسسوها؛ فهل ننكر أن أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم قام بجمعها وفهرستها مستشرقان فقط في مؤلف ضخم من عدة مجلدات، وأن طوائف المسلمين ونحلهم قاموا بدراستها وتصنيفها مستعينين بكتابات وبحوث المسلمين بل حتى طوائف وأديان غير المسلمين؟، وهل نكذب أنه حتى في أيامنا هذه الآن قاموا باستقراء كل المسلمين وخلصوا إلى تصنيفهم إلى أربعة أكوام، إما أصوليون، أو علمانيون، وإما حداثيون أو تقليديون؟، أم ننكر أننا إذا أردنا أن نتعرف على الأحوال العالمية لكل شيء في أي بلد سنستعين بالدوريات العلمية لهم، أو مراكز المعلومات عندهم؛ كالدورية التي تصدر كل عام من نيويورك World Almanak & book of facts
لن نستطيع الإنكار؛ ولكننا لن نتنكر لحضارتنا؛ وإن آلت لغيرنا.(/2)
نحن والقرآن د. عبد الرحمن صالح العشماوي*
في رمضان الكريم تشرق كثير من بيوت المسلمين بنور القرآن الكريم، وتتردَّد في جنباتها تلاوات أفراد الأُسرة صغاراً وكباراً بصورة تحرِّك مكامن السعادة في القلوب، والناس في هذا أصناف كثيرة ما بين مكثرٍ ومقلٍّ، ومقبلٍ ومُدْبر، وغافلٍ ومتدبِّر، ولا شك أنّ سماع أصوات تلاوة القرآن الكريم يسعد القلب، ويرقى بالروح، ويستمطر أحياناً دموعاً ساخنةً لها لذَّةٌ خاصة في قلوب من يذرفونها.
القرآن ... هذا الكلام الإلهي المعجز الذي يتجدَّد معنى، ويتألَّق لفظاً كلَّما تلاه الإنسان أو سمعه، إلى درجةٍ يكاد يشعر معها الإنسان أنّه لم يقرأ ولم يسمع مع أنّه كثير القراءة كثير السماع.
وهنا تأتي أهميَّة التدبُّر لمعاني القرآن، والتأمُّل لما فيه من البلاغة والبيان، والتعرُّف على ما فيه من العبر والمواعظ، لأنّ القارئ المتدبِّر لكتاب الله يجد من المتعة والفائدة ما لا يجده القارئ المتعجِّل الذي يردِّد الآيات دون التدبُّر في جوانبها الإعجازية العظيمة.
إنَّ فرصة الإقبال من أكثر المسلمين على تلاوة القرآن الكريم لا تعوَّض بثمن، وإنَّ توجيه المسلمين والمسلمات إلى تدبُّر القرآن وتأمُّله أثناء تلاوتهم له مهمُّ جدّاً للرقيِّ بالنفوس، وراحة القلوب، وتقويم السلوك، وفتح نوافذ الكون بكلِّ ما فيه أمام الإنسان من خلال القرآن الكريم.
قال صاحبي: حانت منِّي رغبةٌ قويَّة في التعرُّف على معاني آياتٍ كنتُ أقرؤها من سورة (آل عمران)، فلمّا تأمّلتها وعرفت ما ورد من التفسير فيها شعرت أنّني أمام معانٍ عظيمة لم أنتبه إليها من قبل، مع أنّني أختم القرآن الكريم في كلِّ رمضان - بفضل الله -.
وقفت عند قوله تعالى: {وَلاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ اللّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ، إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ لَن يَضُرُّواْ اللّهَ شَيْئًا وَلهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ}.
ثم استرجعت بذاكرتي صور الذين يسارعون في الكفر الصريح الواضح في عصرنا هذا، وتأمَّلْتُ حالة المسلمين الذين يرون جبروت بعض الدول الكافرة وطغيانها في هذا العصر ويتساءل بعضهم: إلى متى هذا، وتأمَّلْتُ ما يقوله أولئك الكفار من عبارات وتصريحات تدلُّ على أنّهم يعيشون سكرة الاغترار بالقوة المادية، والسيطرة، والقدرات العلمية الهائلة، ويظنون أنّهم أوصياء على خلْق الله ويشيرون بطرق متعدِّدة إلى أنَّهم يسعون إلى زيادة السيطرة على العالم لأنّهم أقوياء.
ثم راجعت معاني الآيات الكريمات فهدأت نفسي، وظهرت الصورة واضحةً أمام عيني: (إنَّّه الإملاء الإلهي) و(الإمهال الربَّاني) للمتكبِّرين في الأرض، لماذا هذا الإملاء؟ تجيب الآية مباشرة {لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا} وتؤكِّد مباشرة أنّ لهم عند ربِّهم عذاباً مهيناً، وأنّ لهم عنده عذاباً عظيماً، ومتى يكون هذا العذاب؟ الآيات الكريمات تركت مسألة التوقيت مفتوحة، فهو محتمل أن يكون في الدنيا معجَّلاً، مع كونه حاصلاً في الآخرة لا محالة.
وقد يتساءل الإنسان؟ ماذا أصنع أنا في مقابل هذا الإملاء الإلهي للكفار والطغاة؟ فتأتي الآية التالية لهذه الآيات مجيبة عن هذا السؤال: {مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاء فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ}.
هنا يظهر الجواب جليَّاً، وهنا يشعر الإنسان المسلم بمسؤوليته أمام ما يجري، وأنْ يعلم أنّ الإملاء والإمهال للكفار، يقابله الابتلاء للمؤمن والاختبار، حتى يتبيَّن الخبيث من الطيِّب، وحتى تظهر حقيقة علاقة الإنسان المؤمن بربِّه في خضمِّ الأحداث، وأنَّه مسؤول عن هذه العلاقة مسؤولية مباشرة، وأنّ إيمانه بالله ورسله إيماناً قويّاً هو المنقذ من حالة الحزن التي تعتريه بسبب الإمهال لأهل الكفر والضلال، وفي بداية الآيات المذكورة هنا أمرٌ إلهي للإنسان المسلم بألاّ يحزن {وَلاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ}، لماذا لا نحزن، لأنَّ أمرهم إلى الله، ولأنّهم لا يضرُّون الله شيئاً، ولأنّ إيمانك بربِّك هو المنقذ لك من حزنك وألمك، ومن طغيانهم وجبروتهم.(/1)
وتحسم الآيات التي تأتي بعد هذه الآيات في أواخر سورة آل عمران الموقف بوضوح في قوله تعالى: {لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ، مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ}، ويكون الحسم النهائي للمؤمن بالله، ولكلِّ مسلم واثق بربِّه في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}، صبرٌ ومصابرةٌ ومرابطةٌ على الحق وتقوى لله، هي طريق الفلاح.
هكذا وقفت أمام هذه الآيات الكريمات متدبِّراً متأمِّلاً فكانت هذه المعاني العظيمة التي لا يمكن أن يصل إليها القارئ المتعجِّل، مع أنّ أجر التلاوة حاصل للإنسان في كلِّ الحالات بإذن الله تعالى.
نحن والقرآن في رمضان، تلاوة وتدبُّر وأجرٌ وفيرٌ، وعملٌ بما فيه من الخير، وهنا مكمن السعادة.
إشارة
أيُّها الفجر، لا عدمتك فجراً** تسكب النور في خلايا سهولي(/2)
نحن والمزاح
عبدالملك القاسم
دار القاسم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وبعد:
فإن الإنسان مدني بطبعة، ومع اتساع المدن وكثرة الفراغ لدى بعض الناس، وانتشار أماكن التجمعات العامة كالمنتزهات والاستراحات، وكثرة الرحلات البرية، والاتصالات الهاتفية، واللقاءات المدرسية، والتجمعات الشبابية، توسع كثير من الناس في المزاح مع بعضهم البعض، دون ضابط لهذا الأمر الذي قد يؤدي إلى المهالك، ويورث العداوة والبغضاء.
والمراد بالمزاح: الملاطفة والمؤانسة، وتطييب الخواطر، وإدخال السرور. وقد كان هذا من هدي النبي كما ذكر ذلك البخاري في باب الانبساط إلى الناس مستدلاً بحديث: { يا أبا عمير ما فعل النغير }.
وكذلك ما رواه أبو داود عن أنس أن رجلا أتى النبي فقال: يا رسول الله احملني. فقال النبي : { إنا حاملوك على ولد الناقة } قال وما أصنع بولد الناقة؟ فقال النبي : { وهل تلد الإبل إلا النوق }.
وعن أنس أن النبي قال له: { يا ذا الأذنين } يمازحه [رواه الترمذي].
ولا شك أن التبسط لطرد السأم والملل، وتطيب المجالس بالمزاح الخفيف فيه خير كثير، قال ابن تيمية رحمه الله: " فأما من استعان بالمباح الجميل على الحق فهذا من الأعمال الصالحة"، وقد اعتبر بعض الفقهاء المزاح من المروءة وحسن الصحبة، ولاشك أن لذلك ضوابط منها:
1- ألا يكون فيه شيء من الإستهزاء بالدين:
فإن ذلك من نواقض الإسلام قال تعالى: وولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون، لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم [التوبة:65-66]، قال ابن تيمية رحمه الله: "الاستهزاء بالله وآياته ورسوله كفر يكفر به صاحبه بعد إيمانه".
وكذلك الاستهزاء ببعض السنن، ومما انتشر كالإستهزاء باللحية أو الحجاب، أو بتقصير الثوب أو
غيرها.
قال فضيلة الشيخ محمد بن معثيمين - رحمة الله - في المجموع الثمين (1/ 63): "فجانب الربوبية والرسالة والوحي والدين جانب محترم لا يجوز لأحد أن يبعث فيه لا باستهزاء، ولا بإضحاك، ولا بسخرية، فإن فعل فإنه كافر، لأنه يدل على استهانته بالله عز وجل ورسله و كتبه وشرعه، وعلى من فعل هذا أن يتوب إلى الله عز وجل مما صنع، لأن هذا من النفاق، فعليه أن يتوب إلى الله ويستغفر ويصلح عمله ويجعل في قلبه خشية الله عز وجل وتعظيمه وخوفه ومحبته، والله ولي التوفيق".
2- ألا يكون المزاح إلا صدقا:
قال : { ويل للذي يحدث فيكذب ليضحك به القوم ويل له } [رواه أبو داود].
وقال محذرا من هذا المسلك الخطير الذي اعتاده بعض المهرجين: { إن الرجل ليتكلم بالكلمة ليضحك بها جلساءه يهوي بها في النار أبعد من الثريا } [رواه أحمد].
3- عدم ا لترويع:
خاصة ممن لديهم نشاط وقوة أو بأيديهم سلاح أو قطعة حديد، أو يستغلون الظلام وضعف بعض الناس ليكون ذلك مدعاة إلى الترويع والتخويف، عن ابن أبي ليلى قال: حدثنا أصحاب محمد أنهم كانوا يسيرون مع النبي ، فنام رجل منهم فانطلق بعضهم إلى حبل معه فأخذه ففزع، فقال رسول : { لا يحل لمسلم أن يروع مسلما } [رواه أبو داود].
4- الإستهزاء والغمز و اللمز:
الناس مراتب في مداركهم وعقولهم وتتفاوت شخصياتهم، وبعض ضعاف النفوس - أهل الاستهزاء والغمز واللمز - قد يجدون شخصا يكون لهم سلما للإضحاك والتندر - والعياذ بالله - وقد نهى الله عز وجل عن ذلك فقال تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان [الحجرات:11]، قال ابن كثير في تفسيره: "المراد من ذلك احتقارهم واستصغارهم والإستهزاء بهم، وهذا حرام، ويعد من صفات المنافقين".
والبعض يستهزي بالخلقة أو بالمشية أو المركب ويخشى على المستهزىء أن يجازيه الله عز وجل بسبب استهزائه قال : { لا تظهر الشماتة بأخيك، فيرحمه الله ويبتليك } [رواه الترمذي].
وحذر من السخرية والإيذاء؛ لأن ذلك طريق العداوة والبغضاء قال : { المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره، التقوى ها هنا - ويشير إلى صدره ثلاث مرات - بحسب إمرىء من الشر أن يحقر أخاه المسلم. كل المسلم على المسلم حرام؟ دمه، وماله، وعرضه } [رواه مسلم].
5- أن لا يكون المزاح كثيرا:
فإن البعض يغلب عليهم هذا الأمر ويصبح ديدنا لهم، وهذا عكس الجد الذي هو من سمات المؤمنين، والمزاح فسحة ورخصة لاستمرار الجد والنشاط والترويح عن النفس.
قال عمر بن عبد العزيز - رحمه الله -: "اتقوا المزاح، فإنه حمقة تورث الضغينة".
قال الإمام النووي - رحمه الله -: "المزاح المنهي عنه هو الذي فيه إفراط ويداوم عليه، فإنه يورث الضحك وقسوة القلب، ويشغل عن ذكر الله تعالى: ويؤول في كثير من الأوقات إلى الإيذاء، ويورث الأحقاد، ويسقط المهابة والوقار، فأما من سلم من هذه الأمور فهو المباح الذي كان رسول الله يفعله".(/1)
6- معرفة مقدار الناس:
فإن البعض يمزح مع الكل بدون اعتبار، فللعالم حق، وللكبير تقديره، وللشيخ توقيره، ولهذا يجب معرفة شخصية المقابل فلا يمازح السفيه ولا الأحمق ولا من لا يعرف.
وفي هذا الموضوع قال عمر بن عبد العزيز: "اتقو المزاح، فإنه يذهب المروءة".
وقال سعد بن أبي وقاص: "اقتصر في مزاحك، فإن الإفراط فيه يذهب البهاء، ويجرىء عليك السفهاء".
7- أن لا يكون المزاح بمقدار الملح للطعام:
قال : { لا تكثر الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب } [صحيح الجامع:7312].
وقال عمر بن الخطاب - -: "من كثر ضحكه قلت هيبته، ومن مزح استخف به، ومن أكثر من شيء عرف به".
فإياك إياك، المزاح فإنه *** يجرىء عليك الطفل والدنس النذلا
ويذهب ماء الوجه بعد بهاءه *** ويورثه من بعد عزته ذلا
8- ألا يكون فيه غيبة:
وهذا مرض خبيث، ويزين لدى البعض إنه يحكى ويقال بطريقة المزاح، وإلا فهو داخل في حديث النبي : { ذكرك أخاك بما يكره } [رواه مسلم].
9- اختيار الأوقات المناسبة للمزاح:
كأن تكون في رحلة برية، أو في حفل سمر، أو عند ملاقاة صديق، تتبسط معه بنكتة لطيفة، أو طرفة عجيبة، أو مزحة خفيفة، لتدخل المودة على قلبه والسرور على نفسه، أو عندما تتأزم المشاكل الأسرية ويغضب أحد الزوجين، فإن الممازحة الخفيفة تزيل الوحشة وتعيد المياه إلى مجاريها.
أيها المسلم:
قال رجل لسفيان بن عيينة - رحمه الله -: المزاح هجنة - أي مستنكر - فأجابه قائلا: "بل هو سنة، لكن لمن يحسنه ويضعه في مواضعه".
والأمة اليوم وإن كانت بحاجة إلى زيادة المحبة بين أفرادها وطرد السأم من حياتها، إلا أنها أغرقت في جانب الترويح والضحك والمزاح فأصبح ديدنها وشغل مجالسها وسمرها. فتضيع الأوقات، وتفنى الأعمار، وتمتلىء الصحف بالهزل واللعب.
قال : { لو علمتم ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا } قال في فتح الباري: "المراد بالعلم هنا ما يتعلق بعظمة الله وانتقامه ممن يعصيه، والأهوال التي تقع عند النزع والموت وفي القبر ويوم القيامة". وعلى المسلم والمسلمة أن ينزع إلى اختيار الرفقة الصالحة الجادة في حياتها ممن يعينون على قطع ساعات الدنيا والسير فيها إلى الله عز وجل بجد وثبات، ممن يتأسون بالأخيار والصالحين، قال بلال بن سعد: "أدركتهم يشتدون بين الأغراض، ويضحك بعضهم إلى بعض، فإذا كان الليل كانوا رهبانا".
وسئل ابن عمر رضي الله عنهما: "هل كان أصحاب رسول الله يضحكون؟
قال: نعم، والإيمان في قلوبهم مثل الجبال".
فعليك بأمثال هؤلاء، فرسان النهار، رهبان الليل.
جعلنا الله وإياكم ووالدينا من الآمنين يوم الفزع الأكبر، ممن ينادون في ذلك اليوم العظيم: ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(/2)
نحو بناء مؤمن فعال ...
'يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها، قالوا: أو من قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: كلا بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله المهابة من قلوب عدوكم ، وليقذفن في قلوبكم الوهن، قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت'.
بهذا الحديث والذي يعد علمًا من أعلام النبوة، يوصف لنا النبي صلى الله عليه وسلم وبدقة متناهية واقعنا المرير الذي تحياه أمة الإسلام في هذا الزمان، فعلى الصعيد الخارجي ها هي أمم الكفر من اليهود والصليبيين قد تداعت علينا، كل يريد أكل نصيبه من قصعة الإسلام، والتي أصبحت حلاً مستباحًا لكل من هب ودب من أعداء الله، ففي الوقت الذي ما زال فيه جرح الأمة يسيل في القدس الشريف، اذ بها تبتلي بجراح أخرى لا تقل عنها نزفا في الشيشان، ثم في أفغانستان وأخيرًا في العراق والبقية تأتي.
وعلى الصعيد الداخلي: فالمأساة أقوى وأشد، فقد انحرفت جماهير الأمة عن شرع الله تعالى، انتشر الفساد وخربت الأخلاق، وعرفت الشعوب في حب الشهوات والملذات، وعطلت أحكام الله تعالى، دب الوهن في قلوب المسلمين، وتخلفوا عن ركب الحضارة والتقدم، انتشر الجهل والتخلف أصبحنا في ذيل الأمم، نتقوت على فتات الحضارة الغربية، بعد أن كنا أساتذة النهضة والمدنية، ساد فينا نموذج العاجز الكسلان بعد أن كنا فرسان الإنجاز والفاعلية، ضاع منا زمام القيادة بعد أن كنا قد:
ملكنا هذه الدنيا قرونا ... وأخضعها جدود خالدونا
وسطرنا صحائف من ضيا ... فما نسي الزمان ولا نسينا
ولكن:
وما فتئ الزمان يدور حتى ... مضى بالمجد قوم آخرونا
وأصبح لا يرى في الركب قومي ... وقد عاشوا أئمته سنينا
وآلمني وآلم كل حر ... سؤال الدهر .. أين المسلمونا؟
ويقف المؤمن الحر أمام هذا الواقع متفكرًا أين المخرج؟
ما السبيل إلى عودة هذه الأمة لتسلم لواء السيادة الذي أوجب الله عليها حمله {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة:143].
{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110].
ما الطريق إلى تبوأ أمتنا لهذه المكانة العلية؟ واعتلائها لذري المجد والسؤدد والحضارة والتقدم، والعزة والتمكين، والجواب أن هذا الطريق الشاق يبدأ منك أنت أخي المؤمن، بهذا أخبرنا الله تعالى في كتابه: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:11].
إن الطريق إلى بناء الأمة يبدأ من بناء الفرد المؤمن، ولكنه البناء الكامل الشامل وحده الذي يمكن أن يحدث النهضة، إننا نريد نموذج المؤمن الفعال لا المؤمن العاجز السلبي ذلك أن مهمة النهوض بهذه الأمة من كبوتها الحالية مهمة شاقة عسيرة لا يكفي للقيام بها عاجز ضعيف الشخصية، ناقص القدرات والمهارات حتى لو كان على قدر كبير من الصلاح والتقوى، إننا نخطئ كثيرًا حينما لا نفصل بين منزلة الإنسان عند ربه والتي معيارها التقوى والطاعة، وبين صلاحية هذا الإنسان لتولي زمام القيادة، ومهمة التغيير، وهذا نبينا صلى الله عليه وسلم يقول في أبي ذر رضي الله عنه: 'ما أقلت الغبراء أصدق لهجة من أبي ذر'.
ومع ذلك يمنعه صلى الله عليه وسلم من تولي القيادة فقال له: 'يا أبا ذر إني أراك ضعيفًا فلا تولين إمرة اثنين'. وما ضر ذلك أبا ذر ـ رضي الله عنه ـ ولا نقص من قدره شيئًا بعد أن انتصب أستاذًا في الزهد، وتربية المسلمين بالقدوة واللسان الدعوى الناطق، ولكن لكل مهمة مقوماتها، ولكل دور رجاله، وكل ميسر لما خلق له.
ومجتمعاتنا اليوم تنوء بأثقال السلبية والتخلف تترك آثارها ولا شك على كل مؤمن، ولذلك لا بد أن نعلم أن المؤمن التقي الصالح الذي يفتقد الشخصية القوية المؤثرة، ذات المهارات والقدرات قد لا يستطيع أن ينهض بحمل الأمانة، والقيام بالمسئولية، من أجل ذلك فيجب أن نعمل في هذه الأيام على بناء المؤمن القوي الفعال الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: 'المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف'.
وفي طريق البناء المنشود نحتاج إلى منهج واضح لبناء هذا النموذج الفذ ولا بد أن يقوم هذا المنهج على ركيزتين أساسيتين:
1ـ بناء الإيمان.
2ـ بناء القوة في الشخصية عبر إتقان فنون التأثير والفاعلية.(/1)
ولقد استفاضت المكتبة الإسلامية في بيان الركيزة الأولى وهي الإيمان، أما الركيزة الثانية فهي التي فيها الندرة، وهي موضع هذه السلسلة بإذن الله تعالى، نحاول فيها أن نضع منهاجًا عمليًا لبناء الشخصية الفعالة التي تملك من فنون التأثير ومقومات الإنجاز والريادة ما يجعلها أهلاً لإحداث النهضة الشاملة في أمة الإسلام، وذلك عبر استخدام ما توصل إليه علماء الإدارة والتنمية البشرية في الحضارة الغربية بعد وزنه بميزان الشريعة، والتعامل معه بروح الانتقاء الاستعلائي بدلا عن التبعية العمياء والانبهار الذليل، فالحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها، والعلم التجريبي ميراث بين الأمم، وما قامت الحضارة الغربية إلا بعد أن اقتبست أسس النهضة من جامعات المسلمين في الأندلس من خلال فرانسيس بيكون وغيره من مؤسسي النهضة الغربية، وعلى ذلك فعلينا نحن أن نعيد الكرة ونأخذ مما عندهم ما يفيدنا وينفعنا ولكن من خلفيتنا العقدية، وموازيننا الشرعية، فنأخذ عن علم، ونستفيد بوعي، ونضيف بحكمة، وما أكثر ما نستطيع إضافته من الإسلام إلى فنون الفاعلية، وكما يقول الشيخ الغزالي رحمه الله: ' وللفطرة في بلاد الإسلام كتاب يتلى ودروس تلقى وشعوب هاجعة، ولها في بلاد أخرى رجال ينقبون عن هداياتها كما ينقب المعدنون عن الذهب في أعماق الصحارى، فإذا أظفروا بشيء منه أغلوا قدره واستفادوا منه، وصدق من قال: الناس رجلان: رجل نام في النور ، ورجل استيقظ في الظلام' ونتاج الفطرة الإنسانية في البلاد المحرومة من أشعة القرآن الكريم نتاج واسع الدائرة متفاوت القيمة، وليس يصعب على من له أثارة من علم بالإسلام الحنيف أن يرى المشابهة بين الدلالة الصامتة هناك، والدلالة الناطقة هنا، أو بين العنوان المفصول عن موضوعه هنا، والموضوع الذي فقد عنوانه هناك، إن الانحطاط الفكري في الأقطار المحسوبة على الإسلام يثير اللوعة، واليقظة العقلية في الأقطار الأخرى تثير الدهشة، ولا يحملنا على العزاء إلا أن هذه اليقظة صدى الفطرة التي جاء الإسلام يعلى شأنها، أما تخلف المسلمين فسببه الأول تنكرهم لهذه الفطرة السليمة وتخاذلهم عن السير معها'.
ومن خلال استقراء أساسيات علوم الإدارة والتنمية البشرية، يمكننا أن نتبين الملامح الآتية والتي تمثل الأركان الأساسية في منهج بناء المؤمن الفعال:
الركن الأول: الهدف.
الركن الثاني: التخطيط.
الركن الثالث: الإيجابية.
الركن الرابع: الجماعية.
الركن الخامس: اكتساب المهارات والتي تشمل:
1ـ مهارات إدارة الذات: مثل إدارة الوقت، اتخاذ القرار.
2ـ مهارات في بناء العلاقات والتأثير في الآخرين.
3ـ مهارات في القيادة.
4ـ مهارات في إدارة العقل مثل: التفكير، الذكاء، التركيز، الإبداع..
5ـ مهارات في إدارة العمل مثل: التفويض، التفاوض، إدارة الاجتماعات ..
6ـ قدرات نفسية مثل: الثقة بالنفس، الإدارة القوية...
لمن هذه السلسلة؟
إن هذه السلسلة إنما نوجهها لكل من آمن بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًا ورسولاً، رجالاً ونساءً، صغارًا وكبارًا، نهيب من خلالها بكل مؤمن أن يتقدم ليقوم بدوره في إحداث نهضة هذه الأمة من خلال التفوق والنبوغ في تخصصه، إننا نخاطب هذا الكلام:
1ـ الدعاة إلى الله تعالى: ونضم صوتنا هنا إلى صوت الشيخ المربي الفاضل محمد الدويش ـ حفظه الله ـ وهو يشرح لنا مفهوم التكامل في التربية فيقول: 'إن من يتأمل في هذا المفهوم يرى أنه يكاد ينحصر في جانب التدين في شخصية المرء وما يتصل بها ويتجاهل الجوانب الأخرى، ومن هنا فالحديث عن بناء القدرات العقلية ومهارات التفكير لدى الفرد والمهارات الاجتماعية والصحة النفسية .. الخ الحديث عن هذه الجوانب في التربية الدعوية لا يزال نادرًا فضلاً عن الاعتناء بذلك في التطبيق والممارسة'.
ومن هنا فنحن ندعو كل داعية إلى أن يستكمل بناء شخصيته معنا من خلال هذا المنهج ليكون أقدر على القيام بحمل أمانة الدعوة وأداء تكاليف الرسالة.
2ـ كل مؤمن صاحب تخصص مهني أو علمي، سواء كان طالبًا، معلمًا، طبيبًا، مهندسًا، عاملاً، رجل أعمال، حتى ولو كان مقصرًا في حق ربه، ندعوه أن يجبر قصوره ويعيد بناء إيمانه وفاعليته معًا، ونقول له أنت أول من نخاطب بهذه السلسلة ونناديه مع الشاعر:
يا سليل المجد ماذا غيرك ... أنت للمجد وهذا المجد لك
كيف تغفو يا فتى التوحيد هل ... هيأ الأعداء في الدرب الشرك؟
يا سليل المجد هلا قلت لي ... أي ذنب بالمخازي ضيعك؟
أيها السادر في لذاته ... هل ترى عيش المعاصي أعجبك؟
أمتي قد علقت فيك المنى ... فاستفق وانهض وغادر مضجعك
عد إلى الرحمن في طهر تجد ... مركب النصر إلى العليا معك
وترى الأبطال آساد الثرى ... تشتهي يوم الفدا أن تتبعك
وأخيرًا فهذه وصيتي الشرعية السنية لكل مؤمن ومؤمنة
أوصيكم أن تعودوا للرحمن وأن تصنعوا النهضة.
المصدر: مفكرة الإسلام(/2)
نحو تأصيل فقهي للأقليات المسلمة في الغرب
أ.د. عبد المجيد النجار
تمهيد:
جاءت شريعة الإسلام حاكمة على حياة الناس في كل ظرف زماني ومكاني كانوا فيه، وفي كل الأحوال التي يكونون عليها، تطبيقا في ذلك لنص من نصوص الوحي، أو لاجتهاد من اجتهادات العقول وفق إرشادات الدين وتوجيهاته العامة، وعلى منهج للاجتهاد ضُبطت قواعده وأصوله في علم أصول الفقه ليكون هاديا للعقل في تحري مراد الله تعالى، المبين للناس على وجه التفصيل أو على وجه الهدي العام، إذ تعبد الله تعالى عباده بأن يتحروا مراده قدر طاقاتهم، وأن يخضعوا لذلك المراد في كل حياتهم.
وإذا كانت تعاليم الدين الحنيف قد تناولت بالبيان في شؤون الإنسان كل مناحي الحياة، فإنها لم تكن على سواء في ذلك التناول من حيث التفصيل والإجمال. فبعض تلك الشؤون فُصل البيان فيها تفصيلا، بينما أُجمل في شؤون أخرى إجمالا، صدروا في ذلك عن حكمة إلهية لعل من بعض وجوهها توافق التفصيل مع ما هو ثابت لا يتغير من وجوه الحياة، ومع ما هو خارج نطاق الاجتهاد العقلي في تحري المراد الإلهي مما يختص الوحي وحده ببيانه، وتوافق الإجمال مع ما هو متغير من أحوال الناس مما يحتاج إلى تدبير العقل في سبيل توفيق منقلبات أوضاعه إلى هدي الدين ومقاصده.
والناظر في عموم تعاليم الدين، وفي مبانيه الكلية ومقاصده العامة يجد أنه دين جاء لبناء المجتمع الإنساني وتدبير شؤونه كغاية عليا لكل تدبير جاء يتعلق بشؤون الفرد أو الفئة القليلة من الأفراد، وهو المغزى الذي انفرد به الإسلام من بين سائر الأديان، وكأنما هو مغزى مندرج ضمن الخاتمية التي أرادها الله تعالى لهذا الدين، فهي خاتمية كمال شامل بما في ذلك الكمال المتمثل في معالجة شؤون الإنسان مجتَمعا بعد معالجة شؤونه أفرادا وجماعات، وقد جاءت الدلالات على ذلك متواترة، ومنها على سبيل المثال تلك الصيغة في الخطاب الديني التي جاء بها موجها إلى جماعة الإنسان لا إلى أفراده، ومنها ذلك البعد الجماعي البين حتى في أخص مظاهر العلاقة بين الإنسان وربه من مثل الصلاة والصيام والحج، ولا غرو فإن الإسلام جاء يكلف الإنسان بمهمة الخلافة في الأرض، وهي مهمة لا ينهض بها إلا التدين الجماعي ويقصر عن أدائها مجرد التدين الفردي.
وبناء على هذا المغزى الديني القائم على المفهوم الجماعي للتدين جاءت تعاليم الدين بصفة عامة، وما يتعلق منها بوجوه التعامل بين الناس بصفة خاصة، متجهة ببيانها التفصيلي إلى مقتضى وجود جماعي للمتدينين يديرون فيه شؤون الحياة على أساس من تدينهم الجماعي، وذلك سواء فيما يشجر بين بعضهم وبعض من العلاقات، أو فيما يشجر بينهم وبين غيرهم ممن لا ينضوي تحت جماعتهم الدينية من الناس، ورتب كل ذلك على أساس أن سلطان الدين هو السلطان القيم الذي تنفذه ضمائر الأفراد فيما هو من خصائص الضمائر، والهيئة الجماعية متمثلة في الدولة فيما هو من خصائصها.
ومن المعلوم أن شؤون المسلمين لئن كان من المطلوب دينا أن تجري على هذا النحو من الوجود الجماعي الذي يخضع لسلطان الدين، فإنها قد تطوح بها الأقدار في واقع الحياة فتجري على أحوال غير تلك الأحوال، فإذا أفراد أو جماعات من المسلمين -تقل أعدادهم أو تكثر- يجدون أنفسهم في أوضاع يكونون فيها متدينين في خاصة أنفسهم أو في علاقات ضيقة تدار بينهم، ولكنهم في علاقاتهم الاجتماعية الواسعة والمتشعبة يكونون خاضعين لسلطان غير سلطان الدين، من أنظمة اجتماعية أو قانونية أو ثقافية ينخرطون فيها ويكون السلطان فيها لدين غير دينهم، وينفذه على مجموع من ينضوي تحته من لا يؤمنون بالإسلام ولا يطبقون شريعته بين الناس.
وقد كان حظ هذه الحال من أحوال الوجود الإسلامي التي قد تطوع إليها ظروف الزمان من التفصيل في بيانات الوحي أقل من حظ تلك الحال التي يكون فيها ذلك الوجود جاريا على سلطان الدين في شؤون الجماعة كلها؛ إذ جاء ما يتعلق به راجعا إلى تصرف الفرد المسلم أو الجماعة المسلمة في ذلك الوضع مع المجتمع الذي انخرطوا فيه، والسلطان الذي انضووا تحته على قدر من الكلية والإجمال والهدي العام.
ولعل من حكمة الله تعالى في ذلك أن الوضع الذي يكون فيه للدين سلطان على الجماعة هو وضع منضبط ثابت مستقر، فناسبه البيان التفصيلي، وأما الوضع الذي يكون فيه الوجود الإسلامي خاضعا لسلطان غير سلطان الدين فإنه وضع متعددة صوره، متنوعة أحواله، مستجدة فصوله على غير انضباط، فناسبه إذن الهدي العام دون تفصيل ليكون للاجتهاد العقلي مجال في توفيقه إلى مراد الله تعالى على ضوء ذلك الهدي الديني العام.(/1)
وقد كان دأب النظار من الفقهاء المجتهدين في كل زمان أن يعالجوا الأحوال الطارئة في حياة المسلمين بالحلول الشرعية، وأن يوسعوا الاستنباط الفقهي بالنسبة لتلك الأحوال التي لا يكون فيها من نصوص الوحي تفصيل، مثل حال الأقليات التي أشرنا إليها، بل كان من دأبهم أن ينتقلوا بالنظر الفقهي من تشريع الأحكام التفصيلية في معالجة تلك الأحوال إلى تأسيس القواعد والأصول المنهجية التي توجه ذلك النظر وتكون له ميزانا هاديا يُتحرى به ما يريده الله تعالى من أحكام في ترشيد الحياة، وتلك مهمة أدى منها الاجتهاد الفقهي في شأن أوضاع الأقليات المسلمة التي أفرزتها التطورات الماضية للتاريخ ما تيسر له أن يؤدي، وهي اليوم في شأن الأقليات المسلمة ملقاة على عاتق النظار من الفقهاء والمجتهدين المعاصرين بأشد وأثقل مما كانت ملقاة على عاتق السابقين؛ وذلك لما حصل في هذا الشأن من تطور لم يكن له في السابق مثيل.
إن المسلمين اليوم يعيش شطر كبير منهم -لعله يناهز ثلث عددهم أو يزيد- في حال أقلية تخضع في حياتها الجماعية لسلطان غير سلطان الدين الإسلامي، وتنفذ فيها إرادة قانونية هي إرادة أكثرية غير مسلمة، وتلك أحد إفرازات العالم المتغير المتسارع التغير، الذي تقاربت أطرافه، وتداخلت شعوبه وأممه، وتمازجت ثقافاته وحضاراته، ولعل المشهد الأوربي في هذا الشأن يمثل أحد النماذج الأبرز للأقليات المسلمة.
يعيش في أوربا اليوم في هذا الوضع ما يقارب الستين مليونا من المسلمين، وإذا كانت أوربا هي قلب الحضارة الغربية ومركز الثقل فيها، وإذا كان هذا الوجود المعتبر للإسلام والمسلمين فيها يمثل المظهر الأبرز للقاء المتفاعل بين الإسلام والغرب في عالم متغير، فكيف لا يكون من الأهمية بمكان أن تتجه الهمم العلمية لاجتهاد تأصيلي فقهي يوفق هذا الوجود الإسلامي لما فيه الخير لجميع القاطنين بهذه القارة ومن وراءهم من بني الإنسان، بسطا لقيم الإسلام الخالدة، واستفادة من الكسب الحضاري الأوربي، فإذا هي علاقة بين الإسلام والغرب مؤصلة على أصول من الدين متينة، فتكون مثمرة للتعايش السلمي والتعارف الحضاري، عاصمة من الصراع وما يفرزه من المآسي التي شهدت منها العلاقة بين الطرفين مشاهد محبطة في الماضي، وتشهد اليوم منها مشاهد أخرى تنذر بالإحباط بأسباب لعل من أهمها الافتقار إلى تأصيل عقدي فقهي مرشد. إن هذا التأصيل هو الذي نعنيه في هذه الورقة بالتأصيل لفقه الأقليات المسلمة في المجتمعات الغربية.
فقه الأقليات: تحديد المفاهيم
لعله يكون من المتأكد -في هذا الصدد- أن نحدد المفاهيم التي سيدور عليها التحليل متمثلة بالأخص في مصطلح الأقليات وفقه الأقليات، فهي مصطلحات حديثة عهد بالتداول بين المهتمين بهذا الشأن، ولا يزال الحوار فيها قائما في سبيل الانتهاء فيها إلى مفاهيم بينة، بل في سبيل الانتهاء فيها إلى إقرار بمشروعيتها مبحثا علميا ذا خصوصية، فيتوارد عليها النظار والباحثون إذن على سواء في البسط والاحتجاج، ويتقدم العلم فيها درجات مثمرة لا ينقض بعضها بعضا.
لقد راج مصطلح الأقليات في عصرنا وأصبح له بعد سياسي واجتماعي وقانوني؛ وذلك لما حدث في الواقع من اختلاط بين الأمم والشعوب بفعل تفشي هجرة الأفراد والجماعات من بلد إلى بلد، ومن قارة إلى قارة، لتوفر مغرياتها وليسر أسبابها، فإذا المجتمعات الأصلية في كل قارة تنضم إليها جماعات مغايرة لها ممن هاجر إليها، فتشاركها الحياة في وجوهها المختلفة، وتحدث في تلك المشاركة وجوه من الاحتكاك تسفر عن وجوه من الاضطرابات التي تطلب لها حلولا اجتماعية وسياسية، فكان ذلك من أهم أسباب رواج مصطلح الأقليات، ثم مصطلح فقه الأقليات.
أ ـ مصطلح الأقليات المسلمة:
حينما يُطلق مصطلح الأقليات فإنه يُراد به -في الغالب- المجموعات البشرية التي تعيش في مجتمع تكون فيه أقلية من حيث العدد، وتكون مختصة من بين سائر أفراد المجتمع الآخرين ببعض الخصوصيات الجامعة بينها، كأن تكون أقلية عرقية، أو أقلية ثقافية، أو أقلية لغوية، أو أقلية دينية، وإذن فإن هذا المصطلح يشير إلى عنصرين في تحقق وصف الأقلية هما: القلة العددية لمجموعة ما تعيش في مجتمع أوسع، والتميز دون سائر ذلك المجتمع بخصوصيات أصلية في الثقافة أو في العرق[1].
وفي تحديد مصطلح الأقليات المسلمة المقصود في هذا المقام، ربما تعترض بعض المشكلات، فاللفظ بظاهره حينما يندرج في المصطلح العام للأقليات يكون دالا على مدلول عددي، ومدلول تميز ثقافي، فيصبح المعنى المقصود بالأقليات المسلمة تلك المجموعة من الناس التي تشترك في التدين بالإسلام، وتعيش أقلية في عددها ضمن مجتمع أغلبه لا يتدين بهذا الدين.(/2)
ومما يتوجه إلى هذا المصطلح من وجوه الاستفسار: هل تُعتبر من الأقليات المسلمة تلك الأقليات العددية التي قد تكون هي النافذة في مجتمع غير مسلم، بحيث يكون بيدها السلطان السياسي الذي تحقق به سيادة القانون الإسلامي على عموم المجتمع؟ وهل تُعتبر من الأقليات المسلمة تلك المجموعة المسلمة التي هي من حيث العدد أكثرية، ولكنها تعيش في مجتمع تكون فيه مجموعة أخرى غير مسلمة هي النافذة بحيث تسيطر على الحكم وتطبق من خلاله قانونا غير إسلامي على سائر المجتمع؟
إن الإجابة عن هذه المشكلات ينبغي أن تأخذ بعين الاعتبار أيضا طبيعة الصفة الإسلامية في خصوصيتها من بين سائر الأديان؛ إذ إن المسلم لكي تتحقق صفته الإسلامية ينبغي أن يحكم الإسلام كل وجوه حياته الفردية والاجتماعية، وهو ما يجعل علاقة القانون العام الذي ينظم الحياة ميزانا أصليا في تحقق الصفة الإسلامية أو عدم تحققها، بينما غير المسلمين يمكن أن يتحققوا بصفة دينهم إذا ما تدينوا به في خاصة النفس مهما يكن القانون العام الذي يطبق عليهم.
إذا ما أضفنا هذا إلى ذاك أصبح مصطلح الأقليات المسلمة مصطلحا ذا خصوصية بين نظائره من المصطلحات الضابطة للأقليات؛ إذ يصبح القانون العام الذي يُطبق في المجتمع الذي توجد به الأقلية عنصرا مهما في تحديد مفهوم هذا المصطلح، فيكون إذن مصطلحا ينطبق على تلك المجموعة من المسلمين التي تعيش في مجتمع تُطبق فيه قوانين غير إسلامية من قِبل سلطات حاكمة غير إسلامية، أو تسود فيه لسبب أو لآخر ثقافة وأعراف وتقاليد غير إسلامية.
وعلى هذا الاعتبار يدخل في مفهوم الأقلية المسلمة تلك الأكثرية المسلمة في مجتمع يخضع لقانون وثقافة غير إسلامية إذا كانت تلك الأكثرية مغلوبة على أمرها في ذلك النمط من الحياة، ومن باب أولى أن يدخل فيه الأقلية الخاضعة لنظام غير إسلامي. وعلى هذا الاعتبار أيضا يخرج من مفهوم الأقلية المسلمة تلك الأقلية التي يكون لها نفوذ يسود به القانون الإسلامي والثقافة الإسلامية في المجتمع الذي تعيش فيه، كما يخرج منه أيضا المسلمون الأكثرية إذا كانوا يخضعون لحكم من قِبل أنفسهم، ولكن لا يُطبق فيهم القانون الإسلامي إن جزئيا أو كليا كما هي أوضاع الكثير من البلاد الإسلامية اليوم، إذ هذه الحال من عدم التطبيق الديني عليهم ليست متأتية من مغلوبيتهم لجماعة غير إسلامية، وإنما هي متأتية من جهل أو تقصير أو غير ذلك من الأسباب الذاتية.
ب ـ مصطلح فقه الأقليات:
لا يتجاوز عمر هذا المصطلح حسبما نعلم بضعة عقود، ولا يتجاوز شيوعه في الاستعمال عقدا أو عقدين. ولعل منشأه كان مرتبطا بالجالية الإسلامية بالبلاد الغربية، إذ لما تكاثرت هذه الجالية بأوربا وأمريكا، وبدأت حياتها تنتشر وعلاقاتها تتشعب، وبدأت تشعر بكيانها الجماعي ذي الخصوصية الدينية في مهجرها الذي يعيش فيه مجتمع غير إسلامي، وتسود فيه ثقافة وقوانين غير إسلامية، إذ ذاك بدأت تتوق إلى أن تنظم حياتها الفردية والجماعية على أساس من دينها، ولكن وجدت أن وجوها كثيرة من تلك الحياة لا يفي بتوفيقها إلى أحكام الدين ما هو متداول معروف من الفقه المعمول به في البلاد الإسلامية، إما لأنه لا يناسب أوضاعا مخالفة للأوضاع الموجودة بالبلاد الإسلامية، أو لأنه لا يغطي أوضاعا انفردت بها حياتهم بالمهجر، فأصبحت هناك ضرورة لفرع فقهي جديد يختص في معالجة حياة هذه الأقلية أُطلق عليه مصطلح فقه الأقليات.
وليس فقه الأقليات بمنعزل عن الفقه الإسلامي العام، ولا هو مستمد من مصادر غير مصادره، أو قائم على أصول غير أصوله، وإنما هو فرع من فروعه، يشاركه ذات المصادر والأصول، ولكنه ينبني على خصوصية وضع الأقليات، فيتجه إلى التخصص في معالجتها، في نطاق الفقه الإسلامي وقواعده، استفادة منه وبناء عليه، وتطويرا له فيما يتعلق بموضوعه، وذلك سواء من حيث ثمرات ذلك الفقه من الأحكام، أو من حيث الأصول والقواعد التي بُنيت عليها واستُنبطت بها.
فمن حيث ثمرات الفقه من الأحكام فإن فقه الأقليات ينبني جسمه الأكبر على تلك الثمرات؛ إذ القدر الأكبر منها متعلق بما هو ثابت تشترك فيه أوضاع المسلمين مهما تغايرت ظروفها في الزمان والمكان، ولكن مع ذلك فإنه يعمد إلى اجتهادات كانت مرجوحة، أو غير مشهورة، أو متروكة لسبب أو آخر من أسباب الترك، فيستدعيها، وينشطها ويحييها، لما يُرى فيها من مناسبة لبعض أوضاع الأقلية المسلمة تتحقق بها المصلحة، فيعالج بها تلك الأوضاع، في غير اعتبار لمذهبية ضيقة، أو عصبية مفوتة للمصلحة، ما دام كل ذلك مستندا إلى أصل في الدين معتبر.(/3)
ومن حيث الأصول والقواعد، يعمد هذا الفقه إلى استعمال القواعد الفقهية والمبادئ الأصولية ما يُرى منها أكثر فائدة في توفيق أحوال الأقلية إلى حكم الشرع، ويوجهها توجيها أوسع في سبيل تلك الغاية، وربما استروح من مقاصد الشريعة ما يستنبط به قواعد اجتهادية لم تكن معهودة في الفقه الموروث، فيدخلها في دائرة الاستخدام الاجتهادي في هذا الفقه، أو يعمد إلى قواعد كانت معلومة ولكن استعمالها ظل محدودا جدا، فينشط العمل بها في استخدام واسع تقتضيه طبيعة أوضاع الأقليات المسلمة، ليتحصل من ذلك كله فقه للأقليات ينبني على الفقه الإسلامي المأثور، ويتجه بخصوصية في هذا الشأن، يضيف بها فقها جديدا يكون كفيلا بمعالجة هذا الوضع الجديد[2].
________________________________________
[1] راجع في شرح هذا المصطلح: يوسف القرضاوي ـ في فقه الأقليات المسلمة:25 ( ط دار الشروق/2001 )
[2] راجع في ذلك : طه جابر العلواني ـ مدخل إلى فقه الأقليات ( بحث مخطوط ).
________________________________________
فقه الأقليات في التراث الفقهي
لما نشأ الفقه الإسلامي وتوسع وتطور فإنه انبنى -في كل ذلك بوجه عام- على معالجة الحياة الواقعية للمسلمين، يروم تدبيرها في مستجداتها ومنقلبات أحوالها بأحكام الشريعة المنصوص عليها أو المستنبطة بالاجتهاد، فجاء في أنواع قضاياه ومستنبطات أحكامه، وفي منهجه وروحه العامة يعكس -إلى حد كبير- واقع الحياة الإسلامية فيما يطرأ عليها من الأطوار، وما تنقلب فيه من الأحوال، فيصوغ لكل تلك الأطوار والأحوال أحكاما شرعية من صريح النص أو من أصول الاجتهاد، ولم تكن الأحكام الافتراضية فيه إلا جارية على سبيل المران التعليمي، بل قد كانت منكرة عند بعض أئمة الفقه من كبار المجتهدين.
وواقع الوجود الإسلامي عند نشأة الفقه وطيلة فترة ازدهاره الحية بحركة الاجتهاد كان واقعا يقوم ذلك الوجود فيه على سلطان الدين الذي به تنتظم حركة العلاقات الاجتماعية كلها من تلقاء الأفراد والفئات فيما بينهم، ومن تلقاء الدولة التي تسوس الأمة سياسة شرعية، ولم يعرف ذلك الوجود جماعات واسعة من المسلمين تعيش في مجتمعات غير إسلامية يخضعون بها في علاقاتهم الاجتماعية العامة لسلطان غير سلطان دينهم، وقصارى ما كان يحصل في هذا الشأن وجود أفراد من المسلمين أو جماعات صغيرة منهم في مجتمعات غير إسلامية وجودا عارضا في الغالب بسبب ضرب في الأرض، أو إيمان بالدين ناشئ لم تتوسع دائرته ليصبح سلطانه غالبا، فلم يكن إذن ذلك الوجود للأقليات المسلمة ظاهرة بارزة ضمن الوجود الإسلامي العام.
وبسبب هذه المحدودية غير اللافتة للانتباه في ظاهرة الوجود الإسلامي الذي لا يخضع لسلطان الدين، مضافا إلى ذلك ما ذكرنا آنفا من أن البيان الديني في هذا الشأن كان بيانا جُمَليا عاما، فإن الاجتهاد الفقهي الذي كان يتصدى لحل مستجدات الواقع بأحكام الشريعة لم يتناول بشكل عميق موسع هذه الحال من أحوال الوجود الإسلامي بما هي ظاهرة غير ذات شأن بين في واقع المسلمين، وربما تناول قضايا جزئية محدودة منها، كانت تعرض للمجتهدين بين الحين والآخر فيصدرون فيها فتاوى وأحكاما في غير ما اهتمام شمولي عام بها كحالة من أحوال المسلمين ذات الوزن الواقعي المهم.
وربما طرأت في بعض مراحل التاريخ الإسلامي ظروف أصبحت فيها حال المسلمين الخاضعين لسلطان غير سلطان دينهم ظاهرة ذات شأن واقعي، وذلك مثل ما حصل للمسلمين عند سقوط الأندلس، ومثل ما كان من أمر المسلمين ببعض البلاد الآسيوية والأفريقية حينما تزايدت أعدادهم وتوسعت جماعاتهم مع بقائهم أقليات مسلمة في مجتمعات غير إسلامية تساس بسلطان غير سلطان الإسلام، ولكن هذه المراحل التاريخية التي أفرزت هذا الواقع الجديد للأقليات المسلمة وافت بالنسبة لمراحل تاريخ الفكر الفقهي مرحلة الضعف الاجتهادي والأيلولة إلى التقليد والجمود، فلم يكن هذا الفكر قادرا على أن يتناول هذه الظاهرة الجديدة بمعالجة فقهية أصلية شاملة، وظل في نطاق التقليد والجمود يردد المعالجات الجزئية الاجتهادية القديمة في طابعها الجزئي، أو يضيف إليها إضافات من الفتاوى ذات الطابع الجزئي أيضا.
وقد أسفر هذا الوضع المتعلق بوجود الأقليات المسلمة في طوريه مع اختلاف الأسباب بينهما عن أن المدونة الفقهية الإسلامية لم يكن لفقه الأقليات فيها بيان ثري يتناول في شمولٍ أحكام العلاقات الاجتماعية للمسلمين، وتصرفاتهم الاقتصادية، وسائر أحوال شؤونهم العامة فيما له صلة بالمجتمع غير المسلم الذي يعيشون فيه، والذي يسوسه سلطان غير سلطان دينهم يكونون هم خاضعين له كما يخضع له سائر المجتمع الذي يعيشون فيه، وإنما وجدت في هذه المدونة أحكام وفتاوى واجتهادات فقهية جزئية متفرقة في الغالب بين أبواب الفقه المختلفة، لا يجمعها جامع في باب موحد، ولا منهج شامل في النظر الفقهي.(/4)
وقد استصحب هذا الوضع في المدونة الفقهية بالنسبة لفقه الأقليات وضعا مشابها في مدونة أصول الفقه، إذ من المعلوم أن هذا العلم المنهجي قد نشأ متأخرا عن علم الفقه، وكان نشوؤه -في عمومه- استقراء من محررات الأحكام الفقهية، وليس وضعا ابتدائيا لقواعده المنهجية، فكان لهذا السبب متأثرا على نحو من الأنحاء بالمسار العام للفقه، وذلك فيما يتعلق بأحجام الاهتمام بقضايا الحياة الإسلامية، وشمول البيان فيها، وإن يكن هو من الناحية المنطقية الأصل الذي ينبني عليه الفقه، والذي يتوجه بتوجيهه.
ومن بين ما طاله استصحاب أصول الفقه لما جاء في المدونة الفقهية من شح في البيان المفصل ما يتعلق بالأقليات المسلمة الواقعة تحت سلطان غير إسلامي، فلئن كانت قواعد أصول الفقه وقوانينه وأحكامه ذات طابع منهجي عام، يشمل بالتقعيد المنهجي كل جزئيات الأحكام، ولا يختص ببعضها دون بعض، فإن توجه الأصولي الفقيه بكثافة وعناية إلى مجال من مجالات النظر الفقهي أكثر من توجهه إلى مجال آخر، من شأنه أن يؤثر في نظره الأصولي باستخراج قوانين وقواعد منهجية ذات علاقة أشد وأمتن بالمجال الفقهي الذي كان توجهه إليه أكثر كثافة وعناية، وبإنضاج تلك القوانين والقواعد بمحاكمتها التفصيلية التطبيقية إلى جزئيات الأحكام التي تنضوي تحت ذلك المجال.
ونتيجة لذلك فإن مدونة أصول الفقه -كما المدونة الفقهية- جاء فيها حظ التأصيل لفقه الأقليات حظا ضعيفا بالنسبة لغيره من الاهتمامات الأصولية، فهذا المجال الفقهي لم يوجه إليه التأصيل باهتمام مقدر في تقرير القواعد الفقهية وتوجيهها والتمثيل لها، وكذلك في تقرير أصول الاجتهاد فيه، وتطبيقاتها المختلفة الوجوه، وبقي الأمر في ذلك كله على حد القدر المشترك من الوجوه العامة في استنباط الأحكام من مداركها، وهو ما يلتقي عليه النظر الفقهي في كل مجال من مجالات الحياة حينما يكون سلطان الدين سائدا، دون خصوصية لأوضاع الأقليات المسلمة التي تعيش تحت سلطان غير ذلك السلطان
د. طه جابر العلواني
يطرح البحث جملة من القضايا في هذا الفقه الذي مست الحاجة إليه من خلال اجتهاد يسعى للإجابة على عدد من الأسئلة الكبرى من قبيل: ما مصادره؟ وأين يمكن تلمسه في كتب الفقه؟ وأي القواعد الفقهية أكثر ارتباطًا به؟ وما أهم أبوابه التي يعالجها؟ وكيف تطور هذا الفقه؟ وما الآليات الفقهية التي تطور بها؟ وما مقدار العام ووجه خصوصية البيئة مكاناً وزمانًا فيه؟ وكيف يمكن تثميره الآن؟ فيطرح:
أولاً: تحديد المفاهيم
مفهوم الفقه:
لم تكن كلمة "فقه" – بالمعنى الاصطلاحي المعروف الآن- شائعة لدى الصدر الأول من هذه الأمة؛ بل كانوا يستعملون كلمة "الفَهم"، لكنهم إذا وجدوا الأمر دقيق المسلك ربما عُنُوا بـ "الفقه" بدلاً من "الفهم". وقد أشار ابن خلدون في مقدمته إلى ذلك بقوله: "الفقه معرفة أحكام الله في أفعال المكلفين بالوجوب والحظر والندب والكراهة والإباحة، وهي مستقاة من الكتاب والسنة وما نصبه الشارع لمعرفتها من الأدلة، فإذا استخرجت الأحكام من تلك الأدلة قيل لها (فقه)".[ ابن خلدون: المقدمة ص445].
ولم تكن تسمية "الفقهاء" شائعة أيضاً، بل كان أهل الاستنباط من الصحابة يُعرفون باسم "القرَّاء" تمييزاً لهم عن الأميين الذين لم يكونوا يقرءون. وفي هذا يقول ابن خلدون: "… ثم عظمت أمصار الإسلام، وذهبت الأمية من العرب بممارسة الكتاب، وتمكن الاستنباط، ونما الفقه وأصبح صناعة وعلماً، فبدلوا باسم الفقهاء والعلماء من القراء"[ المصدرالسابق نفسه ص446].
مفهوم الأقليات:
أما كلمة "الأقليات" فهي مصطلح سياسي جرى في العرف الدولي، يُقصَد به مجموعة أو فئات من رعايا دولة من الدول تنتمي من حيث العِرق أو اللغة أو الدين إلى غير ما تنتمي إليه الأغلبية.
وتشمل مطالب الأقليات عادة المساواة مع الأغلبية في الحقوق المدنية والسياسية، مع الاعتراف لها بحق الاختلاف والتميز في مجال الاعتقاد والقيم.
وتتأسس قيادات للأقليات – في كثير من الأحيان- تحاول التعبير عن أعضاء الأقلية من خلال الأمور التالية:
1- إعطاء تفسير للأقلية التي تنتمي إليها عن جذورها التاريخية، ومزاياها ومبررات وجودها، لتساعد الأقلية على الإجابة على سؤال "مَن نحن"؟ وضمناً عن سؤال "ماذا نريد"؟
2- تجميع عناصر الأقلية وإقامة روابط بينها.
3- تبني الرموز الثقافية المعبرة عن خصوصية الأقلية.
4- تحقيق أمن معاشي وتكافل اجتماعي كما في الحالة اليهودية.
مفهوم: فقه الأقليات:
إن الحديث عن فقه الأقليات يثير عدداً من الأسئلة المنهجية، منها:
1- إلى أي العلوم الشرعية أو النقلية ينتمي هذا الفقه؟
2- بأي العلوم الاجتماعية يمكن لهذا العلم أن يتصل، وما مقدار تفاعله مع كل منها؟
3- لماذا سُمِّي بـ "فقه الأقليات"؟ وإلى أي مدى تُعتبَر هذه التسمية دقيقة؟(/5)
4- كيف نتعامل مع القضايا التي يثيرها وجود المسلمين بكثافة خارج المحيط الجغرافي والتاريخي الإسلامي؟
وللإجابة على هذه التساؤلات نقول: لا يمكن إدراج "فقه الأقليات" في مدلول "الفقه" كما هو شائع الآن – أي فقه الفروع – بل الأولى إدراجه ضمن "الفقه" بالمعنى العام الذي يشمل كل جوانب الشرع اعتقاداً وعملاً، بالمعنى الذي قصده النبي- صلى الله عليه وسلم- في قوله: "من يُرِدِ الله به خيراً يفقهه في الدين" [صحيح البخاري، كتاب العلم، الحديث69. وصحيح مسلم، كتاب الزكاة، الحديث1719]، ومن هنا كانت ضرورة ربط هذا الفقه بالفقه الأكبر وضعاً للفرع في إطار الكل، وتجاوزاً للفراغ التشريعي أو الفقهي. ومعنى هذا أن فقه الأقليات هو فقه نوعي يُراعي ارتباط الحُكم الشرعي بظروف الجماعة وبالمكان الذي تعيش فيه، فهو فقه جماعة محصورة لها ظروف خاصة، يصلح لها ما لا يصلح لغيرها، ويحتاج متناوله إلى ثقافة في بعض العلوم الاجتماعية، خصوصاً علم الاجتماع والاقتصاد والعلوم السياسية والعَلاقات الدولية.
تفكيك السؤال:
وإذا ثار سؤال ذو صلة بفقه الأقليات على لسان فرد، أو دار على ألسنة جماعة، فإن المفتي المعاصر يحتاج إلى تجاوز الموقف الساذج البسيط الذي يحصر الأمر بين سائل ومجيب: سائل يعوزه الاطلاع الشرعي، ومجيب يعتبر الأمر منتهياً عند حدود الاستفتاء والإفتاء. فهذا موقف غير علمي ورثناه عن عصور التقليد، وكرسته عقلية العوام التي استسهلت التقليد واستنامت له.
والمطلوب تبني موقف علمي يبحث في خلفية السؤال والسائل، والعوامل الاجتماعية التي ولدت السؤال وأبرزت الإشكال، وهل هو سؤال مقبول بصيغته المطروحة، أم يتعين رفضه بهذه الصيغة، وإعادة صياغته في صورة إشكال فقهي، ثم معالجته في ضوء رؤية شاملة تستصحب القواعد الشرعية الكلية، والمبادئ القرآنية الضابطة، وتراعي غايات الإسلام في الانتشار والتمكين على المدى البعيد؟
ومن هنا نستطيع أن نفهم نهي القرآن المجيد عن أسئلة معينة من شأن إثارتها والإجابة عنها أن تؤدي إلى مشكلات اجتماعية خطيرة؛ لأن تلك الأسئلة صاغتها ظواهر سلبية، فإذا أُجِيب عنها في ذلك السياق استحكمت تلك الظواهر وتمكنت. كما نستطيع في ضوء ذلك فهم نهي الرسول- صلى الله عليه وسلم- عن "قيل وقال، وكثرة السؤال…".
فإذا سأل سائل- مثلاً- هل "يجوز" للأقليات المسلمة أن تشارك في الحياة السياسية في البلد المقيمة فيه، بما يحفظ لها حقوقها، ويمكنها من مناصرة المسلمين في بلدان أخرى، ويبرز قيم الإسلام وثقافته في البلد المضيف؟ فإن الفقيه الواعي بعالمية الإسلام وشهادة أمته على الناس، وبالتداخل في الحياة الدولية المعاصرة لن يقبل السؤال بهذه الصيغة؛ بل سينقله من منطق الترخص السلبي إلى منطق الوجوب والإيجابية، انسجاماً مع ما يعرفه من كليات الشرع وخصائص الأمة والرسالة.
ثانيًا: ضرورة الاجتهاد وتجاوز الفقه الموروث
لقد استوطن الإسلام في العقود الأخيرة بلداناً كثيرة؛ مما استدعى أن يكون لهذه البلدان إطار فقهي خاص بها، يراعي خصوصيتها؛ حيث بدأ المسلمون يواجهون واقعًا جديداً يثير أسئلة كثيرة جدًّا تتجاوز القضايا التقليدية ذات الطابع الفردي المتعلقة بالطعام المباح، واللحم الحلال، وثبوت الهلال، والزواج بغير المسلمة… إلى قضايا أكبر دلالة وأعمق أثراً ذات صلة بالهُويَّة الإسلامية، ورسالة المسلم في وطنه الجديد، وصلته بأمته الإسلامية، ومستقبل الإسلام وراء حدوده الحالية.
مشكلات في منهجية تناول الفقه:
وربما حاول البعض الإجابة على هذا النمط من الأسئلة بمنطق "الضرورات" و "النوازل" ناسين أنه منطق هش لا يتسع لأمور ذات بال. وربما واجه المسلم فوضى في الإفتاء: فهذا الفقيه يُحِلُّ، وذاك يُحَرِّم، وثالث يستند إلى أنه يجوز في "دار الحرب" ما لا يجوز في "دار الإسلام"، ورابع يقيس الواقع الحاضر على الماضي الغابر قياساً لا يأبه بالفوارق النوعية الهائلة بين مجتمع وآخر، وبين حقبة تاريخية وأخرى؛ بل لا يأبه بالقواعد الأصولية القاضية بمنع قياس فرع على فرع… فتكون النتيجة المنطقية لهذا المنطلق المنهجي الخاطئ إيقاع المسلمين في البلبلة والاضطراب، وتحجيم دورهم المرتقَب، والحُكم عليهم بالعزلة والاغتراب، وإعاقة الحياة الإسلامية، وفرض التخلف عليها، وإظهار الإسلام بمظهر العاجز عن مواجهة أسئلة الحضارة والعمران المستنير في زماننا هذا.
والحق أن مشكلات الأقليات المسلمة لا يمكن أن تواجَه إلا باجتهاد جديد، ينطلق من كليَّات القرآن الكريم وغاياته وقيمه العليا ومقاصد شريعته ومنهاجه القويم، ويستنير بما صح من سنة وسيرة الرسول- صلى الله عليه وسلم- في تطبيقاته للقرآن وقِيمه وكليَّاته.
تجاوز الفقه الموروث:(/6)
أما الفقه الموروث في مجال التنظير لعَلاقة المسلمين بغيرهم فهو – على ثرائه وتنوعه وغناه وتشعبه- قد أصبح أغلبه جزءًا من التاريخ؛ لأسباب تتعلق بالمنهج، وأخرى بتحقيق المناط، مما سنعرضه تاليًا:
أ- أهم الأسباب المنهجية:
1- لم يرتب بعض فقهائنا الأقدمين مصادر التشريع الترتيب الصحيح الذي يعين على حسن الاستنباط، الذي يقضي باعتبار القرآن الكريم أصل الأصول، ومنبع التشريع، والمصدر التأسيسي المهيمن على ما سواه، والمقدم عليه عند التعارض. واعتبار السنة النبوية مصدراً بيانيًّا ملزماً يكمل القرآن ويفصله ويتبعه.
2- لم يأخذ أكثر فقهائنا عالمية الإسلام بعين الاعتبار في تنظيمهم الفقهي لعَلاقة المسلمين بغيرهم؛ بل عبَّروا عن نوع من الانطواء على الذات لا يتناسب مع خصائص الرسالة الخاتمة والأمة الشاهدة.
3- تأثر الفقهاء بالعرف التاريخي السائد في عصرهم، فضاقت نظرتهم للموضوع، وابتعدوا عن المفهوم القرآني للجغرافيا.
ب- الأسباب ذات الصلة بتحقيق المناط فأهمها:
1- لم يعتد المسلمون في تاريخهم – بعد عصر الرسالة- على اللجوء إلى بلاد غير إسلامية طلباً لحق مهدر أو هرباً من ظلم مفروض؛ بل كانت البلاد الإسلامية في الغالب أرض عزة ومنعة، ولم تكن تفصل بينها حدود سياسية مانعة؛ فكلما ضاقت بمسلم أرض، أو انسدت عليه سبيل، تحول إلى ناحية أخرى من الإمبراطورية الإسلامية الفسيحة، دون أن يحس بغربة، أو تعتريه مذلة.
2- لم تكن فكرة المواطنة كما نفهمها اليوم موجودة في العالم الذي عاش فيه فقهاؤنا الأقدمون، وإنما كان هناك نوع من الانتماء الثقافي لحضارة معينة، أو الانتماء السياسي إلى إمبراطورية معينة يعتمد المعيار العقائدي، ويتعامل مع المخالفين في المعتقَد بشيء من التحفظ، مع اختلاف في درجة التسامح: من محاكم التفتيش الأسبانية إلى الذمة الإسلامية.
3- لم تكن الإقامة في بلد غير البلد الأصلي تكسب حق المواطنة بناء على معايير ثابتة، مثل الميلاد في البلد المضيف، أو أمد الإقامة، أو الزواج… وإنما كان الوافد يتحول تلقائيًّا إلى مواطن إذا كان يشارك أهل البلد معتقدهم وثقافتهم، أو يظل غريباً – مهما استقر به المقام- إذا كان مخالفاً لهم في ذلك.
4- لم يكن العالَم القديم يعرف شيئاً اسمه القانون الدولي أو العَلاقات الدبلوماسية، اللذان يحتِّمان على كل دولة حماية رعايا الدول الأخرى المقيمين على أرضها، ومعاملتهم بنفس معاملة الرعايا الأصليين، إلاَّ في بعض الأمور الخاصة التي تقتضي حقوق المواطنة التميز فيها.
5- كان منطق القوة هو الغالب على العَلاقة بين الإمبراطوريات القديمة- بما فيها الإمبراطورية الإسلامية- فكانت كل منها تعتبر أرض الأخرى "دار حرب" يجوز غزوها وضمها كليًّا أو جزئيًّا إلى الدولة الغالبة؛ إذ من طبيعة الإمبراطوريات أنها لا تعرف حدوداً إلا حيث تتعسر على جيوشها مواصلة الزحف.
6- لم يعش فقهاؤنا الوحدة الأرضية الاتصالية التي نعيشها اليوم؛ حيث تتداخل الثقافات، وتعيش الأمم في مكان واحد. وإنما عاشوا في عالَم من جزر منفصلة، لا تعايش بينها ولا تفاهم. فكان "فقه الحرب" طاغياً بحكم مقتضيات الواقع يومذاك. وما نحتاجه اليوم هو "فقه التعايش" في واقع مختلف كمًّا ونوعاً.
7- كان بعض الفقهاء الأقدمين والمتأخرين يعبرون بفتاواهم عن نوع من المقاومة وردة الفعل على واقع مخصوص يختلف عن واقعنا، وفي هذا الإطار يمكن أن ندرج كتاب ابن تيمية "اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أهل الجحيم"، وفتاوى علماء الجزائر في صدر هذا القرن بتحريم حمل الجنسية المصرية؛ فهذه الكتب والفتاوى جزء من ثقافة الصراع التي لا تحتاجها الأقليات الإسلامية.
ثالثًا: نحو أصول لفقه الأقليات
فقه الأقليات فقه ذو طبيعة خاصة. وهذه الخصوصية في الموضوع تفرض علينا أن نقترح على أهل العلم جملة من المحددات المنهجية أو "الأصول" التي نرى ضرورة اعتمادها من قِبَل المفتي في فقه الأقليات، باعتبار خصوصية هذا الفقه، وباعتبار أن كل "فقه" يحتاج إلى أصول. ومن هذه الأصول ما يلي:
1- اكتشاف الوحدة البنائية في القرآن، وقراءته باعتباره معادلاً للكون وحركته، واعتبار السنة النبوية الصادرة عن المعصوم- صلى الله عليه وسلم- تطبيقاً لقيم القرآن، وتنزيلاً لها في واقع معين، والنظر إليها كوحدة في ذاتها، متحدة مع القرآن، بياناً له وتطبيقاً عمليًّا لقِيمه في واقع محدد.
2- الاعتراف بحاكمية الكتاب الكريم وأسبقيته، وأنه قاضٍ على ما سواه بما في ذلك الأحاديث والآثار؛ فإذا وضع الكتاب الكريم قاعدة عامة – مثل مبدأ "البر والقسط" في عَلاقة المسلمين بغيرهم – ووردت أحاديث أو آثار يتناقض ظاهرها مع هذا المبدأ: كالمزاحمة في الطريق، أو عدم رد التحية بمثلها أو أحسن منها، تعين الأخذ بما في الكتاب، وتأويل الأحاديث والآثار إن أمكن تأويلها، أو ردها إن لم يمكن ذلك.(/7)
3- الانتباه إلى أن القرآن المجيد قد استرجع تراث النبوات، وقام بنقده وتنقيته من كل ما أصابه من تحريف، وأعاد تقديمه منقحاً خالياً من الشوائب، وذلك لتوحيد المرجعية للبشرية. ذلك هو تصديق القرآن لميراث النبوة كله وهيمنته عليه.
4- تأمل الغائية في القرآن الكريم: وهي التي تربط الواقع الإنساني المرئي باللامرئي (عالم الغيب) وتزيل فكرة العبث والمصادفة. وذلك ما يمكن من إدراك وتفسير العَلاقات بين الغيب والشهادة، وبين النص المطلق – وهو القرآن- والواقع الإنساني، ويوجد نوعاً من الكشف عن الفارق الدقيق بين إنسانية الإنسان وفرديته، فالإنسان باعتبار فرديته مخلوق نسبي، وهو باعتبار إنسانيته مخلوق كوني مطلق.
5- الانتباه لأهمية البُعْدَين الزماني والمكاني في كونية الخَلْق الإنساني، ففي الجانب الزماني أكد القرآن ذلك البعد بتعقيبه على تحديد الأشهر باثني عشر شهراً ومنع النسيء، فعدَّهما جزءاً من الدين القيم. وفي الجانب المكاني جعل لنا أرضًا محرمة وأرضًا مقدسة، وأرضًا ليست كذلك. وفي هذا الإطار يمكن أن تفهم فكرة امتداد الإنسان منذ خَلْق آدم وحواء حتى دخول الجنة أو النار والعياذ بالله. إن ذلك الامتداد هو الذي يربط بين كونية القرآن وكونية الإنسانية.
6- الانتباه إلى وجود منطق قرآني كامن مبثوثة قواعده في ثنايا الكتاب، وأن الإنسان قادر – بتوفيق الله عز وجل- على الكشف عن قواعد ذلك المنطق؛ لتساعده في تسديد عقله الذاتي وترشيد حركته. كما أن هذه القواعد ذاتها يمكن أن تشكل قوانين تعصم العقل الموضوعي من الشذوذ والشرود والخطأ والانحراف، وهذا المنطق القرآني يستطيع أن يوجد قاعدة مشتركة للتفكير بين البشر تساعدهم على الخروج من دوائر هيمنة العقل الذاتي القائم على مسلمات تقليد الآباء وتراثهم، وما يتبع ذلك من مسلمات قبلية يستطيع المنطق القرآني أن يخرجهم منها إلى المنطق الاستدلالي أو البرهاني.
7- الالتزام بالمفهوم القرآني للجغرافيا: فالأرض لله، والإسلام دينه، وكل بلد هو "دار إسلام" بالفعل في الواقع الحاضر، أو "دار إسلام" بالقوة في المستقبل الآتي. والبشرية كلها "أمة إسلام": فهي إما "أمة ملة" قد اعتنقت هذا الدين، أو "أمة دعوة" نحن مُلزَمون بالتوجه إليها لدخوله.
8- اعتبار عالميَّة الخطاب القرآني: فالخطاب القرآني يخالف خطابات الأنبياء السابقين التي كانت خطابات اصطفائية موجهة إلى أمم مُصطفَاة أو قرى مُختارَة. أما الخطاب القرآني؛ فقد تدرج من الرسول- صلى الله عليه وسلم- إلى عشيرته الأقربين، إلى أم القرى ومن حولها، ثم إلى الشعوب الأمية كلها، ثم إلى العالم كله. وبذلك صار هو الكتاب الوحيد الذي يستطيع أن يواجه الحالة العالميَّة الراهنة.
إن أي خطاب يُوجَّه إلى عالَم اليوم لا بد أن يقوم على قواعد مشتركة وقيم مشتركة، وأن يكون منهجيًّا: أي خطاباً قائماً على قواعد ضابطة للتفكير الموضوعي. وليس هناك كتاب على وجه الأرض يستطيع أن يوفر هذه الشروط إلاَّ القرآن المجيد ذاته.
9- التدقيق في الواقع الحياتي بمركباته المختلفة باعتباره مصدراً لصياغة السؤال والإشكال الفقهي، أو "تنقيح المناط" كما يقول الأقدمون. وما لم يفهم هذا الواقع بمركباته كلها فإنه من المتعَذَّر صياغة الإشكال الفقهي بشكل ملائم بحيث يمكن الذهاب به إلى رحاب القرآن الكريم لتثويره واستنطاقه الجواب، ففي العصر النبوي كان الواقع يصوغ السؤال فيتنزل الوحي بالجواب؛ أما في عصرنا هذا فإن الوحي بأيدينا، ونحتاج إلى أن نتقن صياغة إشكالياتنا وأسئلتنا؛ لنذهب بها إلى القرآن الكريم ونستنطقه الجواب عنها ونستنطق من سنة الرسول- صلى الله عليه وسلم- فقه التنزيل ومنهجية الربط بين النص المطلق والواقع النسبي المتغير نوعاً وكمًّا.
10- دراسة القواعد الأصولية بكل تفاصيلها بما فيها مقاصد الشريعة، وذلك في محاولة للاستفادة بها في صياغة وبلورة مبادئ فقه الأقليات المعاصر. ولا بد من تكييف الدراسة للمقاصد، وربطها بالقيم العليا الحاكمة، وملاحظة الفروق الدقيقة بين مقاصد الشارع ومقاصد المكلفين.
11- الإقرار بأن فقهنا الموروث ليس مرجعاً للفتوى أو صياغة الحُكْم في مثل هذه الأمور؛ بل هو سوابق في الفتوى وفي القضاء يمكن الاستئناس بها واستخلاص منهجيتها والبناء على ما يصلح البناء عليه منها؛ فإن وُجِدَ في كلام الأقدمين ما يناسب الواقع، ويقارب رُوح الشرع استؤنس به – تأكيداً للتواصل والاستمرارية بين أجيال الأمة- دون أن يُرفَع إلى مستوى النص الشرعي، أو يُعتبَر فتوى في القضية المتناولة. ولا غضاضة إذا كان سلفنا لا يملكون جواباً لإشكاليات لم يعيشوها، ووقائع لم تخطر لهم على بال.(/8)
12- اختبار الفقه في الواقع العملي: فلكل حُكم فقهي أثر في الواقع قد يكون إيجابيًّا إذا كان استخلاص الفتوى تم وفقاً لقواعد منهجية ضابطة، وقد يحدث خلل في أي مستوى من المستويات؛ فيكون الأثر المترتب على الفتوى أو على الحُكْم في الواقع أثراً سلبيًّا؛ فتجب مراجعته للتأكد والتحرير. وبذلك تكون عملية استنباط الأحكام وتقديم الفتاوى عبارة عن جدل متواصل بين الفقه والواقع؛ فالواقع مُختبَر يستطيع أن يبين لنا ملاءمة الفتوى أو حرجها.
رابعًا: الأسئلة الكبرى في هذا الفقه
إن الفقيه الذي سيتناول فقه الأقليات يحتاج إلى التأمُّل في الأسئلة الكبرى التي يثيرها هذا الموضوع؛ ليحسن تنقيح المَنَاط، ويصيب حكم الله- تعالى- في الموضوع ما استطاع، ومن هذه الأسئلة:
1- كيف يجيب المفتي أبناء الأقلية بدقة- تعكس نطاق الشأن الخاص بهم ونطاق الشأن الذي يشتركون فيه مع الآخرين- عن السؤالين: مَن نحن؟ وماذا نريد؟
2- ما هي النظم السياسية التي تعيش "الأقلية" في ظلها؟ هل هي ديمقراطية أم وراثية أم عسكرية؟
3- ما هي طبيعة الأكثرية التي تعيش الأقلية بينها، أهي أكثرية متسلطة تستبد بها مشاعر الهيمنة والتفرد؟ أم هي أكثرية تعمل على تحقيق توازن متحرك تحكمه قواعد مدروسة تقدم ضمانات للأقليات؟ وما حجم تلك الضمانات؟ وما هي آليات تشغيلها؟
4- ما حجم هذه الأقلية التي يُرَاد التنظير الفقهي لها على المستويات المختلفة: البشرية والثقافية والاقتصادية والسياسية؟
5- ما هي طبيعة التداخل المُعَاش بين أطراف المجتمع؟ هل تتداخل الأقلية مع الأكثرية في الموارد والصناعات والمهن والأعمال (الحقوق والواجبات) أو أن هناك تمايزاً من خلال سياسات تسعى إلى إيجاد وتكريس الفواصل في هذه الجوانب؟
6- ما طبيعة الجغرافيا السكانية؟ هل هناك تداخل؟ أم أن هناك فواصل وعوازل طبيعية أو مصطنعة؟ وهل هناك موارد طبيعية خاصة بالأقلية أو بالأكثرية؟ أم أن هناك مشاركة في ذلك؟؟
7- هل الأقلية تتمتع بعمق حضاري وهُوِيَّة ثقافية تؤهل – ولو في المدى البعيد- للهيمنة الثقافية؟ وما أثر ذلك لدى الأكثرية؟
8- هل للأقلية امتداد خارج حدود الموطن المشترك، أو هي أقلية مطلقة لا امتداد لها؟ وما تأثير ذلك في الحالتين؟
9- هل للأقلية فاعليات وأنشطة تحرص على التميز بها؟ وما هي تلك الفَعَاليَّات؟
10- هل تستطيع ممارستها بشكل عفوي وتلقائي، أو لا بد من قادة ومؤسسات تساعدها على تنظيم ممارستها لتلك الفَعَاليَّات؟
11– ما هو الدور الذي تلعبه هذه المؤسسات أو التنظيمات أو القيادات في حياة الأقلية؟ هل هو تسليط مزيد من الضوء والتركيز على هُوِيَّتها الثقافية؟
12- هل تصبح هذه المؤسسات وسيلة لتكوين شبكة من المصالح، قد تساعد على استمرار التركيز على خصوصيات الأقلية، وإقناعها بأن الخصوصية الثقافية هي المبرر والمسوغ لاعتبارها أقلية؟
13– هل ستوصل هذه المؤسسات – دون أن تشعر- أبناء الأقلية إلى طرح سؤال خطير حول مدى قيمة وأهمية هذه الخصوصيات، ولِمَ لا نتجاوزها فنريح ونستريح، أو نعمل على إقناع الأكثرية بها؟!
14– إذا كانت الأقلية تمثل مزيجاً من جذور تاريخية وعرقية مختلفة، فكيف يمكن تحديد معالم هُوِيَّتَها الثقافية دون الوقوع في خطر دفع جمهورها إلى حالة الذوبان في الآخَر أو الانكفاء على الذات؟
15- كيف يمكن إيجاد الوعي الضروري لتجاوز الأقلية ما قد يحدث من ردود أفعال لدى الأكثرية، وامتصاص سلبيات هذه الأمور دون التفريط بإيجابياتها؟
16- كيف يمكن إنماء الفَعَاليَّات المشتركة بين الأقلية والأكثرية؟ وما هي المستويات التي يجب ملاحظتها في هذه المجالات؟
17- كيف يمكن الوصل والفصل بين مقتضيات المحافظة على الهُوِيَّة الثقافية "الخاصة" والهُوِيَّة الثقافية "المشتركة"؟
18- ماذا على الأقلية أن تفعل لتمييز ما يمكن أن يتحول إلى مشترك من أجزاء ثقافتها؟ وما الذي تستطيع أن تتبناه من المشترك المأخوذ من ثقافة الأكثرية؟ وما هو دور الأكثرية في هذا؟
وبناء على هذه التوضيحات المتعلِّقة بالمنهج، وبتحقيق المَنَاط، وبحجم الأسئلة المثارَة نستطيع التأكيد على أن الكثير من الاجتهادات الفقهية القديمة التي نشأت في عصر الإمبراطوريات لن تسعفنا كثيراً في تأسيس فقه أقليات معاصر، مع احترامنا لتلك الاجتهادات وإقرارنا بفائدة البعض منها في حدوده الزمانية والمكانية؛ بل يلزمنا الرجوع إلى الوحي والتجربة الإسلامية الأولى، مع الاستئناس بأقوال بعض المجتهدين الذين عبَّروا عن الرُّوح الإسلامية، وتحرروا من قيود التاريخ أكثر من غيرهم، دون اعتبار أقوالهم مصدراً مؤسساً لقاعدة شرعية.
خامسًا: القواعد العامة لفقه الأقليات
قاعدة في عَلاقة المسلمين بغيرهم:(/9)
لقد تضمنت آيتان من القرآن الكريم قاعدة ذهبية في عَلاقة المسلمين بغيرهم، هما قول الله- تعالى-: "لا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُون". [سورة الممتحنة: الآيتان 8، 9].
قال ابن الجوزي: "هذه الآية رخصة في صلة الذين لم ينصبوا الحرب للمسلمين، وجواز برهم، وإن كانت الموالاة منقطعة عنهم" [ابن الجوزي: زاد المسير 8/39].
وقال القرطبي: "هذه الآية رخصة من الله- تعالى- في صلة الذين لم يعادوا المؤمنين ولم يقاتلوهم.. قوله- تعالى- : "أَنْ تَبَرُّوهُم" أي لا ينهاكم الله عن أن تبروا الذين لم يقاتلوكم…". [القرطبي: الجامع لأحكام القرآن 18/43].
وأكد ابن جرير على عموم الآية في غير المسلمين من كل الأديان والمِلَل والنِّحَل، فقال: "وأولى الأقوال في ذلك الصواب قول مَن قال: عني بذلك "لا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ" من جميع أصناف المِلَل والأديان أن تبروهم وتصلوهم وتُقسطوا إليهم. إن الله- عز وجل- عمَّ بقوله: "الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ " جميع مَن كان ذلك صفته، فلم يخصص به بعضاً دون ذلك" [نفس المصدر 28/43].
وفسَّر جل المفسرين "القسط" الوارد في الآية بأنه العدل، لكنَّ القاضي أبا بكر بن العربي أعطاه معنى آخر، باعتبار أن العدل واجب على المسلم تجاه الجميع أعداء وأصدقاء، لقوله تعالى: "وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى ألا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى" [سورة المائدة، الآية 8]. أما القسط في هذه الآية فهو – عند ابن العربي- الإحسان بالمال: ("وتقسطوا إليهم": أي تعطوهم قسطاً من أموالكم على وجه الصلة، وليس يريد به العدل؛ فإن العدل واجب فيمن قاتل وفيمن لم يقاتل، قاله ابن العربي) [القرطبي 18/43].
لقد حددت هاتان الآيتان الأساس الأخلاقي والقانوني الذي يجب أن يُعامِل به المسلمون غيرهم، وهو البر والقسط لكل مَن لم يناصبهم العداء. وكل النوازل والمستجدات ينبغي محاكمتهما إلى ذلك الأساس. وما كان للعَلاقة بين المسلمين وغيرهم أن تخرج عن الإطار العام والهدف الأسمى الذي من أجله أنزل الله الكتب وأرسل الرسل، وهو قيام الناس بالقسط، يقول تعالى: "لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيْزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ" [سورة الحديد، الآية 25]، فقاعدة "القيام بالقسط" قاعدة مطردة، سواء تعلق الأمر بإعطاء غير المسلمين حقوقهم، أو سعي المسلمين إلى أخذ حقوقهم.
الأمة المخرَجَة:
وبينت آية من الكتاب الكريم اثنتين من خصائص أمة التوحيد هما: الخيرية والإخراج. قال تعالى: "كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ" [سورة آل عمران، الآية 110]. فهذه الآية تدل على أن خيرية هذه الأمة تتمثل في أن الله- تعالى- أخرجها للناس لتخرجهم من الظلمات إلى النور، فهي أمة مخرَجَة (بفتح الراء) لا تنفك خيريتها عن دورها الرسالي على هذه الأرض المتمثل في "إخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله- تعالى-" كما لخَّصه ربعي بن عامر- رضي الله عنه- أمام كسرى.
وقد بيَّن المفسرون من السلف ومن المتأخرين على حد سواء الارتباط بين معنى الخيرية والإخراج: عن عكرمة في تفسير الآية قال: "خير الناس للناس، كان مَن قبلكم لا يأمن هذا في بلاد هذا، ولا هذا في بلاد هذا، فكلما [=أينما] كنتم أَمِنَ فيكم الأحمر والأسود؛ فأنتم خير الناس للناس" [تفسير ابن أبي حاتم 1/472، وقال المحقق: إسناده حسن]، وقال ابن الجوزي: "كنتم خير الناس للناس" [ابن الجوزي: زاد المسير 1/355]، وقال ابن كثير: "المعنى أنهم خير الأمم وأنفع الناس للناس" [الصابوني: مختصر تفسير ابن كثير 1/308]، و "قال النحاس: والتقدير على هذا: كنتم للناس خير أمة" [القرطبي: الجامع لأحكام القرآن 4/171]، وقال البغوي: "أي أنتم خير أمة للناس" [البغوي: معالم التنزيل 1/266]؛ وزاد أبو السعود الأمر توضيحاً فقال: "أي كنتم خير الناس للناس، فهو صريح في أن الخيرية بمعنى النفع للناس، وإن فهم ذلك من الإخراج لهم أيضاً، أي أخرجت لأجلهم ومصلحتهم" [أبو السعود: إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن العظيم 2/70]. وهو المعنى الذي استوحاه الخطيب فقال: "من رسالة هذه الأمة ألا تحتجز الخير لنفسها، ولا تستأثر به حين يقع لديها؛ بل تجعل منه نصيباً تبر به الإنسانية كلها" [عبد الكريم الخطيب: التفسير القرآني 4/548].(/10)
إن أمة- هاتان أخص خصائصها- لا يمكن أن تحدها أرض، أو يختص بها مكان؛ بل لا بد أن تخرج إلى الناس، وتبلغهم رسالة الله إلى العالمين. فأي كلام بعد ذلك عن "دار إسلام" و"دار كفر"، أو "دار إسلام" و "دار حرب" – بالمعنى الجغرافي لهذين المصطلحين- إنما هو ضرب من التكلف وتضييق لآفاق الرسالة.
بل إن مفهوم "الأمة" في شرعنا لا يرتبط بالكم البشري أو الحيِّز الجغرافي أصلاً، وإنما يرتبط بالمبدأ الإسلامي، حتى وإن تجسد ذلك المبدأ في شخص واحد؛ ولذلك استحق إبراهيم- عليه السلام- وصف "الأمة" في القرآن الكريم؛ لقنوته لله وشكره لأنعمه: "إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا للهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِرًا لأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ" [سورة النحل، الآية 120].
وقد أدرك بعض علمائنا الأقدمين المغزى الذي نقصد إليه هنا؛ فربطوا تلك التحديدات بإمكان إظهار الإسلام وأمن المسلمين فقط، فليست للإسلام حدود جغرافية، ودار الإسلام هي كل أرض يأمن فيها المسلم على دين، حتى ولو عاش ضمن أكثرية غير مسلمة؛ ودار الكفر هي كل أرض لا يأمن فيها المؤمن على دينه، حتى ولو انتمى جميع أهلها إلى عقيدة الإسلام وحضارته.
قال الكاساني: "لا خلاف بين أصحابنا [الأحناف] في أن دار الكفر تصير دار إسلام بظهور أحكام الإسلام فيها" [الكاساني: بدائع الصنائع 7/131]. أما دار الإسلام فقال القاضي أبو يوسف ومحمد بن الحسن: "تصير دار كفر بظهور أحكام الكفر فيها" [نفس المصدر والصفحة]. وروى ابن حجر عن المواردي رأياً ذهب فيه إلى أبعد من ذلك؛ فاعتبر أن الإقامة في دار كفر يستطيع المسلم إظهار دينه فيها أولى من الإقامة في دار الإسلام، لما في ذلك من القيام بوظيفة جذب الناس إلى هذا الدين وتحسينه إليهم، ولو بمجرد الاحتكاك والمعايشة: "قال الماوردي: إذا قدر [المسلم] على إظهار الدين في بلد من بلاد الكفر؛ فقد صارت البلد به دار إسلام، فالإقامة فيها أفضل من الرحلة منها؛ لما يترجى من دخول غيره في الإسلام" [ابن حجر: فتح الباري 7/230].
الانتصار والإيجابية:
ومما امتدح الله- تعالى- به عباده المؤمنين الإيجابية والانتصار لحقوقهم، ورفض البغي والظلم، وعدم الرضا بالمذلة والهوان. قال تعالى: "إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا" [سورة الشعراء، الآية 227]، وقال تعالى: "وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُون" [سورة الشورى، الآية 39]. قال ابن الجوزي معلقاً على هذه الآية الأخيرة : "ليس للمؤمن أن يذل نفسه" [ابن الجوزي: زاد المسير 7/122]، وقال ابن تيمية: "... وضد الانتصار العجز، وضد الصبر الجزع، فلا خير في العجز ولا في الجزع، كما نجده في حال كثير من الناس، حتى بعض المتدينين إذا ظلموا أو رأوا منكراً، فلا هم ينتصرون ولا يصبرون، بل يعجزون ويجزعون" [ابن تيمية: التفسير الكبير 6/59].
فأي رضا من المسلمين بالدون، أو بالمواقع الخلفية، وأي سلبية وانسحاب من التفاعل الإيجابي مع الوسط الذي يعيشون فيه يناقض مدلول هاتين الآيتين الداعيتين إلى الإيجابية والانتصار.
تحمل الغبش:
ولو اقتضت المشاركة الإيجابية تحمل نوع من الغبش الذي لا يمس جوهر العقيدة وأساسيات الدين؛ فهو أمر مغتفر إن شاء الله؛ لأن تحقيق الخير الكثير المرجو متعذر بدونه. وليس هذا الأمر بجديد على الفقه الإسلامي؛ بل هو أمر قبله علماء الإسلام منذ نهاية الخلافة الراشدة وبداية المُلْك؛ فقد وضع الواقع الجديد أهل الخير أمام أحد خيارين: إما المشاركة الإيجابية مع قَبول تنازلات يمليها واقع الظلم المتغلب، وإما السلبية والانسحاب وترك الأمة في أيدي الظلمة؛ فاختاروا الخيار الأول إدراكاً منهم لإيجابية الإسلام ومرونة تشريعاته. قال ابن تيمية مؤصلاً هذا الأمر: "الواجب على المسلم أن يجتهد في ذلك بحسب وسعه: فمن ولي ولاية يقصد بها طاعة الله وإقامة ما يمكنه من دينه ومصالح المسلمين، وأقام فيها ما يمكنه من ترك المحرمات، لم يؤاخذ بما يعجز عنه؛ فإن تولية الأبرار خير من تولية الفجار" [ابن تيمية: السياسة الشرعية، ص 167]. وقال: "وجود الظلم والمعاصي من بعض المسلمين وولاة أمورهم وعامتهم لا يمنع أن يشارك فيما يعمله من طاعة الله" [ابن تيمية: منهاج السنة 4/113]. ولو كان – رحمه الله- حيًّا الآن لأضاف: "بعض الكافرين وولاة أمورهم وعامتهم" تمشياً مع منطق الموازنة الشرعية الذي تبناه، ومراعاة لتغير الوقائع.(/11)
وانسجاماً مع نفس المنطق تقبل ابن حجر سؤال الإمارة والحرص عليه – رغم نهي السنة عن ذلك- إذا كانت حقوق المسلمين ومصالحهم معرضة للإهدار والضياع، فقال: "مَن قام للأمر [الإمارة] عند خشية الضياع يكون كمَن أعطي بغير سؤال، لفقد الحصر غالباً عمَّن هذا شأنه، وقد يغتفر الحرص في حق من تعين عليه لكونه يصير واجباً عليه" [ابن حجر: فتح الباري 13/126].
سادسًا: دروس من الهجرة إلى الحبشة
تضمنت التجربة الإسلامية الأولى مثالاً على لجوء المسلمين إلى بلاد الكفر لحماية دينهم، هو الهجرة إلى الحبشة. ولهذا المثال أهمية خاصة؛ لأنه وقع في عصر الاستضعاف الشبيه بحال المسلمين الآن، كما أنه وقع في عهد التشريع، مما يضفي مغزى تأصيليًّا على الدروس والعِبَر المستخلَصَة منه.
وقد وقعت حادثة أثناء تلك الهجرة تحمل دلالة كبرى على ما يستطيع المسلمون المهاجرون فعله لحماية دينهم ورعاية مصالحهم، وكسب ود غيرهم، بل اكتسابه للإسلام.
أورد الإمام أحمد بصيغ مختلفة وفي مواضع متعددة من مسنده تفاصيل هذه القصة الطويلة [انظر: المسند، الأحاديث رقم: 1649 و14039 و17109 و21460] ، وخلاصتها أن قريشاً أرادوا مضايقة المسلمين المهاجرين إلى الحبشة؛ فبعثوا عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة محملين بهدايا للنجاشي، ورشاوى لبطارقته، في محاولة لشراء الذمم من أجل تسليم المسلمين المستضعفين إليهم.
وتكلم عمرو وعبد الله بين يدي النجاشي فقالا: "أيها الملك: إنه قد صبا إلى بلدك منا غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينك، وجاءوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا إليك أشارف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردهم إليهم، فهم أعلى بهم عيناً، وأعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه... فقالت بطارقته: صدقوا أيها الملك.. فأسلمهم إليهما فليرداهم إلى بلادهم وقومهم. لكن النجاشي كان رجلاً عادلاً، ولم يكن ليقبل الحكم غيابيًّا على مَن لم يسمع حجته؛ فأمر بإحضار المسلمين "فلما جاءهم رسوله اجتمعوا ثم قال بعضهم لبعض: ما تقولون للرجل إذا جئتموه؟ قالوا: نقول واللهِ ما علمْنَا وما أمرَنَا به نبيُّنا- صلى الله عليه وسلم- كائن في ذلك ما هو كائن؛ فلما جاءوه وقد دعا النجاشي أساقفته فنشروا مصاحفهم حوله ليسألهم، فقال ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا في ديني ولا في دين أحد من هذه الأمم. قالت [أم سلمة راوية الحديث] فكان الذي كلمه جعفر بن أبي طالب، فقال: أيها الملك، كنا قوماً أهل جاهلية نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام ونسيء الجوار ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه؛ فدعانا إلى الله- تعالى- لنوحده ونعبده ونترك ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمر بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة، وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئاً، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام – قالت: فعدد عليه أمور الإسلام – فصدقناه وآمنا به واتبعناه على ما جاء به… فعدا علينا قومنا يعذبونا ففتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان.. وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث، ولما قهرونا، وظلمونا، وشقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلدك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا ألاَّ نُظلَم عندك أيها الملك". وتوضح رواية أخرى أن جعفر لما دخل على النجاشي خالف العرف السائد الذي يقضي بالسجود للملك "فسلَّم ولم يسجد، فقالوا له ما لك لا تسجد للملك؟ قال: إنا لا نسجد إلا لله – عز وجل".
وانتهت المناظرة بانتصار المسلمين، واقتناع النجاشي بعدالة قضيتهم، ورجع رسولا قريش من عند النجاشي شر مرجع "فخرجا من عنده مقبوحين مردوداً عليهما ما جاءوا به" حسب تعبير أم المؤمنين أم سلمة- رضي الله عنها.
ثم توطدت العَلاقة بين المسلمين وذلك الملك المسيحي إلى درجة أنهم دعوا له بالنصر حين ظهر مَن ينازعه ملكه، قالت أم سلمة: "… ودعونا الله- تعالى- للنجاشي بالظهور على عدوه، والتمكين له في بلاده".
وكانت النتيجة المنطقية لتلك العَلاقة الوثيقة أن اعتنق النجاشي الإسلام في نهاية المطاف.
خلاصة منهجية
بناء على ما اتضح من موازين الوحي، وخصائص أمة التوحيد، ومن المحددات المنهجية اللازمة، ثم من تجربة المسلمين الأوائل في الحبشة، نستطيع التوصل إلى الخلاصات التالية:(/12)
1- إن وجود المسلمين في أي بلد يجب التخطيط له باعتباره وجوداً مستمرًّا ومتنامياً، لا باعتباره وجوداً طارئاً أو إقامة مؤقتة أملتها الظروف السياسية والاقتصادية في العالم الإسلامي. ولا حجة في رجوع المهاجرين من الحبشة؛ لأن الهجرة كانت واجبة في صدر الدعوة وبناء المجتمع الجديد، ثم سقط ذلك الوجوب بالفتح، كما قال- صلى الله عليه وسلم-: "لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية" [صحيح البخاري، كتاب الجهاد، الحديث 2575. وصحيح مسلم، كتاب الإمارة، الحديث 3468]. كما أن رجوعهم كان مواصلة لهجرة جديدة؛ لأن مكة هي موطنهم.
2- ينبغي لأبناء الأقليات المسلمة أن لا يقيدوا أنفسهم باصطلاحات فقهية تاريخية لم ترد في الوحي مثل "دار الإسلام" و "دار الكفر". وعليهم أن ينطلقوا من المنظور القرآني: "إَنَّ الأَرْضَ للهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِين" [سورة الأعراف، الآية 128]، "وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُوْن" [سورة الأنبياء، الآية 105].
3- من واجب المسلمين أن يشاركوا في الحياة السياسية والاجتماعية بإيجابية، انتصاراً لحقوقهم، ودعماً لإخوتهم في العقيدة أينما كانوا، وتبليغاً لحقائق الإسلام، وتحقيقاً لعَالَميته. ولقد قلنا: إن ذلك "من واجبهم"؛ لأننا لا نعتبره مجرد "حق" يمكنهم التنازل عنه، أو "رخصة" يسعهم عدم الأخذ بها.
4- كل منصب أو ولاية حصل عليها المسلمون بأنفسهم، أو أمكنهم التأثير على مَن فيها مِن غيرهم، تُعتبَر مكسباً لهم من حيث تحسين أحوالهم، وتعديل النظم والقوانين التي تمس صميم وجودهم، بل التي لا تنسجم مع فلسفة الإسلام الأخلاقية. ومن حيث التأثير على القرارات السياسية ذات الصلة بالشعوب الإسلامية الأخرى.
5- كل ما يعين على تحقيق هذه الغايات النبيلة من الوسائل الشرعية فهو يأخذ حكمها. ويشمل ذلك تقدم المسلم لبعض المناصب السياسية، وتبني أحد المترشحين غير المسلمين – إذا كان أكثر نفعاً للمسلمين، أو أقل ضرراً عليهم- ودعمه بالمال؛ فقد أباح الله تعالى برهم وصلتهم دون مقابل، فكيف إذا ترتب على ذلك مردود واضح ومصلحة متحققة. وفي تفسير ابن العربي للفظ "القسط" ما يمكن الاستئناس به.
6- إن انتزاع المسلمين لحقوقهم في بلد يمثلون أقلية فيه، وتفاعلهم الإيجابي مع أهل البلد الأصليين، يقتضي منهم تشاوراً وتكاتفاً واتفاقاً في الكليَّات، وتعاذرًا في الجزئيات والخلافيات. ولنا في سلفنا من المهاجرين إلى الحبشة أسوة حين اجتمعوا وتشاوروا حول أمثل الصيغ للرد على الموقف الحرج.
7- يحتاج أبناء الأقليات المسلمة إلى ترسيخ الإيمان بالله، وتدعيم الثقة في الإسلام، حتى لا يدفعهم التفاعل مع غيرهم إلى تنازلات تَمَسُّ أساس الدين مجاراة لعرف سائد أو تيار جارف. وفي رفض جعفر السجود للنجاشي ـ كما فعل خصماه وكما يقضي العرف- أسوة في هذا السبيل.
8- تحتاج الأقليات المسلمة إلى حسن التعبير عن حقائق الإسلام الخالدة، ونظام قِيمه الإنساني الرفيع، كما فعل جعفر في خطبته البليغة التي أوجز فيها أمهات الفضائل الإسلامية، وأوضح الفرق بينها وبين الحياة الجاهلية. وبذلك لا يكسب المسلمون تعاطف الناس فقط؛ بل يكسبون الناس أنفسهم للالتحاق بركب التوحيد.
9- إن فن الإقناع وعلم العَلاقات العامة لهما دور يحسن الانتباه له؛ فالكلام الذي ختم به جعفر خطبته يدخل في هذا السياق: "خرجنا إلى بلدك، واخترناك على مَن سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا ألاَّ نُظلَم عندك أيها المَلك". وبه نختم هذه الملاحظات التي نرجو أن يجد فيها طالب الحق ما يعينه على حسن تصور الحُكْم الشرعي في هذا الأمر، وتجد فيها الأقليات الإسلامية ما يرفع عنها الحرج، ويدفعها إلى مزيد من الإيجابية والتضحية في خدمة الإسلام وحمله إلى العَالَمين.
وبالله تعالى التوفيق، وهو الهادي إلى أقوم طريق
مواقع داعمة لنظرات تأسيسية في فقه الأقليات:
موقع صوت إيجورستان
المركز الإعلامي لكشمير المسلمة
لجنة شباب شرق أوربا
الندوة العالمية للشباب الإسلامي
المرصد الإعلامي الإسلامي
شبكة كوسوفا المسلمة
وكالة الأنباء الإسلامية الدولية – إ
القواعد الأصولية لفقه الأقليات.. وأمثلتها
إن المنهج الأصولي الذي تضبط قواعده طرق الاستنباط للأحكام الشرعية هو -بفروعه المختلفة- متمثل بالأخص في أصول الفقه والقواعد الفقهية ومقاصد الشريعة، تراكم فيه عبر تطوره وتوسعه من الأصول والضوابط والقواعد المنهجية التي توجه الاستنباط الشرعي تراث في هذا الشأن أصبح يغطي كل مجالات النظر الفقهي دون استثناء، فما من فقيه رام استنباط حكم شرعي في أي مجال من مجالات الحياة إلا وجد من الأصول والقواعد المنهجية الفقهية ما يساعده ويوجهه في استنباط ذلك الحكم من مدركه النصي أو الاجتهادي.(/13)
وعلى هذا الاعتبار فإن ما قدمناه آنفا من موجهات أصولية منهجية حسبنا أنها تؤسس لقواعد تأصيلية لفقه الأقليات المسلمة بالبلاد الأوربية لا يقصد منه تأسيس اختراعي لقواعد جديدة تُستحدث به استحداثا بعد أن لم تكن موجودة في المدونة التراثية لعلم أصول الفقه بفروعه المختلفة بقدر ما يقصد منه تأسيس يُستثمر فيه ما جاء في تلك المدونة من ثراء في قواعدها وضوابطها، لتُستخلص جملةٌ منها تؤلف في بناء جديد، وتوجه توجيها جديدا، بحيث يتكون منها منهج أصولي متكامل يؤصل لفقه الأقليات، ويوجهه ليثمر ثماره في التعريف بالإسلام كما سبق بيانه.
أ ـ التكييف الأصولي لقواعد فقه الأقليات:
من المعلوم أن القواعد الأصولية الكثيرة التي اشتملت عليها فروع علم الأصول لئن كانت تغطي بتنوعها كل مجالات الاستنباط الفقهي إلا أنها مع ذلك لم تكن على سواء في طبيعتها من حيث الشمول والجزئية؛ إذ منها ما هو ذو طابع شمولي يمكن أن تُستخدم به في كل نظر فقهي في أي مجال من مجالات الحياة، ومنها ما هو دون ذلك في الشمول، فيستخدم بحسب طبيعته في بعض مجالات النظر الفقهي أكثر مما يستخدم في البعض الآخر. وبالإضافة إلى هذا الفارق المرشح للتفاوت في استخدام تلك القواعد من تلقاء الفارق في طبيعتها فإن بعضا منها كان أوفر حظا في الاستخدام الفعلي من بعض، وذلك تبعا للتفاوت في حجم الاهتمام الذي وقع به تناول أوجه الحياة بالنظر الاجتهادي الفقهي لأسباب راجعة إلى ظروف وملابسات النظر الفقهي نفسه، لا إلى تفاوت طبيعة القواعد في ذاتها، وذلك على سبيل المثال على نحو ما نرى من تفاوت في حجم الاهتمام بالاجتهاد الفقهي بين مجال العبادات والأنكحة والبيوع من جهة، وبين مجال السياسة الشرعية وأوضاع الأقليات المسلمة من جهة أخرى.
وهذا التفاوت في الاستخدام للقواعد الأصولية منهجا للاجتهاد الفقهي -بقطع النظر عن أسبابه- أفضى إلى تفاوت بينها في النضج باعتبارها آلات منهجية للاجتهاد، وذلك سواء من حيث صياغتها وتحريرها، أو من حيث تفريعها وترتيبها، أو من حيث صناعتها المنهجية، كما أفضى أيضا إلى تفاوت بينها في درجة حضورها في الذهنية الفقهية الاجتهادية، وفي مقدار تأثيرها فيها وأثرها في نتائجها من الأحكام تبعا لذلك، كما هو ملحوظ -على سبيل المثال- من تفاوت في كل ذلك بين قواعد الدلالات وقواعد القياس وقواعد التحوط من جهة، وبين قواعد مآلات الأفعال وقواعد الموازنات والقواعد التي تجوز في بعض الحالات ما لا تجوزه في بعض من جهة أخرى، وكان من نتيجة ذلك أن بعضا من القواعد الفقهية الاجتهادية لئن كان مدرجا ضمن المدونة الأصولية ذكرا وعدا وربما محاورة ودرسا، إلا أنه بقي مغمورا في الاستخدام الاجتهادي، وضعيف الأثر في المدونة الفقهية، كما أنه بقي تبعا لذلك يختزن طاقات اجتهادية لم يكتمل الكشف عنها، أو لم يكتمل نضجها بالتقرير والتحرير والترتيب، وتلك سنة جارية، فالآلات -على اختلاف أجناسها- تتطور وتنضج وتزكو ثمرتها بالاستعمال، وتؤول إلى خلاف ذلك بالإهمال.
ومن القواعد الأصولية التي اشتملت عليها مدونة أصول الفقه قواعد ذات فوائد اجتهادية كبيرة في النظر الفقهي المتعلق بأحوال الأقليات المسلمة وأوضاعها، سواء كان ذلك بصفة خاصة تتمحض بها على قدر كبير للإفادة في هذا المجال الفقهي، أو كان بصفة عامة تشترك بها في الإفادة الاجتهادية مع مجالات أخرى من مجالات النظر الفقهي. ولكن لما كانت أحوال الأقليات المسلمة وأوضاعها لم تحظ من الاهتمام بالنظر الفقهي الاجتهادي إلا بالقدر القليل بالنسبة لسائر مجالات الفقه العام للأسباب التي ذكرناها آنفا، فإن تلك القواعد الأصولية لم يكن استخدامها في الاجتهاد الفقهي بصفة عامة، وفي الاجتهاد لجهة فقه الأقليات بصفة خاصة إلا استخداما محدودا، فظلت لذلك السبب قواعد مغمورة، ضعيفة في أثرها الفقهي، غير نضيجة التقرير والتحرير والترتيب، وذلك بالرغم من أنها تنطوي على طاقة منهجية اجتهادية كبيرة في مجال فقه الأقليات على وجه الخصوص.(/14)
وما نطرحه في هذه الورقة من فكرة التأسيس لقواعد أصولية لفقه الأقليات إنما نعني به أول ما نعني أن يقع الاتجاه البحثي على تلك القواعد الأصولية التي من شأنها أن تفيد إفادة كبيرة في فقه الأقليات، فتؤخذ بعناية دراسية خاصة، واهتمام بحثي مستقل، وتعالج بالنظر المنهجي وفق الموجهات الأصولية الأربعة التي شرحناها آنفا، لينشأ من ذلك فرع متميز من علم الأصول، أو باب مستقل من أبوابه، لئن كان يشترك في الأسس العامة مع سائر فروع هذا العلم وأبوابه إلا أنه يختص بخصوصية التوجه لخدمة فقه الأقليات وتطويره وإنضاجه ليبلغ هدفه المرتجى منه، وما تقتضيه تلك الخصوصية من مقتضيات التوجيه والتكيف والترتيب. وإن هذا التوجه بالبحث الأصولي المختص بمجال فقه الأقليات المسلمة لكفيل -على ما نحسب- بأن يثمر في ذلك الفقه من الحكمة الاجتهادية الموفية بالتمكين للدين ما لا يتم لو ترك الأمر لأنظار فقهية في مجال الأقليات تجري على القواعد الأصولية العامة كما هي عليه في مدونة علم الأصول في غير تميز وتوجيه خاص.
ويمكن أن تتم تلك المعالجة الأصولية للقواعد المتعلقة بفقه الأقليات بوجوه متعددة. منها أن يجمع منها ما هو شديد الصلة في مقاصده بأحوال الأقليات المسلمة وأوضاعهم، وما هو بين الإفادة في المعالجة الشرعية لتلك الأحوال، ثم يرتب في نسق متكامل ينظمه منهجيا الغرض المشترك والوجهة الجامعة.
ومنها أن تشرح تلك القواعد شرحا يكشف عما تختزنه من إمكانيات اجتهادية في الاستنباط الفقهي، ومن مقاصد وحكم تنطوي عليها تلك الإمكانيات، ما كان من ذلك معلوما متداولا وما قد يكون منه غير معلوم ولا متداول. ومنها أن تكيف تلك القواعد في صياغتها وفي ترتيبها وفي شرح حكمها وارتياد أبعادها بما تكون به مهيأة للإفادة في فقه الأقليات، وأن توجه في كل ذلك توجيها يخدم ذلك الغرض بما يضرب لها من الأمثلة التطبيقية الموضحة لمعانيها والشارحة لمغازيها، وبما يُكشف من آثار لمقاصدها متعلقة على وجه الخصوص بأحوال الأقليات وأوضاعهم.
ويمكن أن يكون من بين تلك الوجوه أيضا أن يُستروح من مجموع القواعد الأصولية المتداولة على وجه العموم ومن بعضها على وجه الخصوص بعض الحكم والأسرار التشريعية مما هو مصرح به في صياغتها وشروحها أو مضمن في مقاصدها وروحها العامة لتصاغ منه قواعد وضوابط خاصة بمعالجة أحوال الأقليات المسلمة فيما يشبه التوليد منها أو التفريع عليها أو التطوير لها. ومن كل تلك المعالجة بوجوهها المختلفة يتكون كيان معرفي متجانس منهجيا موحد غائيا يمكن أن يسمى على سبيل المثال بكيان "القواعد الأصولية لفقه الأقليات" أو ما يشبه ذلك من الأسماء.
ب ـ نماذج من قواعد فقه الأقليات:
إذا كان هذا المقام ليس مقام محاولة تطبيقية لنظم ذلك الكيان في أبوابه ومحتوياته ومنهج بنائه على المقصد الذي بيناه، فإننا نورد تاليا بعض النماذج من القواعد الأصولية التي يمكن أن تدرج ضمن ما اقترحنا من كيان أصولي لقواعد فقه الأقليات، اقتصارا على ذكر عناوينها مما هو متداول في الأصول الفقهية العامة، أو مما يمكن أن يولد من ذلك المعلوم المتداول من الفروع، مع بيان بعض الوجوه التي تبرر اختيارها لتدرج ضمن ذلك الكيان، وتبرر انتظامها في مقاصده وأهدافه.
أولا ـ قاعدة مآلات الأفعال:
هي قاعدة أصولية في استنباط الأحكام الشرعية متداولة في مدونة أصول الفقه، ولها بعض الأثر في الاجتهاد الفقهي، وإن يكن على ما نحسب ليس على مقدار حجم أهميتها. وتقريرها -في الجملة- أن الأحكام الشرعية تبنى في صيغتها النظرية المجردة أمرا ونهيا على اعتبار ما تؤدي إليه مناطاتها من الأفعال باعتبار أجناسها المجردة من مصلحة أو مفسدة، ولكن تلك الأفعال في حال تشخصها العيني قد يطرأ عليها من الملابسات ما يجعل بعض أعيانها تؤول إلى عكس ما قُدر نظريا أنه تؤول إليه أجناسها، فإذا ما قدر باعتبار جنسه أنه يحقق مصلحة فوضع له حكم الأمر أصبح لتلك الملابسات يؤول باعتبار عينه إلى تحقيق مفسدة، والعكس صحيح، وحينئذ فإن الفقيه المجتهد يعدل فيه بالنظر الاجتهادي عن حكم الأمر إلى حكم النهي، أو يعدل عن حكم النهي إلى حكم الأمر اعتبارا لذلك المآل الذي غلب على ظنه أنه يؤول إليه في الواقع.
ولهذه القاعدة الأصولية مجال استعمال واسع في المعالجة الفقهية لأحوال الأقليات المسلمة بالبلاد الأوربية؛ ذلك لأن أحكام الشريعة في مجال التعامل الاجتماعي بمعناه العام الذي تتشابك فيه العلاقات بين الناس جاءت في عمومها أحكاما تعالج أوضاع تلك العلاقات على اعتبار أنها علاقات يحكمها سلطان الدين في نطاق الأمة المسلمة فيما بين بعض أفرادها وفئاتها وبعض، أو في نطاق علاقتها كأمة مسلمة بشعوب وأمم ودول غير مسلمة، وكانت تلك المعالجة الشرعية مبنية على وضوح في مآلات الأفعال المحكوم عليها، إذ مسالكها بينة في ظل وضع يحتكم في عمومه لسلطان الدين.(/15)
ولكن كثيرا من تلك الأحكام حينما تطبق في أوضاع الأقلية المسلمة التي تعيش في مجتمع لا يحكمه سلطان الشرع، وإنما يحكمه سلطان قانون وضعي وضعه وينفذه غير المسلمين عليهم وعلى غيرهم، فإنها تؤول -عند التطبيق الواقعي- إلى عكس مقصدها، فإذا ما شُرع للمصلحة يؤول تطبيقه في هذا الوضع إلى مفسدة والعكس صحيح، وهو ما يدعو إلى أن تستخدم هذه القاعدة، قاعدة مآلات الأفعال، استخداما واسعا في الاجتهاد الفقهي الذي يعالج أوضاع الأقليات المسلمة، وأن توجه بمعالجة أصولية لتكون إحدى القواعد الأصولية في الاستنباط الفقهي المتعلق بتلك الأوضاع.
ثانيا ـ قاعدة الضرورات تبيح المحظورات:
هي قاعدة أصولية واسعة التداول في النظر الفقهي، بالغة الأثر فيه، وتقريرها في الجملة أن الحكم الشرعي إذا أدى تطبيقه إلى إهدار المصالح الضرورية للإنسان التي تحفظ له ما به قوام حياته المادية والمعنوية، فإن النظر الفقهي يعدل عن الحكم بالحظر إلى الحكم بالإباحة بسبب تلك الضرورة، وقد ألحقت بالضرورة في هذا الشأن لإباحة المحظور الحاجةُ الشديدة القريبة من الضرورة، ولهذه القاعدة تطبيقات مشهورة في عموم الفقه الإسلامي.
ولعل مجال استعمال هذه القاعدة في النظر الفقهي المتعلق بأحوال الأقليات المسلمة هو أوسع من أي مجال آخر من مجالات النظر الفقهي؛ ذلك لأن الضرورة في حياة الأقليات المسلمة يختلف تطبيقها عنه بالنسبة لحياة المسلمين في المجتمع الإسلامي، بل قد يتسع مفهومها أيضا بين الوضعين، إذ المسلمون بالبلاد الأوربية محكومون بقانون الوضع المخالف في كثير منه لأحكام الشرع، وهم ملزمون بأن ينفذوا ذلك القانون في حياتهم الاجتماعية، وذلك مجال واسع للضرورة لا نظير له في البلاد الإسلامية، ثم إن الضرورة في ذاتها تخضع في ميزان التقدير لنسبية واسعة، فبعض ما يكون غير ضروري في مجتمع ما لإقامة الحياة يكون ضروريا لذلك في مجتمع آخر، وذلك بالنظر إلى تفاوت المجتمعات في بنائها الأساسي من بساطة وتعقيد، وانفتاح وانغلاق، وتلاحم وتفكك، وغير ذلك من الصيغ التي تبنى عليها المجتمعات، وكل تلك الفروق فروق قائمة بشكل بين بين المجتمع الأوربي الذي تعيش به الأقليات المسلمة وبين المجتمع الإسلامي في البلاد الإسلامية.
وتبعا لذلك فإنه مما يقتضيه التأصيل لفقه الأقليات أن تؤخذ هذه القاعدة الأصولية العامة بمعالجة خاصة توجه فيها توجيها تطبيقيا على أحوال الأقليات المسلمة بأوربا، فتدرس في نطاقها وبحسب مقاصدها أحوال الضرورات في حياة المسلمين بهذه البلاد، وتقدر مقاديرها بالقسط، منظورا فيها إلى معطيات من خصوصيات الأوضاع في تلك الحياة مما لم يكن منظورا في حياة المسلمين بالمجتمع الإسلامي الخاضع لسلطان الدين، لتصبح بتلك المعالجة الخاصة موجها أصوليا مهما في فقه الأقليات.
ثالثا ـ قواعد الموازنة بين المصالح والمفاسد:
هي جملة من القواعد الأصولية التي تلتقي عند معنى الموازنة بين ما ينتهي إليه فعل ما من الأفعال أو وضع ما من الأوضاع من المصلحة وما ينتهي إليه من المفسدة، فيبنى الحكم الشرعي على نتيجة تلك الموازنة أمرا إذا رجحت المصلحة، ونهيا إذا رجحت المفسدة، وذلك من مثل قاعدة درء المفسدة أولى من جلب المصلحة، وقاعدة مصلحة الجماعة مقدمة على مصلحة الأفراد، وقاعدة المصلحة الدائمة مقدمة على المصلحة الظرفية، وقاعدة أن الحرام القليل لا يحرم به الحلال الكثير إذا اختلط به، وما شابهها من قواعد أخرى مبنية على الموازنة بين المصالح والمفاسد.
وإذا كان لجملة قواعد الموازنات هذه تطبيقات مقدرة في الاجتهاد الفقهي العام، وتوجيهات مؤثرة فيه، ونتائج بينة في الأحكام الناتجة به، فإن لها مجال استعمال أوسع من ذلك في النظر الفقهي بأحوال الأقليات المسلمة؛ وذلك لأن المجتمع حينما يكون إسلاميا محكوما بسلطان الشرع يكون تمايز المصالح والمفاسد فيه على قدر من الوضوح، ويكون مجال المتشابهات بينهما ضيقا، فظواهر الصلاح وآثاره الناتجة من المواقف والأفعال، وكذلك ظواهر الفساد وآثاره تكون قريبة الوقوع من زمن حدوث أسبابها، فتبدو متمايزة جلية التمايز، مما يسهل على الفقيه الموازنة بينها، وبناء حكمه الفقهي على تلك الموازنة، ولكن المجتمع الأوربي الذي تعيش به الأقلية المسلمة لا تتمايز فيه بسرعة وجلاء مظاهر الفساد وآثاره من مظاهر الصلاح وآثاره لشدة تشابكه وتعقيده، ولا يغرنك في ذلك ما يبدو من تمايز صارخ بين الصلاح والفساد في التصرفات الأخلاقية السلوكية، فإن مجال الصلاح والفساد الذي نعنيه في هذا المقام هو مجال الحياة الاجتماعية بمعناه الشامل سياسة واقتصادا وتربية وعلاقات إنسانية، وهو أوسع بكثير من المجال الأخلاقي.(/16)
وبناء على ذلك فإن هذه القواعد الأصولية المتعلقة بالموازنة بين المصالح والمفاسد يقتضي النظر التأصيلي لفقه الأقليات أن يأخذها بالعناية، فيصوغها بما يستجيب لمقتضيات ذلك الفقه، ويوجهها بالدرس والتحليل والإثراء لتكون معيارا منهجيا أصوليا يمكن من الموازنة بين المصالح والمفاسد في نطاق خصوصيات الوجود الإسلامي بالمجتمع الأوربي، ويكشف عما قد يخفى عن كثير من الأنظار في غياب هذا التأصيل من وجوه التراجح بين ما يحدثه موقف أو فعل من مفسدة صغيرة آنية وما يؤول إليه من مصلحة كبيرة مستقبلية تمكن للإسلام والمسلمين، أو بين ما يحدثه موقف أو فعل آخر من مصلحة صغيرة آنية وما يؤول إليه من مفسدة كبيرة مستقبلية تتعلق بتشتيت الإسلام والمسلمين، فيبنى الفقه إذن على ما فيه من الأحكام رجحان للمصالح الحقيقية بمقاييسها الشرعية.
رابعا ـ قاعدة: يجوز فيما لا يمكن تغييره ما لا يجوز فيما يمكن تغييره:
هي قاعدة قد لا تكون صياغتها على هذا النحو واردة في القواعد الأصولية، ولكنها في روحها ومقاصدها مستروحة من جملة من القواعد والمبادئ الأصولية، والمعني بها أن المجتهد الفقهي إذا عرض عليه وضع من أوضاع المسلمين كان جاريا على بنائه العام نسق مخالف لمقتضيات الشرع وأحكامه، وهم في ذلك الوضع لا يملكون إمكان تغيير النسق الجاري عليه لسبب أو لآخر من الأسباب، فإنهم إذا عرض لهم ما قد تتحقق به مصلحة بحسب ظروفهم مما هو ممنوع شرعا يجوز أن يفعلوه طالما أنهم لا يستطيعون تغيير نسقه العام المندرج فيه، وهو ما لا يجوز لهم فعله لو كانوا يملكون القدرة على تغيير نسقه المندرج فيه.
ومن البين أن هذه القاعدة تختص بمجال ما يحل من الأفعال بالإحلال، أما ما لا يحل بالإحلال فإنها لا تصح فيه؛ وذلك لأنه لا تكون فيه مصلحة معتبرة أصلا.
ومما استروحت منه هذه القاعدة ما ورد في المدونة الأصولية من قواعد ذات مقاصد مشابهة، وذلك مثل قاعدة ما عمت به البلوى، وقاعدة يغتفر في الانتهاء ما لا يغتفر في الابتداء، وغيرهما من القواعد المشابهة، وما نظن التصرف النبوي مع الأعرابي الذي تبول في المسجد إذ نهى أصحابه عن أن يزرموه إلا تصرفا مؤسسا لهذه القاعدة، كما لا نظن ما ذهب إليه الأحناف من القول بجواز التعامل بالعقود الفاسدة في دار الحرب إلا مستروحا أيضا من روح هذه القاعدة في صياغتها التي أوردناها بها.
وفي أحوال الأقليات المسلمة بالديار الأوربية مجال واسع لتطبيق هذه القاعدة في النظر الفقهي المتعلق بها؛ ذلك لأن هذه الأحوال في شطر كبير من جوانبها الاجتماعية خاضعة لقوانين الوضع بسلطان الدولة الملزم، وليس لهذه الأقلية المسلمة القدرة على تغيير تلك القوانين، ولا حتى الحق في المطالبة بتغييرها في بعض الأحيان، ولكن بعضا من تلك القوانين المنضوية تحت المنظومة القانونية العامة بالرغم من أنها من حيث ذاتها في وضعها المجرد تخالف الأحكام الشرعية، إلا أن العمل بمقتضاها قد تحصل به للمسلم مصلحة معتبرة، فيجوز له إذن أن يعمل بها بالرغم من أنه ليس ملزما بذلك العمل وإنما هو مختار فيه. ومثاله ما ذهب إليه بعض الفقهاء المحدثين من إجازة الاقتراض بالفائدة لأجل شراء المساكن بالبلاد الأوربية، طالما تحققت من ذلك الاقتراض مصلحة بينة، وطالما كان المقترض المسلم وكل المسلمين معه غير قادرين على تغيير النظام الربوي الذي تقوم عليه الحياة الأوربية. ولهذا المثال نظائر كثيرة تمثل مجالا فسيحا لتطبيقات هذه القاعدة.
مثل هذه المبادئ والقواعد الأصولية، ما يكون منها مأخوذا بصيغته من مدونة أصول الفقه، وما تستروح له صياغة جديدة من معان ومقاصد وأسرار مبثوثة في تلك المدونة، إذا ما عولجت بمعالجة علمية جادة، توجهها المبادئ المنهجية المقصدية الآنفة البيان، فإنها يمكن أن تتألف منها منظومة متكاملة ذات غاية مشتركة تلتقي فيها جميعا عند هدف التأسيس لمنهج أصولي متميز ومتخصص يكون منهجا علميا شرعيا يعتمده النظر الفقهي في شأن الأقليات المسلمة، لينشأ منه فقه يعالج ذلك الشأن معالجة تبلغ به الآمال المعلقة عليه تعريفا بالإسلام في الديار الغربية فيما يشبه دورة جديدة للتعارف الحضاري بين الإسلام والغرب، ولكنها دورة تتأسس على أسس علمية، هي هذه القواعد الأصولية المنهجية التي تؤسس لفقه الأقليات، وهي في الحقيقة تؤسس لتبليغ الإسلام بالدعوة الحضارية السلمية.(/17)
ولو ترك الأمر في هذا الشأن عفوا يجري على غير تأصيل علمي، ويقتصر على الأحكام الشرعية الجزئية والفتاوى العارضة التي تستنبط من القواعد الأصولية العامة في غير توجيه خاص، لكان قاصرا دون تحقيق هذا الهدف الأسمى، بل ولأدى الأمر مع اتساع الوجود الإسلامي بالغرب إلى مضاعفات قد تنفلت بها مظاهر من هذا الوجود إلى ما هو مخالف لمقاصد الدين ومناقض لمصلحة الإسلام والمسلمين والمجتمعات الغربية، وذلك تحت تبريرات دينية ولكنها تبريرات خاطئة بسبب عدم التأصيل، وهو ما لا تخطئ عين الناظر عينات منه قد تتنامى مع الأيام، ولكان ذلك تفريطا في فرصة عظيمة للتعارف هيأها الله تعالى للدعوة إلى الإسلام والشهود على الناس من حيث لا يتوقع أهلها.
التأصيل لفقه الأقليات.. ضرورته وموجهاته
طوح الزمان بالأمة الإسلامية في عهودها الأخيرة إلى وضع من الحياة جديد لم تكن له سابقة في ماضيها، وهو وضع المغلوبية الحضارية لأمم أخرى، ذلك الذي أصبحت فيه تابعة بعدما كانت متبوعة، ومغلوبة بعدما كانت غالبة. ومن إفرازات هذا الوضع الجديد أن نشأت ظواهر متعددة من وجود إسلامي لا يكون الإسلام فيه هو القيم على حياة المسلمين الاجتماعية إن بصفة كلية أو بصفة جزئية، وما عاشته كثير من الشعوب الإسلامية طيلة القرنين الماضيين من حياتها تحت استعمار الأمم الأوربية يعتبر إحدى أبرز تلك الظواهر وأكثرها توليدا وتفريعا في خصوص هذا الشأن.
وإذا كانت سنة الله تعالى في تدبير حياة الناس كثيرا ما ينساق إليهم فيها ما ينفعهم ويكون لهم فيه خير إن هم استثمروه بالاعتبار وفق تلك السنة ضمن ما يصيبهم من ضرر وهم له كارهون، فلعل من تجليات هذه السنة في خصوص ما نحن بصدده أن أفرزت تلك الحال الاستعمارية للشعوب الإسلامية التي خضعت فيها لسلطان غير سلطان الدين وضعا من الوجود الإسلامي بالبلاد الأوربية أصبح على صعيد العد يقدر بعشرات الملايين، وأصبح على صعيد الآمال يستشرف التعارف الحضاري أخذا وعطاء بما لم يتسن للمسلمين من قبل، بالرغم مما اتصفت به جهودهم من العزم والإخلاص، وكان هذا التجلي لتلك السنة يتمثل فيما ساقه الله تعالى فيها من خير نافع للإسلام والمسلمين، وذلك في ثنايا ما كان فيه كره لهم متمثل في خضوع هذه الأقليات الإسلامية الكبيرة في حياتها الاجتماعية لسلطان غير سلطان دينها، وهو سلطان القانون الوضعي في تلك البلاد التي تعيش فيها. ولكن ذلك الخير مشروط في حصول خيريته بحسن استثمار المسلمين لمقدماته حتى ينتج ثماره وفق قواعد الاعتبار وقوانينه.
أ ـ ضرورة التأصيل لفقه الأقليات:
ولعل من أهم ما يستثمر به هذا الوضع للأقليات المسلمة بالبلاد الأوربية من قوانين الاستثمار المنتجة للخير منه، هو أن يؤخذ بالمعالجة الشرعية وفق منهج علمي هو منهج التأصيل الذي تُبنى فيه الأحكام والفتاوى لهذا الوجود الإسلامي كي يثمر ثماره الخيرة على أصول وقواعد من أصول الاجتهاد وقواعده، توجهها وتسددها نحو أهدافها على اعتبار خصوصية الوضع الذي تعالجه بالنسبة لعموم الوضع الإسلامي الذي جاء النظر الفقهي العام يعالجه وفق الأصول والقواعد العامة في الاجتهاد.
وقد اهتم الفقه الإسلامي المعاصر بوضع الأقليات الإسلامية في أوربا منذ بعض الزمن، واتجه إليه بالمعالجة الشرعية التي أثمرت فقها من الفتاوى والأحكام ظلت تثري الحياة يوما بعد يوم، وتوج ذلك الاهتمام بنشوء مجمع علمي خاص بهذا الشأن هو المجلس الأوربي للإفتاء والبحوث، ولكن هذا الاهتمام المتزايد بشأن الوجود الإسلامي بأوربا، وما أثمره من ثمار، وما تراكم به من فقه، ظل يفتقر إلى الحلقة الأساسية من حلقات النظر الفقهي التي من شأنها أن توجه الاجتهاد وترشده في معالجة شأن هذا الوجود ليبلغ مداه المأمول، ألا وهي حلقة التأصيل الفقهي متمثلا في تقعيد أصولي فقهي لفقه الأقليات مختص به، ومبني على مراعاة خصوصية الوضع الذي يعيشه المسلمون بالبلاد الأوربية من جهاته المختلفة.
ولا يظن ظان أن هذا التأصيل الفقهي لفقه الأقليات سيكون بدعا مستأنفا مقطوع الصلة بالمنهج العام لأصول الفقه الذي يوجه النظر الفقهي، وإنما هو ليس إلا فرعا من فروع ذلك المنهج أو قسما من أقسامه وبابا من أبوابه يشترك مع ذلك المنهج العام فيما هو مشترك بين حياة المسلمين مطلقا عن الظروف والأحوال، ولكن توجه فيه عناية النظر التأصيلي إلى خصوصية وضع الأقليات المسلمة بأوربا من حيث واقعه الخاضع فيه لسلطان القانون الوضعي، ومن حيث ما ينطوي عليه من أبعاد دعوية وآمال مستقبلية، تلافيا في ذلك لنقص في مدونة أصول الفقه شرحنا أسبابه آنفا، ولينتج منه فقه للأقليات المسلمة يتجاوز الفتاوى الظرفية والأحكام الجزئية التي تعالج وجودا إسلاميا ظرفيا عارضا في مقاطع متفاصلة، ليكون فقها يستجيب لآمال الدعوة في تلك البلاد تحقيقا للتعارف الحضاري نفعا وانتفاعا بما لم يتحقق من قبل على الوجه المأمول.(/18)
ولا يكون هذا التأصيل الفقهي لفقه الأقليات موفيا بالغرض المبتغى منه إلا بأن يبنى في منهجه على أصول ومبادئ موجهة، تقوم عليها أركانه وتتأسس قواعده، ويتوجه بها منهجه وتنطبع بها صبغته العامة، وبأن يشتمل في محتواه على قواعد وقوانين اجتهادية تستنبط وفقها الأحكام ويتوجه بوجهتها الفقه التفصيلي، ويكون كل من تلك الأصول الموجهات وذلك المحتوى من القواعد والقوانين، مأخوذا بنظر خاص يستجيب به لخصوصية الوجود الإسلامي بأوربا، وذلك في نطاق نظر عام مستجيب للمقتضيات الشرعية للوجود الإسلامي المطلق عن الزمان والمكان.
ب ـ المبادئ الموجهة لتأصيل فقه الأقليات:
هي مبادئ أصول من المقاصد العامة للدين مصاغة باعتبارات وضع الأقليات المسلمة بحسب ما يقتضيه ذلك الوضع من مقتضيات تتحقق بها مقاصد الدين فيه، وهو ما تكون به أصولا ذات طابع كلي شمولي تهدف إلى أن تنتج فقها لا يجعل من المعالجات الشرعية الجزئية لآحاد المشاكل ونوازل الأفراد هدفا نهائيا له، وإنما يجعلها طريقا لهدف أعلى منها، وهو هدف نشر الدعوة الدينية في الربوع الأوربية لينبسط بها الدين الحنيف فيها فينقذ المسلمين فيها من الضياع، ويشهد على غير المسلمين بالتبليغ، فهي إذن ليست مجرد أصول فنية تفضي إلى قواعد للاستنباط الصحيح للأحكام والفتاوى في شؤون الأقليات المسلمة من مداركها الشرعية، وإنما هي أصول تنطوي بالإضافة إلى ذلك على بعد دعوي تبليغي تحتل فيه مقاصد الدين العامة ومغازيه الكلية الموقع المرموق. ولعل من أهم تلك الأصول التي تتأسس عليها هذه المعاني ما يلي:
أولا ـ حفظ الحياة الدينية للأقلية المسلمة:
وذلك لتكون هذه الحياة -في بعدها الفردي والجماعي- حياة إسلامية في معناها العقدي الثقافي، وفي مبناها السلوكي والأخلاقي، انتهاجا في ذلك منهج المواجهة لما تتعرض له هذه الحياة من غواية شديدة من قِبل الحضارة الغربية في بنائها الفلسفي والثقافي والسلوكي، والمواجهة أيضا لمغلوبية حضارية متمكنة في شعور تلك الأقلية من شأنها أن تبسط لتلك الغواية منافذ واسعة للتأثير الذي يعصف بالتدين في النفوس والأذهان كما في الأخلاق والأعمال، فيكون إذن من الموجهات الأساسية في التأصيل الفقهي لفقه الأقليات أن يبنى هذا التأصيل على مقصد حفظ الدين في خصوص الأقليات المسلمة بأوربا؛ وذلك حتى تحافظ على وجودها الديني الفردي والجماعي وجودا قويا صامدا في ذاته، وناميا مؤثرا في غيره.
وإذا كان هذا الموجه المقصدي للتأصيل لفقه الأقليات يعتبر موجها لعموم التأصيل الفقهي، ما تعلق منه بفقه الأقليات وما تعلق بغيره، إلا أنه في توجيهه لتأصيل فقه الأقليات يكون مستصحبا لمقتضيات ما يكون به حفظ الوجود الديني للأقليات المسلمة بناء على خصوصية الظروف التي تعيشها والتحديات التي تواجهها، وهي مقتضيات قد تختلف في كثير أو قليل عن مقتضيات حفظ الدين في الوجود الإسلامي الذي يكون فيه المسلمون يملكون أمر أنفسهم في تطبيق سلطان الدين على حياتهم، إذ الظروف غير الظروف والتحديات غير التحديات، فتكون إذن مقتضيات الحفظ غير المقتضيات، وهو ما ينبغي أن يؤخذ بعين الاعتبار في هذا الأصل الموجه لتأصيل فقه الأقليات.
ثانيا ـ مراعاة خصوصية أوضاع الأقليات:
الأقليات المسلمة بالغرب -على وجه الخصوص- تكونت في أساسها بموجة من الهجرات من البلاد الإسلامية عبر مراحل متتالية من القرن العشرين، ولم يكن المنضمون إليهم من الذين أسلموا من أهل الغرب إلا أعدادا قليلة بالنسبة لعدد المهاجرين. وقد كان أغلب هؤلاء المهاجرين إلى أوربا على وجه الخصوص من طبقة العمال، ثم انضم إلى العمال طلبة العلم، ثم انضم إليهم المضطهدون السياسيون، ثم انضمت إليهم أعداد من العقول المهاجرة، وبالتراكم الزمني أصبح لهؤلاء المهاجرين أبناء وأحفاد شكلوا ما يُعرف بالجيل الثاني وأصبح الآن الجيل الثالث قيد التشكل.
إن القاعدة العريضة للأقليات المسلمة بالغرب هي قاعدة مهاجرة بدوافع الحاجة، إما طلبا للرزق، أو طلبا للأمن، أو طلبا للعلم، أو طلبا للظروف المناسبة للبحث العلمي، فكان هذا الوجود الإسلامي بالغرب هو في عمومه وجود حاجة لا وجود اختيار، وليست فكرة المواطنة الشائعة اليوم بين هؤلاء المهاجرين مشيرة إلى ضرب من الاختيار إلا تطورا لا يتجاوز عمره سنوات قليلة، وهي فكرة لم يعتنقها بعد القسم الأكبر من الأقلية المسلمة بالغرب. وبالإضافة إلى ذلك فإن هذه الأقلية جاءت تحمل معها هويتها الثقافية، وقد ظلت محافظة عليها بشكل أو بآخر من أشكال المحافظة، وهي بذلك وجدت نفسها في خضم ثقافة غربية مغايرة لثقافتها، بل مناقضة لها في بعض مفاصلها المهمة، وليست هذه الهوية في مستكن المسلم هي مجرد هوية انتماء شخصي، بل هي أيضا هوية تعريف وتبليغ وعرض في بعدها الديني والحضاري.(/19)
ومن هذه العناصر المتعددة في وجود الأقلية المسلمة بالغرب تكونت خصوصيات عديدة يجب أخذها بعين الاعتبار في التأصيل لفقه الأقليات، حتى يكون هذا التأصيل موجها ذلك الفقه بحسب ما تقتضيه الظروف الواقعية، إذ من المعلوم أن الاجتهاد ينبغي أن يكون مبنيا على فقه الواقع كما هو مبني على فقه الأحكام.
ولعل من أهم تلك الخصوصيات التي ينبغي اعتبارها في هذا التأصيل ما يلي:
ـ خصوصية الضعف:
تتصف الأقليات المسلمة -بوجه عام- بصفة الضعف التي لا تكاد تفارق أي أقلية إسلامية في العالم، وإذا كانت حال الضعف حالا ملازمة للأكثر من الأقليات في العالم، فإنها ليست حالا لجميعها، بل من الأقليات من هي على حال من القوة تفوق قوة الأكثرية التي تعيش بينها، ولكن الأقليات المسلمة تفوق في حال ضعفها الأكثر من الأقليات في العالم لأسباب متعددة سنذكر بعضها لاحقا.
ويبدو هذا الضعف أول ما يبدو في الضعف النفسي، فهذه الأقليات هي -في أغلبها- منتقلة من أوساطها الإسلامية إلى وسط ثقافي واجتماعي وحضاري غريب عنها، وهذه النقلة إلى مناخ غريب من شأنها -لا محالة- أن تحدث في النفس شعورا بالغربة الثقافية والاجتماعية، فالاستقرار بالمنبت في المجال الإنساني كما في المجال الطبيعي هو دائما مبعث للشعور بالاطمئنان النفسي المتأتي من الانسجام مع المحيط، والهجرة في المجالين أيضا مبعث للشعور بضرب من القلق النفسي جراء عدم الانسجام مع المحيط الجديد إلى أن يتطاول العهد، وينشأ الانسجام. والشعور بالاغتراب والقلق هو ضرب من الضعف النفسي.
وينضاف إلى هذا المظهر من مظاهر الضعف النفسي ما يستكن في نفوس الأقليات المهاجرة من شعور بالدونية الحضارية أو المغلوبية الحضارية، فالمهاجرون المسلمون إلى الغرب، وهم أكثر الأقلية، انتقلوا من مناخ حضاري متخلف في وسائله المادية والإدارية، إلى مناخ حضاري باهر التقدم في ذلك، وهذه النقلة بين المناخين مع ما يصحبها من مقارنة دائمة تسفر عن تبين استمرارية دائمة في الفوارق من شأنها لا محالة أن تشيع في النفوس شعورا نفسيا بالدونية والانهزام، وذلك ضرب من ضروب الضعف النفسي.
وينضاف إلى ذلك الضعف النفسي ضعف اقتصادي، إذ الأقلية المسلمة في أوربا على وجه الخصوص هي من أكثر الأقليات ضعفا اقتصاديا، إذ هي -في أكثرها- من اليد العاملة أو من الحرفيين، أو من الموظفين في قلة قليلة، وكل أولئك هم على حافة الكفاية إن لم تكن حافة الكفاف، وهو ما انعكس على طريقة الحياة كلها من السكن وسائر المرافق الأخرى، كما انعكس أيضا بصفة سلبية على قدرة هذه الأقلية على تطوير نفسها وتحقيق برامجها وأهدافها التربوية والثقافية والاجتماعية، وقدرتها على الاندماج في الحركة الحضارية والاستفادة منها الاستفادة المثلى.
ومن مظاهر الضعف أيضا الضعف السياسي والاجتماعي، فبالرغم من أن عددا كبيرا من الأقلية المسلمة أصبح من المواطنين الأوربيين، فإن المشاركة السياسية لهؤلاء ما تزال ضعيفة جدا، إن لم تكن معدومة، فالتأثير السياسي الذي من شأنه أن ينشأ عن تلك المشاركة هو أيضا على غاية من الضعف، ولذلك فإن هذه الأقلية يكاد لا يكون لها اعتبار يُذكر في القرار السياسي في البلاد التي تعيش فيها، وكذلك الأمر بالنسبة للوضع الاجتماعي، فليس لهذه الأقلية مؤسسات اجتماعية ذات أهمية وتأثير لا من حيث الكم ولا من حيث الكيف، واندماجها في المؤسسات الاجتماعية العامة اندماج ضعيف لا يكاد يُلحظ له أثر، ومحصلة ذلك كله أن الأقلية المسلمة بالغرب هي من الضعف السياسي والاجتماعي بحيث يكاد لا يُلمح لها وجود، ولا يكون لها أثر، وشتان في ذلك بينها وبين أقليات أخرى أقل منها بكثير عددا، ولكنها لقوتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية ترى آثارها فتحسبها هي الأغلبية وليست الأقلية. وهذا الوضع من الضعف المتعدد الوجوه ينبغي أن يكون ملحَظا معتَبرا عند التأصيل لفقه الأقليات.
ـ خصوصية الإلزام القانوني:
البلاد الغربية بصفة عامة يحظى فيها القانون باحترام كبير، سواء في الحس الجماعي، أو في دوائر التنفيذ؛ ولذلك فإن سيادة القانون فيها يُعتبر أحد الثوابت التي بُنيت عليها ثقافتها وحضارتها، ومن ثم فإن أيما منتم إلى هذه البلاد من فرد أو جماعة، سواء بالإقامة أو بالمواطنة، فإنه سيصبح تحت سيادة القانون السيادة الكاملة، مهما كان وضعه العرقي أو الديني أو الثقافي.(/20)
والقانون في هذه البلاد مبني على ثقافة المجتمع ومبادئه وقيمه، وهو منظم للحياة العامة على أساس تلك الثقافة والمبادئ والقيم، ويطبق هذا القانون على الأقلية المسلمة كما يُطبق على سائر أفراد المجتمع من مواطنين ومقيمين، وهو تطبيق يمتد من أحوال الفرد إلى أحوال الأسرة إلى أحوال المجتمع بأكمله في قدر كبير من الصرامة النظرية والفعلية، بحيث يكاد لا يترك استثناء لخصوصية فرد أو مجموعة تمارس فيها تلك الخصوصية خارج سلطان القانون، وهو ديدن الدولة الحديثة في السيطرة الإدارية المحكمة على المجتمع، وإن تكن تلك السيطرة بتفويض من المجتمع نفسه.
في هذا الوضع تجد الأقلية المسلمة نفسها ملزمة بالخضوع للقانون، وتطبيقه في حياتها حيثما يكون له تدخل في تلك الحياة، وخاصة ما كان يتعلق بالعلاقات العامة بين الأفراد والجماعات، أو بينهم وبين الدولة، والحال أن تلك القوانين كثير منها يخالف المبادئ الدينية والثقافية التي تكون هويتها، وتشكل التزامها العقدي، وهكذا ينتهي الأمر إلى سيادة قانونية على حياة الأقلية معارضة في كثير من الأحيان لقوانين هويتها، فإذا هي ملزمة بالخضوع لتلك القوانين، أو هي إذا كان الموقف موقف خيار بين الدخول في معاملات يحكمها القانون وبين عدم الدخول فيها فإن عدم الدخول يحرمها أحيانا كثيرة من ميزات مادية وأدبية يتمتع بها سائر أفراد المجتمع، وهو ما يعطل كثيرا من مصالحها، ويعرقل من سبل تقدمها.
إن هذه السيادة القانونية على الأقلية المسلمة المعارضة في كثير من محطاتها لضميرها الديني والتزامها العقدي تمثل وضعا خاصا لهذه الأقلية من بين أوضاع عامة المسلمين، فالمسلم وضعه الأصلي أن يكون خاضعا لسيادة القانون الإسلامي، والتكاليف الدينية التي كلف بها إنما كلف بها باعتباره يعيش تحت سيادة ذلك القانون، إذ تلك التكاليف هي -في أغلبها- ذات بعد جماعي كما هي الطبيعة الجماعية للدين الإسلامي، فإذا ما وجد المسلم نفسه ضمن مجموعة من المسلمين هي تلك الأقلية موضوع البحث، ووجد أنه ملزم بأن يكون تحت سيادة غير سيادة القانون الإسلامي الذي هو الوضع الطبيعي لتنظيم حياته الجماعية، فإنه سيجد نفسه لا محالة في تناقض بين واقعه وبين مقتضيات هويته الجماعية، وهو ما يمثل ظرفا خاصا في حياة الأقلية المسلمة بالبلاد الغربية على وجه الخصوص يقتضي أن يؤخذ بعين الاعتبار في الاجتهاد الفقهي في شؤونها.
ـ خصوصية الضغط الثقافي:
تعيش الأقليات المسلمة في مناخ مجتمع ذي ثقافة مخالفة لثقافتها في الكثير من أوجه الحياة، وهي تجد نفسها في مواجهة مباشرة مع تلك الثقافة في كل حين وفي كل حال، فمن الإعلام، إلى التعليم، إلى العلاقات الاجتماعية، إلى المعاملات الاجتماعية، إلى المعاملات الاقتصادية والإدارية، إلى المناخ العام في الشارع من عادات وتقاليد وتصرفات فردية واجتماعية، بحيث تطغى تلك الثقافة على أحوال المسلم أينما حل، بل تطغى عليه حتى داخل بيته.
ومما يزيد من سطوة تلك الثقافة على الأقلية المسلمة أن هذه الأقلية لم تنتظم أمورها الاجتماعية بحيث تكون لها فضاءات خاصة بها، تسود فيها ثقافتها، فتخفف بذلك من سطوة الثقافة الغربية عليها، ففي فرنسا يعيش أكثر من 5 ملايين مسلم، ولكن ليس لهم مدرسة واحدة منتظمة كامل أيام الأسبوع تمثل فضاء ثقافيا خاصا بهم يخفف عن أبنائهم ما يتعرضون له من غلبة الثقافة الاجتماعية السائدة، ناهيك عن النوادي والمؤسسات الترفيهية إذا ما استثنينا المساجد والمراكز الدينية.
إن هذه الثقافة المغايرة التي تتعرض لها الأقلية المسلمة في بلاد الغرب بوجوهها المختلفة، وبوسائلها الجذابة المغرية، وبطرق إنفاذها المتقنة، تسلط ضغطا هائلا عليها، وبصورة خاصة على أجيالها الناشئة، وهذا الضغط يصطدم بالموروث الثقافي الذي تحمله هذه الأقلية إن بصفة ظاهرة معبرة عن نفسها أو بصفة مضمرة مختزنة، وفي كل الصور يحصل من ذلك تدافع بين الثقافتين، وينتهي هذا التدافع في الغالب إما إلى الانسلاخ من الثقافة الأصل والذوبان في الثقافة المغايرة، أو إلى التقوقع والانزواء اعتصاما بذلك من الابتلاع الثقافي، أو إلى رد الفعل العنيف على هذه السطوة الثقافية يجد له تعبيرات مختلفة من جيل الشباب على وجه الخصوص.(/21)
ومهما يكن من رد فعل على هذه السطوة الثقافية فإنها تُحدث في نفوس الأقلية المسلمة -وبالأخص في نفوس الشباب منها- ضربا من الاضطراب والقلق في الضمير الفردي والجماعي على حد سواء، وهو ما يصبغ الحياة العامة للأقلية بصبغة التأرجح التي ينتفي معها وضع الاستقرار النفسي والجماعي، فلا هذه الأقلية اندمجت في جسم المجتمع الذي تعيش فيه حتى صارت خيوطا من نسيجه، ولا هي كونت هيكلا متجانسا يتفاعل مع المجتمع من منطلق تلك الهيكلية المتماسكة فيما بينها كما هو شأن الأقليات في بعض البلاد الآسيوية مثل الهند، وهو وضع يكتسب من معنى الخصوصية ما ينبغي أخذه بعين الاعتبار في التأصيل الفقهي.
ـ خصوصية التبليغ الحضاري:
مهما يكن من وضع الأقلية المسلمة بالغرب من قوة أو ضعف، ومن استقرار أو اضطراب، فإن مجرد وجود هذا العدد الكبير من المسلمين بالبلاد الغربية يُعتبر ضربا من الصلة الحضارية بين الحضارة الإسلامية -مهما يكن تمثيلها ضعيفا- وبين الحضارة الغربية المستقرة؛ فالمسلمون الذين هاجروا إلى هذه البلاد لا يمثلون مجرد كمية بشرية انتقلت من مكان إلى مكان، شأن كثير من الهجرات التي تقع قديما وحديثا، وإنما هجرتهم تحمل معها دلالة حضارية، وهي دلالة تتأكد باطراد بارتقاء نوعية المهاجرين وتعزز تلك النوعية بهجرة العقول وتمكن المهاجرين في مواقعهم العلمية والفكرية والاقتصادية والاجتماعية على وجه العموم.
وإنما كان الأمر كذلك من بين كثير من الأقليات المشابهة في وجودها بالغرب للأقلية المسلمة لأن هذه الأقلية تحمل معها ميراثا حضاريا ضخما، لئن لم يكن حاضرا الحضور البين الفاعل في واقع التدافع الحضاري، إلا أنه حي في النفوس، مختزن فيها بقيمه ومبادئه الروحية، وبرؤيته في تفسير الوجود وتنظيم الحياة، وبتاريخه الممتد لألف ونصف من الأعوام، فهذا الميراث لم يتركه المهاجرون إلى البلاد الغربية خلف البحار ليصلوا إليها غفلا من التشكل الحضاري، بل أولئك الذين نشئوا بهذه البلاد من الجيل الثاني والثالث لم يكونوا كذلك أيضا، وإنما هم يحملون أقدارا من ذلك الميراث منحدرا إليهم من الانتماء الأسري ومن الانتماء الحضاري العام، ومهما بدا في الظاهر أحيانا من ملامح التخلص من هذا الميراث كما هو متمثل في بعض مظاهر التنصل من مقتضيات ذلك الميراث الحضاري فإنه ليس إلا مظاهر سطحية، أما الضمير فهو مختزن لذلك الميراث.
وبالإضافة إلى ذلك فإن هذا الميراث الحضاري الذي تحمله الأقلية المسلمة ليس ميراثا طبيعته الانكفاء والسكون، وإنما طبيعته الظهور والعرض؛ وذلك لما انبنى عليه من أصول عقدية توجب على حاملها في ذاتها وحامل مقتضياتها الحضارية أن يعرف الناس بها، وأن يعرضها عليهم عرض بيان واختيار، عسى أن يجدوا فيها من الخير ما يقنعهم فيأخذون به، فيعم إذن نفعه، ولا يبقى حكرا على أصحابه، وذلك هو معنى الشهادة على الناس التي تضمنها قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمة وَسَطا لتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى الناسِ وَيَكُونَ الرسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدا} (البقرة: 143).
ومن جهة أخرى فإن هذه الأقلية المسلمة ليس وجودها بمهجرها وجود انبتات عن الجسم الأكبر لأمتها، وإنما هو وجود انتماء إليها وتواصل معها مهما شط بها المكان، ونأى بها المقام، ومهما اتخذت لها من مجتمعاتها الجديدة موطن تفاعل واستقرار، ويقتضي هذا الانتماء والتواصل بمقتضى امتزاجها بالحضارة الغربية امتزاج عيش يومي، ووقوفها عليها وقوفا عن كثب أن تكون أيضا واسطة اقتباس لما هو خير في هذه الحضارة في وجوهها المادية والمعنوية لتبلغها إلى أمتها الإسلامية قصد تعريفها بها، والانتفاع منها في بناء نهضتها.
يتحصل من ذلك إذن أن الأقلية المسلمة في أي موقع وجدت فيه بصفة عامة، وفي موقعها بالبلاد الغربية بصفة خاصة، تمثل حلقة وصل حضاري بين حضارتين، ومن مهامها باعتبار ذلك الموقع أن تقوم بدور تنقل فيه المنافع النظرية من قيم ومبادئ تشرح الوجود وتبين الحياة، والمنافع العملية في وجوهها المختلفة من طرف إلى آخر، وأن تعمل على تأكيد معنى التعارف الحضاري بين العالم الإسلامي والعالم الغربي، لتكون سببا من أسباب العمل على البناء الحضاري المشترك لما فيه خير الإنسان، وبهذا الموقع الذي هي فيه، وهذا الدور المناط بعهدتها تكتسب خصوصية ينبغي اعتبارها في التأصيل لفقه الأقليات.
ثالثا ـ التطلع إلى تبليغ الإسلام:(/22)
وذلك انطلاقا من وجوده بالبلاد الأوربية في حال الأقلية، وسعيا إلى التعريف به لدى غير المسلمين، انتهاجا في ذلك لمنهج يأخذ بعين الاعتبار المسالك النفسية والاجتماعية والثقافية والفكرية التي منها يمكن أن يأخذ الدين طريقه إلى النفوس بينا واضحا، فينتفع به من أراد الانتفاع، فيكون إذن من الموجهات الأساسية لتأصيل فقه الأقليات أن يبنى ذلك التأصيل على مقصد دعوي لا يقف عند حد حفظ تدين الأقليات وتدعيمه، وإنما يتخذ منه منطلقا للتوسع والانتشار ليراه الناس على حقيقته، فيؤمن به من يختار الإيمان، ويستفيد منه من يرى فيه الفوائد.
ولهذا الأصل الموجه مقتضيات يقتضيها في التأصيل لفقه الأقليات قد لا تكون مقتضاة أصلا في التأصيل للفقه العام، أو قد لا تكون مقتضاة فيه بالحجم نفسه وعلى القدر نفسه؛ وذلك لأن هذا التأصيل إذا كان ملاحظا فيه البعد الدعوي على نحو ما ذكرنا ينبغي أن يستصحب خصوصيات ما تقوم به الدعوة في الظروف الأوربية بمعطياتها النفسية والثقافية والاجتماعية والفكرية، لينشأ منه بهذا الاستصحاب فقه للأقليات ذو صبغة دعوية لا يقتصر على أحكام وفتاوى تحفظ على الأقليات دينها فحسب، وإنما تصاغ فيه تلك الأحكام والفتاوى صياغة فقهية تبسط من روحها الدينية السمحة إلى النفوس الحائرة والأفكار الضالة والعلاقات الاجتماعية المتأزمة ما تنفتح له طبيعتها بما تجد فيها من أمل العلاج لأزمتها، فتقبل على الدين من خلال ذلك الفقه، ويحقق مقصد الدعوة هدفه بفقه للأقلية موجه في تأصيله بتطلع دعوي يروم التعريف بالإسلام في الربوع الأوربية.
رابعا ـ التأصيل لفقه حضاري:
وهو فقه لا يقتصر على التشريع لعبادة الله تعالى بالمعنى الخاص للعبادة، وإنما يتجاوز ذلك ليشرع في حياة الأقليات المسلمة عبادة لله تعالى بمعناها العام الذي يشمل كل وجوه الحياة الفردية والجماعية في علاقة المسلمين بعضهم مع بعض، وعلاقتهم بالمجتمع الذي يعيشون فيه، وعلاقتهم بالمحيط البيئي الذي هو مجال حركتهم، بحيث تتناول أحكام الشريعة في هذا الفقه ما به تترقى جماعة المسلمين في ذاتها الإنسانية ترقية فردية بالعلم والفضيلة، وترقية جماعية بالتراحم والتعاون والتكافل، وما به تكون شاهدة على الناس شهادة قول وشهادة فعل بتبليغ الخير الديني والدعوة إليه، وما به تكون مرتفقة للمقدرات الكونية: استثمارا لها ومحافظة عليها من الدمار، بحيث ينشأ من هذا المبدأ الموجه للتأصيل فقه من شأنه أن يصنع من حياة المسلمين بأوربا أنموذجا حضاريا إسلاميا شاملا خاضعا لله تعالى في شموله لوجوه الحياة.
وهذا الأصل الموجه لفقه حضاري على نحو ما وصفنا يقتضي في فقه الأقليات الإسلامية بأوربا ما يقتضيه النظر الفقهي العام ويقتضي زيادة عليه؛ ذلك لأنه يستلزم أن يكون ملاحظا فيه بقدر كبير الحالة الحضارية العاتية التي يعيش في كنفها المسلمون بأوربا، والتي تغالب في نفوسهم وسلوكهم منزع التدين بسلطان ذي سطوة شديدة، فإذا لم يؤخذوا بفقه حضاري على نحو ما وصفنا يكافئ في عيونهم نفسيا وفكريا، وفي أثره على حياتهم نفعيا ذلك الأنموذج الحضاري الذي يتعرضون لسطوته أو يشف عليه، وترك الأمر لمجرد أن تعالج حياتهم معالجة فقهية تعبدية بالمعنى الخاص، أفضى الأمر إلى أن تكون لتلك السطوة غلبة على النفوس، فتنساق حياتهم في أكثر وجوهها على غير شريعة الله تعالى حتى إن انتظمت فيها شعائر العبادة.
وكذلك يقتضي هذا الموجه أيضا أن يكون ملاحظا فيه بقدر كبير ما هو مترسب في أذهان الأوربيين وأذهان بعض المسلمين المتأثرين بهم من صورة للدين لا يدخل فيها إلا ما هو علاقة روحية بين العبد وربه، ويخرج منها ما هو تنظيم للحياة الاجتماعية وتنظيم لعلاقة الإنسان بالمقدرات الكونية، فتخلو بذلك من البعد الحضاري للتدين الذي يكاد يتمحض فيها للبعد الروحي من حياة الإنسان، وإذا ما لم يؤصل فقه الأقليات تأصيلا حضاريا واقتصر على أبعاده التعبدية الروحية والأخلاقية كرست في الأذهان تلك الصورة المنقوصة للتدين فلم يبق لها أثر ذو بال في التمكين للدين الذي هو مقصد أساسي لفقه الأقليات كما بينا آنفا.
خامسا ـ التأصيل لفقه جماعي:
وهو فقه لا يقف عند حد تزكية الفرد في خوافي نفسه وظواهر أعماله بأحكام الشريعة ليظفر بخلاصه الفردي، وإنما يتخذ من ذلك منطلقا لتزكية الجماعة المسلمة والجماعة الإنسانية في حياتها المشتركة لتكون مهدية فيها بحكم الشريعة، فتجري على التعاون على البر والتقوى، وتنأى عن الإثم والعدوان، وتنتهي إلى الفلاح الجماعي في إثمار الحياة بالتعمير في الأرض، وإلى الخلاص الجماعي من شرور الدنيا وحساب الآخرة.(/23)
وهذا التوجيه إلى فقه جماعي يستلزم في التأصيل لفقه الأقليات المسلمة بأوربا ما يستلزمه التأصيل للفقه العام مع زيادة عليه؛ لأن هذه الأقليات تعيش في المناخ الاجتماعي الأوربي الذي تطورت فيه بأقدار كبيرة مظاهر التعاون الجماعي، وبنيت فيه القوانين على ذلك التعاون، كما يبدو إداريا في مظهر المؤسسات الجماعية التي تدير الحياة الاجتماعية الأوربية برمتها، وكما يبدو إنسانيا في تحقيق التكافل بما يحقق الكفاية في إقامة الحياة لكل المنخرطين في المجتمع الأوربي، فإذا لم يكن الفقه المبتغى منه معالجة حياة المسلمين بالمجتمع الأوربي فقها جماعيا يشرع للإدارة المؤسسية، كما يشرع للتكافل المادي والمعنوي بحيث يكافئ في بعده الجماعي جماعية القانون الوضعي أو يفوقها ضعف في إدارة حياة المسلمين من جهة، وضعف في تقديم أنموذج حضاري إسلامي من جهة أخرى، فقصر إذن عن تحقيق حفظ الدين في حياة المسلمين، فضلا عن تمكين الإسلام ونشره بالديار الأوربية.
إن التأصيل لقواعد فقه الأقليات الذي نحن بصدد الحديث فيه إذا ما توجه بهذه الموجهات الخمسة التي نعدها من أهم موجهاته المنهجية، فإننا نحسب أنه تنشأ منه قواعد أصولية فقهية تشكل منهجا في النظر الفقهي بخصوص الوجود الإسلامي بأوربا من شأنه أن يثمر فقها للأقليات يثرى في نطاق النظر الفقهي العام بخصوصيات كفيلة بأن تحقق قدرا كبيرا من النفع بالديار الأوربية.
إن الموجه الأول يؤسس لما به حفظ الدين في حياة الأقليات في مناخ يغري بانحلاله. والموجه الثاني يؤسس للانطلاق من الفقه الواقعي فيكون الاجتهاد مبنيا على علم بالموضوع المبتغى علاجه. والموجه الثالث ينتج فقها دعويا ينتقل بحفظ التدين في حياة المسلمين إلى بسط الدين لينبسط بدائرته إلى غير المسلمين فيقفوا على حقيقته. والموجه الرابع يثمر قواعد أصولية ينشأ منها فقه حضاري يقدم من حياة المسلمين أنموذجا حيا للإسلام الحضاري الشامل في الممارسة الفردية والاجتماعية والكونية يكافئ الأنموذج الحضاري الغالب اليوم. والموجه الخامس يثمر قواعد ينشأ منها فقه جماعي ينشد فلاح الجماعة الإسلامية والإنسانية من خلال فلاح الفرد بما يشرع من الإدارة الجماعية ومن التكافل الاجتماعي، كما ينشد الخلاص الجماعي لنوع الإنسان من خلال الخلاص الفردي، فكيف يمكن لهذه الموجهات المبدئية العامة أن تؤسس قواعد أصولية تتضمن من المواصفات المنهجية ما تثمر به فقها يمكن من التعريف بالدين في البلاد الأوربية؟(/24)
نحو تصوّر إسلاميّ للديمقراطيّة
د. عبدالله بن ناصر الصبيح 3/11/1425
15/12/2004
لمصطلح "الديمقراطية" جاذبية كبيرة، ولاسيما في ظل الهجمة الثقافية الغربية على الثقافات المحلية واختيارات الشعوب. وأصبحت تعني عند كثيرين الحرية والتقدم والسلام والاستقرار والرخاء الاجتماعي، بل إنها تعني عند البعض الخير والسعادة كلها.
ومما ساهم في رسم هذه الصورة الوضيئة للديمقراطية الضجيج الإعلامي حولها الذي ربط باسمها كثيراً من الأوهام فصارت تمثل الخلطة السحرية لمعالجة مشاكل المجتمعات المتخلفة. ونتيجة لهذا الصخب العالي وقع كثيرون فيما يمكن أن أسميه "فخ الديمقراطية"، ويعني احتقار الثقافة المحلية وإقصاءها وإفساح المجال لنماذج من الممارسة والمفاهيم لا تمت للواقع بصلة.
ومما يقي من الوقوع في فخ الديمقراطية الوعي بما وجّهه إليها كبار منظّريها من نقد، و اتهموها به من قصور؛ سواء في المفهوم أوفي صوره التطبيقية.
والديمقراطية ليست خيراً محضاً وليست شراً محضاً، ولكن بعض من يدعو إليها لا يراها إلا مفهوماً واحداً متماسكاً له صورة تطبيقية واحدة، والصورة الماثلة في ذهنه لها هي البرلمان والانتخابات، ونتيجة تصور هؤلاء ديمقراطية زائفة. وآخرون ممن يعارضون الديمقراطية لا يتبادر إلى أذهانهم منها إلا أنها حكم الشعب، ومن ثم فهي مرفوضة بإطلاق، ونتيجة تصور هؤلاء حكم الفرد المستبد.
وفي الواقع التطبيقي وفي التصور الفلسفي ليست الديمقراطية مفهوماً واحداً وليس لها صورة تطبيقية واحدة لا تتعدد. وهذا التنوع في المفهوم والممارسة سببه تنوع الخلفية الفلسفية والظروف الاجتماعية في المجتمعات التي طُبّقت فيها الديمقراطية.
فالديمقراطية حينما نشأت في أثينا قبل أكثر من ألفي سنة كانت خياراً للشعب في إدارة شؤونه مقابل حكم الفرد المستبد. فهي كانت وسيلة للتخلص من استبداد الفرد وتمكين أفراد الشعب من التعبير عن إرادتهم في طريقة إدارة مدينتهم.
وقد تطور مفهوم الديمقراطية من ديمقراطية أثينا التي تسمى "الديمقراطية المباشرة" إلى "الديمقراطية التمثيلية" في عصرنا الحاضر وهي ذات مفاهيم وصور تطبيقية متعددة.
وكثيرون من منظّري الديمقراطية يفرّقون بين الفلسفة والقيم التي تشكل محتوى الديمقراطية، وبين الديمقراطية من حيث هي أداة لاستطلاع رأي الشعب أو وسيلة للحكم. ويرَوْن أن الديمقراطية المجردة من حيث هي أداة عاجزة عن تحقيق الهدف منها في المجتمع. ولهذا يتحدثون عن مبادئ للديمقراطية يرون أنه لا بد من تحقيقها، ومنها: سيادة القانون وحرية التعبير، ومبدأ الفصل بين السلطات، والشفافية في الحكم، وعلمانية الدولة. وقد ذكر (يوروفسكي) في بحث له عن الديمقراطية الأمريكية أحد
عشر مبدأً يرى أنها تشكل العنصر الأساسي لفهم الديمقراطية، وكيف تعمل في الولايات المتحدة الأمريكية.
ورغم أن هذه المبادئ تحظى بالقبول من منظري الديمقراطية إلا أننا نجد جدلا ًبينهم في بعض المبادئ ومحاولة منهم لتقليصها، فمثلا من مبادئ الديمقراطية مبدأ الأغلبية الذي يعني القبول بالقرار الصادر عن الأغلبية. وهو مبدأ إذا افتقدته الديمقراطية لم تعد ديمقراطية وفقدت الهدف منها، ومع ذلك نجد أن كثيرين من منظّري الديمقراطية كما يقول (ألان تورين) في كتابه "ماهي الديمقراطية؟" كانوا يخشون من استبداد الأكثرية، بل يقول: إنه لم تكن مسألة أشدّ منها حضوراً عند المفكرين الأمريكيين الذين وضعوا الدستور الأمريكي بعد حرب الاستقلال. ولهذا كان الاتجاه في الماضي إلى حصر حرية الانتخاب في النخب واستثناء طوائف من الشعب كالنساء والعبيد.
وهذا الجدل العريض حول مفهوم الديمقراطية وتطبيقاتها يدفعنا معشر المسلمين إلى أن نخوض فيه ونجتهد في تكييف ديمقراطية تناسب تصورنا الإسلامي، ومما أقترحه في ذلك مايلي:
أولاً: التمييز بين المحتوى والوسيلة فيمكن أن نقبل الديمقراطية وسيلة للحكم ولاستطلاع رأي الشعب، ولكن أرى أنه ينبغي لنا أن نصوغ المحتوى الفكري، والقيم التي تحكمها بما يتفق مع قيمنا الإسلامية. ومن ذلك أن تكون المرجعية في الحكم هي الشريعة الإسلامية، وليست إرادة الشعب. وبهذا يمكن أن نعرف ديمقراطيتنا بأن مرجعها هو القرآن والسنة. وهذا ليس بدعاً في المفهوم الديمقراطي، حيث شاع عند فلاسفتها أنها وسيلة لا تستقيم من غير فلسفة تكون محتواها، يقول المفكر الأمريكي زبغنيو بريجنسكي :" إن الديمقراطية يمكن أن تكون هي إسهام الغرب الأساسي، إلا أن الديمقراطية ما هي إلا وعاء يجب أن يمتلئ بمحتوى...". ونحن يمكن أن نملأ الوعاء بما يتفق مع ديننا.
ومن يدعون إلى الديمقراطية في عصرنا لا يكتفون بالحديث عنها مجردة وإنما يربطونها بالفلسفة اللبرالية وحرية الفرد، ويرون أن الديمقراطية التي لا تحقق ذلك ليست حقيقية. وإذا جاز لهؤلاء أن يربطوها بفلسفة ارتضوها ألا يحق لسواهم فعل الشيء نفسه؟(/1)
وربما اعترض معترض بأن هذا يتعارض مع أحد مبادئ الديمقراطية وهو علمانية الدولة، وأجمل الردّ على هذا الاعتراض في النقاط التالية:
أ. ليس كل مبدأ من مبادئ الديمقراطية يلزمنا قبوله فنحن لنا رؤيتنا الخاصة بنا، وبإمكاننا أن نطوّر صوراً من الديمقراطية تتفق مع هويتنا.
ب. لا يوجد في المسيحية المعروفة اليوم شريعة يجب على الدولة الحكم بها أو التحاكم إليها، ولهذا علمانية الدولة لم تكن دعوة لإقصاء شريعة ربانية قائمة في المسيحية؛ لأن هذه الشريعة غير موجودة أساساً، وإنما كانت دعوة للتخلص من سلطة رجال اللاهوت الذين يزعمون أنهم يستأثرون بالحقيقة، ويتكلمون باسم الله واسم المسيح زاعمين أن الله تحدث إليهم أو أن المسيح ألهمهم، ويلزمون الآخرين بالتسليم بما يقولون ويحكمون حكما جبرياً لا يراعي إرادة الشعب ومصالحه. ورجال اللاهوت هؤلاء يوجب الإسلام الأخذ على أيديهم؛ لأن ما يقومون به نوع من الهرطقة والكذب على الله وتزوير الدين.
ج. إذا تبين هذا ( وهو أن العلمانية ليست ضد شريعة قائمة في المسيحية) فعلمانية الدولة ليس لها صورة واحدة؛ فبينما نجد في أمريكا مثلا أن الدستور ينص على الفصل بين الدولة والكنيسة، أما في بريطانيا فنجد صورة مغايرة حيث إن الملكة هي رئيس الكنيسة، والدولة هي من يرعى الديانة المسيحية.
د. الفقيه في الإسلام (أو كما يسمى في الكنيسة رجل الدين) لا يملك الحقيقة، ومن حق أي أحد أن يناقشه ويعترض على ما قال؛ لأن المرجع ليس قول الفقيه، وإنما هو مرجع موضوعي مستقل عنه وهو القرآن والسنة.
إذن علمانية الدولة ليست مفهوماً واحداً متفقاً عليه بين الغربيين أنفسهم، وإذا أُريد بها الشورى، وحق إبداء الرأي والاعتراض – وهذا هو روح الديمقراطية – فهذا من أسس الحكم عندنا.
ثانياً : هناك مبادئ للديمقراطية حسنة، ومنها سيادة الدستور والشفافية في الحكم، واستقلال القضاء، والفصل بين السلطات، وحرية التعبير، وصيانة كرامة الإنسان، وحفظ حقوقه، وهذه المبادئ هي حقيقة الديمقراطية وروحها وإذا افتقدتها أصبحت صورة زائفة لا حقيقة لها. وهذه المبادئ مما دعت إليه شريعتنا، وأوجبت على الحكام العمل به. وعلى من أراد أن يأخذ بالديمقراطية أن يأخذ بهذه المبادئ أولاً. ومما يُؤسف له أن الديمقراطية في كثير من بلدان العالم العربي الآن هي صورة الديمقراطية وليس حقيقتها.
ثالثاً: الديمقراطية ثقافة وممارسة اجتماعية، وليست مجرد برلمان وصندوق اقتراع. ولهذا لابد أن يصحب العملية الديمقراطية الحقيقية حرية التعبير وحرية الحوار وعلنيته.
رابعاً: الديمقراطية لا تنفصل عن رقابة الأمة. وكل ديمقراطية من غير رقابة اجتماعية هي زائفة. والرقابة الاجتماعية تقتضي الشفافية في الإدارة، وإتاحة المعلومات لجميع أبناء المجتمع.
خامساً: علينا الاجتهاد في تطوير أساليبنا في الحكم وإبراز مصطلحاتنا الإسلامية النابعة من تراثنا ومرجعيتنا الإسلامي(/2)
نحو تنظيم دعويّ فعّال محمد أبو بكرالرحمنو*
إن العمل الدعوي لهو من الأعمال العظيمة التي تستلزم الاجتهاد تسديدا واستقامة؛ وهو من الأعمال المباحة التي تستحق أن يفرغ فيها كل وسع، ويبذل فيها كل جهد، وأن يستفاد فيها من كل علم مباح وفن.. وإن من أفيد العلوم الحديثة للعمل الدعوي علم الإدارة؛ الذي غايته إنجاز الأعمال بأفضل الطرق، وأقل الجهود.
يقوم علم الإدارة على مبادئ هامة ومفيدة؛ ظهرت من خلال التجارب العملية، والخبرات المتراكمة عبر السنين، وملاحظات وبحوث علماء الإدارة القيمة.. فعلم الإدارة كله مبني على دراسة سنن الله تعالى الكونية؛ المتعلقة بتحسين الإنجاز، والوصول إلى الغايات عبر الوسائل المتاحة، وإن من أهم مبادئ الإدارة ذات الكفاءة والفعّالة مبدأ يتعلّق بأهمية التنظيم.
إن التنظيم هو أحد مبادئ الإدارة الثابتة والراسخة، وتقوم عليه أعمال الإدارة كلها؛ فلو أنه أهمل أو أغفل لكانت النتيجة هي إهدار الموارد غالبا؛ ليس هذا من باب التقوّل والكلام في الغيب؛ ولكن من باب استحضار سنن الله تعالى؛ التي لا تتبدّل، ولا تتغيّر!!.. فلا بد إذا للراغبين في الدعوة إلى الله من الاستفادة من هذا المبدأ، والاستعانة بالدراسات والتجارب والتوصيات المتعلّقة به؛ وصولا إلى تنظيم فعّال؛ يؤدي إلى إيصال رسائلهم بأفضل وجه؛ متتبعين سنن الله تعالى؛ غير متواكلين، ولا متبعي الأماني.
إن التنظيم الفعال هو ذلك التنظيم الذي يستصحب الرسالة والأهداف والوسائل، ويحدد الأعمال والمهام اللازمة لتحقيقها، ثم يعمل على تقسيمها إلى مهام فردية، وتحديد مواصفات الأفراد الذين سيؤدون الوظائف، وتحديد العلاقات التنظيمية، ثم إنزال ذلك إلى الواقع؛ عبر اختيار الأفراد وتعيينهم، وتفويض الصلاحيات لهم، ثم المتابعة والمراجعة والتقويم.
مما سبق تظهر لنا الخطوات التالية التي ينبغي اتباعها في سبيل تأسيس وإدارة تنظيم دعوي فعال؛ متجه نحو الغايات، متعلق بالنهايات، مهتم بالتفاعل البناء، معتن بالتجويد عبر التخصص.. وهذه هي الخطوات:
1) وضع رسالة التنظيم.
2) وضع الأهداف العامة.
3) تحديد الوسائل.
4) تحديد الإمكانيات.
5) تحديد المهام الضرورية لتحقيق الأهداف عبر الوسائل المحددة.
6) تقسيم المهام حسب التخصص الوظيفي أو الإداري إلى أنشطة متخصصة.
7) تقسيم الأنشطة إلى مسؤوليات فردية (وصف تنظيمي).
8) تحديد نوعية العاملين (وصف المهارات، والمعارف المطلوبة لشاغل كل وظيفة).
9) تحديد الحقوق الوظيفية (الراتب، البدلات، الامتيازات، الإجازات، الترقيات، الحوافز).
10) تحديد علاقات السلطة والمسؤولية بين الوظائف المختلفة.
11) اختيار العاملين لشغل الوظائف حسب النوعيات المطلوبة.
12) تفويض الصلاحيات والسلطات لهم لممارسة وظائفهم.
13) التوجيه والرقابة.
14) المراجعة والتقويم.
هذه الخطوات قد تبدو أبسط عند محاولة تأسيس تنظيم جديد، ولكن المنظمات القائمة تصاحب عملية إعادة تنظيمها العديد من المصاعب؛ إذ أن التغيير – وهو ضرورة حتمية - غير مرغوب فيه عند كثير من الناس؛ لأنهم غالبا ما ينفرون من التعامل مع المجهول، والمجهول له رهبة في مع النفوس.
يجب الاهتمام عند القيام بتنظيم علاقات العمل بين الوظائف المختلفة بمبدأ هو (مبدأ وحدة الأمر)؛ والذي يعني أن يتلقى كل فرد في التنظيم التوجيهات من جهة واحدة فقط؛ ويكون بالتالي مسؤولا أمام شخص واحد؛ لذلك لا بد من تحديد خطوط علاقات العمل؛ وهو ما يعرف بالهيكل التنظيمي..
إن مراجعة العمل التنظيمي دورياً بين فينة وأخرى، وإعادة صياغته وفق متطلبات الظروف المحيطة - سواء المتعلقة بنقاط القوة والضعف في داخل التنظيم، أو بالتغير في ظروف البيئة الخارجية؛ من قوانين وقرارات حكومية، ولوائح وثقافات ومعتقدات وظواهر اجتماعية – من الأهمية بمكان؛ إذ أنه يعمل على صيانة هادفية التنظيم، والسير في طريق تحديد رسالته.. إن الأمر لا يقتصر على مراجعة التنظيم وحسب؛ بل لا بد من مراجعة الأهداف، والاستراتيجيات، والسياسات، والإجراءات، والنظم، وكافة عناصر العمل التنظيمي؛ حتى يتم تحقيق فاعلية التنظيم (التوجه البناء نحو الأهداف، والغايات)، وكفاءته (الحصول على أكبر إنتاج ممكن - مخرجات - من الموارد المتاحة).
إن تفصيل الخطوات السابق ذكرها – حتى يكون فعّالاً – يحتاج إلى رؤية متكاملة، وتحديد الرسالة بشكل واضح من منطلق هذه الرؤية، ثم تحديد الأهداف العامة؛ التي بتحقيقها تتحقق الرسالة وفق الرؤية.. ثم لا بد من وضع إطار لتحقيق الأهداف؛ وهو الطرق التي يمكن عن طريقها التقدم نحو كل هدف.
إذا تم تحديد العناصر السابقة وبشكل واضح فإن عملية التنظيم ستصبح سهلة نسبياً، أما إذا أردنا تنظيم العمل دون تحديد العناصر السابقة، أو دون مراعاتها فسيكون التنظيم تنظيما شكليا في الغالب؛ لا يؤدي إلى التكامل في السعي نحو الغايات، ويؤدي إلى إهدار الطاقات البشرية، والإمكانيات المادية.(/1)
أسأل الله العظيم، رب العرش العظيم أن ينفع بما كتبت، وأن ييسر لي سبيلا إلى كتابة المزيد تفصيلا وتطبيقا ونصحا، وأن يجعل عملي خالصا لوجهه تعالى.(/2)
نحو تنظيم دعويّ فعّال محمد أبو بكرالرحمنو*
إن العمل الدعوي لهو من الأعمال العظيمة التي تستلزم الاجتهاد تسديدا واستقامة؛ وهو من الأعمال المباحة التي تستحق أن يفرغ فيها كل وسع، ويبذل فيها كل جهد، وأن يستفاد فيها من كل علم مباح وفن.. وإن من أفيد العلوم الحديثة للعمل الدعوي علم الإدارة؛ الذي غايته إنجاز الأعمال بأفضل الطرق، وأقل الجهود.
يقوم علم الإدارة على مبادئ هامة ومفيدة؛ ظهرت من خلال التجارب العملية، والخبرات المتراكمة عبر السنين، وملاحظات وبحوث علماء الإدارة القيمة.. فعلم الإدارة كله مبني على دراسة سنن الله تعالى الكونية؛ المتعلقة بتحسين الإنجاز، والوصول إلى الغايات عبر الوسائل المتاحة، وإن من أهم مبادئ الإدارة ذات الكفاءة والفعّالة مبدأ يتعلّق بأهمية التنظيم.
إن التنظيم هو أحد مبادئ الإدارة الثابتة والراسخة، وتقوم عليه أعمال الإدارة كلها؛ فلو أنه أهمل أو أغفل لكانت النتيجة هي إهدار الموارد غالبا؛ ليس هذا من باب التقوّل والكلام في الغيب؛ ولكن من باب استحضار سنن الله تعالى؛ التي لا تتبدّل، ولا تتغيّر!!.. فلا بد إذا للراغبين في الدعوة إلى الله من الاستفادة من هذا المبدأ، والاستعانة بالدراسات والتجارب والتوصيات المتعلّقة به؛ وصولا إلى تنظيم فعّال؛ يؤدي إلى إيصال رسائلهم بأفضل وجه؛ متتبعين سنن الله تعالى؛ غير متواكلين، ولا متبعي الأماني.
إن التنظيم الفعال هو ذلك التنظيم الذي يستصحب الرسالة والأهداف والوسائل، ويحدد الأعمال والمهام اللازمة لتحقيقها، ثم يعمل على تقسيمها إلى مهام فردية، وتحديد مواصفات الأفراد الذين سيؤدون الوظائف، وتحديد العلاقات التنظيمية، ثم إنزال ذلك إلى الواقع؛ عبر اختيار الأفراد وتعيينهم، وتفويض الصلاحيات لهم، ثم المتابعة والمراجعة والتقويم.
مما سبق تظهر لنا الخطوات التالية التي ينبغي اتباعها في سبيل تأسيس وإدارة تنظيم دعوي فعال؛ متجه نحو الغايات، متعلق بالنهايات، مهتم بالتفاعل البناء، معتن بالتجويد عبر التخصص.. وهذه هي الخطوات:
1) وضع رسالة التنظيم.
2) وضع الأهداف العامة.
3) تحديد الوسائل.
4) تحديد الإمكانيات.
5) تحديد المهام الضرورية لتحقيق الأهداف عبر الوسائل المحددة.
6) تقسيم المهام حسب التخصص الوظيفي أو الإداري إلى أنشطة متخصصة.
7) تقسيم الأنشطة إلى مسؤوليات فردية (وصف تنظيمي).
8) تحديد نوعية العاملين (وصف المهارات، والمعارف المطلوبة لشاغل كل وظيفة).
9) تحديد الحقوق الوظيفية (الراتب، البدلات، الامتيازات، الإجازات، الترقيات، الحوافز).
10) تحديد علاقات السلطة والمسؤولية بين الوظائف المختلفة.
11) اختيار العاملين لشغل الوظائف حسب النوعيات المطلوبة.
12) تفويض الصلاحيات والسلطات لهم لممارسة وظائفهم.
13) التوجيه والرقابة.
14) المراجعة والتقويم.
هذه الخطوات قد تبدو أبسط عند محاولة تأسيس تنظيم جديد، ولكن المنظمات القائمة تصاحب عملية إعادة تنظيمها العديد من المصاعب؛ إذ أن التغيير – وهو ضرورة حتمية - غير مرغوب فيه عند كثير من الناس؛ لأنهم غالبا ما ينفرون من التعامل مع المجهول، والمجهول له رهبة في مع النفوس.
يجب الاهتمام عند القيام بتنظيم علاقات العمل بين الوظائف المختلفة بمبدأ هو (مبدأ وحدة الأمر)؛ والذي يعني أن يتلقى كل فرد في التنظيم التوجيهات من جهة واحدة فقط؛ ويكون بالتالي مسؤولا أمام شخص واحد؛ لذلك لا بد من تحديد خطوط علاقات العمل؛ وهو ما يعرف بالهيكل التنظيمي..
إن مراجعة العمل التنظيمي دورياً بين فينة وأخرى، وإعادة صياغته وفق متطلبات الظروف المحيطة - سواء المتعلقة بنقاط القوة والضعف في داخل التنظيم، أو بالتغير في ظروف البيئة الخارجية؛ من قوانين وقرارات حكومية، ولوائح وثقافات ومعتقدات وظواهر اجتماعية – من الأهمية بمكان؛ إذ أنه يعمل على صيانة هادفية التنظيم، والسير في طريق تحديد رسالته.. إن الأمر لا يقتصر على مراجعة التنظيم وحسب؛ بل لا بد من مراجعة الأهداف، والاستراتيجيات، والسياسات، والإجراءات، والنظم، وكافة عناصر العمل التنظيمي؛ حتى يتم تحقيق فاعلية التنظيم (التوجه البناء نحو الأهداف، والغايات)، وكفاءته (الحصول على أكبر إنتاج ممكن - مخرجات - من الموارد المتاحة).
إن تفصيل الخطوات السابق ذكرها – حتى يكون فعّالاً – يحتاج إلى رؤية متكاملة، وتحديد الرسالة بشكل واضح من منطلق هذه الرؤية، ثم تحديد الأهداف العامة؛ التي بتحقيقها تتحقق الرسالة وفق الرؤية.. ثم لا بد من وضع إطار لتحقيق الأهداف؛ وهو الطرق التي يمكن عن طريقها التقدم نحو كل هدف.
إذا تم تحديد العناصر السابقة وبشكل واضح فإن عملية التنظيم ستصبح سهلة نسبياً، أما إذا أردنا تنظيم العمل دون تحديد العناصر السابقة، أو دون مراعاتها فسيكون التنظيم تنظيما شكليا في الغالب؛ لا يؤدي إلى التكامل في السعي نحو الغايات، ويؤدي إلى إهدار الطاقات البشرية، والإمكانيات المادية.(/1)
أسأل الله العظيم، رب العرش العظيم أن ينفع بما كتبت، وأن ييسر لي سبيلا إلى كتابة المزيد تفصيلا وتطبيقا ونصحا، وأن يجعل عملي خالصا لوجهه تعالى.(/2)
نحو مرجعية إسلامية لأهل السنة والجماعة
رأفت صلاح
</TD
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ومن والاه وبعد ...
إن المتأمل لواقع المسلمين اليوم وما آلوا إليه من الضعف والذل والهوان ليدرك صدق نبؤة رسول الله – صلى الله عليه وسلم - : (( يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها ...))1
فقد التهم الأكلة كل مافى القصعة ، حتى لم يبق فيها شيئ للأيتام .
بالأمس البعيد كان الأندلس والهند ، والأمس القريب فلسطين وكشمير واثيوبيا واريتريا والفلبين والشيشان وجمهوريات القوقاز وبورما وغيرها ، واليوم أفغانستان والعراق ، أما غدا فلا نعلم ما يخبئه لنا القدر.
ومالاتستسيغه معدة الأكلة فهناك الوكلاء الذين يفعلون مايملى عليهم .
أنى اتجهت إلى الإسلام في بلدٍ *** تجده كالطير مقصوصاً جناحاهُ !!
وصدقت نبؤة الرسول – صلى الله عليه وسلم – أيضا عندما قال : (( افترقت اليهود على احدى وسبعين فرقة ، وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة ، وستفترق أمتى على ثلاث وسبعين فرقة ))2
نعم افترقت إلى الشيعة والخوارج والمرجئة والنصيرية والإسماعيلية والبهائية والقادينية وغيرهم .
ويبرز من هذا الركام فرقة واحدة هى ماعليه النبى – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه وهى " أهل السنة والجماعة " ، وأعداء الإسلام عندما يصوبون سهامهم للأمة لايقصدون إلا هذه الفرقة ، أضحوا كلأ مباحا لكل آكل ، وطمع فيهم حتى أرذل الخلق ، وهم هدفا حتى للفرق الأخرى التى تنتمى للأمة ولاحول ولا قوة الا بالله ، مابين أنياب الأكلة من الخارج والأكلة من الداخل وقع أهل السنة ، وقعوا بين اليهود والنصارى والهندوس والسيخ والبوذيين ومالا دين لهم من ناحية ، ومن ناحية أخرى وقعوا بين الشيعة والنصيرية والدروز والإسماعيلية والأباضية والعلمانيين اللادينيين . فالكل اجتمع عليهم هم لاغيرهم ، تصنيف دقيق فهمه أعدائنا ولا نريد أن نفهمه نحن ، فمازال منا من يدعوا إلى التقريب بين المذاهب - بين السنة والشيعة – ولم يعتبروا إلى ماحدث فى العراق حين جاء الحلف " الصهيوانجلوامريكى" الأنجلو ساكسونى بقضه وقضيضه وحده وحديده جاءوا يرمون أهل السنة عن قوس واحدة ، جاءوا يدكون عراقنا بأقذر ماأنتجت حضارتهم وعرفته البشرية من قنابل ذكية وغبية وممنوعة ، أتوا بأم القنابل وأبناءها وأحفادها ليبسطوا سجادتهم الذكية على أرض العراق حتى يبيدوا الأخضر واليابس والإنس والجن ، ولاحظوا معى أن كل ما عندهم أشياء ذكية خططهم وقنابلهم ورجالهم حتى حصارهم وكأن الذكاء نصيبهم هم فقط حتى فى أسلحتهم !!! اللهم نصرك المؤزر.
فلما أراد أخواننا فى العراق أن يأووا إلى ركن شديد تحول هذا الركن إلى فسيفساء خالية لا لون ولاطعم ولا رائحة ، بل لاشكل ولا أثر ، اختفى البعث الحاقد المرتد ، وهكذا القوميون العرب لا تراهم وقت المحن والأزمات ، أما فى غيرها فتراهم يملأون الدنيا ضجيجا بإنجازاتهم وانتصاراتهم وحكمتهم التى ليس لها وجود ، وهم سبب ما حل ويحل بالأمة من مصائب . فدورهم هو تحطيم مقدراتها وقوتها منذ ثورة كبيرهم الخائن حسين ، وعمله بمساندة أسيادة البريطانيين على اسقاط الخلافة العثمانية ، مرورا بعبد الناصر الذى ألقى شعبه فى البحر وترك اليهود يمرحون ويفرحون بتوسيع الأرض التى إحتلوها ، إنتهاءا بصدام البعثى القومى الذى سلم هو ورجاله العراق للتتار الجدد .
فلم يفق إخواننا المجاهدين من العراقيين والعرب إلا والأمريكان من أمامهم يدكونهم ، والشيعة من خلفهم يجهزون علي من بقى منهم ـ هكذا هم دائما يستغلون الفرص ولايضيعونها منذ ابن السوداء "ابن سبأ " ، مرورا بابن العلقمى ونصير الدين الطوسى إنتهاءا بشيعة العراق اليوم ، الجلبى وعبد المجيد الخوئى ومحمد باقر الحكيم وغيرهم ،
فماذا ننتظر منهم غير هذا .
، أمايحدث للسنة فى " الجمهورية الإسلامية " على أيديهم فحدث ولاحرج ، فمن قتل للعلماء وانتهاك للحرمات وتشريد للمسلمين .
وما يحدث فى فلسطين على أيدى اليهود وأنصارهم من الدروز الذين يخدمون فى الجيش اليهودى ويشاركونه فى عملياته ضد الفلسطينين وقد كان لهم دور فى مذبحة جنين الأخيرة .
ومايحدث للسنة فى عمان من الأباضية الخوارج ليس عنا ببعيد .
أما ماحدث ويحدث لأهل السنة فى سوريا الحبيبة على أيدى النصيرون فلا يمكن أن يتصوره عقل بشر ، أن يدك رئيس بلد شعبه بالطائرات والدبابات فى حماة ويدمر المساجد ، أو أن يدخل الجنود المدججون بالسلاح على العزل فى السجون يضربونهم فى سويداء القلب فى تدمر ، هل يصدق ذلك ، يحدث هذا والملهم أرضه محتلة من اليهود فلم يصوب لهم بندقيته إلا فى بعض المعارك الإستعراضية فى 67 و73 .(/1)
أيها السادة استعرضنا هذا الواقع المرير لا لنقف أمام الأطلال نبكى على اللبن المسكوب ، ونظل نولل كما النساء ، وإلا ظللنا نبكى إلى قيام الساعة ، لأن مسلسل المآسى بدأ ولن ينتهى حتى يردونا عن ديننا إن استطاعوا ، مصداقا لتحذيره تعالى لنا فى كتابه : (( ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم ....)) البقرة / 120 .
قدمنا لذلك حتى نعمل على إيجاد حل للنهوض بواقع الأمة دينيا وسياسيا وفكريا واقتصاديا وعسكريا .
أيها السادة يجب أن نتحرك قبل فوات الأوان لإنقاذ ديننا وأمتنا وقبل ذلك انقاذ أنفسنا ، فمازالت الفرصة فى أيدينا .
الحل كما أراه أن نبدأ بالعمل على إيجاد (( مرجعية دينية سياسية فكرية لأهل السنة والجماعة )) يتولى أمرها علماء الأمة العاملين المخلصين .
فأمم الأرض جميعها كلٌ له مرجعيته ـ حتى الفرق التى تحدث عنها صلى الله عليه وسلم ـ إلا أهل السنة والجماعة ، فمنذ سقوط الخلافة العثمانية وهم يعيشون حياة التشرذم والهوان فلا مرجعية لهم ترشدهم ولاقوة عندهم تمنعهم كالأيتام على موائد اللئام ، إلا بعض الجهود التى قامت بها الحركات الإسلامية ، لكنها لم تحاول لم شمل الأمة وكرست الفرقة والتشرذم .
فاليهود ـ أذل خلق الله ـ لهم مرجعيتهم الدينية والسياسية والفكرية .
النصارى بجميع مذاهبهم لهم مرجعيتهم ، الكاثوليك لهم بولسهم الثانى فى الفاتيكان ، والأرثوذكس لهم شنودة فى مصر ، والبروتستانت كذلك لهم مرجعيتهم فى أمريكا.
حتى الهندوس لهم " المجلس الهندوسى العالمى " .
أما الشيعة فلهم مرجعيتهم التى تنظم جميع شؤنهم والمتمثلة فى الآيات والملالى والمجلس الشيعى الأعلى ، كذلك الدروز والنصيرية لهم مرجعيتهم ، والإسماعيلية لهم أغاخانهم ، فالجميع لهم مرجعيتهم .
وأهل السنة والجماعة الذين هم أكثر المسلمين عددا - وإن كانوا هم المسلمون حقا - هذه الجموع من مشارق الارض إلى مغاربها ليس لهم مرجعية يرجعون إليها ويحتمون بها .
فإلى متى سنظل هكذا ؟! إلى متى أهل السنة يسامون الذل والهوان من شرار الخلق ؟!
أيها السادة سقطت شرعية الأنظمة السياسية التى تتحكم فى رقاب العباد منذ سقوط الخلافة ، وعدم تحكيمها لشرع الله ، ولا يمكن لعاقل أن يعول على هذه الزعامات المزيفة التى باعت دينها وعرضها ومن قبل باعت نفسها لعدوها .
نحن فى أمس الحاجة لأن يقوم العلماء بدورهم فى قيادة الأمة فى هذه الأيام بالذات التى يعانى فيها المسلمون فراغا عظيما فى القيادة والتوجيه ، وأعتقد أن الأمة لن تتوانى عن الإلتفاف حول هذه القيادة إذا أحست فيها الإخلاص والمسئولية .
الناس فوضى لا سراة لهم ولا سراة إذا جهالهم سادوا
فيا علماء الأمة هذا هو طريق الأنبياء وأتباعهم هذا هو طريق محمد - صلى الله عليه وسلم - وصحبه - رضوان الله عليهم - قادوا أممهم وقت الشدائد والملاحم ، وهذا هو طريق التابعين طريق ابن المبارك وابن جبير وابن المسيب وأحمد بن نصر الخزاعى ، وطريق الإمام مالك وأحمد بن حنبل والإمام البويطى ، وطريق ابن تيميه والعز بن عبد السلام ، كما أنه طريق محمد بن عبد الوهاب وحسن البنا والمودودى وسيد قطب رحم الله الجميع .
يا علماءنا إن لم تنهضوا الآن فمتى تنهضون ؟ وإن لم تهبوا أنتم فمن غيركم ؟
أما المقصود بالمرجعية فهى تجمع منسق منظم لقيادة وتوجيه المسلمين ، يشمل علماء الأمة وسياسيها ومفكريها ومثقفيها المخلصون العاملون المستقلون ، الذين لايتبعون أنطمة أو مؤسسات رسمية ، بل كلمتهم من أفواههم ليست مما يملى عليهم .
وظيفة هذا التجمع أن يقوم بالآتى :
1ـ تصحيح عقيدة ومفاهيم المسلمين ، وتجميع الأمةعلى عقيدة أهل السنة والجماعة ، ورفع الإلتباسات التى وقعت فيها الأمة ، وإنقاذها من جراثيم الإرجاء والعلمانية ، وإحياء الربانية وتعظيم شعائر الله فى نفوس أبنائها ، وإصلاح أخلاقهم وسلوكياتهم وعبادتهم .
2- تحذير الأمة من الشركيات والكفر والبدع والخرافات والخزعبلات التى ملأت حياة الناس وأصبحت ديدنهم، وصرفتهم عن المحاجة البيضاء .
3ـ تعليم المسلمين أمور دينهم وتفقيههم وهذا ديدن العلماء والمصلحين فى كل عصر يتصدروا لتعليم الناس ماينفعهم فى حياتهم وبعد مماتهم ، كما يعملون على توحيد مصدر الفتاوى الشرعية والرجوع إليهم عند الملمات والنوازل .
4- توحيد كلمة أهل السنة ولم شملهم وتجميع شتاتهم ، وإحياء العزة والشجاعة فى نفوسهم وقيادتهم لتحرير أراضيهم ومقدساتهم من أيدى الطغاة ، ووضع حد لمآسيهم فى كل مكان .
5- قيادة الأمة وتوجيهها للعمل على إعادة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة ، وإقامة شرع الله فى الأرض ، فقد تعددت مناهج التغيير ولابديل عن توجيه العلماء وقيادتهم .
6- إحياء روح الجهاد والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فى الأمة ، وايقاظها من ثباتها ورقدتها ، لتعمل عل تغيير واقعها والنهوض به واستشراف مستقبلها ،(/2)
وتنظيم العمل الجهادى وتوجيه المجاهدين فى كل مكان ، فالجهاد هو السبيل الوحيد لذلك ، وأعداؤنا يفطنون لهذا ، لذا كانت هذه الحرب الضروس على الحركات الجهادية ، والعمل على وأد روح الجهاد فى الأمة وقد نجحوا فعلا فى ذلك .
7- فضح مخططات أعداء الإسلام والمنافقين المتعاونين معهم ، ودورهم فى تدمير دولة الخلافة وتحطيم مقدرات الأمة ، وفضح الزعمات المزيفة التى غيبت وعى الأمة وغالطت عليها .
8- تخطى الحزازيات والعقبات الحزبية بين الحركات الإسلامية ، والتطلع إلى الكيان العالمى الذى تذوب فيه كل الحزبيات ويستوعب كل الحركات ، لذا ينبغى أن تشمل هذه المرجعية علماء الحركات الإسلامية بجميع أطيافها الدعوية والتربوية والسياسية والجهادية طالما انطبقت عليهم الشروط .
9- تخطى الحواجز والعراقيل والحصار الأمنى للحركات الإسلامية وأى عمل جاد يسبب يقظة لأفراد الأمة ، فالكيان العالمى يفوت الفرصة على الإحتواء الداخلى .
10- العمل على رد الشبهات التى تلقى فى وجه الإسلام ، وتصحيح الصورة المغلوطة عن الإسلام أمام غير المسلمين ، ومواجهة الهجمة الشرسة التى تطعن فى الإسلام , وفى الرسول – صلى الله عليه وسلم – وفى صحابته رضوان الله عليهم .
ولكى نحقق المرجعية المطلوبة لابد أن تتضافر جهود الفئات التالية :
أولا: العلماء : فهم صمام الأمان لهذه الأمة ، وهم المنوط بهم إنقاذها من حالة الضياع والهوان التى تعتريها ، ودورهم هو الأساس فى إيجاد هذه المرجعية .
لذا كان واجبا على علمائنا الكرام السعى الدؤوب لإيجاد فاعلية من العلماء والمفكرين والسياسيين الذين يهمهم أمر هذا الدين ، وهذه أمانة فى أعناقهم .
ولا يقتصر الأمر على فئة أو جماعة بعينها بل يشمل العلماء المنتمون للحركات بلا استثناء وكذلك العلماء المستقلون الذين لاينتمون لأى حركة ولهم دورهم فى انقاذ الأمة .
لا يمكن أن نعتمد على هذا الصنف من العلماء الذى باع نفسه وعلمه لأهل الباطل ، الذين يقتاتون بهذا الدين ، نريد العلماء العاملين المخلصين الذين يضحون بأوقاتهم وأعمارهم فى سبيل نصرة هذا الدين .
يمكن أن نعتمد على العلماء العاملين المخلصين المتلبسين ببعض البدع كالأشاعرة مثلا ، من المعلوم أن هذه العقيدة متلبس بها جل العلماء فى كثير من الأقطار الإسلامية ولاحول ولاقوة إلا بالله ، لكن كثير منهم من العلماء الخلصين العاملين الذين لاينبغى أن نحرم من جهودهم ونشاطهم ، فعلماء السلف لم يحرمونا من علم الإمام النووى وابن حجر العسقلانى وغيرهم من العلماء الأشاعرة .
خلاصة الكلام أن يتولى زمام الأمر العلماء العاملون لترتيب الأوضاع وتحديد الأدوار والإسراع للقيام بهذا الأمر ، حتى لاتفوت الفرصة ونجد أنفسنا لاسبيل لنا الإ دفع الجزية للصليبيين .
ثانيا : المفكرون والمثقفون : لاتعدم هذه الأمة الكثير من المفكرين المثقفين المخلصين الذين بذلوا جهودا عظيمة لخدمة هذا الدين ، وهذا من فضل الله وحده .
لذا ينبغى أن يكون لهم دور فى العمل على ايجاد هذه المرجعية فهم المنظرين فكريا وثقافيا وحركيا لهذه الأمة ، فالأمة تعانى انحطاطا فكريا غير مسبوق ، بعد أن كان الفكر الإسلامى والثقافة الإسلامية والحضارة الإسلامية هى المنارات التى تقتدى بها أمم الأرض جميعا .
ثالثا : الحركات الإسلامية : هى رصيد هذه الأمة ، وهى نقطة الأمل الباقى لها فى هذا الظلام الحالك .
ومن فضل الله تعالى وجود هذا التنوع فى الأدوار التى تؤديها الحركة فمن جهادية إلى دعوية إلى سياسية ، هذا التنوع يحسبه البعض شرا ، ولكن العكس فلا يمكن أن تقوم حركة بكل هذه الأدوار مجتمعة هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى لا يمكن أن نستغنى عن أى دور من هذه الأدوار ، والخلل الذى ينبغى أن نزيله هو التعصب والإتهامات التى يلقيها كل فريق تجاه الآخر ، وعرض نفسه بديلا عن الآخرين ، فالمطلوب نوع من التكامل والتعاون بين الحركات ، فقد بذلت جهود للتجميع لكن دون جدوى .
لن تحل هذه الإشكالية إلا بإيجاد المرجعية الدينية التى تذوب فيها كل الحزازيات والإختلافات ، وهذا هو دور العلماء والمفكرين المنتمون للحركات الإسلامية بالتعاون مع العلماء المستقلون .
رابعا : الأمة : لايمكن أن نستبعد دورها فيما يجرى لأنها هى مسرح الأحداث ، ولايمكن أن يحدث تغيير إلا بمشاركتها ، فالأمة لاينتصرعليها إلا أمة ، وقد اجتمعت علينا أمم الأرض ، وأمتنا والحمد لله لم تفقد رصيدها من الفطرة ، ويظهر ذلك جليا مع الأحداث المتصارعة كما حدث فى العراق .
لكن الأمة تعانى من فراغ شديد لم تستطع أن تملئه القومية ولا الوطنية ولا العلمانية ولا الإشتراكية ولا غيرها ، فالأمة فى حاجة إلى العلماء ليقودوا مسيرتها ويوجهوها دينيا وسياسيا وفكريا ، ويسدوا هذا الفراغ الذى تعانيه .
كما أن الأمة عليها دور خطير ألا وهو الإلتفاف حول العلماء والوقوف صفا واحدا فى وجه الأخطار والأحداث المتلاحقة .
* * *(/3)
أيها السادة ماذا ننتظر ؟
هل ننتظر حتى يسحق العلوج دولة أخرى من دول المسلمين ، حتى يستبيحوا حرماتنا ومقدساتنا ، حتى يدنسوا أعراضنا .
هل ننتظر حتى يهدم الأقصى .
ماذا ننتظر وقد لفوا الحبل حول أعناقنا جميعا ولم يبق غير شد أحد طرفيه .
أيها الأحبة الأمر ليس صعبا ولا مستحيل لكن يحتاج إلى مجهود شاق ، فالأمة التى أنجبت مثل أبى بكر وعمر وعثمان وعلى وابن المبارك وابن حنبل وابن تيميه وابن القيم والعز بن عبدالسلام وصلاح الدين وقطز ، وأنجبت مثل محمد بن عبد الوهاب والصنعانى والشوكانى وحسن البنا والمودودى وسيد قطب ومحمد قطب وعبدالله عزام وسفر الحوالى وسلمان العودة وخطاب ، لن تعجز عن انجاب غيرهم من الأفاضل الذين يأخذون بأيديها إلى بر الأمان ،
لم يبق إلا أن نعزم العزمة ونمضى وعلى الله التوفيق والسداد .
بعد أن فرغت من كتابة هذه الكلمات تابعت انطلاق الحملة العالمية لمقاومة العدوان ، وأمينها العام فضيلة الشيخ سفر الحوالى ، وهذا أمر مهم وبداية موفقة إن شاء الله ، نسأل الله لها الدوام والإستمرار وأن تكون تدشين للمرجعية التى نتمناها ، وبداية لأن يتبوأ علمائنا الدور المرجو منهم ، وبداية الغيث قطرة .
أما الذى أقصده فهى مرجعية تجمع علماء الأمة العاملين ، حتى تقود حركتها وتوجه مسيرتها فى شئونها كلها وتتبنى قضايا الأمة كلها ، وذلك لتلف حولها الأمة وتسير بتوجيهها واجتهاداتها ومن أجل تحقيق النقاط العشرة السابقة ، وليست لجنة تهتم ببعض القضايا الفرعية .
وصلى اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
ـــــــــــــــــ
(1) صحيح الجامع ( الألبانى ) / حديث رقم 8183 .
(2) أخرجه أحمد وأبو داود والترمذى وصححه ، وانظر صحيح الجامع ( الألبانى ) رقم 1083 .(/4)
نحو نقد إسلامي متميز
"منهجية التميز"
عباس المناصرة
01 معنى التميز
02العقل المسلم (النشأة والتطور والتميز)
03 معركة النقاء والتلوث والانشقاق الثقافي
04احتلال العقل المسلم
05 تحت الركام
06 تفكيك الركام
07 تنظيف الركام
08خطوات خارج الركام
09خطوات إلى الأمام
نحو نقد إسلامي متميز
" منهجية التميز "
1ـ معنى التميز :
أظن أن من عادة الباحثين ، العودة إلى معاجم اللغة ، لاستجلاء ما تطرحه هذه المعاجم ، حول المعنى اللغوي . ومن خلال جولتنا الأولى لاكتشاف المعنى ، دلنا المعجم على مجموعة من موحيات الدلالة لهذه الكلمة ، في أصولها اللغوية التي وُضعت لها، وتبين أنه لفظ فيه معنى : الظهور والانفصال والبروز والفضل أو الزيادة ،القائمة على الافتراق النوعي عما يشابه أو يماثل أو ينافس(1) .
أما عندما نتوسع في دلالة التميز ، لتوظيفه في قضايا الفكر، ومنها النقد ، فإنه يدور حول الانطلاق المتميز الذي لا يتم إلا من خلال الذات الحضارية والخصوصية ، ونكهاتها المحلية التي تحمل ذات المبدع وتميزه إلى الآخرين ، وبذلك يَبين ويتميز على غيره في إنتاجه ومناهجه وتفكيره وسلوكه ، أو هو كما صوره شاعرنا العربي القديم :
إذا كنتُ في القوم الطوال فضلتهم بعارفة حتى يقال طويل(2 )
ويمكن أن نقصد به اصطلاحا ، ما أوجده فينا الإسلام من مناهج ومفاهيم وتفسيرات وخصائص وسلوكيات) تجاه الكون و الإنسان والحياة ، جعلتنا نفارق الأمم ونتميز عنها بشخصية حضارية مخالفة للحضارات المجاورة لنا في هذا الكوكب .
2ـ العقل المسلم ( النشأة والتكوين والتميز ):
العقل المسلم ، مصطلح أُخذ من قبيل وصف الإنسان بالصفة الفكرية التي يحملها ، وينظر من خلالها إلى الأشياء ، ونقصد به ، مادة الفكر في عقل هذا المسلم ( المرجعية والمنهج ومسارات التفكير والسلوك وطرائق تفسيره لظواهر الكون والحياة و الإنسان ...) .
وقد نشأ هذا العقل ، وبدأ تكوينه ، يوم بدأ هذا العربي يستجيب لنداء رسالة السماء ، التي خاطبته بالإقناع والإعجاز .
وعندها خالطت فكره وقلبه ، فاختار الإسلام منهجا وعقيدة ونظاما لحياته ، فاستمد من مرجعية (الوحي) علمه و فهمه للحياة ، وجعل من هذه المرجعية مصدرا وحيدا لفهمها وتفسيرها ، فاستخرج منها شرائعه وسلوكه ، وخضع لها في مؤسسات الدولة والمجتمع وبناء الحضارة .
كان ذلك يوم أضاء الرسول r عقول الرجال بنور ( القرآن والسنة ) ثم تتابع هذا الفعل في أبناء الأمة ، من الصحابة الكرام، والتابعين وتابعيهم ، والمجددين من علماء الأمة عبر العصور .
وبمرور الزمن ، وتعاقب جهود الأجيال ، أدى تراكم الخبرة عند علماء هذه الأمة إلى فقه هذه المرجعية ، والتعمق فيها ، حتى وصلت الأمة إلى مصطلحاتها الفكرية المستقلة ، الخاصة بها ، والتي تصف بها منتجاتها ، في الفكر والعقيدة والحضارة وغيرها، وهكذا تأكدت خصوصية هذا العقل في مناهجه وتفكيره ومحاكماته ، وبذلك انفصل هذا العقل عن الحضارات المجاورة ، وتميز عنها مستقلا بذاته ، ويمكننا أن نوجز هذا التميز وتلك الخصوصية في الخطوط العريضة التالية .
3ـ الخطوط العريضة لخصوصية العقل المسلم :
أ ـ اتخذ العقل المسلم علم الوحي المتمثل ( بالقرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة) مرجعية له ، يفكر من خلالها في الحياة ، ثم اعتمد على هذه المرجعية و إحالاتها لهذا العقل في فهم الوجود ، لان الوحي والوجود صادران عن مشيئة واحدة هي إرادة الله سبحانه وتعالى ، فالوحي يمثل ( الكتاب المسطور ) والوجود يمثل ( الكتاب المنظور ).
ثم جاء جهد هذا العقل في استيعاب هذه المرجعية وفقهها ، حيث تمكن علماء الأمة من الوصول إلى منهجية التعامل ، مع نصوص الوحي في علم مستقل ، يضبط هذه المنهجية ، ويحميها من الانحراف عن مقاصد الوحي، وهذا العلم هو علم (أصول الفقه) وهو علم مبني على ما يسمى علوم الأمة ( علوم اللغة، وعلوم التفسير، وعلوم القران، وعلوم الحديث ...) وهي العلوم التي اختصت بخدمة علم الوحي وتفصيل مقاصده .
وتبين للعقل المسلم أن علم الوحي يرشده إلى مصدرين للعلم والمعرفة هما :
1ـ علم الأمر الرباني : ( علم الثابت ) ومصدره آيات الوحي التي تفصل لهذا العقل : الحلال والحرام، ونظام الحياة، والإجابة على الأسئلة الكبرى التي تشغل العقل البشري ( علم العقيدة) والعبادات، وعلاقة الإنسان مع الله سبحانه وتعالى ومع أخيه الإنسان ومع الوجود .... وغيرها.
2ـ علم الإحالة إلى الوجود : ( علم المتغير ) وهو العلم الذي يتناول الأمر الرباني للعقل المسلم بهدف اكتشاف سنن الحياة والوجود وتوظيفها لخلافة الإنسان في عمارة هذه الأرض ، ومن خلال منهجية إخضاع المتغير للثابت .(/1)
ب ـ حمايه المرجعية من العبث والمحافظة على التميز ، وذلك باعتبار(القرآن الكريم والسنة الشريفة وما يتبعه من علوم الأمة) المرجع الوحيد ، الذي لا يجوز التلقي من غيره(3) ، إلا بالخضوع لمنهجه ، وهذا يحقق للامة وحدة المشرب ووحدة التفكير ، ويحفظ لهذا العقل الصفاء والتميز والاستقلال ، ويحميه من التلوث بالمناهج المخالفة .
ج ـ وتأكيدا لذلك الأمر في المحافظة على صفاء المنهج ، انخلع المسلم من ثقافته السابقة ( الجاهلية ) و رمى بها من وراء ظهره ، لأن القرآن الكريم ، لا يفتح كنوز علمه لمن يريد أن يفرض عليه ثقافته السابقة ، حيث تقف هذه الثقافة حاجزا ومعطلا بينه وبين فهم القرآن ،وهنا يمكن أن نفرق بين تخزين الخبرة الثقافية وبين نقل الثقافة .
د ـ يعترف المسلم أن العقل البشري طاقة هائلة ، وبه يتم اكتشاف واستيعاب سنن الله في الكون والحياة ، وبه يتم فقه أوامر الله سبحانه وتعالى فيما جاء من علوم الوحي ، ولكنه يعلم أنه محدود القدرة ، ولذلك يجب ألا تهدر طاقاته فيما لا يستطيع ، مما هو ليس من قدرته ولا في مجاله ، كالبحث في عالم الغيب ، وتفسير الوجود ، والإجابة على الأسئلة الكبرى من أمور العقيدة، والعبادات ، وقواعد بناء المجتمع الفاضل ، والعدل، والسلوك ،والأخلاق ،والتشريع لحياة البشر بالتحليل أو بالتحريم ) ولذلك فهو قاصر فيها ، فيكل هذه الأمور إلى علم الوحي لأن الحاكمية فيها لله وحده ، ووظيفة العقل في هذه الأمور هي : الاستيعاب لنصوص الوحي، وفقه مقاصدها، وتنفيذ الأوامر الربانية الواردة فيها .
أما في المتغير من حياة البشر وفيما يخص البناء الحضاري والجانب المادي واكتشاف سنن الكون والحياة ، فيتعامل معها من خلال منهج ( الاجتهاد والتجديد والاكتشاف ) لأن الوحي أحاله إلى ذلك .
ومعنى ذلك أنه عقل يجمع بين منهجية (الثابت والمتغير ) في وحدة واحدة، لأن ثوابت الوحي هي المحاور الربانية التي تضبط السلوك البشري وتحمي عقول الناس من التخبط والضلال أو الخضوع للهوى والمصالح .
هـ ـ غاية العقل المسلم هي إشباع حاجات الإنسان ،من خلال التعرف على منهج الحق والخضوع له في هذا الإشباع ، لأنه يعلم مسؤولية الإنسان عن هذا الإشباع ، أمام الله سبحانه وتعالى .
وـ يفهم العقل المسلم قضية التطور على أنها التعمق في فهم الحق والبحث عن الحقيقة اقترابا من الصواب ، الذي يرضي الله سبحانه وتعالى ، أما التطور الذي يقوم على أسلوب القفزات ، التي تحكمها الأهواء والمصالح وحظوظ النفس ، فهو ليس من منهجه .
ز ـ أمضى العقل المسلم فترة تقارب قرنين من الزمن في توثيق وحماية نصوص المرجعية ( جمع القرآن الكريم ، وجمع السنة النبوية الشريفة ) ثم انتقل إلى علم معرفة النص واستنباط علاقته مع الواقع ومناهج الوصول إلى فهمه وتطبيقه من خلال ( علم أصول الفقه ) الذي يمهد إلى علم الفقه العام .
حـ ـ ( كانت الثقافات السائدة قبل الإسلام تعتبر الواقع موضوعا خسيسا غير كفيل بأن يوصل إلى الحق وإلى الخير ، فالثقافة اليونانية تعتبر رأس الفضائل التعقل المجرد ، والثقافة الهندية والفارسية تعتبر أن المجاهدة الروحية ( الروحنة ) الطريق الوحيد إلى الحق ، وفي ذلك نفي للواقع المحسوس وإسقاط له )(4) فكان التفكير يعيش مع المثال والخيال ويتهرب من الواقع والعمل فيه ، ويترك العمل للطبقات المستعبدة في المجتمع .
فلما جاء الإسلام علم العقل المسلم احترام حقائق هذا الواقع ( عالم الشهادة ) وألزمه به ، وجعله مكان خلافته وتكليفه ، قال تعالى : ( إن في خلق السماوات و الأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون )(5) .
وقد مَنَّ الله سبحانه وتعالى عليه بنعمة الحواس التي تربطه بهذا الواقع ، و أحال حواسه وعقله إلى اكتشاف السماوات والأرض واكتشاف السنن والقوانين التي تحكمها ، ثم أمره بالاستفادة من اكتشاف هذه السنن في بناء حياته وحضارته على الأرض ، وعلمه أن هذه السنن وهذه السماوات وهذه الأرض تشير إلى عظمة الخالق ، وتعلمه الإيمان ، وان هذه السنن تطيع خالقها ، ولا تجامل مؤمنا ولا كافرا ، وطالبه أن يتعلم من هذه السنن ، فيأخذ بالأسباب التي تحكمها ، ليستفيد من ذلك في تيسير حياته الدنيا على الأرض .
وعلمه أن الأخذ بالأسباب أمر رباني ، وأن تركها كفر ، وأن التوكل عليها من دون الله شرك ، ودعاه إلى التقرب من خالق الأسباب ( بالدعاء ) حتى يعينه على امتلاك ناصيتها .(/2)
وبذلك أدرك العقل المسلم أن ترك الأخذ بالأسباب هو تهرب من العمل الصالح ، وان الدعوة إلى الزهد في الدنيا تهدف إلى التحكم بها ، والسيطرة عليها ، حتى لا تلهينا عن مقصد وجودنا وخلافتنا على الأرض ، وليس إعراضاً عنها أو إهمالاً لشأنها ، لأننا بذلك نهمل مقصد وجودنا ، فالدنيا مزرعة الآخرة ومن أهمل مزرعته أهمل آخرته .
وما عرف العقل المسلم ترك الآخذ بالأسباب في فكره إلا عندما تسرب إليه الفكر الصوفي الشرقي(6) من الثقافة ( الهند فارسية ) حيث لعب دورا تخريبيا تجاه العقل المسلم ، تحت التذرع بان قضاء الله قد تم ،ولا ينفع معه عمل ولا أخذ بالأسباب ، وهذا هو الكذب على الله ، والفسق عن دينه ، يقول أحد شعراء الصوفية:
جرى قلم القضاء بما يكون فسيان التحرك والسكون
جنون من أن تسعى لرزق ويرزق في غشاوته الجنين
ط ـ وهكذا ولد العقل المسلم مخالفا للحضارات المجاورة ، مستقلا عنها، مفارقا لها ، متميزا عليها، في: مرجعيته ،وعقيدته، وفهمه، وغاياته، ووسائله، ومستخرجاته الحضارية ، في حضارة هي حضارة الحكمة ( ويعلمكم الكتاب والحكمة...)(7) وقد شهد الله لهذه الأمة بالتميز في قوله سبحانه وتعالى ( كنتم خير أمة أخرجت للناس )(8) وظهر هذا التميز في مختبر السلوك والتعامل مع الآخرين ، من أهل الكفر من خلال نظرية ( التعارف ومعارضها ) فهو لا يؤمن بالتذويب القسري للآخرين من خلال ( القوة والقسر والمكر و التخطيط ) وإنما يستعمل معرض التعارف والتعاون بين حضارات البشر ، ويترك لعقولهم اكتشاف ما يتميز به الإسلام على بضاعتهم القائمة على العقل الفلسفي المتكل على نفسه .
وعند ذلك تتعرف الأمم على خصائص هذا الدين وتميزه ، من خلال معارض هذا التعارف في ( السفر، والحرب ،والسلم، والتزاوج ،والهجرة ،والتجارة، والحوار، والجوار، والمعاهدة، والشدة، والرخاء،والسلوك، والموقف، والفكر، والأدب ،والفن ....) وغيرها . قال تعالى لا إكراه في الدين )(9) وقوله تعالى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم )(10) لأن الإيمان يقوم على الاختيار الحر بعيدا عن القهر ، وإذعانا للحق ، وهذا هو منهج الأنبياء وجوهر رسالتهم.
3ـ معركة النقاء والتلوث والانشقاق الثقافي :
وقد بدأت هذه المعركة في عهد المأمون العباسي ، حيث تجمعت بقايا الثقافات المهزومة أمام الفتح الإسلامي ، واستترت داخل المجتمع في تيار عريض، يجمع خليطا من أصحاب البدع والأهواء و المصالح والمغامرين و أعداء الأمة من بقايا اتباع الثقافتين ( الهندفارسية ) و(اليونارومانية ) الطامعين في أحياء ثقافاتهم البائدة .
ولم تكن قوة الدولة، وقوة المد الاسلامي ، تسمح لهذه الفئات بالظهور العلني ، فكانت هذه الفئات تلملم جهودها ، وتنتظر اللحظة المناسبة في دار الخلافة .
ولما حصل الخلاف بين الأمين والمأمون ،استعان الأمين بالعرب ، واستعان المأمون بأخواله الفرس ، فلما انتهى الأمين واستقر الأمر للمأمون ، استبعد المأمون العرب ، وأقصاهم عن عصب الدولة ، وقرب إليه أخواله الفرس ، ليشكلوا له الحماية والاستقرار ، ويصبحوا شركاءه في الحكم .
ولم يكن بمقدور العنصر الفارسي إحياء الثقافة الفارسية ، بشكل علني ومباشر ، ولكنهم رفعوا شعارا مقبولا للجميع ، هو تشجيع النهضة العلمية والترجمة .
و أصبحت التعددية الثقافية هي المظلة، التي يحتمي تحتها أتباع الثقافتين ( الهندفارسية) و ( اليونارومانية ) ومما يزيد في طمع أتباع هاتين الثقافتين ، في تحقيق انتصار ما، على الثقافة الإسلامية ، من خلال التأثير على نقائها ، وصبغها بما يستطيعون من ثقافتهم ، هو أن الثقافة الإسلامية لا تزال طرية العود ، ومعظم علومها وفنونها لا تزال تحت التأسيس وفي مراحل التكوين .
كان الصراع محتدما ، وإن كان يكتنفه الخفاء والغموض ، إلى أن امتد وظهر على السطح في جلاء ووضوح. بدأت المعركة تشتد ، وكان هدف أعداء الإسلام هو ثني العقل المسلم عن منهجه ومساره وتميزه ، وعرقلة جهوده في التطور الطبيعي من خلال ذاته ، وإبطاء سيره وإيقاف قدرته على الهجوم ، وإخراجه عن مجراه نحو أهدافه ، وكانت مخططاتهم أشبه ما يكون بسد مجرى النهر بالحجارة ، وعندها يتفرق مجراه إلى عدة مجاري ضعيفة ، يمكن العبث بها وتسريب ثقافة التلوث إلى داخلها .
ويمكن إجمال نتائج هذه المعركة على العقل المسلم بالنقاط التالية :(/3)
1ـحاول دعاة الثقافة ( الهند فارسية ) اختراق العقيدة الإسلامية وإفسادها من خلال نظريات الفرق الباطنية ، التي بثها دعاة الثقافة الفارسية ، حيث أدخلت الفكر الصوفي التناسخي والحلولي الذي كان يتبنى التواكل ومحاربة الأخذ بالأسباب والعمل الجاد في سلوك الأمة ، لجرها نحو الضعف ، وظهرت فرق : التشيع ، والشعوبية ، والزندقة ، لإفساد فكرها السياسي والعقائدي ، و الحط من شانها ، وزرع الانهيار النفسي فيها ، ولكن هذه الفرق فشلت في التأثير على العقل المسلم ، فانفصلت عنه بإيجاد فرقها الضالة المعادية التي تظهر كأنها دمامل في جسد الأمة .
2ـ وبدأ إحياء الثقافة (اليونارومانية ) على يد اليهود والنصارى(11) ، يدفعهم الطمع المادي في الحصول على الذهب ، مقابل عمليات الترجمة ، وهم بذلك يحققون هدفاً آخر هو تلويث العقل المسلم، وصبغه بثقافتهم، كما أن هذا التلوث يفتح في العقل المسلم ثغرة تجبر الأمة على الاعتراف بوجودهم ، وتقوي من قدرة ثقافاتهم على البقاء.
وقد قام اليهود والنصارى بترجمة الفلسفة اليونانية والثقافة الرومانية وعلم المنطق ، وهكذا تم استيراد العقل الفلسفي إلى دار الإسلام ، ليحدث التلوث ويمهد للانشقاق في ثقافة الأمة وعقلها ، فيما بعد ، وبذلك انشقت الأمة في مرجعيتها وثقافتها إلى ثلاثة تيارات : تيار أهل السنة والجماعة ومرجعيته ( القرآن الكريم والسنه النبوية الشريفة) ، ثم تيار العقل الفلسفي ومرجعيته( الفلسفة اليونانية وعلم المنطق) وتيار ثالث اتخذ موقفا دفاعيا عن الإسلام ، هو تيار علم الكلام المتمثل في الذين خلطوا بين المرجعيتين( الإسلامية والفلسفية) بهدف محاولة الاستفادة من الفلسفة والمنطق في الدفاع عن قضايا الفكر الإسلامي .
3ـ استغل تلاميذ الفلسفة اليونانية غياب الفقه الإسلامي في قضية الأدب والنقد ، فترجموا الأفكار اليونانية عن الأدب من ( جمهورية أفلاطون ، وكتاب الشعر لأرسطو ، وكتاب الشعر لهو راس الروماني ... وغيرها ) والذي أدى فيما بعد إلى إفساد التنظير النقدي عند العرب ، فرغم البداية الموفقة لعلوم اللغة العربية ولعلوم البلاغة العربية ، ورغم استفادة الثقافة العربية والإسلامية من هذا التعدد الثقافي ، إلا أن تلاميذ الفلسفة اليونانية أحاطوا البلاغة العربية والنقد بجفاف المنطق الأرسطي(12) ، الذي جرها إلى الجفاف والتحنط على يد القزويني والسكاكي وغيرهم فيما بعد ، وظهرت ثمار ذلك في قتل الأدب العربي في عصور الانحطاط ، يوم أصبحت مقاييسها الصارمة الجافة تحكم التأليف ،عند الأدباء والشعراء وحتى المؤلفين في العلوم الأخرى ، من خلال سيطرة الجناس والطباق والبديع على الأساليب ، وكذلك تسربت إلى النقد روح فصل الأدب عن الدين ، وهي دعوة قديمة موجودة في النقد الإغريقي(13) .
4ـ ومما ساعد العقل الفلسفي على فتح هذه الثغرة الكبيرة في العقل المسلم ، هو انحياز المأمون للعقل الفلسفي وتمسكه بمنهجه ،و حيث كان العقل الفلسفي هو التيار المتبنى رسميا من الدولة العباسية ، وكان المأمون يتباهى بذلك ويحميه ويفسح له المجال ، وينفق عليه من أموال الأمة ، فقد وصل الأمر به إلى أن يقابل المخطوط المترجم من اليهود والنصارى بما يقابله من الذهب في الميزان ، ولم يكتف بذلك بل تبنى أطروحاته في مسألة خلق القرآن وأراد أن يجبر الأمة عليها ، وبدأ باضطهاد أهل السنه والجماعة الذين وقفوا في وجهه ، ورمى بهم في غياهب السجون ،وما قصة سجن الإمام أحمد بن حنبل وتلاميذه عنا ببعيد(14) .
5 ـ وبعد مجي الفرس إلى سدة الحكم على يد المأمون،توالى خلفاء بني العباس في جلب شرائح أخرى حيث ادخل المعتصم الأتراك في الجيش لحمايته ، واستمر دخول هذه الشرائح في جسم الدولة من شعوب مختلفة : كالأتراك و البويهيين والأكراد والسلاجقة والمماليك وغيرهم ، وظل الخلفاء يعتمدون على هذه الشرائح في حماية أنفسهم، وكان هؤلاء العسكر لا يعرفون العربية ولا الثقافة الإسلامية ، وعندما ضعف الخلفاء أخذ هؤلاء العسكر يستقلون بولاياتهم عن الخلافة ، ويؤسسون دويلات لهم وعندما أداروا هذه الدويلات ، أهملوا شون العلم والعقل والثقافة واللغة العربية وتراكم ذلك من عصر إلى عصر في عصور الانحطاط حتى وصلت نسبة الأمية في اللغة العربية إلى ما يزيد عن 99% في نهاية العهد العثماني ، وولدت أجيال وأجيال من الأجداد والأبناء والأحفاد يتوارثون الأمية كما يتوارثون المتاع ، فانقطعت صلة الأمة بالقرآن الكريم ، ونشأت أمية العلم بالإسلام ، كنتيجة طبيعية لأمية الكتابة والقراءة ، وبذلك انقطع عقل المسلم عن مرجعيتة ، وتوقف عن العلم والإبداع والتميز لعدة قرون ونام في سبات عميق .(/4)
6ـ أضف إلى ما سبق ما تخلل عهود الانحطاط من ضربات موجعة أثرت على قوة المسلمين العسكرية والعلمية والثقافية ،و أذهلت العقل المسلم عن ذاته ، كالغزو الصليبي الذي استنزف قواه من الغرب ، ومن بعده الغزو المغولي الذي أتى على الأخضر واليابس من الشرق .
4ـ احتلال العقل المسلم :
جاءت الدولة العثمانية بعد حالة الانحطاط والإنهاك العام الذي أصاب المجتمع الإسلامي، وكانت أهم فضائل الدولة العثمانية أنها جمعت الوطن العربي في كيان موحد، بعد أن مزقته دول العسكر المنشقة عن الدولة العباسية ، كما أنها حمت الوطن العربي لعدة قرون من محاولات التمدد والانفجار السكاني الاستيطاني الأوروبي ، الذي ألقى بثقله الاستيطاني إلى البلاد الجديدة المكتشفة ( أمريكا الشمالية والجنوبية واستراليا وجنوب افر يقيا) إلا أن الطبيعة العسكرية للدولة العثمانية جعلها تهمل البناء الحضاري والعلمي والثقافي حتى وصل في أواخر أيامها إلى مرحلة التخلف والفقر والأمية التي عزلت المسلمين عن اللغة العربية، وعن مرجعيتهم الفكرية ( القرآن والسنة ) كما أنها أنهكت قوى المجتمع الإسلامي البشرية والمادية، وامتصتها لصالح الجيش العثماني وحروبه الخارجية ،والأغرب من ذلك أن هذه الدولة في قرنها الأخير ، لم تكن تشعر بأدنى مسؤولية تجاه مواطنيها ، ولذلك أهملت الأمن والعدل والعلم والثقافة والمرافق والخدمات وتركتهم تحت ظلم الولاة ونظام الاتزام ، وتعاملت مع المواطنين كالبقرة الحلوب التي تدر لها ( الجنود والمال والانتاج ) الذي يغذي جيشها . وهكذا جنت الدولة العثمانية على نفسها وعلى المجتمع الاسلامي حين شاخت ، ومرضت أمرضت معها المجتمع الاسلامي بكامله ، وجعلته لقمة سائغة أمام الاستعمار الأوروبي، الذي كان يتربص بها الدوائر وينتظر لحظات انهيارها .
وهكذا أفاق العقل المسلم بعد الاحتلال المغولي والصليبي على احتلال جديد من خلال طلائعه الثقافية التي تسبق جيوشه لتمهد إلى احتلال الأوطان والأدمغة معا .
( فمنذ أواسط القرن الثامن عشر الميلادي والعالم الاسلامي كله مقتلع النوافذ والأبواب في وجه الفكر الغربي والنهج الغربي والثقافة الغربية ، والعلم الغربي والحضارة الغربية والفنون والآداب والتقاليد الغربية بدرجات متفاوتة، فمنذ أن بدا الغربيون ينشئون كنائسهم التنصيرية وبجوارها أو بداخلها مدارسهم التعليمية في بيروت والقاهرة وبغداد والموصل والإسكندرية واسطنبول وغيرها من حواضر المسلمين ،والحصون الفكرية و الثقافية الإسلامية التي كانت متبقية لدى هذه الأمة, كانت تتهاوى واحدا بعد الآخر ، والأجيال المسلمة تتعرض لعملية استلاب فكري وثقافي هائل ، انتهت بان أصبحت جميع معارفنا النظرية غربية مائة بالمائة في قالب وإطار غربيين ، شمل ذلك الفكر والمنهج والمصدر والفلسفة المعرفية وموضوعاتها وأهدافها وغاياتها ...)(16) وأصبحت الشخصية الإسلامية مائعة الملامح لأن رؤيتنا للحياة أصبحت تتشكل من خلال نظريات : علم النفس وعلم الاجتماع وعلم التربية والنظريات السياسية والتشريعات والنظريات النقدية كما صنعها العقل الغربي في بيئاته وخصوصياته وأمراضه .
فأصبحنا نعيش حاله من الانفصام النكد ، نفكر ونحلل بطريقة غربية ونعبد الله على الطريقة الإسلامية ، أصابنا الذهول والانبهار ومارسنا الانفتاح حتى الانبطاح ، ولم نعد نميز حكمتنا من فلسفة غيرنا ، رمينا بمرجعية الحكمة، وأخذنا بمرجعية الفلسفة ،فأخذت تشكل لنا عقولنا وأذواقنا وشرائعنا وأصبحت عقولنا مناطق نفوذ للثقافة الغربية ، كما هو حال أوطاننا ، لقد وصف شاعر كبير حال الأمة بقوله :
1ـ لقد اصبحوا حانة الأجنبي يضاجعهم
في خلايا الدماغ (17)
2ـ أمامك روم وخلفك روم
وفي الجنب روم
وفي كتب الجامعات
وفي أسرة زوجاتنا والبنات (18)
لقدس حقق الغرب هذا كله في مرحلة الاستعمار والتبعية، أما الآن وفي عهد الاستعمار الجميل ( العولمة ) فهو لا يرضى منا بالانفتاح الذي حقق له احتلال الأوطان والأدمغة بل يريد استكمال المعركة مع آخر حصون العقل المسلم وهي القلوب ،ليفرغها من المشاعر المضادة والمعادية له، وليملأها بقبول الكفر و الإثم عن رضا وتسليم، لأنه لا يأمن وجوده في الأوطان والأدمغة وقلوبنا تلعنه في الصباح والمساء .
هو يريد منا تفريغ هذه المشاعر من قلوبنا واستبدالها( بمتعة التلذذ بالتبعية)(19) الكاملة والذوبان الكامل في حضارته ، حتى يمضغنا ويتمثلنا كغذاء جديد لذلك العقل الفلسفي الكافر ، كما هضم المسيحيه من قبل وتمثلها وجردها من حقاق التوحيد التي لا تناسبه ،قال تعالى : ( ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم...)(20) لقد زين مصطلح الانفتاح في مرحلة الاستعمار والتبعية من قبل دعاته المبهورين، فربطوه بالمرونة والوعي والعلم والتبادل الحضاري ،مع أنه لم يحقق للأمة سوى التضليل الذي جعلها تقبل بالاستلاب ، لأنه في الأصل انفتاح قسري إجباري .(/5)
واتضح لنا أن الانفتاح كان مصطلحاً عائماً ومضللاً لم يخدم الأمة، ولم يبصرها بعواقب القبول بثقافة عدوها، لأنه فرض على الأمة قسراً، ورغم كل الشروط التي حاولت أن تقنن له أو تضبطه إلا انه لم يستثمر إلا استثمارا سلبيا في تغريب الأمة ومحاولة اقتلاعها من جذورها .
وتبين انه لم يعد مصطلحا سليما ، ولا دقيقا في وصف علاقتنا مع الآخرين، ولذلك نحن بحاجة إلى إهماله وتجاوزه واستبداله بمصطلح جديد ،يكون أكثر دقة في تبصير الأمة وهدايتها في التعامل مع الآخرين .
ونرى أن مصطلح الامتصاص أو ( امتصاص الخبرة ) اكثر دقة منه في تبصير الأمة وحمايتها من حالة الاستغفال التي وضع لها مصطلح الانفتاح .
ولا تزال ألسنة منا تلوك مصطلح الانفتاح بعلم أو بجهل وتسوقه ، وتحاول أن تستر عورته بآية أو حديث وكم ظلم الحديث الشريف ( الحكمة ضالة المؤمن)(21) وهو يكرر من تلك الألسنة ، ليدفع بالأمة إلى قبول ثقافة الاستعمار والتبعية ، ومع انه كلمة حق ، إلا أنه أريد به خدمة الباطل و أهله.
5 ـ تحت الركام :
وهكذا شكلت الهجمات الثقافية التي وقعت في العصر العباسي،والهجمات العسكرية ( الحروب الصليبية وهجوم التتار ) وعصور الانحطاط وما تبعها من هجمات ثقافية وعسكرية للاستعمار الأوروبي والصهيوني في العصر الحديث ، مجموعة من الانهيارات والأثقال والعقبات والمثبطات والأشواك التي ينوء تحتها العقل المسلم بل أن هذا العقل يعيش تحت ركام كثيف من هذه المرجعيان المخالفة ومن أمشاج الثقافات المعادية التي ألغت تميزه ، وحجبت عنه نور الحياة الإسلامية الصحيحة .
أما في الجانب الثقافي و النقدي ـ وهو موضوع اهتمامنا ـ فقد نشأ النقد العربي في العصر العباسي تحت مرجعية واحدة تحكمت في خطوطه العريضة وتأسيس مقولاته ، وهي عائدة للعقل الفلسفي ، عندما اخترق العقل المسلم مرتين ، مرة في العصر العباسي والمرة الثانية في عصر الاستعمار والتبعية والانفتاح ، ومعنى ذلك أنه في المرتين خضوع لمؤثرات الثقافة الأوروبية ( الثقافة اليونارومانية ، والثقافة الأوروبية الحديثة ).
هل معنى هذا أن نغلق أبواب عقولنا ونندب حظنا ؟ لا ليس هذا ما نقصده، ولكن السؤال الجاد الذي يجب أن نشغل أنفسنا في البحث عن إجابته ، هو كيف ننتشل هذا العقل من وسط الركام الذي يكاد يغرقه ويفسده ؟ حتى ينفض عن نفسه هذا الركام ويعود إلى مرجعيته وتميزه من جديد .
6ـ تفكيك الركام :
أ ـ في البداية دعونا نفكر في طبيعة هذا الركام الذي يغمر عقولنا وذواتنا ، لنتعرف على تجربة عدونا، من خلال مناهج عقله، فنعرف كيف يفكر هذا العدو؟ حتى نستطيع أن نفكك هذا الركام عن وعينا .
وأظن أن النجاح في هذه المهمة سيتم بإذن الله إذا حققنا بعض الشروط الموضوعية ، منها أن لا يدفعنا الاستعجال إلى النهضة إلى التمسك بالنهضة الموهومة التي تصنعها ثقافة الاستلاب والتبعية ، وان لا يقع في روعنا خوف من حصول فراغ علمي إن نحن أوقفنا التعامل مع تلك الثقافة ، وأن نتأكد من رغبتنا في العودة إلى مرجعيتنا والإيمان بها والانتماء الحقيقي لها ،وان نتخلص من عقدة الانبهار بالغالب لأن المبهور محب أعمى لا يملك التميز بين حكمته وفلسفة غيره ،قال: ) r حبك الشيء يعمي ويصم )(22) .
وبعد هذا يمكننا أن نوجز الخطوط العريضة لثقافة عدونا ،من خلال التعرف على فكره ومرجعيته ، التي تتحكم في تكوين عقله الفلسفي الحر، والتي يمكن أن نلخصها من خلال المسار التالي :
1ـ العقل الفلسفي : هو عقل الإنسان الكافر ، الذي يتكل على نفسه وقدراته الإنسانية ، ويرفض أن يأخذ بمرجعية الوحي ويعتبر عقله المرجعية الأولى و الأخيرة في تفسير الحياة .
فهو عقل علماني (دنيوي) تكون من الخبرات التراكمية للثقافة الأوروبية : (الفلسفة اليونانية، والثقافة الرومانية ، والمسيحية التي هضمها الفكر الروماني و أعاد تمثلها بما يتناسب مع وثنيته،بعد أن أفرغها من عقائد التوحيد، والفلسفات الأوروبية الحديثة التي عاصرت الثورة الصناعية أو ظهرت بعدها إلى عصرنا ) والتي يمكن اختزالها في الثالوث المعاصر العلمانية ، الديمقراطية ، العولمة ) وما يتبعها من أنظمة اقتصادية كالرأسمالية والاشتراكية .
2ـ ينظر العقل الفلسفي إلى الألوهية نظرة المنكر أو المهمل لها ويعتبرها من صناعة عقل الإنسان ووهمه ، ويفسر ذلك من خلال نظرية( الطوطم وتطور الأديان) وهو في أحسن الأحوال يعتبرها قضية فردية غير ملزمة للمجتمع ، وعندهم من يقول أن الله خلق الكون ولم يعد يكترث له .
3ـ هو عقل يعتمد على الفرضيات واختبارها ،ولا يؤمن إلا بالمحسوس ، فإذا عجز عن التفسير لجأ إلى أسلوب الإهمال أو الإنكار، وهكذا أنكرت الفلسفات المادية عالم الغيب ، لأنها عجزت عن تفسيره ويأتي تعريف اليونسكو للمعرفة ليؤكد ذلك بقوله المعرفة كل علم معلوم خضع للحس والتجربة )(23) وغيره يعتبر من عالم الخرافات .(/6)
4ـ عقيدة العقل الفلسفي الكافر : هي عقيدة الحرية المطلقة للإنسان ، ولذلك هو عقل متقلب ملول ، لا يقر له قرار، ولا يؤمن بالثوابت ويجمع بين (العلمي والرمزي والخرافي )ويؤمن بالإشباع الحر لحاجات الإنسان، دون شروط إلا ما اختاره الإنسان لنفسه، ويؤمن بالغلبة و القوة والصراع من أجل تحقيق هذا الإشباع ليس له كابح سوى إشباع رغائبه وهوى نفسه .
ب ـ الآداب الأوروبية ونظريات النقد :
ومن هنا نشأت الآداب الأوروبية متأثرة بالعقل الفلسفي الذي أبدعها وأفرزها ، فهي تحمل نكهة البيئة التي خرجت منها، ولذلك فهي تمثل خصوصية البيئة والثقافة واللغة والعقل الذي أنتجها ضمن بيئات أوروبا المختلفة ، التي يجمعها التراث المشترك للعقل الفلسفي، بالإضافة إلى النكهات المحلية لتلك البيئات .
وحركة التطور والتجديد فيها لا تستقر على حال، لأن التطور المستمر الذي تقلبه الأهواء والمصالح والأحوال، هو ديدن العقل الفلسفي الملول المتقلب ، الذي تحركه عقيدة الحرية المطلقة، فما أن تظهر حركة فنية أو فلسفة أو مذهب أدبي على يد فرد أو مجموعة من المبدعين ، وقبل أن تستقر أحوالها ، حتى تكون مجموعة أخرى قد استعدت لها بالمرصاد ، لتكشف لها نواقصها وعوراتها ، إنها فلسفات ومذاهب تطارد بعضها كالرمال المتحركة .
أما الحركة النقدية فلم تكن بعيدة ولا منفصلة عن مرجعيتها الثقافية السابقة ،بل شكلت هذه المرجعيات الرؤية الفكرية للمذاهب الفنية والأدبية والنقدية ، ويمكن إعادة التنظير النقدي في أصوله الفلسفية والفنية إلى مصدرين رئيسيين هما:
1ـ مصدر فكري : يعود إلى مجموع فلسفات العقل الأوروبي ، التي شكلت مرجعية تراكمية من هذه الفلسفات ، اجتمعت خلاصتها في العلمانية الحديثة التي تدور حول ( نفي الثوابت والحرية المطلقة للإنسان في النواحي الفردية والإبداعية جماليا وفنيا . والتقلب المستمر الذي لا يستقر على حال ) .
2ـ مصدر أدبي : وهي النصوص الأدبية أل الإبداعية من شعر ومسرح ورواية وغيره ، حيث يتم استخراج المذاهب الأدبية والنقدية من متابعة النص في تكوينه وتطوره ومن الموحيات السابقة لفكر العقل الفلسفي .
جـ ـ هل النقد الأوروبي عالمي وملزم للأمم ؟
مما سبق تبين لنا أن النقد الأوروبي، نشا في بيئة ثقافية لها مرجعيتها ( الفكرية والأدبية ) ونظرياته تحمل رؤية النقاد الأوروبيين المستخلصة من ( الفلسفة والنص الأدبي ) وهي تحمل تجارب الأوروبي في واقعة اليومي والجغرافي واللغوي والفكري والفني ، ولذلك فهو نقد محلي يحمل نكهة البيئة التي ولد فيها ، وهو نقد له خصوصية وتاريخ وظروف وتجارب ، تجمعه ثقافة لها همومها وفروقها و قواسمها المشتركة المخالفة للبيئات العالمية .
وهذا معناه انه ليس نقدا عالميا، ولا ملزما للأمم الأخرى ، لان الأمم تتباين في مرجعيتها الفكرية وفي نصوصها الإبداعية وأذواقها الفنية وتجاربها الحضارية .
د ـ إذن ما هو سبب هذا الوهم الذي أوجد في عقولنا أن التجربة الأوروبية في الآداب هي حالة دائمة وعالمية ، ولا مناص من قبولها وغير ذلك من الذيول ؟!
مع أن هناك تجارب أدبية ونقدية أخرى ، لشعوب آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية ، لم ينظر لها بهذا المنظار ، لماذا صوروا لنا النقد الأوروبي كأنه قدر محتوم لا بد من قبوله ؟ و أوقعونا في فخ الانبهار به والخضوع له ووصفوا نظرياته بأنها عالمية ، وقابلها على الجانب الآخر هجوم رميت فيه ثقافتنا بالضحالة والضعف والانتحال أو أثير في وجهها عاصفة من الأسئلة الماكرة ، أو طمس للحقائق أو الترويج لأفكار معينه، أو تضخيم لأفكار أخرى أو إنكار أو سخرية أو غيرها .
ولقد زال العجب عندما عرفنا أن جيشا من المستشرقين ، وجيشا من تلاميذهم من المغربين ،كانوا يمهدون الطريق لثقافة المستعمر ، جنبا إلى جنب مع جيوشه العسكرية، نعم كان سبب ذلك أن الثقافة الأوروبية ومنها الثقافة النقدية دخلت إلينا تحت حراب الاستعار وحمايته .
وإذا عرفنا أن العقل الفلسفي الأوروبي لا يؤمن بنظرية ( التعارف البشري ) الإسلامية ومعارضها التي ذكرنا ، ولكنه يؤمن بتذويب الآخرين ويستعمل ( القوة والقسر والتخطيط والخديعة ) في إذابة خصائص الأمم الأخرى وإخضاعها ، أنها ليست تبادلا حضاريا ،ولكنها عملية أشبه بعملية التذويب الكيميائي .
وهكذا وصل إلينا النقد الأوروبي عن طريق الترويض الثقافي ، لأنه ثقافة إجبارية أدخلت إلينا حين مارسنا الانفتاح مرغمين ومجبرين ، استقبلناها بعمى المبهور ونفسية المغلوب على أمره .(/7)
هـ ـ هذا من جانب ( ومن جاب آخر لا ننسى أن العلوم التجريبية ، لا يوجد فيها علم كيمياء أمريكي ، و آخر ياباني ، و آخر عربي ، وكذلك الأمر في علم الفيزياء لا يوجد علم فيزياء إسلامي و آخر مسيحي و آخر يهودي ، لان حقائق المادة تلوي عنق المؤمن والكافر للإيمان بها ، فحالات المادة : الصلابة والسيولة والغازية لا تجامل أحدا، ولذلك نخضع لحقائقها حتى نتعلم ونستفيد منها )(25) فهي علوم عالمية تصدر وتستورد وهي ميراث عالمي لجميع الأمم ، رغم أنها لا تخلو خلال صياغتها من التأثير الفكري لمن صاغها.
أما في علوم (الظاهرة الإنسانية) المعقدة فالأمر مختلف تماما، فهي علوم محلية ذات خصوصية وتميز بين الأمم ، والخلاف والتمايز فيها هو الأصل ، ومع وجود نسب من التماثل والاتفاق بحكم النواحي الإنسانية المشتركة بين أبناء الجنس البشري ، لكن الاختلاف والتباين أوسع واعمق بحكم اختلاف العقائد والأفكار والثقافات واللغات والبيئات وغيرها ، هذه العلوم :كعلوم التاريخ و السياسة والاقتصاد والاجتماع والنفس والتربية والفنون والآداب ومنها النظريات النقدية ، فكلها علوم محلية بيئية ،تعبر عن خصائص الأمم وأفكارها وشخصيتها وتميزها ، لأنها علوم أو فنون تعالج الظاهرة الإنسانية في مجتمع معين ومحدد ، والإنسانية ليست واحدة في عقائدها ولا في أفكارها ولا في أذواقها ولا حتى في عقدها وأمراضها ، لأنها ليست موحدة كالظاهرة المادية وسنن الكون .
7ـ تنظيف الركام :
ومن القضايا المهمة في تنظيف الركام عن هذا العقل المسلم أن نشير إلى الدور التخريبي الذي مارسه الاستعمار على هذا العقل ، حيث وضع الاستعمار خططه المبكرة ، للسيطرة على الوطن العربي منذ أواسط القرن الثامن عشر ، وكان الاستعمار الثقافي يسبق الاستعمار العسكري ويمهد له ، ضمن مراحل كل مرحلة تفضي إلى الأخرى وضمن المسار التالي :
01 المرحلة الأولى : اختراق الدولة العثمانية وإنشاء المدارس التنصيرية والمدارس والمعاهد والجامعات التابعة لها ، بهدف نشر التعليم باللغة العربية وإحياء الثقافة العربية ، ليس حبا في العرب ولغتهم ، وإنما بهدف مساعدة العرب حتى تنمو لغتهم التي أماتها العثمانيون ، حتى يصلوا إلى مرحلة نمو اللغة ونمو الشخصية القومية والشعور القومي ، لإقناعهم بالانفصال عن الدولة العثمانية ، فعلى سبيل المثال كانت الجامعة الأمريكية تدرس العلوم والآداب جميعها باللغة العربية منذ تأسيسها ، حتى إذا تم لهم انفصال الوطن العربي عن العثمانيين ، عادت الجامعة الأمريكية إلى تدريس المواد جميعها باللغة الإنجليزية ثم عاد المستعمرون إلى محاربة اللغة العربية و فرض لغاتهم علينا .
2ـ المرحلة الثانية : قام جيش الاستشراق وتلاميذه من أبناء جلدتنا بتوجيه عملية الإحياء اللغوي والثقافي للثقافة العربية، لإيجاد ثقافة عربية هشة ضعيفة ، تقوم على إحياء ثقافة التلوث والضعف خدمة لسياسات دولهم وحتى يضمنوا لدولهم عدم ميلاد ثقافة عربية إسلامية جادة تقف في وجه ثقافتهم ، عمدوا إلى تضخيم بعض قضايا الثقافة العربية ، بهدف التشكيك في مصادر هذه الثقافة مثل قضايا الانتحال ، والتحكم في الدراسات الأدبية وتاريخ الأدب ، والتركيز على إحياء ثقافة العصر العباسي ، المتأثر بالثقافة اليونانية وضخموا ثقافة ذلك العصر ووصفوه بأنه العصر الذهبي للثقافة العربية الإسلامية لأهداف خبيثة ، حيث قاموا بإحياء ثقافة الفرق الباطنية والصوفية و إحياء كتب الفلسفة الإسلامية اليونانية، وعلم الكلام ثم التركيز على أحياء أدب اللهو المجون والخمر والغناء ، وتسليط الضوء على فتن العصر العباسي ومثالبه ، لزرع اليأس في قلوب أبناء الأمة ، ولإيجاد مرجعية أصالة مزيفة يحتج بها في خداع العقل المسلم عن ذاته ، عند التكلم عن الأصالة والمعاصرة، ثم تحقيق عدد من الأهداف البعيدة منها إبقاء المسلم المعاصر مشغولا ومشدودا خارج مرجعيته الحقيقية مرجعية الوحي ( القرآن الكريم، السنة النبوية الشريفة ) ثم الاكتفاء بثقافة التلوث والتمزق في العصر العباسي، لان هذا العصر بما فيه من ثقافة فلسفية تعود جذورها إلى العقل الفلسفي اليوناني، تساعد في تهيئة نفسية هذا المسلم للقبول بالثقافة الأوروبية الحديثة لما بينهما من أواصر القربى في المرجعية .
3 ـ المرحلة الثالثة : حيث تجمع أبناء الطوائف القديمة التي صنعت ثقافة التلوث والانشقاق الثقافي في العصر العباسي ( الفرق الباطنية ، و النصارى ، واليهود ) وقد سنحت لهم الفرصة من جديد للقيام بنفس الدور السابق الذي قام به أجدادهم المؤسسون ،لتشكيل وجه الثقافة العربية بتلوث جديد يضاف إلى ما صنعته فرقهم في ذلك العصر ، وبعد أن ضعف دور الاستشراق حيث جاء دورهم في تغريب الأمة ضمن الأدوار التالية :(/8)
1 ـ الدعوة إلى الانسلاخ عن تراث الأمة ، والالتحام بالتراث الثقافي الأوروبي وتيارات الحداثة فيه ، و إحياء ثقافة الحركات الصوفية والباطنية في العصر العباسي ، واختراع نظريات الفكر الإقليمي بإحياء الوثنيات القديمة ( الآشورية ، والبابلية ، والفينيقية) لمحاربة الدعوة للوحدة العربية وكان لهذا الفكر دعاته من أبناء جميع الطوائف في بلاد الشام والعراق .
2ـ الدعوة إلى فكر القومية العربية المنسلخة عن الإسلام وتعبئة الفراغ الفكري الناجم عن هذا الانسلاخ باستيراد الفكر الرأسمالي والحداثة والعلمانية والاشتراكية وقد غلب على هذا التيار أبناء الطوائف النصرانية في بلاد الشام والعراق .
3 ـ استيراد الفكر الاشتراكي وتأسيس الأحزاب الشيوعية في الوطن العربي وقد غلب على هذا التيار أبناء الطائفة اليهودية
4 ـ الدعوة إلى الانسلاخ عن العروبة والإسلام والالتحاق بالحضارة الغربية وقد غلب على هذا التيار أبناء الطائفة النصرانية في مصر .
ورغم انضمام إعداد كثيرة من أبناء المسلمين إلى هذه التيارات ، إلا انهم في أكثرهم كانوا تلاميذ وتوابع لأبناء تلك الطوائف ، وقد لاحظ الناقد الكبير إحسان عباس الذي يمتاز بالعلمية الجادة ان دوافع طائفية وراء الدعوة الى الانقطاع عن تراث الأمة و أشار إلى ذلك في كتابه (اتجاهات الشعر العربي المعاصر) حيث يعزو سبب عزوف بعض الشعراء المعاصرين عن التراث إلى : ( أن هناك من الشعراء أقليات عرقية ودينية ومذهبية في العالم العربي ، وهذه الأقليات تتميز عادة بالقلق والدينامية ، ومحاولة تخطي الحواجز المعوقة والالتقاء على أصعدة ( أيدلوجية ) جديدة ، وفي هذه المحاولة يصبح التاريخ عبئا والتخلص منه ضروريا ، أو يتم اختيار الأسطورة الثانية ، لأنها تعين على الانتصاف من ذلك التاريخ ، بإبراز دور تاريخي مناهض ) (26).
وتمكنت هذه الفئات من تضليل شرائح كبيرة من النخب الثقافية من أبناء المجتمع الإسلامي في طول الوطن العربي وعرضه ، وبذلك دخلت إلينا ( العلمانية الأوروبية ) التي تفصل الدين عن الحياة ، وترضى بسيطرة العقل الفلسفي عليها ، ثم تم تفصيل هذه العلمانية ليشمل الحياة بكاملها ، فصل الدين عن الدولة ، فصل الدين عن الأخلاق ، فصل الدين عن الاقتصاد ، فصل الدين عن العلم ، تحت مبرر أننا لن نتقدم إلا إذا طرحنا الدين من حياتنا كما فعل الأوربيون .وقد نسي هؤلاء أن مرض العداء للدين هي قضية محلية، تخص المجتمع الأوروبي وعلاقته مع الكنيسة ، لأنهم لا يعرفون خصائص العقل الفلسفي الذي يتعامل مع ( المسيحية ) من منطق الفلسفة البرغماتية ، فهو ينفصل عنها عندما تقف في وجه تطوره، ولكنه يعود فيستعملها لخدمة مصالحه عندما يحتاج إليها في تنصير الشعوب لأجل استعمارها .
ثم جاء دور (العلمانية الأدبية) التي تفصل الدين عن الآداب لان الدين كما يزعمون يتدخل في حرية الأديب ويقيدها مع انهم يرضون بسيطرة العقل الفلسفي على الأدب ولا يرون ذلك عيبا .
ولئن سألتهم ، لماذا هذا المكيال الجائر ؟ أليس الأدب :رؤيةً ، وموقفاً ، وبناءً فنياً ؟ فلماذا تسمحون للعقل الفلسفي الضال أن يتحكم به ؟! ولماذا ترفضون أن يتدخل الإسلام في الأدب ؟ مع أن الإسلام يشكل الرؤية والموقف للأديب ثم تأتي قضية البناء الفني كقدرة وموهبة وخبرة للتعبير عن هذه التجربة ، يتهربون ويلوون رؤوسهم لان المضبوع لا يدري شيئا سوى عناده .
8 ـ خطوات خارج الركام :
أظن انه قد آن لنا وبعد أن قمنا بتفكيك هذا الركام ، الذي صنعته عوامل وظروف كثيرة بعضها من داخل الأمة وبعضها من خارج الأمة ، يحق لنا الآن بعد هذا العناء أن نخطو خطوات خارج الركام ، نطل بها على ذاتنا ، ونستجمع قوانا الفكرية لنخطط من خلالها لمشروعنا النقدي ، الذي نطمح إليه في استعاده تفكيرنا النقدي ، الذي يعبر عن ذاتنا ويخرج من منهجنا و مرجعيتنا .
ونرى أن هذه المحاولات تجرنا إلى فرضيات ثلاث هي :
1ـ فرضية نقل التجربة الأوروبية في النقد برمتها وهي فرضية ذقنا طعم مرارتها من خلال عهد الانفتاح الإجباري في عهد الاستعمار والتبعية ، حيث فقدنا فيها التفكير من خلال العقل المسلم ومناهجه وخضعنا ولا نزال للعقل الأوروبي ، وهذا هو طريق المسخ والذوبان وخاصة في عصر العولمة التي تهددنا بالابتلاع الكامل ، وهي لذلك فرضية مرفوضة جملة وتفصيلا، لأنها تعني إلغاء وجودنا الحضاري وخصوصيته .
2ـ فرضية إغلاق العقل المسلم في وجه التجارب الحضارية والانكفاء على ذواتنا ،وهذا يعني أن نمارس عملية خطيرة هي عملية الانتحار الحضاري ، وهو اختيار لا يحدث إلا في الحضارات الخائفة الطرية العود ، لأنها لا تملك مقومات البقاء ، وهي أيضا فرضية نرفضها بالجملة والتفصيل.(/9)
3ـ فرضية الانطلاق بمشروعنا النقدي الإسلامي من ذواتنا ، ومن مرجعية الوحي بالتحديد و إحياء العقل المسلم بهذه المرجعية ، ليعود إلى حضوره وإبداعه وتميزه كما كان من قبل ، وهو طريق التميز الخصوصية ، بعد أن يتخلص من الإرث الثقيل الذي كبله في عهود التلوث و الانحطاط والاستعمار والتبعية ليطل على الحياة وهو واثق من منهجه ونفسه ، وعندها يتعلم من الحياة ويتعامل مع الأمم من خلال منظاره الحضاري ( التعارف والتالف وامتصاص التجارب ) وهذه الفرضية هي الفرضية الوحيدة التي يقبلها العقل المسلم الواثق من دينه وربه والواضح في أهدافه وغاياته ....
9 ـ خطوات إلى الأمام :
توصلنا ـ فيما سبق ـ إلى ضرورة رفض الانفتاح الحضاري القسري ، ورفض الانتحار الحضاري ، وكان اختيارنا أن نعود إلى مرحلة الإحياء والتجديد الحضاري لدور العقل المسلم ، لأننا نرفض الاندثار .
وخير ما نراه لإعادة البناء والنهوض ، هو قناعتنا أن تجديد العقل المسلم ، لا يتم إلا من خلال تعرفه على مرجعيته أولا ، ثم الاستفادة من تجارب الأمم عن طريق أسلوب الامتصاص الحضاري لخبرات الآخرين فيما يخص مشروعنا النقدي . ويمكن أن يتم ذلك من خلال البحث عن ضالتنا في وسط فضائل العقل الفلسفي ، من خلال شروط تضمن لنا هذا التعامل منها :
1ـ أن نتخلص من مرحلة الانبهار وعقد المغلوب ، لأنه أعمى واصم وغير أمين على تعريف الأمة بفضائل عدوها .
2ـ أن نرفض نقل تجارب الآخرين وفضائلهم المخلوطة بكفرهم كما حدث في مرحلة الانفتاح الإجباري .
3ـ أن نعرف كيف نستفيد من تجارب الأمم الأخرى وندرس تجاربها في الأخذ عن الآخر .
فمن تجارب الأوروبيين في الأخذ عن الآخر ، ما نفذوه في مرحلة نقل حضارتنا الإسلامية ليستفيدوا من ذلك في بناء حضارة أوروبا .
فقد مارس الأوروبي أسلوبا محددا في نقل حضارة الإسلام وعلومها وآدابها وفنونها و ثقافتها ، وهو ما يسمى ( بنظرية امتصاص الخبرة ) والتي كانت تقوم على الخطوات التالية :
أ ـ استيعاب المنتج الحضاري ( الإسلامي ) .
ب ـ تفكيك هذا المنتج وتحليله للتعرف على فكره وأهدافه وخبراته .
جـ ـ طرح أو رمي الفكر والأهداف والخصوصيات، خوفا من انتقال تأثيرها إلى العقل الأوروبي .
د ـ امتصاص الخبرات والأساليب من هذا المنتج الحضاري مجردة عن فكرها .
هـ ـ صبغ هذه الخبرات والأساليب بمنهجيات التفكير الأوروبي وأهدافه وغاياته ، ومن الأمثلة التطبيقية التي سارت على هذا النهج ، ما فعله العقل الأوروبي في الجانب الأدبي عندما حول حي بن يقظان إلى نموذج روبنسون كروزو أو رسالة الغفران إلى نموذج الكوميديا الإلهية ، أو قصص ابن الجيلي إلى نموذج في دونكيشوت(27) .
وعلينا أن نتذكر أن الأوروبي مارس هذا الدور كعلاقة اختيارية مع الثقافة الإسلامية دون قسر أو إكراه ، وليس كما مورس علينا قسرا وقهرا وغلبة ، في عهد الانفتاح الإجباري الذي أرغمنا عليه الاستعمار الأوروبي .
وبذلك ضمن هذا الأوروبي ، نقل خبرات العقل المسلم ، ليستفيد منها ، ولكنه حمى أوروبا من أن تقع تحت تأثير الإسلام(28) .
ولو أن الأوروبي نفذ أسلوب الانفتاح الحضاري الذي أجبرنا عليه وهو نقل الثقافة الإسلامية برمتها ، كما فعلنا في انفتاحنا ، لتحول العقل الأوروبي إلى إنسان يفكر بعقلية إسلامية ، ولكنه لم يفتح أبوابه ونوافذه مشرعة للثقافة الإسلامية ، لشدة حرصه على ثقافته ، ولشدة كرهه لنا ، و لأنهم قوم يبحثون عن البقاء ولا يبحثون عن الحق .
ومن خلال تفكيكنا للمنتج الحضاري الأوروبي في قضية النقد المعاصر ، وفي ضوء نظرية الامتصاص ، نستطيع أن نستخلص الخبرة والأساليب التالية التي يمكن أن تفيدنا في تجديد فقهنا النقدي الإسلامي :
1ـ أن النقد الأوروبي تم استخلاصه من خلال مصدرين هما :
أ ـ المرجعية الفكرية : وهي مجموع الفلسفات التي أنتجها العقل الفلسفي عبر عصوره وحتى العصر الحديث ، وقد شكل هذا المصدر الرؤية الفلسفية للنقد الأوروبي .
ب ـ المرجعية الأدبية التي شكلت الرؤية الجمالية والفنية وكلها استخلصت من النصوص الأدبية أل أوروبية من عهد النصوص اليونانية كالأوذيسة ، والإلياذة وحتى نصل إلى النصوص الأوروبية المعاصرة ، وهي نظريات خاصة بالبيئة الفكرية والثقافية التي أبدعتها . وكل ما قام به منظرو النقد أمثال رينيه ويليك وغيره ، هو قراءة النصوص والمذاهب الأدبية ومراقبة الإضافات الإبداعية للمذاهب والعصور والمناطق في ضوء المرجعيات الفكرية التي أثرت على تطور العقل الأوروبي وذوقه ، للتعرف على الخاص والمشترك والإضافي في هذه الجهود الإبداعية .
وهذا ما يمكن أن نمتصه من خبرة النقد الأوروبي لصالح النقد الإسلامي والتأسيس له ، وهي أن نستخرج نظرياتنا النقدية أيضا من مصدرين هما :(/10)
1 ـ المرجعية الفكرية : التي تشكل الرؤية الفكرية للنقد الإسلامي وهي القران الكريم والسنه الشريفة وعلوم الأمة ) ومن تراكم خبرات العقل المسلم عبر تجاربه ، في قضايا الفكر و الأدب و النقد، وهي مرجعية علم الوحي التي تخضع المتغير للثابت ، وعلى إثرها يخضع لتعميق العلاقة مع الحق ، و أما في المنظور الجمالي والفني من الجانب النظري ، فيخضع فيه الجمال لخدمة الحقيقة وتجلياتها في الإبداع ، وبذلك تجمع هذه المرجعية ( مرجعية الوحي ) بين مرجعية الثوابت ومرجعية الإحالة إلى الوجود داخل نصوصها .
2ـ المرجعية الأدبية : والتي يمكن أن تشكل الرؤية الجمالية والأدبية للتفاعل مع الحياة من خلال الرؤية الفكرية للعقل المسلم ، ومن خلال ما حققه من النصوص الإبداعية عبر تاريخه العريق الممتد من العصر الجاهلي إلى عصرنا الحديث ، وما يمكن أن يستخرج من قوانين الإبداع ومقاييسه من خلال هذه النصوص وتطورها الفني والجمالي ، وما يتكرر من قوانين هذا الإبداع ، لنتعرف على الخاص والمشترك والإضافي في هذه النصوص ،التي هي المادة الأولى لاستخراج نظريات النقد الإسلامي ، من خلال إنجازات النص الأدبي الخاضع للرؤية الفكرية التي تمثل خصوصيات العقل المسلم ومعايرة في النقد .
هذه منهجية التميز ، التي توضح مساره ، إنها طريق شاقة ومتعبة ، ولكنها صحيحة وسليمة بإذن الله ، كما يقول شاعرنا الإسلامي :
هذا السبيل وان بدا من صاحب النظر الكليل
دربا طويلا شائكا أو شبه درب مستحيل
لا درب يوصل غيره مع انه درب طويل(29)
الهوامش:
1- المعجم الوسيط ، ومعجم الصحاح
2- مبشر الفزاري : شاعر جاهلي / المرزباني
3- انظر حديث الرسول صلى الله عليه وسلم
الذي رواه الحافظ ابو يعلى عن حماد عن الشعبي عن جابر ، حيث غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عندما رأى عمر رضي الله عنه يقرا احد صحف الوراة ، فقال : ( انه والله لو كان موسى حيا بين اظهركم ما حل له الا ان يتبعني )
4- محمد اقبال نقلا عن كتاب مباحث في منهجية التفكير الإسلامي / عبد المجيد النجار / ص 185 دار الغرب الإسلامي 1992
5- البقرة ( 164 )
6- انظر كتاب الفكر الصوفي في ضوء القران والسنه / عبد الرحمن عبد الخالق / دار الحرمين/ القاهرة / 1993
7- البقرة ( 151)
8- آل عمران ( 110 )
9- البقرة ( 256)
10- الحجرات ( 13)
11- انظر كتاب الأزمة الفكرية المعاصرة / د . طه جابر العلواني / المعهد العالمي للفكر الإسلامي / ص60 / 1981
12- انظر كتاب اثر الفكر اليوناني على الجاحظ وقدامة / محمد عبد الغني المصري 1984، ودرس في التشبيه / محمد علي جرادات / رسالة المعلم / عمان العدد الاول 1998
13- انظر كتاب اثر الفكر اليوناني / مرجع سابق ص 12 بين الفنية و الاخلاق
14- انظر الإسلام بين العلماء والحكام / عبد العزيز البدري / المكتبة العلمية / المدينه المنورة
15- انظر كناب تاريخ الإسلام السياسي والاجتماعي /
د. حسن عباس حسن/ القاهرة .
16- الازمة الفكرية المعاصرة / مرجع سابق / ص 13
17- 18 - الاعمال الشعرية عز الدين المناصر ة / قصيدة القبائل / قصيدة حصار قرطاج .
19- المثاقفة والنقد المقارن/ عز الدين المناصرة المؤسسة العربية ص31
20 – البقرة ( 120)
21- رواه الترمذي والقضاعي ، وقال عنه العجلوني / حسن لغيره/22- اخرجه احمد 6/ 450 / وابو داوود في الأدب/ والبخاري في التاريخ 23- نقلا عن كتاب الازمة الفكرية المعاصرة /مرجع سابق / ص 31 .
24- انظر نظرية الأدب /رينيه ويلك/ ترجمة محي الدين صبحي و الشعريات عز الدين المناصرة / مكتبة برهومه .
25- المنهج العلمي منهج قرآني / عباس المناصرة / مخطوط 26- نقلا عن كتاب مؤتمر الأدب الإسلامي الواقع والطموح/ جامعة الزرقاء الاهلية / من مقالة د. يحى الجبوري / ص 257 / 1999
27 – حي بن يقظان لابن طفيل ، رسالة الغفران لابي العلاء المعري ، ابن الجيلي كاتب اندلسي اخذ عنه سيرفانتس قصته دونكيشوت ، وعندما سئل المفكر الإسلامي مالك بن نبي نال: مالفرق بين الحضارتينالإسلامية والأوروبية ، قال : تماما كالفارق بين حي بن يقظان وروبنسون كروزو
28 – انظر الفكر الإسلامي / د. البهي الخولي / دار الفكر / دمشق .
29- ديوان كيف السبيل ؟ / الشاعر الإسلامي : خالد عبد القا(/11)
نحو هوية أصيلة عصرية لرؤية إسلامية وسطية (1- 4)
د. عوض بن محمد القرني
كثر الحديث عن الوسطية والاعتدال والمنهج الوسطي، وتفاوتت طروحات كثير من الناس حول مفهوم الوسطية ما بين مشرّق ومغرّب، فالبعض يرى أن الوسطية والاعتدال هي التحلل من ثوابت الدين وأصوله وكلياته والجري وراء محاولات تغريب الدين وعلمنته ولبرلته تحت لافتة عصرنته وتقدميته وتحديثه.
والبعض الآخر يوغل بالإسلام في التشدد والغلو والتقليدية التاريخية.. بعيداً عن اعتبار مقاصد التشريع وعلل الأحكام وفقه المصالح والمفاسد وعدم تفريقهم بين العقائد والعبادات من جهة، وبين المعاملات والعادات والسياسة الشرعية من جهة أخرى، بل إصرارهم أحياناً على صورة تاريخية محدودة تعبر عن استجابة مذهبية أو شخصية لتحديات معينة من خلال مرجعية وخلفية إسلامية. ويعتبرون تلك الصورة هي الإسلام الوسطي الخالد الواجب الأخذ به في كل عصر ومصر بما فيه عصرنا ومصرنا.
نعم، قد تكون تلك الرؤية وتلك الاستجابة تجديدية وعصرية وأصيلة في وقتها، وقد يكون العديد من عناصرها ومكوناتها مازال صالحاً لأيامنا وظروفنا ومشكلاتنا بل بعضها سيبقى وبالأخص في أبواب العقائد والعبادات وأصول وكليات المعاملات والعادات، لكنها لا تصلح قطعاً لتغطية كل احتياجاتنا لكثرة ما جدّ من أمور ونوازل وتعقيدها وتشابكها بما لا عهد للسابقين به ولارتباط بعض تلك المكونات بظروفها الزمانية والمكانية.
وبين هاتين الرؤيتين الموغلتين في الإفراط والتفريط يجب علينا أن نتلمس معالم هوية أصيلة عصرية لرؤية إسلامية وسطية، تحافظ على الثوابت والكليات وتفتح لنا آفاق استثمار منجزات العصر وارتياد معارج الرقي والتنمية والإسهام في بناء الحضارة الإنسانية وفق رؤية إيمانية وفي إطار شرعي، وللإسهام في بلورة هوية للرؤية الإسلامية الوسطية ذات بعدين:
أحدهما: الأصالة
والثاني: المعاصرة.
أحببت أن أطرح رؤيتي الشخصية هذه لأهل العلم والفكر والثقافة المهتمين بالشأن الإسلامي لمناقشتها وتقويمها وبلورتها لعلها تكون لبنة صالحة في تجلية هذا الأمر المهم، ثم بعد ذلك يكون التفصيل في دراسات لاحقة أخرى لما أجمل هنا.
وأهم معالم ومكونات هذه الهوية من وجهة نظري ما يلي:
1 الرؤية الإسلامية الوسطية تمزج بين الأصالة والمعاصرة، ومنطلقها في هويتها تصوراً وعملاً الإسلام بشموله لكل مظاهر الحياة في العقائد والعبادات والنظم والتشريعات والآداب والسلوك.
قال تعالى: ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين (85) (آل عمران).
وقال تعالى: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا (المائدة:3).
وقال تعالى: وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا (البقرة).
وقال تعالى: قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين 162 (الأنعام) .
2 مرجعية هذه الرؤية الكتاب والسنة، وتفهم في ضوء قواعد اللغة العربية دون تكلف ولا شطط، وتؤسس فهمها للجزئيات وفق مقاصد الشريعة، وتبنى على ذلك فقه المصالح والمفاسد واعتبار المآلات ومراعاتها والنتائج والعواقب.
قال تعالى: ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى" للمسلمين 89 (النحل).
وقال تعالى: ثم جعلناك على" شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون 18 (الجاثية).
وقال تعالى: قرآنا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون 28 (الزمر: 28 ).
3 المنهج الوسطي هو منهج أهل السنة والجماعة الذي يرجح فهم السلف دون تعصب لمذهب أو جماعة، ويعرف لأهل الفضل فضلهم ويقبل الحق ممن جاء به، وإن كان بعيداً بغيضاً، ويرد الخطأ وإن جاء من قريب حبيب.
قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على" ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى" واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون (8) (المائدة).
وقال تعالى: يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على" أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى" بهما فلا تتبعوا الهوى" أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا 135 (النساء).
4 الوسطية تقتضي أن يكون السير في الدعوة للدين والتمكين له والسعي للنهوض بالأمة واستعادة مجدها مراعياً للسنن الكونية وحدود الاستطاعة البشرية وأحوال المجتمع وخصوصية الزمان والمكان وفق القواعد الشرعية الضابطة للتعامل مع هذه المؤثرات.
قال تعالى: سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا (23) (الفتح).
وقال تعالى: والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين 69 (العنكبوت).
وقال تعالى: فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره (7) ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره (8) (الزلزلة).
وقال تعالى: لا يكلف الله نفسا إلا وسعها.. (البقرة: 286).(/1)
وقال تعالى: لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها سيجعل الله بعد عسر يسرا (7) (الطلاق).
5 من مكونات الهوية الوسطية الابتعاد عن اتهام أحد ممن دخل في عقد الإسلام بالكفر والبدعة بأعيانهم، ما لم يصرحوا بذلك، أو يصدر منهم مكفر أو بدعة من غير جهل ولا تأويل ولا خطأ ولا إكراه، ولا يعني هذا عدم بيان الحق أو عدم الرد على الخطأ بالحسنى أياً كان مصدره.
قال تعالى: ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا إن الله كان بما تعملون خبيرا (النساء:94).
ولما ورد في المتفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله { قال: "إذا قال الرجل لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما".
وفي صحيح مسلم: أن أسامة بن زيد قال: بعثنا رسول الله { في سرية فصبحنا الحرقات من جهينة فأدركت رجلاً فقال: لا إله إلا الله فطعنته فوقع في نفسي من ذلك فذكرته للنبي { فقال: "أقال لا إله إلا الله وقتلته ؟" قال: قلت: يا رسول الله، إنما قالها خوفاً من السلاح. قال: "أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا" فمازال يكررها علي حتى تمنيت أني أسلمت يومئذ.
6 الرؤية الوسطية تؤمن بأن الجهاد ذروة سنام الإسلام، وأنه متعدد الصور والميادين وأنه إحدى الوسائل الشرعية لتحقيق الأهداف الشرعية ولمواجهة العدوان على الملة والوطن والأمة، كما قال تعالى: وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين 190 (البقرة).
وفي الوقت نفسه ترفض هذه الوسطية العنف والقتال الداخلي بين المسلمين أياً كان مبرره؛ لما جاء في الصحيحين أن رسول الله { قال: "إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار". فقلت: يا رسول الله، هذا القاتل فما بال المقتول ؟ قال: "إنه كان حريصاً على قتل صاحبه".
7 تعتقد الرؤية الوسطية أن الحفاظ على وحدة الوطن وأمنه ومنجزاته واجب شرعي، وأنه لا تناقض بين الانتماء الفطري للقوم والوطن والانتماء الاختياري للدين والمبدأ.
قال تعالى: ولو أنا كتبنا عليهم أن \قتلوا أنفسكم أو \خرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا 66 (النساء).
وعن ابن عباس قال: قال رسول الله { لمكة: "ما أطيبك من بلد وأحبك إلي، ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك" (صححه الألباني في صحيح الترمذي برقم:3038 ، وصحيح المشكاة برقم: 2724).
وفي هذا السياق تؤمن الرؤية الوسطية أنّ للمملكة العربية السعودية خصوصية ليست لغيرها؛ فهي مهبط الوحي ومنطلق الرسالة ومأرز الإيمان ومحضن الحرمين وقبلة المسلمين، وأن الوطنية الحقيقية هي التي تتكيف مع هذه المكونات والخصوصيات وتحافظ عليها.
قال تعالى: َ أو لم نمكن لهم حرما آمنا يجبى" إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا ولكن أكثرهم لا يعلمون 57 (القصص).
وقال تعالى: وهذا البلد الأمين (3) (التين). وجاء في المتفق عليه: عن أبي شريح: قال: قال رسول الله {: "إنّ مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس، فلا يحل لامرئٍ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك فيها دماً ولا يعضد فيها شجرة، فإن أحد ترخص لقتال رسول الله { فيها فقولوا: إن الله قد أذن لرسوله ولم يأذن لكم، وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار ثم عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس وليبلغ الشاهد الغائب"...
8 ترى الرؤية الوسطية الإسلامية أن إصلاح الحكم وتطويره من ضرورات أي إصلاح، وأنه يجب التعاون مع الحكام ومناصحتهم في كل ما فيه مصلحة للأمة والوطن وفق منهج الشرع، لما ورد في المتفق عليه: عن جرير بن عبد الله قال: بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم.
وأنه لا يجوز الخروج على الحكام وحمل السلاح في وجوههم مهما كانت أخطاؤهم، ما لم تكن كفراً بواحاً فيه من الله برهان، وكان في الخروج حينئذٍ مصلحة راجحة للأمة يتفق عليها أهل الحل والعقد.
عن جنادة بن أبي أمية قال: دخلنا على عبادة بن الصامت وهو مريض، قلنا: أصلحك الله حدث بحديث ينفعك الله به سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم قال: دعانا النبي صلى الله عليه وسلم فبايعناه، فقال فيما أخذ علينا أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا وألا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان. متفق عليه.
وأنه مهما كان فضل الحكام وصلاحهم فلا يجوز طاعتهم في المعصية ولا مداهنتهم في الحق. جاء في المتفق عليه: عن علي رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث جيشاً وأمر عليهم رجلاً فأوقد ناراً، وقال: ادخلوها فأرادوا أن يدخلوها، وقال آخرون: إنما فررنا منها.. فذكروا للنبي صلى الله عليه وسلم فقال للذين أرادوا أن يدخلوها: "لو دخلوها لم يزالوا فيها إلى يوم القيامة". وقال للآخرين: "لا طاعة في المعصية، إنما الطاعة في المعروف ".(/2)
9 يلتزم المنهج الوسطي بالدعوة إلى الشورى وتطبيقها في الفكر والممارسة ووجوب إتاحة الفرصة لجميع الآراء من خلال الحوار البنّاء الهادف للوصول للحق والحقائق في إطار الإسلام ومرجعية الوحي.
مع عدم الإلزام بصيغة محددة في تطبيق هذا المبدأ الإسلامي الأصيل.
قال تعالى: فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين (159) (آل عمران).
وقال تعالى: والذين \ستجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى" بينهم ومما رزقناهم ينفقون 38 (الشورى).
عن الزهري قال: قال أبو هريرة رضي الله عنه: ما رأيت أحداً أكثر مشاورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم . (سنن البيهقي الكبرى 10-109، وصحيح ابن حبان 11-216).
10 إن مسلك الوسطية هو أصوب الطرق لوضوح منهجيته وسلامة منطلقاته وتصديق الوقائع والتجربة لما حققه من نجاحات واسعة لاعتداله في الفكر والعمل بين الإفراط والتفريط.
قال تعالى: وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا (البقرة: 143 ).
مع اليقين أن من لوازم الوسطية التسليم بأن طرائق العمل للإسلام متعددة ولا حرج على من أخذ ببعضها دون بعض. قال تعالى: وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين 78 ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين 79 (الأنبياء) .
وفي المتفق عليه: عن عمرو بن العاص: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر".
وأنه يجب التعاون بين كل من يعمل للإسلام على البر والتقوى وإن اختلفوا في بعض القضايا وأنه يجب إحسان الظن بالمخالف من المسلمين مالم يتبين غير ذلك وأن الخلافات يسعى لحلها بالحوار الهادئ البنّاء وعلى ضوء الدليل والبرهان. قال تعالى: وتعاونوا على البر والتقوى" ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب (2) (المائدة).
11 تؤمن الرؤية الوسطية بضرورة السعي لوحدة المسلمين والدفاع عنهم وعن قضاياهم والتواصل مع شعوبهم وبخاصة الدعاة منهم، مع مراعاةخصوصيات أهل كل بلد واعتبارها ومؤثرات التاريخ والوقع.
قال تعالى: إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون 92 (الأنبياء).
وقال تعالى: وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون 52 (المؤمنون).
وقال تعالى: واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على" شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون 103 (آل عمران).
وفي صحيح مسلم: عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المؤمنون كرجل واحد إن اشتكى رأسه تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر".. يتبع إن شاء الله
12 الرؤية الوسطية تعتقد أن الله كرّم بني آدم وخلقهم أحراراً لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى والعمل الصالح، وأن الحفاظ على كرامة الناس وحقوقهم واجب شرعي، وأنه لا يجوز النيل من ذلك إلا بحكم قضائي شرعي مستقل مع توفير جميع الضمانات الشرعية للمتهم للدفاع عن نفسه.
قال تعالى: ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على" كثير ممن خلقنا تفضيلا (70) (الإسراء: 70 ).
وفي المتفق عليه: عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم بمنى: "أتدرون أي يوم هذا؟". قالوا: الله ورسوله أعلم. فقال: "فإن هذا يوم حرام، أفتدرون أي بلد هذا؟". قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: "بلد حرام، أفتدرون أي شهر هذا؟". قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: "شهر حرام". قال: "فإن الله حرم عليكم دماءكم وأموالكم وأعراضكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا".
13 من مكونات المنهج الوسطي الإيمان بأن الأسرة هي اللبنة الأساسية للمجتمع، وأن النساء شقائق الرجال، "إنما النساء شقائق الرجال" سنن أبي داوود والترمذي وأحمد، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (2863).
وأنّ بينهما مشتركات ولكل منهما خصوصية قال تعالى: الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على" بعض وبما أنفقوا من أموالهم (النساء:34).
وقال تعالى: فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى" والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى" (آل عمران: 36).
ولكل منهما حقوق وعليه واجبات، وأن العلاقة بينهما يجب أن تكون في ظل التكامل والود والحب والبر لا الصراع والشقاق، وأن الحفاظ على القيم الأخلاقية والاستقامة السلوكية للأسرة والمجتمع واجب لا يجوز التهاون فيه أو التفريط به.
قال تعالى: إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون 19 (النور).(/3)
14 المنهج الوسطي يرى أن التنمية الاقتصادية المستمرة ضرورة ملحة للعيش الحر الكريم، وأن ذلك لا يتحقق إلا بالعدالة في توزيع الثروة والحزم في منع الفساد والأخذ على أيدي المفسدين، ومنع جميع صور الاستغلال والحفاظ على ثروات الأمة.
قال تعالى: كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب (7) (الحشر).
وأن الأصل في المعاملات الاقتصادية الحل والإباحة، ولا تحريم إلاّ ماحرم الشرع.
قال تعالى: قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون 32 (الأعراف).
15 من معالم الهوية الوسطية الإسلامية الانفتاح على حضارات العالم المختلفة والتواصل معها أخذاً وعطاءً في المشترك الإنساني دون ذوبان في الآخر، ولا تنازل عن الثوابت والخصوصية.
والإيمان بأن للأمة الإسلامية دوراً حضارياً عالمياً إنسانياً، وأن البشرية في أشد الحاجة إليه، ويجب علينا أن ننهض به مستلهمين تجربتنا الحضارية التاريخية وفق رؤية عصرية.
قال تعالى: يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى" وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير 13 (الحجرات).
وقال تعالى: كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله (آل عمران :110).
وقال تعالى: لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين (8) (الممتحنة).
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، و صلى الله وسلم تعالى وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(/4)
"نداء إلى فتاة الإسلام"
طريق القرآن
?إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً?[الأحزاب:35]
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"النساء شقائق الرجال".
هذا هو دينك يافتاة الإسلام، يا ربيبة القرآن، يا رحم الصالحين والمجاهدين والعلماء.
هذا هو دينك الذي سوى بينك وبين الرجل في الجزاء والعمل والمسؤلية ، فالرجل راعٍ في بيته ومسئول عن رعيته ، والمرأة راعية في بيتها ومسئوولة عن رعيتها ، ولكن كل هذا في سياق عام من الفطرة الحق والسنن الكونية التى لا تتغير فالمرأة ليست كالرجل خلقة وتكويناً فراعى الإسلام هذه الناحية وكلف كلاً منهما ما يُطيق.
والذين لم يفهموا هذه المعادلة باعوا المرأة واشتروها بأبخس الأثمان وجعلوها سلعة لمن يدفع، فظلموها وادعوا زوراً وبهتاناً أنهم حرروها ، وكذبوا ، حيث غيروا فطرة الله التي فطر عليها وخالفوا سنة الكون التي خلقها الله تعالى ونظَّم عليها هذه الحياة فكانت العاقبة لمن غير وبدل سوءاً بعد سوء وشقاءً بعد شقاء ، وما ربك بظلام للعبيد . والآن جاء دورك يا حاملة مشعل الهداية لتنيري ظلمات هذا العالم بنور وشمس التوحيد ، ولتصححي هذا الاعوجاج الذى يسير فيه الناس بلا هدى ولا بصيرة. جاء دورك لتنطلقى من رقدة الغفلة إلى صحوة اليقظة وبيدك كتاب ربك لتتعلمى وتُعلمي دين الله ولتنشرى ذلك في ربوع الأرض فإن الدعوة إلى الله تعالى تحتاج كل جهد ولا يستطيع أحد أن يقوم بدورك فأنت على ثغر من ثغور هذا الدين فالحذر الحذر أن يؤتى الإسلام من قِبَلك وهنيئاً لكل من عرفتْ الحق وسلكت دربه ، هنيئاً لها بجنةٍ عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين(/1)
نداء الدم والشهادة إلى ضمير الأمة وجنودها الشرفاء ...
...
20-05-2004
يا أبناء أمتي.. يا أمة المليار...
أبناء المسلمين... يا أصحاب النخوة والكرامة... أيها الموحِّدون في كل مكان
ها هي دماء إخوانكم في رفح تسيل تسيل تمتشق الكرامة والصمود وتتحدى جبروت الاحتلال الغاشم، تتقدم بصدورها وصبرها وإيمانها تنافح عن كرامتكم جميعا لا ترهب بطش المجرم شارون، فتتلقفها قذائف الدبابات وتتناوشها صورايخ الطائرت ، وتفتتها طلقات من العيار الثقيل...
فإلى متى صمتكم؟
مم تخافون؟
ها هي رفح تصيح بكم
تستنجد بكم
وتصرخ
واااااااااا إسلاماه!!
هل من ملب؟
هل من شريف؟!
هل من مسلم؟!
أما من موحد رضع لبن الكرامة في زمن الذل والهوان؟
أين أنتم وأشلاؤنا تتناثر في شوارع رفح كما تناثرت في جنين وحي الزيتون وأنحاء هذا الوطن الطاهر ؟!
وأنتم سامدون!!
صامتون
على جراحنا وعذابنا تتراقصون!!!
أين أنتم
أين أنتم أيها المسلمون؟
ماذا تنتظرون؟
ومم تخافون؟
وعلام تخشون؟
وإلى متى تصمتون؟!
وي كأنكم في واد والإسلام في واد؟
ألم تسمعوا قول الله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ)
ألم تصدعوا بقول الله تعالى
(انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)
اصدعو بالحق أيها الغافلون
لن يوقفوا زحف إيمانكم ومن يقض يمت شهيدا في جنان النعيم ،
يا حسرتا عليكم يا حسرتا عليكم وأنتم تتفرجون على انهار دمائنا تسيل فلا تحرك فيكم نخوة وعلى أشلائنا تتطاير فلا تهز فيكم ضمير ...
الله أكبر
الله أكبر
ألا تحبون أن يرضى الله عنكم، ألا تحبون أن يغفر الله لكم ذنوبكم وخطاياكم وأوزار تخاذلكم وصمتكم وخنوعكم وخضوعكم،؟!!
ألا تحبون الجنة ألا تحبون النجاة من عذاب المنتقم الجبار القهار المعز المذل؟!!
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ* تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)
أيها المسلمون في كل مكان
أيها الموحدون
يا شرفاء أمتي
صمتكم أغرى بنا الحكام وزاد صمتهم
صمتكم أغرى بنا اللعين شارون وأبناء القردة والخنازير فزاد بطشهم وإرهابهم!!
يا أبناء أمتي!
تقدموا ... تقدموا.. من كل مسجد وصومعة.. من كل جامع وزاوية.. من كل شارع وحارة تقدموا..
صغيركم كبيركم نساؤكم رجالكم فقد تناثرت دماؤنا ولحمنا وعظمنا دفاعا عن كرامتكم فلسطين ليست لنا وحدنا.. هي لكم يا مسلمون... رابطة العقيدة بيننا وبينكم أقوى من كل رابطة مُضيعة، سيذبحونكم ويغرقونكم في دوامة الخنوع والمذلة .. وتقدموا ودمروهم واعلموا أنكم تنعمون بالشهادة إن جاهدتم في سبيل الله وقتلتم في سبيل الله فهبوا يرحمكم الله
(وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)
الله أكبر
الله أكبر
أين هم علماء الفتاوى الجاهزة؟
أين هم علماء الأمة؟
أين أنتم يا علماء الكتب والصحف ؟
أين أنتم من شلال الدماء والموت المجاني في رفح يملأ كل مكان..
أين أنتم من قتلانا ..
اطمئنوا أيها العلماء النائمين وجهزوا فتاوى في فروع المسائل يا من عطلتم الجهاد وجادلوا من شئتم فإنا عن شرف لحاكم نقاتل ونقاتل ونقاتل فالحقوا بالقافلة وانفضوا عار المذلة والخور .. يا علما يا علمااااااا لو تحركتم تحركت وراءكم جموع الأمة ألا تتحركون؟؟
تقدموا هبوا هبوا...
يعتصرني ألم..
وتذبحني المرارة بحد أقسى من السكين...
يا أُمَّتي
يا أُمَّتي
إننا أنهار دم
وأشلاء لحم
وجماجم تترى على وجه الأرض..
رفح دمعة حزينة
رفح قلعة حصينة
تنادي أمة العربِ
تنادي جموع المسلمين
أيها الجنود الشرفاء
يا كل صاحب نخوة
يا كل شرفاء الأمة
لقد آن الآوان
آن الأوان لصحوة شاملة
آن أوان الكرامة
ألا هبُّوا فقد طال نومكم إنها إحدى الحسنين النصر أو الشهادة..
أما إذا بقيتم في نومكم وعاركم فإنه الخسران المبين ...
)فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً(
مشاركة الأخ النورس(/1)
نداء عاجل إلى المجاهدين وأهل العلم في العراق
12-12-2005
بوادر النصر تلوح في الأفق، وهزيمة العدو تبدو للعيان، وإن النصر مع الصبر وإن من الصبر تحمل الاجتهاد المخالف حتى لا يكون ذريعة للفرقة بينكم والتي يحرص عليها عدوكم خاصة في هذه الأيام التي يسعى فيها للخروج من مأزقه، ويجتهد في تحويل هزيمته إلى نصر .
بسم الله الرحمن الرحيم
التاريخ : 9/11/1426هـ
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه أما بعد:
فإن مما هو معلوم من دين الإسلام بالضرورة أن الاجتماع والائتلاف على الحق أصل من الأصول الشرعية الكلية، ولذا لُقب أهل الإتباع بأهل السنة والجماعة، وتتأكد أهمية الاجتماع كلما ازدادت الفتن وكثرت الأهواء وتربص الأعداء، وإن الناظر في أحوال العراق اليوم يرى المخاطر العظيمة تحيط بالإسلام وأهله من قبل أعدائهم من الكفرة والمنافقين، الأمر الذي يستوجب التلاحم ورصَّ الصفوف بين فصائل المجاهدين أولاً، وبينهم وبين إخوانهم من أهل السنة ثانياً، وألا يختلفوا ويتفرقوا فيقعوا فيما نهاهم الله عنه في قوله تعالى ولا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ.. الآية (آل عمران: من الآية15).
واعلموا أن التنازع بسبب اختلاف في الاجتهاد بينكم، - مما هو محتمل - سيكون سبباً في الفشل وذهاب الريح ومدخلا للأعداء في تمزيق الصف وتفريق الكلمة وإحداث الفتنة بين فصائل المجاهدين وبينهم وبين عموم إخوانهم من العلماء والدعاة، قال تعالى : (وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ... الآية (الأنفال: من الآية46).
إن بوادر النصر تلوح في الأفق، وهزيمة العدو تبدو للعيان، وإن النصر مع الصبر وإن من الصبر تحمل الاجتهاد المخالف حتى لا يكون ذريعة للفرقة بينكم والتي يحرص عليها عدوكم خاصة في هذه الأيام التي يسعى فيها للخروج من مأزقه، ويجتهد في تحويل هزيمته إلى نصر .
نسأل الله القدير أن يؤلف بين قلوبكم، ويثبت أقدامكم، وينصركم على عدوكم، وأن يعيذكم من شر الفرقة والفتنة إنه ولي ذلك والقادر عليه وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
الموقعون:
ـ فضيلة الشيخ عبد الرحمن بن ناصر البراك.
ـ فضيلة الشيخ عبد الله بن محمد الغنيمان.
ـ فضيلة الشيخ الدكتور عبد العزيز بن عبد الفتاح قارئ.
ـ فضيلة الشيخ الدكتور سفر بن عبد الرحمن الحوالي.
ـ فضيلة الشيخ الدكتور ناصر بن سليمان العمر.
ـ فضيلة الشيخ الدكتور عبد الله بن حمود التويجري.
ـ فضيلة الشيخ الدكتور عبد الرحمن بن صالح المحمود.
ـ فضيلة الشيخ الدكتور سعد بن عبد الله الحميّد.
ـ فضيلة الشيخ الدكتور عبد الله بن إبراهيم الريس.
ـ فضيلة الشيخ الدكتور عبد الرحيم بن صمايل السلمي.
ـ فضيلة الشيخ فهد بن سليمان القاضي.
ـ فضيلة الشيخ عبد العزيز بن ناصر الجليل.(/1)
نداء من طلبة فلسطين إلى شباب العالم العربي والإسلامي
وجه طلبة الكتل الإسلامية في جامعات فلسطين نداءً مؤثرًا إلى إخوانهم من طلبة الجامعات وشباب الأمة العربية الإسلامية طالبوهم فيه بنصرتهم والوقوف إلى جانبهم .
وقال البيان : " يا أشقاء المصير الواحد والجرح الواحد والهم الواحد في جسد إذا اشتكى منه عضو تداعى سائره بالسهر والحمى … نخاطبكم بحق أخوة الدين التي تربطنا ورابطة الدم التي تجمعنا وواجب القربى وحرمة الأرحام … ألا ترون جسدنا وقد أثخنته الجراج ؟! وفؤادنا وقد دميت منه الجوانب …؟! وأرواحنا كيف تصعد إلى بارئها رويدًا رويدًا شاكية شاهدة …؟! أما استفزتكم مشاهدة الأطفال وهم يذبحون وقلوبهم الرقيقة تصرخ فيكم أين أنتم ؟! فليعد كل جوابه يوم يكلمه ربه ليس بينه وبين الله ترجمان … ؟!!
نتساءل ـ ونعلم والله أنكم مثلنا تتساءلون ـ : حتى متى تبقى الأمة في سباتها ؟! ماذا ينتظر العرب والمسلمون ؟! أحين القضاء علينا يتحركون أم حين انتهائنا ينهضون ؟! وكأنهم ما سمعوا نداء السماء (وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) [النساء/ 75] ، ولا هزهم استنفار ربهم لهم من فوق السبع الطباق : (مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ) [التوبة/ 38] !!
وأضاف البيان مخاطبًا الشباب : يا صدى صوتنا ، ونداءاتنا في العالم .. لعلنا لا نتقن ـ كثيرًا ـ تنميق العبارات لكن دماءنا النازفة على يد الصهاينة أبلغ من كل كلام !!نخاطب من ؟! إن لم نتوجه لكم أنتم يا طلبة الجامعات ، وشباب الأمة ؟ وكيف لا نكتب لكم ونحن نعلم أنكم بين أقرانكم الأمثل طريقة ، والأقوى شكيمة .. وأن أحدكم ليزداد قدرًا كلما ازداد عمرًا ، وكأنما يصنع تاريخ الأيام بأنامله .. فإذا ما دوّى صوته ، واندفع يسابق الريح نحو غايته زلزل الجبال ، وهز المحتلين ، يا إخواننا : إن السكوت على الباطل لا يليق بكريم .. ولا ينبغي لحر أن يعتزل الحرب وقومه يُطعنون .. يا إخواننا : إننا لا نحب أن نرى السوس يأتي على خضراء أمتنا بما كسبت يداها حتى ترى اللص ينفرد ببعضها فيما بقيتها كل خلف جداره يرقب في صمت !
أأموت في كف اللئام وأنتم حولي ولم يهززكم استنجادي ؟!
أتودعوني حيث أقتل صابرًا بيد اليهود وتستباح بلادي؟!
وتابع البيان : يا طلبة الجامعات في وطننا الكبير ، وأنتم يا شباب الأمة وعدتها لغد وما بعد غد : إلى متى هذا الصمت ؟ إلى متى فإن الأمة التي لا تثور بعد كل هذه الصدمات المتواصلة والجراح النازفة متحدة أمام تكالب الأعداء حريّة أن يستبدل الله بها قومًا (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ) [المائدة/54] وحق على رجالها أن يدفنوا وهم أحياء .. وأن يرقدوا في مهاد الذل لا ليستريحوا ولكن لتستجاب فيهم دعوة خالد بن الوليد : فلا نامت أعين الجبناء ! ولن تكون إلا في زوايا النسيان وعالم النكرات وسقط المتاع وذيل القافلة .. وينتقصها كل ضعيف ويعوي عليها كل نابح ، وسيُطوى ذكرها ويُمحى أثرها … (حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) [الرعد/11].
يا شباب العلم والتعليم .. يا أمل فلسطين جوهرة العالم .. نحن إخوانكم على مقاعد الدراسة في جامعات فلسطين إلى جانب حملنا للكتب نعد للكتائب والشدائد .. فانصروا قضيتنا وحركوا الرأي العام في بلادكم وكونوا رسل جهادنا وبريد قضيتنا إلى شعوبكم .. ثوروا الناس واحشدوا لنصرتنا ، وشكلوا من مجتمعاتكم قوى ضغط تجبر الحكام على نصرتنا وتمنعهم من خذلاننا .
اعلموا .. أن كل مسيرة وكل كلمة وكل بيان ، وكل معرض ، وكل صورة ، وكل لافتة تنصرون بها قضيتنا وتحركون بها الرأي العام في بلادكم ، إنما ترفعكم في ضمير الأمة وعند الله الذي لا يضيع أجر المحسنين .. كما تشدون بها أزرنا وتطمئنوننا أن خلفنا إخواننا يألمون لألمنا ، يدمون لجراحاتنا ، ولا يخذلوننا أبدًا ولا يسلموننا لعدو لا يرحم .
ومضى طلبة الجامعات بفلسطين إلى القول : أيها المشتاقون إلى فلسطين كل فلسطين .. إننا نطمئنكم أننا على العهد ولن نخونه ، وستظل دماؤنا النازفة تعلن في سمع الزمان أن هذه الأرض لن تنصاع لأقدام الغزاة ، ولن تنام لمحتل في ديارنا عين أو يغمض له جفن أو يقر له قرار ما دام شعبنا يمضي على خيار الجهاد والمقاومة .. واعلموا أنكم الدائرة الأوسع لهذا الخيار .. فكونوا إلى جانبنا.
لا تكونوا عدسة كاميرا الانتفاضة .. بل كونوا جزءًا من الحدث الذي تلتقطه عدسة الكاميرا .(/1)
واختتم النداء بالقول : أيها العرب .. أيها المسلمون .. نحن عنكم .. ورأس الحربة والجدار الأول ، والمقاتلون الأوائل ، والمدافعون عن شرف الأمتين العربية والإسلامية فلا تخذلونا ، فإن لم تستطيعوا أن تقاتلوا معنا الآن فلا أقل من أن تبيّتوا النية ، وتحملوا هم القضية وتدعموا انتفاضتنا ما استطعتم إلى ذلك سبيلا .. معنويًا وإعلاميًا .. ولن ننسى لكم ذلك .. وسيسجله التاريخ.(/2)
ندوة في الرد على تجاوزات الترابي
الدكتور جعفر أثناء الندوة
شهد الميدان الغربي لجامعة الخرطوم مساء أمس السبت 29/4/2006 ندوة بعنوان ( فرفرة دجال..معالم الإسلام الأمريكي ) تناولت الآراء الأخيرة التي أطلقها حسن الترابي و أثارت ردود فعل عنيفة وسط العلماء و الدعاة و الرأي العام . و قد حضر الندوة حشود كبيرة إمتلأت بهم جنبات الميدان الغربي . و قد قدم الندوة الدكتور عبد الحي يوسف الذي بين أن أراء الترابي هذه التي خالف بها إجماع المسلمين جاءت متزامنة مع الهجوم على الرسول الكريم صلى الله عليه و سلم في الغرب , و ذكر نماذج من شذوذ الترابي العقدي و الفكري مثل إنكاره لعلامات الساعة و عذاب القبر و تجويزه لزواج المسلمة من الكافر الكتابي و غير ذلك .
الترابي داعية ( الإسلام الأمريكاني ) !!
ثم صار الحديث للدكتور جعفر شيخ إدريس الداعية المعروف الذي قال في البداية أنه لا بد شرح العنوان الذي ظنه البعض غير مناسب , و قال إن كلمة فرفرة -التي تعني باللهجة السودانية الحركة الأخيرة للميت- , قال فرفرة في اللغة العربية تعني : حرك جسمه , و تعني كذلك أسرع إلى الحماقة , و كذلك أكثر و خلط , و لكأنها مجموعة جميعا في شخص الترابي .
ثم قال : إن الدجال تعني الكذاب المتميز في كذبه , و صاحبنا له مقدرة عجيبة على الكذب و على أن يعيش حياة غير التي يؤمن بها , و ساق نماذج لكذب الترابي , و قال أنه رئيس لجماعة لا يؤمن بأفكارها , و أنه إشترك في ندوة - قبل أن يكون رئيسا للحركة الإسلامية – سخر فيها من الدستور الإسلامي .
ثم إنتقل إلى بيان مسألة مهمة , و هي أن التكفير حكم شرعي لا يمكن إلغاؤه أو تغييره , لأن إنكاره أو محاولة تغييره هو تعد على ثوابت و أحكام الإسلام .
و قال أن الغربيين يريدون إسلاما كهذا لا كفر و لا تكفير فيه , حتى تتميع الحدود بين الأديان الأخرى و الإسلام , و أشار إلى ( الإسلام الأمريكي ) الهلامي الذي يسعى الغرب لتسويقه .
و بين أنه من الجريمة أن يؤخذ النص الإسلامي و يعطى المعنى الغربي , و أن النتيجة التي يريد الترابي أن يوصلنا إليها هي أنه لا يمكن للإسلام أن تكون له علاقة بالدولة أو تكون له حدود واضحة .
و أشار إلى نماذج من الفتاوى الشاذة للترابي مثل فتواه في الخمر التي قال أنها لا تصبح أمر قانون إلا إذا حصل فيها عدوان !!!
و قال أن المنافق لا يستطيع إخفاء نفاقه إذ لا بد أن يظهر نفاقه في فلتات لسانه , و قد قال الله سبحانه و تعالى فيهم ( و لتعرفنهم في لحن القول ..) , ثم اشار إلى قضية مسجد الضرار الذي بني للكفر و محاربة الله و رسوله , و كيف أنهم – أي المنافقين – كانوا حين يسألون عن عملهم هذا كانوا يقولون ( إن أردنا إلا الحسنى ) , لذا فإن هذا النموذج قد يتكرر في كل زمان و مكان , حيث يأتي من يزعم ولاءه و عمله للإسلام و يحارب الإسلام ثم يزعم أنه يريد الإصلاح .
و بين أن الترابي كان يصرح ببعض آرائه في السابق و يخفي بعضها إلا عن خاصته , لكنه جهر به اليوم .
و أشار الدكتور جعفر إلى أن نموذج الترابي هو المفضل لدى الغربيين , فالغربيون يريدون تحطيم الإسلام و لكنهم لا يقدرون على ذلك لصلابته و لإستماتة المسلمين في الدفاع عنه , لذا فهم مستغربون رغم أن المسلمين لا قوة سياسية أو عسكرية لهم و رغم ذلك فدينهم ينتشر أكثر من جميع الأديان الأخرى , و قد اشارت عدة وثائق غربية نشرت مؤخرا إلى الخطة الأمريكية لتقديم نموذج هلامي من الإسلام يحقق لهم مآربهم , و الترابي بآرائه الأخيرة يريد أن يقول للأمريكان أنه رجلهم الذي يريدون , و محاضراته الأخيرة هي إعلان للجميع بما فيهم جماعته الذين يتبعونه بلا وعي بأنه متوجه لجهة أخرى غير التي كان يعلن عنها في السابق .
و ذكر نماذج لكذب الترابي و إفتراءاته على الإسلام و نبيه الكريم , و كيف أنه في حواراته مع الأمريكان كان يميع لهم الإسلام , و من ذلك أنه قال مرة أن المرأة في الدولة الإسلامية يمكنها أن تلبس ما تراه دون أن تتدخل الدولة في ذلك إلا إذا خرجت عارية تماما !!!!
و قال مرة في حواره مع جريدة بريطانية أن الحدود ليست من الإسلام و أن المسلمين أخذوها من اليهود !!!! و ذكر نماذج أخرى لآرائه التي خالف بها إجماع المسلمين .
ثم ختم الدكتور جعفر كلامه بنداء إلى الشباب المسلم دعاهم فيه إلى الإعتزاز بدينهم و التمسك به و أن لا يتأثروا بالشبهات التي يثيرها المنافقون و أعداء الإسلام .
من هم سلف الترابي ؟!
حضور غفير تابع الندوة(/1)
تحدث بعد ذلك الشيخ الداعية محمد سيد حاج و أبان تناقضات الترابي المنهجية , و كيف أنه يأخذ ما يروق له من الأحاديث و إن كانت ضعيفة و يرد من الأحاديث ما لا يعجبه و إن كانت صحيحة , و ذكر نموذجا لذلك و حيث أخذ الترابي بحديث أم ورقة التي تحدث عن إمامة المرأة للرجال في الصلاة و و رد أحاديث في الصحيحين كحديث ( النساء ناقصات عقل و دين ) , و كذلك عدم أمانته العلمية في نقل الأحاديث فيبتر النص و يأخذ ما يحلو له منه .
و قال الشيخ محمد سيد أن الترابي ليس مجددا فله في كل ما قاله سلف هم المعتزلة و الخوارج و غلاة الصوفية كإبن عربي و غيره ممن تجاوزوا حدود الشرع , فإنكار نزول المسيح عيه السلام سبقه فيها أبو هذيل العلاف و القاضي عبد الجبار الهمذاني و عمرو بن عبيد و غيرهم من رؤوس المعتزلة , و زواج المسلمة من الكافر سبقه بها سيد أحمد خان المشبوه في الهند في القرن التاسع عشر .
و اشار إلى أن الفرق بين محمود محمد طه و الترابي أن محمود محمد طه كان واضحا في كفره و ضلاله و لديه منهج صريح بيّن في ذلك , أما الترابي فهو متقلب متلون إنتقائي منهجه غير واضح المعالم .
أما عن أتباع الترابي فقد قال الشيخ محمد سيد أن أنهم ينتقدون تقديس الرجال و هم أكثر من يقدس شيخهم .
ثم ختم كلامه بأن التجديد هو إحياء الدين في القلوب لا تمييعه و إماتته , و أنه مستعد لمناظرة مفتوحة مع الترابي إن هو جرؤ على ذلك .
ثم تحدث الشيخ علاء الدين الزاكي عن الإسلام الدين العظيم الذي قيض الله له من يدافع و ينافح عنه في كل زمان , و أن الترابي يطرح نفسه الآن كبديل للآخرين حتى يقبل به الأمريكان و أنه ما زال يسعى للسلطة حتى و قد جاوز الثمانين من عمره .
ثم تحدث بعد ذلك الشيخ سعد أحمد سعد من هيئة علماء السودان , و الشيخ أبو زيد محمد حمزة أمير جناح جماعة أنصار السنة المحمدية .(/2)
نرجسية العقل الغربي
يستطيع المرء أن يجزم ـ في ضوء الكشوف العلمية المتلاحقة ـ أن معطيات علم النفس في جلّ نظرياته، لم تصل ـ بعد ـ عتبات اليقين الأولى. وثمة عبارة ذات بعد منهجي، نجدها في كتاب «طبيعة العقل» لسوليفان.
تكاد تشكل سمة من سمات الفكر الوضعي في الغرب، في تألقه وسقوطه على السواء، تلك هي «أن مفهوم الدافع الجنسي عند فرويد مثلاً قد أريد به تفسير أشياء كثيرة جداً إلى درجة أنه لم يفسّر شيئاً محدداً»..
وهكذا ـ وفي ضوء هذا الاستنتاج الذي يقدمه سوليفان ـ يبدو أن مفهوم «العقل الكلّي» لدى «هيغل» قد أريد به ـ كذلك ـ تفسير أشياء كثيرة جداً في العالم إلى درجة أنه لم يفسر شيئاً محدداً. وتبدّل وسائل الإنتاج في النظرية المادية التاريخية، قد أريد به تفسير أشياء كثيرة جداً في التاريخ إلى درجة أنه لم يُفسّر شيئاً محدداً.
وما يقال عن «المثالية» و«المادية» يمكن أن يقال عن «الوجودية» و«العبثية» وسائر المذاهب الغربية على المستويات كافة.
إن بعداً نفسياً يكمن وراء هذه الرؤية التعميمية للكشوف ذات الطابع الجزئي. إن العالم أو الأديب أو الفيلسوف، وقد اكتشف بذكائه وجهده مفتاحاً من المفاتيح التي يمكن أن تسلط ضوءاً على الوجود و التاريخ ، يسعى إلى مدّ اكتشافه هذا لكي يغطي سائر مساحات الوجود والتاريخ ، ومنحنياتهما الطويلة المعقدة المتشابكة.. إنه يريد أن يحتكر حق الكشف والتفسير، ويحجب عن الآخرين حريتهم العقلية وحتى الوجدانية في أن يرحلوا هم أيضاً ويكتشفوا ويبتكروا نظريات ونظماً وأعرافاً..
وإنها لنرجسية ولا ريب هي أقسى أنماط النرجسية التي عرفتها مناهج البحث البشري وطرائقه .. إنها لتصل بهم ـ أو هكذا يخيّل إليهم ـ إلى عتبات الألوهية.. ولم لا ؟ وهم يجدون من المعجبين والأتباع عباداً خاضعين يسبّحون بحمدهم ويمنحونهم طائعين صفة التوحّد والتفرّد ؟
ها قد آن الأوان لكي يقول العلم كلمته.. إنه ليس ثمة حقيقة في أي ميدان من ميادين العلم المادي أو الحيوي، يمكن أن يفسّر بها العالم كلّه.. إنها تفسّر جانباً من العالم.. نعم.. ولكن ليس العالم كلّه بأية حال من الأحوال.
ليس هذا فحسب بل إن العلماء المحدثين يؤكدون على أن المفاهيم الأساسية التي أمكن استخلاصها وعزلها حتى الآن ، والتي تعتبر وافية إلى حدّ معقول ، لهي تلك المرتبطة بالعلوم التي تعالج الظواهر المادية الجامدة.
ونقول «وافية إلى حد معقول» لأن نظريتي «النسبية» و«الكم» قد أدّتا حديثاً إلى إعادة النظر في هذه المفاهيم ومراجعتها مراجعة شاملة.
وعلى أية حال فقد أثبتت تلك المفاهيم نجاحاً فذاً خلال القرون الثلاثة الماضية، وإنه لمن المشكوك فيه أن يؤدي هذا النجاح إلى نجاح أية تجربة تقوم على تطبيق هذه المفاهيم في مجالات لا تقبل بطبيعتها التطبيق فيها.
وهكذا فإنه حتى العلوم التي تعالج الظواهر المادية الجامدة لم تسلم معطياتها من الهزات، فها هي ذيّ نظريتا «النسبية» و «الكم» تغيران وتبدلان في الكثير من المفاهيم العلمية السائدة، والمسلمات، أو هكذا كانت توصف، والتي صمدت خلال القرون الثلاثة الماضية. ومهما يكن من أمر فإن النجاح النسبي لمفاهيم التعامل مع المادة يجب ألاّ يدفعنا إلى الطريق الخاطئ وهو قصر تجربة الحياة على الخضوع للمفاهيم نفسها، لأن مصير قصر كهذا هو الفشل بعينه، وهذا يؤكد ضرورة البحث عن معايير أخرى لدراسة علوم الحياة، وإلى التسليم بالغائية كمفتاح لكثير من الأبواب الموصدة ها هنا: (فَقَالَ لَهَا ولِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) ، (وإن مِّن شَيْءٍ إلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ولَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ..).
مجلة المنار ، العدد 75 ، شوال 1424هـ(/1)
نزلة بدانة والسبب فيروس!!
د. نادية العوضي
________________________________________
فيروس البدانة: نشر علماء من جامعة وسكونسن الأمريكية الشهر الماضي في المجلة العالمية للبدانة نتائج أبحاثهم التي تشير إلى أن فيروسًا من نوع الآدينوفيروس الذي يسبب أعراض البرد العادية من رشح وسعال وعطس في الإنسان يتسبب في زيادة وزن ملحوظة لدى الدجاج المحقون بهذا الفيروس. ويبدو أن ذلك يحدث من خلال تحويل كميات كبيرة من الطاقة الموجودة بالأطعمة إلى دهون. ربما إذن نسمع قريبًا من يقول: إنه أصيب بـ "نزلة" بدانة!
إلا أن ذلك ليس كل شئ ، فكثيراً ما أقول لصديقتي مغرية وداعية : تفضلي…؛ لا شكرًا؛ أنا عاملة ريجيم!
وهي جملة اعتدنا أن نسمعها هذه الأيام من الكبير والصغير والبدين والنحيف، خاصة بعد أن أصبحت الرشاقة هاجسًا يؤرق الشباب والشابات.
ونحن نتعرض هنا للبدانة لنعرف مَن هو البدين حقًّا؟ وما هي أسباب البدانة؟ وما هي الطرق السليمة لإنقاص الوزن والمحافظة عليه دون التعرض للمشاكل الصحية المصاحبة للكثير من وسائل الريجيم الحالية؟ ومسائل أخرى تتعلق بهذه المشكلة الهامة …
البدانة تعني زيادة عامة في دهون الجسم؛ حيث لا يستطيع جسم الإنسان أن يختزن البروتينيات والنشويات وبالتالي يختزن الزيادة منها على هيئة دهون. إذن نستطيع أن نقول: إن تناول غذاء به سعرات حرارية زيادة عن استهلاك الجسم من طاقة ينتج عنه تخزين هذه الزيادة على هيئة دهون وبالتالي يؤدي إلى البدانة.
قياس الوزن الزائد
أحدث وأيسر الطرق لحساب الوزن المثالي للجسم يسمى بمؤشر كتلة الجسم. ويتم ذلك عن طريق حساب وزن الشخص بالكيلوجرامات وقسمته على طوله بالمتر المربع. أي: الوزن (كيلوجرامات)/الطول (متر2).
إذا كان مؤشر كتلة الإنسان ما بين 20-25 كجم/م2 يعتبر في حدود الوزن المناسب لطوله.
أما إذا كان ما بين 25-29.9 كجم/م2 فيعتبر بدينًا نسبيًّا.
وإذا كان ما بين 30- 39.9 كجم/م2 فيعتبر شديد البدانة
وما كان بين 40- 49.9 كجم/م2 فيعتبر بدانة مرضية.
وحين يبلغ مؤشر بدانة الإنسان 27 كجم/م2 فإنه يعتبر أكثر عرضة للإصابة بالأمراض المصاحبة للبدانة وللوفاة منها، وبالتالي يعتبر هذا الرقم مؤشرًا لضرورة بداية العلاج من البدانة. أما إذا كان المؤشر ما بين 25-27 كجم/م2 فيعتبر ذلك علامة تحذير ربما ينبغي التدخل عنده خاصة إذا كان الشخص مريضًا بأمراض أخرى مثل زيادة ضغط الدم والسكر. وهكذا علمنا بكل بساطة من ينبغي عليه القيام بعمل ريجيم ومن ليس بحاجة إليه.
أسباب البدانة
أسباب البدانة ليست معروفة بشكل مؤكد، ولكنها غالبًا خليط من أسباب وراثية وتربوية واجتماعية وبيئية ونفسية واقتصادية وثقافية، وسنتعرض هنا لتلك الأسباب بشكل مبسط و سريع.
* العامل الوراثي: يلاحظ عامة أن الأب والأم البدينين ينجبان أطفالا بدناء في الغالب؛ حيث إن الطفل لأبوين بدينين عرضة لأن يكون بدينًا بنسبة 70% مقارنة بطفل لأبوين نحيفين؛ إذ تبلغ عرضته للبدانة 20% فقط. وربما يكون السبب في هذا العامل الذي يبدو عليه وراثيًّا هو تشابه أساليب التغذية بين الأهل والأبناء. ولكن من خلال عدة دراسات أجريت على الأطفال البدناء اتضح أن وزن الطفل يشابه عادة وزن الأب والأم الطبيعيين أكثر من الأسرة المتبنية له، كما أن عدة دراسات أجريت على التوائم قدرت تأثير العامل الوراثي على البدانة ما بين 5-50%.
وتأثير العامل الوراثي على البدانة لا يكون إلا من خلال زيادة في تناول السعرات الحرارية أو نقصان في استهلاك الطاقة، وذلك من خلال تفضيل الوجبات الدسمة أو تفضيل الحياة التي تتسم بقلة الحركة. ومع ذلك كله فبسبب زيادة البدانة عامة في العالم في الخمسين عامًا الماضية بالرغم من استقرار الوعاء الجيني gene pool فإنه يبدو أن التأثير الأكبر على البدانة يرجع إلى العوامل البيئية المختلفة.
* العوامل العرقية: بعض الشعوب تتسم بالبدانة أكثر من غيرها، كما أن توزيع الدهون بها تختلف أيضًا فمثلا لدى نساء منطقة البحر الأبيض المتوسط دهون في منطقة الوسط أكثر من مثيلاتها في أوروبا الشمالية، كما أن السود والأسبان بأمريكا الشمالية أكثر عرضة للبدانة من الأمريكان البيض. ويرجع السبب في هذا الاختلاف غالبًا إلى أسباب ثقافية ووراثية واقتصادية واجتماعية.
* العوامل الاقتصادية الاجتماعية: في الدول المتقدمة كلما زاد المستوى الاجتماعي الاقتصادي قلت نسبة البدانة، والأسباب في ذلك معقدة ربما ترجع إلى فوارق الوعي الصحي والمستوى التعليمي.
* العوامل النفسية: يتعامل بعض الناس مع الضغط النفسي بالزيادة في تناول الأطعمة، في حين يتعامل البعض الآخر معه بالتقليل في تناولها.(/1)
* أسباب طبية: تمثل هذه العوامل أقل نسبة في أسباب البدانة كما أن اكتشافها بسيط وعلاجها عن طريق الأدوية المناسبة يأتي بثماره سريعًا. أغلب الأمراض المسببة للبدانة تتعلق بعدم توازن هرمونات الجسم. فمثلا القصور في الغدة الدرقية يؤدي إلى نقص في معدل الأيض الأساسيbasal metabolic rate وبالتالي إلى البدانة. كما أن زيادة إفراز الغدة الكظرية (فوق الكلية) للكورتيكوستيرويد تتسبب فيما يعرف بمتلازمة كوشينج Cushing's syndrome التي تؤدي إلى زيادة تراكم الدهون في الجسم. بعض الأدوية أيضًا تتسبب في زيادة الوزن منها بطبيعة الحال الكورتيكوستيرويدات ومضادات الهستامين ومضادات الكآبة والمهدئات.
* العوامل الحركية: حيث لوحظ زيادة نسب البدانة لدى الأطفال في الدول المتقدمة، وأرجع السبب في ذلك إلى قلة الحركة بسبب زيادة الإقبال على مشاهدة التلفاز واللعب بألعاب الفيديو بشكل منهمك بدلا من قضاء أوقات الفراغ في الجري واللعب والرياضات المختلفة.
* أساليب غير سليمة في التغذية: ومع أننا ذكرنا هذا السبب في آخر الأسباب فإنه أهمها على الإطلاق، وهو ملخص للأسباب الأربعة الأولى. وبدلا من شرح ما يقوم به الناس من أخطاء في تناول الأطعمة سنشرح بعد قليل وسائل التغذية السليمة.
الآثار السلبية للبدانة
أهم من مشكلة المظهر الخارجي كسبب لإنقاص الوزن في حالة البدانة هي المشاكل الصحية الناتجة عنها؛ إذ إن البدانة مرتبطة بزيادة نسبة الكولسترول في الدم وزيادة ضغط الدم وبمرض السكر في الكبار (رجل في سن الأربعين من عمره يزيد معدل كتلة جسمه عن 35 كجم/م2 عرضة للإصابة بمرض السكر 77 مرة عن رجل في نفس السن يقل معدله عن 23كجم/م2) وبأمراض المرارة ومرض النقرس وبأمراض القلب وبعض أنواع السرطان (سرطانات الرحم وعنق الرحم والمبايض والمرارة والصدر في النساء وسرطان البروستاتة والقولون في الرجال) والتهاب مفاصل العظام الحاملة لوزن الإنسان، منذ عام 1985 والبدانة تعتبر من الأمراض المزمنة، وتعتبر ثاني أسباب الوفيات الممكن تلاشيها؛ إذ لا يسبقها في هذا المجال إلا التدخين.
أساليب لإنقاص الوزن
لدى بعض الناس قابلية مزمنة للبدانة وبالتالي يحتاجون إلى مراقبة أوزانهم مدى الحياة. تتم عملية إنقاص الوزن عادة عن طريق تقليل كمية السعرات الحرارية المتناولة أو الرياضة أو تغيير السلوك الغذائي أو الأدوية أو خليط من كل ما سبق، سواء كان ذلك تحت إشراف الطبيب أم لا. ومع أنه كثيرًا ما ينجح الفرد في إنقاص وزنه، ولكن ذلك يكون بشكل مؤقت؛ حيث يرجع إليه حوالي ثلثي الوزن المفقود بعد عام واحد، ويرجع الباقي كله بعد حوالي خمسة أعوام. كما أن الكثير من الناس لا يستطيع أن يستمر لإكمال كل البرنامج. وبالتالي ينصح قبل بداية أي برنامج من برامج إنقاص الوزن بدراسة المعلومات المتعلقة بفعالية البرنامج ودرجة أمانه على الصحة، وإذا لم تكن مثل هذه المعلومات متوفرة لا ينصح بتجربة هذا النوع من البرامج.
ويستخدم عادة مستويان اثنان من تقليل السعرات الحرارية.
* الأول هو تناول ما بين 1000-1500 سعر حراري في اليوم أي ما بين 12-15 كيلوكالوري لكل كيلوجرام من وزن الإنسان، ويسمى هذا بريجيم السعرات الحرارية القليلة.
* أما المستوى الثاني فهو ريجيم السعرات الحرارية القليلة جدًّا الذي يسمح بتناول 800 سعر حراري فقط في اليوم أي ما بين 6-10 كيلوكالوري لكل كيلوجرام من الوزن.
يتسم البرنامجان كلاهما بآثار سلبية على صحة الإنسان، كما أن أغلبية المشتركين بهما يرجع إليهم الوزن المنقوص كله بعد خمسة أعوام، أما الأدوية المستخدمة لإنقاص الوزن فتتضمن الأدوية التي تفقد الشهية والأدوية المسببة في زيادة الحرارة نتيجة لحرق الدهون وأدوية تمنع هضم أو امتصاص الطعام، وبصرف النظر عن تفاصيل هذه الأدوية التي قد يطول شرحها إلا أن أغلبها تتسم بالآثار الجانبية السيئة، كما أنها تتسبب في إنقاص محدود للوزن بالإضافة إلى رجوع الوزن المنقوص بعد مدة صغيرة من التوقف عن تناولها.
توجد أيضًا عدة وسائل جراحية تستخدم في حالة فشل الوسائل الأخرى، ومع أن هذه الوسائل قد تبدو غريبة كما أن مضارها ربما تكون أكثر من منافعها فإننا نذكرها هنا فقط على سبيل الذكر:
* ربط الفكين بحيث لا يستطيع الإنسان إلا تناول السوائل.
* عملية تدبيس المعدة من أجل تصغير حجمها حتى لا يستطيع الإنسان إلا تناول كمية محدودة من الطعام في المرة الواحدة.
* عملية شفط الدهون.
* عملية إزالة الدهون التي تتضمن إزالة الدهون الزائدة والجلد الزائد من منطقة وسط وأسفل البطن وشد عضلات البطن.
وسائل أخرى بدأت في الظهور تتضمن الإبر الصينية والتنويم المغناطيسي والكريمات والرقع التي تنقص الوزن كما يدّعون.
ما هي الطريقة المثلى لإنقاص الوزن؟(/2)
طبعًا وكما يعرف الجميع فإن الوقاية خير من العلاج، وتبدأ الوقاية هذه من بداية فطام الطفل من لبن أمه، فواقعيًّا نرى من الكثير من الأمهات التهافت على تغذية أطفالهن رغبة منهن في المحافظة على صحتهم. وذلك بتعويده على أسوأ العادات الغذائية من أكل ما بين الوجبات إلى عدم الاستغناء عن الحلويات. والطفل الذي يتربى على هذا السلوك الغذائي يجد نفسه واقعًا في مشكلة البدانة.
أما من وقع بالفعل في مشكلة البدانة غير المرضية فعلاجه المثالي عن طريق تغيير سلوكه الغذائي بشكل بطيء تدريجي؛ إذ إن تغيير العادات من الصعب، وهذا ما نحن بصدده. فأولا: يبدأ في تثبيت مواعيد وجباته بحيث لا يتخلف عن هذه المواعيد. ثم يغير ما يأكله بين الوجبات من أكلات غير مفيدة إلى قطع الخضار والفاكهة الصغيرة، ثم يبدأ في تنظيم الوجبة نفسها بحيث تحتوي على كميات مناسبة من المجموعات الغذائية المختلفة، ثم يبدأ في تقليل كميات الدهون الموجودة بالوجبة؛ إذ أثبتت الدراسات أن الدهون هي العامل الأهم في تسبيب البدانة وليست النشويات كما كان يعتقد من قبل، ولا بد أن ينوي الإنسان أن تكون هذه التغييرات لمدى الحياة، وليست فقط لفترة الريجيم. كما لا بد له أن يعلم نفسه كيف لا يأكل حتى يشبع كما يعلمنا النبي محمد صلي الله عليه وسلم، والى جانب كل هذا عليه أن يزيد من نشاطه البدني لاستهلاك طاقة أكبر عن طريق أي نوع من أنواع الرياضة ولو حتى المشي. يمكن للإنسان أيضًا أن يحتفظ بمذكرات لأنواع الأكل التي يأكلها وأوقات الأكل وأسبابه ليعين نفسه على تحليل المشكلة وإيجاد الحلول.(/3)
نزهة النظر في بيان أحكام السفر
د. نايف بن أحمد الحمد 21/5/1427
17/06/2006
- سبب تسميته سفراً
- حكم السفر
- رخص السفر
- آداب السفر
- السفر للخارج
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وبعد : فنظرا لحلول إجازة نهاية العام وقد تهيأ كثير من الناس للسفر ناسب ذلك الحديث عن بعض الأحكام المتعلقة بالسفر والمسافرين أُوردها مذكرا بها نفسي وإخواني سائلا المولى جل جلاله التوفيق والسداد فأقول مستعينا بالله تعالى :
سبب تسميته سفرا:
سُمِّي السفر سفرا لأنه يُسفر عن وجوه المسافرين وأخلاقهم فيظهر ما كان خافيا منها. ( لسان العرب 4/368، الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع 2/ 242 ) ويُروى ذلك عن أمير المؤمنين عمر - رضي الله عنه- (خلاصة البدر المنير 2/436) فتجد المرء تعرفه السنين الطوال ولم يُظْهِر لك من خُلقه إلا الحسنَ، وما أن تسافر معه بضعة أيام فتراه ليلا ونهارا وعند أكله وشربه ونومه ومعاملته إلا ويُظهر لك أمورا قد لا تسرك معرفتها، لذا كان أمير المؤمنين عمر -رضي الله عنه- إذا شهد عنده رجل لا يعرفه سأل عنه، ومما يسأل المزكي عنه : أسافرت معه ؟ فقد شهد شاهدان عنده فقال لهما : إني لا أعرفكما. ولا يضركما أن لا أعرفكما، ائتيا بمن يعرفكما . فأتيا برجل . فقال عمر : كيف تعرفهما ؟ قال : بالصلاح والأمانة . قال : هل كنت جارا لهما ؟ قال : لا . قال : هل صحبتهما في السفر الذي يسفر عن أخلاق الرجال ؟ قال : لا . قال : فأنت لا تعرفهما ائتيا بمن يعرفكما . رواه العقيلي في تاريخه، والخطيب في كفايته، والبيهيقي في سننه، وضعفه العقيلي، وقال : ما في الكتاب حديث في إسناده مجهول أحسن منه ا.هـ وصححه أبو علي ابن السكن . خلاصة البدر المنير 2/437 والتلخيص الحبير 4/197وقال صدقة بن محمد -رحمه الله تعالى-: يقال إن السفر ميزان القوم . رواه الخطيب في الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (1730) .
حكم السفر
السفر ينقسم إلى ثلاثة أقسام من ناحية الحكم الشرعي وهي :
الأول : سفر طاعة
كالسفر لأداء مناسك الحج، أو العمرة، أو الجهاد، أو صلة الرحم، أو زيارة مريض، ونحو ذلك عن أبي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم ( أَنَّ رَجُلًا زَارَ أَخًا له في قَرْيَةٍ أُخْرَى فَأَرْصَدَ الله له على مَدْرَجَتِهِ مَلَكًا فلما أتى عليه قال أَيْنَ تُرِيدُ ؟ قال : أُرِيدُ أَخًا لي في هذه الْقَرْيَةِ قال هل لك عليه من نِعْمَةٍ تَرُبُّهَا ؟ قال : لَا غير أنى أَحْبَبْتُهُ في اللَّهِ عز وجل، قال : فَإِنِّي رسول اللَّهِ إِلَيْكَ بِأَنَّ اللَّهَ قد أَحَبَّكَ كما أَحْبَبْتَهُ فيه ) رواه مسلم ( 2567) .
الثاني : سفر معصية
كالسفر لارتكاب المحرمات، أو سفر المرأة بدون محرم، أو شد الرحال لزيارة القبور، فعن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه يَبْلُغُ بِهِ النبي صلى الله عليه وسلم ( لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلا إلى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ مَسْجِدِي هذا وَمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِ الْأَقْصَى ) رواه البخاري ( 1132) ومسلم ( 1397) وعن ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ يقول ( لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إلا وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ ولا تُسَافِرْ الْمَرْأَةُ إلا مع ذِي مَحْرَمٍ ) َقَامَ رَجُلٌ فقال : يا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ امْرَأَتِي خَرَجَتْ حَاجَّةً وأني اكْتُتِبْتُ في غَزْوَةِ كَذَا وَكَذَا قال ( انْطَلِقْ فَحُجَّ مع امْرَأَتِكَ ) رواه مسلم (1341) .
الثالث : سفر مباح
كسفر التجارة والنزهة والسياحة البريئة والصيد وغيرها
قال الشافعي رحمه الله تعالى
تغرَّب عن الأوطان في طلب العلى *** وسافر ففي الأسفار خمس فوائد
تَفَرُّج همٍّ واكتسابُ معيشة *** وعلمٌ وآدابٌ وصحبةُ ماجد
(ديوان الشافعي /74 فيض القدير 4/82يتيمة الدهر 5/40)
وقال عروة بن الورد
فسِرْ في بلاد الله والْتمس الغنى *** تعش ذا يسار أو تموت فتُعذرا
( أمثال الحديث 1/93)
رخص السفر(/1)
عن أبي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال ( السَّفَرُ قِطْعَةٌ من الْعَذَابِ يَمْنَعُ أَحَدَكُمْ نَوْمَهُ وَطَعَامَهُ وَشَرَابَهُ فإذا قَضَى أحدكم نَهْمَتَهُ فَلْيُعَجِّلْ إلى أَهْلِهِ ) رواه البخاري ( 2839) ومسلم (1927) قال النووي رحمه الله تعالى " معناه يمنعه كمالها ولذيذها لما فيه من المشقة والتعب ومقاساة الحر والبرد والسري والخوف ومفارقة الأهل والأصحاب وخشونة العيش " ا.هـ شرح النووي على صحيح مسلم 13/70 مرقاة المفاتيح 7/414 وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى " السفر قطعة من العذاب أي جزء منه والمراد بالعذاب الألم الناشئ عن المشقة لما يحصل في الركوب والمشي من ترك المألوف ... نهمته بفتح النون وسكون الهاء أي حاجته .. وفي الحديث كراهة التغرب عن الأهل لغير حاجة واستحباب استعجال الرجوع ولا سيما مَن يخشى عليهم الضيعة بالغيبة ولما في الإقامة في الأهل من الراحة المعينة على صلاح الدين والدنيا ولما في الإقامة من تحصيل الجماعات والقوة على العبادة " ا.هـ فتح الباري 3/ 623 وانظر : عمدة القاري 10/138 تنوير الحوالك 2/249
وسئل إمام الحرمين حين جلس موضع أبيه لِمَ كان السفر قطعة من العذاب ؟ فأجاب على الفور : لأن فيه فراق الأحباب . شرح الزرقاني للموطأ 4/506
وقال ابن عبد البر رحمه الله تعالى " وفي هذا الحديث دليل على أن طول التغرب عن الأهل لغير حاجة وكيدة من دين أو دنيا لا يصلح ولا يجوز وأن من انقضت حاجته لزمه الاستعجال إلى أهله الذين يمونهم ويقوتهم مخافة ما يحدثه الله بعده فيهم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت) "ا.هـ التمهيد لابن عبد البر 22/ 36
قال عبد القادر بن أبي الفتح
إذا قيل في الأسفار خمس فوائد *** أقول : وخمس لا تُقاس بها بلوى
فتضييع أموال وحمل مشقة *** وهمٌّ وأنكاد وفُرقة مَن أهوى
( الضوء اللامع4/295 الموسوعة الشعرية/330)
ونظرا لتلك المشاق في السفر فقد رخص الشارع الحكيم للمسافر رخصا عديدة، وخفف عنه جملة من الأحكام منها :
أولا : قصر الصلاة الرباعية بحيث تصلى ركعتين قال تعالى [وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً] (النساء:101) وعن يعلي بن أُمَيَّةَ قال قلت لِعُمَرَ بن الْخَطَّابِ ( فليس عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا من الصَّلَاةِ إن خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا ) فَقَدْ أَمِنَ الناس . فقال : عَجِبْتُ مِمَّا عَجِبْتَ منه فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال ( صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ الله بها عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ ) رواه مسلم (686) .
ثانيا : الجمع بين الصلاتين
فيسن للمسافر إذا جدَّ به السير أن يجمع بين الظهر والعصر وكذا المغرب والعشاء جمع تقديم أو تأخير يفعل الأيسر عليه لحديث عبد اللَّهِ بن عُمَرَ رضي الله عنهما قال : رأيت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذا أَعْجَلَهُ السَّيْرُ في السَّفَرِ يُؤَخِّرُ الْمَغْرِبَ حتى يَجْمَعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعِشَاءِ . رواه البخاري ( 1041) ومسلم (703) وعن أَنَسِ بن مَالِكٍ رضي الله عنه قال كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ارْتَحَلَ قبل أَنْ تَزِيغَ الشَّمْسُ أَخَّرَ الظُّهْرَ إلى وَقْتِ الْعَصْرِ ثُمَّ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا وإذا زَاغَتْ صلى الظُّهْرَ ثُمَّ رَكِبَ . رواه البخاري ( 1060) ومسلم ( 704) وعن مُعَاذٍ رضي الله عنه قال : خَرَجْنَا مع رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في غَزْوَةِ تَبُوكَ فَكَانَ يُصَلِّي الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جميعا وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ جميعا . رواه مسلم ( 706) .
ثالثا : الفطر في رمضان
قال تعالى [ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ] (البقرة:184) وعن جَابِرِ بن عبد اللَّهِ رضي الله عنهما قال : كان رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في سَفَرٍ فَرَأَى رَجُلًا قد اجْتَمَعَ الناس عليه وقد ظُلِّلَ عليه فقال ( ماله ) ؟ قالوا : رَجُلٌ صَائِمٌ . فقال رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ( ليس من الْبِرِّ أَنْ تَصُومُوا في السَّفَرِ ) رواه مسلم ( 1115) وزاد في رواية أخرى ( عَلَيْكُمْ بِرُخْصَةِ اللَّهِ الذي رَخَّصَ لَكُمْ ) .
رابعا : زيادة مدة المسح على الخفين(/2)
عن شُرَيْحِ بن هَانِئٍ قال : أَتَيْتُ عَائِشَةَ أَسْأَلُهَا عن الْمَسْحِ على الْخُفَّيْنِ ؟ فقالت : عَلَيْكَ بِابْنِ أبي طَالِبٍ فَسَلْهُ فإنه كان يُسَافِرُ مع رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم . فَسَأَلْنَاهُ فقال : جَعَلَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهُنَّ لِلْمُسَافِرِ وَيَوْمًا وَلَيْلَةً لِلْمُقِيمِ . رواه مسلم (276) .
خامسا : عدم وجوب صلاة الجمعة على المسافر
لأن من شروط وجوب الجمعة الإقامة والمسافر ليس مقيما ولم يكن من هدي النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي الجمعة في سفره قال ابن عمر رضي الله عنهما : ليس للمسافر جمعة . رواه عبد الرزاق 3/172 وقد حكاه ابن عبد البر رحمه الله تعالى إجماعا . الاستذكار 2/36 وقال ابن تيمية رحمه الله تعالى " ولا صلى بهم في أسفاره صلاة جمعة يخطب ثم يصلي ركعتين بل كان يصلي يوم الجمعة في السفر ركعتين كما يصلي في سائر الأيام وكذلك لما صلى بهم الظهر و العصر بعرفة صلى ركعتين كصلاته في سائر الأيام و لم ينقل أحد أنه جهر بالقراءة يوم الجمعة في السفر لا بعرفة ولا بغيرها ولا أنه خطب بغير عرفة يوم الجمعة في السفر فعلم أن الصواب ما عليه سلف الأمة و جماهيرها من الأئمة الأربعة و غيرهم من أن المسافر لا يصلي جمعة " ا.هـ الفتاوى 17/480
فإن صلى المسافر الجمعة مع الإمام فإنه لا يجمع معها العصر لأن العصر إنما تُجمع مع الظهر لا الجمعة , والجمعة صلاة مستقلة لها أحكام خاصة فهي صلاة جهرية والظهر سرية , وهي ركعتان والظهر أربعا , وقبلها خطبتان والظهر لا خطبة قبلها , ووقتها يبدأ قبل الزوال بخلاف الظهر فلا يدخل وقتها إلا بعد الزوال وغير ذلك من الفروق ( انظر الشرح الممتع 4/582) أما إن صلى مع الإمام ونواها ظهرا مقصورة جاز له جمع العصر معها .
سادسا : التنفل على الراحلة
فيجوز للمسافر أن يصلي قيام الليل والوتر وصلاة الضحى وغيرها من النوافل داخل السيارة وهي تسير به أينما اتجهت لحديث سَعِيدِ بن يَسَارٍ قال : كنت أَسِيرُ مع عبد اللَّهِ بن عُمَرَ بِطَرِيقِ مَكَّةَ فقال سَعِيدٌ : فلما خَشِيتُ الصُّبْحَ نَزَلْتُ فَأَوْتَرْتُ ثُمَّ لَحِقْتُهُ فقال عبد اللَّهِ بن عُمَرَ : أَيْنَ كُنْتَ ؟ فقلت : خَشِيتُ الصُّبْحَ فَنَزَلْتُ فَأَوْتَرْتُ . فقال عبد اللَّهِ : أَلَيْسَ لك في رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أسوة حَسَنَةٌ ؟ فقلت : بَلَى والله . قال : فإن رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كان يُوتِرُ على الْبَعِيرِ . رواه البخاري (954) ومسلم (700)
وعن ابن عُمَرَ رضي الله عنهما قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي في السَّفَرِ على رَاحِلَتِهِ حَيْثُ تَوَجَّهَتْ بِهِ يُومِئُ إِيمَاءً صَلَاةَ اللَّيْلِ إلا الْفَرَائِضَ وَيُوتِرُ على رَاحِلَتِهِ .رواه البخاري ( 955) ومسلم(700) .
سابعا : ترك السنن الرواتب عدا سنة الفجر
عن حَفْصِ بن عَاصِمِ بن عُمَرَ بن الْخَطَّابِ قال : صَحِبْتُ ابن عُمَرَ في طَرِيقِ مَكَّةَ قال : فَصَلَّى لنا الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ أَقْبَلَ وَأَقْبَلْنَا معه حتى جاء رَحْلَهُ وَجَلَسَ وَجَلَسْنَا معه فَحَانَتْ منه الْتِفَاتَةٌ نحو حَيْثُ صلى فَرَأَى نَاسًا قِيَامًا فقال : ما يَصْنَعُ هَؤُلَاءِ ؟ قلت : يُسَبِّحُونَ . قال : لو كنت مُسَبِّحًا لَأَتْمَمْتُ صَلَاتِي يا بن أَخِي إني صَحِبْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في السَّفَرِ فلم يَزِدْ على رَكْعَتَيْنِ حتى قَبَضَهُ الله وَصَحِبْتُ أَبَا بَكْرٍ فلم يَزِدْ على رَكْعَتَيْنِ حتى قَبَضَهُ الله وَصَحِبْتُ عُمَرَ فلم يَزِدْ على رَكْعَتَيْنِ حتى قَبَضَهُ الله ثُمَّ صَحِبْتُ عُثْمَانَ فلم يَزِدْ على رَكْعَتَيْنِ حتى قَبَضَهُ الله وقد قال الله ( لقد كان لَكُمْ في رسول اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ).رواه مسلم (689) .
وهذه الرخص الفعلية والتركية ينبغي على المسافر المحافظة عليها لقوله صلى الله عليه وسلم ( عَلَيْكُمْ بِرُخْصَةِ اللَّهِ الذي رَخَّصَ لَكُمْ ) رواه مسلم (1115) من حديث جابر رضي الله عنه
وعَنِ ابن عُمَرَ رضي الله عنهما قال : قال رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ( إن اللَّهَ يُحِبُ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ كما يَكْرَهُ أَنْ تُؤْتَى مَعْصِيَتُهُ ) رواه أحمد (5866) قال المنذري رحمه الله تعالى : بإسناد صحيح . الترغيب والترهيب 2/87 وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه ) رواه ابن حبان ( 354) فإتيان الرخص الشرعية عبادة يغفل عنها كثير من الناس فيشقون على أنفسهم بتركها ظانين أن الأفضل تركها بينما الأفضل والأكمل والأكثر أجرا هو اتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم سفرا وحضرا عزيمة ورخصة , وهذه الرخص ذكر العلماء شروطا ثلاثة لجواز الترخص بها في السفر وهي :(/3)
الأول : أن يكون السفر مسافة قصر وهي أربعة برد ( انظر اختلاف العلماء للمروزي/45 الاستذكار 2/232 المغني 2/46 فتح الباري 2/566 ) وتعادل تسعة وثمانين كيلو متر على رأي كثير من العلماء لما رواه عطاء بن أبي رباح أن عبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم كانا يصليان ركعتين ركعتين ويفطران في أربعة برد فما فوق ذلك . رواه البيهقي 3/137 وقد جاء عن ابن عمر ما يخالف ذلك فقد قصر فيما دون هذه المسافة وللعلماء أقوال كثيرة في مسافة القصر قال ابن تيمية رحمه الله تعالى " ولم يحد النبي صلى الله عليه وسلم قط السفر بمسافة لا بريد ولا غير بريد ولا حدها بزمان " ا.هـ الفتاوى 24/127 وفي صحيح مسلم (691) عن يحيى بن يَزِيدَ الْهُنَائِيِّ قال : سَأَلْتُ أَنَسَ بن مَالِكٍ عن قَصْرِ الصَّلَاةِ ؟ فقال : كان رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذا خَرَجَ مَسِيرَةَ ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ أو ثَلَاثَةِ فَرَاسِخَ - شُعْبَةُ الشَّاكُّ - صلى رَكْعَتَيْنِ .
الثاني : مفارقة محل الإقامة
يظن كثير من المسافرين أن المسافر لا يحل له الترخص حتى يقطع مسافة القصر وهذا خلاف الصحيح بل للمسافر أن يترخص بتلك الرخص إذا تجاوز البنيان لحديث أَنَسِ رضي الله عنه قال صَلَّيْتُ الظُّهْرَ مع النبي صلى الله عليه وسلم بِالْمَدِينَةِ أَرْبَعًا والعصر بذي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ . رواه البخاري ( 1039) وعن علي بن ربيعة الأسدي قال : خرجنا مع علي رضي الله عنه ونحن ننظر إلى الكوفة فصلى ركعتين ثم رجع فصلى ركعتين وهو ينظر إلى القرية فقلنا له : ألا تصلي أربعا ؟ قال : حتى ندخلها . رواه البخاري 1/369 تعليقا ووصله عبد الرزاق (4321) قال الحافظ " إسناده صحيح " ا.هـ تغليق التعليق 2/421
الثالث : أن لا يكون السفر سفر معصية عند الجمهور
فهذه الرخص مشروعة لمن سفره سفر طاعة أو سفرا مباحا أما العاصي بسفره كقاطع الطريق فلا يترخص بها لأن الرخص لا تُناط بالمعاصي ومن ثم لا يستبيح العاصي بسفره شيئا من رخص السفر ( المجموع شرح المهذب 4/223 الأشباه والنظائر للسيوطي /95) وفي الإذن للعاصي بالترخص إعانة له على معصيته والعاصي لا يعان .
آداب السفر
للسفر آداب عديدة منها ما يكون قبله أو أثناءه أو قبيل الوصول أو بعد الوصول والعودة ومنها :
أولا : الاستخارة(/4)
فيشرع لمن يريد سفرا أو غيره مما له بال أن يصلي ركعتين ويدعو بدعاء الاستخارة الوارد في حديث جابر رضي الله عنه قال : كان رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُعَلِّمُنَا الِاسْتِخَارَةَ في الْأُمُورِ كما يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ من الْقُرْآنِ يقول ( إذا هَمَّ أحدكم بِالْأَمْرِ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ من غَيْرِ الْفَرِيضَةِ ثُمَّ لِيَقُلْ اللهم إني أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ وَأَسْأَلُكَ من فَضْلِكَ الْعَظِيمِ فَإِنَّكَ تَقْدِرُ ولا أَقْدِرُ وَتَعْلَمُ ولا أَعْلَمُ وَأَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ اللهم إن كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هذا الْأَمْرَ خَيْرٌ لي في دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي أو قال عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ فَاقْدُرْهُ لي وَيَسِّرْهُ لي ثُمَّ بَارِكْ لي فيه وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هذا الْأَمْرَ شَرٌّ لي في دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي أو قال في عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ فَاصْرِفْهُ عَنِّي وَاصْرِفْنِي عنه وَاقْدُرْ لي الْخَيْرَ حَيْثُ كان ثُمَّ أَرْضِنِي به ) قال ( وَيُسَمِّي حَاجَتَهُ ) رواه البخاري ( 1109) قال ابن أبي جمرة رحمه الله تعالى " هو عام أريد به الخصوص فإن الواجب والمستحب لا يستخار في فعلهما والحرام والمكروه لا يستخار في تركهما فانحصر الأمر في المباح وفي المستحب إذا تعارض منه أمران أيهما يبدأ به ويقتصر عليه " قال الحافظ ابن حجر معلقا " قلت وتدخل الاستخارة فيما عدا ذلك في الواجب والمستحب المخير وفيما كان زمنه موسعا ويتناول العمومُ العظيمَ من الأمور والحقير فرب حقير يترتب عليه الأمر العظيم " ا.هـ فتح الباري 11/ 184 قال العيني رحمه الله تعالى " فيه استحباب صلاة الاستخارة والدعاء المأثور بعدها في الأمور التي لا يدري العبد وجه الصواب فيها أما ما هو معروف خيره كالعبادات وصنائع المعروف فلا حاجة للاستخارة فيها نعم قد يستخار في الإتيان بالعبادة في وقت مخصوص كالحج مثلا في هذه السنة لاحتمال عدوٍّ أو فتنة أو حصر عن الحج وكذلك يحسن أن يستخار في النهي عن المنكر كشخص متمرد عاتٍ يخشى بنهيه حصول ضرر عظيم عام أو خاص " ا.هـ عمدة القاري 7/224 وقال ابن القيم رحمه الله تعالى " فعوض رسول الله أمته بهذا الدعاء عما كان عليه أهل الجاهلية من زجر الطير والاستقسام بالأزلام الذي نظيره هذه القرعة التي كان يفعلها إخوان المشركين يطلبون بها علم ما قسم لهم في الغيب ... والمقصود أن الاستخارة توكل على الله وتفويض إليه واستقسام بقدرته وعلمه وحسن اختياره لعبده وهي من لوازم الرضى به ربا الذي لا يذوق طعم الإيمان من لم يكن كذلك وإن رضي بالمقدور بعدها فذلك علامة سعادته " ا.هـ زاد المعاد 2/443-445
ثانيا : التوبة
وهي واجبة على كل مسلم ومسلمة إقامة وسفرا قال تعالى [وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] (النور:31) .
ثالثا : قضاء الدين
فجملة من الناس في هذا الزمان يستدين ويثقل كاهله بأموال كثيرة ليسافر ويتنزه بينما الواجب أداء الدين وإبراء الذمة منه لا زيادته فشأن الدين والتهاون بأدائه عظيم فالذي ينبغي على المسلم أن لا يستدين إلا لأمر يستدعي ذلك أما النزهة والسياحة فليست ضرورية ليستدان لأجلها فتجد الرجل يستدين مالا كثيرا للفسحة والنزهة ويمكث سنوات طوال يضيق على نفسه وعلى أهله النفقة بسبب ذلك فالعاقل لا يأخذ أموال الناس إلا عند الحاجة إليها يقول النبي صلى الله عليه وسلم ( مَن مات وعليه دين فليس ثمَّ دينار ولا درهم ولكنها الحسنات والسيئات ) رواه الحاكم 2/ 32وصححه وعن عبد اللَّهِ بن عَمْرِو رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال ( يُغْفَرُ لِلشَّهِيدِ كُلُّ ذَنْبٍ إلا الدَّيْنَ ) رواه مسلم (1886) قال النووي رحمه الله تعالى " ففيه تنبيه على جميع حقوق الآدميين وأن الجهاد والشهادة وغيرهما من أعمال البر لا يكفر حقوق الآدميين وإنما يكفر حقوق الله تعالى " ا.هـ شرح صحيح مسلم 13/29 والديباج على مسلم 4/477 تنوير الحوالك 1/307 وقال ابن عبد البر رحمه الله تعالى " وفيه دليل على أن أعمال البر المتقبلات لا يكفر من الذنوب إلا ما بين العبد وبين ربه فأما تبعات بني آدم فلا بد فيها من القصاص " ا.هـ التمهيد 23/232
وعن ثَوْبَانَ رضي الله عنه عَنِ النبي صلى الله عليه وسلم قال ( مَن فَارَقَ الرُّوحُ الْجَسَدَ وهو برئ من ثَلاَثٍ دخل الْجَنَّةَ الْكِبْرِ وَالدَّيْنِ وَالْغُلُولِ ) رواه أحمد (22423) والنسائي في الكبرى (8764) والحاكم2/34 وصححه .
رابعا : أن يترك المسافر نفقة لأهله(/5)
فنفقة الزوجة والأولاد واجبة على الزوج بلا نزاع فلا يحل له التفريط فيها وإنك لتعجب من بعض المسافرين الذين لا همَّ لهم سوى أنفسهم فتجد أحدهم يسافر للنزهة ناسيا بل متناسيا تلك الأمانة التي تحملها وهي حقوق زوجته وأولاده عليه فلا يترك لهم النفقة الكافية مدة سفره بل يتركهم عالة يسألون الناس بل إن بعضهم يبيع ذهب زوجته ظلما وعدوانا كي يسافر هو وزملاؤه عن عبد اللَّهِ بن عَمْرٍو رضي الله عنهما قال : قال رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ( كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ من يَقُوتُ ) رواه أحمد (6495) وأبو داود ( 1692) والنسائي في الكبرى (9177) وصححه ابن حبان (4240) والحاكم 1/575.
خامسا : أن لا يسافر المرء وحده
فمن سافر وحده خاصة للبلاد التي تنتشر فيها المحرمات فإنه عرضة للوقوع فيها لذا لابد من اختيار الصحبة الصالحة التي تعينه على الطاعة وتبعده عن مواطن الشبهات والشهوات عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( الراكب شيطان والراكبان شيطانان والثلاثة ركب )رواه مالك (1764) وأحمد (6748) وأبو داود (2607) والنسائي في الكبرى( 8849) والحاكم 2/212 ولفظه : أن رجلا قدم من سفر فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ( مَن صحبت ) ؟ فقال : ما صحبت أحدا . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( الراكب شيطان والراكبان شيطانان والثلاثة ركب ).
سادسا : توديع الأهل وخاصة الوالدين
فعلى كل مَن يريد السفر أن يستأذن والديه قبل سفره فإن أذنا سافر وإلا ترك السفر وبعض الشباب هداهم الله تعالى آخر من يخبر بسفره والداه بل أحيانا لا يخبرهم إلا بعد وصوله مكان سفره بأيام بينما تجده قد أخبر زملاءه وأصدقاءه قبل سفر بأيام ويسألهم ألكم حاجة في تلك البلدة بينما والداه آخر من يعلم بذلك وهذا نوع من العقوق المذموم عن مُعَاوِيَةَ بن جَاهِمَةَ أن جاهمة رضي الله عنه جاء إلى رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فقال يا رَسُولَ اللَّهِ أَرَدْتُ الْغَزْوَ وَجِئْتُكَ أَسْتَشِيرُكَ ؟ فقال ( هل لك من أُمٍّ ) ؟ قال : نعم . فقال ( الْزَمْهَا فإن الْجَنَّةَ عِنْدَ رِجْلِهَا ) ثُمَّ الثَّانِيَةَ ثُمَّ الثَّالِثَةَ في مَقَاعِدَ شَتَّى كَمِثْلِ هذا الْقَوْلِ . رواه أحمد (15577) والنسائي (3104)وصححه الحاكم 4/167 وعن عبد اللَّهِ بن عَمْرِو رضي الله عنهما قال : جاء رَجُلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم يُبَايِعُهُ قال : جِئْتُ لأُبَايِعَكَ على الْهِجْرَةِ وَتَرَكْتُ أبوي يَبْكِيَانِ . قال (فَارْجِعْ إِلَيْهِمَا فأضحكهما كما أَبْكَيْتَهُمَا ) رواه أحمد (6490) وأبو داود(2528) والنسائي (4163) وصححه ابن حبان ( 419) والحاكم 4/168 وعن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلًا هَاجَرَ إلى رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم من الْيَمَنِ فقال ( هل لك أَحَدٌ بِالْيَمَنِ ) ؟ قال : أَبَوَايَ قال ( أَذِنَا لك ) ؟قال : لَا . قال ( ارْجِعْ إِلَيْهِمَا فَاسْتَأْذِنْهُمَا فَإِنْ أَذِنَا لك فَجَاهِدْ وَإِلَّا فَبِرَّهُمَا ) رواه أبو داود (2530) وصححه ابن حبان (422) والحاكم 2/114 قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى " قال جمهور العلماء : يحرم الجهاد إذا منع الأبوان أو أحدهما بشرط أن يكونا مسلمين لأن برهما فرض عين عليه والجهاد فرض كفاية فإذا تعين الجهاد فلا إذن " ا.هـ فتح الباري 6/140فإذا كان الإذن واجبا في الجهاد الذي هو ذروة سنام الإسلام فكيف بسفر نزهة وسياحة .
أما كيفية التوديع فقد قال قَزَعَةُ : قال لي ابن عُمَرَ : هَلُمَّ أُوَدِّعْكَ كما وَدَّعَنِي رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ( أَسْتَوْدِعُ اللَّهَ دِينَكَ وَأَمَانَتَكَ وَخَوَاتِيمَ عَمَلِكَ ) رواه أحمد (4781) وأبو داود (2600) والنسائي في الكبرى(10360) وللحديث طرق أخرى .
سابعا : أن يقول دعاء السفر
وهو الوارد في حديث ابن عمر رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كان إذا اسْتَوَى على بَعِيرِهِ خَارِجًا إلى سَفَرٍ كَبَّرَ ثَلَاثًا ثُمَّ قال ( سُبْحَانَ الذي سَخَّرَ لنا هذا وما كنا له مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إلى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ اللهم إِنَّا نَسْأَلُكَ في سَفَرِنَا هذا الْبِرَّ وَالتَّقْوَى وَمِنْ الْعَمَلِ ما تَرْضَى اللهم هَوِّنْ عَلَيْنَا سَفَرَنَا هذا وَاطْوِ عَنَّا بُعْدَهُ اللهم أنت الصَّاحِبُ في السَّفَرِ وَالْخَلِيفَةُ في الْأَهْلِ اللهم إني أَعُوذُ بِكَ من وَعْثَاءِ السَّفَرِ وَكَآبَةِ الْمَنْظَرِ وَسُوءِ الْمُنْقَلَبِ في الْمَالِ وَالْأَهْلِ ) وإذا رَجَعَ قَالَهُنَّ وزاد فِيهِنَّ ( آيِبُونَ تَائِبُونَ عَابِدُونَ لِرَبِّنَا حَامِدُونَ ) رواه مسلم ( 1342) .
ثامنا : أن يخرج يوم الخميس(/6)
لحديث كَعْبِ بن مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم خَرَجَ يوم الْخَمِيسِ في غَزْوَةِ تَبُوكَ وكان يُحِبُّ أَنْ يَخْرُجَ يوم الْخَمِيسِ . رواه البخاري(2790)
تاسعا : أن يكبر إذا صعد مرتفعا ويسبح إذا هبط واديا
لحديث جَابِرٍ رضي الله عنه قال : كنا إذا صَعِدْنَا كَبَّرْنَا وإذا نزلنا سَبَّحْنَا . رواه البخاري (2832) وبوَّب له ( بَاب التَّسْبِيحِ إذا هَبَطَ وَادِيًا ) وبوَّب له ثانيا ( بَاب التَّكْبِيرِ إذا عَلَا شَرَفًا ) .
عاشرا : أن يكثر من الدعاء في السفر
فالسفر موطن من مواطن إجابة الدعاء فعلى المسافر استغلال هذه الفرصة بالدعاء له ولوالديه وذريته وذوي رحمه والمسلمين بدعوة لعلها توافق ساعة استجابة فيفوز بخيري الدنيا والآخرة فعن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال ( ثَلَاثُ دَعَوَاتٍ مُسْتَجَابَاتٌ لَا شَكَّ فِيهِنَّ دَعْوَةُ الْوَالِدِ وَدَعْوَةُ الْمُسَافِرِ وَدَعْوَةُ الْمَظْلُومِ ) رواه أحمد (7501) وأبو داود (1536) وصححه ابن حبان (6629) .
الحادي عشر : إذا كان المسافرون جماعة أمَّروا أحدهم وأطاعوه في غير معصية
عن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال ( إذا خَرَجَ ثَلَاثَةٌ في سَفَرٍ فَلْيُؤَمِّرُوا أَحَدَهُمْ ) رواه أبو داود ( 2608) قال النووي " بإسناد حسن " ا.هـ رياض الصالحين / 192ولا شك أن تأمير أحدهم مما يخفف النزاع أثناء السفر خاصة مع اختلاف الرغبات فتجد بعضهم يرغب الوقوف هنا أو هناك ويخالفه غيره فلا بد من أمير يُرجع إليه لرفع الخلاف .
الثاني عشر : التحلي بالصبر والأخلاق الحميدة أثناء السفر وغيره
إذا أنت صاحبت الرجال فكن فتى *** كأنك مملوك لكل رفيق
وكن مثل طعم الماء عذب وبارد *** على الكبد الحرى لكل صديق
(الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع 2/242 )
يُروى عن معاذ رضي الله عنه أنه قال : ( سافروا مع ذوي الجدود وذوي الميسرة لأن السفر يظهر خبايا الطبائع وكوامن الأخلاق وخفايا السجايا إذ الأبدان إذا تعبت ضعفت القوة المختلفة في القلة والكثرة لكون الطبائع تبعثها وتبين مقاديرها وزيادة بعضها ونقصان بعض فتظهر محاسن الأخلاق ومساوئها لأنها تميز الطبائع من القوة والقوى من الأحوال والسفر يأتي على مختلف الأهوية والأغذية فمن سافر مع أهل الجد والاحتشام يكلف رعاية الأدب وتحمل الأذى وموافقتهم بما يخالف طبعه فيكون ذلك تأديبا له ورياضة لنفسه فيتهذب لذلك ويهتدي إلى تجنب مساوىء الأخلاق واكتساب محاسنها وأما من سافر مع من دونه فكل من معه يحمل نفسه على موافقته ويتحمل المكاره لطاعته فتحسن أخلاقهم وربما يسوء خلقه فإن حسن الخلق في تحمل المكاره ) فيض القدير 4/82
قال أنس رضي الله عنه: ( خرجت مع جرير بن عبد الله في سفر فكان يخدمني وكان جرير أكبر من أنس ) رواه البخاري(2822)ومسلم(6380) وقال مجاهد : ( صحبت ابن عمر لأخدمه فكان يخدمني )رواه ابن أبي عاصم في الجهاد(210)وابن عساكر 60/15 .
الثالث عشر : الرجوع إلى الأهل بعد قضاء الحاج
عن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( السَّفَرُ قِطْعَةٌ من الْعَذَابِ يَمْنَعُ أَحَدَكُمْ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَنَوْمَهُ فإذا قَضَى نَهْمَتَهُ فَلْيُعَجِّلْ إلى أَهْلِهِ ) رواه البخاري (2839) ومسلم (1927) وقد سبق قريبا بيان معناه .
الرابع عشر : أن يأتي بالدعاء المأثور قبل دخول القرية أو المدينة
وهو ما جاء في حديث صهيب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير قرية يريد دخولها إلا قال حين يراها ( اللهم رب السماوات السبع وما أظللن ورب الأرضين السبع وما أقللن ورب الشياطين وما أضللن ورب الرياح وما ذرين فإنا نسألك خير هذه القرية وخير أهلها ونعوذ بك من شرها وشر أهلها وشر ما فيها ) رواه النسائي في عمل اليوم والليلة /367 وصححه ابن حبان (2709) وابن خزيمة (2565) والحاكم 1/614 وحسنه الحافظ ابن حجر كما ذكره ابن علان في الفتوحات 5/174
الخامس عشر : أن يبدأ بالمسجد إذا رجع(/7)
لحديث كَعْبَ بن مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّهُ لم يَتَخَلَّفْ عن رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في غَزْوَةٍ غَزَاهَا قَطُّ غير غَزْوَتَيْنِ غَزْوَةِ الْعُسْرَةِ وَغَزْوَةِ بَدْرٍ قال : فَأَجْمَعْتُ صدق رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ضُحًى وكان قَلَّمَا يَقْدَمُ من سَفَرٍ سَافَرَهُ إلا ضُحًى وكان يَبْدَأُ بِالْمَسْجِدِ فَيَرْكَعُ رَكْعَتَيْنِ . رواه البخاري ( 4400) ولحديث جَابِرَ بن عبد اللَّهِ رضي الله عنه قال : اشْتَرَى مِنِّي رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعِيرًا فلما قَدِمَ الْمَدِينَةَ أَمَرَنِي أَنْ آتِيَ الْمَسْجِدَ فَأُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ . رواه البخاري ( 2923) ومسلم (715) وهذه سنة من السنن المهجورة إذ قلَّ مَن يفعلها هذا الزمان فكأن هذه الصلاة شكر لله تعالى على سلامة الوصول وأن يبدأ إقامته بالصلاة التي هي صلة بين العبد وربه وهذه السنة والله تعالى أعلم خاصة بالرجال أما المرأة فإن صلت ركعتين في بيتها فلا بأس .
السادس عشر : أن لا يطرق أهله ليلا
عن أَنَسِ بن مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كان لَا يَطْرُقُ أَهْلَهُ لَيْلًا وكان يَأْتِيهِمْ غُدْوَةً أو عَشِيَّةً . رواه مسلم ( 1928) قال أهل اللغة : الطُروق بالضم المجيء بالليل من سفر أو من غيره على غفلة ويقال لكل آت بالليل طارق ولا يقال بالنهار . ( فتح الباري 9/340 شرح مسلم للنووي 13/71) وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم الحكمة من هذا النهي في حديث جَابِرِ بن عبد اللَّهِ رضي الله عنه قال كنا مع رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في غَزَاةٍ فلما قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ ذَهَبْنَا لِنَدْخُلَ فقال ( أَمْهِلُوا حتى نَدْخُلَ لَيْلًا - أَيْ عِشَاءً - كَيْ تَمْتَشِطَ الشَّعِثَةُ وَتَسْتَحِدَّ الْمُغِيبَةُ ) . رواه مسلم ( 715) ومن الحكم كذلك ما جاء في رواية أخرى عن جَابِرٍ رضي الله عنه قال : نهى رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَطْرُقَ الرَّجُلُ أَهْلَهُ لَيْلًا يَتَخَوَّنُهُمْ أو يَلْتَمِسُ عَثَرَاتِهِمْ . رواه مسلم (715) وفي هذا العصر توفرت وسائل الاتصال فعلى المسافر أن يخبر أهله بمجيئه قبل وصوله بوقت كاف وهذا خاص بالزوج والله تعالى أعلم .
السفر للخارج
نعيش في هذه البلاد المباركة في أمن وأمان وطمأنينة واستقرار والحمد لله وهذا بفضل الله تعالى أولا وبتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية امتثالا لأمره تعالى فقلَّ أن تجد منكرا ظاهرا وذلك لوجود رجال الحسبة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر والمدعومين من ولاة أمر هذه البلاد ونجد كثيرا من أبناء المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها تهفوا نفوسهم لزيارة هذه البلاد والإقامة فيها لما يجدونه فيها من خير في دينهم ودنياهم ولكن مع الأسف إنك لتعجب من أقوام لا همَّ لهم سوى السفر خارج البلاد إلى بلاد غربية وشرقية لا تكاد تجد للإسلام فيها أثرا والإقامة هناك مدة شهر أو شهرين وللسفر للخارج وخاصة البلاد غير الإسلامية مضار لا تخفى على أحد منها على سبيل المثال لا الحصر :
أولا : التعرض لكثير من المطاعن العقدية بكثرة طرح الشبه مع ضعف العلم وقلة السؤال مما قد يتسبب بتشكيك المرء ببعض المعتقدات الإسلامية .
ثانيا : ذهاب بعض المسافرين إلى الكهنة والعرافين والسحرة والمشعوذين وقراء الكف المأذون لهم بالعمل هناك جهارا نهارا وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم ( من أتى كَاهِناً أو عَرَّافاً فَصَدَّقَهُ بِمَا يقول فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ على مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ) رواه أحمد (9532) والدارمي (1139) وابن ماجه (639) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وصححه الحاكم 1/49 قال الحافظ ابن حجر : " وله شاهد من حديث جابر وعمران بن حصين أخرجهما البزار بسندين جيدين " ا.هـ فتح الباري 10/217 وعند مسلم (2230) عن بَعْضِ أَزْوَاجِ النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( من أتى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عن شَيْءٍ لم تُقْبَلْ له صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ) .
ثالثا : التهاون بأداء الصلاة
فالمؤمن قوي بإخونه فمتى ما بعد عنهم فقد يضعف ويتساهل بأداء الواجبات عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( ما مِن ثلاثة في قرية ولا بدو لا تقام فيهم الصلاة إلا قد استحوذ عليهم الشيطان فعليكم بالجماعة فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية ) رواه أحمد(21758) وأبو داود(547) والنسائي(847) وصححه ابن حبان (2101) وقال المراد بالجماعة جماعة الصلاة. والحديث حسنه النووي في رياض الصالحين 1/209(/8)
رابعا : إطلاق النظر وصعوبة غضه بسبب انتشار السفور وكشف العورات قال تعالى ( قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ) (النور:31) قال القرطبي –رحمه الله تعالى – في التفسير 12/227 : " وبدأ بالغض قبل الفرج لأن البصر رائد للقلب كما أن الحمى رائدة الموت "ا.هـ وقال النبي -صلى الله عليه وسلم - لعلي :( لا تتبع النظرة النظرة فإنما لك الأولى وليست لك الثانية ) رواه أحمد 5/351 وأبو داود (2149) والترمذي (2777) من حديث بريدة -رضي الله عنه- وصححه الحاكم 2/212 وقال الترمذي " حديث حسن غريب " ا.هـ وفي صحيح مسلم (2159) عن جرير بن عبد الله –رضي الله عنه- قال سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن نظرة الفجاءة ؟ فأمرني أن أصرف بصري .
خامسا : تساهل بعض المسافرين بدخول المراقص والملاهي التي يعصى فيها الرحمن وتدار فيها الخمور مع رقص الفاتنات، عن عُمَرَ بن الْخَطَّابِ -رضي الله عنه- قال : يا أَيُّهَا الناس إني سمعت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يقول ( مَن كان يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلاَ يَقْعُدَنَّ على مَائِدَةٍ يُدَارُ عليها بِالْخَمْرِ ) رواه أحمد (125) وأبو يعلى (251) بإسناد ضعيف ورواه الترمذي والحاكم من رواية جابر -رضي الله عنه- قال الترمذي : حسن غريب . وقال الحاكم : صحيح على شرط مسلم . وصححه الألباني رحمه الله تعالى في الإرواء(1949) .
سادسا : سهولة الحصول على المخدرات خاصة أن بعض الدول تأذن ببيعها في أماكن خاصة وفي ذلك ما فيه من الأضرار البالغة .
وغير ذلك من الأضرار التي لا تخفى على أحد وفي بلادنا -والحمد لله- أطهر بقعتين في العالم كله، مكة والمدينة كما أن فيها من الأماكن الجميلة والباردة، والبحار والرمال، ما يغني عن السفر خارج البلاد وقد ذكر العلامة ابن عثيمين -رحمه الله تعالى- أنه يشترط لجواز السفر للخارج شروطا :
1/ أن يكون عند المسافر علم يدفع به الشبهات .
2/ أن يكون عنده ورع يدفع به الشهوات .
3/ أن يكون محتاجا إلى ذلك .
4/ المحافظة على شعائر الدين .
والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(/9)
نزول سوق الأسهم دروس وعبر
د. عبدالله بن عبدالعزيز الزايدي 16/2/1427
16/03/2006
إن الأحداث التي تمر بالمسلم ينبغي أن تدفعه للاعتبار والاتعاظ، لا أن يكون ممن لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون .
ومن الدروس المستفادة مما وقع من نزول كبير في سوق الأسهم السعودية:
أولاً: أن هذا من الابتلاء، ودليل على أن الدنيا دار كبد، وأنها ليست دار سعادة حقيقية. وأن السعادة الحقة في الآخرة التي لاخوف فيها ولاهم فيها ولايحزنون.
فأهل الجنة يقولون: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ)
المسلم العاقل ينبغي أن يعمل لهذه الدار التي هي دار النعيم المقيم. ولاتلهه العاجلة عن الدار الآخرة .
ثانياً: أن حب المال الزائد عن الحد الطبيعي يشقي الإنسان، بينما هو يبحث عن السعادة، لاسيما حين يصل الحد في الولع بالمال إلى عبادته، فحينئذ تكون التعاسة نتيجة حتمية لهذه العبودية المذلة. ومن صور عبودية المال منع الحقوق الواجبة فيه كالنفقة الواجبة ومنع الزكاة، والانشغال بأمر المال على حساب عبادة الله كالصلاة والذكر الواجب. قال صلى الله عليه وسلم: "تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار.." ومن الملاحظات التي سجلها بعض العاملين في القطاعات الخيرية، ملاحظة جديرة بالوقوف عندها، وهي أن ارتفاع أسعار الأسهم يرافقه قلة التبرعات للهيئات الخيرية، لانكباب الناس على البحث عن المكاسب الدنوية العاجلة، وإعراضهم عما يدخرونه لأنفسهم في الآخرة .
ومن صور العبودية أن يكون فقدان المال أوبعضه سبباً في الهلع والجزع إلى حد المرض أو الموت عياذاً بالله من ذلك .
وأسوأ من ذلك أن يدفع حب المال والأسى على فقده إلى الاعتداء على حياة الآخرين أو أموالهم، كما حصل من بعض المواطنين إثر الانخفاض
الكبير في أسعار الأسهم.
ثالثاً: أن الذي تساهل في المحرمات الصريحة كأسهم البنوك الربوية، أو المشتبهة كأسهم الشركات المختلطة هو من أعظم الناس مصيبة وخسارة، إذ إنه جمع بين معصيته لله تعالى، أو التساهل بالشبهات مع خسارة الدنيا؛ فنعوذ بالله من الخسران المبين .
رابعاً: أن الإنسان لايعلم الخير أين يكون مهما كان حاذقاً ذكياً، فكم من شخص خسر وهو من كبار المضاربين، فينبغي ألاّ يغتر الإنسان بنفسه، وألاّ يُعجب بماله، وأن يحرص على الصدقة والإنفاق ليكون ذلك ذخراً له عند الله، وسبباً لحفظ ماله من الآفات.
خامساً: أن كثيرين ممن ابتلوا بالولع بالأسهم وارتكبوا من الأخطاء الكثير في سبيلها، كالتفريط في عملهم الأساسي إن كان لديهم أعمال، كموظف ضعف أداؤه لعمله، أو مدرس أهمل التحضير لدروسه وتجديد معلوماته، أو نحو ذلك هم أكثر الناس شعوراً بالشقاء والألم لماحدث؛ لأنهم يُعاقبون على تفريطهم وأكلهم المال بالباطل. كما يشعرون -ولو أحياناً- بتأنيب الضمير على تفريطهم .
سادساً: أن الخير للوطن وللمصلحة العامة قد يكون في هذا التحول؛ إذ إن ترك الناس عموماً والتجار والصناع خصوصاً للإنتاج وإقامة المشاريع النافعة زراعياً وصناعياً وعمرانياً، وتحوّلهم للمضاربات الخيالية في سوق الأسهم يضر بمستقبل البلاد، ويعرّض اقتصاده لمشكلات كثيرة كنقص الوحدات السكنية، والارتفاع الشديد في أسعار المساكن، وارتفاع أسعار السلع المصنعة؛ نظراً لابتعاد الناس عن العمران، و فتح المصانع، وإقامة المعامل، وتحوّل رؤوس الأموال للمضاربات التي لامصلحة حقيقية للوطن فيها.
فتأثير سوق الأسهم على الإنتاج الوطني والاقتصاد كان أثرا سيئاً؛ لقد ضعفت حركة البناء والإعمار التي توفر السكن؛ مما ينذر بغلاء فاحش في المستقبل للوحدات السكنية والإيجار، وبدأنا نلمس شيئاً من ذلك بوضوح.
حركة الإنتاج الزراعي ضعفت، وبدأت المزارع تقف ولاتزداد عدداً ولاحجماً يوازي زيادة عدد السكان المضطردة؛ مما سيجعلنا دولة مستوردة بشكل أكبر لضرورات حياتنا.
المشاريع المنتجة والمصانع لم نعد نسمع عنها جديداً؟
فعسى أن يكون ما حدث في هذا السوق معيداً لتوازن الاقتصاد، واستقراره المعهود، والله عزوجل يقول: (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لكم) فإن ساحة الأسهم سابحة في الفضاء بلا أساس اقتصادي ولا مقياس علمي، هي طائرة بدفع موجة هواء ساخنة, وعاصفة هوجاء داكنة, سرعان ما تهدأ وتميل إلى السكون؛ فأسعار الأسهم التي تطورت خلال عامين إلى عشرات الأضعاف انخفضت بوتيرة متسارعة.
وذلك لأن كثيراً منها يمثل مؤسسات وشركات خاسرة، لم تقدم للمساهمين أرباحاً على القيمة الدفترية للسهم لعدة أعوام! و بعضها لم يقدم أي ربح للمساهمين قط منذ نشوء تلك الأسهم حتى يومنا! ومع ذلك فإن أسهم هذه الشركات الخاسرة دخلت في السوق، وارتفعت ارتفاعاً خيالياً في بعض الأحيان، فواقع السوق يؤكد أنه مجرد مضاربات زادت كبار المضاربين غنى، وأفقرت المساكين وذوي الدخل المحدود الذين دخلوا السوق أملاً في الغنى.(/1)
سابعاً: أن كثيراً من الرجال والنساء قد فرّطوا في بيوتهم، وانشغلوا عن واجباتهم الأسرية بالأسهم إلى حد أن يصل الأمر إلى فوضى داخل الأسرة، وحدوث إشكالات كثيرة، ونزاعات خطيرة بين الزوج والزوجة بسبب الأسهم. فلعل هذا النزول يعيد إليهم شيئاً من توازنهم، ويدفعهم إلى العودة للعناية بمسؤولياتهم.(/2)
نزول عيسى عليه السلام وحسن الترابي
د. عبد الله الزبير عبد الرحمن*
الحمد لله رب العالمين هدانا إلى خير دين وعصمنا بكتاب مبين لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد .. والصلاة والسلام على رسولنا الحبيب الكريم الأمين بلغنا الرسالة وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلاّ هالك.
أما بعد:
فهذه سطور أسجلها لا للرد على د. حسن الترابي وإنما لتبيين المسألة التي تعرض لها بالإنكار والرفض ، قضية " نزول عيسى عليه السلام " ، للناس ، ولم أكن راداً عليه لهوى ذاتي أو لنصرة حزبية أو رداً سياسياً ، بل سأسعى بقدر الإمكان أن يكون ردّي موضوعياً إلاّ فيما يقتضيه المقام من الجرعات المناسبة ، ولن أنطلق بقصد التشفي أو الانتقاص، راجياً أن يجعلها الله سطوراً نافعة هادية تدعو إلى الخير وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر .
حقيقة الترابي العلمية أنه: يتبنى الضعيف من الأقوال .. يعتمد الشاذ من الآراء .. غير محقق ولا مدقق ، فهو متروك.. ما يتبناه من الآراء يعجز عن الدفاع عنها أو إعمالها.. يتبع المتشابه غالباً .. مولع بالمخالفة للأئمة والعلماء.. منتقص من قدر أهل العلم والفضل.. يجتهد فيما حقه النقل والسمع ليس بمجتهد بأي حال ، بل هو مقلد ضعيف لأنه يقلد أصحاب الآراء الشاذة والأقوال الضعيفة وما نبذه العلماء
الترابي وحقيقته العلمية:
في كل فترة يشعر فيها الدكتور الترابي ـ هداه الله ـ أنه بحاجة إلى لفت أنظار الناس إليه، أو مماراة أهل العلم؛ يطلق مسألة من المسائل التي استقر أمر الناس فيها بغير ما استقر، موحياً أنه جاء بجديد أو تجديد فيها أو وصل إلى حكم منفرد ، حتى يظن به ـ كما هو حال الكثيرين فعلاً ـ أنه مجتهد مطلق لا يجاريه عالم ولا إمام ولا يدانيه فقيه همام ، وليس الأمر كما يُظَنّ ، بل إنّ الدكتور الترابي ـ هداه الله ـ مقلّد من أبعد المقلدين عن الاجتهاد ، ودليلي على ذلك لا يخفى على أهل العلم والتحقيق من طلبته والباحثين فيه .
ـ فهو على كثرة ما يذكر أنه قارئ متمعن مكثر يقرأ بعين تفتش فقط مواطن الشبهة في الدين وما لا دليل عليه ، وهذا حال أهل الزيغ والقلوب المفرطة في حب المتشابه والله تعالى يقول : ( هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات ، فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله ) [ آل عمران، 7]. فإنه لا يفتأ في كل فترة يقذف بمسألة من المتشابهات التي في محكمات الدين الغناء عنها وزيادة، وحاجة الأمة لمثلها حاجة لا تعتبر في ميزان التدين لا إصلاحاً ولا إفساداً ، ومن ذلك مسألة نزول عيسى اتباعاً لمتشابه ( إني متوفيك ).
ـ وهو الذي يسلك سبيلاً غير سبيل أهل الرشد من العلماء والفقهاء ليجد دليلاً على رأيه يقوي موقفه فينسج من خياله استدلالاً أو يؤلف من عنده شيئاً يبرر له ترجيح ضعيف الرأي وواهن القول، كما صنع في مسألة الردة مدعياً أنّ المرتد لا يقتل فلما وُوجه بالحديث الصحيح ( من بدل دينه فاقتلوه ) أنشأ له سبباً لورود الحديث من عند نفسه لم يُرو ولم ينقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه .
ـ وهو الذي دائماً نجده يتبنّى الآراء الشاذة التي مجها العلماء ونبذوها في ترجيحاتهم ولفظوها في الفتوى والعمل، لما رأوا أنها لا دليل عليها ولا نفع في إقرارها وإعمالها ، كالذي أثاره في ندوة بورتسودان عن إمامة المرأة ، وهو رأي شاذ قد نصّ العلماء على شذوذه ونصّ عليه الإمام ابن رشد في بداية المجتهد أنه رأي شاذ شذّ به أبو ثور وابن جرير. فهل هذا سبيل أهل العلم أن يحرص أحدهم على انتقاء الآراء الشاذة دائماً ؟ أم أن سبيل أهل الاجتهاد الاعتماد أبداً على ضعيف الأقوال؟.
ـ ود.الترابي هو الذي يتبنى الأقوال الفقهية التي لا يقدر على الدفاع عنها ولا تنزيلها إذا مكنه الله، فرأيه الذي بثه في الخاصة حيناً طويلاً ثم أعلنه وصرح به في أن المرتد لا يقتل ، ما استطاع أن يدافع عنه عند وضع القانون الجنائي لسنة 91م وهو يومئذ شيخ لجان الصياغة ويده متطاولة بالتعديل والتغيير والتبديل بما يرى ، بل ربما كان حينه النائب العام أو وزير العدل ، كما عجز عن الدفاع عن محمود محمد طه حين حوكم بالردة وقتل بها .
ـ ود. الترابي هو الذي يفتي من غير تحقيق ، ومثل هذا لو كان من أهل العلم أو الفقه أو الرواية يجب أن يترك فحقه إذن أن يكون من المتروكين في الفقه وعلم الشريعة، لأنه لا يتحقق من الآراء والأقوال ويُسر كلما وجد قولاً ولو كان غير مقول به نقلاً موضوعاً أو نقلاً ضعيفاً . ومن أجل هذا أفتى بعدم قتل المرتد وشاتم النبي صلى الله عليه وسلم ومؤذيه والطاعن فيه المجاهر بذلك اعتماداً على ما روي عن النخعي ، لكنه لو كان من المحققين لعلم أن الرواية عن النخعي ضعيفة وأنه قائل مع الأئمة بقتل المرتد .(/1)
ـ ود. الترابي هو الذي يطير فرحاً كلما وجد سبيلاً لمخالفة العلماء ، لأنه ما وجد حيلة إلاّ ونال منهم واتهمهم بالجمود وحقر بهم واستصغر شأنهم وتفه الحاجة إليهم في المجتمع بل وسبهم جهاراً ومن المحفوظ عنه في مجالسه ومنابره:"علماء الحيض والنفاس".."ديل بلما وليسوا علماء" وغير ذلك من الألفاظ النابية في حق العلماء وهم أهل فضل وبالطبع لا يعرف الفضل لأهل الفضل إلاّ أولوا الفضل. فحتى يخالف العلماء الذي لا يحبهم وينتقص من قدرهم إذا وجد قولاً مخالفاً لقولهم استمسك بها استمساك الغريق بقشة لا تنجيه وما أنجته من الغرق في بحور المؤاخذة والملامة.
وعلى هذا: فحقيقة الترابي العلمية أنه:
1- يتبنى الضعيف من الأقوال ..
2- يعتمد الشاذ من الآراء ..
3- غير محقق ولا مدقق ، فهو متروك..
4- ما يتبناه من الآراء يعجز عن الدفاع عنها أو إعمالها..
5- يتبع المتشابه غالباً ..
6- مولع بالمخالفة للأئمة والعلماء..
7- منتقص من قدر أهل العلم والفضل..
8- يجتهد فيما حقه النقل والسمع من أسباب النزول وأسباب الورود ، فهو نسج خيال وهو الرأي المأفون والاجتهاد المذموم باتفاق علماء الملة .
9- ليس بمجتهد بأي حال ، بل هو مقلد ضعيف لأنه يقلد أصحاب الآراء الشاذة والأقوال الضعيفة وما نبذه العلماء وما لا قائل له من الآراء، وهذا لا يمكن أن يكون مجتهداً وليس من المقلدين ، لأن المقلد دائماً يقلد رأي إمام أو رأي الجماهير أو الرأي الراجح أو المعتمد وهكذا، ولذلك فهو في أدنى مراتب التقليد ، والمعذرة فلست مبتغياً الانتقاص منه بقدر ما أريد بيان حقيقته لا أكثر. فكل ما قال به الترابي لم ينفرد فيه بقول، بل يتخيره مما قيل من قبل من غير إسناد أو نقل، فياليته يتخير الآراء القوية والأقوال المقبولة ويا ليته وافق بتخيره الأئمة وجمهور العلماء.
الترابي ونزول عيسى عليه السلام :
ما ذكره د.الترابي ـ هداه الله ـ عن نزول عيسى في ندوة بورسودان ـ كما تناقلته الصحف اليومية ـ على ذات نهج الترابي لم يغير حاله ولا نهجه :
ـ فقد اعتمد المتشابه ..
ـ واستند إلى ضعيف الأقوال ..
ـ وتبنى ما لا تحقيق فيه ..
ـ وردّ الأدلة الصحيحة الصريحة ..
ـ ونسج بخياله ضعف الأحاديث النبوية الواردة في المسألة، وهي متواترة ..
ـ ومال إلى المخالفة ..
ـ وغير ذلك مما تقرر في حقيقته العلمية.
وسأبين لا للترابي لأنه غالب الظن أنه لن ينتفع به، ولكن غرضي بيان ما في ذلك من علم بيّنٍ مستقر ، وذلك في الفقرات الآتية:
1/ ماذا نجني من إثارة هذه المسألة وإنكارها؟:
لن نجني كثير منفعة للأمة ولا للملة بإثارة هذه المسألة بالإنكار والرفض ، بقدر ما سنجني شيئاً ن الخير والمصلحة الدينية بتثبيته ، ليُعلم أن العاقبة للمتقين ، وأن الأرض سيرثها عباد الله الصالحون ، وأن الأنبياء كلهم على ملة الإسلام وأنه لا يسع أحدهم لو بعث إلاّ اتباع محمد صلى الله عليه وسلم ، وغير ذلك من المنافع الدينية والعقدية وعقد الآمال الصحاح وتثبيت الإيمان بصحة الملة وأنها دين النبيين أجمعين وأن الدين عند الله الإسلام .
أما إنكار نزول عيسى عليه السلام ففيه من المفاسد العظام أقلها إنكار ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة الصريحة المتواترة ، وإفشاء الجرأة في إنكار سنن المصطفى صلى الله عليه وسلم مفسدة في الدين بل قطع لرأسه وإلغاء لمصادره كلها ، إذ القرآن متواتر فيحق لهؤلاء ومذهبهم رد القرآن وتضعيفه كما ضعفت الأحاديث المتواترة، وكفى بذلك ضلالاً وبعداً.
2/ على رأي مَنْ من العلماء كان الترابي؟ :
نقل غير واحد الاتفاق والإجماع عن أهل السنة والجماعة في أن عيسى عليه السلام حيّ في السماء وأنه سينزل ، وقد نقل الإمام الثعالبي في تفسيرة الإجماع على ذلك فقال : " أجمعت الأمة على ما تضمنه الحديث المتواتر من أن عيسى عليه السلام في السماء حي وأنه ينزل في آخر الزمان فيقتل الخنزير ويكسر الصليب ويقتل الدجال ويفيض العدل ويظهر هذه الملة ملة محمد صلى الله عليه وسلم " أهـ المراد ، ( تفسير الثعالبي 1/272).
بل إن عقيدة نزول عيسى من العقائد المشتركة بيننا وبين أهل الكتاب من اليهود والنصارى ، فهم الآن يستعدون لنزول عيسى ويتخذون التدابير لذلك ، وما شنهم للحروب اليوم إلاّ تحقيقاً لنظرية هرمجدون التي تؤكد نزول عيسى وأنهم سيقاتلون الفئة الكافرة معه وغير ذلك ، فيتخذون لذلك كل السبل لاستقبال عيسى على أنه قد أوشك زمان نزوله.
إذنْ: من المخالف ؟ ومن الذي أنكر نزول عيسى عليه السلام في الأمة ؟
يقول الإمام النووي رحمه الله في شرحه لصحيح مسلم : " وأنكر ذلك ـ أي نزول عيسى ـ بعض المعتزلة والجهمية ومن وافقهم ، وزعموا أن هذه الأحاديث مردودة بقوله تعالى ( وخاتم النبيين ) وبقوله صلى الله عليه وسلم : ( لا نبي بعدي )..." ( شرح النووي، 18/278).(/2)
فإنكار نزول عيسى هو قول بعض المعتزلة والجهمية ومن وافقهم ، ولا شك أن الترابي ممن وافقهم بل وأدلتهم هي أدلته ، فعرفنا أن الترابي مقلد للجهمية وبعض المعتزلة ، فلا يستحق من أحد أن يسمع له، ولا يستحق حتى رتبة التقليد لسوء ما قلد ومن قلد.
3/ شبهات الترابي في إنكار نزول عيسى عليه السلام :
ساق الترابي ذات الشبهات التي ساقها الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم وهي تتلخص في ثلاث آيات، وحديث ( لا نبيّ بعدي) وردّ الأحاديث الواردة في نزول عيسى عليه السلام. وسأدفعها واحداً واحداً .
الشبهة الأولى:
قوله تعالى ( إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إليّ ومطهرك من الذين كفروا ) . واعتمادهم على قوله ( إني متوفيك ). والتوفي يطلق على ثلاثة معان كلها من إطلاقات القرآن ، فالتوفي بمعنى الإماتة، والتوفي بمعنى النوم كما في قوله تعالى ( وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ) ، والتوفي بمعنى الحيازة والقبض من غير نقص ، كما في قوله تعالى ( ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون ) . والترجيح لغير توفي الموت بالآتي:
1- ما عليه جماهير المفسرين ، فقد رجح أن عيسى حي لم يمت في تفسير هذه الآية من أصحاب التفسير: شيخ المفسرين الطبري ، وصححه القرطبي ، وابن كثير، والرازي، وابن عطية ، وأبو السعود، والزمخشري، والبيضاوي، والبغوي، والثعالبي، والسعدي، والسمرقندي والنسفي والواحدي والألوسي وابن الجوزي والشوكاني والعز بن عبد السلام في تفسيره والشنقيطي في أضواء البيان وابن القيم في دقائق التفسير وابن تيمية في مجموعه. ومن أئمة التفسير من الصحابة والتابعين لهم بإحسان: ابن عباس في الصحيح عنه، والحسن بن علي والحسن البصري وقتادة ومطر الوراق وكعب الأحبار وسعيد بن المسيب وابن جريج والكلبي ومقاتل بن سليمان والربيع بن أنس والضحاك والحسين بن الفضل وثابت البناني وابن زيد والسدي . فمن يا ترى أولى بالاتباع والموافقة؟ هذه الجمهرة من خيار الأمة وأئمتها؟ أم من خالفهم ووافق الجهمية والمعتزلة؟.
2- أن ما روي عن ابن عباس رضي الله عنه في أنه توفي موت مجاب بثلاثة وجوه:
i. أ- أنها ضعيفة لأنها رواية علي بن طلحة .
ii. ب - أن مراده كمراد وهب بن منبه أن عيسى عليه السلام توفاه الله وفاة موت ثلاث ساعات ثم أحياه لينزل إلى الأرض في آخر الزمان. لأن ابن عباس ممن قال فيما صحّ عنه بنزول عيسى وأنه حي في السماء وذلك في تفسير قوله تعالى ( وإنه لعلم للساعة ) وسيأتي إن شاء الله.
iii. ج- أنه توفي موت ولكن بتقديم وتأخير أنه رفعه وطهره ثم يتوفاه بعد نزوله في الأرض.
3- أن من المعلوم بالضرورة أن السنة مفسرة للقرآن وموضحة لمشكله ومبينة لمجملة ومخصصة لعمومه ومقيدة لمطلقه ، فالآية تفسرها السنة الصحيحة بل المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن عيسى لم يمت وأنه سينزل في آخر الزمان، وليس بعد بيان النبي صلى الله عليه وسلم من بيان ولا بعد قول رسولنا الكريم من قول وكفى به وألزم.
الشبهة الثانية:
قوله تعالى ( فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم ) والجواب عليها: أن قوله عليه السلام ( فلما توفيتني) هو قوله يوم القيامة ، ولا شك أن يموت قبل يوم القيامة ، فإخباره يوم القيامة لا يدل على أنه الآن قد مات، فلا دليل في الآية على موته الآن البتة. وواضح أنه شبهة لا تنطلي على أحد ذي علم قليل.
الشبهتان الثالثة والرابعة :
قوله تعالى( ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين ) [الأحزاب]. وهذه الشبهة تشابه الشبهة الرابعة وهي حديث ( لا نبي بعدي) فندفعهما معاً بثلاثة أمور:
الأول: أن عيسى عليه السلام لن ينزل بملة جديدة أو رسالة أخرى أو يقيم الإنجيل شرعة ومنهاجاً ، بل الصحيح ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عيسى عليه السلام سينزل إماماً حكماً عدلاً مقسطاً على ملة الإسلام ، ولا إشكال في هذا ولا انتقاص من قدر عيسى عليه السلام .
الثاني: أن الله تعالى أخذ ميثاق النبيين أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ويتبعوه فقال تعالى ( وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقرنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين ) [ آل عمران،81) قال علي بن أبي طالب وابن عباس رضي الله عنهم : " ما بعث الله نبياً من الأنبياء إلاّ أخذ عليه الميثاق لئن بعث محمداً صلى الله عليه وسلم وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه " [ تفسير ابن كثير 1/357].(/3)
الثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن موسى لو كان حياً لما وسعه إلاّ أن يتبعه كما في حديث أحمد عن جابر ( والذي نفسي بيده لو أن موسى كان حياً ما وسعه إلاّ أن يتبعني) وقال الحافظ ابن حجر فيه : رجاله موثوقون. [ أحمد 3/387 . ابن أبي شيبة 5/312 ، أضواء البيان3/331ـ332، ابن كثير1/357]. فأين الإشكال في هذا مع كونه صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين وقوله ( لا نبي بعدي ) فلا تعارض بين نزول عيسى عليه السلام وختم النبوة بمحمد صلى الله عليه وسلم ، فاندفع الإشكال فليس لهم بعده للتشكيك مجال.
الشبهة الخامسة:
أنهم قالوا : الأحاديث الواردة في نزول عيسى ضعيفة ومردودة.
فبماذا ردها الترابي ؟ وما علمه بضعف هذه الأحاديث؟ والجواب:
أولاً: ردها الترابي تماماً كما ردها أئمته من الجهمية والمعتزلة بقولهم :" مردودة بقوله تعالى ( وخاتم النبيين ) وبقوله صلى الله عليه وسلم : ( لا نبي بعدي ) ..الخ .. وكلا الشبهتين اللتين ردوا بهما الأحاديث قد دفعناها دفعاً تماماً بتوفيق الله تعالى. فلا حاجة لرد الأحاديث الواردة في نزول عيسى بمثل هذه الشبهات إذ لا تعارض بين نزول عيسى وبين ختم النبوة وكونه لا نبي بعده صلى الله عليه وسلم .
ثانياً : يا ترى بأي علم عند الترابي استطاع به أن يحكم على أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ؟ الجواب: لا علم له فيه، بل مجرد الرد والتضعيف من غيرأثارة علم ولا هدى ولا كتاب منير. ولن يستطيع الترابي أن يرد هذه الأحاديث ولا أن يطعن في صحتها. وليس أمامه إلاّ الرجوع إلى الهدى وإلاّ فقد بان أمره.
ثالثاً : الأحاديث الواردة في نزول عيسى عليه السلام متواترة ، قضى العلماء بتواترها . قال بتواترها ـ ممن وقفت على أقوالهم ـ ابن جرير الطبري شيخ المفسرين. والحافظ ابن كثير رحمه الله، والشيخ الشنقيطي صاحب أضواء البيان، والثعالبي، وأبو الحسن الخسعي الأبدي في مناقب الشافعي، وغيرهم.
فهل يستطيع الترابي أن يضعف الأحاديث المتواترة، بل إنه لا يقدر أن يضعف الصحيح من خبر الآحاد فكيف به يتجرأ لتضعيف ما تواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟.
رابعاً : هذه الأحاديث كثيرة متضافرة يقوي الصحيح منها الضعيف، ولكن يكفي أن يكون من هذه الأحاديث أكثر من ثمانية أحاديث في الصحيحين البخاري ومسلم . فأنى له أن يضعفها حتى لو لم تكن متواترة.
إذنْ: رد أحاديث نزول عيسى إنما هو من باب رد المتواتر من سنن النبي صلى الله عليه وسلم وتضعيف الصحيح وإنكار الثابت، وهذا لا يدل إلاّ على أحد أمرين: إما عدم الورع في الدين مع الغرض ، وإما التربع في أسافل مهاوي الجهالة. ورجائي التحرر منهما قبل أن ارتداد الطرف عصمنا الله جميعاً.
وقضية الجرأة في رد الصحيح الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بل المتواتر منه لأمر جد خطير يخلخل ثوابت الأمة ويذبذب الأحكام ويلغي المرجعية الشرعية عن الأصلين : الكتاب والسنة . وهذا يجب ألاّ يسمح به بأي حال ، ويجب أن يتق الله الترابي. ومعروف منهج أولئك الفئة التي تبغي الاكتفاء بالقرآن والاستغناء عن السنة، ودعاوى أن السنة زمنية وظرفية وأن القرآن أبدي أو أزلي ابتغاء إبعاد السنة عن الحاكمية .
الأدلة الواضحة على نزول عيسى عليه السلام :
لم يبق من شبهاتهم شيء إلاّ رُدَّ عليها ودفعت بحمد الله تعالى ، وكان ذلك كافياً لاستجلاء المسألة وللدفاع عن السنة ومواقف الثلة الفاضلة من أئمة الدين وسادة العلم وقادة الفكر والفقه في الأمة، ولكن آثرنا أن نزيد الناس بياناً بأدلة نزول عيسى عليه السلام من القرآن الكريم ومن السنة المطهرة .
أدلة القرآن الكريم على نزول عيسى:
أما القرآن فقد أشار في آيات عديدة إلى نزول عيسى عليه السلام ، ومن ذلك:
1/ قوله تعالى ( وإن من أهل الكتاب إلاّ ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيداً ) [ النساء،159]. فهي صريحة في أن عيسى عليه السلام حيّ وقت نزول آية النساء هذه وأنه لا يموت حتى يؤمن به أهل الكتاب، وأهل الكتاب ليسوا فقط النصارى بل هم على إطلاق القرآن اليهود والنصارى ، واليهود حاربوه وطاردوه ولم يؤمنوا به وسعوا إلى قتله وظنهم أنهم قتلوا المسيح عيسى بن مريم رسول الله. ودلالة ذلك من وجوه:
1- أن هذا المعنى هو ظاهر القرآن المتبادر.(/4)
2- أنه السياق المتسق وعليه تنسجم الضمائر بعضها مع بعض ـ كما يقول صاحب أضواء البيان ـ ففي قوله تعالى ( وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى بن مريم رسول الله وما قتلوه ـ أي عيسى ـ وما صلبوه ـ ي عيسى ـ ولكن شبه لهم ـ عيسى ـ وإن الذين اختلفوا فيه ـ أي في عيسى ـ لفي شك منه ـ أي من عيسى ـ مالهم به من علم ـ أي بعيسى ـ وما قتلوه يقيناً ـ أي عيسى ـ بل رفعه الله إليه ـ أي عيسى ـ وكان الله عزيزاً حكيماً . وإنْ من أهل الكتاب إلاّ ليؤمنن به ـ أي بعيسى ـ قبل موته ـ أي موت عيسى ـ ويوم القيامة يكون عليهم شهيداً ). فالضمائر كلها في الآيات منسجمة ترجع إلى عيسى عليه السلام ، فمدلول السياق مع انسجام الضمائر تتسق مع الظاهر المتبادر فكان المراد أن عيسى حيّ الآن.
3- أن الضمير في هذه الآيات مفسر ملفوظ مصرح به في قوله تعالى ( إنا قتلنا المسيح عيسى بن مريم رسول الله ) فالتأويل بغيره بعيد .
4- أن السنة المتواترة تشهد بصحة هذا التأويل ، وما توافق القرآن والسنة لا انحراف عنهما البتة ، ولهذا لما روى أبو هريرة حديث البخاري من قوله صلى الله عليه وسلم : ( والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم عدلاً فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الحرب ويفيض المال حتى لا يقبله أحد حتى تكون السجدة الواحدة خير من الدنيا وما فيها ) قال بعده : واقرءوا إن شئتم : ( وإن من أهل الكتاب إلاّ ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيداً ) .
5- أنه ما جزم به أئمة التفسير ابن عباس فيما صح عنه والحسن وهو المنقول عن أكثر أهل العلم . [ الفتح6/568].
فهذه الوجوه كلها تؤكد أن عيسى عليه السلام حيّ لم يمت بعد حتى ينزل فيؤمن به أهل الكتاب من اليهود والنصارى .
الآية الثانية: قوله تعالى ( ويكلّم النّاس في المهد وكهلاً ومن الصالحين ) [ آل عمران، 46].وهي آية لها من الدلالة على نزول عيسى عليه السلام ما يجعل المسلم يطمئن إليه، فإنّ عيسى عليه السلام لم يكن قد بلغ الكهولة حين رفعه الله إليه ، مما يدلّ على أنه لابدّ أن يكتهل ويبلغ الكهولة ، مما يقتضي نزوله إلى الأرض ليكتهل ثم يموت، قال الحسين بن الفضل: " في هذه الآية نص في أنه عليه الصلاة والسلام سينزل إلى الأرض "[ التفسير الكبير8/46] ولما سئل رحمه الله هل تجدون نزول عيسى في القرآن ؟قال نعم قوله تعالى ( ويكلم الناس في المهد وكهلاً ) وهو لم يكتهل في الدنيا وإنما معناه ( وكهلاً ) بعد نزوله من السماء [ تفسير البغوي1/308].
بل هي آية ناطقة بمعجزة الله في عيسى عليه السلام ، ولا يمكن أن يكون كلامه حين يبلغ الثلاثين أو يكتمل عقله معجزة ، لأنه حال كل الناس فلم يختص ذلك بعيسى حتى يمن الله به على مريم عليها السلام ، إذنْ فالمناسب مع كون كلامه كهلاً معجزة أن يكون ذلك بعد نزوله من السماء في آخر الزمان . وهذا هو قول أبو عبد الرحمن السلمي في تفسيره ، وأبي زيد كما نقل عنه الطبري والحسين بن الفضل ، والبيضاوي والكلبي وترجيح الألوسي ، وهو المروي عن ابن عباس رضي الله عنهما [ راجع: تفسير السلمي 1/100، الطبري3/290، الدر المنثور2/199، البيضاوي2/41، البغوي1/302، السمرقندي1/238، تفسير الثعلبي3/69، روح المعاني3/165، زاد المسير1/390].
الآية الثالثة: قوله تعالى ( وإنه لعلم للساعة فلا تمترن بها واتبعون هذا صراط مستقيم ) [ الزخرف61]. وهي من الآيات الواضحة في نزول عيسى عليه السلام آخر الزمان، وقد نصّ على ذلك أئمة التفسير فصحّ عن ابن عباس بطرق عديدة وعن أبي هريرة وعن الحسن وقتادة والسدي والضحاك وأبي مالك وعوف وابن زيد وأبي العالية وعكرمة أن نزول عيسى عليه السلام قبل يوم القيامة أمارة ودليل على وشوك وقوع الساعة [ راجع تفسير الطبري20/631-633 ، القرطبي م8ج16ص96-98، ابن كثير 4/134-135].
فالقرآن إذنْ ينبه إلى نزول عيسى عليه السلام ، وهذه الآيات واضحة الدلالة على المطلوب، فلا يمترن بها أحد بما يساق من الشبهات ، ولنقطع الأمر بأدلة الحديث كما يلي .
الأحاديث النبوية فِي نزول عيسى عليه السلام :
الأحاديث الواردة في نزول عيسى عليه السلام كثيرة جداً ، عشرات الأحاديث مروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في سائر كتب الحديث ، ومعروفة عند أهل العلم بالحديث ، بل المشهور عنهم أنها أحاديث متواترة ، وقد نبهنا إلى كونها متواترة ونقلنا أقوال أهل الاختصاص والعلم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها متواترة كقول الحافظ ابن كثير والإمام ابن جرير الطبري ، والإمام الخسعي والإمام الثعالبي والعلامة الشنقيطي رحمهم الله تعالى.(/5)
والمتواتر من الحديث ـ لفظياً كان أو معنوياً ـ عند من له علم بالحديث وعلم الأصول يجب العمل به من غير بحث عن رجاله . بل مذهب جماهير أئمة الدين أن الحديث إذا صح وتلقته الأمة بالقبول قُطع به فصار قطعياً وهو مذهب القاضي عبد الوهاب البغدادي وأبي حامد الاسفراييني والقاضي أبي الطيب الطبري وأبي إسحاق الشيرازي وابن حامد وأبي يعلى بن الفراء وأبي الخطاب وابن الزاغوني وشمس الأئمة السرخسي وابن فورك ، بل هو مذهب أهل الحديث قاطبة ومذهب السلف عامة ( الباعث الحثيث 34). وأحاديث نزول عيسى أقلها أنها من هذا النوع، فأنّى للترابي أن يرد هذه الأحاديث أو يعمل فيها بإضعافها ؟ هذا ليس في استطاعته إلاّ إذا ادعى وتجرأ وافتأت ورد وأنكر من غير علم ولا هدى . ولابد أن يعلم الناس أنّ من ردّ الحديث الصحيح كمن نسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث الموضوع ، ومن أنكر المتواتر لا يستحق صحبة ولا حرمة ناهيك عن الزعامة والإمامة .
فأحاديث نزول عيسى عليه السلام قطعية بمجموعها في نزول عيسى عليه السلام لا يقدر الترابي ولا ألف من الترابيين أن يردوها ، خاصة لوعلم أن الكلام في رجال بعض النصوص لا ينفي تواتر هذه الأحاديث والقاعدة الحديثية أن ما تواتر لا يبحث عن رجاله فهلا تراجع د. الترابي إن كان من المتقين؟.
وأحاديث نزول عيسى على التفصيل منها ما ورد في الصحيحين باتفاق ، ومنها ما ورد في صحيح البخاري ، ومنها ما ورد في صحيح مسلم ، ومنها ما أخرجه أهل الحديث في السنن والمسانيد والمعاجم وغيرها.
فمن الأحاديث التي أخرجها الشيخان في صحيحهما:
1- قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكماً مقسطاً فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويفيض المال حتى لا يقبله أحد ) [ البخاري في البيوع برقم2222 , مسلم في الإيمان برقم 387 الترمذي رقم 2240] .
2- قوله صلى الله عليه وسلم : ( كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم ) [ البخاري في أحاديث الأنبياء رقم3449، ومسلم في الإيمان رقم 390].
3- قوله صلى الله عليه وسلم : ( والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم عدلاً فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الحرب ويفيض المال حتى لا يقبله أحد حتى تكون السجدة الواحدة خير من الدنيا وما فيها ) [ البخاري أحاديث الأنبياء برقم 3448 ].
4- قوله صلى الله عليه وسلم : ( لا تقوم الساعة حتى ينزل فيكم ابن مريم حكماً مقسطاً فيكسر الصليب ... ) [ البخاري المظالم رقم 2476].
5- قوله صلى الله عليه وسلم : ( والله لينزلن ابن مريم حكماً عادلاً فليكسرن الصليب وليقتلن الخنزير وليضعن الجزية ولتُتركن القلاص فلا يُسعى عليها ولتذهبن الشحناء والتباغض والتحاسد وليدعون إلى المال فلا يقبله أحد ) [ مسلم كتاب الإيمان رقم 389 ].
6- قوله صلى الله عليه وسلم : ( ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم إماماً مقسطاً وحكماً عدلاً .. حتى تكون السجدة الواحدة خيراً من الدنيا وما فيها ) [ مسلم الإيمان رقم 388 ].
7- قوله صلى الله عليه وسلم : ( لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة ، فينزل عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم فيقول أميرهم: " تعال صل لنا" فيقول: لا إنّ بعضكم على بعض أمراء تكرمة الله هذه الأمة ) [ مسلم الإيمان رقم 393 ، والجهاد رقم 4931 ].
8- قوله صلى الله عليه وسلم : ( يخرج الدجال في أمتي فيمكث أربعين .. فيبعث الله عيسى ابن مريم كأنه عروة بن مسعود فيطلبه فيهلكه ..) الحديث [ مسلم الفتن رقم 7307].
ومن الأحاديث التي أخرجها أصحاب السنن:
9- ما في سنن أبي داود من حديث النواس بن سمعان أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الدجال فقال: ( إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم .. إلى أن قال: ثم ينزل عيسى ابن مريم عند المنارة البيضاء شرقي دمشق فيدركه عند باب لد فيقتله ) [ أبوداود رقم 4321 ].
10- وعند أبي داود أيضاً ( ليس بني وبينه ـ أي عيسى ـ نبي وإنه نازل فإذا رأيتموه فاعرفوه ..) الحديث [ أبوداود رقم 4324 ].
11- وفي سنن ابن ماجة بإسناد صحيح من حديث عبد الله بن مسعود قال: لما كان ليلة أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم لقي إبراهيم وموسى وعيسى فتذاكروا الساعة فبدأوا بإبراهيم فسألوه عنها فلم يكن عنده منها علم، ثم سألوا موسى فلم يكن عنده منها علم، فرُدَّ الحديث إلى عيسى بن مريم فقال : " قد عهد الله إليّ فيما دون وجْبتها فأما وجبتها فلا يعلمها إلاّ الله فذكر خروج الدجال قال: فأنزِل فأقتله .. الحديث)[ ابن ماجة الفتن رقم 4081 ].
12- وعند ابن ماجة أيضاً في قصة الدجال يقول: ( إذ بعث الله عيسى ابن مريم فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهروتين واضع كفيه على أجنحة ملكين .. ) الحديث [ ابن ماجة رقم 4075 ].(/6)
13- وعند ابن ماجة أيضاً من حديث أبي أمامة الباهلي جاء فيه : ( فبينما أمامهم قد تقدم يصلي بهم الصبح إذ نزل عليهم عيسى بن مريم الصبح فرجع ذلك الإمام ينكص يمشي القهقرى ليتقدم عيسى يصلي بالناس فيضع عيسى يده بين كتفيه ثم يقول له : تقدم فصل فإنها لك أقيمت ..) الحديث [ ابن ماجة رقم 4077 ].
14- وعند ابن ماجة أيضاً يقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا تقوم الساعة حتى ينزل عيسى ابن مريم حكماً مقسطاً وإماماً عدلاً .. ) الحديث [ ابن ماجة برقم 4078 ].
ومن أحاديث المسانيد والمستدركات والمجامع وغيرها:
15- حديث ابن عباس : ( كيف تهلك أمة أنا في أولها وعيسى في آخرها ) [ الدر المنثور 2/225، الطبري 3/290، الثعلبي في تفسيره 3/82 ، تاريخ دمشق 5/395 برقم 169 فتاوى ابن تيمية 27/101 وجزم بالرواية، كنز العمال 14/119 رقم 38671 ].
16- حديث عبدالله بن معاذ عن أبيه ( ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكماً ...) [ المسند المستخرج على صحيح مسلم 1/217 رقم 387 مسند أبي عوانة 1/98 رقم 310 ].
17- حديث ( كيف أنتم إذا نزل بكم ابن مريم عليه السلام فأمنكم ) [ مسند أبي عوانة 1/99 رقم 316 ، المسند المستخرج 1/20 رقم393 ].
18- حديث ( والذي نفسي بيده ليهلن ابن مريم بفج الروحاء حاجاً أو معتمراً أو ليثنينهما ) [ مسند أبي عوانة 2/422 رقم3685 ـ 3686 ، المسند المستخرج 3/347 رقم 2894 ].
19- حديث مجمع بن جارية قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( يقتل ابن مريم الدجال بباب لد ) [ موارد الظمآن 1/468 رقم 1901 ، والجامع 11/398 رقم 20835 ] .
20- حديث ( الأنبياء إخوة لعلات وأمهاتهم شتى وأنا أولى الناس بعيسى بن مريم إنه نازل فاعرفوه ... إلى قوله : فيمكث في الأرض أربعين سنة ثم يتوفى فيصلي عليه المسلمون ) [ موارد الظمآن 1/469 رقم 1902 ـ 1903 ] .
21- حديث عائشة قالت: " دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي فقال ما يبكيك ؟ فقلت: يا رسول الله! ذكرت الدجال . قال: فلا تبكين فإن يخرج وأنا حي أكفيكموه وإنْ متّ فإن ربكم ليس بأعور وإنه يخرج معه اليهود فيسير حتى ينزل بناحية المدينة وهي يومئذ لها سبعة أبواب على كل باب ملكان فيخرج الله شرار أهلها فينطلق يأتي لداً فينزل عيسى بن مريم فيقتله ثم يلبث عيسى في الأرض أربعين سنة غمامً عدلاً وحكماً مقسطاً ) [ موارد الظمآن 1/469 رقم 1905].
22- حديث ( يذوب الدجال حين يرى ابن مريم كما يذوب الرصاص حتى يأتيه أو يدركه عيسى فيقتله ) [ الجامع 11/ 398 رقم 20834].
23- حديث ثوبان مرفوعاً ( عصابتان من أمتي أحرزهما الله من النار عصابة تغزو الهند وعصابة تكون مع عيسى بن مريم ) [ مسند الشاميين3/90 رقم 1851 وصححه وأحمد رقم 642 والنسائي رقم 426 وأبو عروبة 2102 والبخاري في التاريخ الكبير 726 وابن عساكر 110015 ].
24- حديث ( رأيت ابن مريم عليه السلام يخرج من عند يمنة المنارة البيضاء شرقي دمشق واضع يده على أجنحة الملكين بين ريطتين ممشقتين .. الحديث ) [ مسند الشاميين 3/387ـ388 رقم 2525 وابن عساكر في تاريخ دمشق برقم 2141 ].
25- حديث ( عشر بين يدي الساعة:خسف بالمغرب وخسف بالمشرق وخسف بجزيرة العرب ، والدخان ، ونزول عيسى بن مريم، والدجال ، ودابة الأرض، ويأجوج ومأجوج ) [ كنز العمال 14/116 رقم 38647 ].
26- حديث ( يخرج الدجال في أمتي فيمكث أربعين فيبعث الله تعالى عيسى بن مريم كأنه عروة بن مسعود الثقفي فيطلبه فيهلكه ..) [ كنز العمال 14/631 رقم 38745].
27- حديث عبد الله بن مغفل ( ينزل عيسى بن مريم مصدقاً بمحمد على ملته إماماً مهدياً وحكماً عدلاً فيتقل الدجال ) [ الكنز 14/141 رقم 38808 وعزاه للطبراني].
28- حديث :( ينزل عيسى بن مريم عند المنارة البيضاء شرقي دمشق ) الطبراني عن أوس بن أوس.
29- حديث عبد الله بن عمرو: ( ينزل عيسى بن مريم إلى الأرض فيتزوج ويولد له ويمكث خمساً وأربعين سنة ثم يموت فيدفن معي في قبري فأقوم أنا عيسى بن مريم في قبر واحد بين أبي بكر وعمر ) [ ابن الجوزي في كتاب الوفاء مشكاة المصابيح3/1524 رقم 5508].
30- حديث ( أنا أولى الناس بعيسى بن مريم لأنه لم يكن بيني وبينه نبي، وإنه خليفتي على أمتي وإنه نازل فإذا رأيتموه فاعرفوه ) [ الطبري 3/291 والدر المنثور 2/736 وعزاه إلى ابن أبي شيبة وأحمد وأبي داود وابن جرير وابن حبان].
ومن الأحاديث الموقوفة التي لها حكم الرفع لأنها مما لا يقال برأي:
31- أن عمر سأل رجلاً من اليهود عن شئ فحدثه فصدقه فقال له عمر : قد بلوت صدقك فأخبرني عن الدجال قال :"وإله اليهود ليقتلنه ابن مريم بفناء لد" [الجامع 11/398 رقم 20836].
32- قال أبو هريرة : ( يوشك من عاش منكم أن يرى عيسى بن مريم إماماً مهدياً وحكماً عدلاً فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية وتضع الحرب أوزارها ) [ معرفة السنن والآثار 5/133 رقم 3971].(/7)
فكل هذه الأحاديث التي في الصحاح والسنن والمسانيد والمجامع كيف سيردها الترابي يا ترى؟ وبأي علم سيردها ؟ هل سيقول كما قال الجهمية والمعتزلة نردها لمخالفتها ظاهر القرآن ؟ أم عنده من علم اختص به يرد به ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟. فإن ردّ الحديث الصحيح الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بدعوى المعارضة لظاهر القرآن لا سيما أحاديث نزول عيسى هذه فهو ردّ للثابت الصحيح دون نظر ثاقب ولا دراسة وافية، مما يدلّ على انكباب المرء على وجهه والتربع على أرائك الخطل وافتراش الزلل، والإصرار على مناهج الجهالة والسير على مذاهب الضلالة والبيات على وسائد الفتنة في الدين ، نعوذ بالله أن يجعل مصيبتنا في ديننا. فإن من له علم قليل يعلم أنه لا تعارض بين هذه الأحاديث وظواهر القرآن ما اشتبه على الترابي والجهمية والمعتزلة ، كما أنه تعارض بين العقل وبين هذه النصوص ، ولذلك فإن نزول عيسى عليه السلام لا يمنعه العقل ولا يقره الشرع ويدل عليه القرآن وينص عليه حديث الرسول المعصوم صلى الله عليه وسلم ومن لم يهده الله فلن تجد له ولياً مرشداً.(/8)
نزيف الدماء المسلمة... إلى متى؟
محمد عبد الله السمان 9/4/1426
17/05/2005
نقول ـ وآلامنا أصبحت مبرّحة تنغّص علينا حياتنا: لقد تحقق ما كان يخشاه الرسول ـ عليه صلوات الله وسلامه ـ على أمته، حين قال ـ وهو يخطب في حجة الوداع: "لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض". فحروب جاهلية في المقام الأول.. لا تكاد تتوقف حتى يومنا هذا، ويجب أن نذكر بأسى مرير ـ أن ضياع الأندلس (الأندلس الإسلامية) سجّل صفحة عار في تاريخ الأمة المسلمة، ستظل إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.. وكان التناحر وراء المأساة: التناحر من أجل السلطة.
وضاعت فلسطين، وسجّل ضياعها صفحة عار في تاريخ العرب والمسلمين، تناسوا هذا العار، وشغلوا أنفسهم بأنفسهم تحركهم شهوة السلطة والتسلط، حرب أهلية في الصومال منذ 15 عاماً ـ ولم تضع أوزارها بعد، بلغ عدد الضحايا أكثر من مليون، وحرب أهلية في الجزائر وفي اليمن وفي تشاد وفي موريتانيا، والبقية تأتي!!
احتلال مدفوع الثمن
وتحقق لأمريكا ـ قائدة العدوان والمؤامرة على العرب والمسلمين ـ ما كانت تخطط له: قواعد عسكرية في الخليج، وصفها الكاتب أحمد رجب بجريدة (الأخبار) بأنها احتلال مدفوع الثمن! وتدمير العراق تدميراً شاملاً، لن يقوم بعده، واستغلت دولة الشتات التي ولدت من سفاح، وبشهادة ميلاد مزوّرة كتبها في الثاني من نوفمبر عام 1917 م بلفور وزير خارجية بريطانيا، أو ما كان يسمى "وعد بلفور" واكتفى العرب (الأشاوس) بأن أطلقوا عليه لفظ (المشؤوم) ولسنوات يحتفلون بذكراه بخطب رنانة، وقصائد شعرية عنترية!
وأخيراً: قرروا أن ينسوه ويتجاهلوه ـ عن عمد وإصرار، ليشغلوا أنفسهم بسباق الجمال والبغال والخيول والنوق، ومسابقات الجمال للبنات والكلاب، ومؤتمرات للقمة وما دون القمة للتطبيع وإصدار بيانات وقرارات وتوصيات مكررّة تذهب أدراج الرياح.. استغلت دولة الشتات من سلالة القردة والخنازير، وأحفاد قتلة الأنبياء والمرسلين الفرصة لكي تضاعف من عربدتها في المنطقة..
احتلت فلسطين بأكملها، وسخرت من العرب في كل اتفاقات بينها وبينهم.. وأصبح المسجد الأقصى مسرى الرسول وثالث الحرمين الشريفين في قبضتها، ومخطط هدمه مازال وارداً ـ ولو حدث هذا -لا قدّر الله ـ فلن يفعل العرب شيئاً سوى الصراخ والعويل كالنساء، ومناشدة هيئة الأمم ومجلس الأمن والاتحاد الأوروبي، والرأي العام العالمي، وربما الفاتيكان وهوليود والفيفا (اتحاد الكرة) أن تتدخل، مع علمهم بأن كل عويلهم وكل صراخهم، وكل مناشداتهم تتبخر في الوقت الضائع!
ولن يكون ما كتبه الصحفي المصري مجدي صالح ـ آخر عربدة تقوم بها وتمارسها دولة الشتات، فتحت عنوان:"في أغسطس القادم، وبرعاية صهيونية: مهرجان الشواذ العالمي في القدس!! وفي أسى مرير قال الكاتب: "في ظروف عربية غاية في السوء والتدهور والتفكك، ووسط حمَّى الهرولة نحو البوابات الإسرائيلية للمرور منها إلى مثبتات الشرعية وعمولات الصفقات الكبيرة، يستعد الحكام العرب (الأفاضل) لتلقي ضربة أخرى من نفس النوع الفضائحي الذي يزيد من إحراجهم أمام شعوبهم.. سيعقد شواذ العالم احتفالاً عالمياً ـ غير مسبوق ـ وأين؟ في القدس أولى القبلتين وثالث الحرمين.. تجرّأ ـ إذن ـ شواذ العالم علينا وعلى مقدساتنا، بعد أن هانت المقدسات وهُنَّا على ولاة أمورنا"!!
لماذا نلوم إسرائيل؟
هل تواتينا شجاعة، لنكون صريحين مع أنفسنا، ونتساءل: لماذا نلوم إسرائيل على جرائمها في حقنا، ولا نلوم أنفسنا على ما يرتكبه من جرائم بشعة عربي يدعي العروبة في حق أخيه العربي، ومسلم يزعم الإسلام في حق أخيه المسلم..؟ في اليمن والجزائر والصومال، وأفغانستان وباكستان، وما يجري في العراق حدث ولا حرج.
لقد بلغت الجريمة في العراق شأواً لم يكن له مثيل في التاريخ، ولك أن تتصور أن بيوت الله أصبحت مستهدفة، وبذلك أصبح مدّعو الإسلام سنة كانوا أم شيعة، ينافسون آل صهيون في الاعتداء على بيوت الله، لقد هانت دماء المسلمين وهم في بيوت الله! وإن جرائم صدام في حق الشعب العراقي ـ برغم أنها من البشاعة بمكان ـ أصبحت هينة أمام ما يرتكبه العراقي في حق أخيه العراقي .. أكثر من سبعين جثة مشوهة من أطفال ونساء ورجال، أُلقيت في نهر دجلة، وعُثر على مقابر جماعية في بعض نواحي بغداد وغيرها، ألا يحق للشاعر العربي أن يقول:
عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى ... ...
وصوَّت إنسانٌ فكدت أطيرُ!
إن ما يجري في العراق اليوم تنبأ به الرسول ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ ففي صحيح مسلم، عن سالم بن عبد الله بن عمر ـ قال: " يا أهل العراق: ما أسألَكم عن الصغيرة، وأركَبكم للكبيرة..!! سمعت أبي عبد الله بن عمر يقول: سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: "إن الفتنة تجيء من ها هنا ـ وأومى (أشار) بيده نحو الشرق من حيث يطلع قرنا الشيطان، وأنتم يضرب بعضكم رقاب بعض"(/1)
لقد حذرنا رسول الله وأنذرنا، لكننا اليوم وضعنا أصابعنا في آذاننا حتى لا نسمع، ووضعنا أقنعة سوداء حتى لا نقرأ. ففي صحيح مسلم عن ثوبان ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم: "إن الله زوى (جمع) لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زُوي لي منها، وأُعطيت الكنزين: الأحمر والأبيض(الذهب والفضة والمراد كنزي كسرى وقيصر) وإني سألت ربي لأمتي ألاّ يهلكها بسنة عامة (قحط عام)، وألاّ يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم؛ فيستبيح بيضتهم (يستأصلهم) وإن ربي قال: يا محمد.. إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يردّ، وإني قد أعطيتك لأمتك ألاّ أهلكهم بسنة عامة، وألاّ أسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم يستبيح بيْضتهم، ولو اجتمع عليهم من بأقطارها... أو قال: من بين أقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً ويسبي بعضهم بعضاً"... وحسبنا الله وحده.(/2)
نسائم ذكر حكيم
بسم الذي أنزل الكتاب ولم يجعل له عوجا، قيما، لينذر بأسا شديدا من لدنه، ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجراً حسنا، والصلاة والسلام على من كان خلقه القرآن، وعلى آله وصحبه الأطهار، ومن لزم غرزهم من الأخيار إلى يوم الدين..
نسائم ذكر حكيم هي: جلسات مع آيات من القرآن الكريم، تمر علينا في الختمات، نسمعها وتتحرك معانيها في نفوسنا، ونحتاجها في كل حين؛ لأنها تعمق فهما، ترسخ عقيدة، تؤسس طمأنينة، تغرس راحة، تنفي خبثا في النفس، ووسوسة في الروح، وتطرد طائفا من الشيطان، فإذا هي مبصرة.
والآية التي تصدرت لوحة النسائم هذه، هي المنطلق والأساس الذي حرك النفس لهذه النسائم القرآنية، ولما لها من أهمية في معانيها وما تحمله من إيحاءات، فسيكون البدء بها بحول الله - تعالى -وفتحه.
قال - عز وجل -: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف: 2]. وفي سورة الزخرف: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الزخرف: 3] به يكون تمام التعقل؛ ففيه القيم، وفيه المنهج، وفيه تحليق الروح، وفيه السُنن، وفيه هداية القلب، وفيه منهج الحياة الزائلة، وطريق الحياة الباقية.
وحتى نعي التعقل في بعض جوانبه، نراجع القرآن فيمن لا يعقلون؛ قال - تعالى -: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ} [الأنفال: 22] وهذه الآية جاء بعدها: {وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَّأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}. فإما لا عقل، وإما استجابة لله وللرسول، بهذه الاستجابة يكون الفرار والخروج من الافتتان بشتى صوره، أو لا عقل، ووقتها يكون التيه في الفتن، والله شديد العقاب.
وفي قول الله - تعالى -: {لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ} [الحشر: 14]. نفي لصفة العقل، عند يهود، ونتج عن غياب العقل الرباني؛ تشتت في القلوب، وخوف وهلع، وبأس يصرف للداخل.
قال القرطبي: " وفي قراءة ابن مسعود (وقلوبهم أشت) يعني أشد تشتيتا ; أي أشد اختلافا ".
والقرآن الكريم عندما نكون على صلة قوية به، هو مصدر هذا التعقل الأولي والأخير، يجمع شتات القلب، لتجتمع القلوب، ويعلي من قابلية الاستجابة في النفس لأوامر الشرع، ويبعد عن افتتان وخوض في المتاهات، ويجعل العزة في أوجها، ويصرف البأس لعدو مشاكس، لا إلى قريب مخالف.
ثم الله ولي التوفيق والسداد في سباعية هذه النسائم، التي نسأل الله أن يفتح علينا فيها بفتوح العارفين به، وأن يبعد عنا الزلل.
{أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} (1)
حين تنقبض النفس من صنوف الكبَد الكثير في الحياة، ووقت أن تنقبض الروح في أمواج المواقف والمشاهد المؤلمة المتكررة، وساعة أن يشعر المرء أنه قد ظُلم أو تعب أو أُرهق، ساعتئذٍ تترتل هذه الآية في صالات قلبه، ويبدأ صداها يتردد في غرف الجسد كله.
صدىً ليس كترديد البشر؛ إذ تارة يكون متناغما مع ذاتك ومعزوفتك، وتارات كثيرة أخرى يكون كاللحن النشاز، حتى تمسي تظن أن معزوفة روحك وفكرك وعقلك وتعبك وجهدك، كأنها هي التي لم تصاغ بشكل ولحن جميل.
و تتوارد على نفسك الخطوب، وتبدأ أمواج الضيق، و تتوالى رياح الغم؛ من موقف قريب لك، أو خسارة في تجارة مع الله أو مع دنيا الناس، أو فقدان للأمن والأمانة، أو شعور بجرح الخيانة، أو يأس ممن حولك، أو أمل في تغيير تتمناه.
في هذه الصورة التي تُعرض كأنها فيلم مصور، له إيقاعاته، وأبطاله، وموسيقاه التصويرية الصاخبة في داخلك، هذه الصورة تجعل كل شيء عندك، لا يساوي شيئا، مطلقا. لا مال، ولا ولد، ولا زوج، ولا نفس، ولا ذات.
فيبدأ الصدى المبارك في حنايا نفس المؤمن بهدوء جميل جداً، يسري في الصدر كأن عصافير الراحة بدأت ترفرف وتغرد، وتسيل معه العيون بحبات من الندى، لا تمسي حتى تهطل مطرا مباركا، وتبدأ عيون القلب في العمى عن كل الصور، إلا صورة ربها، صورة قدرته، وعلمه، و وده، وجبروته، وعزته، ورحمته التي وسعت كل شيء، - سبحانه -.
وفي المضطر:
" قال ابن عباس: هو ذو الضرورة المجهود.
وقال السدي: الذي لا حول له ولا قوة.(/1)
وقال ذو النون: " هو الذي قطع العلائق عما دون الله.
وقال أبو جعفر وأبو عثمان النيسابوري: هو المفلس. ". (2)
إعلان الإفلاس من كل شيء، سوى الله، هو قمة الغنى؛ ذلك بأن الله - تعالى -الغني ذو الرحمة، لا مال ولا علم ولا جاه ولا سلطان، إعلان لإفلاس عام، في كل مؤسسات الذات، عندها يكون قمة الربح والفوز، لأنك مفلس مع " الغني " فأنعم به من تجرد، وأنت أغنى الأغنياء لو فقهت!
والعجز التام هو كذلك كنز، بذا قال سعيد النورسي حكمته الجميلة: (كنزي: عجزي)، وبه دل النبي - عليه الصلاة والسلام - عبد الله بن قيس قائلا: (يا عبد الله بن قيس ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة؟. فقلت: بلى يا رسول الله، قال: قل لا حول ولا قوة إلا بالله). (3) كنز في الجنة وأنت ترددها، فكيف إن كانت معانيها متحققة فيك! ؛ معاني التعري التام من كل الحول والقوة.
وإن توفر العجز والتسليم والإفلاس، باتت الضرورة واضحة كما قال ابن عباس، وأمسى قطع العلائق من دون الله جليا كما صرح ذو النون، وأمسى المرء في صورة تامة من الاعتصام بالله وحده، ممسكا بحبله، يشده، يقبض عليه، مهما سال دم الضيق والعنت والحرج، و لا يزال العبد وقتها معتصما، تلين له الدنيا كلها.
قال وهب بن منبه: " قرأت في الكتاب الأول إن الله - تعالى -يقول: بعزتي إنه من اعتصم بي فإنْ كادته السماوات بمن فيهن، والأرض بمن فيهن، فإني أجعل له من بين ذلك مخرجا، ومن لم يعتصم بي؛ فإني أخسف به من تحت قدميه الأرض فأجعله في الهواء فأكله إلى نفسه " (4)
إنَْ اعتصم اقسم الله بعزته! أن لا يضره شيء ويجعل له مخرجا، وقمة الاعتصام يكون وقت الضرورة، ويا لها من لحظات بديعة في صلة المرء بربه وحبيبه.
قال الشاعر:
وإني لأدعو الله والأمر ضيق *** علي فما ينفك أن يتفرجا
ورب أخ سدت عليه وجوهه *** أصاب لها لما دعا الله مخرجا (5)
يقول الأستاذ سيد في الآية:
"فالمضطر في لحظات الكربة والضيق لا يجد له ملجأ إلا الله، يدعوه ليكشف عنه الضر والسوء، ذلك حين تضيق الحلقة، وتشتد الخنقة، وتتخاذل القوى، وتتهاوى الإسناد ; وينظر الإنسان حواليه فيجد نفسه مجردا من وسائل النصرة وأسباب الخلاص.
لا قوته، ولا قوة في الأرض تنجده.
وكل ما كان يعده لساعة الشدة قد زاغ عنه أو تخلى ; وكل من كان يرجوه للكربة قد تنكر له أو تولى..
في هذه اللحظة تستيقظ الفطرة فتلجأ إلى القوة الوحيدة التي تملك الغوث والنجدة، ويتجه الإنسان إلى الله ولو كان قد نسيه من قبل في ساعات الرخاء.
فهو الذي يجيب المضطر إذا دعاه. هو وحده دون سواه.
يجيبه ويكشف عنه السوء، ويرده إلى الأمن والسلامة، و ينجيه من الضيقة الآخذة بالخناق.
والناس يغفلون عن هذه الحقيقة في ساعات الرخاء، وفترات الغفلة؛ يغفلون عنها فيلتمسون القوة والنصرة والحماية في قوة من قوى الأرض الهزيلة.
فأما حين تلجئهم الشدة، ويضطرهم الكرب، فتزول عن فطرتهم غشاوة الغفلة، ويرجعون إلى ربهم منيبين مهما يكونوا من قبل غافلين أو مكابرين" (6)
يا لها من عودة مباركة، غريب أمر الإنسان!، يكون في الخناق كما يقول سيد، ثم ما أن يلجأ بصدق إلى الله، حتى تتحول تلك الحلقة الضيقة المتعبة، إلى راحة وسعادة واستقرار وفرح، بمجرد الصدق وحسن اللجوء، ومن ذاق هذه الحلاوة الإيمانية يكاد يطلبها في كل وقت، للذتها وعذوبتها في وعاء القلب الصغير.
ذكر ابن كثير عند تفسيره هذه الآية: "ذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة رجل حكى عنه أبو بكر محمد بن داود الدينوري المعروف بالدقي الصوفي قال هذا الرجل:
كنت أكاري على بغل لي من دمشق إلى بلد الزبداني، فركب معي ذات مرة رجل، فمررنا على بعض الطريق عن طريق غير مسلوكة.
فقال لي: خذ في هذه فإنها أقرب، فقلت: لا خيرة لي فيها، فقال: بل هي أقرب.
فسلكناها فانتهينا إلى مكان وعر وواد عميق وفيه قتلى كثيرة، فقال لي: أمسك رأس البغل حتى أنزل، فنزل وتشمر وجمع عليه ثيابه وسل سكينا معه وقصدني، ففررت من بين يديه وتبعني فناشدته الله وقلت: خذ البغل بما عليه، فقال: هو لي، وإنما أريد قتلك!
فخوفته الله والعقوبة فلم يقبل، فاستسلمت بين يديه وقلت: إن رأيت أن تتركني حتى أصلي ركعتين، فقال: عجّل.
فقمت أصلي فأرتج علي القرآن فلم يحضرني منه حرف واحد، فبقيت واقفا متحيرا، وهو يقول: هيه افرغ، فأجرى الله على لساني قوله - تعالى -: {أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء}.
فإذا أنا بفارس قد أقبل من فم الوادي وبيده حربة فرمى بها الرجل فما أخطأت فؤاده فخر صريعا.
فتعلقت بالفارس وقلت: بالله من أنت؟ فقال: أنا رسول الذي يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء، قال: فأخذت البغل والحمل ورجعت سالما ". (7)(/2)
نقلة هذه القصة، تنقلك مع المعاني النفسية التي ذكرها سيد - رحمه الله -، والتي يستشعرها ويبتهج بها كل من اضطر ولجأ وقرب وانحنى، تنقلك من هذه المعاني إلى واقع ملموس، وفارس يأتي بجواده، وحربة في قلب لص، سبحان الله، فما عليك إلا أن تلجأ، حتى لو ضاعت منك الكلمات، ونسيت كل القرآن والتسبيح والتعظيم لله، وأرتج عقلك من كل معنى، لهول الموقف، فقط توجه له، بأي لغة كانت، وبأي كلمات مبعثرة قد لا تعيها، لكنه - سبحانه - يعلم حاجتك، فيرسل لك فارسا بحربته، وقد أقسم من قبل بعزته أن يكون معك لو اعتصمت، وتأتي الإصابة في قلب الحدث الذي ألم بك، ويرقص قلبك طربا، المهم أن تتعلق وتلح وتستجدي.
قال الشيخ الحبيب اللطيف: " من الذي يفزع إليه المكروب، ويستغيث به المنكوب، وتصمد إليه الكائنات وتسأله المخلوقات وتلهج بذكره الألسن، وتألهه القلوب إنه الله لا إله إلا هو.
وحق علي وعليك أن ندعوه في الشدة والرخاء، والسراء والضراء، ونفزع إليه في الملمات، ونتوسل إليه في الكربات، وننطرح على عتبات بابه سائلين باكين ضارعين منيبين، حينها يأتي مدده ويصل عونه ويسرع فرجه، ويحل فتحه {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} فينجي الغريق ويرد الغائب، ويعافي المبتلى، وينصر المظلوم، ويهدي الضال، ويشفي المريض، ويفرج عن المكروب {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [العنكبوت: من الآية65].
إذا نزلت بك النوازل وألمت بك الخطوب، فالهج بذكره، واهتف باسمه، واطلب مدده واسأله فتحه ونصره، مرغ الجبين لتقديس اسمه، لتحصل على تاج الحرية، وأرغم الأنف في طين عبوديته لتحوز وسام النجاة.
مد يديك
ارفع كفيك
أطلق لسانك
أكثر من طلبه
بالغ في سؤاله
ألحَّ عليه
الزم بابه
انتظر لطفه
ترقب فتحه
أُشْدُ باسمه
أحسن ظنك فيه
انقطع إليه
تبتل إليه تبتيلاً حتى تسعد وتفلح " (8)
أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ..
----------
(1)النمل: 62.
(2)تفسير القرطبي.
(3)رواه البخاري ومسلم.
(4)تفسير ابن كثير
(5)تفسير القرطبي.
(6)في ظلال القرآن.
(7)تفسير ابن كثير.
(8)كتاب لا تحزن لعائض القرني.
http://www.islameiat.com المصدر:(/3)
نسمات الحج لغير الحجاج
استوقفني الحديث الصحيح المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (بُنِيَ الإسْلامُ عَلَى خَمس: شَهَادة أنْ لا إله إلا الله وأَنْ محمدًا رَسُول الله، وإقام الصلاةِ وإيتاءُ الزَكَاةِ، وصَوْمُ رَمَضَان، وحَجُ البيْتِ).. ولفت نظري أن يكون الحج أحد هذه الأسس الخمس التي يبنى عليها الإسلام!! وهو عبادة لا يكلف بها المسلم أو المسلمة إلا مرة واحدة في العمر، وهي لمن استطاع.. أي أن هناك ملايين من المسلمين على مر العصور لا يتمكنون من أداء هذه الفريضة لعدم الاستطاعة.. حتى من يستطيع أن يؤدي هذه الفريضة، فأغلبهم يؤديها مرة واحدة؛ أي أن هذه الفريضة لا تأخذ من وقت المسلم ومن حياته -إذا أداها- إلا وقتًا قليلاً جدًّا لا يتجاوز الأسبوعين في أحسن الأحوال..
فلماذا يختار الله عز وجل هذه العبادة العارضة ليجعلها أساسًا من أسس هذا الدين؟؟!!
رأيت أن الحج لا بد أن يكون له تأثيره على حياة الإنسان بكاملها في الأرض، وأن هناك فوائد تتحقق من أداء هذه الفريضة في حياة الإنسان الذي أداها كلها.
وكذلك فقد شرع الله لمن لم يشهد الحج بعض الأمور التي تجعلنا نحيا في نفس جو الحجاج، ونتنسم معهم نسمات الحج، ليس ذلك عن طريق سماعهم أو متابعتهم إعلاميًّا، وإنما بالفعل أيضًا.. ولتتأمل معي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه العشر -أي عشر ذي الحجة-، قالوا يا رسول: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء). هذه الأيام العشر من ذي الحجة هي الفرصة لكل المؤمنين في الأرض.. مما يعني أننا يجب أن نستغل هذه الأيام العشر خير استغلال حتى نكون كمن حج تمامًا.
ولعلي أعرض عليك بعض الأعمال التي يمكن تحصيل الأجر بها إن شاء الله رب العالمين:
1 - الصيام:
يجب أن يحرص كل مسلم على صيام التسع أيام الأول من ذي الحجة، وبخاصة يوم (عرفة)؛ لأن صيامه يكفر ذنوب سنتين كاملتين: سنة ماضية وسنة مستقبلة، كما روى مسلم عن أبي قتادة رضي الله عنه؛ ويجب أن نعلم أن الله يغفر ذنوب الحجاج جميعًا، ويعتق رقاب الكثيرين من خلقه في ذلك اليوم المبارك (يوم عرفة).. روى مسلم عن السيدة عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من يوم أكثر من أن يعتق فيه عبدًا من النار من يوم عرفة)، فالحاج سيكفر الله له ذنوبه في عرفة، وغير الحجاج الصائمين في يوم "عرفة" سيغفر الله تعالى لهم ذنوبهم وهم في بلادهم على بعد أميال من مكة!! أي نعمة وأي فضل أعظم من ذلك؟؟
2 - صلاة الجماعة:
فالحفاظ على صلاة الجماعة بالنسبة للرجال، والصلاة على أول وقتها بالنسبة للنساء يجب أن يكون حال المسلم طوال العام، ولكن للشيطان أوقات يتغلب فيها على ابن آدم فيحرمه من الأجر والثواب العظيم، ومن فضل الله تعالى ورحمته أن جعل للمؤمنين مواسم يشتاق فيها المرء للعبادة، مثل "شهر رمضان"، "والعشر الأوائل من ذي الحجة".. وهي فرص ثمينة ليست لتحصيل الثواب فحسب، وإنما للتدرب والتعود على هذه الفضائل طوال العام وطول العمر. وصلاة الفجر من أهم الصلوات التي يجب على المسلم أن يحافظ عليها في كل أيامه، وفي هذه الأيام المباركة على الخصوص، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عن صلاة الجماعة بصفة عامة: (من غدا إلى المسجد أو راح أعد الله له نزلاً في الجنة، كلما غدا أو راح).. ماذا نريد أكثر من ذلك؟.. إنها فرصة ذهبية، ألسنا نحسد الحجاج على وعد الله لهم بالجنة، في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الحج المبرور ليس له جزاءٌ إلا الجنة)، وهانحن تتوفر لنا فرصة رائعة ونحن في بلادنا.. فلا يتعلل المرء بأنه لا يستطيع الحج في حين أنه في كل مرة يذهب فيها للمسجد أو يرجع منه يَعَدّ الله سبحانه له بيتًا في الجنة.
3 - الإكثار من صلاة النوافل:
للحجاج بالطبع فرصة عظيمة في تحصيل الأجر من الصلاة في المسجد الحرام، والمسجد النبوي؛ لكن الله سبحانه وتعالى لم يحرم من لم يحج من فرصة زيادة الحسنات عن طريق صلاة النافلة.. وأنت في بلدك وفي بيتك.. ذلك إذا استشعرت أنك كالحاج تمامًا في هذه الأيام العشر، فالحاج في مكة لا يضيع وقته؛ لأن كل صلاة يصليها بمائة ألف صلاة.. وكذلك أنت يجب ألا تضيع وقتك في هذه الأيام، وستجد أبوابًا للحسنات لا يمكنك حصرها:
أ - قيام الليل:(/1)
وهو من أعظم القربات التي يتقرب بها العبد إلى ربه عز وجل، وقيام الليل في هذه الأيام له وضع خاص وأجر خاص.. وكثير من المفسرين يقولون في تفسير القسم في قول الله عز وجل: (والفجر * وليالٍ عشر) أن المقصود بها الليالي العشر الأول من ذي الحجة.. قم صل قدر ما استطعت، واسأل الله من فضله ما أردت، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له) ماذا يريد العبد أكثر من ذلك؟؟!
الله سبحانه وتعالى يتودد إلى عباده ويطلب منهم أن يسألوه حاجاتهم.. كل حاجاتهم، ويَعِدُهم بالإجابة سبحانه!!.. ألسنا نحسد الحجاج على أن الله يكفر عنهم كل سيئاتهم؟ هاهي الفرصة أمامنا، فقط قم الليل واستغفر الله، وسيغفر لك الغفور الرحيم.. ولم تتكلف في ذلك عناء السفر، أو إنفاق الآلاف!!
ليس معنى ذلك أن يتوقف الناس عن الحج.. أبدًا؛ فالحج من أعظم العبادات في الإسلام، ولكنني أقول هذا لعموم المسلمين الذين لم يُيسر الله لهم الحج أن أعطاهم المولى عز وجل بدائل في نفس موسم الحج، ولها أجر يقترب من أجر الحج نفسه، بل قد تكون أعلى إذا خلصت النية وكان هناك شوق حقيقي للمغفرة والعمل الصالح، وانظر معي إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم في مرجعه من غزوة تبوك: (إن بالمدينة أقوامًا، ما سرتم مسيرًا ولا قطعتم واديًا إلا شركوكم الأجر، قالوا: يا رسول الله، وهم بالمدينة؟ قال: (وهم بالمدينة، حبسهم العذر)، فكان جزاء صدق نواياهم أن كتب الله لهم الأجر كاملاً.
ب - السنن الرواتب:
في صحيح مسلمٍ عن أم حبيبة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من عبد مسلم يصلي لله كل يوم اثنتي عشرة ركعة تطوعًا غير الفريضة إلا بنى الله له بيتًا في الجنة)؛ 12 ركعة: ركعتان قبل الفجر، وأربع ركعات قبل الظهر وركعتان بعده، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء.. أي فضل وأي خير هذا؟! انظر كم باستطاعتك أن (تحجز) من البيوت، وتدبر معي: إذا وعدك أحد الملوك بأنه سيعطيك بيتًا واسعًا وجميلاً في مكان جميل بشرط أن تفرِّغ له نصف ساعة يوميًّا من وقتك، فهل ستلبي طلبه أم تتقاعس عنه؟! فما بالك ورب العزة سبحانه وتعالى يعدك ببيت في الجنة التي وصفها فقال: (عرضها السماوات والأرض)!!! لذلك فإنني أقول إن المسألة مسألة إيمان ويقين في وعد الله تبارك وتعالى، فلا يفرط إنسان عاقل في هذه الفرص.
وغير ذلك من السنن والنوافل: صلاة الضحى، سنة الوضوء، صلاة الاستخارة، وغيرها...
فلتجعل من هذه العشر هجرة كاملة لله عز وجل.
4 - ذكر الله عز وجل:
والذكر في هذه الأيام له وضع خاص جدًّا، يقول الله سبحانه وتعالى: (واذكروا الله في أيام معدودات) أي هذه العشر؛ وقال ابن عباس في قوله تعالى: (ويذكروا اسم الله في أيام معلومات) هي الأيام العشر؛ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (سبق المفردون)، قالوا: وما المفردون يا رسول الله؟ قال: (الذاكرون الله كثيرًا والذاكرات).
وكل أنواع الذكر محمودة ومطلوبة، لكن في هذه الأيام يكون هناك خصوصية لبعض الأذكار، ومنها: التهليل، والتكبير، والتحميد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيما رواه أحمد عن ابن عمر رضي: (ما من أيام أعظم عند الله تعالى ولا أحب إلى من العمل فيهن من هذه الأيام العشر.. فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد)، وكذلك فإن للاستغفار في هذه الأيام حضور ومكانة كبيرة؛ إذ تشعر أن الجو العام في هذه الأيام هو جو الرحمة والمغفرة والتوبة، فهذه الأيام فرصة للاستغفار والتوبة إلى الله تعالى بصيغ الاستغفار المتعددة.. وتذكر دائمًا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يزال لسانك رطبًا بذكر الله).
5 - الدعاء:
وقد رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرًا من قيمة الدعاء، فقال: (الدعاء هو العبادة)، ويقول الله سبحانه وتعالى: (وقال ربكم ادعوني أستجب لكم)، وإذا كان للحجاج فرص عظيمة لاستجابة الدعاء: في مكة، وفي الطواف، وعند رمي الجمرات.. وغيرها، فإننا لدى غير الحاج فرص كثيرة أيضًا، منها: الثلث الأخير من الليل، وعند السجود، وفيه يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا فيه من الدعاء)؛ وعلى أية حال فإن الدعاء يكون في كل حال، وفي أي وقت، والأيام العشر كلها أيام عظيمة مباركة.
6 - قراءة القرآن:(/2)
نعمة كبيرة جدًّا أن يمن الله علينا بحب قراءة كلامه سبحانه وتعالى، وفي قراءة القرآن فضل وخير كثير.. اقرأ القرآن ولك بكل حرفٍ فيه حسنة، والحسنة بعشر أمثالها؛ بل من الممكن أن تختم القرآن كله في هذه العشر.. نعم صعب، لكن ليس مستحيلاً، اعتبر نفسك ستحج، كنت ستقتطع أسبوعين للحج، الآن اجعل ساعتين فقط يوميًّا لقراءة كتاب الله وبذلك تتمكن من ختم القرآن كله خلال هذه الأيام بإذن الله.
7 - الوحدة بين المسلمين:
إذا كان الشعور بإحساس الأمة الواحدة من الأهداف الرئيسة للحج، ولن يتواجد هذا الشعور والخلاف والشقاق منتشر بين أجزاء هذه الأيام، فتجده بين أبناء البلد الواحد، والمدينة الواحدة، بل وبين أبناء البيت الواحد أحيانًا.. لذلك فقد تكون هذه الأيام العشر فرصة لغير الحاج ليجتهد في توحيد المسلمين في محيطه، وقد يساعدك في هذا الأمر أن تسعى لتحقيق هذه الأمور:
أولاً، بر الوالدين.. فبرهما وطاعتهما مقدمة على كل شيء ما داما لم يأمرا بمعصية؛ وتذكر أنك تريد الحج حتى تدخل الجنة، والوالدان يمكنهما أن يدخلاك الجنة.
ثانيًا، صلة الرحم.. فأنت بوصلك للرحم تكون أهلاً لأن يصلك الله عز وجل، وتذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس الواصل بالمكافئ، لكن الواصل هو الذي إذا قطعت رحمه وصلها).
ثالثًا، الأصحاب والجيران، ودوائر المجتمع المحيطة بك، وتذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من عاد مريضًا، أو زار أخًا له في الله ناداه مناد: أن طبت وطاب ممشاك وتبوأت من الجنة منزلاً).
رابعًا، إصلاح ذات البين.. ابحث فيمن حولك عمن بينك وبينه خلاف أو قطيعة، واجتهد أن تصلح ما بينك وبينه، بل واجتهد أن تصلح ما بين المسلمين من حولك أيضًا، وتذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: (تفتح أبواب الجنة يوم الإثنين ويوم الخميس، فيغفر لك عبد لا يشرك بالله شيئا إلا رجلاً كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: انظروا هذين حتى يصطلحا).
8 - الصدقات:
الإكثار من الصدقة في هذه الأيام المباركة له فضله وأجره، قال تعالى: (وما تنفقوا من خيرٍ فلأنفُسِكُم وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله وما تنفقوا من خيرٍ يوفَّ إليكم وأنتم لا تظلمون)، فهذه الأيام أيام سعادة، وفقراء المسلمين في أمس الحاجة إلى السعادة في هذه الأيام.. فأكثر من النفقة واحتسب أجرك عند الله، ولا شك أن الأجر مضاعف في هذه الأيام.. وتذكر أن الحاج ينفق من ماله الشيء الكثير في الحج، ولا بد على من لم يحج ويريد أن يفوز بالأجر والثواب أن يتنافس معه قدر استطاعته، كلٌ بمقدرته (اتقوا النار ولو بشق تمرة).
9 - التقشف:
تعالوا نعش مع الحجاج معيشتهم في هذه الأيام.. تعالوا نأخذ من الحج درسًا عمليًّا نطبقه في حياتنا في بيوتنا، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصًا على أن يستشعر المسلمون حياة الحجيج حتى لو لم يذهبوا إلى مكة؛ ولذلك قال فيما ترويه أم سلمة رضي الله عنها: (إذا دخلت العشر، وأراد أحدكم أن يضحي، فلا يمس من شعره وبشره شيئًا)، ليس مهمًّا أن نلبس أفخم الثياب، أو نأكل أفضل الأكل.. لكن المهم أن نغتنم كل لحظة وكل دقيقة من هذه الأيام في طاعة الله سبحانه وتعالى.
10 - الذبح.. الأضحية:
وهي من أعظم القربات إلى الله عز وجل، وهي مما يُشعر المسلم بجو الحج تمامًا.. ويكفي أن أذكر هنا حديثين للنبي صلى الله عليه وسلم، أولهما قوله: (ما عمل ابن آدم يوم النحر عملاً أحب إلى الله تعالى من إراقة دم، وإنه ليؤتى يوم القيامة بقرونها، وأظلافها وأشعارها، وإن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع على الأرض.. فطيبوا بها نفسًا).
الحديث الثاني رواه ابن ماجه أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم سألوه: يا رسول الله، ما هذه الأضاحي؟ قال: (سنة أبيكم إبراهيم)، قالوا: فما لنا فيها يا رسول الله؟ قال: (بكل شعرة حسنة)، قالوا: فالصوف يا رسول الله؟ قال: (بكل شعرة من الصوف حسنة).
تلك -أيها الإخوة الكرام- عشرة كاملة: عشر واجبات في عشرة أيام، أعتقد أنه من خلالها يجد المرء بديلاً مناسبًا من أعمال الخير إذا لم يحج، وهي أعمال علمنا إياها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليثبت لنا فعلاً أن الحج ليس للحجاج فقط، بل ينعكس أثره على الأمة الإسلامية بكاملها.
وأخيرًا..
كلمتي للمخلصين من أبناء هذه الأمة الذين لم يكتب لهم الحج بعد: لا تحزن يا أخي، فقد جعل الله لك عوضًا عن ذلك؛ لا تحزن إن لم تكن مستطيعًا، فالله لا يكلف نفسًا إلا وسعها؛ لا تحزن فقد يكتب الله لك أجر الحجاج.. وزيادة، بنيتك الصادقة وشوقك الحقيقي ولهفتك غير المصطنعة.
ولكن إلى أن يكتب الله عز وجل لك حجًّا لا تضيع وقتًا.. قد فتح الله عليك أبواب الخير على مصراعيها، فأعمال الخير لا تنتهي، وأبواب الجنة لا تغلق في وجه طالبيها، ورحمة الله واسعة.
وأقول...(/3)
ليقم كل منا جبلاً لعرفات في قلبه، وليدعُ الله وقتما شاء.. ليرجم كل منا الشيطان في كل لحظة من لحظات حياته.. ليتخفف كل منا من دنياه، فما بقي من الدنيا أقل بكثير مما ذهب.. ليصلح كل منا ذات بينه وليسامح إخوانه، ويحب الخير لكل المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.
أسأل الله تبارك وتعالى حجًّا مبرورًا لكل من كتب له الحج، وعملاً صالحًا مقبولاً لمن لم ييسر له الحج.
كاتب المقال: د. راغب السرجاني
المصدر: إسلام أون لاين(/4)
نشرة أخبار المستقبل
مفكرة الإسلام : اقرأ هذا الكلام جيدا إلى نهايته ولا تضحك أو تتعجب !!!!!
[إليكم نشرة أخبار الظهيرة ليوم السبت الموافق: 16مارس لعام ... والموافق: 18 صفر لعام...
1- 'قامت تظاهرة حاشدة في العديد من بلدان العالم الإسلامي تطالب بمنع عرض أو استضافة برنامج 'ستار أكاديمي' وما شابهه من البرامج؛ لأنها ممتلئة بالمخالفات الشرعية الجسيمة, ومن الجدير بالذكر أن معظم المتظاهرين كانوا من الشباب'.
2- 'في استطلاع للرأي تم بين أوساط الشباب في العديد من الدول الإسلامية حول الصلاة في المسجد وأهميتها كانت النتائج التالية:
* 90% من الشباب يشعرون بأهمية الصلاة في المسجد ويحافظون عليها دائمًا.
* 7% من الشباب لا يشعرون بأهميتها, ويصلّون في المنزل.
* 3% من الشباب لا يصلون'.
3- 'أعلنت العديد من شركات الأفلام في الوطن العربي أنها بصدد إشهار إفلاسها بسبب ضعف الإقبال الجماهيري على الأفلام التي تعرضها, وكان العديد من الشباب قاطعوا هذه النوعية من الأفلام منذ فترة ليست بالوجيزة للمخالفات الشرعية الموجودة بها'.
4- 'أعلنت آخر شركات السجائر في العالم العربي إفلاسها بعد أن وصلت ديونها إلى ما يزيد عن 20 مليون دولار. وقد أفلست قبل هذه الشركة العديد من الشركات بسبب إقلاع أغلب الشباب عن التدخين, وهو ما يؤكد الإحصائيات التي ظهرت مؤخرًا أن عدد المدخنين من الشباب في العالم العربي لا يزيد عن 4% من الشباب بعد الفتوى الأخيرة لمنظمة العالم الإسلامي بالحرمة القطعية للتدخين'.
5- 'أعلن وزير الخارجية السوري في البيان الختامي لمؤتمر القمة الإسلامية أن أمية الكمبيوتر في العالم الإسلامي في طريقها للزوال في غضون بضعة أشهر. وكانت أمية القراءة والكتابة قد تم القضاء عليها منذ عدة سنوات بعد الحملة الكبيرة التي قام بها الدعاة في البلاد الإسلامية, والتي كانت بعنوان [اقرأ]'.
6- 'قامت الحكومة الأسبانية بالقبض على رئيس تحرير أحد الصحف اليومية في مدريد وإغلاق الصحيفة ومصادرة جميع الأعداد التي صدرت بتاريخ أمس من الأسواق, وذلك بسبب نشر هذه الصحيفة مقالاً يسخر فيه الكاتب من النبي صلى الله عليه وسلم ومن الإسلام.
وقد صرّح محافظ مدريد بأن هذه هي المرة الأولى التي يحدث فيها مثل هذه الأمر منذ صدور قانون عام 2006, والذي يجرّم الإساءة إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد الاحتجاجات الواسعة التي قام بها العالم الإسلامي في تلك السنة ردًا على رسوم مسيئة للنبي صلى الله عليه وسلم نشرت في صحيفة دانمركية.
ومن الجدير بالذكر أن هذه الاحتجاجات والمقاطعة الاقتصادية للبضائع الدانمركية آنذاك كلفت الحكومة الدانمركية ما يزيد على 50 مليار يورو, وأدت إلى صدور هذا القانون فيما بعد'.
7- 'بعد أن أعلنت رابطة شباب العالم الإسلامي عن المسابقة الكبرى في حفظ القرآن الكريم في جميع الدول الإسلامية لمختلف الأعمار, تقدّم ما يزيد عن عشرين مليون مسلم لهذه المسابقة, والتي تقام كل عام في نفس الموعد وتبلغ جوائزها آلاف الدولارات مقدّمة من بعض رجال الأعمال في العالم الإسلامي.
وأعلن المسئول الإعلامي في رابطة شباب العالم الإسلامي أن هذه المسابقات أثْرَت المستوى العام لحفظ القرآن في العالم الإسلامي كله؛ حيث بدأ عدد حفظة كتاب الله يتزايدون بصورة كبيرة في الآونة الأخيرة'.
إلى هنا تنتهي نشرتنا الإخبارية, والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته].
أخي الحبيب..
هذه الأخبار لم تحدث بعد في زماننا المعاصر, ولكن ثقْ تمامًا أنه سيأتي يوم من الأيام ستكون النشرات الإخبارية في العالم الإسلامي ممتلئة بهذه الأخبار السارة, هل تعرف لماذا؟!
لأنه عندها سيكون هناك من يصنع هذه الأخبار من الشباب الملتزم الغيور على دينه.
فلماذا لا نبدأ من الآن في صنع هذه الأخبار وغيرها قبل أن يأتي اليوم الذي نجلس فيه أمام التلفاز ونستمع إلى هذه الأخبار ونتحسر على أننا لم نشترك في صنعها, بل ونتمنى أن يعود الزمان إلى الوراء لكي نساهم ولو بقدر قليل في صنع هذه الإنجازات, ونتذكر حينها قول الله عز وجل:
{وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ}(/1)
نشوة الهزيمة
يوسف الحجيلان 21/2/1425
11/04/2004
"نشوة النصر".. مصطلح ذاع وشاع, وعبارة لطالما غنت بها شفاه, وشنفت أسماع.
إن كأس النصر ثورت صاحبها حالة سيكولوجية؛ تجعله يجرُّ رداءه على هام الثريّا, متوشحًا هالة القمر, ومتمنطقًا بأفق الأرض, ولا غرو!
فغبار المعركة, وشلال الدم, وهرير الرجال, وألف ألف حساب؛ جعله في ساعة ما يحسب الأرض تميد تحت قدمه.
أما وقد اكتحلت عيناه بالنصر؛ فغول خمرته أعظم من أن تدفع!
ونشوة رشفته أقوى من أن ترد!
إن نشوة النصر دفعت أولي الأحلام, وعقلاء الرجال إلى أن يكتبوا نصرهم بدم العدو, ولو كان صديق الأمس!
لطالما حرقت نشوة النصر أرضًا!
وهتكت عرضًا!
واستباحت محرمًا!
واستحقرت معظمًا!
* لما دخل عبد الله بن علي دمشق؛ دعا بالغداء، وإن رجال بني أمية تحت البسط لهم أنين!!
ذاك هو السر الذي جعل محمدًا – صلى الله عليه وسلم- يدخل مكة فاتحًا, وإن رأسه لتمس الرحل تواضعًا لله!
فما بال نشوة الهزيمة إذًا؟!!
إنها -وباختصار شديد- حال من اللاّشعور أحيانًا, أو من المنطق المعكوس في أحيان أخرى؛ تجعل أعدادًا لا يستهان بها من المنظِّرين, أو المفكرين, أو الأنصار؛ ينظرون إلى واقع الحياة بعين سوداء؛ حَجب عنها بياضَ المستقبل, ولمعانَ الحق؛ يأس تبطّن في خوف تسلل من خلال قصور نظر, أو مزاجية في الطرح؛ غاب عنها الرأي الآخر؛ فركبت الخطأ بدافع السعي إلى إيقاظ الأمة من غفلتها!
هل تريد رصد أشد جراحات الأمة نزفًا, وأكثرها إيلاما؟!
هل تريد سماع صوت المعذبين, والمقهورين, والمشردين ؟!
هل تريد معرفة عدد المقتولين, والمعذبين, والبائسين ؟!
هل تريد النظر إلى أماكن البلاء, والدماء, والأشلاء ؟!
لستَ بحاجة إلى طبق, أو (رسيفر) فقط : جمعتان, وعيد, ومحاضرة : وإن كان لا بد فشريط.
إنها محطات من الإحباط في أحيان كثيرة؛ يخرج منها أبناء الأمة محبطي الهمم, مطأطئي الرؤوس، يجرون ثوب الأسى، تعرف في وجوههم الكآبة, وتقرأ في بياض شفاهم ما تكن صدورهم, من ألم وحرقة!!
تبدأ الخطبة بنذر حرب!
وتنتهي بحالة مأتم!
وما بينهما طعن وطعان وبكاء وآهات !!
لا يكذب من قال إن الجمعة والعيد اليوم, وفي حالات عدة أيام مناحة للمسلمين!!
تعدد فيها فاجعات؛ تجعل نهاية الخطبة والخلاص من حالة السرد هذه, وما يجللها من نشيج, وبكاء, وعويل في حالات كثيرة؛ هدفًا يرنو إليه الكثير من المصلين, الذين طالما حلموا -ولو مرة- أن يسمعوا ما يبسط أسارير, أو يشق ابتسامة, أو يزيل كآبة!
لكن!!
كيف السبيل؟
وقد قال صلاح الدين: لا أضحك, والقدس في يد الصليبين!!
أسألكم بربي!!
أيها أشد بلاءً ؟!!
اليوم؛ والتدين يجتاح معاقل الفسق, والإسلام يزلزل قلاع العلمنة, والحجاب يغزو بيوت التفسخ, واللحية, والثوب القصير, والسواك, وفوق هذا أمواج المصلين والحجاج, والمعتمرين, والدعاة, والمجاهدين؛ تتدفق كسيل تحدّر من علو!!
اليوم؛ والمعركة في بداياتها, وبوادر نصر تُكتب بقلم تفاؤل, مداده واقع إسلامي, لا تزال صحوته غضّة طريّة!!
وبرغم ذلك؛ فرضت نفسها رقمًا في حساب اللعبة؛ جعل أعتى قوى الشر, بل دفع بأحلاف الباطل إلى رصّ صفوفها للمواجهة!
وهل كانت ستفعل لولا ما تراه في الأفق من نذر حق؛ قد انعقد غمامه!!
أَم الأمس ؟!!
يوم الأحزاب, يوم بلغت القلوب الحناجر, وطوق الكفر دولة الإسلام, بحده وسنانه!
حتى قال قائل الصحابة: وإن أحدنا لا يأمن على بوله!
وسيدي رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يضرب الأرض بالمعول, فينقدح الشرر؛ فيقول: الله أكبر فتحت فارس والروم, والله لتنفقن كنوزهم في سبيل الله.
نعم!
ما عندنا من خير عند رسول الله وصحبه في يوم الخندق ما لا يماثله خيرنا ولا يجاريه!
لكن ما عندنا من بلاء لا يجاري بلاءهم, ولا يدانيه, وما نسمعه من الخطباء والوعاظ, و القصاصين من إحباط يتنافى مع ما قاله سيدي في موقف يمتّ إلى واقعنا بكذا سبب!
يطارد عليه السلام ؛ فيقول: "يَا أَبَا بَكْرٍ مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا".
يُقاتل وهو الأقل عددًا؛ فيقول: أبشر يا أبا بكر, ويقول: إني لأرى مصارع القوم!
لا يخبر بالمنافقين إلا واحدا, ويعلن عن أهل الجنة على أعواد المنابر( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة).
إن القادر على إبكاء الجموع أسى, هو الأقدر على تخريج العشرات من المحبطين والقاعدين!
وإن الأمة في حالة ترنّح بحسب ما يحيط بها من خطوب؛ تجعلها أحوج إلى حقن من المنشطات منها إلى إبر المثبطات!
لن تحتاج إلى جهد كي تسرد على شباب الإسلام قصص الأبطال في صد غارات الصليبين, والتتار, والاستعمار؛ بل لن تحتاج إلى كبير عناء كي تضع لهم في خطبتك خطة عمل لمشروع يجعلهم ينظرون إلى المستقبل باستشراف أكبر, وأمل أعظم!!
فالنفس البشرية جُبلت على التعامل مع الأمل بروح أكثر عنفوانًا منها مع الألم.
إن طرح المشكلة يجعل السامع يفكر بمشكلتين: الإحباط منها, والحل لما وراءها.(/1)
وإن الحديث عن العلاج, والأمل يجعله؛ يفكر بالثانية فقط, وما بين الأمل واليأس حواجز نفسية وشَعَرَات أحاسيس؛ تحتاج فقط إلى قدرة على قنص المشاعر واستدرار العقول!!(/2)
نشيد الفداء
شعر: محمد المجذوب
كفكفي الدمع iiواهتفي
أوشك الليل iiيختفي
* * ii*
محنةُ اليوم iiأيقظت
والجراحاتُ iiأرهفت
* * ii*
فاسمعي أسدَ iiيعرب
قد وهى من iiترقبٍ
* * ii*
زحفت كاللهيب iiلا
تتخطى إلى iiالعلى
* * ii*
فهي ذي تزرع iiالردى
مقلةٌ ترصد iiالعدى
* * ii*
قد عرفنا iiطريقنا
فانطلقنا iiجميعنا
* * ii*
فيلقا فجر iiالأمل
كل حر به مثل
* * ii*
عاهد الله iiمقسماً
قبل أن تجرف iiالدما
* * ii*
فرويداً.. لقد iiدنا
وغداً تهتف iiالدنا
* * ii*
نحن للبأس iiوالهدى
كم رمتنا يدُ iiالردى ... يا ابنة القدس iiللأسودِ
وسنا فجرنا iiيعودُ
* * ii*
هاجعات iiالعزائمِ
عزمنا للعظائمِ
* * ii*
يملأ الأرض iiزأرها
لغدِ الثأر iiصبرها
* * ii*
يعتري عزمها iiالكلال
لجج الموت iiوالنكال
* * ii*
في الروابي وفي البطاح
ويد تحضن السلاح
* * ii*
بعد سيلٍ من iiالبلاء
في سباقٍ إلى iiالفداء
* * ii*
في الطلول iiالهوامد
للمثنى iiوخالد
* * ii*
لا عرا جفنه iiالهجود
ما بنى الغدر من iiحدود
* * ii*
حينكم يا بني iiالقرود
كان يوماً هنا iiيهود
* * ii*
قد خُلقنا iiوللخلود
ثم عُدنا إلى iiالوجود!(/1)
نصائح ذهبية - لكل داع أو داعية
من الجدير بالاهتمام لمن عرف أهمية الدعوة إلى الله تعالى ولمس الحاجة الماسة إليها في مجتمعاتنا أن يعرف بعض القواعد التي ينبغي استحضارها وتطبيقها في واقعنا لتكون دعوتنا مؤثرة ناجحة وتصل إلى مبتغاها.
فهاك بعض القواعد العامة المعينة في الدعوة إلى الله تعالى:
1 - قبل أن ندعوهم لا بد أن نملك قلوبهم:
إن الداعية إلى الله عز وجل ينبغي أن يكون ذا قلب كبير يسع الناس جميعاً بمختلف أوضاعهم ونفسياتهم وجنسياتهم، ويتعامل معهم برفق، ويقدم لهم أفضل ما عنده من فنون التعامل، ويتخير لهم أفضل القول وأجمل المنطق مع بذل الندى وكف الأذى. ولقد كسب النبي صلى الله عليه وسلم قلوب من حوله مع مجانبة تقليدهم في انحرافاتهم؛ فكانوا يسمونه: (الصادق الأمين) قبل أن يبعث؛ فقد ملك قلوب الناس بحسن خلقه وسماحته.
قال تعالى : وإنك لعلى" خلق عظيم {القلم: 4} وقال سبحانه : لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم {التوبة: 128} .
2 - عطاء من لا يخشى الفقر:
إن من السمات المميزة للدعاة إلى الله تعالى كرمهم وبذلهم كل خير للناس؛ فيبذلون للناس الخلق الحسن والجاه إن احتيج إليه، ويبذلون ما يستطيعون للناس من مرتفقات هذه الدنيا؛ ليبينوا لهم أنهم ليسوا طلاب دنيا وأن الدنيا آخر اهتماماتهم، فيبذلوا الدنيا للناس ليستجلبوا قلوبهم إلى الدين؛ فمنهج رسولنا صلى الله عليه وسلم هو منهج العطاء والبذل؛ فقد كان الأعرابي يرجع إلى قومه ويقول: يا قوم أسلموا؛ فإن محمداً يعطي عطاء من لا يخشى الفقر.
3 - احترام الآخرين والاهتمام بقضاياهم:
فإن النفوس تميل إلى من يحترمها ويرفع من قدرها خاصة إذا كان أولئك أصحاب مكانة في قومهم؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن يُنَزَّل الناسُ منازلهم.
وإن من أهم أسباب إسلام كثير من الصناديد هو رفع منزلتهم في الإسلام: كالأقرع بن حابس، وأبي سفيان، وعيينة بن حصن، وثمامة بن أثال.
ولقد كان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم الاهتمام بقضايا المسلمين حتى لقد كان يهتم بأمور العبيد والموالي.
فها هو يشفع لمغيث عند زوجه بريرة لكي ترجع إليه بعدما عُتِقَت وهو عبد، وغير ذلك كثير من أمثلة اهتمامه صلى الله عليه وسلم بقضايا أمَّته.
4 - الكلمة التي من القلب لا تخطئ القلب :
إن من أهم الأمور التي ينبغي استحضارها: أن يكون الداعية صادقاً في كلمته مشفقاً على المدعو، وأن تخرج الكلمات من قلبه بحرارة مباشرة إلى قلوب المدعوين، ثم تثمر الاستجابة بإذن الله.
5 - قوة الصلة بالله والاستعانة به:
إن أهم زاد للداعية في طريقه لتبليغ دعوة الله إلى الناس هو اتصاله بالله تعالى واعتماده عليه وتفويض جميع أموره إليه؛ فقلوب الناس بين أصابعه سبحانه كقلب واحد يقلبها كيف يشاء، ولو شاء لهدى الناس كلهم أجمعين؛ فبالاعتماد عليه وتفويض الأمور إليه تنفتح الأبواب، ويسهل الصعب، ويقرب البعيد.
ولقد ضرب لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الباب أروع الأمثلة في قوة الاتصال بالله تعالى وخاصة عند الأزمات، وعندما يُعرض الناس عن دعوة الحق. فها هو الطفيل بن عمرو الدوسي يأتي شاكياً قومه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكأنه يستعديه عليهم ليدعو عليهم لما أعرضوا عن دعوته؛ فما كان من نبي الرحمة إلا أن رفع يديه إلى ربه وسأله أن يهدي دوساً ويأتي بهم؛ فما أن رجع الطفيل رضى الله عنه إلى قومه حتى استجابوا جميعاً.
6 - عندما نترفع عن دنياهم :
من أهم ما يزين الداعية ويلبسه ثوب وقار، ويجعله أقرب إلى الاحترام ومن ثم القبول: أن يكون مترفعاً عن ملاحقة كماليات هذه الدنيا؛ فليس يخوض إذا خاض الناس في الشاء والبعير وأنواع السيارات والحديث عن العقارات، والسباحة في بحور الأمنيات الدنيوية؛ فهو لا يجيد السباحة في هذه البحور التي لا ساحل لها؛ بل لا تراه إلا في الدعوة وحولها يدندن.
وليس معنى ذلك أن يهجر الداعية حياته وأصحابه، وأن يكون جاهلاً بواقعه، كلا، ولكننا نريد ارتقاء بالاهتمامات، وتميزاً في الرغبات، وألاَّ يغيب عن همِّ الدعوة، كيلا نكون كالهمج الرعاع الذين يجرون خلف كل ناعق.
فإن أهل العلم دائماً يستحقرون هذه الدنيا وإن عظمت صورتها وحقيقتها عند العامة والدهماء.
اقرأ إن شئت قصة قارون: فخرج على" قومه في زينته قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم 79 وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا ولا يلقاها إلا الصابرون {القصص: 79، 80}.
قد هيؤوك لأمر لو فطنت له *** فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل
ومن الأمور المهمة أيضاً استغناء الداعية عن الناس قدر إمكانه، وعدم إراقة ماء وجهه ما استطاع، بل هو الذي يبذل الخير للناس.
7 - اعرفى واقعهم وسترحميهم :(/1)
إن مما يشد همة الداعية إلى الله لينطلق بقوة إلى الدعوة والإصلاح نظره في واقع مَنْ حولَه وبُعدهم عن الله تعالى، وعمق الهوة السحيقة التي وقعوا فيها أو أوشكوا... فعند ذلك يتدفق من قلبه شعور برحمة هؤلاء، ثم يثمر الرغبة في تغيير واقعهم كيلا يوافوا الله تعالى وهم على هذا الحال .
8 - تحت الرغوة اللبن الصافي:
نعم! فلا يغرنك المظهر، وكذا في واقع الدعوة؛ فإن الناس وإن وقعوا في مآثم ومنكرات بل حتى موبقات فإنهم لا يزال فيهم خير ما داموا موحدين.
ومن هنا ينبغي لنا ألاَّ نترفع عليهم ونكشر أنيابنا في وجوههم، بل ينبغي أن نجلِّي لهم أبواب التوبة المفتوحة، ونرغبهم برحمة الله ولا نقنطهم منها، وأن نحاول تنمية جوانب الخير عندهم.
ومن الطرائف في ذلك أن بعض الدعاة كانوا في فرنسا، فذهبوا إلى حديقة مليئة بالناس والمنكرات، فوجدوا شاباً عربياً معه آلات موسيقية ويغني، فما كان منهم إلا أن ذهبوا إليه ودار الحوار الآتي:
الداعية: مَنِ الأخ.. أعني ما اسمك؟
الرجل: محمد...
الداعية: ما شاء الله ما شاء الله! هذا اسم الرسول صلى الله عليه وسلم .
الرجل: ولكني لا أصلي.
الداعية: ما شاء الله. الله أكبر. دائماً المؤمن لا يكذب ومنهجه الصراحة. وأنت كذلك...
فما كان من ذلك الرجل إلا أن ذهب مع الداعية إلى سكنه، وثم هداه الله تعالى على يديه.
ولقد ضرب لنا النبي صلى الله عليه وسلم أروع الأمثلة في ذلك؛ فها هو صلى الله عليه وسلم يسمع أبا محذورة يقلد الأذان؛ فما كان منه إلا أن أثنى على جمال صوته، ومن ثم علَّمه الأذان فصار بعدُ مؤذن النبي صلى الله عليه وسلم .
وها هو يمنع أي أحد أن يتعرض لمن جلده في الخمر بعد جلده ويقول: "لا تعينوا الشيطان على أخيكم"(1).
إن بُعدنا عن صاحب المعصية والنظر إليه شزراً على أنه عاصٍ لَهُوَ من أسباب عون الشيطان عليه ونفرته من أهل الصلاح؛ ولكن عندما نفتح له قلوبنا ونتعامل مع أخطائه برفق وحنان فسينتج ما لم نره من قبل.
وبقي نقطتان منهجيتان في الدعوة ينبغي ألاَّ يغفلهما الدعاة وإن كانتا ليستا من طرق كسب الناس والتأثير فيهم:
الأولى: الصبر على ما يصيب الداعية في ذات الله؛ فإنه مأجور فيه، وله العاقبة بإذن الله إن صبر وثبت على منهجه الحق، وأظن أن عندك أخي القارئ من الآيات والأحاديث في ذلك ما يربو على ما عندي.
الثانية: أن على الداعية أن يؤدي ما عليه وهو واجب البلاغ، وأن النتائج ليست إليه ولا يؤخذ بها إذا أدى ما عليه. قال تعالى : إن عليك إلا البلاغ {الشورى: 48} .
تلكم كانت إضاءات وخواطر وقواعد دعوية اختلجت في صدري، فأبديتها ناصحاً نفسي وإخوتي، علها أن تؤدي ثمراتها .
وعلى الله قصد السبيل.
-----
بقلم: أمين بن عبد الرحمن بن محمد الغنام
عضو الدعوة في عنيزة(/2)
نصائح عامة مهمة
عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
دار الوطن
نصيحة موجهة إلى كافة المسلمين
من عبدالعزيز بن عبدالله بن باز إلى من يراه من المسلمين، سلك الله بي وبهم سبيل عباده المؤمنين، وأعاذني وإياهم من طريق المغضوب عليهم والضالين. آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته: أما بعد، فالموجب لهذا هو النصيحة والتذكير عملا بقول الله تعالى: وذكّر فإن الذكرى تنفع المؤمنين [الذاريات:55]، وقوله تعالى: وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان [المائدة:2]، وقوله سبحانه: والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر [العصر]، وقول النبي : { الدين النصيحة قيل: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم } [رواه مسلم].
ففي هذه الآيات المحكمات والحديث الشريف، صريح الدلالة على مشروعية التذكير والتناصح، والتواصي بالحديث الشريف، صريح الدلالة على مشروعية التذكير والتناصح، والتواصي بالحق والدعوة إليه، وذلك لما يترتب عليه من نفع المؤمنين، وتعليم الجاهل، وإرشاد الضال، وتنبيه الغافل، وتذكير الناس، وتحريض العالم على العمل بما يعلم، وغير ذلك من المصالح الكثيرة.
والله سبحانه وتعالى إنما خلق الخلق ليعبدوه ويطيعوه وأرسل الرسل مذكرين بذلك ومبشرين ومنذرين، كما قال تعالى: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون [الذاريات:56]، وقال تعالى: وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن توليتم فإنما على رسولنا البلاغ المبين [التغابن:12]، وقال تعالى: رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل [النساء:165]، وقال تعالى: فذكر إنما أنت مذكر [الغاشية:21].
فالواجب على كل من لديه علم أن يذكّر بذلك، وأن يناصح في الله ويدعو إليه حسب الطاقة، أداءً لواجب التبليغ والدعوة، وتأسيا بالرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام، وحذرا من إثم الكتمان الذي قد أوعد الله عيه في محكم القرآن، كما قال تعالى: إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون [البقرة:159].
وقد صح عن النبي أنه قال: { من دل على خير فله مثل أجر فاعله }، وقال عليه الصلاة والسلام: { من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا } [رواهما مسلم في صحيحه].
إذا عرف ما تقدم، فالذي أوصيكم به ونفسي: تقوى الله سبحانه في السر والعلانية، والشدة والرخاء، فإنها وصية الله وصية رسوله كما قال تعالى: ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله [النساء:131]، وكان النبي يقول في خطبة: { أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة }.
والتقوى كلمة جامعة، مع الخير كله، وحقيقتها أداء ما أوجب الله، واجتناب ما حرمه الله على وجه الإخلاص له والحبة، والرغبة في ثوابه، والحذر من عقابه، وقد أمر الله عباده بالتقوى ووعدهم عليها بتيسير الأمور، وتفريج الكروب، وتسهيل الرزق، وغفران السيئات والفوز بالجنات، قال تعالى: يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم [الحج:1]، وقال تعالى: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون [الحشر:18]، وقال تعالى: ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا [الطلاق:2-3]، وقال تعالى: إن للمتقين عند ربهم جنات النعيم [القلم:34]، وقال تعالى: ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا [الطلاق:5]، والآيات في هذا المعنى كثيرة.
فيا معشر المسلمين، راقبوا الله سبحانه، وبادروا إلى التقوى في جميع الحالات، وحاسبوا أنفسكم عند جميع أقوالكم وأعمالكم ومعاملاتكم، فما كان من ذلك سائغا في الشرع فلا بأس من تعاطيه، وما كان منها محظورا في الشرع فاحذروه وإن ترتب عليه طمع كثير، فإن ما عند الله خير وأبقى، ومن ترك شيئا اتقاء الله عوضه الله خيرا منه، ومتى راقب العباد ربهم واتقوه سبحانه بفعل ما أمر وترك ما نهى، أعطاهم الله سبحانه ما رتب على التقوى من العزة والفلاح والرزق الواسع، والخروج من المضايق، والسعادة والنجاة في الدنيا والآخرة.(/1)
ولا يخفى على كل ذي لب وأدنى بصيرة ما قد أصاب أكثر المسلمين من قسوة القلوب والزهد في الآخرة، والإعراض عن أسباب النجاة، والإقبال على الدنيا وأسباب تحصيلها بكل حرص وجشع من دون تميز بين ما يحل ويحرم، وانهماك الأكثرين في الشهوات، وأنواع اللهو والغفلة، وما ذلك إلا بسبب إعراض القلوب عن الآخرة، وغفلتها عن ذكر الله ومحبته، وعن التفكر في آلائه ونعمه، وآياته الظاهرة والباطنة، وعدم الاستعداد للقاء الله وتذكر الوقوف بين يديه والانصراف من الموقف العظيم إما إلى الجنة وإما إلى النار.
فيا معشر المسلمين تداركوا أنفسكم وتوبوا إلى ربكم، وتفقهوا في دينكم، وبادروا إلى أداء ما أوجب الله عليكم، واجتنبوا ما حرم عليكم، لتفوزوا بالعز والأمن والهداية والسعادة في الدنيا والآخرة، وإياكم والانكباب على الدنيا وإيثارها على الآخرة، فإن ذلك من صفة أعداء الله وأعدائكم من الكفرة والمنافقين، ومن أعظم أسباب العذاب في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى في صفة أعدائه: إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوماً ثقيلا [الإنسان:27]، وقوله تعالى: فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون [التوبة:55]، وأنتم لم تخلقوا للدنيا، وإنما خلقتم للآخرة، وأمرتم بالتزود لها، وخلقت الدنيا لكم، لتستعينوا بها على عبادة الله الذي خلقكم سبحانه، والاستعداد للقائه، فتستحقوا بذلك فضله وكرامته، وجواره في جنات النعيم.
فقبيح بالعاقل أن يعرض عن عبادة خالقه ومربيه، وعما أعده له من الكرامة، ويشتغل عن ذلك بإيثار شهواته البهيمية، والجشع على تحصيل عرض الدنيا الزائل، الذي قد ضمن الله له ما هو خير منه وأحسن عاقبة في الدنيا والآخرة، وليحذر كل مسلم أن يغتر بالأكثرين، ويقول: إن الناس قد ساروا إلى كذا واعتادوا كذا فأنا معهم، فإن هذه مصيبة عظمى قد هلك بها أكثر الماضين، ولكن - أيها العاقل - عليك بالنظر لنفسك ومحاسبتها والتمسك بالحق وإن تركه الناس، والحذر مما نهى الله عنه وإن فعله الناس، فالحق أحق بالاتباع كما قال تعالى: وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون [الأنعام:116]، وقال تعالى: وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين [يوسف:103]، وقال بعض السلف رحمهم الله: "لا تزهد في الحق لقلة السالكين، ولا تغتر بالباطل لكثرة الهالكين".
هذا ويسرني أن أختم نصيحتي هذه بخمسة أمور هي جماع الخير كله:
الأول: الإخلاص لله وحده في جميع القربات القولية والعملية، والحذر من الشرك كله دقيقة وجليله، وهذا هو أوجب الواجبات وأهم الأمور، وهو معنى شهادة أن لا إله إلا الله، ولا صحة لأعمال العبادة وأقوالهم إلا بعد صحة هذا الأصل وسلامته، كما قال تعالى: ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين [الزمر:65].
الأمر الثاني: التفقه في القرآن وسنة الرسول والتمسك بهما، وسؤال أهل العلم عن كل ما أشكل عليكم في أمر دينكم، وهذا واجب على كل مسلم ليس له تركه والإعراض عنه والسير وراء رأيه وهواه بدون علم وبصيرة، وهذا معنى شهادة أن محمدا رسول الله فإن هذه الشهادة توجب على العبد الإيمان بأن محمدا هو رسول الله حقا، والتمسك بما جاء به وتصديقه فيما أخبر به، وألا يعبد الله سبحانه إلا بما شرع على لسان رسوله كما قال سبحانه: قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله يغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم [آل عمران:31]، وقال سبحانه: وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا [الحشر:7]، وقال : { من أحداث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد } [متفق على صحته]، وقال أيضا : { من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد } [أخرجه مسلم في صحيحه].
وكل من أعرض عن القرآن والسنة، فهو متابع لهواه عاص لمولاه مستحق للمقت والعقوبة كما قال تعالى: فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله [القصص:50]، وقال تعالى في وصف الكفار: إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى [النجم:23]، واتباع الهوى - والعياذ بالله - يطمس نور القلب، ويصد عن الحق، كما قال تعالى: ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله [ص:26].
فاحذروا - رحمكم الله - اتباع الهوى، والإعراض عن الهدى، وعليكم بالتمسك بالحق والدعوة إليه، والحذر ممن خالفه، لتفوزوا بخيري الدنيا والآخرة.(/2)
الأمر الثالث: إقامة الصلوات الخمس والمحافظة عليها في الجماعة، فإنها أهم الواجبات وأعظمها بعد الشهادتين، وهي عمود الدين والركن الثاني من أركان الإسلام، وهي أول شيء يحاسب عليه العبد من عمله يوم القيامة، فمن حفظها فقد حفظ دينه، ومن تركها فارق الإسلام، فما أعظم حسرته وأسوأ عاقبته يوم الوقوف بين يدي الله. فعليكم - رحمكم الله - بالمحافظة عليها والتواصي بذلك، والإنكار على من تخلف عنها وهجره، لأن ذلك من التعاون على البر والتقوى، وقد صح عن النبي : { العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر } [أخرجه الإمام أحمد وأهل السنن بسند صحيح]، وقال النبي : { بين الرجل وبين الكفر والشرك ترك الصلاة } [أخرجه الإمام مسلم في صحيحه]، وقال : { من رأى منكم منكر فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان } [أخرجه مسلم في الصحيح].
الأمر الرابع: العناية بالزكاة والحرص على أدائها كما أوجب الله، لكونها الركن الثالث من أركان الإسلام. فيجب على كل فرد من المسلمين المكلفين إحصاء ما لديه من المال الزكوي، وضبطه وإخراج زكاته كلما حال عليه الحول، إذا بلغ نصاب الزكاة، ويكون طيب النفس بذلك، منشرح الصدر، أداءً لما أوجبه الله، وشكرا لنعمته، وإحسانا إلى عباد الله. ومتى فعل المسلم ذلك، ضاعف الله له الأجر، وأخلف عليه ما أنفق، وبارك له في الباقي، وزكاه وطهره، كما قال الله سبحانه: خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها [التوبة:103]، ومتى بخل بالزكاة وتهاون بأمرها، غضب الله عليه، ونزع بركة ماله وسلط عليه أسباب التلف والإنفاق في غير الحق، وعذبه به يوم القيامة، كما قال تعالى: والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم [التوبة:34]، وكل مال لا تؤدى زكاته فهو كنز يعذب به صاحبه يوم القيامة، أعاذنا الله وإياكم من ذلك.
أما غير المكلف من المسلمين، كالصغير، والمجنون، فالواجب على وليه العناية بإخراج زكاة ماله كلما حال عليه الحول، لعموم الأدلة من الكتاب والسنة الدالة على وجوب الزكاة في مال المسلم مكلفا كان أو غير مكلف.
الأمر الخامس: يجب على كل مكلف من المسلمين - ذكرا كان أو أنثى - أن يطيع الله ورسوله في كل ما أمر الله ورسوله: كصيام رمضان وحج البيت مع الاستطاعة وسائر ما أمر الله به ورسوله، وأن يعظم حرمات الله، ويتفكر فيما خلق لأجله وأمر به، ويحاسب نفسه في ذلك دائما، فإن كان قد قام بما أوجب الله عليه فرح بذلك، وحمد الله عليه، وسأله الثبات، وأخذ حذره من الكبر والعجب وتزكية النفس. وإن كان قد قصر فيما أوجب عليه، أو ارتكب بعض ما حرم الله عليه، بادر إلى الله بالتوبة الصادقة، والندم والاستقامة على أمر الله، والإكثار من الذكر والاستغفار والضراعة إلى الله سبحانه وسؤاله التوبة من سالف الذنوب، والتوفيق لصالح القول والعمل، ومتى وفق العبد لهذا الأمر العظيم فذلك عنوان ساعدته ونجاته في الدنيا والآخرة، ومتى غفل عن نفسه وسار وراء هواه وشهواته، وأعرض عن الاستعداد لآخرته فذلك عنوان هلاكه، ودليل خسرانه.
فينظر كل منكم لنفسه، وليحاسبها ويفتش عن عيوبها فسوف يجد ما يحزنه ويشغله بنفسه عن غيره، ويوجب له الذل لله والانكسار بين يديه وسؤاله العفو والمغفرة. وهذه المحاسبة وهذا الذل والانكسار بين يدي الله هو سبب السعادة والفلاح والعز في الدنيا والآخرة.
وليعلم كل مسلم: أن كل ما حصل له من صحة ونعمة وجاه رفيع، وخصب ورخاء فهو من فضل الله وإحسانه. وكل ما أصابه من مرض أو مصيبة أو فقر أو جدب أو تسليط عدو أو غير ذلك من المصائب، فهو بسبب الذنوب والمعاصي.
فجميع ما في الدنيا والآخرة من العذاب والآلام وأسبابهما: فبسبب معصية الله، ومخالفة أمره، والتهاون في حقه، كما قال تعالى: وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير [الشورى:30]، وقال تعالى: ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون [الروم:41].
فاتقوا الله عباد الله، وعظموا أمره ونهيه، وبادروا بالتوبة إليه من جميع ذنوبكم واعتمدوا عليه وحده، وتوكلوا عليه، فإنه خالق الخلق ورازقهم، ونواصيهم بيده سبحانه، لا يملك أحد منهم لنفسه ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا.
وقدموا - رحمكم الله - حق ربكم وحق رسوله على حق غيره وطاعة غيره كائنا من كان، وتآمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، وأحسنوا الظن بالله، وأكثروا من ذكره واستغفاره، وتعاونوا على البر والتقوى، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان، وخذوا على أيدي سفهائكم وألزموهم بما أمرهم الله به، وامنعوهم عما نهى الله عنه، وأحبوا في الله، وأبغضوا في الله، ووالوا أولياء الله وعادوا أعداء الله، واصبروا وصابروا حتى تلقوا ربكم فتفوزوا بغاية السعادة والكرامة والعزة والمنازل العالية في جنات النعيم.(/3)
والله المسؤول أن يوفقنا وإياكم لما يُرضه، وأن يصلح قلوب الجميع، ويعمرها بخشيته ومحبته وتقواه، والنصح له ولعباده، وأن يعيذنا وإياكم من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، وأن يوفق ولاة أمرنا وسائر ولاة أمر المسلمين لما يرضيه، وأن ينصر بهم الحق ويخذل بهم الباطل، وأن يعيذ الجميع من مضلات الفتن، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته … وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
--------------------------------------------------------------------------------
النصح والإرشاد
مما لا شك فيه لذى عقل سليم أن الأمم لابد لها من موجه يوجهها ويدلها على طريق السداد، وأمة الإسلام هي أخص الأمم بالقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والواجب يحتم على كل مسلم - بقدر استطاعته وعلى حسب مقدرته - أن يشمر عن ساعد الجد في النصح والتوجيه حتى تبرأ ذمته ويهتدي به غيره، قال تعالى: وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين [الذاريات:55].
ولا ريب أن كل مؤمن - بل كل إنسان - في حاجة شديدة إلى التذكير بحق الله وحق عباده والترغيب في أداء ذلك، وفي حاجة شديدة إلى التواصي بالحق والصبر عليه، وقد أخبر الله سبحانه في كتابه المبين عن صفة الرابحين وأعمالهم الحميدة، وعن صفة الخاسرين وأخلاقهم الذميمة، وذلك في آيات كثيرات من القرآن الكريم، وأجمعها ما ذكره الله سبحانه في سورة العصر حيث قال: والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتوصوا بالحق وتواصوا بالصبر [العصر]، فأرشد عباده عز وجل في هذه السور القصيرة العظيمة إلى أن أسباب الربح تنحصر في أربع صفات.
الأولى: الإيمان الثانية: العمل الصالح والثالثة: التواصي بالحق. والرابعة: التواصي بالصبر.
فمن كمل هذه المقامات الأربعة فاز بأعظم الربح، واستحق من ربه الكرامة والفوز بالنعيم المقيم يوم القيامة، ومن حاد عن هذه الصفات ولم يتخلّق بها، باء بأعظم الخسران وصار إلى الجحيم دار الهوان، وقد شرح الله سبحانه في كتابه الكريم صفات الرابحين ونوعها وكررها في مواضع كثيرة من كتابه، ليعرفها طالب النجاة فيتخلّق بها ويدعو إليها، وشرح صفات الخاسرين في آيات كثيرة ليعرفها ويبتعد عنها، ومن تدبر كتاب الله وأكثر من تلاوته عرف صفات الرابحين وصفات الخاسرين على التفصيل، كما بين سبحانه ذلك في آيات كثيرة، منها ما تقدم، ومنها قوله جل وعلا: إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجر كبيرا [الإسراء:9]، وقال تعالى: كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب [ص:29]، وقال تعالى: وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون [الأنعام:155]، وصح عن النبي أنه قال: { خيركم من تعلم القرآن وعلمه }، وقال في خطبته في حجة الوداع على رؤوس الأشهاد يوم عرفة: { إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا إن اعتصمتم به: كتاب الله }، فبين الله سبحانه في هذه الآيات أنه أنزل القرآن ليتدبره العباد ويتذكروا به ويتبعوه ويهتدوا به إلى أسباب السعادة والعزة والنجاة في الدنيا والآخرة، وأرشد الرسول الأمة إلى تعلمه وتعليمه، وبين أن خير الناس هم أهل القرآن الذين يتعلمون القرآن ويعلمونه غيرهم بالعمل به واتباعه والوقوف عند حدوده والحكم به والتحاكم إليه، وأوضح عليه الصلاة والسلام للناس في المجتمع العظيم يوم عرفة أنهم لن يضلوا ما داموا معتصمين بكتاب الله سائرين على تعاليمه، ولما سار السلف الصالح والصدر الأول من هذه الأمة على تعاليم القرآن وسيرة الرسول أعزهم الله ورفع شأنهم ومكن لهم في الأرض، تحقيقا لما وعدهم الله به في قوله سبحانه: وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا [النور:55]، وقال تعالى: يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم [محمد:7]، وقال تعالى: ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور [الحج:40-41].
فيا معشر المسلمين، تدبروا كتاب ربكم وأكثروا من تلاوته، وامتثلوا ما فيه من الأوامر، واجتنبوا ما فيه من النواهي، واعرفوا الأخلاق والأعمال التي مدحها القرآن، فسارعوا إليها وتخلقوا بها، واعرفوا الأخلاق والأعمال التي ذمها القرآن وتوعد أهلها فاحذروها وابتعدوا عنها، وتواصوا فيما بينكن بذلك واصبروا عليه حتى تلقوا ربكم، وبذلك تستحقون الكرامة وتفوزون بالنجاة والسعادة والعزة في الدنيا والآخرة.(/4)
نصائح في طلب العلم الشرعي للمقيمين في بلاد الغربة ...
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
شيخنا الحبيب حفظة الله
أولا أشهد الله تعالى أني أحبك في الله، وأسأل الله أن يجمعنا معك لنستفيد من علمك.
سؤالي هو أني أعيش في بلد غربي ومشكلتنا هنا أنه لا يوجد عندنا من هو مؤهل للفتوى بين المسلمين بل عندنا شيخ أزهري عنده مصائب عظيمة في العقيدة كتحليله تهنئة الكفار بأعيادهم، ومباركة التقارب المزعوم بين السنة والشيعة، وغيرها من المصائب، سيكون لها سؤال خاص، مع وجود بعض الاخوة الذين يحاولون تحصيل العلم الشرعي ولم يصلوا له بعد، فسؤالي هو أنني متخوف أن أكون آثما ببقائي في هذا البلد لعدم تحقق فرض الكفاية في تحصيل العلم الشرعي.
فما رأيكم بهذا وما هو الواجب الشرعي علينا في هذا البلد، وهل علينا ترك هذا البلد.
أفتونا بأمرنا جزاكم الله.
أعتذر كثيرا على الإطالة, لكن الحاجة ماسة، وأسأل الله أن يجزيك خيرا عنا وعن المسلمين إنه سميع مجيب.
******************************
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
أخي الحبيب
أحبك الله الذي أحببتني فيه، وجعلني وجميع الأخوة من الذين يظلهم الله يوم القيامة تحت ظله إنه سميع مجيب.
أخي بالنسبة لسؤالك:
فاعلم أن هذا من مصائب هذا العصر وهو عدم وجود مجالس العلم، بل قل ندرتها وقلتها، وحتى لو وجدت فالموانع دونها كثيرة / وحسبنا الله ونعم الوكيل، لكن أذكر لك بعض الأمور النافعة إن شاء الله تعالى ومنها:
1- حاول أخي أن تهجر هذه البلاد بحثا عن بلد آخر تستطيع فيه أن تحفظ دينك، هذا إن قدرت وتذكر قوله تعالى: {ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة، ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله}.
وتذكر حديث النبي صلى الله عليه وسلم في من قتل تسعة وتسعين نفسا كيف حضه العالم على هجر موطن الشر والسوء.
2- عليك بالصحبة الطيبة النافعة، وإياك ورفقة السوء فهي التي تحرق دينك ولا تبق منه شيئا، فعليك بالمحافظة على إخوان لك يعينوك على الخير والدين، وهؤلاء هم رواد المساجد والمحافظين على الصلاة وعلى ذكر الله تعالى.
3- عليك بالدوام على الطاعات، فالصلاة على وقتها مقدمة على أي عمل وحافظ على قيام الليل ما استطعت ولو بركعتين خفيفتين فهي أفضل الأعمال بعد الفريضة ولا تنس ركعتي الضحى فهي صلاة الأوابين كما قال الرسول المصطفى صلى الله عليه وسلم، وحافظ على أن يكون لسانك رطبا بذكر الله تعالى، ومن الذكر الممدوح قولك: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم، وكذلك الباقيات الصالحات وهي سبحان الله والحمد لله ولا اله إلا الله والله أكبر.
وعليك بدوام الاستغاثة بالله تعالى كقولك يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث، وأكثر من قولك يا ذا الجلال والإكرام وأكثر كذلك من قولك: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، وداوم على دعاء ذي النون عليه السلام وهو قوله : لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين.
وكلما أحدثت معصية فعليك بالوضوء وصلاة ركعتين وأنصحك باقتناء الكتاب العظيم: رياض الصالحين، وقراءة كل يوم بابا من أبوابه الطيبة.
4- عليك من أجل استدراك ما يفوتك من اللقاء بأهل العلم وطلبته أن تحرص على سماع الأشرطة العلمية وخاصة ما كان من الدورات الشرعية وشروح العلم وكتب أهل العلم، ففيها ما ينفعك.
5- إن كنت صاحب إرادة قوية فعليك بالقراءة والنظر في كتب أهل العلم ككتب التفسير وابدأ بتفسير ابن كثير رحمه الله تعالى، وشروح الحديث كفتح الباري لابن حجر وشرح النووي على مسلم، وعليك بكتب الفقه ومن أهمها كتاب المغني لابن قدامة والمجموع للنووي ففيها زاد عظيم.
ختما أرجو من الله تعالى أن يحفظك من كل مكروه وشر.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركات(/1)
نصائح وتوجيهات لمن تُوفي له قريب ...
الحمد لله {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً}، والحمد لله حق من قائل: {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ}، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد بن عبد الله ورسوله وخليله عليه أفضل الصلاة والسلام، أما بعد:
فهذه نصائح وتوجيهات نبويه لمن توفي له قريب أو عزيز، وأسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يغفر لأحيائنا وأمواتنا أجمعين .. اللهم آمين.
ما يجب على أقارب الميت
فإنه مما يجب على أقارب الميت أمران، هما:
الأمر الأول: الصبر والرضا بالقدر لقوله تعالى: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعون * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:155-157]، ولحديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال:
" مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بامرأة عند قبر وهي تبكي، فقال لها: اتقي الله واصبري، فقالت: إليك عني، فإنك لم تصب بمصيبتي! قال: ولم تعرفه! فقيل لها: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ! فأخذها مثل الموت، فأتت باب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم تجد عنده بوابي، فقالت: يا رسول الله إني لم أعرفك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الصبر عند أول الصدمة "، أخرجه البخاري ومسلم والبيهقي والسياق له.
الأمر الثاني: مما يجب على الأقارب: الاسترجاع، وهو أن يقول: {إنا لله وإنا إليه راجعون} كما في الآية المتقدمة، ويزيد عليه قوله: " اللهم اجرني في مصيبتي وأخلف لي خيراً منها " لحديث أم سلمة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
" ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله {إنا لله وإنا إليه راجعون} اللهم اجرني في مصيبتي وأخلف لي خيراً منها إلا أخلف الله له خيراً منها ... الحديث "، أخرجه مسلم والبيهقي وأحمد.
ما يحرم على أقارب الميت
وأما ما يحرم على أقارب الميت أمور حرمها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا بد من بيانها لمعرفتها واجتنابها وهي:
1- النياحة وهي أمر زائد على البكاء. قال ابن العربي: " النوح ما كانت الجاهلية تفعل، كان النساء يقفن متقابلات يصحن، ويحثين التراب على رؤوسهن ويضربن وجوههن " نقله الأبي على المسلم.
وفيها أحاديث كثيرة أقتصر على ذكر أحدها وهي: " أربع في أمتي من أمر الجاهلية، لا يتركونهن: الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة. وقال: النائحة إذا لم تتب قبل موتها، تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران، ودرع من جرب "، رواه مسلم والبيهقي من حديث أبي مالك الأشعري.
2، 3 – ضرب الخدود، وشق الجيوب لقوله صلى الله عليه وسلم:
" ليس منا من لطم الخدود، وشق الجيوب، ودعى بدعوى الجاهلية "، رواه البخاري، ومسلم، وابن الجارود، والبيهقي، وغيرهم من حديث ابن مسعود.
4- حلق الشعر، لحديث أبي بردة بن أبي موسى قال:
" وجع أبو موسى وجعاً فغشي عليه، ورأسه في حجر امرأة من أهله، فصاحت امرأة من أهله، فلم يستطع أن يرد عليها شيئاً، فلما أفاق قال: أنا بريء ممن برئ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم برئ من الصالقة والحالقة والشاقة " .
أخرجه البخاري ومسلم والنسائي والبيهقي.
والصالقة: هي التي ترفع صوتها عند الفجيعة بالموت.
5- نشر الشعر، لحديث امرأة من المبايعات قال:
" كيف فيما أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المعروف الذي أخذ علينا أن لا نعصيه فيه، وأن لا نخمش وجهاً ولا ندعو ويلا، ولا نشق جيباً، وأن لا ننشر شعرا ".
أخرجه أبو داود ومن طريقه البيهقي بسند صحيح.
6- إعفاء بعض الرجال لحاهم أياماً قليلة حزناً على ميتهم، فإذا مضت عادوا إلى حلقها ! فهذا الإعفاء في معنى نشر الشعر كما هو ظاهر، يضاف إلى ذلك أنه بدعة، وقد قال صلى الله عليه وسلم:
" كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار ".
رواه النسائي والبيهقي في "الأسماء والصفات" بسند صحيح عن جابر.
7- الإعلان عن موته على رؤوس المنائر ونحوها، لأنه من النعي وقد ثبت عن حذيفة بن اليمان أنه:
" كان إذا مات له الميت قال: لا تؤذوا به أحداً، إني أخاف أن يكون نعياً، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن النعي ".
أخرجه الترمذي وحسنه، وابن ماجه، وأحمد، والسياق له، والبيهقي، وأخرج المرفوع منه ابن أبي شيبة في "المصنف" وإسناده حسن كما قال الحافظ في "الفتح".(/1)
والنعي لغة: هو الإخبار بموت الميت، فهو على هذا يشمل كل إخبار ولكن قد جاءت أحاديث صحيحة تدل على جواز نوع من الإخبار، وقيد العلماء بها مطلق النهي، وقالوا: المراد بالنعي الإعلان الذي يشبه ما كان عليه أهل الجاهلية من الصياح على أبواب البيوت والأسواق كما سيأتي.
النعي الجائز
والنعي الجائز هو إعلان الوفاة إذا لم يقترن به ما يشبه نعي الجاهلية وقد يجب ذلك إذا لم يكن عنده من يقوم بحقه من الغسل والتكفين والصلاة عليه ونحو ذلك، وفي أحاديث منها:
عن أبي هريرة رضي الله عنه:
" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه، وخرج إلى المصلى، فصف بهم وكبر أربعاً ". أخرجه الشيخان وغيرهما.
وترجم البخاري في صحيحه باباً بقوله:
" باب الرجل ينعى أهل الميت بنفسه "، وقال الحافظ:
" وفائدة هذه الترجمة الإشارة إلى أن النعي ليس ممنوعاً كله، وإنما نهى عما كان أهل الجاهلية يصنعونه، فكانوا يرسلون من يعلن بخبر موت الميت على أبواب الدور والأسواق ... ".
ويستحب للمخبر أن يطلب من الناس أن يستغفروا للميت لحديث أبي هريرة وغيره في قوله صلى الله عليه وسلم لما نعي للناس النجاشي: " استغفروا لأخيكم ".
ومما سبق تعلم أن قول الناس اليوم في بعض البلاد: " الفاتحة على روح فلان " مخالف للسنة المذكورة، فهو بدعة بلا شك، لا سيما والقراءة لا تصل إلى الموتى على القول الصحيح.
التعزية
وتشرع تعزية أهل الميت، لحديث أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" من عزى أخاه المؤمن في مصيبته كساه الله حلة خضراء يحبر بها يوم القيامة، قيل يا رسول الله ما يحبر ؟ قال يغبط " يغبط يعني يسر.
أخرجه الخطيب في "تاريخ بغداد" وابن عساكر في "تاريخ دمشق"، وله شاهد عن طلحة بن عبيد الله بن كريز مقطوعاً، أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" وهو حديث حسن بمجموع الطريقين.
وينبغي اجتناب أمرين وإن تتابع الناس عليهما:
1- الاجتماع للتعزية في مكان خاص كالدار أو المقبرة أو المسجد.
2- اتخاذ أهل الميت الطعام لضيافة الواردين للعزاء.
وذلك لحديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال:
" كنا نعد (وفي رواية نرى) الاجتماع إلى أهل الميت، وصنيعة الطعام بعد دفنه من النياحة".
أخرجه أحمد وابن ماجه والرواية الأخرى له وإسناده صحيح على شرط الشيخين، وصححه النووي والبوصيري في الزوائد.
وقال النووي في "المجموع":
"وأما الجلوس للتعزية، فنص الشافعي والمصنف وسائر الأصحاب على كراهته، قالوا يعني بالجلوس لها أن يجتمع أهل الميت في بيت فيقصدهم من أراد التعزية، قالوا: بل ينبغي أن ينصرفوا في حوائجهم فمن صادفهم عزاهم، ولا فرق بين الرجال والنساء في كراهة الجلوس لها ".
وإنما السنة أن يصنع أقرباء الميت وجيرانه لأهل الميت طعاماً يشبعهم، لحديث عبد الله بن جعفر رضي الله عنه قال:
" لما جاء نعي جعفر حيث قتل قال النبي صلى الله عليه وسلم: اصنعوا لآل جعفر طعاماً، فقد أتاهم أمر يشغلهم، أو أتاهم ما يشغلهم ".
ما ينتفع به الميت
وينتفع الميت من عمل غيره بأمور:
أولاً: دعاء المسلم له، إذا توفرت فيه شروط القبول، لقول الله تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [الحشر:10].
وأما الأحاديث فهي كثيرة جداً، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم:
" دعوة المرء المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة، عند رأسه ملك موكل، كلما دعا لأخيه بخير، قال الملك الموكل به، آمين ولك بمثل ".
أخرجه مسلم والسياق له، وأبو داود، وأحمد من حديث أبي الدرداء.
بل إن صلاة الجنازة جلها شاهد لذلك، لأن غالبها دعاء للميت واستغفار له.
وقد أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء برئاسة سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله بأنه لم يرد في بيان صفة الاستغفار والدعاء للميت بعد الدفن حديث يعتمد فيما نعلم، وإنما ورد الأمر بمطلق الاستغفار والدعاء له بالتثبيت، فيكفي في امتثال هذا الأمر أي صفة استغفار ودعاء له، كأن يقول: ( اللهم اغفر له وثبته على الحق ) ونحو ذلك [9/94-95].
ثانياً: قضاء ولي الميت صوم النذر عنه، لحديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" من مات وعليه صيام، صام عنه وليه ".
أخرجه البخاري، ومسلم، وأبو داود، ومن طريقه البيهقي، والطحاوي في "مشكل الآثار"، وأحمد.
ثالثاً: قضاء الدين عنه من أي شخص ولياً كان أو غيره.
رابعا: ما يفعله الولد الصالح من الأعمال الصالحة، فإن لوالديه مثل أجره، دون أن ينقص من أجره شيء، لأن الولد من سعيهما وكسبهما، والله عز وجل يقوله: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى}، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وإن ولده من كسبه ".(/2)
أخرجه أبو داود، والنسائي، والترمذي وحسنه، والدارمي، وابن ماجه، والحاكم والطيالسي، وأحمد، وله شاهد من حديث عبد الله بن عمرو، رواه أبو داود وابن ماجه وأحمد بسند حسن.
ويؤيد ما دلت عليه الآية والحديث، أحاديث خاصة وردت في انتفاع الوالد بعمل ولده الصالح كالصدقة والصيام والعتق ونحوها، [راجع أحكام الجنائز للألباني رحمه الله ص172-173].
خامساً: ما خلفه من بعده من آثار صالحة وصدقات جارية، لقوله تبارك وتعالى: {ونكتب ما قدموا وآثارهم} وفيه أحاديث:
1- عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا مات الإنسان انقطع عن عمله إلا من ثلاثة [أشياء] إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له "، أخرجه مسلم والسياق له، والبخاري في "الأدب المفرد"، وأبو داود، والنسائي، والطحاوي في "المشكل"، والبيهقي، وأحمد، والزيادة لأبي داود والبيهقي.
2- عن أبي قتادة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " خير ما يخلف الرجل من بعده ثلاث: ولد صالح يدعو له، وصدقة تجري يبلغه أجرها، وعلم يعمل به من بعده "، أخرجه ابن ماجه، وابن حبان في "صحيحه"، والطبراني في "المعجم الصغير"، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" وإسناده صحيح كما قال المنذري في "الترغيب".
3- عن أبي هريرة أيضاً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته، علماً علمه ونشره، وولداً صالحاً تركه، ومصحفاً ورثه، أو مسجداً بناه، أو بيتاً لابن السبيل بناه، أو نهارً أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته يلحقه من بعد موته "، أخرجه ابن ماجه، بإسناد حسن، ورواه ابن خزيمة في "صحيحة" أيضاً والبيهقي كما قال المنذري.
زيارة القبور
وتشرع زيارة القبور للاتعاظ بها وتذكرة الآخرة شريطة أن لا يقول عندها ما يغضب الرب سبحانه وتعالى كدعاء المقبور والاستغاثة به من دون الله تعالى، أو تزكيته والقطع له بالجنة، ونحو ذلك لحديث بريدة بن الحصيب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" إني كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزورها، [فإنها تذكركم الآخرة]، [ولتزدكم زيارتها خيرا]، [فمن أراد أن يزور فليزر، ولا تقولوا هُجراً] ".
أخرجه مسلم، وأبو داود ومن طريقه البيهقي، والنسائي، وأحمد، والزيادة الأولى والثانية له، ولأبي داود الأولى بنحوها وللنسائي الثانية والثالثة.
قال النووي رحمه الله في "المجموع":
والهجر: الكلام الباطل، وكان النهي أولاً لقرب عهدهم من الجاهلية فربما كانوا يتكلمون بكلام الجاهلية الباطل، فلما استقرت قواعد الإسلام، وتمهدت أحكامه، واشتهرت معالمه أبيح لهم الزيارة، واحتاط صلى الله عليه وسلم بقوله: " ولا تقولوا هجراً ".
قلت [أي الألباني]: ولا يخفى أن ما يفعله العامة وغيرهم عند الزيارة من دعاء الميت والاستغاثة به وسؤال الله بحقه، لهو من أكبر الهجر والقول الباطل، فعلى العلماء أن يبينوا لهم حكم الله في ذلك، ويفهموهم الزيارة المشروعة والغاية منها.
والنساء كالرجال في استحباب زيارة القبور، لوجوه:
1- عموم قوله صلى الله عليه وسلم: ".. فزوروا القبور فيدخل فيه النساء.
2- مشاركهتن الرجال في العلة التي من أجلها شرعت زيارة القبور: "فإنها ترق القلب وتدمع العين، وتذكر الآخرة ".
3- أن النبي صلى الله عليه وسلم قد رخص لهن في زيارة القبور، في حديثين حفظتهما لنا أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، نكتفي بذكر أحدهما:
عن عبد الله بن أبي مليكة:
" أن عائشة أقبلت ذات يوم من المقابر، فقلت لها، يا أم المؤمنين من أين أقبلت؟ قالت: من قبر عبد الرحمن بن أبي بكر، فقلت لها: أليس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن زيارة القبور؟ قالت: نعم: ثم أمر بزيارتها ". وفي رواية عنها: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص في زيارة القبور ".
أخرجه الحاكم وعنه البيهقي من طريق بسطام بن مسلم عن أبي التياح يزيد بن حميد عن عبد الله بن أبي مليكة، والرواية الأخرى لابن ماجه.
وإنما كره زيارة القبور في النساء لقلة صبرهن وكثرة جزعهن.
وهذا آخر ما وفق الله تعالى لجمعه من "النصائح والتوجيهات لمن توفي له قريب أو عزيز"، وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.
وكتبه: أبو حميد عبد الله بن حميد الفلاسي
عفى الله عنه وغفر له
---------------------
المراجع:
1) أحكام الجنائز للمحدث الشيخ محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله – بتصرف يسير.
2) فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء – جمع وترتيب الشيخ أحمد بن عبد الرزاق الدويش [9/94-95(/3)
نصائح ( للفتيات ) اللاتي هاتفن أو لم يهاتفن الشباب ( للفتيات فقط ) ..
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين .. وبعد :
فقد يستهوي الشيطان فتاة .. فتعبث بالهاتف .. فيتصيدها ذئب بشري .. ويسجل مهاتفاتها .. ثم بعد مدة يطلب رؤيتها .. فإذا رفضت هددها بما سجله عليها .. وحينئذ يسقط في يدها .. فإما أن تلبي طلبه .. وتقع في مستنقع الرذيلة .. وترتكب الفاحشة .. وإما أن لا تستجيب له .. فيقوم بفضحها بين أهلها وذويها وغيرهم .. فماذا تفعل .. وماذا تصنع ..؟
الذي أراه .. أن تقوم من ابتليت بهذه المعصية .. بالتوبة إلى الله .. ورفض طلب من هددها .. وأن تخبر أمها .. ومن يتفهم أمرها من أقربائها .. ثم تقوم بتبليغ من يقوم بتأديب ذاك الذئب البشري وإيقافه عند حده .. وأن لا ترتكب حماقة الخروج معه مهما صور لها الشيطان أن ذلك أستر من الفضيحة .. وذلك لأن الذئاب البشرية من هذا الصنف تهوى تكبيل فرائسها بالتسجيل ثم بالتصوير ..!
فلتحذر الفتاة من خطوات الشيطان .. ولتدع السقوط في الخطوة الأولى وهي العبث في الهاتف .. فإن سقطت فلتتب إلى الله .. ولتعد إلى عقلها .. ولتنهي الأمر .. ولتخبر من ينقذها من هذه الورطة .. ممن يهمه أمرها من أقربائها ..
وأقول لكل مسلمة ما يلي :
1- عليكِ بمراقبة الله تعالى .. الذي لا تخفى عليه خافية ..
وإذا خلوت بريبة في ظلمة...... والنفس داعية إلى العصيان
فاستحيِّ من نظر الإله وقل لها......إن الذي خلق الظلام يراني
2- الحرص على القريب الناصح المشفق الذي يذكر بالله تعالى .. ( إنما يأكل الذئب من الغنم القاصية ) ..
3- غض البصر عمّا حرم الله .. قال تعالى : { وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ..} وفي الحديث : ( النظرة سهم مسموم من سهام إبليس ) ..
4- عدم إعطاء صور خاصة .. للصديقات .. أو نشر رقم هاتف المنزل أو الجوال .. من باب الحذر والاحتياط ..
5- عدم الرد على المكالمات المجهولة المصدر .. وإن حصل رد فليكن مختصراً .. وإن كان المتصل متلاعب فليقفل الخط في وجهه مباشرة ..
6- عدم الحديث مع الرجال قدر الإمكان .. وترك الإخوة يطلبون ما تريد عبر الهاتف كالمستشفيات ونحوها
7- عدم التساهل في العبث بالهاتف .. وإضاعة الوقت في المكالمات العابثة .. التي تورث الحسرة والندامة
8- إن حدث وردت الفتاة .. فليكن الرد دون مزاح أو خضوع بالقول .. أو ما يشعر بالدلال والدلع .. أو يطمع الذئاب فيها ..
9- على الفتاة أن تضع تقوى الله تعالى نصب عينيها .. وأن تعلم أنها ضعيفة .. وأنها صيد مرغوب مطلوب لضعاف النفوس .. بل وربما زينها الشيطان لبعض من كان من أهل الصلاح .. والنبي عليه الصلاة والسلام يقول : ( فاتقوا الدنيا واتقوا النساء ) .. فلتحذر الفتاة من الانزلاق والسقوط ..
10- على الفتاة أن تنتبه جيداً إلى أن الشيطان قد يأتي من باب من أبواب الخير ليصيب هدفه .. فلتنتبه لذلك .. ولتقطع الطريق إذا تبين لها بداية الزلل والخلل .. ولتدرك أن هناك خطوات تتلوها خطوات يستخدمها إبليس لإسقاط بني البشر الذين ليسوا من طلاب الانحراف .. والله تعالى يقول : { يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر ... } وكل معصية تعتبر خطوة من خطوات الشيطان .. وكل معصية تقول : أختي أختي .. أي تطلب معصية أخرى ..
11- على الفتاة ألا تغتر بمن يهاتف ويدعي الحب .. ويعد بالزواج .. فإنما هم ذئاب تحاول الدخول مع الفتيات وإقامة العلاقات .. فلتحذر الفتاة أشد الحذر .. ولتحتط لنفسها .. فإن ذئاب البشر لا ترحم .. بل تمزق وتأكل وتعبث .. كفى الله المسلمين والمسلمات كل شر وشرير .. وكل بلاء وفتنة ..
.. أسأل الله تعالى أن يصرف عنا وعن المسلمين والمسلمات السوء والفحشاء .. وأن يجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين ..
وفق الله الجميع لما يحب ويرضى ..
أخوكم الواضح(/1)
نصرة المسيح
المقدمة:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد:
فبعد أن نال هؤلاء المجرمون من سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وهبَّت الأمة الإسلامية لنصرة نبيها عليه الصلاة والسلام، وقعوا في ما كشف سوءاتهم وعوراتهم أخرجوا فيلماً بعد أن صوروا بالكاريكاتور.
"الفيلم للمسيح، والكاريكاتور لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم"
الفيلم... وما أدراك ما فيه...
زعموا وقُطعت ألسنتهم أن المسيح تزوج ببائعة هوى وإن تابت!! وأنه أنجب منها ابنة!!
فهل لهذه المزاعم والبلايا من نهاية؟
إن واجبنا تجاه المسيح لا يقل عن واجبنا تجاه الحبيب سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
وإليك أخي المسلم منزلة المسيح باختصار في الكتاب والسنة، حتى تعرف قدر النعمة التي أنت فيها وهي نعمة القرآن ونعمة السنة:
وإننا إن شاء الله تعالى سنرجئ الآيات القرآنية لكي نختم بقوة:
وإليك هذه العبارات المليئة بالحب والأخوة من سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم عندما يذكر المسيح بن مريم عليه الصلاة والسلام:
1 - في الصحيحين عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبد الله ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق والنار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل".
2 - وفي البخاري ومسلم واللفظ لأحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الأنبياء إخوة لعلات: دينهم واحد وأمهاتهم شتى، وأنا أولى الناس بعيسى بن مريم، لأنه ليس بيني وبينه نبي".
3 - في البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رأى عيسى بن مريم رجلاً يسرق، فقال له: أسرقت؟ قال: كلا والذي لا إله إلا هو. فقال عيسى:آمنت بالله وكذَّبتُ عيسى"، وفي رواية: "آمنت بالله وكذَّبتُ بصري".
قال ابن كثير: وهذا يدل على سجيةٍ طاهرةٍ، حيث قدَّم حلف ذلك الرجل، فظن أن أحداً لا يحلف بعظمة الله كاذباً على ما شهده منه عياناً، فقبل عذره ورجع على نفسه فقال: "آمنت بالله"، أي صدقتك، وكذبت بصري لأجل حلفك.
4 - في البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تحشرون حفاةً عراةً غرلاً، ثم قرأ: {كما بدأنا أول خلق نعيده}، فأول الخق يكسى إبراهيم، ثم يؤخذ برجال من أصحابي ذات اليمين، فأقول أصحابي. فيقال: إنهم لن يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم. فأقول كما قال العبد الصالح عيسى بن مريم: {وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم فما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد * إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم}".
5 - وفي البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ليلة أسري بي... ولقيت عيسى -فنعته النبي صلى الله عليه وسلم- فقال: ربعة أحمر، كأنما خرج من ديماس -يعني الحمام- " أ.هـ والحمَّام هنا حمام البخار.
6 - وفي الترمذي بسنده عن عبد الله بن سلام قال: "مكتوب في التوراة: صفة محمد وعيسى بن مريم عليهم السلام يدفن معه"، قال أبو مودود أحد الرواة: "وقد بقي من البيت موضع قبر"، قال الترمذي: هذا حديث حسن.
النصوص القرآنية:
1 - وصفه تعالى بأنه آية: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} [سورة المؤمنون: 50]، {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ} [سورة الأنبياء: 91].
2 - وصفه تعالى بأنه من الصالحين: {وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ} [سورة الأنعام: 85]، وقد جاء هذا الوصف في حديث ابن عباس المتقدم.
3 - رسول الله وكلمته وروح منه: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ} [سورة النساء: 171].
4 - وصفه الله بالعبودية: {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ} [سورة الزخرف: 59]، وكما أخبر عيسى عليه السلام عن نفسه بهذا: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا} [سورة مريم: 30].
5 - وصفه بالبركة: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} [سورة مريم: 31].
6 - أنه بارٌ بوالدته: {وَبَرًّا بِوَالِدَتِي} [سورة مريم: 32].
7 - ليس جباراً ولا شقياً: {وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا} [سورة مريم: 32].
8 - وجعل الله سلامه على نفسه متقبلاً: {وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا} [سورة مريم: 33].(/1)
9 - وصفه تعالى بأنه يصدِّق بكتاب الله: {وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ} [سورة المائدة: 46].
10 – وصفه بأن كتابه فيه هدى ونور: {وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ} [سورة المائدة: 46].
11 - أن الله آتاه الحكمة: {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ} [سورة آل عمران: 48].
12 - أنه من علامات الساعة: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ} [سورة الزخرف: 61]. وهذا أيضاً وصفَ النبي محمد صلى الله عليه وسلم به نفسه: "بعثت أنا والساعة كهاتين وفرق بين السبابة والوسطى، إن كادت لتسبقني"، روى الإمام أحمد عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لقيت ليلة أسري بي إبراهيم وموسى وعيسى، فتذاكروا أمر الساعة. قال فردوا أمرهم إلى إبراهيم عليه السلام، فقال: لا علم لي بها، فردوا أمرهم إلى موسى، فقال: لا علم لي بها، فردوا أمرهم إلى عيسى، فقال عيسى: أمَّا وجْبتُها فلم يعلم بها أحد إلا الله عز وجل، وفيما عَهِدَ إليَّ ربي عز وجل أن الدجال خارجٌ ومعي قضيبان، فإذا رآني ذاب كما يذوب الرصاص، قال: فيهلكه الله عز وجل، ثم يرجع الناس إلى بلادهم وأوطانهم. فعند ذلك يخرج يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون، فيطاردن بلادهم فلا يأتون على شيء إلا أهلكوه، ولا يردون على ماءً إلا شربوه، ثم يرجع إلى الناس فيشكونهم، فأدعوا الله عز وجل فيهلكهم ويميتهم".
الأدلة على أن المسيح لم يتزوج:
1 – اسمه: "المسيح"، يعني ليس له منزل يأوي إليه، وهو دائماً يسيح في الأرض، ليس له قرارٌ، ولا موضعٌ يُعرَف له, والزوجية تحتاج إلى بيت يستقرفيه المتزوج.
2 - سؤال الله له يوم القيامة: {وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ} [سورة المائدة: 116]، فلو كان متزوجاً لكانت زوجته زوجةَ ابنِ الله، ولو كان قد أنجب لكانت ابنته ابنة ابنِ الله، فيقال له عندئذٍ: "أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي وزوجتي وابنتي".
3 – التقرير: {كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ} [سورة المائدة: 75]، بالتثنية. فلو كان له زوجة وابنة لقال: "كانوا يأكلون الطعام".
4 - دعاء أم مريم: {وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [سورة آل عمران: 36]، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من مولودٍ إلا والشيطان يمسه حين يولد، فيستهله صارخاً من مسَّةِ الشيطان إلا مريم وابنها"، ثم قال أبو هريرة: "إقرأوا إن شئتم: {وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}" (رواه البخاري ومسلم وأحمد)، وفي رواية لأحمد: "يمسه الشيطان بأصبعه، إلا مريم ابنة عمران وابنها عيسى عليهما السلام"، وفي رواية: "ألم تر إلى الصبي حين يسقط كيف يصرخ؟ قالوا بلى يا رسول الله، قال: "ذلك حين يهزه الشيطان ...".، وفي رواية لأحمد على شرط الشيخين: "كل ابن آدم يطعن الشيطان في جنبه حين يولد، إلا عيسى ابن مريم، ذهب يطعنه فطعن في الحجاب".
فلو كان تزوج وله ابنة لدخلت الابنة المزعومة في الاستثناء.
أما زعمهم أن زوجته المجدلية المزعومة كانت بائعة هوى فهذا يرده قول ربنا عزَّ وجل: {الزَّانِي لَا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [سورة النور: 3]، وعيسى عليه السلام من أشرف المؤمنين أن يتزوج بزانيةٍ وإن تابت.
والحمد لله أن هذه الأمة هي التي تملك الأدلة الثابتة القاطعة لرد مثل هذه المزاعم الردئية، وللأسف أن أهل الكتاب أنفسهم ليس عندهم شيء يردون به هذه المزاعم. وحُقَّ لنا أن نفخر بهذا الخطاب:(/2)
في قصص الأنبياء لابن كثير قال: وقال إسحاق بن بشير: وأنبأنا سعيد بن أبي عروة، ومقاتل عن قتادة عن عبد الرحمن بن آدم عن أبي هريرة قال: "أوحى الله عز وجل إلى عيسى بن مريم: يا عيسى، جدّ في أمري واسمع وأطع. يا ابن الطاهرة البكر البتول، إنك من غير فحلٍ وأنا خلقتك آية للعالمين، إياي فاعبد، وعليَّ فتوكل، إني أنا الحق الحي القائم الذي لا أزول، صدِّقوا النبي الأمي العربي، الذي عرفوه في وجهه كاللؤلؤ وريح المسك ينفح منه، ولم ير قبله ولا بعده مثله. كلامه القرآن، ودينه الإسلام، وأنا السلام، طوبى لمن أدرك زمانه وشهد أيامه وسمع كلامه، قال عيسى: وما طوبى؟ قال: غرس شجرةٍ أنا غرستها بيدي. فهي للجنان كلها، أصلها من رضوانٍ وماؤها من تسنيم، وبردها برد الكافور، وطعمها طعم الزنجبيل، وريحها ريح المسك، من شرب من ماء عينها شربة لم يظمأ بعدها أبداً. قال عيسى: يا ربِّ اسقني منها. قال: حرامٌ على النبيين أن يشربوا منها حتى يشرب ذلك النبي، وحرام على الأمم أن يشربوا منها حتى تشرب منها أمة ذلك النبي".
قال هشام ابن عمَّار عن الوليد بن مسلم عن عبد الرحمن بن زيد عن أبيه أن عيسى عليه السلام قال: "يا ربِّ أنبئني عن هذه الأمة المرحومة أمة أحمد. قال: هم علماءٌ، حكماءٌ، كأنهم أنبياء. يرضون مني بالقليل من العطاء وأرضى منهم باليسير من العمل، وأدخلهم الجنة بلا إله إلا الله. يا عيسى: هم أكثر سكان الجنة لأنه لم تذلَّ ألسن قوم قط بلا إله إلا الله كما ذلّت بها ألسنتهم، ولم تذل رقاب قوم قط بالسجود كما ذلت به رقابهم".
وعند بن عساكر قال: "يا عيسى ابن مريم ما آمنت بي خليقة قط، إلا خشعت، ولا خشعت لي إلا رجت ثوابي، فأُشهِدكَ أنها آمنة من عقابي ما لم تغير أو تبدل سنتي".
والحمد الله أن أدخلنا في قوله تعالى: {لا نفرق بين أحد من رسله}.(/3)
نصرة فلسطين واجب المسلمين
الكاتب: الشيخ د.علي بن عمر بادحدح
تقييم:
الخطبة الأولى :
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون
نصرة فلسطين واجب المسلمين، وحديثنا ما زال موصولاً في أجواء نصرة خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم ..
لا شك أن من نصرة خاتم الأنبياء نصرة مسراه عليه الصلاة والسلام، ونصرة الأرض المباركة التي بارك الله فيها .. وهنا وقفات تتعلق بما يجد أو جد من الأحداث هنا نرسلها رسائل نخاطب بها أنفسنا ونبعثها إلى إخواننا في أرض فلسطين؛ لأن نصرتنا لهم وصلتنا بهم ليست لمجرد أرض أحتلت وليست لمجرد شعب هُجّر، إن الأمر بيننا وبينهم بيننا وبين تلك الأرض أعظم من كل هذه الصور على ما فيها من اشتجاشت النفوس والعواطف وضعف الهمم والعزائم .
ننصر فلسطين وأهلها ؛ لأننا ندرك المعاني الكثيرة المتصلة بيننا وبين أرض الإسراء :
أولاً : ننصر قبلتنا الأولى
فمنذ أن فرضت الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أمر بالتوجه إلى بيت المقدس فكانت قبلته، طيلة نحو ثلاثة أعوام حتى هاجر، ثم ستة عشر أو سبعة عشر شهرا عند قدومه إلى المدينة، ثم تنزل قول الله سبحانه وتعالى : {قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد} فتوجه النبي وتوجهت من وراءه أمة الإسلام إلى البيت الحرم .
فهذه القبلة الأولى لها عندنا مكانة عظيمة، مكانة إيمانية إسلامية، وهي ذات دلالات كثيرة، تدلنا على أن الديانات والرسالات واحدة من عند الله عز وجل، وتبين لنا المفارقة و التميز الذي خص الله به أمة الإسلام، فإن اليهود في المدينة كما روى البخاري وغيره، كانوا يحبون أو أحبوا أن النبي صلى الله عليه وسلم توجه بقبلته إلى بيت المقدس، ففي رواية البراء الطويلة جاء قوله: وكانت اليهود قد أعجبهم أن كان يصلي قبل بيت المقدس، وأهل الكتاب - أي وأهل الكتاب مثلهم - فلما ولى وجه صلى الله عليه وسلم قبل البيت أنكروا وأرجفوا وخالفوا وتنزلت فيهم آيات كثيرة {ما ننسخ من آية أو ننسها نأتي بخير منها أو مثلها} .
قالوا : لئن كان على وجهة صحيحة فقد تحول عنها إلى باطلة، ولئن كان تحول إلى صحيحة فقد كان على باطلة، فتنزلت آيات القرآن تطمئن أمة الإسلام أنكم على نهج قويم صواب في أول الأمر لأنه أمر الله، وصواب فيما تلاه لأنه كذلك أمر الله، لئلا يرجف علينا بنو صهيون كما يرجفون اليوم عبر القنوات والإذاعات ووسائل الإعلام، حتى شككوا كثيرا من المسلمين في ثوابت دينهم وحقائق تاريخهم وصلتهم بأرضهم وديارهم ومقدساتهم.
وننصر كذلك فلسطين لأنها :
ثانياً : مسرى رسولنا صلى الله عليه وسلم
{سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله}
وكان من الممكن أن يكون عروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى السماوات من البيت الحرام، لكن الحكمة الإلهية اقتضت أن يكون إسراء أولا إلى بيت المقدس والمسجد الأقصى ثم عروج من تلك البقعة بعد أن صلّى - صلى الله عليه وسلم - بإخوانه من الرسل والأنبياء، دلالة على أن هذا الدين العظيم هو الدين الخاتم، وأن هذه الرسالة هي الرسالة الجامعة لكل خير مضى في الرسالات السابقة، وأن هذا النبي المعظم صلى الله عليه وسلم هو خاتم الأنبياء وسيدهم وأفضلهم ومقدمهم وإمامهم كما ثبتت بذلك الأحاديث الصحيحة الكثيرة في قصة الإسراء والمعراج .
أرض سرى إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، يدنسها الصهاينة المحتلون، أفلا تكون من نصرة نبينا نصرة أهلها ونصرتها حتى تتطهر من الأدناس والأرجاس، مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم حقيق لمن أراد أن ينصر النبي صلى الله عليه وسلم ويبدي غيرته على شخصه وقدره ومقامه أن ينصر مسرى رسوله صلى الله عليه وسلم .
وكذلكم ننصر تلك البقاع لأنها :
ثالثاً : بشرى نبينا صلى الله عليه وسلم
فقد ثبت الحديث عند الإمام البخاري من رواية عوف بن مالك في قصة غزوة تبوك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في قبة من أدمن أي من جلد ثم خاطب من عنده وقال : ( اعدد ستا بين يدي الساعة قال: أولها: موتي – أي موته صلى الله عليه وسلم- ثم فتح بيت المقدس ... )
فكان فتحه بشارة نبينا صلى الله عليه وسلم، وهذه البشارة حقيق وجدير بكل قلب مؤمن أن يتعلق بها ويأسى لفواتها في زماننا، ويحزن لضياعها من بين أيدينا وتشتعل نيران الحمية والعزيمة والقوة والإصرار في قلبه لا تفتر ولا تخمد ولا تنطفئ ؛ حتى يكون كل منا له سبب ونسب في نصرة تلك البقاع وأهلها حتى يأذن الله عز وجل بنصر من عنده {إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم} .
وننصر أرض الإسراء كذلك لأنها :
رابعاً : وجهة رحالنا
ضمَّ فيها النبي صلى الله عليه وسلم المساجد الثلاثة في حديثه المشهور الصحيح : ( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام ، والمسجد الأقصى ، ومسجدي هذا )(/1)
هكذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم .. يمكن أن يكون هذا التشريع لافتا للنظر، اليوم تشد الرحال من بقاع الأرض إلى مكة المكرمة إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، في كل لحظة يعزم عازم يستطيع غير أن لا أحد في جملة المسلمين ومعظمهم يستطيع أن يشد الرحال إلى المسجد الأقصى، أفلا يدخل ذلك حزنا في قلوبنا، أفلا يجعل ذلك في نفوسنا جذوة لا ينبغي أن تنطفئ حتى نحقق ذلك، بل انظروا إلى هذا الجمع ليس في هذا الحديث وليس في أحاديث بعينها فحسب بل في روح وصور متعددة كانت في حياة المصطفى صلى الله عليه وسلم وعند أصحابه، فقد روى أبو داود وغيره عن ميمونة مولاة النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت:يا رسول الله أفتنا في بيت المقدس ! فقال عليه الصلاة والسلام: ( ائتوه فصلوا فيه ) ، وكان ذلك الوقت حرب فقال فليه الصلاة والسلام: ( فإن لم تأتوه فتصلوا فيه فابعثوا بزيت يسرج في قناديله ) .
إن حيل بينكم وبينه فلا بد أن تصلوا إليه بجسر، أن تخدموه أن تنصروه بكل وسيلة مؤقتة أو جزئية حتى يكتمل لكم النصر وتعلوا لكم الراية ويمهد لكم الطريق ويؤمن لكم المسير، فتهفوا حينئذ بقلوبكم وأجسادكم إلى المسجد الأقصى كما تفعلون في مسجد البيت الحرام ومسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي رواية هذا الحديث عن ميمونة مولاة النبي صلى الله عليه وسلم عند ابن ماجة قالت: يا رسول الله أفتنا في بيت المقدس ؟ فقال: ( أرض المحشر والمنشر ائتوه فصلوا فيه) .
هل رأيتم كيف كان ذلك في عهد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم
وروى الإمام أحمد في مسنده من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه وهو حدث طويل وفيه:
(من أتى بيت المقدس لا ينهزه –أي لا يحركه ويبعثه- إلا الصلاة فيه؛ خرج من خطيئته مثل يوم ولدته أمه)
والحديث إسناده حسن وصححه بعضهم.
وننظر كذلك إلى الحديث المتفق عليه من رواية أبي ذر رضي الله عنه يبين لنا الصلة الوثيقة، قال: قلت يا رسول الله أي مسجد وضع في الأرض أول، فقال: البيت الحرام، قال: قلت ثم أي، قال: المسجد الأقصى، قال: قلت فكم بينهما، قال: أربعون سنة .
وفي قوله تعالى : {سبحان الذي أسرى بعده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى}
نكتة بلاغية عظيمة؛ لم سمي الأقصى بالأقصى، لأنه كان أقصى شيء في هذه المساجد، وعندما تنزلت آيات الإسراء كان النبي في مكة صلى الله عليه وسلم، لم يكن هاجر إلى المدينة لم يكن بني مسجده فكأنه قبل مكة وسيكون مسجد آخر من بعد هو مسجد رسول الله عليه الصلاة والسلام، وهو أقصى من مكة ثم يأتي من بعده الأقصى وهو بيت المقدس، فهذا رباط وثيق، وهذا جمع كامل، وهذه حلقة وثيقة الروابط، تدعونا حقيقة إلى أن نكون في نصرة خاتم الأنبياء، ضمن نصرة مسرى خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم.
ولو مضيت كثيرا لرأيت في ذلك ما تعلمون، ونحن ندرك ذلك أيضا ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم في تفضيل الصلوات ومضاعفة أجرها في المساجد الثلاثة، وهذه الأرض أيضا هي أرض البركة {الذي باركنا حوله}
وهي المذكورة في قصة الخليل إبراهيم عليه السلام، وهي التي ذكرت كذلك في قصة موسى عليه السلام، وهي المذكورة كذلك كما أجمع أهل التفسير في قصة أهل اليمن عندما قال الله عز وجل: {وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة}
قالوا: هي قرى بيت المقدس وأهل الشام .
ثم أخيراً أيها الأخوة الأحبة:
أرض الرباط ، وأرض الجهاد ، وأرض المحشر والمنشر ، وأرض الفصل في المعارك الكبرى التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في آخر الزمان .. نحفظ الحديث الثابت في البخاري ومسلم وكثير من كتب السنن : ( لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم؛ حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك ) .
في رواية عند الإمام أحمد في مسنده والراوي معاوية قال رجل فسألت معاذ بن جبل فقال : ( هم أهل الشام ) .
وفي رواية أخرى عند الإمام أحمد أيضا، قال: ( إن عقر دار المؤمنين الشام )
وفي رواية ثالثة: ( سئل عن أولئك القوم أين هم فقال: ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس )
حق علينا إذاً أن ننصر مسرى رسولنا خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم، حق علينا أن نكون مع أهل الرباط في أرض الإسراء، وذلك واجب وهو جزء مما كنا ولا زلنا نتحدث عنه في نصرة نبينا صلى الله عليه وسلم، والغيرة على مقامه وقدره ومكانه، والحمية ضد كل من يسيء إليه أو يستهزئ به والعياذ بالله، فكيف بمن يغتصب أرضا بشر بفتحها، وكيف يغتصب أرضا صلى فيها إماما بالأنبياء، وكيف وكيف وكيف مما ذكرناه.(/2)
ومن هنا أتوجه من بعد إلى الحديث عن هذه النصرة مبتدئا بهذه البلاد وبقادتها، هذه بلاد الحرمين الشريفين وقائدها متشرف باسمه ولقبه خادم الحرمين الشريفين، وأول ما أبدأ به إرجاء الشكر على المواقف الجيدة القوية إزاء فلسطين في الآونة الأخيرة بعد فوز حركة " حماس " وعدم الموافقة لقوى الاستكبار العالمي في المقاطعة أو التضييق أو إيقاف الدعم بل كان الإعلام قويا واضحا جريئا، إخواننا أرضنا بلادنا إسلامنا، ستظل جسورنا ممدودة وعوننا متصل وقريبا بعد أيام سيكون أهل فلسطين وأهل سلطتها ضيوفا لكي يكون هناك وصل وتواصل، وحق على هذه البلاد وقد تسنمت شرف رعاية الحرمين الشريفين ألا تنقطع عن المسجد الثالث، وأن تكون مستحضرة حديث النبي صلى الله عليه وسلم ( فإن لم تؤتوه فتصلوا فيه فابعثوا بزيت يوقد أو يسرج قناديله)
(فابعثوا) فابعثوا جميعا، والأمم والدول والحكومات أولها، وهذه البلاد بفضل الله عز وجل قادة ومجتمعا من مواطنين وغير مواطنين كانوا - دائماً وأبداً - سباقين إلى بذل كل عون مادي ومعنوي وعاطفي وإعلامي وسياسي على نحو ينبغي أن يكون مشكورا مذكورا، وينبغي كذلك من بعد أن يكون متصلا ومتضاعفا ومتناميا، وبذلك نشكر هذا الموقف ونصر على حقيقته وأنه موقف ثابت لا يتغير، كيف نقطع صلتنا بمسرى نبينا صلى الله عليه وسلم، كيف نوقف دعمنا عن الموطن الذي صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نعرف أن هذه الأرض بشرى نبوية وفتوحات عمرية، وتطهيرات أو طهارة صلاحية .. أرض بشر بها النبي صلى الله عليه وسلم وفتحها الفاروق عمر رضي الله عنه واستردها وطهرها من رجس من دنسها صلاح الدين رحمه الله .. تاريخنا متصل بها، قبور مئات من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأضعافهم من التابعين هناك في أفياء بيت المقدس وفي أكنافه، أفلا نحنُّ إليها، أفلا نجد أن الذين رووا تلك الأرض بدمائهم يوم فتحوها ويوم حاصروها، حق علينا ألا نضيع ما فتحوه وألا نفرط فيما بذلوه من دماء وأرواح، ذلك ما ينبغي أن نقوله وأن نكرره، وأن نقول لهذه البلاد ولقادتها امضوا على ذلك واثبتوا عليه وأوصوا به غيركم، وكونوا قادة في الحق ولا تتراجعوا وكونوا حينئذ أصحاب الرؤوس المرفوعة والأيادي المتوضئة والمواقف النقية المتطهرة عسى الله عز وجل أن يمن بذلك عليكم فتكون لكم أياد بيضاء تمتد إلى المسجد الأقصى بعد أن امتدت إلى المسجدين العظيمين والحرمين الشريفين.
وتوجه إلى أمة الإسلام جميعها وخاصة الحكومات والدول، جامعة الدول العربية، منظمة المؤتمر الإسلامي، أعداءنا الذين يسيرون دفة الأمور من الناحية السياسية بقوتهم وسلطانهم في العالم، هددوا وأرعدوا وأزبدوا بقطع مساعداتهم وبمواقفهم السياسية المعادية والمعاندة .. فماذا أنتم فاعلون ؟ هل ستحنون رؤوسكم ذلا ؟ هل ستتراجعون خوفا ؟ هل ستمضون وراء الركب لتكونوا قطيعاً ؟ أم ستكونوا أمة النخوة والعزة، وقبل ذلك أمة الإيمان والإسلام، ينبغي أن تكون مواقفكم في هذه الظروف قوية عظيمة واضحة جلية حتى تكسبوا أولا أجر الله عز وجل ومثوبته وعونه، وتكسبوا ثانيا مواقف شعوبكم وأممكم، التي تسجد لله عز وجل في كل يوم خمس مرات، وتعلم أن إسلامها ودينها يدعوها إلى نصرة أرض الإسراء .
وأتوجه إلي إلى نفسي إليكم إلى كل مسلم في شرق الأرض وغربها، فأقول: تابعوا وتعلقوا، تابعوا الأخبار وتعلقوا بالأحوال، واجعلوا جزءا من فكركم وهمكم وما يشغل بالكم؛ ما يجري هناك على أرض الإسراء، لا ينبغي أن نغفل، لا ينبغي أن ننام، كيف يكون ذلك وقد مضى أكثر من ستين عاماً على الجرائم المتوالية، والاغتصاب والسرقات والانتهاكات والقتل والتدمير وغير ذلك، ثم نحتاج من بعد أن نغفل أو أن ننسى .
وأقول ثانيا: ادعوا وتضرعوا، اليوم نحن في حال أفضل، وأمة الإسلام رغم كل الظروف العصيبة نرى صورا من الإشراق تبشر بأمل وتدفع إلى كثير من العمل، وتنبئ بإذن الله عز وجل عن أمور تنفرج شيئا فشيئا،
ضاقت فلما استحكمت حلقاتها == فرجت وكنت أظنها لا تفرج
وأخيرا أقول: أعينوا وتبرعوا ساعدوا أوقدوا تلك القناديل بالزيوت كما قال صلى الله عليه وسلم كما أوصى، كأنما ذلك الحديث يخاطبنا اليوم حيل بينكم وبينه فانتبهوا لذلك، لا تنقطعوا عنه وهذه أمور مهمة.
ووقفة أخيرة مهمة عظيمة إلى أهل فلسطين أنفسهم وإلى قيادتهم الجديدة على وجه الخصوص، حركة المقاومة الإسلامية " حماس " ، قبل أن أشرع في هذا الحديث أسوق المبشرات، إن الخير بحمد الله عز وجل يتعاظم والشر بحمد الله عز وجل يفتضح ويتقزم، وانظروا إلى هذه المقارنات السريعة:(/3)
في أرض فلسطين التي تمارس فيها معظم الدول الكبرى ممارسة اليد القذرة التي تقر الظلم وتمنع العدل، التي تنصر الباذي وتمنع المظلوم، التي تفعل وتفعل كما تعلمون، نراها اليوم وقد خسئت وقد نكست على رؤوسها وهي ترى أهل فلسطين أهل أرض الإسراء يقدمون خيار الإسلام وخيار المقاومة ويقولون بأنفسهم وباختيارهم وإرادتهم ينبغي لنا أن نعود إلى جذورنا ينبغي أن نصحح مسارنا ينبغي أن نتشبث بمنهجنا ينبغي أن نعلوا بإسلامنا ونعتز بإيماننا، هذه الرسالة القوية لم تكن هناك فحسب بل تكررت الآن فيما مضى في كثير من البلاد الإسلامية، وشعار كثير وجماهير من هذه الشعوب المسلمة، شعارها الإسلام خيارنا والإسلام هو الحل، انظروا ذلك في كل البلاد ..
انظروا في بلاد عربية وأخرى إسلامية، وانظروا في مقابل ذلك، جاء الاحتلال إلى العراق ليحرر فإذا به يحتل، وجاء ليقدم حضارة فإذا هو يبرز الحقارة والنذالة، وجاء ليقول للناس إنه يحمي قيم حقوق الإنسان فإذا به يهينها يذلها كأبشع ما تكون الصورة، افتضحت تلك القوى، لم تعد تسترها حتى ورقة التوت في مبادئها وقيمها بعد السجون المذلة المهينة بعد الفضائح القبيحة المشينة، بعد النكسات السياسية المتوالية والعسكرية المتعاقبة، كلها جراح إثر جراح، وإصابات إثر إصابات، يوشك من بعد أن يخر لها الثور الهائج بإذن الله عز وجل، وإن غدا لناظره قريب، والله عز وجل قال: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلما الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين } ، {ولتعملن نبأه بعد حين} ، {والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون} .
أقول هذه المقارنات لأنتقل إلى نقطتنا الأخيرة، حركة وليس هناك سكون ولا نوم ولا خمول، ومقاومة فليس هناك استسلام ولا استخذال ولا تراجع، وإسلامية فليست هناك مذاهب أرضية ولا ملل ونحل شرقية أو غربية، تلك هي الكلمات وعندما نجمعها في الحماس كأنما نقول: إننا ينبغي أن نتحمس للحركة وللمقاومة وللإسلام، ونخوض في تلك الميادين بقوة وفتوة، ولعلنا ونحن نقول ذلك، ونبارك لمن تقدموا في هذا نتوجه بالتذكرة والموعظة المهمة التي لا بد أن يسمعها منا إخواننا في أرض فلسطين جميعا وأن يسمعها قادتهم اليوم على وجه الخصوص ممن نسأل الله عز وجل لنا ولهم أن يوفقنا لطاعته ومرضاته ولنصرة دينه ورفع رايته إنه جل وعلا ولي ذلك والقادر عليه .. أقول هذا القول واستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
أما بعد معاشر الأخوة المؤمنون :
إلى إخواننا في أرض فلسطين وقادتهم الجدد نقول: لأولئك القادة أهلا ومرحبا بكم قريبا في بلاد الحرمين، رحب بكم قادتنا ونحن نرحب بكم لتكونوا تكملة للرابطة المنشودة على مستوى الأمة الإسلامية رابطة تربط بين المساجد الثلاثة كلها، وتسعى لخدمتها ولكل ما يعلي راية الإسلام فيها، ونقول لهم من بعد، أخلصوا ولا تغتروا، فما أوتي أحد إلا من قبل غروره وكبرياءه وظنه أنه بلغ ما بلغ بقوته وحوله وطوله، ولكم في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، أما رأيتم كيف كان حاله يوم فتح مكة، يوم دخلها منتصرا على ألد أعداءه من قومه قريش، هل دخل وهو بزهو وفخر وكبرياء؟ أم دخل وهو بتواضع وإقرار بعظمة منة الله عز وجل عليه؟ دخل صلى الله عليه وسلم مطأطئا رأسه وورد في بعض الروايات : (حتى كانت لحيته أن تلامس ظهر دابته)
ما أعظم هذه العظمة النبوية في هذا التواضع لرب الأرباب سبحانه وتعالى الذي يذهب عن النفس غرورا قد يتلف منهجها وقد يضل مسيرها ومسلكها {بل الله أعبد مخلصا له ديني} .
ونقول لهم ثانيا: ابذلوا ولا تفتروا، اليوم يوم العمل {وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون} ، {قل كل يعمل على شاكلته}
ينبغي اليوم أن تضاعفوا عملكم وجهدكم، لئن كنتم في السابق تعملون لخدمة دينكم وأمتكم من خلال خدمتكم لشعبكم ولقضيتكم فاليوم وقد تصدرتم أصبحت المسئولية أكبر والعمل أعظم {إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض فأبين أن يحملنها وأشفقنا منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولاً } .
أمانة أمة وليست أمانة شعب فحسب، أمانة قضية هي قضية كل المسلمين وليست قضية أهل فلسطين وحدهم أو فصيل أو جماعة أو حركة واحدة منهم، فانتبهوا لذلك، ونقول: اجمعوا ولا تفرقوا قد بلغتم مبلغا حسنا، وشكر الناس ذلك لكم وشكروا قبل ذلك ربهم على ما هيأ لكم فكونوا بعد نصركم أقرب إلى بقية إخوانكم وكونوا بعد فوزكم أكثر تواضعا إلى سائر أبناء شعبكم، وحركاته وتجمعاته، ألفوا القلوب واحرصوا على وحدة الصفوف واحذروا الفرقة والشقاق والنزاع
{ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم} .(/4)
احذروا واحرصوا على حقن الدماء فيما بينكم وتلك وصية رفعتموها وشعار جعلتموه منهجا لكم فاليوم يلزمكم تطبيقه والعمل به ويلزمكم أن تسعوا إلى نشره وإلى إشاعته في مجتمعكم وفي دياركم، ونقول لكم اثبتوا ولا تراجعوا، ما تقدمت إلا بثباتكم، وما نجحتم إلا بإصراركم، وما وصلتم إلا بعزتكم واعتزازكم، فلا تعودوا من بعد تبيعون الذي هو خير بالذي هو أدنى ولا تعودوا تقبلون الفانية وتقدمونها على الباقية، ذلكم ما ينبغي أن تحرصوا عليه، والسياسة ألاعيب وفيها مزالق ولكم في شرع الله عز وجل نور وضياء، ومعالم وضوابط، فما كان من شرع الله سائغا وجائزا، فلا عليكم أن تأخذوا به، واستشيروا علماءكم وعلماء الأمة فليست القضية قضيتكم ولا المسألة مسألتكم.
ومن هنا ينبغي أن تتضافر الجهود كلها معكم، معنوياً وعلمياً ومادياً وسياسياً ليكون ذلك كما ينبغي أن يكون.
ونقول كذلك اتصلوا ولا تقطعوا، صلوا أنتم الدول الإسلامية والبلاد الإسلامية وغير الإسلامية، بما توجهون به تلك الجهود والمساعي لما ينفع هذه القضية الإسلامية العظيمة، ولعلنا نستبشر خيرا بكل ما رأيناه من بوادر تلك الانتصارات والتقدم، لا نسرف في ذلك التفاؤل لكن لا ينبغي أن نشيع اليأس، بل كما قلت في جانب الأعداء، نرى بحمد الله عز وجل عثرات إثرها عثرات، وسقطات إثرها سقطات، لعلها كذلك تهيئ لنا أن نتقدم لنسد الثغرة، ونسد الخلة وتتحد الأمة خلف دينها وخلف رسولها صلى الله عليه وسلم، وتكون النصرة التي جاءت بها الأحداث الماضية نصرة عامة شاملة لدين الله عز وجل، ولكل ما يتصل برسوله صلى الله عليه وسلم.
أسأل الله عز وجل أن يبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيها أهل طاعته ويذل فيها أهل معصيته(/5)
نصيحة عامة
القسم : إملاءات > مقالات
إلى من يراه من المسلمين سلك الله بنا وبهم سبيل عباده المؤمنين، وأعاذنا وإياهم من طريق المغضوب عليهم والضالين آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد:
فالموجب لهذا هو نصيحتكم ووصيتكم بتقوى الله، وترغيبكم فيما ينفعكم في الدنيا والآخرة، وتحذيركم مما يضركم في الدنيا والآخرة عملا بقول الله سبحانه في كتابه الكريم: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَاب}[1] وقوله عز وجل: بسم الله الرحمن الرحيم {وَالْعَصْر * ِإِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْر * ٍإِلا الَّذِينَ آمَنُوا * وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}[2] فأمر سبحانه وتعالى بالتعاون على البر والتقوى وحذر من التعاون على الإثم والعدوان، وتوعد من خالف ذلك بشدة العقاب، وأخبر عز وجل في هذه السورة القصيرة العظيمة أن الناس قسمان: خاسرون ورابحون، وبين أن الرابحين هم الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر، فمن استكمل هذه الصفات الأربع فهو من الفائزين بالربح الكامل والسعادة الأبدية والعزة والنجاة في الدنيا والآخرة، ومن فاته شيء من هذه الصفات فاته من الربح بقدر ما فاته منها وأصابه من الخسران والغبن والفساد بقدر ما معه من التقصير والغفلة والإعراض عما يجب عليه، فاتقوا الله عباد الله وتخلقوا بأخلاق الرابحين وتواصوا بها بينكم، واحذروا صفات الخاسرين وأعمال المفسدين، وتعاونوا على تركها وتحذير الناس منها تفوزوا بالنجاة والسلامة والعاقبة الحميدة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة، قيل: لمن يا رسول الله، قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)).
فمن أهم الأمور التي يجب فيها التناصح والتواصي تعظيم كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام والتمسك بهما ودعوة الناس إلى ذلك في جميع الأحوال؛ لأنه لا سعادة للعباد ولا هداية ولا نجاة في الدنيا والآخرة إلا بتعظيم كتاب الله وسنة نبيه الأمين صلى الله عليه وسلم اعتقادا وقولا وعملا، والاستقامة على ذلك، والصبر عليه حتى الوفاة؛ لأن الله سبحانه أمر عباده بطاعته وبطاعة رسوله، وعلق كل خير بذلك، وتهدد من عصى الله ورسوله بأنواع العذاب والخزي في الدنيا والآخرة، قال الله تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ}[3] وقال تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}[4].(/1)
وقال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[5] وقال عز وجل: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جنات تجري مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ العظيم ومن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ}[6] ففي هذه الآيات المحكمات الأمر بطاعة الله ورسوله، والحث على اتباع كتابه المبين، وتعليق الهداية والرحمة ودخول الجنات بطاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وتعليق الفتنة والعذاب المهين بمعصية الله ورسوله، فاحذروا أيها المسلمون ما حذركم الله منه، وبادروا إلى ما أمركم به بإخلاص وصدق ورغبة ورهبة تفوزوا بكل خير وتسلموا من كل شر في الدنيا والآخرة. ومن أعظم الطاعة لله ولرسوله عليه الصلاة والسلام التحاكم إلى شريعته والرضى بحكمها والتواصي بذلك والحذر كل الحذر مما يخالفها، عملا بقول الله عز وجل: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً}[7] أقسم الله سبحانه في هذه الآية الكريمة أن العباد لا يؤمنون حتى يحكموا الرسول صلى الله عليه وسلم فيما شجر بينهم، وينقادوا لحكمه راضين مسلمين من غير كراهة ولا حرج، وهذا يعم مشاكل الدين والدنيا، فهو صلى الله عليه وسلم هو الذي يحكم فيها بنفسه في حياته وبسنته بعد وفاته ولا إيمان لمن أعرض عن ذلك أو لم يرض به، وقال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّه}[8] ِ فهو سبحانه هو الذي يحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه في هذه الدار، وذلك بما أوحى إلى رسوله صلى الله عليه وسلم من القرآن والسنة، وفي يوم القيامة يحكم بين الناس بنفسه عز وجل، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولانِ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا}[9] يأمر الله سبحانه في هذه الآية بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأن في ذلك خير الدنيا والآخرة وعز الدنيا والآخرة والنجاة من عذاب الله يوم القيامة، ويأمر بطاعة أولي الأمر عطفا على طاعة الله والرسول صلى الله عليه وسلم من غير أن يعيد العامل، لأن أولي الأمر إنما تجب طاعتهم فيما هو طاعة لله ولرسوله، وأما ما كان معصية لله ورسوله فلا تجوز طاعة أحد من الناس فيه كائنا من كان، لقول النبي صلى الله عليه وسلم إنما الطاعة في المعروف، وقال صلى الله عليه وسلم: (( لا طاعة للمخلوق في معصية الخالق)) ثم أمر الله سبحانه عباده أن يردوا ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول، فقال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ}[10] والرد إلى الله هو الرد إلى كتابه الكريم، والرد إلى الرسول هو الرد إليه في حياته عليه الصلاة والسلام وإلى سنته بعد وفاته، ثم قال سبحانه: {ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا}[11] يرشد عباده إلى أن رد مشاكلهم كلها إلى الله والرسول خير لهم وأحسن عاقبة في العاجل والآجل، فانتبهوا رحمكم الله واعتصموا بكتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام تفوزوا بالحياة الطيبة والسعادة الأبدية، كما قال الله سبحانه: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُون}[12] ، وإن من أقبح السيئات وأعظم المنكرات: التحاكم إلى غير شريعة الله من القوانين الوضعية والنظم البشرية وعادات الأسلاف والأجداد وأحكام الكهنة والسحرة والمنجمين التي قد وقع فيها الكثير من الناس اليوم وارتضاها بدلا من شريعة الله التي بعث بها رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، ولا ريب أن ذلك من أعظم النفاق، ومن أكبر شعائر الكفر والظلم والفسوق وأحكام الجاهلية التي أبطلها القرآن وحذر عنها الرسول صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا}[13] قال تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ(/2)
أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُون}[14] وقال عز وجل: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُون}[15] {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}[16] {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُون}[17] وهذا تحذير شديد من الله سبحانه لجميع العباد من الإعراض عن كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والتحاكم إلى غيرهما، وحكم صريح من الرب عز وجل على من حكم بغير شريعته بأنه كافر وظالم وفاسق ومتخلق بأخلاق المنافقين وأهل الجاهلية[18] ، فاحذروا أيها المسلمون ما حذركم الله منه، وحكموا شريعته في كل شيء، واحذروا ما خالفها وتواصوا بذلك فيما بينكم، وعادوا وأبغضوا من أعرض عن شريعة الله وتنقصها أو استهزأ بها وسهل في التحاكم إلى غيرها، لتفوزوا بكرامة الله وتسلموا من عقاب الله، وتؤدوا بذلك ما أوجب الله عليكم من موالاة أوليائه، الحاكمين بشريعته، الراضين بكتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ومعاداة أعدائه الراغبين عن شريعته المعرضين عن كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. والله المسئول أن يهدينا وإياكم صراطه المستقيم، وأن يعيذنا وإياكم من مشابهة الكفار والمنافقين، وأن ينصر دينه ويخذل أعداءه إنه على كل شيء قدير، وصلى الله على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
________________________________________
[1] سورة المائدة الآية 2.
[2] سورة العصر كاملة .
[3] سورة النور الآية 54
[4] سورة الأنعام الآية 155.
[5] سورة النور الآية 63.
[6] سورة النساء الآيتان 13-14.
[7] سورة النساء الآية 65.
[8] سورة الشورى الآية 10.
[9] سورة النساء الآية 59.
[10] سورة النساء الآية 59.
[11] سورة النساء الآية 59.
[12] سورة النحل الآية 97.
[13] سورة النساء 60-61.
[14] سورة المائدة الآية 49-50.
[15] سورة المائدة الآية 44.
[16] سورة المائدة الآية 45.
[17] سورة المائدة 47.
[18] والمراد بذلك أنه كافر كفرا أكبر وظلم أكبر وفسقا أكبر إن استحل ذلك بل فعله لأهداف أخرى فهو كفر أصغر وظلم أصغر وفسق أصغر عند جمهور أهل العلم
روي ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما وجماعة من السلف رضي الله عنهم .والله ولي التوفيق عبد العزيز بن باز 16/11/1419هـ(/3)
نصيحة عن بدع شهر رجب
هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالمدينة النبوية 26/6/1427
22/07/2006
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه .
إلى جميع إخواننا المسلمين في كل مكان نسأل الله لنا ولهم التوفيق والرشاد.
أما بعد: فإن الله تعالى قد شرع شرائع وحدّ حدوداً، وأمرنا باتباع شرعه وتجنب البدع في الدين، فالأمر لله وحده والطاعة له سبحانه والمتابعة لرسوله صلى الله عليه وسلم، وإذا صدر أمر الله ورسوله فليس لنا خيرة: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا }(الأحزاب:36) .
ولاشك أن لشهر رجب مكانة عند الله تبارك وتعالى، فهو أحد الأشهر الحرم التي كرَّمها الله جل ذكره في كتابه ونهى الناس عن الظلم فيها، ولايعني هذا أنه يجوز تخصيصه بعبادة معينة دون غيره من الشهور؛ لأنه لم يثبت عن النبي – صلى الله عليه وسلم – شيء من ذلك. وقد قرر العلماء أن تخصيص العبادات بأوقات لم يخصّصها بها الشرع لايجوز لأنه لا فضل لأي وقت على وقت آخر إلا ما فضله الشرع.
والعبادات توقيفية؛ لا يجوز فعل شيء منها إلا إذا ورد دليل من الكتاب و صحيح السنة، ولم يصح عن النبي – صلى الله عليه وسلم – في تخصيص رجب بعبادة معينة حديث صحيح كما نصَّ على ذلك كبار العلماء قال الحافظ ابن حجر: "لم يرد في فضل شهر رجب، ولا في صيامه، ولا في صيام شيء منه معين، ولا في قيام ليلة مخصوصة فيه.. حديث صحيح يصلح للحجة".
ومن البدع التي يفعلها بعض الناس: صلاة الرغائب ، صلاة أم داود في نصف رجب، التصدق عن روح الموتى في رجب، الأدعية التي تقال في رجب بخصوصه كلها مخترعة ومبتدعة، تخصيص زيارة المقابر في رجب – علماً أن زيارة القبور للاتعاظ والعبرة تكون في أي وقت من العام- وإننا نشاهد طوائف من الفرق المنتسبة إلى الإسلام يخصون زيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم- والبقيع شهداء بدر وأحد بالزيارة في رجب وهو من البدع المذمومة بل إن بعضهم يغلو في تلك القبور حتى يقع في الشرك الصريح عياذاً بالله .
ومن البدع: الاحتفال بليلة السابع والعشرين منه التي يزعم بعضهم أنها ليلة الإسراء والمعراج وكل ذلك بدعة لا يجوز ، وليس له أصل في الشرع ، وقد نبه على ذلك المحققون من أهل العلم ، وليلة الإسراء والمعراج لم تعلم عينها ، وحتى لو ثبت تعيين تلك الليلة لم يجزْ لنا أن نحتفل بها، ولا أنْ نُخصِّصها بشيء لم يشرعه الله ولا رسوله - صلى الله عليه وسلم - ولم يحتفل بها خلفاؤه الراشدون وبقية أصحابه رضي الله عنهم ، ولو كان ذلك سنة لسبقونا إليه .
والخير كله في اتباعهم والسير على منهاجهم كما قال الله عز وجل : { وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } وقد صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" متفق عليه.
أيه المسلمون: إن الدين يسر ولن يشادّ الدين أحد إلا غلبه، وإن هذه البدع التي يلتزمها بعض الناس هي من الأصرار والأغلال التي رفعها الله عن هذه الأمة، فلماذا يأتي الإنسان ما فيه مشقة ويترك ما هو مأمور به ميسر له فعله؟ ولماذا يترك ما يحبه الله، ويفعل ما يبغضه الله ؟!!!
إن ما يعيشه المسلمون اليوم من ضعف وتسلط الأعداء عليهم هو أحد العقوبات التي ينزلها الله على من اشتغل بالبدع والأمور التي لا ترضي الله ، أو ترك فعل الواجب وما يحبه الله تبارك وتعالى.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك الصالحين،،، آمين(/1)
نصيحة لعالم فيزياء مسلم
السؤال :
أنا مسلم أعيش في دولة غربية ، و أُعتَبَر أحد أكبر الفيزيائيين في هذه الدولة ، يقصدني أساتذة الفيزياء الجامعيين من بلاد بعيدة ليسمعوا محاضراتي و تدعوني الجامعات العالمية الكبرى لألقي فيها المحاضرات ، و أعلق على التجارب المعملية فيها ، و قد حصلتُ على عدة جوائز أهلية و حكومية من الدول و الهيئات لأعمالي في هذا العلم و لله وحده الحمد و المنة .
و أنا و لله الحمد ملتزم بديني و أحفظ كتاب الله تعالى و أعلّم الناس تفسيره بين المغرب و العشاء في حلقة بمسجد الحيّ ، و أحفظ بعض المتون العلمية ، و أقرأ الكثير من الكتب الإسلامية لابن القيم و ابن تيمية و غيرهما و لله الحمد .
و لكن ، هناك سؤال يؤرقني و يقض مضجعي و يبكيني ، و هو : هل سأستفيد في الدار الأخرة من إفناء عمري في تعلم و تعليم علم الفيزياء النووية ؟ علماً أن علم الفيزياء ( المادّة ) له دور أساسي في إقامة الحضارات و محوها ، فهو أصل كثير من العلوم التي لا يكاد يخلو بيت أحدنا من آثارها ، كما أنه و الله يزيد الإنسان خشية من الرحمن ، و يجعله يتفكر في عظمة الله و قدرته جل وعلا .
فهل سيكون لي حظ يوم القيامة بعلمي هذا ؟ أم سأكون من المحرومين ؟
كما أنني ألقي المحاضرات للطلاب بالمجان فهل أنا مأجور على ذلك ؟ أفيدونا جزاكم الله خيراً ؟
الجواب :
أقول مستعيناً بالله تعالى :
إنّ طلب العلم المادّي ( الذي ينفع الناس في حياتهم ) مقصد شريف في ذاته انتدبنا الله تعالى إلى تحصيله و السعي في طلبه ، خاصّةً إذا ترتّبت عليه آثارٌ خاصّةٌ كتحصيل الخشية في نفس حامله ، إذ ( إنّما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ ) أو عامّةٌ كالعمل على التمكين للمسلمين في الأرض و تيسير أمورهم ، و تقوية شوكتهم ، و إظهارهم على عدوّهم ، سواء كان ذلك العلم من قبيل علوم المادّة ( الفيزياء ) أو الاقتصاد أو الصناعة أو غير ذلك .
هذا على وجه العموم أمّا على وجه الخصوص ؛ فتدخل النيّة و المقاصد في الحُكم على كلّ حالةٍ ، فإذا كان العالم في موقعٍ كالذي ذكره الأخ السائل ، و عَمِل من خلاله على نقل المعارف و العلوم و التقنية ( التكنولوجيا ) النافعة إلى المسلمين ، و احتَسَبَ في ذلك الأجر عند الله تعالى ، فلا شك عندنا في أنّه مأجورٌ على عِلمه و عَمَله إن شاء الله تعالى .
أمّا إن كان يقوّي الكافرين و يُظهرهم على المسلمين بعلمه أو عَمَله أو رأيه ، و خاصّة في المجال العَسكريّ أو الاستراتيجي ( التخطيط للمستقبل و لو كانَ بعيداً ) ، فحالُه بالغ الخطورة و إثمُه كبير ، و ينبغي عليه أن يبادر بالتوبة إلى الله تعالى قبل أن يأتيَ يومٌ لا ينفع فيه مالٌ و لا بنون إلا من أتى اللهَ بقلبٍ سليم .
و إن كان في عمله هذا يتلمّس أسباب الرزق ، بمعزلٍ عن قصد جلب النفع للمسلمين أو عَكسهِ ، فعَليه أن يُراجع نيّته في ضوء ما تقّدم ، فإن كانت حَسنةً فبِها و نِعمَت ،،، و إلاّ فعليه إصلاحها ، لأنّ الثواب و العقاب مترتّبان على النيّة ، و لا ثواب إلا بالنيّة ، لحديث عُمَر بن الخطّاب رضي الله عنه المشهور ، أنّ رسول الله صلّى الله عليه و سلّم قال : ( إنّما الأعمال بالنيّات و إنّما لكلّ امرئٍ ما نوى ) .
و ما ذَكره الأخ السائل من حفظه كتاب الله تعالى و حرصه على التعليم و التعلّم و الدعوة إلى الله تعالى في محيط عَملهِ أو سَكنه ، فهذا يبعث على الغبطة و السرور ، و حمدِ الله تعالى على أن أخرَج من هذه الأمّة من لا تشغلُه الدنيا عن الآخرة ، و لا تصرفه صنوف النعيم و السرّاء عن التعلّق بالله تعالى و شكره على النعماء .
و نحتسب للأخ الكريم جزيل الأجر و الثواب عندَ الله تعالى لقاء إلقائه المحاضرات و الدروس العلميّة الشرعيّة ( في التفسير أو غيره ) رجاءَ ما عند الله ، و عَدَم تلقيه أجراً مادياً عليها ، فقد روى الترمذي في سننه بإسناد صحيح عَنْ أَبِى أُمَامَةَ الْبَاهِلِىِّ أنَّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه قالَ : « إِنَّ اللَّهَ وَ مَلاَئِكَتَهُ وَ أَهْلَ السَّمَوَاتِ وَ الأَرْضِ حَتَّى النَّمْلَةَ فِى جُحْرِهَا وَ حَتَّى الْحُوتَ لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الْخَيْرَ » .
و نرجو أن يكون ذلك ممّا ينتفع به في الحياة و بعد الممات لكونه علماً ينتفع الناس به .
و ممّا نوصي به من هذا حاله تقريب الطلاب المسلمين و تعليمهم ممّا علّمه الله ، و خاصّةً في مجال اختصاصه المادّي ، فقد يدخل هذا في باب فروض الكفاية ، لقلّة من المختصّين في هذه العلوم و المتمكنين منها من المسلمين من جهة ، و لاحتكار بعض الدول المتقدّمةِ التقنيةَ من جهةٍ أخرى ، فضلاً عن عَجزِ كثيرٍ من المسلمين ( أفراداً و جماعاتٍ و دُولاً ) من تحصيل هذه العلوم و السعي إليها لأسبابٍ مادّية .
و أسأل الله تعالى أن يوفقنا و الأخ السائل ، و سائر المسلمين لما فيه صلاح الدنيا و الدين .(/1)
و الحمد لله ربّّّ العالمين ، و صلى الله و سلّم و بارك على نبيّنا محمّد و آله و صحبه أجمعين .(/2)
نصيحة وبيان
بقلم الدكتور عدنان علي رضا النحوي
صدر الإِعلان عن قيام الدولة الفلسطينية المستقلة في 5 ربيع الآخر 1409هـ الموافق 5تشرين الثاني 1988م ، بين شعارات ( وثيقة الاستقلال ) وهتافات النصر . ولأهمية القضية الفلسطينية ، وأهمية القرار والأحداث ، فلابد من أن يكون للمسلمين رأي يقوم على أساس من الكتاب والسنة ، وعلى أساس من الأحداث والتاريخ والواقع ومسئوليات المستقبل ، رأي نصدق به النية خالصة لله ، مبرأة من شهوات الدنيا ، رأي يسترشد مع هذا كله بالماضي تاريخاً ووثائق .
إن بيان هذا الرأي بهذه الأسس واجب شرعي ، حتى تقوم النصيحة الصادقة للأمة كما أمر الله ، وحتى نبرئ أنفسنا بين يدي الله العزيز الجبَّار .
ومن هذا المنطلق لا نعتبر اختلاف الرأي سبب شقاق ومصدر تدابر ، ولكننا نعتبر وحدة الصف والتقاء العزائم لا يقوم إلا بالآراء الصادقة والشورى العاملة ، وفي جو مشرق بالإيمان والعلم بالكتاب والسنة ، وحرية الرأي التي تقوم على ذلك كله .
إن الحقيقة الأولى التي يجب بيانها وإقرارها للناس جميعاً هي أن فلسطين أرض إسلامية منذ أقدم العصور حتى يومنا هذا وإلى أن تقوم الساعة ، ولا ينفي هذه الحقيقة عدوان طارئ يظهر بين حين وآخر في تاريخها . ولكن هذه الحقيقة هي أساس كل رأي وموقف واتجاه ومصدر كل قوة لصد أي عدوان والصمود أمامه . ولقد جعل الله سبحانه وتعالى هذه الأرض أرضاً للإسلام ، وملكاً للمسلمين في آيات كريمة ، وأحاديث شريفة ، نبوات تتوالى كان محمد صلى الله عليه وسلم خاتمها وسيدها .
لذلك لا يقرر مصير أرض فلسطين ولا حقوق أي شعب فيها إلا الإسلام فلا حق لأحد من الناس ، ولا للهيئات الدولية ولا حق لإنسان يحوطه النفر الكثير والزخرف والغرور أن يدعي حق التصرف بها ، أو التنازل عن شبر منها ، أو الإقرار بظلم وعدوان .
فلا الديمقراطية التي أخرجت المسلمين من أرضهم في فلسطين ، والتي ارتكبت أبشع جرائم الأرض بحق الإنسان ، ولا الديكتاتورية التي سحقت الأمم والشعوب ، وحملت مع الديمقراطية راية العدوان ، فألهبتا الأرض ناراً ، وفجرتاها براكين ، ونشرتا الفزع والقلق ، وهؤلاء كلهم لا حق لهم أن يقرروا مصير أرض حكم الله وقرر أمرها ، ولا حق لهؤلاء أن يدعو أنهم ( حماة السلام ) ، فنخضع نحن المسلمين لمعاني السلام المزيف الباطل الذي يدعونه ، فنساوم على حقوق السلام ، ونفرط في أرض المسلمين . ولا ننسى كلمة السلطان عبد الحميد الذي ضحى بملكه ليوفي بالأمانة وهو يقول للمساومين ما معناه : " هذه أرض المسلمين فلا أملك أن أفرط بشيء منها " . ولا ننسى فتوى علماء المسلمين الذين حرموا التفريط بأي شبر من أرض الإسلام ، ولا فتوى بعض علماء المسلمين إلى بعض زعماء العرب يقولون ( إن جعل ولاية لليهود في بلاد الإسلام أمر باطل ومحرم ... ) . ولا ننسى أن تاريخ الأمة كلها أعلن هذا الرأي وقدم من اجله الملايين من المسلمين يسقطون في ميادين الجهاد دفاعاً عن الحق الإِسلامي ، في تاريخ طويل ، فالاعتراف بكيان اليهود جريمة وعمل حرام ، ومن أكبر الكبائر .
إن تاريخ قضية فلسطين في العصر الحديث يكشف بصورة جلية التقاء مصالح الدول الغربية والشرقية واليهود على إقامة كيان لليهود في أرض فلسطين ، ليكون هذا الكيان اليهودي جزءاً من خطة أوسع في غارة واسعة ، وهدفاً واحداً يمهد لأهداف أكبر . ويكشف تاريخ القضيّة كذلك أنَّ كل تنازل منا في قضية بدت صغيرة في حينها ، كان قاعدة لتنازل أكبر ولعدوان عليها أوسع . ولقد ظل اليهود ثابتين على دعواهم الباطلة لا يتزحزحون عنها إلاَّ إلى طلب المزيد ، وظللنا نحن نبدل في شعاراتنا ومطالبنا في تراجع مدمر ومهين .
ويكشف تاريخ القضية كذلك أن قوى الأعداء تتحرك في مخطط مدروس واسع ، وأن مواقفنا في كثير من الأحيان مرتجلة ، وفي أحيان أخرى تتفلت من عقيدة وتترك ركائز الأمة ، وأننا كنا نزين الهزيمة البشعة للناس حتى نوهمهم بأنها نصر ، حتى أخذت الأحداث تتوالى ، كل حدث يمهد للحدث الذي يليه ، ثم تجتمع الأحداث كلها لتغرس روح الهزيمة ونفسية الاستسلام وتمد في الأمة كلها ، وفي الفلسطينيين خاصة حياة المعاناة والقلق .
ولا ننكر أن هذه المعاناة الممتدة والخطط لها ، بجميع ظروفها وتاريخها قد توجد لدى فريق من الناس رؤية تنبع من ضغط المصالح المادية والضعف البشري ، والرغبة في النجاة من المعاناة وشقائها ، ولكن هذه الرؤية والأماني لن تنقل الإِنسان الفلسطيني خاصة والمسلم عامة من معاناته إلاَّ إلى معاناة أشد ، ولن ترفع الخطر إلا ليمتد إلى عمق أبعد ورقعة أوسع وشر أكبر ، حتى يعم البلاء ويطغى المصاب ، وما عرف تاريخ الإنسان في الأرض أن الهوان والاستسلام يرفع ذلا أو يزيح شراً أو يمسح ألماً .(/1)
وأن الهزيمة العسكرية مهما بلغت والمصائب التي جرتها ، غصص الذل التي بعثتها ، لا تنهض لتكون مبرراً يجيز الباطل ، ولا الأعذار تجيز التنازل عن حق ، فالأمة التي تريد أن تصدق مع ربها وَ توفي بأمانة الأجيال السابقة وترعى حقوق الأجيال المقبلة ، لا تقتل أمجاد دين وتاريخ ولا تسحق آمال غد ومستقبل ، ولكنها تمضي في جهاد طويل مشرق على درب الجنة .
إن زخرف الشعارات والاصطلاحات من أمثال : ( وثيقة الاستقلال ) ( والحكومة ) ( ووحدة الصف ) ( ومن أجل السلام ) إن هذا كله لا يخفي هول الاعتراف بقرارات هيئة الأمم المتحدة ( 181ـ2) في 29/11/1947م ، و( 242) في 22/11/1967م ، و( 338) في تشرين الأول 1973م ، وأمثالها من قرارات الظلم والعدوان .
إن الاعتراف بكيان اليهود عمل حرام ، يمسح ما بنته آلاف السنين ، ويمسح جميع المواثيق التي وضعتها الأمة كلها في تاريخها الطويل ، ويمسح ميثاق منظمة التحرير نفسها مسحاً يزيل حقها في الوجود ، ويزيل حق كل ما يترتب عليها أو ينشأ عنها وعن اعترافها ، إنها جرأة على الله ورسوله وجرأة على المسلمين وجرأة على الدماء المؤمنة التي ماجت بحراً في تاريخ طويل .
وأشد من ذلك ، أن هذا الاعتراف يفتح ديار المسلمين كلها لغارة وحشية مقبلة ، وخطر جنوني داهم ، يتفجر من هذا الكيان الباطل الكيان الذي يتجمع ليكون بؤرة فساد ، ومصدر عدوان وحشي . ولقد عرفنا طبيعة اليهود من تاريخ يمتد آلاف السنين طبيعة مكر وتآمر وغدر ، طبيعة فساد في الأرض كلها وإفساد . ولقد فصل القرآن الكريم في وصف هذه الطبيعة تفصيلاً لا يترك عذراً لأحد .
وإن رفض الباطل وما ينشأ عنه من حلول لا يفرض وجود حل بديل مباشر ، حتى يصح الرفض ، فالباطل يرفض لأنه باطل ، ومع هذا فلو سأل سائل ما هو الحل البديل ، فإن الحل البديل متوافر وقد وهب الله لهذه الأمة المسلمة كل أسباب المنعة والقوة المادية في الأرض : عدد هائل من البشر ، ثروة هائلة في باطن الأرض وظاهرها ، أرض ممتدة وعقيدة ودين . ومن هذه الطاقات العظيمة ينطلق الحل البديل يدفعه إيمان وعقيدة ورجال صادقون ، وعزائم مؤمنة تنهض كلها إليه . ويبدأ الحل البديل بمسؤولية كل مؤمن إلى الوفاء بأمانته وعهده مع الله ، حتى تخوض الأمة المسلمة ميدان الجهاد صادقة مع ربها ، فتصب كل طاقاتها في ميدان الحق ، ليكون الميدان نفسه مصنع الرجال والأبطال ، وإذا قصرت الأمة في واجبها هذا ، فلا يسقط الواجب الشرعي عن كل مسلم ، لينهض إلى واجبه قدر وسعه وطاقته .
وحين نقدم هذا الرأي نصحاً لله ولرسوله ولكتابه ولعامة المسلمين وأئمتهم فإنَّا نسأل الله أن يجعل نياتنا خالصة له ، وأن يهبنا برحمته العون ، والثبات والسداد والرشاد ، ولا حول ولا قوة إلا بالله هو المولى وهو الولي الحفيظ .
( الذَّينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَد جَمَعُوا لَكُم فاخْشَوهُم فَزَادَهُم إِيماناً وَقَالُوا حَسبُنَا الله ونِعمَ الوَكِيلُ . فَانقلَبُوا بنعمَةٍ مِنَ الله وفَضلٍ لَّم يَمسسهُم سُوءٌ واتبعُوا رِضْوَانَ الله واللهُ ذُو فَضلٍ عَظِيمٍ ) [ آل عمران :173 ـ 174 )(/2)
نطاقات عمومية الإعلام الإسلامي
بقلم : الأستاذ محمد خير رمضان يوسف
دين الإسلام كان سباقًا إلى كل خير، وواضعًا خطوطاً رئيسية وقواعد ثابتة وأصولاً عامة لكل العلوم .
والذي نودّ أن نذكره هنا أن ماعرفه الإِعلاميون اليوم ، ووضعوا له أسسًا وجعلوا منه نظريات عرفه الإِسلام قديمًا .
فإن الإِعلاميين يذكرون اتصال الفرد بالفرد، والفرد بالجماعة ، والفرد بالجماهير. سواء أكان مباشرًا أم عن طريق وسائل إعلامية جماهيرية .
ومن خلال بياننا لوجوه عمومية الإِعلام الإِسلامي سنرى هذه الحقيقة .
ونستطيع أن نتبين هذه الوجوه في ثلاثة نطاقات:
أولا : على نطاق الأمة – أو النطاق العام :
1- المقرؤون(1):
كان حملة القرآن ومقرؤوه في مقدمة صفوف الإعلاميين المسلمين الذين أسهموا بإخلاص في نشر الدين في أرجاء المعمورة ؛ ذلك أن القرآن العظيم بقداسته وبما تضمنه من قيم ومفاهيم وأخبار، ومافيه من روعة وجمال ، كان ولايزال خير وسيلة يغزو بها الإِعلامي المسلم قلوب الآخرين وعقولهم ، فقد اعتمد رسول الله صلى الله عليه وسلم في تبليغ دعوته الكبرى للناس على إقراء القرآن الكريم ، فقد كان مبعوثوه إلى مختلف الجهات يقومون أول ما يقومون بإقراء الناس القرآن الكريم، وهو أول أساليب الإعلام في الإسلام . ويكفي مثلاً لذلك أثر "مصعب بن عمير" في المدينة المنورة ، وتأثير قراءة "أبي بكر الصديق" على نساء المشركين وأطفالهم. وكان القرآن كذلك وسيلة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم من بعده في الإعلام بدين الله قراءة من قراء ، على مستوى الدولة والأفراد ؛ حيث كانت الدولة الإسلامية تقوم بتعيين معلمين يعلمون الناس القرآن الكريم ويفقهونهم في الدين .
فهكذا يكون الإعلام عن دين الله انطلاقًا من القرآن وبالقرآن ؛ ذلك أن أمثل سبيل للإعلام عن الله إنما هو سبيل الوحي: ?قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالوَحْيِ?(2) لأن الوحي شرعًا الإعلام بشرع الله، وهو الحق الصادق عن الحق – جَلَّ وعلا– ، فمكانته في النفوس لاتضاهي، وأثره بالغ. والحصر في الآية الكريمة بين الدلالة على ذلك ، وكذلك قوله تعالى: ?إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِه الْبَلْدَةِ الَّذِيْ حَرَّمَهَا وَلَه كُلُّ شَيءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُوْنَ مِنَ الْمُسْلِمِيْنَ. وَأَنْ أَتْلُوَ القُرْآنَ فَمَنْ اِهْتَداى فَإِنَّمَا يَهْتَدِيْ لِنَفْسِه وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ المُنْذِرِيْنَ?(3) وقوله تعالى: ?وَاتْلُ مَا أُوْحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لاَمُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِه?(4).
فإن الأمر في النصين الكريمين بتلاوة القرآن تعبدًا لله سبحانه وتعالى وتدبرًا وإبلاغًا واضح الدلالة على مكانة القرآن الإِعلامية ، وكثرة آيات الدعوة والإعلام والإبلاغ والاتصال في القرآن الكريم ولغته وأساليبه في التعبير، كل ذلك يوحي بأن القرآن في البلاغ هو الأسلوب الأمثل في ميدان الإعلام .
2- الجهاد
والجهاد سبيل آخر للدعوة والإعلام بدين الله.
فما كان المسلم يحمل سيفًا للجهاد إلا وهو يعرف ماذا يرد ولأجل ماذا يحارب؟
لقد كان يحمل السيف وقلبه مملوء بالإيمان. وفكره منور بمبادئ الإسلام. لايضمر حقدًا لأحد، ولايبتغي الشر، ولايؤذي طفلاً أو امرأة ، أو حتى حيوانًا أصم أو شجرًا أخضر. بل يريد الهداية لجميع الناس ، ويرد النفع لعمومهم . سيفه إنذار للظالمين. وكلامه بشرى للعالمين .
ولم يكن الجهاد في الإسلام يومًا ما حربًا استعمارية مبنية على القهر والغلبة . ولالفرض عقيدة معينة على أحد، فإن الله تعالى يقول: ?لاَإِكْرَاهَ فِي الدِّيْنِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ?(5) بل إنه شرع ليفتح الطريق أمام الدعوة إلى الحق والتوحيد ، وإلزام الحكام الظالمين باحترام العقل والحرية ، وتحقيق الأمان لمن يريد اعتناق المبدأ الجديد ، أو البقاء على عقيدته السابقة . يقول عز من قائل : ?وَقَاتِلُوْهُمْ حَتّاى لاَتَكُوْنَ فِتْنَةٌ وَّيَكُوْنَ الدِّيْنُ للهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلى الظَّالِمِيْنَ?(6).
وقد كانت الانتصارات التي أحرزها المسلمون سببًا في دخول معظم الناس من تلك البلاد في الإسلام .وفتح مكة خير دليل على ما نقول ، وكذلك الفتوحات في بلاد فارس والروم وإفريقيا والأندلس .
وكانت الفرصة مواتية للمجاهدين والعلماء والدعاة بالإعلام عن دين الله وبيان قواعده ونظمه في أعقاب الحرب، فكانوا ينتشرون في هذه الأصقاع ويدعون إلى الإسلام بجميع الوسائل ، والأساليب الإعلامية المتاحة في ذلك الوقت من اتصالات شخصية ، وخدمات اجتماعية ، وسلوك حسن ، ومعاملة طيبة وأخلاق دمثة وبناء للمساجد وإلقاء خطب .. الخ .(/1)
ولاشك أنّ الفطرة السليمة تتقبل الإسلام بسهولة، فمبادئه السمحة تدخل القلوب ، وأحكامه العادلة توافق متطلبات كل إنسان . وكذلك رحمة المجاهدين بالمحاربين وبالبلاد المفتوحة . كل ذلك كان من الأسباب القوية في إسلام هؤلاء، والانضواء تحت لوائه بعد أيام قليلة من الفتح..!
ونحن نرى اليوم ماذا حل بالدعوة الإسلامية ؛ بل وبالمسلمين جميعًا بعد أن نكس علم الجهاد إلا في أماكن قليلة . وقد ترك نصرته بالدعم المادي والمعنوي أكثر المسلمين !
لقد غدوا مهزومين في أرضهم وأوطانهم بعد أن كانوا سادة ، دعاة ، فاتحين .
وما أجل أن يعتبر المسلمون بقول "أبي بكر الصديق" – رضي الله عنه – : (ما ترك قوم الجهاد إلا ذلوا) .
3 – المساجد
يُعَدُّ المسجد أهم مركز إعلامي بين المسلمين، ونقطة لقاء دائمة ومفتوحة بين بعضهم البعض . ولايقتصر فيه على إقامة الشعائر التعبدية وحلقات التدريس والوعظ ؛ بل إنه مركز لتدريب المسلمين على تطبيق الأحكام الإسلامية وإقامة العدل في المجتمع . وهذه إحدى وظائف المسجد التي ينبغي أن تعود إليه !
ولنا أن نتصور مدىالتأثير الإعلامي للمساجد في مجتمع لايخلو حي من أحيائه من مسجد أو أكثر، ولاتمر فريضة من فرائض الصلاة إلا وتقام فيها صلاة الجماعة ؛ حيث يلتقي ملايين المسلمين ببعضهم البعض خمس مرات يوميًا . إنه دين محكم إعلاميًا . كما أنه محكم اجتماعيًا وسياسيًا .
3- خطبة الجمعة :
ويسبق الخطبة الأذان ، لإشعار أهل الحي بأن الخطبة جاء وقتها، وأنه لايجوز في هذا الوقت البيع والشراء؛ بل هو وقت الإنصات للخطيب، ثم الصلاة والذكر والدعاء. ويجتمع أهل الحي في المسجد الجامع ليستمعوا إلى الخطيب دون أي كلام أو لغو يؤثر على قدسية الموقف بآداب الخطبة والصلاة ، ويستمع إلى الخطب بخشوع .
وفي دراسة ميدانية قام بها أحد الباحثين الإعلاميين لبيان مدى إسهام خطبة الجمعة في تحقيق رسالة الإعلام الإسلامي ، تبين أن نسبة الذين ذكروا أنهم يؤدون صلاة الجمعة في المسجد بصفة دائمة ومنتظمة ومن ثم يتعرضون لخطبة الجمعة ، بلغت 5ر76? من جملة أفراد عينة من ثلاث قرى في الريف المصري . وتزداد أهمية خطبة الجمعة كواحدة من أبرز وسائل الإعلام الديني وأكثرها تأثيرًا في الرأي العام ، إذا أدركنا المميزات الإعلامية التي يتميز بها فن الخطابة ، إضافة إلى المناخ النفسي الذي يجتمع فيه المسلمون في مكان واحد ، تجمعهم عقيدة راسخة واحدة ، يحدوهم هدف واحد هو الانصياع ، وإسلام الوجوه لله تعالى عن طريق عبادته وحده ، وإطاعة أوامره التي يلقيها عليهم خطيب المسجد .
وذكرت الغالبية العظمى من المبحوثين الذين يواظبون على حضور خطبة الجمعة ، أن التركيز في موضوعات الخطبة يتوجه بشكل رئيسي إلى العبادات ، ثم المعاملات بين الناس ، ثم المشكلات الحالية للمجتمع، ثم تأتي قصص البطولات في الإسلام في المقام الأخير.
كما أفادت الغالبية العظمى أن خطيب المسجد يؤثر فيهم ، ولم ترتبط معدلات التأثير بالمستويات التعليمية صعودًا أو هبوطاً ، ولكن درجات التأثير تأتي متفاوتة بين جميع الفئات التعليمية ؛ ذلك أن موضوع الخطبة يهم الجميع(7).
5 – الأذان :
ويُعْتَبَرُ الأذان شكلاً آخر من أشكال الإعلام الإسلامي . إذ يسمع المسلم خمس مرات ، كل يوم، نداء يذكره بعظمة الله ، وبالركن الأول من أركان الإسلام، ويقرر وحدانية الله ، ونبوة الرسول الكريم، والدعوة إلى الصلاة، والفلاح، كل هذا مرتين . وينتهي النداء العظيم بأفضل ماقاله النبيون: لا إله إلا الله .
إن هذا الأذان ، نتيجة تكراره واحتوائه على معان جليلة هي أساس عقيدة كل مسلم ، ويرسّخ في الأذهان هذه المعاني ، ويجعلها أمرًا بدهيًا يعيش المسلم حياته عليها ، وينظم المسلم بها وقته ، ويتذكر إن نسي .
إنه شكل رائع وفريد من أشكال الإعلام الإسلامي ، يسمعه جميع أفراد المجتمع الإسلامي .
6 – الحج :
والحج من أكبر وسائل الدعوة الإسلامية ؛ حيث إنه مقرون بكثير من المظاهر الإعلامية والأشكال الدعائية التي صحبت أداء هذه الفريضة من أولها إلى آخرها . وربما كان أول شكل من هذه الأشكال الدعائية هذا النشيد الذي يردده الحجيج وهم مقبلون على مكة ، ويرددونه في أثناء طوافهم بالكعبة الشريفة ، وهو النشيد الذي وضعه لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه يقول: "لبيك اللهم لبيك ، لبيك لاشريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة لك والملك ، لاشريك لك لبيك ، وإن الخير كله في يديك لبيك". مشهد رائع جميل من مشاهد الدين يثبت العقيدة في نفوس المسلمين ، ويزرع الإيمان والسكينة زرعًا آخر في قلوب المؤمنين . وللأناشيد الحماسية في كل ثورة دينية أو سياسية أثرها الذي لايحتاج منا إلى شرح(8).
وهو يوم عظيم ووقت ثمين للدعاة بتذكير المسلمين بواجباتهم ، والنهوض بهم ، وتذكية روح الجهاد فيهم ، وتوزيع الكتب والمجلات الإِسلامية بينهم ، وإلقاء الخطب والدروس المفيدة عليهم عند أداء كل شعيرة .(/2)
كما ينبغي أن يُؤَّلَف كتاب فيه نظرة الإسلام إلى الأحداث في كل عام يمضي ، ليكون المسلمون على بصيرة فيما يجري في واقع الحياة ، ومعرفة العدو من الصديق ، وما آل إليه الإسلام والمسلمون، وما يكيد لهم الأعداء(9)، ويُتَرْجَم هذا الكتاب إلى جميع لغات المسلمين .
7- إن الجامعات والمنظمات والمراكز والجمعيات الإسلامية ومعاهد الدعوة ودور الإفتاء ووزارات الأوقاف ومعظم المؤسسات الإسلامية . لها دور كبير في الإعلام الإسلامي ، والاهتمام بالدعوة وتخريج الدعاة والمتخصصين في الدراسات الإسلامية، ليبينوا للناس أمور دينهم ، ويكشفوا لهم الشبهات والأباطيل التي لايفتأ أعداء الإسلام يلقونها في محيط المسلمين .
والحديث عن هذه المراكز طويل ، وليس هذا موضع التفصيل فيها . بل تكفي الإشارة إلى دورها وبيان أنها تدخل في عداد الإعلام الإسلامي نظريًا وعمليًا .
8 – المؤتمرات والندوات :
والهدف من الندوات الإسلامية التي تُعقَد في الجامعات أو المراكز العلمية أو المؤسسات الإسلامية بمختلف تخصصاتها ، هو التركيز على جوانب مهمة في حياة الإنسان التي ينبغي عدم إهمالها ، وليكون المسلم على صلة بواقعه وما يعايشه ، ويلتمس الطريق الأفضل في الحياة ، وغالبًا مايكون جمهور الندوة على درجة من العلم ويحاول تنمية مواهبه الفكرية وزيادة معلوماته الدينية وثقافته الإسلامية .
وكذلك لايخفى ما للمؤتمرات الإسلامية من أهمية كبيرة في حقل الدعوة والإعلام ؛ حيث يجتمع المفكرون والعلماء من دول متعددة وهم على مستوى رفيع من العلم والخبرة ؛ ليقدموا وجهات نظرهم . ويتعاون الجميع في تقديم البحوث العلمية النافعة ليصلوا إلى نتائج وتوصيات ومقترحات لو أنها سُجِّلَتْ وَوُزِّعَتْ على المراكز الإسلامية وقامت بتنفيذها الجهات المختصة لأثمرت الجهود وأينعت وآتت أكلاً طيبًا . عندئذ يكون الإعلام الإسلامي فعالاً ومؤثرًا وذا قيمة علمية وعملية أو ليس مجرد مظاهر أو شكليات لاحياة فيها !
9 – وسائل الإِعلام :
لقد تنوعت وسائل الإعلام في هذا العصر. ومن الممكن استخدام معظمها في نشر الإسلام ، من وسائل وكتب ومكتبات ورسوم وصحافة وسينما وإذاعة وتسجيلات وتلفزيون وفيديو ومسرح .
وهذه الوسائل المقروءة منها والمسموعة والمرئية إذا استُخْدِمَتْ للخير وبث الأخبار والموضوعات المعالجة إسلاميًا ، أو على الأقل لاتكون مخالفة لروح الإسلام ومنهجه ، وكان من ورائها متخصصون في الشكل والمضمون ، فإنها ستمنح الدعوة الإسلامية سرعة أكبر في الذيوع والانتشار ، ويتبوّأ فيها الإعلام الإسلامي مركزًا ساميًا .
ولكن الخطأ في المنهج أن تخصص زوايا محدودة للدين في صفحة جريدة ، أوفقرات معينة في الإذاعة والتليفزيون ، أو لقطات محددة في السينما، أو مشاهد قليلة في المسرح . وتبقى سائر الصفحات أو البرامج أو المشاهد عادية . وكأنه لاصلة للإسلام بها . هذا إذا لم تكن مناقضة له ومحاربة لمنهجه .
إن المطلوب هو أن تكون القيم الإسلامية والحقائق الدينية سارية في جميع الموضوعات ، من ندوة إلى مسلسل إلى خبر إلى فكاهة إلى حديث مباشر أو حوار أو أي برنامج متنوع آخر.
فالإسلام له حكم في كل شؤون الحياة وعلومها ، فلماذا نحبسه في زاوية خاصة ولاندع له الانطلاق إلى عوالم الحياة الرحبة ؟!
إن النظام المتبع الآن في وسائل الإعلام العربية يضع انفصالاً مقيتًا بين الدين والعلم ، وبين الدين والمعاملة ، وبين الدين والحياة كلها .
ولا أظن أن أهل الإسلام يرضون لدينهم أن يقبع في ز
اوية عبارة أو خلق أو سلوك ذاتي ، أو يحبس في نطاق ضيق من الأحوال الشخصية والتركات والمواريث !
* * *
الهوامش :
(1) انظر هذه الفقرة في كتاب : مفاهيم إعلامية من القرآن الكريم . سيد محمد ساداتي الشنقيطي ، ص 99-100، وانظر بعض المصادر التي اعتمد عليها هناك .
(2) سورة الأنبياء ، الآية 45 .
(3) سورة النمل ، الآيتان 91-92.
(4) سورة الكهف ، الآية 27.
(5) سورة البقرة ، الآية 256.
(6) سورة البقرة ، الآية 193.
(7) انظر الإعلام الإسلامي وتطبيقاته العملية . محي الدين عبد الحليم ، ص 329-331.
(8) الإعلام في صدر الإسلام. عبد اللطيف حمزة – القاهرة : دارالفكر العربي ، 1971م ، ص 82.
(9) الدعوة الإسلامية : الوسائل والأساليب . محمد خير رمضان يوسف. الرياض: المؤلف ، 1407هـ ، 1986م ، ص 16.
* * *(/3)
نظام الحسبة في الشريعة الاسلامية
بحث
مقدم من قبل الهيئة الشرعية
في كتائب ثورة العشرين
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين .
وبعد ...
فان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أهم الوسائل لإصلاح المجتمع وتزكيته وتحقيق أمنه واستقراره ، وهو العصمة المانعة الرادعة من وقوع الجرائم والمخالفات الشرعية فهو صمام الأمان لكل مجتمع وسفينة النجاة لكل أمة والقائم بهذه المهمة له أثر في صيانة المجتمع ونجاته من الهلاك فعن النعمان بن بشير رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
(( مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها وكان الذي أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا لوانا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا فأن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا وان اخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا )) رواه البخاري .
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لهو السبب الأهم في تقوية الإيمان لدى الإنسان الذي يعتبر أعظم رادع عن الجريمة وارتكاب المعصية فكثير من المعاصي والفواحش تصدر من أناس ضعف عندهم الوازع الإيماني حتى تلاشت ضمائرهم وانحطت أخلاقهم والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : (( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ..... )) رواه مسلم
والناس بطباعهم إذا انتشر فيهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أحيا قلوبهم وأيقظ ضمائرهم وامتنعوا عن ارتكاب الجرائم واقتراف المعاصي لأن هذه المهمة بطبيعتها تهتم بتربية الأمة على الفضيلة والكف عن كل رذيلة ومن خلاله يقف أفراد المجتمع الصالحون كلهم في وجه أي إنسان يحاول أن يخرق سفينة المجتمع , فبه يخنس الخبث وأهله وبه الإرغام الحقيقي لأهل الفساد والنفاق من خلال تضييق الخناق عليهم وقطع دابرهم .
روى أبو بكر الخلال عن سفيان الثوري أنه قال : إذا أمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر أرغمت أنف المنافق .
فمن خلال هذه المقدمة أردنا أن نضع الدواء الشافي لمجتمعاتنا التي باتت منخورة في داخلها مخروقة من خارجها فالأمر بالمعروف لهو بمثابة الطب الوقائي لهذه المجتمعات يقيه من كل مرض عضال ، يفت في عضده أو يقوض أركانه .
بهذه الوظيفة نكون قد استطعنا أن ننقذ السفينة ونمينا في مجتمعاتنا جوانب الإصلاح وعوامل البناء .
ومن أجل حماية أخلاق المسلمين والحفاظ على أركان الإسلام وشعائره , نحاول من خلال هذا البحث أن نضع أمام واقعنا منهج الإسلام في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأنه المنهج الحكيم الذي يراعي مقتضيات الأحوال النفسية والاجتماعية وإنه للأثر الكبير الذي ينتج عنه تطبيق شعائر الله ، قال تعالى : (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) (الحج:41)
.
وحتى لا تغرق السفينة وحتى نحاول القيام بالمهمة التي أرادها الله لنا على أوجه أشكالها في إصلاح الناس وإخراجهم من الظلمات إلى النور وتحصين الأمة من كل منكر يفتها .
نبين في هذا البحث المتواضع نظام الحسبة ومكانته وأهميته في الشريعة الإسلامية وبالله نستعين .
تعريف الحسبة :
الحسبة لغةً : العد والإحستاب وبعضهم عرفها بأنها المثوبة والأجر
وفي الاصطلاح عن الفقهاء : هي أمر بمعروف إذا ظهر تركه ونهي عن المنكر إذا ظهر فعله ، والفقهاء يسمون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إحتساباً وحسبة ما دام القائم به يفعله ابتغاء مرضات الله وما عنده من الثواب .
وقال ابن خلدون : الحسبة وظيفة دينية من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي هو فرض على القائم بأمور المسلمين ، يعين لذلك من يراه أهلاً لها فيتعين فرضه عليه , ويتخذ الأعوان على ذلك , فيبحث عن المنكرات ثم يعزر ويؤدب على قدرها .
دليل مشروعيتها
من القرآن الكريم : والذي يعتبر المصدر الأول في الشريعة الإسلامية ، فالقرآن الكريم كثيراً ما أشار إلى قضية الحسبة لأن كل آية وردت في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي دليل مشروعية الحسبة وقد جاءت في تفاوت فمثلاً قوله تعالى : (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (آل عمران:104)(/1)
فهذا الموضع موضع أمر بأن تكون جماعة من الناس تحمل قضية العمل بنظام الحسبة على أتم وجه ، وتارة يأتي القرآن الكريم بأمر الحسبة على أنها صفة للفئة المؤمنة مثل قوله تعالى (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (التوبة:71)
وفي موضع آخر يأتي أمر الحسبة على أنه سبب خيرية الأمة على سائر الأمم مثل قوله تعالى : (( كنتم خير أمة أخرت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله )) (ال عمران-109) ومنها قوله تعالى : (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) (الحج:41)
وهذا النص يبين أن الغاية من التمكين في الأرض والاخذ بزمام الأمور هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
أما السنة النبوية: والتي تعد المصدر الثاني في الشريعة الإسلامية فقد بينت مشروعية إقامة نظام الحسبة من ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم : (( من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فان لم يستطع فبلسانه فان لم يستطع فبقلبه وذلك اضعف الأيمان. ))رواه مسلم وقوله صلى الله عليه وسلم (( لتأمرون بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليسلطن الله عليكم شراركم ثم يدعو خياركم فلا يستجاب لهم ))مجمع الزوائد وفيه دلالة على أنه بترك نظام الحسبة تعم الفوضى وتقوى شوكة المفسدين الداعين إلى المنكر حتى أن خيار الأمة ليدعون فلا يستجاب لهم ، وفي حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ((إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه))سنن الترمذي ففي الحديث بيان مهم على أن القيام بنظام الحسبة سلامة من العقوبات الدنيوية الخاصة والعامة ونجاة للقائمين به من الهلاك الخاص ونجاة للمجتمع الذي يظهر فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنه ما رواه الترمذي عن عبد الله بن مسعود قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول :
(( إنكم منصورون ومصيبون ومفتوح لكم فمن أدرك ذلك فليتق الله وليأمر بالمعروف ولينه عن المنكر ))سنن الترمذي وهذا الموضع فيه دليل على اشتراط إقامة نظام الحسبة وتطبيقه لمن يريد أن يدرك النصر والتمكين .
نشأة الحسبة في النظام الإسلامي
نشأت الحسبة في ظل الإسلام منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ولكن لم تكن كنظام وإنما كانت كأوامر وتنبيهات يلقيها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم على المؤمنين فقد نهى عن الغش وقال :
(( من غشنا ليس منا ))رواه مسلم , وكان إذا تعرض للغشاش زجره
ثم كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه أول محتسب ، فقد كان يقوم بعمل المحتسب بنفسه لأنه كان يطوف الشوارع والأسواق ودرته معه فمتى رأى غشاشاً خفقه بها مهما يكن شأنه وربما أتلف بضاعته ثم ارتقت الحسبة مع توسع البلاد الإسلامية وأصبح هناك والي للحسبة يعينه الخليفة أو أمير المؤمنين وقد اختلفت الآراء حول أي عهد ظهرت فيه ولاية الحسبة ، هل هو العهد الأموي أم العهد العباسي ؟ استناداً إلى بعض الروايات والكتب القديمة فمنهم من يرى أنه العباس ومنهم من يرى أنه المهدي ومنهم من يقول أنه المأمون أو المنصور . غير أن دائرة وظيفة المحتسب قد توسعت أيضاً وشملت أشياء كثيرة منها : مراقبة آلات الكيل والوزن بالتحقيق السديد ، وضبط الأشياء المتشتتة من التبديد ، وحسم الباعات والصناعات من أنواع الغش والتدليس في الثمن والمثمون ، ووجه الخيانة ، والمنع من تلقي السلع قبل أن ترد أسواقها المعلومة ، ويتقدم بالنهي عن البيع يوم الجمعة والإمام على المنبر .
ويجب على والي الحسبة النظر في معايش المسلمين على تفصيل في ذلك ، في تنظيفها وإنضاجها ، وتسعيرها ، واختلاف أنواعها من الجودة والدناءة ، وتخليها من جميع الشوائب المؤثرة فيها ، أو يؤل إليه أمرها كتعاطي الباعة للربا في الأسواق بالجرأة ، أو بيع الأشياء المحرمة على اختلاف أنواعها كأنواع المسكرات والصور المحرمات وآلات الملاهي والعبث بالطعام وغيرها مما سيرد ذكره لاحقاً .
أهمية الحسبة ومكانتها في الإسلام(/2)
لا ينكر بأن للحسبة مكانة عظيمة في الإسلام فهي من أهم شعائر الدين فمن خلالها تحمى حصون المجتمع من أخطار المعاصي والمنكرات وهي من أخص خصائص الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ، قال تعالى : (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ والإنجيل يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ )لأعراف:15 فالآية القرآنية فيها بيان بأن نظام الحسبة من صفات الرسول صلى الله عليه وسلم ومهامه التي بُشر بها في الكتب السماوية السابقة .
قال ابن العربي : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أصل في الدين وعمدة من عمد المسلمين وخلافة رب العالمين ، والمقصود الأكبر من فائدة بعث النبيين فالحسبة أحد مقاصد الأنبياء وبها يصلح للناس دينهم ودنياهم ولمكانة الحسبة ما أوضحه الإمام الغزالي إذ يقول عنها : أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو القطب الأعظم في الدين وهي المهمة التي ابتعث الله فيها النبيين أجمعين ولو طوي بساطه وأهمل عمله وعلمه لتعطلت النبوة واضمحلت الديانة وعمت الفترة وفشت الضلالة وشاعت الجهالة وانتشر الفساد واتسع الخرق وخربت البلاد وهلك العباد
ومن أهميتها أن جعل الله القيام بها من صفات المؤمنين حيث قال تعالى :
(وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)(التوبة:71)
فجعله الله فاصلاً بين الإيمان والنفاق إذ قال عن المنافقين ،
قال تعالى : (( الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ)(التوبة:67)
نظام الحسبة ، فرض كفاية أم على التعيين :
ذكر الفقهاء على أن إقامة نظام الحسبة فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين وإن لم يقم به أحد أثم القادرون جميعاً وقد استدلوا بقوله تعالى : (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)
(آل عمران:104)
أن الشارع الكريم لم يقل كونوا كلكم آمرين بالمعروف بل قال : ( ولتكن منكم ) إذا قام به أحد أو جماعةممن تحصل بهم الكفاية سقط الحرج عن الآخرين .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ( وكذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يجب على كل أحد بعينه بل هو على الكفاية كما دل عليه القرآن ) .
وقد يتعين في بعض المواضع بحيث يصير فرض عين على إنسان معين .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ( ويصير فرض عين على القادر الذي لم يقم به غيره ) والقدرة : السلطان والولاية فذووا السلطان أقدر من غيرهم وعليهم من الوجوب ما ليس على غيرهم فمناط الوجوب القدرة فيجب على كل إنسان بحسب قدرته .
قال تعالى( فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)(التغابن: 16) ، وقال صلى الله عليه وسلم : (( من رأى منكم منكراً فليغره بيده .... )) .رواه مسلم
ومن ناحية أخرى قد تكون الحسبة واجبة أو مندوبة نظراً إلى ما تتعلق به فإن كانت أمراً بواجب أو نهياً عن حرام كانت الحسبة واجبة سواء كان وجوبها عينياً أو كفائياً ، وإن كانت ما تتعلق به مندوباً كانت مندوبة .
أركان الحسبة :
فأركان الحسبة أربعة : المحتسب ، والمحتسب عليه ، والمحتسب فيه ، والاحتساب ، وهذا تفصيل موجز لكل ركن :
أولاً : المحتسب : وهو من يقوم بأمر الاحتساب( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) وقد شاع بين الفقهاء إطلاق هذا الاسم على من يعينه ولي الأمر للقيام بالحسبة .
وقد اشترط الفقهاء شروط معينة في المحتسب ليكون مؤهلاً للاحتساب :
1-أن يكون مكلفاً والمكلف في اصطلاح الفقهاء هو البالغ العاقل وهذه شروط وجوب الاحتساب على المسلم .
2-أن يكون مسلماً وهذا الشرط مهم لأن الغاية من الحسبة نصرة الدين وغير المسلم لا يكون من أهل النصرة للدين وهو جاحد أصل الدين .
3-الإذن من الإمام أو نائبه : وفي هذا نظر لأن المحتسب إذا عُين من الإمام للاحتساب فلا حاجة للإذن ، أما إذا لم يكن معيناً فهذا يسمى ( المتطوع ) ، وهنالك فرق بين المحتسب والمتطوع كما وضحها العلماء من ناحية الإلزام على المحتسب بحكم التعيين في بعض القضايا والتي تكون غير ملزمة للمتطوع . فالمحتسب يأخذ الأجر على عمله وليس ذلك للمتطوع ، والمحتسب يجتهد في بعض المسائل العرفية وليس ذلك للمتطوع ، والمحتسب يتعين على عمله بالأعوان وليس للمتطوع ذلك وغيرها من القضايا التي ذكرها الفقهاء .(/3)
4-العدالة : أي كونه مؤتمراً بما يُؤمر به ومنتهياً عن ما يُنهى عنه . وهذا شرط قال به البعض من أهل العلم بأن يكون عدلاً غير فاسق فلا يخالف قوله عمله ، وقد استدلوا بالآية القرآنية (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (البقرة:44)
ومنها قوله : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ) (الصف:2)
والخلاف قائم بين الفقهاء في قضية العدالة فكما أن البعض يراها شرطاً فالبعض يرى عدم اشتراطها وإنما الشرط القدرة على إزالة المنكر لأنه ما من أحد إلا ويصدر منه العصيان ، والمعصية تثلم العدالة .
قال النووي رحمه الله : ( قال العلماء ولا يشترط في الآمر والناهي أن يكون كامل الحال ممتثلاً ما يؤمر به ، مجتنباً ما ينهى عنه ، فإنه يجب عليه شيئان : أن يأمر نفسه وينهاها ، وأن يأمر غيره وينهاه ، فإذا أخل بأحدهما كيف يباح له الإخلال بالأخرى )
ومنهم من يرى أن الحسبة إذا كانت بالدعوة والوعظ والإرشاد فيكون اشتراط العدالة لوجوب الحسبة اشتراط القبول فإذا كان المحتسب فاسقاً غير ورع فإن وعظه لا يؤثر ولا يُقبل ولا ينفع . أما إذا كانت الحسبة بالقوة والقدرة فالعدالة ليست بشرط إذ الشرط لوجوبها القوة والقدرة وليست العدالة ، لأن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن .
ومن شروطها أن يوطن نفسه على الصبر ليضبط أعصابه ، قال تعالى ( يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) (لقمان:17)
وأن يكون ورعاً ذا خلق حسن يتمكن من خلاله من اللطف والرفق وهو أصل الباب ، قال تعالى : (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ)(النحل:125).
وقال صلى الله عليه وسلم :( ثم إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ، ولا ينزع من شيء إلا شانه)رواه مسلم
ويدل على أهمية الرفق ما استدل به المأمون عندما وعظه الواعظ فأغلظ عليه في القول ، فقال له المأمون : يا رجل أرفق فقد بعث الله من هو خير منك ،( موسى) إلى من هو شر مني ،( فرعون) ، وأمره بالرفق فقال تعالى : (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) (طه:44)
وقوله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم :( وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ)(آل عمران159
وظيفة المحتسب :
الفقهاء قسموا وظيفة المحتسب إلى قسمين : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وقسموا كلاً منهما إلى ثلاثة أقسام : الأول ما تعلق بحدود الله ، والثاني ما تعلق بحقوق الآدميين ، والثالث ما تعلق بالحقوق المشتركة بين الله والآدميين .
وهي كما قسمها بعض الفقهاء :
1. ... مراقبة التجار وأرباب الحرف .
2. ... مراقبة الأسعار والموازين .
3. ... مراقبة الأخلاق العامة .
4. ... مراقبة العبادات .
5. ... مراقبة الطرق والمباني .
6. ... وظائف قضائية .
7. ... وظائف مختلفة .
ثانياً : المحتسب عليه : وهو كل إنسان يباشر أي فعل يجوز أو يجب فيه الاحتساب ويسمى المحتسب عليه ، ولا يشترط فيه البلوغ والعقل ، فالمجنون إذا زنى وجب الاحتساب منه وكذا الصبي المميز وغير المميز إذا همَّ بشرب الخمر أو شربه أنكر عليه المحتسب وحال بينه وبينها ،
وأنواع المحتسب عليهم خمسة :
1-الأقارب : تجري عليهم الحسبة على حد سواء ولكن الفقهاء قالوا : احتساب الابن على والديه ببيان الحكم الشرعي والموعظة الحسنة ، ولا يتعدى إلى الضرب والكلام الغليظ .
2-غير المسلمين : ويجري الاحتساب على غير المسلمين في دار الإسلام ذمياً كان أو مستأمناً لأننا وإن أُمرنا بتركهم وما يدينون لكن هذا الترك لا يعني تركهم يخرقون نظام الإسلام ويتعاطون ما يناقضه علانيةً .
3-الأمراء : يجري عليهم الاحتساب مع مراعاة فقه الاحتساب بحقهم .
4-القضاة : ويجري ذلك عندما يرى المحتسب القاضي يحكم وهو غضبان فيمنعه ، أو يسمعه يشتم أحداً فيعظه ويخوفه من الله .
5-أصحاب المهن المختلفة : وهو حثهم على أداء العمل على الوجه الصحيح كما حكم به الإسلام من غير غش أو تدليس أو إضرار .
ثالثاً : المحتسب فيه : أي المنكر وهو موضوع الحسبة والمقصود بالمنكر الغالب أنه يطلق على المعصية وهي مخالفة الشريعة بارتكاب ما نهت عنه أو ترك ما أمرت به سواء كانت المعصية من الصغائر أو الكبائر بحق الله أو بحق العباد .
شروط المنكر :
بين علمائنا شروط المنكر وهي :
أولاً : أن يكون ظاهراً : أي منكشفاً للمحتسب وعلمه به دون تجسس كأن يكون عن طريق الحواس وعلى هذا لو كان المنكر مخفياً لم يجز للمحتسب أن يتسلق الجدار أو يكسر الباب إلا إذا كان هناك صياح واستغاثة .(/4)
ثانياً : أن يكون قائماً بالحال : ومعنى هذا أن يكون موجوداً في الحال لأن المنكر إذا وقع وانتهى فلا احتساب فيه على فاعله وإنما لولي الأمر أن يعاقبه إذا ثبت ذلك ويجوز للمحتسب الوعظ على فاعل المنكر بعدم العودة لمثل هذا الفعل .
ويتسع نظام الحسبة ليضم الاعتقادات ثم العبادات ثم المعاملات ثم ما يتعلق بالطرق والدروب والأسواق ثم ما يتعلق بالحرف والصناعات كل على حدة ثم ما يتعلق بالأخلاق والفضيلة وهذه أهم أمور الاحتساب .
رابعاً : الاحتساب : وهو القيام فعلاً بالحسبة كأن يأمر المحتسب فعلاً بفعل معين أو كيفية معينة أو يزيل منكراً كأن يكسر أو يمزق أو يتلف .
والمهم أن يتم الاحتساب بالكامل بإزالته تماماً ومحوه فعلاً ولو بالقوة عند الاقتضاء من قبل المحتسب وأعوانه .
ومراتب الاحتساب ثلاثة والتي يتم من خلالها حسم المنكر وهذه المراتب مبنية على حديث النبي صلى الله عليه وسلم : (( من رأى منكم منكراً فليغيره بيده ...... ))رواه مسلم .
قال القاضي عياض وهذا الحديث أصل في صفة التغيير فحق المغير أن يغيره بكل وجه أمكنه زواله به فعلاً أو قولاً .
وقال الشوكاني : كل مسلم يجب عليه إذا رأى منكراً أن يغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه كما بين النبي صلى الله عليه وسلم .
وقال ابن تيمية : ومن لم يندفع فساده إلا بالقتل قتل .
وهذه المراتب هي :
المرتبة الأولى : تغِير المنكر باليد أي بالقوة واستعمال السلاح والاستعانة بالأعوان كما في دفع الصائل لتخليص النفس البريئة من الموت .
قال أبو حامد الغزالي : ( كل من قدر على دفع المنكر فله ذلك بيده وبسلاحه وبنفسه وأعوانه ) الإحياء .
المرتبة الثانية : الاحتساب بالقول وذلك ببيان الحكم الشرعي والوعظ والإرشاد والتخويف من الله والتعنيف والتغليظ في القول .
المرتبة الثالثة : الاحتساب بالقلب وهذه المرتبة مرتبة الإنكار في القلب لكل منكر لا يمكن لصاحبه تغييره بالمتربتين السابقتين وهذه المرتبة لا يخلو مسلم منها وهي كره الفعل قلبياً وهو واجب على كل مسلم إذا سمع بمنكر أو رآه كما ذكرنا .
ويحرم الاحتساب إذا لحق الأذى بالمحتسب من جرائه سواء كان أذى جسيماً بغيره من أصحابه أو أقربائه أو رفقائه حتى ولو ُقدر زوال المنكر معه لأنه يفضي إلى منكر آخر هو إلحاق الأذى بالآخرين لأن المهم هو أن يؤدي الأمر بالمعروف إلى معروف لا إلى منكر .
كذلك يحرم الاحتساب إذا أدى تغير المنكر إلى منكر أعظم منه .
درجات الاحتساب :
وللاحتساب درجات في إزالة المنكر ، لا العقوبة عليه ، قال الغزالي : ( فاعلم أن الزجر إنما يكون عن المستقبل ، والعقوبة تكون على الماضي ، والدفع على الحاضر الراهن ، وليس لأحد من الرعية إلا الدفع وهو إعدام المنكر ) .
ودرجات الاحتساب مبنية على : التعريف ، ثم النهي بالوعظ والنصح ، ثم السب بالتفسيق والقول الغليظ الخشن ثم التهديد والتخويف باليد ثم مباشرة الضرب مما ليس فيه شهر للسلاح ، ثم الاعتضاد إلى الأعوان وشهر السلاح ولا ينتقل من درجة إلى أخرى إلا إذا لم يفلح التغيير بالدرجة التي قبلها .
ويذكر في أدب التغيير باليد هو أن يقتصر على القدر المحتاج إليه . وهو أن لا يأخذ بلحيته في الإخراج ولا برجله إذا قدر على جره من يده لأن زيادة الأذى مستغنى عنه وأن لا يمزق ثوب الحرير بل يحل دروزه فقط ولا يحرق الملاهي والصليب الذي أظهره النصارى بل يبطل صلاحيتها للفساد بالكسر .
ويذكر من أدب الضرب باليد والرجل على قدر حاجة الدفع فإن اندفع المنكر كف عن الضرب .
أنواع الحسبة بمفهومها العام :
تقسم الحسبة إلى ثلاثة أنواع :
الأول : حسبة الدولة على الرعية : ومقتضاه أن يكون ضمن مؤسسات الدولة ما يكون اختصاصه حفظ واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الأمة ومراقبة حال المجتمع ومدى تمثل مبادئ الإسلام فيه وهذا ما نفهمه من خلال قول أمير المؤمنين عثمان بن عفان : (( إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن )) لأن نظام السلطة بحد ذاته وسيلة لتحقيق مبادئ الإسلام في المجتمع .
قال ابن كثير في تفسيره ( أي ليمنع بالسلطان عن ارتكاب الفواحش والآثام ما لا يمتنع كثير من الناس بالقرآن وما فيه من الوعيد الأكيد والتهديد الشديد وهذا هو الواقع ) .
ولهذا جاء في بعض الآثار ( السلطان ظل الله في أرضه )
الثاني : حسبة الرعية على الدولة : أقامت الشريعة مبدأ الحسبة على الدولة منطلقاً من الأمة وحملتها مسؤولية تقييد السلطة بقيد هو احترام دستور الشريعة الإسلامية وتقويم الدولة إذا انحرفت ولقد قرأنا من خلال كتب السير الكثير من الأمثلة على هذا القسم ، فقد كان العلماء يدخلون على الولاة والسلاطين ويعضونهم وينصحونهم ومنهم من يغلظ معهم القول كما حدث مع المأمون ما ذكرناه أنفاً وغيرها من الروايات .واذا خلا الزمان من العلماء الربانيين يمكن إقامة الحسبة على السلطة من خلال المظاهرات والاعتصامات وغيرها من الوسائل(/5)
الثالث : حسبة الرعية على الرعية : والمقصود بها نهوض الأمة بهذا الواجب ، واجب الحسبة ولا ريب بأن تكليف الأمة كلها لتقوم بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دليل على أنها أمة حية متحركة تسعى لتغيير الواقع حولها ليخضع لتعاليم الإسلام .
قال النووي : ( ومما يتعلق بهذا الأمر أن الرجل والمرأة والعبد والفاسق والصبي المميز يشتركون في جواز الإقدام على إزالة هذا المنكر وسائر المنكرات ) .
وقال الغزالي : ( وليس لأحد منع الصبي من كسر الملاهي وإراقة الخمور وغيرها من المنكرات ) .
ومن المهم الذي يجب التنبيه عليه أن نظام الحسبة بني على قاعدة تحصيل المصالح بحسب الإمكان ودفع المفاسد بحسب الإمكان وتقديم أرجح الأمرين عند التعارض .
أقسام إنكار المنكر :
يقول ابن القيم - رحمه الله – إن النبي صلى الله عليه وسلم شرع لأمته إيجاب إنكار المنكر ليحصل بإنكاره من المعروف ما يحبه الله ورسوله ، فإذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه ، وأبغض إلى الله ورسوله فإنه لا يسوخ إنكاره وإن كان الله يبغضه ويمقت أهله .
ومن هذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يرى بمكة أكبر المنكرات ولا يستطيع تغييرها بل لما فتح الله مكة وصارت دار إسلام عزم على تغيير البيت ورده إلى قواعد إبراهيم ومنعه من ذلك مع قدرته عليه خشية الوقوع بما هو أعظم منه وحديث عائشة يفسر ذلك : ( لولا أن قومك حديث عهد بجاهلية لأمرت بالبيت فهدم فأدخلت فيه ما اخرج....... )رواه البخاري
وقد قسم ابن القيم إنكار المنكر إلى أربعة درجات :
الأول : أن يزول أو يخلفه ضده .
ثانياً : أن يقل وإن لم يزل بجملته .
ثالثاً : أن يتساويا .
رابعاً : أن يخلفه ما هو أشر منه ، ومن ذلك ما روي عن ابن تيمية قوله : مررت أنا وبعض أصحابي في زمن التتار بقوم منهم يشربون الخمر ، فأنكر عليهم من كان معي ، فأنكرت عليه وقلت له : إنما حرم الله الخمر لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة وهؤلاء تصدهم الخمر عن قتل النفوس وسبي الذراري وأخذ المال ، فدعهم .
والمهم في هذه الفريضة تحقيق المصلحة بجلبها والقضاء على المفسدة بدفعها وهذه المصلحة والمفسدة تعرف من خلال وضعها في الميزان الشرعي وينبغي الموازنة بينهما لأن الموازنة هي مفتاح الرشد في التعامل مع واقعنا المعاصر بكل علله ومتناقضاته ، ومن أجل الحفاظ على أركان المجتمع نؤكد على إحياء فقه الموازنة بين المصالح والمفاسد في نظام الحسبة .
إقامة نظام الحسبة مع غياب السلطان :
من المعلوم أنه بغياب السلطان وضياع القانون تعم الناس الفوضى وتنتشر المعاصي والمنكرات لعدم وجود الرادع ويظهر كل مبتدع داعياً إلى بدعته وكل صاحب ضلالة مجاهراً بضلالته . ولكي لا تغرق سفينة المجتمع ويهلك الناس وتضيع معالم الشريعة ، رأى الفقهاء أن الأمة إذا شُغر الزمان فيها من وجود الإمام ، وخلت من حاكم يحمل الأمة على إقامة الشريعة فالأمور موكولة إلى أهل الحل والعقد في الأمة وهم الصفوة الصافية من أبناء الأمة ، كأهل العلم وأهل القدرة من أهل الثغور والذين يُفزع إليهم في المهمات والمصالح العامة ممن عُرف عنهم تمسكهم بأصول الإسلام والرجوع إلى الشريعة والتحاكم إلى منهج الله ، فهؤلاء إذا اجتمعت كلمتهم وصارت لهم شوكة وقوة صار من الواجب عليهم إقامة شعائر الدين ، وردع الناس عن الضلالات والمعاصي والمنكرات كما لو أن الإمام كان موجوداً وأهل الحل والعقد بوحدة كلمتهم يمثلون جماعة المسلمين لحين ظهور السلطان الشرعي أو الإمام الذي يحكم بشريعة الله .
وأرى والله أعلم تسايراً مع واقعنا الذي غاب فيه السلطان الشرعي وضاع فيه قانون الإسلام والمنهج الحكيم الذي يردع الناس عن إتيان المنكرات والمجاهرة بالمعاصي فإن الأمر بهذا المجتمع الذي باتت تعمه الفوضى موكول لأهل الحل والعقد والمتمثل بالفصائل الجهادية أصحاب الكلمة فلهم الحق أن يجتمعوا لإقامة نظام الحسبة كما هو مبين في الشريعة مع مراعاة المصالح والمفاسد عند اتخاذ القرارات .
عواقب التخلي عن نظام الحسبة :
لقد وضح لنا القرآن الكريم في مواضع عديدة الآثار الخطيرة المترتبة على الأمة إذا انتهجت غير منهج الله ولم تأمر بمعروف ولم تنه عن منكر فإن لعنة الله لاشكَّ أنها ستحل وستبتلى الأمة بأنواع العذاب والتنكيل لأنها أهملت فريضة الإصلاح . قال تعالى:(لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ*كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) المائدة:79
ومعناها أن بني إسرائيل في تلك الفترة كانوا مجتمعاً ضالاً لا ينهى أحدهم الآخر عن المعصية والمجاهرة بالمنكرات فاستحقوا اللعنة من الله .(/6)
واعلم أن الأمة مهما كان فيها من أهل الصلاح إذا لم يؤدَ نظام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإن الله تعالى سيعمهم بعذاب من عنده وكلٌ يبعث على نيته ، قالت ام المؤمنين زينب بنت جحش صلى الله عليه وسلم للنبي صلى الله عليه وسلم ( أنهلك وفينا الصالحون ، قال : نعم إذا كثر الخبث ) .رواه البخاري
ولذلك يقول الله تعالى : (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) (هود:117)
ولم يقل وأهلها صالحون ، لأن القاعدة تقول ما فائدة الصلاح إن لم يؤدِ إلى الإصلاح ، وفي الحديث أن ملكا أُمر أن يخسف بقرية فقال يارب فيها فلان العابد فأوحى الله تعالى إليه أن به فابدأ فأنه لم يتمعر وجهه في ساعة قط .
فالأمة التي لا تنهى عن منكر ولا تأمر بمعروف يوشك الله أن يأخذها بعذاب من عنده ولأنه بترك نظام الحسبة يظهر الأشرار ويتولى السفلة ويعلو الضلال على الإيمان وتحل اللعنة والسخط والعذاب الأليم ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : (( والذي نفسي بيده لتأمُرون بالمعروف ولتنهوُن عن المنكر أو ليُوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً منه ثم تدعون فلا يُستجاب لكم )) .مجمع الزوائد
وختاما
فالناس لا يهنأ لهم عيش ولا يهدأ لهم بال ولا يأمنون على أنفسهم وأموالهم إلا بشريعة الله ومن أهم فرائضها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
وأخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الأمين
المصادر
1. ... القرآن الكريم
2. ... السنة النبوية
3. ... تفسير القرآن العظيم ابن كثير
4. ... إحياء علوم الدين للغزالي
5. ... شرح النووي
6. ... مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيميه
7. ... أصول الدعوة د . عبد الكريم زيدان
8. ... الثوابت والمتغيرات د . صلاح الصاوي(/7)
نظام الحكم الشمولي ونظام الحكم الإسلامي
أحمد الخطيب
ahmadkhatiby@yahoo.com
يتردد كثيراً في وسائل الإعلام مصطلح "نظام الحكم الشمولي" ويراد به كل نظام لا يعترف بالديمقراطية ولا يتبنى مبدأ فصل السلطات، ويدخل فيه بالطبع جميع الأنظمة الدكتاتورية الفردية، ويحملونه مسؤولية كل فساد وشر يحدث في الدولة، كما ويُحملونه مسؤولية كل أنواع التخلف في جميع قطاعات المجتمع.
وبشكل إجمالي فإن الأنظمة التي لا تلتزم الخيار الديمقراطي تُتهم بأنها أنظمة شمولية وتوصف بشتى الأوصاف السلبية وتُنعت بأقبح النعوت.
ويغالي يعضهم بالقول إن أي نظام حكم لا يُطبِّق الديمقراطية هو نظام حكم شمولي، وعليه فيكون نظام الحكم في نظر هؤلاء الغربيين لا يخرج عن واحد من اثنين: إما أن يكون ديمقراطياً وإما أن يكون شمولياً.
وبهذا التوصيف التعسفي لأنظمة الحكم يتم إسقاط هذا الوصف ليس على أنظمة الحكم الوضعية الحالية وحسب، بل ويعمم على جميع أنظمة الحكم التي عرفتها البشرية منذ فجر التاريخ، فكأن الحضارات والثقافات على مر العصور لم تعرف سوى هذين النظامين.
وبناءً على ذلك فإن نظام الحكم الإسلامي يكون بحسب نظريتهم هذه هو نظام حكم شمولي يستوي مع أنظمة الحكم الاستبدادية الدكتاتورية الحالية القائمة في معظم الأقطار العربية والإسلامية، كما ويستوي مع الأنظمة الشيوعية والفاشية، فجميعها في عرفهم تعتبر أنظمة شمولية.
إن القياس والتعميم ابتداء هو منهج خاطئ في الحكم وفي الأبحاث الفكرية لأن النتيجة المؤكدة لهذا القياس فيها من الظلم والعسف والتجني ما يجعلها لا ترقى حتى إلى مستوى النقاش، والأصل أن تبحث كل حالة على حدة، فكل نظام حكم له مزايا ومواصفات تميزه عن الآخر، فلا يجوز إطلاق الأحكام بالقياس الشمولي، لأن ذلك يجعله قياساً تعسفياً لا يتوافر فيه عناصر القياس الكاملة الصحيحة.
على أن كشف حقيقة أية فكرة هو الذي يدفعنا لمناقشتها، لإدراك كنهها فلا تنطلي علينا أية أعمال تدليس فكرية قد يقام بها في محاولة مرسومة لإخفاء الحقائق من خلالها.
إن نظام الحكم الشمولي من وجهة نظر الغرب لا يبتعد كثيراً عن نظام الحكم الدكتاتوري الفردي الذي يُمجد فيه الزعيم ويُقدس الحاكم الذي يجمع كل السلطات بيده، والذي يسيطر على جميع مؤسسات الدولة، فيكون هذا الفرد الحاكم هو الآمر الناهي في كل شؤون المجتمع، ويصبح ما يقوله هو القانون، في الوقت الذي لا يخضع هو للقانون، لأنه يُعتبر فوق القانون، بل وفوق المحاسبة، إذ لا نظير له في البلد كما يتوهم، وبالتالي فإنه لا يتنحى عن السلطة تحت أي ظرف من الظروف، إلا إذا غيَّبه الموت، أو نجح انقلاب في خلعه.
ومن مزايا النظام الشمولي الدكتاتوري أنه يقيم أجهزة بوليسية أمنية قمعية تنتهك الحقوق، وتبطش بمن يعترض أو يحاسب أو يختلف مجرد اختلاف مع مزاج الحاكم. ومن الأمثلة على هذه الأنظمة الشمولية الأنظمة القائمة في البلدان العربية حالياً، والأنظمة الشيوعية التي كانت قائمة إبان العهد السوفياتي، والأنظمة العسكرية في مختلف أرجاء العالم وما شابهها.
ومن المفارقة الغريبة أن أنظمة الحكم الشمولية التي دأب الغرب على مهاجمتها، هي نفسها التي أقامها الغرب بنفسه منذ دخول عهد الاستعمار للبلاد المستضعفة، والتي لم يكن فيها من قبل مثل هذه الأنظمة، فالاستعمار الغربي تحديداً هو الذي أنشأ هذا النوع من الأنظمة، وهو الذي ما فتئ ينتقدها.
وذرائع ومبررات وجود مثل هذه الأنظمة الاستبدادية الفردية، المسماة بالشمولية هي بالنسبة لأصحابها لا تخرج عن ثلاث حجج:
1) الادعاء بأن الحفاظ على أمن الوطن والمواطن من الذين يتربصون به وهم كثر في الداخل والخارج كما يُزعم، اقتضى وجود مثل هذه الأنظمة الاستبدادية.
2) القول بأن الديمقراطية لا تتماشى مع الدين، وهذا خاص ببعض الأنظمة التي تدعي بأنها أنظمة دينية كالسعودية مثلاً، هذا القول اقتضى وجود أنظمة سُمِّيت بالشمولية.
3) الزعم بأن الصراع مع العدو اليهودي هو الذي استوجب وجود هذه الأنظمة الشمولية الفردية الدكتاتورية التي تستطيع مواجهة العدو كما زعموا.
لقد كان من الطبيعي أن تظهر نتائج وآثار لهذه الأنظمة على أرض الواقع حيث تمثل أسوأ ما يمكن أن يتمخض عن تلك الأنظمة وكان من أبرزها:
1- عسكرة الدولة والمجتمع، وقتل الحياة الطبيعية والمدنية في البلاد، وتمثل ذلك في فرض ما يُسمى بقوانين الطوارئ العرفية الدائمة.
2- اعتبار التسلط والقهر والقمع شيئاً عادياً في ظل هذه الأنظمة القمعية.
3- تدمير القيم السامية والعليا في المجتمعات وبث الذعر والرعب في كل زاوية من زوايا المجتمع من قبل الحاكم وأجهزته وأدواته.
4- نشر مختلف أنواع الرذائل والشرور بحرية تامة باعتبار أنها لا تضر بالحاكم وبسلطاته ونفوذه.
5- انتشار التخلف والانحطاط في مختلف مجالات الحياة كتحصيل حاصل لتلك السياسات.(/1)
6- وجود منفذ سهل يسمح للقوى الأجنبية بالنفاذ من خلاله لبسط نفوذ تلك القوى.
مع أن هذه الآثار وتلك النتائج التي أفرزتها هذه الأنظمة المسماة بالشمولية والتي لا تمت إلى الإسلام بصلة، إلا أن أعداء الإسلام حاولوا الإيماء بأن هذه الأنظمة الشمولية التي أوجدوها هم، ما هي إلا امتداد طبيعي لنظام الخلافة الإسلامية، فالتدليس واضح في مسعى هؤلاء الأعداء للتلبيس على العقول من خلال ذلك الربط الغريب بين نظام الحكم في الإسلام وبين الأنظمة الشمولية التي اخترعها الكافر المستعمر وزرعها في بلاد المسلمين، ورعاها وأسندها بكل ما أوتي من قوة، ثم بعد ذلك أوجد بينها وبين الإسلام نسباً.
ففي الإسلام الحكم والملك والسلطان هو بمعنى واحد وهو السلطة التي تنفذ الأحكام الشرعية على الناس في دار الإسلام، أو كما يقول بعض الفقهاء هو عمل الإمارة التي أوجبها الشرع على المسلمين لدفع التظالم وفصل التخاصم، وهي عينها ولاية الأمر، يقول تعالى: }أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ{ والطاعة هنا متعلقة برعاية شؤون الرعية بالفعل من قبل أولي الأمر، أي من قبل الأئمة أو الخلفاء، وهذا المعنى تؤكده عشرات النصوص القرآنية الكريمة والنبوية الشريفة وذلك كقوله تعالى: }فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ{ وقوله: }وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ{.
ففرق كبير بين الحكم بالهوى كحكم الدكتاتور في أنظمة الحكم الشمولية، وبين الحكم بالشرع في نظام الحكم الإسلامي، وهذا الفرق هو فرق بين الكفر والإسلام، وفرق بين حكم الله وحكم البشر، وبالتالي فلا مجال لإدخال هذا بذاك، ولا مكان للتلبيس والتخليط.
وأصل الحكم في الإسلام كما يعلم القاصي والداني يقوم على أساس العدل مصداقاً لقوله تعالى: }وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ{ بينما حكم الطاغوت في الأنظمة الشمولية يعتمد على الظلم والقهر والتسلط والمزاج والهوى.
يقول الماوردي في مقدمة كتابه الأحكام السلطانية: "إن الله جلَّت قدرته ندب للأمة زعيماً خلف به النبوة، وناط به الملّة، وفوَّض إليه السياسة، ليُصدر التدبير عن دين مشروع، وتجتمع الكلمة عن رأي متبوع، فكانت الإمامة أصلاً عليه استقرت قواعد الملة، وانتظمت به مصالح الأمة، حتى استثبتت بها الأمور العامة، وصدرت عنها الولايات الخاصة، فلزم تقديم حكمها عن كل حكم سلطاني، ووجب ذكر ما اختص بنظرها على كل نظر ديني لترتيب أحكام الولايات على نسق متناسب الأقسام متشاكل الأحكام".
ويُحدد الماوردي للإمام عشر مهام هي:
1- حفظ الدين. 2- تنفيذ الأحكام. 3- حماية البيضة. 4- إقامة الحدود. 5- تحصين الثغور.
6- جهاد المعاندين للإسلام. 7- جباية الفيء والصدقات. 8- تقدير العطايا. 9- استكفاء الأمناء وتقليد النصحاء. 10- مباشرة الأمور وتصفح الأحوال.
هذه هي أحكام فقه نظام الحكم الإسلامي مأخوذةً من أهم كتب السياسة الشرعية المعتبرة، فأين منها أحكام فقه الهوى وسياسات البطش والإفساد في الأرض في ظل تلك الأنظمة الشمولية والتي تعتمد على الأجهزة الأمنية البوليسية وما تمارسه من قتل وتعذيب، وسجن وترهيب، وانتهاك للحرمات وتعدي على المحرمات، بينما يقول الحق تعالى: }وَلَا تَجَسَّسُوا{ ويقول الرسول r في حديث رواه أحمد: "لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم فإن من يتتبع عوراتهم يتتبع الله عورته ومن يتتبع الله عورته يفضحه في بيته"، ويقول أيضاً في حديث رواه البخاري ومسلم: "إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ولا تحسسوا ولا تجسسوا، ولا تحاسدوا ولا تدابروا، ولا تباغضوا، وكونوا عباد الله إخواناً" ويقول u في حديث رواه مسلم: "إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا" ويقول في حديث آخر رواه مسلم أيضاً: "المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه". فهل هذه المعاني السامية في نظام الحكم الإسلامي موجودة في أنظمة الحكم الشمولية؟!.
أما قولهم إن نظام الحكم في الإسلام والأنظمة الشمولية تتشابه في بقاء الحاكم مدة طويلة في السلطة، وتتشابه في عدم الفصل بين السلطات، وبالتالي فهي واحدة، فإن هذا القول ينم عن جهل أو تغرير، وذلك لأن مجرد الشبه لا يعني التطابق، فالمشكلة لا تكمن في طول مدة الحكم، وإنما تكمن في الأنظمة والقوانين والتشريعات والمعالجات التي يتم تطبيقها، هل هي صحيحة من لدن حكيم خبير أم هي باطلة مستقاة من عقل إنسان حقير؟ فالعبرة بالأحكام لا بالحكام، والعبرة بإحسان التطبيق للفكرة الصحيحة وليس بعدم تطبيقها، أو بتطبيق أفكار فاسدة لا تتفق مع فطرة الإنسان، ولا تتوافق مع عقله.(/2)
أما تصنيف الغربيين الكفار لأنظمة الحكم بأنها منذ أيام الإغريق وحتى هذه الأيام إما أن تكون أنظمة ديمقراطية أو أنظمة شمولية، فإن هذا تصنيف قاصر أو مغرض، لأن نظام الحكم الإسلامي الذي استمر أكثر من 1300سنة ليس هو نظام حكم شمولي ولا هو نظام ديمقراطي، إنه نظام متميز فريد لا يشبه هذه الأنظمة الوضعية ولا تشبهه هذه الأنظمة الناقصة. والادعاء بأن نظام الحكم الإسلامي هو نظام شمولي، أو الادعاء بأنه نظام ديمقراطي، إنما يدل على قصور في التفكير، أو خداع في التفسير، لأن نظام الحكم في الإسلام عرفته البشرية لمئات السنين، ولم يصنفه علماؤها كما قام الغرب بتصنيفه في هذه الأثناء.
فالإسلام نظام من طراز مختلف، يتناقض مع الديمقراطية تماماً كما يتناقض مع الشمولية في عرف الغربيين. ولسوف تسقط جميع الادعاءات والافتراءات على نظام الحكم الإسلامي بأنه شمولي أو بأنه ديمقراطي كما سقطت من قبل ادعاءات وافتراءات سابقة عنه بأنه نظام اشتراكي.
وسوف يستمر الصراع بين الإسلام والحضارة الغربية حتى يحل نظام الحكم الإسلامي محل أنظمة الحكم الديمقراطية والشمولية وحتى يحل حكم الله محل حكم البشر، وهذه هي سنة الحياة التي تقضي بانتصار دعوة الحق على دعاوى الكفر والبطلان(/3)
نظام النقد الدولي (4)تاريخ تقويم العملات المؤثرة في العالم
تم اعتماد آلية مراقبة الصرف وتثبيته، على ضوء تحديد قيم أغلب العملات المستخدمة في التبادل الدولي كما يلي:
1- الجنيه الإسترليني:
تم تحديد قيمة الجنيه بوزن (7.988) غرام من الذهب، بموجب قانون صدر بتاريخ 22/6/1816. وكان الإسترليني يحتل المرتبة الأولى بين عملات التجارة العالمية، بنسبة 21% من إجمالي مدفوعات التجارة الدولية عام 1900.
2- الفرنك الفرنسي:
تحددت قيمته بوزن (322.58) ملليغرام ذهب، بموجب قانون صدر بتاريخ 10/4/1802. وكان يحتل المرتبة الثانية بنسبة 8% من التجارة الدولية سنة 1900.
3- المارك الألماني:
تم تحديد قيمته بوزن (398.2) ملليغرام ذهب، بموجب قانون صدر بتاريخ 9/8/1873. ولم يكن المارك يلعب دوراً مهماً في التجارة الدولية.
4- الروبل الروسي:
تحددت قيمته بوزن (744) ملليغرام ذهب، بموجب الأمر الإمبراطوري الصادر سنة 1897. ولم يكن الروبل يلعب دوراً خارج حدود الإمبراطورية القيصرية.
5- الدولار الأميركي:
بعد تقلبات عديدة، تحددت قيمة الدولار بوزن (1.5) غرام ذهب، بموجب القانون الصادر بتاريخ 14/3/1900 والمعروف باسم (ميثاق المعيار الذهبي). ولم يكن الدولار يلعب أي دور على المستوى العالمي، نظراً لعدم وجود مصرف مركزي (تأسس مصرف الاحتياط الفيدرالي سنة 1913).
سار العالم، طيلة فترة القرن التاسع عشر حتى بداية الحرب العالمية الأولى سنة 1914، وهو ملتزم بنظام (القاعدة الذهبية)، وما يتعامل به من أوراق قانونية تصدرها المصارف المركزية هي أوراق نائبة، أو بديلة عن ذهب هو غطاء لها 100%. حتى إنه كان لهذه الدول مسكوكات ذهبية مقدرة بمقدار معين، ونسب ثابتة لباقي مسكوكات الدول الأخرى، كما ذكر سابقاً.
فنظام النقد الدولي، وهو قائم على الذهب، لا يعترف بهوية معينة. وليس له وطن معين ينحاز إليه. فهو قائم على الحيادية وعدم التحيز. فليس هناك مجال لأن تحدث أزمات اقتصادية، ولا مشاكل مالية أو نقدية. فالكل يسعى لتوفير ما أمكن من هذا المعدن الثمين ليكون لديه رصيد يقوّي به اقتصاده، ويغطي به أوراقه القانونية الورقية المتداولة.
ولما بدأت الحرب العالمية الأولى، واتسع نطاقها، واتسع نطاق متطلبات المجهودات الحربية والنفقات العسكرية، خرج الأمر عن إطاره المعتاد، وبدأت الدول في إصدار نقد ورقي قانوني إلزامي، وبكميات هائلة جداً تتساوى مع حجم النفقات الحربية؛ فانفرط عقد نظام النقد الدولي؛ لأن كل إمكانيات الدول المتحاربة قد سخّرت لهذه الحرب، وغدت وقوداً لها.
ولما انتهت الحرب العالمية الأولى، وحاولت الدول المنتصرة الإفاقة من هذه المحنة المدمرة، وأخذت تلمّ شعثها. فانعقد مؤتمر جنوة الآنف الذكر للدول الكبيرة، وبحثوا فيه ضرورة العودة إلى نظام (القاعدة الذهبية). ولكن الانضباط حسب هذه القاعدة يحتاج إلى لملمة جميع الأطراف، ثم الاتفاق على معايير وقواعد تعود بها المياه إلى مجاريها. فإذا بالعالم يصطدم بكارثة اقتصادية، وأزمة مالية مدمرة هي أزمة 1929، التي ابتدأت من أميركا، حتى دمرت اقتصادها بالكلية، ثم اتسعت حتى عمّت العالم بأسره، وبقيت هكذا مستعصية على أي علاج حتى بدأت الحرب العالمية الثانية.
كان الذهب، في يوم من الأيام، يدرج في عداد النقود السلعية. وعبارة النقود السلعية تعني: الماشية، الحبوب، الاسماك المجففة، وسبائك الشاي، وغيرها. فإذا أخذنا الماشية، وسلخنا عنها صفة النقدية، تبقى قيمتها قائمة، لأنها قادرة على إشباع حاجة أساسية عند الإنسان. ولكن إذا أخذنا الذهب، ونزعنا عنه صفة النقدية، فإنه حينئذٍ ينحدر إلى أهبط المستويات، حيث إنه لا يشبع في ذاته حاجة عند الإنسان.
كان الدولار، ابتداءً من سنة 1946، عندما بوشر العمل باتفاق بريتون وودز، مغطى بالذهب بنسبة 100% وبقي كذلك حتى سنة 1960. وهذا يعني أن أصحاب الأرصدة من الدولارات إذا أرادوا تبديله بالذهب بالسعر الرسمي، استناداً إلى بنود الاتفاقية المذكورة، فإن الولايات المتحدة تستطيع تأمين ذلك بسهولة.
وهكذا سار نظام النقد الدولي، طوال الفترة الممتدة من نهاية الحرب العالمية الثانية إلى نهاية الخمسينيات، سيراً حسناً. وهذا يرجع إلى الأسباب التي جعلت من الدولار الأميركي نقداً قوياً ثابتاً، لا يمكن أن يُشكّ في قيمته. واستقر الدولار. واستقرار قيمة الدولار، وثقة المجتمع الدولي به، معناه استقرار نظام النقد الدولي، على اعتبار أنه الأساس، بيد أن كل شيء له نهاية.
لقد انقلب الوضع رأساً على عقب، منذ نهاية الخمسينيات وأوائل الستينيات، حتى أخذت الأزمات والاضطرابات النقدية تتعاقب. فما هي الأسباب يا ترى؟؟؟
الأزمات النقدية الحادة بدأت بالانفجار فعلياً من 1967، ثم تعاقبت بعد ذلك. لكن بوادر الاضطرابات أخذت في الظهور منذ نهاية الخمسينات. وبالتحديد في مطلع 1958.(/1)
خسرت الولايات المتحدة من أرصدتها الذهبية، في الفترة الممتدة من شهر كانون الثاني 1958 إلى شهر كانون الأول 1960، خمسة مليارات دولار. إذ كان حجم هذه الأرصدة سنة 1958 (22.8) ملياراً من الدولارات، فانخفض في سنة 1960 إلى (18.8) ملياراً. ويعود السبب في ذلك إلى أن كمية الدولارات في الخارج، رسمية كانت أو خاصة، ازدادت بنسبة محسوسة. حيث أخذت السلطات النقدية المسؤولة في العالم تلمس تراكم العجز في ميزان المدفوعات الأميركي. وعندئذٍ بدأت الثقة بالدولار تتضعضع، مما أدى إلى زيادة الطلب على الذهب. فأخذ الأفراد يسارعون إلى اكتناز الذهب. كما أخذت المصارف المركزية تطلب من الولايات المتحدة الأميركية تبديل قسم من أرصدتها بالذهب، وأخذت تسدد عجز ميزان مدفوعاتها بالدولار فقط دون استعمال الذهب (وهنا تكمن الخطورة). وقد بلغت أزمة الذهب أشدّها سنة 1960، عندما أخذت بعض المصارف المركزية تضاعف طلبها على الذهب، من الولايات المتحدة الأميركية، ومن سوق لندن أيضاً.
ويمكن القول أنه، لأول مرة منذ 1954، وصل الطلب على الذهب مستوى لم تعد كميات الذهب المستخرجة جديداً تكفي لتلبيته. وهكذا ارتفع الذهب في 20 تشرين الأول 1965 من (35) دولاراً للأونصة، حسب بريتون وودز، إلى (40) دولاراً. ما يفيد أن الثقة بالدولار الأميركي قد فقدت، وفقدان الثقة بالدولار يعني تضعضع نظام النقد الدولي. فاضطرت الولايات المتحدة، أمام هذه الأحداث الخطيرة، إلى التحرك. وأعلنت أن باستطاعة مصرف بريطانيا أن يحصل على الذهب من الولايات المتحدة، من أجل عرضه للبيع في سوق لندن، لتثبيت السعر عند مستوى (35) دولاراً للأونصة. إلا أن تصريح الولايات المتحدة هذا لم يستطع تهدئة الأوضاع؛ لذا طلبت معونة البلدان الرئيسية في العالم من أجل معالجتها. وبذلك تم إنشاء (مجمع الذهب).
حقوق السحب الخاصة:
عندما قاربت المرحلة الثانية في سلسلة (نظام النقد الدولي) على الانتهاء، وهي مرحلة الصرف بالذهب، حاملةً معها مآسي وأزمات مالية حادة، رأت أميركا – كما رأى كثير من الخبراء الاقتصاديين – أنه لا بد من الانتقال إلى مرحلة جديدة تنقذ الاقتصاد الأميركي من الأزمات التي تردّى فيها، وتعيد للدولار عافيته؛ لأن نظام النقد الدولي الحالي يومئذ كان من إفرازات اتفاقية بريتون وودز. وقد رأت أميركا أن هذا النظام يثقل كاهل الاقتصاد الأميركي، ويوقع دولارها واقتصادها في ورطة لا تستطيع الوقوف أمامها، وهي الصرف بالذهب، أي صرف الدولار بالذهب؛ لأن هذه الوظيفة أوكلت للدولار وحده. فلما اتسع نطاق إصدار النقد الورقي الإلزامي، وكانت المصارف المركزية العالمية ملتزمة بضمان حمايته، وتسهيل عملية صرفه، بموجب الصلاحية التي منحتها المصارف المركزية العالمية، المرتبطة بشروط صندوق النقد الدولي، عند التوقيع على اتفاقية بريتون وودز، أرادت أميركا كسرها وإلغاءها، فقامت بعدة إجراءات علاجية كمقدمة للتخلص من نظام النقد الدولي. ومن أهم هذه الإجراءات، الإجراء الذي دخل حيّز التطبيق العملي في أول 1970، ويعرف باسم «حقوق السحب الخاصة» أو كما يطلق عليه في بعض الأحيان «الذهب الورقي». وكان الهدف من هذه الإجراءات أن تجعل من الدولار النقد الدولي بكل ما في هذه الكلمة من معنى؛ لتتخلص من التزامها باستبدال الدولار بالذهب، وينتهي شيء اسمه الذهب من المعاملات المالية والتجارية، ويوضع نظام الصرف بالذهب على الرفّ، كما وضع من قبله نظام القاعدة الذهبية، في نهاية الحرب العالمية الثانية بموجب اتفاقية بريتون وودز.
كان احتياطي أميركا الذهبي قد وصل إلى حالة الذوبان، ولكثرة الأوراق الدولارية المبعثرة والمنتشرة في أنحاء العالم، كثر الطلب على استبدال الدولار بالذهب وبخاصة من قبل فرنسا أيام ديغول وبعده.(/2)
أثناء الحربين العالميتين الأولى والثانية، اقتضت ظروف ومتطلبات ونفقات الحرب رحيل الأرصدة الذهبية، من دول أوروبا الغربية وغيرها إلى الولايات المتحدة الأميركية. وما انتهت الحرب العالمية الثانية إلا وخزائن دول الحلفاء خاوية من الأرصدة الذهبية؛ لأنها في معظمها انصبّت في خزائن المصارف المركزية والخزينة الأميركية. فما كان من أميركا إلا أن عمدت إلى وضع قاعدة جديدة لنظام النقد الدولي، كسرت بها القاعدة الذهبية، ووضعت بدلها، بموجب اتفاقية بريتون وودز، قاعدة الصرف بالذهب، وجعلت من الدولار مرجعاً دولياً، يصرف بموجبه معيارٌ متفقٌ عليه وهو (35) دولاراً لكل أونصة من الذهب، يتعهد المصرف الفدرالي الأميركي باستبدالها وصرفها. وأخذ الاقتصاد الأميركي في النمو والاتساع طيلة فترة الخمسينيات، لأن أميركا نصبت نفسها سيدةً لهذا العالم. فأخذت على عاتقها بناء ما تهدّم، وأغدقت المعونات والمساعدات على ما سمي بالدول النامية، والتزمت بإنشاء أحلاف عسكرية، وبناء قواعد عسكرية في معظم أرجاء العالم، وأفرطت في تطوير السلاح النووي والصاروخي، وتبنّت خطة غزو الفضاء. فاقتضى ذلك منها أن تطبع من الدولارات ما يفوق الحصر، وتاهت هذه الدولارات في الأرض شرقاً وغرباً، وكانت تسمى بالدولارات الضائعة.
ولكن اتفاقية بريتون وودز تلزمها باستبدال الدولارات بالذهب، وفي بداية الستينيات كانت قد انتهت فترة ازدهار الاقتصاد الأميركي، وظهر العجز في ميزان مدفوعاتها، وأخذ يزداد ويتفاقم، فبدأت الأزمات الاقتصادية.
كان من المعلوم يومئذ أنه يوجد هناك رأيان على الصعيد الدولي: رأي تتزعمه الولايات المتحدة الأميركية، ومن ورائها بريطانيا، وهو أن حجم السيولة الدولية غير كافٍ، ويجب العمل على زيادته لتأمين حاجة النشاط التجاري الدولي. والرأي الثاني تتزعمه فرنسا، وهو على النقيض تماماً من الرأي الأول، حيث يرى أن حجم السيولة الدولية يمر في حالة فائض، الأمر الذي يسبب الاضطرابات النقدية الدولية.
ولكن انتصر الرأي الأول، فكان لا بد من إصلاح الوضع، بالقضاء على عجز ميزان المدفوعات الأميركي، الذي يعتبر من المصادر الهامة للسيولة الدولية. وقد آل هذا الانتصار إلى خلق عنصر جديد من عناصر السيولة الدولية، وهو حقوق السحب الخاصة. ويرى البعض أن خلق هذا العنصر الجديد المبتدع لا يرمي فقط إلى زيادة حجم السيولة الدولية، وإنما أيضاً إلى إزاحة الذهب من الصعيد الدولي، وإحلال الدولار مكانه. وهذا ما تسعى له أميركا. وقد تثبت هذا الوضع بعد إعلان نيكسون مبادئه الاربعة يوم 15/8/1970.
ومن أجل تطبيق هذه الفكرة عملياً، كان لا بد من أخذ موافقة الدول المعنية عليه. ففي الاجتماع الذي عقدته البلدان الأعضاء، في نادي الدول العشر في 28/8/67، عرضت هذه الخطوط على الجمعية العامة لصندوق النقد الدولي، خلال اجتماعها في ريو دي جانيرو في شهر ايلول 1967، حيث قرر المجتمعون أولاً – وذلك تحت ضغط الدول الأوروبية – أن عملية إصدار هذا العنصر يجب أن تجري بموافقة 85% من عدد أصوات الدول الأعضاء في الصندوق؛ ولأن الدول الأوروبية الاعضاء في السوق تستطيع أن تحول دون إصدار كمية من حقوق السحب هذه لأنها تمتلك من هذه الناحية حق النقض (الفيتو). مع العلم أنه في اتفاقيات بريتون وودز كانت الولايات المتحدة وحدها تملك هذا الحق بالنسبة إلى القرارات النقدية المهمة. كما نصت الاتفاقية على أن حقوق السحب هذه هي تسهيلات نقدية إضافية، أي إنها عنصر مساعد لعناصر السيولة النقدية التقليدية. إذ لا يلجأ إلى استعمالها إلا إذا اقتضت الحاجة، أي إذا لم يعد حجم هذه السيولة يكفي بسبب الطلب عليه. هذا يعني أنه لا يمكن استعمال العنصر الجديد، إلا ضمن شروط وظروف محددة، أي خلافاً للعنصر السابق، وهو حقوق السحب العادية.
أما بالنسبة لتسديد حقوق السحب الخاصة، فقد ورد في الاتفاقية أن البلد الساحب، أي البلد المدين، مجبر على تسديد 30% فقط من قيمة قرضه. أما الـ 70% الباقية فإنه ليس مجبراً على تسديدها، أي إنها تبقى معلقة في الهواء بدون تسديد. وهذا البند الجديد يقتصر حق استعماله على البلدان المدينة فقط، وهي صاحبة العجز في ميزان المدفوعات. وبذلك لا يحق للبلدان الدائنة صاحبة الفائض اللجوء إلى استعمال الحق المذكور، ولا يحق استعمال هذا العنصر إلا في حالة المديونية.
ولقد وضع سقف – أي حدّ أعلى – لحقوق السحب هذه، أي وضعت الاتفاقية سقفاً للمقدار الذي يستطيع أن يسحبه بلد مدين على بلد دائن، أي في حالة فائض. لكن البلدان صاحبة الفائض هي التي تقوم بتمويل عمليات السحب، وليس الصندوق. وأما السقف، أي الحد الأعلى للسحب، فيجب ألا يتعدى، بأي حال من الأحوال، ثلاثة أضعاف حصته من حقوق السحب العادية. فلو فرضنا أن حصة فرنسا من حقوق السحب هذه هي (100) مليون دولار، فإنه لا يمكنها أن تسحب عليها أكثر من (300) مليون دولار.(/3)
وهناك ظاهرة أخرى تنص عليها الاتفاقية، وهي أن صندوق النقد الدولي له الحق وحده في تحديد نوع النقود التي يراد سحبها. ولذلك لا يترك للبلد الساحب حق اختيار النقد الذي يريد سحبه. ويلاحظ هنا أن هناك فرقاً بين حقوق السحب الخاصة، وحقوق السحب العادية. ففي الأخيرة يحق للبلد الساحب اختيار النقد الذي يرغب فيه، بخلاف حقوق السحب الخاصة، حيث إن الصندوق هو الذي يقرر نوع النقد الذي يراد سحبه.
هذه هي الخطوط العامة لاتفاقية حقوق السحب الخاصة، التي وافق عليها القسم الساحق من البلدان الأعضاء، فيما عدا البلدان الغنية المصدرة للنفط مثل العراق، والكويت، وليبيا والسعودية؛ لأنها تملك كميات كبيرة من القطع الأجنبي، أي إنها في حالة فائض دائمة. وعلى كلٍٍ فقد دخل نظام حقوق السحب الخاصة الميدان العملي بتاريخ 1/1/1970.
أما طبيعة هذا العنصر وهو حقوق السحب الخاصة، فإنه لا يحق استعماله إلا في حالة حدوث عجز في ميزان المدفوعات، فهو في حقيقته قرض، أو بتعبير أدق هو عبارة عن فتح اعتماد للبلد الساحب لدى صندوق النقد الدولي. وهو في طبيعته لا يختلف عن طبيعة الاعتمادات التي تفتحها المصارف التجارية لزبائنها من الشركات التجارية.
ولكن من أين يأتي صندوق النقد الدولي بالأموال اللازمة لذلك؟ طبعاً هو لا يقرض من أمواله الخاصة، وإنما من الاشتراكات التي دفعتها إليه البلدان الأخرى. وبعبارة أخرى يقتصر دور الصندوق على كونه يلعب كهمزة وصل، بين البلدان صاحبة الفائض التي تقدم الاشتراكات، والبلدان صاحبة العجز التي تقترضها.
حقوق السحب العادية نصت عليها اتفاقية بريتون وودز عند إنشاء صندوق النقد الدولي، وبموجبها يحق للبلد الساحب أن يختار النقد الذي يريد اقتراضه، ويجب عليه تسديد المبلغ المسحوب بكامله في الأوقات المحددة.
أما حقوق السحب الخاصة فجاءت لاحقة في اتفاق جديد، بعد مضيّ أكثر من عشرين عاماً على تأسيس الصندوق. وهي خاصة للدول ذات العجز في ميزان المدفوعات، كما أنها لا تملك حرية اختيار النقد الذي تريد اقتراضه. وأما تسديد المبلغ المسحوب، فيجبر البلد المدين على تسديد 30% من المبلغ، في حين تذهب 70% الباقية مع الهواء.
في الفترة التي كانت المناقشات دائرة حول وضع بنود حقوق السحب الخاصة، كان العجز في ميزان المدفوعات الأميركي حوالي (20) بليون دولار. فكان التشديد ظاهراً في موقفها حيال إقرار تسديد 30% فقط، وأما الـ70% الباقية فإنها تذهب في الهواء، أي لا تلزم الدولة المستفيدة من حقوق السحب هذه بدفع أو تسديد ما فوق 30% من المبلغ المقترض.
لقد ظهر خلاف عندما أريد تحديد كمية حقوق السحب الخاصة، التي يجب أن تصدر. فالولايات المتحدة الأميركية، على اعتبار أنها في حالة عجز بنياني، أرادت أن يصدر في كل عام (5) مليارات دولار ولمدة (5) سنوات. أما ألمانيا الغربية، وبلدان أوروبا الشمالية – على اعتبار أنها في حالة فائض دائم – فقد حاولت الحد من إصدار ههذ الكمية. وبعد مناقشات طويلة وشاقة، تم الاتفاق على أن يصدر بصورة تدريجية كمية تبلغ (9.5) مليار دولار في مدة 3 سنوات (3.5 مليار خلال 1970، و3 مليار خلال 1971، وتصدر الكمية المتبقية أي ثلاثة مليارات دولار خلال 1972).
ما هي الأسباب التي استند إليها تحديد هذه الكمية وهي 9.5 مليار دولار دون سواها؟
ظاهرياً لا يوجد أي أساس لذلك، وإنما كان حصيلة المناقشات والمفاصلات التي جرت بين الفريقين.
ولكن بواطن الأمور وخفاياها تشير إلى غير ذلك. وهذا الحال يعيدنا إلى سعر الذهب وإلى حجم الأرصدة الذهبية في العالم.
كان سعر الذهب الرسمي في ذلك التاريخ (35) دولاراً للأونصة الواحدة من الذهب. ولم يكن يوجد إلا سعر واحد للذهب. ولكن بعد إيجاد السوق الحرة أصبح يوجد له سعران: السعر الرسمي وهو (35) دولاراً والسعر الحر وهو (44) دولاراً للأونصة.
فتكون كمية السحب المحددة المذكورة وهي (9.5) مليار دولار، هي كمية الفرق بين السعر الرسمي والسعر التجاري الحر، مع نسبة الأرصدة الموجودة كغطاء. وهذه الدراسة قامت بها المصارف المركزية على ضوء ما لديها من أرصدة ذهبية. فهذه إذن هي في حد ذاتها لعبة، والمستفيد منها أميركا فقط. ومجرى المناقشات الحادة التي تجري بين المجتمعين يبين أن أميركا كانت تريد عدم التسديد بالمرة. حتى إن طريقة التسديد الجزئية هذه التي اتفق عليها وهي (30%) كانت غامضة، إذ تركت لسلطات الصندوق تحديدها.
ويعتبر بعض المختصين في الاقتصاد الدولي أن عملية حقوق السحب الخاصة هذه ما هي إلا مؤامرة دولية، حاكتها البلدان الغنية ضد البلدان الفقيرة، وسيكون أثرها الرئيسي الإسهام في تعميق الهوّة التي تفصل الآن بين هاتين الكتلتين من البلدان.(/4)
وخلاصة القول إن حقوق السحب الخاصة هي عنصر جديد أضيف إلى عناصر السيولة الدولية السابقة. كما أنها ترمي بصورة صريحة إلى مساعدة البلدان الكبرى، التي تعاني من عجز مزمن في ميزان مدفوعاتها مثل بريطانيا والولايات المتحدة. كما يرى المختصون في هذا المضمار أن الاستمرار في إصداره في الأمد الطويل سيؤدي حتماً إلى إحداث اضطرابات نقدية مهمة. كما أن خلق هذا النظام يعتبر انتصاراً جديداً للولايات المتحدة، التي تسعى إلى استبعاد الذهب من الصعيد النقدي الدولي.
فحقيقة هذه الحالة الجديدة، وهي حقوق السحب الخاصة، أنها عبارة عن فتح اعتماد جديد في صندوق النقد الدولي. والمستفيد الأول من هذه الحالة هو الولايات المتحدة الأميركية، نظراً لحجم العجز الذي أصاب ميزان مدفوعاتها، ولأن 70% من هذه القروض، وهذا الاعتماد، ستذهب وبدون تسديد. فهي عبارة عن عملية إنقاذ للدولار الأميركي المتعثر. بل هي مقدمة لتفرّد الدولار في ساحة الاقتصاد الدولية، نتيجة تنحية الذهب كلياً عن أن يكون له أية علاقة بنظام النقد الدولي.
وهذه الاتفاقية في حقيقتها أيضاً هي إجبار البلدان صاحبة الفائض الدائم – كالسعودية – على تقديم كميات مجانية من السلع والخدمات بالإضافة إلى رأس المال إلى البلدان صاحبة العجز قرآن كريم(/5)
نظر الإكبار لفهم الصغار(*)
أ.د. ناصر العمر
إن كثيراً من الفضلاء فضلاً عن عامة الناس يظنون أن الأطفال لا يفهمون فيعاملونهم بناء على هذا الظن الخاطئ، مع أنهم يعلمون من حوادث واقعهم أن الواحد منهم قد يصف حدثاً وقع وهو ابن ثلاث سنين بتفاصيله، بينما إذا كبر فربما عجز عن تذكر ما حدث له بالأمس. وهذا ضرب من الذهول عن الواقع الماثل، بالإضافة إلى أنه نوع من الغفلة عن حكم الشريعة وأحكامها، فإن اختصاص الأطفال دون الحلم ببعض الأحكام كالاستئذان على الآباء في أوقات الراحة ووضع الثياب كما عبرت الآيات في سورة النور دليل على قدرتهم على الفهم والملاحظة.
والآيات الكريمة في سورة يوسف المتعلقة بنصائح يعقوب لابنه _عليهما السلام_ في شأن الرؤيا تدل على أن يعقوب -عليه السلام- كان يحترم عقول أبنائه فوجه هذا الخطاب لأحدهم بأسلوب فيه تقدير ظاهر لشخصه. وهكذا كان نبينا الكريم –عليه الصلاة والسلام- كان يكرم الأطفال ويقدر إمكاناتهم، فكان يكني بعضهم(1)، ويؤاكل بعضهم(2)، ويسلم إن مر عليهم(3)، ويواسي بعضهم لما مات عصفوره(4)، ويردف بعضهم(5)، بل يستأذن أحد الغلمان وكان يجلس عن يمينه في سقيا الأشياخ(6)، فلما لم يؤثرهم على نفسه أعطاه القدح مباشرة لأنه عليه الصلاة والسلام لم يستأذنه استئذاناً بارداً من قبيل ما يسمى بـ(البروتوكولات) أو المراسيم العصرية، أو الإجراءات (الروتينية) وإنما استأذنه لأنه يعلم أنه صاحب الحق في إيثار غيره أو عدم إيثارهم حتى ولو كان المستأذن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ولو كان هؤلاء الغير هم أشياخ من الصحابة –رضي الله عنهم-، وليعلِّم الناس كذلك كيف يعامَل الصغار، ثم هب أن هذا لم يحدث في المجلس فإن في مجرد جلوس الغلام إلى جانب رسول الله – صلى الله عليه وسلم- في مجلس فيه أشياخ الصحابة أمر حري الوقوف عنده، والتأمل فيه.
وأذكر في هذا الصدد قصة لها تعلق، فقبل سنوات عقد مؤتمر في بلاد الشام لمعدي برامج الأطفال في التلفزيون، وقدمت في المؤتمر بحوث عدة، وكانت أغلبها تشرح بعض الأساليب التي تمكن كتاب برامج الأطفال من النزول بعقولهم لمستوى عقول الأطفال، إلا بحثاً واحداً كان لرجل بولندي، فقد كان يركز على مسألة واحدة وهي: كيف ترفع من طاقة عقلك لأقصى درجة إذا خاطبت الأطفال حتى تستطيع أن ترضي دقة ملاحظتهم، ويكون خطابك مؤثراً فيهم، فكان هذا البحث هو البحث الأول في المؤتمر، ونال البولندي جائزة على بحثه القيم. ومما لفت نظري كلام أحد علماء التربية الغربيين يوجه فيه المربين إلى الاهتمام بملاحظة البيت وما فيه قائلاً: "راقب بيتك بعيني طفل"!
وقد سجلت لنا كتب الأدب قصة طرفة بن العبد يوم كان طفلاً يلعب مع الصبيان والمتلمس ينشد عند علية القوم، فلما بلغ قوله:
وقد أتناسى الهم عند احتضاره ... ...
بناج عليه الصيعرية مكرم
ففطن لها طرفة دون وجوه الناس، فقال وهو يلعب: استنوق الجمل! فالصيعرية سمة توسم بها النوق باليمن لا الجمال، فقال: استنوق الجمل! فعبر باستفعال دال على الصيرورة فكأنه قال صار الجمل ناقة، وهذا كقولهم استأتن الحمار، واستنسر البغاث، واستتيس العنز، وكل هذه جرت حكماً وأمثالاً وأصلها قول صبي يلعب!
والشاهد أننا نخطئ في تقييمنا للأطفال، فلا نعاملهم معاملة تناسب عقولهم، بل يشعرهم البعض بأنهم لا وزن لهم، فتكون النتيجة تخريج نوعين من الشباب؛ شباب يعاني من هزيمة نفسية، يستصغر نفسه ويقلل من شأنه ويقيد نفسه بحبال وهمية نسجها المجتمع من حوله، وشباب آخر متهور يحاول أن يتفلت من كل قيد ليثبت أنه رجل ولو بكل سبيل منحرف! وبالمقابل من يقدر عقول أطفاله ويحترم قدراتهم ويخاطبهم خطاب الكبار فما أسرعهم إلى فهم كلامه والتزام توجيهه والتهيؤ لحمل المسؤولية في عمر الشباب، ومثل من حظوا بهذا المنهج في التربية قل أن تظهر فيهم أعراض الطفولة المتأخرة التي نشهدها في كثير من رجال عصرنا! وقد شكا من عوارضها مَن سبقنا، ولعل القائل أرادهم في قوله:
ودهر ناسه ناس صغار ... ...
وإن كانت لهم جثث ضخام
والله المستعان!
______________
(*) مقال مستل من كتاب الشيخ: آيات للسائلين (يعد للطباعة).
(1) حديث يا أبا عمير ما فعل النغير، البخاري5/2270(5778).
(2) حديث ياغلام سم الله، البخاري5/2056(5061).
(3) ينظر صحيح البخاري 5/2306 (5893)، ومسلم 4/1708 (2168).
(4) حديث أبي عمير السابق.
(5) المستدرك على الصحيحين: 3/623رقم6303.
(6) البخاري2/834رقم2237.(/1)
نظرات تربوية في خلق الصدق
منزلة الصدق منزلة عظيمة ليس في دين الإسلام فقط بل في جميع الأديان ، لا لأنه خُلق من الأخلاق الحميدة فحسب ، بل لأنه أصل الإيمان المقبول عند الله عز وجل ، وهو أساس النجاة من عذاب الله عز وجل ، وبه يتميز أهل الإيمان الحق من المنافقين الكاذبين ، يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في منزلة الصدق :» وهو منزل القوم الأعظم الذي منه تنشأ جميع منازل السالكين ، والطريق الأقوم ، الذي من لم يسر عليه فهو من المنقطعين الهالكين « إلى أن يقول : » فهو روح الأعمال ، ومحك الأحوال ، والحامل على اقتحام الأهوال ، والباب الذي دخل منه الواصلون إلى حضرة ذي الجلال ، وهو أساس بناء الدين ، وعمود فسطاط اليقين، ودرجته تالية لدرجة النبوة التي هي أرفع درجات العالمين « .
ولقد تضافرت الأدلة من الكتاب والسنة وآثار السلف في فضل الصدق وخطورة أمره وعلو شأنه .
ولقد اخترت هذه الوقفات التربوية لخلق الصدق في ضوء القرآن الكريم لمعالجة هذا الموضوع الذي يهم كل مسلم بصفة عامة ، ويهم الدعاة إلى الله عز وجل بصفة خاصة ، لاسيما في واقعنا المعاصر ، وتتجلى أهميته في الأمور التالية :
الأمر الأول :
لأنه أساس الإيمان ، وركنه الركين ، وأساس قبول الطاعات والقربات عند الله عز وجل ، وعليه يترتب الأجر والثواب يوم القيامة ، قال تعالى : (( لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ)) (الأحزاب: من الآية24), وقال تعالى : ((قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ)) (المائدة: من الآية119) ولأنه أساس الطاعات وجماعها ، فقد أصبح الصفة الفارقة بين المؤمن والمنافق .
يقول الإمام ابن تيميه رحمه الله تعالى : ( الصدق أساس الحسنات وجماعها، والكذب أساس السيئات ونظامها ) ، ويظهر ذلك من وجوه منها :
أن الصدق هو المميز بين المؤمن والمنافق ، ففي الصحيحين عن أنس عن النبي : (( آية المنافق ثلاث : إذا حدّث كذب ، وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان ))[1]، وفي حديث آخر : (( على كل خلق يطبع المؤمن ليس الخيانة )) [2].
وقد وصف الله المنافقين في القرآن بالكذب في مواضع عدة ومعلوم أن المؤمنين هم أهل الجنة، وأن المنافقين هم أهل النار في الدرك الأسفل منها .
أن الصدق هو أصل البر، والكذب هو أصل الفجور ، كما جاء في الصحيحين عن النبي : ((عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر )) [3].
أن الصادق تنزل عليه الملائكة ، والكاذب تنزل عليه الشياطين كما قال تعالى : (()هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ ، تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ ، يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ) (الشعراء:221 ، 222، 223)
الأمر الثاني :
أن الصدق في كل الأمور يوصل صاحبه إلى مرتبة ( الصديقية ) ، التي هي المرتبة التالية لمرتبة النبوة ، وعندما أقول في كل الأمور أريد من ذلك عدم حصر الصدق في اللسان فقط ، وإنما الصدق في النيات والأقوال والأعمال والأصل تحري الصدق في ذلك كله .
إن مجاهدة النفس على تحري الصدق في جميع الأمور يوصلها إلى هذه المرتبة العظيمة مرتبة الصديقية ) كما جاء في الحديث السابق الذكر : ((.. ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يُكتب عند الله صدّيقا )) [4].
وهنيئاً لمن وصل إلى هذه المرتبة ، فيا لها من رتبة ، وما أشرف قدرها وأعظم فضلها ،
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في وصف أهل هذه الطبقة : ( الطبقة الرابعة ورثة الرسل وخلفاؤهم في أممهم، وهم القائمون بما بعثوا به علماً وعملاً ودعوة للخلق إلى الله على طريقهم ومنهاجهم ، وهذه أفضل مراتب الخلق بعد الرسالة والنبوة ، وهي مرتبة الصديقية ، ولهذا قرنهم الله في كتابه بالأنبياء فقال تعالى : (( وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً)) (النساء:69)
الأمر الثالث :
ثمرات الصدق العظيمة التي تحصل منه في الدنيا والآخرة من البركة والقبول والإصلاح في الدنيا ، والأجر العظيم والثواب الجزيل في الآخرة وسيأتي تفصيل كل ذلك إن شاء الله تعالى في (ثمرات الصدق) .
الأمر الرابع :(/1)
خطورة الكذب والنفاق وأثرهما على الفرد والمجتمع والأمة وبخاصة في مجتمعاتنا اليوم التي كثر فيها الكذب والدجل والمداهنة ، وقل الصدق فيها والصادقون، ولا أعلم والعلم عند الله عصراً ظهر فيه الكذب والنفاق بوسائله الماكرة المتطورة كما ظهر في عصرنا اليوم، حتى أصبح الكذب له مدارسه وأساليبه التي تعلم الناس كيف يكذبون، وكيف ينافقون وكيف يدلسون ... الخ ، ولا أبالغ إذا قلت إن وسائل الإعلام اليوم المقروءة منها والمسموعة والمنظورة قد قامت في أغلب برامجها على الكذب ، وقلب الحقائق وتسمية الأمور بغير أسمائه، وقد تجاوز الأمر حده حتى أصبح المعروف منكراً والمنكر معروفاً ، وظهر الحق في صورة الباطل، والباطل في صورة الحق، وأصبحنا نسمع من يقول عن المسلم الصادق الذي يتحرى الصدق بأنه ساذج وبسيط وسطحي ... الخ ، في الوقت الذي
يوصف الكاذب المنافق بأنه السياسي الحكيم المحنك ، إن مجتمعاً كهذا حري بالسقوط والدمار ، ولا نجاة ولا فلاح إلا بالصدق ، والأمة الصادقة مع ربها سبحانه ومع رسولها صلى الله عليه وسلم لا تهزم أبداً .
الأمر الخامس :
ظهور بعض علامات ضعف الصدق في صفوفنا معشر الدعاة إلى الله عز وجل ، وذلك بوجود بعض التصرفات والممارسات التي تتنافى مع الصدق في الدعوة إلى الله عز وجل والجهاد في سبيله ، فقلّ الصادقون الربانيون الذين يصدقون في نياتهم وأقوالهم وأعمالهم، ويضحون في سبيل الله عز وجل بكل ما يملكون لنيل مرضاته وحبه ، نعم إنه بمحاسبة عجلى لنفوسنا يتبين لنا هذا الضعف وأننا في أمس الحاجة إلى تقوية هذا الخُلق ، ونبذ كل ما يتنافى معه من صور الكذب والنفاق ووهن العزيمة ، وضعف الهمة ، وإلا فما معنى وجود هذه الجهود الضخمة المبذولة اليوم في طرق الدعوة إلى الله عز وجل ، ثم لا نرى لها إلا أثراً ضعيفاً لا يكافئ تلك الجهود المبذولة ؟ !
الأمر السادس :
إن الصراع الذي نشاهده اليوم بين الحق والباطل ، بين دعاة الشر والكفر ودعاة الخير والإصلاح ، ليحتم على أهل الخير حرصهم الشديد على الصدق مع الله سبحانه واليقين بنصره وثوابه ، حتى لا تزل الأقدام ، وتضعف العزائم إزاء هذا البلاء العظيم والمعركة الشرسة بين الحق والباطل ، وهذه المواطن هي التي يتميز فيها الصادقون عمن سواهم ، قال تعالى : (( الم ، أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ ، وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ)) (العنكبوت:1 ، 2، 3).
وكذلك أيام الفتن لا يثبت فيها إلا الصادقون العالمون العاملون ، وهم الذين يشرفهم الله عز وجل بنصره ، ويمكن لهم في الأرض ، ويجعلهم أئمة ويجعلهم الوارثين .
حقيقة الصدق :
إن حقيقة الصدق أوسع من كونها الصدق في الحديث فقط ، وإنما حقيقة الصدق شاملة لصدق النية والعزيمة، وصدق اللسان ، وصدق الأعمال ، يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى : ومما ينبغي أن يعرف أن الصدق والتصديق يكون في الأقوال وفي الأعمال كقول النبي- صلى الله عليه وسلم- في الحديث الصحيح : (( كتب على ابن آدم حظه من الزنا ، فهو مدرك ذلك لا محالة ، فالعينان تزنيان وزناهما النظر، والأذنان تزنيان وزناهما السمع ، واليدان تزنيان وزناهما البطش ، والرجلان تزنيان وزناهما المشي، والقلب يتمنى ويشتهي ، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه )) [5].
ويفصّل الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى القول في هذا المعنى فيقول : ( والإيمان أساسه الصدق ، والنفاق أساسه الكذب، فلا يجتمع كذب وإيمان إلا وأحدهما محارب للآخر ) [6].
وأخبر سبحانه : أنه في يوم القيامة لا ينفع العبد وينجيه من عذابه إلا صدقه قال تعالى : (( هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم لهم جناتِ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداْ رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوزٍ العظيم)) [7].
وقال تعالى : (( وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ)) [8] .
فالذي جاء بالصدق هو من شأنه الصدق في قوله وعمله وحاله ، والصدق إنما يكون في هذه الثلاثة :
فالصدق في الأقوال : استواء اللسان على الأقوال كاستواء السنبلة على ساقها والصدق في الأعمال : استواء الأفعال على الأمر والمتابعة كاستواء الرأس على الجسد ،
والصدق في الأحوال : استواء أعمال القلب والجوارح على الأخلاق ، واستفراغ الوسع وبذل الطاقة ، فبذلك يكون العبد من الذين جاءوا بالصدق ، وبحسب كمال هذه الأمور فيه ، وقيامها به تكون صديقيته ولذلك كان لأبي بكر
الصديق رضي الله عنه وأرضاه ذروة سنام الصديقية فسمي ( الصدّيق ) على الإطلاق ، و( الصدّيق ) أبلغ من الصدوق ، والصدوق أبلغ من الصادق ، فأعلى مراتب الصدق مرتبة الصديقية وهي كمال الانقياد للرسول صلى الله عليه وسلم مع كمال الإخلاص للمُرْسل ) .
الفرق بين الصدق والإخلاص :(/2)
الصدق والإخلاص عملان قلبيان من أعظم أعمال القلوب ، وأهم أصول الإيمان ، فأما الصدق فهو الفرقان بين الإيمان والنفاق ، وأما الإخلاص فهو الفرقان بين التوحيد والشرك في قول القلب واعتقاده أو في إرادته ونيته والأعمال التي رأسها وأعظمها ( شهادة أن لا إله إلا الله ) لا تقبل إلا بتحقيق الصدق والإخلاص .
ومن هنا كان الصدق والإخلاص شرطين من شروطها ، ولذلك كذّب الله المنافقين في دعوى الإيمان، وقول الشهادة لانتفاء الصدق ، فقال : (( إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ )) [9]، وقال : (( فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ)) [10].
كما أبطل سبحانه زعم أهل الكتاب والمشركين أن دينهم هو الحق بانتفاء الإخلاص فقال : (( لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ )) [11]، إلى أن يقول : (( وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ )) [12].
والصدق والإخلاص مع تقاربهما ترادفهما أحياناً يميز بينهما بتعريف ضد كل منهما : فالصدق ضده انتفاء إرادة الله بالعمل أصلاً ، كمن آمن وصلى كاذباً ولم يرد الإيمان والصلاة ، وإنما فعل ذلك لسبب آخر ، كما فعله المنافقون حفظاً لأنفسهم وأموالهم من السيف ، وجبناً عن تحمل أعباء المواجهة الصريحة للإيمان .
والإخلاص ضده انتفاء إفراد الله بالإرادة والتوجه كمن آمن أو صلى صارفاً
ذلك لأحد مع الله ، وهذا هو الشرك الذي وقع فيه أكثر العالمين ، وعلى قدر ما يحقق العبد الإخلاص لربه يكون ترقيه في ( المخلصين ) الذين صرف الله عنهم غواية الشياطين وأثنى عليهم في كل أمة » [13] .
_________________
[1] البخاري ، كتاب الإيمان ، ج24 الطبعة الأولى ، ص14 ، مسلم كتاب الإيمان ، الطبعة الأولى ، طبعة دار الكتب العلمية .
[2] رواه الإمام الحاكم وضعفه الألباني .
[3] البخاري ، كتاب الأدب ، ج3 ص59 ، طبعة إستانبول ؛ مسلم كتاب البر ، ج2 ص438 ، طبعة الكتب العلمية .
[4] سبق تخريجه في رقم (5) .
[5] البخاري (10/22) كتاب الاستئذان .
[6] مدارج السالكين ، 2/269 .
[7] سبق تخريجها في رقم (2) .
[8] الزمر : 33 .
[9] المنافقون : 1 .
[10] العنكبوت : 3 .
[11] البينة : 1 .
[12] البينة : 5 .
[13] ظاهرة الإرجاء في الفكر المعاصر ص 438 .
نظرات تربوية في خلق الصدق
الصفحة 2 لـ 3
على ضوء ما سبق في الحلقة الأولى يتضح للقارئ الكريم أن الصدق أنواع ومراتب تتجلى فيما يلي :
1- صدق النية :
وذلك بأن تكون النية خالصة لله عز وجل وابتغاء مرضاته ، وأن لا يكون هناك باعث في الحركات والسكنات إلا مرضاة الله عز وجل ، فإن شاب النية شيء من حظوظها لم تكن صادقة ، وإن تكلم العبد بلسانه خلاف ما في قلبه فهذا أيضاً دليل على عدم الصدق في النية ، والأدلة في ذلك كثيرة منها قوله تعالى في وصف المنافقين : (( يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم )) [الفتح : 1] .
وقوله تعالى : ((من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون )) [ هود : 15 ، 16] .
ومن الصدق في النية : الصدق في العزيمة على الفعل إذا تمكن منه ، لأن النية قد تكون صادقة ، لكن العزيمة على الفعل ضعيفة وصاحبها متردد ، وقد تكون العزيمة صادقة ، لكن إذا جد الجد ، وعزم الأمر ، وهاجت الشهوات خارت وضعفت ، ولم يحصل الوفاء بالعزيمة ، وقد لا تضعف في البداية لكن إذا باشرت الفعل وذاقت مرارته ضعفت وخارت ، والموفق من وفقه الله تعالى وأمده بعونه
ورحمته ، ولو وكل العبد إلى نفسه ضاع وهلك ، فيا حي يا قيوم برحمتك نستغيث ، أصلح لنا شأننا كله، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين أبداً .
2- الصدق في الأقوال :
وذلك لا يكون إلا في الأخبار ، أو ما يتضمن الإخبار ، والخبر إما أن يتعلق بالماضي فلا يخبر عن الأشياء على خلاف ما هي عليه ، أو بالمستقبل كالوفاء بالوعد والعهد [1].
وهذه المرتبة من الصدق هي التي يحصر كثير من الناس الصدق فيها ، ولا يتجاوزونها إلى غيرها ، ولا شك أنها مرتبة عظيمة وتكميلها من أعز الأمور وأشقها على النفس ، ولكنها يسيرة على من يسرها الله عليه ، وجاهد نفسه في تحقيقها .
صور من الصدق في الأقوال :
والصدق في الأقوال له صور عديدة منها :
أ- الصدق في نقل الأخبار :(/3)
فلا ينقل المسلم إلا الأخبار الصادقة ، وهذا بدوره يتطلب من الناقل التثبت فيما يقال ، واجتناب الظنون والأوهام والحذر من التحدث بكل ما يُسْمَعُ ، فمن حفظ لسانه من الإخبار عن الأشياء على خلاف ما هي عليه ، فهو صادق في خبره وهذا يقتضي الابتعاد عن الظنون والإشاعات . قال -صلى الله عليه وسلم- : (( إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث )) [2] ، وقال : (( كفى بالمرء إثماً أن يحدث بكل ما سمع )) [3] .
ب- الصدق في الوعد :
لأن إعطاء الوعد غالباً ما يكون بالقول ، فالوفاء بالوعد من الصدق في الأقوال ، وإخلافه يعد كذباً ، إلا إذا كانت النية عند إعطاء الوعد صادقة ثم حال بينه وبين تنفيذ الوعد أمر خارج عن إرادته ، فإن هذا لا يعد إخلافاً للوعد وبالتالي لا يعتبر كذباً ، والوعد قد يكون على مكان معين أو في زمن معين أو على أعطية أو زواج أو أي أمر آخر يعد به الرجل أخاه ، فإن الإخلاف في هذه الأمور وأمثالها
بدون مبرر شرعي يعتبر كذباً لقوله تعالى : (( واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولاْ نبياْ )) [مريم : 54] .
ج - الوفاء بالعقود والعهود :
وهذا أيضاً من الصدق في الأقوال ، فإخلاف العهد والغدر فيه من أشد أنواع الكذب . قال تعالى : (( يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود)) [المائدة : 1] .
وقال تعالى : (( والموفون بعهدهم إذا عاهدوا )) [البقرة : 177] .
ومن الوفاء بالعهد حفظ الأسرار وكتمانها ، ولعل قوله -صلى الله عليه وسلم- في التحذير من صفات المنافقين خير شاهد لما سبق ذكره ، يقول صلى الله عليه وسلم : (( أربع من كُنّ فيه كان منافقاً خالصاً ، ومن كانت فيه خصلة منهن كان فيه خصلة من النفاق : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا عاهد غدر ، وإذا خاصم فجر )) [4].
3- الصدق في الأعمال :
وهو استواء الأفعال على الأمر والمتابعة ، وأن يجاهد العبد نفسه في أن تكون سريرته وعلانتيه واحدة ، وأن لا تدل أعماله الظاهرة على أمر في باطنه لا يتصف به حقيقة : كمن يتظاهر بالخشوع في الظاهر والقلب ليس كذلك أو يتظاهر بالحرقة على الدين والغيرة على المحارم وهو في الباطن ليس كذلك والصور كثيرة جداً فمنها صور الرياء المختلفة ، والقول باللسان ما ليس في القلب ، وهذا لا يعني أن يترك المرء الأعمال الصالحة حتى يصلح باطنه ، كلا ولكن يجاهد نفسه في أن يستحيل باطنه إلى تصديق ظاهره ، يقول صاحب الإحياء : ( إن مخالفة الظاهر للباطن إن كانت عن قصد سميت رياء ويفوت بها الإخلاص ، وإن كانت عن غير قصد فيفوت بها الصدق ) ، وقال يزيد بن الحارث : ( إذا استوت سريرة العبد وعلانيته فذلك النّصَفُ ، وإن كانت سريرته أفضل من علانيته فذلك الفضل ، وإن
كانت علانيته أفضل من سريرته فذلك الجور ) ، وقال معاوية بن مرة : ( من يدلني على بكّاء في الليل بسّام في النهار ؟ ) أ . هـ .
4- الصدق في مقامات الدين :
وهو أعلى الدرجات وأعزها ، الصدق في مقامات الدين كالصدق في الخوف والرجاء والتعظيم والزهد والرضا والتوكل والحب وسائر هذه الأمور فإن هذه الأمور مباديء ينطلق الاسم بظهورها ، ثم لها غايات وحقائق والصادق المحقق من نال حقيقتها ، وإذا غلب الشيء وتمت حقيقته سمي صاحبه صادقاً فيه ، كما يقال : فلان صدق القتال ، ويقال : هذا هو الخوف الصادق وهذه هي الشهوة الصادقة وقال الله تعالى : (( إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا)) إلى قول ((أولئك هم الصادقون )) [الحجرات : 15] وقال : (( ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر)) إلى قوله : (( أولئك الذين صدقوا )) [البقرة : 177] .
من علامات الصدق :
إن للصدق علامات ومظاهر تنفي ضدها ، وإذا لم توجد أو كانت ضعيفة فإن ذلك دليل على ضعف الصدق ، وتسلط العوائق عليه ، ومن هذه العلامات ما يلي :
1- طمأنينة القلب واستقراره :
إن الصدق في جميع الأحوال باطنها وظاهرها يورث الطمأنينة والسكينة في القلب ، وينفي عنه التردد والريبة والاضطراب التي لا توجد إلا في حالات الشك وضعف الصدق أو عدمه ، يقول صلى الله عليه وسلم : (( دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ، فإن الصدق طمأنينة والكذب ريبة )) [5] .
2- الزهد في الدنيا والتأهب للقاء الله عز وجل :
ومن علامة طمأنينة القلب النابعة من الصدق انشراحه وزهده في الدنيا والتأهب للآخرة ، قال تعالى : (( فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاْ كأنما يصعد في السماء)) [الأنعام : 125] ، لما نزلت هذه الآية سئل الرسول - صلى الله عليه وسلم- عن شرح الصدر فقال :» نور يقذفه الله في قلب المؤمن فينشرح له وينفسح « ، قيل فهل لذلك أمارة ؟ قال :
نعم ، الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور ، والاستعداد للموت قبل نزول الموت « [6] .(/4)
فالصادق مع الله عز وجل لا تراه إلا متأهباً للقاء ربه ، مستعداً لذلك بالأعمال الصالحة ، والقيام بأوامر الله عز وجل والانتهاء عن نواهيه ، يريد بذلك وجه الله عز وجل متبعاً في ذلك رسوله صلى الله عليه وسلم .
3- سلامة القلب :
إن من علامة الصدق سلامة القلب ، وخلوه من الغش والحقد والحسد للمسلمين ، فالعبد المؤمن الصادق في إيمانه لا يحمل في قلبه غلاً للمؤمنين ولا شراً ، بل إن حب الخير والنصح للمسلمين هو طبعه وعادته ، وهذه الحالة القلبية تظهر علاماتها على الأعمال ، وذلك بتجنب الظلم والعدوان والاستطالة على الأعراض ، والحرص على العدل والقسط مع الناس ، والانطلاق بما في الوسع لقضاء حاجات المسلمين وإغاثة ملهوفهم ودفع الظلم عنهم والحزن على مصابهم والفرح لفرحهم . إن كل هذه
الخلال تفرزها سلامة القلب الذي يترتب عليه أيضاً مظهر من مظاهر الصدق ألا وهو محبة الناس لمن هذه حاله ، فيصبح مألوفاً لهم لأنه صدق معهم ؛ فألفهم وألفوه ، وتواضع لهم فأحبوه ، وهذا مصداق قول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( المؤمن مؤلف ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف ) [7] .
4- حفظ الوقت وتدارك العمر :
إن الصادق في إيمانه لا تجده إلا محافظاً على وقته شحيحاً به ، لا ينفقه إلا فيما يرجو نفعه فيالآخرة ، ينظر إلى العمر كله كأنه ساعة من نهار وإلى الدنيا كأنها ظل شجرة نزل تحتها ، ثم قام وتركها ، فبادر بالأعمار الصالحة فراغه وصحته ، وشبابه ، وحياته ، وابتعد عن كل آفة تقطع عليه طريقه ، وتضيع عليه وقته ، وتبدد عليه عمره القصير بما لا ينفع .
5- الزهد في ثناء الناس ومدحهم بل وكراهة ذلك :
ويتبع ذلك الزهد فيما عند الناس ، والقناعة بما كتب الله عز وجل ، وهذه الصفة إذا وجدت فهي علامة على الصدق والإخلاص ، وهي تنبع أصلاً من صحة المعتقد ، وكمال التوحيد لله عز وجل ، وحول هذه الصفة والوصول إليها يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى : » لا يجتمع الإخلاص في القلب ومحبة المدح والثناء والطمع فيما عند الناس إلا كما يجتمع الماء والنار « .
6- إخفاء الأعمال الصالحة وكراهة الظهور :
إن من علامة صدق العبد فيما يعمله لله عز وجل حرصه على إخفاء عمله وكراهة اطلاع الناس عليه ، كما أن كراهة الشهرة والظهور علامة من علامات الصدق الذي يبعد صاحبه عن الرياء والسمعة والتصنع للخلق ، فكلما كان العبد صادقاً مع ربه عز وجل كلما كان حريصاً على إخفاء أعماله حيث لا يطلع عليها إلا الله عز وجل ، الذي يسمع ويرى ويجازي على الحسنة بعشر أمثالها ، وإن حياة سلفنا الصالح مليئة بهذه النماذج الوضيئة نذكر منها ما يلي :
* عن أبي حمزة الثمالي قال : كان علي بن الحسين يحمل جراب الخبز على ظهره بالليل فيتصدق به ويقول : ( إن صدقة السر تطفئ غضب الرب عز وجل ) [8] .
* وقال عبد الله بن المبارك عن مبارك بن فضالة عن الحسن قال : إن كان الرجل لقد جمع القرآن وما يشعر به الناس ، وإن كان الرجل لقد فقه الفقه وما يشعر به الناس ، وإن كان الرجل ليصلي الصلاة الطويلة في بيته وعنده الزور وما يشعرون به .
7- الشعور بالتقصير والانشغال بإصلاح النفس ونقدها أكثر من الآخرين :
إن من أخطر ما على النفوس أن ينشغل العبد بغيره بالنقد والتقويم وينسى نفسه والتفتيش عن عيوبها ، وهذا للأسف كثير عندنا في زماننا هذا ، وإن من علامات صدق العبد مع ربه ومع نفسه أن ينشغل بنفسه وإصلاحها وتقويمها أكثر مما يعطيه لغيرها ، وإذا وجدت هذه الصفة نتج عنها المحاسبة للنفس والتربية والتزكية لها ، كما ينتج عن ذلك أيضاً احتقار النفس في ذات الله عز وجل والنظر
إليها بالتقصير في جنب الله ، وبالتالي تنتفي صفات العجب والغرور والاعتداد بالنفس ، وعلى هذا فلا يجتمع الصدق والعجب في قلب مؤمن أبداً ، كما إن هذه الصفة تطهر القلب من الحقد على المسلمين ، وتصيّد أخطائهم وعثراتهم والتفكه بذلك في المجالس بحجة الدعوة وبيان الأخطاء والتحذير منها .
8- الاهتمام بأمر هذا الدين والجهاد في سبيل الله عز وجل :(/5)
إن الصدق في محبة الله عز وجل ومحبة دينه تقتضي أن يكون أمر هذا الدين هو شغل المؤمن الشاغل، حيث لا يقر له قرار، ولا يهدأ له بال وهو يرى دين الله عز وجل ينتهك ويقصى من الحياة ، وبالتالي يرى الفساد المستطير يدب في أديان الناس ودمائهم وأعراضهم وعقولهم وأموالهم . إن المؤمن الصادق لا يقدّم على هذا الهم الأكبر أي اهتمام من أمور الدنيا الفانية ، ولكن إلى الله نشكو حالنا، وضعف إيماننا وركوننا إلى دنيانا حيث إننا إذا رجعنا إلى قلوبنا وما هي الاهتمامات التي تملؤها ، لم نجد عند أكثرنا ويا للأسف إلا اهتمامات دنيوية بحتة هي التي تحتل الأرقام الأولِى في تفكيرنا ، فمنا من همه الأول منصب يحصل عليه، أو شهادة يستلمها ليعيش بها ، ومنا من همه زوجته وأولاده أو تجارته وأمواله ... الخ .هذه الاهتمامات الفانية،ثم إن كان هناك فضول تفكير واهتمامات جاء أمر هذا الدين والدعوة إليه بعد الاهتمامات السابقة، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على ضعف الصدق عندنا في الدعوة إلى الله عز وجل والجهاد في سبيله ،
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى : ( وأي دين وأي خير فيمن يرى محارم الله تنتهك وحدوده تضاع ودينه يترك وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم يرغب عنها ،وهو بارد القلب ، ساكت اللسان ، شيطان أخرس كما أن المتكلم بالباطل شيطان ناطق ) .
9- التميز :
إن التميز في حياة المؤمن أمر ضروري جداً خاصة في عصور الغربة ، وإن المسلم الصادق يُعرف بتميزه وإصراره على دينه بين الناس، فيعرف بصحة معتقده عند فساد المعتقدات ، وبالتزامه بالسنة عند فشوا المبتدعات ، وبصدق إيمانه إذا فشا الكذب والنفاق ، وبعبادته إذا الناس يلهون ويلعبون ، وبأخلاقه إذا هدرت الأخلاق وضيعت .
هذه بعض صفات الغرباء الذين قال فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم : (( طوبى للغرباء أناس صالحون في أناس سوء كثير من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم )) [9] .
10- قبول الحق والتسليم له :
إن من علامات الصدق لدى المسلم إذعانه للحق وقبوله من أي أحد كان فالصادق لا تراه إلا باحثاً عن الحق الذي يتعبد به لربه عز وجل ويقربه إلى مولاه ، وإذا بان له الدليل ولا ح له الحق فرح به ووجد فيه بغيته ، ولا يرده أبداً سواء أكان قائله صغيراً أو كبيراً ، أكان عدواً أو صديقاً ، وإذا وجدت هذه الصفة الكريمة عند المسلم ، وصارت من عاداته وأخلاقه فإنها تنفي كثيراً من الصفات الذميمة مثل الكبر والاستعلاء والتعصب للآراء والتحزب للأشخاص والهيئات ، كما أنها تورث المحبة والألفة بين أهل العلم والدين ، وتورث الاجتماع والائتلاف وتنفي الفرقة والاختلاف ، كما أن قبول الحق والتمسك به يقتضي القول به والدعوة إليه دون لبس أو تردد ، فالصادق لا تراه إلا صادعاً بالحق لا يخاف في الله لومة لائم ، ولا يجامل ولا يداهن .
هذه بعض صفات الصادقين .. والله نسأل أن يجعلنا من الصادقين قولاً
وفعلاً .. والله المستعان .
________________________________________
[1] إحياء علوم الدين 4/533 .
[2] البخاري 9/171 .
[3] صحيح مسلم ، المقدمة .
[4] متفق عليه .
[5] رواه أحمد 1/201 ، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة ح1/637 .
[6] هذا الحديث قواه ابن كثير لتعدد طرقه 2/176 .
[7] رواه الإمام أحمد ، ج2 9187 .
[8] صفة الصفوة 3/61 .
[9] رواه الإمام أحمد ، وأورده الألباني في صحيح الجامع الصغير رقم 3921 .
نظرات تربوية في خلق الصدق
الصفحة 3 لـ 3
الرسالة الأولى إلى علماء الأمة وطلاب العلم فيها :
أوصي نفسي وإياكم بما أوصى به ربنا عز وجل عباده المؤمنين : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ )) (التوبة:119) .
يا علماءنا الإجلاء : يا من تعقد عليهم الأمة أملها بعد الله سبحانه في إنقاذها مما هي فيه من جهل ومحن وبلاء (( اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)) وإن من لوازم الصدق مع الله سبحانه وتعالى ومع عباده المؤمنين ، الحذر الشديد من الدنيا وزينتها وزخرفها ، فلا أضر على العالم منها ، ولذا كان سلفنا الصالح يحذرونها أشد الحذر ، فبارك الله في علمهم وعملهم ، وأصلح الله بهم ما فسد .
أيها العلماء الأجلاء : إن أمتنا الإسلامية تمر في هذا الزمان بمحن شديدة وهي تنتظر كلمتكم ، فإذا سكتم فمن لعقيدة الأمة التي يسعى الأعداء لإفسادها ومن لدماء الأمة التي تسفك وتستباح يوماً بعد يوم ، ومن لأعراض الأمة وأخلاقها التي تنتهك باسم الحرية والتقدم والتحضر ، ومن لأموال الأمة واقتصادها الذي تسري فيه نار الربا والبيوع المحرمة ؟!
ودعاؤنا إلى الله عز وجل أن تلتحم صفوف المصلحين في هذه الأمة من علمائها ودعاتها ومجاهديها وقادتها ليكونوا يداً واحدة في الإصلاح والدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، راجياً أن تقبلوا هذا التذكير ولو صدر من ابنكم الصغير .(/6)
ولكم في سيرة الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله قدوة حسنة ، فقد استفاد في محنته من أعرابي عامي ... ذكر الذهبي في السير : قال أحمد بن حنبل : ما سمعت كلمة منذ وقعت في هذا الأمر يعني محنته أقوى من كلمة أعرابي كلمني بها في رجعة طوق ، قال : يا أحمد ، إن يقتلك الحق مُت شهيداً ، وإن عشت عشت حميداً ، فقَوى قلبي ) [1].
الرسالة الثانية إلى دعاة الأمة ومجاهديها :
أوصي نفسي وإياكم بما أوصى به الله سبحانه عباده المؤمنين : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)) [التوبة : 119] .
وإن من لوازم الصدق ومقتضياته أن تكون الدعوة إلى الله عز وجل والجهاد في سبيله لأجل الله عز وجل وابتغاء مرضاته ، فلا تكون لأجل مال أو منصب أو جاه أو كسب شهرة أو التعصب لشيخ أو حزب أو طائفة ، لأن كل ذلك ذاهب وضائع وممحوق البركة في الدنيا والآخرة، فحري بنا أن نحاسب أنفسنا ونحن في طريق الدعوة والجهاد في سبيل الله، ونتبين مدى صدقنا في دعوتنا إلى الله سبحانه ،وهل هي خالصة لله وحده أم يشوبها ما يشوبها من أعراض الدنيا الفانية .. ؟ !
وإن من لوازم الصدق في الدعوة إلى الله سبحانه أن يبادر الداعية إلى تصديق قوله وما يدعو إليه بفعله ، وأن لا يقول بلسانه ما ليس في قلبه، أو يرغب في فعل ولا ينوي القيام به، أو يظهر للناس حرقة وغيرة على هذا الدين والأمر لا يتعدى شقشقة اللسان ، والقلب مشحون بأمر الدنيا وشهواتها وغارق في وديانها ، إن كل ذلك مما ينافي الصدق في الدعوة إلى الله عز وجل .
مع أهمية سلامة قلب الداعية من الغل والحقد والحسد على إخوانه الآخرين من الدعاة ، وإنما يُكنّ المحبة لكل مصلح يدعو إلى الخير ، ويتعاون معه في طاعة الله عز وجل ، ولا يحتقر جهده مهما قل ، ولا تراه إلا حريصاً وساعياً إلى اجتماع الكلمة ووحدة الصف، فالداعية الصادق يكره الفرقة والاختلاف إذا لم يكن في أصول الدين وكلياته، والدعاة الصادقون يرحم بعضهم بعضاً ، ويرفق بعضهم ببعض ، ويتناصحون فيما بينهم .
كما إن الصدق مع الله سبحانه في الدعوة والجهاد يفرض على المسلم أن يكون على بصيرة فيما يدعو إليه ويجاهد من أجله ، وهذا يلزم التفقه في الدين والتبصرة فيه بما قال الله عز وجل وقال رسوله صلى الله عليه وسلم وفهمه الصحابة الكرام رضي الله عنهم .
وإن من لوازم الصدق في الدعوة إلى الله سبحانه ، الحذر من كيد الأعداء المتربصين بهذا الدين وأهله من الكافرين والمنافقين، وبخاصة في زماننا هذا الذي تنوعت فيه أساليب المكر والخبث ، فحري بالداعية الصادق أن يتفطن لدسائس الأعداء ودجلهم ونفاقهم ولو ألبسوا ذلك كله لبوس الحكمة والمصلحة إن التنازل اليسير من الداعية إلى الله سبحانه لا يقف عند حد ، بل يتبعه تنازلات وتنازلات ، لأن أعداء هذا الدين لا يكتفون بالقليل من الداعية وقد حذر الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم من هذا الخطر فقال : (( فلا تُطِعِ المكذبين * وَدُّوا لو تُدْهِنُ فَيُدْهِنُون )) [القلم : 8-9] ، والحقيقة التي ينبغي أن يعيش فيها أصحاب الدعوة إلى الله هي هذه الحقيقة التي لقنها الله لصاحب الدعوة الأولى صلى الله عليه وسلم وهي أن التكليف بهذه الدعوة تنزل من عند الله فهو صاحبها ، وأن الحق الذي تنزلت به لا يمكن مزجه بالباطل الذي يدعو إليه الآثمون الكفار ، فلا سبيل إلى التعاون بين حقها وباطلهم ، أو الالتقاء في منتصف الطريق بين القائم على الحق والقائمين على الباطل ، فهما منهجان مختلفان وطريقان لا يلتقيان ، فأما حين يغلبه الباطل بقوته وجمعه على قلة المؤمنين وضعفهم ، لحكمة قضاها الله فالصبر حينئذ حتى يأتي الله بحكمه والاستمداد من الله والاستعانة بالدعاء والتسبيح ، وهما الزاد المضمون لهذا الطريق .
إنها حقيقة كبيرة لا بد أن يدركها ويعيش فيها رواد هذا الطريق فالمحاولات كثيرة التي حاول المشركون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها المساومة على الدعوة ، ولكن الله عصم منها رسوله، وهي محاولات الطغاة مع أصحاب الدعوات دائماً، محاولة إغرائهم لينحرفوا ولو قليلاً عن استقامة الدعوة وصلابتها ، ويرضوا بالحل الوسط الذي يغرونهم به في مقابل مغانم كثيرة ، ومن جملة الدعاة من يفتن بهذا عن دعوته لأنه يرى الأمر هيناً ، فأولئك لا يطلبون منه أن يترك دعوته كلياً، إنما يطلبون تعديلات طفيفة ليلتقي الطرفان في منتصف الطريق .
ومن لوازم الصدق في الدعوة أن يحذر الداعية من الكذب على إخوانه المسلمين والدعاة المصلحين، ومن ذلك إشاعة الأخبار قبل التحقق من صحتها واستخدام الأساليب الملتوية والمراوغات بحجة السياسة والمصلحة .. كل هذا لا يتفق وصدق الداعية وسلامة قلبه .(/7)
ومن لوازم الصدق في الدعوة إلى الله سبحانه أن يعتني كل مسلم منا بنفسه بالوسائل الشرعية للتربية ، وذلك في وسط بيئة صالحة معروفة بصحة الفهم وحسن القصد ، يتربى معها ، ويعد نفسه للتضحية في سبيل الله عز وجل وبذل المال والنفس في ذلك ، وأن يوطن نفسه لابتلاءات الطريق ومشاقه ، التي هي سنة من سنن الله عز وجل لتمحيص الصفوف ، قال تعالى : (( ألم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ)) [العنكبوت : 1-3] .
فلا يتبين الصادق في دعوته من الكاذب إلا بالابتلاء نسأل الله عز وجل العافية والصبر عند البلاء .
إن الداعية الذي يهمل نفسه فلا يربيها ويعدها للبيع على الله عز وجل يوشك أن ينهزم وتخذله نفسه عند أول هزة وأول اختبار ، مع أنه يحب لنفسه غير ذلك مما يعيشه في حال الرخاء والأمن من الحماس العاطفي والكلام الذي لا يجاوز التراقي .
يقول سيد قطب رحمه الله : ( إن العقيدة وطريقها لشاقة بعيدة ، تتقاصر دونها الهمم الساقطة والعزائم الضعيفة ، إن تكاليف العقيدة هو جهد خطر ، تجزع منه الأرواح الهزيلة والقلوب الخاوية ، ولكنه الأفق الذي تتخاذل دونه النفوس الصغيرة والبيئة الهزيلة ، قال تعالى : (( لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ )) [التوبة : 42] [2].
وإنني بهذه المناسبة أوصي نفسي وإخواني الدعاة والمجاهدين أن لا نتكلم في أمر ، أو نقدم على موقف من مواقف الدعوة حتى تتوفر فيه الشروط التالية :
1- الاطمئنان التام أنه الحق الذي يحبه الله تعالى ، وإعداد النفس لتحمل تبعاته .
2- الاطمئنان التام على أن القيام في هذا الأمر هو لله سبحانه وحده وابتغاء مرضاته .
3- الاستعانة بالله وحده في تحقيق هذا الأمر والثبات عليه إذ لا قدرة للعبد لحظة واحدة بدون عون الله وتوفيقه .
إذن يا إخواني الدعاة : إن الأمر جد ليس بالهزل .
قد هيؤوك الأمر لو فطنت له فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل
الرسالة الثالثة إلى المربين في هذه الأمة :
أوصي نفسي وإياكم بما أوصى به الله سبحانه عباده المؤمنين : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ )) [التوبة : 119] .
أيها المربون : إن التربية لها معنى أوسع من التعليم وتلقين المعلومات فالتربية هي الجهد الذي يبذله المربون في كل مجتمع من آباء ومعلمين وغيرهم في إنشاء الأجيال القادمة على أساس العقيدة التي يؤمنون بها ، ومنحهم الفرصة الكافية لتشرب معاني الدين والتضحية من أجله والاعتزاز به بين الأمم فالأمة الجادة هي التي تربي أبناءها طبقاً للعقيدة التي تدين بها لله تعالى ، وتسعى لنشرها بين الأمم ، حتى لا تكون فتنة، ويكون الدين كله لله تعالى ، وهذه مهمة المربين في هذه الأمة فما أثقلها من تبعة ، وما أشرفها من رسالة .
ومن لوازم الصدق أيها المربون الكرام أن تصدقوا مع من ولاكم الله تربيتهم وتعليمهم ، وذلك بتعليمهم الخير ، وربطهم بأبطال هذه الأمة ورعيلها الأول ، وتحذيرهم من الشر وأهله ، وتبصيرهم سبيل المجرمين وأفكارهم الخبيثة وتفنيدها والتحذير منها .
ومن لوازم الصدق في التربية إعداد المناهج الكريمة المستمدة من الكتاب والسنة ، وفهم الصحابة وفقه الواقع الذي تعيشه الأمة ، فعلى المسؤولين عن مناهج التعليم في المجتمعات المسلمة أمانة عظيمة وتبعة ثقيلة ، فليصدقوا مع الله عز وجل في أمة محمد ص وأبنائها ، فلا يختاروا إلا ما فيه الخير والإصلاح وتنشئة الأجيال على العقيدة الحقة والأخلاق السامية ، وأن يردوا ويسقطوا كل ما من شأنه إفساد العقيدة والأخلاق والأفكار والهمم ، فنحن أمة ذات رسالة عظيمة خالدة ينبغي للناشئة أن يدركوا رسالة أمتهم ، وأنها خير أمة أخرجت للناس .
أيها المربون من آباء ومعلمين : إن الله سبحانه سائلكم عما استرعاكم فأعدوا للسؤال جواباً : (( وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ)) [البقرة : 281] .
تذكروا أثر العمل الطيب ، والسنة الحسنة حين تسري في الأمة وينتشر الخير بسببها ، فتنالوا أجر ذلك عن كل من تأثر به ، والعكس بالعكس والعياذ بالله تذكروا أثر العمل السيء والسنة السيئة حين تسري في أبناء الأمة ويتربون عليها فستنالوا وزر ذلك ووزر من تأثر به نعيذكم بالله من هذا المآل ، وهذا مصداق قوله صلى الله عليه وسلم » من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً ، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها « [3] .(/8)
ومن لوازم الصدق في التربية : أن يربط الأبناء والطلاب في حياتهم بالأهداف العالية النبيلة ، ولا يربطون بالتوافه من الأمور والأهداف الهابطة لأن النظرة السائدة اليوم في أكثر بيوت المسلمين ومدارسهم : أن طلب العلم قد ربط بالمصلحة الدنيوية، وأنها وسيلة للعيش ولا يوجد في جو المنزل أو جو المدرسة إلا من رحم الله من يقول للمتربي إن لك أمة تنتظرك، وأن لك دوراً ينتظرك في
الدعوة إلى التوحيد وهداية الناس بإذن الله تعالى والجهاد في سبيله عز وجل والذود عن حمى الأمة وعقيدتها، إن هذا النوع من التربية قليل ، فعلى المربين الصادقين مع ربهم سبحانه أن يحيوا هذه المعاني عند إخوانهم المربين ويصبغوا بها المناهج المعدة لذلك ، وينشروها في صفوف أبنائهم وطلابهم حتى يخرج جيل قوي متماسك يشعر بانتمائه لهذا الدين ، ويشعر بمسؤوليته ليتولى هو بدوره إكمال الطريق ، وتربية الأجيال التي تأتي بعد ذلك .
وبقيت كلمة أخيرة أوصي بها نفسي وإخواني الآباء ، ألا وهي الصدق مع الله سبحانه في جعل البيت محضناً من محاضن التربية الكريمة للأبناء والبنات والإخوان والأخوات والزوجات ، وذلك بعمارته بذكر الله عز وجل ووجود القدوة الصالحة ، وتطهيره من أسباب الرجس والفساد ، فكلكم راع ومسؤول عن رعيته .. إن العجب كل العجب من أناس أنعم الله عليهم بنعمة الأموال والأولاد ، ثم هم
يخربون بيوتهم بأيديهم ويلقون بأنفسهم وأهليهم إلى النار ، والله تعالى يقول: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ )) [التحريم : 6] .
إن أحدنا لو رأى ابنه أو ابنته أو أخاه أو أخته أو زوجته يتعرض أحدهم لهلاك في الدنيا بحريق أو غرق أو سقوط من شاهق ، لهب مسرعاً لإنقاذه وإن لم يكن قريباً منه صاح به محذراً من السقوط في المهلكة ، وإن الله سبحانه يحذرنا من نار تلظّى لا تأتي نار الدنيا عندها إلا جزءاً من سبعين جزء منها ومع ذلك لا يتحرك الكثير منا في إنقاذ نفسه وأهله منها : (( قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ)) [التوبة : 81] .
الرسالة الرابعة إلى الإعلاميين في هذه الأمة :
أوصي نفسي وإياكم بما أوصى به عباده المؤمنين سبحانه عز من قائل : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ )) [التوبة : 119] .
أيها المؤمنون من إعلاميي هذه الأمة : إني أخاطب فيكم عقيدتكم الإسلامية ، التي تحملونها بين جوانحكم التي تحدد هويتكم بين بني البشر وترفع رؤوسكم بين بني الإنسان ، أخاطب فيكم غيرتكم الإسلامية ومروءتكم العربية ، وأخلاقكم العريقة التي تميز المسلم عن غيره ، أخاطب فيكم الأمانة العظيمة التي حملكم الله إياها من خلال مسؤولياتكم الخطيرة التي تتولونها أخاطب فيكم المسؤولية التي أناطتها الأمة بكم لتربوا أبناءها على الإيمان الصادق والعفة والطهارة والعزة والكرامة .
أيها الإعلاميون المؤتمنون على عقيدة الأمة وأخلاقها : اصدقوا مع ربكم سبحانه في الوفاء بما عهد إليكم : (( وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً )) [الإسراء : 34] ، (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ )) [الأنفال : 27] .
واصدقوا مع أمتكم المسلمة التي أمنتكم دينها وأعراضها وعقولها وأفكارها ، فلا تخونوا أمتكم ، وكونوا عند حسن ظنها بكم .
إن إعلام أي أمة يعبر عن عقيدتها وهويتها ، وإذا أردنا أخذ صورة سريعة عن أي أمة أو مجتمع ، فلننظر إلى إذاعتها وتلفازها وصحفها وما ينشر فيها فإن ذلك يدلنا على ما يقوم عليه هذا المجتمع من عقيدة وأخلاق .
إن لكل أمة هوية ، فأين هويتنا الإسلامية في كثير من إعلام دولنا ؟ !
إن الإسلام ليس كلمة فحسب ، ليس عقيدة مستكنة في القلب فحسب بل الإسلام هو الاستسلام لله عز وجل وحده في جميع شؤون الحياة ، قال تعالى : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً)) [البقرة : 208] .
هذا هو الإسلام الذي جاء من عند الله عز وجل ، وإن الناظر في إعلام المجتمعات المسلمة اليوم ليرى ازدواجية وانحرافاً ، وهذا يعني أحد أمرين :
1- أن يكون هناك جهل بحقيقة هذا الدين ، وأنه بالإمكان أن يكون المرء مسلماً بقلبه ولسانه فقط ثم يفعل بعد ذلك ما يشاء ويعمل ما يحلو له أن يعمل مادام أنه ينطق الشهادتين ، فالهوية التي يحملها هي الإسلام وهذه عقيدة المرجئة التي أفسدت في الأرض ودخل من خلالها العلمانيون الذين يفصلون الدين عن الحياة ، ويجعلونه عقيدة مستكنة في الضمير وبين جدران المساجد فحسب ! !(/9)
2- أو أن حقيقة الدين ومفهومه الواسع واضحة في أذهان القوم ، ولكنهم آثروا الحياة الدنيا ومناصبها وزخرفها على مرضاة الله سبحانه وتعالى والدار الآخرة، فاشتروا الحياة الدنيا الفانية بالدار الآخرة الباقية فما أشد خسارتهم وأكسد تجارتهم، ألا ذلك هو الخسران المبين .
ثم ماذا سيكون جوابك إذا حاكمتك الأمة بأسرها على ما قدمت لها من كلمة مسموعة أو مرئية أو مقروءة يوم تكون سبباً في إضلال أبنائها ، أناشدك بما معك من الإيمان بالله واليوم الآخر أن لا تغفل عن هذا اليوم الرهيب ، فو الله إنه لقريب : (( وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ * يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ )) [الشورى : 18] .
وبعد : هذا ما يسر الله سبحانه كتابته حول هذا الموضوع ، عسى الله أن ينفع به كاتبه وقارئه في الدنيا والآخرة . وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ،
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه .
____________
[1] سير أعلام النبلاء 11/241 .
[2] طريق الدعوة ، ج1 ، ص 96 .
[3] صحيح مسلم (كتاب الزكاة ح/1017 سيصدر هذا الموضوع بحلقاته السابقة مع زيادات في رسالة مستقلة إن شاء الله في الحلقة السادسة من دراسات تربوية في ضوء القران للكاتب .(/10)
نظرات تربوية في خلق الصدق ( 1 )
الشيخ عبد العزيز بن ناصر الجليل
منزلة الصدق منزلة عظيمة ليس في دين الإسلام فقط بل في جميع الأديان، لا لأنه خُلق من الأخلاق الحميدة فحسب، بل لأنه أصل الإيمان المقبول عند الله - عز وجل -، وهو أساس النجاة من عذاب الله - عز وجل -، وبه يتميز أهل الإيمان الحق من المنافقين الكاذبين، يقول الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى -في منزلة الصدق: » وهو منزل القوم الأعظم الذي منه تنشأ جميع منازل السالكين، والطريق الأقوم، الذي من لم يسر عليه فهو من المنقطعين الهالكين « إلى أن يقول: » فهو روح الأعمال، ومحك الأحوال، والحامل على اقتحام الأهوال، والباب الذي دخل منه الواصلون إلى حضرة ذي الجلال، وهو أساس بناء الدين، وعمود فسطاط اليقين، ودرجته تالية لدرجة النبوة التي هي أرفع درجات العالمين ".
ولقد تضافرت الأدلة من الكتاب والسنة وآثار السلف في فضل الصدق وخطورة أمره وعلو شأنه.
ولقد اخترت هذه الوقفات التربوية لخلق الصدق في ضوء القرآن الكريم لمعالجة هذا الموضوع الذي يهم كل مسلم بصفة عامة، ويهم الدعاة إلى الله - عز وجل - بصفة خاصة، لاسيما في واقعنا المعاصر، وتتجلى أهميته في الأمور التالية:
الأمر الأول:
لأنه أساس الإيمان، وركنه الركين، وأساس قبول الطاعات والقربات عند الله - عز وجل -، وعليه يترتب الأجر والثواب يوم القيامة، قال - تعالى -: ((لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ)) (الأحزاب: من الآية24)، وقال - تعالى -: ((قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ)) (المائدة: من الآية119) ولأنه أساس الطاعات وجماعها، فقد أصبح الصفة الفارقة بين المؤمن والمنافق.
يقول الإمام ابن تيميه - رحمه الله تعالى -: (الصدق أساس الحسنات وجماعها، والكذب أساس السيئات ونظامها)، ويظهر ذلك من وجوه منها:
أن الصدق هو المميز بين المؤمن والمنافق، ففي الصحيحين عن أنس عن النبي: ((آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان))[1]، وفي حديث آخر: ((على كل خلق يطبع المؤمن ليس الخيانة)) [2].
وقد وصف الله المنافقين في القرآن بالكذب في مواضع عدة ومعلوم أن المؤمنين هم أهل الجنة، وأن المنافقين هم أهل النار في الدرك الأسفل منها.
أن الصدق هو أصل البر، والكذب هو أصل الفجور، كما جاء في الصحيحين عن النبي: ((عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر)) [3].
أن الصادق تنزل عليه الملائكة، والكاذب تنزل عليه الشياطين كما قال - تعالى -: (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ، تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ، يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ) (الشعراء: 221، 222، 223)
الأمر الثاني:
أن الصدق في كل الأمور يوصل صاحبه إلى مرتبة (الصديقية)، التي هي المرتبة التالية لمرتبة النبوة، وعندما أقول في كل الأمور أريد من ذلك عدم حصر الصدق في اللسان فقط، وإنما الصدق في النيات والأقوال والأعمال والأصل تحري الصدق في ذلك كله.
إن مجاهدة النفس على تحري الصدق في جميع الأمور يوصلها إلى هذه المرتبة العظيمة مرتبة الصديقية) كما جاء في الحديث السابق الذكر: ((..ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يُكتب عند الله صدّيقا)) [4].
وهنيئاً لمن وصل إلى هذه المرتبة، فيا لها من رتبة، وما أشرف قدرها وأعظم فضلها، يقول الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى -في وصف أهل هذه الطبقة: (الطبقة الرابعة ورثة الرسل وخلفاؤهم في أممهم، وهم القائمون بما بعثوا به علماً وعملاً ودعوة للخلق إلى الله على طريقهم ومنهاجهم، وهذه أفضل مراتب الخلق بعد الرسالة والنبوة، وهي مرتبة الصديقية، ولهذا قرنهم الله في كتابه بالأنبياء فقال - تعالى -: ((وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً)) (النساء: 69)
الأمر الثالث:
ثمرات الصدق العظيمة التي تحصل منه في الدنيا والآخرة من البركة والقبول والإصلاح في الدنيا، والأجر العظيم والثواب الجزيل في الآخرة وسيأتي تفصيل كل ذلك إن شاء الله - تعالى -في (ثمرات الصدق).
الأمر الرابع:(/1)
خطورة الكذب والنفاق وأثرهما على الفرد والمجتمع والأمة وبخاصة في مجتمعاتنا اليوم التي كثر فيها الكذب والدجل والمداهنة، وقل الصدق فيها والصادقون، ولا أعلم والعلم عند الله عصراً ظهر فيه الكذب والنفاق بوسائله الماكرة المتطورة كما ظهر في عصرنا اليوم، حتى أصبح الكذب له مدارسه وأساليبه التي تعلم الناس كيف يكذبون، وكيف ينافقون وكيف يدلسون... الخ، ولا أبالغ إذا قلت إن وسائل الإعلام اليوم المقروءة منها والمسموعة والمنظورة قد قامت في أغلب برامجها على الكذب، وقلب الحقائق وتسمية الأمور بغير أسمائه، وقد تجاوز الأمر حده حتى أصبح المعروف منكراً والمنكر معروفاً، وظهر الحق في صورة الباطل، والباطل في صورة الحق، وأصبحنا نسمع من يقول عن المسلم الصادق الذي يتحرى الصدق بأنه ساذج وبسيط وسطحي... الخ، في الوقت الذي
يوصف الكاذب المنافق بأنه السياسي الحكيم المحنك، إن مجتمعاً كهذا حري بالسقوط والدمار، ولا نجاة ولا فلاح إلا بالصدق، والأمة الصادقة مع ربها - سبحانه - ومع رسولها - صلى الله عليه وسلم - لا تهزم أبداً.
الأمر الخامس:
ظهور بعض علامات ضعف الصدق في صفوفنا معشر الدعاة إلى الله - عز وجل -، وذلك بوجود بعض التصرفات والممارسات التي تتنافى مع الصدق في الدعوة إلى الله - عز وجل - والجهاد في سبيله، فقلّ الصادقون الربانيون الذين يصدقون في نياتهم وأقوالهم وأعمالهم، ويضحون في سبيل الله - عز وجل - بكل ما يملكون لنيل مرضاته وحبه، نعم إنه بمحاسبة عجلى لنفوسنا يتبين لنا هذا الضعف وأننا في أمس الحاجة إلى تقوية هذا الخُلق، ونبذ كل ما يتنافى معه من صور الكذب والنفاق ووهن العزيمة، وضعف الهمة، وإلا فما معنى وجود هذه الجهود الضخمة المبذولة اليوم في طرق الدعوة إلى الله - عز وجل -، ثم لا نرى لها إلا أثراً ضعيفاً لا يكافئ تلك الجهود المبذولة؟ !
الأمر السادس:
إن الصراع الذي نشاهده اليوم بين الحق والباطل، بين دعاة الشر والكفر ودعاة الخير والإصلاح، ليحتم على أهل الخير حرصهم الشديد على الصدق مع الله - سبحانه - واليقين بنصره وثوابه، حتى لا تزل الأقدام، وتضعف العزائم إزاء هذا البلاء العظيم والمعركة الشرسة بين الحق والباطل، وهذه المواطن هي التي يتميز فيها الصادقون عمن سواهم، قال - تعالى -: ((الم، أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ، وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ)) (العنكبوت: 1، 2، 3).
وكذلك أيام الفتن لا يثبت فيها إلا الصادقون العالمون العاملون، وهم الذين يشرفهم الله - عز وجل - بنصره، ويمكن لهم في الأرض، ويجعلهم أئمة ويجعلهم الوارثين.
حقيقة الصدق:
إن حقيقة الصدق أوسع من كونها الصدق في الحديث فقط، وإنما حقيقة الصدق شاملة لصدق النية والعزيمة، وصدق اللسان، وصدق الأعمال، يقول الإمام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: ومما ينبغي أن يعرف أن الصدق والتصديق يكون في الأقوال وفي الأعمال كقول النبي- صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: ((كتب على ابن آدم حظه من الزنا، فهو مدرك ذلك لا محالة، فالعينان تزنيان وزناهما النظر، والأذنان تزنيان وزناهما السمع، واليدان تزنيان وزناهما البطش، والرجلان تزنيان وزناهما المشي، والقلب يتمنى ويشتهي، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه)) [5].
ويفصّل الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى -القول في هذا المعنى فيقول: (والإيمان أساسه الصدق، والنفاق أساسه الكذب، فلا يجتمع كذب وإيمان إلا وأحدهما محارب للآخر) [6].
وأخبر - سبحانه -: أنه في يوم القيامة لا ينفع العبد وينجيه من عذابه إلا صدقه قال - تعالى -: ((هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم لهم جناتِ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداْ - رضي الله عنهم - ورضوا عنه ذلك الفوزٍ العظيم)) [7].
وقال - تعالى -: ((وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ)) [8].
فالذي جاء بالصدق هو من شأنه الصدق في قوله وعمله وحاله، والصدق إنما يكون في هذه الثلاثة:
فالصدق في الأقوال: استواء اللسان على الأقوال كاستواء السنبلة على ساقها والصدق في الأعمال: استواء الأفعال على الأمر والمتابعة كاستواء الرأس على الجسد،
والصدق في الأحوال: استواء أعمال القلب والجوارح على الأخلاق، واستفراغ الوسع وبذل الطاقة، فبذلك يكون العبد من الذين جاءوا بالصدق، وبحسب كمال هذه الأمور فيه، وقيامها به تكون صديقيته ولذلك كان لأبي بكر
الصديق - رضي الله عنه - وأرضاه ذروة سنام الصديقية فسمي (الصدّيق) على الإطلاق، و(الصدّيق) أبلغ من الصدوق، والصدوق أبلغ من الصادق، فأعلى مراتب الصدق مرتبة الصديقية وهي كمال الانقياد للرسول - صلى الله عليه وسلم - مع كمال الإخلاص للمُرْسل).
الفرق بين الصدق والإخلاص:(/2)
الصدق والإخلاص عملان قلبيان من أعظم أعمال القلوب، وأهم أصول الإيمان، فأما الصدق فهو الفرقان بين الإيمان والنفاق، وأما الإخلاص فهو الفرقان بين التوحيد والشرك في قول القلب واعتقاده أو في إرادته ونيته والأعمال التي رأسها وأعظمها (شهادة أن لا إله إلا الله) لا تقبل إلا بتحقيق الصدق والإخلاص.
ومن هنا كان الصدق والإخلاص شرطين من شروطها، ولذلك كذّب الله المنافقين في دعوى الإيمان، وقول الشهادة لانتفاء الصدق، فقال: ((إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ)) [9]، وقال: ((فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ)) [10].
كما أبطل - سبحانه - زعم أهل الكتاب والمشركين أن دينهم هو الحق بانتفاء الإخلاص فقال: ((لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ)) [11]، إلى أن يقول: ((وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ)) [12].
والصدق والإخلاص مع تقاربهما ترادفهما أحياناً يميز بينهما بتعريف ضد كل منهما: فالصدق ضده انتفاء إرادة الله بالعمل أصلاً، كمن آمن وصلى كاذباً ولم يرد الإيمان والصلاة، وإنما فعل ذلك لسبب آخر، كما فعله المنافقون حفظاً لأنفسهم وأموالهم من السيف، وجبناً عن تحمل أعباء المواجهة الصريحة للإيمان.
والإخلاص ضده انتفاء إفراد الله بالإرادة والتوجه كمن آمن أو صلى صارفاً
ذلك لأحد مع الله، وهذا هو الشرك الذي وقع فيه أكثر العالمين، وعلى قدر ما يحقق العبد الإخلاص لربه يكون ترقيه في (المخلصين) الذين صرف الله عنهم غواية الشياطين وأثنى عليهم في كل أمة » [13].
----------------------
[1] البخاري، كتاب الإيمان، ج24 الطبعة الأولى، ص14، مسلم كتاب الإيمان، الطبعة الأولى، طبعة دار الكتب العلمية.
[2] رواه الإمام الحاكم وضعفه الألباني.
[3] البخاري، كتاب الأدب، ج3 ص59، طبعة إستانبول؛ مسلم كتاب البر، ج2 ص438، طبعة الكتب العلمية.
[4] سبق تخريجه في رقم (5).
[5] البخاري (10/22) كتاب الاستئذان.
[6] مدارج السالكين، 2/269.
[7] سبق تخريجها في رقم (2).
[8] الزمر: 33.
[9] المنافقون: 1.
[10] العنكبوت: 3.
[11] البينة: 1.
[12] البينة: 5.
[13] ظاهرة الإرجاء في الفكر المعاصر ص 438.
26/12/1425 هـ
على ضوء ما سبق في الحلقة الأولى يتضح للقارئ الكريم أن الصدق أنواع ومراتب تتجلى فيما يلي:
1- صدق النية:
وذلك بأن تكون النية خالصة لله - عز وجل - وابتغاء مرضاته، وأن لا يكون هناك باعث في الحركات والسكنات إلا مرضاة الله - عز وجل -، فإن شاب النية شيء من حظوظها لم تكن صادقة، وإن تكلم العبد بلسانه خلاف ما في قلبه فهذا أيضاً دليل على عدم الصدق في النية، والأدلة في ذلك كثيرة منها قوله - تعالى -في وصف المنافقين: ((يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم)) [الفتح: 1].
وقوله - تعالى -: ((من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون)) [هود: 15، 16].
ومن الصدق في النية: الصدق في العزيمة على الفعل إذا تمكن منه، لأن النية قد تكون صادقة، لكن العزيمة على الفعل ضعيفة وصاحبها متردد، وقد تكون العزيمة صادقة، لكن إذا جد الجد، وعزم الأمر، وهاجت الشهوات خارت وضعفت، ولم يحصل الوفاء بالعزيمة، وقد لا تضعف في البداية لكن إذا باشرت الفعل وذاقت مرارته ضعفت وخارت، والموفق من وفقه الله - تعالى -وأمده بعونه
ورحمته، ولو وكل العبد إلى نفسه ضاع وهلك، فيا حي يا قيوم برحمتك نستغيث، أصلح لنا شأننا كله، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين أبداً.
2- الصدق في الأقوال:
وذلك لا يكون إلا في الأخبار، أو ما يتضمن الإخبار، والخبر إما أن يتعلق بالماضي فلا يخبر عن الأشياء على خلاف ما هي عليه، أو بالمستقبل كالوفاء بالوعد والعهد [1].
وهذه المرتبة من الصدق هي التي يحصر كثير من الناس الصدق فيها، ولا يتجاوزونها إلى غيرها، ولا شك أنها مرتبة عظيمة وتكميلها من أعز الأمور وأشقها على النفس، ولكنها يسيرة على من يسرها الله عليه، وجاهد نفسه في تحقيقها.
صور من الصدق في الأقوال:
والصدق في الأقوال له صور عديدة منها:
أ- الصدق في نقل الأخبار:(/3)
فلا ينقل المسلم إلا الأخبار الصادقة، وهذا بدوره يتطلب من الناقل التثبت فيما يقال، واجتناب الظنون والأوهام والحذر من التحدث بكل ما يُسْمَعُ، فمن حفظ لسانه من الإخبار عن الأشياء على خلاف ما هي عليه، فهو صادق في خبره وهذا يقتضي الابتعاد عن الظنون والإشاعات. قال - صلى الله عليه وسلم -: ((إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث)) [2]، وقال: ((كفى بالمرء إثماً أن يحدث بكل ما سمع)) [3].
ب- الصدق في الوعد:
لأن إعطاء الوعد غالباً ما يكون بالقول، فالوفاء بالوعد من الصدق في الأقوال، وإخلافه يعد كذباً، إلا إذا كانت النية عند إعطاء الوعد صادقة ثم حال بينه وبين تنفيذ الوعد أمر خارج عن إرادته، فإن هذا لا يعد إخلافاً للوعد وبالتالي لا يعتبر كذباً، والوعد قد يكون على مكان معين أو في زمن معين أو على أعطية أو زواج أو أي أمر آخر يعد به الرجل أخاه، فإن الإخلاف في هذه الأمور وأمثالها
بدون مبرر شرعي يعتبر كذباً لقوله - تعالى -: ((واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولاْ نبياْ)) [مريم: 54].
ج - الوفاء بالعقود والعهود:
وهذا أيضاً من الصدق في الأقوال، فإخلاف العهد والغدر فيه من أشد أنواع الكذب. قال - تعالى -: ((يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود)) [المائدة: 1].
وقال - تعالى -: ((والموفون بعهدهم إذا عاهدوا)) [البقرة: 177].
ومن الوفاء بالعهد حفظ الأسرار وكتمانها، ولعل قوله - صلى الله عليه وسلم - في التحذير من صفات المنافقين خير شاهد لما سبق ذكره، يقول - صلى الله عليه وسلم -: ((أربع من كُنّ فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كان فيه خصلة من النفاق: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر)) [4].
3- الصدق في الأعمال:
وهو استواء الأفعال على الأمر والمتابعة، وأن يجاهد العبد نفسه في أن تكون سريرته وعلانتيه واحدة، وأن لا تدل أعماله الظاهرة على أمر في باطنه لا يتصف به حقيقة: كمن يتظاهر بالخشوع في الظاهر والقلب ليس كذلك أو يتظاهر بالحرقة على الدين والغيرة على المحارم وهو في الباطن ليس كذلك والصور كثيرة جداً فمنها صور الرياء المختلفة، والقول باللسان ما ليس في القلب، وهذا لا يعني أن يترك المرء الأعمال الصالحة حتى يصلح باطنه، كلا ولكن يجاهد نفسه في أن يستحيل باطنه إلى تصديق ظاهره، يقول صاحب الإحياء: (إن مخالفة الظاهر للباطن إن كانت عن قصد سميت رياء ويفوت بها الإخلاص، وإن كانت عن غير قصد فيفوت بها الصدق)، وقال يزيد بن الحارث: (إذا استوت سريرة العبد وعلانيته فذلك النّصَفُ، وإن كانت سريرته أفضل من علانيته فذلك الفضل، وإن
كانت علانيته أفضل من سريرته فذلك الجور)، وقال معاوية بن مرة: (من يدلني على بكّاء في الليل بسّام في النهار؟ ) أ. هـ.
4- الصدق في مقامات الدين:
وهو أعلى الدرجات وأعزها، الصدق في مقامات الدين كالصدق في الخوف والرجاء والتعظيم والزهد والرضا والتوكل والحب وسائر هذه الأمور فإن هذه الأمور مباديء ينطلق الاسم بظهورها، ثم لها غايات وحقائق والصادق المحقق من نال حقيقتها، وإذا غلب الشيء وتمت حقيقته سمي صاحبه صادقاً فيه، كما يقال: فلان صدق القتال، ويقال: هذا هو الخوف الصادق وهذه هي الشهوة الصادقة وقال الله - تعالى -: ((إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا)) إلى قول ((أولئك هم الصادقون)) [الحجرات: 15] وقال: ((ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر)) إلى قوله: ((أولئك الذين صدقوا)) [البقرة: 177].
من علامات الصدق:
إن للصدق علامات ومظاهر تنفي ضدها، وإذا لم توجد أو كانت ضعيفة فإن ذلك دليل على ضعف الصدق، وتسلط العوائق عليه، ومن هذه العلامات ما يلي:
1- طمأنينة القلب واستقراره:
إن الصدق في جميع الأحوال باطنها وظاهرها يورث الطمأنينة والسكينة في القلب، وينفي عنه التردد والريبة والاضطراب التي لا توجد إلا في حالات الشك وضعف الصدق أو عدمه، يقول - صلى الله عليه وسلم -: ((دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فإن الصدق طمأنينة والكذب ريبة)) [5].
2- الزهد في الدنيا والتأهب للقاء الله - عز وجل -:
ومن علامة طمأنينة القلب النابعة من الصدق انشراحه وزهده في الدنيا والتأهب للآخرة، قال - تعالى -: ((فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاْ كأنما يصعد في السماء)) [الأنعام: 125]، لما نزلت هذه الآية سئل الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن شرح الصدر فقال: » نور يقذفه الله في قلب المؤمن فينشرح له وينفسح «، قيل فهل لذلك أمارة؟ قال:
نعم، الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزول الموت « [6].(/4)
فالصادق مع الله - عز وجل - لا تراه إلا متأهباً للقاء ربه، مستعداً لذلك بالأعمال الصالحة، والقيام بأوامر الله - عز وجل - والانتهاء عن نواهيه، يريد بذلك وجه الله - عز وجل - متبعاً في ذلك رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
3- سلامة القلب:
إن من علامة الصدق سلامة القلب، وخلوه من الغش والحقد والحسد للمسلمين، فالعبد المؤمن الصادق في إيمانه لا يحمل في قلبه غلاً للمؤمنين ولا شراً، بل إن حب الخير والنصح للمسلمين هو طبعه وعادته، وهذه الحالة القلبية تظهر علاماتها على الأعمال، وذلك بتجنب الظلم والعدوان والاستطالة على الأعراض، والحرص على العدل والقسط مع الناس، والانطلاق بما في الوسع لقضاء حاجات المسلمين وإغاثة ملهوفهم ودفع الظلم عنهم والحزن على مصابهم والفرح لفرحهم. إن كل هذه
الخلال تفرزها سلامة القلب الذي يترتب عليه أيضاً مظهر من مظاهر الصدق ألا وهو محبة الناس لمن هذه حاله، فيصبح مألوفاً لهم لأنه صدق معهم؛ فألفهم وألفوه، وتواضع لهم فأحبوه، وهذا مصداق قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (المؤمن مؤلف ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف) [7].
4- حفظ الوقت وتدارك العمر:
إن الصادق في إيمانه لا تجده إلا محافظاً على وقته شحيحاً به، لا ينفقه إلا فيما يرجو نفعه فيالآخرة، ينظر إلى العمر كله كأنه ساعة من نهار وإلى الدنيا كأنها ظل شجرة نزل تحتها، ثم قام وتركها، فبادر بالأعمار الصالحة فراغه وصحته، وشبابه، وحياته، وابتعد عن كل آفة تقطع عليه طريقه، وتضيع عليه وقته، وتبدد عليه عمره القصير بما لا ينفع.
5- الزهد في ثناء الناس ومدحهم بل وكراهة ذلك:
ويتبع ذلك الزهد فيما عند الناس، والقناعة بما كتب الله - عز وجل -، وهذه الصفة إذا وجدت فهي علامة على الصدق والإخلاص، وهي تنبع أصلاً من صحة المعتقد، وكمال التوحيد لله - عز وجل -، وحول هذه الصفة والوصول إليها يقول الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى -: » لا يجتمع الإخلاص في القلب ومحبة المدح والثناء والطمع فيما عند الناس إلا كما يجتمع الماء والنار «.
6- إخفاء الأعمال الصالحة وكراهة الظهور:
إن من علامة صدق العبد فيما يعمله لله - عز وجل - حرصه على إخفاء عمله وكراهة اطلاع الناس عليه، كما أن كراهة الشهرة والظهور علامة من علامات الصدق الذي يبعد صاحبه عن الرياء والسمعة والتصنع للخلق، فكلما كان العبد صادقاً مع ربه - عز وجل - كلما كان حريصاً على إخفاء أعماله حيث لا يطلع عليها إلا الله - عز وجل -، الذي يسمع ويرى ويجازي على الحسنة بعشر أمثالها، وإن حياة سلفنا الصالح مليئة بهذه النماذج الوضيئة نذكر منها ما يلي:
* عن أبي حمزة الثمالي قال: كان علي بن الحسين يحمل جراب الخبز على ظهره بالليل فيتصدق به ويقول: (إن صدقة السر تطفئ غضب الرب - عز وجل -) [8].
* وقال عبد الله بن المبارك عن مبارك بن فضالة عن الحسن قال: إن كان الرجل لقد جمع القرآن وما يشعر به الناس، وإن كان الرجل لقد فقه الفقه وما يشعر به الناس، وإن كان الرجل ليصلي الصلاة الطويلة في بيته وعنده الزور وما يشعرون به.
7- الشعور بالتقصير والانشغال بإصلاح النفس ونقدها أكثر من الآخرين:
إن من أخطر ما على النفوس أن ينشغل العبد بغيره بالنقد والتقويم وينسى نفسه والتفتيش عن عيوبها، وهذا للأسف كثير عندنا في زماننا هذا، وإن من علامات صدق العبد مع ربه ومع نفسه أن ينشغل بنفسه وإصلاحها وتقويمها أكثر مما يعطيه لغيرها، وإذا وجدت هذه الصفة نتج عنها المحاسبة للنفس والتربية والتزكية لها، كما ينتج عن ذلك أيضاً احتقار النفس في ذات الله - عز وجل - والنظر
إليها بالتقصير في جنب الله، وبالتالي تنتفي صفات العجب والغرور والاعتداد بالنفس، وعلى هذا فلا يجتمع الصدق والعجب في قلب مؤمن أبداً، كما إن هذه الصفة تطهر القلب من الحقد على المسلمين، وتصيّد أخطائهم وعثراتهم والتفكه بذلك في المجالس بحجة الدعوة وبيان الأخطاء والتحذير منها.
8- الاهتمام بأمر هذا الدين والجهاد في سبيل الله - عز وجل -:(/5)
إن الصدق في محبة الله - عز وجل - ومحبة دينه تقتضي أن يكون أمر هذا الدين هو شغل المؤمن الشاغل، حيث لا يقر له قرار، ولا يهدأ له بال وهو يرى دين الله - عز وجل - ينتهك ويقصى من الحياة، وبالتالي يرى الفساد المستطير يدب في أديان الناس ودمائهم وأعراضهم وعقولهم وأموالهم. إن المؤمن الصادق لا يقدّم على هذا الهم الأكبر أي اهتمام من أمور الدنيا الفانية، ولكن إلى الله نشكو حالنا، وضعف إيماننا وركوننا إلى دنيانا حيث إننا إذا رجعنا إلى قلوبنا وما هي الاهتمامات التي تملؤها، لم نجد عند أكثرنا ويا للأسف إلا اهتمامات دنيوية بحتة هي التي تحتل الأرقام الأولِى في تفكيرنا، فمنا من همه الأول منصب يحصل عليه، أو شهادة يستلمها ليعيش بها، ومنا من همه زوجته وأولاده أو تجارته وأمواله...الخ.هذه الاهتمامات الفانية، ثم إن كان هناك فضول تفكير واهتمامات جاء أمر هذا الدين والدعوة إليه بعد الاهتمامات السابقة، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على ضعف الصدق عندنا في الدعوة إلى الله - عز وجل - والجهاد في سبيله،
يقول الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى -: (وأي دين وأي خير فيمن يرى محارم الله تنتهك وحدوده تضاع ودينه يترك وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - يرغب عنها، وهو بارد القلب، ساكت اللسان، شيطان أخرس كما أن المتكلم بالباطل شيطان ناطق).
9- التميز:
إن التميز في حياة المؤمن أمر ضروري جداً خاصة في عصور الغربة، وإن المسلم الصادق يُعرف بتميزه وإصراره على دينه بين الناس، فيعرف بصحة معتقده عند فساد المعتقدات، وبالتزامه بالسنة عند فشوا المبتدعات، وبصدق إيمانه إذا فشا الكذب والنفاق، وبعبادته إذا الناس يلهون ويلعبون، وبأخلاقه إذا هدرت الأخلاق وضيعت.
هذه بعض صفات الغرباء الذين قال فيهم الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((طوبى للغرباء أناس صالحون في أناس سوء كثير من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم)) [9].
10- قبول الحق والتسليم له:
إن من علامات الصدق لدى المسلم إذعانه للحق وقبوله من أي أحد كان فالصادق لا تراه إلا باحثاً عن الحق الذي يتعبد به لربه - عز وجل - ويقربه إلى مولاه، وإذا بان له الدليل ولا ح له الحق فرح به ووجد فيه بغيته، ولا يرده أبداً سواء أكان قائله صغيراً أو كبيراً، أكان عدواً أو صديقاً، وإذا وجدت هذه الصفة الكريمة عند المسلم، وصارت من عاداته وأخلاقه فإنها تنفي كثيراً من الصفات الذميمة مثل الكبر والاستعلاء والتعصب للآراء والتحزب للأشخاص والهيئات، كما أنها تورث المحبة والألفة بين أهل العلم والدين، وتورث الاجتماع والائتلاف وتنفي الفرقة والاختلاف، كما أن قبول الحق والتمسك به يقتضي القول به والدعوة إليه دون لبس أو تردد، فالصادق لا تراه إلا صادعاً بالحق لا يخاف في الله لومة لائم، ولا يجامل ولا يداهن.
هذه بعض صفات الصادقين.. والله نسأل أن يجعلنا من الصادقين قولاً وفعلاً.. والله المستعان.
---------------------
[1] إحياء علوم الدين 4/533.
[2] البخاري 9/171.
[3] صحيح مسلم، المقدمة.
[4] متفق عليه.
[5] رواه أحمد 1/201، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة ح1/637.
[6] هذا الحديث قواه ابن كثير لتعدد طرقه 2/176.
[7] رواه الإمام أحمد، ج2 9187.
[8] صفة الصفوة 3/61.
[9] رواه الإمام أحمد، وأورده الألباني في صحيح الجامع الصغير رقم 3921.
26/12/1425 هـ
الرسالة الأولى إلى علماء الأمة وطلاب العلم فيها:
أوصي نفسي وإياكم بما أوصى به ربنا - عز وجل - عباده المؤمنين: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)) (التوبة: 119).
يا علماءنا الإجلاء: يا من تعقد عليهم الأمة أملها بعد الله - سبحانه - في إنقاذها مما هي فيه من جهل ومحن وبلاء ((اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)) وإن من لوازم الصدق مع الله - سبحانه وتعالى - ومع عباده المؤمنين، الحذر الشديد من الدنيا وزينتها وزخرفها، فلا أضر على العالم منها، ولذا كان سلفنا الصالح يحذرونها أشد الحذر، فبارك الله في علمهم وعملهم، وأصلح الله بهم ما فسد.
أيها العلماء الأجلاء: إن أمتنا الإسلامية تمر في هذا الزمان بمحن شديدة وهي تنتظر كلمتكم، فإذا سكتم فمن لعقيدة الأمة التي يسعى الأعداء لإفسادها ومن لدماء الأمة التي تسفك وتستباح يوماً بعد يوم، ومن لأعراض الأمة وأخلاقها التي تنتهك باسم الحرية والتقدم والتحضر، ومن لأموال الأمة واقتصادها الذي تسري فيه نار الربا والبيوع المحرمة؟
ودعاؤنا إلى الله - عز وجل - أن تلتحم صفوف المصلحين في هذه الأمة من علمائها ودعاتها ومجاهديها وقادتها ليكونوا يداً واحدة في الإصلاح والدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، راجياً أن تقبلوا هذا التذكير ولو صدر من ابنكم الصغير.(/6)
ولكم في سيرة الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله - قدوة حسنة، فقد استفاد في محنته من أعرابي عامي...ذكر الذهبي في السير: قال أحمد بن حنبل: ما سمعت كلمة منذ وقعت في هذا الأمر يعني محنته أقوى من كلمة أعرابي كلمني بها في رجعة طوق، قال: يا أحمد، إن يقتلك الحق مُت شهيداً، وإن عشت عشت حميداً، فقَوى قلبي) [1].
الرسالة الثانية إلى دعاة الأمة ومجاهديها:
أوصي نفسي وإياكم بما أوصى به الله - سبحانه - عباده المؤمنين: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)) [التوبة: 119].
وإن من لوازم الصدق ومقتضياته أن تكون الدعوة إلى الله - عز وجل - والجهاد في سبيله لأجل الله - عز وجل - وابتغاء مرضاته، فلا تكون لأجل مال أو منصب أو جاه أو كسب شهرة أو التعصب لشيخ أو حزب أو طائفة، لأن كل ذلك ذاهب وضائع وممحوق البركة في الدنيا والآخرة، فحري بنا أن نحاسب أنفسنا ونحن في طريق الدعوة والجهاد في سبيل الله، ونتبين مدى صدقنا في دعوتنا إلى الله - سبحانه -، وهل هي خالصة لله وحده أم يشوبها ما يشوبها من أعراض الدنيا الفانية.. ؟!
وإن من لوازم الصدق في الدعوة إلى الله - سبحانه - أن يبادر الداعية إلى تصديق قوله وما يدعو إليه بفعله، وأن لا يقول بلسانه ما ليس في قلبه، أو يرغب في فعل ولا ينوي القيام به، أو يظهر للناس حرقة وغيرة على هذا الدين والأمر لا يتعدى شقشقة اللسان، والقلب مشحون بأمر الدنيا وشهواتها وغارق في وديانها، إن كل ذلك مما ينافي الصدق في الدعوة إلى الله - عز وجل -.
مع أهمية سلامة قلب الداعية من الغل والحقد والحسد على إخوانه الآخرين من الدعاة، وإنما يُكنّ المحبة لكل مصلح يدعو إلى الخير، ويتعاون معه في طاعة الله - عز وجل -، ولا يحتقر جهده مهما قل، ولا تراه إلا حريصاً وساعياً إلى اجتماع الكلمة ووحدة الصف، فالداعية الصادق يكره الفرقة والاختلاف إذا لم يكن في أصول الدين وكلياته، والدعاة الصادقون يرحم بعضهم بعضاً، ويرفق بعضهم ببعض، ويتناصحون فيما بينهم.
كما إن الصدق مع الله - سبحانه - في الدعوة والجهاد يفرض على المسلم أن يكون على بصيرة فيما يدعو إليه ويجاهد من أجله، وهذا يلزم التفقه في الدين والتبصرة فيه بما قال الله - عز وجل - وقال رسوله - صلى الله عليه وسلم - وفهمه الصحابة الكرام - رضي الله عنهم -.
وإن من لوازم الصدق في الدعوة إلى الله - سبحانه -، الحذر من كيد الأعداء المتربصين بهذا الدين وأهله من الكافرين والمنافقين، وبخاصة في زماننا هذا الذي تنوعت فيه أساليب المكر والخبث، فحري بالداعية الصادق أن يتفطن لدسائس الأعداء ودجلهم ونفاقهم ولو ألبسوا ذلك كله لبوس الحكمة والمصلحة إن التنازل اليسير من الداعية إلى الله - سبحانه - لا يقف عند حد، بل يتبعه تنازلات وتنازلات، لأن أعداء هذا الدين لا يكتفون بالقليل من الداعية وقد حذر الله - سبحانه - نبيه - صلى الله عليه وسلم - من هذا الخطر فقال: ((فلا تُطِعِ المكذبين * وَدُّوا لو تُدْهِنُ فَيُدْهِنُون)) [القلم: 8-9]، والحقيقة التي ينبغي أن يعيش فيها أصحاب الدعوة إلى الله هي هذه الحقيقة التي لقنها الله لصاحب الدعوة الأولى - صلى الله عليه وسلم - وهي أن التكليف بهذه الدعوة تنزل من عند الله فهو صاحبها، وأن الحق الذي تنزلت به لا يمكن مزجه بالباطل الذي يدعو إليه الآثمون الكفار، فلا سبيل إلى التعاون بين حقها وباطلهم، أو الالتقاء في منتصف الطريق بين القائم على الحق والقائمين على الباطل، فهما منهجان مختلفان وطريقان لا يلتقيان، فأما حين يغلبه الباطل بقوته وجمعه على قلة المؤمنين وضعفهم، لحكمة قضاها الله فالصبر حينئذ حتى يأتي الله بحكمه والاستمداد من الله والاستعانة بالدعاء والتسبيح، وهما الزاد المضمون لهذا الطريق.
إنها حقيقة كبيرة لا بد أن يدركها ويعيش فيها رواد هذا الطريق فالمحاولات كثيرة التي حاول المشركون مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها المساومة على الدعوة، ولكن الله عصم منها رسوله، وهي محاولات الطغاة مع أصحاب الدعوات دائماً، محاولة إغرائهم لينحرفوا ولو قليلاً عن استقامة الدعوة وصلابتها، ويرضوا بالحل الوسط الذي يغرونهم به في مقابل مغانم كثيرة، ومن جملة الدعاة من يفتن بهذا عن دعوته لأنه يرى الأمر هيناً، فأولئك لا يطلبون منه أن يترك دعوته كلياً، إنما يطلبون تعديلات طفيفة ليلتقي الطرفان في منتصف الطريق.
ومن لوازم الصدق في الدعوة أن يحذر الداعية من الكذب على إخوانه المسلمين والدعاة المصلحين، ومن ذلك إشاعة الأخبار قبل التحقق من صحتها واستخدام الأساليب الملتوية والمراوغات بحجة السياسة والمصلحة.. كل هذا لا يتفق وصدق الداعية وسلامة قلبه.(/7)
ومن لوازم الصدق في الدعوة إلى الله - سبحانه - أن يعتني كل مسلم منا بنفسه بالوسائل الشرعية للتربية، وذلك في وسط بيئة صالحة معروفة بصحة الفهم وحسن القصد، يتربى معها، ويعد نفسه للتضحية في سبيل الله - عز وجل - وبذل المال والنفس في ذلك، وأن يوطن نفسه لابتلاءات الطريق ومشاقه، التي هي سنة من سنن الله - عز وجل - لتمحيص الصفوف، قال - تعالى -: ((ألم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ)) [العنكبوت: 1-3].
فلا يتبين الصادق في دعوته من الكاذب إلا بالابتلاء نسأل الله - عز وجل - العافية والصبر عند البلاء.
إن الداعية الذي يهمل نفسه فلا يربيها ويعدها للبيع على الله - عز وجل - يوشك أن ينهزم وتخذله نفسه عند أول هزة وأول اختبار، مع أنه يحب لنفسه غير ذلك مما يعيشه في حال الرخاء والأمن من الحماس العاطفي والكلام الذي لا يجاوز التراقي.
يقول سيد قطب - رحمه الله -: (إن العقيدة وطريقها لشاقة بعيدة، تتقاصر دونها الهمم الساقطة والعزائم الضعيفة، إن تكاليف العقيدة هو جهد خطر، تجزع منه الأرواح الهزيلة والقلوب الخاوية، ولكنه الأفق الذي تتخاذل دونه النفوس الصغيرة والبيئة الهزيلة، قال - تعالى -: ((لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ)) [التوبة: 42] [2].
وإنني بهذه المناسبة أوصي نفسي وإخواني الدعاة والمجاهدين أن لا نتكلم في أمر، أو نقدم على موقف من مواقف الدعوة حتى تتوفر فيه الشروط التالية:
1- الاطمئنان التام أنه الحق الذي يحبه الله - تعالى -، وإعداد النفس لتحمل تبعاته.
2- الاطمئنان التام على أن القيام في هذا الأمر هو لله - سبحانه - وحده وابتغاء مرضاته.
3- الاستعانة بالله وحده في تحقيق هذا الأمر والثبات عليه إذ لا قدرة للعبد لحظة واحدة بدون عون الله وتوفيقه.
إذن يا إخواني الدعاة: إن الأمر جد ليس بالهزل.
قد هيؤوك الأمر لو فطنت له فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل
الرسالة الثالثة إلى المربين في هذه الأمة:
أوصي نفسي وإياكم بما أوصى به الله - سبحانه - عباده المؤمنين: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)) [التوبة: 119].
أيها المربون: إن التربية لها معنى أوسع من التعليم وتلقين المعلومات فالتربية هي الجهد الذي يبذله المربون في كل مجتمع من آباء ومعلمين وغيرهم في إنشاء الأجيال القادمة على أساس العقيدة التي يؤمنون بها، ومنحهم الفرصة الكافية لتشرب معاني الدين والتضحية من أجله والاعتزاز به بين الأمم فالأمة الجادة هي التي تربي أبناءها طبقاً للعقيدة التي تدين بها لله - تعالى -، وتسعى لنشرها بين الأمم، حتى لا تكون فتنة، ويكون الدين كله لله - تعالى -، وهذه مهمة المربين في هذه الأمة فما أثقلها من تبعة، وما أشرفها من رسالة.
ومن لوازم الصدق أيها المربون الكرام أن تصدقوا مع من ولاكم الله تربيتهم وتعليمهم، وذلك بتعليمهم الخير، وربطهم بأبطال هذه الأمة ورعيلها الأول، وتحذيرهم من الشر وأهله، وتبصيرهم سبيل المجرمين وأفكارهم الخبيثة وتفنيدها والتحذير منها.
ومن لوازم الصدق في التربية إعداد المناهج الكريمة المستمدة من الكتاب والسنة، وفهم الصحابة وفقه الواقع الذي تعيشه الأمة، فعلى المسؤولين عن مناهج التعليم في المجتمعات المسلمة أمانة عظيمة وتبعة ثقيلة، فليصدقوا مع الله - عز وجل - في أمة محمد ص وأبنائها، فلا يختاروا إلا ما فيه الخير والإصلاح وتنشئة الأجيال على العقيدة الحقة والأخلاق السامية، وأن يردوا ويسقطوا كل ما من شأنه إفساد العقيدة والأخلاق والأفكار والهمم، فنحن أمة ذات رسالة عظيمة خالدة ينبغي للناشئة أن يدركوا رسالة أمتهم، وأنها خير أمة أخرجت للناس.
أيها المربون من آباء ومعلمين: إن الله - سبحانه - سائلكم عما استرعاكم فأعدوا للسؤال جواباً: ((وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ)) [البقرة: 281].
تذكروا أثر العمل الطيب، والسنة الحسنة حين تسري في الأمة وينتشر الخير بسببها، فتنالوا أجر ذلك عن كل من تأثر به، والعكس بالعكس والعياذ بالله تذكروا أثر العمل السيء والسنة السيئة حين تسري في أبناء الأمة ويتربون عليها فستنالوا وزر ذلك ووزر من تأثر به نعيذكم بالله من هذا المآل، وهذا مصداق قوله - صلى الله عليه وسلم - » من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها « [3].(/8)
ومن لوازم الصدق في التربية: أن يربط الأبناء والطلاب في حياتهم بالأهداف العالية النبيلة، ولا يربطون بالتوافه من الأمور والأهداف الهابطة لأن النظرة السائدة اليوم في أكثر بيوت المسلمين ومدارسهم: أن طلب العلم قد ربط بالمصلحة الدنيوية، وأنها وسيلة للعيش ولا يوجد في جو المنزل أو جو المدرسة إلا من رحم الله من يقول للمتربي إن لك أمة تنتظرك، وأن لك دوراً ينتظرك في الدعوة إلى التوحيد وهداية الناس بإذن الله - تعالى -والجهاد في سبيله - عز وجل - والذود عن حمى الأمة وعقيدتها، إن هذا النوع من التربية قليل، فعلى المربين الصادقين مع ربهم - سبحانه - أن يحيوا هذه المعاني عند إخوانهم المربين ويصبغوا بها المناهج المعدة لذلك، وينشروها في صفوف أبنائهم وطلابهم حتى يخرج جيل قوي متماسك يشعر بانتمائه لهذا الدين، ويشعر بمسؤوليته ليتولى هو بدوره إكمال الطريق، وتربية الأجيال التي تأتي بعد ذلك.
وبقيت كلمة أخيرة أوصي بها نفسي وإخواني الآباء، ألا وهي الصدق مع الله - سبحانه - في جعل البيت محضناً من محاضن التربية الكريمة للأبناء والبنات والإخوان والأخوات والزوجات، وذلك بعمارته بذكر الله - عز وجل - ووجود القدوة الصالحة، وتطهيره من أسباب الرجس والفساد، فكلكم راع ومسؤول عن رعيته.. إن العجب كل العجب من أناس أنعم الله عليهم بنعمة الأموال والأولاد، ثم هم يخربون بيوتهم بأيديهم ويلقون بأنفسهم وأهليهم إلى النار، والله - تعالى - يقول: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ)) [التحريم: 6].
إن أحدنا لو رأى ابنه أو ابنته أو أخاه أو أخته أو زوجته يتعرض أحدهم لهلاك في الدنيا بحريق أو غرق أو سقوط من شاهق، لهب مسرعاً لإنقاذه وإن لم يكن قريباً منه صاح به محذراً من السقوط في المهلكة، وإن الله - سبحانه - يحذرنا من نار تلظّى لا تأتي نار الدنيا عندها إلا جزءاً من سبعين جزء منها ومع ذلك لا يتحرك الكثير منا في إنقاذ نفسه وأهله منها: ((قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ)) [التوبة: 81].
الرسالة الرابعة إلى الإعلاميين في هذه الأمة:
أوصي نفسي وإياكم بما أوصى به عباده المؤمنين - سبحانه - عز من قائل: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)) [التوبة: 119].
أيها المؤمنون من إعلاميي هذه الأمة: إني أخاطب فيكم عقيدتكم الإسلامية، التي تحملونها بين جوانحكم التي تحدد هويتكم بين بني البشر وترفع رؤوسكم بين بني الإنسان، أخاطب فيكم غيرتكم الإسلامية ومروءتكم العربية، وأخلاقكم العريقة التي تميز المسلم عن غيره، أخاطب فيكم الأمانة العظيمة التي حملكم الله إياها من خلال مسؤولياتكم الخطيرة التي تتولونها أخاطب فيكم المسؤولية التي أناطتها الأمة بكم لتربوا أبناءها على الإيمان الصادق والعفة والطهارة والعزة والكرامة.
أيها الإعلاميون المؤتمنون على عقيدة الأمة وأخلاقها: اصدقوا مع ربكم - سبحانه - في الوفاء بما عهد إليكم: ((وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً)) [الإسراء: 34]، ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)) [الأنفال: 27].
واصدقوا مع أمتكم المسلمة التي أمنتكم دينها وأعراضها وعقولها وأفكارها، فلا تخونوا أمتكم، وكونوا عند حسن ظنها بكم.
إن إعلام أي أمة يعبر عن عقيدتها وهويتها، وإذا أردنا أخذ صورة سريعة عن أي أمة أو مجتمع، فلننظر إلى إذاعتها وتلفازها وصحفها وما ينشر فيها فإن ذلك يدلنا على ما يقوم عليه هذا المجتمع من عقيدة وأخلاق.
إن لكل أمة هوية، فأين هويتنا الإسلامية في كثير من إعلام دولنا؟ !
إن الإسلام ليس كلمة فحسب، ليس عقيدة مستكنة في القلب فحسب بل الإسلام هو الاستسلام لله - عز وجل - وحده في جميع شؤون الحياة، قال - تعالى -: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً)) [البقرة: 208].
هذا هو الإسلام الذي جاء من عند الله - عز وجل -، وإن الناظر في إعلام المجتمعات المسلمة اليوم ليرى ازدواجية وانحرافاً، وهذا يعني أحد أمرين:
1- أن يكون هناك جهل بحقيقة هذا الدين، وأنه بالإمكان أن يكون المرء مسلماً بقلبه ولسانه فقط ثم يفعل بعد ذلك ما يشاء ويعمل ما يحلو له أن يعمل مادام أنه ينطق الشهادتين، فالهوية التي يحملها هي الإسلام وهذه عقيدة المرجئة التي أفسدت في الأرض ودخل من خلالها العلمانيون الذين يفصلون الدين عن الحياة، ويجعلونه عقيدة مستكنة في الضمير وبين جدران المساجد فحسب!(/9)
2- أو أن حقيقة الدين ومفهومه الواسع واضحة في أذهان القوم، ولكنهم آثروا الحياة الدنيا ومناصبها وزخرفها على مرضاة الله - سبحانه وتعالى - والدار الآخرة، فاشتروا الحياة الدنيا الفانية بالدار الآخرة الباقية فما أشد خسارتهم وأكسد تجارتهم، ألا ذلك هو الخسران المبين.
ثم ماذا سيكون جوابك إذا حاكمتك الأمة بأسرها على ما قدمت لها من كلمة مسموعة أو مرئية أو مقروءة يوم تكون سبباً في إضلال أبنائها، أناشدك بما معك من الإيمان بالله واليوم الآخر أن لا تغفل عن هذا اليوم الرهيب، فو الله إنه لقريب: ((وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ * يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ)) [الشورى: 18].
وبعد: هذا ما يسر الله - سبحانه - كتابته حول هذا الموضوع، عسى الله أن ينفع به كاتبه وقارئه في الدنيا والآخرة. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
------------------------
[1] سير أعلام النبلاء 11/241.
[2] طريق الدعوة، ج1، ص 96.
[3] صحيح مسلم (كتاب الزكاة ح/1017 سيصدر هذا الموضوع بحلقاته السابقة مع زيادات في رسالة مستقلة إن شاء الله في الحلقة السادسة من دراسات تربوية في ضوء القران للكاتب.
26/12/1425 هـ
http://www.islamlight.net(/10)
نظرات حول الاشتراك في القنوات الإسلامية الفضائية
عابد الثبيتي 8/4/1424
08/06/2003
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين ، الذي فتح الله به أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً، فبلّغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين من ربه صلى الله عليه وعلى آله صحبه وسلم .
أما بعد :
فقد شاع على ألسنة الغيورين من أبناء هذه الصحوة المباركة وخاصة مع وجود أول قناة إسلامية كرّست جهودها في تقديم إعلام خالٍ من المحاذير الشرعية، سؤال مهم هو : ما حكم الاشتراك في مثل هذه القناة ، خاصة وأنها تجري المقابلات مع بعض طلبة العلم الذين منحهم الله جمال الصورة، وعذوبة المنطق ، فينظر إليه النساء ، ويستمعن لحديثه ، وربما وقع في قلب إحداهن الميل له … وزاد من هذا الحذر ما تناقله الشباب بينهم من اتصال نساء على بعض الجمعيات التي تعنى بشئون الأسرة وتيسير الزواج مبديات رغبتهن في نكاح الشيخ الفلاني أو طالب العلم الفلاني …
والذي يتأمل هذا التخوّف يجده يظهر على صورة أسئلة تطرح بينهم ولا يجدون لها جوابا ً ، ويمكن إيجازها فيما يلي :
ما حكم نظر المرأة إلى الرجل الأجنبي ، ما حكم الاشتراك في مثل هذه القنوات والحالة هذه ، ما حكم خروج طلبة العلم ممن هم على تلك الحال في مثل هذه القنوات ؟
ومن هنا عنّ لي أن أبحث ما ورد في شرعنا المطهر فيما يتعلق بالإجابة على هذه الأسئلة ، متوخياً الصواب قدر الإمكان، فلا أتكلّف منع شيء لم يمنعه الشرع ، ولا آذن في شيء قد منعه ، راجياً الصواب والتوفيق والسداد من ربي . وقد بذلت جهدي في تسهيل عبارته ليفهمه العامة والخاصة فإن كان ما كتبته حقاً وصواباً فهو من الله وحده، وإن كان غير ذلك فمن نفسي والشيطان.
فأقول مستعيناً بالله :
المسألة الأولى : حكم نظر المرأة إلى الرجل الأجنبي .
لعل من المناسب قبل الخوض في هذه المسألة أن يحرر موضع السؤال، فإن نظر المرأة للرجل الأجنبي لا يخلو من حالين :
الحال الأولى : أن يكون نظر المرأة إلى ما بين السرة والركبة من الرجل ، بمعنى أن المرأة تنظر إلى عورة الرجل ، فهذا مما جاءت الشريعة بحسم مادة وبيان حكمه، فهذا النظر حرام بالاتفاق سواءً كان هذا النظر بشهوة أو بغير شهوة.
الحال الثاني : أن يكون نظر المرأة إلى ما فوق السرة وتحت الركبة من الرجل، وهذا النظر إما أن يكون بشهوة أو بغير شهوة. فإن كان هذا النظر بشهوة فهو حرام أيضاً قولاً واحداً ، وإن كان بلا شهوة فهو موطن السؤال وللجواب عليه يقال : إن من يجمع النصوص المتعلقة بنظر المرأة إلى الرجل من الكتاب والسنة يجدها متقابلة متعارضة فيما يظهر ، ولهذا صار محصلة آراء العلماء قولين متقابلين .
القول الأول : أن نظر المرأة إلى الرجل الأجنبي محرم مطلقاً سواءً كان النظر إليها بشهوة أو بغير شهوة .
واستدلوا على ذلك بدليلين :
الأول:قوله تعالى:( وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ )(1)فالأمر بغض البصر هنا عام في كل نظر سواءً كان بشهوة أو بغير شهوة .
الثاني : عن أم سلمة رضي الله عنها قالت : كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم وعنده ميمونة، فأقبل ابن أم مكتوم. وذلك بعد أن أمرنا بالحجاب ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "احتجبا منه" ، فقلنا يا رسول الله ! أليس أعمى لا يبصرنا ولا يعرفنا ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "أفعمياوان أنتما؟ ألستما تبصرانه!"(2).
القول الثاني : إن نظر المرأة للرجل جائز إذا كان بلا شهوة واستدلوا على ذلك بأدلة أشهرها ما يلي:
1ـ حديث فاطمة بنت قيس في أمر النبي صلى الله عليه وسلم لها بالعدة في بيت ابن أم مكتوم بقوله : (اعتدّي عند ابن أم مكتوم ، فإنه رجل أعمى ، تضعين ثيابك…)(3).
وهذا أمر صريح لها بالسكنى عند ابن أم مكتوم، فلو كان النظر إلى الرجل حراماً لأمرها بغض بصرها عنه عقب أمره لها بالسكنى عنده ، وهذه الحادثة في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم بعد فتح مكة بدليل سؤالها للنبي صلى الله عليه وسلم بعد انقضاء عدتها واستشارتها له في نكاح رجال خطبوها منهم معاوية بن أبي سفيان ، ومعاوية رضي الله عنه من مسلمة الفتح .
2ـ عن عائشة رضي الله عنها قالت : "لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً على باب حجرتي والحبشة يلعبون في المسجد، ورسول الله يسترني بردائه أنظر إلى لعبهم"(4).
وهذا الإذن من النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة فيه دليل على أن النظر إلى الرجال بلا شهوة غير محرم .
مناقشة القائلين بالتحريم والمنع :(/1)
ويمكن مناقشة أدلة القائلين بالمنع بأن قوله تعالى :(وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن) عام والأحاديث التي تبيح النظر إلى الرجال خاصة ، والعام إذا خص فلا يعمل به وإنما يعمل بالدليل المخصص فلا حجة في ذلك ، ويبقى عمل الآية فيما بقي على عمومه مما أمر النساء بكف البصر عنه . وقد قال ابن سعدي في معناها : (وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن) عن النظر إلى العورات والرجال بشهوة ونحو ذلك(5).
وأمَّا حديث أم سلمة فيمكن الجواب عنه بما يلي :
1ـ أن الحديث مختلف في صحته لان فيه راوٍ مجهول، وهو نبهان مولى أم سلمة لم يوثقه إلاَّ ابن حبّان كعادته في توثيق المجاهيل،وقد ضعف هذا الحديث الألباني،(6)وشعيب الأرناؤوط(7).
2ـ على فرض صحته فلعل الأمر لهن بالاحتجاب منه لكونه أعمى فربما كان منه شيء ينكشف وهو لا يشعر به(8)، أو أنه من باب الاستحباب والندب لا الوجوب .
3ـ أن هذا الحديث على فرض صحته خاص بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم قال أبو داود بعد روايته لهذا الحديث : (هذا لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم خاصة ، ألا ترى اعتداد فاطمة بنت قيس عند ابن أم مكتوم .. ) .
مناقشة القائلين بالجواز :
وجّه إلى الدليل الأول وهو حديث فاطمة بنت قيس بأنها يمكن أن تساكنه وتغض بصرها عنه ، ولا يخفى بعده .
وأمّا حديث عائشة فقالوا أنها كانت وقتئذٍ صغيرة لم تبلغ بدليل قولها : "فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن" . وأجيب عليه بأن الروايات الأخرى تذكر أن ذلك بعد قدوم وفد الحبشة ، ووفد الحبشة كان في السنة السابعة من الهجرة فيكون عمر عائشة حينئذٍ ست عشرة سنة ، فكانت بالغاً(9).
الترجيح :
الذي يظهر والله أعلم أن نظر المرأة إلى ما يظهر غالبا من الرجل الأجنبي جائز إذا كان بلا شهوة، ومن مسوغات هذا الترجيح ما يلي :
1ـ أن الآية عامة، ولا يمكن بقاؤها على عمومها لوجود المعارض الصحيح القوي الا بترك العمل بالمعارض ، أو تعسف تأويله تعسفاً متكلفاً .
2ـ قوة أدلة القائلين بالجواز وجميعها في الصحيحين أو في أحدهما ، فلا يقف في وجهها حديث أم سلمة المختلف في صحته، وعلى فرض صحته فإنه مؤول عند العلماء تأويلات مقبولة .
3ـ تناسب هذا القول مع الآية الكريمة : (وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن) فإن النساء أمرن بحفظ فروجهن عقب الأمر بغض البصر لأنه وسيلة إليه ، فيلمس من هذا أن البصر المأمور بحفظه ما كان بشهوة قد تؤدي إلى عدم حفظ الفرج .
4ـ ما رواه البخاري أن امرأة من خثعم وضيئة جاءت تسأل النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع والفضل بن عباس رديفه فطفق ينظر إليها وتنظر إليه ، فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم والفضل ينظر إليها ، فأخلف بيده فأخذ بذقن الفضل ، فعدل وجهه عن النظر إليها(10).
فالنبي عليه الصلاة والسلام لم يأمر المرأة بغض بصرها ، وإنما صرف نظر الفضل لما رأى من الريبة في نظره ، ولأنه مأمور بغض بصره عن النساء مطلقاً بشهوة أو بغير شهوة .
4ـ ما فهمه البخاري رحمه الله مع إمامته في الحديث والفقه، فترجم لحديث عائشة رضي الله عنها ونظرها للحبشة بقوله : باب نظر المرأة إلى الحبش ونحوهم من غير ريبة(11).
المسألة الثانية:حكم الاشتراك في هذه القنوات مع احتمال حصول هذه المفسدة.
وللجواب عن هذا يقال :
إن هذه القنوات تندرج تحت أحكام الوسائل في الشريعة الإسلامية ، فهي وسيلة إلى دعوة الناس ، وتعليمهم الخير في زمن تطوّر فيه إعلام الباطل ليعرض الفجور ، والخلاعة ، والشرك ، والبدعة بأنواعها على المسلمين ، وحتى أوجز الحديث عن هذا أورد ما سطره يراع ابن القيم رحمه الله تعالى في تقسيم الوسائل وبيان أحكامها ثم نصنّف هذه المسألة التي نحن بصددها وندرجها تحت قسمها التي هي منه ونعطيها حكمه .
فالأقوال والأفعال المتوصل بها إلى المفسدة ، سواءً كانت محضة أو راجحة أو مرجوحة لا تخلو من أربعة أقسام هي :
1ـ ما كانت وسيلة موضوعة للإفضاء إلى المفسدة ، كالزنا المؤدي إلى اختلاط الأنساب وفساد الفرش ، فهذا منعته الشريعة إما كراهةً أو تحريماً، بحسب درجاته في المفسدة .
2ـ ما كانت وسيلة موضوعة للمباح قصد بها التوسل إلى المفسدة، مثل : عقد البيع بقصد الحصول على الربا ، وعقد النكاح بقصد التحليل، فهذا أيضاً ممنوع في الشريعة لأن للوسائل أحكام المقاصد .
3ـ ما كانت وسيلة موضوعة للمباح ، ولم يقصد بها التوسل إلى المفسدة لكنها مفضية إليها غالباً ، ومفسدتها أرجح من مصلحتها، مثل : سب آلهة المشركين بين ظهرانيهم ، فهذا أيضاً منعته الشريعة لأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح. وقد استدل ابن القيم على المنع في هذين القسمين بتسعةٍ وتسعين دليلاً .
4ـ ما كانت وسيلة موضوعة للمباح وقد تفضي إلى المفسدة ومصلحتها أرجح من مفسدتها، ككلمة الحق عند سلطان جائر ونحو ذلك ، فالشريعة جاءت بإباحة هذا القسم ، أو استحبابه ، أو إيجابه بحسب درجاته في المصلحة(12).(/2)
فإذا أردنا أن نوازن بين المصلحة المرجوّة من هذه القنوات الفضائية الإسلامية والمفسدة المتوقعة من وراء ذلك نقول : إن فيها من المصالح التي هي مطلوبة شرعاً ،كتعليم العقيدة الصحيحة ، ونشر العلم والفقه ، وطرح الحلول الشرعية لمشاكل الناس المعاصرة، وتوجيه الرأي العام المسلم إلى المواقف الصحيحة من المستجدات العالمية، وتكوين الشعور المسلم الممثل بالجسد الواحد وإشغال أوقات الناس على أقل الأحوال بالمباحات عن المحرمات .. وفيها من المفاسد ما يتوقع حدوثه من نظر النساء إلى الرجال بشهوة ، أو انشغال الناس بمشاهدة هذه القنوات عن بعض الأمور المهمة في حياتهم .
وبعد هذه الموازنة يظهر أن المصالح المرجوّة من مثل هذه القنوات أعظم من المفاسد المتوقعة لندرتها ، وعدم إمكانية الجزم بوقوعها ، فهي داخلة تحت القسم الرابع من أقسام الوسائل التي عدّها ابن القيم رحمه الله ، فالاشتراك فيها مباح لمن رغب في ذلك ، وقد يكون مستحباً أو واجباً إذا كان فيه صرف للناس عن مشاهدة غيرها مما يشتمل على المحرمات ، كالغناء والموسيقى ، أو صور النساء ، أو ما هو أعظم ضرراً كنشر البدع ، والطعن في الدين ونحوه . ولا يعني الحكم بإباحة الاشتراك في هذه القنوات أن يشترك كل مسلم فيها بل هي كأحد أنواع الفواكه مباح ولا يلزم من إباحته أن يأكله كل أحد ،
تنبيه :
إن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها وتقليل المفاسد وتعطيلها. وهنا لابد من توجيه نداء إلى القائمين على هذه القنوات الإسلامية بسدّ باب الذريعة إلى الفساد ، وذلك بعدم استضافة من يرون فيه فتنة للنساء، والاستغناء عنه بغيره من العلماء وطلبة العلم ، فإن ذلك من السياسة الشرعية المفضية إلى إصلاح المسلمين . وعلى طلبة العلم ممن يعلم أن النظر إليه قد يورث تشبب النساء به ألاّ يخرج عليهن ، والحمد لله أن القنوات الفضائية ليست السبيل الوحيد للدعوة وتبليغ الناس الخير ، فيتخير من وسائل الدعوة ما يكون أقرب إلى تحقيق المراد من الدعوة بلا مفسدة ، فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما كان يمشي بالمدينة فسمع امرأة تتغنى بشاب من أهل المدينة اسمه : نصر بن حجاج دعى به فوجده شاباً حسناً ، فحلق رأسه فازداد جمالاً ، فنفاه إلى البصرة، لئلا تفتتن به النساء، مع أنه لا ذنب له في ذلك، وما كان هذا إلاّ سدّاً لباب
الذريعة، وحسماً لمادته(13) والله أعلم .
وفي الختام ..
هذا ما تيسر جمعه وتحبيره راجياً من الله التوفيق والصواب ، ثم أرجو من العلماء وطلبة العلم تصويب الخطأ ، والعفو عن الزلل ، فإنما الخير أردت..
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
1-سورة النور ، آية 31.
2 - أخرجه أبو داود برقم (4112) ، والترمذي برقم (2878) ، وأحمد (6/296) .
3 - أخرجه مسلم برقم (1480) .
4- أخرجه البخاري برقم (454) ، ومسلم برقم (892) .
5- تفسير السعدي (ص566) .
6- إرواء الغليل (6/211) .
7-حاشية شرح السنة للبغوي (4/24) .
8- انظر فتح الباري (9/248).
9 - رواه البخاري برقم (1513) .
10 - رواه البخاري
11-فتح الباري (9/248) .
12- إعلام الموقعين (3/136) .
13-ينظر:مجموع الفتاوى (28/370،371) ، السياسة الشرعية (1/119) ، الطرق الحكمية(1/22)(/3)
نظرات خائنة - الداء والدواء
دار الوطن
الحمد لله ذي الجلال والإكرام، والصلاة والسلام على محمد خير الأنام، وعلى اله وأصحابه البررة الكرام.. ما بعد:
أخي المسلم:
اعلم أن إطلاق البصر سبب لأعظم الفتن، فكم فسد بسبب النظر من عابد، وكم انتكس بسببه من شباب وفتيات كانوا طائعين، وكم وقع بسببه أناس في الزنى والفاحشة والعياذ بالله.
فالعين مرآة القلب، فإذا غض العبد بصره غض القلب شهوته وإرادته، وإذا أطلق العبد بصره أطلق القلب. شهوته وإرادته، ونقش فيه صور تلك المبصرات، فيشغله ذلك عن الفكر فيما ينفعه في الدار الآخرة.
وما كان إطلاق البصر سببا لوقوع الهوى في القلب أمر الشارع بغض البصر عما يخاف عواقبه، فقال تعالى: قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون، وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن... [النور:30-31].
النظر وخطورته
قال الإمام ابن القيم: أمر الله تعالى نبيه أن يأمر المؤمنين بغض أبصارهم وحفظ فروجهم، وأن يعلمهم أنه مشاهد لأعمالهم مطلع عليها: يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور [غافر:19]، ولما كان مبدأ ذلك من قبل البصر جعل الأمر بغضه مقدما على حفظ الفرج، فإن كل الحوادث مبدؤها من النظر، كما أن معظم النار من مستصغر الشرر، تكون نظرة.. ثم خطرة.. ثم خطوة.. ثم خطيئة، ولهذا قيل: من حفظ هذه ا لأربعة أحرز دينه: اللحظات، والخطرات، واللفظات، وا لخطو ات.
قال: والنظر أصل عامة الحوادث التي تصيب الإنسان، فإن النظرة تولد الخطرة، ثم تولد الخطرة فكرة، ثم تولد الفكرة شهوة، ثم تولد الشهوة إرادة، ثم تقوى فتصير عزيمة جازمة، فيقع الفعل ولابد ما لم يمنع مانع، ولهذا قيل: الصبر على غض البصر أيسر من الصبر على ألم ما بعده.
كل الحوادث مبدأها من النظر *** ومعظم النار من مستصغر الشرر
كم نظرة فتكت في قلب صاحبها *** فتك السهام بلاقوس ولاوتر
والعبد ما دام ذا عين يقلبها *** في أعين الغيد موقوف على الخطر
يسر مقلته ما ضر مهجته *** لا مرحبا بسرور عاد بالضرر
أحاديث وأثار في فتنة النظر
1- قال النبي : { ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء } [متفق عليه].
2- وقال : {... فاتقوا. الدنيا واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء } [رواه مسلم].
3- وعن جرير بن عبدالله قال: { سألت رسول الله صلى عليه وسلم عن نظرة الفجاءة فأمرني أن أصرف بصري } [رواه مسلم]. وعند أبي داود أنه قال له. { اصرف بصرك }.
4- وقال عليه الصلاة والسلام. { يا علي، لا تتبع النظرة النظرة؟ فإن لك الأولى، وليست لك الآخرة } [رواه الترمذي وأبو داود وحسنه الألباني].
5- وقال : { العينان تزنيان، وزناهما النظر } [متفق عليه].
أخي الحبيب:
وكان السلف الصالح يبالغون في غض البصر؟ حذر أمن فتنته، وخوفا من الوقوع في عقوبته.
قال ابن مسعود رضى الله عنه: ما كان من نظرة فان للشيطان فيها مطمعا.
وكان الربيع بن خثيم رحمه الله يغض بصره، فمر به نسوة، فأطرق - أي أمال رأسه إلى صدره - حتى ظن النسوة أنه أعمى، فتعوذن بالله من العمى!!
قال ابن عباس رضي الله عنهما: الشيطان من الرجل في ثلاثة منازل: في بصره، وقلبه، وذكره، وهو من المرأة في ثلاثة منازل: في بصرها، وقلبها، وعجزها.
قال في قوله تعالى: يعلم خائنة الأعين [غافر:19]، قال: الرجل يكون في القوم فتمر بهم المرأة، فيريهم أنه يغض بصره عنها، فإن رأى منهم غفلة نظر إليها، فإن خاف أن يفطنوا إليه غض بصره، وقد اطلع الله عز وجل من قلبه أنه يود لو نظر إلى عورتها!!
وقال عيسى ابن مريم: النظر يزرع في القلب الشهوة، وكفى بها خطيئة.
وقال معروف: غضوا أبصاركم ولو عن شاة أنثى!!
وقال و النون: اللحظات تورث الحسرات؟ أولها أسف، واخرها تلف، فمن طاوع طرفه تابع حتفه.
وخرج حسان بن أبي سنان يوم عيد، فلما عاد قالت له امرأته: كم من امرأة حسناء قد رأيت؟ فقال: والله ما نظرت إلا في إبهامي منذ خرجت من عندك إلى أن رجعت إليك!
وقال أحمد بن حنبل: كم نظرة ألقت في قلب صاحبها البلابل!!
يا من رأى سقمي يزيد *** وعلتي تعي طبيبي
لا تعجبن فهكذا *** تجني العيون على القلوب
حكم النظر للنساء
قال الحافظ أبو بكر بن حبيب العامري: إن الذي أجمعت عليه الأمة، واتفق على تحريمه علماء السلف والخلف من الفقهاء والأئمة؟ هو نظر الأجانب من الرجال والنساء بعضهم إلى بعض - وهم من ليس بينهم رحم من النسب، ولا محرم من سبب كالرضاع وغيره - فهؤلاء حرام نظر بعضهم إلى بعض... فالنظر والخلوة محرم على هؤلاء عند كافة المسلمين.
{ ولما نظر الفضل بن عباس إلى امرأة حول النبي وجهه إلى الشق الآخر } [رواه أبو داود].
قال ابن القيم: وهذا منع وإنكار بالفعل، فلو كان النظر جائزا لأقره عليه.
سد الذرائع إلى النظر
أخي الحبيب:(/1)
سد النبي كل ذريعة تفضي إلى تعمد النظر إلى النساء؟ حرصا منه على سلامة القلوب ونقاء النفوس واستقامة المجتمع المسلم على تقوى الله ومخافته. لي من ذلك:
1- أنه نهى النساء إذا صلين مع الرجال أن يرفعن رءوسهن قبل الرجال؟ لئلا يكون ذريعة منهن إلى رؤية عورات الرجال من وراء الأزر.
2- أنه نهى المرأة إذا خرجت إلى المسجد أن تتطيب أو أن تصيب بخورا، وذلك لأنه ذريعة إلى ميل الرجال وتشوقهم إليها، فإن رائحتها وزينتها وصورتها وإبداء محاسنها تدعو إليها، فأمرها أن تخرج تفلة ولا تتطيب.
3- أنه لم يجعل لها وسط الطريق عند المشي حتى لا يراها كل أحد، بل جعل لها حافات الطريق وجوانبه.
4- أنه نهى أن تنعت المرأة المرأة لزوجها حتى كأنه ينظر إليها، سدا للذريعة، وحماية عن مفسدة وقوعها في قلبه وميله إليها بحضور صورتها في نفسه.
5- أنه نهى عن الجلوس في الطرقات، وما ذاك إلا لأنه ذريعة إلى النظر المحرم، فلما أخبروه أنه لابد لهم من ذلك قال: { أعطوا الطريق حقه، قالوا: وما حقه؟ قال: غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام } [متفق عليه].
6- أن الله سبحانه نهى النساء عن الضرب بأرجلهن عند السير سدا لذريعة النظر، حتى لا ينظر الرجال إلى ما يخفين من الزينة والجمال، قال سبحانه: ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن [النور:31].
عقوبات النظر إلى المحرمات
أخي المسلم:
اعلم أن النظر إلى المحرمات يورث الحسرات والزفرات، والألم الشديد، فيرى العبد ما ليس قادرا عليه ولا صابرا عنه، وهذا من أعظم العذاب كما قيل:
يا راميا بسهام اللحظ مجتهدا *** أنت القتيل بما ترمي فلا تصب
وباعث الطرف يرتاد الشفاء له *** احبس رسولك لا يأتيك بالعطب
فمن عقوبات النظر إلى المحرمات:
1- فساد القلب: فالنظرة تفعل في القلب ما يفعل السهم في الرمية، فإن لم تقتله جرحته، فهي بمنزلة الشرارة من النار ترمى في الحشيش اليابس، فإن لم تحرقه كله أحرقت بعضه.
2- نسيان العلم: فقد نسي أحد العباد القرآن بسبب نظرة إلى غلام نصراني!!
3- نزول البلاء: قال عمرو بن مرة: نظرت إلى امرأة فأعجبتني فكف بصري، فأرجو أن يكون ذلك جزائي.
4- إبطال الطاعات: فعن حذيفة قال: من تأمل خلق امرأة من وراء الثياب فقد أبطل صومه!!
5- الغفلة عن الله والدار الآخرة: فإن القلب إذا شغل بالمحرمات أورثه ذلك كسلا عن ذكر الله وملازمة الطاعات.
6- إهدار الشارع عين من تعمد النظر في بيوت الناس متجسسا: فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : { الو اطلع أحد في بيتك ولم تأذن له، فخذفته بحصاة ففقأت عينه، ما كان عليك جناح } [متفق عليه].
فوائد غض البصر
أخي المسلم:
وفي غض البصر فوائد عديدة ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله منها عشر فوائد وهي:
1- تخليص القلب من ألم الحسرة، فإن من أطلق نظره دامت حسرته.
2- أنه يورث القلب نورا وإشراقا يظهر في العين وفي الوجه وفي الجوارح، كما أن إطلاق البصر يورثه ظلمة تظهر في وجهه وجوارحه.
3- أنه يورث صحة الفراسة، فإنها من النور وثمراته، قال شجاع الكرماني: من عمر ظاهره باتباع السنة، وباطنه بدوام المراقبة، وغض بصره عن المحارم، وكف نفسه عن الشهوات، وأكل من الحلال- لم تخطئ فراسته.
4- أنه يفتح له طرق العلم وأبوابه، ويسهل عليه أسبابه، وذلك بسبب نور القلب، فإنه إذا استنار ظهرت فيه حقائق المعلومات، ومن أرسل بصره تكدر عليه قلبه وأظلم.
شكوت إلى وكيع سوء *** حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي
وأخبرني بأن العلم نور *** ونور الله لا يهدي العاصي
5- أنه يورث قوة القلب وثباته وشجاعته، قال بعض الشيوخ: الناس يطلبون العز بأبواب الملوك، ولا يجدونه إلا في طاعة الله.
6- أنه يورث القلب سرورا وفرحة وانشراحا أعظم من اللذة والسرور الحاصل بالنظر، فلذة العفة أعظم من لذة الذنب.
7- أنه يخلص القلب من أسر الشهوة، فإن الأسير هو أسير شهوته وهواه، ومتى أسرت الشهوة والهوى القلب تمكن منه عدوه، وسامه سوء العذاب وصار:
كعصفورة في كف طفل يسومها *** حياض الردى والطفل يلهو ويلعب
8- أنه يسد عن العبد بابا من أبواب جهنم، فإن النظر باب الشهوة الحاملة على مواقعة الفاحشة، فمتى غض بصره سلم من الوقوع في الفاحشة، ومتى أطلقه كان هلاكه أقرب.
9- أنه يقوي العقل ويزيده ويثبته، فإن إطلاق البصر وإرساله لا يحصل إلا من خفة العقل وطيشه وعدم ملاحظته للعواقب كما قيل:
وأعقل الناس من لم يرتكب سببا *** حتى يفكر ما تجني عواقبه
10- أنه يخلص القلب من ذكر الشهوة ورقدة الغفلة، فإن إطلاق البصر يوجب استحكام الغفلة عن الله والدار والآخرة، ويوقع في سكرة العشق.
ويزاد على ما ذكره ابن القيم:
11- أنه يورث محبة الله، قال الحسن بن مجاهد: غض البصر عن محارم الله يورث حب الله.
12- أنه يورث الحكمة، قال أبو الحسين الوراق: من غض بصره عن محرم أورثه الله بذلك حكمة على لسانه، يهدى بها سامعوه.(/2)
13- أنه يفرغ القلب للتفكر في مصالحه والاشتغال بما ينجيه يوم القيامة.
جاهد نفسك لحظة
قال ابن الجوزي: فتفهم يا أخي ما أوصيك به، إنما بصرك نعمة من الله عليك، فلا تعصه بنعمه، وعامله بغضه عن الحرام تربح، واحذر أن تكون العقوبة سلب تلك النعمة، وكل زمن الجهاد في الغض لحظة، فإن فعلت نلت الخير الجزيل، وسلمت من الشر الطويل.
التوبة والنظر
قال أبو بكر المروزي : قلت لأبي عبدالله أحمد بن حنبل: رجل تاب وقال: لو ضرب ظهري بالسياط ما دخلت في معصية الله، إلا أنه لا يدع النظر؟! فقال: أي توبة هذه! قال جرير: { سألت رسول الله عن نظرة الفجاءة، فقال: "اصرف بصرك " } [رواه مسلم وأبو داود].
أسباب إطلاق البصر
أخي المسلم:
إن إطلاق البصر له أسباب كنيرة جدا يصعب حصرها، ومن أهمها:
1- اتباع الهوى وطاعة الشيطان.
2- الجهل بعواقب النظر، وأنه يؤدي إلى الزنى، وربما أدى إلى الردة عن الإسلام، فقد ورد أن رجلا نظر إلى نصرانية فعشقها، فلم ترض منه إلا بالبراءة من الإسلام، فارتد ودخل في النصرانية!!
3- الاتكال على عفو الله ومغفرته، ونسيان أن الله شديد العقاب.
4- مشاهدة الأفلام والمسلسلات والبرامج والصور الفاتنة التي تتبرج فيها النساء عن طريق القنوات الفضائية أو المجلات الخليعة.
5- العزوف عن الزواج، فقد قال : { يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج؟ فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج...} [متفق عليه].
6- كثرة التواجد في الأماكن التي يختلط فيها الرجال بالنساء كالأسواق مثلا. قال العلاء بن زياد: لا تتبع بصرك رداء امرأة، فإن النظرة تجعل في القلب شهوة.
7- وجود لذة كاذبة يشعر بها الناظر في نفسه، وهي أثر من آثار الغفلة عن الله وقلة تعظيمه في القلب، إذ لو كان معظما لله عز وجل لما فرح بمعصيته.
8- تبرج النساء في الشوارع والأسواق، وتعمد بعضهن إظهار الجمال والزينة، مما يدعو ضعاف النفوس إلى النظر إليهن.
9- تشجيع بعض النساء لذلك بتعمد نظرهن إلى الرجال، فيجرئنهم على مبادلتهن النظرات.
10- كثرة التعامل مع النساء سواء أكان في بيع أو شراء أو عمل أو غيره.
أسباب غض البصر
أخي الكريم:
ولغض البصر أسباب كثيرة كذلك نذكر منها:
1- تقوى الله عز وجل والخوف من عقابه.
2- التخلص من جميع الأسباب التي ذكرنا أنها تؤدي إلى إطلاق البصر.
3- معرفة أن إطلاق البصر يؤدي إلى الأسف والحسرة، قال الحسن: من أطلق طرفه طال أسفه.
4- معرفة أن النظر زنا العينين، ويكفيه في ذلك قبحا.
5- دفع الخواطر والوساوس قبل أن تصير عزما ثم تنتقل إلى مرحلة الفعل، فمن غض بصره عند أول نظرة سلم من آفات لا تحصى، فإذا كرر النظر فلا يأمن أن يزرع في قلبه زرع يصعب قلعه.
6- القيام بحقيقة الشكر، فإن من تمام شكر النعمة ألا يعصى الله عز وجل بها. والبصر من نعم الله تعالى على العبد.
7- الصوم؟ وهو سبب قوي في غض البصر بعد الزواج.
8- تأمل ما يستقبح من شأن النساء، فإنهن يتفلن ويبلن ويتغوطن وتصيبهن الروائح الكريهة، وفي ذلك قال ابن مسعود رضي الله عنه: "إذا أعجبت أحدكم امرأة فليذكر مناتنها!!".
لو فكر العاشق في منتهى *** حسن الذي يسبيه لم يسبه!
9- التسلي بما أحله الله عز وجل من الشهوة المباحة، فعن جابر أن رسول الله رأى امرأة فأعجبته، فأتى زينب فقضى منها حاجته وقال: { إن المرأة تقبل في صورة شيطان، وتدبر في صورة شيطان، فإذا رأى أحدكم امرأة فأعجبته فليأت أهله، فإن ذلك يرد ما في نفسه } [رواه مسلم].
قال النووي: معنى الحديث أن المرأة تذكر بالهوى والفتنة والشهوة لما جعل الله تعالى في نفوس الرجال من الميل إليهن والالتذاذ بالنظر إليهن، ولذا فإنه ينبغي لها ألا تخرج بين الرجال إلا لضرورة، وكذا فإنه ينبغي للرجل الغض عنها وعن ثيابها، والإعراض عنها مطلقا" شرح صحيح مسلم للنووي،.
10- الدعاء والاستعانة بالله عز وجل وسؤاله النجاة من هذه الفتنة، فقد كان يقول: { اللهم إني أعوذ بك من شر سمعي، ومن شر بصري، ومن شر لساني، ومن شر قلبي } [رواه أبو داود وصححه.الألباني].
11- الخوف من سوء الخاتمة والتأسف عند الموت.
12- صحبة الأخيار وترك صحبة الأشرار، فإن الطبع يسرق من خصال المخالطين، والمرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(/3)
نظرات في آراء.. وفتاوي
أ.د/
جابر قميحة
komeha@menanet.net
لقد صدق حجة الإسلام أبو حامد الغزالي إذ قال في كتابه «إحياء علوم الدين»: «إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هما القطب الأعظم في الدين, وهو المهمُّ الذي ابتعث الله له النبيين أجمعين. ولو طُويَ بساطه, وأُهمل علمه وعمله, لتعطلت النبوة, واضمحلت الديانة, واستشري الفساد, واتسع الخرق, وخربت البلاد, وهلك العباد..»
ومن هنا كتب الله الخيرية -أو الأفضلية- لأمة المسلمين (كنتم خير أمة أخرجت للناس, تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله) [آل عمران: 110].
وعلي هذا الأساس تقوم الوحدة والأخوة الصادقة والولاء الحقيقي (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر, ويقيمون الصلاة) [التوبة: 71].
دعوة الحق: تواصل وخلود
والانسلاخ من هذه الدعوة -قولاً وعملاً- يعني المروق من الإسلام الذي وصفه الله بـ(الحق) في عشرات من الآيات منها:
- (هو الذي أرسل رسوله بالهدي ودين الحق, ليظهره علي الدين كله, ولو كره المشركون) [التوبة: 33].
- (وبالحق أنزلناه وبالحق نزل, وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا) [الإسراء: 105].
- (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله, ولا تكن للخائنين خصيما) [النساء: 105].
- (يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم, فآمنوا خيرا لكم وإن تكفروا فإن لله ما في السموات والأرض وكان الله عليما حكيما) [النساء: 170].
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر موجه للمسلمين جميعًا: حكامهم, ومحكوميهم, خاصتهم وعامتهم, كل في مجاله بقدر استطاعته: اعتناقا وأداء, قولا وفعلا, حماية ودفاعًا. والمعروف أن العلماء هم ورثة الأنبياء, وبقدر علمهم تثقل مهمتهم, ويخشون الله حق خشيته (.. إنما يخشي الله من عباده العلماء إن الله عزيز غفور) [فاطر: 28] . والخشية هنا لا يكفيها الجانب الاعتقادي, والشعور النفسي, ولكنها -زيادة علي ذلك, وزيادة علي التأمل والاتعاظ والاعتبار- تأخذ صورتها العملية التطبيقية في أخذ النفس بالطاعات, واجتناب المحرمات, والأمر بالمعروف, والنهي عن المنكر, والدفاع عن دين الحق, ومواجهة أعدائه بكل ما يملك العالم من وسائل, وقدرات وإمكانات.
صور وضيئة من الماضي
وفي تاريخنا كثير من العلماء الشامخين الذين لا تأخذهم ولا ترهبهم في الله لومة لائم, ولا يحرصون علي إرضاء حاكم, أو الحصول علي مغنم دنيوي. وفي هذا السياق نذكر ما حدث في عهد الخديوي إسماعيل (1830- 1895م), فقد توالت الهزائم علي الجيش المصري في الحبشة, فأشار عليه «شريف باشا» بأن يقوم شيخ الأزهر (الشيخ العروسي) بجمع علماء أطهار لقراءة صحيح البخاري في الأزهر بصفة دائمة, وقد كان, ولكن الهزائم ظلت تتوالي علي الجيش المصري, فصرخ فيهم الخديوي قائلاً: «إما أن الذي تقرءون ليس صحيح البخاري, وإما أنكم لستم علماء صالحين تُدفع بهم المحن».
ولكن شيخًا من آخر الصف نهض, وقال بأعلي صوته: «بل أنت السبب يا إسماعيل» فإنا روينا عن النبي -صلي الله عليه وسلم- أنه قال: «لتأمرُنّ بالمعروف, ولتنهوُن عن المنكر, أو ليسلطن الله عليكم شراركم, فيدعو خياركم, فلا يستجاب لهم» . ودار بين الخديوي والعالم الحوار التالي:
- وماذا فعلنا حتي ينزل بنا هذا البلاء?
- يا أفندينا.. المحاكم المختلطة تبيح الربا بقانون, والزنا مباح برخصة, والخمر كذلك مباح... و.... و.... فكيف تنتظر النصر من السماء?
- وماذا نصنع, وقد عاشرنا الأجانب, وهذه مدنيتهم?
- إذًا ما ذنب البخاري? وما حيلة العلماء?
ففكر الخديوي مليًا, وأطرق طويلاً, وهو يردد: صدقت.. صدقت.
وإليكم.. الإمام النووي
دفعتني هذه الصورة الشريفة النبيلة لعالم مصري من المجاهيل في مواجهة الخديوي إسماعيل, إلي تذكر موقف محيي بن شرف الدين النووي الذي وقف في وجه الظاهر بيبرس (الذي حكم من سنة 658- 676هـ) (1260- 1277م) وقد طلب منه التوقيع علي فتوي بقية الفقهاء بجواز أخذ السلطان مالا (ضريبة) من الرعية تعينه علي قتال التتار, وهو سائر إلي قتالهم في الشام.
رفض الشيخ في قوة وإصرار, وقال للسلطان الخارج بجيشه للجهاد في سبيل الله: «أنا أعلم أنك كنت في الرق (عبدًا) للأمير «بندقدار», وليس لك مال, ثم منَّ الله عليك, وجعلك ملكًا, وعندك ألف مملوك, كل منهم له حياصة (حزام الدابة) من الذهب, وعندك مائتا جارية, لكل جارية حُقّ (علبة) من الحلي, فإذا أنفقت هذا كله, أفتيك بأخذ المال من الرعية».(/1)
آه..!! ماذا كان الإمام النووي يقوله لو بُعث حيًا في «مصرنا المحروسة», وهو يري «الخديوي» فاروق حسني -وزير الثقافة- ينفق من أموال الشعب مائة وسبعين مليون جنيه في ليلة واحدة.. ليلة استهلال الألفية الثالثة? وماذا يقول وهو يري الحفلات الباذخة التي تكلفت عشرات الملايين بمناسبة اليوبيل الفضي «للميمونة» -أي ثورة 1952-? وماذا يقول في أحد المحافظين ذلك الذي -كما يُروي- كلف حجرة مكتبه في محافظته ثمانية ملايين من الجنيهات? وماذا يقول في التبذير الجنوني في الإنفاق علي البرامج الإعلامية المستنقعية الساقطة? واستراحات الكبار? وفلل القادة وقصورهم? والرحلات الخارجية, والمليارات المنهوبة من البنوك والشركات, في شعب يعاني الفقر والمرض والجهل, والبطالة, والعنوسة, وفيه من أهل القاهرة ثلاثة ملايين من «الأحياء» يعيشون في المقابر??!!
آراء وفتاوي.. «مضروبة»
وإذا كان العلماء هم ورثة الأنبياء, فإنما هم العلماء الذين آثروا الآجلة علي العاجلة.. وقصدوا بآرائهم وفتاواهم وجه الله, ومصلحة الدين والمجتمع.. دونما خوف أو طمع.. وإذا كانت الأشياء تتميز بأضدادها, فمن حق القارئ علينا أن نورد صورًا من آراء وفتاوي أعتبرها شاذة, خارجة متمردة علي القيم والفكر السديد. وأنبه هنا إلي أننا لا نقصد بنقدنا «القائل» بل نقصد «المقول» بصرف النظر عن شخصية صاحب الرأي أو الفتوي, وبصرف النظر عن موقعه الوظيفي.
في أهرام الجمعة 9/8/2002 يسأل صحفي «الشيخ سيد طنطاوي» عن: رأي الدين في إقامة التماثيل للزعماء, وخصوصًا الزعماء المصريين الثلاثة عبد الناصر والسادات ومبارك? فكان نص إجابته: «إقامة التماثيل للزعماء عادة لبعض الأمم, وقد يكون الأفضل لتكريمهم أن توجه المبالغ التي تنفق عليها لإنشاء مؤسسات خيرية تحمل أسماء هؤلاء الزعماء. وإن كانت إقامة تماثيل لهم لا تؤدي إلي ما يمس العقيدة من إخلاص العبادة لله وحده, فلا بأس من إقامتها ولا حرمة في ذلك كلون من ألوان تكريم هؤلاء الزعماء الذين أدوا خدمات جليلة لأمتهم» لأن رؤية تماثيل هؤلاء الزعماء في كل وقت قد تؤدي إلي الاقتداء بهم في أن يؤدي كل إنسان رسالته بأمانة واستقامة وشرف».
ويسأله الصحفي: وهل إقامة التماثيل بهذا المعني الطيب لا تكون إلا بعد الرحيل? وكانت إجابة الشيخ: مع أن هذا الذي جري عليه العرف, إلا أنه لا فرق بين أن تقام هذه التماثيل للزعماء وهم في حياتهم, وبين أن تقام بعد فراقهم» فالعبرة بما تنطوي عليه من حكمة».
وفي إيجاز شديد أناقش هذا الرأي -أو الفتوي- الطنطاوية في النقاط الآتية:
1- التمثال الواحد يتكلف قرابة 15 مليون جنيه. ألا يعد هذا سفهًا وتبذيرًا في أمة الفقر والمرض والضياع?
2- أخطأ الشيخ إذ جعل استبدال المشروعات الخيرية بإقامة التماثيل من قبيل التفضيل «أو الأولوية» مع أنه فرض وواجب.
3- وهل عرف الأمم الأخري يُلزمنا -نحن المسلمين- وأنت تعلم أن من الأعراف ما هو صالح وفاسد?!
4- كيف تبيح -يا شيخ سيد- إقامة التماثيل في حياة أصحابها, ألا تعلم أن «المعاصرة حجاب»? وهل ننسف التمثال إذا تحول صاحبه إلي عميل أو لص أو خائن?
5- وهل النظر إلي تمثال الزعيم يدفع إلي الاقتداء به في أعماله الطيبة الرائعة ? ألا يمكن أن يقوم العكس, ويبصق المواطنون علي تمثال حاكم ظالم مستبد تأخر بمسيرة الوطن ?
6- وإذا كان الشيخ مقتنعًا بفتواه هذه فلماذا لا يتبني دعوة لإقامة تماثيل للأفذاذ الأحياء, ومنهم طبعًا شيوخ علي رأسهم فضيلته?
**************
... والشيخ الدكتور سيد طنطاوي -الذي يشغل وظيفة شيخ الأزهر- له تفسير ضخم يمكن أن يفيد منه تلاميذ المرحلة الإعدادية بالمعاهد الأزهرية, والتعليم العام, كما أن له مقالات أسبوعية في الأهرام وأخبار اليوم عن حديث القرآن عن الجريمة والعقاب, وحديثه عن النفاق والمنافقين, وأشهد أنها تتمتع بسطحية لا يستطيع أن يباريه فيها أحد. ويعلم اللّه أنني ما قرأت له كلمة, ولا سمعت منه عبارة في الإذاعة, وما رأيته «مفرودًا» في القنوات التلفازية المحلية والفضائية, إلا وترحمت علي كل شيوخ الأزهر السابقين. وهو ترحّم مشفوع بدعوة أوجهها إلي اللّه, ثم إلي كبار علماء المسلمين أن يكون اختيار شيخ الأزهر «بالانتخاب» لا التعيين.
وقد رأينا كيف أباح الشيخ إقامة التماثيل في الشوارع والميادين للزعماء, مع أنها تكلف الدولة -بل الشعب- مئات الملايين من الجنيهات, وهو الشعب الذي يسكن الملايين منه علي أسطح المقابر وينخر فيه المرض والفقر, ومشكلات لا تحصي ولا تعد.
أوّليَّات للشيخ لا تُنسي(/2)
وللشيخ أوليات سباقة يكاد ينفرد بها: فلا ننسي له أنه أباح للحكومة الفرنسية «إرغام الطالبات المسلمات علي خلع الحجاب في المدارس» لأن هذا -علي حد قوله- شأن خاص بهم... ومن حقهم أن يأخذوا الجميع بقانونهم الداخلي». وأعطي «ساركوزي» وزير الداخلية الفرنسي حق نزع الحجاب عن المسلمات. وهو أول -وربما الوحيد- الذي وصف المسلمين بأنهم أمة من «الرعاع», ومعني الرعاع -لغة: الغوغاء والسفلة والأوغاد والأنذال والساقطين. وهو وصف كان يتردد علي ألسنة النازيين في العهد الهتلري, وكذلك الصهاينة في أدبهم كما جاء علي لسان الشاعرة الإسرائيلية «آنا نجريتو», و«عاموس عوز» في قصته «البدو الرحل والثعبان» وكذلك «س.يزهار» في قصته «خربة جزعة», وفي أمريكا وأوروبا يصفونهم بأنهم «MOB» وهي تعطي المعني نفسه.
والشيخ طنطاوي هو أول من قام -بل الوحيد الذي قام- من بضع سنين بمذبحة علماء الأزهر الأجلاء, فمنهم من فُصل, ومنهم من قضي نحبه وهو حزين, ومنهم من شُرد وترك مصر, ومنهم من صدرت عليه أحكام بالسجن, أو غرامات, وتعويضات تقدر بعشرات الألوف من الجنيهات. وذنب هؤلاء أنهم عارضوا بعض آراء «الشيخ الأكبر». وحرم طلاب الأزهر من علمهم الغزير الجليل.
ويبيح ويشجع ربا البنوك
عجيب واللّه أمر هذا الشيخ: ففي العشرين من فبراير سنة 989 -وكان هو مفتي مصر- أصدر فتوي صريحة جدًا بتحريم ربا البنوك (الفائدة), جاء فيها: «.... وأجمع المسلمون علي تحريم الربا... لما كان ذلك, وكان إيداع الأموال في البنوك, أو إقراضها, أو الاقتراض منها -بأي صورة من الصور- مقابل فائدة محددة مقدما زمنا ومقدارا يعتبر قرضا بفائدة, وكل قرض بفائدة محددة مقدما حرام.. كانت تلك الفوائد التي تعود علي السائل داخلة في نطاق ربا الزيادة المحرم شرعًا بمقتضي النصوص الشرعية..».
وبعد ذلك بقرابة سبعة أشهر تقريبًا, وبالتحديد يوم 8 من سبتمبر 1989 أصدر فتوي ينقض فيها فتواه السابقة, ويقول فيها إنه لا مانع من التعامل مع البنوك أو المصارف التي تحدد الربح مقدما, ثم فصّل فتواه هذه بعد ذلك في كتاب بعنوان «معاملات البنوك وأحكامها الشرعية» فأي الطنطاويين نصدق: طنطاوي فبراير 1989, أم طنطاوي سبتمر «المعدل» في السنة نفسها?
ومن عجب أن يتخذ الشيخ من سلوكه الشخصي دليلا علي صحة فتواه الأخيرة, وتأييدا لها: فمن عام وبضعة أشهر نراه -في حلقة تلفازية- يقول لمضيفه -وهو صحفي اسمه كرم جبر- في سياق تحليله لربا البنوك: «.. أنا كنت أستاذ في السعودية, أقبض في الشهر 17 ألف ريال.... كنت باخذ المبالغ دي وأحطها في البنك, ويدخل لي منها «ريع» كبير باكل منه لحد الوقتي. اللّه!! رزٍج (يقصد رزق) ربنا بعتٍهولي أرفضه?!! وكأني بالشيخ قد نسي قوله تعالي «وكلوا مما رزقكم اللّه حلالاً طيبًا واتقوا اللّه الذي أنتم به مؤمنون» [المائدة: 88] ونسي قوله تعالي: «يأيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا اللّه إن كنتم إياه تعبدون» [البقرة: 172]. ونسي قول رسول اللّه صلي اللّه عليه وسلم: «إن اللّه طيب لا يقبل إلا طيبًا», وأن اللّه أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين, فقال تعالي: «يأيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحًا» [المؤمنون: 51], وقال تعالي: «يأيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم» [البقرة 172].
ثم كان الاحتجاج الطريّ
يعرف المسلمون جميعًا.. بل العالم كله أن بعض الصحف الدنماركية قد نشرت رسوما كاريكاتيرية تسخر من رسولنا صلي اللّه عليه وسلم. والتقي شيخ الأزهر «بيارن سورتش» سفير الدنمارك بالقاهرة. وتحدث إليه حديثًا رقيقًا طريًا مؤداه «أنه يرفض الإساءة إلي النبي محمد صلي اللّه عليه وسلم لأنه فارق الحياة -أي مات- ومن ثم لايستطيع الدفاع عن نفسه, ويجب عدم الإساءة إلي الأموات بصفة عامة سواء أكانوا من الأنبياء أو المصلحين, أو غيرهم الذين فارقوا الحياة الدنيا».
ولم يكن ينقص الشيخ سيد استكمالاً لحديثه أو تبريره هذا الطري إلا أن يقول للسفير ومن الأقوال الحكيمة: اذكروا محاسن موتاكم. والضرب في الميت حرام».
لقد ساوي الشيخ بين الرسول صلي اللّه عليه وسلم والآخرين, من المصلحين وغيرهم, وهذه سقطة, قد لا يستغربها كثيرون منه. وكنا نتمني أن يكون في إباء الدكتور علي جمعة وشموخه الإسلامي وهو يقول للسفير الدنماركي: «إنه لا يمكن القول إننا نرفض الإساءة للرسول صلي اللّه عليه وسلم لأنه مات وفارق الحياة, لأن الرسول لايزال حيًا في نفوس جميع المسلمين, ولم يمت, ونقتدي به كمسلمين في حياتنا اليومية».
ويحتج رئيس الوزراء الدنماركي, وكبار المسئولين, بأن محمدًا ليس مقصودًا لذاته, وأن حرية الفكر والرأي والتعبير حق لكل مواطن في الدنمارك دون قيد أو حرج.(/3)
ولكن هناك سرًا خطيرًا يجهله الشيخ طنطاوي ومن دار في فلكه وهو أن ما حدث لا علاقة له بحرية فكر أو تعبير» لأن هذه السخرية قُصد بها نبينا, ولا سابقة لها مع غيره, وهو ما كشفته صحيفة «البوليتكن» -كبري الصحف الدنماركية- من أن صحيفة «يولاندس بوستن» التي عرضت الصور الساخرة من النبي محمد صلي اللّه عليه وسلم.. هذه الصحيفة رفضت سنة 2003 نشر رسوم كاريكاتيرية عن النبي عيسي عليه السلام بحجة أنها تسيء للمسيحيين. فلما جوبه بهذه الحقيقة الصحفي «كارستن بوسته» الذي نشر الصور المسيئة لنبينا صلي اللّه عليه وسلم... كان جوابه أنه لا يتذكر هذا الأمر.
لتعلم إن لم تكن تعلم
وصدق الدكتور حمدي حسن المتحدث الإعلامي باسم الإخوان المسلمين بمجلس الشعب- إذ قال في طلب إحاطته: «...كان دفاع الشيخ طنطاوي مسيئا إلي النبي بأشد من الإساءة الدنماركية حيث برر ذلك بأنه «ميت» لا يستطيع الدفاع عن نفسه فلا تجوز مهاجمته».
وأذكّر الشيخ سيد بما جاء في كتاب الشفا للقاضي عياض: «وحرمة النبي صلي اللّه عليه وسلم, وتوقيره وتعظيمه بعد موته لازم كما كان حال حياته, وذلك عند ذكره, وذكر حديثه وسنته, وسماع اسمه وسيرته, ومعاملة آله وعترته (أهله)». وقال أبو إبراهيم التجيبي واجب علي كل مؤمن متي ذكره, أو ذكر: «عنده أن يخضع ويخشع, ويتوقره, ويسكن من حركته, ويأخذ في هيبته وإجلاله بما كان يأخذ به نفسه لو كان بين يديه, ويتأدب بما أدبنا اللّه به».
ويروي أن الخليفة العباسي «أبو جعفر المنصور» ناظر الإمام مالك بن أنس في مسجد رسول اللّه صلي اللّه عليه وسلم, فرفع صوته فغضب الإمام مالك وقال له: «لا ترفع صوتك هنا فإن اللّه أدب قوما فقال «لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي». ومدح قوما فقال «إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول اللّه أولئك الذين امتحن اللّّه قلوبهم للتقوي, لهم مغفرة وأجر عظيم». وذم قوما فقال «إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون» وإن حرمته ميتًا كحرمته حيًا».
ألا تتطلب رعاية هذه الحرمة -يا شيخ طنطاوي- أن ندافع عن رسولنا صلي اللّّه عليه وسلم في قوة وإصرار وشموخ بعيدًا عن الاستهانة والطراوة, متمثلين بقول حسان بن ثابت للمشركين:
فإن أبي ووالده وعرضي
لعِرْض محمد منكم وِقاء(/4)
نظرات في سورة البقرة (1/2)
... بقلم: عمر مناصرية
تهدف السورة إلى تبيان الطريق والمنهج والهدى الذي أنزله الله ليكون للعالمين جميعا، وهو منهج الأمة المؤمنة الأخيرة الخاتمة، والتشريعات التي أتى بها هذا المنهج، والتي ستحقق الخاتمية والإغلاق المحكم للنبوة، فلا أمة بعد هذه الأمة، ولا نبوة بعد نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
ولهذا فكل حديث السورة هو على مستوى الأمة، وما يرتبط بها من منهج وتشريع، ولا تذكر شخص الرسول، إلا قليلا، كما لا تذكر الأقوام الخالية، قوم نوح وعاد وثمود وقوم مدين، ولا العذاب الذي تهددهم، والنهايات التي آلوا إليها، كما لا تذكر الآيات الطبيعية، من نزول للماء من السماء، ومن إخراج للنبات من الأرض وغير ذلك، كما في سور أخرى كثيرة، لأنها تخاطب أمتين، أمة كانت لها خبرة كبيرة مع المنهج، وتجربة طويلة، وأمة ستنشأ على أنقاضها، وتتشكل على سقوطها، وهاتان الأمتان اللتان ستكونان في كل آيات السورة، هما اليهودية، والأمة الإسلامية الوليدة.
ولا بأس أن نذكر في معرض هذه المقدمة بين يدي السورة أن القرآن بدأ باليهودية في سورة البقرة، لأنها الأسبق مع المنهج، والأولى في التاريخ، فيريد القرآن أن يسترجعها بالنقد هي أولا، ليصحح انحرافها، وليرثها المؤمنون من بعد، وفي سورة آل عمران، ينتقل إلى النصرانية، ليستعيدها أيضا، وليرثها، وليصحح انحرافها كذلك.
________________________________________
لتأسيس المنهج، يمضي القرآن إلى عمق التاريخ، ومجاهل ما كان غائبا فيه، مما أخفته الأمم السابقة عنا، ليحفر فيه، وليستعيده واضحا مصححا، وليس ذلك فحسب، بل إنه يمضي إلى الإنسان الأول آدم، ليضع بداية المنهج معه، ولتكون تجربته، منطلق المنهج الأول وبداياته، وما سيأتي من بعد، هو تواصل لتلك البداية، وتفاعل لها على مستوى الحضارة.
________________________________________
فلتأسيس المنهج، يمضي القرآن إلى عمق التاريخ، ومجاهل ما كان غائبا فيه، مما أخفته الأمم السابقة عنا، ليحفر فيه، وليستعيده واضحا مصححا، وليس ذلك فحسب، بل إنه يمضي إلى الإنسان الأول آدم، ليضع بداية المنهج معه، ولتكون تجربته، منطلق المنهج الأول وبداياته، وما سيأتي من بعد، هو تواصل لتلك البداية، وتفاعل لها على مستوى الحضارة.
- مقدمات المنهج :
وللسورة مقدمة تتحدث عن المنهج الخاتم، باعتباره الطريق الصحيح، والسبيل الأقوم، وما عداه، محض عمى وافتراءات، وهذا المنهج مختصرا، متمثل في الإيمان بالغيب، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، والإيمان بالقرآن وبالكتب السابقة عنه، والإيمان بالآخرة، فشمول الإيمان لهذا الكتاب والكتب السابقة، وشموله أيضا للعبادات الظاهرة والإيمان بالغيبيات، يجعل هذا المنهج قويما وصراطه مستقيما،والسورة تبتدئ به، لتبينه كمقدمة لازمة، لأنها ستتحدث عنه، فيما بعد هذا كثيرا، وستشرحه بالتفصيل، وستنقد انحراف المناهج السابقة عنا، لتؤسسه أخيرا كمنهج واضح جلي، لا سبيل لنكرانه، ولا للوقوف في وجهه.
وتبين السورة بعد ذلك، هذا الحياد عن المنهج، بالحديث عن الكفار الذين لا يؤمنون به، سواء أنذرهم الرسول صلى الله عليه سلم أم لم ينذرهم، ثم تتحدث عن حال أناس آخرين مع المنهج، فهم يتخذونه هزوا، يتلاعبون به وهو الحق، ويستهزئون به وهو السواء، وسواء كانوا على هذه الحال أو تلك، فإن القرآن يضرب لهم مثلا عن موقفهم هذا، ليريهم صورتهم الحقيقية، وتخبطهم العشوائي، وعدم استقرارهم على حال، فيمثلهم بالذي يستوقد نارا في ليلة مظلمة، فإذا أضاءت ما حوله، ذهب الله بها، فذهب تعبه سدى، وبحثه أدراج الرياح، وهذا ليرينا الله أنه يدمر كل منهج ليس بالحق، وكل طريق غير سوي، بابتغاء مناهج خاطئة، وطرق غريبة، ثم يضرب لهم مثلا أقوى من سابقه، فيشبه حالهم وفوضاهم، بالعواصف في الليل، والتي يختلط فيها الرعد بالبرق، والأصوات بالأضواء، فهم يجعلون أصابهم في آذانهم مخافة الرعد، ويتيهون ذات اليمين وذات الشمال، معتمدين على بريق البرق، وهو بريق سريع الانقضاء، لا يمكن الاعتماد عليه للسير ليلا، ولا يمكن الاتكال عليه، واتخاذه هدى ومنهجا دائما. فشبه منهجهم وحالهم بالبرق سريع الاختفاء، الذي لا يلبث غير ثواني قليلة، فهم يمشون فقط عندما يضيء، ويتوقفون كلما انطفأ.” أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق، يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت والله محيط بالكافرين 19 يكاد البرق يخطف أبصارهم، كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا، ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم، إن الله على كل شيء قدير 20 “ .(/1)
وعند هذا الحد، يحيل القرآن إلى المنهج القويم، والصراط المستقيم، وهو عبادة الله وحده، وعدم اتخاذ أنداد له، والإيمان بالقرآن، وما أنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم، متحديا إياهم أن يأتوا بشيء مماثل لهذا المنهج ولو شيئا صغيرا، كسورة، أو آية واحدة كما في سور أخرى. ويتوعد الكفار بالمنهج الجديد، ويبشر المؤمنين به، ويفرق بين حال هؤلاء مع المنهج، وحال الكفار، بضرب مثل البعوضة من طرف الله، فالذين آمنوا، رغم صغر المثل، يؤمنون به، وأما الذين كفروا فيستهزئون به، محيلا إلى سبب ذلك، وهو أنهم ينقضون العهد بعد ميثاقه، ويقطعون ما أمر الله بوصله.
ومن هذه اللحظة تنطلق السورة في استرجاع بدايات المنهج، وأصوله الأولى، وذلك بتذكير الناس بأنهم أصلا كانوا أمواتا فأحياهم الله، وأنه هو الذي خلق السماوات والأرض، وأنه بكل شيء عليم.
وتتحدث السورة عن المراحل السابقة لخلق آدم، باعتباره حدثا سيكون له أعظم الأثر على الوجود، فلذلك تتساءل الملائكة ببعض الريبة، عن سبب هذا التغيير في حالة الكون، وأبدوا تنبؤا لمآله ومستقبله، وأنه سيصير إلى الفساد وسفك الدماء، كما تساءلوا لماذا لا يبق على حاله، وهم يسبحون الله ويقدسونه. أهناك غاية أخرى غير تلك الغاية، ومغزى ابعد من ذلك؟ فيجيبها الله بأن ذلك عائد إلى إرادته وعلمه.
وسرعان ما تتبين هذه الإرادة، وتنكشف حجب الغيب، عندما يعلم آدم الأسماء كلها، ثم يعرضها على الملائكة لتسميها فتعجز عن ذلك، وتنكشف لها مرتبتها عند الله، وبأنها لا تعلم كثيرا من علم الله. ولكن آدم يسميها، وينجح في ذلك ويسجد الله له الملائكة، تكريما له وتشريفا.إلا إبليس، فينكر هذا التفوق لآدم، ولا يعترف بخلافته للأرض، فيرفض السجود له، ويقف ندا له، ويجادل عن أحقيته هو لذلك.
________________________________________
قبل آدم، كان كل شيء هادئا، يسير بلا نزاع أو صراع، وبخلق آدم، واصطفائه، اتخذ كل شيء دوره ومغزاه، وأتيح للكون أن يسير في اتجاه وغاية، ليواصل صيرورته كما أرادها الله.
________________________________________
فقبل آدم، كان كل شيء هادئا، يسير بلا نزاع أو صراع، وبخلق آدم، واصطفائه، اتخذ كل شيء دوره ومغزاه، وأتيح للكون أن يسير في اتجاه وغاية، ليواصل صيرورته كما أرادها الله. وهكذا كان آدم وحواء، وكانت الملائكة، وكان الشيطان عدوا للجميع. وقبل هذا كان الشيطان مع الملائكة عابدا، وكان الجن، ولم يكن الكون قد اتخذ ربما أية غاية بعد. ولكن التجربة لم تنته، والتشكل لم يبدأ بعد، إذ لابد أن تكون هناك تجربة، يتفاعل فيها الجميع، في علاقات واكتشافات هي الأولى من نوعها في الكون، ليتخذ كل واحد دوره وهدفه، وليكون الجميع على بيان من الأمر. ولتوضيح هذه النقطة، سنتتبع تجربة آدم مع الملائكة أولا، ثم مع الشيطان في الجنة، لنعرف هدف هذه المرحلة من الخلق في إرساء المنهج.
1- تجربته آدم مع الملائكة :
حيث على آدم في هذه التجربة أن يكتشف خصائصه الفكرية والعقلية، وأنه ليس كالملائكة، فهو يستطيع الحصول على المعلومات، ويستطيع التسمية، التي تمثل عملية إضفاء خصائص على الأشياء، فيصنفها في مجموعات وكليات، ويستخلص منها نتائج وعبر، أي أنه أوتي القدرة على الاستقراء وجميع العمليات المعرفية الأخرى، وهو بهذا يختلف عنها في الخصائص والميزات، ويستطيع، بالتالي التعامل مع الكون والظواهر الطبيعية الأخرى، مما سيؤهله للقيام بوظيفة الخلافة، التي تساءلت الملائكة عن جدواها قبل هذا بكثير.
2- تجربته آدم مع الشيطان :
حيث سيكتشف جانبا آخر من جوانب شخصيته، ومكمن آخر فيه، وهو مكمن سلبي، ملئي بالشهوات والنزوات، وكانت رغبته في الخلود والتملك، هي الشهوة التي اكتشفها هناك، وهي تناقض عملية إطلاق الأسماء من قبل، لأنها شهوة تحتوي سائر الشهوات، فدله الشيطان لمعرفة تلك الخاصية فيه، والتي كانت مجهولة عنه، وهذه الرغبة إحساس من آدم بالنقص، وبأنه عما قريب سيزول، فربما نظر إلى الملائكة، بعد أن فاز عليها في تجربته، فألفاها خالدة لا تموت ولا تنقرض، فأحس بالنقص، وهذا ما نجده في آية أخرى، حين نبهه الشيطان إلى أنه لم ينه عن تلك الشجرة، إلا أن يكون ملكا أو مخلدا.
ولربما جاءه الشيطان نفسه، بعد أن فضله الله عليه بإسجاد الملائكة له، وجادله في أن الله أعطاه الخلود، مثلما تشير الآيات في سور أخرى كثيرة، من أن الشيطان قال : رب أنظرني إلى يوم يبعثون. قال إنك من المنظرين.، فأحس آدم في نفسه نقصا، وتذكر الشجرة المحرمة عليه، فأكل منها هو وزوجه، فانتهكا الحرمة، وسقطا في المعصية، وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة.(/2)
ففي التجربة الأولى كافأه الله على تفوقه على الملائكة، فأدخله الجنة، وبالأكل فيها رغدا حيث شاء، إلا الشجرة. وفي التجربة الثانية، عاقبه الله بإخراجه منها، وأراه بما لا يدع مجالا للشك، أن أفعاله لها جزاء وحساب فمعرفته أدخلته الجنة، وشهوته أخرجته منها. ولكن لماذا هذه التجربة القاسية على آدم وزوجه؟
حتى يتعرف آدم على نفسه وخصائصها المختلفة عن المخلوقات الأخرى، وحتى يعرف الجوانب الكامنة فيه، وأنها جوانب خطيرة، يمكنها أن ترتفع به إلى درجة لا تصلها الملائكة حتى، كما يمكنها أن تهبط به إلى اسفل سافلين، وإلى مرتبة دون الشياطين، فهو ليس كالشياطين ولا الملائكة، ثابت لا يتغير، أو كائن لا يتأثر، بل هو غير ذلك، متحرك متأثر، متحول من حال إلى حال، ومن عرض إلى عرض، وبذلك عرف آدم شخصيته، وعرف خصائصه النفسية والعقلية والوجدانية، كما عرف مكانته بين الكائنات الأخرى التي كانت موجودة حواليه، والتي سيكون لها اشد التأثير على مستقبله في الدنيا والآخرة.
ولكن بقي لآدم شيء لا يعرفه بعد، وهو السبيل التي عليها أن يسلك حتى ينجو من غضب الله ومقته، والمنهج السليم الذي عليه أن يسلكه حتى يجتنب جزاء جهنم، ويفوز بالجنة، ولذلك، لم يتركه الله عند هذا الحد، صفر اليدين، بل أراه ما يجب عليه أن يفعله ليتوب. فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم. ولكن هذه الآيات لا تتعلق إلا بالوضع الذي طرأ عليه وهو أكله من الشجرة، ولذلك، قال الله له، قبل أن ينزل على الأرض : اهبطا منها جميعا، فإما يأتينكم مني هدى، فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون. فهذا الهدى، هو الذي ستدور عليه سائر الآيات في سورة البقرة، تبيانا له وشرحا، ومن أنه المنهج الذي على آدم وسائر البشر أن يسلكوه، حتى يحققوا التجربة، ويفوزا بالجنة. (يتبع)
ثم انتقلت السورة إلى تبيان هذا المنهج، ليس بصفة نظرية أو فكرية، بعيدة عن حوادث التاريخ، أو متعالية عنها، ولكن من خلالها، ليتحقق المنهج عبرها، وينمو ويتطور أثناءها. وذلك من خلال تجارب الأمم السابقة العملية، وهم يتشكلون فيه، ويتفاعلون معه، فمنهم من حققه، ومنهم من أخطأه وحاد عنه.
وتبدأ السورة ببني إسرائيل مباشرة، لتدعوهم إلى الإيمان بالكتاب الجديد، وهو القرآن، والتصديق به، وهي فعلت ذلك لتخاطبهم، ليس كأمة ستبدأ تجربتها من جديد هذه المرة، ولكن من خلال الدعوة الجديدة وعبرها، لأن القرآن مهيمن على الكتاب، ومسيطر عليه، ولأنهم بقوا حتى تلك اللحظة، لازالوا ينتظرون، ويستفتحون على الكافرين بالرسالة الخاتمة، فخاطبتهم كذلك، فكأن الله تجاوز عن جميع ما بدر منهم كأمة، من نقض للميثاق والعهد، والتنصل من التعاليم، وقتل الأنبياء، فدعاهم قائلا : {يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون 40 وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم ولا تكونوا أول كافر به، وإياي فاتقون 41} وذلك لسبق معرفتهم بالمنهج، وبقائه فيهم ميراثا وتعاليم، تتناقله أجيالهم، وتخفيه عن الناس، فدعتهم إلى الإيمان بالقرآن، وألا يكونوا أول كافر به، لأنه جاء مصدقا لما معهم من التوراة.
________________________________________
القرآن لا يصادر تجربة إنسانية، أو يطويها طيا، خاصة إذا كانت متعلقة بالمنهج الكلي الذي سيرسيه الله سبحانه وتعالى، فليس المهم موقف اليهود من المنهج، وإنما التنبيه على أن المنهج كلي، والطريق واحد، و التحريفات التي تطاله، ليست بشيء، ولن تقف في وجهه.
________________________________________
وهنا نجد عظمة من عظائم القرآن، وميزة من أهم مزاياه، ذلك أننا عندما نلاحظ السورة وهي تذكر بني إسرائيل كثيرا، وتدعوهم إلى الإيمان من جديد، وتذكر الأفضال عليهم، نستغرب أشد الاستغراب، ونتعجب أشد العجب، فقد كان يمكنه أن يطويهم في مجاهل التاريخ، ولا يذكرهم أبدا، أو يذكرهم ذكرا يسيرا، مع عداوتهم وكفرهم. ولكن القرآن لا يفعل ذلك، ويمضي في ذكرهم، فالقرآن لا يصادر تجربة إنسانية، أو يطويها طيا، خاصة إذا كانت متعلقة بالمنهج الكلي الذي سيرسيه الله سبحانه وتعالى، فليس المهم موقف اليهود من المنهج، وإنما التنبيه على أن المنهج كلي، والطريق واحد، و التحريفات التي تطاله ليست بشيء، ولن تقف في وجهه.
ثم تمضي السورة في تعداد فضائل الله عليهم ونعمه، وأخطائهم وتجاوز الله عنهم من الآية 49 إلى 74، مبتدئة بنجاتهم من فرعون ومن عذابه، ومنتهية إلى حادثة البقرة الشهيرة، التي أنبأت عن حقيقتهم وشخصيتهم. فقد فضلهم الله على العالمين، وميزهم عن سائر الأمم، بالمعجزات والخوارق، والمن والسلوى، في خطاب لين، وحديث سلس، حتى يؤمنوا، في فرصة أخرى أعطيت لهم، وحظ جديد لا يماثله حظ، وهذا من حب الله لهم، ورأفته بهم، حتى يؤمنوا بالقرآن المصدق لما معهم.(/3)
فلما يعدد الله تلك الميزات والخصائص، يلتفت القرآن إلى المؤمنين، قائلا لهم :{ أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون75 } ومن هذه الآية، تبدأ السورة في تشنيعهم وإبراز حقدهم الدفين، ومساوئهم التي لا تنتهي، بالحديث عن الميثاق الذي خانوه،و العهود التي نقضوها، وجدالهم مع أنبيائهم، وقتلهم إياهم، وإفكهم على الناس، ثم يذكر السورة ذلك العهد الذي أخذه الله عليهم من الآية 73 إلى الآية 75 :{ وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون غلا الله وبالوالدين إحسانا وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للناس حسنا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون 83 وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون 84 ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون 85}.
ثم ينتقل الله إلى الحديث عن أسباب هذه الخيانة، وأنها راجعة إلى ارتباطهم الشديد بالدنيا، وطبيعة نفوسهم الشنيعة، التي تأبى الحق وتهوى الباطل، وذلك بالمقارنة بين موقفهم من جبريل الذي يتنزل بالكتاب، وبين هاروت وماروت الذين تنزلا بالسحر، واتباعهم لما تتلوا الشيطان على ملك سليمان، فهم مع عداوتهم لجبريل لنزوله بالحق والكتاب، يتعلمون من الملائكة أيضا ما يضرهم ولا ينفعهم، وهذه المقارنة بين جبريل ومكائيل، وبين هاروت وماروت تبين لهم خاصيتهم الرذيلة، ونفوسهم المريضة، فهم معبرون حقيقة عن تلك الأصناف من الناس الذين يذكرهم الله في بداية السورة، فهم أشبههم بهم، مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم، وتركهم في ظلمات لا يبصرون.
و على كل نستطيع أن نجمل هذه المرحلة المهمة من السورة، في عناصر مهمة، هي :
- استرجاع التجربة الإسرائيلية، ضمن المنهج الجديد، بدعوتهم إلى الإيمان، في حظ جديد وفرصة أخرى منحت لهم.
- تذكيرهم بفضل الله عليهم، والمعجزات التي أنزلها عليهم، وتجاوزهم عن أخطائهم.
- تصريح القرآن بعدم جدوى هذه الدعوة، واستحالتها، أو صعوبة تحققها.
- ذكر السبب في ذلك، ومن أنه عائد إلى الخصائص النفسية والثقافية لهذه الأمة، خاصة قدرتهم على تحريف الكتب المنزلة عليهم، وتجرئهم على ذلك.ونبذهم للميثاق الذي أخذه الله منهم.
- تمسكهم المزيف بدينهم المحرف، كلما دعوا إلى الإيمان بالمنهج الجديد.
وباختصار، فإنه من الآية 49 إلى الآية 104 تستعرض السورة تجربة بني إسرائيل بالتفصيل، مازجة بين حالهم مع موسى وحالهم مع المؤمنين، في مقارنة تنتهي بالا جدوى من دعوتهم، وأن الحظ الجديد الذي أعطوه، لا يستحقوه أبدا، وبداية من الآية 104 يبدأ التحول عنهم كأمة، إلى التجربة الإسلامية الوليدة، والمنهج الجديد، في لحظة يبدو فيها وكأن القرآن يتأسف عليهم، عندما يقول :{ ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من الله خير لو كانوا يعلمون103}. في حالة من اليأس منهم، والإعراض النهائي عنهم، لما كرروه من الأخطاء مع التجربة المحمدية، فكأنهم هم هم، لم تنفعهم كل قرونهم التي عاشوها، وكل التجارب التي مروا بها.
- من بني إسرائيل إلى الأمة الخاتمة :
و انطلاقا من هنا، سيبدأ بناء الأمة الجديدة، والمنهج القويم، وذلك بأمر الله أن للمؤمنين أن يخالفوا اليهود في كل شيء، حتى في القول، فيأمرهم ألا يقولوا راعنا، وأن يقولوا انظرنا :{ يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا وللكافرين عذاب أليم الآية 104 }مذكرا أنه كلما نسخ آية وتجربة ن كلما جاء بمنهج أقوم وأصلح، كما يأمرهم بألا يسألوا رسولهم كما سأل اليهود موسى عليه السلام : أم تودون أنه تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل، ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ظل سواء السبيل.موجها إلى أن لا يصغوا إلى تحريفاتهم الباطلة، وأن يجتنبوا الوقوع فيما وقعوا فيه من أخطاء، أو تناحرهم مع بعضهم البعض، أو منعهم مساجد الله أن يذكر فيها اسمه والسعي في خرابها. وغير ذلك من التوجيهات، محذرا الرسول من اتباع أهوائهم، ومرشدا إياه إلى خير من ذلك، وهي الحنيفية الإبراهيمية : {وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن، قال إني جاعلك للناس إماما، قال ومن ذريتي، قال لا ينال عهدي الظالمين24}، محيلا إلى أن الأمة الجديدة، هي ثمرة دعوة إبراهيم وإسماعيل. مقرا كونه مرجعية وحيدة للأمة الجديدة، والقاعدة الأساس التي ستبنى عليها. ونافيا عنها التحريفات التي لحقتها من طرف اليهود، ومطهرا إياها منها.
________________________________________(/4)
سيكون المنهج جديدا، ليس في محتواه أو تشريعاته، وإنما في اكتماله النهائي، وفي شرعة التخفيف التي يتميز بها، واليسر الذي هو من أهم سماته، ولذلك، نجد في السورة أنه كلما شرعت أمرا، في الصيام أو القتال أو الطلاق أو الحج، كلما ذكرت بالتيسير والتخفيف
________________________________________
وفي خطوة عملية، يؤكد الله على هذه المرجعية، ويقرها نهائيا، بتحويل القبلة عن بيت المقدس، إلى البيت الحرام، في فصل تام بين التجربة اليهودية والإسلامية، وفي فض كامل لكل ما من شأنه أن يلحق الأذى بالتجربة الوليدة، محذرا أيضا مما يمكن أن يلحق المؤمنين من أذى من اليهود نتيجة هذا التحول الجديد، فيسارع إلى طمأنة المؤمنين ببقاء أجرهم الأول،... وعندما يرسي الله هذا الأساس النظري المهم، والجذر الطاهر للأمة، ستبدأ التشريعات في التزل، وسيبدأ المنهج النهائي في التكون، ولكنه ليس منهجا جديدا، أو حدثا طارئا، فذلك منافي لصفة الكمال التي سينتهي بها، باعتباره طريقا كان يتشكل، ومنهجا كان يتكون، ولذلك سيكون المنهج جديدا، ليس في محتواه أو تشريعاته، وإنما في اكتماله النهائي، وفي شرعة التخفيف التي يتميز بها، واليسر الذي هو من أهم سماته، ولذلك، نجد في السورة أنه كلما شرعت أمرا، في الصيام أو القتال أو الطلاق أو الحج، كلما ذكرت بالتيسير والتخفيف، فلا جناح عليكم، تترد في هذه الآيات كثيرا، حتى يبدو الأمر وكأنه عفو من الله وتجاوز منه للأمة الجديدة، و إذا أردنا أن نحصي تلك الكلمات المعبرة عن التخفيف، والموحية باليسر ورفع المشقة فسنجدها كثيرة جدا، منها : فمن اضطر غير باغ ولا عاد في تحريم الميتة وما يتصل من به من الأطعمة، ذلك تخفيف من ربكم، في القصاص، يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر في الصيام، ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم في الحج، لا يؤاخذكم الله، في اللغو في الأيمان، وفي الآيات المتعلقة بالطلاق نحصي سبعة عبارات من لا جناح عليكم أو عليهما، أو عليهن.
أما التشريعات، فإنها تبدأ بأمر المؤمنين أن يأكلوا الطيبات، وأن الله إنما حرم عليهم أشياء قليلة، كالميتة ولحم الخنزير وما أهل لغير الله، وليس كما كان معتادا عليه في بني إسرائيل، إذ حرم عليهم حتى شحوم الحيوانات التي يذبحونها، كما ذلك في آيات أخرى، من سور أخرى، ثم تهدد الآيات الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب، ويشترون به ثمنا قليلا، كتعبير عن كتمان بني إسرائيل للحقيقة، وتحريفهم إياها. ثم تذكر القصاص والتخفيف الذي جاء فيه، ثم الصيام، والتخفيف والتيسير الذي أقره المنهج الجديد :{ يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر، ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون185 } ثم يحرم أكل أموال الناس بالباطل، ثم يشرع القتال، ويجيب على الأسئلة الطارئة في المنهج الجديد، وهي الشهر الحرام والخمر والميسر واليتامى والمحيض، ثم التخفيف في اللغو في الأيمان، ثم التخفيفات الحادثة في الطلاق، وما يتصل به من الإرضاع والخطبة والدخول بالنساء دون المس، ثم يأمر بالإنفاق ويحظ عليه، في آيات كثيرة تصل إلى 14آية، ثم يحرم الربا في 5 آيات، ثم يشرع كتابة الدين في آيتين... إلا أن أكثر الآيات في هذه التشريعات، كانت تدور حول الجانب الاقتصادي، من حظ على النفقة، وتحريم الربا وكتابة العقود، وحول الطلاق وما يتصل به، و الذي أحكمته الآيات في 15 آية كاملة، وهذا ربما يعبر عن أهمية هذين الجانبين، ودورهما المحوري في إرساء القواعد المهمة للأمة الجديدة.
ثم يذكر الله المؤمنين بمثل عن الشقاء والقسوة التي كان يتميز بها المنهج لدى بني إسرائيل من قبل، بسبب تعنتهم وطغيانهم، بمثلين اثنين، عن الذين خرجوا من ديارهم وهو ألوف فقال لهم الله موتوا،ثم أحياهم، وعن الملأ من بني إسرائيل بعد موسى، لما طلبوا من نبي لهم أن يبعث لهم ملكا يقاتلون معه، فبعث الله لهم طالوت ملكا، فاختلفوا عليه، ثم ساروا معه، فطلب منهم الملك ألا يشربوا من نهر سيمرون به، وهذه كلها قسوة عليهم، كان يتميز ربما فرض القتال عليهم، فيمكن للمؤمنين مقارنة حالهم بحال هؤلاء، والله أعلم، ثم يحذر كذلك من خطر الاختلاف والاقتتال، وذلك بعد إرسال الرسل، ومجيء البينات : {تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى بن مريم البينات وأيدناه بروح القدس ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد 253 }، وذلك قبل الحديث عن الإنفاق والحث عليه، فكأن الله، يخبر عن تلك التجارب ومآلها والظروف التي أحاطت بها، حتى يتنبه المؤمنون، ويأخذوا حذرهم ن فلا يقعوا فيما وقع أولئك فيه.
- خاتمة :(/5)
وبقي سؤال لا بد من طرحه، واستفهام ظل يتردد على الأذهان، ثائرا في كل مرة، لا يريد الاختفاء، وهو لماذا ركزت السورة على هذه التشريعات فقط؟ خاصة وأنها تتكرر كثيرا في سور آل عمران والنساء والمائدة، كما نجد ذلك في أحكام الميتة والميراث والوصايا، واللغو في الأيمان، وأحكام النساء، وغيرها، بتفصيل شديد، وشرح واف؟
ربما يعود سبب ذلك، إلى أن هذه التشريعات هي مما أصاب الأمم السابقة، خاصة بني إسرائيل فيها المشقة والعنت، بسبب أخطائهم وتحريفاتهم، فأراد الله أن يرفع عنها الشدة والمشقة، فذكرها هي بالتحديد، واستفاض في ذلك. ونحن نجد ما يدعم ذلك، خاصة في سورة الأعراف، الآيات 155 إلى 157، عندما اختار موسى لميقات ربه سبعين رجلا من قومه حتى يتوب عليهم، لما اتخذوا العجل، فسألوه العفو والرحمة، فأجابهم قائلا : {الذين يتبعون النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم، فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون الآية 157 }
فهذه التشريعات التي تذكرها السورة، لربما كانت هي التي وضعت فيها المشقة، فلذلك ذكرت بالتحديد رفعا للمشقة عنها، والعنت، وتيسيرها للناس.
وربما تكون هذه التشريعات أيضا، هي مما يتسبب في خراب الأمم، عند التساهل فيها، والاهتمام بغيرها، فيكون القرآن يلح عليها كثيرا، تنبيها إلى خطرها وعظم شأنها، حتى تتم المحافظة عليها والذود عنها.
وعلى كل فلا تناقض بين هذا وذاك، فسواء كانت وفق النظرة الأولى، أو الثانية، فهي من صميم المنهاج، ولا بد من تتبعها بالدراسة والبحث، وذلك بحثا عن أصولها الأنثروبولوجية، وجذورها النفسية والاجتماعية، حتى يتم التعرف على تطورها وصيرورتها، وعند ذلك نفهمها جيدا، ونستوعبها حقيقة، خاصة إذا قررنا أنها كانت في الأمم السابقة، قبل بني إسرائيل، على شكل من الأشكال، وعلى نحو من الأنحاء، كما لدى قوم شعيب، في الجانب الاقتصادي الذي أسهبت السورة في التشريع له، ثم أخذت في التطور والتقدم، من أمة إلى أمة، حتى اتخذت شكلها النهائي عند الأمة الخاتمة، وصارت منهجا كاملا، وصراطا سويا، لا بد من إعادة اكتشافه، حتى تتحقق شموليته مرة أخرى، مع الحضارة الحديثة، التي يبدو وكأنها جمعت كل سوأة مناقضة للمنهج، باستحلالها الربا، فصار له مؤسسات عولمية، وهيئات أممية، وبفسخها لعقد الزواج، فصارت الأسرة حيوانية، لا يجمعها سوى رباط الشهوة والضلال، وصار الدفاع عن الهوية والذات، إرهابا تكفره الدول، وتحتل باسمه ما تشاء من البقاع والأمم.
كذلك هناك تساؤل مشروع، ليس له جواب، هو تجربة إبراهيم عليه السلام في مسألة بعث الأموات، وجداله مع الملك حول الله، وكذلك تجربة العبد الصالح الذي مر بالقرية الميتة، فأماته الله مائة عام ثم بعثه، فهذه مسائل، لا نعرف مغزى وقوعها ضمن السورة، ولا بد أن ذلك يرقى على فهمنا البسيط للكتاب، والذي يتعالى عن كل فهم وتأويل، ليضل هو المهيمن والمسيطر، ولذلك، لا نقول إلا ما تقول الأمة في ختام السورة، مستسلمة مؤمنة، آخذة بالمنهج والعهد، لا تحيد عنه ولا تتبدله :{ آمن الرسول بما أنزل من ربه والمؤمنون، كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، لا نفرق بين أحد من رسله، وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير، لا يكلف الله نفسا إلا وسعها، لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت، ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا، ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا، أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين } في خلاصة شاملة جامعة لكل السورة، وفي تمسك بالمنهج بلا حيد عنه، وفي استمساك بميزته السمحة اليسيرة، وطلب الرحمة والمغفرة.. اللهم اغفر لنا وارحمنا.آمين.(/6)
________________________________________
نظرات في غزوة تبوك
رئيسي :فكر :الاثنين 13 ذو القعدة 1424هـ
الحمد لله، والصلاة والسلام على نبيه ومصطفاه، أما بعد،،،
فأوصيكم و نفسي بتقوى الله، و أن نقدم لأنفسنا أعمالاً تُبَيِّض وجوهنا يوم نلقى الله:{ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ[88]إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ[89]}[سورة الشعراء] . ثم اعلموا أن الحق و الباطل في خلاف دائم، و صراع مستمر، إلى أن يرث الله الأرض و من عليها، كل ذلك ليميز الله الخبيث من الطيِّب، فمنذ بَزَغَ نجم هذا الدين و أعداؤه من يهودٍ و نصارى و مشركين يحاولون القضاء عليه بكل ما يستطيعون:{ يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ[8]}[سورة الصف] .
حاول أعداء هذا الدين القضاء عليه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فما أفلحوا، وحاولوا في عهد الخلفاء الراشدين فما أفلحوا، ثم في العصور المُتَأَخرة إلى وقتنا هذا و هم يحاولون دائبين ؛ بالعنف و الصراع المُسلح تارة، و بالمكر والخداع و الخطط و المؤامرات تارة أخرى، ولسنا مجازفين عندما نقول ذلك ؛ فالله يقول :{...وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا...[217]}[سورة البقرة] . ويقول سبحانه:{وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ...[120]}[سورة البقرة] . هذه شهادة الله على أعدائنا بما يريدونه منا، و أَيُ شهادة أعظم من شهادة الله وأصدق . والتاريخ في ماضيه و حاضره يشهد بذلك، لكن أنَّى لهم أن يفلحوا ما تمسَّكنا بكتابنا وسُنَّةِ نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم.
يوم يُقلِّب المرء صفحات الماضي المجيد، ويتدبر القرآن الكريم، ثم ينظر لواقعنا، ويقارنه بماضينا؛ يتحسر يوم يَجِد البَوْن شاسعًا، يتحسر يوم يرى تلك الأمة وقد كانت قائدة، وإذا بها قد أصبحت تابعة، ثم يدرك أن السبب هو بُعدنا عمَّا كان عليه أسلافنا، ويتساءل المرء متى ينزاح هذا السواد الحالِك من الذل والمسكنة؟! متى يَنْبَرِي للأَمَّة أمثال خالد وصلاح والقعقاع ؟! متى تُحيَا في القلوب آل عِمران، والأنفالُ، وبَرَاءة؟!
وإنَّا لنرجُو اللهَ حتَّى كأنَّما نَرَى بِجَمِيلِ الظَّنِّ مَا اللهُ صَانِعُ
عَودًا سريعًا إلى الماضي المجيد لنستلهِم منه الدروس والعبر في هذا الحاضر العاثر، عَودًا لسيرة من لم يطْرِق العالم دعوة كدعوته، ما أحرانا و نحن في هذه الأيام العَصِيبة أن نخترق أربعة عشر قرنًا ؛ لنعيش يومًا من أيام محمد صلى الله عليه وسلم، بل ساعة من سُوَيْعاته الثمينة، لنأخذ العِبرة و الدروس من تلك الساعة في هذه الساعة :
اقرءوا التَّارِيخَ إِذْ فيه العِبَرْ ضَلَّ قَوْمٌ لَيْسَ يَدْرُونَ الخَبَرْ
عَوْدًا بكم إلى السنة التاسعة للهجرة؛ لنعيش معكم أحداث غزوة العسرة التي تساقط فيها المنافقون، وثبت فيها المؤمنون، وذَلَّ فيها الكافرون، ما السبب وما الأحداث؟ ما آيات النبوة فيها؟ ما الدروس المستفادة؟ إليكموها فاعتبروا بما فيها.
بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن الروم تتجمع لحربه ولتهديد الدولة الإسلامية في ذلك الوقت، يريدون مبادرته بالحرب قبل أن يبادرهم ؛ لكونه قد أذاقهم مرارة غزوة مؤتة التي جلبوا لها مائتيْ ألف، ولم يتمكنوا من إبادة ثلاثة آلاف مقاتل ؛ بل ولا هزيمتهم، فيا للَّه !!
كنا جبالًا في الجبال و ربما صرنا على موج البحار بحارًا
عند ذلك أعلن النبي صلى الله عليه وسلم ولأول مرة عن مقصده، وأعلن التعبئة العامة، فتجهز أقوام، وأبطأ آخرون، تجهز ثلاثون ألف مقاتل قد باعوا أنفسهم من الله، وأعلنوا نصرة لا إله إلا الله ..تساقط المنافقون، ومن يرد الله فتنته فلن تجد له سبيلًا . هاهو أحد المنافقين فَرَّ من الموت وفي الموت وقع، أعرض عنه- صلى الله عليه وسلم- وعذَره، لكن الذي يعلم خائنة الأعين، و الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء فَضَحَهُ –وأذلَّه- وأنزل فيه قرآنًا يُتلى:{ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا...[49]}[سورة التوبة] .
ويتخلف أناس آخرون عن الخروج، غلبتهم نفوسهم لصعوبة الظرف واشتداد الحرب . ويأتي سبعة رجال مؤمنون صادقون، لكنهم فقراء لم يجدوا زادًا ولا راحلة، وعز عليهم التخلف، نياتهم صادقة لكن ليس هناك عدة، فأتَوْا يقولون : يا رسول الله لا زاد ولا راحلة، ويبحث لهم صلى الله عليه وسلم عن زاد و راحلة، فلا يجد ما يحملهم عليه فيرجعوا { تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ[92]}[سورة التوبة] .(/1)
وتدنو ثمار المدينة ويشتد الحر، ويبتلي الله من يشاء من عباده، و يخرج صلى الله عليه وسلم ويستخلف على أهل بيته عليًا رضي الله عنه، ويخيم صلى الله عليه وسلم في ثنية الوداع و معه ثلاثون ألفًا، و يأتي المنافقون الذين لا يتركون دسائسهم و إرجافهم على مر الأيام، يلاحقون أهل الخير والاستقامة، يلمزون ويهمزون ويتندرون ويسخرون، سخر الله منهم، و يستهزئون، و الله يستهزئ بهم.
و قبل مسيره صلى الله عليه وسلم تقوم فرقة للصَدِّ عن سبيل الله، تُثبِّط الناس بعد أن اجتمعوا في بيت أحدها، تقول- و هي تزهد في الجهاد- : لا تنفروا في الحَرِّ، تشكك في الحق، وترجف برسول الحق، ويتولى الحق الرد:{ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ[81]}[سورة التوبة] .
هم في مؤامرة الصَدِّ عن سبيل الله، ويأمر صلى الله عليه وسلم بإحراق البيت عليهم، ويُنَفِّذُ ذلك الأمر طَلْحَةُ، فيقتحمون الأسوار خوفًا من نار الدنيا، فتنكسر رِجل أحدهم، و يفِرُّ الباقون، و يَعِزُّ جُنْد الحق رغم أنوفهم، و يخيب كل منافق خَوَّان . ويتوجَّه صلى الله عليه وسلم و يمر بديار ثَمُود، ديار غضب الله على أهلها، فتلك بيوتهم خاوية، و آبارهم معطَّلة، و أشجارهم مقطَّعة، فيدخلها وقد غطَّى وجهه، وهو يبكي، ويقول لجيشه: [لَا تَدْخُلُوا عَلَى هَؤُلَاءِ الْمُعَذَّبِينَ إِلَّا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا بَاكِينَ فَلَا تَدْخُلُوا عَلَيْهِمْ لَا يُصِيبُكُمْ مَا أَصَابَهُمْ]رواه البخاري ومسلم .
يا لله !! هذه أرض سكنها الظَلَمَة، فقولوا لي بالله .. فيمن يجالس الظَلَمَة، و يؤيد الظَلَمَة، و يركَن إلى الظَلَمَة، و يكون لهم أنيسًا و لسانًا و صاحبًا.. كيف يكون حاله؟! ألا يخاف أن يغضب الله عليه ؛ فيأخذه أخذ عزيز مقتدر:{ وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ...[113]}[سورة هود] .
لازال صلى الله عليه وسلم في طريقه إلى تَبُوك، قد بلغ به الجوع والتعب والإرهاق مبلغًا عظيمًا، لكن في سبيل الله يهون، و مع السَّحَرِ ينام من التعب على دابَّتِه حتى يكاد يسقط- كما في صحيح مسلم- فيقترب منه أبو قتادة، فيَدْعَمَه بيده حتى يعتدل، ثم يميل مَيلةً أخرى، فيدعمه أبو قتادة حتى يعتدل، ثم يميل مَيلة أشَدَّ من المَيلتين الأُولَيين، حتى كاد يسقط، فيدعمه بيده، فيرفع رأسه- صلى الله عليه وسلم- و يقول: [ مَنْ هَذَا] قال : أنا أبو قتادة، فيُكَافِئَه صلى الله عليه وسلم، فبمَّ كافأه ؟ قال: [ حَفِظَكَ اللَّهُ بِمَا حَفِظْتَ بِهِ نَبِيَّهُ]. يقول أهل العلم: فوالله مازال أبو قتادة محفوظًا بحفظ الله في أهله وذريته ما أصابهم سوء حتى ماتوا، وهذا درس عظيم، فإن من حفظ الله؛ حفظه الله فلا خوف عليه، إن صنائع المعروف تقي مصارع السوء .
وينتهي المسير بمحمد صلى الله عليه وسلم إلى تبوك، ويقيم بضع عشر ليلة ويدنو من الروم ويفزعهم، ويكاتب رسلهم، و يفرض عليهم الجزية، و هم صاغرون، ولم يلق كيدًا منهم؛ لأن الله قد نصره بالرعب مسيرة شهر، فلم يقرب إليه الروم خوفًا وفزعًا، وقد كانوا قبل قد عزموا على غزوه في عقر داره:{ إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا[15]وَأَكِيدُ كَيْدًا[16]فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا[17]}[سورة الطارق] .
ويرسل صلى الله عليه وسلم خالدًا على رأس أربعمائة مجاهد في سبيل الله إلى أُكيْدِر ملك دومة الجندل، و يخبر صلى الله عليه وسلم خالدًا أنه سيلقاه يصيد بقر الوحش، خرج خالد، ولما بلغ قريبًا من حصنه، وجده قد خرج للصيد كما أخبر، فتلقته خيل الله بقيادة خالد، فاستأسرته، واستلب خالد منه قميصًا مخوصًا بالذهب، و بعث به إلى رسول الله قبل قدومه عليه، فجعل المسلمون يتعجبون منه، فقال صلى الله عليه وسلم- مُزهِّدًا لهم في زخرف الدنيا- : [ أَتَعْجَبُونَ مِنْهَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَمَنَادِيلُ سَعْدٍ فِي الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنْهَا]رواه البخاري ومسلم. قدم خالد بالأكيدر، وحقن دمه صلى الله عليه وسلم و ضرب عليه الجزية، ولكنه مجرم، ولو علم الله فيه خيرا لأسمعه، نقض العهد في عهد أبي بكر، فقتله خالد رضي الله عنه وأرضاه. وهكذا نصر الله جنده وأولياءه ورسله وعباده في الحياة الدنيا، وينصرهم يوم يقوم الأشهاد.(/2)
ويعود صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، بعد إرهاب أعداء الله من نصارى و يهود و مشركين، يعود في يوم بهيج، لتستقبله المدينة نور بصرها صلى الله عليه وسلم يخرج الأطفال في فرح، ليصطفُّوا إلى مداخل المدينة، وعلى أفواه الطرقات، و هنا قال صلى الله عليه وسلم: [إِنَّ بِالْمَدِينَةِ أَقْوَامًا مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا إِلَّا كَانُوا مَعَكُمْ] قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ قَالَ: [وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ حَبَسَهُمْ الْعُذْرُ]رواه البخاري.
وهكذا انتصر المسلمون في تبوك على شهواتهم وأنفسهم، وبالتالي انتصروا على أعدائهم:{وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ[40]}[سورة الحج] هذه غزوة تبوك قائدها محمد صلى الله عليه وسلم، جنودها صحابته رضوان الله عليهم، عز فيها المؤمنون، وسقط المنافقون، وذل الكافرون وانهزموا، وبالجهاد في سبيل الله، لإعلاء كلمة الله يُنصَر المؤمنون، و المؤمنون على عناية ربهم يتوكلون، لا خوف يُرهبهم، و لا هم في الحوادث يحزنون.
دروس وعبر من غزوة تبوك:
ولئن انتهت غزوة تبوك ، فما انتهى نورها، و ما انتهت دروسها وعبرها ومواعظها، ففي كل حديث منها قصة، و في كل قصة عظة وعبرة، و في كل ذكرى منها موعظة، هل يكفي سرد أحاديث الماضي، والتغني بالذكر الغابر؟ هل يجزي هذا، و قد تشابكت بأمة الإسلام –في هذه الأعصار- حلقات من المحن، و تقاذفتها أمواج من الفتن، وصيح بهم من كل جانب، و تداعى عليهم الأكلة من كل فج . لابد أن نستفيد مما مضى، فهاكم بعض دروسها وعبرها:
وأول هذه الدروس: أن هذه الأمة أمة جهاد، و مجاهدة، و صبر، ومصابرة، و متى ما تركت الجهاد، ضُربت عليها الذلة والمسكنة .
دعِ المِداد و سطِّر بالدَّمِ القانِي و أسكتِ الفَمَ و اخطبْ بالفمِ الثَّانِي
فَمُ المدافعِ في صدرِ العداة لهُ منَ الفصاحةِ ما يُذري بسحبانِ
ومن هذه الدروس: أن الله تعالى، كتب العزة والقوة لهذه الأمة، متى ما صدقت وأخلصت، فها هي دولة الإسلام الناشئة، تقف في وجه الكفر كله بقواه المادية فتهزمه، وتنتصر عليه: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ ...[40]}[سورة الحج] .
ومن هذه الدروس: أنه ما تسلل العدو سابقًا ولاحقًا إلا من خلال الصفوف المنافقة، ولم يكن الضعف والتفرقة في هذه الأمة، إلا من قِبَل أصحاب المسالك الملتوية:{ لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ...[47]}[سورة التوبة] .
ومن هذه الدروس: أن مواجهة الأعداء، لا يشترط فيها تكافؤ القوى: يكفي المؤمنين أن يعدُّوا أنفسهم بما استطاعوا من قوة، ثم يثقوا بالله، و يتعلقوا به، ويثبتوا، ويصبروا، وعندها يُنصروا، فها هو سلفهم ابن رواحة يقول:' والله ما نقاتل الناس بعَدد، ولا عُدد، و ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي كرمنا الله به' .
ومن هذه الدروس:أن الحق لابد له من قوة تحرسه، لا يكفي حق بلا قوة .
فما هو إلا الوحيُ أو حدُّ مُرهَف تقيم ظباه أخدعيْ كل مائلِ
فهذا دواء الداء من كل جاهل و هذا دواء الداء من كل عاقلِ
دعا المصطفى دهرًا بمكة لم يُجَب وقد لان منه جانب وخطاب
فلما دعا و السيف بالكف مسلط له أسلموا و استسلموا و أنابوا
ومن هذه الدروس:أن الأعداء لن يَرْكنوا إلى السكون، و لن يصرفوا أنظارهم عن دولة محمد صلى الله عليه وسلم سابقًا و لاحقًا، فهم يُجمعون أمرهم و شركاءهم، و يُعمِلُون مكرهم و دسائسهم:
{... وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ[30]}[سورة الأنفال] . في نهاية هذه الغزوة هاهي مؤامرة دنيئة يقوم بها أدنياء سفلة عددهم اثنا عشر شقيًا منافقًا تواطئوا على قتل محمد صلى الله عليه وسلم. وتنفيذ الخطة - في تقديرهم- بمضايقته في عقبة في الطريق إلى تبوك ليسقط من على راحلته فيهلك -على حد زعمهم-، و يصل إلى العقبة تَحُفُّه عناية الله ورعاية الله، حذيفة آخذ بخطام ناقته، وعمار يسوقها، و إذ بالأشقياء يعترضون الناقة لينفذوا مخطط الشقاء والعار، فيصرخ فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيولوا مدبرين، و يحفظ الله سيد المرسلين، و ينزل الله قوله في المنافقين:{... وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا...[74]}[سورة التوبة] . ويرسل بعدها صلى الله عليه وسلم عليهم سهمًا إلى الحي القيوم الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ؛ إذ يدعو اللهَ عليهم أن يهلكهم، فيصاب كل واحد منهم بخُرَّاج يخرج في ظهر الواحد منهم، و يدخل إلى قلبه ؛ فلم ينجُ منهم أحد ؛ فإلى جهنم، وبئس القرار .(/3)
ومن دسائس أعداء الله: أنهم أرسلوا لكعب بن مالك رضي الله عنه، يوم أمر النبي صلى الله عليه وسلم بهجره أرسلوا إليه يقولون له: بلغنا أن صاحبك جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة ؛ فالْحقْ بنا نُواسِك، لكن كعبًا مؤمن علم أن هذا من الابتلاء، فيمَّمَ التنور، فأوقده بالرسالة:{...وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ[25]}[سورة غافر].
هذا هو ديدن أعداء الإسلام في الغابر والحاضر، في كل زمان و مكان، يتحسسون الأنباء ويترصدون، ويتربصون بالإسلام و أهله، و كم من أقدام في مثل هذا ذلَّت!، وكم من أرجل في مثل هذه الأوحال قد انزلقت !، أما كعب فيمَّمها التنور و سجَّرها، و كم في الأمة من أمثال كعب !.
فدت نفسي و ما ملكت يميني فوارس صدقت فيهم ظنوني
ومن هذه الدروس: إن العقيدة في قلوب رجالها من ذرةٍ أقوى و ألف مهند: قضى الله أنه متى ما حادت الأمة عن عقيدتها، و تعلقت بهذا أو بذاك؛ إلا وتقلبت في ثنايا الإهانات والنكبات والنكسات حتى ترجع إلى كتاب ربها وسنة نبيها .
من يتق الله و ينصر دينه لابد في ساح المعارك يُنصَر
ألا وإن من أعظم الدروس من غزوة تبوك - و المسلمون يمرون بأحداثهم المعاصرة و متغيراتهم الحثيثة- إنه الدرس الجامع الذي يكون من محراب الجهاد و كفى .. من محرابه تنطلق قوافل المجاهدين بالجهاد ترد عاديات الطغيان ؛ فيكون الدين لله، ولا تكون فتنة، جهاد بالنفس والمال واللسان والسنان، ويبقى دين محمد –صلى الله عليه وسلم- مهيمنًا .
فيا أمة الإسلام في كل زمان ومكان اتقوا الله، وأجمعوا أمركم، وذُودوا عن دينكم ومحارمكم ؛ فإن من لا يذود عن دينه ومحارمه ولا ينتصر لدينه؛ ذليل حقير، غير حقيق بالعزة ؛ بل لا تحلو له الحياة، اصبروا، وصابروا، ورابطوا، و بما تمسك به أسلافكم تمسكوا، جاهدوا كجهادهم، و اصبروا كصبرهم، وتوكلوا على الله، و ثقوا بالله واطمئنوا، و أبشروا، و العاقبة للمتقين :{ وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ[171]إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ[172]وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ[173]}[سورة الصافات] .
'خذوا إيمان إبراهيم، تنبت لكم في النار جنات النعيم' .
يا أمة الإسلام فانتفضي . . . فإن الجرح غائر
والجمع مُذْ فقد العقيدة فهو . . . مضطرب وحائر
وجريحنا الأقصى هوى . . . وديس بالحوافر
فهناك تعبث في جوانب أرضه . . . عُصَب الكوافر
وتسومهم ذلا وخسفًا . . . كالبهائم في الحظائر
يا أمتي فلتنفضي عنك . . . الغبار وتستعدي
ولتنفري نحو الجهاد بكل . . . إقدام وجد
إن الجهاد به نرد لَجاجة . . . الخصم الألدِّ
وبدونه نبقى على ما نحن . . . من أخذ ورد
يا رب أيقِظْ أمتي حتى تعود . . . إلى رحابك
واهدِ الولاة لكي يسوسوها . . . بوحي من جنابك
وأمدها بالنصر ليس النصر . . . إلا من جنابك
هذه بعض دروس من هذه الغزاة العظيمة، غيض من فيض، وقطر من بحر، وكتب السيرة تفيض بذلك فاتقوا الله، وعوها، وطريق أسلافكم اسلكوها، عودوا فالعود أحمد، اللهم أعز الإسلام و المسلمين، وأذل الشرك و المشركين، اللهم أصلح من في صلاحه صلاح للإسلام و للمسلمين، و أهلِكْ من في هلاكه صلاح للإسلام و المسلمين، اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يُعز فيه وليك.
من خطبة:'نظرات في غزوة تبوك ' للشيخ / علي عبد الخالق القرني(/4)
نظرات معاصرة في فقه الشورى
أ.د. أحمد علي الإمام*
مدلول الشورى
مدلول الشورى اللغوي يكاد يتطابق مع مدلولها الاصطلاحي، إذ كلاهما يدور حول استصفاء الخلاصة للشيء المادي كالعسل، أو للشيء المعنوي كالرأي، والقرينة بينهما قوية الظهور بين العسل المستصفى من غذاء النحل المأخوذ عن عصارات الأزاهر، وبين الرأي المستخلص من تداول الرأي وتبادل المناصحة وتبادل المسئولية الجماعية. فكلاهما يمر بعملية التصفية والاستخلاص، ثم إن كليهما طيب النتاج حسن العقبى، فإلى المدلول اللغوي والاصطلاحي لهذه القيمة الإنسانية العليا، الشورى التي يضع الإسلام أساسها المتين، ويعلي قواعدها على هدي من الله ونور مبين.
المدلول اللغوي
[ أ ] أصل الشورى في اللغة من شار العسل، إذا استخرجه واستصفى خلاصته، واجتناه من خلاياه ومواضعه. قال أبو عبيد: شرت العسل واشترته: اجتنيته وأخذته من موضعه.
ويقال: فلان حسن الصورة والمشورة أي حسن المخبر عند التجربة.
وفي الحديث : ( كان يشير في الصلاة ) أي يومئ باليد والرأس، ( وأشار عليه بكذا ) : أمره به، ( وهي الشورى ) بالضم.. وترك عمر الخلافة بعده شورى، والناس فيه شورى.
واستشاره : طلب منه المشورة، وكذلك شاوره مشاورة وشوارا،وتشاوروا واشتوروا.[ب] وفي " المفردات في غريب القرآن " للراغب الأصفهاني: ( التشاور والمشورة والشورى: استخراج الرأي بمراجعة البعض إلى البعض ) وشاورته واستشرته: طلبت منه المشورة والرأي .
[ج] وفي معجم مقاييس اللغة لابن فارس:( شور) الشين والواو والراء أصلان مطردان، الأول منهما: إبداء شيء وإظهاره وعرضه، والآخر:أخذ الإبداء. فمن الأول قولهم: شرت الدابة شورا، إذا عرضتها، والمكان الذي يعرض فيه الدواب هو المشوار. ومن الثاني قولهم: شرت العسل أشوره أي أخذته. وقد أجاز أناس: أشرت العسل. والمشار الخلية يشتار منها العسل.
[د] قال بعض أهل اللغة: من هذا الباب شاورت فلانا في أمري قال: وهو مشتق من شور العسل، فكأن المستشير يأخذ الرأي من غيره .
[هـ] وعليه يتضمن المدلول اللغوي للشورى ما يلي:
*إبداء الشيء وعرضه.
*وإظهاره، وهو مرحلة أعلى من الإبداء.
*اتصاف الرأي المعروض بالحسن والاستنارة، فليس كل رأي عنّ للإنسان عُرض.
المدلول الاصطلاحي للشورى:
[1] ومعنى الشورى اصطلاحا:الاجتماع على الأمر ليستشير كل واحد صاحبه ويستخرج ما عنده. أو هي اجتماع الناس على أمر ما يُعرض بينهم، للتداول فيه، من أجل استخراج ما يُرى صوابا.
[2] والشورى: الأمر الذي يتشاور فيه.
[3] والشورى: ( عرض الأمر على أهل الخبرة حتى يعلم المراد منه ).
[4] وهي: ( اختبار ما عند كل واحد منهم ـ أي المستشارين ـ واستخراج ما عندهم ).
[5] ويُطلق على الموضع الذي يتم فيه التشاور مجلس الشورى.
[6] وعليه فالشورى تعني: اجتماع الناس على أمر ما لتداول الرأي، واستخلاص الصواب منه في المسائل المعروضة لاستصدار القرار.
ويجتهد بعض الفقهاء المعاصرين في تقديم تعريف جامع للشورى فيقول: ( ولعل أجمع تعريف للشورى بمعناها الفقهي العام الشامل لمختلف أنواعها هو القول بأنها رجوع الإمام أو القاضي أو آحاد المكلفين في أمر لم يُستبن حكمه بنص قرآني أو سنة أو ثبوت إجماع إلى من يُرجى منهم معرفته بالدلائل الاجتهادية من العلماء المجتهدين، ومن قد ينضم إليهم في ذلك من أولي الدراية والاختصاص ) .
وهكذا فإن الشورى في الاصطلاح الذي يتوخاه الإسلام، يمكن أن تتسع لتعبر عن ( استخلاص الرأي الجامع أو الراجح من خلال الحوار الجامع ). هذا هو مطلوب الشورى، فإن لم يكن رأي جامع فرأي راجح لدى استصدار القرار، مما ينعقد عليه العمل الجامع لدى التطبيق والتنفيذ.
الشورى في القرآن الكريم
ويتناول هذا المبحث مرجعية الشورى من القرآن الكريم، فيردفها بمرجعيتها من السُنة النبوية المطهَّرة. فالمبحث يتناول ما ورد في كتاب الله الحكيم من أمر الشورى، وبما يجلي مدلولها ويعلي حجيتها.. وهو يعالج أثناء ذلك مدى إلزاميتها، وذلك من حيث هي مدخل إلى نظام سياسي متكامل، كما هي صلة وشيجة لسائر مناهج الحياة العامة والخاصة.
[1] والمرجعية الأولى في استمداد مبادئ الشورى وقواعدها للقرآن الكريم، حيث جاء قوله تعالى: (فَِبمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللهِ لنِْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّا غَلِيظَ القَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاستَغفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ في ِالأَمْرِ فِإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُتَوَكِّلِينَ)(6).(/1)
يأمر الله تعالى في هذه الآية رسوله صلى الله عليه وسلم أن يشاور أصحابه، وهو أمر للوجوب كما يدلُ السياق، ولا صارف للوجوب، وعلى الوجوب مذهب المالكية مع عموم ما يتشاور فيه، ويقول الإمام النووي: (واختلف أصحابنا هل كانت الشورى واجبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم أم كانت سنة في حقه كما في حقنا، والصحيح عندهم وجوبها وهو المختار، قال الله تعالى: (وَشَاوِرْهُم فِي الأَمْرِ) والمختار الذي عليه جمهور الفقهاء ومحققو الأصول أنّ الأمر للوجوب)(7)، وقرر الإمام ابن حجر العسقلاني أنّ الصحيح المختار هو وجوب الشورى(8)، وعلى ذلك أيضًا مذهب الأحناف حيث يقول الإمام الجصاص في تفسير قوله تعالى (وَأمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ)(9): (هذا يدلُ على جلالة موقع المشورة لذكرها مع الإيمان وإقامة الصلاة، ويدلُ على أننا مأمورون بها(10). وهذا ما ذهب إليه الإمام الرازي حيث يقول: (ظاهر الأمر الوجوب في قوله تعالى: (وَشَاوِرْهُمْ) وهو يقتضي الوجوب)(11).
وتأكيدًا لهذا الوجوب فإن الأمر بها جاء عقب نتائج الأخذ بالشورى في أُحُد، دلالة على لزومه مهما ترتب عليه من نتائج.
وتطبيقًا لوجوب الشورى، والأخذ بنتائجها، وعدم كسر قراراتها استشار النبي صلى الله عليه وسلم المجاهدين في أُحُد على الخروج، فلما قرر غالبيتهم الخروج، أخذ بذلك، مع أن ذلك يخالف رأيه صلى الله عليه وسلم ، ولما رأوا أنهم قد أكرهوا النبي صلى الله عليه وسلم ، ورأوا التراجع والبقاء سن لهم ضرورة تحمّل النتائج والتبعات على القرار المُتخذ وعدم كسره، فردّهم بلطف كما روى ذلك جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لَوْ أَنَّا أَقَمْنَا بِالمَدِينَة فَإِنْ دَخَلُوا عَلَينَا فِيهَا قَاتَلْنَاهُم فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ وَاللهِ مَا دُخِلَ عَلَينَا فِيهَا فِي الجَاهِلِيَّة فَكَيفَ يُدْخَلُ عَلَيْنَا فِيهَا فِي الإِسْلاَمِ؟ فَقَالَ: (شَأنَكُمْ إِذًا)، فَلَبِسَ لاَمَتَهُ، قَالَ: فَقَالَتْ الأَنْصَارُ: رَدَدْنَا عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَأْيَهُ فَجَاءُوا فَقَالُوا: يَا نَبِيَّ اللهِ شَأْنَكَ إِذًا، فَقَالَ: إِنَّهُ لَيسَ لِنَبِيٍّ إِذَا لَبِسَ لاَمَتَهُ أَنْ يَضَعَهَا حَتَّى يُقَاتِلَ)(12).
وأما موقفه في الحديبية من الصلح على غير رغبة المسلمين فبوحي إلهي ظاهر عبر عنه صلى الله عليه وسلم بقوله لعمر بن الخطاب: (إِنّي رَسُولُ اللهِ ولَسْتُ أعْصِيهِ وَهُوَ نَاصِرِي)، وعبر عنه أبو بكر لعمر بالكلمات ذاتها فقال: (أيها الرجل إنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم وليس يعصى ربه وهو ناصره فاستمسك بغرزه فوالله إنه على الحق)(13).
وأما ما ورد في مواقف يستدل بها على إعلامية الشورى كما حدث من أبي بكر في موقفه من حرب مانعي الزكاة، أو من تسيير جيش أسامة، فالأمر لا يعدو أن يكون شورى، حيث علا أبو بكر بحجته على من معه فاطمأنوا لذلك بعد جدل ونقاش، فلا يستدل بهذا على الإلزام .. ومثل ذلك موقفه رضي الله عنه من مسألة جمع القرآن في مكان واحد حيث أقنع زيدًا بذلك دون إلزام له كما قال زيد: (فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر – رضي الله عنهما –)(14).
ولعظمة الأمر بالشورى جعلها الإسلام مقومًا أساسيًا بأسره، ومن ههنا قرنها بالصلاة والزكاة. يقول صاحب كتاب فقه الشورى والاستشارة: (إنّ الشورى في شريعتنا قاعدة للنظام الاجتماعي، وهي عروة وُثقى، تربط بين أفراد المجتمع، وقد جعلتها آية الشورى تلي الإيمان والعبادة في الترتيب بقولها: (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَلاَةَ وَأَمْرَهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزْقنَاهُمْ يُنْفِقُونَ)(15).
ثم إنّ هذه العبارة الأخيرة تشير إلى أنّ التكافل في الإنفاق والمشاركة في المال يرتبطان بالمشاركة في التشاور الفكري .. وارتباط الشورى بالتكافل والتضامن الاجتماعي وحرية الإنسان وحقوقه يجعلها مبدأ اجتماعيًا شاملاً وليس مجرد مبدأ سياسي.
[2] وروى الواحدي في الوسيط عن عمرو بن دينار عن ابن عبّاس رضي الله عنهما أنّه قال: (الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بمشاورته في هذه الآية هم الذين أمره بالعفو عنهم وأن يستغفر لهم وهم الملزمون)(16).
[3] هذا والأمر بالشورى هنا عام يشمل كل الشؤون العامة، في حياة الأفراد والجماعات والدول، السياسية والاقتصادية والعسكرية والاجتماعية والثقافية. وأداة التعريف (ال) للاستغراق، والأمر هنا (وشاورهم) يعني سماع الآراء فيكون العزم في قوله تعالى: (فإذا عزمت) أي عند اختيار الرأي الحاسم. والأمر بالشورى للوجوب ويشمل كل أمر ذي بال من شؤون الأفراد والجماعة والدولة سلمًا وحربًا، اقتصادًا وسياسة.(/2)
هذا ما تقوم عليه التربية الإسلامية لتحقق القيم والأخلاق والآداب التي أمر بها الشرع استجابة لداعي الإيمان. ولتنفيذ ذلك فالمسلمون مندوبون إلى أن يجتهدوا في استحداث الوسائل المناسبة لمجتمعهم وعصرهم في نشر آداب الشورى وتنفيذ ما يجب عليهم من جعل أمورهم كلها شورى بينهم حتى تصير الشورى خلقًا ثابتًا في حياتهم كما وصفهم القرآن بذلك في سياق ما يقومون به ويقيمونه من واجبات الدين وأركان الإسلام المعلومة من الصلاة والزكاة والإنفاق في سبيل الله تعالى، وحيث ثبت في اختيارنا أنّ الأمر للوجوب والعموم.
وقد استقر ذلك في تجربتنا السودانية دستورًا وممارسة وتطبيقًا وقانونًا ونظامًا ولوائح، حتى أنّ نص البيعة يتضمن التزام الرئيس بالشورى، وهكذا أداء القسم للرئيس ومن يليه من كل ذي ولاية ومسؤولية.
وقد جاء الأمر بالشورى في سياق عظيم من الآداب الجليلة في التعامل مع الناس، وفي بيان ذلك يقول صاحب محاسن التأويل في تفسير قوله تعالى: (فَِبمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللهِ لنِْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّا غَلِيظَ القَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاستَغفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ في ِالأَمْرِ)(17): أي ما لنت هذا اللين الخارق للعادة، مع ما سبب فعلهم من الغضب الموجب للعنف والسطوة، لا سيَّما مع اعتراض من اعترض على ما أشار به، إلاّ بسبب رحمة عظيمة. ولو كنت سيئ الخلق خشن الكلام قاسي القلب وشديده، تعاملهم بالعنف والجفاء، لتفرقوا عنك، فلم يسكنوا إليك، فلا تتم دعوتك. ولكن الله جعلك سهلاً سمحًا طلقًا ليِّنًا لطيفًا بارًا رءوفًا رحيمًا. فاعف عنهم فيما فرّطوا في حقّك، كما عفا الله عنهم واستغفر لهم إتمامًا للشفقة عليهم. وشاورهم في أمر الحرب وغيره تودُّدًا إليهم وتطييبًا لنفوسهم واستظهارًا بآرائهم وتمهيدًا لسنة المشاورة في الأمة(18).
والفظ هو السيئ الخلق الجافي الطبع، أمّا الغليظ القلب فهو القاسي القلب غير المتسامح في تعامله مع النّاس، وهكذا كانت الغلظة والفظاظة من أعظم أسباب تفرق النّاس بعضهم عن بعض، وفي الخطاب القرآني عبرة لأولي الألباب وهو حكم عام يطرأ في النّاس جميعًا (وَلَوْ كُنتَ فَظّا غَلِيظَ القَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ)، وذلك من علم الله تعالى بخلقه (أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِفُ الْخَبير)(19).
[4] هذا وقد ورد الأمر بالشورى في سياق ما خصّ الله به نبيه صلى الله عليه وسلم من خلق عظيم ووصفه به من الرحمة كما في هذه الآية، وكما في ختام سورة التوبة حيث وصفه بالرأفة والرحمة (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم)(20)، أما في سورة الأنبياء فقد خص بالرحمة العامة للعالمين (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)(21)، ورحمته عامة تستغرق كل ما يصدق عليه اسم العالم، وقد أقيمت شعائر الإسلام على دعائم الرحمة والرفق واليسر بالنّاس كلهم.
وهي رحمة موضوعة في محلها الصحيح، وهي لا تنفي ما بان لنا من شدته في المواضع المقتضية لذلك، بل هي في حقيقتها من الرحمة بعباد الله. كيف لا ومن صفاته صلى الله عليه وسلم التي وصفه بها القرآن (بالمؤمنين رءوف رحيم)(22).
ولا خير في حلمٍ إذا لم تكن له بوادر تحمي صفوة أن يكدرا
[1] وهذه الصفة الكريمة التي وصف بها رسول الله صلى الله عليه وسلم خلق ثابت من خلقه العظيم ومنه قوله: (إنما أنا رحمة مهداة)(23) دليل على تخلق نفسه الزكية بخلق الرحمة، وإحاطة الرحمة بتصاريف شريعته(24)، ومنها شرعة الشورى.
[2] وهذه الصفة تقتضي أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم رحيمًا بالمؤمنين، يلين لهم قوله ويبسط لهم وجهه، ويعفو عنهم، ويستغفر لهم فيما حملوا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم برأي أكثريتهم يوم أحد.
ثم كان من مخالفتهم الأوامر مما نتج عنه ما كان يومئذٍ في غزوة أحد (أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير)(25).
بل إن القرآن يأمره صلى الله عليه وسلم ان يشاورهم في الأمر وإن بدر منهم كل ما سبق، ذلك بأن الأمر بالشورى مقصود لذاته من حيث هو رحمة في حياة المجتمع كله، وفي نشاط الدولة كلها.
وهكذا فإنّ الراجح، من الدليل القرآني، أن الشورى واجبة ملزمة في النظام السياسي للدولة، خصوصًا إذا جرى التعاقد على وجوبها وإلزامها بالدستور والقانون، وهي لا تكون أقل من الوجوب والإلزام إلا في حدود ضيقة كما لو كانت استشارة لأهل الخبرة والاختصاص، كما سيرد تبيان ذلك لاحقًا إن شاء الله تعالى، ذلك بأن الحكم الصالح يقوم على العدل الشامل، ومن مقتضيات هذا العدل الأخذ بمنهاج الشورى كمنهاج شامل في الحياة العامة والخاصة.
حكم الشورى في السنّة النبوية(/3)
ونعرض في هذا المبحث الدلائل والإشارات على وجوب الشورى، سواء من التوجيهات أو من الممارسات في السيرة النبوية، وذلك من حيث أن هذه السيرة هي نموذج عملي وحي لتعاليم القرآن الكريم، فقد كانت أخلاقه صلى الله عليه وسلم هي القرآن الكريم، فيما تصفه السيدة عائشة رضي الله عنها: (كان خلقه القرآن)(26).
والمرجعية الثانية في تأصيل الشورى هي السنة النبوية، فقد أسس النبي صلى الله عليه وسلم للشورى نظامًا يحتذى وسنة عملية تطبيقية على أكمل وجه، وعرف ذلك عنه أصحابه.
[أ] قال أبو هريرة: (ما رأيت أحدًا أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم )(27).
[ب] عن النبي صلى الله عليه وسلم قال له أبو بكر وعمر: (إنّ الناس ليزيدهم حرصًا على الإسلام أن يروا عليك زيًا حسنًا من الدنيا فقال: وأيّم الله لو أنكما تتفقان على أمر واحد، ما عصيتكما في مشورة أبدًا)(28).
[ج] عن الحسن البصري قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتشير حتى المرأة فتشير عليه بالشيء فيأخذ به).
[د] عن ابن عبّاس قال لما نزلت (وشاورهم في الأمر) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أما إن الله ورسوله لغنيان عنها ولكن جعلها الله رحمة لأمتي، فمن استشار منهم لم يعدم رشدًا ومن تركها لم يعدم غيًا)(29).
[هـ] عن الحسن: (قد علم الله تعالى ما به إليهم حاجة، ولكن أراد أن يستن به من بعده)(30).
[و] عن قتادة: (أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يشاور أصحابه في الأمور وهو يأتيه وحي السماء، لأنه أطيب لأنفس القوم، أو أن تكون سنة بعده لأمته).
[ز] ابن عطية: (الشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام)(31).
[ح] الضحاك بن مزاحم في تفسير قوله تعالى: (وشاورهم في الأمر): (ما أمر الله عزّ وجلّ نبيه بالمشورة إلا لما علم فيها من الفضل).
[ط] ابن تيمية: (لا غنى لولي الأمر عن المشاورة فإنّ الله تعالى أمر بها نبيه صلى الله عليه وسلم فقال (فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمن فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين)(32)، وقد روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (ما رأيت أحدًا أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم )(33).
إن الله أمر بها نبيه لتأليف قلوب أصحابه، وليقتدي به من بعده، وليستخرج منهم الرأي فيما لم ينزل فيه وحي من أمر الحروب والأمور الجزئية وغير ذلكن فغيره صلى الله عليه وسلم أولى بالمشورة)(34).
[ي] قد ثبتت مشاورته صلى الله عليه وسلم لأصحابه في عدة أمور، منها:
[1] أنه شاورهم يوم بدر وخاصة الأنصار قبل الدخول في المعركة، فقالوا: (يا رسول الله لو استعرضت بنا البحر لقطعناه معك، ولو سرت بنا إلى برك الغماد لسرنا معك، ولا نقول لك كما قال قوم موسى اذهب أنت وربك فقاتلا إنّا هاهنا قاعدون، ولكن نقول اذهب فنحن معك وبين يديك، وعن يمينك وشمالك مقاتلون).
[2] وشاور الحباب بن المنذر رضي الله عنه في اختيار مقر المعسكر وأخذ برأيه، وشاور صاحبيه أبا بكر وعمر في أمر الأسرى، وأخذ برأي أبي بكر.
[3] وشاورهم يوم أحد في المقام والخروج، فرأوا له الخروج، فلما لبس لامته وعزم قالوا: أقم، فلم يمل إليهم بعد العزم وقال: (لا ينبغي لنبي يلبس لامته فيضعها حتى يحكم الله)(35).
[4] وشاورهم يوم الخندق في حفره فأخذ برأي سلمان الفارسي. أما في مصالحة الأحزاب بثلث ثمار المدينة عامئذ، فأبى ذلك عليه السعود: سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة، وسعد بن خيثمة، وسعد بن مسعود فترك ذلك. وكان الأنصار أولى بالشورى هنا لأنهم أصحاب النخيل والثمار فهم أهل الاختصاص إذًا.
[5] وشاورهم حتى عند سن الأذان، فعن نافع أنّ ابن عمر كان يقول: كان المسلمون حين قدموا المدينة يجتمعون فيتحينون الصلاة ليس ينادى لها، فتكلموا يومًا في ذلك فقال بعضهم: اتخذوا ناقوسًا مثل ناقوس النصارى وقال بعضهم: بل بوقًا مثل قرن اليهود، فقال عمر: أولا تبعثون رجلا ينادي بالصلاة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (يا بلال قم فناد بالصلاة)(36).
[6] وأقر صلى الله عليه وسلم حق المرأة، وعمل برأيها، فقد جاء في رواية البخاري لحديث الحديبية: فلما فرغ من قضية الكتاب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (قوموا فانحروا ثم احلقوا) قال: فوالله ما قام منهم رجل حتى قال ذلك ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد دخل على أم سلمة فذكر لها ما لقي من الناس. فقالت أم سلمة: يا نبي الله أتحب ذلك؟ أخرج ثم لا تكلم أحدًا منهم كلمة حتى تنحر بدنك وتدعو حالقك فيحلقك؟ فخرج فلم يكلم أحدًا منهم حتى فعل ذلك نحر بدنه ودعا حالقه فحلقه، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضًا حتى كاد بعضهم يقتل بعضًا غمًا(37).
معالم الشورى النبوية:
تتضح معالم الشورى النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام في أمور جليلة أظهرها:
[1] الرجوع إلى الدليل الشرعي (الوحي) كما حدث في يوم الحديبية حيث قال: (أنا عبد الله ورسوله لن أخالف أمره)(38).(/4)
[2] الصواب في بدر بغض النظر عن الأكثرية حيث نزل على رأي الحباب بن المنذر (بل هو الرأي والحرب والمكيدة)، والحباب يمثل أهل الخبرة والاختصاص وأهل الذكر وبعبارة أخرى أهل الحل والعقد.
[3] الأكثرية يوم أحد، وإن خالف رأيهم رأي الصواب.
وعليه إذا كانت الشورى في الأمور التشريعية فالحجة لقوة الدليل، وإذا كانت الشورى في الأمور الفنية فالحجة لأهل الخبرة والاختصاص في الموضوع، أمّا في طلب الرأي الذي يرشد على القيام بعمل من الأعمال كانتخاب رئيس أو والٍ أو إقرار مشروع فيرجح رأي الأكثرية. لأن الكثرة يحصل بها الترجيح كما يقول الأمدي(39).
وهكذا تقدم لنا السيرة النبوية معالم أساسية لفقه الشورى، كأمر رباني، وسنة نبوية، وقيمة أخلاقية وحكمة بالغة في سياسة الأمة.
حكمة مشروعية الشورى
أما أبرز وجوه الحكمة في مشروعية الشورى فهي:
[1] إقامتها للخير والصواب ومنعها الاستبداد بالرأي وقهر الرجال.
[2] ولإرشاد الحكام وولاة الأمر.
[3] واحترام عقول الناس وتأليف قلوبهم مما يعين أيضًا على سهولة تنفيذ ما يتخذ من قرارات.
[4] والاستفادة من رأي الآخرين واكتشاف قدراتهم، ولتمييز الناصح من غيره.
[5] ولرضا المخالف، وإقامة الحجة.
[6] ولإحياء الاجتهاد بالنظر.
ويستخلص بعض الفقهاء المعاصرين في بيانه لأهمية الشورى خمسة وجوه كلية تندرج تحت كل منها فوائد ومزايا جزئية كثيرة، وهي:
[1] إنّها العامل الأول لنسيج أواصر الإلفة والمحبة بين الأمة وقادتها، وهذه مزية أخلاقية.
[2] والشورى تذكر كلا من إمام المسلمين والمسلمين أنفسهم بنوع العلاقة القائمة بين الطرفين من منظار الشرع الإسلامي الحنيف: [فأما الإمام فإن من شأن الشورى أن تذكره بأنه موظف من قبل رب العالمين في تسيير أمور الأمة وحماية أمنها، وطمأنينتها، وليس صاحب صلاحية في التسلط عليها والتحكم برقابها. وأمّا الأمة فإنّ الشورى تذكرها بما يستوجب مزيدًا من الانصياع لرأي الإمام وحكمه فإنّها تعلم بذلك أنّها لا تطيع إلا فيما يصلحها ويرعى حقوقها، وهذه مزية اجتماعية.
[3] الشورى سبيل لابد منه للاستفادة من علم العلماء وخبرة أصحاب الرأي وما يتمتع به كثير من رجالات الأمة من بُعد النظر وعمق الدراية، وهذه مزية علمية.
[4] هنالك حقوق للأمة لا يجوز للحاكم أو الإمام أن يتصرف فيها إلا بمشاورة أصحابها واستئذانهم في ذلك.
وإنما السبيل الوحيد لصحة تصرفه فيها مشاورة أصحاب هذه الحقوق مباشرة، أو عن طريق عرفائهم ووكلائهم، وهذه مزية حقوقية.
[5] لابد أن يكون الإمام مطلعًا على مطامح قومه وآمالهم، وعلى الأفكار والاتجاهات التي قد تتسلل إليهم وتسري فيما بينهم، سواء ما كان إيجابيًا مفيدًا أو سلبيًا ضارًا.
وخير السبل الكفيلة بذلك الاحتكاك بوجوه الناس ومفكريهم إنما هو عن طريق التحاور والتشاور، وهذه مزية سياسية(40).
[6] ولا تكون الشورى في أمر قطعي الدلالة والثبوت سواء بنص صريح من القرآن أو خبر صحيح من السنة.
أما إذا كان النص القرآني يحمل دلالة ظنية فهو يخضع للشورى والاجتهاد الجماعي ومما يتعلق بفهم النص واستنباط معقوده.
وللشورى صلة بالتعاون بين الناس (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان)(41)، والنصيحة والتواصي كما في سورة العصر (والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا اللذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر)(42).
ونحن لا نستطيع أن نمنع حدوث اختلاف الرأي بين النّاس، أو الخلاف عامة، فقد خلق النّاس وجبلوا على حرية الاختيار والرأي، وذلك من رحمة الله بالناس: (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم)(43). لكن المطلوب هو أن ندير ذلك بالحكمة مع التواصي بالحق والاجتهاد في الوصول إليه والتزامه والتماس العذر الحسن عن أداه واجتهاده ليختار مذهبًا يراه أصوب. أما المحذور فهو الافتراق، المؤدي إلى الفتنة والاحتراب.
[7] والشورى لا تقف عند اختيار الحكام، وإنما تمتد إلى سائر ضروب النشاط الإنساني، ووجوه الحياة العامة، كما أنّ الشورى أوسع نطاقًا من مجرد الوصول إلى رأي الأغلبية، وإنّما المعول عليه الوصول إلى هذا الرأي عن طريق الحوار الناصح والمجادلة الحسنة. بل هي واجب مفروض طاعةً لله واتباعًا للسنة في أداء النصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.(/5)
وفي كتابه "فقه الشورى والاستشارة" يذهب د. توفيق الشاوي إلى أنّ: (في مفهوم الشورى لا يكتفي الفرد فيه بالتمتع بحريته في اختيار الحكام عن طريق انتمائه للأغلبية بحسب، بل لابدّ من ممارسة حريات أخرى ذاتية يستمدها من صفته إنسانًا أو فردًا في المجتمع، بصرف النظر عن انتمائه للأغلبية أو الأقلية وعمّا إذا كان قد تمتع فعلاً بالمشاركة في القرارات السياسية بصفته جزء من الأغلبية الحاكمة أو لا. وهذه الحريات الإنسانية للفرد تضمنها الشورى لكل فرد في المجتمع، لأنها لا تقتصر إسهامه على شؤون الجماعة على مجرد عملية اختيار الحكام، بل توسع نطاق هذا الإسهام ليشمل حقه الكامل في المشاركة على سبيل المساواة مع الجميع في التشاور والحوار الحر في كل ما يتعلق بشؤون المجتمع ونظمه الاجتماعية ومؤسساته المالية والاقتصادية والسياسية والثقافية.
والشورى بذلك تتجاوز حقوق الإنسان إلى أنها واجب، وهي حق لكل الناس وواجب عليهم جميعًا.
[8] والشورى إنما هي حق للإنسان وحق أساسي للأمة تمارسه لإقامة العدل والحق. ومن ذلك يتبين أن الشورى هي أساس حق الأمة.
• في اختيار الحاكم أو المسئول عن الولاية.
• في مراقبة أعماله وسلوكه العام، بل وسلوكه الشخصي في نظر كثير من الفقهاء.
• وفي أنها أساس القيود والحدود الصريحة التي تفرضها الأمة على سلطة الحكام الذي تتعاقد معهم بالبيعة قبل اختيارهم أو بعده، والتي يكون الغرض منها محددًا ومعينًا من التزامه برأي أو عمل أو سلوك، ترى الأمة ممثلة في أهل الشورى إلزام حكامها بها لضمان حسن سير عمل الحكومة وإدارتها، مثل شرط تحديد مدة الولاية بمدة معينة حتى يحتفظوا لأنفسهم بحق اختيار غيره إذا وجدوا أنه أقدر أو أولى منه، وشرط الالتزام بالشورى في موضوعات معينة تدخل في اختصاصه، مثل إعلان الحرب وعقد المعاهدات، واعتماد الميزانية والحساب الختامي، وتعيين بعض كبار المسئولين أو عزلهم وما إلى ذلك.
وتستمر الشورى حقًا للناس ليشاركوا بالرأي والنصيحة، وواجبًا عليهم في مراقبتهم ومحاسبتهم بعضهم لبعض وفق مرجعية أصول الدين وأحكام الشريعة(44).
الشورى بين الإلزام والالتزام:
وللشورى من حيث إلزاميتها واختياريتها ضروب لا تخرج في جوهرها عن حكمة مشروعيتها، وإن تعددت هذه الضروب وفق الأقضية، فهناك الشورى الجماعية ذات الإلزام، والمشورة الاختيارية التي تطلب من أهل الاختصاص، علاوة على الفتوى الفقهية الاستشارية. قال صاحب كتاب الشورى والاستشارة (يجب في رأينا التفرقة بين أنواع ثلاثة من القرارات الناتجة عن "التشاور" وهي:
أولاً: المشورة الجماعية التي لابد من الالتجاء إليها للحصول على قرار جماعي ملزم في شأن من شؤون الجماعة الهامة.
ثانيًا: الاستشارة الاختيارية الحرة، أي بطلب الرأي والنصيحة من ذوي التجربة أو الخبرة، وهي اختيارية لمن طلبها، وتسفر عن رأي غير ملزم. وتقدم (المشورة) تلقائيًا دون طلبها في صورة نصيحة، ويكون الرأي استشاريًا من باب أولى، لأن القرار لا يصدر من المستشار أو الناصح، بل يصدره المستشير بكل حرية باختياره بناءً على المشورة المقدمة له إذا اقتنع بها، أو بغيرها إذا لم يقتنع.
ثالثاً: طلب الفتوى الفقهية، وهي نوع من الاستشارة في أحكام الفقه، وهي مشورة اختيارية(45).
وهكذا فإن الشورى تصير واجبة وملزمة في الشأن العام للأمة لا سيما إذا جرى التعاقد عليها دستوريًا وقانونيًا.. أما الشورى (المعلمة) في مقابل الشورى (الملزمة) فهي استشارة اختيارية حرة لذوي التجربة والخبرة في الشؤون الخاصة، علاوة على الشورى الناشئة من طلب الفتيا، وهي أيضًا ضرب من الاستشارة الاختيارية.
تجربة الشورى النبوية في الشؤون العسكرية والاجتهادية
1 ـ في المجال العسكري:
وفي هذا المبحث خصصنا الشورى النبوية في الشؤون العسكرية والاجتهادية بمعالجة أوفى للدلالة على اطلاقية الشورى، وبخاصة فيما لم يرد به وحي أو دلالة قطعية من القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، وهي ملزمة للحاكم أو القائد من وجهين:
* فتح بابها لاستجماع الرأي.
* والأخذ بمحصلتها لدى إعمال الرأي.
وتمتد قيمة الشورى على سائر ضروب النشاط الإنساني، ومنها في السيرة النبوية الشورى في النهوض بأمانة الجهاد التي هي من أكبر مسؤوليات المجتمع والدولة في الفقه الإسلامي.
ومما ينبغي أن يعلم ليُحتذى ويُتأسى به أمر الشورى في الهدي النبوي في مجال الجهاد في سبيل الله تعالى نيةً وإعدادًا وتدريبًا ومواجهة، وما يترتب على ذلك.
والناظر في المفردات لا يخطئه أن يرى فيها جملةً وتفصيلاً كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلتزم الشورى ابتداءً وانتهاءً، وقد ساق أحد الفقهاء العسكريين نماذج وافرة لهذه الغزوات وما دار أثناءها من شورى نبوية مع أصحابه ومنها أنه صلى الله عليه وسلم :
• شاور في غزوة بدر المهاجرين والأنصار من أجل ضمان مشاركة الأنصار في القتال وذلك قبل نشوب القتال في مسيرة الاقتراب.(/6)
• وشاور الحباب بن المنذر في مقر المعسكر وأخذ برأيه.
• وشاور الصاحبين بشأن الأسرى، وذلك بعد انتهاء الغزوة.
• وشاور في غزوة أحد فكان رأي أكثر المسلمين خاصة الشباب الخروج إلى أحد لا البقاء في المدينة لصدهم عنها.
• وفي حمراء الأسد أشار الصاحبان بالخروج إليها فأخذ برأيهما.
• وشاور سلمان الفارسي وأخذ برأيه في حفر الخندق.
• وفي أثناء القتال شاور سعد بن معاذ وسعد بن عبادة ومسعودًا وأخذ برأيهم في عدم إعطاء ثمار المدينة غطفان.
• وفي الحديبية قبل التحرك إليها من المدينة أشار بعضهم بالتسلح الكامل بأسلحة الراكب وأحرم المسلمون لإثبات نيتهم السليمة.
• وفي غسان أشار ذوو الرأي من المسلمين بالقتال دفاعًا عن عن النفس وأخذ بمشورتهم.
• ولما تذمّر بعض ذوي الرأي من المفاوضات أخذ برأي أكثريتهم ممن أقروا النبي صلى الله عليه وسلم في نياته السليمة.
• وفي خيبر أخذ بشورى الحباب بن المنذر أثناء القتال بتبديل معسكر المسلمين.
• ثم كان من شورى الحباب أيضًا قطع النخل ثم أشار أبو بكر بالتوقف عن قطع النخل فعمل بمشورته.
• وفي غزوة حنين بعد نهاية الغزوة شاور في التنازل عن السبي وابتدأ بنفسه واقتدى به أهل السبق أما المسلمون من حديثي العهد (فإنه مع رضاهم) عوضهم بما ارضاهم.
• وفي غزوة الطائف أشار الحباب بن المنذر باختيار مكان أكثر أمنًا من المعسكر الأول فأخذ برأيه.
• وفي أثناء القتال أشار سلمان بنصب المنجنيق ورمي حصن الطائف به فأخذ بمشورته.
• ولما حرص بعض المسلمين على الاستمرار في القتال وافقهم على ما أرادوا حتى رأوا أن ينسحبوا مستبشرين.
• وفي غزوة تبوك في السنة التاسعة من الهجرة لما وصلوها شاور في التقدم شمالاً فأشار عمر بعدم التقدم فوافقه.
• وفي العودة منها أذن للمجاهدين أن ينحروا ركابهم ليطعموا منها فأشار عمر بجمع ما عند المجاهدين كلهم من أرزاق وتوزيعها فأقر مشورته.
2ـ الشورى في المسائل الاجتهادية:
تعد الفتوى والاجتهاد الشرعي والفقهي بابًا من أبواب الشورى، وبخاصة الاجتهاد الجماعي، وقد ذكر أبو داود في سننه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يبعث معاذًا إلى اليمن قال: كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟
قال: أقضي بكتاب الله.
قال: فإن لم تجد في كتاب الله؟
قال: فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال: فإن لم تجد في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا في كتاب الله؟
قال: أجتهد رأيي ولا آلو.
فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره وقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله(46).
قال ابن القيم معلقًا على هذا الحديث: (فهذا حديث وإن كان من غير مسمين فهم أصحاب معاذ فلا يضر ذلك، لأنه يدل على شهرة الحديث وأن الذي حدث به الحارث بن عمر عن جماعة من أصحاب معاذ لا واحد منهم، وهذا أبلغ في الشهرة من أن يكون عن واحد منهم ولو سمي، كيف وشهرة أصحاب معاذ بالعلم والدين والفضل والصدق بالمحل الذي لا يخفى ولا يعرف في أصحابه من هو كذاب ولا مجروح، بل أصحابه من أفاضل المسلمين وخيارهم ولا يشك أهل العلم بالنقل في ذلك).
ويقول الإمام الجويني: (إنّ أصحاب المصطفى صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم استقصوا النظر في الواقع والفتاوى والأقضية فكانوا يعرضونها على كتاب الله تعالى فإن لم يجدوا فيها متعلقًا راجعوا سنن المصطفى صلى الله عليه وسلم ، فإن لم يجدوا فيها شفاء اشتوروا واجتهدوا. وعلى ذلك درجوا في تمادي دهرهم إلى انقضاء عصرهم ثمّ استنّ بسنتهم من بعدهم)(47).
ويقول ابن قيم الجوزية: (عن ابن اسحق بن راهويه عن سفيان بن عيينة: اجتهاد الرأي هو مشاورة أهل العلم، لا أن يقول هو برأيه)(48).
ثم إن كل مسألة خاضعة للاجتهاد فإنّ تداول الرأي فيها بين أهل العلم والخبرة يعد من قبيل الشورى، وهل الشورى إلا ممارسة الاجتهاد الجماعي؟.
وفي المسائل الفقهية والأحكام الشرعية إنّما يُسأل أهل العلم بالنصوص الشرعية والفقه فيها.
وفي موطأ الإمام مالك عن ميراث الجدة أنها جاءت إلى أبي بكر الصديق تسأله ميراثها، فقال لها أبو بكر: ما لك في كتاب الله شيء وما علمت لك في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا فارجعي حتى اسأل الناس. فسأل الناس، فقال المغيرة ابن شعبة حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس. فقال أبو بكر: هل معك غيرك؟ فقام محمد بن مسلمة الأنصاري فقال مثل ما قال المغيرة فأنفذه لها أبو بكر الصديق(49).
الاجتهاد الجماعي:
وفي ذلك قام الاجتهاد في الفقه الإسلامي على مشاورة أهل البصر والفقه في الدين من لدن عهد الصحابة رضي الله عنهم ومن تبعهم بإحسان في الأجيال المتصلة وهكذا كان الأئمة فيما بينهم وفيما بين كل إمام وتلاميذه، بل إن ظهور المذاهب الفقهية كان مجالاً رحبًا للمشاورة العلمية ومناقشة الأدلة وتقعيد القواعد الفقهية.(/7)
[1] وكانت الأئمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم يستشيرون الأمناء من أهل العلم في الأمور المباحة ليأخذوا بأسهلها، فإذا وضح الكتاب أو السنة لم يتعدوه إلى غيره اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم ورأى أبو بكر قتال من منع الزكاة، فقال عمر: كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله فإذا قالوا: لا إله إلا الله؛ عصموا مني دماءهم ,أموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله؟ فقال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرق بين ما جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم تابعه بعد عمر فلم يلتفت أبو بكر إلى مشورة، إذ كان عنده حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الذين فرقوا بين الصلاة والزكاة وأرادوا تبديل الدين وأحكامه وقال النبي صلى الله عليه وسلم : (من بدل دينه فاقتلوه)(50).
[2] وكان القراء أصحاب مشورة عمر كهولاً كانوا أو شبابًا، وكان وقّافًا عند كتاب الله عز وجل.
وقال ابن خويز منداد: واجب على الولاة مشاورة العلماء فيما لا يعلمون، وما أشكل عليهم من أمور الدين، ووجوه الجيش فيما يتعلق بالحرب، ووجوه الناس فيما يتعلق بالمصالح، ووجوه الكتاب والوزراء والعمال فيما يتعلق بمصالح البلاد وعمارتها. وكان يقال ما ندم من استشار. وكان يقال: من أعجب برأيه ضل.
ويقول الأستاذ/ مصطفى الزرقاء: (وهذه الشورى هي الطريقة التي كان يلجأ إليها الفقهاء الراشدون في المشكلات العلمية والسياسية كلما مر بهم أمر).
ويمضي في تأصيل ذلك فيقول: (ولا ريب أن هذا الرأي العلمي الذي يصدر عن الشورى المجتمعة والتمحيص والتحقيق المشترك يكون أضمن للصواب والمصلحة من الآراء الفقهية الفردية. وقد أخذ الاجتهاد المالكي بمبدأ هذه الشورى العلمية بين علماء كل زمن في تعديل الأحكام الفقهية عندما يتبدل فيها عرف الناس ومقاصدهم العلمية).
ثم يدعو الشيخ إلى استمرار هذا الاجتهاد الجماعي فيقول: (وهذا هو اجتهاد الجماعة الذي نرى أنه لا يسوغ انقطاعه)(51).
ومن هنا كان الاجتهاد الجماعي، والاختيارات الفقهية من أهل الاختصاص في استخراج الأحكام من مصادرها الشرعية مع بصر واسع بمعارف عصرهم، وأهل عصرنا اليوم وهم يواجهون مشكلات جديدة في طريق العودة إلى الله تعالى وتجديد أمر الدين يحتاجون إلى مجامع علمية لتحقيق الاجتهاد الجماعي، ووصل ما أمر الله به أن يوصل في شؤون الحياة كلها طاعة وعبادة في الأصول والمناهج والشئون الدستورية والقانونية، والمجتمع والثقافة، والمالية والاقتصادية والعلوم التطبيقية، وذلك من أجل أن يكون الدين كله لله على هدي كتاب الله تعالى ومنهاج النبوة.
ويمكن أن يجري تنسيق وتنظيم لهذه الممارسة الجماعية بالاجتهاد، في مجامع أو مجالس لها اختصاصاتها وفق المناشط العامة للدولة والمجتمع.
وقد صار تنظيم الاجتهاد الجماعي في عصرنا هذا ضروريًا، وذلك بتأسيس مجالس ومجامع فقهية للشورى وتبادل الرأي والنظر في المسائل والقضايا المستحدثة رجاء تحقيق الاجتهاد الجماعي.
الشورى عند الخلفاء الراشدين
أما المرجعية الثالثة لمشروعية الشورى، بعد الأمر القرآني، والتوجيه النبوي، فهي سنة من سنن الخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم في إتباعهم لكتاب الله وسنة نبيه، عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
وهذه هي وجوه من سنتهم في إتباع الأمر بالمعروف:
• قال البخاري: (... وكانت الأئمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم يستشيرون الأمناء من أهل العلم في الأمور المباحة ليأخذوا بأسهلها فإذا وضح الكتاب أو السنة لم يتعدوه إلى غيره إقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم )(52).
• عن القاسم أنّ أبا بكر الصديق رضي الله عنه كان إذا نزل به أمر يريد فيه مشورة أهل الرأي وأهل الفقه، دعا رجالاً من المهاجرين والأنصار، ودعا عمر، وعثمان، وعليًّا، وعبد الرحمن بن عوف، ومعاذ بن جبل، وأُبي بن كعب، وزيد بن ثابت رضي الله عنه فمضى أبو بكر على ذلك، وولى عمر فكان يدعو هؤلاء النفر، وكانت الفتوى تصير وهو خليفة إلى عثمان وزيد(53).(/8)
• عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (لما قبض النبي صلى الله عليه وسلم اشرأب النفاق بالمدينة، وارتدّ العرب وارتدت العجم وأبرقت وتواعدوا نهاوند وقالوا: قد مات هذا الرجل الذي كانت العرب تنصر به، فجمع أبو بكر رضي الله عنه المهاجرين والأنصار وقال: إنّ العرب قد جمعوا شاتهم وبعيرهم ورجعوا عن دينهم، وإنّ هذه العجم قد تواعدوا نهاوند ليجمعوا لقتالكم، وزعموا أنّ هذا الرجل الذي كنتم تنصرون به قد مات، فأشيروا عليّ، فما أنا إلا رجل منكم وإني أثقلكم حملاً لهذه البلية، فأطرقوا طويلاً، ثمّ تكلّم عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: أرى – والله – يا خليفة رسول الله أن تقبل من العرب الصلاة وتدع لهم الزكاة، فإنهم حديثو عهد بجاهلية لم يعهدهم الإسلام، فإمّا أن يردهم الله تعالى إلى خير، وإمّا أن يعزّ الله الإسلام لنقوى على قتالهم، فما لبقية المهاجرين والأنصار يدان للعرب والعجم قاطبة، فالتفت إلى عثمان رضي الله عنه فقال مثل ذلك؛ وقال علي رضي الله عنه مثل ذلك؛ وتابعهم المهاجرون، ثم التفت إلى الأنصار فتابعوهم، فلما رأي ذلك صعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد! فإنّ الله بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم والحق قلّ شريد والإسلام غريب طريد، قد رث حبله، وقل أهله، فجمعهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وجعلهم الأمة الباقية الوسطى، والله! لا أبرح أقوم بأمر الله وأجاهد في سبيل الله حتى ينجز الله لنا ويفي لنا بعهده، فيقتل من قتل منا شهيدًا في الجنة، ويبقى من بقي منا خليفة الله في أرضه ووارث عباده الحق؛ فإن الله تعالى قال وليس لقوله خلف: (وَعَد اللهُ الْذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالحَِاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم ِفي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِم)(54)، والله! لو منعوني عقالاً مما كنوا يعطون رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أقبل معهم الشجر والمدر والجن والإنس لجاهدتهم حتى تلحق روحي بالله؛ إن الله لم يفرّق بين الصلاة والزكاة ثم جمعهما؛ فكبّر عمر وقال: والله قد علمت حين عزم أبو بكر على قتالهم أنّه الحق(55). وفي هذا المثل جمع الخليفة الراشد أهل العلم من مستشاريه وعمل على إقناعهم بما ساق من الأدلة فتركوا رأيهم اقتناعًا واتباعًا لمّا رأوا أنه الحق.
• عن أشهب إن عثمان كان إذا جلس أحضر أربعة من الصحابة ثم استشارهم فإذا رأوا ما رآه أمضاه(56).
وهكذا سار الخلفاء الراشدون سيرة النبي صلى الله عليه وسلم في ممارسة الشورى وفي الحض عليها والعمل بها.
الشورى في فقه الأحكام السلطانية والسياسة الشرعية
وهي الشورى في الشئون السياسية، بدْءً باختيار الحاكم وبيعته وانتهاءً إلى ممارسته هو وأعوانه لمبدأ الشورى. وفيما يلي وجوه الممارسة الشورية في الشورى في فقه الأحكام السلطانية والسياسة الشرعية.
[أ] واختلف أهل التأويل في المعني الذي أمر الله نبيه عليه السلام أن يشاور فيه أصحابه، فقالت طائفة: ذلك في مكائد الحروب، وعند لقاء العدو، وتطييبًا لنفوسهم، ورفعًا لأقدارهم، وتأليفًا على دينهم، وأن الله تعالى قد أغناه عن رأيهم بوحيه. وروى هذا عن قتادة والربيع وابن إسحاق والشافعي. قال الشافعي: هو كفوله: (والبِكرُ تُستَامَرُ)(57) تطييبًا لقلبها، لأنه واجب. فأمر الله تعالى نبيه عليه السلام أن يشاورهم في الأمر، فإن ذلك أعطف لهم وأهب لأضغانهم، وأطيب لنفوسهم فإذا شاورهم عرفوا إكرامه لهم.
[ب] وقال آخرون: ذلك فيما لم يأته من وحي. وروى ذلك عن الحسن البصري والضحاك قالا: ما أمر الله تعالى نبيه بالمشاورة لحاجة منه إلى رأيهم وإنما أراد أن يعلمهم ما في المشاورة من الفضل، ولتقتدي به أمته من بعده.
ولقد أحسن القائل:
شاور صديقك في الحفي المشكل واقبل نصيحة ناصح متفضل
فالله قد أوصى بذلك نبيه في قوله شاورهم وتوكل
[ج] وقال العلماء في صفة المستشار: "وصفة المستشار إن كان في الأحكام أن يكون عالمًا دينا. وقلّ ما يكون ذلك إلا في عاقل". قال الحسن: "ما كمل دين امرئٍ ما لم يكمل عقله". فإذا استشير من هذه صفته واجتهد في الصلاح وبذل جهده فوقعت الإشارة خطأ فلا غرامة عليه، قاله الخطابي وغيره. قال سفيان الثوري: ليكن أهل مشورتك أهل التقوى والأمانة، ومن يخشى الله تعالى.
[د] وصفة المستشار في أمور الدنيا أن يكون عاقلاً مجربًا ودًّا لدى المستشير.
وإن باب أمر عليك التوى فشاور لبيبًا ولا تعصه
وعندهم المستشار: العليم الذي يؤخذ برأيه في أمر هام علمي، أو فني، أو سياسي، أو قضائي أو نحوه(58).
والشورى بركة وهي مظنة الوصول إلى وجه الحق. وقال عليه السلام: (ما ندم من استشار ولا خاب من استخار)(59).
وروى سهل بن سعد الساعدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : (ما شقي قط عبد بمشورة وما سعد باستغناء رأي).(/9)
ولجلال الشورى جعلت منهجًا للخلافة، وقد جعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه الخلافة – وهي أعظم النوازل – شورى. قال البخاري: (.. وكانت الأئمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم يستشيرون الأمناء من أهل العلم في الأمور المباحة ليأخذوا بأسهلها فإذا وضح الكتاب أو السنة لم يتعدوه إلى غيره اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم )(60).
[هـ] وقال الحسن: والله ما تشاور قوم بينهم إلا هداهم لأفضل ما يحضرهم.
[و] والشورى مؤدية للعزم في الأمور وإمضائها. والشورى مبنية على اختلاف الآراء، والمستشير ينظر في تلك الآراء، وينظر أقربها قولاً إلى الكتاب والسنة إن أمكنه، فإذا أرشده الله تعالى إلى ما شاء منه عزم عليه وأنفذه متوكلاً عليه، إذ هذه غاية الاجتهاد المطلوب، وبهذا أمر الله تعالى نبيه عليه السلام إذا عزم على أمر أن يمضي فيه ويتوكل على الله، لا على مشاورتهم. والعزم هو الأمر المروى المنقح. وليس ركوب الرأي دون روية عزمًا، إلا على مقطع المشيحين من فتاك العرب، كما قال:
إذا همّ ألقى بين عينيه عزمه ونكب عن ذكر العواقب جانبا
ولم يستشر في رأيه غير نفسه ولم يرض إلا قائم السيف صاحبا
وهكذا فإنّ الشورى في الأحكام السلطانية، تبدأ بالبيعة وتستمر في إدارة شؤون الدولة، وفي الرقابة والمحاسبة على أداء الحكام .. فهي لا تزال السياسة الشرعية أبدًا، غير أنها تجري ممارستها بأحكامها وآدابها.
----------
(1) سنن أبي داود برقم 806، كتاب الصلاة، باب الإشارة في الصلاة.
(2) الراغب الأصفهاني: المفردات في غريب القرآن، 272
(3) انظر: ابن منظور: لسان العرب: مادة شور، والفيروز آبادي: القاموس المحيط: مادة شورة، وبصائر ذوي التمييز 3/260 وما بعدها
(4) ابن فارس: معجم مقاييس اللغة 3/266ـ 267.
(5) د. محمد سعيد رمضان البوطي: الشورى في الإسلام ، المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية، عمان 1989م، 2/483
(6) سورة آل عمران، الآية (159).
(7) الإمام النووي في شرح صحيح مسلم 4/76.
(8) راجع فتح الباري كتاب المغازي حديث رقم 3952
(9) سورة الشورى، الآية (38).
(10) انظر: الجصاص: أحكام القرآن.
(11) الرازي: التفسير الكبير، 9/67.
(12) الدارمي 2/173، وقال في مجمع الزوائد 6/112: "رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح"، وانظر: البيهقي في السنن الكبرى، 7/40.
(13) البيهقي في السنن الكبرى ، 7/40.
(14) أخرجه البخاري في الشروط برقم 2529.
(15) سورة الشورى، الآية (38).
(16) الرازي: التفسير الكبير 9/67.
(17) سورة آل عمران: الآية (159)
(18) انظر: القاسمي: محاسن التأويل، 4/276.
(19) سورة الملك: الآية (14).
(20) سورة التوبة: الآية (128).
(21) سورة الأنبياء: الآية (107).
(22) سورة التوبة: الآية (128).
(23) أخرجه الدارمي في سننه برقم 15، في المقدمة، باب كيف كان أول شأن النبي صلى الله عليه وسلم
(24) ابن عاشور: المصدر نفسه 3/144، 145.
(25) سورة آل عمران: الآية (165).
(26) أخرجه الإمام أحمد في مسند الأنصار برقم 23460.
(27) أخرجه الترمزي في سننه برقم 1636، كتاب الجهاد، باب ما جاء في المشورة.
(28) انظر: فتح الباري شرح صحيح البخاري.
(29) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان بسند صحيح .. الألوسي: روح المعاني 4/94.
(30) انظر: فتح الباري شرح صحيح البخاري.
(31) المحرر الوجيز لابن عطية، تفسير آية: (وشاورهم في الأمر) آل عمران: (159).
(32) سورة آل عمران: الآية (159).
(33) أخرجه الترمزي في سننه برقم 1636، كتاب الجهاد، باب ما جاء في المشورة.
(34) ابن تيمية: السياسة الشرعية، 126.
(35) أخرجه البخاري في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب قوله تعالى: (وأمرهم شورى بينهم) الشورى: (38).
(36) أخرجه البخاري برقم 569، كتاب الآذان، باب بدء الآذان، وأحمد في المسند، وانظر: الفتح الرباني، 2/13.
(37) أخرجه البخاري برقم 2529، كتاب الشروط باب شروط الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب وكتاب الشروط، 2/82.
(38) أخرجه الإمام أحمد في مسند الكوفيين برقم 18152.
(39) انظر: الأحكام: 1/340.
(40) محمد سعيد رمضان البوطي: خصائص الشورى في الإسلام، 2/481.
(41) سورة المائدة: الآية (2).
(42) سورة العصر: الآيات (1-3).
(43) سورة هود: الآيات (118-119).
(44) انظر: د. توفيق الشاوي: فقه الشورى والاستشارة، دار الوفاء للطباعة والنشر والتوزيع،الطبعة الثانية، 1994م، 303 – 315.
(45) د. توفيق الشاوي، الشورى والاستشارة، 116.
(46) أخرجه أبو داود في الأقضية، برقم 3119.
(47) الإمام الجويني: القياثي، غياث الأمم في التباث الظلم، تحقيق د. عبد العظيم، ط قطر 1400هـ، الشؤون الدينية، الفقرة رقم 463 صفحة 431.
(48) أعلام الموقعين: ابن قيم الجوزية، 1/73.
(49) موطأ الإمام مالك في الفرائض، برقم 953.
(50) أخرجه البخاري في صحيحه برقم 6411، كتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم، باب حكم المرتد والمرتدة واستتابتهم.(/10)
(51) مصطفى الزرقاء: المدخل الفقهي العام، 1/192 – 194.
(52) صحيح البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب قول الله تعالى: (وأمرهم شورى بينهم) الشورى: (38).
(53) أخرجه ابن سعد: الطبقات الكبرى، 2/350.
(54) سورة النور، الآية (55).
(55) كنز العمال، 3/142.
(56) حاشية الدسوقي: على الدرديري، 4/123.
(57) طرف حديث أخرجه مسلم في النكاح رقم 2546.
(58) المعجم الوسيط: مادة شور.
(59) ابن كثير: البداية والنهاية، 1/443. ورواه السيوطي في "الجامع الصغير" باب ما، بصيغة أخرى، عن الطبراني في "الأوسط" بالصيغة الآتية تحت رقم 7895: (ما خاب من استخار، ولا ندم من استشار، ولا عال من اقتصد). انظر: الجامع الصغير: 5/442.
(60) صحيح البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب قول الله تعالى (وأمرهم شورى بينهم) الشورى: الآية (38).(/11)
نظرة الإسلام للشعر
أ.د. عباس محجوب*
يكاد كثير من الباحثين يجزمون بأن الإسلام اتخذ منذ البداية موقفاً حذراً من الشعر أدى إلى إطفاء جذوته المشتعلة قبل الإسلام وإلى ضعف مستواه, وكان أول من أشار إلى ذلك الأصمعي في قولته المشهورة (الشعر نكد يقوى في الشر فإذا دخل في الخير لان وضعف).
وقد ضرب مثلا على ذلك بشعر حسان بن ثابت الذي وصف بأنه كان في الجاهلية من الفحول، ولما دخل الإسلام سقط شعره، فالأصمعي ينظر إلى مصدر الشعر الخير أو الشر وهو يقرن الشعر الجيد بالشر (لأن الشر عنده هو صورة للنشاط الدنيوي جميعه والشعر ينبع من ذلك النشاط). ومن النقاد القدامى الذين وافقوا الأصمعي؛ محمد بن سلام الجمحي الذي يقول: "فجاء الإسلام وتشاغلت عن الشعر العرب، وتشاغلوا بالجهاد وغزو فارس والروم ولهت عن الشعر وروايته. وعزز هذا الرأي في النقد القديم ابن خلدون في مقدمته حيث ذكر (أن الشعر كان ديواناً للعرب في علومهم وأخبارهم وحكمهم, ثم انصرف العرب عن ذلك أول الإسلام بما شغلهم من أمر الدين والنبوة والوحي، وما أدهشهم من أسلوب القرآن ونظمه فأخرسوا عن ذلك وسكتوا عن الخوض في النظم والنثر زماناً).
ومعنى هذا أن المسلمين قد انصرفوا عن قول الشعر ونظمه، بينما ظل المشركون ينظمون الأشعار، ومع ذلك لم يتعرض النقاد لشعرهم من حيث القوة والضعف, وما روى في كتب الأدب يدل على غير ما ذهب إليه النقاد القدماء، فقد كان عدد من الشعراء أمثال حسان بن ثابت وعبد الله بن رواحة وكعب بن مالك؛ يدافعون عن الرسول والرسالة ويصدون هجوم شعراء قريش, كما أن الوفود كانت تأتي بشعرائها وخطبائه،ا ولا شك أن شعراً غزيراً قيل آنذاك وأن الرواة لم يدونوه فضاع معظمه لانشغال الناس بغير رواية الشعر وتدوينه.
وقد تابع هذه الآراء عدد من الباحثين المحدثين أمثال جرجي زيدان الذي يقول: "فلما جاء الإسلام وجمع كلمة العرب, وذهبت العصبية الجاهلية لم تبق الحاجة إلى الشعر والشعراء؛ باشتغال أهل المواهب والقرائح بالحروب في الجهاد لنشر الإسلام وبالأسفار، وقد أدهشتهم أساليب القرآن وأخذتهم النبوة وانصرفت قرائحهم الشعرية إلى الخطابة لحاجتهم إليها في استنهاض الهمم وتحريك الخواطر للجهاد".(/1)
فالكاتب يرجع قوة الشعر وازدهاره إلى العصبية والنزاع بين القبائل، وهذا يخالف ما عرف عن العرب بأن الشعر ديوانهم وتاريخهم وحياتهم، فحاجتهم إليه دائمة، ثم إن الشعر في مفهوم الإسلام وسيلة من وسائل الجهاد ونشر الدعوة، فحاجتهم إليه أشد، وهذا ما يدعوهم إلى الانشغال به أكثر من الاشتغال عنه ، ولكي يفهموا أساليب القرآن التي أدهشتهم فإنهم بحاجة إلى الشعر لأنه وسيلتهم إلى تذوق تلك الأساليب ومعرفة وجوه الإعجاز والجمال فيه، ثم ما الذي يجعل الحاجة إلى الخطابة أشد من الحاجة إلى الشعر، مع أن أثر الشعر في تحريك الخواطر وإثارة المشاعر واستنهاض الهمم أقوى من الخطابة عند العربي، وأكثر آراء المحدثين إجحافاً في حق شعر صدر الإسلام؛ وما جاء في دراسة الشعر في صدر الإسلام ما ذكره الدكتور شكري فيصل في قوله: "إن شعر صدر الإسلام هو النهاية الضعيفة الذابلة والمنحرفة للشعر الجاهلي وهو يمثل عقابيل المعركة بين الحياة الإسلامية وبين الحياة الجاهلية ... فأما الشعراء الذين ظلوا يقولون الشعر فقد كانوا يحاولون الصحوة من أثر الدهشة التي جابههم بها إعجاز القرآن كما كانوا يحاولون التكيف مع هذه الحياة الجديدة والانسياق في مفاهيمها .. ولهذا جاء شعرهم هذا الشعر المتراكب من القيم الجاهلية والإسلامية على السواء. إننا نجد شواهد ذلك كله في دراسة شعراء هذا العصر .. وليس أدل على ذبول الشعر من أننا لا نرى هنا ما كنا نرى مع العصر الجاهلي .. إننا لا نجد بين شعراء هذه الفترة شاعراً في فحولة طرفة أو إبداع امرئ القيس أو ترانيم عنترة أو كياسة النابغة". ومثل هذه الآراء تدل على قبول الافتراضات التي وضعها الأصمعي وتبعه فيها عدد من النقاد دون دراسة متأنية للشعر في صدر الإسلام، دراسة تشمله وتشمل الظروف التي أحاطت به وأول ما يخطر في الذهن المقارنة بين الشعر الجاهلي الذي وصل إلينا ناضجاً قويا ممثلا لأكثر من قرن ونصف من الزمان، وبين شعر صدر الإسلام الذي لم يتجاوز ربع قرن من الزمان، ومع ذلك فقد روى شعر كثير من هذه الفترة مما قاله المسلمون أو المشركون، ووجد عدد كبير من الشعراء الذين دافعوا عن الإسلام، ومثّل هؤلاء الشعراء تياراً إسلامياً قوياً التزم بالإسلام وأضاف كثير إلى الشعر من حيث مضمونه وموضوعاته وألفاظه ومعانيه، غير أنهم حولوا جزالة الأسلوب الجاهلي وبداوته إلى أساليب بسيطة وألفاظ رقيقة ومعانٍ هادفة تتناسب مع روح الإسلام وتعاليمه؛ الداعية إلى هجر الفاحش من القول والبذئ من اللفظ وهتك الأعراض وذم الأبرياء، ومع ذلك لم تخل هذه الفترة الوجيزة من شعراء وصفهم ابن سلام نفسه بأنهم من الفحول، أمثال أبي ذؤيب الهذلي الذي قال عنه: "كان أبو ذؤيب شاعراً فحلاً لا غميزة فيه ولا وهن.. وسئل حسان: من أشعر الناس؟ قال: أشعر الناس حياً هذيل وأشعرُ هذيل أبو ذؤيب غير مدافع" وكذلك كعب بن زهير كان شاعراً فحلا مكثراً مجيداً قال عنه خلف الأحمر (لولا أبيات لزهير أكبرها الناس لقلت إن كعباً أشعر منه).
إن اتهام عدد من الشعراء المخضرمين بذبول شعرهم بعد الإسلام؛ لا يستند إلى حقيقة علمية إنما هو افتراض لا يرقى لمرحلة الجزم، فقد ظل كثير من هؤلاء الشعراء ينظمون الشعر من أمثال لبيد وحسان والحطيئة والنابغة الجعدي وأبي ذؤيب الهذلي والنمر بن تولب وكعب بن زهير وكعب بن مالك الأنصاري, ولعل بعض الشعراء قد انشغل بحياته الجديدة عن الشعر، إلا أن مجموعهم ظل ينظم الشعر، حتى لبيد بن ربيعة الذي تضاربت الآراء في قوله بعد الإسلام فقد نسب له أنه لم يقل غير بيت من الشعر بعد إسلامه وهذا البيت نفسه موضع خلاف فقد ذكر ابن قتيبة في الشعر والشعراء أنه قال:
بينما أورد له صاحب الأغاني قوله :
ويذكر الرواة أن الرسول صلى الله عليه وسلم أعجب بهذا البيت وهو من قصيدة قالها بعد إسلامه ومطلعها :
بل روى صاحب الأغاني أن لبيداً لم يترك الشعر طوال حياته، فأورد له أبياتاً قالها في السبعين ثم التسعين ثم المائة وبعد المائة، ومعنى هذا أن قريحته لم تخمد وظلت متقدة حتى وفاته. حين أوصى ابن أخيه بإحسان دفنه شعراً، وكذلك ما قاله في وصف حال بناته بعد موته :
وكما يقول الدكتور شوقي ضيف فإن الشعر في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم كان يجري على كل لسان ، ويكفي أن نرجع لسيرة ابن هشام ، فسنرى سيولاً تتدافع من كل جانب، وحقاً فيها شعر موضوع كثير ، ولكن حينما يصفى، وحين نقابل عليه ما ارتضاه ابن سلام وغيره من الرواة الموثوق بهم ، نجدنا إزاء ملحمة ضخمة تعاون في صنعها عشرات من الشعراء أو الشاعرات)9(/2)
ومع كثرة هذا الشعر وتفاوت درجات قوته ، فإنه كان متعدد البيئات في المجتمع الإسلامي نفسه، حيث نجد شعراء المهاجرين وشعراء الأنصار وشعراء مكة والطائف والقرى اليهودية المحيطة بالمدينة، وشعراء البادية في كل بيئة من هذه البيئات ، عدد من الشعراء يتفاوتون في درجات شعرهم غير أنهم جميعاً يمثلون من الناحية الفكرية العقائدية معسكرين مختلفين، معسكر المسلمين ومعسكر المشركين . فقد كان شعراء المسلمين من الأنصار والمهاجرين ينظمون شعراً يمتاز بالجودة والأصالة، ويستجيب لآداب الإسلام ومبادئه ، ويعبر عن قاموسهم اللغوي، من المعاني الجديدة التي أضفاها الإسلام على كثير من المفردات مهتدين بتوجيهات الرسول صلى الله عليه وسلم في التعبير عن الوجه الإسلامي الجديد ، الذي يطمح إلى الشهادة ويفخر بالجهاد والانتصار على أعداء الله ، ويبحث عن الجزاء في الآخرة لا في الدنيا ، وكل ذلك في إطار أسلوبي جديد يتميز باليسر والسهولة والوضوح، بعيداً عن التكلف المبالغة والتقصير والفحش ، وهذا ما جعل بعض النقاد يصف هذا الشعر باللين والضعف، فهذا المضمون الجديد لا بد له من إطار جديد يتناسب معه ويعززه ، ولم يقف شعراء المسلمين عند ذلك ، بل أحدثوا تغييراً أيضاً في مضمون الفنون الشعرية ، وكان شعر الرثاء أكثر الفنون ، خاصة في رثاء حمزة ورثاء الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولم يكن الرثاء تفجعاً ونحيباً وسخطاً ، بل كان حزناً وألماً ودعوة إلى نشر الإسلام والشهادة في سبيله وابتغاء ثواب الله في الآخرة، فالرثاء قد ارتبط بأهداف سامية وغايات يسعى إليها، ولم يقتصر دور الشعر الإسلامي على المدن الرئيسية ، بل تغلغل في البادية، حيث وجد فيها عدد من الشعراء الذين ظهر أثر الإسلام واضحاً في شعرهم من أمثال لبيد بن ربيعة والنابغة الجعدي الذي يقول :
وقد دخل أغلبهم في الإسلام وشارك في الدفاع عنه بسيفه ولسانه وقد ظهر شعرهم بغزارته في الفتوحات الإسلامية في عهد الراشدين.
أما معسكر المشركين فقد قادة شعراء مكة والطائف والقرى اليهودية، ومع أن شعراء مكة من المسلمين قد نافحوا عن دينهم ، فإن نفراً منهم قد عُرف بعدائه للإسلام وقتاله ضد المسلمين وتعصبه لموروثاته وأوثانه وعادات آبائه، من أمثال عبد الله بن الزبعري الذي كان شديد الهجاء للمسلمين كثير التحريض للمشركين عليهم، وقد أسلم بعد فتح مكة، وهو من الشعراء المبدعين في عصره ، اعتبره ابن سلام من أبرع شعراء، وقد كان لشعراء مكة شعر غزير في رثاء قتلى المشركين ببدر، حتى من النساء الشواعر اللائي يحرصن على قتال المسلمين، ولم يكن شعراء الطائف أقل عداء للمسلمين من شعراء مكة، من أمثال أمية بن أبي الصلت، الذي رثا قتلى بدر من المشركين، وحرض ثقيفاً على قتال الرسول صلى الله عليه وسلم ، وأبي محجن الثقفي الذي أسلم ومات مجاهداً أيام سيدنا عثمان .
أما أكثر الناس عداء للرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين؛ فقد كان شعراء اليهود أمثال كعب بن الأشرف، الذي كان أشدهم عداء وأكثرهم هجاء للمسلمين والذي شبب بنساء الرسول صلى الله عليه وسلم ، وحرض المشركين على قتال المسلمين .
فالشعر الذي قيل من المسلمين أو المشركين المعارضين لهم، هو الذي يمثل صورة الشعر في صدر الإسلام، وقد ضاع أغلب هذا الشعر المعارض لعدم اهتمام الرواة به لأنه مخالف للتوجه الإسلامي الجديد، ولأن المسلمين لن يشغلوا أنفسهم بشعر قيل في هجائهم ومعاداة نبيهم ورفض دينهم . بل إن شعر كثير من المسلمين الذين وردت أشعارهم في كتب السيرة وطبقات الصحابة، لم تجد اهتماماً وعرضاً في كتب الأدب العربي القديمة المعتمدة ، وهذا الشعر بضخامته يشكل جزءاً كبيراً من الشعر الإسلامي في صدر الإسلام، ينفي مقولة ضعف الشعر وقلته في هذا الفترة الخصبة من حياة المسلمين ودعوتهم .
وثمة نقطة نبه إليها الدكتور عبد القادر القط في دراسته للشعر الإسلامي، ويرى أن كثيراً من الدارسين يغفلونها تماماً وهي : (أن الضعف الذي لاحظناه على الشعر الإسلامي(إذا سلمنا برأيه) كان قد بدأ في الحقيقة قبيل الإسلام لا بعده، كان قد انقضى عهد الفحولة ولم يبق منهم إلا الأعشى الذي مات - كما تقول الرواية وهو طريقة إلى النبي ليمدحه ويعلن إسلامه ، ولبيد الذي كان قد بلغ الستين وأوشك أن يكف عن قول الشعر، ولم يبق عند ظهور الإسلام إلا شعراء مقلون بعضهم مجيد في قصائد مفرده، ولكنهم لا يبلغون شأو هؤلاء الفحول ).[1](/3)
فهو يرى أن الشعراء قبيل الإسلام قد أسهموا بنصيب وافر في إيجاد الشعور القومي وتأصيل القيم الأخلاقية والاجتماعية لنشأة أمة متماسكة، والتمكين للغة العربية لتسود على لهجات العرب كلها "وكأنما فرغ هؤلاء الفحول من تلك الرسالة الحضارية قبيل الإسلام، فانقضى جيلهم وظل المجتمع العربي بضع سنوات ينتظر رسالة من نوع جديد تحقق للعرب تلك الوحدة التي كانت كثيراً من مظاهر الحياة في الجزيرة العربية تنبئ بها، ويستخدم تلك اللغة التي مكن لها هؤلاء الشعراء في الأرض لكي تحمل قيمها الروحية والحضارية الجديدة . وكان لا بد أن تمضى سنين أخرى في ظل الإسلام حتى ينشأ جيل جديد تربي في تلك البيئة الحضارية الجديدة، بعد أن تبلورت سماتها واستقرت قيمها وتجاوزت مرحلة الانتقال إلى مرحلة الأصالة" [2] إذن هناك مرحلة انتقل فيها الشعر من الجاهلية إلى الإسلام، وإذا نظرنا إلى عظم التحول الذي يحدث في الحياة العربية نجد أن المرحلة الانتقالية لم تستغرق وقتاً طويلاً؛ إذا ما قيس بعظم التحول، حيث أن الشعراء المخضرمين سرعان ما استوعبوا الحياة الجديدة، وتعرفوا أسلوب القرآن المعجز وتأثروا بالمعاني والأفكار التي جاء بها الإسلام، غير أن درجات التكيف قد تفاوتت بالنسبة للشعراء، فمنهم من دخل الإسلام فيهم وامتزج بنفوسهم ومشاعرهم، فتطابقت أفكارهم مع النظرة الإسلامية وتكيفوا مع الحياة الجديدة. كما هو حسان بن ثابت، ومنهم من دخلوا في الإسلام، غير أن الإسلام لم يدخل نفوسهم ولم يتعمق مشاعرهم، فظلوا على جاهليتهم يتأرجحون يبن الأهواء المتعلقة في نفوسهم والحياة الجديدة التي لم يتكيفوا معها بالدرجة المطلوبة، فعبروا عن هذه الأهواء، كما نرى في شعر الحطيئة؛ الذي مدح وهجا وتكسب بشعره مما لم يجعل لشعره في الإسلام اختلافاً عن شعره في الجاهلية، غير أبيات قليلة استعفى بها سيدنا عمر بن الخطاب لإخراجه من السجن، وبعض أبيات في المدح والحكمة، فهو لم يتأثر بروح الإسلام وأسلوب القرآن، فظل شعره في الإسلام امتداداً لشعره في الجاهلية ، فالشعراء اختلفوا في استجابتهم، فبعضهم كان بعيداً عن الحياة الجديدة فلم يعبر عن تجارب جديدة، وكان امتداداً للشعر الجاهلي برصيده ونماذجه، بينما شارك بعض الشعراء في الدعوة إلى الإسلام ونصرته، وعبروا عن الحياة الإسلامية الجديدة بفكرها وعلاقاتها وأخلاقها، وكان شعرهم خليطاً من الجاهلية والإسلام، لصعوبة التخلص من الآثار الجاهلية في مرحلة وجيزة "والصورة العامة للشعر في الإسلام تقوم على حقيقة حضارية معروفة هي أن هناك بالضرورة تداخلاً في فترات التاريخ الحاسمة، وأنه لا يمكن أن يكون هناك حد فاصل بين فترة والتي تليها، وبخاصة حين يتصل الأمر بمقومات نفسية بعيدة الغور في نفوس أصحابها، أو بقيم فنية أصبحت تقاليد موروثة لا يمكن الخلاص منها فجأة؛ أو الاهتداء إلى غيرها من قيم جديدة على اختلاف في المظهر والدرجة " [3]
إن الحديث عن نظرة الإسلام للشعر؛ جعلت كثيراً من الباحثين يغفلون عن جانب هام في هذا المجال، حيث ركزوا على موقف الإسلام من الهجاء والفخر الجاهلي والتعرض للأعراض، ولم يشيروا إلى نظرة الإسلام للجانب العاطفي في حياة الإنسان، وهو جانب مهم لم يهمله الإسلام أو يحتقره، بل عمل على استثارته وجعله قوة دافعة نحو الحياة الخيرة والعمل الصالح ، فالإسلام ينظر إلى الإنسان باعتباره طاقة من الغرائز والميول والأهواء والحاجات، فركز على السمو بها وتهذيبهاوتوجيههاالوجهة التي تحقق الغاية من وجودها في النفس الإنسانية، فالشاعر الجاهلي عندما يتناول عاطفة الحب؛ إنما يتناولها من حيث المظهر الخارجي، بينما يتناولها الشاعر المسلم بتعمق، وتأمل فالإسلام يبارك هذه العاطفة على المستوى الفردي، باعتبارها الإطار الاجتماعي للحياة الفردية، التي لا تتجاوز مقدسات الجماعة وحقوقها ، كما أن الإسلام لم يقصر هذه العاطفة على المرأة وحدها، بل جعلها تعم مجالات أخرى في المجتمع، إذ أن تركيز هذه العاطفة نحو شيء واحد: المرأة والمال أو الحرب ، إنما يدمر المجتمع ويسقطه ، إن النشاط النفسي للإنسان لا يمكن توجيهه نحو عاطفة واحدة، فالنفس الإنسانية تعج بالعواطف المختلفة كالحب لله والحب للناس والإخاء بين المسلمين؛ الذين يمثلون الجسد الواحد، وحب الجهاد وغير ذلك، فالإسلام يوجه عاطفة الحب في صورة متكاملة نحو التنويع والتشعب لتشمل جوانب أخرى في الحياة بأقدار محدودة تحدث التوازن في المجتمع الواحد.(/4)
إن الإسلام جعل أيضاً للحب هدفاً وغاية، وليست الغاية تقوية الجانب بالوحشي القائم على إشباع الغريزة ومتابعة الهوى، فغايته إثارة الهمم السامية وطلب الكمالات والعزمات العالية، وفي ذلك يقول ابن قيم الجوزية : (الحمد لله الذي جعل المحبة إلى الظفر بالمحبوب سبيلاً، ونصب طاعته والخضوع له على صدق المحبة دليلاً، وحرك بها النفوس إلى أنواع الكمالات إيثاراً لطالبها، وأثار بها الهمم السامية والعزمات الغالية إلى أشرف غايتها تخصيصاً لها وتأهيلاً).[4]
يرتبط بقضية الإسلام والشعر موقف القرآن الكريم من الشعر والشعراء، فقد وردت كلمة شاعر وصفاً للرسول عليه الصلاة والسلام أربع مرات في القرآن:
(بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ) [5]
(وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ) [6]
(أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ) [7]
(وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ) [8]
كما وردت كلمة الشعر نفيا لصفة الشعر عن الرسول صلى الله عليه وسلم (وما عملناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين) [9]
فهذه الآيات كلها مكية نزلت بصدد الرد على المشركين من قريش، الذين وصفوا الرسول صلى الله عليه وسلم بما ليس صحيحاً فيه، وهو أنه شاعر تعلم الشعر، لأنه رسو ل جاء بشيء غير الشعر ولهدف غير ما يقال الشعر لأجله، هذا بالإضافة إلى مقصدهم في أن يصفوا الرسول صلى الله عليه وسلم بأن به ما يعتقدون في الشعر من مس الجن، وهي أوصاف تناقض معنى الرسالة والوحي، والمشركون يريدون بتلك الأوصاف أن يهونوا من شأن الرسول والرسالة ويكذبوا بالقرآن وما فيه من إعجاز وتحد لهم . وتنزيه القرآن عن أن يكون شعراً ليس طعناً في الشعر ، ولاتقليلاً من وظيفته، إنما هو تنبيه أن القرآن كلام لا يشبه ما عرف العرب من شعر وسجع ، كما أن المشركين قصدوا إلى جعل الرسول صلى الله عليه وسلم واحداً من الموهوبين الذين يمكنهم أن يقولوا مثل القرآن ، فينفوا عنه صفة الرسولية وأنه مرسل من عند الله بالرسالة (ألا ترى كيف نسبوا النبي صلى الله عليه وسلم إلى الشعر لما غلبوا وتبين عجزهم ؟ فقالوا : هو شاعر لما في قلوبهم من هيبة الشعر وفخامته وأنه يقع منه ما لا يلحق والمنثور ليس كذلك)[10] . وكما يقول الدكتور عبد القادر القط (فإن القرآن لم يصدر حكماً بعينه على الشعر ولم يتخذ موقفاً خاصاً وإنما نفي عن النبي صلى الله عليه وسلم مرة بعد أخرى أن يكون شاعراً من الشعراء وأن تكون رسالته كرسالتهم) [11] . (إن هو إلا ذكر وقرآن مبين ) [12].
ومع أن سورة الشعراء كلها مكية إلا أن الآيات الأخيرة منها، والتي تبدأ بقوله تعالى : (وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ *وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ *إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) [13] مدنية وفي ذلك دلالات عدة منها:
- أن تخصيص سورة في القرآن باسم (سورة الشعراء) دلالة على مكانة السعر كوسيلة من وسائل الإبداع الإنساني، وبخاصة في مجتمع كان للشعر أثره في النفوس، يتفاعلون معه ويستثيرهم ويؤجج عواطفهم وهذا ما جعل الرسول صلى الله عليه وسلم يستعين به، ويوظفه في مقاومته أهل مكة وشعرائها، الذين هجوه وآذوا دعوته وصدوا عنها وخاصموا الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وقد كان على الشعر العبء الأكبر في تأجيج نار الخصومة والمجاهرة بها .
- إن هذا التركيز الذي عبر عن العلاقة بين الدعوة الجديدة والشعراء، جعل كثيراً من الشعراء المخضرمين يصرفون نفسهم عن الشعر، وأن لم ينصرفوا عنه كلياً ، لأن أثر الآية قد ظل في نفوس الشعراء يذكرهم بالدور القاسي والمؤلم الذي قام به الشعر في مواجهة الرسالة الجديدة وصاحب الرسالة .
- إن شمولية النظرة الإسلامية للحياة اقتضت أن يكون رأي الدين في الفن الذي نبغ فيه العرب وكان ديوانهم، الذي سجل تاريخهم وحياتهم وأيامهم، فجاءت آية الشعراء صريحة مؤكدة أن الشعر في مجموعة مرتبط بالغواية والضلال والخيال والكذب ولذلك قالت العرب (أجود الشعر أكذبه)، والإسلام يطلب عنصر الصدق في الشعر، وهذا يناقض ما وصفوا به من أنهم يهيمون في كل واد ويقولون ما لا يفعلون، ليس عن براءة وغير قصد بل اعتسافاً وغلوا ومجاوزة للحد وتعمد مخالفة القواعد الأخلاقية.(/5)
- أن الاستثناء في الآية قصد به شعر المسلمين، من أمثال حسان وكعب بن زهير ، وعبد الله بن رواحة ، وكعب بن مالك ، ممن دافعوا عن الرسالة والرسول ونافحوا عن الإسلام، ودافعوا عن القيم الفاضلة، فقد اقلقتهم آية الشعراء فذهبوا يبكون للرسول صلى الله عليه وسلم ، فذكرهم صلى الله عليه وسلم بالاستثناء مهدئاً من روعهم مطمئناً لهم. (قال أبو الحسن المبرد لما نزلت " والشعراء" جاء حسان وكعب بن مالك وابن رواحة يبكون إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا نبي الله ! أنزل الله تعالى هذه الآية وهو تعالى يعلم أنا شعراء ؟ فقال: (أقرأوا ما بعدها) (إلا الذين أمنوا وعملوا الصالحات ) أنتم (وانتصروا من بعد ما ظلموا ) انتم أي بالرد على المشركين قال النبي صلى الله عليه وسلم (انتصروا ولا تقولوا إلا حقاً ولا تذكروا الآباء والأمهات).[14]
- لابد أن يكون الشاعر ملتزماً بالمعنى الواسع للالتزام . الالتزام بشخصية الأمة وعقيدتها وفلسفتها في الحياة، وهو ليس التزاماً قهرياً واستبدادياً يفرض من سلطة دنيوية علياً، بل هو التزام مرتبط بعقيدته ورسالته في الوجود ، التزام منطلقه حرية الشاعر وإيمانه وقرآنه وسنته .
ليس من الغرابة أن يضع القرآن قيود أخلاقية على الشعر، لأن الدين حرية ملتزمة واعية لا تستجيب للأهواء والغرائز، وهذا الإطار الأخلاقي لم يوضع للشعر وحده بل لجميع أنواع النشاط البشري، حتى يمكن خدمة الدين وفق مبادئ مبنية على الصدق والحق والعفة والالتزام .
إن القرآن لم يذم الشعر على إطلاقه، ولا الشعراء أيضاً، إنما من الشعر ما كان هجاءً وحرباً للدعوة الجديدة، ومن الشعراء من وقفوا شعرهم على حرب الرسول صلى الله عليه وسلم ودعوته وهجاء المسلمين وأعراضهم ، فالآية توجه الشعر لخدمة المجتمع والعقيدة .
ولا يقلل من قيمة الشعر إن النبي صلى الله عليه وسلم وصف غير مرة بأنه غير شاعر، والا لكانت أميته كما يقول ابن رشيق في العمدة – كانت أميته تقليلاً من قدر الكتابة، فالمذموم من وقف حياته على الشعر، بحيث يملك عقله وقلبه ويشغله عن دينه وأوقاته وفروضه، ويمنعه من ذكر الله تعالى وتلاوة القرآن والشعر مما جرى هذه المجري شطرنج وغيره سواء "[15]
وردت أحاديث كثيرة عن الرسول صلى الله عليه وسلم تعبر عن رأيه في الشعر وموقفه منه، غير أن ظاهر بعض الأحاديث تعطي إنطباعاً بأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يكره الشعر والشعراء، حيث نظر إليه باعتباره من مخلفات الجاهلية التي يجب محاربتها، ويعللون ذلك بسكوت كثير من الشعراء عن قول الشعر بعد دخولهم الإسلام، غير أن ما قدمناه من نظرة الإسلام بعامة إلى الشعر باعتباره من دعائم الدعوة إلى الله، ما قدمناه من ذلك يكفي لبيان نظرة الإسلام للشعر باعتباره عملاً ابداعياً إنسانياً راقياً، وآراء الرسول صلى الله عليه وسلم ومواقفه كانت عامل إثراء للشعر وتقدير للشعراء، فقد روى عنه أنه قال : (إنما الشعر كلام مؤلف فما وافق الحق منه فهو حسن وما لم يوافق الحق منه فلا خير فيه)[16]
ويلاحظ سمو التعبير في الحديث فهو لم يصف ما لم يوافق الحق بالسوء، وإنما بأنه لا خير فيه، كما قال صلى الله عليه وسلم (إنما الشعر كلام فمن الكلام طيب وخبيث)[17] 0والحديثان يبينان أهمية الكلمة ودروها باعتبارها مسؤولية وأمانة وباعتبارها موقفاً ومبدأ ، ولما كان الشعر شكلاً أدبياً يختلف عن الأشكال الأخرى من حيث الطاقة والنشاط ، والأثر والتأثير ومن حيث المكانة والأهمية في حياة الإنسان، فقد كان أبعد اثراً وأخطر تأثيراً وأرفع مكانةً عند العرب، فهو ديوان العرب وحياتهم، حيث قال الرسول صلى الله عليه وسلم (لا تدع العرب الشعر حتى تدع الإبل الحنين ) [18] و لا يعقل أن تغفل الدعوة الجديدة هذه الطاقة الحيوية بشأنها الخطير وأثرها الجليل في حياة العرب؛ دون توظيفه في نشر الدعوة والدفاع عنها وعن الرسول صلى الله عليه وسلم، ولذلك وظف الرسول صلى الله عليه وسلم الشعر في مواقف مختلفة لتخدم غايات نبيلة وأهدافاً خيرة ، كما وضع الشعراء في مكانة مرموقة عندما سخّروا مواهبهم لنصرة الحق والدفاع عنه ، وقد وقف إلى جانبه عدد من الشعراء المسلمين يمدحونه ويذودون عن الدين ، وينشرون ما فيه من قيم خيرة وفضائل حسنة، وبذلك أصبح الشعراء دعاة للإسلام، وحماة للدين وسيوفاً حادة ضد المشركين، ولم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم الله وسلم محرضاً لهم على هجاء المشركين والدفاع عنه وعن الدين، بل كان راعياً لهم موجهاً لشعرهم ناقداً لمعانيهم، فهو يوجههم إلى خاصة الصدق ويقول أصدق كلمة قالها شاعر قول لبيد:
ويسمع قول طرفة :
فإنشد النبي صلى الله عليه وسلم هذا البيت ، فقال : (هذا كلام النبوة )[20]
ويسمع السيدة عائشة رضى الله عنها تنشد:
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (إنه لا يشكر الله من لا يشكر الناس) [21](/6)
ويروى يزيد بن عمرو بن مسلم الخزاعي عن أبيه عن جده قال : دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم ومنشد ينشده قول سويد ابن عامر المطلق:
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (لو أدرك هذا الإسلام لأسلم) [22] وروى الأصمعي أن رجلاً جاء النبي صلى الله عليه وسلم وانشده :
فقال النبي صلى الله عليه وسلم (ربح البيع ربح البيع) [23] وعندما أنشده النابغة الجعدي :
قال له إلى أين يا أبا ليلي؟ فقال إلى الجنة يا رسول الله بك
فقال : إلى الجنة إن شاء الله فلما انتهى إلى قوله :
قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا يفضض الله فاك ) [24]
فهذه الملاحظات كلها والتي تدل على الاستحسان والتوجيه، دليل على تذوق الرسول صلى الله عليه وسلم للشعر، وتوجيهه لرسالته حتى يتضمن الشعر قيماً إنسانية نبيلة ، وأهدافاً سامية تسمو بالعواطف وتتميز بالصدق وتتحلى بالحكمة والمعاني النبيلة السامية والأخلاق الرفعية، وتمثل الدور الريادي القيادي للشعر والشاعر.
وبجانب هذا الاستحسان؛ استنكر الرسول صلى الله عليه وسلم أنواعاً من الشعر، تتسم بالهجاء وفاحش القول، وتخلو من الحكمة والغاية النبيلة،ويغلب على فكر الشاعر ويصرفه عن أداء واجبه، ويمنعه عن ذكر الله، ويسخره صاحبه لهدم القيم وإضعاف الدين، وهذا ما قاله عنه (لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً حتى يريه خير له في أن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً حتى يريه خير له في أن يمتلئ شعراً) [25] ويقال أن عائشة رضى الله عنها صححت هذه الرواية بقولها : (لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً أو دماً خير من أن يمتلئ شعراً هجيت به ). وهذه الرواية ترفع الحرج عن الشعر بإطلاقه، إذ المقصود كل شعر مس الرسول والرسالة، فقد كان يؤلم الرسول صلى الله عليه وسلم أن يهجوه شعراء الكفر ولا يرد عليهم شعراء الإسلام، باعتبار حقه في الدفاع عن نفسه وعن دعوته (ولو لم يكن من فضائل الشعر إلا أعظم جند يجنده رسول الله صلى الله عليه وسلم على المشركين يدل على ذلك قوله لحسان : شن الغطاريف على بني عبد مناف، فوالله لشعرك أشد عليهم من وقع السهام في غلس الظلام وتحفظ بيتي فيهم قال : والذي بعثك بالحق نبياً لأسلنك منهم سل الشعرة من العجين، ثم أخرج لسانه فضرب به أرنبه أنفه وقال : والله يا رسول الله أنه ليخيل لي أني لو ضعته على حجر لفلقه أو شعر لحلقه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم أيد الله حساناً في هجوه بروح القدس) [26] وجاء في الأغاني أن حسانا وكعباً ( كانا يعارضان شعراء قريش بمثل قولهم بالوقائع والأيام والمآثر ويعيرانهم بالمثال، وكان عبد الله ابن رواحة يعيرهم بالكفر فكان في ذلك أشد القول عليهم قول حسان وكعب وأهون القول عليهم قول ابن رواحة فلما أسلموا وفقهوا الإسلام كان أشد القول قول ابن رواحة ) [27].
فالرسول صلى الله عليه وسلم استخدم أسلحة قريش في الرد عليهم، حيث استعمل الأنساب والأيام والمثالب، والشعر الذي دار في الهجاء بين شعراء المسلمين والمشركين يمثل الصورة الأولى لشعر النقائض الذي احتدم في العصر الأموى بين جرير والفرزدق والأخطل، مما يدل على أن فناً جديداً من الشعر بدأ في عهده صلى الله عليه وسلم واكتمل في العصر الأموي وهو فن النقائض (نماذج شعرية في الهجاء)
- ولا نغفل في هذا المجال ما قيل من شعر في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم ، فهو يمثل جانباً من جوانب الإثراء والتجديد في الشعر آنذاك من حيث الاتجاه العقائدي في التناول، ومن حيث الاهتمام بالفكرة والمضمون واللفظة الرقيقة، فقد جاء الإسلام ليهذب النفوس ويسمو بالعواطف، فلا بد من أن يحدث الشعراء تغييراً يتناسب والرسالة الجديدة للشعر، من حيث أغراضه ومعانيه، وكان الشعراء في مدحهم له صلى الله عليه وسلم يذكرون قيم الإسلام الجديدة، وينوهون بانتصارات المسلمين ووقائعهم، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يستمع إليهم ويدعو لهم ، مثل ما فعل مع النابغة الجعدى الذي انشده قصيدته التي مطلعها :
فالمدح هنا ينهج نهجاً جديدا،ً حيث يركز على الفكرة وإبراز صفات الرسول صلى الله عليه وسلم وخصاله، مع الاهتمام بالحكمة والموعظة الحسنة ، وقد ارتبط المدح بالاعتذار، حيث كان عدد من الشعراء قد اتخذوا مواقف العداء والهجاء للرسول صلى الله عليه وسلم ، ثم جاءوا إليه معتذرين مادحين معتمدين على سماحة الرسول صلى الله عليه وسلم، وما يعرفون من حسن خلقه وعفوه عند المقدرة ، وكان كعب بن زهير ممن أهدر الرسول صلى الله عليه وسلم دمه لهجائه له، وكتب له أخوه بجير بن زهير بما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم بكعب بن الأشرف حين شبب بام حكيم بنت عبدالمطلب، وأم الفضل بن العباس، فجاء مستجيراً لأبي بكر فلم يجره، ولكنه طلب منه أن يصلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ثم يطلب منه بعد الصلاة يده ليبايعه فإذا مدها له استجار به ففعل وانشد قصيدته:
وفيها يقول :
فخلع رسول الله صلى الله عليه وسلم بردته وألبسها له ويقال أنه أعطاه مائة من الإبل .(/7)
وعبد الله بن الزبعري من الشعراء الذين هجوا الرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم هرب عند فتح مكة، فهجاه حسان غير أنه عاد معتذراً مادحاً معلناً إسلامه في قصيدته التي مطلعها :
ومن الذين مدحوه زهير بن صرد، الذي أقبل في وفد هوازن وقال يا رسول الله إنما سبيت منا عماتك وخالاتك وحواضنك اللائي كفلنك، وكان زهير من بني سعد بن بكر ثم انشده:
وكانت القصيدة سبباً في فك أسر السبي إكراماً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكتب السيرة وكتب الطبقات مليئة بأسماء الشعراء الذين مدحوا الرسول صلى الله عليه وسلم .
وقد استعان الرسول صلى الله عليه وسلم كما قلنا بعدد من الشعراء للرد على المشركين، وعلى شعراء الوفود التي جاءت تفاخر كما فعل مع وفد تميم الذين فاخرهم حسان بقصيدته المشهورة:
ولحسان بن ثابت قصيدة يمدح فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ،ويهجو أبا سفيان بن الحارث أولها :
وفيها يقول:
فالرسول صلى الله عليه وسلم أقر من شعر المدح ما جسد القيم النبيلة والصفات الفاضلة التي بدرت من الصحابة وأهل الصلاح والخير، من أمثال أبي بكر حين آمن به وكذبه الناس، ثم طلب من حسان بن ثابت طالباً أن يقول له ما قال فيه وفي أبي بكر فقال:
فقال صلى الله عليه وسلم صدقت يا حسان دعوا إلى صاحبي قالها ثلاثاً.فالرسول صلى الله عليه وسلم يقر هذا النوع الصادق من المدح الذي لا يرتبط بمصلحة دنيوية ولا كسب عاجل، وهو بعد ذلك قد ذم أنواعاً من المدح القائم على النفاق والكذب والمبالغة وتزوير الحقائق ومدح الرجل بما ليس فيه وما لا يعتقده حقيقة لفائدة أو مكسب، فهو يحذر من مدح الفاسق بالسيد ، ومن المدح بقصد التكسب (إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب) [34]
فالرسول صلى الله عليه وسلم يوجهنا إلى وضع ضوابط قواعد وأصول لابد من الالتزام بها، مثل البعد عن الإسراف في القول والمبالغة في المدح في وعدم الصدق فيه ، وأن يكون المدح بما في الممدوح من صفات يغلب على الظن دون اليقين – إنها متوفرة فيه حتى لا يكون المدح سبباً في انحراف الممدوح وتكبره على الناس وظنه أنه أفضل منهم، كما أنه يؤدي إلى انحراف المادح الذي يفترض فيه الطمع والمداهنة والتذلل ، وفي مقابل المديح الذي يفترض فيه أن يركز على القيم الخيرة والفضائل السامية، كان ينهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن الهجاء القائم على الإقذاع في القول والفحش والقذف، وبذلك رفض الإسلام كثيراً من الهجاء الذي تسبب في هتك الأعراض وإيذاء المؤمنين ، وتجريح الأبرياء وسب الصالحين ، وأجاز الهجاء عندما يكون دفاعاً عن الحق وذماً للباطل، كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم في تشجيعه لشعراء المسلمين بهجاء المشركين، انتصافاً للحق وهدماً للباطل وكشفاً للزيف وحرباً للطاغوت، فهذا هجاء جائز بل مرغوب لأنه وسيلة من وسائل الجهاد بالكلمة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . والفخر قريب من الهجاء إذا كان مبنياً على الغرور والاستعلاء بالنسب أو العرق أو اللون ـ والفخر الجاهلي ترسيخ لقيم فاسدة ومفاهيم مغلوطة ، والشاعر المسلم مطالب بالفخر بدينه وعقيدته وبالقيم التي يدعو الإسلام، إليها وليس الفخر بقبيلته أو حسبه أو نسبه، لأن ذلك كله من القيم الجاهلية التي تجاوزها الإسلام وعفا عليها الزمن، لأن الفخر الجاهلي نوع من التزكية للنفس والإحساس بالتفرد والتحيز.
مواقف الرسول صلى الله عليه وسلم تدل على الآتي:
- أن الشعر ملتزم بترسيخ القيم الخيرة والفضائل الحسنة ومحاربة القيم الجاهلية المنحرفة .
- البعد عن التكلف والمبالغة وعدم الالتزام بالصدق كقيمة أخلاقية هامة .
- أن الشعر وسيلة من وسائل الجهاد والدفاع عن النفس والدعوة إلى الخير ونبذ الشر ومحاربة الرذيلة ، ومواجهة أهل الباطل حيث قال صلى الله عليه وسلم للأنصار (ما يمنع القوم الذين نصروا رسول الله بسلاحهم أن ينصروه بألسنتهم ؟ فقال حسان بن ثابت أنا لها وأخذ بطرف لسانه وقال: والله ما يسرني به مقول بين بصري وصنعاء)[35]
- أن من وظائف الشاعر الدفاع عن عقيدته ومجتمعه ودينه وقيمه بالكلمة الطيبة والشعر الهادف، شعر الحق والجهاد- لأن الشعر موهبة وملكة وهما من نعم الله على صاحبه الذي يجب أن يوظفه في الخير والحق وإشاعة الفضيلة ونصرة الدين ومحاربة الباطل وأهله فهو يقول : ( أن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه).[36]
-----------------------------
[1] الشعر الإسلامي والأموي عبد القادر القط.ص 13 دار النهضة العربية بيروت. 1979م.
[2] المصدر السابق ص 13-14.
[3] المصدر السابق ص 68.
[4] روضة المحبين المقدمة تحقيق الأستاذ أحمد عيد / دمشق 349هـ (المقدمة)
[5] سورة الأنبياء الآية 5.
[6] سورة الصافات الآية 36
[7] سورة الطور الآية 30.
[8] سورة الحاقة الآية 41.
[9]سورة يس الآية 69.
[10] ابن الرشيق العمدة في محاسن الشعر وأدبه ص 21 ج / 1 تحقيق محمد محي الدين ط5 /1401هـ- 1985م(/8)
[11] الشعر الإسلامي والأموي ص12 .
[12] سورة يس الآية 69.
[13] سورة الشعراء الآية 224-226.
[14] القرطبي الجامع لأحكام القرآن ص 153 ج/13 ط دار إحياء التراث بيروت 1405هـ – 1985م.
[15] انظر ابن رشيق العمدة ص 32
[16] ابن رشيق العمدة ص 27.
[17] المصدر السابق 28
[18] المصدر السابق 30
[19] الأغاني ص 91/ ج14
[20]العقد الفريد تأليف أبي عمر بن محمد بن عبد ربه الأندلسي ص 271/5.
[21] العقد الفريد ص 275/ج5
[22] العقد الفريد ص 275-276 /ج 5
[23] العقد الفريد ص 276/ج5
[24] العقد الفريد 276
[25] ابن رشيق العقد الفريد ص 31 – 32/1.
[26] ابن عبد ربه ، العقد الفريد ص 277-278 / ج5
[27] الأصبهاني – الأغاني ص 138 / 4
[28]الشعر والشعراء ص 84-85 تأليف أبي محمد بن عبد الله مسلم بن قتيبة ط 3 1407هـ – 1987م.
[29].الأغاني ص8 –9 / 5
[30] الأغاني
41 أبي الفداء إسماعيل بن كثير – السيرة النبوية – ص 585 – 586 ج3 . تحقيق – مصطفى عبد الواحد – م مصطفى الحلبي – مصر
[31] ديوان حسان بن ثابت الأنصاري ، دار بيروت للطباعة والنشر ص 145/ 1403هـ – 1983م .
[32] المصدر السابق 7-9
[33] المصدر السابق ص 174
[34] كتابة مختصر شرح الجامع الصغير للمناوي ، تحقيق مصطفى عمار- دار أحياء الكتب العربة،القاهرة الطبعة الأولى 1373هـ 1945 م ص 43/ج1
[35] الأغاني للإصبهاني ص 137/4.
[36] كتاب شرح الجامع الصغير لمناوي ، تحقيق مصطفى عمارة – ط الأولى ص 144/ج1(/9)
نظرة على العالم الإسلامي
المقال الافتتاحي لمجلة سيزنتي التركية، عدد نيسان 2004
لم يعش العالم الاسلامي منذ ظهوره حتى اليوم في أي عهد من عهوده –حسب علمنا- الحالة المزرية التي يعيشها الآن، ولم يضق أفقه كما ضاق الآن. والأسوأ من هذا انه ليس في وضع يؤهله لا لمشاهدة الفرق الشاسع بين موقعه الحالي وما كان يجب ان يكون عليه ولا لتقييم هذا الفرق وبحث أسبابه. فهو في كسل وراحة بال لا يعاني من أي مخاض فكري، ولا يقدم أي تفكير بناء، ولا يملك أي نية في هذا، ولا يشعر في قلبه بأي جيشان عاطفي. لفته طبقة ضبابية كثيفة من اللامبالاة وعدم الإهتمام، وضاق في قلبه شوق الحياة ونبضها... لا يملك –ان استثنينا رغباته الجسدية- أي أمل أو تطلع إلى المستقبل... اصبح أحياناً حارساً للجبارين، وأحياناً متسولاً على الطراز الحديث، او متلوياً في قبضة الفقر والحاجة، او في حالة يرثى لها من الجهل والتعصب.
لم يعد هذا العالم الإسلامي مهتما بما أمر به الدين الإسلامي من التمسك بالفضيلة، والعيش في كرامة، والانفتاح على العلم وقراءة الوجود قراءة صحيحة، وتنقيب أرجاء الكون بكل دقة، وتفسير الأسس التكوينية والأوامر التشريعية أفضل تفسير وأفضل تقييم. وإذا كانت هناك فئة قليلة تهمها هذه الأمور وهذه الأوامر فقد مُنعت من الكلام وسدّت أفواهها ومُنع الناس من الانصات اليها. كما ان انواعاً من السفاهات التي نقلت اليه من المجتمعات الاخرى، اصبحت من اكثر الامور المرغوبة، وتم الترويج لها بالوسائل التكنولوجية وبحملات مكثفة. الجماهير السائبة تعيش حالة من التشوش والذهول، واجيال الشباب واقعة في شباك الفحش والمخدرات تتوجه نحو التفسخ والانحلال تحت مقولة: "دعني اعيش على هواي".
عندما يلقي الانسان نظرة على القوة الديناميكية الإسلامية وغناها يود أن يرى كل جانب من جوانب العالم الإسلامي معموراً، وكل مدنه كقطع من الجنان، وحواضره وقراه شبيهة بالفردوس... يود ان يرى أناسه مفعمين بالأمل وبالسعادة... قد شغلتهم حمى البحث عن الحقيقة، يقضون أوقاتهم بين الكتب والمختبرات، قد قلصوا ساعات ودقائق نومهم في سبيل البحوث والتدقيقات، ووهبوا ارواحهم للحق تعالى...
ولكن الحقيقة المؤلمة هي ان المأمول عكس الواقع المشاهد تماماً. فان بحثت الآن في طول العالم الإسلامي وعرضه عن اصحاب تلك الأرواح التي عمرت الدنيا فيما مضى فلا تجد الا أعداداً تعد على أصابع اليد من المثقفين من ذلك الطراز من ناحية الروح والمعنى، ولا تجد معماريين –باستثناء عدد قليل- يعمرون ويسندون جوانبنا المتصدعة والآيلة إلى السقوط.
بينما كان من المتوقع من منتسبي هذا الدين ان يكونوا أسعد من في هذه الأرض وأكثرهم تفاؤلاً بالنسبة للعالم الآخر واكثر أملاً، وفي الصفوف الأولى من العالم في كل مسألة، وان يكونوا بعزمهم وإيمانهم وثباتهم مرشدي العالم، يقدمون له المشاريع الأصيلة، ويحلون مشاكله اليومية. والحقيقة أننا كنا نتوقع ان يزدهر العلم والمعرفة في بستانه، وننتظر ان يكون هو الأسوة والقدوة الحسنة أمام العالم في مضمار الخلق الجميل والقيم الانسانية الرفيعة... كنا نتوقع انه عندما يرد ذكر العدالة وسيادة القانون والحق، وحرية الفكر والعقيدة يخطر العالم الإسلامي على البال. ولكن هل هو اليوم في هذا الوضع؟ هيهات! هيهات! لقد تعددت السهام المصوبة إلى إيمان المؤمنين فأصابته إصابات بالغة حتى تكسرت النصال على النصال، واقتيد العزم عندهم حتى استسلم، وتكسرت عندهم اجنحة الارادة، وسُلّمت المعرفة والعلم ليصبحا خادمين على مذبح الايدولوجيات. ومع ان كلاماً كثيراً يقال حول الخلق الرفيع فان الواقع المعيش يكذب هذه الأقوال، حتى أصبحت العدالة تباع وتشترى كاي متاع آخر وأصبحت حقوق الناس تحت تصرف القوى الغاشمة حتى اصبحت هذه القوى قوى تسلط على الضعفاء لسحقهم. أما الحرية والإخاء والمساواة فقد اصبحت خيالاً صعب المنال. واصبح توقير الانسان والقيم الانسانية مجرد مواضيع تطرح في المؤتمرات وفي الندوات فقط.
الى جانب كل هذا فهناك حقيقة اخرى وهي ان العالم الاسلامي الذي يشغل موقعاً جغرافياً واسعاً متأخر إلى درجة كبيرة في العلم والتكنولوجيا والفن والتجارة. ويمكن ذكر الشئ نفسه بالنسبة لمكانتنا في العالم. ولو كنا – في ظل كل هذه السلبيات – في سلام واتفاق فيما بيننا لهان الأمر بعض الشئ... ولكن هيهات... فهذا العالم الكبير يقوم بانتاج وتوليد اشياء عجيبة لا يمكن التنافس فيها... ينتج الحقد والكراهية والعداء وتلويث الآخرين، وارساء كل خططه على الخصومة والعداء. وتتصرف فيه كل أمة هذا التصرف فيما بينها. اجل!... فمنذ سنوات عديدة كانت تهيئة جبهات العداء والخصومة هي الشغل الشاغل لنا... اخترعنا مخاطر وهمية وعداوات مصطنعة، وفرقنا بين الجماعات وزرعنا بينها الفتن. فحولنا هذه المساحة الجغرافية المباركة إلى وديان خوف وفزع وأرض رعب وذعر.(/1)
ومع أن ديننا السامي يَعِد بسعادة الدنيا والآخرة، ويرينا آفاقاً إنسانية رحبة وواسعة، ويعطي معنى لحياتنا، الا ان هؤلاء الأناس الغارقين في الدنيا لا يعبأون بكل هذا، ولا ينفذ اليهم التأثير الساحر للاسلام، لأنني لا أرى أي علامات تأثير عليهم. فكل ما أراه هو ضعف الناس وعدم وفائهم، والخصومة المرعبة عند الملحدين، إلى درجة أنك لو قمت باي نشاط ديني فانك ستواجه الملحدين عند خطوتك الاولى، وفي الخطوة الثانية سيكون ايمانك وعقيدتك وآمالك وافكارك الميتافيزيقية موضعاً للهزء والسخرية، وتتعرض من قبل بعض الفئات إلى التقريع واللوم. وعندما تدافع عن ضرورة الحوار مع الآخرين وعن المسامحة وقبول الآخرين واحتضان الجميع تتعرض من قبل جهات معنية إلى رشقات من القذائف، ويتوجه نحوكم سيل من التهديد من قبل من نستطيع تسميتهم بـ"خوارج اليوم"، وان عشت كما يأمرك دينك تعرضت للهجوم من قبل بعض البؤر التي لم تقدم حتى الآن أي شئ إيجابي ولم يكن لها نصيب في أي أمر ناجح، وتحاك ضدك المؤمرات تلو المؤامرات. ثم تتحول هذه الهجمات الشرسة من قبل الذين يهينون الدين والمتدينين، ويشوهون ما ضيك وتاريخك ويستهينون بقيمك الملية والدينية ويشتمون آباءك وأجدادك... تتحول كل مظاهر هذا الانحراف والضلال وعدم التوازن إلى شراب سام والى صديد يسيل إلى داخلك ويجرعك آلام الغربة ولوعتها.
أمام كل هذه السلبيات كم من الناس يصيبهم اليأس ويغرقون فيه ويقولون: "لا خير بعد في هذه الدنيا، وسيكون المستقبل أسوأ وأظلم" وكم منهم يفقد أمله فيرخي لنفسه العنان ويدع نفسه للتيار!... وهذا امر طبيعي لكل من لم يُربّ على الايمان وعلى الأمل... أجل!... إن كان كل ما يتم بناؤه اليوم سيُهدم في المستقبل، وإن كان المخلصون يُتعقبون كالمجرمين ويُطاردون، وإن كان كل فرد يريد اقامة هذه الدنيا حسب اهوائه ورغباته، ويحطم في هذا السبيل كل من يخالفه او يختلف معه في آرائه وقيمه – وهذا ما يجرى في هذا الجزء البائس من جغرافية العالم منذ عصرين – فلا يبقى عند أحد أي أمل أو أي عزم.
إن من الغريب ان هؤلاء الطغاة الاقزام والمنافقين من حولهم الذين يرتابون من أي عمل منجز باسم الدين والاخلاق والفضيلة ومن كل خدمة ايجابية، ويتهمون كل من يقوم باي نشاط في هذا الإطار في هذه الدنيا البائسة المنكودة الحظ، وينظرون إليهم وكأنهم شقاة وجناة... من الغريب انهم لا يرون الحالة المأساوية لدنيا المسلمين وينسونها او يتناسونها. بينما تسود في هذه المنطقة الجغرافية حالة رهيبة من الركود والشلل، فالأدمغة فيها لم تعد تنتج شيئاً منذ عصور، وكل مصادر القوى فيها معطلة... الخرائب في كل ناحية من نواحيها والبوم ينعق فوق هذه الخرائب. والأنكى من هذا غدت هذه الدنيا العظيمة للمسلمين وكأنها مأوى تأوي إليها عفونات العالم... مأوى للعاطلين والضعفاء.
إذا سمحتم سأتوقف هنا قليلا لأفسح المجال لأبيات الشاعر محمد عاكف التي تفتت القلوب في وصف الحالة المأساوية للعالم الاسلامي:
.............
منذ عصور تعطلت عضلات الاسلام وعقله
يقولون لي: "ماذا رأيت وقد سحت كثيراً في الشرق؟"
ما رأيته: مدن خربة، بيوت مهجورة، أمة دون زعامة
جسور مهدمة، قنوات خربة، طرق دون مسافرين
وجوه متغضنة، جباه دون عرق، ايدٍ مشلولة
ظهور منحنية، اعناق ضامرة، دماء لا حرارة فيها
رؤوس لا تفكر، قلوب لا تبالي، ضمائر صدئة
استبداد، أسر، طغيان، مذلة
رياء، ابتلاءات، امراض وعلل
.....
أئمة دون جماعة، وجوه باسرة، جباه لا تسجد
إخوان يقتلون إخوانهم في الدين باسم الجهاد
مساكن خاوية، قرى فارغة، اسطح مهدمة
بكيت عندما مررت، بكيت عندما وقفتُ
لا أحد يسمع، لا أحد يتكلم، وطن يرثى لحاله
........
صراخ مئات الالاف يرن من الأعماق
الآفاق طوق احمر حول العنق الذليل للإسلام
.....
إلهي!!... أهذا العالم الذي اراه هو مهد الانسانية؟
هل انبثقت الحضارة في التاريخ من هذه الصحارى؟
أكانت هذه البراري وطن التوحيد؟
هل ظهر الأنبياء يا رب من فوق هذه الرمال؟(/2)
صحيح ان هناك من لم يفقد عزمه وامله في هذه الديار الحزينة، فهناك اعداد لابأس بها من عشاق الحقيقة ومحبي العلم، ورجال نذروا انفسهم لخدمة الايمان من الذين نستطيع اطلاق اسم "جيل الفكر" عليهم. ولكن من المؤسف ان نرى ان اصواتهم تطغى على افعالهم، وضجيجهم أقوى من انشطتهم. فصراخهم –وهم يقومون بانشطتهم وفعالياتهم- يؤدي أحياناً إلى شر اكثر مما يؤدي إلى الخير، والى زيادة مخاوف الذين احاطت بهم الاوهام والمخاوف، والى فزع الملحدين، ويدفع بكارهي الاسلام والنافرين منه إلى النشاط ضده، فإذا بالأصوات الصاخبة ترتفع من كل جانب، ثم تتتابع الهمهمات والشكاوى، ثم يأتي وقت تتحرك فيه المخابرات الاجنبية، وكتائب الجنود الاجانب. وفي النتيجة يتم تدمير كل ما بُني في السابق، وتقطع الطرق وتهدم الجسور ويرجع كل شئ القهقرى إلى الوراء، وتتم تصفية كل تلك النشاطات والخدمات على مذبح الحقد والكراهية وطغيان العداء الاعمى... هذا هو ما جرى حتى الآن، فقد تشكلت معسكرات مختلفة في المجتمع نفسه، وحدثت نزاعات ومناوشات بين هذه المعسكرات، وجاء زمان تحولت فيه المناوشات والمبارزات الفكرية إلى مناوشات بالأيدي حتى اختلطت جميع الاوراق.
علماً بان العقل والمعرفة والحكمة تشكل أساساً مهماً في الاسلام. فالتفكر والتدبر والاستدلال والاجتهاد من ضرورات المجتمعات الاسلامية. والرسول صلى الله عليه و سلم يدعو أمته إلى اتخاذ منطق العقل مرشداً لهم في ظل الوصايا القرانية. فهو عندما يقول (قوام المرء عقله. ولا دين لمن لاعقل له)[1] انما يدعونا إلى ان نستخدم العقل والمنطق في كل امر من امورنا. والحقيقة انه صلى الله عليه و سلم كان دائماً بجانب العلم، ويبجل العلماء، ولأول مرة كان هو القائل بان العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة، كما انه هو القائل: (الحكمة ضالة المؤمن فحيث وجدها فهو احق بها).[2]
ولكن الغريب انه على الرغم من قيامه بحثِّ أمته على العلم والحكمة، وعلى الرغم من مئات الآيات والأحاديث في هذا المضمار، وإصراره المتكرر في هذا الشأن فان المسلمين منذ عدة عصور لم يفهموا هذا، ووضعوا بينهم وبين العلم والمعرفة والفن حجاباً. بل الأسوأ من هذا انهم اصبحوا من ناحية الفكر والبحث عاقرين وعقيمين وراكدين، وتركوا انفسهم للاسترخاء إلى درجة أن دخولهم تحت حكم ووصاية الآخرين لم ينبههم من غفلتهم هذه، ولم يدفعهم لمعرفة ما يجري حولهم، ومعظمهم لا يعرفون الحقيقة ولا يملكون ميلاً للبحث ولا عشقاً للحقيقة، ولم أشاهد أحداً منهم يشعر بالخجل والحرج لارتباطنا الوثيق في هذه الدنيا بغيرنا في مجال العلم والتكنولوجيا. فان وجد بعضهم فهم في وضع لا يستطيعون فيه اسماع اصواتهم. اما عبوديتنا لله تعالى ودرجة اخلاصنا في الايمان فهي تعادل تماماً سلبياتنا الاخرى. فان جئنا لعباداتنا فقد تحولت إلى فلكلور والى مجرد تقليد من التقاليد. وكان من الممكن ان يخفف من هذا الأمر لو كنا نحترم ونوقر تقاليدنا... ولكن هيهات، فقد ترك هذا لمجرى الأيام وتقلباتها.
عندما يكون هذا هو الوضع فلا يمكن الحديث عن جوهر الإسلام في هذا العالم الإسلامي، ولا عن الفهم الصحيح لأوامره التشريعية، ولا عن استيعاب أسسه التكوينية وفقهها وتفسيرها والإحاطة بها. لذا ففي هذه المنطقة الجغرافية المظلمة التي تعيش فيها مجموعات فقدت لونها وملامحها وهويتها من المسلمين، والتي تشوهت فيها لغتها ولهجتها حتى لم تعد مفهومة نحتاج اول ما نحتاجه إلى عشق للحقيقة، وبعث لحب العلم والرغبة في البحث، وشعور وجداني بالدين بصورته الأصلية النقية. ولا يمكن ان ينقذ هذا العالم من هذه الوهدة السحيقة التي سقط فيها الا من تربى على منهاج تربيته الأصيلة الذاتية من ذوي الأرواح الشابة والعقول المتوقدة، ممن نذروا انفسهم للحق تعالى وتوحدوا في الهدف وفي الايمان نفسه، لا يرجون منفعة شخصية... من أصحاب الإرادة والعزم... الساعين في الخدمة الإيمانية... العازمين على تخطي جميع المصاعب والعقبات... من أبطال العلم والمعرفة والعزيمة الذين لا يرجون أي نفع مادي أو معنوي سواء في الدنيا او في الآخرة. لقد عشنا حتى الآن على أمل مجئ هؤلاء الابطال، وسنبقى نعيش في انتظار قدومهم.
---------------------------------------------------
[1] شعب الإيمان للبيهقي 157/4
[2] رواه الترمذي وابن ماجه.(/3)
نظرة في تاريخ العقيدة
محمد أحمد إسماعيل
زعم بعض الناس أن العقيدة لم يعرفها الإنسان على ما هي عليه مرة واحدة، وإنما ترقت وتطورت خلال قرون سحيقة أطلقوا عليها " عصور ما قبل التاريخ "، " والعصور الحجرية " حيث لم يعرف الإنسان البدائي في زعمهم له رباً ولا معبودا ً، ثم نشأت لديه عاطفة التدين لما رأى الحيوانات تخشى القوى الخفية، وتخاف البرق والرعد، فظل يبحث عن معبود يشعر نحوه بالولاء والتقديس مهما كانت صورة هذا المعبود الذي يتوجه إليه بالحب والرهبة، فالتمسه في الشمس والقمر والكواكب، حتى في الأشجار والحيوانات، وقد تطور من وثنية إلى وثنية إلى أن اكتشف التوحيد من تلقاء نفسه، أي أن الدين في زعم هؤلاء هو نتاج العقل البشري واختراعه.
ويفهم من هذه المزاعم:
أولاً: أن الإنسان الأول كان أقرب إلى الحيوان، وأنه خُلق خلقاً ناقصاً غير مؤهل لأن يتلقى الحقائق العظمى كاملة، وأنه طبقاً للنظرية الداروينية الفاشلة كائن تطور عن غيره، وعليه فليس لتكليف هذا الإنسان ولا لاستخلافه في الأرض معنى.
ثانياً: أنه كان مشركاً بطبيعته، والأصل في فطرته النزوع إلى الشرك والوثنية، وبناء على ذلك: زعموا أن الأصل في عقيدة البشر العقيدة الفاسدة، ثم طرأ التوحيد عليها، حيث أن الدين الداعي إلى التوحيد جاء متأخراً عن وجود الإنسان على ظهر الأرض في زعمهم.
ثالثاً: أنه سعى بجهده وعقله في البحث عن معبود، وأن أفكاره تطورت ذاتياً بناء على تجاربه دون توجيه رباني يهديه ويرشده، إلى أن اكتشف الدين بنفسه دون معلم يعلمه، وأنه كما ترقى في العلوم والصناعات، ترقى كذلك في معرفة الله - تعالى -.
رابعاً: أن قروناً طويلة مرت على البشرية وهي لا تعرف لها رباً ولا معبوداً، لكن كلما تقدم الزمن ترقت في مفهومها للدين وتطورت، وعليه فإن من جاءوا بعد آدم كانوا على دين أكمل منه، والقرون المتأخرة كانت أقرب للفهم الصحيح من الأمم المتقدمة.
[وتأسيساً على هذه المزاعم قاموا بمعالجة تواريخ الأمم التي سبقت بعثة محمد - صلى الله عليه وسلم - بما في ذلك تاريخ أوربا على أنه تاريخ وثني جاهلي محض، لا أثر فيه لوجود الله، ولا لدين هو الإسلام طلب الله من البشرية أن تعتنقه، ولا لنظام ولا لشرع رباني طلب الله من بني آدم أن يخضعوا حياتهم له، ولا وجود لرسل أرسلوا من قِبَل الله - عز وجل -، يطلبون من الناس عبادة الله وحده بدون شريك، أي انتفاء التكليف الرباني لبني البشر.
والنموذج لذلك، يتضح لنا، من كيفية معالجة المستشرقين لتاريخ مصر والعراق وبلاد الشام والجزيرة العربية منذ أقدم الدهور، والتي أسقطت تماماً أي دعوة إلى الإسلام حملها رسل الله في حياة الأمم التي سكنت تلك البلاد، وبهذا أصبحت جميع الأمم بلا استثناء تنظر إلى هذه الفترة من تاريخها على أنها خُلِقَت وتُرِكت هملاً، فلم تكن تعرف لها رباً، ولا ترتضى لنفسها ديناً، ليس هذا فحسب، بل راحوا يرددون أن الأصل في عقيدة أهل تلك الأقطار: الوثنية؛ وأنهم تطوروا في وثنيتهم من التعدد إلى التثنية إلى التوحيد، وأن أول الموحدين في مصر من تلقاء نفسه في التاريخ هو الفرعون أخناتون " أمنحتب الرابع " الذي كان يعبد القوى الكامنة وراء إله الشمس آتون، وأن عبادته هي الحقيقة والدين الصحيح، وأن فكرته قد انتقلت إلى بلاد العراق حيث أقام إبراهيم دينه، أي أن إبراهيم هو مؤسس الإسلام أي أنه ليس وحياً من عند الله!!!
وتأكيداً لهذه المزاعم، حرص علماء الآثار من المستشرقين على طمس أي قرينة أثرية أو ملامح تاريخية تؤكد أن الله - سبحانه وتعالى- فطر البشرية على الإسلام، وارتضاه لها ديناً، وبه بعث الرسل، وعندما تظهر قرينة رغماً عنهم تؤكد أصالة خط توحيد الله في حياة البشر راحوا يعزونها إلى تطور الفكر البشري، فهم يزعمون أن الإنسان قد تطور في معتقده كما تطور في صناعته.
وأصحاب منطلق التجاهل والتجهيل بالإسلام لا يستندون إلى دليل سوى الجهل، والجهل لا يصلح أن يكون دليلاً]. ا هـ [انظر.. الإسلام دين الله في الأرض وفي السماء " للدكتور جمال عبد الهادي، - حفظه الله -، ص (26)]
وفيما يلي، نلقي هذه النظرة على:
مسالك الباحثين عن نشأة التدين في الوجود
يقول الدكتور أحمد بن ناصر الحمد - حفظه الله -: " إن الطريق الذي يسلكه جمهور الباحثين للوصول إلى هذا المطلب هو التنقيب عن أديان الأمم القديمة، أو أديان الأمم المعاصرة غير المتحضرة، ويعتبر هؤلاء نهاية ما يعلمونه في القدم من أديان البشر؛ وما عليه الأمم الأشد تخلفاً من ممارسات دينية صورة مطابقة لما كان عليه الإنسان الأول!
ومصادر هؤلاء في إثبات آرائهم بالنسبة للأديان القديمة النقوش والرمم التي يستوحون منها ما يزعمونه قطعياً، ولما كانت تلك مصادرهم، اختلفت آراؤهم.(/1)
فذهب فريق، إلى أن الدين بدأ بصورة الخرافة، وأن الإنسان أخذ يترقى في دينه على مدى الأجيال حتى وصل إلى الكمال فيه بالتوحيد، كما تدرج في علومه وصناعاته، حتى زعم بعضهم أن عقيدة
" الإله الأحد " عقيدة حديثة، وليدة عقلية خاصة بالجنس السامي، ونادى بهذه النظرية أنصار المذهب التطوري، الذي ساد في أوروبا في القرن التاسع عشر في أكثر من فرع من فروع العلم.
وذهب فريق آخر إلى القول: بفطرية التوحيد وأصالته، وأثبتوا أن عقيدة الخالق الأكبر هي أقدم ديانة ظهرت في البشرية.
وقد رد أنصار هذا المذهب على القائلين بالمذهب التطوري مع أن مسالكهما في الوصول إلى تحديد بداية الدين واحدة، وهي دراسة الشعوب المتأخرة والأمم الغابرة.
وبالنظر إلى مسالك القوم في إثبات العقيدة الدينية، يتبين خطؤها، من حيث الغاية والوسيلة، يقول الدكتور محمد عبد الله دراز - رحمه الله -: " أما من حيث الغاية التي يهدف إليها البحث، وهي تحديد الأصل الأصيل للعقيدة والمظهر التي ظهرت به في أول الأزمنة بإطلاق، فلأن هذه المنطقة
" البدائية المحضة " قد اعتبرها العلم شُقّةً حراماً حظرها على نفسه، وأعلن بصراحة خروجها عن حدود عمله … ومؤرخو الديانات على الخصوص معترفون، بأن الآثار الخاصة بديانة العصر الحجري وما قبله لا تزال مجهولة لنا جهلاً تاماً، فلا سبيل للخوض فيها إلا بضرب من التكهن والرجم بالغيب.
وأما من حيث المنهج، وهو الاستدلال على ديانة الإنسانية الأولى بديانة الأمم المنعزلة المتخلفة عن ركب المدنية، فلأنه مبني على افتراض أن هذه الأمم كانت منذ بدايتها على الحالة التي وصل إليها بحثنا، وأنها لم تمر بها أدوار متقلبة، وهو افتراض لم يقم عليه دليل، بل الذي أثبته التاريخ، واتفق عليه المنقبون عن آثار القرون الماضية، هو أن فترات الركود والتقهقر التي سبقت مدنياتها الحاضرة، كانت مسبوقة بمدنيات مزدهرة، وأن هذه المدنيات قامت بدورها على أنقاض مدنيات بائدة قريبة، أو بعيدة، في أدوار تتعاقب على البشرية.. فمن العسير أن نحكم بصفة قاطعة أن الخرافات القديمة، بداية ديانات، كما يمكن أن يكون تحللاً، وتحريفاً لديانة صحيحة سابقة مزقت أهلها الحروب، أو أفسدتهم المؤثرات الاجتماعية، فقلت عنايتهم بأصول دينهم فضاع، وبقى تعلقهم بأشياء منه محرفة، أو مغلوطة، بهذا يظهر مبلغ ثبات الفرض الذي بنيت عليه البحوث الحديثة كلها، وأنها أُسست على جُرُفٍ هارِ لا تطمئن عليه الأقدام " ا هـ.
ومما يوضح بطلان هذه الطريقة التي سلكها أصحاب المذهبين للوصول إلى معرفة هذا الأمر المهم بالنسبة للبشرية، أن القدر الذي عرف من تاريخ البشرية وبين عصر نشأتها لا تزال الثغرة فيه واسعة لم تُسَدَّ، ولن تُسَدَّ، إذا لم يقل أحد: " إن الوقائع المفقودة الوثائق يمكن إثباتها على وجه قاطع بمثل هذا الضرب من التخمين اعتماداً على مجرد حسن المقابلة، وجمال التناسق بينها، وبين الوقائع المعروفة "، دون تثبت من حصول التشابه بين تلك العصور، حتى يتم القياس على وجه صحيح ودقيق.
وأما الاستدلال بالآثار من النقوش، أو الحفريات، ثم استنطاق الرمم فأمر يحتاج إلى كثير من التأمل، وكل من كان له قلب يدرك مدى اختلاف تفسيرات الناس للأشياء المعينة المشاهدة في وقت واحد، فكيف الحال بتفسيرات المتأخرين بقرون طويلة لأحوال أولئك المتقدمين وأعمالهم؟ كما أن تعبيرات الناس عن الصور الحية متباينة كل التباين، فكيف هي عنها بعد أن رَمّتْ؟!
هذا فيما يتعلق بمستند الرأيين على حد سواء، ويزيد المذهب التطوري في كونه مبنياً على افتراض آخر، وهو: أن الملكات والأحاسيس الروحية كالقوى البدنية، والمكتسبات العقلية، والتجريبية، فكما أن الإنسان ينتقل في نموه البدني من الضعف إلى القوة، وفي نموه العقلي من الجهالة إلى المعرفة، قد يلوح أنه بدأ حياته الروحية بالسخف والخرافة، ولم يصل إلى العقيدة السليمة إلا بعد جهد وعناء.
وقد انتُقِد هذا القياس، بأن المشاهد من حياة الناس الروحية، عدم التوافق في كل أدوارها جنباً إلى جنب مع حياتهم المادية، بل إنهما يسيران في طريقين متعارضين ككفتي الميزان لا ترتفع إحداهما إلا انخفضت الأخرى، وقليل من التأمل يهدي إلى أن محاولة قياس الأديان على الفنون والصناعات إنما هو محاولة للجمع بين أمرين لا تؤلف بينهما حقيقة نوعية مشتركة، بل تتباين طبائعهما ووسائلهما، ولقد كان مقتضى الوضع السليم في تعرف ما كانت عليه بداية الأديان فيما قبل التاريخ أن نسترشد في مقارنتها بسير الديانات المعروفة منذ طفولة التاريخ إلى اليوم، فالمعروف بالاستقراء: أن كل واحدة من هذه الديانات بدأت بعقيدة التوحيد النقية، ثم خالطتها الشوائب، والأباطيل مع تقادم زمنها، فالأشبه أن تكون هذه سنة التطور في الديانات كلها.(/2)
ومن عجيب أمر الباحثين في تاريخ الأديان: أنهم يغفلون آثار الأنبياء، ويتجاهلون كتبهم، ويتعلقون بالواهي من الأدلة، ورموز الأخبار، والآثار، وتزداد الغرابة، وتعظم المصيبة حينما يكون الباحث مسلماً، ويتابع غير المسلمين في مثل هذه الأمور التي صرحت بها الرسالات السماوية، وجَلاها الدين الإسلامي بما لا يدع مجالاً للشك، سواء بالنسبة لخلق الإنسان، أو تكوينه ونظام حياته ودينه، والحكمة من خلقه ووجوده]، والله - عز وجل - يقول: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} … (الإسراء: 36)، ويقول - جل وعلا -: {مَا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً} … (الكهف: 51).
وإذا كنا من خلال ما سبق، قد رأينا أن وسائل العلوم التي يسلكها الباحثون في تحري الحقائق لم تقدم لنا بياناً شافياً يطمئن إليه القلب، وتسكن إليه النفس عن ديانة الإنسان الأول، فما هو المصدر الصحيح الذي يمكن من خلاله أن نستشرف هذا الغيب، ونقف على وجه الصواب فيه؟
إنه الوحي الإلهي وحده، الذي يطلعنا على حقائق الماضي والحاضر والمستقبل التي تغيب عن عقولنا وحواسنا، إنه القرآن الكريم كلام الله - عز وجل - الذي { لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} … (فصلت: 42).
القرآن الكريم وحده يوضح تاريخ العقيدة
يقول فضيلة الدكتور عمر الأشقر - حفظه الله -: " ليس هناك كتاب في الأرض يوضح تاريخ العقيدة بصدق إلا كتاب الله - سبحانه وتعالى-، ففيه علم غزير في هذا الموضوع.
وعلم البشر لا يمكن أن يدرك هذا الجانب إدراكاً وافياً لأسباب:
الأول: أن ما نعرفه عن التاريخ الإنساني قبل خمسة آلاف عام قليل، أما ما نعرفه قبل عشرة آلاف عام فيعتبر أقل من القليل، وما قبل ذلك فيعتبر مجاهيل لا يدري علم التاريخ من شأنها شيئاً، لذا فإن كثيراً من الحقيقة ضاع بضياع التاريخ الإنساني.
الثاني: أن الحقائق التي ورثها الإنسان اختلطت بباطل كثير، بل قل ضاعت في أمواج متلاطمة في محيطات واسعة من الزيف والدجل والتحريف، ومما يدل على ذلك: أن كتابة تاريخ حقيقي لشخصية أو جماعة ما في العصر الحديث تعتبر من أشق الأمور، فكيف بتاريخ يمتد إلى فجر البشرية؟!
الثالث: أن قسماً من التاريخ المتلبس بالعقيدة لم يقع في الأرض، بل في السماء.
لذا كان الذي يستطيع أن يمدنا بتاريخ حقيقي لا لبس فيه هو الله - سبحانه وتعالى- {إِنَّ اللّهَ لاَ يَخْفَىَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء} … (آل عمران: 5) [العقيدة نبع التربية" ص (68 74) بتصرف].
فإذا تأملنا القرآن المجيد تجلت لنا بوضوح الحقائق التالية:
الحقيقة الأولى:
أن الله - عز وجل - خلق آدم منذ البداية خلقاً سوياً مستقلاً مكتملاً، ثم نفخ فيه من روحه، وأنه خلقه لغاية محددة وهي عبادة الله وحده، وأنه - عليه السلام - خُلق مؤهلاً لذلك، وأنه عرفه على نفسه - سبحانه وتعالى- منذ البداية، ولم يتركه لفكره، ليتعرف على ربه بطريق التفكير والتأمل وهاك بيان هذه الحقيقة: يقول الدكتور أحمد بن ناصر الحمد - حفظه الله -: "دلت آيات القرآن المجيد على أن الله - سبحانه وتعالى- خلق آدم بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وعلمه الأسماء كلها، فتميز على الملائكة بنوع علمه، ثم أسكنه الله - تعالى - الجنة هو وزوجه. قال - تعالى -: {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ} … (البقرة: 35) وقال - تعالى -: {وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} … (الأعراف: 19).(/3)
وهل يخطر في بال عاقل أن يكون هذا المخلوق المكرم، المعلم للأسماء كلها، لم يعرف الله - تعالى - وما يجب له وما يجوز في حقه، وما هو واجب العبد تجاهه، وهو يرى الملائكة يسبحون الله ويحمدونه، لا يفترون، مع أن الله - تعالى - أمره، ونهاه، وحذره هو وزوجه عندما أمرهما بسكنى الجنة والأكل منها حيث شاءا، إلا شجرة واحدة، نهاهما عنها، وحذرهما عاقبة قربها، كما أخبر - تعالى - آدم - عليه السلام - بعدوه وعدو زوجه، إبليس ـ لعنه الله ـ وأن مغبة إطاعته، خروجهما من الجنة، وحصول الشقاء لآدم ـ علبه السلام ـ قال - تعالى -: {فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى}... (طه: 117) ولم يعص اللهَ - تعالى - آدمُ - عليه السلام - متعمداً، قال - تعالى -: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً}... (طه: 115) وقال - تعالى - فيما حكى من فعل إبليس: {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ * فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ}... (الأعراف: 21 22)
وبعد مخالفة آدم وحواء نهي الله - تعالى - لهما، وطاعة عدوهما، وحصول ما حصل نتيجة المعصية من بُدُو السوأة والغواية، قال - تعالى -: {فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} … (طه: 121) أدرك آدم وحواء بعد الوقوع في المنهي عنه أثر المعصية، فندما على ما حصل وتوجها إلى الله - تعالى - طالبين مغفرته ورحمته معترفين بالذنب، وبظلم النفس.
قال - تعالى - مخبراً عنهما: {قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} … (الأعراف: 23) وقال - تعالى -: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} … (البقرة: 37) وتلك الكلمات التي تضرع بها إلى الله - تعالى - توبة وإنابة لا تكون إلا بأسماء الله الحسنى وصفاته العليا، وهي طريق دعائه، ومناجاته، وكان هذا قبل أن يهبطه الله - تعالى - إلى الأرض كما هو رأي بعض العلماء.
وبعد أن أهبطه الله - تعالى - إلى الأرض، ذكره بعداوة إبليس له، وأنه مصدر شر له، وأن هداه وصلاحه لا يكون إلا من الله - تعالى -، قال - تعالى -: {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى * قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} (طه: 122 124) وقال - تعالى - حاكياً قول إبليس: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} … (ص: 82 83) … [" العقيدة نبع التربية " ص (75 78) بتصرف].
الحقيقة الثانية:
أن كل مولود يولد على فطرة التوحيد [معنى الفطرة لغة: هي من " فطر الشيء يفطره " يشقه، وتَفَطر: تشقق، فالفطر: الشق، وجمعه فطور، ومنه فطر ناب البعير، إذا طلع، وفي التنزيل قوله - تعالى -: {إذا السماء انفطرت} أي: انشقت، وفي الحديث عن عائشة - رضي الله عنها -: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه) … (رواه البخاري). والفطر: الابتداء والاختراع، قال - تعالى - {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} … (فاطر: 1) أي خالقهما ومبتدئهما، وقال بن عباس - رضي الله عنهما - " كنت لا أدري ما {فاطر السموات والأرض} حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر، فقال أحدهما: أنا فطرتها، أنا بدأتها ".
الفطرة اصطلاحاً: وردت الكلمة في القرآن الكريم في قوله: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا}، ووردت في التنزيل بصيغ أخرى غير الصيغة المصدر، ترجع معانيها إلى الخلق و الابتداء والتشقق، وهي معانيها اللغوية كما تقدم، والصحيح الذي تؤيده الأدلة أن الفطرة اصطلاحاً هي: الإسلام]
لقد دلتنا قصة آدم - عليه السلام - على أنه كان على عقيدة التوحيد، ودل القرآن الكريم والسنة النبوية أن هذا لم يكن خاصاً بالإنسان الأول آدم - عليه السلام -، وإنما هو عام في كل مولود.(/4)
فقد قال - تعالى -: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (الروم: 30)، وقال - تعالى -: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} (البقرة: 213).
[قال ابن كثير - رحمه الله -: " فسدد وجهك، واستمر على الدين الذي شرعه الله لك من الحنيفية، ملة إبراهيم، التي هداك الله لها، وكملها لك غاية الكمال، وأنت مع ذلك لازم فطرتك السليمة التي فطر الله الخلق عليها، فالله - تعالى - فطر خلقه على معرفته وتوحيده، وأنه لا إله غيره " أهـ.
للعلماء في تفسير {لا تبديل لخلق الله} قولان:
الأول: أنها خبر بمعنى الطلب، أي لا تبدلوا خلق الله، فتغيروا الناس عن فطرتهم.
الثاني: أنها خبر على بابه، وهو أنه - تعالى - ساوى بين خلقه كلهم في الفطرة على الجبلة المستقيمة، لا يولد أحد إلا على ذلك، ولا تفاوت بينهم في ذلك. وفسر البخاري قوله {لا تبديل لخلق الله} فقال: لدين الله، واستشهد بأن قوله - تعالى - {خُلُق الأولين} يعني دين الأولين، ثم قال: " والفطرة: الإسلام "].
وقال - تعالى -: {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} … (يونس: 19) في هؤلاء الآيات الكريمات دلالة على أن الدين الحنيف هو الفطرة التي فطر الله الناس عليها، وذلك هو الدين القيم الذي كان الناس عليه قبل الاختلاف، وذكر المفسرون في تفسير قوله - تعالى -: {كان الناس أمة واحدة} أن الناس بقوا عشرة قرون على الدين الحق قبل حدوث التغيير وطروء الشرك. وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء؟ " ثم يقول أبو هريرة - رضي الله عنه - اقرءوا إن شئتم: {فطرة الله التي فطر الناس عليها} الآية)... (متفق عليه)
قوله - صلى الله عليه وسلم -: " ما من مولود " أي ليس مولود من بني آدم " إلا يولد على الفطرة " أي الخلقة الإسلامية، والمراد الدين، كما في قوله - تعالى -: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا}، وهذه الفطرة، قيل: هي الإيمان المعهود الذي أخذ الله به على بني آدم الميثاق يوم قال لهم: {ألست بربكم؟ قالوا: بلى} وإليها يشير قوله - تعالى -: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً} أي: اثبت على إيمانك القديم الواقع منك في عالم الذر يوم قال - تعالى -: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ)؟ … (الأعراف: من الآية172) وهذه الفطرة هي فطرة الإسلام والسلامة من الاعتقادات الباطلة، والقبول للعقائد الصحيحة، فإن حقيقة الإسلام أن يستسلم العبد لله لا لغيره، وهو معنى " لا إله إلا الله "، فالقلوب مفطورة على الافتقار إلى الله، وهي لا تقنع بمحبوب سواه ولا تطمئن ولا تطمئن إلا إليه، فإذا أحبت الله - عز وجل - ووحدته؛ سكنت؛ واطمأنت {الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (الرعد: 28)
[ويؤيد تفسير الفطرة بالإسلام ما يلي:
أولاً: الروايات المختلفة الألفاظ المتفقة المعاني، والتي يفسر بعضها بعضاً، مثل: (ما من مولود يولد إلا وهو على الملة)، وفي أخرى: (إلا على هذه الملة) كما في " صحيح مسلم " رقم (2658).
ثانياً: قول أبي هريرة في آخر الحديث: اقرءوا إن شئتم: {فطرة الله التي فطر الناس عليها} مما يفيد أنه فسر الحديث بالآية وقد حكى أبو عمر بن عبد البر إجماع العلماء على أن المراد بالفطرة في الآية: الإسلام.
ثالثاً: فتوى أبي هريرة - رضي الله عنه - حين سئل عن رجل عليه رقبة مؤمنة، أيجزئ عنه الصبي أن يعتقه وهو رضيع؟ فقال: " نعم، لأنه ولد على الفطرة " أي الإسلام، وقال ابن شهاب الزهري: " يصلي على كل مولود متوفى وإن لغية؛ ـ أي من ولد الزنا ـ من أجل أنه ولد على فطرة الإسلام "، وأفتى الزهري رجلاً عليه رقبة مؤمنة أن يعتق رضيعاً لأنه ولد على الفطرة، وقال الإمام أحمد: " من مات أبواه وهما كافران، حُكم بإسلامه "، واستدل بحديث: " كل مولود يولد على الفطرة ".
رابعاً: أن في قوله: " فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه " ذكر تغيير الفطرة إلى ملل الكفر دون ملة الإسلام، فعلم أنه يتحول عن الإسلام إلى غيره، بفعل الأبوين أو غيره.(/5)
خامساً: أن في قوله: " هل تحسون فيها من جدعاء " إشارة إلى أن البهيمة خلقت سليمة، ثم جُدعت بعد ذلك، فكذلك الولد يولد سليماً من الكفر، ثم يطرأ عليه الكفر بعد ذلك، فالعيب الذي طرأ على البدن، يقابله العيب الذي طرأ على الدين، وهو الكفر) ا هـ. بتصرف من مقالة بعنوان " فطر الله الخلق على الحق " لعثمان علي حسين، مجلة "البيان" العدد (57) جمادى الأولى 1413 هـ].
ومثل الفطرة مع الحق كبصر العين مع الشمس، فكل ذي عين مبصرة لو تركت عينه بغير حجاب عليها فإنه يرى الشمس، والعقائد الباطلة كاليهودية والنصرانية والمجوسية مثل الحجاب على العين فهي تحول بين البصر وبين رؤية الشمس، كما أن كل ذي حس سليم يحب الحلو إلا أن يعرض في طبيعته فساد، يجعل الحلو في فمه مراً:
ومن يك ذا فم مريض *** يجد مراً به الماء الزلالا
ولا يلزم من كونهم مولودين على الفطرة أن يكونوا حين الولادة معتقدين للإسلام والإيمان ـ الذي هو قول، واعتقاد، وعمل ـ بالفعل، فإن الله أخرجنا من بطون أمهاتنا لا نعلم شيئاً، ولكن المراد بذلك سلامة القلب، وإرادته للحق الذي هو الإسلام، بحيث لو تُرِكَ من غير أن يخضع لمؤثر خارجي من الشياطين أو من الوالدين، أو نحو ذلك؛ لما كان إلا مسلماً، وهذه القوة العلمية والعملية التي تقتضي بذاتها الإسلام ـ ما لم يمنعها مانع كمؤثرات البيئة وتقليد الأبوين ـ هي فطرة الله التي فطر الناس عليها.
وينمو الطفل رويداً رويداً تبدأ هذه الفطرة تتحرك في أعماقه، وتجذبه بكل قوة نحو الحقيقة العظمى، فمِن ثَم نلاحظ أنه في مرحلة معينة يبدأ في إلقاء أسئلة تكاد لا تنتهي على والديه عما يحيط به:
من رفع السماء؟ ولماذا هي زرقاء؟ أين تذهب الشمس ليلاً؟ لماذا لا تظهر لنا في الليل؟ أين يذهب النور حين يحل الظلام؟ لماذا تتلألأ النجوم؟ أين تنتهي الأرض؟ لماذا تفوح الروائح العطرة من بعض الأزهار دون البعض الآخر؟ من أين أتيت؟ وأين كنت قبل آن آتي إلى الدنيا؟
إنها الفطرة المغروسة في أعماق نفسه تبدأ في الاستيقاظ لتتحرك، وتتعرف على خالق الكون وما فيه، وكلما نمت ملكاته وزاد علمه؛ كلما اطمأن قلبه بالإيمان بالله وحده، لا شريك له.
[وذلك لأن موجبات الفطرة ومقتضياتها تحصل شيئاً فشيئاً بحسب كمال الفطرة، واستعدادها، وسلامتها من المعارض، فكل مولود يولد على الإقرار بفاطره، ومحبته، والإذعان له بالعبودية، فلو خلي وعدم المعارض لم يعدل عن ذلك إلى غيره، كما أنه يولد على محبة ما يلائم بدنه من الأغذية والأشربة، كما قال - تعالى -: {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} … (طه: 50)، فهو - سبحانه - خلق الحيوان مهتدياً إلى حب ما ينفعه وجلبه، وبغض ما يضره ودفعه، ثم هذا الحب والبغض يحصلان فيه شيئاً فشيئاً بحسب حاجته، لكن قد يعرض لبعض الأبدان ما يفسد ما ولد عليه من الطبيعة السليمة والعادة الصحيحة، وهكذا ما ولد عليه من الفطرة، ولهذا شُبهت الفطرة باللبن، بل كانت هي اللبن في تأويل ما رآه النبي - صلى الله عليه وسلم - حين عرض عليه ليلة الإسراء اللبن والخمر، فاختار اللبن، فقيل له: (أصبت الفطرة) أو (هديت للفطرة) فمناسبة اللبن لبدنه، وصلاحه عليه ـ دون غيره ـ كمناسبة الفطرة لقلبه، وصلاحه بها دون غيره. أ هـ [ملخصاً من " البيان " العدد (57) ص (17 17)].
أما الذي تفسد فطرته بعوامل البيئة المحيطة فإنه ينشأ على عقائد منحرفة أجنبية عن فطرته السوية، قال - تعالى - في المنافقين: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى} (البقرة: 16)، فجعل الهدى هو رأس المال الحاصل عندهم والذي منحهم الله إياه، إلا أنهم عرضوه للزوال، وخسروه حين بدلوا هذه الفطرة المستقيمة القريبة منهم، واشتروا بها الضلالة البعيدة عنهم { فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} (البقرة: 16)، إن ذلك الحديث الشريف المتقدم ليؤكد أن الأصل في عقيدة الإنسان هو التوحيد، وأنه يولد مهيأ للعقيدة الصحيحة في فاطره وخالقه - سبحانه وتعالى-، أما الشرك فهو انحراف يطرأ على هذا الأصل، فيفسد الفطرة، وذلك بتأثير البيئة المحيطة به، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: (فأبواه يهودانه) أي يجعلانه يهودياً إن كانا يهوديين، (أو ينصرانه) أي يجعلانه نصرانياً إن كانا نصرانيين، (أو يمجسانه) أي يجعلانه مجوسياً إن كانا مجوسيين، والشاهد من الحديث أن الضلال عن فطرة الإسلام ليس من المولود بل من مؤثر خارجي، فإن بلغ الحلم؛ وبقي منحرفاً عن دين الفطرة؛ بقي معه الضلال، وإذا أسلم وجهه لله - عز وجل - انتفى عنه، وعاد إلى الفطرة الإسلامية.(/6)
وقد ضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثلاً يؤكد معنى الحديث، فقال - صلى الله عليه وسلم -: (كما تنتج) أي تلد (البهيمة بهيمة جمعاء) أي تامة الأعضاء، سميت جمعاء لاجتماع أعضائها، أي أن المولود يولد على الفطرة مثل نتاج البهيمة، فإنها تولد سليمة الأعضاء كاملتها (هل تحسون) أي هل تبصرون (فيها من جدعاء) أي مقطوعة الأذن أو الأنف أو الأطراف، وإنما يطرأ عليها قطع هذه الأعضاء بعد ولادتها سليمة، كذلك الأبوان الكافران يغيران فطرة ولدهما ويحسنان له العقيدة الباطلة، وهذا الذي دل عيه الحديث النبوي الشريف دل عليه الحديث القدسي الذي رواه عياض المجاشعي - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ذات يوم في خطبة حاكياً عن الله - عز وجل - أنه قال: (.. وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً)... (رواه مسلم). فقوله - تعالى - " حنفاء " جمع حنيف: وهو الذي يميل إلى الشيء ولا يرجع عنه، كالحنف في الرجل، وهو ميلها إلى خارجها خلقة، لا يقدر الأحنف أن يرد حنفه، والمقصود بالحنيف هنا الذي يميل عن الأديان إلى الإسلام.
والحديث يدل على أن الأصل في الآدميين هو الفطرة والتوحيد، وان الشرك عارض طارئ
" يتبع إن شاء الله "
http://www.islamic-mail.com المصدر:(/7)
نظرة في جماليات القرآن الكريم
فهمي هويدي
الفن كما أفهمه فنان، واحد للإماتة والثاني للإحياء، الأول للفتنة وإثارة الشهوة، والثاني لترقيق الحاشية وترطيب الجوانح أو شحذ الهمة، ذلك أن الله الذي هدى النجدين وألهم النفس فجورها وتقواها قد ركب في الجمال طبيعة مزدوجة، فيمكن بإدراك الجمال وصنعة أن يهتدي الإنسان ويعبد ويزداد هدى وعبادة، ويمكن أن يضل ويفتن ويسقط في مهاوي اللذات ودركات التحلل، وليس خافيًا أن الفن الذي نعنيه من الطراز الذي يحيي وليس الذي يميت ويهدم.
نحن نتحدث إذن عن فن يخشى الله ويتقيه ويتعبد له، بالتالي فكل ما يتعلق بالمجون والتحلل والتفلُّت ليس واردًا في السياق الذي نحن بصدده، من ثَمَّ فإننا نفهم الفن بحسبانه إبحارًا في ملكوت الله، واستجابة للتوجيه القرآني الداعي إلى التفكير في الأنفس والآفاق. وفي كلام آخر فإن الفن عند المسلم هو نوع من تدبر آيات الله في الكون، وهذا التدبر قد يكون بالتعبير وقد يكون بالتشكيل، وفي الحالتين فإن الفنان يغوص في أعماق الواقع فيتحرى فيه مواضع الجمال أو يستنطقه، وقد يتعامل مع الواقع المحسوس لكنه أيضًا قد يتجاوزه وينفذ إلى ما وراءه، محاولاً السباحة في الآفاق اللانهائية، وهو في تجواله ذاك يتقلب في بديع صنع الله، ويتعلق بأهداب عظمة خلقه، حيث تتجلى تلك العظمة في كل ما تقع عليه عيناه أو يمر على خاطره.
إن المتجول في رياض القرآن يرى بوضوح أنه يريد أن يغرس في عقل كل مؤمن وقلبه الشعور بالجمال المبثوث في جنبات الكون، من فوقه ومن تحته ومن حوله، في السماء والبر والبحر والنبات والحيوان والإنسان.
في جمال السماء يقرأ المسلم قوله - تعالى -: (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهَمْ كَيْفَ بَنَيْنَهَا وَزَيَّنَّهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ)[ق: 6]. (وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ)[الحجر: 16].
وفي جمال الأرض ونباتها يقرأ: (وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ)[ق: 7]. (وَأَنزَل لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ)[النمل: 60].
وفي جمال الحيوان يقرأ قوله - تعالى -عن الأنعام: (وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ)[النحل: 6]. وفي جمال الإنسان يقرأ: (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ)[التغابن: 3]. (الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ) [الانفطار: 7، 8].
وهكذا فإن المؤمن يلاحظ وهو يقرأ كتاب الله أنه يُدفَع لأنه يرى يد الله المبدعة في كل ما يشاهده في الكون، ويبصر جمال الله في جمال ما خلق وصور، يرى فيه (صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ)[النمل: 88]. (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ)[السجدة: 7]. وبهذا يحب المؤمن الجمال في كل مظاهر الوجود من حوله، لأنه أثر جمال الله - جل وعلا -، وهو يحب الجمال كذلك لأن ربه يحبه، فهو جميل يحب الجمال.
تحريض لاكتشاف مناحي الجمال:
لقد حرص القرآن الكريم في مواضع عدة على التنبيه إلى عنصر الحسن والجمال الذي أودعه الله في كل ما خلق، إلى جانب عنصر النفع أو الفائدة فيها، وكأنه يريد أن يثير انتباه المؤمنين إلى أن تعاملهم مع ما حولهم لا ينبغي أن يظل محصورًا في نطاق العلاقة الوظيفية الآلية، وإنما عليهم أن يلتفتوا أيضًا إلى البعد الجمالي في تلك العلاقة، ذلك أن الله - سبحانه وتعالى - شرع للإنسان إلى جانب "المنفعة" الاستمتاع بالجمال، أو "الزينة" وهو الوصف الذي يجسد الجمال في الخطاب القرآني.
في معرض الامتنان بالإنعام يقول الله - سبحانه وتعالى -: (وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ)[النحل: 5] هذا إشارة إلى الشق المتعلق بالمنفعة والفائدة. ثم يقول: (وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ)[النحل: 6]. وفيه إشارة وتنبيه إلى الجانب الجمالي في العلاقة. في نفس السياق يقول - سبحانه وتعالى -: (وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً)[النحل: 8]. ذلك أن الركوب يحقق المنفعة المادية وتتحقق العلاقة الوظيفية، أما الزينة فهي متعة جمالية تريح النفس وتبهج العين. وفي ذات السياق بنفس السورة، تحدث الله - تعالى -عن تسخير البحر فقال: (وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا)[النحل: 14]. إذ لم يقصر فائدة البحر على العنصر المادي المتمثل في استخراج ما يؤكل منه، بل ضم إليه الحلية التي تلبس للزينة، فتستمتع بها العين والنفس.(/1)
هذا التوجيه القرآني تكرر في أكثر من مجال، مجال النبات والزرع والنخيل والأعناب والزيتون والرمان، متشابها منه وغير متشابه، ففي سورة الأنعام يذكر البيان الإلهي الزرع وجنات النخيل والأعناب فيقول: (انظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)[الأنعام: 99]. في هذا التوجيه يقول - سبحانه وتعالى -: لا تقفوا عند حد الأكل وإشباع البطون، ولكن تفكروا في الأمر وانظروا كيف جاءت الثمرة ثم أينعت، ولا تنسوا أن ذلك من بديع صنع الله، وآياته التي ينبغي أن يعيها المؤمنون.
والقرآن لا يدعو المؤمنين فقط إلى ملاحظة الجمال والزينة في بديع الخلق، ولكنه يدعوهم أيضًا لأن يتجملوا هم أنفسهم، بل وينكر عليهم عدم الاكتراث بأسباب الزينة، مثل ذلك في قوله - تعالى -: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ * قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ)[الأعراف: 31، 32]. فالآية تبدأ بالحث على التزين لحاجة الوجدان، ثم تنتقل إلى الأكل والشرب لحاجة الجثمان، ثم تستنكر بعد ذلك تحريم زينة الله التي أخرج لعباده، وتحريم الطيبات والرزق، وإذا لاحظت أن البيان الإلهي استخدم مصطلح "زينة الله" فستجد أن ذلك يرفع في مقام الزينة ويشرفها، ومن ثم يحبب فيها ويجعل تحصيلها قريبًا إلى الله - سبحانه وتعالى -، إذا ما خلصت النية بطبيعة الحال.
إنها زينة الله يا سادة:
في كل ذلك فإن القرآن يدعو الخلق كافة إلى تذوق ما في الكون من جمال وإبداع فضلاً عن دعوتهم إلى الاستمتاع بذلك وهذه الثقافة تنمي عند المسلم حاسة تذوق الجمال والسعي إليه، وتوفر للموهوبين من المسلمين أفقًا واسعًا للإبداع إبحارًا في الملكوت الواسع الحافل ببدائع الخالق في مختلف الآفاق.
إن الإسلام حين دعا إلى تذوق جماليات الحياة لم يكن يسعى فحسب إلى تحقيق التوازن في نفس المؤمن بين احتياجاته المادية وأشواقه الوجدانية والروحية، وإنما كان يتجاوب في الوقت ذاته مع فطرة الإنسان وطبيعته، وهي الطبيعة التي ما كان يمكن كبتها أو تجاهلها، وإلا فقد الإسلام أحد أهم مميزاته، من حيث كونه دين الواقعية والفطرة، الذي هذب نوازع الإنسان ولم يقمعها، أهم من هذا وذاك أن تلك الدعوة اعتبرت سبيلاً إلى تثبيت الإيمان وتأكيد الثقة في قدرة الله، خالق الأكوان ومبدعها، الأمر الذي جعل من الفن الإحيائي الذي ندافع عنه سبيلاً إلى تعزيز الإيمان بالله وبابًا من أبواب التقرب إليه - سبحانه - عبر الإعلاء من شأن نعمه التي أسبغها على الكون.
08/12/2004
http://www.islamweb.net المصدر:(/2)
نظرة في قصة أصحاب الكهف ( سورة الكهف)
بقلم: محمد عمر سعيد
لعلّ الآية السادسة من هذه السورة تشكل محور هذه القصة كلها لكون دلالاتها تتجه بالمعنى إلى ما قبل الآية وما بعدها، فإذا تأملنا {فَلَعَلََّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ على آثارهم إِنْ لَمْ يُومِنُوا بِهَذَا الحَدِيثِ أَسَفًا} (الكهف: 6) وجدنا أن دلالة المعنى العام للآية تخاطب النبي صلى الله عليه وسلم بأن لا يهلك نفسه و يلومها {بَاخِعٌ نَفْسَكَ ... أَسَفًا} على عدم إيمان الذين لم يؤمنوا {بِهَذَا الحَدِيثِ} وهو حديث الإيمان والقرآن الذي يغار المؤمن عليه إلى درجة ملامة نفسه وإهلاكها على عدم إيمان الآخرين به.
وهو حديث الإيمان والقرآن الذي يغار المؤمن عليه إلى درجة ملامة نفسه وإهلاكها على عدم إيمان الآخرين به، فهنا ولوج قرآني كاشف لأعماق شعور الإنسان المؤمن بالرسالة وأهميتها وعلاقته بغير المؤمن حيث ينشأ لديه اللوم المهلك للنفس، والذي ينتج أساسا عن رغبة المؤمن تحقيق رأب الهوة بين الإنسان المؤمن وغير المؤمن، على أن لا علاقة تعدّ حقيقية ومباشرة بين النفسين المؤمنة وغير المؤمنة
فهنا ولوج قرآني كاشف لأعماق شعور الإنسان المؤمن بالرسالة وأهميتها وعلاقته بغير المؤمن حيث ينشأ لديه اللوم المهلك للنفس، والذي ينتج أساسا عن رغبة المؤمن تحقيق رأب الهوة بين الإنسان المؤمن وغير المؤمن، على أن لا علاقة تعدّ حقيقية ومباشرة بين النفسين المؤمنة وغير المؤمنة (والتي تفهم ضمنا من سياق الآية السادسة) التي هي (العلاقة) جزء من علاقة النفوس بين بعضها البعض بشكل عام؛ ومن جهة أخرى نستكشف من الآية وجود هوة بين مشاعر المؤمن نحو غيره التي تكون أكثر قوة وذات مضمون إيجابي منطلقها المحبة اللامشروطة من طرف المؤمن لأخيه الإنسان والذي قد يكِنُّ له غير المؤمن العداوة ويضمر له الأذى.
فإذا التفتنا إلى ما قبل الآية السادسة (من 01 إلى 05) نجدها تبسط المعنى أولاً في صفة الكتاب {وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا} و {قَيِّمًا} ، وثانيًا في تبشير المؤمنين {وَيُبَشِّرَ المُؤْمِنِينَ} وينذر المشركين {وَيُنْذِرَ الذِينَ قَالُوا اْتَّخَذَ اَللهُ وَلَدًا}، وهي معاني تقريرية لحقيقة الوجود التي تحوي مطلقين أصيلين هما:
1. أصالة الكتاب المنزل {أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الكِتَابَ} المحكم المعبِّر عن الحقائق الأزلية طبقا للآية {وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً} (الإسراء: 106) وهي تأكيد على أَن القرآن لم يخلق خلقا بل ما هو إلاّ صياغة للّوح المحفوظ تجلت في حروف وكلمات وآيات القرآن.
2. أصالة حرية النفس الإنسانية وأصالة انقسام البشر إلى مؤمن ومشرك {وَنفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} (الشمس: 7-8).
فعند المؤمن يجتمع المطلقان (ذاته هو) و(القرآن) أما عند غير المؤمن مطلق واحد هو (ذاته) و ينزل به نقصانا حسب درجة دنوه في المراتب الأخلاقية فقد يصل به الدنو إلى إفراغ نفسه كلية من الإطلاقية نزولا عند معنى الآية {أُوْلَئِكَ كَالاَنْعَامِ بَلْ هُم أَضَلْ} (الأعراف: 179) والفارق بين الحالتين الإيمانية وغير الإيمانية يتجلى في حالة لوم المؤمن لنفسه إلى درجة الهلاك من شدة الأسف على الهوة من مطلقين يرتفعان ودنو غير المؤمن
فعند المؤمن يجتمع المطلقان (ذاته هو) و(القرآن) أما عند غير المؤمن مطلق واحد هو (ذاته) و ينزل به نقصانا حسب درجة دنوه في المراتب الأخلاقية فقد يصل به الدنو إلى إفراغ نفسه كلية من الإطلاقية نزولا عند معنى الآية {أُوْلَئِكَ كَالاَنْعَامِ بَلْ هُم أَضَلْ} (الأعراف: 179) والفارق بين الحالتين الإيمانية وغير الإيمانية يتجلى في حالة لوم المؤمن لنفسه إلى درجة الهلاك من شدة الأسف على الهوة من مطلقين يرتفعان ودنو غير المؤمن .
فتهدف القصة إذن إلى طرح العلاج لهذه الحالة لدى المؤمن، وهذا بعرض نموذج تاريخي هو قصة أصحاب الكهف، والتي يتمحور إشكالها حول طول المدة الزمنية الضرورية لظهور الحق الذي ينادي به أصحابه، وهذا ليحافظ الإنسان الداعية أو المبلغ على جلَده في أدائه الرسالة وعدم يأسه، وأكثر من ذلك تهدف القصة إلى (توسيع صدور المؤمنين) فإشكال السورة مركب أولا الحفاظ على النفس من الهلاك والحفاظ على العزيمة والتخلص من اليأس في ظل (فارق الهوة النفسية) بالموزاة مع اعتبار طول المدة الزمنية لظهور نتيجة الدعوة وبالتالي التغيير(فارق الهوة الزمنية) {وَلَبِثُوا فِي كَهْفُهُمْ ثَلاَثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا}.
والآية السابعة تبسط في (الحال) وهو البهجة والفرح {زينة لها} أما الثامنة فتبسط في (المآل) {صعيدا جرزا}،وهو إجمالا البناء الذي تندرج ضمنه حقيقتا الوجود وهما كما بينا آنفا (أصالة الكتاب المنزل) و (أصالة حرية النفس)، بمعنى أن بداية السورة بينت أساسين وجوديين هما:
1. عنصرا الثبات واللاتغير وهما أصل الإنسان وأصل القرآن(/1)
2. عنصرا التغير واللاثبات وهما حال الدنيا ومآلها
بعدها تأتي القصة في البداية مجملة بين الآيات (09-12) ، أولاً جاء (الضرب على آذان الفتية) إستجابة لدعائهم بـ(الرحمة اللدنية) و (الرشاد)، ولنا أن نلحظ أن دعاءهم جاء بعد أن (آووا إلى الكهف) بمعنى بعد أن يئسوا من قومهم، أي بعد أن بلغت بهم الهوة النفسية بينهم وبين قومهم حدًّا لايُطاق، فلفظ {سنين عَدَداً} يحمل معنى الزمن الكمي أما لفظ {أَمَدًا} فتحمل معنى الزمن الكيفي النفسي الذي سيكون للحزبين إدراك قيمته {لِيَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا}؛ الحزب غير المؤمن الذي فر منه الفتية والحزب المؤمن الذي عاد إليه الفتية بـ(ورقهم)؛ و أمرَ معرفته الذي يحمل معناه الكبير لدى الحزبين، فهو ذو دلالات إيمانية عميقة تربط الإنسان غير المؤمن بمستقبله وتربط المؤمن بماضيه.
________________________________________
فتهدف القصة إذن إلى طرح العلاج لهذه الحالة لدى المؤمن، وهذا بعرض نموذج تاريخي هو قصة أصحاب الكهف، والتي يتمحور إشكالها حول طول المدة الزمنية الضرورية لظهور الحق الذي ينادي به أصحابه، وهذا ليحافظ الإنسان الداعية أو المبلغ على جلَده في أدائه الرسالة وعدم يأسه، وأكثر من ذلك تهدف القصة إلى (توسيع صدور المؤمنين)
تم تأتي القصة مفصلة في الآيات(13-22) لتبتدئ بعرض سبب اعتزال الفتية قومهم {هَؤُلاَءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُواْ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} وكان هذا نتيجة للشرخ الحادث بين الفتية وقومهم إذ يمكن تسمية فرارهم (بالمنفى الإختياري) ويعرّج بعد ذلك القرآن لعرض حالة الفتية وكلبهم {وَتَحْسِبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ اليَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ِذَرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ}، ثم لو تأملنا تساؤلهم وجوابهم حول مدّة رقودهم لاكتشفنا أن مرور الزمن في حال الرقود يشبه الموت الذي لايشعر الإنسان بأي شيء أثناءه {قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً اَوْ بَعْضَ يَوْمٍ}، ليتبين بعد ذلك الحال الإنقلابي الذي عايشوه وهو(ظنهم أن القوم عند رقودهم هم القوم عند استيقاظهم) إلاّ أن الأمر كان مخالفا لما كان مترسخا في أذهانهم، إذ أن ميزانهم قد تغير دون أن يروا أسبابه (لا الإجتماعية ولا حتى الزمنية) فلا شك أن التغيير هنا كان سننيا كما لاشك أن تفكير الفتية كان سننيا، لكن ما لم يكن طبيعيا (وهو مكمن معجزة أصحاب الكهف) هو تلك الحلقة المفقودة لديهم وهي الحلقة نفسها التي أدت إلى العثور عليهم .
وهي تلك الحلقة التي ينبه القرآن إلى تعويضها للمؤمنين والتي يأتي ذكرها مباشرة بعد نهاية القصة مباشرة الآيتين (27-82) من السورة {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاِتِه وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا * وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالغَدَاةِ وَالعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَتَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زينة الحَيَاةَ الدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ اغْفَلْنَا قَلْبَهُ عن ذكرنا وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً}، فتلاوة القرآن واصطبار النفس مع الذين يدعون ربهم هي سد للثغرة وملء للهوة النفسية الناشئة عن الإنفصال بين (الهدي) و(نفس المؤمن) و(غير المؤمنين) و (تطاول الزمن).
أما مسألتا (مدة رقودهم) و(عددهم) فقد قام القرآن بتبيان عدم أهميتها {قُلِ اللهُ أًعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ} رغم أن الناس يسعون لمعرفتها بالْتِهائهم بهوامش الأمور على أساس {فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ إِلاّ َمِرَاءً ظَاهِرًا} أي لا يهمك في هذا الأمر سوى ما هو واضح ومعلن عنه، على أن القرآن قام بذكر المدة الزمنية بوضوح وفي آية مستقلّة (25)، إذ الأمر ليس في عدم أهمية المدة، فهي في القصة قضية مركزية، لكن الإعتراض القرآني كان على الجدل الذي (يبدو أن القوم حاجّوا الرسول (ص) فيه.
________________________________________
البناء الذي تندرج ضمنه حقيقتا الوجود وهما كما بينا آنفا (أصالة الكتاب المنزل) و (أصالة حرية النفس)(/2)
إذن الفارق جوهري بين المرحلة التي نحياها منذ نزول القرآن (المحفوظ المجيد المكنون) وما قبل النزول، إذ الحل الذي وضعه الله أمام الفتية هو (الرقود) والخروج من المجتمع كحلٍّ ذي دلالات حكمية لما بعد النزول، فالفتية لم يكن يتوفر لديهم لا (تلاوة القرآن) ولا (اصطبار النفس مع الذين يدعون ربهم)، لذلك كان الحل هو (الفرار من القوم)، أما بعد النزول فالتلاوة والإصطبار متوفران، لذا فالحل التعويضي لإنسان (مؤمن) ما بعد النزول هو توسيع الصدور بالملجأين (القرآن) و(الإصطبار)، كذلك أصبحت أسباب (الخروج) و(الانزواء) غير متوفرة ومندثرة تماما، وباعتقادي المتواضع أن هذا الأمر يوضح لنا الفارق الجوهري بين القرآن وكل التجارب النبوية السابقة، وبين الإسلام والديانات السابقة عليه، مما يفتح الطريق اليوم أمامنا لمعايشة تجارب إيمانية غير مسبوقة مبدؤها الأساسي توسيع الصدر والمعاناة مع الواقع.
فنزول القرآن يعتبر إضافة نوعية للعنصرين المكونين لكلية الإنسان وهما (النظر والعمل) ووضعهما في إطار جدلي يتفاعلان في الكون، وهنا أهمية ليلة القدر {ليلة القدر خير من ألف شهر} (القدر: 3) فتأمّل الدلالة المساواتية التالية للزمن (ليلة واحدة = ألف شهر)، ومما يؤكد ذلك أن الطفرات التاريخية التي نشهد الآن أحد مراحلها المتقدمة لم تظهر إلاّ بعد النزول، فهي إشارة إلى أن كل التطور الذي حصل كان ذا تأثير قرآني واقعي مباشر، فما توقف المسلمين عن العطاء الحضاري وبالتالي بتر الجانب الروحي من التقدّم الإنساني إلا حكمة إلهية تكشف عن أن القرآن (كتجلٍّ لمطلق الحكمة الإلهية يتم تكشفه عبر الزمان) يدعم الوعي الإنساني بسلطة كونية تجعله يستطيع أن يتجاوز ما قد ضيعه الإنسان نفسه ضمن رحلته التاريخية نحو كماله وتحقيق علم الله فيه {قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونْ} (البقرة: 30)، فالعطاء القرآني لم يتوقف بانحطاط المسلمين لكن فاعليته متواصلة عبر التطورات الحاصلة في المجال السنني، كما أنه قادر عند تفاعله بالوعي الصافي له أن يقوم بإحداث ما هو غير متوقع وتفنيد ما هو متوقع، وبالتالي فلا أساس لأي إدعاءات تملي علينا سرديةً تعود بنا إلى عهد ما قبل النزول وهي (لو توقف المتقدمون قرنا من الزمن لما لحق بهم المتخلفون)، فالقرآن أنزل أساسا للمجاوزة؛ فلو حدث أن تم الوعي به من طرف فرد أو جماعة فستحدث المعجزة حتما تحقيقا للمجموع الدلالي للآيتين {لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} و{وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاَثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَاْزدَادُوا تِسْعًا}، ومنه فإن المعجزة القرآنية ليست محض علمية ولا معرفية، لكنها معجزة وعي تجاوزي يستطيع الإنسان به اختصار الزمن والمكان، وفق الشروط الموضوعية الكونية؛ وهنا سيأخذنا البحث إلى علاقة القرآن بسنن الكون.
________________________________________
الخوارقية هي التي حجبت القرآن عن الوعي وحجبت الوعي عن القرآن، وجعلت منه حبيس التجربة التاريخية للجيل الأول، والخوارقية في مفهومها هي إعتقاد قابع في أذهان الناس (غير المصرح به) مفاده أن أصل القرآن شيء وأصل الكون شيء آخر، أو بما هو انفصال للفكر إلى شطرين، وكأن خالق الكون ومنزل القرآن ليس واحد، وهذا هو عين ومبدأ الشرك
________________________________________
فالقرآن بهذا الفهم لا يعدوا أن يكون سوى إضافة سننية (وليست خوارقية) تتساوق تكاملياً وسننية الكون بشكل تام إلى درجة لا يمكن الفصل بينها إلاّ نظريا لسببين:
1. لكون القرآن هو محض تنزيل للوح المحفوظ.
2. لأن الإنسان حقق الطفرات العلمية (الثورة الجينية ومآلاتها) والتقنية (الثورة المعلوماتية ومآلاتها) والتاريخية (الثورة الفرنسية ومآلاتها) بعد نزول التنزيل.
الخوارقية هي التي حجبت القرآن عن الوعي وحجبت الوعي عن القرآن، وجعلت منه حبيس التجربة التاريخية للجيل الأول، والخوارقية في مفهومها هي إعتقاد قابع في أذهان الناس (غير المصرح به) مفاده أن أصل القرآن شيء وأصل الكون شيء آخر، أو بما هو انفصال للفكر إلى شطرين، وكأن خالق الكون ومنزل القرآن ليس واحد، وهذا هو عين ومبدأ الشرك.
إن القرآن تتمة للخلق لا غير، والتوحيد هو رؤية القرآن والكون انعكاس متكامل للخالق، بمعنى أن القرآن إضافة نوعية للوجود، وليس التوحيد مفهوم تقابلي ساذج يقول بأن الكون هو كتاب الله المنظور والقرآن هو كتاب الله المسطور وكأن القرآن هو تفسير للكون والكون تفسير لقرآن، فلو كان الأمر كذلك فلماذا يثقل الله ـ تعالى ـ الكون الكامل بقرآن كامل، إذ يقول {قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ ويُبَشِّرَ المُومِنِينَ}ولم يقل (قيما ليعرِّف به الكون).(/3)
نظرة في مستقبل الدعوة الإسلامية
يتناول الدرس جوانب مهمة تتعلق بمستقبل الدعوة في كافة مجالاتها، فتحدث عن أهمية الإعداد والتخطيط للمستقبل وذكر الشواهد التي تبين أهمية ذلك، وتناول غفلة البعض عن دراسة الواقع، وبين أن دراسة المستقبل له وسائل معينة عند المسلم، ثم تطرق إلى معوقات النظرة الصحيحة للمستقبل وللواقع، وضروة النقد الذاتي وأخيرا كيف ننصر الله .
إن الحمد لله؛ نحمده، ونستعينه ، ونستغفره ، ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا, من يهده الله؛ فلا مضل له، ومن يضلل؛ فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ، ورسوله صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وصحبه، وأتباعه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً ... أما بعد ,,,
فحين نتحدث عن مستقبل الدعوة الإسلامية ، أو الصحوة الإسلامية ، فإننا لا نتحدث عن طائفة معينة ، أو حركة مخصوصة في نطاق محدود من المكان ، أو لحظات محدودة من الزمان, لكن نتحدث عن يقظة المسلمين في كافة المجالات والأصعدة، نتحدث عن هذا البحر الذي تصب فيه جهود العلماء والفقهاء المخلصين، وتصب فيه جهود الدعاة والمربين، وتصب فيه جهود الشجعان والمفكرين، وتصب فيه جهود الكتاب والشعراء وغيرهم من الداعين إلى الله عز وجل ؛ فهي بلا شك أكبر من أن تكون محصورة في نطاق معين ، أو مكان معين ، أو راية معينة ، أو شعار معين.
و الحديث عن الصحوة ... عن المستقبل لهذا الدين ، أو لهذه الصحوة : فهو كما يقال : 'حديث ذو شجون' .
أهمية التخطيط و الاعداد:
فقد تعلمنا من الكتاب والسنة أهمية التخطيط والإعداد للمستقبل ، وأهمية ترقب الأحداث ومواجهتها بصبر ، ويقظة ، وإيمان فمثلاً : في القرآن الكريم نجد قصة يوسف عليه الصلاة والسلام وضمن هذه القصة نرى ذلك الرجل الذي كان يقول: } إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ [43] { سورة يوسف . فتنتقل الرؤيا من الملك حتى تقرع سمع يوسف ، فمن خلالها يعبر ما يجري في المستقبل ، وأن الناس يزرعون سبع سنين دأباً ، ويأمرهم بأن يضعوا هذا في سنبله ويحفظوه ليوم الشدة:}فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ [47] ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ [48] ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ [49] {سورة يوسف .
فمن هذه القصة نتعلم:
الإعداد للمستقبل: فقد توقع يوسف عليه الصلاة والسلام من خلال هذه الرؤيا وتعبيرها الذي علمه الله تعالى إياه؛ ماذا سيقع في مقبلات الأيام ، ثم أخذ العدة لهذا الأمر الذي توقعه ،وأمر الناس بأن يدخروا ليوم الشدة. وبصفة أوسع وأشمل من ذلك ؛ فإن القرآن الكريم مملوء بالحديث عن السنن الكونية ، والنواميس الاجتماعية التي جعلها الله تعالى جارية في حياة الناس أفراداً ومجتمعات ؛ بحيث أن المسلم إذا عرف هذه السنن استطاع أن يقرأ المستقبل من خلال الواقع ...كما أن الإنسان يعرف أن النتائج لها أسباب، فإذا أوجد الأسباب ؛ تلمس نتائجها من ورائها بناءً على السنن والنواميس التي وضعها الله تعالى في هذا الكون، وفي تلك المجتمعات, وبينها لنا في القرآن أتم بيان :
أخبار الأمم السابقة قصصها : وما علق الله تعالى على تلك العبر من دروس وآيات ؛ كفيل بأن يجعلنا ننظر إلى المستقبل من خلال الواقع, وأقرب مثال قوله تعالى: } وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ [ 96 ] {سورة الأعراف .
وقوله: } وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ [ 65 ] وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم [ 66 ] { سورة المائدة .
وقوله: } أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَآئِمُونَ [ 97 ] أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ [ 98 ] { سورة الأعراف. إلى غير ذلك من الآيات التي هي عبارة عن: نواميس ، وسنن إلهية من خلال استقراءها في الواقع ؛ نستطيع أن نتوقع ماذا يحدث للأمة إذا عملت بمقتضى هذه النواميس، أو أخلت بها ... فبين هذه النواميس وبين الواقع علاقة وثيقة ؛ هي علاقة : النتيجة بالسبب ، وبينهما ترابط عضوي لا ينفصل بحال .(/1)
ودراسة الحاضر بناءً على ذلك ؛ تتيح للإنسان فهم الواقع ، كما تتيح له تصورا إجماليا للمستقبل. إضافة إلى هذا, فهذا هو الطريق العلمي الصحيح لاستقراء أحداث المستقبل, وهو أن نستقرئ أحداث المستقبل من خلال النظر إلى أحداث الواقع .
قرائن مهمة
وإضافة إلى ذلك هناك قرائن كثيرة جاء بها القرآن الكريم وذكرها الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي كثيرة منها مثلاً :
الرؤيا: التي قال عنها الرسول صلى الله عليه وسلم إنها: [جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ]رواه البخاري، ومسلم، وأحمد، و مالك، والترمذي، وابن ماجه، والدارمي.
وذلك لما فيها من تطلع الإنسان إلى أمور حادثة مستقبلة ليست واقعة ، فيتوقعها الإنسان, ومن خلال رؤيا يراها في المنام يظن أنه قد يحدث كيت وكيت... وهذا في السنة النبوية ومنه كثير يكفي ـ مثلاً ـ أن أذكر قصة الرجل الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إِنِّي رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ فِي الْمَنَامِ ظُلَّةً تَنْطُفُ السَّمْنَ وَالْعَسَلَ فَأَرَى النَّاسَ يَتَكَفَّفُونَ مِنْهَا فَالْمُسْتَكْثِرُ وَالْمُسْتَقِلُّ وَإِذَا سَبَبٌ وَاصِلٌ مِنْ الْأَرْضِ إِلَى السَّمَاءِ فَأَرَاكَ أَخَذْتَ بِهِ فَعَلَوْتَ ثُمَّ أَخَذَ بِهِ رَجُلٌ آخَرُ فَعَلَا بِهِ ثُمَّ أَخَذَ بِهِ رَجُلٌ آخَرُ فَعَلَا بِهِ ثُمَّ أَخَذَ بِهِ رَجُلٌ آخَرُ فَانْقَطَعَ ثُمَّ وُصِلَ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ وَاللَّهِ لَتَدَعَنِّي فَأَعْبُرَهَا فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : [ اعْبُرْهَا] قَالَ أَمَّا الظُّلَّةُ فَالْإِسْلَامُ وَأَمَّا الَّذِي يَنْطُفُ مِنْ الْعَسَلِ وَالسَّمْنِ فَالْقُرْآنُ حَلَاوَتُهُ تَنْطُفُ فَالْمُسْتَكْثِرُ مِنْ الْقُرْآنِ وَالْمُسْتَقِلُّ وَأَمَّا السَّبَبُ الْوَاصِلُ مِنْ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ فَالْحَقُّ الَّذِي أَنْتَ عَلَيْهِ تَأْخُذُ بِهِ فَيُعْلِيكَ اللَّهُ ثُمَّ يَأْخُذُ بِهِ رَجُلٌ مِنْ بَعْدِكَ فَيَعْلُو بِهِ ثُمَّ يَأْخُذُ بِهِ رَجُلٌ آخَرُ فَيَعْلُو بِهِ ثُمَّ يَأْخُذُهُ رَجُلٌ آخَرُ فَيَنْقَطِعُ بِهِ ثُمَّ يُوَصَّلُ لَهُ فَيَعْلُو بِهِ فَأَخْبِرْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ أَصَبْتُ أَمْ أَخْطَأْتُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : [أَصَبْتَ بَعْضًا وَأَخْطَأْتَ بَعْضًا ] قَالَ فَوَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَتُحَدِّثَنِّي بِالَّذِي أَخْطَأْتُ قَالَ: [ لَا تُقْسِمْ] رواه البخاري، ومسلم، وأحمد، والترمذي، وأبو داود، وابن ماجه، والدارمي . فهذه الرؤيا هي عبارة عن: تفسير لما وقع فيما بعد من موت النبي عليه الصلاة والسلام شهيداً في سبيل الله؛ بسبب الأكلة التي أكلها بخيبر، ثم ولاية أبي بكر وقيامه بالحق، ثم ولاية عمر وقيامه بالحق، ثم ولاية عثمان وما حدث له بعد ذلك من المصائب, ثم استشهاده في سبيل الله عز وجل إلى غير ذلك.
أمر آخر الفراسة: يقول الله عز وجل: }إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ [75] { سورة الحجر . من أمة محمد صلى الله عليه وسلم من يكون فيه تفرس، فراسة تصدق في استقراء الأحداث, وتوقع ما يجري, يلهمه الله تعالي إلهاما؛ فتأتي توقعاته مطابقة للواقع، أو قريبة من ذلك ؛ بسبب ما أعطاه الله تعالى من زكاة القلب، وصدق الفراسة، وصلاح الباطن .
من القرائن أيضاً الفأل الحسن: وهي الكلمة الطيبة يجريها الله تعالى على لسان العبد الصالح . فكما أن الرسول عليه الصلاة والسلام أعلنها حرباً على الطيرة، والتشاؤم باعتبارها عادات جاهلية؛ فإنه صلى الله عليه وسلم كان يعجبه الفأل: الكلمة الطيبة ، ومثلها: الرؤيا الصالحة،وما أشبه ذلك؛ فكان يتفاءل صلى الله عليه وسلم بالأسماء الحسنة والكلمات الطيبة سواء كان : اسم شخص، أو بلد، أو ما أشبه ذلك.
من القرائن أيضاً صدق الدعاء: فإن العبد الصالح أحياناً يستطيع أن يتوقع بإذن الله تعالى بعض ما تخبئه الأيام المقبلة من جراء دعوة صادقة تخرج من قلب محترق, فيظن أن يحدث كذا...كأن يهلك الله طاغية، أو ينصر مجاهداً، أو يبين حقاً ، أو يكشف زيفاً؛ ولذلك كان عمر رضي الله عنه يقول ـ فيما صح عنه ـ إني لا أحمل هم الإجابة ولكن أحمل هم الدعاء فإذا ألهمت الدعاء كانت معه الإجابة ] . يعني رضي الله عنه بكلمته تلك:أن العبد أحياناً يشعر بصدق الدعوة إذا خرجت من قلبه وحرارتها؛ فيحس كأن أبواب السماء تفتح لها، ويثق بإذن الله تعالى بأن الله سوف يجيب هذه الدعوة.
وإني لأدعو الله حتى كأنما أرى بجميل الظن ما الله صانع(/2)
إلى غير ذلك مما يتوقع الإنسان به بعض ما تخبئة الأيام. هذه الأمور السابقة تجتمع على أمر واحد هو: أننا لم نتعبد بشيء من هذه الأشياء، بل هي محض فضل من الله عز وجل, فليس مطلوبا من الإنسان أن يجلس في انتظار فراسة صادقة، أو رؤيا صالحة يبني عليها تصرفاً معيناً، أو يتبع فألاً يحدث له . لكن إن جرى هذا الأمر على لسان أحد ، أو رأى أحد رؤيا صالحة؛ فإنه يفرح بها ويستبشر. إذن خلاصة الكلام في مثل هذه القرائن: أنها ليست مما تعبد بها العبد, فليس له أن يجلس في انتظار رؤيا صالحة ، أو فراسة ، أو إلهام من رجل صالح ، أو دعوة صادقة, يقول: ستأتي نتيجتها... هذا كله مطلوب من الإنسان أن يفرح به ـ إن وقع ـ ويسر به ، ويأنس له ، ويعتبره من حسن الظن بالله عز وجل؛ ولذلك قال العلماء: الفأل الحسن إن وقع يفرح به لكن لا يطلبه الإنسان .
الأخبار المستقبلية في السنة:
وردت مجموعةكبيرة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، والتي تتعلق بالحديث عن أمور مستقبلية أخبر: أنها ستقع لهذه الأمة، وهي ما يسميها العلماء ـ علماء الحديث خاصة ـ : 'أخبار الملاحم' أو 'أخبار الفتن' . وقلّ كتاب من كتب الحديث إلاّ وتجد فيه باباً خاصاً لهذه الأخبار:يتكلمون فيه عما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم من أمور مستقبلية ـ الله تعالى أعلم متى تقع ـ منذ وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وإلى قيام الساعة. ويكفي أن أذكر في مثل هذه الأحاديث أن جماعة من العلماء أفردوها بالتصنيف منهم: الإمام أبو عمرو الداني صنف كتاباً اسمه : 'السنن الواردة في الفتن' . وكذلك: نعيم بن حماد له كتاب في ' الفتن ' ومن أحاديث الملاحم والفتن: الأحاديث المتعلقة بظهور المهدي ، أو عيسى ابن مريم ، أو الدجال ..إلى غير ذلك.
طريقة التعامل مع النصوص المتعلقة بأمور مستقبلية: وهي طريقة حساسة جداً؛ فإنها هي الأخرى مما لم نتعبد بانتظاره وترقبه بل هي غيوب يجريها الله تبارك وتعالى متى شاء ... متى أراد . ولذلك كانت توقعات بعض السابقين لهذه الأمور غير مطابقة للواقع مثلاً : المهدي والمسيح ابن مريم عليه السلام منذ زمن طويل والناس يترقبون ظهورهما ، حتى إن الإمام العراقي قال في منظومته في المجددين:
والظن أن الثامن المهدي من ولد النبي أو المسيح المهتدي
فالأمر أقرب مما يكون وذو الحجا متأخر ويسود غير مسود
فكان يتوقع أن يكون المهدي، أو عيسى ابن مريم هما مجددا القرن الثامن، أو القرن التاسع . وقد تبين بدلالة التاريخ القطعية أن هذا الظن في غير محله...وحدث مثل ذلك من بعض العلماء أثناء كلامهم على الأحاديث المتعلقة بآخر الزمان كحديث: [ إِذَا رَأَيْتَ شُحًّا مُطَاعًا وَهَوًى مُتَّبَعًا وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ فَعَلَيْكَ بِخَاصَّةِ نَفْسِكَ] رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه .فتجد عالماً تكلم عن هذا الحديث ربما في القرن السابع, فيقول: رحمة الله على فلان ، كيف لو رأى ما نحن فيه الآن ؟ إنهم كانوا في خير كثير بالقياس إلى ما نحن فيه ...وهكذا, فهذه ظنون ، وتوقعات و حدس : قد لا يكون مصيباً .
إننا أيها الإخوة نميل إلى شيء يعفينا من العمل, والتفكير في المشكلات خاصة: إذا ادلهمت الأحداث واحلولك الظلام ، وحينئذ يحس الإنسان أنه يجب أن ينتظر وافداً من خارجه يجلو الله تعالى به عنه المحنة والغمة . وهذه لاشك: آية العجز، والفتور، وضعف الهمة؛ فنحن لسنا مطالبين بأن نجلس ننتظر مجيء المهدي ، أو مجيء عيسى ابن مريم عليه السلام. لاشك أننا نؤمن بنزول عيسى، والأحاديث فيه متواترة، ودلالة القرآن عليه ظاهرة . وكذلك نؤمن بخروج المهدي في آخر الزمان والأحاديث فيه كثيرة، صرح جماعة من العلماء أيضاً بأنها: متواترة , لكن ليس في النصوص الشرعية ما يدل على أننا نتعبد بانتظار هذا أو ذاك؛ بل هذا مهرب نفسي لطيف نلوذ به، ونلبي به رغبة في نفوسنا تدعو إلى تجنب دراسة المشكلات والتفكير في حلها, وتعليقها على أمر من الخارج .نحن متعبدون بدراسة أمورنا دراسة صحيحة، والنظر في واقعنا نظراً سليماً، والبحث عن مخرج، وبذل الوسع، وترك ماسوى ذلك لله عز وجل, فهو الذي يحكم في أمر الغيب بما يشاء...بل أقول:حتى هؤلاء الموعود بهم: كالمسيح عيسى ابن مريم عليه السلام والمهدي ليسوا ينزلون على أمة منهكة, متهالكة, متآكلة بل ينزلون على أمة يجدر بها أن يقودها مثلهم ...وكما أن الله عز وجل ذكر في كتابه أنه: يولي بعض الظالمين بعضاً ؛ فكذلك هو يولي بعض الصالحين بعضاً؛ فمتى كانت الأمة فيها صلاح وخير، وقوة وجدارة ؛ قيض الله لها من يحكمها ممن يكون مهدياً، ولو لم يكن هو المهدي المنصوص عليه في الأحاديث, لكن يكون مهتدياً بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم .(/3)
المستقبل لهذا الدين:يجب أن نعلم علماً, يقينياً لا يرتابه شك: أن المستقبل لهذا الدين بدلالة القرآن، والسنة، والتاريخ، والواقع، والفطرة، والأحاديث . والأدلة في ذلك كثيرة:سواء في واقع الأمة الإسلامية التي بدأت تستيقظ، أو في واقع الأمم الكافرة التي بدأت تئن تحت مطارق المادية، وتتطلع إلى حضارة جديدة تنقذها من مهاوي الرذيلة . إذاً الكلام في أن المستقبل لهذا الدين أمر مفروغ منه، ولا يحتاج إلى إفاضة, أو بيان .
كيف نصل إلى هذا المستقبل؟ لكن الحقيقة التي تحتاج منا إلى دراسة هي: كيف نصل لهذا المستقبل ؟ وكيف نستطيع أن نصنع هذا المستقبل ؟
نحن نعلم أن الله عز وجل يريد منا أن نبذل ما في وسعنا للوصول إلى هذه النتيجة كما أن الرسول صلى الله عليه وسلم، وأصحابه بنوا واقع الإسلام، ونصر الإسلام المؤزر، المظفر حين دانت له الجزيرة العربية من أقصاها إلى أقصاها حتى نزل قول الله عز وجل:}الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا [3] { سورة المائدة . وأنزل قوله تعالى:}إِذَا جَاء نَصْرُاللَّه وَالْفَتْحُ [1]وَرَأَيْت النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا [2] فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا[3] { سورة النصر . كذلك: الرسول صلى الله عليه وسلم، وأصحابه سعوا، وخططوا، وبذلوا، وتعبوا حتى صنعوا هذا النصر لهذا الدين ؛ فالمطلوب منا ـ بعد أن علمنا أن الله تعالى آت بنصر الدين لا محالة ـ : أن يكون دورنا, وجهدنا هو السعي لتحقيق النصر، وصناعة المستقبل بإذن الله لهذا الدين.
الغفلة عن إدراك الواقع واستقراء المستقبل: على رغم أن الدلائل الشرعية التي أسلفت تدل على أهمية النظر إلى المستقبل، والإعداد، والتخطيط له، فإن المسلمين في كثير من الأحيان غفلوا عن إدراك الواقع بالبصيرة فيه، وعن معرفة أبعاد هذا الواقع، ومعرفة الأحداث، ومجرياتها، فضلاً عن أن يستطيعوا استقراء المستقبل, وأخذ الأهبة والحيطة والحذر, فضلاً عن التأثير في الأحداث بصورة حقيقية . ومن المؤسف: أننا نجد الغرب قد سبقنا في هذا المجال ؛ فإنهم يهتمون بالدراسات المستقبلية بشكل غريب، وقد أصبحت تلك الدراسات علماً مستقلاً بذاته يسمونه:'علم المستقبل' ويخصصون له الجامعات ، والمراكز والأندية, ومن الأمثلة على ذلك :
نادي روما : الذي أعد دراسات منها:مانشر بعنوان : 'أحوال العالم' وتوقع فيها عدداً في الكوارث التي تسعى إليها البشرية مثل: كارثة الانفجار السكاني، و نضوب الموارد الطبيعية،ونقص الأغذية، وكارثة الأسلحة النووية والكيماوية وتضخمها بما يكفي لإبادة البشرية, وهذا النموذج لدراساتهم .
إحدى الجامعات في جنوب بريطانيا : أعدت دراسة استمرت على مدى ثلاثين عاماً ، ثم نشرت, وكان من ضمن النتائج التي توقعوها في تلك الدراسة : أن الحضارة الغربية آيلة للسقوط، وأنهم يقولون أن البديل، أو الوريث: هو توقع حضارة تخرج مما يسمونه بـ :'العالم الثالث' تحتاج إلى جرأة، وشجاعة، وتغيير جذري في واقع ذلك العالم بإنتاج حضارة جديدة تحقق متطلبات الإنسان.
إضافة إلى: دراسات كثيرة تقوم بها معاهد متخصصة كمعهد المستقبل الذي يقوم عليه هملر، ومعهد هدسن، والمعاهد المستقبلية، والجمعية الدولية لدراسات المستقبل، والتي يعد المنتسبون إليها بالألوف . ومؤتمرات، ونظريات، ودوريات، ونشرات، ومجلات في أوربا، وأمريكا، وبريطانيا جعلت همها : دراسة الإنسان والمستقبل ، والعناية بذلك عناية كبيرة ...
امكانيات دراسة المستقبل عند المسلمين:
ونحن المسلمين نملك من إمكانيات دراسة المستقبل ما لا يملكون :نملك أولاً : النواميس، والسنن الكونية التي نجدها في القرآن الكريم، والسنة النبوية، وهذه ليست في منظورهم . ونملك ثانياً : من صحة الحدس، والنظر، وصدق الفراسة والقرائن ما لايملكون . ومع ذلك، فإن الدراسات الإسلامية في هذا المجال قليلة أذكر منها:(/4)
كتاب: 'العالم والعرب عام ألفين 2000 ' للدكتور: محمد جابر الأنصاري, وقد نشر هذا الكتاب، وتوقع من خلاله: ظهور حضارة جديدة يقوم عليها ما سماه بـ : 'العالم' أو:'الحضارة الصفراء' ويقصد: أن تقوم على هذه الحضارة الجنس الأصفر كاليابان، والصين، والدول المحيطة بها .وكأنه يتوقع أن تكون جسراً تعبر من خلاله الحضارة بعد ذلك إلى هذه الأمة الإسلامية .. ومثل كتاب'المسلمون وتحديات المستقبل' للدكتور : رشدي فكار … و كتاب:'العرب والعالم عام2000' لمروان بحيري …و'الصحوة ومستقبلها' للدكتور النفيسي …بالإضافة إلى كتابات متفرقة هنا وهناك . لكن لاشك أن الكلام عن قضية المستقبل: مستقبل المسلمين عامة، ومستقبل الدعوة الإسلامية خاصة؛ هو من القضاياالخطيرةالتي تحتاج إلى اجتهادات جماعية، ودراسات، ومؤتمرات حتى تصل إلى بعض النتائج التي ترسم ما يجب أن نفعله للمستقبل، وترسم التحديات التي تواجه الأمة في مستقبلها؛ حتى نستعد لها في وقت مبكر .
سؤال يطرح نفسه: هل يدرس المسلمون أحوال الماضي؛ لأن المستقبل يولد من رحم الماضي؛ فهل نحن ندرس أحداث الماضي دراسة صحيحة ؟ العقد الماضي مثلاً: أين الدراسات التي تحدثت عن مكتسبات الإسلام فيه، أو خسائر الأمة الإسلامية … عن الخطأ والصواب … عن الصحيح من غيره؟ أين الدراسات التي تقوّم أعمال المسلمين خلال العقود الماضية، وتحاول أن تضع النقاط على الحروف؛ لتبين ما هو خطأ يجب أن يصحح، وما هو صواب يجب أن يستمر؟ في الواقع لا يزال المسلمون تسيرهم عواطف تحركهم نحو أحداث الحاضر بدون وعي؛ فهم يغرقون بمشكلات الحاضر؛ فلا يفكرون في جذورها لإزالتها، ولا يفكرون في حلولها المستقبلية، وهذا مثال: إنسان يصيبه مرض فيبحث عما يسكنه, ولايفكر في أسباب هذا المرض, إنما يفكر في لحظته الحاضرة .
معوقات النظرة الصحيحة للمستقبل وللواقع:
مما يزيد من الاضطراب في نظرة المسلمين إلى مستقبلهم، وواقعهم، وماضيهم أمور:(/5)
أولا: عدم تحديد الأهداف بدقة: وهذه مشكلة يعانيها المسلم على المستوى الفردي, و الجماعي ؛ ففي تصور كثير من الدعاة إلى الله عز وجل أن الهدف يتلخص فيما يسمونه:بالحل العسكري، حركة جهاد تقوم هنا، أو هناك لمجاهدة الكافرين، ثم بعد ذلك تقوم دولة الإسلام ، وتبدأ ببسط سلطانها وهيمنتها على الأرض . ولاشك أن الجهاد: ذروة سنام الإسلام ، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: [ إِنَّ فِي الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ] رواه البخاري، وأحمد .ولا شك أيضاً: أن الجهاد شريعة ماضية إلى قيام الساعة، لا يمنعه فجور الفجار، ولا ظلم الظالمين … لكن الإسلام دين مهيمن على كل شيء، والجهاد يجب أن يكون في جميع الاتجاهات, وفي كل ميدان … في مجال التخصصات العلمية: يجب أن يكون هناك جهاد التخصصات الشرعية، فالعلماء والفقهاء الشرعيون هم الكواكب الذين تسير الأمة على هديهم، وتقتبس من نورهم, ويوم تغيب هذه النجوم؛ فإن الأمة تتيه في صحراء لا هادي لها، ولا دليل فيها؛ ولذلك فإن التخصص في مجال الدراسات الشرعية من ضمن الأهداف التي يجب أن تضعها الأمة في قائمة الأولويات؛ فينبعث من بين شباب الأمة، والصحوة طائفة:} لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ [122] { سورة التوبة ... التخصصات العلمية الأخرى: الطب, الهندسة، العلوم، الاقتصاد ؛ كل هذه تحتاجها الأمة, وتحتاج إلى متخصصين فيها .. تحتاج الدعوة إلى كوكبة من المتخصصين يصدقون ما يقوله العالم الشرعي؛ فإذا قال العالم الشرعي : الكلام والحكم كذا وكذا؛ قال له الطبيب: صدقت، وقال له المهندس: صدقت، وقال له الاقتصادي : صدقت، وقال له المتخصص في كل مجال: صدقت ...حتى ليقول العلماني, عدو الإسلام حين يرى أن الأصوات تنادت عليه من كل مكان تؤيد، وتصدق ما قاله عالم الشرع ـ كما قال أبوجهل ـ : هذا أمر قضي بليل ... ومن خلال وجود هؤلاء المتخصصين الذين نذروا أنفسهم في كل ميدان ، واعتبروا أنفسهم مصدقين لكلمة الشرع؛ نستطيع أن نغير هذا الواقع تغييراً عملياً ، فإذا قال عالم الشرع كلمته في تحريم الاختلاط مثلاً، أو تحريم التبرج، السفور؛ وجدنا أنه ينبري كوكبة من الأطباء ـ مثلاً ـ ليقوموا عملياً بفصل تطبيب الرجال عن تطبيب النساء، فهذه كوكبة من الأطباء أفلحت ونجحت في إقامة مستشفى خاص بالنساء، طاقم المستشفى من ألفه إلى يائه : طاقم نسائي، ويثبت للناس عملياً أن هذا ممكن، وليس مستحيلاً ... قل مثل ذلك في مجال الاقتصاد مثلاً: كم يتحدث العالم عن الرباوخطره، وضرر إقامه الاقتصاد عليه، وخطر التفاوت الكبير بين الطبقات في توزيع الثروة، ووجوب العدل، وتحريم الظلم ... إلى غير ذلك, لكن يبقى الواقع في بعض الأحيان، أو في بعض المجالات بعيداً عن ذلك .فيبقى دور المتخصص في الاقتصاد، وأن يبين من خلال الدراسات، والتقارير الواقعية المبنية على أوضاع العالم الغربي، والبنوك الألاعيب الاقتصادية . فيؤكد صدق ما قاله هذا العالم في واقع الناس ، وأنه لابد أن نقيم اقتصادنا على الأسس الإسلامية، وأن نخلصه من لوثة الربا التي ما كانت في شيء إلا أفسدته .(/6)
طاقات مهدرة: ومما يتعلق أيضا بقضية التخصص: نجد أن كثيرا من الشباب المتدين أرادوا أن يحطموا خرافة الصراع بين العلم والدين التي كانت موجودة في أوروبا؛ فدخلوا كليات: الطب, الهندسة, التكنولوجيا، الحاسب الآلي . . . ولكننا بعد ذلك نتساءل: هل نجحنا فعلاً في إقناع الناس بالقضاء على هذه الأسطورة أم فشلنا ؛ فوجدنا أننا بعد ذلك نهرب من بعض المجالات، تحت عقدة الخوف من الفشل، أو الشعور بأننا نسير في طريق مسدود، أو أننا يجب أن نتجه اتجاهاً آخر؟ والسؤال الذي يطرح نفسه:هذه التخصصات الكثيرة في بلاد المسلمين ماذا فعلوا لأمة الإسلام ؟ ماذا فعلوا للدعوة ؟ من المؤسف أن تجد كثيرا من هؤلاء كالأطباء مثلاً - كما تقول الإحصائيات : أنه ما بين ثلاثين إلى خمسين بالمائة [30 – 50 % ]من هؤلاء يعيشون في بلاد الغرب، ومعنى ذلك : أن جهودهم، وتخصصاتهم وإبداعهم يصب في خدمة:حفظ صحة وعافية الكفار ، وأن الأمة الإسلامية قد خسرت هذه الطاقات الهائلة الجبارة المتخصصة هذا جانب فيما يتعلق بالتخصصات العلمية . كذلك مما يدخل في هذا الجانب: أن بعض الدول تحتفل منذ سنوات بمرور عشرات السنين على نهاية آخر أمي في تلك الدولة، وفي بعض الدول الإسلامية لا تزال نسبة الأمية فيها تصل أحيانا إلى ثمانين بالمائة[ 80% ] و نحن ماذا فعلنا لمحو أمية المسلمين: أمية الحرف يعني: القراءة والكتابة، أو أمية الفكر, والعلم... محو أمية الناس في عقائدهم بحيث يتعلمون مبادئ العقيدة الإسلامية الصحيحة ... أمية الناس في معرفة الأحكام الشرعية التي لابد لهم منها...أمية الناس في تعليمهم مبادئ التفكير الصحيح ؟ماالذي يمنع أن ينبري مجموعة من الدعاة, فيذهبوا لتعليم المسلمين مبادئ القراءة، والكتابة, وقصار السور ... مبادئ العقيدة الإسلامية في أي مكان من الأرض، ونعتبر أننا بذلك قدمنا خدمة جليلة للدعوة الإسلامية.
وفي جميع التخصصات : لابد من الإحسان، والنجاح حتى نضمن للإسلام أرضية خصبة تسير الأحداث بقوة كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ إِذَا عَملَ أَحَدُكُمْ عَمَلاً أنْ يتقنه] رواه البيهقي، وغيره، وسنده حسن . يتقنه ليس فقط من أجل الصنعة،بل يتقنه لوجه الله، وليس فقط من أجل أن يأخذ الناس عنه انطباعا خيراً، أو حتى لا ينفض من حوله المشترون، أو الرواد بل هذا الهدف يأتي تبعاً لأنه المؤمن الداعية يتعامل مع الله تعالى حين يقوم بصناعة، أو تخصص أياً كان هذا التخصص حتى لو كان تخصصاً دنيوياً... ونحن نتداول كلمة منقولة عن مالك رضي الله عنه تقول: 'لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها' ولابد هذه القناعة إلى برنامج علمي، وعملي مفصل من خلال الجهود، والتخصصات السابقة .
مزلق يجب التنبه له : في كثير من الأزمات التي تعرض للأمة الإسلامية:نسمع أصواتا تنادي، وتهدد: بالفناء، واستباحة حوزة الإسلام إذا استبيحت البلد الفلانية, أو غيرها, وكأنها تقول: إن الإسلام على وشك أن يستباح . وأقول: ينبغي أن ندرك أن بيضة الإسلام لن تستباح بحال من الأحوال، وأن ندرك أن الوقت الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يرفع فيه يديه إلى السماء, ويقول: [اللَّهُمَّ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ لَا تُعْبَدْ فِي الْأَرْضِ] رواه مسلم، والترمذي، وأحمد . زال هذا الوقت, وجاء الوقت الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: [ لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ عَلَى مَنْ نَاوَأَهُمْ حَتَّى يُقَاتِلَ آخِرُهُمْ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ] رواه أبو داود، و أحمد . إذن الإسلام باق، وهو دين الله عز وجل ...ويجب أن لا يدفعنا شدة الخوف على الإسلام، و شدة الحرقة، والشعور بالخطر الداهم إلى أن نتسرع الخطوات ، ونتجاوز الواقع ، ونقفز قفزات ؛ فإن الواقع ، والتاريخ القريب والبعيد لأمة الإسلام يقول لنا : أكثر ما دمر المسلمين، وأضر بهم هو تلك القفزات، والطفرات التي كانوا يريدون أن يواجهوا بها خطراً ـ نستطيع أن نقول : أنه كان يمكن أن يؤجلوا مواجهته بشكل، أو بآخر ـ وهناك ما هو أكبر منه . ولا يعني هذا أن نقف أمام المخاطر سلبيين لا ، لكن فرق بين أن أعتبر أن كل مهمتي هي: أن أواجه خطراً واقعاً يداهمني حتى أحشد جهودي الفكرية ، والعملية ، وغيرها في مواجهة هذا الخطر ، وأضع ـ كما يقول المثل ـ البيض كله في سلة واحدة . والسبب قد يكون ـ أحياناً ـ هو شدة الحماس، شدة الخوف على الإسلام، نقول: لا، اطمأنوا الإسلام دين الله، ولم يكل الله حفظ الإسلام، و بقاءه لنا ؛ فالإسلام محفوظ بحفظ الله تعالى ، ولكن: } وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُواأَمْثَالَكُمْ [38] { سورة محمد .(/7)
فنحن حين نناضل دون حوزة الإسلام ، ودون حماه ، ودون المسلمين ؛ فإنما نحاول أن نكون ممن كتب الله تعالى لهم أن يكونوا ضمن أفراد هذه الطائفة المنصورة التي تصاول أعداء الدين في كل ميدان وعلى كل صعيد ... أما الدين، فهو باق، محفوظ بحفظ الله تبارك وتعالى له حتى يأتي أمر الله، وإذا تخلينا نحن قيض الله له قوماً غيرنا كما قال: }فَإِن يكْفُرْ بِهَاهَؤُلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ [89] { سورة الأنعام .}يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ {ماذا يحصل ؟ }مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ{ هل يضيع الدين ، يهلك ، تستباح الحوزة ، تستحل الحرمة ؟ لا ... } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ [54] { سورةالمائدة . إذن لا خوف على الإسلام ، بل الخوف علينا نحن أن نتخلف عن ركب الإسلام، أو عن القيام بواجباتنا الملقاة على عواتقنا.
التعتيم على الماضي: ومما يؤثر في نظرنا للماضي، وبالتالي في نظرنا إلى المستقبل:قضية التعتيم على الماضي، وعلى أحداثه وأوضاعه، سواء على المستوى الرسمي، أوالمستوى الدعوى .مع أنه لابد من الاعتراف بالخطأ, وليس يعيب الإنسان أياً كان موقعه سواءً كان مسئولا: حاكماً، داعية، عالما أن يعترف بخطئه، و يقول: أن الأمر كان في تصورنا كذا وكذا ، و جاءت النتائج مخالفة لما كنا نتوقعه, فهذا لايضر، و من الذي لا يخطئ؟ الذي لا يخطئ؛ هو الذي لا يعمل، أما الذي يعمل ، فلابد أن يقع يقع في الخطأ
ضرورة النقد الذاتي: كم واحد منا يملك الشجاعة, فينتقد نفسه، أو واقعه وتاريخه وماضيه، وبالتالي يملك أن يراجع مسيرته، يراجع الأوراق، ثم يصحح الأخطاء ؟لابد من الرجوع إلى التفسير الشرعي للأحداث، وأحب أن أضرب لكم بعض الأمثلة على مستوى الدعوة الإسلامية:
أولا :قضية المحنة: مرت الدعوة الإسلامية في تاريخها القريب بمحن كثيرة: زج بالدعاة في غياهب السجون، و علق جماعة منهم على أعواد المشانق، وأصبحت أحداثهم أحداثاً دامية, ولا يكاد يوجد بلد إسلامي إلا وتعرض الدعاة فيه إلى محن .
فما هي نظرتنا إلى هذه المحن؟ كثيراً ما نخرج من المسئولية بأن نقول : أن هذا ابتلاء، وامتحان، و قد وعد الله من يكون على الطريق الصحيح أن يبتليه، ويمتحنه:}أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ [16] {سورة التوبة ... إلى غير ذلك من الآيات، ثم نخرج، وكأن المحنة ابتلاء، وتمحيص إلهي محض، وليس لنا فيه يد. وهذا جزء منه صحيح، لكننا غفلنا عن الجزء الآخر المتعلق بمسئوليتنا نحن عن قضية المحنة قال الله:}أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ [165] { سورة آل عمران... }مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [11] { سورة التغابن . وفي الآية الأخرى : } إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا [22] { سورة الحديد .
وفي الآية الثالثة : }وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَاكَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ[30] {سورة الشورى .
إذن المصائب ، والنكبات العامة التي تنزل بالأمم، بالدول، بالجماعات ... هذه المصائب لابد لها من أسباب . أما مصيبة الفرد: فقد يكون لها سبب، و قد تكون تمحيصاً كما قال عليه السلام: [ أَشَدُّ النَّاسِ بَلَاءً الْأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ] رواه الترمذي، وابن ماجه، والدارمي، وأحمد . ولكن المصائب العامة التي تنزل بالأمم لها جانب مسئولية في الأمة نفسها، و في الطائفة نفسها، وفي الدولة نفسها، فنحن نغفل عن هذا الجانب الذي نحن مسئولون عنه ، و نقول : هذا ابتلاء وامتحان من الله تعالى ، و ليس دورنا فيه إلا الصبر ... الصبر مطلوب لكن أيضاً مراجعة الأخطاء: قد نكون تعجلنا في خطوات كانت سبباً في المصيبة... سلكنا طريقاً غير صحيح... قصرنا في اتخاذ الأسباب... غفلنا عن التوكل على الله و تفويض الأمور إليه، واعتمدنا على أسبابنا، ووسائلنا؛ فوكلنا الله تعالى إلى أنفسنا ... إلى غير ذلك من الأسباب التي يمكن أن نستقرئها من خلال دراسة المحنة ومعرفة دورنا في هذه المحنة.(/8)
ثانيا : قلة الأتباع: رأيت كثيراً من الدعاة حين يجد قلة من يتبعونه يقول: هذه هي السنة: سنة الله في الأمم، ثم يسرد تلك الآيات الواردة في القرآن، فيقول: }وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ [ 116] { سورة الأنعام . } وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [103] { سورة يوسف . وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ عُرِضَتْ عَلَيَّ الْأُمَمُ فَجَعَلَ يَمُرُّ النَّبِيُّ مَعَهُ الرَّجُلُ وَالنَّبِيُّ مَعَهُ الرَّجُلَانِ وَالنَّبِيُّ مَعَهُ الرَّهْطُ وَالنَّبِيُّ لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ ]رواه البخاري، ومسلم، والترمذي، وأحمد .ثم يخرج وكأنه حينئذ يقول : قلة من يتبعوني في الدعوة ليس لتقصير عندي، لكن هذه سنة إلهية, يعني: ليس لي أي دور فيها، و هنا تأتي الخطورة أننا قد نجبن عن مواجهة أنفسنا بالحقائق، بل هذه الآيات الواردة هي في شأن الكفار . أما هذه الأمة المحمدية, فقد ثبت بدلالة الشرع، والتاريخ، والواقع أيضاً: أنها أمة معطاءة أليس الرسول عليه السلام في الحديث نفسه قال : [ ثُمَّ قِيلَ لِي انْظُرْ فَرَأَيْتُ سَوَادًا كَثِيرًا سَدَّ الْأُفُقَ فَقِيلَ لِي انْظُرْ هَكَذَا وَهَكَذَا فَرَأَيْتُ سَوَادًا كَثِيرًا سَدَّ الْأُفُقَ فَقِيلَ هَؤُلَاءِ أُمَّتُكَ وَمَعَ هَؤُلَاءِ سَبْعُونَ أَلْفًا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ] رواه البخاري، ومسلم، والترمذي، وأحمد .وفي رواية أخرى ـ قال ابن حجر : سندها حسن ـ : [ وَمَعَ كلِّ أًلْفٍ سَبْعُونَ أَلْفًا] رواه أحمد . إذاً: هذه أمة العطاء، أمة البذل, أمة القبول ...وحين يرتفع في هذه الأمة صوت صادق للدعوة؛ تلتف حوله الأمة ـ ولابد ـ على مدار التاريخ لما كانت أمة الجاهلية كانوا في سوق عكاظ ، و ذا المجاز ، و مجنة ، كل شاعر حوله عشرة ، أو عشرين لكن لما قام الرسول عليه الصلاة والسلام بدعوته؛ اجتمع حوله في حجة الوداع ـ كما ذكر الحاكم أبو عبد الله وغيره ـ اجتمع حوله في حجة الوداع ممن سمعوا خطبته: أكثر من مائة و أربعة عشر ألفا، يستمعون خطبة الرسول صلى الله عليه وسلم، أول مرة يجتمع مثل هذا الحشد، ثم ورث هذا السر أتباع النبي صلى الله عليه وسلم؛ فأصبحنا نجد ـ مثلاً ـ الإمام أحمد يحضر درسه ما يزيد على خمسة آلاف إنسان . هذا مجلس فقه، وحديث، وسنة، وليس مجلس وعظ، و يحضر جنازته ألوف مؤلفة لا يحصيها العد .ثم يأخذ الراية بعده أئمة كثر، منهم: ابن الجوزي ـ مثلاً ـ كان يحضر مجلس وعظه ما يقدر بعشرات الألوف، و قد يسلم في المجلس الواحد عشرات من أهل الذمة، و يتوب مئات من المؤمنين الضالين ...و ابن تيمية رحمه الله: كيف كانت قلوب الأمة تلتف حوله ؟! إذن ليس صحيحا أن نخرج من جهة قلة الأتباع: أنه والله هذه سنة الله تعالى، ونسوق الآيات الواردة بشأن الكفار، و أنهم أكثر أهل الأرض، ثم نطبقها على أنفسنا.
قد تكون قلة الاتباع لهذا الداعية، أو ذاك ترجع إلى أسباب تعود إليه هو، قد يكون ذلك :
لغياب القدوة: لأن هذا الداعية ليس على مستوى القدوة، يدعو إلى شيء لا يطبقه بنفسه.
قسوة الشروط:أحياناً الداعية يريد من الناس أن يلتزموا بشروط صعبة، ولا يقبل أي إنسان, بل يريد إنسانا على مستوى معين، ذكاء معين ، طاعة معينة ، انقياد معين ، استعداد معين . والناس ـ كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم ـ : [ النَّاسُ كَإِبِلٍ مِائَةٍ لَا تَجِدُ فِيهَا رَاحِلَةً] رواه البخاري، ومسلم، والترمذي، وابن ماجه، وأحمد . إذن قسوة الشروط قد تكون من أسباب قلة التابع ... إلى غير ذلك .
ثالثا: ضعف التأثير من الداعية في الناس:يدعو ، فيجد أن أثره ضعيف، يرجع فيقول: هذا طبيعي أليس الرسول صلى الله عليه وسلم ـ لما ذكر الغرباء ـ قال: [ أُنَاسٌ صَالِحُونَ فِي أُنَاسِ سُوءٍ كَثِيرٍ مَنْ يَعْصِيهِمْ أَكْثَرُ مِمَّنْ يُطِيعُهُمْ] رواه أحمد . إذن هذا أمر طبيعي، ولا غرابة فيه, وينسى أنه قد يكون هذا الأمر بسبب ضعف المؤثر، أو ضعف الوسيلة التي يستخدمها في الدعوة، أو عدم القدرة على الوصول إلى نفسية المتلقي، وعقله، وقلبه، وفكره ... إلى غير ذلك .
رابعا: قضية المفاجأة بالأحداث ، والنتائج : نفاجئ بأحداث كثيرة تقع على كافة المستويات؛ فنلوذ ، و نحتج بالقدر، ولا شك أن الله تعالى ذم المشركين على احتجاجهم بالقدر في مواضع من كتابه: }سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوشَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ [148] {
سورة الأنعام . بل الإنسان المؤمن يؤمن أن هذا كله بقضاء الله، و قدره، لكن لا يمنع ذلك أن يكون هناك أسباب أوصلت إلى هذه النتيجة، ويجب العمل على إزالة الأسباب؛ ولذلك من آمن بالأسباب, وعملها، وآمن بالقدر؛ فهو مؤمن، موحد على مذهب آدم عليه السلام
................ ومن يشابه أبه فما ظلم(/9)
لابد أن تنازع القدر بالقدر ـ كما قال بعض أهل العلم ـ ننازع الجهل بالعلم، والفقر بالمال، والمرض بالعلاج، والفوضى بالتخطيط، والتعطيل ننازعه بالمكاشفة، والتعبئة . ولابد من تحديد المسئولية بدقة، كلنا مسئولون ـ لا شك ـ عما يقع لنا على مستوى الأمة، لكن درجة المسئولية تتفاوت: فليست مسئولية الفرد العادي كمسئولية العالم، أو مسئولية الحاكم، أو مسئولية المفكر، كل إنسان يتحمل من المسئولية بقدر طاقته . أما تحميل المسئولية لجهة معينة: الحكام، أو العلماء، فهذا أيضاً من المهارب النفسية التي نلجأ إليها للخروج من أزمة معينة ، ونخرج نحن أبرياء . وقد نحتج بالحديث الضعيف الذي رواه أبو نعيم: [صنفان من أمتي إذا صلحوا صلح الناس وإذا فسدوا فسد الناس العلماء والأمراء ] وهذا الحديث لا يصح سنداً، ولا متنا . وبناءاً على تحديد المسئولية؛ نكون جميعاً مطالبون بالعمل على الخروج من الأزمة، كل في مجال اختصاصه: كل متخصص في مجال يقدم ورقة، ويرفع راية، و يخط طريقة، و يجر وراءه من يستطيع .
أخيراً: إذا رسمنا الأهداف بدقة وبدأنا الطريق إليها، فسنجد أننا بعد عقد، أو عقدين من الزمان ـ أمام أمة قد دبت فيه الحياة بصورة صحيحة، وعرف المرء فيها سبيله، وأدرك كل إنسان ما هو الدور الذي ينتظر منه، واتجه إليه بقدر ما يستطيع، و ركز على ما يحسن، وأفرغ جهده في سبيل الدعوة إلى الله عز وجل . وحينئذ تكون الأمة قد قامت بواجب الجهاد على كافة المجالات، والأصعدة، و أصبحت أهلاً لأن يتحقق فيها قول الله عز وجل: } وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ [40] { سورة الحج .
كيف ننصر الله عز وجل ؟ ليس معنى نصر الله هو فقط : أن ننصر الله في معركة حربية لا، ننصر الله ؛ بأن نحقق الإسلام في جميع نواحي الحياة:في المجال الفردي، وعلى مستوى الأمة . فإذا فعلنا ذلك كله، وحققنا الإسلام أخيراً في مجال الحرب، فخضنا الحر؛ ينصرنا الله؛ لأننا نصرناه في كافة المجالات,
فهذا المجال الأخير ، وهو مجال القتال نحتاج فيه إلى عون الله، و نصره؛ لأننا مهما بذلنا لن نكون على مستوى قوة عدونا، فحينئذً ينصرنا الله عز وجل ولذلك قال: } وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [40] الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ [41] { سورة الحج .
لقد تثبت الأحداث أحياناً : أن الله تعالى لو منحنا نصراً رخيصاً بسبب حرب، أو قتال ما استطعنا أن نقوم بتكاليف هذا النصر ، و تبعاته, و ننصر الله عز وجل بعد ما مكننا، فنقيم الصلاة، ونؤتي الزكاة، ونأمر بالمعروف، وننهى عن المنكر .وألا نتوقع أننا سنحصل للإسلام على نصر هين، رخيص يتحقق من خلاله معركة نخوضها، ثم نستلم الراية، ونبدأ الفتح, فهذا تصور فيه قرب ، و بساطة، و لا يتناسب مع خط سير الأحداث. واستغفر الله لي، ولكم، ولسائر المسلمين من كل ذنب، وأصلي, وأسلم على عبده، ورسوله محمد، وآله، وصحبه أجمعين.
من محاضرة: نظرة في مستقبل الدعوة الإسلامية للشيخ/سلمان العودة(/10)
نظرة في مفهوم التصوّف الإسلاميّ
د. بدران بن الحسن 3/7/1425
19/08/2004
الحديث عن مفهوم التصوّف الإسلاميّ يقتضي منا الحديث عن جذره اللغويّ، وتأصيله من الناحية التاريخيّة، وتتبع مساراته، ودراسة مضمون الإنتاج المعرفيّ لهذا الاتجاه في حقل المعرفة الإسلاميّة، كما يقتضي التنقيب عن مضامينه الروحيّة والعقليّة، وتتبع مدى أصالة انتمائه إلى حقل العلوم والمعارف الشرعيّة، ومدى علميّة ما يطرحه المتصوفة من رؤى عن الله عز وجل، ثم عن الكون والحياة والإنسان، وتحليل المنهج الصوفيّ في المعرفة والتلقي، مع مراعاة أدوات المعرفة الصوفيّة وموقع العقل والبداهة منها، وقبل ذلك تعاملها مع الوحي كمصدر مركزيّ للمعرفة، ودور العقل في التعامل مع المعطيات والحقائق، واستكناه حقيقة القول بأولويّة المعرفة اللدنّية، أو الذاتيّة، والتجربة، والتذوق في الوصول إلى الحقيقة، ومدى قابليّة هذا المنهج الصوفيّ –إن صح تسميته منهجًا- للتعميم، ليكون عامًا للناس كلهم، وسبيلا موصلاً ومفضلاً على العقل والبرهان.
إنّ البحث في هذا المستوى يحتاج إلى اطلاع واسع، وتأمل دقيق في التجربة الصوفيّة، لذا فإنّ مقالنا هذا لن يهتم بالجذر اللغويّ كثيراً، وإثبات مدى الأصالة الشرعيّة تاريخياً لهذا المنهج –الصوفيّ- وإنما سننظر إليه كظاهرة سلوكيّة وعباديّة وتأمّلية.
ومن هذا الوجه، فالتصوّف من حيث هو ظاهرة سلوكيّة وعباديّة، وتطهير للنفس الإنسانيّة وتأمل وفكر في الوجود، أصيل في الإسلام. فالتربية الروحيّة في المجتمع الإنسانيّ وصياغة شخصيّة الإنسان في ظلها لكي تحفظ توازنها أمام مغريات الحياة، كانت من المهمات الواضحة للوحي (القرآن والسنة).
فالقرآن الكريم قائم أساساً على الدعوة إلى الله تعالى وعبادته، وتطهير النفس الأمّارة بالسوء، وبيان سبل الاستقامة والسلوك الموزون في الحياة.
وإنّ الإيمان العقليّ المجرد بخالق الكون ثم بالقيم والفضائل التي تنبعث من هذا الإيمان لا يمكن أنْ يجعل من الإنسان يقظ الحس، رقيق الوجدان، مستقيم السلوك، رباني المشاعر، متطلعاً إلى رضوان الله بشوق وانتظار.
ونحن إذا قرأنا القرآن الكريم وجدنا آيات كثيرة تدعو الإنسان إلى الجانب الروحيّ من حياته، ضمن الإطار العام في الكيان الإنسانيّ المتكامل.
فقول الله تعالى: (واعبد ربك حتى يأتيك اليقين) [الحجر: 99]، وقوله عز وجل: (تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفًا وطمعًا) [السجدة: 16]، وقوله تعالى: (قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها) [الشمس: 9-10]، وآيات كثيرة شواهد على اهتمام الإسلام بتربية الروح وتعويد النفس على الطاعة عن طريق العبادة الشاملة في الحياة كلها.
ولقد أحدثت التربية النبويّة الشريفة تغييراً كلياً في النفوس، وأيقظت الأرواح، ووجه الرسول صلى الله عليه وسلم صحابته وأمته من بعده إلى تأمل كتاب الله، فأشرقت قلوب صحابته، واقتدوا به صلى الله عليه وسلم في عدم إعطاء حياة الشهوات أكثر من حجمها، وعدم التذلّل لها، وتميّز من بينهم جمع من خالص أصحابه، كانوا -كما وُصِفوا- رهبانًا بالليل فرساناً بالنهار، استغرقوا في العبادة والصلاة وقراءة القرآن والكفاح اليومي على نهج النبوّة والاقتداء الكامل برسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم ورث هؤلاء الصّحابة في مسلكهم في العبادة كبار التابعين وتابعيهم، واستمر هذا الاتجاه الذي سمّي بالزهد في المجتمع الإسلاميّ، نتيجة تطور أوضاعه.
إذ كلما استبدت المغريات المادية بالناس، وكثرت الآثام، وظهرت المفاسد، وانتشرت المظالم، علت الدعوة إلى محاربة النفس الأمّارة بالسوء.
وكان الوعّاظ وأهل الزهد والإرشاد ينبهون الناس إلى الثغرات الروحيّة في الحياة وكيفيّة معالجتها، وكانوا ينطلقون من منطلقات قرآنيّة.
وبقي الاتجاه الروحي على صفائه الإسلاميّ، حتى بعد تطوره إلى فكر، واتخاذه مصطلح "التصوّف" بوضوح ابتداء من القرن الثالث الهجريّ، حيث انقلب التصوّف إلى علم قائم بذاته، سمّي بعلوم الخواطر أو الأحوال أو المكاشفات(1) .
يقول ابن خلدون:
"هذا العلم من علوم الشريعة الحادثة في الملّة. وأصله أن طريقة هؤلاء القوم لم تزل عند سلف الأمة وكبارها من الصّحابة والتابعين ومن بعدهم طريقة الحقّ والهداية، وأصلها العكوف على العبادة والانقطاع إلى الله تعالى والإعراض عن زخرف الدنيا وزينتها، والزهد فيما يقبل عليه الجمهور من لذّة ومال وجاه، والانفراد في الخلوة للعبادة. وكان ذلك عامًّا في الصّحابة والسلف. فلما فشا الإقبال على الدنيا في القرن الثاني وما بعده وجنح الناس إلى مخالطة الدنيا، اختص المقبلون على العبادة باسم الصوفيّة والمتصوفة"(2).(/1)
وعندما بدأ الصوفيّة يتعمّقون في حقائق الدين ولا يكتفون بظاهرها فحسب ظهر الفكر الصوفيّ كأحد مظاهر الفكر الإسلاميّ، هذا التطوّر الذي عده ابن خلدون بسبب تطوّر حركة المجتمع الإسلاميّ وامتداده، ونشوء ظواهر جديدة كالترف والبذخ، والإقبال على الدنيا.
فكان التطوّر الروحيّ الذي انتهى إلى علم التصوّف كما تطوّر الاتجاه العقليّ النظريّ إلى علم الكلام والفلسفة، وتطوّر الاتجاه العمليّ إلى الفقه وأصول الفقه والمدارس الفقهيّة المعروفة.
كان في الفكر الصوفيّ في مبتدأ أمره قائمًا على الكتاب والسنة، ملتزمًا بضوابط الشرع، عند أمثال معروف الكرخي (ت 255هـ) والحارث المحاسبي (ت 243هـ) وسير السقطي (ت 253هـ) والجنيد البغدادي (ت 298هـ) وغيرهم.
ذلك أنّه كان يقوم على التأمّل العميق في التوحيد والعبوديّة التّامة لله تعالى عن طريق تصفية القلب، واستقامة السلوك، ومجانبة الدواعي النفسانيّة، والتعلّق بالعلوم المستنبطة من الكتاب والسنة.
يقول الجنيد البغدادي رحمه الله: "إنّ من لم يحفظ القرآن ولم يكتب الحديث لا يُقتدى به في هذا الأمر (أي التصوّف) لأنّ عملنا هذا مقيّد بالكتاب والسّنة"(3).
ولقد تبلور فكر صوفّي إسلاميّ عميق في هذه المدرسة الصوفيّة، حول حقيقة العبادة والتوحيد واتباع السلوك الصحيح إلى الحقّ تبارك وتعالى، ووصف مراتب النفس وتصفيتها، وأمراض القلوب وشفاءها، وحقيقة هذه الحياة وموقع الإنسان فيها، والخلاص من الرذائل، ونبذ العبوديّة للدنيا، ومعرفة مظاهر الشرك الخفيّ ومراتبها.
غير أنّ هذا الفكر الصوفيّ السليم الذي تضبطه ضوابط القرآن الكريم والسّنة النبويّة، لم يستطع أنْ يسيطر على عالم التصوّف، بل ظهرت منذ "الجنيد" بوادر انحرافات واضحة، تمثلت في شَطَحات الحلاج التي كانت نتيجة الغنوصيّة الشرقيّة (الهنديّة والمجوسيّة ...) التي دخلت المجتمع الإسلاميّ، ودعت إلى الحلول عند الحلاج، والإشراق عند السهروردي الزنديق المقتول، ووحدة الوجود عند ابن الفارض والجيلي وابن سبعين وابن عربي، هذا الأخير الذي قال بوحدة الأديان وأوّل الحقائق الشرعيّة تأويلا منكرًا، ودعا إلى نظريّة الاتحاد بين الخالق والمخلوق، وغيرها(4).
هذه النظريّات لم تكن تجربة روحيّة إسلاميّة، بل كانت مظهرًا واضحًا لدراسات فلسفيّة حلوليّة وغنوصيّة لا علاقة لها بروحانيّة الإسلام عند المتصوّفة الأُوَل المستقيمين من المتمسكين بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وضوابط فهمهما الصحيح.
ولا يعني وجود هذا الانحراف أنّ ساحة الفكر الإسلاميّ الصوفيّ خلت من التيار الصوفيّ المنضبط بضوابط الشّرع، بل استمر عند القشيري وعبد القادر الجيلاني، والشيخ زروق وغيرهم. الذين حاربوا تيار الإشرافية، ووحدة الوجود، والإباحية، ودعَوْا إلى كتاب الله تعالى وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم.
غير أنّ ما يمكن ملاحظته من الناحية المعرفيّة والمنهجيّة أنّ التصوّف يقوم على الذّوق والتجرِبة الذاتيّة، وما يسمى "بالكشف"، وهذا يشكّل حاجزًا كبيرًا أنْ يكون المنهج الصوفيّ منهجًا مشتركًا بين الناس يمكن التحقّق منه ومن علميّته، إذ إنّه لا يقوم على النظر العقليّ ولا على الحِسّ، وهذا ما يشترك فيه الناس جميعًا، وإنما يقوم هذا المنهج على التجربة الذاتيّة والمجاهدة وسلوك طريق الأحوال والمقامات، وهي فضلاً عن غرابتها من الناحية الشرعيّة، فإنها غير قابلة للتعميم، ولا يمكن البرهنة على صدقها، ولذلك تبقى قاصرة عن التعميم. وقد يمكن أنْ تكون صادقة ومقبولة عند صاحبها، ولكن لا تعتبر قانوناً عاماًّ يحتكم إليه الجميع، ويتصف بالموضوعيّة وإمكان المحاججة كما هو الشأن في مناهج علم الحديث أو الفقه أو التاريخ أو أصول الفقه مثلاً.
وبالرغم من أن الفكر الصوفيّ في العصر الحديث حاول أنْ يصطبغ بصبغة تجديديّة على أيدي كثير من الصوفيّة العلماء؛ أمثال العلاّمة محمد إقبال والشيخ عبد الحليم محمود والشيخ فريد الدين شهيدي الهندي وغيرهم، إلا أنّ ما طرحه "إقبال" مثلاً من تجديد الفكر الديني في الإسلام، وبالأساس التصوّف، مازال يواجه أسئلة تقدح في صميم المنهج الصوفيّ القائم على البداهة والذاتيّة والعلم الذاتي غير المكتسب بالطرق المتعارف عليها والمعهودة بين أهل العلم، بحيث إذا ما قورن بضوابط الشرع أو العقل يواجه بأسئلة كثيرة على المستوى المعياري، والمستوى المعرفي (الابستمولوجي)، والمستوى الوجودي (الأنطولوجي).
ذلك أنّ اعتبار التجربة الذوقيّة والإلهام المصدر الحقيقي للمعرفة، ليس له في الحقيقة معنى منطقيًّا. فما هو معيار اختبار هذه التجربة الباطنيّة؟ وما هو المبرر العلمي لصرف ظواهر النصوص الشرعيّة وإعطائها معاني تخالف قواعد التأويل العربّي من الناحية اللغويّة باعتبار أنّ العربيّة لغة الوحي، كما تعطّل الحدود وتسقط الرسوم وتؤدّي إلى التحلّل من العبادة؟(/2)
كما أنّه من المتّفق عليه بين كل المسلمين أنّ العبادة الأصل فيها الحضر إلا إذا دلّ الشرع الحكيم عليها وعلى تشريعها. من هنا فإنّ اختراع المتصوّفة لأحوال وطرق ومسالك لم تؤثر عن صاحب الشرع يجعلهم في موقف مناقض لأصل التوحيد، والدخول في الابتداع.
كما أنّ القول بالإلهام كمصدر للمعرفة، أمر غير مضبوط، وفيه طعن لخاتميّة الرسالة المحمديّة التي اكتملت بوفاة النبيّ صلى الله عليه وسلم.
أخيراً نقول: إنّ التصوّف لا يعدو أنْ يكون خطًّا فكريًّا، وُلد مبكّرًا في المجتمع الإسلاميّ، ومرَّ بمراحل وتطوّرات هامّة، وأثناء تطوّره تشكّلت فيه مدرستان؛ مدرسة التصوّف السّني التي يمكن اعتبارها "مدرسة تربية الرّوح، وتزكية النفس، وتطهير القلب، وهذه تحتاج إلى قليل من المراجعة ليستفاد منها في ميدان علم النفس والتربية والاجتماع والسلوك".
أمّا المدرسة الثانية، فهي مدرسة التصوّف الفلسفي التي اخترقتها تيارات الإشراق والغنوصيّة والحلول والأفلاطونيّة، فابتعدت عن معايير العقل فضلاً عن الوحي. وهذه الأخيرة هي التي قالت بالحلول، والاتحاد، والفَيْض، ووَحْدة الوجود، والحقيقة الباطنيّة، وأسقطت ظاهر الشريعة من الاعتبار، وهذه تحتاج إلى نقد وتفكيك ومواجهة علميّة، لهدم ما يبدو فيها من تناسق علميّ ومنطقيّ على غير أساس متين.
والله أعلم وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
(1) محمد جلال شرف، دراسات في التصوف الإسلامي، ص28.
(2) عبد الرحمن بن خلدون، المقدمة، ج3/ص1063، تحقيق: علي عبد الواحد واف.
(3) الجنيد البغدادي، نقلا عن كتاب "دليل الباحثين إلى المفاهيم النفسية في التراث"، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ج1/ ص270.
(4) محمد الغزالي، تراثنا الفكري في ميزان الشرع والعقل، ص 60 وما بعدها.(/3)
(8)
نظريات وافدة كَشَفَ الفكر الإسلامي زَيفها
في حوالي القرن الأخير (1870 تقريباً إلى) اليوم ألقى الفكر الإسلامي والثقافة العربية نظريات ومذاهب وافدة كثيرة، في مختلف مجالات اللغة والدين والاجتماع والحضارة التربية والتراث.
وهي نظريات فرضت في الأغلب فرضاً تحت ضغط ظروف الغزو الاستعماري والاحتلال البريطاني والفرنسي للعالم الإسلامي. وقد ألقيت هذه النظريات من خلال الإرساليات ومعاهدها وفروعها، وكان مجال الصحافة والتعليم والثقافة أبرز ميادينها.
وقد غلف الدعاة إلى هذه النظريات دعوتهم بحماسة الرغبة في النهضة والتجديد والاستجابة لروح العصر، والخروج من الجمود، وكسر قيود التقليد ومقاومة الرجعية والتماس مناهج الغرب الناهض في خطوه، لمساواته ومحاذاته.
وقد حملت هذه الدعوات أساساً فكرة واضحة، هي أن أمتنا وأوطاننا ليست من العرب ولا متصلة بأفريقيا وآسيا ولا تربطها بالصحراء العربية رابطة، ولكنها متصلة باليونان قديماً، وبالغرب حديثاً.
وقد امتدت هذه النظريات إلى العقل فقالت أن العقل المصري والسوري والمغربي هو عقل أوروبي، وأن الفكر الإسلامي هو فكر يوناني، وما إلى ذلك من مجازفات خارجة عن أدنى حدود العلم والمنطق والتدقيق. وكلها تهدف إلى عزل كل وطن عربي عن العرب كأمة وعرق من ناحية وعن الإسلام كفكر وثقافة من ناحية أخرى.
وقد صدرت مؤلفات تحمل مثل هذه الآراء أريد بها إحداث ضجة كبرى، كعامل هام في سبيل ترديد هذه النظريات الوافدة وإعادة غرسها في العقول والنفوس. وقد جرت المساجلات ساخنة ومثيرة، حول هذه الأفكار ثم انتقلت هذه القضايا من أعمدة الصحف إلى منابر الجماعات إلى مجال البرلمان، وكان نفوذ الاستعمار وقواه تعمل في مجال البرامج التعليمية والمناهج الجامعية والصحف الكبرى والأسماء اللامعة من أجل إقرار هذه الآراء.
غير أن هذه النظريات لم تلبث طويلاً حتى تحطمت، وما عتمت هذه التيارات أن قضي عليها، وفشلت في تحقيق الهدف منها، ذلك أن ذاتية الفكر العربي الإسلامي المستمدة من قيمه ومقوماته الأصيلة عميقة الجذور قد رفضت هذه المحاولات التغريبية لإخراج هذه الأمة من جلدها وإذابتها في الفكر الأممي الشعوبي، غير أن الأمر لم يتوقف بالتغريب عند حد الهزيمة فإنه سرعان ما جدد هذه الدعوات وألبسها صورة جديدة وقدمها مرة أخرى وما تزال رحى المعركة دائرة بين الزيف والصحيح، وبين الأصالة والتبعية.
في مقدمة هذه النظريات تكريم أدب الإغريق وإعلاء أدب اليونان على الأدب العربي، ودعم شأن الإقليميات الضيقة: كالمصرية والفينيقية والبربرية وغيرها من الدعوات، والنهي على العرب ومحاولة انتقاص وجودهم وكيانهم، وإثارة الخلاف ومحاولة تمزيق الرابطة العضوية بين العروبة والإسلام، ومعارضة الشريعة الإسلامية وإثارة الشبهات حول أصالتها، ومقاومة اللغة العربية الفصحى والدعوة إلى العامية، هذا إلى المحاولات الضخمة المبذولة من أجل دحر الحقيقة الواضحة الكبرى وهي أن الإسلام دين ونظام اجتماعي معاً، هذا فضلاً عن محاولة توجيه النقد إلى القرآن ووصفه بأنه كتاب أوربي أو كتاب وضعه النبي محمد وكذلك إلى إسقاط الحضارة الإسلامية وإنكار عطائها للحضارة العربية، والدعوة إلى ما يسمى عالمية الثقافة، وهو تذويب قيم الثقافة العربية في أتون الفكر الغربي مع الفروق الواضحة بينهما. ومحاولة توسيد قيم وافدة في مجال التربية والتعليم تتعارض مع ذاتية الأمة ومزاجها النفسي، وذلك إلى مهاجمة التراث العربي الإسلامي وإثارة الشكوك حوله وانتقاصه.
كما عهدت حركة التغريب إلى إذاعة نظريات فرويد تتعارض مع قيم الفكر الإسلامي، ومن أبرز هذه المخططات العمل على انتقاص أعلام الإسلام وأبطاله، فضلاً عن طرح مفاهيم غربية في البطولة نفسها تستمد طابعها من مفهوم المسيحية الغربية القائم على ما يسمونه الخلاص، وكذلك إذاعة الأدب المكشوف والإباحية الفكرية مع الدعوة إلى الإلحاد من خلال مفاهيم الفلسفة المادية، هذا بالإضافة إلى محاولة إعلاء اتجاه التعبير المادي في مجالات التاريخ والاقتصاد والاجتماع.
وقد راجت هذه الأفكار رواجاً شديداً، ووجد النفوذ الاستعماري عن طريق أدواته العديدة، وفي مقدمتها المدرسة والصحيفة مجالاً كبيراً لإذاعة هذه الأفكار ودعمها.
وصدرت في ذلك كتب عديدة وأثيرت مساجلات ومعارك أدبية متعددة.
غير أن هذه النظريات لم تلبث في ضوء الحقيقية أن سقطت وتحطمت.
حاولت هذه الكتابات أن تنقل وجهات النظر التغريبية إلى مجال الفكر العربي الإسلامي في مختلف مفاهيمه واعتمدت على وجهات نظر المبشرين والمستشرقين وهي وجهات نظر خطيرة مغرضة مصاغة بعناية وحذر يراد بها إغراء القارئ العربي -وخاصة ذلك الذي لم يعرف كثيراً عن الفكر الإسلامي- حتى يتقبلها بسرعة، وقد استخدم لها باحثون ألقيت إليهم أضواء واسعة من الشهرة والمكانة.(/1)
وقد اتصلت هذه الكتابات بالتاريخ والأدب والاجتماع واللغة العربية، وحاولت أن يتجرد من كل صلة لهذه العلوم بالإسلام في محاولة للتعمية والتضليل.
ولما كان الفكر الإسلامي يمثل وحدة كاملة، وكانت هذه العلوم أجزاء منه يتكامل بعضها مع البعض الآخر، دون أن ينفصل أحدها أو يشكل وحدة مستقلة، فقد رأى دعاة التغريب في مكر بالغ، أن يبتعدوا عن (الإسلام) كدين بصورة واضحة، وأن يجعلوا ضرباتهم موجهة إلى هذه الجوانب حتى يكونوا في مأمن من حملات العلماء، وحتى يتحقق لهم بهدم هذه النواحي إصابة الإسلام في قلبه وأعماقه.
فهذا كتاب يريد أن يصل صاحبه في بحث له طابع علمي براق إلى أن الخلاقة ليست أصلاً من أصول الإسلام وأن نظام الحكم كان حراً طليقاً، إلى هنا والمسألة في نظر الباحث غير المتعمق -يسيرة وربما مقبولة، ولكن هناك هدف المحق وراء ذلك، ذلك هو الإدعاء بأن الإسلام كان ديناً روحياً خالصاً وأن شئون السياسة والمجتمع والحكم لم تكن منه جزءاً لا يتجزأ، وبذلك أحدث الكتاب ثلمة خطيرة في أدق مقومات الإسلام الأساسية التي تفرق بينه وبين الأديان القائمة على العقائد وحدها دون الشريعة، وعلى اللاهوت وحده دون نظام المجتمع، ولكي نعرف مدى خطر هذا الرأي أن تلقفه المستشرقون ومضوا يصرخون بأن في الإسلام مذهبين وليس مذهب واحد أحدهما يقول بأن الإسلام دين وليس له دولة، وحيث أن مستشرقاً لم يجرؤ على هذا الإدعاء قبل أن يصدر مثل هذا الكتاب، وهذا الكتاب ما يزال في الأيدي، وهناك أكثر من بحث للرد عليه ودحض مزاعمه، ولقد كان علينا أن نعلم ما هي خفايا هذا البحث والغرض منه هنالك نجد أنه عمل سياسي أصلاً، أريد به معارضة اتجاه لإحياء الخلافة ومن ثم فقد انتصرت الدعوة في مجال الخصوم الحزبية والسياسية ولكنها تركت آثاراً مريرة في مجال الفكر الإسلامي، فقد أدخل مفهوماً ليس إسلامي الأصل، من مفاهيم الفكر الأوربي المسيحي القائل بالفصل بين الدين والدولة وهو ما لم يعرفه تاريخ الإسلام، ومن عجب أن كتاباً في الفقه الإسلامي لا تجد فيه مرجعاً واحداً من كتب الفقه؛ وإنما يعتمد على مثل الأغاني والعقد الفريد !!
وهناك كتاب شهير أراد صاحبه أن يدعو الباحثين والأدباء إلى أن يحجبوا دينهم وقوميتهم وهم بسبيل البحت في الأدب، وكان ذلك جرياً وراء تغريب الأدب العربي بإخراجه من وضعه الصحيح في الفكر الإسلامي كجزء منه لا ينفصل، ولا يمكن دراسته إلا في موضعه الصحيح؛ فلقد كان للإسلام في الأدب العربي أثر ضخم بعيد المدى، ومن هنا فإنه من العسير أشد العسر أن ينفصل الأدب عن الفكر الإسلامي ولأن أن= يدرس حراً من هذا الارتباط الاجتماعي والأخلاقي، وهو ارتباط عضوي أصيل.
ولقد جنى الأدب العربي من هذا المذهب الوافد في النقد الأدبي آثاراً مريرة عظيمة، فقد فتح الباب أمام إنكار نصوص الكتب المنزلة وفي مقدمتها القرآن، كما فتح الباب أمام محاولة نقد آيات القرآن وانه جزا الأدباء على التركيز على أبي نواس وبشار والضحاك على أنهم نماذج الأدب العربي، بينما أبعدت آثار الغزالي وابن تيمية وابن حزن، فضلاً أنه فتح الباب أمام الإباحيات والأدب المكشوف وإعلانه، والجرأة على قيم الإسلام، فضلاً عن خطأ إعطاء الأدب هذه الحرية في الحكم على أمور لا تدخل تحت نفوذه، وفي التوسع لفرض سلطانه على قضايا المجتمع والدين والتربية والأخلاق، وهذا ما لم يكن من مفهوم الفكر العربي الإسلامي المتكامل الشامل.
ولقد كان ذلك اتجاهاً خطيراً في خطة التغريب يهدف إلى تحقيق نتائج مضللة تنكشف، فنحن نرى كيف أصبح مثل كتاب (الأغاني) مرجعاً من مراجع البحث العلمي والتاريخي تؤخذ منه النصوص ليُستدل بها في قضايا الدين والاجتماع والتاريخ، بينما لم يكن هذا الكتاب في الواقع إلا مجموعة من الأصوات الغنائية وقد وضعه مؤلفه للملوك والخلفاء لإزجاء فراغهم بقصص ذوي الأهواء وأهل الفن وأنه في ذلك لا يدخل في باب المراجع الموثوق بها ولا المصادر العلمية، وهو إلى ذلك لا يستطيع أن يمثل صورة حقيقية للحياة السياسية والاجتماعية في مجتمع زاخر بالقوى الفكرية من الفقهاء والعلماء والفلاسفة والصوفية والمؤرخون، وقد تأكد أكثر من مصدر أن أبا الفرج الأصفهاني ليس مؤرخاً ولا يصلح كتابه لأن يكون مادة تاريخ؛ وإنما هو جماع لقصص فيه الصحيح والزائف جمعه من الأسواق، وقد شهد عليه كثيرون بالانحراف: فقال اليوسفي المؤرخ: "إن أبا الفرج أكذب الناس؛ لأنه كان يدخل سوق الوراقين وهي مملوءة بالكذب فيشتري منها شيئاً كثيراً من الصحف ويحملها إلى بيته، ثم تكون رواياته كلها منه"، بل إن المؤرخين قد وصفوه بأنه رجل عار عن الثقة به.(/2)
والحق أن الباحثين المسلمين قد التفتوا منذ وقت بعيد إلى خطر المصادر الأدبية كمراجع للبحوث العلمية والتاريخية، وقد أشار العلماء إلى مَن أسموهم "أهل الغفلة والهوى الذين اعتمدوا في تاريخهم على كتب الأدباء وأسفار الأخبار"، فأهل الأدب كما يقول القاضي أبو بكر ابن العربي: "هم الذين غلبت عليهم صناعة الأدب فمالوا إلى كل غريب من الأخبار دون أن يتحروا الصدق ويهتموا بالرواية والإسناد"، يقول القاضي ابن العربي في كتابه العواصم من القواصم: "لتحذروا من أهل الأدب؛ فإنهم أهل جهالة بحرمات الدين أو على بدعة مصرين فلا تبالوا بما رووا".
من خلال الاعتماد على مثل كتاب الأغاني (وكتب المحاضرات جميعها مردودة كمصادر علمية وتاريخية) وصل بعض الباحثين إلى القول بأن القرن الثاني من الهجرة كان عصر شك ومجون، وأن هذا الحكم قد صدر اعتماداً على دراسة بعض الشعراء المجان، فاستطاع هذا الكاتب في جرأة عجيبة أن يقول بأن هؤلاء الشعراء يمثلون عصرهم ويخولون له الحق في إصدار حكم على العصر كله، بينما يوجد في ذلك العصر عشرات من الأدباء والعلماء والمفكرين والباحثين، ولا يمكن أن تتم صورة عصر إلا بدراسة النماذج المختلفة فيه.
وبعد فإن على شبابنا المثقف وكتابنا وأدبائنا أن يقفوا موقفاً علمياً كلما صدفهم مرجعاً أو مصدراً من المصادر الشهيرة، وأن يسألوا أنفسهم سؤالاً صريحاً:
ألم تصدر في مناقشة هذه الآراء ردود أو معارضات.
ثم عليهم بعد ذلك أن يبحثوا عن هذه الكتب ويقرأوها.
فإذا كان من مصادر الكاتب أو الباحث كتب مثل: الشعر الجاهلي أو الإسلام وأصول الحكم أو فلسفة ابن خلدون الاجتماعية أو تحرير المرأة أو نظرية التطور أو حديث الأربعاء أو هامش السيرة أو مع المتنبي، أو مستقبل الثقافة أو الأخلاق عند الغزالي أو النثر الفني، أو غيرها من مؤلفات، فإن ضرورة التحقيق العلمي تقضي على القارئ أن يراجع كل ما كتب عن هذه الأبحاث من ردود ومعارضات؛ ذلك أن هذه الأبحاث لم تكتب إلا في ضوء تحديات خطيرة، هي تحديات الغزو الفكري والتغريب، وأن كُتابها يجب أن يعرضوا على قانون "الجرح والتعديل".
في عام 1971 كتبت إلى مجلة دعوة الحق الزاهرة البحث الأول في هذا الموضوع، ثم شغلت عنه وكان الهدف هو لفت نظر الباحث المسلم إلى أن هناك نظريات وافدة طرحت في أفق الفكر الإسلامي وقد تناولها الباحثون بالنقد والرد والتفنيد في وقتها، غير أن ذلك لم يجمع في حينه في كتاب، ومن ثم ظلت هذه الكتب التي تحمل النظريات متداولة كأنما هي حقائق ثابتة وأعيد طبعها مرات ومرات، ولقد لاحظت ذلك وتأثرت به حين رأيت الكثيرين من شبابنا المسلمين القادمين من كل مكان في العالم الإسلامي يبحثون عن سلامة موسى وطه حسين وعلي عبد الرازق ومحمود عزمي، فيجدون مقالاتهم المليئة بالشكوك مجموعة في كتب أنيقة ثم لا يجدون ما وُجه إليها من ردود وما فُند من اتهامات؛ لأنها لا تزال مدفونة في بطون الصحف والدوريات، ولقد دعاني هذا أن أجمع في مجلدين كبيرين أغلب هذه المعارك تحت عنوان (المعارك الأدبية) وتحت عنوان (المساجلات والمعارك الأدبية)، وذلك في محاولة لكي أضع تحت عين القارئ وجهة النظر الأخرى التي كانت غائبة عنه والتي تكشف أن لكل رأي رداً وأن مثل هذه المحاولات في فرض نظريات وافدة قد استشرى في فترة الثلاثينيات وما بعدها، واتسع نطاقه حتى شمل مختلف ميادين الفكر، ولكن الحق أن قضية ما من هذه القضايا لم تمر دون تمحيص؛ =ككتاب طه حسين عن الشعر الجاهلي ووجه بالرد من كثيرين وصدرت كتب عديدة في تفنيده منها (تحت راية القرآن) لمصطفى صادق الرافعي، كما صدر كتاب محمد فريد وجدي وكتاب محمد لطفي جمعة وكتاب للشيخ الخضر حسين وكتاب (النقد التحليلي) للدكتور محمد أحمد الغمراوي، هذا بالإضافة إلى عشرات الموضوعات والبحوث التي حفلت بها الصحف وجمعت بعد أطرافها في كتابيّ المذكورَين عن المعارك الأدبية. كذلك صدرت في السنوات الأخيرة أطروحة الدكتور ناصر الدين الأسد عن حقيقة الموقف في الشعر الجاهلي وانتحاله.
وبالنسبة إلى كتاب علي عبد الرازق عن الإسلام وأصول الحكم صدرت في حين صدوره رسائل مطبوعة للشيخ الخضر حسين ومحمد الطاهر عاشور والشيخ رشيد رضا، وصدر في العام الماضي كتاب ضخم مفصل عن هذه القضية للدكتور ضياء الدين الريس.
أما بالنسبة لما أثاره سلامة موسى عن اللغة العربية فقد نوقش وجمع، وكذلك ما اتصل بآراء ساطع الحصري ومحمود عزمي.
ولقد عورضت نظريات لطفي السيد عن الإقليمية المصرية وآرائه عن التعليم، ووجدت نظرية ثقافة البحر التي أثارها طه حسين ومحمود عزمي تفنيداً وتصحيحاً، وكذلك عارض الباحثون نظرية أمين الخولي عن إقليمية الأدب، ورد الدكتور محمد أحمد الغمراوي على محاولات نقد النص القرآن التي قام بها زكي مبارك، وكذلك رد كثيرون على محمد أحمد خلف الله ورسالة القصص الفني في القرآن.(/3)
أما النظرية المادية التي عرضها شبلي شميل وسلامة موسى من بعد فإنها لم تمضِ بدون نقد ومراجعة وكذلك نظريات الدين في التربية.
وكانت أكثر الشبهات التي طرحت في أفق الفكر الإسلامي تستهدف السيرة النبوية والقرآن واللغة العربية والحضارة الإسلامية والتاريخ الإسلامي، وفي معظم هذه النظريات فقد غلفها بريق كاذب وحاول صياغتها ووضعها في إطار علمي وصاحبتها دعوة طنانة إلى النهضة والتجديد والاستجابة لروح العصر والخروج من الجمود وكسر قيد التقليد ومقاومة الرجعية، وفي أعماقها دعوة صريحة إلى التبعية والانصهار في الفكر الغربي؛ إيماناً بأن هذا هو الطريق الوحيد لمساواته ومحاذاته، وقد حملت هذه الدعوات أساساً فكرة أن أمتنا ليست من العرب وأن الإسلام قد مر عليها كما تمر كل الدعوات وأن العقل المصري أو السوري أو المغربي هو عقل أوربي وأن الفكر الإسلامي أصلاً هو فكر يوناني، وما إلى ذلك من مجازفات تستهدف عزل المسلمين عن فكرهم الأصيل وعن كيانهم الخاص وذاتهم التي تتماثل. وقد صدرت مؤلفات أحدثت ضجة كبرى، لم تكن هذه الضجة بالقبول ولكنها كانت بالرفض، وجرت مساجلات ساخنة ومثيرة انتقلت من أعمدة الصحف إلى أندية الجمعيات إلى منابر الجامعات، ولكن هذه النظريات لم تجد قدرتها على الحياة؛ لأنها دخيلة وزائف ونبت لا يقوى على الحياة في أرض لم تمتصه وطقس لم يستسيغه، ولذلك ما لبثت أن تحطمت، وإن عمد الدعاة إليها إلى تجيدها مرة بعد مرة وإثارتها في صورة وأخرى، ومن هذه النظريات:
(1) إعلاء أدب الإغريق على الأدب العربي ومحاولة فرض الذوق الهليني على العرب.
(2) إعلاء شأن الإقليميات الضيقة كالمصرية والفينيقية والبربرية وغيرها.
(3) النعي على العرب والمسلمين ومحاولة انتقاص وجودهم وكيانهم.
(4) معارضة الشريعة الإسلامية وإثارة الشبهات حول أصالتها.
(5) مقاومة اللغة العربية الفصحى والدعوة إلى العاميات.
(6) التنكر للحقيقة الواضحة وهي أن الإسلام دين ونظام مجتمع في آن.
(7) محاولة توجيه النقد إلى أسلوب القرآن ووصفه بأنه كتاب أدبي.
(8) محاولة إسقاط الحضارة الإسلامية وإنكار إعطائها للحضارة الغربية.
(9) الدعوة إلى ما يسمى "عالمية الثقافة" ومحالة تذويب قيم الثقافة الإسلامية في أتون الفكر الغربي مع تجاهل الفوارق الواضحة بينهما.
(10) محاولة إثارة الشبهات حول العلاقات الجذرية بين الإسلام والعروبة.
(11) محاولة توسيد قيم مقتبسة في مجال التربية والتعليم تتعارض مع ذاتية الأمة ومزاجها النفسي.
(12) مهاجمة التراث العربي الإسلامي وإثارة الشكوك حوله وانتقاصه.
(13) إذاعة نظريات فرويد في النفس وسارتر في الوجودية ودور كايم الاجتماع، وكلها تتعارض مع قيم الفكر الإسلامي.
(14) انتقاص أعلام الإسلام وأبطاله.
(15) إذاعة الأدب المكشوف والإباحية الفكرية مع الدعوة إلى الإلحاد.
(16) محاولة إعلاء اتجاه المادية في مجالات التاريخ والاقتصاد والاجتماع.
وقد راجت هذه الأفكار رواجاً شديداً وكثير ترديدا حتى كادت أن تصبح من المسلمات، ووجدت النفوذ الاستعماري عن طريق أدواته العديدة، وفي مقدمتها المدرسة والصحيفة مجالاً كبيراً لإذاعة هذه الأفكار ودعمها.
وصدرت في ذلك كتب عديدة، منها: مؤلفات جورجي زيدان (التمدن الإسلامي)، ومؤلفات طه حسين (حديث الأربعاء – في الأدب الجاهلي – مستقبل الثقافة – مع المتنبي – هامش السيرة)، ومؤلفات سلامة موسى (اليوم والغد – البلاغة العصرية)، وعلي عبد الرازق (الإسلام وأصول الحكم)، ولطفي السيد (ترجمات أرسطو)، بالإضافة إلى بعض كتابات توفيق الحكيم ومحمود عزمي، وزكي مبارك وإبراهيم مدكور وأمين الخولي وحسين فوزي ولويس عوض وزكي نجيب محمود.
غير أن هذه النظريات لم تلبث أن انكشف فسادها وزيفها وعرف المثقفون الأهداف القائمة وراء إذاعتها وترديدها.
ولقد أحدث الشيخ علي عبد الرازق "ثلمة" في الإسلام سيظل يحمل وزرها أمداً طويلاً؛ فلأول مرة يجرؤ عالم أزهري مسلم إلى القول بأن الإسلام دين روحي وأنه لا صلة له بنظام الحكم، مهما كان سياق الدعوة أو ظروفها السياسية التي أراد أن يخدم بها حزب الأحرار الدستوريين أو الإنجليز أو المعارضين للملك فؤاد، فإنه في سبيل غاية هينة قد استخدم نصوصاً أراد بها أن يحجب حقيقة أساسية هي أن الإسلام نظام مجتمع ومنهج حياة متكامل، ومنذ ذلك اليوم يكتب المستشرقون فيقولون: إن في الإسلام نظريتين: إحداهما تقول بأن الإسلام دين ودولة، والأخرى تقول أن الإسلام دين روحي وصاحب هذه النظرية هو علي عبد الرازق ومَن سار على طريقه من بعده ومن خريجي الأزهر أيضاً مع الأسف.(/4)
هذه الثلمة تكذبها كل الوقائع التاريخية وكل النصوص والأسانيد. ومن يقرأ بحث علي عبد الرازق الذي حاول دعاة التغريب في السنوات الأخيرة إعادة طبعه ونشره بعد أن مات وانطوى أكثر من أربعين عاماً-يجدون أنه لم يعتمد على كتاب من كتب الأصول؛ وإنما كان اعتماده على مراجع أدبية كالعقد الفريد وغيره. وقد كان جُل اعتماد علي عبد الرازق على بعض الكتب التي صدرت في تركيا لتبرير إلغاء الخلافة وهي مؤلفات كتبها اليهود الدونمة الذين كانوا يطمعون في تحطيم هذا البناء منذ وقت طويل؛ حتى يستطيعوا أن ينفذوا إلى فلسطين بعد أن وقف السلطان عبد الحميد في وجههم سداً منيعاً، وكل ما جاء به علي عبد الرازق نقلاً من هؤلاء إنما هو مستمد من نظريات الفكر المسيحي حول البابوية والفصل بين الدين والدولة وهو النهج الذي وصلت إليه أوربا بعد الصراع الطويل بين الكنيسة والشعب، وكان جُل اعتماده في نصوصه المنقولة على شطائر تؤيد وجهة نظره استعان بها وترك الأجزاء الباقية مغالطة منه وتبريراً لوجهة نظره، بالإضافة إلى اعتماده على كتب المحاضرات والأدب وهي ليست مراجع للبحث الفقهي الجاد.
والحق أن الباحثين المسلمين قد التفتوا منذ وقت طويل إلى خطر المصادر الأدبية كمراجع للبحوث العلمية والتاريخية، وقد أشار كثيرون إلى "أهل العقل والهوى الذين اعتمدوا في تاريخهم على كتب الأدب وأسفار الأخبار"، فأهل الأدب كما يقول القاضي أبو بكر ابن العربي في كتابه "العواصم من القواصم": "هم الذين غلبت عليهم صناعة الأدب فمالوا إلى كل غريب من الأخبار دون أن يتحروا الصدق ويهتموا بالرواية والإسناد، وهم أهل جهالة بحرمات الدين أو على بدعة مصريين".
أما كتاب في الشعر الجاهلي والأدب الجاهلي من بعده، فإن القضية الكبرى والأساسية التي حاول مؤلفه أن يفرضها هي أن على الباحثين أن يحجبوا دينهم وقوميتهم وهم بسبيل إلى البحث العلمي، نقول (حتى إذا كان دينهم هو الإسلام) الذي هو مصدر كل مناهج البحث وأساس علوم المعرفة والذي هدى البشرية إلى نقد الرواة وإلى الجرح والتعديل وإلى التأكد من سلامة المصادر.
ولكن المؤلف لم يكن ليؤمن بذلك أساساً؛ لأنه حاول إنكار نصوص من القرآن عن إبراهيم وإسماعيل وقال: "مهما تحدثنا التوراة ويحدثنا القرآن عن إبراهيم وإسماعيل فإن الحقيقة التاريخية تقول إنهما من الشخصيات التي لم توجد أساساً"، ولقد كان الهدف الرئيسي في الشعر الجاهلي أساساً هو انتقاص هذه الأسس في الإسلام وانتقاص رسوله الكريم الذي قال عنه: (لأمرٍ ما كان لابد أن يكون محمد من قريش)، ومَن يراجع الكتب التي تصدت لهذا الكتاب والأبحاث والمعارك التي دارت حوله يجد تحدياً واضحاً صريحاً للحقائق الإسلامية والسنة الصحيحة ولكل ما يتصل بتاريخ رسول الله وأصحابه، فإذ ربطنا هذا بكتاب هامش السيرة وجدنا جانباً آخر أراد طه حسين أن يطعن فيه؛ ذلك هو إعادة الأساطير مرة أخرى إلى هذه السيرة بعد أن نقاها المسلمون منها وحرروها، ونحن لسنا الذين نقول ذلك ونأخذه عليه؛ ولكن ذلك ما يقوله رفيق شبابه الدكتور محمد حسين هيكل صاحب كتاب حياة محمد. ونجد الجانب الثالث من العمل الخطير متمثلاً في كتاب (الفتنة الكبرى)، وهنا نجد طه حسين يحاكم صحابة رسول الله على أنهم بعض السياسيين في العصر الحديث ورجال الأحزاب وأصحاب المطامع والمؤامرات ومحاولة إزاحة ذلك الجو الرفيع الذي يجب أن ينظر فيه إلى هؤلاء الصحابة الكرام، وتلك هي أهداف طه حسين كما أشار إليها هو نفسه في أكثر من موضع "إسقاط التقديس لكل قديم".
وإذا كان هذا من الأطروحات الغربية التي عرفها الفكر الأوربي بعد الثورة الفرنسية وتحت ضغط خلافات عميقة بين رجال العلم ورجال الدين وتحت تأثير جمود الفكرة الدينية وفسادها في الغرب، فما شأننا به نحن في عالم الإسلام حيث نجد الفكر الإسلامي بسماحته وسعته وقدرته الوافرة على العطاء في كل المجالات، وحيث لا يصطدم الدين بالعلم، وحيث لا تتعارض الثوابت والمتغيرات، وحيث أن القديم ليس فكراً بشرياً يكتنفه الفساد والاضطراب؛ ولكن القديم هو ذلك الهدي الرباني الكريم (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه).
تلك كانت غاية طه حسين واضحة في كتاباته الإسلامية كلها من الأدب الجاهلي إلى هامش السيرة إلى الفتنة الكبرى: (إسقاط التقديس لكل قديم)، دون تحديد لهذا القديم هل هو الأصل الرباني الموحى به أم العمل الفكري الذي قام عليه، فضلاً عن إحيائه لتراث الزنادقة والشعوبية وإعادته طبع إخوان الصفا ومقدمة ابن المقفع لكتاب كليلة ودمنة، والدعوة الملحة التي ظل يدعوها طوال حياته بفضل الهلينية والفكر الإغريقي على الفكر الإسلامي وهي دعوة زائفة مبطلة كذبتها مدرسة كاملة قادها الشيخ مصطفى عبد الرازق وتابعها كثير من الأعلام في مقدمتهم الدكتور علي سامي النشار ومحمود قاسم.(/5)
ولو كان طه حسين ناقداً سليم القلب لفرق بين الميراث الإسلامي السماوي والسنة الصحيحة وصادق ما كتب أهل السنة والجماعة وبين التراث الإسلامي المتصل بالشعوبية والزندقة والباطنية، ولكنه كما يبدو واضحاً من كل كتاباته إنما كان يغمغم في هذه الدعوى وهو يقصد: الوحي والنبوة والقرآن، وإن كان لا يقدر على أن يكشف عن ذلك خوفاً وفرقاً مما كاد يصيبه عندما أصدر كتاب في الشعر الجاهلي، لقد فتح الباب لكل شبهة وحملت مؤلفاته أوشال الشعوبية القديمة وزيف آراء المستشرقين في كل الجوانب التي يمكن أن يصل إليها الباحث لم غادر منها واحداً مستعملاً أسلوب (الشك الفلسفي)؛ لبث الشبهات والتساؤلات دون أن يدل أحداً على ضوء من رأي صحيح، ولكنها المحاولة المستمرة للتشكيك؛
فهو الداعي إلى الفرعونية والأدب المكشوف وأن عصر الإسلام الأول عصر شك ومجون، وهو الذي سخر بابن خلدون علامة فكرنا، ووصف المتنبي شاعرنا الأكبر بأنه لقيط ليس له أب، وهو الذي قال لطلبته في كلية الآداب أن القرآن كتاب أدب يوضع موضع النقد ويقال أن هذه الآية كذا وكذا، وهو داعية (عالمية الثقافة) لينصهر الفكر الإسلامي في بوتقة الأممية، وداعي نقل مناهج التعليم والتربية الغربية، وهو الذي اتخذ من كتاب الأغاني مصدراً لدراسة المجتمع الإسلامي وهو كتاب غير مؤهل لهذه الدراسة. وهو الذي فتح الأبواب لهؤلاء جميعاً الذين جرأوا على مواريث الإسلام، ومِن الحق أن يقال أن الباحثين المسلمين لم يؤمنوا لحظة بمذهب تقديس السلف سواء في التاريخ أو غيره؛ ولكنهم كانوا يؤمنون ولا يزالون بحماية هذا الميراث العظيم الذي أعطاهم الإسلام وتكريم هؤلاء الصفوة من الصحابة الأعلام الذين شادوا هذا المجد، وتجاوزهم البحث في هذا الخلاف الذي دخلته زيوف كثيرة وأكاذيب كثيرة، وكانت وجهتهم دائماً إلى القرآن وحده وإلى التماس الأسوة من الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو المعصوم والمؤيد بالوحي، وقد فضلوا دائماً بين (منهج الإسلام) وبين (تاريخ الإسلام)، ولكنهم لم يكونوا ليجرؤا على تناول تراثهم على هذا النحو من الاحتقار والسخرية والمهانة التي حاول طه حسين أن يتناوله بها.
أنور الجندي(/6)
(8)
نظريات وافدة كَشَفَ الفكر الإسلامي زَيفها
في حوالي القرن الأخير (1870 تقريباً إلى) اليوم ألقى الفكر الإسلامي والثقافة العربية نظريات ومذاهب وافدة كثيرة، في مختلف مجالات اللغة والدين والاجتماع والحضارة التربية والتراث.
وهي نظريات فرضت في الأغلب فرضاً تحت ضغط ظروف الغزو الاستعماري والاحتلال البريطاني والفرنسي للعالم الإسلامي. وقد ألقيت هذه النظريات من خلال الإرساليات ومعاهدها وفروعها، وكان مجال الصحافة والتعليم والثقافة أبرز ميادينها.
وقد غلف الدعاة إلى هذه النظريات دعوتهم بحماسة الرغبة في النهضة والتجديد والاستجابة لروح العصر، والخروج من الجمود، وكسر قيود التقليد ومقاومة الرجعية والتماس مناهج الغرب الناهض في خطوه، لمساواته ومحاذاته.
وقد حملت هذه الدعوات أساساً فكرة واضحة، هي أن أمتنا وأوطاننا ليست من العرب ولا متصلة بأفريقيا وآسيا ولا تربطها بالصحراء العربية رابطة، ولكنها متصلة باليونان قديماً، وبالغرب حديثاً.
وقد امتدت هذه النظريات إلى العقل فقالت أن العقل المصري والسوري والمغربي هو عقل أوروبي، وأن الفكر الإسلامي هو فكر يوناني، وما إلى ذلك من مجازفات خارجة عن أدنى حدود العلم والمنطق والتدقيق. وكلها تهدف إلى عزل كل وطن عربي عن العرب كأمة وعرق من ناحية وعن الإسلام كفكر وثقافة من ناحية أخرى.
وقد صدرت مؤلفات تحمل مثل هذه الآراء أريد بها إحداث ضجة كبرى، كعامل هام في سبيل ترديد هذه النظريات الوافدة وإعادة غرسها في العقول والنفوس. وقد جرت المساجلات ساخنة ومثيرة، حول هذه الأفكار ثم انتقلت هذه القضايا من أعمدة الصحف إلى منابر الجماعات إلى مجال البرلمان، وكان نفوذ الاستعمار وقواه تعمل في مجال البرامج التعليمية والمناهج الجامعية والصحف الكبرى والأسماء اللامعة من أجل إقرار هذه الآراء.
غير أن هذه النظريات لم تلبث طويلاً حتى تحطمت، وما عتمت هذه التيارات أن قضي عليها، وفشلت في تحقيق الهدف منها، ذلك أن ذاتية الفكر العربي الإسلامي المستمدة من قيمه ومقوماته الأصيلة عميقة الجذور قد رفضت هذه المحاولات التغريبية لإخراج هذه الأمة من جلدها وإذابتها في الفكر الأممي الشعوبي، غير أن الأمر لم يتوقف بالتغريب عند حد الهزيمة فإنه سرعان ما جدد هذه الدعوات وألبسها صورة جديدة وقدمها مرة أخرى وما تزال رحى المعركة دائرة بين الزيف والصحيح، وبين الأصالة والتبعية.
في مقدمة هذه النظريات تكريم أدب الإغريق وإعلاء أدب اليونان على الأدب العربي، ودعم شأن الإقليميات الضيقة: كالمصرية والفينيقية والبربرية وغيرها من الدعوات، والنهي على العرب ومحاولة انتقاص وجودهم وكيانهم، وإثارة الخلاف ومحاولة تمزيق الرابطة العضوية بين العروبة والإسلام، ومعارضة الشريعة الإسلامية وإثارة الشبهات حول أصالتها، ومقاومة اللغة العربية الفصحى والدعوة إلى العامية، هذا إلى المحاولات الضخمة المبذولة من أجل دحر الحقيقة الواضحة الكبرى وهي أن الإسلام دين ونظام اجتماعي معاً، هذا فضلاً عن محاولة توجيه النقد إلى القرآن ووصفه بأنه كتاب أوربي أو كتاب وضعه النبي محمد وكذلك إلى إسقاط الحضارة الإسلامية وإنكار عطائها للحضارة العربية، والدعوة إلى ما يسمى عالمية الثقافة، وهو تذويب قيم الثقافة العربية في أتون الفكر الغربي مع الفروق الواضحة بينهما. ومحاولة توسيد قيم وافدة في مجال التربية والتعليم تتعارض مع ذاتية الأمة ومزاجها النفسي، وذلك إلى مهاجمة التراث العربي الإسلامي وإثارة الشكوك حوله وانتقاصه.
كما عهدت حركة التغريب إلى إذاعة نظريات فرويد تتعارض مع قيم الفكر الإسلامي، ومن أبرز هذه المخططات العمل على انتقاص أعلام الإسلام وأبطاله، فضلاً عن طرح مفاهيم غربية في البطولة نفسها تستمد طابعها من مفهوم المسيحية الغربية القائم على ما يسمونه الخلاص، وكذلك إذاعة الأدب المكشوف والإباحية الفكرية مع الدعوة إلى الإلحاد من خلال مفاهيم الفلسفة المادية، هذا بالإضافة إلى محاولة إعلاء اتجاه التعبير المادي في مجالات التاريخ والاقتصاد والاجتماع.
وقد راجت هذه الأفكار رواجاً شديداً، ووجد النفوذ الاستعماري عن طريق أدواته العديدة، وفي مقدمتها المدرسة والصحيفة مجالاً كبيراً لإذاعة هذه الأفكار ودعمها.
وصدرت في ذلك كتب عديدة وأثيرت مساجلات ومعارك أدبية متعددة.
غير أن هذه النظريات لم تلبث في ضوء الحقيقية أن سقطت وتحطمت.
حاولت هذه الكتابات أن تنقل وجهات النظر التغريبية إلى مجال الفكر العربي الإسلامي في مختلف مفاهيمه واعتمدت على وجهات نظر المبشرين والمستشرقين وهي وجهات نظر خطيرة مغرضة مصاغة بعناية وحذر يراد بها إغراء القارئ العربي -وخاصة ذلك الذي لم يعرف كثيراً عن الفكر الإسلامي- حتى يتقبلها بسرعة، وقد استخدم لها باحثون ألقيت إليهم أضواء واسعة من الشهرة والمكانة.(/1)
وقد اتصلت هذه الكتابات بالتاريخ والأدب والاجتماع واللغة العربية، وحاولت أن يتجرد من كل صلة لهذه العلوم بالإسلام في محاولة للتعمية والتضليل.
ولما كان الفكر الإسلامي يمثل وحدة كاملة، وكانت هذه العلوم أجزاء منه يتكامل بعضها مع البعض الآخر، دون أن ينفصل أحدها أو يشكل وحدة مستقلة، فقد رأى دعاة التغريب في مكر بالغ، أن يبتعدوا عن (الإسلام) كدين بصورة واضحة، وأن يجعلوا ضرباتهم موجهة إلى هذه الجوانب حتى يكونوا في مأمن من حملات العلماء، وحتى يتحقق لهم بهدم هذه النواحي إصابة الإسلام في قلبه وأعماقه.
فهذا كتاب يريد أن يصل صاحبه في بحث له طابع علمي براق إلى أن الخلاقة ليست أصلاً من أصول الإسلام وأن نظام الحكم كان حراً طليقاً، إلى هنا والمسألة في نظر الباحث غير المتعمق -يسيرة وربما مقبولة، ولكن هناك هدف المحق وراء ذلك، ذلك هو الإدعاء بأن الإسلام كان ديناً روحياً خالصاً وأن شئون السياسة والمجتمع والحكم لم تكن منه جزءاً لا يتجزأ، وبذلك أحدث الكتاب ثلمة خطيرة في أدق مقومات الإسلام الأساسية التي تفرق بينه وبين الأديان القائمة على العقائد وحدها دون الشريعة، وعلى اللاهوت وحده دون نظام المجتمع، ولكي نعرف مدى خطر هذا الرأي أن تلقفه المستشرقون ومضوا يصرخون بأن في الإسلام مذهبين وليس مذهب واحد أحدهما يقول بأن الإسلام دين وليس له دولة، وحيث أن مستشرقاً لم يجرؤ على هذا الإدعاء قبل أن يصدر مثل هذا الكتاب، وهذا الكتاب ما يزال في الأيدي، وهناك أكثر من بحث للرد عليه ودحض مزاعمه، ولقد كان علينا أن نعلم ما هي خفايا هذا البحث والغرض منه هنالك نجد أنه عمل سياسي أصلاً، أريد به معارضة اتجاه لإحياء الخلافة ومن ثم فقد انتصرت الدعوة في مجال الخصوم الحزبية والسياسية ولكنها تركت آثاراً مريرة في مجال الفكر الإسلامي، فقد أدخل مفهوماً ليس إسلامي الأصل، من مفاهيم الفكر الأوربي المسيحي القائل بالفصل بين الدين والدولة وهو ما لم يعرفه تاريخ الإسلام، ومن عجب أن كتاباً في الفقه الإسلامي لا تجد فيه مرجعاً واحداً من كتب الفقه؛ وإنما يعتمد على مثل الأغاني والعقد الفريد !!
وهناك كتاب شهير أراد صاحبه أن يدعو الباحثين والأدباء إلى أن يحجبوا دينهم وقوميتهم وهم بسبيل البحت في الأدب، وكان ذلك جرياً وراء تغريب الأدب العربي بإخراجه من وضعه الصحيح في الفكر الإسلامي كجزء منه لا ينفصل، ولا يمكن دراسته إلا في موضعه الصحيح؛ فلقد كان للإسلام في الأدب العربي أثر ضخم بعيد المدى، ومن هنا فإنه من العسير أشد العسر أن ينفصل الأدب عن الفكر الإسلامي ولأن أن= يدرس حراً من هذا الارتباط الاجتماعي والأخلاقي، وهو ارتباط عضوي أصيل.
ولقد جنى الأدب العربي من هذا المذهب الوافد في النقد الأدبي آثاراً مريرة عظيمة، فقد فتح الباب أمام إنكار نصوص الكتب المنزلة وفي مقدمتها القرآن، كما فتح الباب أمام محاولة نقد آيات القرآن وانه جزا الأدباء على التركيز على أبي نواس وبشار والضحاك على أنهم نماذج الأدب العربي، بينما أبعدت آثار الغزالي وابن تيمية وابن حزن، فضلاً أنه فتح الباب أمام الإباحيات والأدب المكشوف وإعلانه، والجرأة على قيم الإسلام، فضلاً عن خطأ إعطاء الأدب هذه الحرية في الحكم على أمور لا تدخل تحت نفوذه، وفي التوسع لفرض سلطانه على قضايا المجتمع والدين والتربية والأخلاق، وهذا ما لم يكن من مفهوم الفكر العربي الإسلامي المتكامل الشامل.
ولقد كان ذلك اتجاهاً خطيراً في خطة التغريب يهدف إلى تحقيق نتائج مضللة تنكشف، فنحن نرى كيف أصبح مثل كتاب (الأغاني) مرجعاً من مراجع البحث العلمي والتاريخي تؤخذ منه النصوص ليُستدل بها في قضايا الدين والاجتماع والتاريخ، بينما لم يكن هذا الكتاب في الواقع إلا مجموعة من الأصوات الغنائية وقد وضعه مؤلفه للملوك والخلفاء لإزجاء فراغهم بقصص ذوي الأهواء وأهل الفن وأنه في ذلك لا يدخل في باب المراجع الموثوق بها ولا المصادر العلمية، وهو إلى ذلك لا يستطيع أن يمثل صورة حقيقية للحياة السياسية والاجتماعية في مجتمع زاخر بالقوى الفكرية من الفقهاء والعلماء والفلاسفة والصوفية والمؤرخون، وقد تأكد أكثر من مصدر أن أبا الفرج الأصفهاني ليس مؤرخاً ولا يصلح كتابه لأن يكون مادة تاريخ؛ وإنما هو جماع لقصص فيه الصحيح والزائف جمعه من الأسواق، وقد شهد عليه كثيرون بالانحراف: فقال اليوسفي المؤرخ: "إن أبا الفرج أكذب الناس؛ لأنه كان يدخل سوق الوراقين وهي مملوءة بالكذب فيشتري منها شيئاً كثيراً من الصحف ويحملها إلى بيته، ثم تكون رواياته كلها منه"، بل إن المؤرخين قد وصفوه بأنه رجل عار عن الثقة به.(/2)
والحق أن الباحثين المسلمين قد التفتوا منذ وقت بعيد إلى خطر المصادر الأدبية كمراجع للبحوث العلمية والتاريخية، وقد أشار العلماء إلى مَن أسموهم "أهل الغفلة والهوى الذين اعتمدوا في تاريخهم على كتب الأدباء وأسفار الأخبار"، فأهل الأدب كما يقول القاضي أبو بكر ابن العربي: "هم الذين غلبت عليهم صناعة الأدب فمالوا إلى كل غريب من الأخبار دون أن يتحروا الصدق ويهتموا بالرواية والإسناد"، يقول القاضي ابن العربي في كتابه العواصم من القواصم: "لتحذروا من أهل الأدب؛ فإنهم أهل جهالة بحرمات الدين أو على بدعة مصرين فلا تبالوا بما رووا".
من خلال الاعتماد على مثل كتاب الأغاني (وكتب المحاضرات جميعها مردودة كمصادر علمية وتاريخية) وصل بعض الباحثين إلى القول بأن القرن الثاني من الهجرة كان عصر شك ومجون، وأن هذا الحكم قد صدر اعتماداً على دراسة بعض الشعراء المجان، فاستطاع هذا الكاتب في جرأة عجيبة أن يقول بأن هؤلاء الشعراء يمثلون عصرهم ويخولون له الحق في إصدار حكم على العصر كله، بينما يوجد في ذلك العصر عشرات من الأدباء والعلماء والمفكرين والباحثين، ولا يمكن أن تتم صورة عصر إلا بدراسة النماذج المختلفة فيه.
وبعد فإن على شبابنا المثقف وكتابنا وأدبائنا أن يقفوا موقفاً علمياً كلما صدفهم مرجعاً أو مصدراً من المصادر الشهيرة، وأن يسألوا أنفسهم سؤالاً صريحاً:
ألم تصدر في مناقشة هذه الآراء ردود أو معارضات.
ثم عليهم بعد ذلك أن يبحثوا عن هذه الكتب ويقرأوها.
فإذا كان من مصادر الكاتب أو الباحث كتب مثل: الشعر الجاهلي أو الإسلام وأصول الحكم أو فلسفة ابن خلدون الاجتماعية أو تحرير المرأة أو نظرية التطور أو حديث الأربعاء أو هامش السيرة أو مع المتنبي، أو مستقبل الثقافة أو الأخلاق عند الغزالي أو النثر الفني، أو غيرها من مؤلفات، فإن ضرورة التحقيق العلمي تقضي على القارئ أن يراجع كل ما كتب عن هذه الأبحاث من ردود ومعارضات؛ ذلك أن هذه الأبحاث لم تكتب إلا في ضوء تحديات خطيرة، هي تحديات الغزو الفكري والتغريب، وأن كُتابها يجب أن يعرضوا على قانون "الجرح والتعديل".
في عام 1971 كتبت إلى مجلة دعوة الحق الزاهرة البحث الأول في هذا الموضوع، ثم شغلت عنه وكان الهدف هو لفت نظر الباحث المسلم إلى أن هناك نظريات وافدة طرحت في أفق الفكر الإسلامي وقد تناولها الباحثون بالنقد والرد والتفنيد في وقتها، غير أن ذلك لم يجمع في حينه في كتاب، ومن ثم ظلت هذه الكتب التي تحمل النظريات متداولة كأنما هي حقائق ثابتة وأعيد طبعها مرات ومرات، ولقد لاحظت ذلك وتأثرت به حين رأيت الكثيرين من شبابنا المسلمين القادمين من كل مكان في العالم الإسلامي يبحثون عن سلامة موسى وطه حسين وعلي عبد الرازق ومحمود عزمي، فيجدون مقالاتهم المليئة بالشكوك مجموعة في كتب أنيقة ثم لا يجدون ما وُجه إليها من ردود وما فُند من اتهامات؛ لأنها لا تزال مدفونة في بطون الصحف والدوريات، ولقد دعاني هذا أن أجمع في مجلدين كبيرين أغلب هذه المعارك تحت عنوان (المعارك الأدبية) وتحت عنوان (المساجلات والمعارك الأدبية)، وذلك في محاولة لكي أضع تحت عين القارئ وجهة النظر الأخرى التي كانت غائبة عنه والتي تكشف أن لكل رأي رداً وأن مثل هذه المحاولات في فرض نظريات وافدة قد استشرى في فترة الثلاثينيات وما بعدها، واتسع نطاقه حتى شمل مختلف ميادين الفكر، ولكن الحق أن قضية ما من هذه القضايا لم تمر دون تمحيص؛ =ككتاب طه حسين عن الشعر الجاهلي ووجه بالرد من كثيرين وصدرت كتب عديدة في تفنيده منها (تحت راية القرآن) لمصطفى صادق الرافعي، كما صدر كتاب محمد فريد وجدي وكتاب محمد لطفي جمعة وكتاب للشيخ الخضر حسين وكتاب (النقد التحليلي) للدكتور محمد أحمد الغمراوي، هذا بالإضافة إلى عشرات الموضوعات والبحوث التي حفلت بها الصحف وجمعت بعد أطرافها في كتابيّ المذكورَين عن المعارك الأدبية. كذلك صدرت في السنوات الأخيرة أطروحة الدكتور ناصر الدين الأسد عن حقيقة الموقف في الشعر الجاهلي وانتحاله.
وبالنسبة إلى كتاب علي عبد الرازق عن الإسلام وأصول الحكم صدرت في حين صدوره رسائل مطبوعة للشيخ الخضر حسين ومحمد الطاهر عاشور والشيخ رشيد رضا، وصدر في العام الماضي كتاب ضخم مفصل عن هذه القضية للدكتور ضياء الدين الريس.
أما بالنسبة لما أثاره سلامة موسى عن اللغة العربية فقد نوقش وجمع، وكذلك ما اتصل بآراء ساطع الحصري ومحمود عزمي.
ولقد عورضت نظريات لطفي السيد عن الإقليمية المصرية وآرائه عن التعليم، ووجدت نظرية ثقافة البحر التي أثارها طه حسين ومحمود عزمي تفنيداً وتصحيحاً، وكذلك عارض الباحثون نظرية أمين الخولي عن إقليمية الأدب، ورد الدكتور محمد أحمد الغمراوي على محاولات نقد النص القرآن التي قام بها زكي مبارك، وكذلك رد كثيرون على محمد أحمد خلف الله ورسالة القصص الفني في القرآن.(/3)
أما النظرية المادية التي عرضها شبلي شميل وسلامة موسى من بعد فإنها لم تمضِ بدون نقد ومراجعة وكذلك نظريات الدين في التربية.
وكانت أكثر الشبهات التي طرحت في أفق الفكر الإسلامي تستهدف السيرة النبوية والقرآن واللغة العربية والحضارة الإسلامية والتاريخ الإسلامي، وفي معظم هذه النظريات فقد غلفها بريق كاذب وحاول صياغتها ووضعها في إطار علمي وصاحبتها دعوة طنانة إلى النهضة والتجديد والاستجابة لروح العصر والخروج من الجمود وكسر قيد التقليد ومقاومة الرجعية، وفي أعماقها دعوة صريحة إلى التبعية والانصهار في الفكر الغربي؛ إيماناً بأن هذا هو الطريق الوحيد لمساواته ومحاذاته، وقد حملت هذه الدعوات أساساً فكرة أن أمتنا ليست من العرب وأن الإسلام قد مر عليها كما تمر كل الدعوات وأن العقل المصري أو السوري أو المغربي هو عقل أوربي وأن الفكر الإسلامي أصلاً هو فكر يوناني، وما إلى ذلك من مجازفات تستهدف عزل المسلمين عن فكرهم الأصيل وعن كيانهم الخاص وذاتهم التي تتماثل. وقد صدرت مؤلفات أحدثت ضجة كبرى، لم تكن هذه الضجة بالقبول ولكنها كانت بالرفض، وجرت مساجلات ساخنة ومثيرة انتقلت من أعمدة الصحف إلى أندية الجمعيات إلى منابر الجامعات، ولكن هذه النظريات لم تجد قدرتها على الحياة؛ لأنها دخيلة وزائف ونبت لا يقوى على الحياة في أرض لم تمتصه وطقس لم يستسيغه، ولذلك ما لبثت أن تحطمت، وإن عمد الدعاة إليها إلى تجيدها مرة بعد مرة وإثارتها في صورة وأخرى، ومن هذه النظريات:
(1) إعلاء أدب الإغريق على الأدب العربي ومحاولة فرض الذوق الهليني على العرب.
(2) إعلاء شأن الإقليميات الضيقة كالمصرية والفينيقية والبربرية وغيرها.
(3) النعي على العرب والمسلمين ومحاولة انتقاص وجودهم وكيانهم.
(4) معارضة الشريعة الإسلامية وإثارة الشبهات حول أصالتها.
(5) مقاومة اللغة العربية الفصحى والدعوة إلى العاميات.
(6) التنكر للحقيقة الواضحة وهي أن الإسلام دين ونظام مجتمع في آن.
(7) محاولة توجيه النقد إلى أسلوب القرآن ووصفه بأنه كتاب أدبي.
(8) محاولة إسقاط الحضارة الإسلامية وإنكار إعطائها للحضارة الغربية.
(9) الدعوة إلى ما يسمى "عالمية الثقافة" ومحالة تذويب قيم الثقافة الإسلامية في أتون الفكر الغربي مع تجاهل الفوارق الواضحة بينهما.
(10) محاولة إثارة الشبهات حول العلاقات الجذرية بين الإسلام والعروبة.
(11) محاولة توسيد قيم مقتبسة في مجال التربية والتعليم تتعارض مع ذاتية الأمة ومزاجها النفسي.
(12) مهاجمة التراث العربي الإسلامي وإثارة الشكوك حوله وانتقاصه.
(13) إذاعة نظريات فرويد في النفس وسارتر في الوجودية ودور كايم الاجتماع، وكلها تتعارض مع قيم الفكر الإسلامي.
(14) انتقاص أعلام الإسلام وأبطاله.
(15) إذاعة الأدب المكشوف والإباحية الفكرية مع الدعوة إلى الإلحاد.
(16) محاولة إعلاء اتجاه المادية في مجالات التاريخ والاقتصاد والاجتماع.
وقد راجت هذه الأفكار رواجاً شديداً وكثير ترديدا حتى كادت أن تصبح من المسلمات، ووجدت النفوذ الاستعماري عن طريق أدواته العديدة، وفي مقدمتها المدرسة والصحيفة مجالاً كبيراً لإذاعة هذه الأفكار ودعمها.
وصدرت في ذلك كتب عديدة، منها: مؤلفات جورجي زيدان (التمدن الإسلامي)، ومؤلفات طه حسين (حديث الأربعاء – في الأدب الجاهلي – مستقبل الثقافة – مع المتنبي – هامش السيرة)، ومؤلفات سلامة موسى (اليوم والغد – البلاغة العصرية)، وعلي عبد الرازق (الإسلام وأصول الحكم)، ولطفي السيد (ترجمات أرسطو)، بالإضافة إلى بعض كتابات توفيق الحكيم ومحمود عزمي، وزكي مبارك وإبراهيم مدكور وأمين الخولي وحسين فوزي ولويس عوض وزكي نجيب محمود.
غير أن هذه النظريات لم تلبث أن انكشف فسادها وزيفها وعرف المثقفون الأهداف القائمة وراء إذاعتها وترديدها.
ولقد أحدث الشيخ علي عبد الرازق "ثلمة" في الإسلام سيظل يحمل وزرها أمداً طويلاً؛ فلأول مرة يجرؤ عالم أزهري مسلم إلى القول بأن الإسلام دين روحي وأنه لا صلة له بنظام الحكم، مهما كان سياق الدعوة أو ظروفها السياسية التي أراد أن يخدم بها حزب الأحرار الدستوريين أو الإنجليز أو المعارضين للملك فؤاد، فإنه في سبيل غاية هينة قد استخدم نصوصاً أراد بها أن يحجب حقيقة أساسية هي أن الإسلام نظام مجتمع ومنهج حياة متكامل، ومنذ ذلك اليوم يكتب المستشرقون فيقولون: إن في الإسلام نظريتين: إحداهما تقول بأن الإسلام دين ودولة، والأخرى تقول أن الإسلام دين روحي وصاحب هذه النظرية هو علي عبد الرازق ومَن سار على طريقه من بعده ومن خريجي الأزهر أيضاً مع الأسف.(/4)
هذه الثلمة تكذبها كل الوقائع التاريخية وكل النصوص والأسانيد. ومن يقرأ بحث علي عبد الرازق الذي حاول دعاة التغريب في السنوات الأخيرة إعادة طبعه ونشره بعد أن مات وانطوى أكثر من أربعين عاماً-يجدون أنه لم يعتمد على كتاب من كتب الأصول؛ وإنما كان اعتماده على مراجع أدبية كالعقد الفريد وغيره. وقد كان جُل اعتماد علي عبد الرازق على بعض الكتب التي صدرت في تركيا لتبرير إلغاء الخلافة وهي مؤلفات كتبها اليهود الدونمة الذين كانوا يطمعون في تحطيم هذا البناء منذ وقت طويل؛ حتى يستطيعوا أن ينفذوا إلى فلسطين بعد أن وقف السلطان عبد الحميد في وجههم سداً منيعاً، وكل ما جاء به علي عبد الرازق نقلاً من هؤلاء إنما هو مستمد من نظريات الفكر المسيحي حول البابوية والفصل بين الدين والدولة وهو النهج الذي وصلت إليه أوربا بعد الصراع الطويل بين الكنيسة والشعب، وكان جُل اعتماده في نصوصه المنقولة على شطائر تؤيد وجهة نظره استعان بها وترك الأجزاء الباقية مغالطة منه وتبريراً لوجهة نظره، بالإضافة إلى اعتماده على كتب المحاضرات والأدب وهي ليست مراجع للبحث الفقهي الجاد.
والحق أن الباحثين المسلمين قد التفتوا منذ وقت طويل إلى خطر المصادر الأدبية كمراجع للبحوث العلمية والتاريخية، وقد أشار كثيرون إلى "أهل العقل والهوى الذين اعتمدوا في تاريخهم على كتب الأدب وأسفار الأخبار"، فأهل الأدب كما يقول القاضي أبو بكر ابن العربي في كتابه "العواصم من القواصم": "هم الذين غلبت عليهم صناعة الأدب فمالوا إلى كل غريب من الأخبار دون أن يتحروا الصدق ويهتموا بالرواية والإسناد، وهم أهل جهالة بحرمات الدين أو على بدعة مصريين".
أما كتاب في الشعر الجاهلي والأدب الجاهلي من بعده، فإن القضية الكبرى والأساسية التي حاول مؤلفه أن يفرضها هي أن على الباحثين أن يحجبوا دينهم وقوميتهم وهم بسبيل إلى البحث العلمي، نقول (حتى إذا كان دينهم هو الإسلام) الذي هو مصدر كل مناهج البحث وأساس علوم المعرفة والذي هدى البشرية إلى نقد الرواة وإلى الجرح والتعديل وإلى التأكد من سلامة المصادر.
ولكن المؤلف لم يكن ليؤمن بذلك أساساً؛ لأنه حاول إنكار نصوص من القرآن عن إبراهيم وإسماعيل وقال: "مهما تحدثنا التوراة ويحدثنا القرآن عن إبراهيم وإسماعيل فإن الحقيقة التاريخية تقول إنهما من الشخصيات التي لم توجد أساساً"، ولقد كان الهدف الرئيسي في الشعر الجاهلي أساساً هو انتقاص هذه الأسس في الإسلام وانتقاص رسوله الكريم الذي قال عنه: (لأمرٍ ما كان لابد أن يكون محمد من قريش)، ومَن يراجع الكتب التي تصدت لهذا الكتاب والأبحاث والمعارك التي دارت حوله يجد تحدياً واضحاً صريحاً للحقائق الإسلامية والسنة الصحيحة ولكل ما يتصل بتاريخ رسول الله وأصحابه، فإذ ربطنا هذا بكتاب هامش السيرة وجدنا جانباً آخر أراد طه حسين أن يطعن فيه؛ ذلك هو إعادة الأساطير مرة أخرى إلى هذه السيرة بعد أن نقاها المسلمون منها وحرروها، ونحن لسنا الذين نقول ذلك ونأخذه عليه؛ ولكن ذلك ما يقوله رفيق شبابه الدكتور محمد حسين هيكل صاحب كتاب حياة محمد. ونجد الجانب الثالث من العمل الخطير متمثلاً في كتاب (الفتنة الكبرى)، وهنا نجد طه حسين يحاكم صحابة رسول الله على أنهم بعض السياسيين في العصر الحديث ورجال الأحزاب وأصحاب المطامع والمؤامرات ومحاولة إزاحة ذلك الجو الرفيع الذي يجب أن ينظر فيه إلى هؤلاء الصحابة الكرام، وتلك هي أهداف طه حسين كما أشار إليها هو نفسه في أكثر من موضع "إسقاط التقديس لكل قديم".
وإذا كان هذا من الأطروحات الغربية التي عرفها الفكر الأوربي بعد الثورة الفرنسية وتحت ضغط خلافات عميقة بين رجال العلم ورجال الدين وتحت تأثير جمود الفكرة الدينية وفسادها في الغرب، فما شأننا به نحن في عالم الإسلام حيث نجد الفكر الإسلامي بسماحته وسعته وقدرته الوافرة على العطاء في كل المجالات، وحيث لا يصطدم الدين بالعلم، وحيث لا تتعارض الثوابت والمتغيرات، وحيث أن القديم ليس فكراً بشرياً يكتنفه الفساد والاضطراب؛ ولكن القديم هو ذلك الهدي الرباني الكريم (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه).
تلك كانت غاية طه حسين واضحة في كتاباته الإسلامية كلها من الأدب الجاهلي إلى هامش السيرة إلى الفتنة الكبرى: (إسقاط التقديس لكل قديم)، دون تحديد لهذا القديم هل هو الأصل الرباني الموحى به أم العمل الفكري الذي قام عليه، فضلاً عن إحيائه لتراث الزنادقة والشعوبية وإعادته طبع إخوان الصفا ومقدمة ابن المقفع لكتاب كليلة ودمنة، والدعوة الملحة التي ظل يدعوها طوال حياته بفضل الهلينية والفكر الإغريقي على الفكر الإسلامي وهي دعوة زائفة مبطلة كذبتها مدرسة كاملة قادها الشيخ مصطفى عبد الرازق وتابعها كثير من الأعلام في مقدمتهم الدكتور علي سامي النشار ومحمود قاسم.(/5)
ولو كان طه حسين ناقداً سليم القلب لفرق بين الميراث الإسلامي السماوي والسنة الصحيحة وصادق ما كتب أهل السنة والجماعة وبين التراث الإسلامي المتصل بالشعوبية والزندقة والباطنية، ولكنه كما يبدو واضحاً من كل كتاباته إنما كان يغمغم في هذه الدعوى وهو يقصد: الوحي والنبوة والقرآن، وإن كان لا يقدر على أن يكشف عن ذلك خوفاً وفرقاً مما كاد يصيبه عندما أصدر كتاب في الشعر الجاهلي، لقد فتح الباب لكل شبهة وحملت مؤلفاته أوشال الشعوبية القديمة وزيف آراء المستشرقين في كل الجوانب التي يمكن أن يصل إليها الباحث لم غادر منها واحداً مستعملاً أسلوب (الشك الفلسفي)؛ لبث الشبهات والتساؤلات دون أن يدل أحداً على ضوء من رأي صحيح، ولكنها المحاولة المستمرة للتشكيك؛
فهو الداعي إلى الفرعونية والأدب المكشوف وأن عصر الإسلام الأول عصر شك ومجون، وهو الذي سخر بابن خلدون علامة فكرنا، ووصف المتنبي شاعرنا الأكبر بأنه لقيط ليس له أب، وهو الذي قال لطلبته في كلية الآداب أن القرآن كتاب أدب يوضع موضع النقد ويقال أن هذه الآية كذا وكذا، وهو داعية (عالمية الثقافة) لينصهر الفكر الإسلامي في بوتقة الأممية، وداعي نقل مناهج التعليم والتربية الغربية، وهو الذي اتخذ من كتاب الأغاني مصدراً لدراسة المجتمع الإسلامي وهو كتاب غير مؤهل لهذه الدراسة. وهو الذي فتح الأبواب لهؤلاء جميعاً الذين جرأوا على مواريث الإسلام، ومِن الحق أن يقال أن الباحثين المسلمين لم يؤمنوا لحظة بمذهب تقديس السلف سواء في التاريخ أو غيره؛ ولكنهم كانوا يؤمنون ولا يزالون بحماية هذا الميراث العظيم الذي أعطاهم الإسلام وتكريم هؤلاء الصفوة من الصحابة الأعلام الذين شادوا هذا المجد، وتجاوزهم البحث في هذا الخلاف الذي دخلته زيوف كثيرة وأكاذيب كثيرة، وكانت وجهتهم دائماً إلى القرآن وحده وإلى التماس الأسوة من الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو المعصوم والمؤيد بالوحي، وقد فضلوا دائماً بين (منهج الإسلام) وبين (تاريخ الإسلام)، ولكنهم لم يكونوا ليجرؤا على تناول تراثهم على هذا النحو من الاحتقار والسخرية والمهانة التي حاول طه حسين أن يتناوله بها.
أنور الجندي(/6)
نظرية الأسمنت
بالطبع سمعت قبل ذلك عن الأسمنت! إنه ذلك المسحوق الرمادي الذي يتم خلطه مع الماء والرمل والحجارة ليصبح مادة رابطة شديدة القوة يتم بها الربط بين أسياخ الحديد في أي بناء لذلك لا نجد بناءً قويًا ومتماسكًا إلا ويدخل في تركيبه الأسمنت كمادة رابطة بين أجزائه وبعضها البعض.
هذا الكلام ينطبق أيضًا على البناء البشري، أي بناء الإنسان، فلا بد من وجود شيء يربط بين أجزاء الإنسان بعضها البعض، بين أجزائه العضلية والعصبية وبين مشاعره وأحاسيسه وأفكاره، وأنت لا تجد إنسانًا على وجه الأرض إلا ويوجد شيء ما يحركه ويربط بين أفكاره وأفعاله ومشاعره وجسده فهذا يحركه حب المال وهذا يحركه حب النساء والآخر حب الجاه والسلطان وهكذا.... وكل هؤلاء الأشخاص أيها الأخ الكريم تجد بينهم قاسمًا مشتركًا وهو عدم الشعور بالسعادة والراحة النفسية ولكن الشيء الوحيد الذي يستطيع أن يربط بين جميع مكونات البناء البشري، ويحقق التوازن بينها كما يحقق أقصى استفادة ممكنة من إمكانيات الإنسان هو الدين!
قد تظن أني مبالغ بعض الشيء ولكن حين تكمل القراءة معي ستعلم أني على حق تعالى معي لنتكلم بتفصيل أكثر قليلاً ولأثبت لك أن التزامك بدين الله عز وجل هو السبيل الوحيد لكي تتحكم في مشاعرك وجسدك وأفكارك وتستخرج منها الطاقات المخزونة وتستغلها أفضل استغلال في خدمة نفسك ومجتمعك:
فمثلاً في الجانب العضلي:
فأنت لو التزمت بدين الله عز وجل ستجد الكثير من الآيات والأحاديث والأمثلة التي تحث على أن يكون بنيان المسلم قويًا وصحته على خير ما يرام، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: 'المؤمن القوي خير وأحب عند الله من المؤمن الضعيف' والقوة هنا قوة الإيمان والقوة الجسدية أيضًا التي تستغلها في خدمة دين الله، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: 'علموا أولادكم السباحة والرماية وركوب الخيل' والله عز وجل يسألنا يوم القيامة عن عمرنا فيما أفنيناه وعن شبابنا فيما أبليناه وسيسألنا عن صحتنا هل حافظنا عليها أم لم نحافظ عليها لذلك عند التزامك بدين الله سيكون سعيك في تقوية جسدك والحفاظ على صحتك أحد الطاعات التي تؤديها خلال يومك لو أخلصت فيها النية لله سبحانه وتعالى.
ولنا في صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم أفضل الأمثلة على ذلك فمثلاً كان عمر بن الخطاب قوي البنيان جدًا فيروي أنه عند إسلامه أخذ يقاتل المشركين من الظهر إلى المغرب وحده وهذا يدل على قوة بنيانه كما أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه كما كان يصفه أهل السير إذا سلم عليك وضغط على يديك بقوة تشعر بالاختناق. والقعقاع بن عمرو الذي كان صوته في المعركة بألف رجل فما بالك به شخصيًا.
وأيضًا في الجانب العقلي: 'إضافة 'نور البصيرة'
تجد أن الشخص الملتزم بدين الله حقًا يسعى إلى تنمية قدراته العقلية وإلى الاهتمام بالتفكير السليم لخدمة دينه ومجتمعه وكيف لا والله عز وجل ذم القوم الذين لا يعقلون' كما أن الله عز وجل خص عباده العقلاء بفهم آياته الكونية فقال الله عز وجل: {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [النحل:12]. كما أن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم تدل على أنه كان عبقرية فذة وأنه كان دائم التفكير في قضايا الأمة فتارة يفكر في الرسائل التي يبعث بها في الملوك والسلاطين، وتارة يفكر في حماية الأمة من الأخطار الخارجية، وتارة يفكر في جهاد أعداء الله ونشر الإسلام في بقاع الأرض، وتارة يفكر في مشاكل الأمة الداخلية كما أنه كان بحث الصحابة على التفكير، ويمتدح صاحب العقل الراجح، فعن خالد بن الوليد أنه حين أسلم قال له النبي صلى الله عليه وسلم: 'الحمد لله الذي هداك للإسلام فقد كنت أرى لك عقلاً رجوت ألا يسلمك إلا لغير' وأيضًا قد تجد بعض الملتزمين لا يحرصون على تنمية عقولهم وتفكيرهم، ولكن مع ذلك ايها الأخ الكريم كفاهم نور الإيمان ونور البصيرة التي يقذفها الله تعالى في قلوبهم عند التزامهم بدين الله، فالله عز وجل يقول: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام:122].
وفي الجانب العاطفي أو الروحي:(/1)
نجد أن الشخص الملتزم حريص دائمًا على تزكية نفسه وروحه والسمو بمشاعره وأحاسيسه لكي يكون أهلاً لدخول جنة رب العالمين وقد مدح الله عز وجل من يعمل ذلك فقال: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا[7]فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا[8]قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [الشمس:7ـ9] بل وذم الله أيضًا الذين يهملون هذا الجانب الروحي في حياتهم فقال: {وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:9]. وأيضًا مدح الله في أكثر من موضع أصحاب القلوب الرقيقة التي تتأثر بكتاب الله عز وجل: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} [الحديد:16] والمتأمل لسيرة النبي صلى الله عليه وسلم يجد أنه كان أرحم الناس وأعطفهم على المسلمين، فعنه تقول عائشة رضي الله عنها 'ما خير النبي صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا' مما يدل على عطفه الشديد على أمته. وهكذا أيها الأخ الكريم هل تأكدت الآن من كلامي هل عرفت أن الالتزام بدين الله عز وجل هو السبيل الوحيد لكي تبني نفسك بنيانًا قويًا يحتمل الأزمات ويسير لخطى ثابتة نحو النجاح في الدنيا والآخرة
وأخيرًا أيها الأخ الكريم أنت الآن تأكدت من أن الدين قادر أن يربط بين جميع مكوناتك ليحقق لك ما تريد في الدنيا والآخرة، وعلمت أيضًا أن مكوناتك البشرية لا بد لها من رابط يربط بينها فاختر لنفسك أي الروابط تشاء وأي البناء تريد أن تبني نفسك واحذر من أن تتدخل تحت قول الله تعالى: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ} [التوبة:109] فإما بناء على التقوى يصل إلى الجنان............
وإما بناء على غير ذلك ينهار بك والعياذ بالله في النيران........(/2)
نظرية الأوتار الفائقة ... سبقناهم !
عزيز محمد أبوخلف
</TD
كلما مرت فترة من الزمان يطلع علينا العلم التجريبي بنظريات واكتشافات تبهر العقول، وقد تصيبها أحياناً بالحيرة والذهول. والحضارات المستقرة التي يكون لها حظ في قيادة العالم، من الطبيعي ان تتسلم أيضاً قيادة التقدم العلمي. لهذا كان من المتوقع من الحضارة الإسلامية، وقد سادت الدنيا قروناً عديدة، ان تبهر الناس بمثل هذه الحوادث العلمية الكبيرة، فهي أحق بها من الناحية المنطقية. ولكن الذي حدث هو أن المنطق نفسه كان عامل تأخير وتخلف لهذه الأمة، مما جعلها تغيب بكل قدراتها عن أي إبداع علمي يذكر، إذا استثنينا بعض الإنجازات القيمة من علماء لم يجعلوا معيار تقدمهم يستند إلى المنطق الأرسطي وعلم الكلام اليوناني.
شهد العلم الحديث تطورات هائلة في أفكاره كان بعضها أشبه بالثورات العارمة، وقد صاحب ذلك اختراعات واكتشافات لا تقل أهمية عن النظريات التي أسست لها أو انبثقت عها. واكثر ما يشغل العلم ولا يزال تركيب الكون والقوانين التي تحكمه، حيث انطلق من تأملات الأقدمين مروراً بقوانين الحركة والنظرية الذرية واجزاء الذرة والنسبية والكوانتا والحقول، وأخيرا، وربما آخراً !، نظرية الاوتار الفائقة. وقلنا آخراً ولم نقل وليس آخراً، لأن من أبدع هذه النظرية يرى أنها تفسر كل شيء أي هي بمثابة النظرية الأم. ولكن لا تتعجلوا، وكالعادة ووفق قاعدة سبقناهم، فلن نعدم من يزعم ان علماءنا أشاروا أو نبهوا إلى هذه النظرية كما نبهوا إلى غيرها. وأيضا لن نعدم جانباً من الإعجاز العلمي سبقناهم إليه في آيات القرآن أو أحاديث المصطفى عليه السلام.
ما هي نظرية الاوتار الفائقة؟
نظرية الأوتار الفائقة superstring theoryهي أفكار جديدة حول تركيب الكون من إبداع الفيزياء النظرية، تستند في صلبها إلى معادلات رياضية معقدة، تحاول تفسير أمور مجربة. تقول هذه النظرية ان الأشياء مكونة من أوتار حلقية أو مفتوحة متناهية في الصغر لا سمك لها. هذه الأوتار تتذبذب فتصدر نغمات يتحدد بناء عليها طبيعة وخصائص الجسيمات الأكبر منها مثل البروتون والنيوترون والالكترون وغيرها. وتكمن ميزة هذه النظرية في أنها تأخذ في الحسبان كافة قوى الطبيعة: الجاذبية والكهرومغناطيسية والقوى النووية، فتوحدها في نظرية واحدة، تسمى النظرية الأم.
الكون في تصور هذه النظرية هو عالم ذو عشرة أبعاد، على خلاف الأبعاد الأربعة التي نحس بها. ويقول أصحاب هذه النظرية بأن الأبعاد الأخرى متكورة على نفسها فهي غير محسوسة لنا، ولا يتأتى ذلك إلا في ظل كميات هائلة من الطاقة تحتاج إلى مسرعات نووية بحجم المجرة!. فهذه النظرية تقدم تصوراً جميلاً للكون ضمن إطار موسيقي يقول لنا بأن كل شيء هو نتاج نغمات وذبذبات لأوتار صغيرة. ما نحن إذاً إلا نتاج الموسيقى وفق هذه النظرية الحديثة. ولكن لا بد من التأكيد على أن هذه النظرية هي نظرية في حد ذاتها، أي ليست تخبر عن واقع تجريبي، والتأكد منها يحتاج إلى جهود جبارة من الطاقة توازي ما حدث في اللحظات الأولى من الانفجار العظيم.
أصلها عندنا: الوتر الفرد
لا نستبعد أن يطلع علينا أحدهم فيقول: سبقناهم في هذه النظرية كما سبقناهم في غيرها!. وهذا السبق قد تتبناه أكثر من جهة. فالذرة التي ورد ذكرها في القرآن الكريم تعني أصغر ما يمكن من النمل، أو الفتائل المتناهية في الصغر، أو الهباء المصاحب للاشعة. وهكذا فالذرة هي أصغر شيء بأشكال متعددة، والوتر الصغير هذا يمكن اعتباره أصغر شيء!. أيضاً الجوهر الفرد الذي تبناه علماء الكلام ليؤسسوا به لعقائد الإسلام والدفاع عنها، هو شيء متناهي في الصغر، متحيز لكن ليس له مكان، وهو آخر ما تصل إليه المادة بعد التقسيم المضني. فلم لا يكون هو نفسه الوتر المتناهي في الصغر؟ ويجوز لنا والحالة هذه أن نسميه بالوتر الفرد!.
نحن لا نشكك في اخلاص أهل الإعجاز العلمي، ولا في نوايا علماء الكلام الذين اجتهدوا في الدفاع عن عقائد الدين، لكننا نرفض ربط الإسلام بالنظريات العلمية وجعلها أساساً في عقائده، بل لقد وصل الأمر بعلم الكلام إلى أن جعلها أمورا مقدسة لا يتطرق إليها شك. وهذا واقع فعلاً في تبني علم الكلام لنظرية الجوهر الفرد ذات الأصل اليوناني، وفي تبنيه لحرفيات المنطق الأرسطي الذي لا يورث غير التخلف والتعالي عن ركب التقدم العلمي. اما أهل الإعجاز العلمي فإننا نطالبهم إذا كانوا على حق ان يأتوا بالجديد في الوسط العلمي باقتراح النظريات والأفكار العلمية، لا بالانتظار على أبواب العلم حتى إذا ما طرحوا فكرة أو نظرية قلنا: سبقناكم!.
صلاة الجنازة على الجوهر الفرد(/1)
هل نقول بأنه آن الأوان أن نقبر هذه الأفكار العقيمة التي أضرت بالأمة وعوقتها عن التقدم، مثل نظرية الجوهر الفرد، وأفكار المنطق الأرسطي غير المجدية، وكلها ذات علامة تجارية يونانية؟. إن المنطق الذي يتمسك به من يأخذ بهذه الأفكار يحتم عليهم أن يتركوها وأن يفسحوا المجال للأفكار الجديدة كي تحل محلها. أليست نظرية الجوهر الفرد انعكاساً للأفكار العلمية التي كانت سائدة ومتداولة في تلك الأيام، وقد تبناها علم الكلام للدفاع عن العقائد، وها نحن أمام أفكار جديدة ترفض مثل هذه النظريات جملة وتفصيلا. من المنطقي أن من يربط العقيدة بالنظريات العلمية السائدة ان تكون عقائده متحولة، لأن النظريات العلمية نفسها قابلة للتعديل والتطوير باستمرار. فما الذي يُبقي عقائد الإسلام مرتبطة بنظرية الجوهر الفرد؟. إن على من يتبنى مثل هذه الأفكار أن ينعاها في صحائف الفكر، وأن يدعو للتكيبر عليها أربعاً، من اجل وأدها في مقابر الفكر، دون أن يسأل عنها بأي ذنب قتلت!.(/2)
نظرية الإغماء بين تناقضات ديدات و سرقات غلام قاديان
فؤاد العطار
Anti_ahmadiyya@yahoo.com
لقد قامت نظريات و تفسيرات عديدة حول كيفية نجاة المسيح عليه السلام من الصلب. بعض التفسيرات هي للعلماء المسلمين أنفسهم و بعضها لغير المسلمين من نصارى و قاديانيين و غيرهم. و من عجائب هذا الزمان ترديد بعض المسلمين لبعض الآراء الدينية لغير المسلمين دون وزنها بميزان الإسلام و دون عرضها على المنطق السليم. و من تلك النظريات السقيمة ادعاء ميرزا غلام أحمد القادياني – نبي الطائفة القاديانية 1839م _1908م - بأن المسيح عليه السلام كان قد عُلق على الصليب لكنه أغمي عليه فتركه اليهود ظناً منهم بأنه مات. لكنه قام من قبره بعد الإغماء و هاجر إلى كشمير حيث عاش هناك ما يقرب من تسعين عاماً.
و قد ادعى غلام قاديان بأن الله أوحى له بهذا التفسير. لكن من الواضح أن الغلام كان قد سرق الجزء الأول من نظريته – و هو الإغماء على الصليب – من بعض المفكرين النصارى الذين كانوا قد قالوا بهذه النظرية من قبل. و قد انتشرت نظرية الإغماء تلك في أوروبا خلال القرن التاسع عشر فيما عرف بالنقد العصري للكتاب المقدس، و تفيد المصادر الكنسية بأن الألماني شلير ماخر في كتابه "حياة يسوع" الذي نُشر في بداية القرن التاسع عشر كان قد أنكر المعجزات وخاصة قيامة يسوع وذكر أنها رجوع إلى الوعي بعد إغماء طويل. و بالإستقراء نؤكد بأن كتاب المدعو شلير ماخر هو من أوحى للغلام بالفكرة وليس الله تعالى. وقد أيد هذه النظرية أيضاً في القرن التاسع عشر الناقد الألماني "فنتوريني" فربما يكون قد ساهم بدوره في هذا الوحي.
و من الذين تأثروا بنظرية الإغماء على الصليب الداعية أحمد ديدات –رحمه الله -و علي الجوهري (مترجم كتب ديدات). أما أحمد ديدات فكان يستخدم هذه النظرية في مناظراته و كتبه عن النصرانية. و اتضح جلياً تأثره بالكتابات القاديانية و اللاهورية و خاصة عندما ساق ما ادعاه من أدلة إنجيلية على نظرية الإغماء تلك. و قد ساق ديدات ثلاثين من تلك الإستنباطات في كتابه "صلب المسيح بين الحقيقة و الإفتراء". وقد تطابق 13 استنباطاً منها مع كل الإستنباطات التي ساقها محمد علي اللاهوري – أحد أتباع غلام قاديان – في تفسيره الباطني للقرآن الكريم و الذي ينفي فيه معجزات المسيح عليه السلام مثل ولادته من غير أب و تكلمه في المهد و إحيائه الموتى بإذن الله.
و قد سارع البعض إلى اتهام أحمد ديدات بأنه قادياني أو لاهوري خاصة بعد أن راجت إشاعات في بلده جنوب إفريقيا بأنه كان يوزع الترجمة الكافرة للقرآن الكريم و التي كتبها محمد أسد. مما اضطر أحمد ديدات أن يصدر توضيحاً حول هذا الأمر بتاريخ 23-7-1987م أكد فيه تكفيره لميرزا غلام أحمد القادياني. كما و أعلن تكفيره لكل أتباع الغلام من قاديانيين و لاهوريين. و نفى أن يكون قد قام بتوزيع تلك الترجمة المنحرفة للقرآن الكريم.
و نحن نستغرب من أولئك الذين أصروا على اتهام ديدات – رحمه الله - بالإنتماء للقاديانية مع أنه أصدر إعلان البراءة من تلك التهمة. و لا ندافع بهذا عن أخطاء ديدات و لكننا نقبل من الناس ظاهرهم و تصريحاتهم كما علمنا الإسلام. و نعرض كتاباته و كتابات غيره على كتاب الله و سنة رسوله. و للحق فإن الباحث في كتابات ديدات يجد أنه استعمل نظرية الإغماء فعلاً في معظم جداله مع النصارى. لكنه في كتابه "عيسى إله أم بشر أم أسطورة" ص 138 يقول:
((إن الذي صُلب هو شخص آخر يشبهه. أما إنجيل برنابا فيؤيد النظرية التي تقول أن شخصاً آخر قتل محله على الصليب. و هذا يتفق مع وجهة نظرنا نحن المسلمين. فهنا الشبهة التي حصلت بقتلهم شخصاً آخر يشبهه)).
و مع أن ما قاله لا يمثل وجهة نظر جميع المسلمين إلا أنه لا يتعارض مع القرآن الكريم. إذاً فهذا الكلام ينفي عن ديدات الإعتقاد بصحة نظرية الإغماء السخيفة. لكنه لا يعفيه من تبني تلك النظرية خلال جداله مع النصارى. فلا يجوز للمسلم أن يحتج بما يخالف القرآن الكريم في جداله مع الكفار. خاصة و أن كلام ديدات في مناظراته و كتبه يدعم بشدة تلك النظرية الظالمة التي لا تأبه بتأكيد القرآن الكريم أن المسيح عليه السلام لم يوضع على الصليب.(/1)
و من الملاحظ أن نظرية الإغماء تعتمد كلياً على بعض النصوص الإنجيلية حول قصة صلب المسيح عليه السلام. و تضرب تلك النظرية بعرض الحائط كل النصوص التي ساقها كتبة الإناجيل أنفسهم حول أحداث قيامة المسيح و نزوله من السحاب بعد عملية الصلب و غيرها من الروايات التي لا تتفق أبداً مع فرضية الإغماء تلك. فكيف يصدق أولئك المقلدون روايات الصلب و يكذبون معظم الروايات في أحداث انشقاق حجاب الهيكل والصعود إلى السماء و الملائكة التي تدحرج الحجر عن القبر المفترض للمسيح..إلخ !!؟. يقول إنجيل متى مثلاً واصفاً اللحظة التي فارق فيها المصلوب الحياة ((وإذا حجاب الهيكل قد انشق إلى اثنين من فوق إلى أسفل، والأرض تزلزلت، والصخور تشققت، والقبور تفتحت، وقام كثير من أجساد القديسين الراقدين، وخرجوا من القبور بعد قيامته، ودخلوا المدينة المقدسة، وظهروا لكثيرين - إنجيل متى 27/51 - 53 )). و هذه الأحداث لا يعترف بها أصحاب نظرية الإغماء أبداً فلماذا اعترفوا بتفاصيل عملية الصلب نفسها يا ترى ؟!!!. خاصة و أن الأناجيل نفسها تدعي هرب تلاميذ المسيح قبيل حادثة الصلب المزعومة !!. يقول إنجيل مرقس بخصوص تلاميذ المسيح:((فتركه الجميع وهربوا - مرقس 14/50 )). فإن جاز تصديق التلاميذ لأمكن تصديقهم في أحداث ما بعد الصلب و ليس في أحداث الصلب نفسها. لكن أصحاب نظرية الإغماء يفعلون العكس تماماً. و لا ندري لماذا يلزمنا أصحاب تلك النظرية المتداعية أن نصدق تلك القصة التي لم يحضر أي من رواتها الأصليين الأحداث التي جرت فيها. بل إن اثنين من رواتها الأربعة – و هما مرقس و لوقا -لم يكونا من تلاميذ المسيح عليه السلام أصلاً و لم يروا المسيح أبداً فكيف تقبل شهادتهم في أمر جلل مثل قصة الصلب المزعومة !!. و كيف تقبل تفاصيل تلك القصة مع تناقض رواتها فيها و عدم معرفة الوسيلة التي حصلوا فيها على تلك التفاصيل كلها رغم غيابهم عن الحادثة ؟!!. ناهيك عن التناقضات في النسخ الموجودة للإنجيل الواحد نفسه. يقول أحد المحققين النصارى في تاريخ الأناجيل - اينوك باول - في كتابه " تطور الأناجيل " : ((قصة صلب الرومان للمسيح لم تكن موجودة في النص الأصلي للأناجيل)). وقد استند في ذلك على إعادته ترجمة نسخة إنجيل متى اليونانية، فتبين له أن هناك أجزاء وردت مكررة في هذا الإنجيل، مما يوحي بأنه أعيدت كتابتها في مرحلة تالية.
و نحن إذ نلوم النصارى على تبني بعضهم تلك النظرية الغبية فإننا نستهجن أيما استهجان أن يتبناها من يعلن إسلامه و إيمانه بكل ما أخبر به القرآن الكريم. خاصة و أن من النصارى أنفسهم من اضطر إلى الإعتراف العلني بأن الإنجيل الذي بين أيدينا تعرض إلى التحريف و التبديل. و كلام المحقق اينوك باول مثال واضح على ما نقول. و نضرب على هذا مثالاً آخر و هو ما خلص إليه أصحاب كتاب " The Holy Blood and The Holy Grail" حيث قالوا مثلاً في صفحة 279:
((إن الكتاب المقدس – كما هو عليه اليوم – إن هو إلا نتاج لعملية انتقائية و تعسفية نوعاً ما. ليس هذا و حسب و إنما خضع إلى شيء من التحرير و الحذف و التنقيح)).
و ما صلبوه
و إن كان التناقض هو ظاهر حال أحمد ديدات فيما يتعلق بنظرية الإغماء فإن موقف مترجم كتبه إلى العربية - علي الجوهري – كان واضحاً لا غموض فيه. فقد دافع الجوهري بشدة عن نظرية الإغماء التي ساقها أحمد ديدات في كتابه "صلب المسيح بين الحقيقة و الإفتراء" و الذي ترجمه الجوهري بنفسه إلى العربية. و قد كان الجوهري شديد الحماس لتلك النظرية إلى درجة أنه عاب على المسلمين عدم تبنيها !!. و يرى الجوهري أن هذه النظرية لا تعارض الآية الكريمة ((و ما قتلوه و ما صلبوه و لكن شبه لهم – سورة النساء 157)) و هو بهذا يوافق القاديانيين و اللاهوريين في تفسيراتهم الباطنية للقرآن الكريم. و مما قاله علي الجوهري تأييداً لهذا التفسير الشاذ ما يلي:
((جدير بنا أن ندقق في معنى الفعل المبني للمجهول (صُلب). يقال عن شخص إنه صُلب إذا كان مات على الصليب ويقال عن شخص إنه أُغرق إذا كان قد مات إغراقاً تحت الماء، أما إذا كان حاول بعض الناس إغراق شخص تحت سطح الماء بهدف قتله ولم يمت هذا الشخص تحت الماء لأي سبب فإنهم لم يغرقوه. يجوز أن يكونوا قد شرعوا في قتله بإغراقه، ولكنهم في حقيقة الأمر (ما قتلوه وما أغرقوه(، حيث أنه لم يمت تحت سطح الماء من جراء إغراقهم له، في محاولتهم قتله تحت سطح الماء. وهكذا لو وُضِع شخص على الصليب ولم يمت من جراء الصلب لا يجوز أن نقول عنه أنه صُلب. ربما كان هذا شروعاً في قتله صلباً، ولكنهم (ما صلبوه). كتاب "هل مات المسيح على الصليب؟" ترجمة على الجوهري. ص 16)).(/2)