وهكذا من خلال النقاط السابقة تبين لنا الأصول والضوابط التي كان يسير عليها الشيخ في تعامله مع المخطئين ، ومناقشته للمخالفين وحواره مع المجتهدين . وقد توصلنا إليها بعد استقراء وتأمل لما وقع تحت اليد من آثار له في هذا المجال ، واللافت للنظر أن هذا المنهج بأصوله وضوابطه يكاد يكون ثابتاً عنده سواء ما أملاه قديماً ، أو ما صدر عنه في السنوات الأخيرة ، فلم يزحزحه عنه تشنج كاتب أو تحامله ، ولا عناد مخالف أو تعصبه . كما لم يؤثر عليه فيه تقلب الأحوال ، ولا تبدل الوجوه ، فيا ترى ما الذي أكسب الشيخ – رحمه الله – ذلك المنهج ؟ إن الإجابة على مثل هذا السؤال تفيدنا في اقتفاء أثره ، وترسم خطاه لا نتهاج منهجه ، فهي تتعلق بعلم من الأعلام الذي عاش بيننا عمراً مديداً يُعلم ويُناصح ويدعو ويُدافع ، فكان له حضوره المؤثر سواء على المستوى الرسمي أو الشعبي ، وليس فقط في الداخل وإنما تعدى أثره إلى الخارج .
على ضوء ما قرأته وعرفته من حياة الشيخ – رحمه الله – ومآثره وآثاره ، أستطيع أن أرد تملكه ذلك المنهج إلى عدة أمور توفرت له ، وتميزت بها شخصيته ، منها تعمقه بالعقيدة السلفية الصحيحة ، فالعقيدة المستمدة من الكتاب وصحيح السنة كانت أحب العلوم إليه – كما نقل على لسانه - ، فصار مرجع الجميع في الدقيق منها والجليل ، ولا ريب أن التعمق بالعقيدة السلفية زوده بمنهج أصيل في التعليم والكتابة والتعامل وغيرها ، وعصمه – بعد الله تعالى- من التقلب حسب ما يطرأ من ظروف . ومن الأمور التي توفرت له –أيضاً- علمه الواسع بالسنة المطهرة من حيث المتون وما يرتبط بها من علوم حتى أصبح حكمه على الحديث بالصحة والضعف محل اعتبار واحترام ، فاستفاد من هذا العلم فكرياً وكذلك علمياً إذ طبقه على نفسه ، والذين جالسوه وعاشروه يدركون ذلك . وقد سئل مرة ما الشخص الذي تأثرت به فأصبحت بهذه الرحابة من سعة الصدر والصبر في حل مشاكل الناس والتعامل معهم؟ . فأجاب": الرسول صلوات الله وسلامه عليه ، فهو قدوتنا ، وهو الأساس في هذا ، فكان تحمله كبيراً ، فربما جره الأعرابي من ردائه حتى يؤثر في رقبته ، فيحنو عليه النبي عليه الصلاة والسلام ويضحك ويجيب له طلبه ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحمل أهل البادية والحاضرة فهو أسوة لجميع أهل العلم والمسلمين ثم أصحابه كان لديهم من الحلم والصبر الكثير أيضاً ، كالصديق وعلي وطلحة وغيرهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وكان عمر لديه بعض الحدة لكنه كان أَخْيَر الناس وأصدقهم وأكملهم إيماناً ". وكل مطلع على أقوال ابن باز وكتاباته في تبيين الحق للمخطئين لن يجد شيئاً أسهل من الوقوف في ثناياها على تطبيقه – رحمه الله – للهدي النبوي ، كحسن الظن بالمخطئ وأخذه على ظاهره ، واحترام شخصه ، وعدم الهزء به ، وحب الخير له ، ونحوه مما عرضنا له إجمالاً في معالم منهجه .
ومن الأشياء التي أراها أكسبته ذلك المنهج المتميز هو اختلاطه بالناس على مختلف طبقاتهم ، كبيرهم وصغيرهم ، عالمهم وجاهلهم ، حاكمهم ومحكومهم ، فصارت لديه معرفة في نفسيات الناس ، وكيفية مخاطبتهم والتأثير فيهم ، والأساليب المثلى في توجيههم إلى الخير ، وهدايتهم للطريق القويم .
ولا شك أن معايشته للعديد من التقلبات السياسية والفكرية والاجتماعية التي مرت على العالمين العربي والإسلامي إبان القرن الرابع عشر الهجري وشطر من الخامس عشر – ذات أثر في تشكيل فكره ومن ثم منهجه في الحوار من الآخرين ومناقشته لإطروحاتهم وأفكارهم ، فلقد شهد أحداثاً جساماً كنشوء بعض الدول وسقوط أخرى ، والجهاد العسكري ضد الاستعمار في أكثر من قطر ، واجتياح الدعوات القومية والشيوعية لكثير من البلاد العربية والإسلامية ، وقيام الكيان الصهيوني على أرض فلسطين ، وهزائم العرب أمام ذلك الكيان لا سيما في سنة 1967م ، ثم خفوت الأصوات القومية وتنامى الأصوات الإسلامية ، وتصدي بعض الأنظمة للمد الإسلامي ، والحروب التي قامت بين الدول العربية والإسلامية . وكل ذلك صاحبه –بطبيعة الحال – حوارات ومواجهات ومعارك فكرية واجتماعية بين العلماء وغيرهم في شتى أقطار العرب والمسلمين .
والملاحظ أن ابن باز رحمه الله – حسب علمي – لم تظهر تنبيهاته وكتاباته على الساحة في المجال الذي نتحدث عنه إلا بعد أن جاوز الخمسين من عمره بمعنى أنه حين نضج علمياً وعقلياً ، فصار منهجه في نصح الآخرين والتنبيه على تجاوزاتهم منهج العالم المدقق ، والعاقل الواعي المدرك لخلفيات وأثر ما يقول ويكتب.(/5)
وأعتقد جازماً أن من أهم الأمور التي جعلت لابن باز منهجاً متميزاً في الردود على الخاطئين ، ومناقشته المخالفين الإخلاص الذي تحسه في كلماته ، وتلمسه في كتاباته ، فهو لم يرد على أحد ليقضي عليه ويحطمه ويقفز للشهرة على أكتافه ، ولم يجادل أحداً ليسفه رأيه ويكشف ضآلة علمه ، ولم يكتب ضد فلان لكسب مال أو جاه ، وإنما كان – رحمه الله – يبتغي الحق فيما يقول . وبالرجوع إلى مفردات منهجه التي سبقت تعرف – حتى دون أن تتمعن فيها – صدق إخلاصه . ونضيف هنا أنه يحرص – رحمه الله – على عنونة ردوده على المخالفين بتنبيهات وهذا يوحي بالمقصد الحقيقي من كتاباته في هذا الميدان . وإخلاص الشيخ ونزاهته ، وصدق لهجته ، وسعيه بتجرد وموضوعية لبلوغ الحق إذا حاور غيره أو ناقشه استيقن به العلماء والمنكرون وطلبة العلم ، يقول الدكتور محمد منير الغضبان :" قد يختلف الكثيرون من أهل العلم معه في الرأي ، وقد يختلفون معه حتى في المنهج الذي يمثله في مدرسته ، ولكن لا يختلفون أبداً على الإشادة باستقامته ونزاهته وزهده وتواضعه " ، ويقول الشيخ محمد الغزالي قبل وفاته – رحمه الله – عن ابن باز :" لقد كنت أقول دائماً في عالم سلفي نقي مخلص مثل الشيخ عبدالعزيز بن باز إنه من طلاب الآخرة ، وممن يؤثرون ربهم على دنياهم ، وقد تكون بيننا خلافات فقهية فما قيمة هذا الخلاف وما أثره ؟ إن الأئمة الكبار اختلفوا ، بل إن داود وسلميان قد اختلفا في الحكم ، وهما من هما في النبوة والعلم والحكمة ". ولقد أخبر الشيخ يوسف القرضاوي عما شهده عياناً من طبيعة ابن باز في تلقي وجهات نظر غيره وآرائهم ، فقال :" ولقد رأيته في المجمع الفقهي يستمع وينصت إلى الآراء كلها ، ما يوافقه منها وما يخالفه ، ويتلقاها جميعاً باهتمام ، ويعلق بأدب جم ، ويعارض ما يعارض منها برفق وسماحة دون استعلاء ولا تطاول على أحد ، شادياً بالعلم أو متناهياً ، متأدباً بأدب النبوة ، ومتخلقاً بأخلاق القرآن ".
ولقد ظل العلماء والمفكرون وغيرهم الذين اختلفوا معه في بعض القضايا يحملون له منتهى الاحترام ، وغاية التقدير . يقول القرضاوي – أيضاً - :" ولقد اختلفت مع الشيخ العلامة في بعض المسائل نتيجة لاختلاف الزوايا التي ينظر فيها كل منا ، ومدى تأثر كل منا بزمانه ومكانه إيجاباً وسلباً ، ولم أر أن هذا الاختلاف غيّر نظرتي إليه أو نظرته إلي ، وظللت – والله – أكن له المحبة والتقدير ، وأدعو له بطول العمر في خدمة العلم والإسلام ، وظل كذلك يعاملني بود وحب كلما التقينا ، وكلما لقيه أحد من أبناء قطر حمله السلام إلي – رحمه الله – وأكرم مثواه ". وإذا كانت هذه حال الشيخ ابن باز مع مخالفيه فإننا لا نعجب أن تتأسف بعض الجماعات الإسلامية الغالية في أفكارها على وفاته رحمه الله كما ذكرت ذلك إحدى الصحف ، حيث نقل عن تلك الجماعة قولها : " إن الأمة الإسلامية فقدت واحداً من أبرز علمائها العاملين الزاهدين الذين تشهد فتاواه ومؤلفاته بغزارة العلم ودقة البحث والحرص على الوصول إلى الحق ومعرفة الصواب " ومع أن هذه الجماعة اعترفت بوجود خلافات بينها وبين الشيخ في بعض آرائه :" إلا أنها شهدت بأنه كان يقصد وجه الحق فيما يأتي ، وأنه حريصاً كل الحرص على إصابة الحق في أقواله وأفعاله ..." .
هذا هو منهج الشيخ رحمه الله الذي سلكه في محاورة من اجتهد فأخطأ ، أو حاد عن الصواب ، أو ند عن الطريق ، أو زاغ عن الحق ، ولا شك أنه استمده من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، ثم صاغه بأسلوبه المميز ، وطابعه الخاص ، وبلوره بلورة مناسبة العصر ، فصار مثالاً حياً رائعاً لآداب الإسلام وهديه في معاملة المخالفين بالتي هي أحسن ، وإيصال الحق إليهم بالحكمة والرفق والموعظة الحسنة ، والاستفادة من ذلك في تعميم الخير ونشره بين المسلمين ، فجزاه الله أحسن الجزاء ، وحشرنا وإياه في زمرة الأنبياء والمرسلين والصديقين والشهداء . إنه سميع الدعاء .
(1) آثرنا عدم ذكر الأسماء لأن المقصود بيان منهج الشيخ رحمه الله لا الأشخاص الذين يناقش(/6)
منهج الفاروق في الإدارة
تعد إدارة الفاروق عمر رضي الله عنه للمنجزات الكبيرة التي حققها بروعة وعظمة المواقف -رغم إقبال الدنيا بفتنتها من مال وجاه، وزيادة رقعة الأرض، وكثرة الوافدين إلى دين الله تبارك وتعالى- نموذجا للدراسة والتنقيب والبحث.
وربما اتسم معظم ما كُتب عن الفاروق بأنه كان تاريخيا مهتما بالسرد دون التحليل، وحين النظر إلى هذا التاريخ بمنظار الإدارة ومبادئها وعلومها وفنونها، نجد الفاروق يستند في إدارته إلى مجموعة من الأسس.. فلنتأملها.
1 - الوضوح والدقة:
الإدارة ليست سلطة يتولاها شخص يصبح بموجبها الآمر الناهي، وليست وسيلة بناء مجد شخصي وتحقيق غرض ذاتي، إنما هي مسئولية ينوء بحملها من لهم قوة وعزم... هكذا يفهمها عمر رضي الله عنه، حيث يقول في أول خطبة "أيها الناس، إني قد وليت عليكم، ولولا رجاء أن أكون خيركم لكم وأقواكم عليكم ما توليت ذلك منكم، ولكفى عمرَ انتظار موافقة الحساب...".
ويضيف: "ولن يغيّر الذي وليت من خلافتكم من خُلقي شيئا إن شاء الله، إنما العظمة له وليس للعباد منها شيء، فلا يقولن أحد منكم: إن عمر تغير منذ ولي، أعقل الحق من نفسي وأتقدم". ويقول: "أنا مسئول عن أمانتي، لا أكِلُه إلى أحد إلا الأمناء وأهل النصح منكم، ولست أجعل أمانتي إلى أحد سواهم إن شاء الله".
ومن التحليل الأولي لكلمات عمر يتضح:
1 - الكفاءة والقدرة من العناصر الملازمة لمن يتحمل المسئولية.
2 - تحقيق الأهداف منسجمة مع الجهد واتجاهات العمل لدى المسئولين.
3 - التعاون والمشورة من عوامل تحقيق الأهداف.
4 - العمل تكليف وليس تشريفا وبذلك لا يؤدي لتغير أخلاق المسئول.
5 - توزيع الصلاحيات لا يعفي من تحمل المسئوليات.
.. هذه المبادئ الإدارية لم يطلقها عمر شعارا بل واقعا حيا التزم بها في كافة جوانب سنوات خلافته الراشدة.
2 - تحديد الأهداف والتزامه بتحقيقها:
والأهداف مؤشرات تضيء الطريق أمام تحمل المسئولية، وتساعد على تحقيقها بأقل وقت وجهد وتكاليف.. وتلك حقيقة يدركها عمر منذ اليوم الأول؛ لذا حدد أهداف إدارته، فيقول في أول خطبة له: "ولكم عليَّ أيها الناس خصال أذكرها لكم فخذوني بها، لكم عليَّ ألا أجتبي شيئا من خراجكم ولا مما أفاء الله عليكم إلا من وجهه، ولكم عليَّ إذا وقع في يدي ألا يخرج مني إلا في حقه، ولكم عليَّ أن أزيد عطاياكم وأرزاقكم إن شاء الله وأسد ثغوركم، ولكم عليَّ ألا ألقيكم في المهالك ولا أجمركم في ثغوركم، وإذا غبتم في البعوث فأنا أبو العيال حتى ترجعوا إليهم؛ فاتقوا الله عباد الله وأعينوني على أنفسكم بكفها عني، وأعينوني على نفسي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإحضاري النصيحة فيما ولاني الله من أمركم".
.. يقرر الفاروق عمر رضي الله عنه أهداف الدولة التي يلتزم بها ويحددها بشكل دقيق: عدم إرهاق كاهل الأمة ماليا، وحسن تصريف الأموال، والعمل على تحسين مستوى المعيشة، وحماية الدولة من الاعتداء الخارجي، وتحقيق الاطمئنان النفسي، والرعاية الاجتماعية. وقد كان عمر خير من التزم بتحقيق هذه الأهداف على الوجه الأكمل.
3 - شروط نجاح العمل:
روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: "القوة في العمل ألا تؤخر عمل اليوم لغد، والأمانة ألا تخالف سريرة علانية، واتقوا الله عز وجل...". هذه القواعد الثلاثة الهامة التي أقرها عمر رضي الله عنه التزمها في كافة أعبائه الإدارية، فما أجل عملا إلى غير وقته، وحزم كل أمره حتى اعتقد البعض مركزية القيادة في منهج عمر.
والأمانة كانت العنصر الأساسي في مراحل إدارته للدولة، فكانت خشية الله نصب عينيه، فالتزم التقوى في رعيته.
4 - تحديد الأسلوب الملائم لكل فرد:
من العوامل المساعدة على اتخاذ القرار المناسب فهم خصائص الأفراد والجماعات الذين يشملهم القرار، وفي ممارسة الفاروق لهذا الأساس في إدارته اعتماد معيارين للتمييز بين الأفراد:
أ - الأسبقية في اعتناق الإسلام وممارسة شعائره.
ب - السمات الخاصة بالإنسان.
وقد ورد عنه في ذلك قوله: "لي رأي في هذا المال: لا أجعل من قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم كمن قاتل معه". وقد فضّل في العطاء بني هاشم والذين حضروا بدرا.. وقد فضل أسامة بن زيد في العطاء على ولده عبد الله لحب رسول الله صلى الله عليه وسلم لأسامة وأبيه.
ولم يكن هذا التفضيل في مجال المال فحسب بل كان في مجال الشورى والرأي ومجال الاستقبالات وقضاء الحاجات. وقد ذكر عمر رضي الله عنه في قيادته للعرب قوله: "إنما مثل العرب مثل جمل أَنِف اتبع قائده فلينظر قائده حيث يقوده، فأما أنا فورب الكعبة لأحملنهم على الطريق". وقد التزم عمر هذا المنهج أولا مع ولاته فحملهم على الحق، فكان لا يتردد في التحقيق معهم ومعاقبة المسيء.(/1)
ولم يكن الفاروق متساهلا في الحق حتى في المواقف البسيطة؛ لأن الخطأ البسيط يولد خطأ كبيرا، والتاريخ حافل بالروايات حول بأس عمر وشدته في سبيل إقرار الحق، ولعل منها حادثة جبلة بن الأيهم، وهي دليل صادق على ذلك، كما كان يميز بين الأفراد في مواقفهم الخاصة وتاريخهم الفردي.
5 - إدراك دور القدوة:
من أبرز مشاكل الإدارة المعاصرة غياب النموذج أو القدوة.. وقد كان اهتمام الفاروق بتطبيق القدوة الصالحة والنموذج الأمثل لذلك يقول: "الرعية مؤدية إلى الإمام ما أدى الإمام إلى الله فإن رتع الإمام رتعوا".
ثم حدد علاقته بخزينة الدولة وهي أكثر الجوانب حساسية في العمل الإداري فقال: "إني أنزلت نفسي من مال الله منزلتها من مال اليتيم إن استغنيت استعففت وإن افتقرت أكلت بالمعروف".
وقد التزم ذلك بدقة متناهية فلا ينال من بيت مال المسلمين زيادة عن راتبه إلا إقراضا، وقد ساعده ذلك على إلزام ولاته بهذا المنهج القويم.
ولم يكن يمارس هذا المنهج في المال فحسب بل في كافة شئون الحياة، وليس أدل على ذلك من حادية السمن في عام الرمادة.. وقد كان نموذجا لأهله في ذلك فقرر القاعدة الذهبية "من استعمل رجلا لمودة أو قرابة لا يستعمله إلا لذلك فقد خان الله ورسوله والمؤمنين".
6 - نشر الوعي بين الجمهور حول الأهداف والصلاحيات:
لكي يحدث التفاعل في العملية الإدارية لا بد أن تحقق درجة من الوعي لدى الجمهور.. ويتحقق ذلك الوعي بالمعرفة الواضحة بأهداف المؤسسة والتحديد الدقيق لصلاحيات بمسئوليات أعضاء الهيئة الإدارية؛ تحسبا لاستغلال عدم وضوح رؤية الجمهور بالاستغلال السيئ للصلاحيات والمسئوليات.
ولقد أدرك الفاروق عمر رضي الله عنه أهمية هذا الأساس.. ورغم محدودية وسائل الإعلام في عهد الراشد فإن العزيمة والصدق والأمانة ساهمت في نشر الوعي المطلوب.
فقال: "أيها الناس إني ما أرسل إليكم عمالا ليضربوكم ولا ليأخذوا أموالكم، وإنما أرسلهم إليكم ليعلموكم دينكم وسنتكم، فمن فُعل به شيء سوى ذلك فليرفعه إليَّ فوالذي نفس عمر بيده لأقصنّه منه...". ثم خاطب الولاة قائلا: "ألا لا تضربوا المسلمين فتذلوهم، ولا تحمدوهم فتفتنوهم، ولا تمنعوهم حقوقهم فتكفروهم، ولا تنزلوهم الغياض فتضيعوهم".
كما قال أيضا: "أيما عامل لي ظلم أحدا فبلغني مظلمته فلم أغيرها فأنا ظلمته". وكذلك توضيحه للجمهور أسباب عزله لخالد بن الوليد عن قيادة الجيش تجنبا للفتنة كان يصب في ذات المنهج القويم. ولم تقتصر هذه التوعية على مجال دون آخر بل توعية لكافة المجالات المالية والعسكرية والاجتماعية.
تلك هي أهم الأسس التي قامت عليها إدارة الفاروق عمر رضي الله عنه كان ينفذها رضي الله عنه كمن يقرأ من كتاب فغرس المفاهيم الأولى للإدارة الحقة القائمة على الأمانة والمسئولية والتقوى والقوة معا. وحيث إن الإدارة عمل متواصل يبدأ بتحديد الهدف وينتهي بتحقيقه؛ فقد كان الفاروق خير من مارس الإدارة.
كاتب المقال: د. محمد إبراهيم المدهون
المصدر: إسلام أون لاين(/2)
منهج القرآن في الأمور التي يُستمدّ منها الإيمان (8/10)
د. علي محمد الصلابي 2/7/1426
07/08/2005
بما أن الإيمان أعظم المطالب وأهمها وأعمها، لذلك جعل الله له مواد كبيرة تجلّيه وتقويه، كما أن له أسباباً تضعفه وتوهيه.
والمواد التي تجلّيه وتقوّيه أمران: مجمل ومفصل، أما المجمل فهو: التدبر لآيات الله المتلوّة: من كتاب وسنة، والتأمل لآياته الكونية على اختلاف أنواعها، والحرص على معرفة الحق الذي خُلق له العبد، والعمل بالحق، فجميع الأسباب مرجعها إلى هذا الأصل العظيم.
وأما التفصيل: فالإيمان يحصل ويقوى بأمور كثيرة: منها بل أعظمها:-
1- معرفة أسماء الله الحسنى الواردة في الكتاب والسنة، والحرص على فهم معانيها، والتعبّد لله فيها, قال تعالى: (ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيُجزون ما كانوا يعملون) (1) فالتأمل في أسمائه وصفاته سبحانه وتعالى من منهج الوسطيّة, والإلحاد في أسمائه وصفاته خروج عن منهج الوسطيّة الذي رسمه القرآن (قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيًا ما تدعو فله الأسماء الحسنى ...) (2)والذين يصفون الله بغير ما وصف به نفسه في كتابه أو على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - يلحدون في آيات الله، وهذا انحراف عن الصراط المستقيم. (إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفَوْن علينا...)(3) ولذلك الحرص على معرفة أسماء الله الحسنى وفهم معانيها تزيد الإيمان.
فقد ثبت في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن لله تسعة وتسعين اسماً – مائة إلا واحداً – من أحصاها، دخل الجنة) (4) أي من حفظها، وفهم معانيها، واعتقدها، وتعبّد الله بها دخل الجنة. والجنة لا يدخلها إلا المؤمنون.
فعُلم: أن ذلك أعظم ينبوع ومادة لحصول الإيمان وقوته وثباته، ومعرفة الأسماء الحسنى هي أصل الإيمان، والإيمان يرجع إليها.
ومعرفتها تتضمن أنواع التوحيد الثلاثة: توحيد الربوبيّة، وتوحيد الألوهيّة، وتوحيد الأسماء والصفات، وهذه الأنواع هي روح الإيمان، وأصله وغايته، فكلما ازداد العبد معرفة بأسماء الله وصفاته، ازداد إيمانه وقوي يقينه، فينبغي للمؤمن: أن يبذل مقدوره ومستطاعه في معرفة الأسماء والصفات، وتكون معرفته سالمة من داء التعطيل، ومن داء التمثيل: اللذيْن ابتلي بهما كثير من أهل البدع المخالفة لما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم- بل تكون المعرفة متلقاة من الكتاب والسنة، مما روي عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان، فهذه المعرفة النافعة التي لا يزال صاحبها في زيادة في إيمانه وقوة يقينه، وطمأنينة في أحواله.
ويعجبني في هذا المقام كلام نفيس للعلامة ابن القيم رحمه الله- حيث يقول: ومشهد الأسماء والصفات من أجل المشاهد، والمطلع على هذا المشهد يعرف أن الوجود متعلّق خلقاً وأمراً بالأسماء الحسنى والصفات العلا، ومرتبط بها، وأن كل مما في العالم بما فيه من بعض آثارها ومقتضياتها فاسمه الحميد، المجيد، يمنع ترك الإنسان سُدًى مهملاً معطلاً لا يُؤمر ولا يُنهى، ولا يُثاب ولا يُعاقب، وكذلك اسمه (الحكيم) يأبى ذلك، وهكذا فكل اسم من أسمائه له موجبات، وله صفات لا ينبغي تعطيلها عن كمالها ومقتضياتها، والرب تعالى يحب ذاته وأوصافه وأسماءه، فهو عفو يحب العفو، ويحب المغفرة، ويحب التوبة، ويفرح بتوبة عبده حين يتوب إليه أعظم فرح يخطر بالبال، وكان تقدير ما يغفره ويعفو عن فاعله، ويحلم عنه، ويتوب عليه، ويسامحه بموجب أسمائه وصفاته، وحصول ما يحبه ويرضاه من ذلك. وما يحمد به نفسه ويحمد به أهل سماواته وأهل أرضه، وما هو من موجبات كماله ومقتضى حمده، وهو سبحانه الحميد المجيد، وحمده ومجده يقتضيان ِآثارهما. ومن آثارهما مغفرة الزلات، وإقالة العثرات، والعفو عن السيئات، والمسامحة عن الجنايات، مع كمال القدرة على استيفاء الحق، والعلم منه سبحانه بالجناية ومقدار عقوبتهما، فحلمه بعد علمه، وعفوه بعد قدرته، ومغفرته عن كمال عزته وحكمته كما قال عيسى عليه السلام في القرآن (إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم) (5).
أي مغفرتك عن كمال قدرتك وحكمتك لست كمن يغفر عجزاً، ويسامح جهلاً بقدر الحق، بل أنت عليم بحقك، قادر على استيفائه، حكيم في الأخذ به.(/1)
فمن تأمل سريان آثار الأسماء والصفات في العالم وفي الأمر يتبين له أن مصدر قضاء هذه الجنايات من العبيد، وتقديرها هو من كمال الأسماء والصفات والأفعال، وغايتها أيضا مقتضى حمده ومجده، كما هو مقتضى ربوبيّته وألوهيته. فلله في كل ما قضاه وقدّره الحكمة البالغة، والآيات الباهرة، والله سبحانه دعا عباده إلى معرفته بأسمائه وصفاته، وأمرهم بشكره ومحبته وذكره وتعبده بأسمائه الحسنى وصفاته العلا؛ لأن كل اسم له تعبّد مختص به، علماً ومعرفة وحالاً، وأكمل الناس عبودية: المتعبد بجميع الأسماء والصفات التي يطلع عليها البشر فلا يحجبه اسم عن اسم آخر، كما لا يحجبه التعبد باسمه (القدير) عن التعبد باسمه (الحليم الرحيم)، أو يحجبه عبودية اسمه (المعطي) عن عبودية اسمه (المانع) أو عبودية اسمه(الرحيم، العفو، والغفور) عن اسم (المنتقم)، أو التعبد بأسماء (البر والإحسان واللطف عن أسماء العدل والجبروت، والعظمة والكبرياء، وهذه طريقة الكمال من السائرين إلى الله، وهي طريقة مشتقة من قلب القرآن قال تعالى:(ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها ... ) (6) والدعاء بها يتناول دعاء المسألة ودعاء الثناء ودعاء التعبد (7)، وهو سبحانه يدعو عباده إلى أن يعرفوه بأسمائه وصفاته، ويثنوا عليه بها، ويأخذوا بحظهم من عبوديتها؛ فالله تعالى يحب موجب أسمائه وصفاته، فهو (عليم) يحب كل عليم، وهو (جواد) يحب كل جواد،(وتر) يحب الوتر (جميل يحب الجمال) عفو يحب العفو وأهله، (حيي) يحب الحياء وأهله، (برٌ) يحب الأبرار، (شكور) يحب الشاكرين، (صبور) يحب الصابرين، (حليم) يحب أهل الحلم فلمحبته سبحانه للتوبة والمغفرة، والعفو والصفح, خلق من يغفر لهم ويتوب عليهم ويعفو عنهم، وقدّر عليهم ما يقتضي وقوع المكروه المبغوض له، ليترتب عليه المحبوب له المرضيّ له.
وظهور أسماء الله وصفاته في هذه الحياة وفي النفس البشرية، وفي الكون كله واضح، لا يحتاج إلى دليل، إلا أن الاهتداء إلى تلك الآثار أو الانتباه لها يتوقف على توفيق الله، بل إن التوفيق نفسه من آثار رحمته التي وسعت كل شيء، فلو فكر الإنسان في هذا الكون الفسيح، وفي نفسه لرجع من هذه الجولة الفكرية بعجائب، واستفاد منها فوائد ماكان يحلم بها، ولو تأمّلنا هذه الآية الكريمة لرأينا أموراً نعجز عن التعبير عنها, قال تعالى: (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا تُرجعون، فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم)، ومما يدلل ويؤكد أهمية هذا التوحيد هو ما تثمره أسماء الله وصفاته في قلب المؤمن من زيادة الإيمان ورسوخ في اليقين، وما تجلبه له من النور والبصيرة التي تحصّنه من الشبهات المضللة، والشهوات المحرمة.
فهذا العلم إذا رسخ في القلب أوجب خشية الله لا محالة فلكل اسم من أسماء الله له تأثير معين في القلب والسلوك، فإذا أدرك القلب معنى الاسم وما يتضمنه واستشعر ذلك، تجاوب مع هذه المعاني وانعكست هذه المعرفة على تفكيره وسلوكه.
ولكل صفة عبودية خاصة هي من موجباتها ومقتضياتها فالأسماء الحسنى والصفات العلا مقتضية لآثارها من العبودية، وهذا مطّرد في جميع أنواع العبودية التي على القلب والجوارح فمثلاً: علم العبد بتفرّد الرب تعالى بالضرّ والنفع والعطاء والمنع والخلق والرزق والإحياء والإماتة يثمر له عبودية التوكل عليه باطناً، ولوازم التوكل وثمراته ظاهراً وعلمه بسمعه تعالى وبصره وعلمه أنه لا يخفى عليه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، وأنه يعلم السر وأخفى، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور يثمر له حفظ لسانه وجوارحه وخطرات قلبه عن كل ما لا يُرضي الله، وأن يجعل له تعلّق هذه الأعضاء بما يحبّه الله ويرضاه فيثمر له ذلك الحياء باطناً، ويثمر له الحياء اجتناب المحرمات والقبائح، ومعرفته بغناه وجوده وكرمه وبره وإحسانه ورحمته توجب له سعة الرجاء، ويثمر له ذلك من أنواع العبودية الظاهرة والباطنة بحسب معرفته وعلمه (8).
وكذلك معرفته بجلال الله وعزه تثمر له الخضوع والاستكانة والمحبة، وتثمر له تلك الأحوال الباطنة أنواعاً من العبودية الظاهرة هي موجباته.
وكذلك علمه بكماله وجماله وصفاته العلا، وجب له محبة خاصة بمنزلة أنواع العبودية فرجعت العبودية إلى مقتضى الأسماء والصفات وارتبطت بها (9).
وهذه الأحوال التي تتصف بها القلوب: هي أكمل الأحوال، وأجل وصف يتصف بة القلب وينصبغ به، ولا يزال العبد يمرّن نفسه عليها حتى تنجذب نفسه وروحه بدواعيه منقادة راغبة، وبهذه الأعمال القلبية تكمل الأعمال البدنية فنسأل الله أن يملأ قلوبنا من معرفته ومحبته والإنابة إليه، فإنه أكرم الاكرمين، وأجود الاجودين (10).
|1|2|3|4|5|6|7|8|
--------------------------------------------------------------------------------
1- سورة الأعراف ، آية 180
2- سورة الإسراء ، آية 11
3- سورة فصلت ، آية 40(/2)
4- البخاري مع الفتح ، كتاب الدعوات ، باب لله مائه اسم (ج11/ 218) رقم الحديث 641
5- سورة المائدة آية 118
6- سورة الأعراف آية 180
7- انظر: مدارج السالكين ( ج 2 / 419 )
8- انظر: مفتاح دار السعادة لابن القيم ( ج2/ 90 )
9- انظر: مفتاح دار السعادة لابن القيم ( ج2 /90 )
10- انظر: القواعد الحسنات للسعدي ص (130 )(/3)
منهج المحدثين وأثره في وحدة الصف
أحمد بن عبد الرحمن الصويان*
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً رسوله.. أما بعد:
فإن المتابع للمشهد الدعوي في مختلف البلدان يلمس بجلاء مقدار التصدع والتفرق والتنازع الذي يتجذر في محاضن كثير من الدعاة يوماً بعد آخر، في وقت أجلب فيه العدو الخارجي بخيله ورجله على الأمة، وراح يعبث بعقيدتها وقيمها ومقدراتها السياسية والاقتصادية، ووجد من بني جلدتنا من أهل الأهواء من انتصر له، وفوّق سهامه لضرب الأمة من داخلها في مقاتلها، واجتهد في التربص لها في كل ميدان.
لقد أشغل كثير من الدعاة ببعضهم، وسهل على المتربصين بهم اختراقهم وإضعافهم بلا تفريق. وفي كل نازلة من تلك النوازل تتعالى أصوات الغيورين على أمتهم بضرورة التلاحم ورص الصفوف، ودرء النزاع، تحقيقاً لقول الله تعالى: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا) [سورة الأنفال: 46]. وفي هذه الورقة أتحدث عن: (منهج المحدثين وأثره في وحدة الصف).
ولكن لماذا منهج المحدثين خصوصاً؟
والجواب باختصار شديد: لأن المحدثين من أكثر الناس عناية وتصدراً للحديث في حملة العلم وطوائف الناس، وأسسوا بعملهم هذا منهجاً متميزاً محكماً لم يسبقوا إليه، سمي بعلم (الجرح والتعديل).
وأكثر اختلاف الدعاة وتنازعهم في هذا العصر إنما هو بسبب هجرهم لمناهج الأئمة المتقدمين، وكلام بعضهم ببعض بدون التزام منهجي، وتقصيرهم في معرفة الأحكام الشرعية الواجبة تجاه أخطاء إخوانهم. وبالتأكيد فإنني لا أعني أن نلتزم تطبيق قواعد علم الجرح والتعديل بتفاصيلها عند المحدثين في توصيف الواقع الإسلامي المعاصر والحكم على دعاته؛ وإنما أقصد بذلك إحياء القواعد الكلية التي أرى أنَّ التزامها والعمل بموجبها سيحدّ ـ بإذن الله وفضله ـ كثيراً من أبواب التنازع والتنابذ.
وسينتظم حديثي في هذه الورقة في المباحث الآتية: المبحث الأول: شروط المتكلم في الرجال والطوائف. المبحث الثاني: ضرورة التأني والتثبت. المبحث الثالث: الإنصاف والبعد عن العصبية. المبحث الرابع: الأمانة العلمية عند المحدثين.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطل وارزقنا اجتنابه.. وصلى الله على محمد وآله وسلم.
المبحث الأول
شروط المتكلم في الرجال والطوائف
الحديث في حملة العلم والدعوة شأنه عظيم، والمتصدر له متصدر لمهمة غاية في الحساسية والخطورة، والمتحدث بغير بينة متعرض لغضب الله، قال الله عز وجل: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإثْمًا مُّبِينًا) [سورة الأحزاب: 58].
وقد اشتد نكير النبي صلى الله عليه وسلم على من أطلق لسانه عابثاً بأعراض المسلمين، فقال: ((يا معشر من أسلم بلسانه ولم يدخل الإيمان في قلبه، لا تؤذوا المسلمين، ولا تعيروهم، ولا تتبعوا عوراتهم، فإن من تتبع عورة أخيه؛ تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته؛ يفضحه ولو في جوف رحله))( ).
ولهذا وضع أئمة الحديث قواعد علمية محكمة في الشروط الواجب توافرها في الناقد المتكلم في الرجال وطوائف الناس، حتى لا يدخل في هذا العلم الجليل من ليس من أهله. ومن أهم هذه الشروط:
أولاً: العلم:
فإذا كان الناقد للعلماء والدعاة ضعيف البضاعة، قليل العلم؛ فلا يجوز له أن يتصدر لذلك على الإطلاق، ويجب عليه أن ينأى بنفسه عن هذا المعترك الصعب، فهو ليس من أهله!
قال الذهبي: "الكلام في الرجال لا يجوز إلا لتام المعرفة، تام الورع"( ).
وقال السبكي في معرض حديثه عن شروط الناقد: "وممّا ينبغي أن يتفقد أيضاً: حاله في العلم بالأحكام الشرعية، فرُبَّ جاهل ظن الحلال حراماً فجرح به، ومن هنا أوجب الفقهاء التفسير ليتوضح الحال"( ).
وكم من جاهل بدلالات الألفاظ، واصطلاحات العلوم، وقواعد الدعوة، في عصرنا الحاضر؛ يُغير على غيره من العلماء والدعاة بالجرح والثلب، ويتجاسر على النقد والحكم والتجريح والتعديل!
ولو أنه فتش وتأمل لعلم أنه أخطأ الفهم، وأساء العمل؛ ولهذا قال ابن القيم: "ما أكثر ما ينقل الناس المذاهب الباطلة عن العلماء بالأفهام القاصرة!"( ).
إنَّ ثمة حقيقة ماثلة للعيان وهي أن أعراض العلماء والدعاة، ومواقف الهيئات والمؤسسات الإسلامية، أصبحت كلأً مباحاً يعبث به كل عابث، وكثير من الخلاف الحاصل بين فصائل الصحوة الإسلامية، ناتج عن تصدر بعض الجهلة لمثل هذه المرتقيات الكؤودة، وسعيهم بالقيل والقال بين أهل الفضل والدعوة.(/1)
وحال كثير من هؤلاء كحال ذلك الشاب الذي رآه أحمد بن علي بن الآبار، قال: "رأيت بالأهواز رجلاً حف شاربه، وأظنه قد اشترى كتباً وتعبأ للفُتيا، فذكروا أصحاب الحديث، فقال: ليسوا بشيء وليس يسوون شيئاً، فقلت له: أنت لا تحسن تصلي، قال: أنا! قلت نعم، قلت: إيش تحفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا افتتحت الصلاة ورفعت يديك؟ فسكت. فقلت: وإيش تحفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وضعت يديك على ركبتيك؟ فسكت، قلت: إيش تحفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سجدت؟ فسكت! قلت: مالك لا تكلم؟ ألم أقل لك إنك لا تحسن تصلي؟ إنما قيل لك: تصلي الغداة ركعتين، والظهر أربعاً، فالزم ذا خير لك من أن تذكر أصحاب الحديث، فلست بشيء ولا تحسن شيئاً"( ).
ثانياً: الورع:
يتجرأ بعض الناس فيطلقون الأحكام جزافاً بدون تورع، فيجرحون ويعدلون، ويخطؤون ويصوبون، قبل أن يستوعبوا الأمر ويجمعوا أطرافه.
وحينما تتفلت الألسن من قيودها الشرعية والعقلية، فإنها سوف تتبارى في الوقيعة في أعراض المسلمين، وتجلب العداوة والبغضاء بين الأحباب. ولو تأمل الإنسان ما ورد في مثل هذا الباب من النصوص الشرعية لتردد كثيراً قبل أن يسلّ لسانه ويرمي به هنا وهناك.
قال الله تعالى: (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [سورة ق: 18].
وفي حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه: ((... ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ فقلت: بلى يا نبي الله. فأخذ بلسانه، فقال كُفّ عليك هذا، فقلت: يا رسول الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يكبُّ الناس في النار على وجوههم ـ أو قال: على مناخرهم ـ إلا حصائد ألسنتهم؟))( ).
وأشار ابن القيم إلى فائدة عجيبة قلَّ من ينتبه لها، حيث قال: "ومن العجب أن الإنسان يهون عليه التحفظ والاحتراز من أكل الحرام، والظلم، والزنا، والسرقة، وشرب الخمر، ومن النظر المحرم، وغير ذلك، ويصعب عليه التحفظ من حركة لسانه! حتى يُرى الرجل يشار إليه بالدين والزهد والعبادة، وهو يتكلم بالكلمة من سخط الله لا يُلقي لها بالاً ينزل منها أبعد ممَّا بين المشرق والمغرب. وكم نرى من رجل متورع عن الفواحش والظلم، ولسانه يفري في أعراض الأحياء والأموات لا يبالي ما يقول!"( ).
تأمل ـ يا رعاك الله ـ كلام الإمام ابن القيم، ثم قلّب نظرك في المحاضن الدعوية التي من حولك، وسوف ترى أن أكثر التهارش واللغط والجدل الدائر فيها، إنما هو بسبب قلّة الورع. نسأل الله العفو والعافية. وها هنا موقف ورع كريم يحسن الوقوف عليه:
قال عبد الرحمن بن عمر الأصبهاني: "كنا في مجلس عبد الرحمن بن مهدي، إذ دخل عليه شاب، فما زال حتى أجلسه إلى جنبه. قال: فقام شيخ من المجلس فقال: يا أبا سعيد إن هذا الشاب يتكلم فيك حتى إنه ليكذبك، فقال عبد الرحمن: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.. قال تعالى: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) [سورة فصلت: 34 ــ 35].
ثم قال عبد الرحمن: حدثني أبو عبيدة الناجي قال: كنا في مجلس الحسن البصري إذ قام إليه رجل فقال: يا أبا سعيد إن هاهنا قوما يحضرون مجلسك ليتتبعوا سقط كلامك. فقال الحسن: يا هذا إني أطمعت نفسي في جوار الله فطمعت، وأطمعت نفسي في الحور العين فطمعت، وأطمعت نفسي في السلامة من الناس فلم تطمع، إني لما رأيت الناس لا يرضون عن خالقهم علمت أنهم لا يرضون عن مخلوق مثلهم"( ). من لوازم الورع:
والورع له لوازم كثيرة جداً، أذكر منها: (1) أن يكون الناقد عفيف اللسان، يكسي ألفاظه بأحسن الأدب، ويختار أدلها على المقصود؛ بألطف عبارة، ويربأ بنفسه عن الفظاظة والغلظة ووضيع الكلام، فما كان رسول الله فاحشاً ولا متفحشاً ولا بالبذئ.
قال السخاوي: "وإذا أمكنه الجرح بالإشارة المفهمة، أو بأدنى تصريح، لا تجوز له الزيادة على ذلك، فالأمر المرخص فيها للحاجة لا يُرتقى فيها إلى زائد على ما يُحصل الغرض، وقد روينا عن المزني قال: سمعني الشافعي يوماً وأنا أقول: فلان كذاب، فقال لي: يا إبراهيم! اكس ألفاظك، أحسنها، لا تقل كذاب! ولكن قُلْ: حديثه ليس بشيء.
ونحوه: أن البخاري لمزيد ورعه قلّ أن يقول كذاب أو وضاع، أكثر ما يقول: سكتوا عنه، فيه نظر، تركوه، ونحو هذا، نعم ربما يقول: كذّبه فلان، أو رماه فلان بالكذب"( ). (2) الحرص على ستر المسلمين:
ولا يقوم بذلك إلا من عمر قلبه بخشية الرحمن ـ سبحانه وتعالى ـ، وما أجمل ما قاله أبو بكر الصديق رضي الله عنه: ((لو لم أجد للسارق والزاني وشارب الخمر إلا ثوبي لأحببت أن أستره عليه))( ).(/2)
وعلى هذا المنهج القويم سار أئمة الحديث، فها هو ذا يحيى بن معين، إمام الجرح والتعديل، يقول: "ما رأيت على رجل خطأً إلا سترته، وأحببت أن أزين أمره، وما استقبلت رجلاً في وجهه بأمر يكرهه، ولكن أُبين له خطأه فيما بيني وبينه، فإن قَبِل وإلا تركته"( ).
وهذه القاعدة النفسية لابن معين في غاية الأهمية، لأن ابن معين من أجل أئمة الجرح والتعديل، وأعرفهم بالرجال، ومع ذلك يقول هذه الكلمة التي تلخص منهج أئمة الحديث في التعامل مع أخطاء وزلات أهل العلم والفضل. (3) إذا كان الجرح بسبب واحد يكفي، ويحقق كامل المراد، فلا ينبغي التوسع لغير حاجة، قال السخاوي: "لا يجوز التجريح بسببين إذا حصل واحد. قال العز بن عبد السلام في قواعده: إنه لا يجوز للشاهد أن يجرح بذنبين مهما أمكن الاكتفاء بأحدهما، فإن القدح إنما يجوز للضرورة فليقدر بقدرها، ووافقه القرافي، وهو ظاهر"( ). (4) على الناقد أن يقتصر على المقصود من النقد ولا يتوسع أو يتجاوز ذلك إلى غيره مما ليس له علاقة بالهدف، كالهمز أو اللمز أو الشتم، ولهذا أنكر بعض المحدثين على من قال عن عبد الملك بن مروان: أنه أبخر الفم، لأن هذا ليس مؤثِّراً في الرأي أو الرواية، فلا مصلحة من ذكره( ).
إنَّ المتأمل في ورع المحدثين وتقواهم لله عز وجل يُكبر فيهم هذه الروح المخبتة المنيبة. وأحسب أن شيوع هذه الصفة العزيزة في صفوف الدعاة، وتربيتهم عليها سيقطع ـ بإذن الله تعالى ـ كثيراً من التنابذ والتهارش، وسيسهم كثيراً في توحيد صفوف الدعاة والمصلحين، ويبنيها بناء متماسكاً.
ثالثاً: التجرد والحذر من الهوى:
قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَن تَعْدِلُوا) [سورة النساء: 135]، فالهوى من النوازع الخفية التي تتسلل إلى قلب المرء تدريجياً حتى تسيطر عليه من حيث لا يشعر، وهو باب عريض من أبواب الضلال لا يولّد في أحكام المرء إلا الجور والظلم، أو الغلو في التزكية والمديح، ولهذا أوصى الله عز وجل نبيه داود ـ عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام ـ بالحذر من الهوى، فقال: (يَا دَاوُودُ إنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ) [سورة ص: 26].
لقد تأملت أكثر الخلاف والتنازع الذي يسري في بعض صفوفنا الدعوية والتربوية سريان النار في الهشيم؛ فرأيت أكثره لا يخلو ـ والعياذ بالله تعالى ـ من الهوى الذي لا يزال يصَّاعد ويصّاعد حتى يوغر صدور الدعاة، يدفعها دفعاً للتدابر وإساءة الظن!
ومن وقع في شراك الهوى، انقلبت عنده الموازين، وانتكست عنده الأحكام، وأصبح الحق باطلاً، والباطل حقاً. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وصاحب الهوى يعميه الهوى ويُصمه، فلا يستحضر ما لله ورسوله في ذلك، بل يرضى إذا حصل ما يرضاه بهواه، ويغضب إذا حصل ما يغضب له بهواه، ويكون مع ذلك معه شبهة دين أن الذي يرضى له ويغضب له أنه السنة وأنَّه الحق وهو الدين، فإذا قدّر أن الذي معه هو الحق المحض دين الإسلام، ولم يكن قصده أن يكون الدين كله لله، وأن تكون كلمة الله هي العليا؛ بل قصد الحمية لنفسه وطائفته أو الرياء، ليعظم هو ويثني عليه، أو فعل ذلك شجاعة وطبعاً، أو لغرض من الدنيا، معه حق وباطل، وسنة وبدعة، ومع خصمه حق وباطل، وسنة وبدعة"( ).
وقال ابن القيم: "وعلى المتكلم في هذا الباب وغيره: أن يكون مصدر كلامه عن العلم بالحق، وغايته: النصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولإخوانه المسلمين. وإن جعل الحق تبعاً للهوى: فسد القلب والعمل والحال والطريق.. فالعلم والعدل: أصل كل خير، والظلم والجهل: أصل كل شر، والله ـ تعالى ـ أرسل رسوله بالهدى ودين الحق، وأمره أن يعدل بين الطوائف ولا يتبع هوى أحد منهم.."( ).
وقال ابن ناصر الدين الدمشقي: "هيهات هيهات! إن في مجال الكلام في الرجال عقبات، مرتقيها على خطر، ومرتقيها هوى لا منجى له من الإثم والوزر. فلو حاسب نفسه الرامي أخاه: ما السبب الذي هاج ذلك؟ لتحقق أنَّه الهوى الذي صاحبه هالك"( ).
المبحث الثاني
ضرورة التأني والتثبت
من القواعد العلمية المتفق عليها: أنَّ العلاقات بين الناس، والموقف من الدعاة والمصلحين، يجب أن يبنى على التأني والتثبت، ولا يجوز أن يكون الإنسان عجولاً يُلْقى أحكامه قبل فحصها وتقليبها وعرضها على القواعد والموازين العلمية، فيكون كلامه بعد تمام النظر واستيفاء البحث.
وكم جرَّ التسرع وضعف التثبت والتحري على كثير من الدعاة: المشكلات والنزاعات، التي أوغرت الصدور ومزقت الصفوف!(/3)
قال المعلمي اليماني: "والحكم على العلماء والرواة يحتاج إلى نظر وتدبر وتثبت، أشد مما يحتاج إلى الحكم في كثير من الخصومات، فقد تكون الخصومة في عشرة دراهم، فلا يخشى من الحكم فيها عند الغضب إلا تفويت عشرة دراهم، فأما الحكم على العالم والراوي فيخشى منه تفويت علمٍ كثيرٍ وأحاديث كثيرة، ولو لم يكن إلا حديثاً واحداً لكان عظيماً"( ).
ومن لوازم التثبت:
(1) أن لا يعتمد على الكلام الشائع الذي يلوكه الناس بدون بصيرة أو فهم، فكم من المنقولات التي نسمعها هنا وهناك عن العلماء والدعاة والمصلحين إذا وضعت في ميزان البحث العلمي؛ تبيَّن أنها غير صحيحة، أو غير دقيقة!
والناقل المؤتمن لصدقه لا يقبل قوله بإطلاق، بل لا بد أن يجتمع مع الأمانة سلامة البصيرة واستقامة الفهم.
قال ابن تيمية: "كثير من الناقلين ليس قصده الكذب، لكن المعرفة بحقيقة أقوال الناس من غير نقل ألفاظهم، وسائر ما به يعرف مرادهم قد يتعسر على بعض الناس، ويتعذر على بعضهم"( ).
وقال السبكي: "فكثيراً ما رأيت من يسمع لفظة فيفهمها على غير وجهها، فيُغير على الكتاب والمؤلف ومن عاشره، واستن بسنته، مع أن المؤلف لم يرد ذلك الوجه الذي وصل إليه هذا الرجل..!
فإذا كان الرجل ثقةً ومشهوداً له بالإيمان والاستقامة، لا ينبغي أن يُحْمل كلامه وألفاظ كتاباته على غير ما تعوّد منه ومن أمثاله، بل ينبغي التأويل الصالح، وحسن الظن الواجب به وبأمثاله"( ).
وأحسب أن كثيراً من نقلة الأقاويل بين الدعاة والمصلحين في عصرنا هذا لا يبعد عن كيسان، الذي قال عنه شيخه أبو عبيد: "كيسان يسمع غير ما أقول، ويقول غير ما يسمع، ويكتب غير ما يقول، ويقرأ غير ما يكتب، ويحفظ غير ما يقرأ"( ). (2) إحسان الظن والتماس العذر:
من الناس من يطلق لخياله العنان، ويَصُوغ شتى التصورات التي تنسب إلى الناس التُّهم، وتوقعهم في البلاء.
وسوء الظن يجعل الإنسان يتجه اتجاهاً مغايراً لما أراده الناس، ويقوم بتفسير الكلمات والوقائع بناءً على خلفيات نفسية مبيَّتة، فيُفرّغ كل كلمة من مضمونها ويملؤها بمعان أخرى عديدةٍ ليست من مدلولها، ثم يمارس ـ دون وعي ـ نوعاً من التحليل الفاسد لما يراه ويسمعه، ثم يضخم إحساسه تضخيماً مسرفاً دون أي تحفظ!
قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ) [سورة الحجرات: 12].
ويبدو أن الخلفية النفسية للظن السيء تنبئ بقلبٍ عامرٍ بألوان عديدةٍ من ألوان الفساد: كالأثرة، وحب الذات، والحسد، والرغبة في الوقيعة بأعراض المسلمين.
بينما ترى المرء الذي يحرص على إحسان الظن بإخوانه المسلمين ويلتمس لهم المخارج؛ يمتلئ قلبه حباً للآخرين وإشفاقاً عليهم ورحمة بهم.
ولهذا كان الواجب على العاقل اللبيب إذا سمع ما لم تطمئن له نفسه عن أحد من الدعاة أو العلماء أن يظن بهم خيراً، ويحمل ما سمعه على أحسن المحامل الممكنة، ولا يترك للشيطان فرصة العبث بينه وبين إخوانه، وهذا بابٌ مهمٌ من أبواب وحدة الصفوف، قال الله تعالى بعد حادثة الإفك: (لَوْلا إذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إفْكٌ مُّبِينٌ) [سورة النور: 12].
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ((لا تظن بكلمة خرجت من أخيك المسلم سوءًا وأنت تجد لها في الخير محملاً))( ).
وقال ابن القيم: "والكلمة الواحدة يقولها اثنان، يريد بها أحدهما: أعظم الباطل، ويريد بها الآخر: محض الحق، والاعتبار بطريقة القائل وسيرته ومذهبه، وما يدعو إليه ويناظر عنه"( ). (3) إقالة عثرات ذوي الهيئات: ومن لوازم التأني: إقالة عثرات ذوي الهيئات، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أقال عثرةً؛ أقاله اللّه يوم القيامة))( ).
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود))( ).
قال الإمام الشافعي: "ذووا الهيئات الذين يقالون عثراتهم: الذين ليسوا يُعرفون بالشر فيزل أحدهم الزلة"( ).
وقال ابن القيم: "الظاهر أنهم ذووا الأقدار بين الناس من الجاه والشرف والسؤدد، فإن اللّه تعالى خصهم بنوع تكريمٍ وتفضيلٍ على بني جنسهم، فمن كان مستوراً مشهوراً بالخير حتى كبا به جواده، ونبا غضب صبره، وأديل عليه شيطانه؛ فلا تسارع إلى تأنيبه وعقوبته، بل تقال عثرته ما لم يكن حداً من حدود الله، فإنه يتعيَّن استيفاؤه من الشريف، كما يتعيَّن أخذه من الوضيع.
وهذا بابٌ من أبواب محاسن الشريعة الكاملة وسياستها للعالم، وانتظامها لمصالح العباد في المعاش والمعاد"( ).(/4)
وهذه القاعدة تحفظ لعلمائنا ودعاتنا أقدارهم؛ فليس كل زلّة عارضة توجب إسقاطهم، ولو عملنا بها لقطعنا السبيل على كثير من المتسرعين الذين يفرحون بمثل هذه السقطات، ويشيعونها، وقد قالها مدوية الحسن بن سفيان ـ وهو من أئمة المحدثين ـ لأحد تلاميذه بعد أن أثقل عليه: "اتق الله في المشايخ، فربما استجيبت فيك دعوة!"( ).
المبحث الثالث
الإنصاف والبعد عن العصبية
قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [سورة المائدة: 8].
منهجٌ دقيق يُمثّل جميع صور القسط والعدل مع القريب والبعيد، وينهى عن جميع صور الجور والظلم مع كلِّ أحد، فـ "الظلم محرم بكل حال، فلا يحل لأحد أن يظلم أحداً، ولو كان كافراً"( ).
ومن لطائف هذا الباب ما رواه جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: ((أفاء الله ـ عز وجل ـ خيبر على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما كانوا، وجعلها بينه وبينهم، فبعث عبد الله بن رواحة فخرصها عليهم، ثم قال لهم: يا معشر اليهود أنتم أبغض الخلق إليّ، قتلتم أنبياء الله ـ عز وجل ـ، وكذبتم على الله، وليس يحملني بغضي إياكم أن أحيف عليكم، قد خرصت عشرين ألف وسقٍ من تَمْرٍ، فإن شئتم فلكم، وإن أبيتم فلي، فقالوا: بهذا قامت السموات والأرض، قد أخذنا فاخرجوا عنا))( ).
وفي عصرنا هذا الذي عزّ فيه الإنصاف، يحتاج الداعية إلى الرجوع إلى منهج المحدثين ليزن الأمور كلها بالميزان القسط، حيث أصبحت الأهواء هي التي تتحكم في الآراء والتوجهات، حتى إن الإنسان قد يتغاضى عن أخطاء من يحب ـ مهما كانت كبيرة ـ ويزينها، بل تتحول هذه الأخطاء إلى محاسن ويجعل محبوبه في أعلى المنازل ولا يقبل فيه نقداً أو مراجعة!
وفي المقابل تراه إذا أبغض أحداً ـ لهوى في نفسه أو تقليداً لغيره ـ جرّده من جميع الفضائل، ولم ينظر إلا إلى سيئاته وزلاته يضخمها، وينسى أو يتناسى محاسنه الأخرى مهما كانت بيِّنة، بل قد تتحول المحاسن ـ المتفق على حسنها ـ إلى سيئات، لغلبة الهوى والبغض، والعياذ بالله!
قال الإمام ابن القيم: "واللّه ـ تعالى ـ يحب الإنصاف، بل هو أفضل حِلية تحلّى بها الرجل، خصوصاً من نَصَّب نفسه حكماً بين الأقوال والمذاهب، وقد قال الله ـ تعالى ـ لرسوله: (وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ) [سورة الشورى: 15]. فورثة الرسول منصبهم العدل بين الطوائف، وألا يميل أحدهم مع قريبه وذوي مذهبه وطائفته ومتبوعه؛ بل يكون الحق مطلوبه يسير بسيره، وينْزِل بنزوله، يَدِين العدل والإنصاف، ويُحكِم الحجة، وما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فهو العلم الذي قد شمّر إليه، ومطلوبه الذي يحوم بطلبه عليه، ولا يثني عنانه عنه عذل عاذل، ولا تأخذه فيه لومة لائم، ولا يعيده عنه قول قائل"( ).
ومن لطائف الإنصاف ذلك الحوار الماتع بين المِسْور بن مخرمة ومعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهم، قال الزهري: "حدثني عروة أن المِسْور بن مخرمة أخبره أنه وفَد على معاوية، فقضى حاجته، ثم خلا به، فقال: يامِسْور، ما فعل طعنك على الأئمة؟ قال: دعْنا من هذا وأحسِن. قال: لا واللّه، لتكلِّمني بذات نفسك بالذي تعيب علَّي، قال مِسْور: فلم أترك شيئاً أعيبُه عليه إلا بيَّنتُ له. فقال: لا أبرأ من الذنب، فهل تعُدُّ لنا يا مسور ما نلي من الإصلاح في أمر العامَّة، فإنَّ الحسنة بعشر أمثالها، أم تعُدُّ الذنوب وتترك المحاسن؟ قال: ما تُذكر إلا الذنوب. قال معاوية: فإنَّا نعترف للّه بكل ذنب أذنبناه، فهل لك يا مسور ذنوبٌ في خاصتك تخشى بأن تَهْلك إن لم تُغْفَر؟ قال: نعم. قال: فما يجعلك الله برجاء المغفرة أحقَّ مني، فوالله ما ألي من الإصلاح أكثر مما تلي، ولكن والله لا أُخيَّر بين أمرين، بين الله وبين غيره، إلا اخترت الله على ما سواه، وإني على دين يُقبل فيه العمل ويُجزى فيه بالحسنات، ويجزى فيه بالذنوب إلا أن يعفو الله عنها، قال: فخصمني. قال عروة: فلم أسمع المسور ذكر معاوية إلا صلَّى عليه"( ).
يا سبحان الله! أرأيتم كيف أن الإنصاف سببٌ للمِّ الشَّعْث وتقارب القلوب؟
لوازم الإنصاف:
(1) قبول الحق من كل من قاله:(/5)
فالحق ضالة المؤمن، يَقْبله من كل من قاله كائناً من كان، ومن أدلة هذا الباب: ما روته قتيلة بنت صيفي رضي الله عنها قالت: ((أتى حبرٌ من الأحبار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد! نِعْم القوم أنتم لولا أنكم تشركون. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سبحان الله وما ذاك؟ قال: تقولون إذا حلفتم والكعبة، قالت: فأمهل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً، ثم قال: إنه قد قال، فمن حلف فليحلف برَبِّ الكعبة. قال: يا محمد! نِعْم القوم أنتم لولا أنكم تجعلون لله نداً، قال: سبحان الله وما ذاك؟ قال: تقولون ما شاء وشئت.
قالت: فأمهل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً ثم قال: إنه قد قال، فمن قال ما شاء الله فليفصل بينهما: ثم شئت))( ).
قال ابن تيمية: "والله قد أمرنا ألا نقول عليه إلا الحق، وألا نقول عليه إلا بعلمٍ، وأمرنا بالعدل والقسط، فلا يجوز لنا إذا قال يهودي أو نصراني ـ فضلاً عن الرافضي ـ قولاً فيه حَقٌّ أن نتركه أو نَرُّّده كله، بل لا نرد إلا ما فيه الباطل دون ما فيه من الحق"( ).
(2) الخطأ اليسير في جنب الصواب الكثير مغفورٌ:
فالإنصاف يقتضي اغتفار الأخطاء اليسيرات للعلماء الدعاة والمصلحين، قال ابن القيم: "من قواعد الشرع والحكمة أيضاً: أن من كثرت حسناته وعظمت، وكان له في الإسلام تأثيرٌ ظاهرٌ، فإنه يحتمل له ما لا يحتمل لغيره، ويعفى عنه ما لا يعفى عن غيره، فإن المعصية خَبثُ، والماء إذا بلغ القلتين لم يحمل الخَبَث، بخلاف الماء القليل فإنه يحمل أدنى خبث.." إلى أن قال: "وهذا أمرٌ معلومٌ عند الناس مستقرٌّ في فطرهم: أنه من له ألوف من الحسنات فإنه يسامح بالسيئة والسيئتين ونحوها، حتى إنه ليختلج داعي عقوبته على إساءته، وداعي شكره على إحسانه، فيغلب داعي الشكر لداعي العقوبة كما قيل:
وإذا الحبيب أتى بذنب واحد***جاءت محاسنه بألف شفيع"( )
ومن الأدواء المحزنة أن بعض الجهلة لا يرى إلا الأخطاء مهما كانت صغيرة، ويحرص على تتبع سقط العلماء والدعاة والعياذ بالله، وهذا الداء سببٌ ظاهرٌ ملموسٌ من أسباب التفرق واختلاف القلوب، وقد شبّه إمام المحدثين سفيان بن عيينة القوم الذين يتصيدون العثرات، ويكتمون الخيرات تشبيهاً شديداً، قال فيهم: "ومنهم من يشبه الخنازير التي لو ألقي لها الطعام الطيب عافته، فإذا قام عن رجيعه ولغت فيه، فكذلك تجد من الآدميين من لو سمع خمسين حكمة لم يحفظ واحدة منها، فإذا أخطأ الرجل عن نفسه أو حكى غيره، تروّاه وحفظه!"( ).
وذكر ابن تيمية: "أن الجاهل بمنزلة الذباب الذي لا يقع إلا على العقير ـ يعني الجريح ـ ولا يقع على الصحيح"، ثم قال: "والعاقل يزن الأمور جميعاً: هذا وهذا"( ).
(3) الحذر من التقليد والعصبية الحزبية:
وهذه آفة ٌمن أشد الآفات، وكثيرٌ من النزاعات والخلافات التي َتحْدُث بين العلماء وطلبة العلم والدعاة قديماً وحديثاً، إنما هي بسبب العصبية الحزبية والتقليد الأعمى للشيوخ.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من نصر قومه على غير الحق؛ فهو كالبعير الذي رُدِّي، فهو يُنزع بذنبه))( ).
تأمل الواقع الدعوي بإنصاف، وسوف تقف على داءٍ خطيرٍ ينخر في الصفوف نخراً شديداً!
ولقد كان التعصب في التاريخ الإسلامي يتلبس بلباس المذهبية الفقهية، فأضحى في عصرنا الحاضر يتلبس بلباس الحزبية.
والتربية الحزبية التي درج عليها بعض العاملين للإسلام ـ غفر الله لنا ولهم ـ مِعْول هَدْمٍ يُعطل عقل الإنسان، ويقتل ملكات الإبداع والتفكير، ويا أسفي الشديد على أقوام جرّهم التعصب وتقليد الرجال إلى كتم الحق، وتحريف الأخبار، والاشتغال بالأعراض، وتمزيق الصفوف.. والله المستعان!
قال السبكي: "الجارح لا يُقْبل منه الجرح وإن فسر، إذا كانت هناك قرينة يشهد العقل بأن مثلها حامل على الوقيعة في الذي جرحه من تعصب مذهبي أو منافسةٍ، كما يكون من النظراء أو غير ذلك"( ).
وقد ذكر ابن القيم قاعدةً جامعةً، قال فيها: "عادتنا في مسائل الدِّين كلها دِقِّها وجلّها، أن نقول بموجبها، ولا نضرب بعضها ببعض، ولا نتعصب لطائفةٍ على طائفة، بل نوافق كل طائفةٍ على ما معها من الحق، ونخالفها فيما معها من خلاف الحق، لا نستثني من ذلك طائفةً ولا مقالةً"( ).
ولو أن هذه القاعدة صارت شعاراً لجميع الدعاة في هذا العصر لرأينا خيراً كثيراً، ولسلمنا من كثيرٍ من الافتراق والتنازع.
المبحث الرابع
الأمانة العلمية عند المحدثين(/6)
رسم أئمة الحديث منهجاً متميزاً تكاملت أصوله، وتآلفت فروعه، بلغ الغاية في الدقة والإتقان. وكان من ثمرات هذا الجهد المبارك العشرات من كتب الجرح والتعديل. ولعل من أبرز الملامح التي يشهدها المطالع في هذه الكتب: الأمانة العلمية في الحكم على الرجال والطوائف، وخذ أي كتابٍ شئت من كتب الرجال الأصلية وادرس تراجمه، وسوف تجد هذه الحقيقة ماثلة بين يديك لا مراء فيها ولا جدال. والحق أن أمانة المحدثين جديرةٌ بالتأمل العميق، والدراسة المفصلة، ولكن أكتفي هنا بذكر بعض المسائل المتعلقة بهذا الباب:
أولاً: العدل في الرضا والغضب( ):
من الأمثلة البليغة ما رواه أبو محمد فوزان، قال: "جاء رجلٌ إلى أحمد بن حنبل فقال له: نكتب عن محمد بن منصور الطوسي؟ فقال: إذا لم نكتب عن محمد بن منصور، فعمن يكون ذلك ـ مراراً ـ؟ فقال له الرجل: إنه يتكلم فيك: فقال أحمد: رجلٌ صالحٌ ابتلى فينا، فما نعمل؟"( ).
فالإمام أحمد لم ينتصر لنفسه، أو يغير حكمه لهوى طرأ عليه، وبهذا يحفظ الدِّين. قال أبو العباس الواسطي: "ومن براهين المحق: أن يكون عدلاً في مدحه، عدلاً في ذمه، لا يحمله الهوى عند وجود المراد على الإفراط في المدح، ولا يحمله الهوى عند تعذر المقصود على نسيان الفضائل والمناقب وتعديد المساوئ والمثالب. فالمحق في حالتي غضبه ورضاه ثابتٌ على مدح من مدحه وأثنى عليه، ثابتٌ على ذم من ثلبه وحط عليه"( ).
ثانياً: ذكر ما للرجل من الخير وما عليه:
من تمام الأمانة العلمية عند المحدثين حرصهم على استيفاء الحكم على الرواة بذكر مالهم وما عليهم، والقاعدة الجامعة في هذه المسألة ذكرها الخطيب البغدادي، حيث قال: "إذا اجتمع في أخبار رجلٍ واحدٍ معانٍ مختلفةٍ من المحاسن والمناقب، والمطاعن والمثالب، وجب كَتْب الجميع ونقله، وذِكْر الكل ونشره"( ). ولهذا انتقد الذهبي كتاب الضعفاء لابن الجوزي لذكره الجرح دون التعديل، فقال في ترجمة أبان العطار: "أورده العلامة ابن الجوزي في الضعفاء، ولم يذكر فيه أقوال من وثَّقه، وهذا من عيوب كتابه: يسرد الجرح، ويسكت عن التوثيق"( ).
ثالثاً: العبرة بالأمر الغالب:
إذا تقرر ما سبق ذكره من ضرورة ذكر ما للرجل وما عليه، فإن العبرة بالأمر الغالب من حاله، ولهذا قال الإمام الشافعي: "إذا كان الأغلب الطاعة فهو المعدَّل، وإذا كان الأغلب المعصية فهو المجرح"( ).
وقال الذهبي: "... ثم إن الكبير من أئمة العلم إذا كثر صوابه، وعلم تحريه للحق، واتسع علمه، وظهر ذكاؤه، وعرف صلاحه وورعه واتباعه: يغفر زلله، ولا نضلله ونطرحه وننسى محاسنه، نعم ولا نقتدي به في بدعته وخطئه، ونرجو له التوبة من ذلك"( ).
وليس من الأمانة العلمية أو الموضوعية أن يسقط العالم أو الداعية لخطأ أو خطأين وقع فيهما، وتنسى محاسنه الأخرى، كما يحدث كثيراً عند بعض الدعاة وطلبة العلم في هذا العصر.
وفي هذا الباب موقفٌ لطيفٌ فيه عبرةٌ كبيرةٌ: قال الحميدي: "كان أحمد بن حنبل قد أقام عندنا بمكة على سفيان بن عيينة، فقال لي ذات يوم: ها هنا رجل من قريشٍ له بيانٌ ومعرفةٌ، فقلت له: فمن هو؟ قال: محمد بن إدريس الشافعي، وكان أحمد قد جالسه بالعراق، فلم يزل بي حتى اجترني إليه.
وكان الشافعي قِبالة الميزاب فجلسنا إليه، ودارت مسائل، فلما قمنا، قال لي أحمد بن حنبل: كيف رأيت؟ فجعلت أتتبع ما كان أخطأ فيه ــ وكان ذلك مني بالقرشية (يعني: الحسد) ــ فقال لي أحمد: فأنت لا ترضى أن يكون رجلٌ من قريشٍ يكون له هذه المعرفة وهذا البيان ــ أو نحو هذا القول ــ تمرُّ مائة مسألةٍ يخطئ خمساً أو عشراً، اترك ما أخطأ وخذ ما أصاب!"( ).
رابعاً: العدل مع الموافق والمخالف:
تحقيقاً لقول الله عز وجل: (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى) [سورة المائدة: 2].
قال ابن تيمية: "والرافضة فيهم من هو متعبدٌ متورعٌ زاهدٌ، لكن ليسوا في ذلك مثل غيرهم من أهل الأهواء، فالمعتزلة أعقل منهم وأقرب إلى الصدق والعدل والعلم. وليس في أهل الأهواء أصدق ولا أعبد من الخوارج، ومع هذا فأهل السنَّة يستعملون معهم العدل والإنصاف ولا يظلمونهم، فإنَّ الظلم حرامٌ مطلقاً كما تقدم، بل أهل السنَّة لكلِّ طائفة من هؤلاء خيرٌ من بعضهم لبعض، بل هم للرافضة خيرٌ وأعدل من بعض الرافضة لبعض.
وهذا ممَّا يعترفون هم به، ويقولون: أنتم تنصفوننا مالا يُنصف بعضنا بعضًا. وهذا لأن الأصل الذي اشتركوا فيه أصلٌ فاسدٌ مبنيٌّ على جهلٍ وظلمٍ، وهم مشتركون في ظلم سائر المسلمين، فصاروا بمنزلة قطاع الطريق المشتركين في ظلم الناس. ولا ريب أنَّ المسلم العالم العادل أعدل عليهم وعلى بعضهم من بعض"( ).
وتفريعات هذه المسألة كثيرةٌ جداً، أذكر منها:
(1) تضعيف الناقد لأقاربه:(/7)
من تمام الأمانة العلمية أن الناقد قد يُضعف أباه أو ولده أو قريبه إذا كان يستحق ذلك، لا يداري في ذلك أو يداهن، والأمثلة كثيرةٌ على هذا، منها: قول شعبة: "لو حابيت أحداً لحابيت هشام بن حسان، كان ختني ولم يكن يحفظ"( ).
وسُئل علي بن المديني عن أبيه، فقال: اسألوا غيري، فقالوا: سألناك، فأطرق، ثم رفع رأسه وقال: "هذا هو الدِّين، أبي ضعيفٌ"( ).
(2) تضعيف النقاد لرواية بعض الصالحين:
وضع أئمة الحديث قواعد محكمةٍ في بيان من تُقْبَل روايته ومن تُردّ، ولم يحابوا في ذلك أحداً، ولهذا ضعفوا أحاديث بعض الصالحين الذابين عن الدِّين، لأنهم ليسوا أهل رواية، فقبلوا ديانتهم وصدقهم، وردوا روايتهم لضعف حفظهم، فأعطوا كل ذي حق حقه، وهذه هي الموضوعية التي تحفظ للناس أقدارهم، فعن أبي الزناد قال: "أدركت بالمدينة مائة كلهم مأمون، ما يؤخذ عنهم الحديث، يقال: ليس من أهله"( ).
وقال الإمام مالك بن أنس: "إن هذا العلم دِينٌ فانظروا عمّن تأخذون دينكم، لقد أدركت سبعين عند هذه الأساطين ــ وأشار إلى مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم ــ يقولون: قال رسول الله، فما أخذت عنهم شيئاً، وإن أحدهم لو ائتمن على بيت مال لكان به أميناً، إلا أنهم لم يكونوا من أهل هذا الشأن، ويقوم علينا محمد بن مسلم بن عبد الله بن شهاب، وهو شابٌ فنزدحم على بابه"( ).
وأين هذه المواقف العظيمة لأئمة الحديث من بعض الدعاة في عصرنا هذا الذي يُزَكُّون فيه بإطلاق فئاماً من الناس بسبب الرابطة الحزبية أو المناطقية، ويجرحون آخرين من أهل الفضل والصلاح لأنهم ليسوا من أصحابهم؟
خامساً: كلام الأقران يطوي ولا يروى
قد يحصل أحياناً بين بعض الأقران شيء من الاختلاف فيؤدي ذلك إلى وقوع بعضهم ببعض بدون تأنٍ، من أجل ذلك كان النقاد الجهابذة من المحدثين يهملون هذا الجرح بين الأقران إذا تبين لهم أنه ناتجٌ عن نزاعاتٍ شخصيةٍ أو تحاسد، قال الذهبي: "كلام الأقران بعضه في بعض لا يعبأ به، لا سيما إذا لاح ذلك أنه لعداوةٍ أو لمذهبٍ أو لحسدٍ، وما ينجو منه إلا من عصمه الله، وما عَلِمت أن عصراً من الأعصار سَلِم أهله من ذلك سوى الأنبياء والصديقين، ولو شئت لسردت من ذلك كراريس"( ).
وقال أيضاً: "لسنا ندعي في أئمة الجرح والتعديل العصمة من الغلط النادر، ولا من الكلام بنَفَس حاد فيمن بينهم وبينه شحناء وإحنة، وقد علم أن كثيراً من كلام الأقران بعضهم في بعض مهدرٌ لا عبرة فيه، ولا سيما إذا وَثَّق الرجل جماعة يلوح على قولهم الإنصاف"( ).
وهذه القاعدة النفيسة لو أنها أعملت في كثيرٍ من النزاعات التي تحدث بين بعض أقران العلماء أو الدعاة في عصرنا؛ لاطَّرحنا كثيراً من النزاع والجدل الذي نسمعه أحياناً هنا أو هناك.
الخاتمة
أحسب أنَّ المنهج النقدي عن المحدثين عامرٌ بالقواعد والأصول العلمية التي تربي الدارسين على الاتزان والموضوعية، وتضبط طريقة التفكير الذي غَشِيته ــ عند كثير من الناس ــ غاشية الجهالة والأهواء، وتعالج كثيراً من الخلل والاضطراب في صفوف الدعاة والمصلحين.
وإحياء ما اندرس من هذا المنهج طريقٌ ممهِّدٌ ــ بإذن الله تعالى ــ إلى وحدة الصف، كما أن إشاعة العلم بتلك الأصول والقواعد في أوساط الدعاة وطلبة العلم لها أثرٌ كبيرٌ في تجسير العلاقة بينهم بالحسنى، وردم الهوة السحيقة التي تزداد تجذراً في الواقع الدعوي الذي نعيشه، وإزالة كثير من الخلافات التي ليس لها حظ من الأثر أو النظر.
أسأل الله ــ عز وجل ــ بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى، أن يعيذنا من مضلات الأهواء والفتن، وأن يجمع قلوبنا على الطاعة.
وصلى الله وسلم على محمد وآله وسلم.
* رئيس تحرير مجلة البيان(/8)
منهج النبي صلى الله عليه وسلم في مواجهة الشدائد (1 من 4)
أحمد زهران(@)
شدائد الحياة كثيرة، منها ما يصيب الإنسان في نفسه وبدنه، ومنها ما يصيبه في ماله وولده، ومنها ما يصيبه في أهله وزوجه..
وإلى ذلك كله أشار القرآن الكريم: ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين (155) (البقرة).
وقوله: لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور 186 (آل عمران).
ولقد استبانت طبيعة الطريق للنبي صلى الله عليه وسلم من أول البعثة، حينما خاطبه ورقة بن نوفل قائلاً: ".. يا ليتني فيها جذعًا.. ليتني أكون حيًا؛ إذ يخرجك قومك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أومخرجيَّ هُم؟ فيقول ورقة: نعم؛ لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عُودي، وإن يُدركني يومك أنصرك نصرًا مؤزرًا"(1).
ومن يومها واجه رسول الله صلى الله عليه وسلم جهالات قومه، وتعرض لأذاهم، وأصابه ما أصابه منهم من صَدٍّ وتكذيب وسخرية واستهزاء، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر ما لاقاه من أذى قريش قبل أن ينال الأذى أحدًا من أتباعه، يقول: "لقد أخفتُ في الله (عز وجل) وما يخاف أحد، ولقد أوذيت في الله وما يُؤذي أحد، ولقد أتت عليّ ثلاثون من بين يوم وليلة، ومالي ولبلال طعام يأكله ذو كبد إلا شيء يواريه إبط بلال"(2).
ولما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلي المدينة تحول الإيذاء من الأذى والشتم والسخرية والحصار والضرب إلى مواجهة عسكرية مسلحة، فكان ذلك بلاء في الأموال والأنفس على السواء.. بل كانت فترة رسالته صلى الله عليه وسلم كلها سلسلة متصلة من المحن والابتلاء.
والدعاة اليوم يتعرضون لما تعرض له النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، من سجن واعتقال وتعذيب ومصادرة للأموال والممتلكات، وتنصت على الأحاديث والمكالمات، ومراقبة لكافة التحركات، وتعطيل للأعمال وتفتيش للبيوت، أضف إلى ذلك إثارة غبار الشبهات وظلم الاتهامات بالدعوة والدعاة.
وإذا كان الأمر كذلك، فلابد لنا من مراجعة لسنة النبي صلى الله عليه وسلم كيف واجه هذه الشدائد، وكيف حوّلها واستخدمها لخدمة الدعوة بعد أن كانت موجّهة لمحاربتها؟
وفي النقاط التالية استعراض لأهم ملامح هذا المنهج النبوي الكريم:
أولاً التذكير بالأجر والثواب:
فرجاء مثوبة الله، وغفران الذنوب والخطايا من النعم التي ينعم الله بها على عباده المؤمنين، فعن أبي سعيد الخدري (رضي الله عنه) قلت: يا رسول الله أي الناس أشد بلاءً؟ قال: "الأنبياء ثم الأمثل، فالأمثل، يُبتلى الرجل على حَسَب دينه، فإن كان في دينه صُلبًا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة"(3).
والمؤمن يوقن بأن ما ينزل به من مصائب ليس ضربات عجماء، ولا خبط عشواء، ولكنه وفق قدر معلوم، وقضاء مرسوم، وحكمة أزلية، فآمنوا بأن ما أصابهم لم يكن ليخطئهم، وما أخطأهم لم يكن ليصيبهم ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير 22 (الحديد).
كما يوقن المسلم بأْن هذه الشدائد دروس قيّمة ، وتجارب نافعة، تُنضج نفسه، وتُصقل إيمانه، وتُذهب صدأ قلبه، كما ورد في الأثر: "مثل المؤمن تصيبه الوعكة من البلاء كمثل الحديدة تدخل النار فيذهب خبثها ويبقى طيبها".
وما أبلغ ما قاله الرافعي: "ما أشبه النكبة بالبيضة، تُحسب سجنًا لما فيها وهي تحوطه، وتُربيه وتُعينه على تمامه، وليس عليه إلا الصبر إلى مدة، والرضا إلى غاية، ثم تنفق البيضة، فيخرج خلق آخر.. وما المؤمن في دنياه إلا كالفرخ في بيضته: عمله أن يتكوّن فيها، وتمامه أن ينبثق شخصه الكامل فيخرج إلى عالمه الكامل..
ومن مظاهر هذا اللطف والرحمة الإلهية، ما عرفه أحد السلف حين قال: "ما أُصبت في دنياي بمصيبة إلا رأيت لله فيها ثلاث نعم: أنها لم تكن في ديني، وأنها لم تكن أكبر منها، وأنني أرجو ثواب الله عليها.
وتلك نعم تُلابس كل مصيبة في دنيا الناس، جديرة أن تُشعر المؤمن بشعور الشكر لله، فضلاً عن الرضا بقضائه، والصبر على بلائه"(4).
ثانيًا الدعاء والتضرع إلى الله تعالى:
الدعاء من أقوى الأسباب في دفع المكروه وحصول المطلوب، وهو سلاح المؤمن.
وقد شرع رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته أن يطلبوا النصر والتمكين من رب العالمين، وبيَّن منزلة الدعاء بأنه هو العبادة، وأنه مخ العبادة، وحذر من التفريط أو التساهل في هذا الأمر، فقال: "من لم يسأل الله يغضب عليه"(5).(/1)
وفي أوقات الكروب والشدائد، شرع لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الدعاء بدعوات معينة، ففي جامع الترمذي من حديث أبي هريرة (رضي الله عنه) أن النبي صلى الله عليه وسلم : "كان إذا أهمّه الأمر رفع رأسه إلى السماء، وإذا أجهد في الدعاء قال: يا حي يا قيوم". وفيه أيضًا من حديث أنس بن مالك، قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر قال: يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث".
وفي الصحيحين من حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول عند الكرب: "لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السماوات السبع ورب الأرض ورب العرش الكريم".
وقال ابن مسعود (رضي الله عنه): "ما كرب نبي من الأنبياء إلا استغاث بالتسبيح"(6).
وفي الساحة العملية طبق رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شرعه لأصحابه، معلمًا إياهم أن الأمر كله بيد الله وحده لتظل القلوب متعلقة بخالقها (عز وجل).
ونلحظ هنا ملمحين من منهجه الكريم صلى الله عليه وسلم :
أما الملمح الأول: فمنه ما حدث يوم الطائف ؛ إذ رفع صلى الله عليه وسلم يديه يشكو إلى الله ما نزل به: "اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس..."(7).
إن الدعاء من أعظم العبادات، فمهما بلغ العقل البشري من الذكاء والدهاء، فهو عُرضة للزلل والإخفاق، "وقد تمر على المسلم مواقف يعجز فيها عن التفكير والتدبير تمامًا، فليس له مخرج منها سوى أن يجأر إلى الله بالدعاء، فما إن انتهى من الدعاء حتى جاءت الإجابة من رب العالمين، مع جبريل وملك الجبال"(8).
ومن هذا ما حدث يوم بدر، إذ اتجه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ربه يدعوه ويناشده النصر الذي وعده..
"وهذا درس رباني مهم لكل قائد، أو حاكم، أو زعيم، أو فرد، في التجرد من النفس وحظها، والخلوص واللجوء لله وحده، في مثل هذه المواطن". (9).
ومن هذا أيضاً ما حدث يوم الأحزاب..
وهكذا فإن الدعاء والاستغاثة كانا منهجين ثابتين للنبي صلى الله عليه وسلم في أموره كلها.
ولكن ينبغي أن تعلم أن الله تعالى لا يقبل الدعاء من متواكل كسول، وما يستمع لشيء استماعه لهتاف مجتهد، أن يبارك له سعيه، أو دعاء صابر: أن يُجمل له العافية.. حتى إذا لم يبق في طوق البشر مدَّخر، تدخلت العناية العليا لتقمع صغر العالم، وتقيم جانب المظلوم"(10).
أما الملمح الثاني وهو الدعاء على المكذبين المعاندين والظالمين المتجبرين فمنه ما يرويه ابن مسعود (رضي الله عنه) قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلي عند الكعبة، وجَمْعٌ من قريش في مجالسهم إذ قال قائل منهم: ألا تنظرون إلى هذا المرائي؟ أيُّكم يقوم إلى جَزور آل فلان، فيعمد إلى فرثها ودمها وسَلاها، فيجيء به ثم يمهله حتى إذا سجد وضعه بين كتفيه؟
فانبعث أشقاهم، فلما سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وضعه بين كتفيه، وثبت النبي صلى الله عليه وسلم ساجدًا، فضحكوا حتى مال بعضهم إلى بعض من الضحك، فانطلق منطلق إلى فاطمة (رضى الله عنها) وهي جويرية (تصغير جارية) فأقبلت تسعى، وثبت النبي صلى الله عليه وسلم ساجدًا حتى ألقته عنه، وأقبلت عليهم تسبهم..
فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة، قال: "اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش". ثم سمَّى: "اللهم عليك بعمرو بن هشام، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، وأمية بن خلف، وعقبة بن أبي معيط، وعُمارة بن الوليد". قال ابن مسعود: فوالله لقد رأيتهم صرعى يوم بدر، ثم سُحبُوا إلى القُليب (البئر المفتوحة) قليب بدر ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "وأُتبع أصحابُ القليب لعنةً"(11).
وفي غزوة أُحد، وبعد أن نال المسلمين ما نالهم من الأذى والجهد والبلاء، وأصيب رسول الله صلى الله عليه وسلم بما أصيب به، وفُجع في عمه حمزة بن عبد المطلب، حتى نشغ من البكاء عليه(12).. صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه الظهر قاعدًا لكثرة ما نزف من دمه، وصلى وراءه المسلمون قعودًا، وتوجه النبي صلى الله عليه وسلم بعد الصلاة إلى الله بالدعاء والثناء، على ما نالهم من الجهد والبلاء، فقال لأصحابه: "استووا حتى أثني على ربي عز وجل"، فصاروا خلفه صفوفًا، ثم دعا بهذه الكلمات:
"اللهم لك الحمد كله، اللهم لا قابض لما بسطت، ولا باسط لما قبضت، ولا هادي لما أضللت، ولا مضل لما هديت، ولا معطي لما منعت، ولا مانع لما أعطيت..."(13).
وهذا الموقف من أعظم مواقف العبودية التي تسمو بالعابدين، وتجلّ المعبود، كأعظم ما يكون الإجلال والإكبار.
وحينما غدر حلفاء هُذيل بأصحاب الرجيع من القراء الذين أرسلهم النبي صلى الله عليه وسلم معلمين ومفقّهين في غزوة الرجيع، وكانوا سبعين، فقتلوهم جميعاً، فقنت عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرًا كاملاً في صلاة الفجر، يدعو على قبائل سُلَيمْ التي عصت الله ورسوله.(/2)
وفي غزوة الأحزاب، وبعد اشتداد الحصار على المسلمين توجه إلى الله تبارك وتعالى بالدعاء على المشركين؛ فعن عبد الله ابن أبي أوفي (رضي الله عنه) قال: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأحزاب فقال: "اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب، اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم"(14).
لقد تربى الصحابة على مثل هذه المواقف العملية وعايشوها واستوعبوها وفقهوها، واقتدوا بنبيهم صلى الله عليه وسلم ؛ فهذا خبيب بن عدي، حينما غدر به الكفار من قبيلتي عضل والقارة، دعا عليهم وهو مصلوب قائلاً: "اللهم أحصهم عددًا، واقتلهم بددًا، ولا تغادر منهم أحدًا"(15).
وهكذا فعل الصحابة والتابعون وكثير من المسلمين، وبمثل هذا يتعبد الدعاة، ويُعبِّدون الناس جميعًا لله رب العالمين.
الهوامش
(1) الرحيق المختوم، الشيخ صفي الرحمن المباركفوري، ص78.
(2) سنن الترمذي (4-645) ورقمه (2472)، وصححه الألباني.
(3) رواه الترمذي وقال: حسن صحيح.
(4) الإيمان والحياة، للدكتور يوسف القرضاوي، ص 187، 188، ط9.
(5) رواه ابن ماجه في سننه من حديث أبي هريرة.
(6) الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي للإمام ابن قيم الجوزية
(7) الرحيق المختوم، ص149.
(8) السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث للدكتور محمد علي الصلابي، ط1، دار التوزيع والنشر الإسلامية بالقاهرة، ج1، ص259، 260 بتصرف يسير.
(9) السيرة النبوية، مرجع سابق، ج2، ص24، وعزاه المؤلف إلى التربية القيادية (3-36).
(10) فقه السيرة، الشيخ محمد الغزالي، ص246، ط 2.
(11) رواه البخاري في صحيحه برقم 520 (فتح الباري 1-594).
(12) النشغ: الشهيق حتى يكاد يبلغ به الغشي.
(13) السيرة النبوية، ج2، ص143، 144، وانظر فقه السيرة ص303، الرحيق المختوم ص331، 332، كما رواه أيضًا: الإمام أحمد في مسنده 3-424.
(14) البخاري: كتاب المغازي، باب غزوة الأحزاب (5-59) رقم (4114).
(15) البخاري (7-303 308)، وانظر فقه السيرة، ص 315.
منهج النبي صلي الله عليه ،سلم في مواجهة الشدائد (2-4)
أحمد زهران(@)
تناولت الحلقة الماضية ملمحين من ملامح منهج النبي صلى الله عليه وسلم في الشدائد، وهما الدعاء، والتذكير بالأجر والثواب، وتتناول حلقة اليوم ثلاثة ملامح أخرى من هذا المنهج:
ثالثًا بث الثقة والأمل:
حينما تشتد الأزمة، ويتعاظم البلاء، وتكثر الحروب والهجمات على الإسلام والمسلمين، لا ينبغي للمؤمن أن يتسرب إليه إحساس بالفشل أو اليأس من التغيير والإصلاح، وهذا ما كان يفعله صلى الله عليه وسلم ، فقد كان يبث عناصر الثقة في قلوب رجاله، ويفيض عليهم مما أفاضه الله على فؤاده من أمل رحيب في انتصار الإسلام، وانتشار مبادئه، وزوال سلطان الطغاة أمام طلائعه المظفرة في المشارق والمغارب..
يدخل عليه خباب بن الأرت وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، فيقول له: ألا تستنصر لنا، ألا تدعو الله لنا؟ فيقعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مُحْمَرّ وجهه، ويقول: "كان الرجل فيمن قبلكم يُحفر له في الأرض فيجعل فيه، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه، فيشق باثنين، وما يصده ذلك عن دينه، ويُمْشّط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب، وما يصده ذلك عن دينه. والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون"(1).
واستمع إليه يوم الخندق وقد أحاطت بالمسلمين الأهوال من كل مكان: إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا (10) هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا (11) (الأحزاب).
وهو يبشّر المؤمنين: "والذي نفسي بيده ليفرجن عنكم ما ترون من الشدة، وإني لأرجو أن أطوف بالبيت العتيق آمنًا، وأن يدفع الله إليّ مفاتيح الكعبة، وليهلكن الله كسرى وقيصر، ولتنفقن كنوزهما في سبيل الله"(2).
ولقد تحققت هذه البشارات التي أخبر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما ينطق عن الهوى" (3) إن هو إلا وحي يوحى" (4) (النجم).
وما إن سمعت هذه النفوس هذه البشريات حتى سكنت وارتاحت واطمأنت: ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما 22 (الأحزاب).
أما الواهنون والمرتابون ومرضى القلوب، فقد تندّروا بأحاديث الفتح وفيهم قال الله تعالى: وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا 12 (الأحزاب).
وتأمل موقفه عند الهجرة، ووعده صلى الله عليه وسلم لسراقة بن مالك بسواري كسري، ويرد سراقة متعجبًا وكأنه لا يصدق ما تسمعه أذناه: كسرى بن هرمز؟ فيؤكد له رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم، كسرى بن هرمز.
ولقد عاش سراقة إلى أن تحققت بشرى رسول الله صلى الله عليه وسلم .(/3)
ويحق لنا أن نتساءل: ماذا كان يملك رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقدم هذه البشريات وينثر هذه التطمينات هنا وهناك؟ وهو المطارد من بلده، والمحاصر في البلد الذي أوى إليه!؟
إنه كان يملك الثقة في وعد ربه (عز وجل)، وأن الله تعالى من خلفه ناصره ومعينه، فكان لابد أن ينتقل هذه الشعور إلى هذه النفوس الملتاعة حتى يسكن التياعها وتطمئن إلى موعود ربها تبارك وتعالى.
وله صلى الله عليه وسلم عشرات الأحاديث التي يبشر المؤمنين فيها بأنهم ورثة هذا الكتاب وهذه الأرض، وأنهم سيفتحون المشارق والمغارب، ويملكون الأرض كلها: فعن تميم الداري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ليبلغنَّ هذا الأمر (يعني أمر الإسلام) ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر، إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز، أو بذل ذليل، عزًا يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل الله به الكفر"(3).
ومن هذه المبشرات ما رواه مسلم وغيره عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زُوي لي منها، وأعطيت الكنزين: الأحمر والأبيض"(4).
والداعية الحصيف هو الذي يلتزم منهج النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأننا مطالبون أن نبشِّر ولا ننفِّر، كما نحن مأمورون أن نيسِّر ولا نعسر.
وبث جرعات من الثقة والأمل في النفوس في مثل هذه الأيام ضرورة؛ خاصة وعوامل اليأس ومشاعر الإحباط تكاد تغلب على حياة الكثيرين فتقتل فيها الهمم، وتخدر العزائم، وتدمر الطموحات.
ونحن مطالبون بأن نقف في وجه مثل هذه الموجات السلبية، واثقين بوعد الله تعالى، مستبشرين بمستقبل هذا الدين، رافضين اليأس الذي هو من لوازم الكفر، والقنوط الذي هو من مظاهر الضلال.
رابعًا: الإخلاص
فإخلاص النية لله تعالى هو أصل صلاح العمل وقبوله، يقول تعالى: فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا 110 (الكهف).
كما أنها سر عون الله للعبد، وأساس النجاة من المحن والشدائد، وذلك واضح في سِيَر الأنبياء والصالحين؛ فقد نجى الله نوحًا من الغرق، وإبراهيم من النار، ولوطًا من الأذى، وأيوب من الشدة والمرض، وموسى من بطش فرعون، والنبي صلى الله عليه وسلم من قريش ومكرهم، وغيرهم من الأنبياء والمرسلين، بل وعباد الله الصالحين.
وما أحسن قول سالم بن عبد الله بن عمر (رضي الله عنهم): "اعلم أن عون الله للعبد على قدر نيته، فمن تمت نيته تم عون الله له، وإن نقصت نقص بقدره"(5).
وقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلاً لأمته، يتعلمون منه أن الأعمال الصالحة الخالصة لوجه الله تعالى سبب في النجاة من الهموم والغموم والأحزان والشدائد جميعها، ولعل في قصة النَّفر الثلاثة الذين سدت عليهم الصخرة باب الغار، والتي قصها رسول الله صلى الله عليه وسلم لصحابته بيان لهذا الأمر.
فهذا الحديث يدل كما يقول العلامة الدكتور القرضاوي على أن التوسل إلى الله بالعمل الصالح من أعظم الوسائل للخلاص من المآزق والأزمات، وهذا مما لا خلاف عليه، ولا يكون العمل صالحًا إلا إذا أُريد به وجه الله تعالى، ولهذا قال كل واحدٍ منهم بعد أن ذكر موقفه الفريد: "اللهم إن كنت فعلتُ ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه" وقد كان من أساليب التربية النبوية المؤثرة: ذكر روائع القصص التي تؤخذ منه العظة والعبرة، ومما يجدي في الدعوة والتربية تجميع ما صح من هذه القصص لينتفع بها الدعاة والمربون"(6).
"ومن عجيب ما ذكره القرآن في ذلك: استجابة الله تعالى دعاء المشركين إذا جرت بهم الفلك في البحر، وهاجت عليهم الريح، وأحاط بهم الموج من كل مكان، فيدعون الله في تلك اللحظات بصدق وإخلاص، فيستجيب لهم، وإن غيّروا بعد ذلك وبدّلوا. يقول تعالى: هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى" إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين 22 فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق (يونس).
وإنما أنجاهم واستجاب لهم؛ لأنهم دعوا الله مخلصين له الدين ، فقد رجعوا في تلك اللحظة إلى الفطرة، وسقطت الآلهة المزيفة، ولم يبق لديهم إلا الله يدعونه بإخلاص ويتجهون إليه"(7).
خامسًا : الثبات(/4)
يروي ابن كثير في تفسير قوله تعالى: وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على" آلهتكم إن هذا لشيء يراد (6) (ص) أن وفدًا من رؤساء قريش جاء إلى أبي طالب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: "يا أبا طالب، أنت كبيرنا وسيدنا فأنصفنا من ابن أخيك، فمره فليكف عن شتم آلهتنا، وندعه وإلهه". فبعث إليه أبو طالب، فلما دخل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يابن أخي هؤلاء مشيخة قومك، وقد سألوك أن تكف عن شتم آلهتهم ويدعوك وإلهك. فقال صلى الله عليه وسلم : "أفلا أدعوهم إلى ما هو خير لهم". قال أبو طالب: وإلام تدعوهم؟ قال صلى الله عليه وسلم : "أدعوهم أن يتكلموا بكلمة تدين لهم بها العرب، ويملكون بها العجم". قال أبو جهل من بين القوم: ما هي؟ وأبيك لنعطينَّكها وعشرَ أمثالها. قال صلى الله عليه وسلم : "تقولون لا إله إلا الله"، فنفروا وقالوا: سَلْنَا غيرها. قال صلى الله عليه وسلم : "لو جئتموني بالشمس حتى تضعوها في يديّ ما سألتكم غيرها". فقاموا من عنده غضابًا، وقالوا: والله لنشتمنك وإلهك الذي أمرك بهذا! فنزل قوله تعالى: وانطلق الملأ منهم وهم سادة قريش قائلين: أن امشوا ، أي استمروا على دينكم، واصبروا على" آلهتكم ، أي اثبتوا على عبادتها إن هذا لشيء يراد ، أي: "إن هذا الذي يدعونا إليه محمد صلى الله عليه وسلم من التوحيد لشيء يريد به الشرف عليكم والاستعلاء، وأن يكون له منكم أتباع، ولسنا نجيبه إليه"(8).
إذا كان أهل الباطل يصرون على باطلهم، أفلا يجدر بأهل الحق أن يثبتوا على منهجهم؟
وفي غزوة أُحد، وبعد أن انهزم المسلمون، ثبت النبي صلى الله عليه وسلم وجعل يصيح بالمؤمنين: "إليّ عباد الله.. إليَّ عباد الله"، فاجتمع إليه نحو من ثلاثين رجلاً، واستماتوا في الدفاع عنه صلى الله عليه وسلم حتى مضى الكفار وتركوهم.
وفي غزوة حنين حين باغت المشركون المسلمين، فانهزم المسلمون ولاذوا بالفرار، إذا برسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته يركض بها نحو الكفار، وينادي:
أنا النبي لا كذب
أنا ابن عبد المطلب
ولم يثبت معه في موقفه إلا عدد قليل من المهاجرين والأنصار، تسعة على قول ابن إسحاق، واثنا عشر على قول النووي
وروى الترمذى بإسناد حسن من حديث ابن عمر قال: "لقد رأيتنا يوم حنين وإن الناس لمولِّين، وما مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة رجل"(9).
إن الثبات عند نزول الشدائد وتوالي الضربات وكثرة المحن.. هو الذي يميّز المؤمن الصادق من غيره.
ونفوس الناس تتفاوت عند ورود الأزمات تفاوتًا كبيرًا؛ "فمنها الهش الذي سرعان ما يذوب ويحمله التيار معه، كما تحمل المياه الغثاء والأوحال، ومنها الصُلب، الذي تمر به العواصف المجتاحة، فتنكسر حدتها على متنه، وتتحول رغوة خفيفة وزبدًا..
وقد نعى القرآن على الصنف الجزوع فقال: قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذا لا تمتعون إلا قليلا 16 قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أو أراد بكم رحمة ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا 17 (الأحزاب)" (10).
الهوامش:
(1) صحيح البخاري كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام، رقم 3612.
(2) فقه السيرة، الشيخ محمد الغزالي، ، وقد وردت روايات كثيرة في بشريات النبي لأصحابه يوم الأحزاب، انظر في ذلك الرحيق المختوم ص360، السيرة النبوية للصلابي ص282.
(3) رواه أحمد في مسنده: (4- 103) وأورده الهيثمي في المجمع، وقال: رواه أحمد والطبراني (6-14).
(4) رواه مسلم في الفتن وأشراط الساعة برقم (2889) وأبو داود (4252)، والترمذي (2203)، وابن ماجه (3952).
(5) رياض الصائمين للدكتور عبدالرحمن البر، ص 16، (ط1)، دار الوفاء للطباعة والنشر، القاهرة.
(6) في الطريق إلى الله: النية والإخلاص للدكتور يوسف القرضاوي، ص111، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1416ه 1995م.
(7) السابق بتصرف.
(8) تفسير ابن كثير ج4، ص27، ط. مكتبة التراث الإسلامي بالقاهرة بتصرف يسير.
(9) الرحيق المختوم ص422، مرجع سابق.
(10) فقه السيرة للغزالي ص344، مرجع سابق.
منهج النبي صلى الله عليه وسلم عند نزول الشدائد (3من 4) ربى الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه على الشورى.. ولو خالفت آراؤهم آراءه
تناولنا في الحلقتين الأولى والثانية خمسة ملامح من منهج النبي صلى الله عليه وسلم عند نزول الشدائد، ونواصل هنا الحديث عن ثلاثة ملامح أخرى، وهي:
سادسًا: اعتماد مبدأ الشورى كقاعدة أصيلة:
الشورى إن كانت لازمة ومطلوبة شرعاً، فإنها وقت الأزمات والشدائد ألزم.
وبالشورى يستطيع القائمون على الأمور أن يستطلعوا آراء صفوة الأمة وعقلائها، فيخرجوا برأي جامع يمكن أن يكون سبباً في وقايتهم من الوقوع في الأخطاء.(/5)
وقد شاور رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه يوم بدر واستمع منهم، وشاورهم يوم أُحد، ونزل على رأي الشباب منهم، واستمع لمشورة سلمان يوم الخندق وكانت سببًا من أسباب نجاتهم والحفاظ على جماعتهم، وأخذ برأي أم سلمة يوم الحديبية؛ لما رأى فيه من كياسة وذكاء، وكان فيه الخير والصواب.
وهذا من الواجب على الداعية سواءً كان أميرًا أم مأمورًا "أن يشاورهم فيما هو مُقدِم عليه، أو فيما يحتمل قدومه عليه، أو فيما يضطر إلى القدوم إليه من أمور صعبة جسيمة من مثل مقابلة العدو، أو مواجهته وجهًا لوجه، ومما يترتب على ذلك من نتائج.
وليحذر الداعية من ترك المشاورة وانفراده بالرأي، فإن هذا الترك يُفوّت عليه خيرًا كثيرًا، مع مخالفته لأمر الشرع، وإيحاش قلوب أتباعه. وعليه وهو يشاور أتباعه ألا يضيق صدره بآرائهم، بل إن عليه أن يشجعهم بأن يقولوا كل ما يرونه من الصواب فيما يُستشارون فيه من أمور، وعليه أن يأخذ بالرأي الصواب إذا ظهر، بل أن يأخذ به حتى لو تقدم به صاحبه دون سبق مشاورة من الأمير له، كما أخذ النبي برأي الحُباب بن المنذر بشأن المكان المختار لجيش المسلمين يوم بدر"(1).
لقد ربى رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه على التصريح بآرائهم عند مشاورته لهم؛ حتى ولو خالفت رأيه، فهو إنما يشاورهم فيما لا نص فيه، "تعويدًا لهم على التفكير في الأمور العامة، ومعالجة مشكلات الأمة، فلا فائدة من المشورة إذا لم تقترن بحرية إبداء الرأى، ولم يحدث أن لام رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدًا؛ لأنه أخطأ في اجتهاده ولم يوفق في رأيه..."(2).
هذه الحرية التي ربى عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه، مكّنت مجتمعهم من الاستفادة من عقول جميع أهل الرأي السديد، والمنطق الرشيد؛ فالقائد فيهم ينجح نجاحًا باهرًا وإن كان حديث السن؛ لأنه لم يكن يفكر برأيه المجرد، أو آراء عصبة مهيمنة عليه، قد تنظر لمصالحها الخاصة، قبل أن تنظر لمصلحة المسلمين العامة، وإنما يفكر بآراء جميع أفراد جنده، "وقد يحصل له الرأي السديد من أقلهم سمعة، وأبعدهم منزلة من ذلك القائد؛ لأنه ليس هناك ما يحول بين أي فرد منهم، والوصول برأيه إلى قائد جيشه"(3).
ومن الأمور المهمة عند أخذ الشورى: إخلاص النية، وصفاء القلوب وتجردها لله رب العالمين مع التأدب بأدب إبداء الرأي والسمع والطاعة، وأدب المناقشة ومفهوم عرض الرأي المعارض.
سابعًا: الصبر عند نزول الشدائد:
الداعية يواجه الناس بدعوته التي تخالف أهواءهم وانحرافاتهم وغالبًا ما يقابلونها بالرفض والإنكار وإيذاء الدعاة فإذا لم يتخلق الدعاة بالصبر الجميل أصابهم الجزع والهلع والقعود عن الدعوة؛ ولهذا أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالصبر على أذى المشركين وهو يدعوهم إلى الله، وفي هذا الأمر بالصبر أمر للدعاة أيضًا؛ قال تعالى: فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل (الأحقاف:35).
وصبر الدعاة يجب أن يستمر ويشتد حتى يأتي نصر الله؛ لأنه بدوام صبرهم على تبليغ الدعوة وتحملهم الأذى في سبيلها، يقرب موعود الله بنصرهم، وهذه هي سنة الله في الدعوة والدعاة، قال تعالى: ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على" ما كذبوا وأوذوا حتى" أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبأ المرسلين 34 (الأنعام).
وقول الله فصبروا على" ما كذبوا تدل على أن رسل الله لم يرفعوا يدًا دفاعًا عن النفس أو انتقامًا لذواتهم، بل تخلقوا بخلق الصبر، واعتصموا بسكينة النفس، وكفوا أيديهم، واقتربوا من ربهم، ومع شدة البلاء يلزمون الصبر: ولنصبرن على" ما آذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون 12 (إبراهيم).
فسلاح المؤمنين على لأواء الطريق وبلائه: القربى إلى الله، والصبر على الشدائد، وصدق الله إذ يقول: واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين 45 (البقرة) .. إنه الخلق الذي لا يستطيع أن يستغني عنه مؤمن، فضلاً عن أن يكون داعية إلى الله"(4).
وبعض الناس يظن أن الصبر سلوك سلبي، ويخلط بينه وبين الاستسلام والخنوع والمذلة، وما كان الصبر كذلك، بل هو جماعٌ للأخلاق الحميدة وللسلوك الإيجابي.
وهل حين صبر رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإيذاء والاستهزاء والسخرية والافتراء من أهله وقومه وأقرب الناس إليه نسبًا حتى قال مقولته الشهيرة: "والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني..." إلخ، هل كان سلبيًا يوم أن قال مقولته هذه وهو ثابت على الحق، يتحلي بأخلاق كريمة، ودعوة حكيمة، ومجادلة بالتي هي أحسن!؟(/6)
ولهذا نهى الإسلام عن ضد الصبر فقال: ولا تبطلوا أعمالكم 33 (محمد)، وإبطالها ترك الصبر على إتمامها، كما قال: فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل (الأحقاف:35). والاستعجال من عدم الصبر، وقال: ولا تهنوا ولا تحزنوا (آل عمران:139)، والوهن من عدم الصبر؛ لأنه حب الدنيا وكراهية الموت، وقد نهى الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يتشبه بصاحب الحوت، حيث لم يصبر صبر أولي العزم، وامتلأ غيظًا وغضبًا وحزنًا من قومه ولم يصبر عليهم، فقال: فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى" وهو مكظوم 48 (القلم)(5).
"والتواصي بالصبر ضرورة؛ لأن القيام على الإيمان والعمل الصالح، وحراسة الحق والعدل من أعسر ما يواجه الفرد والجماعة، ولابد من الصبر على جهاد النفس وجهاد الغير، والصبر على الأذى والمشقة، والصبر على تبجح الباطل، والصبر على طول الطريق وبطء المراحل وانطماس المعالم وبُعد النهاية"(6).
ثامنًا: الإصرار على تبليغ الدعوة:
واجه رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحب الكريم معه حربًا مستعرة من السخرية والتحقير، والقتل والتعذيب، حتى ليقول الشيخ الغزالي: "وتألفت جماعة للاستهزاء بالإسلام ورجاله، على نحو ما تفعل الصحافة المعارضة عندما تنشر عن الخصوم نكتًا لاذعة، وصورًا مضحكة للحط من مكانتهم لدى الجماهير، وبهذين اللونين من العداوة وقع المسلمون بين شقي الرحى:
فرسولهم يُنادى بالمجنون: وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون (6) (الحجر).
ويُوصم بالسحر والكذب: وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب (4) (ص).
ويُشَيَّع ويُستقبل بنظرات ملتهبة ناقمة، وعواطف منفعلة هائجة: وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون 51 (القلم).
وليس حظ سائر المسلمين بأفضل من هذه المعاملة، فهم في غدِّوهم ورواحهم محل التندُّر واللمز: إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون 29 وإذا مروا بهم يتغامزون 30 وإذا \نقلبوا إلى" أهلهم \نقلبوا فكهين 31 وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون 32 وما أرسلوا عليهم حافظين 33 (المطففين).
ولم يكن جواب هذا التندّر والاستهزاء إلا مزيد من الإصرار على تبليغ دعوة الله (عز وجل): فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يغشى مجالس الكفار ومجامعهم، ويحدثهم عن الإسلام ويطلب منهم النصرة.
عن جابر (رضي الله عنه): كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه بالموقف فيقول: "ألا رجل يحملني إلى قومه! فإن قريشًا منعوني أن أبلِّغ كلام ربي"(7).
فلم يأبه رسول الله للشدائد التي اعترضت طريقه، ولا للعقبات التي وقفت أمامه، كذلك لم ترهبه قوة الزعامات من الأشخاص والقبائل، لأن الدعوة التي جاء بها صلى الله عليه وسلم لم تكن لمجرد "بناء وطن صغير بل كانت إنشاءً جديدًا لأجيال وأمم تظل تتوارث الحق وتندفع به في رحاب الأرض إلى أن تنتهي من فوق ظهر الأرض قصة الحياة والأحياء..
فما تصنع خصومة فرد أو قبيلة لرسالة هذا شأنها في حاضرها ومستقبلها؟ ومَنْ أولئك الخصوم؟
متعصبون تحجرت عقولهم، تزيِّن لهم سطوتهم البطش بمن يخالفهم: وإذا تتلى" عليهم آياتنا بينات تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا قل أفأنبئكم بشر من ذلكم النار وعدها الله الذين كفروا وبئس المصير 72 (الحج).
أم مترفون سرتهم ثروتهم، يحبون الباطل لأنه على أرائك وثيرة، ويكرهون الحق لأنه عاطل عن الحلي والمتاع: وإذا تتلى" عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للذين آمنوا أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا 73 (مريم).
أم متعنتون يحسبون هداية الرحمن عبث صبية، أو أزياء غانية، فهم يقولون: دع هذا وهات ذاك: وإذا تتلى" عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا \ئت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى" إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم 15 (يونس).
أم مهرجون يتواصون بينهم بافتعال ضجة عالية وصياح منكر عندما تُقرأ الآيات، حتى لا تُسمع فتفهم، فتترك أثرًا في عقل نقي وقلب طيب: وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون 26 (فصلت)(8).
أليس هؤلاء هم أعداء الدعوة في القديم والحديث مع اختلاف العصور، وتنوع فنون المحاربة والصد عن سبيل الله؟
لقد مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في طريقه مجتازًا كل ما كان يُلقى أمامه من صعاب وهكذا ينبغي أن يمضي الدعاة والمؤمنون من بعده، من دون أن يكسر من عزمهم، أو يفت في عضدهم، أو يفتّر من حَميتّهم في الدعوة إلى الله ما يقدمونه من تضحيات؛ "فالدعوة لا يُكتب لها النصر إذا لم تُبذل في سبيلها الأرواح، ولا شيء يمكن للدعوة في الأرض مثل الصلابة في مواجهة الأحداث والأزمات، واسترخاص التضحيات من أجلها..
إن الدعوات بدون قوى أو تضحيات يوشك أن تكون فلسفات وأخيلة، تلفها الكتب، وترويها الأساطير، ثم تطوى مع الزمن..(/7)
إن للسعادة ثمنًا، وإن للراحة ثمنًا، وإن للمجد والسلطان ثمنًا، وثمن هذه الدعوة دم زكي يهراق في سبيل الله من أجل تحقيق شرع الله ونظامه، وتثبيت معالم دينه على وجه البسيطة"(9).
الهوامش
(1) المستفاد من قصص القرآن، ج2، ص148.
(2) السيرة النبوية، ج2، ص108، 109.
(3) السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث، للدكتور محمد علي الصلابي، ص11، وعزاه المؤلف إلى التاريخ الإسلامي للحميدي 4-110.
(4) الدعوة: قواعد وأصول، جمعة أمين عبد العزيز، ص61، ط. دار الدعوة بالإسكندرية، ط2، 1409ه 1989م.
(5) السابق، ص58، 59.
(6) في ظلال القرآن، ج6، ص3968.
(7) فقه السيرة، محمد الغزالي ص120، 121، والحديث أخرجه أبو داود (2-278) (4-57)، وقال عنه الترمذي: حديث حسن صحيح، وأخرجه الحاكم (2-612، 613) وقال: صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي.
(8) فقه السيرة، مرجع سابق، ص117، 118.
(9) السيرة النبوية، ص188، 189.
منهج النبي صلى الله عليه وسلم في مواجهة الشدائد (4 من 4) حسن الظن بالمؤمنين وعدم تمني لقاء العدو في هذه الحلقة (الأخيرة)، نتناول الملمحين الأخيرين من ملامح منهج الرسول صلى الله عليه وسلم عند نزول الشدائد، وهما:
تاسعًا: الظن الحسن بالمؤمنين
في أوقات الأزمات والشدائد يعمد أعداء الإسلام إلى بث الشبهات، وإطلاق الشائعات سواء تعلقت بالإسلام ودعوته، أو بالمسلمين والدعاة. وقد حدث هذا الموقف مع النبي صلى الله عليه وسلم أثناء حادثة الإفك، يقول الله تعالى: لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا هذا إفك مبين (12) (النور).
ويلاحظ في الآية "أنه لم يقل: لولا إذ سمعتموه ظننتم بأنفسكم خيرًا وقلتم: "هذا إفك مبين"، ولكنه عَدَلَ عن الخطاب إلى الغيبة وعن الضمير إلى الظاهر؛ وذلك من أجل المبالغة في التوبيخ بطريقة الالتفات، وللتصريح بلفظ الإيمان، ليدل على أن الاشتراك فيه يقتضي ألا يُصدِّق مؤمن على أخيه، ولا مؤمنة على أختها قول غائب أو طاعن.
"وفيه تنبيه على أن المؤمن إذا سمع مقالة سوء في أخيه المؤمن أو في أخته المؤمنة، عليه أن يظن فيهما خيرًا ولا يشك السوء فيهما، وأن يقول بناءً على ظنه بالمؤمن أو المؤمنة الخير : هذا إفك مبين ، وهذا من الأدب الإسلامي الرفيع، الذي قلّ القائم به، والحافظ له، بل وقلَّ من يسمع مقالة السوء عن أخيه أو أخته فيسكت ولا يشيع ما سمعه"(1).
وفي غزوة تبوك، لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وتخلف عنه أقوام، كان من بين الذين تخلفوا قوم حبسهم العذر، فكان لابد من بيان ذلك حتى يتميز هؤلاء عن غيرهم ممن تخلفوا من دون عذر، ولئلا يُساء بهم الظن، ويصبحوا محل تهمة وشكوك، فقد جاء في عذرهم ما رفعهم إلى درجة المجاهدين المكافحين الصادقين، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لقد تركتم بالمدينة أقوامًا، ما سرتم مسيرًا، ولا أنفقتم من نفقة، ولا قطعتم من واد إلا وهم معكم فيه: قالوا: يا رسول الله كيف يكونون معنا وهم بالمدينة؟ قال: حبسهم العذر" (2).
وفي رواية البخاري: "إن بالمدينة أقوامًا ما سرتم مسيرًا ولا قطعتم واديًا إلا كانوا معكم. قالوا: يا رسول الله وهم بالمدينة؟ قال: وهم بالمدينة، حبسهم العذر" (3).
إن أعداء الإسلام يعمدون إلى اتهام الدعوة والدعاة بأي اتهامات باطلة غير مستساغة ولا مقبولة ولا معقولة؛ لأنهم لا يقيمون اتهاماتهم على أساس من الحق أو المنطق أو الواقع، إن قصدهم أن يقولوا السوء ويمضوا، ويأتي أنصار الشر ومحبو إشاعة الفاحشة فيكملون ما بدؤوه، فعلى الدعاة أن يواجهوا أمثال هذه الحيل، ويكونوا على فقه ووعي كاملين بهذا النهج والأسلوب، ومن ثم لا يقعوا في تأويل تصرفات إخوانهم من الدعاة تأويلاً سيئًا لا يليق بهم، ولا يتفق وكونهم دعاة إلى الإسلام.
وهناك ضوابط أربعة تحصن الدعاة من تلفيقات أعداء الدعوة:
الضابط الأول: الظن الحسن فيما يسمعه عن إخوانه: لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا هذا إفك مبين 12 .
الضابط الثاني: نفي هذا الظن بلسانه، والتصريح بهذا النفي؛ لأن المنكر الظاهر يُدفع بشيء ظاهر.
الضابط الثالث: ألا يتسرب شيء إلى نفس الداعية مما يخالف الظن الحسن، وإذا حصل شيء من ذلك في نفسه فلا يجوز أن يتكلم بهذا بل يردد بلسانه حتى يُسمع نفسه وغيره قوله تعالى: ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم 16 .
الضابط الرابع: أن يبعد الداعي عن نفسه أي ميل أو محبة أو رغبة في إشاعة الفاحشة ونهش الأعراض، واتهام الغافلين المؤمنين، وليتذكر قوله تعالى: إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة (4).
وأخيرًا، فالداعي يرى في مثل هذه التلفيقات جوانب خير ومصلحة، تتمثل في الأجر العميم وفي نصرة الله لهم وبتوعد أعداء الدعوة؛ وليتذكر الدعاة قول الله لرسوله صلى الله عليه وسلم : لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم لكل .(/8)
عاشرًا: عدم تمني لقاء العدو
ففي وصية النبي صلى الله عليه وسلم لأسامة بن زيد، وقد أمَّره على جيش المسلمين الذي أرسله لإرهاب الروم، قال صلى الله عليه وسلم له: "ولا تمنوا لقاء العدو، فإنكم لا تدرون لعلكم تبتلون بهم؛ ولكن قولوا: اللهم اكفناهم واكفف بأسهم عنا".
إن المطلوب القيام بأمر الدعوة إلى الله تعالى، وليس المطلوب مصادمة أعداء الدعوة الأقوياء؛ فإن هذا الصنيع يؤذن بوقوع الجماعة بالرياء وطلب السمعة عند الناس، ليقولوا: إن جماعة الدعاة أُوذيت في سبيل الله..
"ولكن لا يعني ذلك قعود الدعاة عن القيام بالدعوة إلى الله، وإنما الذي يعنيه ذلك بكل تأكيد عدم تعمدهم لقاء الخصوم والدخول معهم في حرب، ولهم مندوحة من ذلك، أي يمكنهم أن يدعوا إلى الله وأن يتجنبوا المخاصمة مع أعداء الدعوة؛ لاسيما إذا كانت الدولة هي لسوء فهمها مقاصد الدعوة خصم الدعاة وجماعتهم، ففي هذه الحالة ينبغي عدم تصعيد الخصام مع الدولة، مع المضي في متطلبات الدعوة بهدوء مع تحمل شيء من شطط الدعوة وبغيها..
أما الذين يندفعون ويخاصمون الدولة دون ضرورة ولا حاجة إلى هذه المخاصمة فيقعون ويُوقعون جماعتهم في أذى شديد لا طاقة لهم به ولا ضرورة تدعو إليه..
فلتحذر الجماعة وأعضاؤها والمنتسبون إليها من الدعاة والأنصار مثل هذه الأمور، وليدعوا الله أن ينجيهم من كيد أعدائهم، ولا يحملوا أنفسهم على مواجهتها، ولكن إذا واجههم عدوهم فليصبروا وليثبتوا، ولا يستسلموا، بل عليهم أن يصدقوا الله في جهادهم، ولا يضعفوا أمام عدوهم"(5).
الهوامش
(1) السيرة النبوية، ص310، 311 .
(2) تفسير ابن كثير، ج2، ص382 .
(3) البخاري، كتاب المغازي رقم 4423 .
(4) المستفاد من قصص القرآن، ص 318 320 بتصرف.
(5) المرجع السابق ، ص265.(/9)
منهج النصارى في شبهاتهم عن الإسلام
المطلب الأول : منهج النصارى في شبهاتهم عن الإسلام
و قبل أن نلج في عرض نماذج للشبهات التي أثارها النصارى على عقائد الإسلام المختلفة نقف على بعض ملامح المنهج الذي اختطه النصارى في إثارة الشبهات حول الإسلام ، فقد شاب فهمهم للإسلام الكثير من الغبش ، وكانت فكرتهم عن الإسلام خليط من ذلك الغبش و الحقد الذي تكنه صدورهم للحق الذي سطع فحجب الضلال بضيائه وحجته.
وأهم مايذكر هنا هو الكذب والتحريف والمغالطة من النصارى الذين تصدوا لنقد الإسلام ودراسته.
الكذب و التلاعب في النصوص :
مارس النصارى الكذب في نقدهم لهذا الدين ، و من ذلك قول وهيب خليل في كتابه ” استحالة تحريف الكتاب المقدس ” في سياق حديثه عن معجزات المسيح المذكورة في القرآن، فيقول: “و إن كان بعض المفسرين يحاولون أن يقللوا من شأن السيد المسيح في المقدرة قائلين : إنه يصنع هذا بأمر الله ، فنجد أن الإسلام يشهد بأن هذه المقدرة هي لله فقط “.
و من المعلوم عند كل مسلم أو مطلع على القرآن الكريم أن الذي أحال معجزات المسيح إلى قدرة الله و إذنه هو القرآن الكريم و ليس مفسروه .
و من الكذب أيضاً ما قاله صاحب كتاب “الحق” حين زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما مات انتظر المسلمون قيامه كما قام المسيح، فلما لم يقم ارتد المسلمون عن الإسلام” .
و من المعلوم أن القرآن صرح بمثلية رسول الله لسائر البشر في خاصية الموت، و قد صرح القرآن بموته، و لم يرد شيء فيه أو عن رسولنا يفيد قيامته صلى الله عليه وسلم من الموت ، و قد روي عن عمر أنه قال مثل هذا القول لحظة ذهوله عند فاجعته برسول الله صلى الله عليه وسلم و سرعان ما أفاق منه.
و أما حركة الردة فقد بدأت إبان حياته صلى الله عليه وسلم بظهور الأسود العنسي ، و فشت بعد وفاته، و لم يكن من دواعيها مثل هذا القول الذي ذكره النصراني.
و من الكذب أيضاً قول القس شروش و هو عربي فلسطيني في مناظرته لديدات أمام جمهور من الأعاجم الذين لا يعرفون العربية، فيقول مكذباً القرآن في عربيته: ” لكن محمداً استعمل كثيراً من الكلمات و الجمل الأجنبية في القرآن ، و هذا يترك كثيراً من التساؤل عند الناس إن كانت لغة الله غير كافية بحيث تحتاج إلى عدة لغات أخرى… في كتاب ادعي أن الله أوحاه بالعربية” ، و بالطبع لا يوجد في القرآن جملة غير عربية ، فقد نزل بلسان عربي مبين .
و من الكذب أيضاً قوله: ” المسلمون غير العرب يشعرون بأنهم مجبرون أن يحفظوا على الأقل أربعين سورة من القرآن بالعربية مع أنهم لا يتكلمونها و لا يتخاطبونها ” و أي من العلماء لم يوجب مثل هذا .
و من الكذب أيضاً قول صاحب كتاب “الحق” النصراني بأن رسول الله ما كان يدري من الذبيح إسماعيل أم إسحاق لذلك قال :” أنا ابن الذبيحين” و أراد إسماعيل و إسحاق ، و يرد ابن الخطيب بذكر آيات سورة الصافات و التي ذكرت قصة الذبيح في سياق حديثها عن إسماعيل ، ثم اتبعت ذلك بالحديث عن إسحاق و بشارة الله لإبراهيم به ، و أما الحديث – لو سلمنا بصحته لصحة معناه – فلا خلاف في أن مراد النبي صلى الله عليه وسلم أنه ابن الذبيحين: عبد الله أبوه و إسماعيل ، و قصة نجاة أبيه من الذبح مبسوطة في كتب التواريخ .
تحريف النصوص :
و يلجأ النصارى أيضاً إلى تحريف ألفاظ النصوص الإسلامية ، و من ذلك قول القس شروش لمستمعيه الإنجليز:” أنتم معشر المسلمين تعتقدون أن المسيح ما زال على قيد الحياة ” .يقول ديدات : نعم. فأكمل القس شروش ” لكننا إذا قارنا هذا بما جاء في القرآن فإننا سنجد تناقضاً ، فإن القرآن يقول { و السلام علي يوم ولدت و يوم أموت و يوم أبعث حياً } قرأها في العربية صحيحة ، ثم ترجمها : “و سلام علي يوم ولدت و يوم مت و يوم أبعث حياً ” فحول الأفعال المضارعة و التي يراد منها المستقبل إلى أفعال ماضية مستغلاً جهل مستمعيه بلغة العرب، و ظن أن حيلته و كذبه ينطلي على العلامة الأعجمي ديدات .
و من التحريف الذي مارسه النصارى تحريف المعاني و من ذلك الخلط الذي وقعوا به و نسبوه للقرآن الكريم، فقد زعموا أن قوله تعالى في قصة موسى { فأرسلنا عليهم الطوفان } يتحدث عن الطوفان الذي وقع زمن نوح، فهو بذلك يخلط بين حديثين متباعدين في الزمان.
و القرآن قد فصل في الحديث عن طوفان نوح، و أشار إلى الهلاك الذي أحدثه فيما ذكر طوفاناً صغيراً كان أحد ما عذب به الذين كفروا بموسى عليه السلام .(/1)
وكما ذكر القرآن طوفان نوح العظيم و طوفان موسى بمصر، كذا ذكرت التوراة الطوفانين، فطوفان نوح تحدث عنه سفر( التكوين 7/10-24) ثم تحدثت عن طوفان آخر أصاب مصر انتقاماً من فرعون الذي لم يؤمن بموسى، و لم يطلق بني إسرائيل، فقد قال موسى لفرعون:” أنت معاند بعد لشعبي حتى لا تطلقه. ها أنا غداً مثل الآن أمطر برداً عظيماً لم يكن مثله في مصر” فنزل المطر و البرد ، فوعد فرعون موسى بإطلاق شعب بني إسرائيل” لكن فرعون لما رأى أن المطر و البرد و الرعود ،و قد انقطعت عاد يخطئ و أغاظ قلبه هو و عبيده…”(الخروج 9/17-34).
و من التحريف أيضاً ما قاله الحداد الخوري في تعقيبه على قوله تعالى { و من قبله كتاب موسى إماماً و رحمة } ، فيقول الحداد:” إن محمد يصرح نهائياً بما لا يقبل الشك بأن إمام القرآن هو كتاب موسى” ، و الآية إنما تتحدث عن التوراة الصحيحة التي أنزلها الله على موسى فكانت لقومه إماماً و رحمة كما وصفت في آيات أخر بأنها هدى و نور ، و ليس في النص صريحاً -كما زعم الحداد- أن التوراة إمام للقرآن .
و يتحدث كتاب ” الاستحالة ” عن قضية صلب المسيح فيقول:” أما النص الوارد في سورة النساء ، و الذي قد يبدو فيه معنى إنكار المسيح و موته حيث جاء { وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله و ما قتلوه و ما صلبوه و لكن شبه لهم } فإن هذه الكلمات التي يراها البعض ضد الإيمان المسيحي بالصلب هي في الواقع دليل على الصلب ، و لكنها تكذيب لليهود في قولهم { إنا قتلنا المسيح } لأن اليهود لم يقتلوه و لم يصلبوه، لأنهم لم يكونوا أصحاب السلطة و الحكم أيام ظهور السيد المسيح بالجسد ، و إنما كانت السلطة بيد الرومان ، لذلك فالرومان هم الذين نفذوا الحكم بصلب السيد المسيح ، و قد خيل لليهود ، و شبه لهم بأنهم قتلوا السيد المسيح و صلبوه، لأنهم كانوا أصحاب شكاية ، فعندما أجيبت شكواهم تخيلوا بذلك ” .
و هذا الإغراب في التفسير لم ينقل عن أحد من مفسري القرآن و لو على وجه ضعيف ، و هل يعقل ألا ينسب القتل لليهود إلا إذا قاموا بأنفسهم بمباشرة القتل ، و أما ذهابهم في جمع من الشيوخ و رؤساء الكهنة للقبض على المسيح ، ثم محاكمته و الحكم عليه بالموت و دفعه للحاكم الروماني لينفذ الحكم ، ثم إصرارهم على التنفيذ ، و رفض إطلاقه بعد أن اقتنع الحاكم أنه بار وبريء ، و عرض عليهم إطلاقه ، فصرخوا و هاجوا : اصلبه . فخاف بيلاطس من الفتنة ، فامتثل لأمرهم بعد أن اتهموه بأنه لا يحب القيصر….
أفبعد ذلك كله يقال بأن اليهود ليسوا هم القتلة، بل الحاكم الروماني ، ثم ماذا عن قوله تعالى { و ما قتلوه يقيناً * بل رفعه الله إليه } ثم على أي حال فإن الآيات لم تكن تناقش من القاتل اليهود أم الرومان ، إنما كانت تؤكد نجاة المسيح مما ظنه اليهود من أنهم تمكنوا منه و قتلوه.
و مثله حرف القس أنيس شروش المعنى في قوله { حتى إذا بلغ مغرب الشمس و جدها تغرب في عين حمئة } فقال شروش :” لقد كان الخرافيون القدامى في عصر محمد يعتقدون أن الشمس تغرب في ينبوع” يقول القفال في تفسير هذه الآية” قال بعض العلماء : ليس المراد أنه انتهى إلى الشمس مغرباً و مشرقاً حتى وصل إلى جرمها و مسها ، لأنها تدور مع السماء حول الأرض، من غير أن تلتصق بالأرض ، و هي أعظم من أن تدخل في عين من عيون الأرض ، بل هي أكبر من الأرض أضعافاً مضاعفة ، بل المراد أنه انتهى إلى آخر العمارة من جهة المغرب و من جهة المشرق ، فوجدها في رأي العين تغرب في عين حمئة ، كما أنا نشاهدها في الأرض الملساء كأنها تدخل في الأرض ” .
و يقول سيد قطب في بيان معنى هذه الآية : ” مغرب الشمس هو المكان الذي تغرب عنده وراء الأفق ، و هو يختلف بالنسبة إلى المواضع ، فبعض المواضع يرى الرائي فيها أن الشمس تغرب خلف الجبل ، .تغرب في الماء كما في المحيطات … و الظاهر من النص أن ذا القرنين غرب حتى وصل إلى نقطة على شاطئ المحيط الأطلسي، … فرأى الشمس تغرب فيه.
و الأرجح أنه كان عند مصب أحد الأنهار حيث تكثر الأعشاب ، و يجتمع حولها طين لزج هو الحمأ ، و توجد البرك، و كأنها عيون الماء…عند هذه الحمأة وجد ذو القرنين قوماً…” .
و هكذا يكشف علماؤنا هذا التحريف للنصراني ، فالقرآن لم يقل بأن الشمس غربت في عين حمئة ، بل ذكر ما رآه ذو القرنين { وجدها تغرب في عين حمئة } .
و من التحريف أيضاً أن النصارى حين استشهادهم بالنصوص الإسلامية كانوا يختارون ما يعجبهم من النص و يدعون ما لا يوافق هواهم ، و من ذلك قول وهيب خليل في كتابه ” استحالة تحريف الكتاب المقدس ” في سياق حديثه عن أدلة ألوهية المسيح في القرآن و السنة فيقول: “روى البخاري في الجزء الثالث ص107 قائلاً:” لا تقوم الساعة حتى ينزل فيكم ابن مريم حكماً مقسطاً ” , و في هذا دليل قاطع على ألوهية السيد المسيح، لأن الدينونة لله وحده ” .(/2)
و قد غض النصراني طرفه عن بقية الحديث و فيه : ” فيكسر الصليب و يقتل الخنزير و يضع الجزية و يفيض المال حتى لا يقبله أحد” فالأمور المذكورة في تتمة الحديث تدل على بطلان النصرانية ، و أن المسيح سيحطم رمزها (الصليب) ، و أنه سيحكم بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم ، كما أن الحديث يتحدث عن أحداث قبل القيامة ، فالساعة لا تقوم حتى تحصل هذه الأمور ، و الدينونة الكبرى إنما تكون بعد قيام الساعة.
و نصوص القرآن صريحة في أن الله هو الذي سيدين الخلائق كما قال تعالى { ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق إلا له الحكم و هو أسرع الحاسبين }
مغالطات النصارى :
و يقع النصارى عند إثارتهم للشبهات في مغالطات في الاستدلال ، و من ذلك قول حبيب سعيد في كتابه ” أديان العالم “: ” إن الله في القرآن تحدث عن نفسه بصيغة الجمع ، و الجمع يدل على التثليث ” و يقول : ” نسب القرآن الخلق للمسيح ، فيكون مع الله الذي تحدث عن نفسه بصيغة الجمع : أي اثنان.. و من يخلق حياً يكون إلهاً “.
و مثله جاء في كتاب ” الاستحالة ” بعد أن ذكر أن القرآن يجعل من معجزات المسيح أنه يخلق من الطين كهيئة الطير فيكون طيراً .
و ذكر بأن المسيح يحيي الموتى ثم قال وهيب خليل:” فإذا كان الإسلام يشهد بأن الذي يحيي العظام و هي رميم هو الذي أنشأها أول مرة فقط ، فمن يكون السيد المسيح الذي يشهد له الإسلام بأنه يحيي الموتى؟ أليس هو الله الحي القيوم المحيي المميت الذي أنشأها أول مرة ؟” .
و المغالطة تكمن في أن الآيات نصت في أن ذلك يكون بإذن الله .أي أنه تعالى هو الفاعل الحقيقي للإحياء و الخلق.
كما أن معجزات المسيح في سياق النصوص التي وردت فيها بينت أن المسيح إنما هو رسول الله فحسب.
و من المغالطة أيضاً ما قاله وهيب خليل في سياق استدلاله على وجود التثليث في الإسلام حيث قال:”عندما يقسم الشخص المسلم فبم يقسم ؟ إنه يقول: و الله العظيم ثلاثة. لماذا لم يقل: و الله العظيم . و يكتفي ؟…إذا كان المقصود هو التوكيد فإن الأفضل في هذه الحال أن نردد و بدلاً من ثلاثة القول بأعداد أكثر كثيراً لضمان التوكيد. و لكن المعنى الصحيح في القول: و الله العظيم ثلاثة هو “و الله الأب” و “و الله الابن”و”و الله الروح القدس”..و ومعلوم أن الطلاق في الإسلام يتم في الثلاثة…لماذا يتم بالثلاثة ؟..إن ذلك يرجع إلى أن زواجنا يتم باسم الآب و الابن و روح القدس ، و أن ذلك نقل إلى الإسلام مع بعض التعديلات “.
و من المعلوم أن المسلم حين يكرر البسملة أو أياً من كلامه ثلاثاً لا يخطر ببال تثليث النصارى ، و إنما هو أسلوب في توكيد الكلام أو المعاني ، و العرب تعتبر الرقم ثلاثة من الأرقام التي تفيد الكثرة كالسبعة و السبعين خلافاً للاثنين و الأربعة و الستة.كما أن ” الثلاثة ” هي أول الجمع المفيد للكثرة ، لذا يكثر استخدامه في كلام الناس .
و يرد المطعني شبهة النصراني، و يبين بأن المسلم إنما يقول: و الله العظيم ثلاثاً ، و ليس ثلاثة. فتمييز العدد تقديره : ” مرة “. أي أقسم ثلاث مرات، و من الممكن أن يقسم مرة أو عشرة ، و ذلك كله لا علاقة له بالتثليث.
و يسخر ابن الخطيب من هذا النوع من الاستدلال ، و يرى أنه يمكن للنصارى أن يستدلوا أيضاً لصحة معتقد التثليث بكون المخلفين ثلاثة ، و عدة المطلقة اليائس ثلاثة أشهر ، و يفرض على المتمتع أن يصوم في الحج ثلاثة أيام…و هكذا فكل هذه تصلح دليلاً على التثليث؟!
و من المغالطة أيضاً قول القس شروش أن في القرآن أسماء غير عربية كإبراهيم و فرعون و آدم… و أن هذا يتناقض مع عربية القرآن ، و أسماء الأعلام لا علاقة لهم بلغة المقال.
و من المغالطة احتجاجه على تسمية المسيح بعيسى بينما تسميه الأناجيل بالاسم العبري أو السرياني ” يسوع ” فيقول : ” أدعو السيد ديدات لنرى إن كان يستطيع أن يشرح لكم من أين أتى بكلمة ” عيسى ” في القرآن في حين أن اسمه :يسوع بالعربية” . و المغالطة تكمن في أنه يتجاهل حقيقة معهودة في سائر اللغات ، و هي أن الأسماء و الألفاظ عندما تنتقل من لغاتها إلى لغات أخرى فليس بالضرورة أن تبقى الكلمة كما هي، بل يعاد صرفها بما يلائم اللسان الذي ترجمت إليه ، و هو ما صنعه شروش نفسه بعد دقائق حين قال و هو ينقل نصاً إنجيلياً بأسلوب محاكٍ للقرآن ” فقال له عيسى أنا هو الصراط…” فاستخدم الاسم العربي للمسيح، و فعل ذلك ثانية حين عرب اسم ” مارية “، فاستخدم الاسم العربي” مريم “، و ذلك في قوله عن النبي صلى الله عليه وسلم :” كذلك زوجته الثامنة ” مريم ” كانت عضواً في طائفة مسيحية في مصر” .(/3)
و من المغالطة أيضاً قول صاحب كتاب “الحق”:”إشعياء قال قبل الميلاد بنحو 700عام:” الجالس على كرة الأرض ” (إشعيا 40/22) بينما العلماء لم يجمعوا على كرويتها إلا في عام 1543م ، و بينما يقول القرآن { و الأرض مددناها } { و الله جعل لكم الأرض بساطاً } { و هو الذي مد الأرض } ” فاستنتج النصراني من هذه الآيات أن القرآن، يقول بعدم كروية الأرض.
و يبين ابن الخطيب معنى هذه الآيات ، و أنها تتحدث عن بسط الأرض و مهادها كما يراها الإنسان و يمشي عليها، فالمقصود بالأرض اليابسة التي يمشي عليها الناس ، بينما حين تحدث القرآن عن الأرض ككوكب ذكر ما هو أدق من قول التوراة و النصراني فقال { و الأرض بعد ذلك دحاها } أي جعلها كالدحية ، و هي البيضة ، و هذا ما ينطبق تماماً على الأرض ، و هو أدق علمياً من القول بأنها كروية ، فقد ثبت عند العلماء أنها منبعجة في طرفيها .
و يلجأ النصارى في شبهاتهم إلى محاكمة القرآن إلى كتبهم التي لا سند لها ، و لا اعتداد و لا ثقة بها ، فيعرضها النصارى و كأنها سندات و وثائق تاريخية لا خلاف على صحتها.
و من ذلك تكذيبهم القرآن في قوله بأن اسم والد إبراهيم عليه السلام هو آزر ، لأنه قد جاء في التوراة أنه : تارح (انظر التكوين 11/27) و كذا تكذيبهم أن يكون الذبيح إسماعيل ، لأن التوراة تقول بأنه إسحاق ، (انظر التكوين 22/9-12) و كذا تكذيبهم أن تكون زوجة فرعون قد كفلت موسى ، وقالوا بأن الذي كفله هي ابنة فرعون لما جاء في التوراة (انظر الخروج 2/5-7)، و كذبوا أن يكون لون بقرة بني إسرائيل صفراء فاقع ، لأن التوراة تقول بأنها كانت حمراء اللون (انظر العدد19/1-4) .
و يعرض النصارى أقوال غريبة أو منكرة و يقدمونها على أنها أخبار إسلامية موثوق بها و من ذلك قول القس أنيس شروش و هو يرد و يدفع عن مبالغة التوراة في قولها شمشون قتل ألفاً من الفلسطينيين بفك حمار (انظر القضاة 15/15) فيوهم شروش مستمعيه أن مثل ذلك منقول في تاريخ الإسلام وكتب المسلمين، فيقول: ” المسعودي يخبرنا في كتابه مرادي (يقصد مروج الذهب) أن علياً قتل 525 رجلاً في يوم واحد بيديه المجردتين من غير سلاح و لا عصا و لا فك حمار ، و لعلي أتساءل إن كانت هذه القصة أكثر قابلية للتصديق من قصة قتل شمشون لآلاف من الفلسطينيين بفك حمار كبير”
و المسلمون لا يعتبرون كتاب المسعودي من كتب الاحتجاج ، و مثل هذه الأخبار نطعن بها و بقائليها فكيف يحتج بها علينا ؟
وما نسبه القس للمسعودي لم يخل من التحريف فقد قال المسعودي في سياق ذكره لكثرة القتلى يوم صفين ، فذكر أن علياً قتل ” بكفه في يومه وليلته خمسمائة وثلاث وعشرون رجلاً ” وليس مراده أن هؤلاء قد قتلهم بيديه المجردتين، بل أراد كثرة من قتل على يديه.(/4)
منهج و دراسات لآيات الأسماء و الصفات
محمد الأمين الشنقيطي
الجزء الأول...
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد:فإنا نريد أن نوضح لكم معتقد السلف والطريق الذي هو المنجى نحو آيات الصفات: أولا: اعلموا أن كثرة الخوض والتعمق في البحث في آيات الصفات وكثرة الأسئلة في ذلك الموضوع من البدع التي يكرهها السلف.
اعلموا أن مبحث آيات الصفات دل القرآن العظيم أنه يتركز على ثلاثة أسس من جاء بها كلها فقد وافق الصواب وكان على الاعتقاد الذي كان عليه النبي صلي الله عليه وسلم، وأصحابه والسلف الصالح، ومن أخل بواحد من تلك الأسس الثلاثة فقد ضل.
وكل هذه الأسس الثلاثة يدل عليها قرآن عظيم.
أحد هذه الأسس الثلاثة هو تنزيه الله جل وعلا عن أن يشبه شيء من صفاته شيثا من صفات المخلوقين. وهذا الأصل يدل عليه قوله تعالى: ( ليس كمثله شئ)، (ولم يكن له كفؤا أحد)، (فلا تضربوا لله الأمثال).
الثاني: من هذه الأسس: هو الإيمان بما وصف الله به نفسه، لأنه لا يصف الله أعلم بالله من الله (أأنتم أعلم أم الله). والإيمان بما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم لأنه لا يصف الله بعد الله أعلم بالله من رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي قال في حقه: (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى)، فيلزم كل مكلف أن يؤمن بما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم وينزه الله جل وعلا عن أن تشبه صفته صفة الخلق. وحيث أخل بأحد هذين الأصلين وقع في هوة ضلال، لأن من تنطع بين يدى رب السموات والأرض وتجرأ على الله بهذه الجرأة العظيمة ونفي عن ربه وصفا أثبته لنفسه فهذا مجنون فالله جل وعلا يثبت لنفسه صفات كمال وجلال فكيف يليق لمسكين جاهل أن يتقدم بين يدي رب السموات والأرض ويقول هذا الذي وصفت به نفسك لا يليق بك ويلزمه من النقص كذا وكذا، فأنا أؤوله وألغيه وآتى ببدله من تلقاء نفسي من غير استناد إلى كتاب أو سنة. سبحانك هذا بهتان عظيم! ومن ظن أن صفة خالق السموات والأرض تشبه شيئا من صفات الخلق فهذا مجنون جاهل، ملحد ضال، ومن آمن بصفات ربه جل وعلا منزها ربه عن تشبيه صفاته بصفات الخلق فهو مؤمن منزه سالم من ورطة التشبيه والتعطيل. وهذا التحقيق هو مضمون: (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) فهده الآية فيها تعليم عظيم يحل جميع الإشكالات ويجيب عن جميع الأسئلة حول الموضوع. ذلك لأن الله قال: (وهو السميع البصير) بعد قوله (ليس كمثله: شئ). ومعلوم أن السمع والبصر من حيث هما سمع وبصر يتصف بهما جميع الحيوانات، فكأن الله يشير للخلق ألا ينفوا عنه صفة سمعه وبصره بادعاء أن الحوادث تسمع وتبصر وأن ذلك تشبيه بل عليهم أن يثبتوا له صفة سمعه وبصره على أساس (ليس كمثله شىء). فالله جل وعلا له صفات لائقة بكماله وجلاله والمخلوقات لهم صفات مناسبة لحالهم وكل هذا حق ثابت لا شك فيه.
إلا أن صفة رب السموات والأرض أعلى وأكل من أن تشبه صفات المخلوقين، فمن نفي عن الله وصفا أثبته لنفسه فقد جعل نفسه أعلم؟ دثه بن الله سبحانك هذا بهتان عظيم،. من ظن أن صفة ربه تشبه شيثا من صفة الخلق فهذا مجنون ضال ملحد لا عقل له يدخل في قوله: (تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين). ومن يسوى رب العالمين بغيره فهو مجنون.
ثم اعلموا أن المتكلمين الذين خاضوا في الكلام بأدلة يسمونها أدلة عقلية ركبوها في أقيسة منطقية، قسموا صفات الله جل وعلا إلى ستة أقسام. قالوا: هناك صفة نفسية وصفة معنى. وصفة معنوية وصفة فعلية وصفة سلبية وصفة جامعة. أما الصفات الإضافية فقد جعلوها أمورا إعتبارية لا وجود لها في الخارج وسببوا بذلك إشكالات عظيمة وضلالا مبينا.
ثم إنا نبين لكم على تقسيم المتكلمين ما جاء في القران العظيم من وصف الخالق جل وعلا بتلك الصفات ووصف المخلوقين بتلك الصفات وبيان القران العظيم لأن صفة خالق السموات والأرض حق وأن صفة المخلوقين حق، وأنه لا مناسبة بين صفة الخالق وبين صفة المخلوق فصفة الخالق لائقة بذاته وصفة المخلوق مناسبة لعجزه وافتقاره وبين الصفة والصفة من المخالفة كمثل ما ببن الذات والذات.
أما هذا الكلام الذي يدرس في أقطار الدنيا اليوم في المسلمين فإن أغلب الذين يدرسونه إنما يثبتون من الصفات التي يسمونها صفات المعاني سبع صفات فقط وينكرون سواها من المعاني ويؤولونها، وصفة المعنى عندهم في الاصطلاح ضابطها أنها ما دل على معنى وجودي قائم بالذات، والذي اعترفوا به منها سبع صفات، هي: القدرة والإرادة والعلم والحياة والسمع والبصر والكلام.
ونفوا غير هذه الصفات من صفات المعاني التي سنبينها ونبين أدلتها من كتاب الله. وأنكر هذه المعاني السبعة المعتزلة وأثبتوا أحكامها فقالوا:(/1)
هو قادر بذاته سميع بذاته عليم بذاته حي بذاته، ولم يثبتوا قدرة ولا علما ولا حياة ولا سمعا ولا بصرا، فرارا منهم من تعدد القديم وهو مذهبٌ كلُ العقلاء يعرفون ضلاله وتناقضه " وأنه إذا لم يقم بالذات علم استحال أن تقول هي عالمة بلا علم وهو تناقض واضح بأوائل العقول. فإذا عرفتم هذا فسنتكلم على صفات المعاني التي أقروا بها فنقول:
1- وصفوا الله تعالى بالقدرة وأثبتوا له القدرة والله جل وعلا يقول في كتابه: (إن الله على كل شيء قدير) ونحن نقطع أنه تعالى متصف بصفة القدرة على الوجه اللائق بكماله وجلاله. وكذلك وصف بعض المخلوقين بالقدرة قال (إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم) فأسند القدرة لبعض الحوادث ونسبها إليهم ونحن نعلم أن كل ما في القرآن حق وأن للمولى جل وعلا قدرة حقيقية تليق بكماله وجلاله. كما أن للمخلوقين قدرة حقيقية مناسبة لحالهم وعجزهم وفنائهم وافتقارهم. وبين قدرة الخالق والمخلوق من المنافاة والمخالفة كمثل ما بين ذات الخالق والمخلوق- وحسبك بونا بذلك.
2، 3- ووصف نفسه بالسمع والبصر في غير ما آية من كنابه قال: (إن الله سميع بصير، (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير)، ووصف بعض الحوادث بالسمع والبصر، قال: (إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا)، (أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا). ونحن لا نشك أن ما في القرآن حق فله جل وعلا سمع وبصر حقيقيان لائقان بجلاله وكماله. كما أن للمخلوق سمعا وبصرا حقيقين مناسبين لحاله من فقره وفنائه وعجزه وبين سمع وبصر الخالق وسمع وبصر المخلوق من المخالفة كمثل ما بين ذات الخالق والمخلوق.
4- ووصف نفسه بالحياة قال تعالى: (الله لا إله إلا هو الحي القيوم) (وتوكل على الحي الذي لا يموت) (هو الحي لا إله إلا هو)، الآية. ووصف أيضا بعض المخلوقين بالحياة قال: (وجعلنا من الماء كل شيء حي)، (وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا) (يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي) ونحن نقطع بأن لله جل وعلا صفة حياة حقيقية لائقة بكماله وجلاله. كما أن للمخلوقين حياة مناسبة لحالهم وعجزهم وفنائهم وافتقارهم وببن صفة الخالق والمخلوق من المخالفة كمثل ما بين ذات الخالق والمخلوق. وذلك بون شاسع ين الخالق وخلقه.
5- ووصف جل وعلا نفسه بالإرادة قال: (فعال لما يريد)، (إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون). ووصف بعض المخلوقين بالإرادة قال: (تريدون عرض الدنيا)، (إن يريدون إلا فرارا)، (يريدون ليطفئوا نور الله) ولاشك أن لله إرادة حقيقية لائقة بكماله وجلاله كما أن للمخلوقين إرادة مناسبة لحالهم وعجزهم وفنائهم وافتقارهم، وبين إرادة الخالق والمخلوق كمثل ما بين ذات الخالق والمخلوق.
6- وصف نفسه جل وعلا بالعلم قال: (والله بكل شيء عليم)، (لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه) (فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين). ووصف بعض المخلوقين بالعلم قال: (وبشرناه بغلام عليم) (وإنه لذو علم لما علمناه). ولا شك أن للخالق جل وعلا علما حقيقيا لائقا بكماله وجلاله محيطا بكل شيء، كما أن للمخلوقين علما مناسبا لحالهم وفنائهم وعجزهم وافتقارهم وبين علم الخالق والمخلوق من المنافاة والمخالفة كمثل ما بين ذات الخالق والمخلوق.
7- ووصف نفسه جل وعلا بالكلام. قال: (وكلم الله موسى تكليما)، (فأجره حتى يسمع كلام الله). ووصف بعض المخلوقين بالكلام، قال: (فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين) (وتكلمنا أيديهم). ولا شك أن للخالق تعالى كلاما حقيقيا لائقا بكماله وجلاله. كما أن للمخلوقين كلاما مناسبا لحالهم وفنائهم وعجزهم وافتقارهم، وببن كلام الخالق والمخلوق من المنافاة والمخالفة كمثل ما بين ذات الخالق والمخلوق.
هذه صفات المعاني سمعتم ما في القران من وصف الخالق بها ووصف المخلوق، ولايخفى على عاقل أن صفات الخالق حق، وأن صفات الخالق لائقة بجلاله وكماله، وصفات المخلوقين مناسبة لحالهم وبين الصفة والصفة كما بين الذات والذات.
وسنبين مثل ذلك في الصفات التي يسمونها سلبية.(/2)
وضابط الصفة السلبية عند المتكلمين. نقول: هذا قياس عدم محض، والمراد بها أن تدل على سلب مالا يليق بالله عن الله من غير أن تدل على معنى وجودى قائم بالذات. والذين قالوا هذا جعلوا الصفات السلبية خمسا لا سادس لها. وهى عندهم القدم والبقاء والمخالفة للخلق والوحدانية والغنى المطلق الذي يسمونه القيام بالنفس الذي يعنون به الاستغناء عن المخصص والمحل. فإذا عرفتم هذا فاعلموا أن القدم والبقاء اللذين وصف المتكلمون بهما الله جل وعلا زاعمين أنه وصف بهما نفسه في قوله هو الأول والآخر قد وصف بهما المخلوق والقدم في الاصطلاح عندهم عبارة عن سلب العدم السابق إلا أنه عندهم أخص من ا لأزل لأن الأزل عبارة عما لا افتتاح له سواء كان وجوديا كذات الله وصفاته أو عدميا كإعدام ما سوى الله لأن العدم السابق على العالم قبل وجوده لا أول له فهو أزلي ولا يقال فيه قديم والقدم عندهم عبارة عما لا أول له بشرط أن يكون وجوديا كذات الله متصفة بصفات الكمال والجلال ونحن الآن نتكلم على ما وصفوا به الله جل وعلا من القدم والبقاء وإن كانبعض العلماء كره وصفه جل وعلا بالقدم كما يأتي.فالله عز وجل وصف بعض المخلوقين بالقدم قال: (كالعرجون القديم) إنك لفي ضلالك القديم) (أنتم وأباؤكم الأقدمون) ووصف بعضهم بالبقاء قال: (وجعلنا ذريته هم الباقين)2 ما عندكم ينفذ وما عند الله باق) ولاشك أن ما وصفوا به الله من هذه الصفات مخالف لما وصف به الخلق نحو ما تقدم.
أما الله عز وعلا فلم يصف في كتابه نفسه بالقدم وبعض السلف كره وصفه بالقدم لأنه قد يطلق مع سبق العدم نحو: (كالعرجون القديم) (إنك لفي ضلالك القديم) (أنتم وآباؤكم الأقدمون) وقد جاء فيه حديث قال فيه بعض العلماء هو يدل على وصفه بهذا وبعضهم يقول لم يثبت وقد ذكر الحاكم في المستدرك في بعض الروايات القديم في أسمائه تعالى وفي حديث دخول المسجد: أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم. أما الأولية والآخرية التي نص الله عليهما في قوله: (هو الأول والآخر) فقد وصف بعض المخلوقين أيضا بالأولية والآخرية قال: (ألم نهلك الأولين ثم نتبعهم الآخرين) ولا شك أن ما وصف الله به نفسه من ذلك لائق بجلاله وكماله كما أن للمخلوقين أولية وآخرية مناسبة لحالهم وفنائهم وعجزهم وافتقارهم.
ووصف نفسه بأنه واحد قال: (وإلهكم إله واحد) ووصف بعض المخلوقين بذلك قال: (يسقى بماء واحد) ووصف نفسه بالغنى قال: (فإن الله هو الغنى الحميد)، (إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فان الله هوالغنى الحميد،، فكفروا وتولوا واستغى الله والله غنى حميد) ووصف بعض المخلوقين بالغنى قال: (ومن كان غنيا فليستعفف) (إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله ).(/3)
فهذه صفات السلب جاء في القرآن وصف الخالق والمخلوق بها ولاشك أن ما وصف به الخالق منها لائق بكماله وجلاله وما وصف به المخلوق مناسب لحاله وفنائه وعجزه وافتقاره. ثم نذهب إلى الصفات السبع التي يسمونها المعنوية والتحقيق: أن عد الصفات السبع المعنوية التي هي كونه تعالى قادرا ومريدا وعالما وحيا وسميعا وبصيرا ومتكلما لا وجه له لأنها في الحقيقة 0إانما هي كيفية الاتصاف بالمعاني السبع التي ذكرنا ومن عدها من المتكلمين عدوها بناء على ثبوت ما يسهونه الحال المعنوية التي يزعمون أنها واسطة ثبوتية لا معدومة ولا موجودة. والتحقيق إن هذه خرافة وخيال. وإن العقل الصحيح لا يجعل بين الشيء ونقيضه واسطة البتة فكل ما ليس بموجود فهو معدوم قطعا وكل ما ليس بمعدوم فهو موجود قطعا ولا واسطة البتة كما هو معروف عند العقلاء. فإذا كنا قد مثلنا لكونه قادرا وحيا ومريدا وسميعا وبصيرا ومتكلما لما جاء في القرآن من وصف الخالق بذلك وما جاء في القران من وصف المخلوق بذلك وبينا أن صفة الخالق لائقة بكماله وجلاله وان صفة المخلوق مناسبة لحاله وفنائه وعجزه وافتقاره، فل داعي لأن ننفي وصف رب السموات والأرض لئلا نشبهها بصفات المخلوقين، بل يلزم أن نقر بوصف الله ونؤمن به في حال كوننا منزهين له عن مشابهة صفة المخلوق وهذه صفات الأفعال جاء في القرآن بكثرة وصف الخالق بها ووصف المخلوق ولاشك أن ما وصف به الخالق منها مخالف لما وصف به المخلوق كالمخالفة التي بين ذات الخالق وذات المخلوق، ومن ذلك أنه وصف نفسه جل وعلا بصفة الفعل التي هي أنه يرزق خلقه قال جل وعلا: (ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين) (وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين). ووصف بعض المخلوقين بصفة الرزق قال: (وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه) (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قيما وارزقوهم فيها. (وعلى المولود له رزقهن). ولا شك أن ما وصف الله به من هذا الفعل مخالف لما وصف به منه المخلوق كمخالفة ذات الله لذات المخلوق. ووصف نفسه جل وعلا بصفة الفعل الذي هو العمل قال: (أو لم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون). ووصف المخلوقبن بصفة الفعل التي هي العمل قال: (إنما تجزون ما كنتم تعملون). ولا شك أن ما وصف الله به من هذا الفعل مناف لما وصف به المخلوق مخالف له كمخالفة ذات الخالق لذات المخلوق.
ووصف نفسه بأنه يعلم خلقه: (الرحمن علم القرآن. خلق الإنسان علمه البيان) (إقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم) ( وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما). ووصف بعض خلقه بصفة الفعل التي هي التعليم أيضا قال: (هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب). وجمع المثالين في قوله: (تعلمونهن مما علمكم الله). ووصف نفسه جل وعلا بأنه ينبئ ووصف المخلوق بأنه ينبئ وجمع بين الفعل في الأمرين في قوله جل وعلا: (وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا فلما نبأت به وأظهره الله عليه عرف بعضه وأعرض عن بعض فلما نبأها به قالت من أنبأك هذا قال نبأني العليم الخبير). ولا شك أن ما وصف الله به من هذا الفعل مخالف لما وصف به منه العبد كمخالفة ذات الخالق لذات المخلوق. ووصف نفسه بصفة الفعل الذي هو الإيتاء فال جل وعلا: (يؤتى الحكمة من يشاء) (ويؤت كل ذي فضل فضله). ووصف المخلوق بالفعل الذي هو الإيتاء قال: (وآتيتم إحداهن قنطارا) ( وآتوا النساء صدقاتهن نحلة).
ولاشك أن ما وصف الله به من هذا الفعل نحالف لما وص ف به العبد من هذا الفعل كمخالفة ذاته لذاته.
ثم نتكلم على الصفات الجامعة كالعلو والعظم والكبر والملك والتكبر والجبروت والعزة والقوة وما جرى مجرى ذلك من الصفات الجامعة فنجد الله وصف نفسه بالعلو والكبر والعظم قال في وصف نفسه بالعلو والعظم: (ولا يؤوده حفظهما وهو العلي العظيم). وقال في وصف نفسه بالعلو والكبر: (إن الله كان عليا كبيرا) (عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال).
ووصف بعض المخلوقين بالعظم قال: (فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم) (إنكم لتقولون قولا عظيما) (ولها عرش عظيم). ووصف بعض المخلوقين بالعلو قال: (ورفعناه مكانا عليا. وجعلنا لهم لسان صدق عليا).
ولأشك أن ما وصف الله به من هذه الصفات الجامعة كالعلو والكبر والعظم مناف لما وصف به المخلوق منها كمخالفة ذات الخالق لذات المخلوق فلا مناسبة بين ذات الخالق والمخلوق كما لا مناسبة بين صفة الخالق وصفة المخلوق.
ووصف نفسه بالملك قال: (يسبح له ما في السموات وما في الأرض الملك القدوس) (هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس) (في مقعد صدق عند مليك مقتدر).(/4)
ووصف بعض المخلوقين بالملك قال: (وقال الملك إني أرى سبع بقرات سمان) (وقال الملك إئتوني به) (وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا) (تؤتى الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء).
ولاشك أن الله جل وعلا ملكا حقيقيا لائقا بكماله وجلاله. كما أن للمخلوقين ملكأ مناسبة لحالهم وفنائهم وعجزهم وافتقارهم.
ووصف نفسه بأنه جبار متكبر قال: (هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس)، إلى قوله: (الجبار المتكبر). ووصف بعض المخلوقين بأنه جبار متكبر قال: (كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار) (وإذا بطشتم بطشتم جبارين) (أليس في جهنم مثوى للمتكبرين) (واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد).
ولاشك أن ما وصف به الخالق من هذه الصفات مناف لما وصف به المخلوق كمنافاة ذات الخالق لذات المخلوق.
ووصف نفسه جل وعلا بالعزة قال: (إن الله عزيز ح~م) (أم عندهم خزائن رحمة ربك العزيز الوهاب). ووصف بعض المخلوقين بالعزة قال: (وقالت امرأة العزيز) (وعزني في الخطاب). وجمع المثالين في قوله: (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين).
ولا شك أن ما وصف به الخالق من هذا الوصف مناف لما وصف به المخلوق كمخالفة ذات الخالق لذات المخلوق.
ووصف نفسه جل وعلا بالقوة قال: (ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين). (ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوى عزيز).
ووصف بعض المخلوقين بالقوة قال: (ويزدكم قوة إلى قوتكم).
وقال جل وعلا: (الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة). وجمع بين المثالين في قوله: (فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة وكانوا بآياتنا يجحدون).
ثم إننا نتكلم على الصفات التي اختلف فيها المتكلمون. هل هي صفات فعل أو صفات معنى والتحقيق: أنها صفات معان قائمة بذات الله جل وعلا. كالرأفة والرحمة والحلم. فنجده جل وعلا وصف نفسه بأنه رؤوف رحيم قال: (إن ربكم لرؤوف رحيم) ووصف بعض المخلوقين بذلك قال في وصف نبينا صلوات الله وسلامه عليه: (قد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم).
ووصف نفسه بالحلم قال: (ليدخلنهم مدخلا يرضونه وإن الله لعليم حليم) (واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه واعلموا أن الله غفور حليم) (قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى والله غني حليم) ووصف بعض المخلوقين بالحلم قال: (فبشرناه بغلام حليم) (إن إبراهيم لأواه حليم).
ووصف نفسه بالمغفرة قال: (إن الله غفور رحيم) (فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء). ووصف بعض المخلوقين بالمغفرة قال: (ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور) (قول معروف ومغفرة) الآية. ( قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله).
ولاشك أن ما وصف به خالق السموات والأرض من هذه الصفات أنه حق لائق بكماله وجلاله لا يجوز أن ينفى خوفا من التشبيه بالخلق. وان ما وصف به الخلق من هذه الصفات حق مناسب لحالهم وفنائهم وعجزهم وافتقار هم.
وعلى كل حال فلا يجوز للإنسان أن يتنطع إلى وصف أثبته الله جل وعلا لنفسه فينفي هذا الوصف عن الله متهجما على رب السموات والأرض مدعيا عليه أن هذا الوصف الذي تمدح به أنه لا يليق به وأنه هو ينفيه عنه ويأتيه بالكمال من كيسه الخاص فهذا جنون وهوس ولا يذهب إليه إلا من طمس الله بصائرهم.
وسنضرب لكم لهذا مثلا يتبين به الكل، لأن مثلا واحدا من آيات الصفات ينسحب على الجميع إذ لا فرق بين الصفات لأن الموصوف بها واحد. وهو جل وعلا لا يشبهه شيء من خلقه في شيء من صفاته البتة. فهذه صفة الاستواء التي كثر فيها الخوض ونفاها كثير من الناس بفلسفة
منطقية وأدلة جدلية سنتكلم فيآخر البحث على وجوه إبطالها كلاما يخص الذين درسوا المنطق والجدل ليتبين كيف استدل أولئك بالباطل وأبطلوا به الحق وأحقوا به الباطل. فهذه صفة الاستواء تجرأ الآلاف ممن يدعون الإسلام ونفوها عن رب السموات والأرض بأدلة منطقية يركبون فبها قياسا استثنائيا مركبا من شرطية متصلة لزومية واستثنائية يستثنون فيه نقيض التالي ينتجون في زعمهم الباطل نقيض المقدم بناء على أن نفي اللازم يقتضي نفي الملزوم. فيقولون مثلا لو كان مستويا على عرشه لكان مشابها للخلق لكنه لم يكن مشابها للخلق فينتجون، ليس مستويا على العرش، وعظم هذا الافتراء كما ترى.(/5)
1- اعلموا أن هذه الصفة التي هي صفة الاستواء صفة كمال وجلال تمدح بها رب السموات والأرض، والقرينة على أنها صفة كمال وجلال أن الله ما ذكرها في موضع من كتابه إلا مصحوبة بما يبهر العقول من صفات جلاله وكماله التي هي منها. وسنضرب مثلا لذلك بذكر الآيات: فأول سورة ذكر الله فيها صفة الاستواء حسب ترتيب المصحف سورة الأعراف قال: (إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين). فهل لأحد أن ينفي شيئا من هذه الصفات الدالة على الجلال والكمال.
2- الموضع الثاني في سورة يونس قال: (إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيا ثم استوى على العرش يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه ذلكم ربكم فاعبدوه أفلا تذكرون إليه مرجعكم جميعا وعد الله حقا إنه يبدأ الخلق ثم يعيده ليجزى الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون. هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون. إن في اختلاف الليل والنهار وما خلق الله في السموات والأرض لآيات لقوم يتقون).
فهل لأحد أن ينفي شيئا من هذه الصفات الدالة على هذا من الكمال والجلال.
3- الموضع الثالث في سورة الرعد في قوله جل وعلا: (الله الذي رفع السموات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش وسخر الشمس والقمر كل يجرى لأجل مسمى يدبر الأمر يفصل الآيات لعلكم بلقاء ربكم توقنون. وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهارا ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين يغشى الليل النهار إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون. وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون).
وفي القراءة الأخرى (وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان. تسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون) فهل لأحد أن ينفي شيئا من هذه الصفات الدالة على الجلال والكمال.
4- الموضع الرابع في سورة طه: (طه. ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى. ءالا تذكرة لمن يخشى. تنزيلا ممن خلق الأرض والسموات العلى الرحمن على العرش استوى له ما في السموات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى. وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفي. الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى).
فهل لأحد أن ينفي شيئا من هذه الصفات الدالة على الجلال والكمال.
5- الموضع الخامس في سورة الفرقان في قوله: (وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده وكفى به بذنوب عباده خبيرا) (الذي خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش الرحمن فاسأل به خبيرا، فهل لأحد أن ينفي شيئا من هذه الصفات الدالة على هذا من الكمال والجلال.
6- الموضع السادس في سورة السجدة في قوله تعالى: (أم يقولون افتراه بل هو الحق من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يهتدون. الله الذي خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولى ولا شفيع أفلا تتذكرون. يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه فئ يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون. ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز ا لرحيم. الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين. ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين. ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون) فهل لأحد أن ينفي شيئا من هذه الصفات الدالة على هذا من الجلال والكمال.
7- الموضح السابع في سورة الحديد في قوله تعالى: (هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم. هو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أينما كنتم والله بما تعملون بصير).
فالشاهد أن هذه الصفة التي يظن الجاهلون أنها صفة نقص ويتهجمون على رب السموات والأرض بأنه وصف نفسه صفة نقص ثم يسببون عن هذا أن ينفوها ويؤولوها مع أن الله جل وعلا تمدح بها وجعلها من صفات الجلال والكمال مقرونة بما يبهر العقول من صفات الجلال والكمال. هدا يدل على جهل وهوس من ينفي بعض صفات الله جل وعلا بالتأويل.
الجزء الثاني...
ثم اعلموا أن هذا الشيء الذي يقال له التأويل ـ الذي فتن به الخلق وضل به آلاف من هذه الأمة ـ يطلق مشتركا بين ثلاثة معان:
1- يطلق على ما تؤول إليه حقيقة الأمر في ثاني حال وهذا هو معناه في القرآن نحو (ذلك خير وأحسن تأويلا). (ولما يأتهم تأويله كذلك كذب الذين من قبلهم)، الآية، (هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل). ومعنى التأويل في الآيات المذكورة ما تؤول إليه حقيقة الأمر في ثاني حال.(/6)
2- ويطلق التأويل بمعنى التفسير وهذا قول معروف كقول ابن جرير: القول في تأويل قوله تعالى كذا، أي تفسيره.
3- أما في اصطلاح الأصوليين فالتأويل هو صرف اللفظ عن ظاهره المتبادر منه إلى محتمل مرجوح لدليل.
وصرف اللفظ عن ظاهره المتبادر منه له عند علماء الأصول ثلاث حالات.
ا) إما أن يصرفه عن ظاهره المتبادر منه لدليل صحيح من كتاب أو سنة وهذا النوع من التأويل صحيح مقبول لا نزاع فيه ومثال هذا النوع ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الجار أحق بصقبه) . فظاهر هذا الحديث ثبوت الشفعة للجار وحمل هذا الحديث على الشريك المقاسم حمل اللفظ على محتمل مرجوح غير ظاهر متبادر إلا أن حديث جابر الصحيح (فإذا ضربت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة)، دل على أن المراء بالجار الذي هو أحق بصقبه خصوص الشريك المقاسم. فهذا النوع من صرف اللفظ عن ظاهره المتبادر منه لدليل واضح يجب الرجوع إليه من كتاب وسنة وهذا التأويل يسمى تأويلا صحيحا وتأويلا قريبا ولا مانع منه إذا دل عليه النص.
ب) الثاني هو صرف اللفظ عن ظاهره المتبادر منه لشيء يعتقده المجتهد دليلا وهو في نفس الأمر ليس بدليل فهذا يسمى تأويلا بعيدا ويقال له فاسد ومثل له بعض العلماء بتأويل الإمام أبي حنيفة رحمه الله لفظ امرأة في قوله صلى الله عليه وسلم: "أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل باطل) قالوا حمل هذا على خصوص المكاتبة تأويل بعيد لأنه صرف اللفظ عن ظاهره المتبادر منه لأن (أي) في قوله (أي امرأة) صيغة عموم وأكدت صيغة العموم بما المزيدة للتوكيد فحمل هذا على صورة نادرة هي المكاتبة حمل، للفظ على غير ظاهره لغير دليل جازم يجب الرجوع إليه.
(ج) أما حمل اللفظ على غير ظاهره لا لدليل: فهذا لا يسمى تأويلا في الاصطلاح بل يسمى لعبا لأنه تلاعب بكتاب الله وسنة في نبيه صلى الله عليه وسلم ومن هذا تفسير غلاة الروافض قوله تعالى: (إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة)، قالوا عائشة. ومن هذا النوع صرف آيات الصفات عن ظواهرها إلى محتملات ما أنزل الله بها من سلطان كقولهم استوى بمعنى استولى فهذا لا يدخل في اسم التأويل لأنه لا دليل عليه البتة وإنما يسمى في اصطلاح أهل الأصول لعبا. لأنه تلاعب بكتاب الله جل وعلا من غير دليل ولا مستند فهذا النوع لا يجوز لأنه تهجم على كلام رب العالمين. والقاعدة المعروفة عند علماء السلف أنه لا يجوز صرف شيء من كتاب الله ولا سنة رسوله عن ظاهره المتبادر منه إلا بدليل يجب الرجوع إليه.
وكل هذا الشر- فاسمعوا أيها الإخوان نصيحة مشفق- إنما جاء من مسألة وهى نجس القلب وتلطخه وتدنسه بأقذار التشبيه فإذا سمع ذ و القلب المتنجس بأقذار التشبيه صفة من صفات الكمال أثنى الله بها على نفسه كنزوله إلى سماء الدنيا في ثلث الليل الأخير وكاستوائه على عرشه وكمجيئه يوم القيامة وغير ذلك من صفات الجلال والكمال أول ما يخطر في ذهن المسكين أن هذه الصفة تشبه صفة الخلق فيكون قلبه متنجسا بأقذار التشبيه
لا يقدر الله حق قدره ولا يعظم الله حق عظمته حيث يسبق إلى ذهنه أن صفة الخالق تشبه صفة المخلوق فيكون فيها أولا نجس القلب متقذره بأقذار التشبيه فيدعو شؤم هذا التشبيه إلى أن ينفي صفة الخالق جل وعلا عنه بادعاء أنها تشبه صفات المخلوق فيكون فيها أولا مشبها وثانيا معطلا ضالا ابتداء وانتهاء متهجما على رب العالمين ينفي صفاته عنه بادعاء أن تلك الصفة لا تليق. واعلموا أن هنا قاعدة أصولية أطبق عليها من يعتد به من أهل العلم وهى أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يجوز في حقه تأخير البيان عن وقت الحاجة ولاسيما في العقائد ولاسيما لو مشينا على فرضهم الباطل "أن ظاهر آيات الصفات الكفر" فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يؤول الاستواء (بالاستيلاء) ولم يؤول شيئا من هذه التأويلات ولو كان المراد بها هذه التأويلات لبادر النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيانها لأنه لا يجوز في حقه تأخير البيان عن وقت الحاجة فالحاصل أنه يجب على كل مسلم أن يعتقد هذا الاعتقاد الذي يحل جميع الشبه ويجيب عن جميع الأسئلة وهو: أن الإنسان إذا سمع وصفا وصف به خالق السموات والأرض نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم امتلأ صدره من التعظيم فيجزم بأن ذلك الوصف بالغ من غايات الكمال والشرف والعلو ما يقطع جميع علائق أوهام المشابهة، بينه وبين صفات المخلوقين فيكون القلب منزها معظما له جل وعلا غير متنجس بأقذار التشبيه فتكون أرض قلبه قابلة للإيمان والتصديق بصفات الله التي تمدح بها أو أثنى عليه بها نبيه صلى الله عليه وسلم على غرار (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير). والشر كل الشر في عدم تعظيم الله وأن يسبق في ذهن الإنسان أن صفة الخالق تشبه صفة المخلوق فيضطر المسكين أن ينفي صفة الخالق بهذه الدعوى الكاذبة.
ولأبد في هذا المقام من نقط يتنبه إليها طالب العلم:(/7)
أولا: أن يعلم طالب العلم أن جميع الصفات من باب واحد إذ لا فرق بينها البتة لان الموصوف
بها واحد وهو جل وعلا لا يشبه الخلق في شيء من صفاتهم البتة، فكما أنكم أثبتم له سمعا وبصرا لائقين بجلاله لا يشبهان شيئا من أسماع الحوادث وأبصارهم فكذلك يلزم أن تجروا هذا بعينه في صفة الاستواء والنزول والمجيء إلى غير ذلك من صفات الجلال والكمال التي أثنى الله بها كل نفسه.
واعلموا أن رب السموات والأرض يستحيل عقلا أن يصف نفسه بما يلزمه محذور أو يلزمه محال أو يؤدى إلى نقص. كل ذلك مستحيل عقلا. فإن الله لا يصف نفسه إلا بوصف بالغ من الشرف والعلو والكمال ما يقطع جميع علائق أوهام المشابهة بينه وبين صفات المخلوقين على حد قوله (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير).
الثاني: أن يعلموا أن الصفات والذات من باب واحد فكما أننا نثبت ذات الله جل وعلا إثبات وجود وإيمان لا إثبات كيفية مكيفة فكذلك نثبت لهذه الذات الكريمة المقدسة صفات إثبات إيمان ووجود لا إثبات كيفية وتحديد.
واعلموا أن آيات الصفات كثير من الناس يطلق عليها اسم المتشابه
وهذا من جهة غلط ومن جهة قد يسوغ كما يثبته الإمام مالك في أنس. أما المعاني فهي معروفة عند العرب كما قال الإمام مالك بن أنس رحمه الله الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول والسؤال عنه بدعة.
كذلك يقال في النزول: النزول غير مجهول، والكيف غير معقول، والسؤال عنه بدعة. واطرده في جميع الصفات لأن هذه الصفات معروفة عند العرب، إلا أن ما وصف به خالق السموات والأرض منها أكمل وأجل وأعظم من أن يشبه شيئا من صفات المخلوقين كما أن ذات الخالق جل وعلا حق والمخلوقون لهم ذوات وذات الخالق جل وعلا أكمل وأنزه وأجل من أن تشبه شيئا من ذوات المخلوقين.
فعلى كل حال. الشر كل الشر في تشبيه الخالق بالمخلوق وتنجيس القلب بقذر التشبيه فالإنسان المسلم إذا سمع صفة وصف بها الله أول ما يجب عليه أن يعتقد أن تلك الصفة بالغة من الجلال والكمال ما يقطع أوهام علائق المشابهة بينها وبين صفات المخلوقين فيكون أرض قلبه طيبة طاهرة قابلة للإيمان بالصفات على أساس التنزيه على نحو (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير).
وهنا سؤال لابد من تحقيقه لطالب العلم أولا: اعلموا أن المقرر في الأصول أن الكلام إن دل على معنى لا يحتمل غيره فهو المسمى نصا كقوله مثلا (تلك عشرة كاملة). فإذا كان يحتمل معنيين أو أكثر فلا يخلو من حالتين: إما أن يكون أظهر في أحد الاحتمالين من الآخر وإما أن يتساوى بينهما فإن كان الاحتمال يتساوى بينهما فهذا الذي يسمى في الاصطلاح المجمل كما لو قلت (عدا اللصوص البارحة على عين زيد) فإنه يحتمل أن تكون عينه الباصرة عوروها أو عينه الجارية غوروها أو عين ذهبه وفضته سرقوها. فهذا مجمل. وحكم المجمل أن يتوقف عنه إلا بدليل على التفصيل. أما إذا كان نصا صريحا فالنص يعمل به ولا يعدل عنه إلا بثبوت النسخ.
فإذا كان أظهر في أحد الاحتمالين فهو المسمى بالظاهر. ومقابله يسمى (محتملا مرجوحا) والظاهر يجب الحمل عليه إلا لدليل صارف عنه، كما لو قلت: رأيت أسدا فهذا مثلا ظاهر في الحيوان المفترس. محتمل في الرجل الشجاع. وإذا فنقول: فالظاهر المتبادر من آيات الصفات من نحو قوله (يد الله فوق أيديهم) وما جرى مجرى ذلك، هل نقول الظاهر المتبادر من هذه الصفة هو مشابهة الخلق حتى يجب علينا أن نقول ونصرف اللفظ عن ظاهره أو ظاهرها المتبادر منها تنزيه رب السموات والأرض حتى يجب علينا أن نقره على الظاهر من التنزيه؟
الجواب أن كل وصف أسند إلى رب السموات والأرض فظاهره المتبادر منه عند كل مسلم هو التنزيه الكامل عن مشابهة الخلق فإقراره على ظاهره هو الحق وهو تنزيه رب السموات والأرض عن مشابهة الخلق في شيء من صفاته فهل ينكر عاقل أن المتبادر للأذهان السليمة أن الخالق ينافي المخلوق في ذاته وسائر صفاته؟ لا والله لا يعارض في هذا إلا مكابر.
ثم بعد هذا البحث الذي ذكرنا نحب أن نذكر كلمة قصيرة لجماعة قرءوا في المنطق والكلام وظنوا نفي بعض الصفات من أدلة كلامية كالذي يقول مثلا: لو كان مستويا على العرش لكان مشابها للحوادث لكنه غير مشابه للحوادث ينتج فهو غير مستو على العرش هذه النتيجة الباطلة تضاد سبع آيات من المحكم المنزل ولكننا الآن نقول في مثل هذا على طريق المناظرة والجدل المعروف عند المتكلمين. نقول: هذا قياس استثني فيه نقيض التالي فأنتج منه نقيض المقدم حسب ما يراه مقيم هذا الدليل. ونحن نقول: انه تقرر عند عامة النظار أن القياس الاستثنائي المركب من شرطية متصلة لزومية يتوجه عليه القدح من ثلاث جهات:
1- يتوجه عليه من جهة استثنائيته
2- ويتوجه عليه من جهة شرطيته- إذا كان الربط بين المقدم والتالي ليس بصحيح.
3- ويتوجه عليه القدح من جهتهما معا.
وهذه القضية كاذبة الشرطية فالربط بين مقدمها وتاليها كاذب كذبا بحتا ولذا جاءت نتيجتها مخالفة لسبع آيات.(/8)
وإيضاحه أن نقول: قولكم: لو كان مستويا على العرش لكان مشابها للحوادث هذا الربط بين (لو) و(اللام) كاذب، كاذب، كاذب. بل هو مستو على عرشه كما قال من غير مشابهة للحوادث كما أن سائر صفاته واقعة كما قال من غير مشابهة للخلق ولا يلزم من استوائه على عرشه كما قال أن يشبه شيئا من المخلوقين في صفاتهم البتة بل استواؤه صفة من صفاته وجميع صفاته منزهة عن مشابهة الخلق كما أن ذاته منزهة عن مشابهة ذوات الخلق ويطرد هذا في مثل هذا. وعلى كل حال فالجواب عن شيء واحد من هذا يطرد في الكل.
وآخر ما نختم به هذه المقالة أنا نوصيكم وأنفسنا بتقوى الله وأن تلتزموا بثلاث آيات في كتاب الله.
الأولى: (ليس كمثله شيء). فتنزهوا رب السموات والأرض عن مشابهة الخلق.
الثانية: (وهو السميع البصير). فتؤمنوا بصفات الجلال والكمال الثابتة بالكتاب والسنة عك أساس التنزيه كما جاء (وهو السميع البصير) بعد قوله: (ليس كمثله شيء).
الثالثة: أن تقطعوا أطماعكم عن إدراك حقيقة الكيفية لأن إدراك حقيقة الكيفية مستحيل وهذا نص الله عليه في سورة (طه) حيث قال: ( يعلم مما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما). فقوله: يحيطون به فعل مضارع والفعل الصناعي الذي يسمى بالفعل المضارع وفعل الأمر والفعل الماضي ينحل عند النحويين عن مصدر وزمن كما قال ابن مالك في الخلاصة:
المصدر اسم ما سوى الزمان من مدلولي الفعل كأمن من أمن
وقد حرر علماء البلاغة في مبحث الاستعارة التبعية أنه ينحل عن مصدر وزمن ونسبة، فالمصدر كامن في مفهومه إجماعا. فـ(يحيطون) في مفهومها (الإحاطة) فيتسلط النفي على المصدر الكامن في الفعل فيكون كالنكرة المبنية على الفتح، فيصبر المعنى لا إحاطة للعلم البشرى برب السموات والأرض، فينفي جنس أنواع الإحاطة عن كيفيتها. فالإحاطة المسندة للعلم منفية عن رب العالمين. فلا يشكل عليكم بعد هدا صفة نزول ولا مجيء ولا صفة يد و لا أصابع ولا عجب ولا ضحك. لان هذه الصفات كلها من باب واحد فما وصف الله به نفسه منها فهو حق وهو لائق بكماله وجلاله لا يشبه شيئا من صفات المخلوقين وما وصف به المخلوقون منها فهو حق مناسب لعجزهم وفنائهم وافتقارهم وهذا الكلام الكثير أوضحه الله في كلمتين (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير). (ليس كمثله شيء) تنزيه بلا تعطيل. (وهو السميع البصير) إيمان بلا تمثيل. فيجب من أول الآية (ليس كمثله شيء) التنزيه الكامل الذي ليس فيه تعطيل ويلزم من قوله (وهو السميع البصير) الأيمان بجميع الصفات التي ليس فيها تمثيل. فأول الآية تنزيه وآخرها إيمان، ومن عمل بالتنزيه الذي في (ليس كمثله شيء) والإيمان الذي في (وهو السميع البصير) وقطع النظر عن إدراك الكنه والكيفية المنصوص في قوله (ولا يحيطون به علما) خرج سالما.
وقد ذكرت لكم مرارا أني أقول: هذه الأسس الثلاثة التي ركزنا عليها البحث وهى:
1- تنزيه الله عن مشابهة الخلق.
2- والإيمان بالصفات الثابتة بالكتاب والسنة وعدم التعرض لنفيها : عدم التهجم على الله بنفي ما أثبته لنفسه.
3- وقطع الطمع عن إدراك الكيفية. لو (متم يا إخوان) وأنتم على هذا المعتقد. أترون الله يوم القيامة يقول لكم لم نزهتموني عن مشابهة الخلق ويلومكم على ذلك؟ لا، وكلا والله لا يلومكم على ذلك.
أترون أنه يلومكم على أنكم آمنتم بصفاته وصدقتموه فيما أثنى به على نفسه ويقول لكم لم أثبتم لي ما أثبته لنفسي أو أثبته لي رسولي؟ لا والله لا يلومكم على ذلك ولا تأتيكم عاقبة سيئة من ذلك. كذلك لا يلومكم الله يوم القيامة ويقول لكم: لم قطعتم الطمع عن إدراك الكيفية ولم تحددوني بكيفية مدركة. ثم، إنا نقول: لو تنطع متنطع. وقال: نحن لا ندرك كيفية (نزول) منزهة عن نزول الخلق ولا ندرك كيفية (يد) منزهة عن أيدي الخلق ولا ندرك كيفية (استواء) منزهة عن استواءات الخلق، فبينوا لنا كيفية معقولة منزهة تدركها عقولنا فنقول أولا: هذا السؤال الذي قال فيه مالك بن أنس: والسؤال عن هذا بدعة، ولكن نجيب ونقول: اتعرف أيها المتنطع السائل الضال كيفية الذات المقدسة الكريمة المتصفة بصفة النزول وصفة اليد وصفة الاستواء وصفة السمع والبصر والقدرة والإرادة والعلم فلابد أن نقول: لا، فنقول: معرفة كيفية الصفة متوقفة على معرفة كيفية الذات، إذ الصفات تختلف باختلاف موصوفاتها ونضرب مثلا ولله المثل الأعلى. فان الأمثال لا تضرب لله ولكن الأخرويات لا مانع منها كما جاء بها القرآن فنقول مثلا كما فال العلامة ابن القيم رحمه الله لفظة (رأس) الراء والهمزة والسين، رأس. هذه الكلمة أضفها إلى المال وأضفها إلى الوادي وأضفها إلى الجبل قل رأس المال. رأس الجبل فانظر ما صار من الاختلاف بين هذه المعاني بحسب هذه الإضافات وهذا مخلوق ضعيف مسكين، فما بالك بالبون الشاسع الذي بين صفة الخالق جل وعلا وصفة المخلوق.
وختاما يا إخواني نوصيكم وأنفسنا بتقوى الله وأن تتمسكوا بهذه الكلمات الثلاث:(/9)
1- أن تنزهوا ربكم عن مشابهة صفات الخلق.
2- أن تؤمنوا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم ، إيمانا مبنيا على أساس التنزيه على نحو (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير)
3- وتقطعوا الطمع في إدراك الكيفية لأن الله يقول: (ولا يحيطون به علما).
ونريد أن نختم هذه المقالة بنقطتين:
إحداهما أنه ينبغي للمؤولين أن ينظروا في وقوله تعالى لليهود: (وقولوا حطة) فإنهم زادوا في هذا اللفظ المنزل نونا فقالوا: حنطة فسمى الله هذه الزيادة تبديلا فقال في البقرة: (فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون)، وقال في الأعراف: (فبدل الذين ظلموا منهم قولا غير الذي قيل لهم فأرسلنا عليهم رجزا من السماء بما كانوا يظلمون)، وكذلك المؤولون للصفات قيل لهم استوى. فزادوا لاما، فقالوا: استولى. فانظر ما أشبه (لامهم) هذه التي زادوها بـ(نون) اليهود التي زادوها. ذكر هذا ابن القيم.
الثانية: أنه ينبغي للمؤولين أن يتأملوا آية من سورة الفرقان وهى قوله تعالى: (ثم استوى على العرش الرحمن فاسأل به خبيرا). ويتأملوا معها قوله تعالى في سورة فاطر: (ولا ينبئك مثل خبير). فإن قوله في الفرقان: (فاسأل به خبيرا) بعد قوله: (ثم استوى على العرش الرحمن) يدل دلالة واضحة أن الله الذي وصف نفسه بالاستواء خبير بما يصف به نفسه لا تخفي علبه الصفة اللائقة من غيرها ويفهم منه أن الذي ينفي عنه صفة الاستواء ليس بخبير، نعم هو والله ليس بخبير. وصلى الله على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.(/10)
منهجية الأداءالقيادي عند الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبيه
توفيق علي
حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون من بعده، على الاستفادة من الطاقات البشرية التي هداها الله سبحانه وتعالى للإسلام، وقدمت كل طاقاتها في سبيل الله داخل الصف المؤمن، وكانت على مستوى المطلوب منها من الانضباط والالتزام والطاعة والصبر والإيثار في سبيل الله وإنكار الذات، واستطاعت هذه القاعدة أن تتكيف مع العناصر الجديدة، وتكيفها مع الإسلام من خلال التجارب الرائدة الفذة.
وفي هذا الموضوع نلقي الضوء على منهج النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، في تربية القادة والتعامل معهم:
أولاً: منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم في تربية القيادة الجديدة:
تعددت المواقف التي تولى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم تربية القادة الجدد على الطاعة والنظام والتواضع إنكار الذات وغيرها من الأخلاق الفاضلة، وهذه بعض المواقف:
1 عمرو بن العاص (غزوة ذات السلاسل ):
ذكر الحافظ البيهقي من طريق موسى بن عقبة وعروة بن الزبير قالا: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص إلى ذات السلاسل من مشارف الشام في بِلى وعبد الله ومن يليهم من قضاعة. قال عروة بن الزبير: وبنو بِلى أخوال العاص بن وائل، فلما سار إلى هناك خاف من كثرة عدوه فبعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستمده فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم المهاجرين الأولين فانتدب أبا بكر وعمر في جماعة من سراة المهاجرين رضي الله عنهم أجمعين، وأمَّر عليهم رسول الله أبا عبيدة بن الجراح. قال موسى بن عقبة، فلما قدموا على عمرو قال: أنا أميركم وأنا أرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أستمده بكم. فقال المهاجرون: بل أنت أمير أصحابك وأبوعبيدة أمير المهاجرين. فقال عمرو: إنما أنتم مدد أمددته. فلما رأى ذلك أبوعبيدة، وكان رجلاً حسن الخلق، لين الشكيمة، قال: تعلم يا عمرو أن آخر ما عهد إليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قال: إذا قدمت إلى صاحبك فتطاوعا. إنك إن عصيتني لأطيعنك، فسلم أبوعبيدة الإمارة إلى عمرو بن العاص.(1)
الدروس والعبر:
1- دفع النبي صلى الله عليه وسلم بعمرو في الإمارة، وهو لم يتجاوز ثلاثة أشهر في محضن الإسلام.
2- دفع النبي صلى الله عليه وسلم مدداً لعمرو، هم خيرة أهل الأرض وهم: أبوبكر وعمر بن الخطاب وأبوعبيدة بن الجراح وكيف استطاعوا أن يمتصوا ما حدث من عمرو، ويتنازل أبوعبيدة لأخيه عمرو بالإمارة، وكانت وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم هادياً له: "لا تختلفا، تطاوعا". فاستجاب أبوعبيدة على التو، وقال: لئن عصيتني لأطيعنك.
والقيادة الربانية في حاجة إلى هذا المعنى الكبير: "لا تختلفا، تطاوعا"، فنحن قوَّامون على دين الله، وإخوة في الله.. ما يضيرني إن كان أخي هو الأمير وأنا الجندي!
3 المصلحة المترتبة على الدفع بعمرو وذلك لإعداد قيادات فذة تستطيع أن تقوم بواجبها داخل الجماعة المسلمة أكبر من المفسدة المتحققة بدفعه وأخطائه، مادام هناك من يمتص هذه الأخطاء ويعالجها ويوجهها الوجهة الصحيحة، وكان هذا هدف رسول الله صلى الله عليه وسلم من إرسال ثلة المهاجرين "أبي بكر وعمر وأبي عبيدة"، والتراضي فيما بينهم على إمرة عمرو.
2 خالد بن الوليد:
استطاع خالد بن الوليد بفضل الله تعالى إنقاذ جيش المسلمين من مذبحة كبيرة في مؤتة، حتى لقب بسيف الله المسلول.
ورغم ذلك كانت هناك بعض الأخطاء له رضي الله عنه، وهذا شأن البشر جميعاً، غير أن القادة تكون أخطاؤهم دائماً تحت المجهر، وقد تعامل معه رسول الله صلى الله عليه وسلم تعامل المربي والمرشد والمعلم، ومن هذه المواقف:
1 موقعة بني جذيمة: بعثه رسول الله إلى جذيمة داعياً ولم يبعثه مقاتلاً، ومعه قبائل من العرب، فوطئوا بني جذيمة. فلما رآه القوم أخذوا السلاح، قال: ضعوا السلاح، فإن الناس قد أسلموا. فلما وضعوا السلاح أمر بهم خالد عند ذلك: فكُتفوا، ثم عرضهم على السيف، فقتل من قتل منهم. فلما انتهى الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رفع يديه إلى السماء، ثم قال: اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد.. ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضوان الله عليه فقال: يا علي، اخرج إلى هؤلاء القوم، فانظر في أمرهم، واجعل أمر الجاهلية تحت قدميك. فخرج عليٌّ حتى جاءهم ومعه مال قد بعث به رسول الله صلى الله عليه وسلم فودي لهم الدماء وما أصيب لهم من الأموال، حتى إذا لم يبق شيء من دم أو مال إلا وداه، وبقيت معه بقية من المال فقال لهم عليَّ رضوان الله عليه حين فرغ منهم: هل بقي لكم بقية من دم أومال لم يودكم؟ قالوا: لا. قال فإني أُعطيكم هذه البقية من هذا المال؛ احتياطاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم مما يعلم ولا تعلمون. ففعل ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر: فقال أصبت وأحسنت.
الدروس والعبر:(/1)
1 إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يغفر لخالد هذا الموقف مع بني جذيمة لأن مصلحة الجماعة فوق مصلحة الفرد، ولذلك قال: اللهم إني أبرأ إليك مما فعل خالد.
2 إن الخطأ الذي أخطأه خالد لم يحرقه، ولم يقض عليه ولم يعزله ولم ينل من كفاءته وطاقته، إنما أُعلن خطؤه، وسمع التأنيب الضروري، وتلقى الدرس النبوي المناسب وتابع مهمته في موقعه نفسه في القيادة؛ دون أن يشهّر به أو يُستغنى عنه، بل طلب رسول الله من المسلمين عدم الاسترسال في النقد وطلب منهم الكف عن الحديث في هذا الأمر وقال: "لا تسبوا خالداً فإنه سيف من سيوف الله. سلَه الله على المشركين"(2).
ولقد بقي خالد رضي الله عنه في مركزه وبعد أقل من عشرين يوماً، خاض غزوة حنين وهو بموقفه قائد خيالة المسلمين.(3)
ونخلص من هذا أن خطأ الفرد سواء كان قائداً أو جندياً لا بد أن يعالج المعالجة المناسبة، ويحاسب المخطئ على خطئه، ولكن هذا لا يقتضي إسقاطه أو عزله أو التخلي عنه. والجماعة الحكيمة هي التي تحافظ لا على قيادتها فحسب بل على أصغر جندي من جنودها، والفرق كبير جداً بين محاسبة المخطئ في الحدود اللازمة وبين الإجهاز عليه.(4)
ثانياً: منهج الصديق رضي الله عنه في التعامل مع الولاة والأمراء:
كان من سنته رضي الله عنه مع عماله وأمراء عمله أن يترك لهم حرية التصرف كاملة في حدود النظام العام للدولة، مشروطاً بتحقيق العدل كاملاً بين الأفراد والجماعات، فللوالي حق يستمده من سلطان الخلافة في تدبير أمر ولايته دون رجوع في الجزئيات إلى أمر الخليفة (5).
وكان الفاروق قد أشار على الصديق بأن يكتب إلى خالد رضي الله عنهم جميعاً: ألا تعطي شاة ولا بعيراً إلا بأمره، فكتب أبوبكر إلى خالد بذلك فكتب إليه خالد: إما أن تدعني وعملي وإلا فشأنك وعملك، فأشار عليه بعزله ولكن الصديق أقر خالداً على عمله (6).
وهذا الإقرار من الصديق لخالد قد شهد به الفاروق، قائلاً: "رحم الله أبا بكر، هو كان أعلم بالرجال مني"، ويعني أن استمساك أبي بكر بخالد إنما كان على يقين في مقدرة خالد وعبقريته العسكرية التي لا يغني غناءه فيها آحاد الأفذاذ من أبطال الأمم (7).
منهج الفاروق رضي الله عنه
كان عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، يرى أنه يجب على الخليفة أن يحدد لأمرائه وولاته سيرهم في حكم ولاياتهم، ويحتم عليهم أن يردوا إليه ما يحدث حتى يكون هو الذي ينظر فيه ثم يأمرهم بأمره وعليهم التنفيذ، لأنه يرى أن الخليفة مسؤول عن عمله وعمل ولاته في الرعية مسؤولية لا يرفعها عنه أنه اجتهد في اختيار الوالي. وكان يقول: أرأيتم إذا استعملت عليكم خير من أعلم ثم أمرته بالعدل أكنت قضيت ما عليَّ؟ قالوا: نعم. قال: لا حتى أنظر في عمله أعمل بما أمرته أم لا.
ومعلوم أن عمر بن الخطاب عزل خالداً رضي الله عنهما، خشية أن يفتن المسلمون به ويظنوا أنه سبب النصر.
هذه نماذج ثلاثة عرضتها كمنهج للأداء القيادي، حتى يسترشد القادة في العمل الإسلامي، فنحن مدعوون إلى أن نستن بسنة الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين وصحبه الكرام.
الهوامش:
(1) المنهج الحركي للسيرة النبوية، منير الغضبان ص 105-126 نقلاً عن البداية والنهاية لابن كثير ج4-275،276.
(2) إمتاع الأسماع (1-400).
(3) المنهج الحركي للسيرة، منير الغضبان، (3-156) نقلاً عن إمتاع الأسماع (1-405).
(4) المصدر السابق.
(5) خالد بن الوليد، صادق عرجون (321-331).
(6) التاريخ الإسلامي (11-146).
(7) المصدر السابق.
...(/2)
منهجية التيسير في الفتوى
لجنة البحث العلمي في الموقع 12/7/1423
19/09/2002
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين . أما بعد :
فقد كثر الكلام حول مسألة التيسير في الفتوى ،والناس فيها بين مُشِّرق، ومُغرِّب، وعز الوسط , ولذا رأت لجنة البحث العلمي في موقع (الإسلام اليوم) الإدلاء بهذا البحث رجاء أن يكون مدخلاً لباب الحوار ،والتأصيل العلمي لهذه المسألة لجعلها منضبطة بضوابطها الشرعية.
نسأل الله أن يهدينا لما اختلف فيه من الحق بإذنه إنه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
ألفاظ عنوان البحث:
المنهج في اللغة هو الطريق الواضح(1)،وفي الاصطلاح : الخطة المرسومة ،أي الطريق التي يسير عليها السالك في أي مجال.ونريد بالمنهج هنا الطريق الصحيح الذي يجب أن يسلكه المفتي في عملية التيسير.
والتيسير من اليسر،وهو اللين والانقياد والسهولة وهو ضد العسر(2)، وفي الاصطلاح: التسهيل على المكلف، ورفع الحرج عنه بما هو سائغ شرعاً .
والفتوى في اللغة تبيين الحكم ،يقال: أفتى الفقيه في المسألة إذا بين حكمها (3)،وفي الاصطلاح:الإخبار عن الحكم الشرعي عن دليل شرعي على غير وجه الإلزام.(4) شروط الإفتاء :
1- العلم الشرعي :
فيجب أن يكون المفتي قد بلغ المنزلة العلمية التي تؤهله للإفتاء حسب الشروط التي ذكرها الأصوليون في كتبهم ، فلا يجوز إفتاء من لا يعرف حكم الله في المسألة لقوله تعالى : (ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا)(الإسراء 36 ) ، وقوله تعالى:( قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون)(الأعراف 33) ، وقوله تعالى:(ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب)(النحل116) .
2- معرفة الواقع :
قال ابن القيم – رحمه الله –:"ولا يتمكن المفتي ،والحاكم من الفتوى ،والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم : أحدهما : فهم الواقع ،والفقه فيه ،واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن ،والأمارات ،والعلامات ،فالعالم يتوصل بمعرفة الواقع ،والتفقه فيه إلى معرفة حكم الله ورسوله في المسألة"(5)
3- معرفة مقاصد الشريعة :
وهو من ضوابط الإفتاء ،وذلك أنه شرط أولي للاجتهاد لأن الشرائع إنما جاءت برعاية مصالح البشر المادية والمعنوية ،قال الشاطبي رحمه الله : "إنما تحصل درجة الاجتهاد لمن اتصف بوصفين أحدهما : فهم مقاصد الشريعة على كمالها "(6). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- :"خاصة الفقه في الدين معرفة حكمة الشريعة ،ومقاصدها ومحاسنها "(7) .
4- طلب الحق :
أي أن على المفتي عند النظر في النازلة أن يفتي بحسب ما أوصله إليه اجتهاده أنه الحق، ولا يجوز له أن يفتي بما شاء من الأقوال ،والوجوه من غير نظر في الترجيح ، بل يكتفي كون ذلك قولاً قاله إمام ،أو وجهاً ذهب إليه جماعة، فيفتي بما شاء من الوجوه ،والأقوال حيث رأى أن ذلك القول،وفق إرادته وغرضه عمل به,فيجعل إرادته وغرضه المعيار،وبهما الترجيح ،وهذا حرام باتفاق الأمة بل هو من أفسق الفسوق وأكبر الكبائر(8).
مفهوم التيسير :
إن التيسير الذي دعت إليه الشريعة ،ودلت عليه النصوص هو السماحة ،والسهولة ،ورفع الحرج عن المكلف بما لا يصادم نصاً شرعياً ،مراعاة للظرف ،والزمان ،والمكان ،والوضع الاجتماعي ،والسياسي الذي حصلت فيه الواقعة ما دام أن هناك مخرجاً شرعياً يسنده دليل شرعي, فعلى المفتي مراعاة ذلك ،فليس الحكم للقوي مثل الضعيف ، ولا للآمن مثل الخائف، ولا منْ كان في حال السعة كمن كان في حال الاضطرار أو الحاجة ،ومن تتبع الهدي النبوي وجد ذلك جلياً .
وهكذا كان هدي الصحابة الكرام رضي الله عنهم أجمعين ، قال عمر بن إسحاق" لمَنَْ أدركت من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر لمن سبقني منهم، فما رأيت قوماً أيسر سيرة ،ولا أقل تشديداً منهم "(9)وقال رجاء بن أبي سلمة : سمعت عبادة بن نسي الكندي،وسئل عن المرأة ماتت مع قوم ليس لها ولي فقال:" أدركت أقواماً ما كانوا يشددون تشديدكم ،ولا يسألون مسائلكم"(10)قال سفيان بن عيينة عن معمر : "إنما العلم أن تسمع بالرخصة من الثقة,فأما التشديد فيحسنه كل واحد"(11) وقال الشعبي : "إذا اختلف عليك الأمران ،فإن أيسرهما أقرب إلى الحق"(12).
وليس المراد بالتيسير تتبع رخص العلماء وزلاتهم ،فإن ذلك تلاعب بدين الله ،ولا يجوز للمفتي أن يفتي بخلاف ما يعتقد.(13)ونقل الشوكاني عن البيهقي أنه حكى عن إسماعيل القاضي قال: دخلت على المعتضد، فرفع إليّ كتاباً قد جُمعتْ له فيه الرخص من زلل العلماء ، وما احتج به كل منهم ، فقلت: "مصنف هذا زنديق ،وما من عالم إلا وله زلة. ومن جمع زلل العلماء ، ثم أخذ بها ذهب دينه"(14)
أدلة التيسير :
أولاً : من القران :(/1)
- قال الله تعالى: ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) (البقرة 185)
قال الشوكاني : "في الآية أن هذا (اليسر)مقصد من مقاصد الرب سبحانه، ومراد من مراداته في جميع أمور الدين"(15).وقال ابن سعدي رحمه الله :" أي يريد الله تعالى أن ييسر عليكم الطرق الموصلة إلى رضوانه أعظم تيسير ، ويسهلها أبلغ تسهيل، ولهذا كان جميع ما أمر الله به عباده في غاية السهولة في أصله، وإذا حصلت بعض العوارض الموجبة لثقله ، سهله تسهيلاً آخر ، إما بإسقاطه أو تخفيفه بأنواع التخفيفات" (16) .
- قال تعالى: (ما جعل عليكم في الدين من حرج ) (الحج 78)
قال ابن عباس رضي الله عنه:أي من ضيق, والتعريف بأل في (الدين) للاستغراق(17).
قال السيوطي : "الآية أصل قاعدة " المشقة تجلب التيسير"(18).
ثانياً : من السنة
- قالت عائشة رضي الله عنها :"ما خيّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً ،فإن كان إثماً كان أبعد الناس منه"(19)
- وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ وأبي موسى حين بعثهما إلى اليمن :" يسّرا ،ولا تعسّرا ،وبشرا ،ولا تنفرا ،وتطاوعا ،ولا تختلفا "
وفيهما عن أنس نحوه .(20) إلى غير ذلك من النصوص الدالة على المراد .
وقد استنبط العلماء رحمهم الله من هذه النصوص قواعد شرعية عامة تدل على التيسير ،ومنها :
1- المشقة تجلب التيسير.
2- إذا ضاق الأمر اتسع .
3- الحاجة تنزل منزلة الضرورة (21).
مجال التيسير في الفتوى :
سبق أن التيسير من قواعد هذا الدين ،ومحاسنه التي حث الشارع على تحصيلها,ولكن لابد من إدراك أن في الشريعة ما هو ثابت ،وما هو متغير, فأما الثابت من الدين، فقد أطلقه العلماء على الأمور القطعية ،ومواضع الإجماع التي أقام الله بها الحجة بيَّنةً في كتابه أو على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم ،ولا مجال فيها لتطوير أو اجتهاد (22) .
قال الشافعي رحمه الله :"كل ما أقام به الله الحجة في كتابه أو على لسان نبيه منصوصاً بيناً ، لم يحل الاختلاف فيه لمن علمه"(23).
ومجال الثوابت هو كليات الشريعة ،وأغلب مسائل الاعتقاد ،وأصول الفرائض ،وأصول المحرمات ،وأصول الفضائل والأخلاق ، ولا يجوز أن يوضع شيء من هذه الأمور القطعية موضع الجدل والنقاش ، كأن يقال بتعطيل الزكاة اكتفاء بالضرائب ، أو فريضة الصوم تشجيعاً للإنتاج, أو الحج توفيراً للعملة, أو إباحة الخمر ترغيباً في السياحة, أو إباحة الربا دعماً للتنمية, أو غير ذلك ،والقول به خروج عن الإسلام ومروق من الدين ،والمساس بها فساد عريض لأن شأنها شأن القوانين الكونية التي تمسك السموات والأرض أن تزولا(24).فلا يدخل التيسير في الثوابت إلا لعارض الضرورة إذا كان من المحرم لذاته أو عارض الحاجة إن كان من المحرم لغيره، فمثال الأول : جواز شرب الخمر للإكراه ،ومثال الثاني : جواز كشف المرأة المريضة أمام الطبيب عند عدم وجود طبيبة ،وهذه الأحكام تكون لعارض الضرورة أو الحاجة ،وتزول بزوالها .
وأما المتغير فهو ما كان من موارد الاجتهاد ، وكل ما لم يقم عليه دليل قاطع من نص صحيح أو إجماع صريح (25) .
يقول الشافعي:"وما كان من ذلك يحتمل التأويل ويدرك قياساً ،فذهب المتأول أو القايس إلى معنى يحتمله الخبر أو القياس ، وإن خالفه غيره لم أقل أنه يضيق عليه ضيق الخلاف في المنصوص "(26)
ومجال المتغير الأمور الاجتهادية، والأحكام التي ارتبط مناط الحكم فيها بالزمان ،والمكان ،والأحوال ،والعوائد بما يحقق المصلحة الشرعية والحِكَم المرعية (27)،وكذا حال المستفتي قوة وضعفاً ،والقرائن المصاحبة للواقعة ، وكذا إن تردد الحكم عند المفتي بين الأيسر والأشد حَكَم بالأيسر لأن أصول الدين تقتضيه ،وهذا ما لم يخالف نصاً .
قال ابن القيم – رحمه الله – ": الأحكام نوعان : نوع لا يتغير عن حالة واحدة هو عليها ، لا بحسب الأزمنة والأمكنة ، ولا اجتهاد الأئمة كوجوب الواجبات ، وتحريم المحرمات ،والحدود المقدرة على الجرائم ،ونحو ذلك ، فهذا لا يتطرق إليه تغيير، ولا اجتهاد يخالف ما وضع عليه . والنوع الثاني : ما يتغير بحسب اقتضاء المصلحة له زماناً ،ومكاناً ،وحالاً ،كمقادير التعزيرات ،وأجناسها ،وصفاتها ، فإن الشارع ينوع فيها بحسب المصلحة "(28).
تنبيه :(/2)
ذهب طائفة من أهل العلم إلى أنه لا يوجد متغير في الشريعة, و شنوا حملة ضد مصطلح المتغير ، وقالوا إنه لا تغير في أحكام الشريعة ،وإن بدا أنه تبدل أو تغير ،فهو في الحقيقة ليس تغيراً لحكم شرعي ،وإنما هو تغير مناط الأحكام المتعلقة بأمر من الأمور ،وأن الحكم يتغير بتغير مناطه (29).وعند تحرير محل النزاع بين الفريقين نجد أن الخلاف لفظي ،وذلك أن القائلين بالتغير إنما يقولون بتغير الأحكام المعللة إذا اختلفت العلة أو زالت ، وكذلك الأحكام المترتبة على العوائد ،والأعراف ،واعتبار حال الزمان والمكان ، أما الأحكام الثابتة ،فلا تغير فيها ،وجعلوا عدم مخالفة النص ضابطاً لابد من اعتباره بالدرجة الأولى .
والقائلون بعدم التغيير أقروا التغيير عملياً ،ولكن سموه تغيير مناط الحكم ،وأن التغيير حصل لاختلاف المناط لا للحكم نفسه وحاصل النتيجة واحد .
تغير الفتوى
لقد تقرر عند الأئمة أن الفتوى تتغير بتغير الزمان , والمكان والعوائد والأحوال .
قال ابن القيم – رحمه الله :" فصل في تغير الفتوى ،واختلافها بحسب تغير الأزمنة ،والأمكنة ،والأحوال ،والنيات والعوائد.. -ثم قال :- وهذا فصل عظيم النفع جداً ،وقد وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة أوجب من الحرج ،والمشقة ،وتكليف ما لا سبيل إليه ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي هي في أعلى رتب المصالح لا تأتي به ،فإن الشريعة مبناها ،وأساسها على الحكم ،ومصالح العباد في المعاش والمعاد" (30).
ويقول القرافي –رحمه الله - : "إن إجراء الأحكام التي مدركها العوائد مع تغير تلك العوائد خلاف الإجماع ،وجهالة في الدين بل كل ما هو في الشريعة يتبع العوائد يتغير الحكم فيه عند تغير العادة إلى ما تقتضيه العادة المتجددة"(31).
وجاء في مجلة الأحكام العدلية المادة (39): "لا ينكر تغير الأحكام بتبدل الزمان"
أسباب تغير الفتوى ،وأثرها على التيسير:
1- تغيير الزمان :
إن تغير الفتوى بتغير الزمان مما شهدت له النصوص الشرعية ، فالتدرج في الشريعة فيه دلالة على تغير الفتوى بتغير الزمان ،والزمان ليس هو سبب تغير الفتوى بحد ذاته ، إنما بما فيه من ملابسات اقتضت ذلك ومن الأدلة على ذلك :
- الإبراد بالصلاة زمن شدة الحر ،فعن أبي هريرة وابن عمر قالا قال صلى الله عليه وسلم " إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة فإن شدة الحر من فيح جهنم "(32)،فانتقل عن الأصل الذي هو استحباب التبكير بالصلاة في أول وقتها إلى استحبابه في آخره لتغير الزمن .
- الصلاة في البيوت في الليلة الباردة مع أن الأصل وجوب الصلاة في المساجد جماعة ، ففي الصحيحين عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالصلاة في الرحال في الليلة الباردة (33) .- ومن ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن تقطع الأيدي في الغزاة(34).
- ومن ذلك النهي عن الادخار في الأضاحي أكثر من ثلاث في زمن الفاقة ،فعن عائشة رضي الله عنها قالت : "دف-أي أقبل- الناس من أهل البادية فحضرت الأضحى ،فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إدخروا لثلاث ،وتصدقوا بما بقي " قالت عائشة ،فلما كان بعد ذلك قلت: يا رسول الله قد كان الناس ينتفعون بضحاياهم، فقال صلى الله عليه وسلم"إنما كنت نهيتكم للدافة التي دفت ،فكلوا ،وتصدقوا ،وتزودوا" وفي رواية "فعلت ذلك من أجل الدافة "(35).
ولهذا عندما خطب علي رضي الله عنه الناس زمن عثمان ،والناس في فاقة ،وجوع ذكرهم بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الادخار(36).
أمثلة تطبيقية :
- تحريم بيع السلاح في زمن الفتنة مع أن الأصل جواز بيعه(37).
- جواز تولية الفاسق للقضاء عند فساد الزمان(38).
2- تغير المكان:
إن تغير الفتوى بتغير المكان من أسباب التيسير في الفتوى ،ويدل لذلك ما رواه البخاري معلقاً "قال طاووس قال معاذ رضي الله عنه لأهل اليمن : ائتوني بعرض ثياب خميص أو لبيس في الصدقة مكان الشعير ،والذرة أهون عليكم، وخير لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة"(39).
ومما يدل عليه إخراج زكاة الفطر من قوت البلد لأنه أنفع لفقراء البلد وأيسر على المتصدقين.
فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال : فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير(40) .
قال ابن القيم رحمه الله – :"وهذه كانت غالب أقواتهم في المدينة، فأما أهل بلد أو محلة قوتهم غير ذلك، فإنما عليهم صاع من قوتهم كمن قوتهم الذرة أو الأرز أو التين أو غير ذلك من الحبوب، فإن كان قوتهم غير الحبوب كاللبن، واللحم، والسمك أخرجوا فطرتهم من قوتهم كائناً ما كان"(41).
أمثلة تطبيقية:
- ذهب جماعة من أهل العلم إلى كراهية الزواج من الكتابية في دار الحرب(42).
- إن الضيافة إنما تتأكد على أهل البادية ،ولا ضيافة في الحضر لوجود الفنادق ،وغيرها ،ولأن القرى يقل الوافد إليها ،فلا مشقة بخلاف الحضر(43).(/3)
- صلاة أهل القطبين ،وصيامهم ،وكذا المناطق التي يطول فيها وجود الشمس أو غيابها فوق العادة.
3- تغير الأشخاص:
من المعلوم أن المكلفين لا يستوون قوة وضعفاً ، وغنىً وفقراً ،ولذا فإن الشارع الحكيم راعى هذا الجانب ،ولكنه لم يخص أحداً لشخصه ،وإنما لوصفه .
ويدل لذلك حديث عمران بن حصين رضي الله عنه قال كانت بي بواسير ،فسألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة ،فقال: " صل قائماً ،فإن لم تستطع ،فقاعداً ،فإن لم تستطع ،فعلى جنب"(44).
ومما يدل على ذلك ما جاء في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: استأذنت سودة النبي صلى الله عليه وسلم ليلة جمع ،وكانت ثقيلة ثبطة ،فأذن لها(45).
وما سبق دليل على أن مراعاة حال الشخص من أبواب تغير الفتوى تيسيراً أو تشديداً يقول الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله " إذا كانت حال المستفتي أو المحكوم عليه تقتضي أن تعامل معاملة خاصة عمل بمقتضاها ما لم يخالف النص"(46).
أمثلة تطبيقية :
- عدم التوقيت في المسح على الخفين للبريد(47).
- تأجيل إقامة الحد على المريض حتى يبرأ (48).
4- تغير العرف والعادة:
والعرف هو عادة جمهور قوم في قول أو فعل(49)،والعادة هي العرف ،والعرف من مجالات التيسير في الفتوى شريطة ألا يصادم نصاً شرعياً ،ولو تعارف عليه أهل الأرض جميعاً كالربا.
والدليل على تغير الفتوى بتغير العرف قوله تعالى : ( وعاشروهن بالمعروف)،وقوله تعالى(ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعاً بالمعروف حقاً على المحسنين) (سورة البقر 236).
ومن ذلك ما روته عائشة رضي الله عنها قالت :قالت هند أم معاوية لرسول الله صلى الله عليه وسلم إن أبا سفيان رجل شحيح فهل علي جناح أن آخذ من ماله سراً قال:"خذي أنت وبنوك ما يكفيك بالمعروف"(50).قال الحافظ: "وفيه _ أي في الحديث_ اعتماد العرف في الأمور التي لا تحديد فيها من قبل الشرع ،وقال القرطبي: فيه اعتبار العرف في الشرعيات "
قال ابن القيم: "وعلى هذا أبداً تجيء الفتاوى في طول الأيام ،فمهما تجد في العرف ،فاعتبره ،ومهما سقط ،فألفه ،ولا تجهد على النقول في الكتب طول عمرك بل إذا جاءك رجل يستفتيك ،فلا تجبه على عرف بلدك ، وسله عن عرف بلده فأجبه عليه"(51).
أمثلة تطبيقية :
-إذا تنازع الزوجان في متاع البيت،فإن لكل منهما ما جرت عليه العادة باستعماله(52)
-سقوط نفقة الزوجة إذا أكلت مع زوجها بجريان عرف الناس على ذلك، واكتفائهم به(53)
-تقدير اللقطة التي لا يجب تعريفها .
ولتغير الفتوى بتغير العرف مجال للتيسير مثل أن كل ما تعارف الناس على أنه بيع،فهو بيع ،ولا يلزم ما قرره الفقهاء المتقدمون من صيغ الإيجاب والقبول، وكذا سائر العقود، وإنما قرروا ذلك على أعرافهم(54)
5- التطور :
المراد ما جد للناس من وسائل وآلات لم تكن في العصور السابقة ،وبناء على هذا الجديد، فإن الفتوى تغيرت على وفقه، ولم يجمد الحكم الشرعي على الوسائل التي لم ترد لذاتها ،ولم ينط الحكم بها دون غيرها .
مثال ذلك : القصاص في قتل الجاني ،فقد اختلف الفقهاء في كيفية القصاص على مذهبين: الأول :مالك ،والشافعي، ورواية عن أحمد أن القصاص يكون بالصفة التي وقع بها القتل،والثاني :أبو حنيفة، ورواية عن أحمد أنه لا يكون إلا بالسيف ، ولكل مذهب دليله (55)،وليس المقصود تحرير المسألة، وإنما التمثيل لتغير الفتوى نتيجة للتطور ،فعلى القول الثاني، فإن القصاص بالوسائل الحديثة التي يكون فيها تسريعاً في إحداث الوفاة ،فإنها تستخدم عملاً بالأمر بإحسان القتلة .
6- المصلحة:
إن المتتبع لمذاهب الفقهاء يجد أنهم يتفقون عملياً على اعتماد المصلحة، وإن اختلفوا نظرياً (56).
والمراد بالمصلحة : "المنفعة التي قصدها الشارع الحكيم لعباده من حفظ دينهم، ونفوسهم، وعقولهم، ونسلهم، وأموالهم طبق ترتيب معين فيما بينها (57).
،والمصلحة باعتبار الحكم الشرعي على ثلاثة أقسام:
أ-المصالح المعتبرة شرعاً : وهي التي تظافرت الأدلة على رعايتها، فهي حجة صحيحة لا خلاف بين أهل العلم في إعمالها, وذلك كأن ينص الشارع على حكم، ويجعل مناط الحكم تحقيق مصلحة ما,أو دفع مفسدة ما .
فإنه إذا وقعت حادثة أخرى تتحقق فيها هذه المصلحة أو تندفع بها هذه المفسدة وجب إعطاؤها نفس الحكم للمنصوص(58).
مثاله :أن تعلم الرمي فيه مصلحة إرهاب أعداء الله كما نصت عليه آية الأنفال،و التصنيع العسكري يأخذ حكمه لأن فيه المصلحة نفسها .
ب- المصالح الملغاة شرعاً :وهي المصالح التي شهد الشارع بردها وأقام الأدلة على إلغائها ،وهذا النوع من المصالح لا سبيل لقبوله، ولا خلاف في إهماله عند الجميع(59).
مثال ذلك :توهم مصلحة التخفيف عن النفس من مرض أو ألم شديد بالانتحار لأن هذه المصلحة رفضها الشارع وردها بقوله تعالى ( ولا تقتلوا أنفسكم ... ) (النساء 11)(/4)
ج-المصالح المرسلة: وهي التي لم يقم دليل من الشرع على اعتبارها، ولا على إلغائها وسميت مرسلة لأن الشارع أرسلها فلم يقيدها باعتبار ولا إلغاء (60).
ودليل اعتبار المصلحة المرسلة عمل الصحابة رضي الله عنهم حيث حدث في زمانهم ما لم يكن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وجدت أمور، فضربوا النقود، وشادوا السجون، واتخذوا الدواوين، وجمعوا المصحف إلى غير ذلك مما يطول حصره، وقد أجمع الصحابة على قبولها بما لا يدع ريباً ولا شكاً(61).
شروط العمل بالمصلحة المرسلة:
1- الملائمة بين المصلحة الملحوظة، ومقاصد الشرع بالجملة بحيث لا تنافي أصلاً من أصوله ولا دليلاً من أدلته.
2- أن تكون معقولة في ذاتها بحيث إذا عرضت على أهل العقول تلقتها بالقبول ،فلا مدخل لها في التعبدات لأن عامة التعبدات لا يعقل معناها على التفصيل .
3- أن يكون الأخذ بها راجعاً إلى حفظ أمر ضروري أو رفع حرج لازم في الدين بحيث لو لم يؤخذ بتلك المصلحة المعقولة في موضعها لكان الناس في حرج شديد.
4- عدم تفويتها مصلحة أهم.
5- عدم معارضتها للقياس الصحيح(62).
أمثلة تطبيقية :
- امتناع عمر عن إعطاء الكبراء من الزكاة تأليفاً لقلوبهم عندما قويت شوكة الإسلام ، لأنه يرى أن الحكم كان لمصلحة زالت فزال حكمها(63).
- السفر إلى بلاد الكفر، فإن الفتوى فيه تتغير حسب المصلحة فإذا ظهر أن السفر إليها فيه مصلحة مرجوة دون أن تجر على صاحبها مفسدة جاز، وهذا من أبواب التيسير على المكلفين حفظاً لمصالحهم الدينية والدنيوية.
قاعدة"ارتكاب أخف الضررين " وأثرها في التيسير في الفتوى:
إن المتتبع لكلام أهل العلم ،وفتاويهم يدرك إلى مدى كانت هذه القاعدة معتبرة عندهم ،وقد دلت النصوص على اعتبارها .
- فمن ذلك قوله تعالى:( ولا تسبوا الذي يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم) (الأنعام108) فأرشد سبحانه وتعالى إلى ترك سب آلهة المشركين لدرء المفسدة الأعظم وهي سب المشركين لله سبحانه وتعالى بارتكاب مفسدة أقل وهي ترك سب آلهتم.
- ومن الأدلة خرق الخضر السفينة ، حيث أن خرقه لها مفسدة، وضرر، ولكن لدفع ضرر أشد، وهو أخذ الملك السفينة برمتها .
- ومنها نهي النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة رضي الله عنهم عن الإنكار على الأعرابي الذي بال في المسجد وقت تبوله حتى أتمه(64)
،وذلك أن الإنكار عليه سيؤدي إلى مفسدة أعظم ،وهي تلوث قدر أكبر من المسجد ،وكذا ثيابه ستتلوث، فأقر منكراً لزمن معين لدفع منكر أعظم.
وهذه القاعدة من أعظم أبواب التيسير في الفتوى ذلك أن من مقاصد الشريعة تحصيل المصالح ،وتكميلها ،وتعطيل المفاسد ،وتقليلها ،فإذا تزاحمت المصالح فالواجب تحصيل الأكمل منهما ،وإذا تعارضت مفسدتان ،فالواجب درء الأكبر منهما بارتكاب الأصغر.
أمثلة تطبيقية:
- قبول إمامة الفاسق والمبتدع – ما لم تكن بدعته مكفرة – إذا لم تمكن إزالته وذلك لتحصيل الجمع والجماعة (65).
- تولية الفاسق في القضاء إذا لم يوجد غيره لدفع مفسدة خلو البلاد من القضاء الذي يحفظ النظام أو جزءاً منه.
- العمل في المرافق المهمة، وإن كان فيها بعض المنكرات، وذلك أن خلوها من الصالحين مفسدة أعظم من الوقوع في بعض المحظورات .
مآل الفتوى وأثرها في التيسير :
من المتقرر أن الفتوى الشرعية تحقق مصالح العباد ،ولذا فإن على المفتي أن لا يفتي بما يترتب على فتواه مفاسد أكبر ،ولو كان الأمر واجباً أو مستحباً .قال شيخ الاسلام ابن تيمية: (على المفتي أن يمتنع عن الفتوى إن كان قصد المستفتي –كائنا من كان-نصرة هواه بالفتوى، وليس قصده معرفة الحق، واتباعه)(66) ،ومن ذلك امتناع النبي صلى الله عليه وسلم إعادة بناء الكعبة على قواعد إبراهيم لما في ذلك من فتنة على القوم الذين اسلموا حديثاً، فقد قال صلى الله عليه وسلم:(يا عائشة لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية فأخاف أن تنكر قلوبهم لهدمت الكعبة، وبنيتها على قواعد إبراهيم)(67).
والمفتي متى امتنع عن الفتوى التي تسبب ضرراً ،فقد سلك سبيل التيسير على الناس .
التيسير في الفتوى بين الإفراط والتفريط
جرت العادة الغالبة في موقف الناس من القضايا المطروحة على العقل البشري أنهم طرفان ،ووسط، ومن تلك القضايا مسألة التيسير في الفتوى.
ففريق سلك بالناس مسلك التشديد ،فألزمهم ما لا يطيقون أو ما يشق عليهم،وأعجزهم بحجة الأخذ بالاحوط لجهله بمسالك التيسير في الفتوى ،(وهذا الدين يسر،ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه)(68) ،ولربما كان سبباً في تنفير الناس عن دين الله بسبب تحريجهم بشيء جعل لهم الشارع فيه فسحة،فكان مخالفاً للهدي النبوي(يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا )(69) وهذا التشديد يحسنه كل أحد , وهو دليل على قلة علم صاحبه ،ولعل في قصة الذي أفتى قاتل التسعة والتسعين نفساً أنه لا توبة له دليل على ما تقدم(70).(/5)
وفريق آخر فرط فجعل من التيسير مدخلاً للتلاعب بدين الله ،فصار يتتبع رخص العلماء ،وجعل منها ديناً ،وهذا الذي قال فيه العلماء من تتبع رخصة كل عالم ،فقد تزندق .وقد نقل ابن عبد البر الإجماع على المنع من تتبع الرخص(71).
ومن المفرطين من سلك مسلك التلفيق في الفتوى ،وتأول النصوص الواضحة انهزاماً ومسايرة للواقع الفاسد الذي جاء الشرع لإصلاحه لا لموافقته .
بل إن الشيطان استدرج أقواماً ،فجعلوا التيسير مطية للتحلل من دين الله بحجة أن الشارع جاء لجلب المصالح للمكلفين ،وأن الحكم يدور معها، وأن الفتوى تتغير بتغير الزمان ،والمكان متجاهلين أن المصلحة فيما شرع الله ،فجعلوا المصلحة ،والزمان ،والمكان حاكمة على الشرع لا الشرع حاكماً عليها ،متعلقين برأي الطوفي الذي خالف فيه إجماع الأمة, وذلك لجهلهم أن المصلحة المعتبرة هي التي لا تخالف نصاً وإنما تستند إلى نص كلي، وأن تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان إنما هو في الأحكام التي لها مناط متغير أما الثوابت فلا .
وأما الطائفة الثالثة ،فسلكت في هذا الأمر مسلك التيسير المنضبط مدركة أن الميل إلى الرخص في الفتيا بإطلاق مضاد للمشي على التوسط,كما أن الميل إلى التشدد مضاد له أيضاً ,والوسط هو معظم الشريعة ،وأم الكتاب ومن تأمل موارد الأحكام بالاستقراء التام عرف ذلك(72).
والله أعلم ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد ،وعلى آله وصحبه أجمعين .
(1)- لسان العرب 3/313.
(2) - المصدر السابق 5/395
(3) - معجم مقاييس اللغة لابن فارس 6/155
(4) -مواهب الجليل 1/45
(5) - إعلام الموقعين 1/ 17 بتصرف
(6) - الموافقات 5/14
(7) - مجموع الفتاوى 11/ 354
(8) - انظر إعلام الموقعين 4/211
(9) - أخرجه الدارمي في المسند (128)
(10) - المصدر السابق رقم (129)
(11) - أخرجه ابن عبد البر في التمهيد 8/147
(12) - نقل هذا عنه رحمه الله عدد من العلماء ،إلا أني لم أقف عليه مسنداً .
(13) - الإحكام في تمييز الفتوى عن الأحكام ص
(14) - إرشاد الفحول 272.
(15) - فتح القدير 1/183.
(16) - تيسير الكريم الرحمن 1/223
(17) - تفسير ابن كثير 3/223, القاسمي 12/68.
(18) - الإكليل 185 .
(19) البخاري (3560) ، ومسلم ( 4294 )
(20) البخاري (69) ، مسلم (3264)
(21) - انظر : الأقمار المضيئة شرح القواعد الفقهية 109.ومجلة الأحكام العدلية 1/31، وغيرها .
(22) - الثوابت والمتغيرات في مسيرة العمل الإسلامي ص37.
(23) - الرسالة 560
(24) - انظر البعد الزماني والمكاني وأثرهما في الفتوى ص 160 – 161
(25) - الثوابت والمتغيرات ص 37
(26) - الرسالة ص 560
(27) - شرح القواعد الفقهية للزرقا (بتصرف )
(28) - إغاثة اللهفان 1/330-331
(29) - انظر ضوابط المصلحة ص 245 ،والثبات والشمول في الشريعة للسفياني ص 533 .
(30) إعلام الموقعين 3/3.
31) الإعلام في تمييز الفتاوى عن الأحكام ص 111.
(32) البخاري (534) ، ومسلم (973)
(33) البخاري (666)، مسلم (1125).
(34) أخرجه أحمد (1969 )،وأبو داود كتاب الحدود (2/441)، والترمذي (1450). والحديث وإن كان فيه
مقال فإن إجماع الصحابة على ذلك يقويه، وقد نقل إجماعهم ابن قدامة في المغني (13/1068)
(35) مسلم (3643) ، والبخاري (5570) نحوه مختصراً
(36) فتح الباري 10/28
37) إعلام الموقعين 1/42،3/158 ،والمغني 4/155
(38) السياسة الشرعية 37.
(39) البخاري كتاب الزكاة باب العرض في الزكاة 3/311-312 مع الفتح.
(40) البخاري (1503) ، ومسلم (1635).
(41) إعلام الموقعين 3:12.
(42) انظر المغني 9/292 ، والفقه الإسلامي للزحيلي 7/145 ، وحكم زواج المسلم من الكتابية 27.
(43) انظر الذخيرة للقرافي 13/335، شرح الأربعين النووية للنووي 48.
(44) أخرجه البخاري (1117) وغيره
(45) البخاري(1680)، مسلم (2271)
(46) كتاب العلم 227.
(47) مجموع الفتاوى 21/215-217 لابن تيمية .
(48) الموسوعة الفقهية 17/146
(49) المدخل الفقهي العام (2/860)
(50) - البخاري (2211) ، مسلم (3233) .
(51) إعلام الموقعين 3/78..
(52) الفتاوى34/81-82.
3) الفتاوى 34/81-82.
(54) الاختيارات 121
(55) انظر أحكام القرآن 1/160 والمغني 11/512
(56) انظر شرح البعد الزماني 168-169.
(57) ضوابط المصلحة للبوطي ص27، وأثر الأدلة المختلف فيها في الفقه الإسلامي ص28-29.
(58) البعد الزماني 166 بتصرف
(59) نفس المرجع 167
(60) أصول الفقه خلاف ص 84 وأثر الاختلاف في القواعد الأصولية 544.
(61) الاعتصام 2/111 وما بعدها .
(62) الاعتصام 2/129-235.
(63) السنن الكبرى للبيهقي 7/20 ، والسنة لابن أبي عاصم 2/246
(64) البخاري (219) ،مسلم (427)
(65) - مجموع الفتاوى (23/343)
(66) - مجموع الفتاوى 28/198
(67) - البخاري (1586) ،ومسلم ( 1333)
(68) - البخاري( 39) ، مسلم (5036) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .
(69) - سبق تخريجه .
(70) - البخاري(3470) ، مسلم (4967) من حديث أبي سعيد رضي الله عنه .(/6)
(71) - جامع بيان العلم وفضله 2/92
(72) - الموافقات(/7)
منهجية الفكر الإسلامي
د. عبد الحميد أحمد أبو سليمان * 5/7/1424
02/09/2003
في ظل الظروف الحضارية للفترة الأولى من الحضارة الإسلامية أدت طاقات العقل المسلم وإطار المنهج الأصولي دورهما على تعاظم في القصور بمضي الزمن وتباعد الظروف الزمانية والمكانية لواقع الأمة وتحدياتها عن ظروف وممارسات الصدر الأول، وممارسات السنة النبوية على عهد الرسالة ونزول الوحي.
وأمكن لذلك العقل وذلك المنهج أن يفجرا -رغم كل الظروف والعقبات التي جابهها الإسلام والمسلمون- قدراً هائلاً من الطاقة الإسلامية، ووضعت الإنسان والعقل الإنساني في إطار جديد، وفتحت أمام العقل الإنساني المسلم آفاقاً فسيحة من العمل والإبداع، وقدمت للإنسانية تراثاً وفكراً حضارياً تنظيمياً وقانونياً وعلمياً غير مسبوق، أضاء حلكة الأفق الإنساني الذي خيمت عليه الخرافة والضلالات والأوهام والجور والخسف والحرمان من الحقوق والحريات الإنسانية كافة.
وبتباعد الزمن وتغير الأحوال وتعاظم الهوة بين الغاية الإسلامية والالتزام الإسلامي وبين القيادات السياسية الاجتماعية، وبمزيد من العزلة للفكر الإسلامي والعلماء المسلمين، أخذ الأثر الإسلامي يضعف والعطاء الإسلامي يتضاءل، وساعد على التدهور ومكّن له انعدام التحدي الحضاري للأمة الإسلامية والحضارة الإسلامية؛ فهي رغم تدهور أوضاعها بقيت لعدة قرون أفضل حالاً وأقدر من سواها.
وببروز التحدي الغربي الأوروبي في القرون الأخيرة أصبحت الأمة الإسلامية مرغمة على إعادة النظر في أحوالها وامتحان قواعدها ومنطلقاتها ومناهج فكرها وأنظمتها.
وبمضي الوقت، وأمام تعاظم أعداد أفراد الأمة وتعدد شعوبها، وتعاظم التحديات التي تواجه كيانها ووجودها ومقدّراتها، وأمام تعاظم المخاطر الناجمة عن الأمراض الحضارية التي تفشت في كيان أمم الغرب ومجتمعاته في الوقت الحاضر، مما أصبح يهدد بدمار ليس الأمم الغربية وحدها، بل الإنسانية جمعاء معها، لكل هذا لم يعد أمام الأمة الإسلامية إلا أن تعيد النظر في كيانها فكرها وقواعد منطلقاتها بعد أن ثبت لكل ذي عقل أن أدوار الأمة والتحديات التي تواجهها لم تعد تجدي معها المعالجة الفكرية السطحية، ومجرد التصدي العسكري والسياسي والعاطفي الفاشل، وكان لا بد أن تسقط أمام هذا الواقع المر كل أقنعة الكهانات والمصالح الزائفة والنزعات التقليدية المحافظة، حيث لم يعد لدى الأمة – وهي على ما هي من الضعف والتخلف والمعاناة- ما تخشى عليه وما تخاف ضياعه إلا آلامها ومعاناتها وتمزقها وضعفها.
ومسؤولية الأمة الحضارية هي مسؤولية أمام الذات والتاريخ، وأمام مسؤولياتها المقدسة في الخلافة والإصلاح التي تنبع من رسالتها منطلقاتها الإسلامية السامية التي أهلتها لكي تصنع أسس الحضارة الإنسانية المعاصرة.
إن الحضارة الغربية إنما بنيت على منطلقات رسالة الإسلام وتراث الحضارة الإسلامية التي أعطت الكثير الأصيل الذي ساهم إلى إصلاح الكثير من منطلقات الحضارات الإسلامية التي أعطت الكثير الأصيل الذي ساهم إلى إصلاح الكثير من منطلقات الحضارات الإنسانية قبلها، ونرى أثر ذلك واضحاً في الإصلاح الديني والأخلاقي والاجتماعي والفكري والعلمي الذي أخذته أوروبا عن الأمة الإسلامية والحضارة الإسلامية والتراث الإسلامي. فقد جاس الغربيون أرض الإسلام وفكره وإنجازه ودرسوه وتعلموه في الجامعات الإسلامية وفي المكتبات الإسلامية وفي الترجمات الإسلامية. يشهد عليه فكر عصر النهضة الأوروبية وتراثه وإصلاحاته الحضارية، بل إن كثيراً من معاناة الغرب وأمراضه الاجتماعية، خاصة في محيط الصحة النفسية للفرد والأسرة التي يعاني منها اليوم، إنما ترجع في رأينا إلى تخلي الغرب عن كثير من منطلقات ومفاهيم الإصلاحات الاجتماعية والأخلاقية التي استمدها من الحضارة الإسلامية، وذلك بعد أن اشتد عوده وأخذه الغرور، وظن أنه لم يعد في حاجة إلى ما استمده من حضارة الإسلام من قيم ومفاهيم وتقاليد، وأن قدرته وطاقته المادية إنما تنبع عن فضيلة ذاتية ترجع إلى التراث الوثني اليوناني والروماني، وإلى التراث الخرافي المسيحي الوسيط، مستقلاً عن الحضارة الإسلامية، وقيمها ومنطلقاتها، التي أخذ عنها واستوحاها في إصلاحاته الفكرية والعلمية والاجتماعية. ونرى أثر ذلك اليوم واضحاً في محيط الحياة الاجتماعية والأسرية المتهدمة المتفجرة، كما نراه في انعدام الالتزام الأخلاقي في ميدان العلم والتقنية والسياسة بما أصبح واضحاً لكل ذي عينين أنه أمر يهدد كيان الغرب من الداخل والإنسانية قاطبة من الخارج.(/1)
ومع ما عليه الغرب اليوم، ومع ما عليه حال العالم اليوم لم يعد أمام إنسان هذا العصر، ولم يعد أمام الأمة الإسلامية إلا الإسلام ومنطلقاته لتعيد ركب الأمة والإنسانية من جديد إلى الصراط المستقيم، وإعادة التوازن والسلامة إلى مسيرة الإنسانية والحضارة على أساس منهاج الحق والعدل والغاية الأخلاقية القويمة،تبني ولا تهدم، وتصلح ولا تفسد، وتحقق مشيئة الله في الإصلاح والإعمار.
وللحديث عن المنهجية الإسلامية في الفكر والحياة؛ لا بد أولاً من رسم الإطار الكلي لهذه المنهجية، ومعرفة مصادرها ومنطلقاتها الأساسية حتى يمكننا بعد ذلك مواصلة العمل العلمي والحضاري في المجالات الحياتية والاجتماعية والحضارية المختلفة. وبذلك نؤهل العقل المسلم لكي يؤدي دوره في إعادة بناء كيان الحضارة الإنسانية وإعادة ترتيب أولوياتها وصياغة علاقاتها مجدداً باتجاه الخير والإصلاح والأمن والسلام.* من كتاب "أزمة العقل المسلم".(/2)
منهجية النبي صلى الله عليه وسلم في بناء وحدة الأُمَّة
تَمُرُّ الأُمَّة الإسلامية بواقعٍ يتسم بالضعف، والتخلف، والتقهقر، والتقوقع، والشعور بالنقص، والرضا بالتبعية للصهيونية والصليبية، التي اتخذت من دول العالم الأول مكاناً استطاعت من خلاله بسط ثقافاتها ومعتقداتها في عقر ديار الإسلام؛ بل أضحت التحديات التي ينبغي على الأُمَّة مواجهتها ومجابهتها ذات فوارق عن تحديات العصور السالفة، فهي تحديات مرتبطة بعصر العولمة والتكنولوجيا وهيمنة (الميديا) الإعلامية، والتكتلات الاقتصادية، والإمبريالية الرأسمالية، وغيرها من وسائل القوة المادية التي لم يشهد لها التاريخ مثيلاً من قبل.
والسؤال المطروح أمام تلك التحديات هو: ما مدى استفادة الأُمَّة الإسلامية من الفرص المتاحة في سبيل المعترك التراكمي للقوة المادية السالفة الذكر حتى تحتل موقعها الريادي لقيادة البشرية جمعاء؟ هل ستكون الأُمَّة الإسلامية قابلة للتحدي العصري الذي خطف قانون التعامل مع النواميس الكونية واستطاع أنْ يوظفه في سبيل إنجاح حياته الدنيا حتى أضحت موروثات الإسلام المعرفية مصطلحات غربية تدخل في صميم حياتهم السياسية، والاجتماعية، وهلم جرا؟ فالعدل والصدق والإنسانية والتواضع وحسن التعامل صارت سمات غربية، بل صار الغرب دار هجرة استقطابية لكثير من أفراد المجتمع الإسلامي، بسبب القهر والظلم والتسلط، التي أضحت سمة من سمات معظم المجتمعات الإسلامية، التي اتخذت من قانون الغاب أنموذجاً تأديبياً لكل من وقف أمام التحديات القطرية أو العصبية الضيقة، التي باتت تخدم حفنة من البشر، حتى غدت العلاقة بين الحاكم والمحكوم علاقة تحدِّدها مصالح شخصية، ونتج عن ذلك ضياع الحاكمية لله تعالى ومن ثم ضاعت الأُمَّة.
وتدور الدراسة حول محاور الفرص والتحديات الاجتماعية لوحدة الأُمَّة الإسلامية في القرن الحادي والعشرين، وفق ضوابط منهجية النبي صلى الله عليه وسلم ، حيث يتناول البحث: أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم التي تتعلق بوحدة المجتمع الإسلامي كقوله صلى الله عليه وسلم : "الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لا يَظْلِمُهُ .."([1]).
والبحث إجابة عن تساؤلات فرضتها حيثيات الدراسة، حول موقف الأحاديث النبوية من وحدة الأُمَّة الإسلامية نظرة تأصيلية من خلال مناقشة النقاط التالية: الدراسة الحديثية لطبيعة المجتمعات، حوارات التَّكَيُّف، المعوِّقات الداخلية التي تحول دون توحيد الأُمَّة "التصدي، السلبية، الفساد،…"، المعوِّقات الخارجية المتمثلة في دور اليهود والنصارى والمشركين والمنافقين قديماً وفي الواقع المعاصر، ومنهجية النبي صلى الله عليه وسلم في بناء وحدة الأُمَّة عِبَرٌ وعظات، وغير ذلك من القضايا ذات الصلة.
لقد صار واقع الأُمَّة ومصيرها بين مطرقة المتقاعسين والمرجفين([2]) وأصحاب الأهواء والأماني الفضفاضة، وسندان اليهود، والمنَصِّرين([3])، ومن شايعهم من الغرب أجمعين، بل ومَنْ أعانهم من بني جلدتنا وقدَّم لهم كل سهل وصعب، من أجل تحقيق أهداف ذاتية بعيدة كل البعد عن النظرة الشاملة التي تأسس عليها مبدأ العقيدة، وتعاليم العبادات والمعاملات، عَنْ أَبي أُمَيَّةَ الشَّعْبَانِيّ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيَّ فَقُلْتُ: يَا أَبَا ثَعْلَبَةَ كَيْفَ تَقُولُ فِي هَذِهِ الآيَةِ {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} [المائدة: 105]؟ قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ سَأَلْتَ عَنْهَا خَبِيرًا، سَأَلْتُ عَنْهَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: (بَلِ ائْتَمِرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنَاهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ، حَتَّى إِذَا رَأَيْتَ شُحًّا مُطَاعًا، وَهَوًى مُتَّبَعًا، وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً، وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ؛ فَعَلَيْكَ بِنَفْسِكَ وَدَعْ عَنْكَ الْعَوَامَّ، فَإِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامَ الصَّبْرِ، الصَّبْرُ فِيهِ مِثْلُ قَبْضٍ عَلَى الْجَمْرِ، لِلْعَامِلِ فِيهِمْ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلاً يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِهِ) وَزَادَنِي غَيْرُهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْهُمْ؟ قَالَ: (أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ)([4])، وقال صلى الله عليه وسلم : (كَيْفَ بِكُمْ وَبِزَمَانٍ ـ أَوْ يُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَ زَمَانٌ ـ يُغَرْبَلُ النَّاسُ فِيهِ غَرْبَلَةً تَبْقَى حُثَالَةٌ مِنَ النَّاسِ قَدْ مَرِجَتْ عُهُودُهُمْ وَأَمَانَاتُهُمْ، وَاخْتَلَفُوا فَكَانُوا هَكَذَا وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ؟ فَقَالُوا: وَكَيْفَ بِنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (تَأْخُذُونَ مَا تَعْرِفُونَ، وَتَذَرُونَ مَا تُنْكِرُونَ، وَتُقْبِلُونَ عَلَى أَمْرِ خَاصَّتِكُمْ وَتَذَرُونَ أَمْرَ عَامَّتِكُمْ)([5]).(/1)
إنَّ هذا الخطاب النبوي يقرأ واقع الأُمَّة المعاصر بكل تفاصيله، بعد أنْ كان الخطاب النبوي في عهد دولة الصفوة الإسلامية على شاكلة قوله صلى الله عليه وسلم : (مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى)([6]).
والذي يدور في جعبة كثير من مثقفي الأُمَّة الإسلامية ومفكريها، بل وعامتهم أنَّ معاول الهدم الداخلي لهي قاصمة الظهر، حيث التاريخ الإسلامي القاصي منه والداني أكبر شاهد على ذلك، فإنَّ دولة المسلمين الأولى شهدت أعنف تيار نفاقي تخريبي([7]).
عَنْ أَبِي بَصْرَةَ الْغِفَارِيِّ صَاحِبِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: سَأَلْتُ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ أَرْبَعًا، فَأَعْطَانِي ثَلاثًا وَمَنَعَنِي وَاحِدَةً، سَأَلْتُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ لا يَجْمَعَ أُمَّتِي عَلَى ضَلالَةٍ فَأَعْطَانِيهَا، وَسَأَلْتُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ لا يُهْلِكَهُمْ بِالسِّنِينَ كَمَا أَهْلَكَ الأُمَمَ قَبْلَهُمْ فَأَعْطَانِيهَا، وَسَأَلْتُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ لا يَلْبِسَهُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَهُمْ بَأْسَ بَعْضٍ فَمَنَعَنِيهَا)([8]).
وإنْ كان التاريخ قد سطَّر لنا هذا الواقع الأليم، فالحديث النبوي الذي أصبح أيضاً تاريخاً قيادياً؛ أكبر شاهد على المنهج النبوي في تخطي الأزمات، والعمل على تحدي الصعاب التي واجهت الأُمَّة الإسلامية في مرحلة طفولتها، حتى استطاعت أنْ تكون دولة ريادة، قاد الصحابة فيها العالم بفضل التخطيط النبوي الشريف.
فإننا لا يسعنا إلاَّ أنْ نقول: إنَّ عوامل النهضة اليوم ليست ذات فوارق عن الأمس، ولعل هذا ما يصبو البحث إلى الإجابة عليه، وقد تمحور النقاش حول الوحدة الإسلامية بمناقشة أسباب الانحطاط وإيجاد الحلول اللازمة، من خلال التأصيل النبوي لمعاني الوحدة الاجتماعية وأثرها في نهضة الأُمَّة، حتى يتحقق للمسلمين الحلم الذي تبدَّد باختفاء دولة الخلافة الإسلامية، التي استبدلت بالحدود الدولية، والنظرة القطرية، وذلك وفق النقاط التالية:
أولاً: مدخل في دراسة طبيعة المجتمعات:
يلاحظ المتأمِل في تطور الحضارات وتاريخ الأُمم؛ وحدةً بيِّنةً في الجهد البشري المشترك لتحقيق إنسانية الإنسان على الأرض، رغم اختلاف الوسائل وتباين الجماعات. ومصدر هذا التوحد أو السعي نحو وحدة راسخة في كيان الإنسان نابعة من أصل الفطرة الأولى التي فَطَرَ اللهُ تعالى الناسَ عليها لا تبديل لخلق الله، وما سُمِّيت فطرة إلاَّ لأنها تتماشى مع كافة ألوان الطيف البشري، وهي الطبيعة البشرية التي لا تخرج عن مألوف الإنسان، وما يميِّز هذه الفطرة أنها شمولية وعامة، تستوعب كافة أنواع التواجد الإنساني في ماضيه وحاضره، قال صلى الله عليه وسلم : "مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلاَّ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ، كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ، هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ؟ ثُمَّ يَقُولُ: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ}
[الروم: 30])([9]).
هذا التوحد في أصل الفطرة؛ يفسر اشتراك البشرية على اختلاف أُممها وتباعد أقطارها في صفات الإنسانية الجماعية، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ الْطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيْرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً}([10])، وهذه الصفات الفطرية الداعية لوحدة الأُمَّة الإنسانية تتجسد تأسيساً في الإيمان بإله مدبر لهذا الكون، وهذه الإرادة والمشيئة أوجدت قانوناً أخلاقياً لتنظيم حياة الأُمَّة أفراداً وجماعات، وبسطت تلك الإرادة الإلهية المعرفة كوسيلة تهتدي بها الأُمَّة لإدراك مفهوم التنظيم كَخُلُق نظري وواقع عملي .(/2)
وهذا التوحيد الجذري لأصل الأُمَّة البشرية([11])؛ أشار إليه القرآن في أكثر من موضع قال تعالى: {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا}([12])، وهذا التفرق بعد التوحد جزء من الابتلاء العظيم، قال تعالى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ الْسَّبِيْلَ إِمَّا شَاكِراً وَّإمَّا كَفُوُراً}([13])، وهو نابع من حرية الاختيار التي منحها الله تعالى امتحاناً للإنسان وابتلاءً له، قال تعالى: {وَقُلِ الْحَقُ مِنْ رَّبِّكُمْ فَمَنْ شَآءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَآءَ فَلْيَكْفُرْ}([14])، حرية مصحوبة بالهادي والدليل حيث أمدَّه الله تعالى بالرسل والأنبياء، يذكِّرونه بما نسي من فطرة الله تعالى الكامنة في عمق أعماقه، ويجدِّدون ما بلي من آثارها في حياته، ويهيئون له أسباب العودة إلى نقاء الإيمان بوحدة الإنسانية الكامنة في وحدة الكون المرتكزة جميعها على وحدة الله تعالى خالق العالمين، قال تعالى: {رُسُلاً مُّبَشِّرِيْنَ وَمُنْذِرِيْنَ}([15])، ولهذا السبب وصف الله تعالى الرسل بأنهم وأتباعهم أُمَّة واحدة قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الْطَّيِّبَاتِ وَاْعْمَلُوُا صَالِحاً إِنَّي بِمَا تَعْمَلُوُنَ عَلِيْمٌ وَّإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَّاحِدَةً وَّأَنَا رَُّبُكْم فَاتَّقُوُن}([16]).
ولعل مبدأ التفرقة ليس ناتجاً عن اختلاف الشعوب وأجناسها ومشاربها، بل هو اختلاف في علاقة البشر ببعضهم، وبالكون، وخالقه . هذه العلاقة هي التي ترتكز عليها وحدة الإنسانية، وهي ما أشار إليه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِن ذَكَرٍ وَّأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوُباً وَّّّّقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوآ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ}([17])، وهو الخلاف الذي يرتكز عليه مدار الميزان العملي هداية وضلالاً، وهو مجال الابتلاء، ومدار الحساب، ومن ثم الثواب أو العقاب .
وبالعودة لنشأة الوحدة الإنسانية؛ فإنَّ مشيئة الله تعالى أرادت منذ الخليقة الأولى تحقيق مبدأ الاستخلاف الذي حدَّدت له الإنسان والرسالة ككيان فاعل ينتظم تلك الأدوار، لتحقيق هدفين اثنين جمعهما الله تعالى في قوله: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنَّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيْفَةً قَالُوُا أَتَجْعَلُ فِيْهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيْهَا وَيَسْفِكُ الْدِّمَاءُ ونحن نُسبِّح بحمْدِكَ ونُقدِّسُ لكْ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَالا تَعْلَمُوُنَ}([18]).
فأول الهدفين من الاستخلاف هو هدف وسيلي وصولي، يتمثل في دور الاستخلاف في إعمار الأرض، وبسط الأمن السياسي والاقتصادي، والعدل، والمساواة، ومحاربة الفقر والتسلط والظلم والجبروت، وغير ذلك من الوسائل المساعدة على إسعاد الناس وهلم جرا، وهو يحقق جانباً من جوانب التمكين للأُمَّة الإسلامية([19]) قال الله تعالى: {الَّذِيْنَ إِنْ مَّكنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الْصَّلاةَ وَآتَوُا الْزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوُفِ وَنَهَوْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُوُر}([20]).
وهذا هو التحدي المطروح في الساحة الحاضرة اليوم، فالأُمَّة تحمل في جعبة أفكارها منهجاً موسوعياً يستوعب كافة ألوان الطيف البشري، ولكنها وفي نفس الوقت بعيدة كل البعد عن العمل بمبدأ تلك المعادلة المنهجية للأخذ بأسباب التطور والحضارة البشرية، وهذه الصورة كلوحة فنية معاصرة تنبأ النبي صلى الله عليه وسلم بظهورها، وعلى ضوئها تعدَّدت صور البيان النبوي في التعبير عن الواقع الأليم لما يحيق بهذه الأُمَّة، فمرة يقول: (يُوشِكُ الأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا، فَقَالَ قَائِلٌ: وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ، وَلَيَنْزَعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ، وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهْنَ. فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْوَهْن؟ُ قَالَ: حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ)([21]).
ومرة يقول: افْتَرَقَتِ الْيَهُودُ عَلَى إِحْدَى أَوْ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَتَفَرَّقَتِ النَّصَارَى عَلَى إِحْدَى أَوْ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً)([22]).
وهذه نماذجَ حية تُعبِّر عن معوِّقات العمل لتلك العوامل المؤدية لتمكين الخلافة .(/3)
ولتحقيق هذا الهدف الأول الوصولي الوسيلي، نجد أنَّ البيان القرآني والبيان النبوي قد فصَّلا القول في مصير البشرية ومرجعيتها، وأنها من أصل واحد، وتلك الفوارق اللسانية واللونية لها آيات وأهداف بعيدة كل البعد من أنْ تصير أو تُعبِّر عن نظرية التفاضل والتكامل. وكان مما أحدث اليهود أنْ قالوا: لا يضرنا ذنب فنحن أحباؤه وأبناؤه، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، وإنما كان في التوراة: (يا أحباري ويا أبناء رسلي)، فغيِّروه وكتبوا: (يا أحبائي ويا أبنائي)، فأنزل الله تعالى تكذيبهم: {وَقَالَتِ الْيَهُوُدُ وَالْنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِِذِنُوُبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ}([23])، فقالت اليهود لن يعذبنا، وإنْ عذبنا فأربعين يوماً مقدار أيام العجل، فأنزل الله تعالى: {وَقَالُوُا لَنْ تَمَسَّنَا الْنَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْداً فَلَنْ يُّخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُوُلُونَ عَلَى اللهِ مَا لا تَعْلَمُوُنَ بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئةً.. }([24]).
فحذَّر الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الأُمَّة، لما قد علم ما يكون في آخر الزمان، حذَّرهم أنْ يُحدِثوا من تلقاء أنفسهم معارضاً لكتاب الله تعالى فيضلوا به الناس([25]).
وهذا ما نلاحظه مبسوطاً في كثير من نصوص القرآن والسُّنَّة تهذيبا للسلوك ليتكيف مع تلك الفوارق والخلافات التكوينية للبشر: {يَا أَيُّهَا الْنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّنْ ذَكَرٍ وَّأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوُباً وَّّّّقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ}([26])، فيتساوى الناس في الخلق والفناء، وهذا الهدف جعله الله تعالى رحمة للبشرية، حتى تنعم به في أمن وسلام لتتوصل من خلاله إلى الهدف الحقيقي من الاستخلاف، وهو تحقيق العبودية لله تعالى، ببسط الحرية الفكرية المصحوبة بالأدلة العقلية والنقلية التي توصل لمعرفة الله تعالى، وهو الهدف السببي الوجودي: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}([27]).
لذلك كان واقع الاختلاف بين الشرائع السماوية يدور حول الهدف الأول للاستخلاف بينما اتفقت كل الشرائع السماوية على الهدف الثاني: {وَمَا أَرْسَلْنََا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَّسُوُلٍ إِلاَّ نُوُحِي إِلَيْهِ أَنَْهُ لا إِلَه إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ}([28]).
ثانياً: السنة ومفهوم الأُمَّة:
والإسلام كونه نموذجاً تكاملياً؛ استطاع أنْ يستوعب كافة التعاليم الرسالية السماوية السابقة، بل هو في حد ذاته دينٌ عالميٌّ يستوعب كافة التكتلات القطرية، والعرقية، والقومية، والطائفية، وغيرها، وهذا الدين تجسد عملياً في مدرسة السُّنَّة النبوية: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمةً لِلْعَالَمِيْنَ}([29]). وقال صلى الله عليه وسلم : (أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي بُعِثْتُ إِلَى الأَحْمَرِ وَالأَسْوَدِ…)([30]). والذي يتأمل في عموم مفهوم السُّنَّة ـ أي القولية والفعلية والتقريرية والوصفية في الخَلْقِ والأخلاق ـ حري به أنْ يبصر أنَّ السُّنَّة بهذا المعنى الواسع استعملها النبي صلى الله عليه وسلم في تأسيس الوحدة في كافة مراحل الدعوة.
فالسُّنَّة أكبر داع للوحدة والمحبة والأخوة، ونابذ للفرقة والبغضاء والمشاحنة؛ فالنصوص الواردة في هذا المعنى تكاد لا تخرج عن أي نص نبوي صريح صحيح، قال صلى الله عليه وسلم : (أُوصِيكُمْ بِأَصْحَابِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَفْشُو الْكَذِبُ حَتَّى يَحْلِفَ الرَّجُلُ وَلا يُسْتَحْلَفُ، وَيَشْهَدَ الشَّاهِدُ وَلا يُسْتَشْهَدُ، أَلا لا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلا كَانَ ثَالِثَهُمَا الشَّيْطَانُ، عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ وَإِيَّاكُمْ وَالْفُرْقَةَ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الْوَاحِدِ وَهُوَ مِنَ الاثْنَيْنِ أَبْعَدُ، مَنْ أَرَادَ بُحْبُوحَةَ الْجَنَّةِ فَلْيَلْزَمِ الْجَمَاعَةَ..)([31])، وقال: (يَدُ اللَّهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ)([32])، وقال: (.. مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ شِبْرًا فَمَاتَ فَمِيتَةٌ جَاهِلِيَّةٌ)([33]).
أضف إلى ذلك؛ حرص النبي صلى الله عليه وسلم على ربط الشعائر الدينية(/4)
ـ كالمعاملات والعبادات ـ بالوحدة، فهذه الصلاة نادى النبي صلى الله عليه وسلم للاجتماع لها، بل وتسوية الصفوف([34])، وتتكرّر روح الجماعة في عبادة الصوم بالزيادة في الإنفاق والبذل، وَ(كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ، حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ جِبْرِيلُ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ، فَلَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنْ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ)([35]). وقس على ذلك شعائر الحج، والزكاة، والجهاد، وهلم جرا .
وهذا ما رسمه الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم من الناحية النظرية، بوصف البشرية ككيان موحد له أهداف وغايات ووسائل يتبعها ليحققها على الإطارين النظري والتطبيقي، لذلك فإنَّ الجانب العملي في حياته صلى الله عليه وسلم يمثل الوحدة الإسلامية والبشرية معاً.
ولعلَّنا في هذه السانحة نلقي الضوء على جانبٍ من منهجه صلى الله عليه وسلم ، بوصفه داعياً لوحدة البشرية تحت أسس وأطر محددة.
وشخصيته صلى الله عليه وسلم نموذجاً موحداً ومؤصلاً للأُمَّة بدأت قبل الرسالة بمشاركة فعَّالة في فض كثير من النزاعات كالخلافات القبلية، فالخلاف في وضع الحجر الأسود، ويوم بعاث الذي كان يمثل آخر الحروب بين الأوس والخزرج، حيث جاء وفد الأوس يطمع في حلف قريش على الخزرج، ومن فضائل الله تعالى عليهم أنْ يكون أول مخاطبٍ لهم هو محمد صلى الله عليه وسلم : إنَّ عندي لكم أفضل مما جئتم إليه، فقرأ عليهم القرآن الكريم، فكان أول المتأثرين حَدَثٌ من أحداثهم، وهو إياس بن معاذ، قال لقومه: أي قوم! هذا والله خير مما جئتم له. فحمل هذا الوفد في طياته الدعوة الإسلامية، وفتح أكبر بابٍ لها ألا وهو أنْ مهَّد لها أرضاً لتكون شاهدة على ولادة الأُمَّة الإسلامية، حاملة في منهجيتها الدعوة العالمية، على صعيد الثقلين الإنس والجن([36]).
وبعد الرسالة اختلف مفهومه صلى الله عليه وسلم في مكة عنه في المدينة، فالطابع المكي له مشكلات جذرية تُعَدُّ معوقات أساسية في طريق الوحدة، فالشرك وتعدُّد الآلهة فيه من الناحية العقلية والمنطقية ما يؤكد أنَّ البيئة غير مؤهلة لِتَحَمُّل الرسالة المحمدية ذات الأبعاد العالمية في إطار وحدوي، وهذا يتنافى مع التعددية التي كانت تمارس داخل المجتمع المكي الضيق في مفهوم تعدُّد الآلهة، فكيف بالدعوة لتوحيد العالم أجمع نحو إله واحد وعبادة موحدة، ونظام موحد، لذلك غلب على الخطاب النبوي في هذه المرحلة جانب القدوة على طابع القول والتقرير.
فالتسامح وفهم الواقع الاجتماعي أكسب الرسالة في مهدها طابع النجاح، فالدعوة في ذلك الحين تحدياتها في مقابل معطياتها غير قابلة للمقارنة. والسر الأوحد في إنجاحها همم أصحابها التي أُثْقِلَت بالتربية النبوية الفريدة، عن خباب بن الأرت t قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة في ظل الكعبة، وقد لقينا من المشركين شدة، فقلتُ: يا رسول الله ألا تدعو الله لنا؟ فقعد وهو محمر الوجه، فقال: (لَقَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ لَيُمْشَطُ بأَِمِشَاطِ الْحَدِيدِ، مَا دُونَ عِظَامِهِ مِنْ لَحْمٍ أَوْ عَصَبٍ، مَا يَصْرِفُهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ وَيُوضَعُ الْمِنْشَارُ عَلَى مَفْرِقِ رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَيْنِ مَا يَصْرِفُهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَلَيُتِمَّنَّ اللَّهُ هَذَا الأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ مَا يَخَافُ إِلاَّ اللَّهَ وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ)([37]).
والدعاء شيء مشروع ولكن ترتيب الأولويات واتباع المنهجية كان سببا للتربية، أي: يا خباب، هذا هو الدين .
ولأن أُطر الدعوة أُطر عالمية وحدوية، كان مشروع الهجرة بعد أنْ استنفدت كافة أشكال التكيُّف الاجتماعي في مكة، بل إنَّ الإسلام الاجتماعي تمركز ثقله العددي في المدينة، أضف لذلك استتباب الأمن، وحرية الدعوة، وتأسيس قواعد المجتمع الإسلامي. كل هذه العوامل تحتاج لأرض تنطلق منها تلك المفاهيم، وترسم على أرضها مشاريع الوحدة الإسلامية، التي هي في صميم أهدافها الدعوة لوحدة الإنسانية العالمية، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِيْن}([38])، فالرسل بُعِثوا للرحمة، ومحمد صلى الله عليه وسلم أُرسل رحمةً للعالمين، فلذلك صار أماناً للخلق لما بعثه الله تعالى، أَمِنَ الخلق العذاب إلى نفخة الصور، وسائر الأنبياء لم يحلوا هذا المحل، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (أنا رحمة مهداة)، يخبر أنه بنفسه رحمة للخلق من الله تعالى، وقوله: (مهداة)، أي: هدية من الله تعالى للخلق([39]).
وأَبْرَز أسس قام عليها المجتمع الإسلامي الأول في المدينة كنموذج مصغر لوحدة الإنسانية:
وضع دستور المدينة:(/5)
الذي كان محتواه توحيد الأُمَّة المسلمة، مع الاعتراف بحقوق الأقليات اليهودية، وتوفير سبل الأمن لها، بل وإعطائها كافة سبل الحرية الدعوية، بشكل يحفظ سيادة الدولة والنظام. وهذا يُلْتَمَس من خلال فقرات الدستور، قال ابن إسحاق: "وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاباً بين المهاجرين والأنصار، بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من محمد النبي صلى الله عليه وسلم ، بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب، ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم، إنهم أُمَّة واحدة من دون الناس، المهاجرون من قريش على ربعتهم يتعاقلون بينهم، وهم يفدون عانيهم بالمعروف، …وإنكم مهما اختلفتم فيه من شيء؛ فإنَّ مرده إلى الله عَزَّ وجَلَّ وإلى محمد صلى الله عليه وسلم ، وإنَّ اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم"([40]).
بناء المسجد النبوي:
بحسبانه منطلقاً تربوياً وسياسياً في آن واحد، فقد كانت رسالة المسجد متكاملة، باحثة في جميع قضايا الأُمَّة، لذلك أعلى الإسلام من رسالة المسجد، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ أَعْمَى فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ لَيْسَ لِي قَائِدٌ يَقُودُنِي إِلَى الْمَسْجِدِ!! فَسَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُرَخِّصَ لَهُ فَيُصَلِّيَ فِي بَيْتِهِ، فَرَخَّصَ لَهُ فَلَمَّا وَلَّى دَعَاهُ فَقَالَ: (هَلْ تَسْمَعُ النِّدَاءَ بِالصَّلاةِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَأَجِبْ)([41]).
ولعل في هذا الجمع الذي يتكرَّر خمس مرات في اليوم، ثم مرة كل أسبوع في صلاة الجمعة، وهكذا في كل مراحل المناسبات العبادية الجامعة، ما يؤكد أنَّ المسلم أقرب لفهم معاني الوحدة، ونبذ الخلاف، والتسامح في المسجد أقرب منه في أي موقع آخر.
مبدأ الأخوة الإسلامية بين المهاجرين والأنصار:
على الحق والمواساة، وعلى أنْ يتوارثوا بينهم بعد الممات، لقد بلغ هذا الترابط قمته حتى أخذ موقع الرحم ورابط القرابة، ولم يكن مجرد شعار يرفع، بل كان واقعاً عملياً، كان قد تحقّق به تكافل اجتماعي منقطع النظير، فالمهاجرون مُعْدَمون لِمَا تركوه من أموالهم في بلادهم فراراً بدين الله تعالى، وهم ليسوا أصحاب زراعة كأهل المدينة، فأصبحوا أهل صُفَّةٍ وطلاب علمٍ، حفظوا للدين مجده في ساحتيْ العلم والجهاد([42])، ولقد مدح الله تعالى الأنصار وجعل ذكرهم قرآناً يتلى ويؤجر قارئه ومتدبره: {وَيُؤْثِرُوُنَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَة}([43]). فأيّ قيم أكثر من هذه تُشْعِرُ بوحدة القلوب والأبدان؟([44]).
والقراءة المتأنية في مصدر التاريخ الإسلامي تَخْلَصُ إِلى أنَّ (الأُمَّة) لها مفهومان:
مفهوم نظري في نصوص القرآن والسنة:
وهو مفهوم يقدم النموذج الذي يجب أنْ تكون عليه الأُمَّة وفق دستور رباني منهجي يحفظ لها بقاءها واستمرارها، كأُمَّة رائدة.
ومفهوم تطبيقي عملي:
تَمَثَّل في دولة الرسول الأولى، ثم الخلافة الراشدة([45])، ثم صار في غابر التاريخ.
وهذان المفهومان يجعلان مرتكزات الأُمَّة تدور على عناصر أربعة: عنصر بشري، وعنصر فكري، وعنصر اجتماعي، وعنصر زمني.
وبالنظر في هذه المعايير؛ فإنَّ عنصر البشر لا يشترط فيه الروابط الدموية أو الجغرافيا ولا الكم العددي، بل هي أُمَّة ذات كيان ودستور عادل وصالح، بحيث يتوقف ميزان البناء والهدم فيه بحسب تفاعل تلك العناصر مع مفاهيم الأُمَّة: {وَالَّذِيْنَ جَاهَدُوا فِيْنَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}([46]). فإنَّ التوافق مع شروط الأُمَّة هو الضامن الوحيد لاستعادة وبقاء خلافة الله تعالى في الأرض قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوُفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ}([47]).
وخاتمة القول في مفهوم الوحدة في منهجية السنة أنَّ الوحدة العملية ترتكز على:
• التوحيد الفكري والنفسي بين الشعوب الإسلامية وفق منهجية الله تعالى وعمل النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو منهج كما اتضح استيعابي للوحدة البشرية بأكملها.(/6)
• الدعوة لتناسي الخلافات والنزاعات والانشغال بهموم الأُمَّة، وذلك لا يتأتى إلاَّ بالقدوة الصالحة، وإقامة المؤتمرات التنويرية. والضامن الوحيد في ذلك هو: القوة والأمانة، حيث إنَّ التحدي الذي يجابه الأُمَّة هو سبب أساسي في إشعال نار الفتنة الداخلية، فإذا كان ما وقع بين الأوس والخزرج بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم ، كما في حديث جَابِر بْنَ عَبْد ِاللَّهِ ـ رَضِي اللَّه عَنْهمَا ـ قَالَ: كُنَّا فِي غَزَاةٍ فَكَسَعَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ، فَقَالَ الأَنْصَارِيُّ: يَا لَلأَنْصَارِ، وَقَالَ الْمُهَاجِرِيُّ: يَا لَلْمُهَاجِرِينَ، فَسَمِعَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: مَا بَالُ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَسَعَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ!! فَقَالَ: دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ، فَسَمِعَ بِذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ فَقَالَ: فَعَلُوهَا، أَمَا وَاللَّهِ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ، فَبَلَغَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَامَ عُمَرُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : دَعْهُ لا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَه،ُ وَكَانَتِ الأَنْصَارُ أَكْثَرَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ حِينَ قَدِمُوا الْمَدِينَةَ، ثُمَّ إِنَّ الْمُهَاجِرِينَ كَثُرُوا بَعْدُ)([48])، وما هذه إلاَّ بعد أنْ تبيَّن للمنافقين واليهود في المدينة أثر الوحدة الإسلامية بين أعداء الأمس وأخوة اليوم، فإنَّ الخطر المعاصر على الأُمَّة في غياب القدوة النموذجية المماثلة للعصر الذهبي للإسلام، أدى لنتائج وخيمة تتجرع الأُمَّة الإسلامية ويلاتها الحسية والمعنوية، فالجهل والتخلف والتبعية صارت سمات تتعلق بكثير من دول العالم الإسلامي.
• الدعوة لمحاربة الظلم والفساد، وخلق فرص التعليم والعمل، وإقامة العدل بين الرعية، فالنبي صلى الله عليه وسلم بوصفه القائد الأعلى كان لا يتميز على أصحابه، وأكبر شاهد على ذلك غزوة الخندق، وهذا ما شهدت به شاة جابر بن عبد الله حينما لاحظ الجوع على بطنها فقال صلى الله عليه وسلم : (كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالإِمَامُ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ فِي أَهْلِهِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا رَاعِيَةٌ وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالْخَادِمُ فِي مَالِ سَيِّدِهِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، قَالَ: فَسَمِعْتُ هَؤُلاءِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، وَأَحْسِبُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (وَالرَّجُلُ فِي مَالِ أَبِيهِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ)([49]).
ثالثاً: معوقات الوحدة في مفهوم البيان النبوي:
(أي التعامل المنهجي في بيان النبي صلى الله عليه وسلم حيال العقبات في طريق وحدة الأُمَّة):
إنَّ الإسلام كما سَلَفَ القول هدف لتكوين جماعة إنسانية فاضلة تربطها الأخوة والمودة، وتكون العلاقة بينها وبين غيرها قائمة على الوفاء والعدل والمُثُل .
ولكن لحكمة يعلمها الله تعالى؛ فإنَّ الطابع البشري له معاييره النفسية المتغايرة التكييف والأمزجة والدوافع والرغبات، وعند البحث في سبب تفرّق وتمزّق كيان الأُمَّة تجد أنها العصبية التي نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم والأطماع، والشهوات، والتنازع على الملك والسلطان، وضياع الشورى، وفساد الحكم وقيام الظلم. وفي مقابل ذلك التقاعس، والكسل، والنفاق، والخيانة بكافة أنواعها.. وهلم جرا. كانت كلها أسباباً كفيلةً بتدمير أي بنية تحتية لكيان الأُمَّة الواحدة .(/7)
عَنِ الْمَعْرُورِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: رَأَيْتُ عَلَيْهِ بُرْدًا وَعَلَى غُلامِهِ بُرْدًا فَقُلْتُ: لَوْ أَخَذْتَ هَذَا فَلَبِسْتَهُ كَانَتْ حُلَّةً وَأَعْطَيْتَهُ ثَوْبًا آخَرَ؟! فَقَالَ: كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ كَلامٌ وَكَانَتْ أُمُّهُ أَعْجَمِيَّةً فَنِلْتُ مِنْهَا فَذَكَرَنِي إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لِي: أَسَابَبْتَ فُلانًا؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: أَفَنِلْتَ مِنْ أُمِّهِ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: (إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ). قُلْتُ: عَلَى حِينِ سَاعَتِي هَذِهِ مِنْ كِبَرِ السِّنِّ؟ قَالَ: (نَعَمْ، هُمْ إِخْوَانُكُمْ جَعَلَهُمُ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ، فَمَنْ جَعَلَ اللَّهُ أَخَاهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ، وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ، وَلا يُكَلِّفُهُ مِنَ الْعَمَلِ مَا يَغْلِبُهُ، فَإِنْ كَلَّفَهُ مَا يَغْلِبُهُ فَلْيُعِنْهُ عَلَيْهِ)([50]).
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : (إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ([51])َ الْجَاهِلِيَّةِ وَفَخْرَهَا بِالآبَاءِ، مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ، أَنْتُمْ بَنُو آدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ، لَيَدَعَنَّ رِجَالٌ فَخْرَهُمْ بِأَقْوَامٍ إِنَّمَا هُمْ فَحْمٌ مِنْ فَحْمِ جَهَنَّمَ أَوْ لَيَكُونُنَّ أَهْوَنَ عَلَى اللَّهِ مِنَ الْجِعْلان([52]) الَّتِي تَدْفَعُ بِأَنْفِهَا النَّتِنَ)([53]).
والطرح الإسلامي هدف إلى تحقيق وحدة إنسانية ذات بؤرة استقطابية للبشرية جمعاء، ذات قبلة واحدة، تؤمن بتعدُّد الثقافات، والعادات، والأجناس، والأعراق، إيماناً بتقدير الحكيم العليم، مما أثر إيجاباً على محاربة السخرية والاستهزاء والتفاضل باللون، والجنس، والقبيلة، وكافة ألوان الهدم للبناء الوحدوي، وهذا ما مَكَّنَ لأُمَّة الإسلام أنْ تتجاوز كل العقبات في عهد النبي صلى الله عليه وسلم .
وإذا كان هذا هو الشأن، فإنْ لكل عمل عظيم من التحديات والمعوِّقات ما تحاول إثناءه عن تطلعاته، ولقد دبَّت هذه المعوِّقات منذ العصر الذهبي لدولة الوحدة الإسلامية، واشترك في ذلك الهدم الأقرباء والفرقاء، وفي هذا الموضع من البحث محاولة لطرح أهم جوانب الهدم الداخلي والخارجي كمعوقات في سبيل الوحدة، وهذا ما يكسب الدراسة أهميتها الموضوعية .
إنَّ البحث عن أسباب فشل محاولة الأُمَّة لم شملها ـ أي في عهد العصرنة والعولمة، والتكتلات الإعلامية (ميديا)، والإقليمية، وكل ما يشهده العالم من تطور تكنولوجي، وتسخير ذلك كله لخدمة الحضارة الغربيةـ في جعبة كثير من أفراد الأُمَّة أفهام مختلفة لأسباب التقوقع والتشتت والاتسام بسيماء التخلُّف والرجعية، منها ما هو مصيب، ومنها ما هو مجرد ظنون ناتجة عن مواقف شخصية أو عصبية محدودة.
فمعوِّقات الوحدة في العصر الذهبي للإسلام؛ كانت من نتاج المنافقين واليهود والمشركين وقلة من المؤمنين من غير تعمُّد، إما لقرب العهد من الجاهلية أو عدم معرفة نتائج تلك المعوقات ـ كحادثة حاطب بن أبي بلتعة في محاولة إخباره أهل مكة بالفتح، وحادثة الثلاثة الذين خلفوا، وهم كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع، وهلال بن أمية ـ سرعان ما انحسرت تلك المعوقات بفضل الله تعالى، ثم بفضل مدرسة النبي صلى الله عليه وسلم .
ولكن يقظة النبي صلى الله عليه وسلم ، واستمرارية وضع أسس بناء الدولة الإسلامية الأم حتى رحيل النبي صلى الله عليه وسلم عنها للرفيق الأعلى؛ كانت قد وضعت آخر لبنة لتكملة دستور توحيد الأُمَّة قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِيْنَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيْتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِيْناً}([54])، حالت دون تطلعات الأعداء والمرجفين والمتربصين، وكان السر الأعظم في إنجاح ذلك المخطط هو التوحيد السليم لله تعالى: {إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}([55])، وتناسي الخلافات الدنيوية التي لا تتماشى مع مجتمع هو في طور الإعداد ليكون مسؤولاً عن قيادة العالم بأجمعه، وإلاَّ ما الذي دفع الصحابي لوضع رقبته على الأرض تكفيراً لذنب السخرية والاستهزاء وإرضاءً لمن سخر منه وعيَّره بشيء قدَّره الله تعالى عليه؟ هذا ناجم عن فهم الصحابة أنَّ التفاضل هو في اتباع منهج الله سبحانه وتعالى.(/8)
لذا عند دراسة شخصية النبي صلى الله عليه وسلم ، كقائد أممي وموحد وحدوي، وكيف تغلب على المعوقات، فإنه صلى الله عليه وسلم عمل بمبدأ: (لا تَكُونُوا إِمَّعَةً تَقُولُونَ: إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنَّا، وَإِنْ ظَلَمُوا ظَلَمْنَا، وَلَكِنْ وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ، إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَنْ تُحْسِنُوا، وَإِنْ أَسَاءُوا فَلا تَظْلِمُوا)([56])، فكان تعامله مع الأعداء ابتداء بالسماحة والتعايش السلمي، ورعاية حسن الجوار، مع اليقظة لمكرهم وغدرهم، ولكن عندما صار خطر هذا الكيان المهدد لوحدة الأُمَّة في ازدياد وتفشٍ عندها صار مبدأ التعامل من المسامحة إلى تعامل المثل.
وأكبر شاهد على ذلك أنَّ تلك الغزوات التي خاضها النبي صلى الله عليه وسلم ضد اليهود بطوائفهم الثلاث كانت ناتجة عن تعاظم خطر اليهود على المدينة، وأشدهم خطراً بنو قريظة، لذلك كان عاقبتهم القتل للرجال، والسبي للنساء والأطفال، مع أخذ أموالهم وأمتعتهم، وهذا حكم الله تعالى فيهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لسعد بن معاذ: (لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة)([57]).
ثم بنو النضير لدورهم المشهود في غزوة الخندق، وقبلها في إشعال نار الفتنة والتخطيط لقتل النبي صلى الله عليه وسلم مرتين في المدينة، وفي خيبر على يد زوجة سلام بن مشكم.
أما بنو قينقاع فأجلاهم النبي صلى الله عليه وسلم لما أحدثوه في المدينة من إخلال بأمنها، وإظهار الحسد ضد المسلمين إثر انتصارهم في أُحُد.
أما المشركون فيمثل فتح مكة نموذجاً لعاقبة غدرهم، وفي هذا درس عظيم للقادة والرعية، وهذا ما يفسر قوله صلى الله عليه وسلم : (الدِّينُ النَّصِيحَةُ. قُلْنَا: لِمَنْ؟ قَالَ: لِلَّهِ، وَلِكِتَابِهِ، وَلِرَسُولِهِ، وَلأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ)([58]).
أما المنافقون فكان لهم شأن آخر؛ حيث إنَّ تلفظهم بالشهادة حال دون تعرضهم للعقوبة، لذلك كان خطرهم على الإسلام أعظم من خطر اليهود والمشركين، بل جُعل أمرهم لله تعالى، فكشف خططهم وهددهم، فمنهم من تاب، ومنهم من خسر وخاب {إِنَّ الْمُنَافِقِيْنَ فِي الْدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ الْنَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيْراً}([59]).
الاستشراف النبوي للمعوِّقات الحديثة:
وأما المعوِّقات العصرية فهي شبيهة بمعوِّقات الأمس، فالمنهج النبوي العملي والقولي قد تنبأ بكل ما يحصل للأُمَّة من معوِّقات وتحديات وفرص.
وعليه؛ فإننا يمكن أنْ نقسم المعوِّقات إلى قسمين اثنين تربطهما علاقة زوجية، صعبة الْبَيْنِ والفراق إن لم تكن مستحيلة، وقد أدّى كلا الطرفين واجبه بإخلاص وتفانٍ، ونجحت المهمة في تحطيم كل مقومات الوحدة والقوة التي تتخذ من شعار العالمية الإسلامية رمزاً لها، فعاش كل تحت كنف ما جاءه بفضل عطائه قال تعالى: {قُلْ لَنْ يَّنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُوُنَ إِلاَّ قَلِيْلاً}([60]).
وبعد هذه النظرة المجملة؛ فإنَّ من الواجب إيضاحها بالتحليل لتلك الأدوار التي مثلت عقبةً كؤوداً في وجه وحدة الأُمَّة:
[أ] معوِّقات خارجية:
وهي ما يفسره مسرح الحياة الحاضرة والتاريخ الموثوق، إنَّ العصرنة المادية التي صارت بيد أعداء البشرية جمعاء ـ أي اللوبي الصهيوني الذي لعب في ماضي الأُمَّة أبشع أدوار الغدر والخيانة ـ فالأُمَّة أحوج ما تكون لخطط النبي صلى الله عليه وسلم في تعامله مع هذا السرطان الذي يتخذ شعاراً كاذباً: (شعب الله المختار)، ويصف الخالق بصفات تشمئز منها الأذان وتقشعر منها الجلود: {لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِيْنَ قَالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيْرٌ وَّنَحْنُ أَغْنِيَاءَ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ}([61])، {وَقَالَتِ الْيَهُوُدُ يَدُ اللهِ مَغْلُوُلةٌ غُلَّتْْ أَيْدِيْهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ …}([62]).
لقد وجد الغدر اليهودي الفرصة سانحة في ظل غياب الوعي المصحوب بمراعاة حقوق الله تعالى عن الأُمَّة، فأصبح الوعي من أجل الشهرة والمال والجاه والسلطان، فعملوا فيه بسياسة: (فَرِّقْ تَسُدْ)، وصَحَّ القول: (إذا صارت فتنة بين اثنين ففتش عن اليهودي).
علم اليهود أنَّ السبيل الوحيد للسيطرة على العالم هو التحكم في معطيات الإنسانية المادية والمعنوية، كالاقتصاد، والإعلام، والسياسة، فعمدوا لأكبر قوة اقتصادية عالمية لتطويعها وقيادتها بعصيهم الشوكية، وما دولة إسرائيل إلاَّ جزء من ذلك المخطط القذر.
نجح اليهود في هذا المخطط لسببين اثنين:
أولهما: إيمان اليهود وإخلاصهم لكافة أطياف الغدر والخيانة، فهم شعب مجرد من الإنسانية والعواطف، بل نظرته للإنسانية أنها خلقت من أجل خدمة شعب الله المختار.(/9)
وثانيهما: تخلف الأُمَّة الإسلامية عن القيام بواجباتها تجاه الله سبحانه وتعالى، مما أورثها الخوف من غيره، ومن ثم الرضا بالذل والهوان والتبعية: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوُهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِيْنَ}([63])، بل وتحقيق كافة متطلبات الأعداء من أجل الاحتفاظ بحفنة عيش يُسَدُّ بها الرمق أو التربُّع على عرشٍ خربٍ لا يخدم إلاَّ حفنة من البشر، فصارت السياسة توريثاً، والوزارة والسفارة تدهيناً.
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ t أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ، شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ سَلَكُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ). قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: فَمَنْ؟!([64]).
ومن وراء الكواليس وخلف الأبواب؛ يقف النصارى بضلالاتهم أكبر عائق نحو وحدة الأُمَّة الإسلامية، وأكبر داعم لسياسة اليهود التوسعية([65])، يعتبر جورج دبليو بوش، مسيحياً متديناً، لما يقوم به من نشاط تعبدي كنسي منتظم، وهو أبين مثال شاهد على خدمة النصرانية لليهودية، لقد غزا العراق من أجل اليهود، وهو يتذرع بذريعة محاربة الإرهاب من جهة، ومن جهة أخرى بذريعة دول محور الشر، والبقية تترى على أشباه العراق في نظر هذا المسيحي المتعصِّب، لقد كرَّس النصارى دعوتهم الثالوثية في عقر ديار المسلمين، فهذه القارة الإفريقية التي يطلق عليها القارة المسلمة انحدر إليها المبشرون والرهبان، وخير شاهد على ذلك الحروب الأهلية التي تطحن القارة شرقاً وغرباً، فإذا كان النصارى قد أعاقوا توحّد الدولة الواحدة فهم أمام توحّد الأُمَّة أشد إباءً ورفضاً، فهذا هو السُّودان يُعَدُّ نموذجاً لأطول حرب أهلية صار ممزقاً بسبب خيانة اليهود والنصارى، فالتبشير الكنسي في الجنوب السُّوداني صار له تدخل ملموس في مُشْكِل جنوب السُّودان السياسي بالتذرُّع بحقوق الإنسان، ولقد أصبح دوره لا يستهان به في تحريك اللعبة السياسية، لا سيما أنه يَعُدُّ إيجاد أي حل سلمي في صالح الشمال هو انتصار للإسلام، الذي رفعت النصرانية العصا في وجهه في كثير من بلدان العالم الأول، وصدق الله العظيم: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا الْنَّصَارَى حَتَى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ}([66]).
وكأنَّ النصارى نسوا بأنَّ اليهود هم من وراء تدبير مقتل عيسى u([67])، بل وكأنَّهم نسوا أنَّ القرآن ذكر أسلافهم بكثير من الثناء والمدح {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ الْنَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِيْنَ آمَنُوا الْيَهُوُدَ وَالَّذِيْنَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدةً لِّلَّذيْنَ آمَنُوا الَّذِيْنََ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى}([68]).
إنها العصبية والكفر والإلحاد، أضف إلى ذلك السبب سبباً آخر، وهو أنَّ الدستور المنقذ لأُمَّة الإنسانية هو القرآن والإسلام، فرفضه اليهود والنصارى لأنهم لا يؤمنون بأنَّ الأفضلية تنتقل منهم لغيرهم، {وَمَا نَقِمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أن ِيُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيْد}([69]).
لقد توحّد الكفر: {وَالَِّذَْيْنَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْض إِلاَّ تَفْعَلُوُهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيْرٌ}([70])، وتفرَّق المسلمون بأسبابهم المختلفة فكانت الفتنة والفساد كما ذكر الله سبحانه وتعالى، إنَّ العالم الإسلامي أصبح أكثر نظرة تعصبية وعنصرية مما كان عليه بالأمس، لقد زادت الحضارة الغربية من عصبية المسلمين في أضيق نطاقها، لقد كان إنسان الأمس ينظر بعين القبيلة، فأصبح مسلم اليوم ينظر بعين الأسرة، فضاع معنى التكافل الاجتماعي، حتى فيما نتساوى فيه كتسوية الصفوف في الصلاة وإلقاء تحية الإسلام وغيرها من نوافل الوحدة الإسلامية.
عَنْ أَبُي أُمَيَّةَ الشَّعْبَانِيّ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيَّ فَقُلْتُ: يَا أَبَا ثَعْلَبَةَ كَيْفَ تَقُولُ فِي هَذِهِ الآيَةِ {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} [المائدة: 105]؟ قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ سَأَلْتَ عَنْهَا خَبِيرًا، سَأَلْتُ عَنْهَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: (بَلِ ائْتَمِرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنَاهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ، حَتَّى إِذَا رَأَيْتَ شُحًّا مُطَاعًا، وَهَوًى مُتَّبَعًا، وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً، وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ؛ فَعَلَيْكَ ِنَفْسِكَ وَدَعْ عَنْكَ الْعَوَامَّ، فَإِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامَ الصَّبْرِ، الصَّبْرُ فِيهِ مِثْلُ قَبْضٍ عَلَى الْجَمْرِ، لِلْعَامِلِ فِيهِمْ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلاً يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِهِ) وَزَادَنِي غَيْرُهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْهُمْ؟ قَالَ: (أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ)([71]).(/10)
إنَّ أُمَّة كهذه لا تستطيع إقامة وحدة، إلاَّ بفهم الواقع الذي آلت إليه أحوالها. إنَّ مثل هذه النصوص الحديثية شاحذة للهمم وداعية لربط الجأش، وكاشفة لحجم التآمر، بل هي منهج رُسِمَ ليقتفي المسلمون أثره في سبيل التعامل مع التحديات والفرص المتاحة في سبيل نهضة الأُمَّة الإسلامية.
[ب] معوِّقات داخلية :
تقف المعوِّقات الداخلية في مقدمة معوِّقات توحُّد الأُمَّة الإسلامية، ولقد حذَّر النبي صلى الله عليه وسلم من تلك المعوِّقات الداخلية في نصوص تكاد تكون الغالبة على الأحاديث القولية والفعلية.
وهذه المعوِّقات أخذت صوراً وأشكالاً تجسدت في هذه الأفعال كالتكبر بغير حق، والاعتزاز بغير الله تعالى، والتواضع لغير الله تعالى، والظلم الذي ينهك الوحدة بعد ثبوتها، وينافي الائتلاف، ويبعث التخاصم والتربُّص، فحرَّمه الله تعالى عَنْ أَبِي ذَرٍّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيمَا رَوَى عَنِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ: (يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلا تَظَالَمُوا..)([72])، وفي حديث آخر عن النبي قال: (وَمَنْ أَعَانَ عَلَى خُصُومَةٍ بِظُلْمٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ)([73]). وقال: (من مشى مع قوم يرى أنه شاهد، وليس بشاهد، فهو شاهد زور، ومن أعان على خصومة بغير علم كان في سخط الله حتى ينزع، وقتال المؤمن كفر، وسبابه فسوق)([74]). هكذا تتضح مساوئ الظلم، وهو أكبر هادم لمظلة الوحدة.
ومن المعوِّقات الداخلية المفكِّكة لوحدة الأُمَّة ومزعزعة لعراها العصبية: الإحساس بالانتماء للقبيلة، والجنس، والنوع، وإيثار الدعوة العصبية على حساب الدين وأهدافه، جاء في الحديث: (لَيْسَ مِنَّا مَنْ دَعَا إِلَى عَصَبِيَّةٍ، وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ قَاتَلَ عَلَى عَصَبِيَّةٍ، وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ مَاتَ عَلَى عَصَبِيَّةٍ)([75]).
وَعَنْ أَبِي عُقْبَةَ، وَكَانَ مَوْلَى مِنْ أَهْلِ فَارِسَ، قَالَ: شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أُحُدًا، فَضَرَبْتُ رَجُلاً مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَقُلْتُ: خُذْهَا مِنِّي وَأَنَا الْغُلامُ الْفَارِسِيُّ، فَالْتَفَتَ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: (فَهَلاَّ قُلْتَ: خُذْهَا مِنِّي وَأَنَا الْغُلامُ الأَنْصَارِيُّ)([76]).
وفسَّرها النبي صلى الله عليه وسلم بأنها العصبية التي تعين فيها قومك على الظلم، وأخذت هذه العصبية صنوفاً من الأشكال، من أبرزها الدعوة إلى إحياء اللُّغات بعد أنْ كانت لغة القرآن الكريم هي لغة التخاطب بين أبناء الأُمَّة شرقاً وغرباً، فاللُّغة تجمع الخواطر والثقافات والتفكير، فبعد انبعاث اللُّغة من مهدها انبعثت معها العصبية القبلية والجنسية.
ومن معاول الهدم: السخرية واللمز الذي كان للمنافقين دور الريادة في استخدامه قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَّكُوُنُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِّنْ نِّسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلَمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الفُسُوُقُ بَعْدَ الإِيْمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئكَ هُمُ الظَالِمُونَ}([77]). فهذه الآية أكبر مربٍّ على قيم الأخلاق في الأمر والنهي، وجاء قول النبي صلى الله عليه وسلم مقرراً ومبيِّناً للقرآن في هذا المفهوم .
وأكبر عائق في سبيل الوحدة في العصر الحاضر؛ هو عدم اللحاق بركب الحضارة والتكنولوجيا، لقد قدمت الحضارة أكبر فرصة للمسلمين لتقديم الأنموذج المنهجي الوحدوي الرباني، فوسائل (الميديا)، وتلاقح الأفكار، وتبادل المصالح، جعلت العالم عبارة عن قرية مصغرة يمكن الإحاطة بكل ما تحويه من ثقافات وعادات ومعتقدات، ومن سوء الحال أنْ كشفت تلك (الميديا) كثيراً من الأخطاء التي تحسب على مفاهيم الدين الإسلامي، فإنَّ غياب القيادة الرشيدة أضر كثيراً بعوامل الوحدة الإسلامية.
ونخلُصُ بعد طول الحوار في هذا المبحث إلى النقاط التالية:
• عوامل الهدم الخارجية في الماضي تمثلت في الثلاثي الشرس: اليهود، المشركين، المنافقين .
• كانت نتائج تلك المعوِّقات خادمة في حقيقتها لأهداف الوحدة، حيث باءت جميعها بالفشل، حتى في الغزوات التي في ظاهرها الهزيمة للمسلمين كغزوة أُحُد، وحُنين، حيث أعطت المسلمين درساً تربوياً مفاده أن النصر لا يتأتى إلاَّ برضا الله تعالى، ورضا الله تعالى لا يتأتَّى إلاَّ باتِّباع سننه في خلقه وكونه.
• إنَّ عوامل الهدم الداخلي في عصر الإسلام الأول ـ أي الدولة الفاضلة ـ كانت قليلة، أو تكاد تكون معدومة بفضل تربية النبي صلى الله عليه وسلم ، فإذا كان مجرد النظر لوجهه يبعث قوة الإيمان واليقين والثبات فكيف بأمره ونهيه؟(/11)
• إنَّ معوِّقات الوحدة العصرية صارت أكبر بسبب الهيمنة اليهودية المسيحية على كافة سبل الحضارة والتكنولوجيا والاقتصاد والمال.
• إنَّ فرص العمل لإنقاذ الوحدة صارت أكبر من ذي قبل بفضل التقدم الحضاري.
• إنَّ معوِّقات الوحدة الداخلية صارت أعمق، لاتِّساع ارتباط المصالح بالدول الغربية ذات السيطرة الكنسية اليهودية.
يمكن الخروج من هذه المعوِّقات باقتفاء منهج السلف زعماء دولة الفضيلة: دولة الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين.
عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (مَا مِنْ ثَلاثَةٍ فِي قَرْيَةٍ وَلا بَدْوٍ لا تُقَامُ فِيهِمُ الصَّلاةُ إِلاَّ قَدِ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ، فَعَلَيْكَ بِالْجَمَاعَةِ، فَإِنَّمَا يَأْكُلُ الذِّئْبُ الْقَاصِيَةَ)([78]). قَالَ زَائِدَةُ: قَالَ السَّائِبُ: يَعْنِي بِالْجَمَاعَةِ الصَّلاةَ فِي الْجَمَاعَةِ".
رابعاً: عوامل الوحدة وأثرها في نهضة الأُمَّة:
قال تعالى: {إِنَّ الَّذيْنَ آمَنُوُا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيْلِ اللهِ وَالَّذِيْنَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ بَعْضهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}([79]).
حدَّدت هذه الآية الإطار العام للمكونات الرئيسة نموذجاً للأُمَّة المسلمة، ثم كان دور الأُمَّة لإفهام التأصيل المعرفي لمعاني الوحدة الاجتماعية وأثرها في نهضتها، حتى يتحقق للمسلمين الحلم الذي تبدَّد باختفاء دولة الخلافة الإسلامية، التي استبدلت بالحدود الدولية، والنظرة القطرية. وتتمثَّل عوامل الوحدة في:
[1] عامل الإيمان:
إنَّ أهمية الإيمان لدى الأفراد تتمثَّل في أنَّه يحقق للأُمَّة توازنها الاجتماعي والفكري، فالحديث النبوي أو السنة حدَّدا للثقافة والقيم الإسلامية قوائم سلوكية، تصل بها إلى بضع وسبعين شعبة إيمانية([80]) فعَّالة في الصلاح والإصلاح، وتقيم على ذلك إرثاً اجتماعياً تبلغ به الأُمَّة مرتبة الجسد الواحد، الذي إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.
وهو عنصر جوهري في تحقيق التوازن الاجتماعي، والصحة النفسية لدى الفرد والمجتمع، وهو بهذا المعنى عاملٌ من عوامل التوحيد الأممي يشمل: الإسلام، والإيمان، والإحسان. وهو أعلى مراتبه، وإذا تحقق هذا العامل للأمة المسلمة فستصبح أُمَّة ذات ريادة، في كافة مجالات المعرفة الإنسانية.
[2] عامل الهجرة:
الهجرة بكافة معانيها اللُّغوية والمعنوية تعني الظروف التي توفر للمؤمنين أنموذجاً حياتياً، يُعَدُّ مثلاً أعلى للحياة الإسلامية، محرراً من كافة الأغلال والآصار الثقافية والاجتماعية والمعنوية والمادية التي تحول دون هذا العيش. فهي هجرة معنوية حسية، هجرة الفواحش المكانية، أي الأماكن التي تعيق عمل الأُمَّة كالهجرة من مكة إلى المدينة، وهجرة الفواحش الجسدية وهي تعني التزكية والطهارة.
وأبرز مظاهر الهجرة بحسبانها عاملاً من عوامل الوحدة؛ هجرة العصبية القبلية، وللهجرة أهمية في توحيد الأُمَّة، فهي تخليص للمؤمنين من الخوف، مثل نموذجيْ الهجرة للحبشة والمدينة، فقد كانت سعةً وإرغاماً ومنعةً وانطلاقاً للقدرات، ومن فوائدها استمرارية المد الإسلامي.(/12)
إنَّ أول هجرة في الإسلام ساعدت على نقل الدعوة إلى العالمية، فقد ساهمت الهجرة في إسلام النجاشي، وبعض بطارقته، عن عبد الله بن الزبير قال: "نزلت هذه الآية: {وَإِذَا سَمِعُوُا مَا أُنْزِلَ إِلَى الْرَّسُوُلِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيْضُ مِنَ الْدَّمْعِ}([81])؛ في النجاشي وأصحابه "([82])، وكانت مظهراً من مظاهر التوبة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا، فَسَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الأَرْضِ، فَدُلَّ عَلَى رَاهِبٍ فَأَتَاهُ فَقَالَ إِنَّهُ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ: لا، فَقَتَلَهُ فَكَمَّلَ بِهِ مِائَةً، ثُمَّ سَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الأَرْضِ، فَدُلَّ عَلَى رَجُلٍ عَالِمٍ فَقَالَ إِنَّهُ قَتَلَ مِائَةَ نَفْسٍ، فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، وَمَنْ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ، انْطَلِقْ إِلَى أَرْضِ كَذَا وَكَذَا، فَإِنَّ بِهَا أُنَاسًا يَعْبُدُونَ اللَّهَ فَاعْبُدِ اللَّهَ مَعَهُمْ، وَلا تَرْجِعْ إِلَى أَرْضِكَ، فَإِنَّهَا أَرْضُ سَوْءٍ، فَانْطَلَقَ حَتَّى إِذَا نَصَفَ الطَّرِيقَ أَتَاهُ الْمَوْتُ، فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلائِكَةُ الْعَذَابِ، فَقَالَتْ مَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ: جَاءَ تَائِباً مُقْبِلاً بِقَلْبِهِ إِلَى اللَّهِ، وَقَالَتْ مَلائِكَةُ الْعَذَابِ: إِنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ، فَأَتَاهُمْ مَلَكٌ فِي صُورَةِ آدَمِيٍّ فَجَعَلُوهُ بَيْنَهُمْ، فَقَالَ: قِيسُوا مَا بَيْنَ الأَرْضَيْنِ، فَإِلَى أَيَّتِهِمَا كَانَ أَدْنَى فَهُوَ لَهُ، فَقَاسُوهُ فَوَجَدُوهُ أَدْنَى إِلَى الأَرْضِ الَّتِي أَرَادَ، فَقَبَضَتْهُ مَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ)([83]).
[3] عامل الجهاد :
إنَّ مفهوم الجهاد بمعناه الإسلامي هو الإسلام بكامله، فهو ليس قتال الكفار فحسب، بل إنَّ المعنى التأصيلي للجهاد ببيان مظاهره حسب الزمان والمكان، بهذا المفهوم يأخذ الجهاد ثلاثة مظاهر محورية:
المظهر الأول: الجهاد التربوي:
القائم على تزكية النفس لتحقيق ذاتية التفكير، فهو بهذا المظهر يحتاج لمؤسسات، وخبراء، وميادين، وطرق، ووسائل، ومربين عاملين في مجالاته، وقد رفع النبي صلى الله عليه وسلم من هذا المظهر الجهادي فساوى فيه مداد العلماء بدم الشهداء.
المظهر الثاني: الجهاد التنظيمي:
أي تنظيم قدرات وطاقات الأُمَّة المعنوية والمادية والبشرية، وتنسيقها بشكل يضمن حشدها وتكاملها لتحقيق أهداف الرسالة، فهذا المظهر التنظيمي لمعنى الجهاد؛ هو ما أشار الله تعالى إليه بقوله: {إِنْ يَّكُنْ مِّنْكُمْ عِشْرُوُنَ صَابِرُوُنَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَّكُنْ مِّنْكُمْ مِّائَةٌ يَّغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِيْنَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ}([84]). وهو داعٍ إلى انسجام المؤمنين مع نواميس الخلق.
المظهر الثالث للجهاد: الجهاد العسكري:
وغايته إزالة المعوِّقات الحائلة دون بقاء النوع البشري ورُقيِّه، ويقترن هذا المظهر الجهادي بالرسالة الإسلامية، من خلال الضوابط العقدية والأخلاقية التي تحكمه وتوجهه، بحيث لا يخرج لحظة واحدة عن غايات الرسالة وأهدافها، وحين يتحقَّق هدف الرسالة دون قتال يتوقف الجهاد القتالي ويصير ممنوعاً.
عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَرِيَّةٍ فَصَبَّحْنَا الْحُرَقَاتِ مِنْ جُهَيْنَةَ، فَأَدْرَكْتُ رَجُلاً فَقَالَ: لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ فَطَعَنْتُهُ، فَوَقَعَ فِي نَفْسِي مِنْ ذَلِكَ فَذَكَرْتُهُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : أَقَالَ: لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَقَتَلْتَهُ؟ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا قَالَهَا خَوْفاً مِنَ السِّلاحِ. قَالَ: أَفَلا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ حَتَّى تَعْلَمَ أَقَالَهَا أَمْ لا؟ فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا عَلَيَّ حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي أَسْلَمْتُ يَوْمَئِذٍ قَالَ: فَقَالَ سَعْدٌ: وَأَنَا وَاللَّهِ لا أَقْتُلُ مُسْلِماً حَتَّى يَقْتُلَهُ ذُو الْبُطَيْنِ يَعْنِي أُسَامَةَ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال: 39]، فَقَالَ سَعْدٌ: قَدْ قَاتَلْنَا حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ، وَأَنْتَ وَأَصْحَابُكَ تُرِيدُونَ أَنْ تُقَاتِلُوا حَتَّى تَكُونُ فِتْنَةٌ)([85]).
[4] عامل الإيواء:(/13)
الإيواء بمعناه النظري هو المنعة والنصرة والنجدة والأمن والملجأ والحماية والراحة والاسترخاء، ولقد طبَّق النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة أكبر مظهر من مظاهر الإيواء، فما قدَّمه الأنصار للمهاجرين من مؤاخاة، وإقامة، واقتسام للمأكل والمسكن والملبس والفراش، قال تعالى: {وَالَّذِيْنَ تَبَوَّءوا الْدَّارَ وَالإِيْمَانَ مِنْ قَبْلَهُمْ يُحِبُّوْنَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُوُنَ فِي صُدُوُرِهِمْ حَاجَةً مَِمَّا أُوْتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَّمَنْ يُّوْقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}([86])، وما قام به النبي صلى الله عليه وسلم من تنظيم اجتماعي عملي في المجتمع المدني من بناء المسجد، وبسط الإخاء، ووضع دستور الدولة، كل هذه العوامل كانت مرتكزات أساسية عاملة في وحدة الأُمَّة الإسلامية، وهي منهجية مكتملة ذات محور استقطابي لكافة أنواع الأُمَّة البشرية مسلمها وكافرها كما هو معلوم في المجتمع الإسلامي الأول، حيث يتكون من المسلمين الأنصار والمهاجرين، ثم اليهود، وطوائف من مشركي العرب.
والأحاديث النظرية التي تخطط لعامل الإيواء على كونه مرتكزاً وحدوياً تتمثَّل في أحاديث النُّصرة والتكافل الاجتماعي لكافة أفراد الأُمَّة، فالإسلام أقرَّ الملكية الفردية، ولكن جعل من مبدأ التكافل ما يحافظ على سلامة الأمن في المجتمع، وبالنظر في فوائد الإيواء للأُمَّة نجدها أُمَّة مفتوحة الأبواب لجميع المؤمنين بكافة أجناسهم، وهو طريق لزوال الصراع الطبقي والعنصري، أو تحويله لصراع فيه خير الأُمَّة، فقد ورد في الصحيح أَنَّ فُقَرَاءَ الْمُهَاجِرِينَ أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالدَّرَجَاتِ الْعُلَى وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ. فَقَالَ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالُوا: يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي، وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ، وَيَتَصَدَّقُونَ وَلا نَتَصَدَّقُ، وَيُعْتِقُونَ وَلا نُعْتِقُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : (أَفَلا أُعَلِّمُكُمْ شَيْئًا تُدْرِكُونَ بِهِ مَنْ سَبَقَكُمْ، وَتَسْبِقُونَ بِهِ مَنْ بَعْدَكُمْ، وَلا يَكُونُ أَحَدٌ أَفْضَلَ مِنْكُمْ إِلاَّ مَنْ صَنَعَ مِثْلَ مَا صَنَعْتُمْ؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: تُسَبِّحُونَ، وَتُكَبِّرُونَ، وَتَحْمَدُونَ، دُبُرَ كُلِّ صَلاةٍ ثَلاثًا وَثَلاثِينَ مَرَّةً، فَرَجَعَ فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: سَمِعَ إِخْوَانُنَا أَهْلُ الأَمْوَالِ بِمَا فَعَلْنَا فَفَعَلُوا مِثْلَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِهِ مَنْ يَشَاءُ} [المائدة: 54]([87]).
وتتوفر في ظله لكل فرد فرص الاستقرار الاجتماعي والفكري والنفسي، وظهور روح الجماعة في العبادة، وحسن التخطيط والإعداد فهذه مظاهر وفوائد الإيواء بوصفه عنصراً داعماً لوحدة الأُمَّة.
[5] عامل النُّصرة :
ويُقصد بالنُّصرة جانبها النظري في نصوص القرآن والحديث، وهي بمعنى المساعدة، والتأييد، والمؤازرة، والحماية، ومساندة الحق والعدل، ودفع العدوان والظلم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِماً أَوْ مَظْلُوماً). فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْصُرُهُ إِذَا كَانَ مَظْلُوماً؛ أَفَرَأَيْتَ إِذَا كَانَ ظَالِماً كَيْفَ أَنْصُرُهُ؟ قَالَ: (تَحْجُزُهُ أَوْ تَمْنَعُهُ مِنَ الظُّلْمِ، فَإِنَّ ذَلِكَ نَصْرُهُ)([88]).
وأمّا النُّصرة بالمعنى التطبيقي؛ فهي التوجيهات التي عالجت القضايا الوحدوية من إطارها النظري لمعنى الوحدة، والمتمثل في المجتمع النبوي ودولة الخلافة الراشدة .
والتفصيل التحليلي لتلك المقومات أظهر لنا تفاعل تلك العوامل لتكوين أسس لقيادة الإنسانية، فهذا عامل الهجرة الذي صار أكثر خدمة وتحرُّراً من التقوقع المكاني والزماني، لأن مفهوم الدعوة جعلها تتخذ من حركة الهجرة طابعاً أُسُسِياً تجلت فيه صفة العالمية الوحدوية، وقِسْ على ذلك كل عوامل المقومات للوحدة الإسلامية، بالإضافة لعامل العصر التقدمي في مجال التكنولوجيا بحسبانه فرصة سانحة لتقديم المنهج الإسلامي في صورته الحقيقية، ولا يتأتى ذلك إلاَّ بالتحديات العلمية والمواكبة، وهو ما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم ورمز له برمز القوة الإيمانية، قال صلى الله عليه وسلم : (الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنِ الَّذِي لا يُخَالِطُهُمْ وَلا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ)([89])، وقال: (إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَبِيَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لا يَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَفْعَلْ)([90]).
الخاتمة:(/14)
• إنَّ مفهوم وحدة الأُمَّة يتأطر في فهم طبيعة التكتلات البشرية من النواحي الثقافية والاجتماعية، لبلورة سبل التكيُّف معها بشكل لا يخل بمبادئ الوحدة، وهذا ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم في مرحلتي الدعوة المكية والمدنية.
• يُعَدُّ مبدأ التسامح، والتواضع، ونبذ الخلافات، ومحاربة الظلم والسخرية والاستهزاء، أكبر المرتكزات لاستمرارية الوحدة.
تتمثل معوِّقات الوحدة في قسمين:
[أ] معوِّقات خارجية:
تتمثل في اليهود والنصارى والمشركين والمنافقين.
[ب] معوِّقات داخلية:
تتمثل في المثبِّطين والمرجفين والمتقاعسين وأصحاب النظرات الضيقة على كافة مستويات المجتمع، وهذان القسمان ما يزالان يسيران جنباً إلى جنب في تعطيل مبادئ الوحدة الإسلامية.
• إنَّ عوامل ومقوِّمات الوحدة تتمثل في: الإيمان بالله تعالى، والدعوة إليه، والهجرة بمفهومها الزماني والمكاني، والجهاد بمظاهره التربوية والفكرية والقتالية، والإيواء بمعناه التكافلي، والنُّصرة بمعناها الخاص والعام.
• يعتمد إنجاح عامل الوحدة في عصر التكنولوجيا و(الميديا)؛ على تضافر العوامل المنطلقة من مرتكزات الموروث الإسلامي، لا سيما دولة الإسلام الفاضلة، زائداً اكتساب الفرص التي وفرتها التكنولوجيا وتوجيهها لتحقيق أهداف الوحدة.
.. والحمد لله رب العالمين ..
فهرس المصادر
[1] ابن حبان، محمد بن حبان البستي أبو حاتم: صحيح ابن حبان، تحقيق شعيب الأرنؤوط، ط/2، بيروت، مؤسسة الرسالة.
[2] ابن حنبل، أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني: مسند أحمد، مؤسسة قرطبة، مصر.
[3] ابن قتيبة، عبد الله بن مسلم: تأويل مختلف الحديث، تحقيق محمد زهري النجار، دار الجيل، بيروت، 1972م.
[4] القرطبي، محمد بن أحمد أبو عبد الله: تفسير القرطبي، تحقيق أحمد عبد العليم البردوني، ط/2، دار الشعب، القاهرة، 1372هـ.
[5] ابن هشام، عبد الملك بن هشام بن أيوب: السيرة النبوية، تحقيق طه عبد الرؤوف سعد، ط/1، دار الجيل، بيروت.
[6] ابن ماجه، محمد بن يزيد: سنن ابن ماجه، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، دار الفكر، بيروت، د.ت.
[7] أبو داود، سليمان بن الأشعث السجستاني: سنن أبي داود، تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، دار الفكر، بيروت.
[8] البخاري، محمد بن إسماعيل: الجامع الصحيح، تحقيق مصطفى ديب البغا، ط/3، دار ابن كثير، اليمامة، بيروت، 1987م.
[9] البوطي، محمد سعيد رمضان: فقه السيرة النبوية، ط/11، دار الفكر، بيروت، دار الفكر، سوريا، دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع،1991م.
[10] الترمذي، محمد بن عيسى بن سورة: سنن الترمذي، تحقيق أحمد محمد شاكر "وآخرون"، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
[11] الحكيم الترمذي، محمد بن علي بن الحسن: نوادر الأصول في أحاديث الرسول، تحقيق د.عبد الرحمن عميرة، ط/1، دار الجيل، بيروت، 1992م.
[12] دو القواعد، إروان سنتري: منهج القرآن الكريم في مجادلة النصارى، الجامعة الإسلامية العالمية ماليزيا.
[13] صلاح الصاوي: الثوابت والمتغيِّرات في مسيرة العمل الإسلامي، طبعه المؤلف بنفسه.
[14] أبو شهبة، محمد بن محمد: الوسيط في علوم ومصطلح الحديث، عالم المعرفة.
[15] العمري، أكرم ضياء: السيرة النبوية الصحيحة، مركز بحوث السُّنَّة والسيرة.
[16] عون الشريف قاسم: في الطريق إلى الإسلام، ط/1، دار القلم، بيروت، 1980م.
[17] فتحي يكن: نحو صحوة إسلامية في مستوى العصر،
ط/2، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1998م.
[18] القرضاوي، يوسف: الصحوة الإسلامية بين الاختلاف المشروع والتفرق المذموم، ط/5، دار الصحوة، القاهرة، 1994م.
[19] القشيري، مسلم بن الحجاج أبو الحسين: صحيح مسلم، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، د.ت.
[20] الكيلاني، ماجد عرسان: الأُمَّة المسلمة، عمان، 1992م.
[21] محمد المجذوب: الطريق السوي إلى وحدة المسلمين،
ط/2، الرياض: دار الشوّاف للنشر والتوزيع، 1995م.
[22] منى عبد المنعم أبو الفضل: الأُمَّة القطب، ط/1، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، القاهرة، 1996م.
[23] محمد الصلابي: فقه التمكين في القرآن الكريم، ط/1، دار الوفاء للطباعة والنشر والتوزيع، مصر، المنصورة.
[24] النسائي، أحمد بن شعيب أبو عبد الرحمن: السنن الكبرى، تحقيق عبد الغفار سليمان وسيد كسروي، ط/1، دار الكتب العلمية، بيروت.
----------
([1]) أخرجه الشيخان: البخاري في المظالم والغصب برقم 4262، ومسلم في البر والصلة والآداب برقم 4650.
([2]) قال تعالى: {لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً} [الأحزاب: 60].(/15)
([3]) قال تعالى: {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} [البقرة: 120].
([4]) سنن أبي داود، كتاب الملاحم، برقم 4341، 4/123. وورد كذلك: "الصابر فيهنَّ": انظر: الترغيب والترهيب للمنذري، تحقيق: إبراهيم شمس الدين، نشر: دار الكتب العلمية، بيروت، ط/1، 1417هـ، 4/58. والتاريخ الكبير للبخاري، رقم (3583)، 8/426.
والتمهيد لابن عبد البر، 24/316.
([5]) سنن أبي داود، كتاب الملاحم، برقم 3779.
([6]) أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم،
برقم 4685. انظر: صحيح مسلم، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 4/1999.
([7]) لقد ظهر تيار المنافقين كتيار تخريبي ذي دور بارز في غزوة أُحُد، حيث رجع ابن سلول بثلث جيش المسلمين، ثم كان دورهم أكبر في غزوة الأحزاب {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} [الأحزاب: 12]، وكان خطرهم على الإسلام أشد من معاول الكفر، وفي غزوة تبوك نزلت فيهم سورة الفاضحة (التوبة) {ثُمَّ انصَرَفُواْ صَرَفَ اللّهُ قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ} [التوبة: 127]. فإذا كان هذا النفاق في دولة الصفوة الإسلامية فكيف به في هذه الأزمان التي تشهد أضعف مرحلة في تأريخ المجتمعات الإسلامية؟
([8]) أخرجه الإمام أحمد، مسند القبائل برقم 2726. انظر: مسند أحمد، مؤسسة قرطبة،
مصر، 6/396.
([9]) صحيح البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب لا تبديل لخلق الله لدين الله خلق الأولين دين الأولين والفطرة الإسلام، برقم 4497. انظر: الجامع الصحيح، تحقيق مصطفى ديب البغا، ط/3، دار ابن كثير، اليمامة، بيروت، 1987م، 4/1792. وانظر: عبد الله بن مسلم بن قتيبة: تأويل مختلف الحديث، تحقيق محمد زهري النجار، دار الجيل، بيروت، 1972،
1/129، قال: "ونحن نقول إنه ليس هاهنا تناقض ولا اختلاف بنعمة الله تعالى، ولو عرفت المعتزلة ما معناه ما فارقت المثبتة إنْ لم يكن الاختلاف إلاَّ لهذا الحديث والفطرة، هاهنا الابتداء والإنشاء ومنه قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [فاطر: 1]، أي: مبتدئهما، وكذلك قوله: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30]، يريد جبلته التي جبل الناس عليها، وأراد بقوله: (كل مولود يولد على الفطرة): أخذ الميثاق الذي أخذه عليهم في أصلاب آبائهم {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى} [الأعراف: 172]، فلست واجداً أحداً إلاَّ وهو مقر بأنَّ له صانعاً ومدبراً وإنْ سمَّاه بغير اسمه أو عبد شيئاً دونه ليقربه منه ثم نفسه أو وصفه بغير صفته أو أضاف إليه ما تعالى عنه علواً كبيراً، قال الله تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف: 87]، فكل مولود في العالم على ذلك العهد والإقرار، وهي الحنيفية التي وقعت في أول الخلق وجرت في فطر العقول، قال رسول الله e: يقول الله تبارك وتعالى: (...وَإِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ)، ثم زفر اليهود أبناءهم ويمجس المجوس أبناءهم أي: يعلمونهم ذلك، وليس الإقرار الأول مما يقع به حكم أو عليه ثواب". الحديث أخرجه مسلم في كتاب صفة الجنة ونعيمها برقم 5109.
([10]) سورة الإسراء، الآية (70).
([11])الملاحظ أنَّ كل الأُمَم قد انتظمت مفهوم التوحيد: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٌ يَّطِيْرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأنعام:37].
([12]) سورة يونس، الآية (19).
([13]) سورة الإنسان، الآية (3).
([14]) سورة الكهف، الآية (29).
([15]) سورة النساء، الآية (165).
([16]) سورة المؤمنون، الآيتان (51-52).
([17]) سورة الحجرات، الآية (13).
([18]) سورة البقرة، الآية (30).
([19]) إنَّ النصر والتمكين للمؤمنين له وجوه عدّة، وصور متنوعة من أهمها: تبليغ الرسالة، وهزيمة الأعداء، وإقامة الدولة. انظر: د. محمد الصلابي: فقه التمكين في القرآن الكريم، ط/1، دار الوفاء للطباعة والنشر والتوزيع، مصر، المنصورة.
([20]) سورة الحج، الآية (41).
([21]) سنن أبي داود، كتاب الملاحم، باب تتداعى الأكلة على قصعتها، برقم 3745، 4/111.
([22]) سنن أبي داود، كتاب السنة، برقم 3980. وانظر: صحيح بن حبان، 15/125.
([23]) سورة المائدة، الآية (18).
([24]) سورة البقرة، الآيتان (80-81).(/16)
([25]) انظر: محمد بن علي بن الحسن الحكيم الترمذي: نوادر الأصول في أحاديث الرسول، تحقيق د. عبد الرحمن عميرة، ط/1، دار الجيل، بيروت، 1992م، ص172.
([26]) سورة الحجرات، الآية (13).
([27]) سورة الذاريات، الآية (56).
([28]) سورة الأنبياء، الآية (25).
([29]) سورة الأنبياء، الآية (107).
([30]) مسند الإمام أحمد، مسند المكثرين من الصحابة، برقم 21352، 5/174.
([31]) سنن الترمذي، كتاب الفتن، برقم 2166.
([32]) سنن الترمذي، كتاب الفتن، برقم 2092.
([33]) متفق عليه: البخاري في كتاب الفتن برقم 6531، ومسلم في كتاب الإمارة برقم 3438، واللفظ لمسلم.
([34]) عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ e يَمْسَحُ مَنَاكِبَنَا فِي الصَّلاةِ وَيَقُولُ: (اسْتَوُوا وَلا تَخْتَلِفُوا فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ، لِيَلِنِي مِنْكُمْ أُولُوا الأَحْلامِ وَالنُّهَى، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ). قَالَ أَبُو مَسْعُودٍ: "فَأَنْتُمُ الْيَوْمَ أَشَدُّ اخْتِلافاً" [أخرجه الإمام مسلم في صحيحه، كتاب الصلاة، برقم 654]، وقال e: (لَتُسَوُّنَّ صُفُوفَكُمْ أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللَّهُ بَيْنَ وُجُوهِكُمْ). انظر: صحيح مسلم، كتاب الصلاة، باب تسوية الصفوف وإقامتها، برقم 659، 1/323-324. ويفهم من هذه النصوص معنى الوحدة الإسلامية، التي تنادي بمبدأ المساواة، وفي هذا ما يشير للتلاحم والتعاضد، وعكسه يؤدي للفرقة (وَلا تَخْتَلِفُوا فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ)، وهذا من البيان الفعلي اليوم بدرجة لا يحتاج بعدها لأي تفسير ما.
([35]) أخرجه الشيخان: البخاري في باب أجود ما كان النبي e يكون في رمضان برقم 1803، ومسلم في كتاب الفضائل، باب كان e أجود الناس بالخير من الريح المرسلة،
برقم 1208. ولهذا الحديث روايات عدة.
([36]) راجع: أكرم ضياء العمري: السيرة النبوية الصحيحة، مركز بحوث السُّنَّة والسيرة،
1/195-196.
([37]) صحيح البخاري، كتاب المناقب، برقم 6544، 4/2546.
([38]) سورة الأنبياء، الآية (107).
([39]) محمد بن أحمد أبو عبد الله القرطبي: تفسير القرطبي، تحقيق أحمد عبد العليم البردوني،
ط/2، دار الشعب، القاهرة، 1372هـ، 4/63.
([40]) عبد الملك بن هشام بن أيوب: السيرة النبوية، تحقيق طه عبد الرؤوف سعد، ط/1، دار الجيل، بيروت، 1411هـ، 3/31.
([41]) صحيح مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، برقم 1044، 1/452.
([42]) كان أهل الصُّفَة من خيرة الأصحاب لأنه لم يكن لهم شاغلٌ يشغلهم عن العلم والجهاد،
فأبو هريرة أميرهم كان أكبر راوٍ لحديث النبي e.
([43]) سورة الحشر، الآية (9).
([44]) انظر: محمد سعيد رمضان البوطي: فقه السيرة النبوية، ط/11، دار الفكر، بيروت، دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع، سوريا، 1991م، ص 142- 154.
([45]) لعل أول خلاف سياسي حال دون تحقيق الوحدة الإسلامية في إطارها التطبيقي ومنهجها الدستوري المتمثل في القرآن والسُّنَّة فهماً وواقعاً ما جرى في خلافة عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب ـ رضي الله عنهما ـ، وبالطبع لقد كان لليهود دورٌ بارزٌ في إشعال نار الفتنة بين المسلمين(دور ابن سبأ)، ومن ثم كانت الخلافة الملكية المتمثلة في الدولة الأموية والدولة العباسية، وهكذا سطَّر التاريخ الإسلامي واقع هذا الخلاف، الذي كان العنصر الجوهري في ضياع التوحّد الإسلامي، وفرضه كواقع ملموس.
([46]) سورة العنكبوت، الآية (69).
([47]) سورة آل عمران، الآية (110).
([48]) صحيح البخاري، كتاب تفسير القرآن، برقم 4525، 4/1861.
([49]) صحيح البخاري، كتاب الاستقراض وأداء الديون، باب العبد راع في مال سيده ولا يعمل إلاَّ بإذنه، برقم 2278، 2/849.
([50]) صحيح البخاري، كتاب الأدب، برقم 5702، 5/2248.
([51])العبية: الكبر والفخر. انظر: لسان العرب، لابن منظور الإفريقي، 1/575.
([52]) جعلان: دابة سوداء من دواب الأرض، يطلق عليها (أبو الجعران). انظر: لسان العرب، ابن منظور الإفريقي، 11/112.
([53]) سنن أبي داود، كتاب الأدب، ، باب التفاخر بالأحساب، برقم 5116.
([54]) سورة المائدة، الآية (3).
([55]) سورة محمد، الآية (7).
([56]) سنن الترمذي، كتاب البر والصلة، باب ما جاء في الإحسان والعفو، حديث رقم 2006.
([57]) سيرة ابن هشام، 4/200-201 .
([58]) صحيح مسلم ، كتاب الإيمان، باب بيان أن الدين النصيحة ، برقم 8، 1/74 .
([59]) سورة النساء، الآية (145).
([60]) سورة الأحزاب، الآية (16).
([61]) سورة آل عمران، الآية (181).
([62]) سورة المائدة، الآية (64).
([63]) سورة الزخرف، الآية (54).
([64]) صحيح البخاري ، كتاب أحاديث الأنبياء، برقم 3269.(/17)
([65]) عقد مهاتير محمد، رئيس دولة ماليزيا، لقاءً صحفياً على هامش الدورة العاشرة لمنظمة المؤتمر الإسلامي المنعقدة في بترجايا بماليزيا، تحدث فيه عن دور اليهود، في تغيير مجريات الأحداث في العالم، وقال: "إنهم يحكمون العالم بالوكالة"، وما أنَّ قال هذا القول حتى ثار الحُكَّام الأوروبيون، بل وثارت أمريكا ثورتها، وما كان منه إلاَّ أنْ قال: "هذا الغضب الغربي لقولي يدل على صدق ما قلت، لقد استخدمت أمريكا من أجل اليهود حق النقض (الفيتو) في وجه كل قرار عربي يدين أو يلفت نظر إسرائيل لأعمالها البشعة في الأراضي الفلسطينية".
([66]) سورة البقرة، الآية (120).
([67]) لم يتمكن اليهود من قتل عيسى u، ولقد رَدَّ الله عليهم بقوله تعالى: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء: 157]، والخلاف مشهور في أمر عيسى u، هل تحقَّق موته بعد ذلك أم ما زال على قيد الحياة؟ فالآية التي تشير إلى رفعه: {بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ} [النساء: 158]، لم تبيِّن استمرارية حياته u. انظر: منهج القرآن الكريم في مجادلة النصارى، "رسالة ماجستير" إعداد الطالب: إروان سنتري بن دو القواعد، الجامعة الإسلامية العالمية ماليزيا، ص 96.
([68]) سورة المائدة، الآية (82).
([69]) سورة البروج، الآية (8).
([70]) سورة الأنفال، الآية (73).
([71]) سنن أبي داود، كتاب الملاحم، برقم 3778، 4/124. وانظر: محمد بن حبان أبو حاتم: صحيح ابن حبان، تحقيق شعيب الأرنؤوط، ط/2، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1993م، باب ذكر إعطاء الله جَلَّ وعلا العامل بطاعة الله ورسوله في آخر الزمان أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عمله، برقم 385، 2/108.
([72]) صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، برقم 4674، 4/1994.
([73]) سنن أبي داود، كتاب الأقضية، برقم 3123.
([74]) سنن أبي داود، برقم 11225، 11226، 6/82.
([75]) سنن أبي داود، كتاب الأدب، برقم 5121، 4/332.
([76]) سنن أبي داود، كتاب الأدب، برقم5123.
([77]) سورة الحجرات، الآية (11).
([78]) سنن أبو داود، كتاب الصلاة، برقم 460، 1/150.
([79]) سورة الأنفال، الآية (72).
([80]) قال e: (الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً، فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ: لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ) [أخرجه مسلم في كتاب الإيمان برقم 51].
([81]) سورة المائدة، الآية (83).
([82]) أحمد بن شعيب أبو عبد الرحمن النسائي: السنن الكبرى، تحقيق عبد الغفار سليمان وسيد كسروي، ط/1، دار الكتب العلمية، بيروت، 6/336.
([83]) صحيح مسلم، كتاب التوبة، باب قبول توبة القاتل وإن كثر قتله، برقم 4967، 4/2118.
([84]) سورة الأنفال، الآية (65).
([85]) صحيح مسلم ، كتاب الإيمان، برقم 96، 1/96.
([86]) سورة الحشر، الآية (9).
([87]) صحيح مسلم، كتاب الصلاة ومواضع الصلاة، برقم 936، 1/416.
([88])صحيح البخاري، كتاب الإكراه، برقم 6438، 2/863.
([89])مسند أحمد بن حنبل، مسند المكثرين من الصحابة، برقم 4780، 5/365.
([90]) مسند أحمد بن حنبل، 3/191.(/18)
منهيات شرعية
مقدمة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد
فقد سبقت رسالة بعنوان " محرمات استهان بها الناس " جرى فيها عرض لبعض المخالفات الشرعية المتنوعة التي شملت أمورا من الشركيات والكبائر والصغائر مع ذكر أدلتها من الكتاب والسنة مع شيء من التفصيل وبيان حالات واقعية توضح صورا مختلفة لوقوع الناس في تلك الذنوب والآثام .
ولما كانت أبواب المحرمات كثيرة والأمور التي ورد النهي عنها في كلام الله ورسوله متعددة ولما كان من المهم للمسلم أن يتعرف عليها ليجتنب أسباب سخط الله وغضبه ويتفادى ما يفسد عليه دنياه وآخرته رأيت جمع جملة من تلك المنهيات من باب قوله صلى الله عليه وسلم : " الدين النصيحة " آملا أن أنتفع بها وإخواني المسلمون وقد جمعت منها ما تيسر من القرآن الكريم والأحاديث الصحيحة التي صححها أهل العلم بهذا الفن [ وغالب الاعتماد على ما صححه العلامة محمد ناصر الدين الألباني في كتبه ] مرتبة على بعض أبواب الفقه ولم أورد النص كاملا وإنما اجتزأت منه الشاهد فغالبها مأخوذ من ذات النصوص التي تضمن أكثرها كلمة النهي ومشتقاتها أو " لا " الناهية ونحو ذلك وجرى إضافة شيء من الشرح لبعض الكلمات الغريبة وذكر علة للنهي أحيانا وأسأل الله سبحانه أن يجنبنا الإثم والفواحش ما ظهر منها وما بطن وأن يتوب علينا أجمعين والحمد لله رب العالمين .
سرد طائفة من النواهي
الواردة في القرآن والسنة
لقد نهانا الله ورسوله عن أمور كثيرة لما يترتب على اجتنابها من المصالح العظيمة والفوائد الجمة ودرء المفاسد الكثيرة والشرور الكبيرة ، ومن تلك المناهي ما هو محرم ومنها ما هو مكروه وينبغي على المسلم اجتنابها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم :
" ما نهيتكم عنه فاجتنبوه "والمسلم الجاد يحرص على اجتناب المنهيات سواء كانت محرمة أو مكروهة ولا يفعل فعل ضعاف الإيمان الذين لا يبالون بالوقوع في المكروهات علما أن التساهل فيها يؤدي إلى الوقوع في المحرمات وهي كالحمى بالنسبة للمحرمات من رتع فيه يوشك أن يرتع فيما حرم الله بالإضافة إلى أن اجتناب المكروه يؤجر عليه صاحبه إذا تركه لله وانطلاقا من هذا لم يحصل التمييز هنا بين ما نهي عنه نهي كراهية وما نهي عنه نهي تحريم ثم إن التمييز بينهما يحتاج إلى علم على أن أكثر ما سيأتي من المنهيات هو من باب المحرم لا المكروه إليك أيها القارئ الكريم طائفة من نواهي الشريعة :
في العقيدة
النهي عن الشرك عموما الأكبر والأصغر والخفي
والنهي عن إتيان الكهان والعرافين وعن تصديقهم وعن الذبح لغير الله وعن القول على الله ورسوله بلا علم .
والنهي عن تعليق التمائم ومنها الخرز الذي يعلق لدفع العين وعن التولة ، وهي السحر الذي يعمل للتفريق بين شخصين أو الجمع بينهما والنهي عن السحر عموما وعن الكهانة والعرافة ، وعن الاعتقاد في تأثير النجوم والكواكب في الحوادث وحياة الناس وعن اعتقاد النفع في أشياء لم يجعلها الخالق كذلك .
والنهي عن التفكر في ذات الله وإنما يتفكر في خلق الله والنهي أن يموت المسلم إلا وهو يحسن الظن بالله تعالى .
والنهي أن يحكم على أحد من أهل الدين بالنار ، وعن تكفير المسلم بغير حجة شرعية ، وعن السؤال بوجه الله أمرا من أمور الدنيا ، وعن منع من سأل بوجه الله بل يعطى ما لم يكن إثما وذلك تعظيما لحق الله تعالى .
والنهي عن سب الدهر لأن الله هو الذي يصرفه والنهي عن الطيرة وهي التشاؤم .
والنهي عن السفر إلى بلاد المشركين والنهي عن مساكنة الكافر وعن اتخاذ الكافرين من اليهود و النصارى وغيرهم من أعداء الله أولياء من دون المؤمنين ، وعن اتخاذ الكفار بطانة فيقربون للمشاورة والمودة .
والنهي عن إبطال الأعمال كما إذا قصد الرياء والسمعة والمن .
والنهي عن السفر إلى أي بقعة للعبادة فيها إلا المساجد الثلاثة : المسجد الحرام ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم والمسجد الأقصى وعن البناء على القبور واتخاذها مساجد .
والنهي عن سب الصحابة وعن الخوض فيما حدث من الفتن بين الصحابة وعن الخوض في القدر ، وعن الجدال في القرآن والمماراة فيه بلا علم ، وعن مجالسة الذين يخوضون في القرآن بالباطل ويتمارون فيه ، وعن عيادة المرضى من القدرية ومن شابههم من أهل البدعة وكذا شهود جنائزهم .
والنهي عن سب آلهة الكفار إذا كان يؤدي إلى سب الله
- عز وجل - والنهي عن اتباع السبل أو التفرق في الدين وعن اتخاذ آيات الله هزوا وعن تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحل الله ، وعن الانحناء أو السجود لغير الله وعن الجلوس مع المنافقين أو الفساق استئناسا بهم أو إيناسا لهم وعن مفارقة الجماعة وهم من وافق الحق .(/1)
والنهي عن التشبه باليهود والنصارى المجوس في إعفاء الشارب وقص اللحية ، بل نقص الشارب ونعفي اللحية ، وعن بدء الكفار بالسلام وعن تصديق أهل الكتاب أو تكذيبهم فيما يخبرونه عن كتبهم مما لا نعلم صحته . ولا بطلانه ، وعن استفتاء أحد من أهل الكتاب في أمر شرعي ( بقصد طلب العلم والفائدة ) .
والنهي عن الحلف بالأولاد والطواغيت والأنداد وعن الحلف بالآباء وبالأمانة وعن قول ما شاء الله وشئتّ ، وأن يقول المملوك ربي وربتي وإنما يقول مولاي وسيدي وسيدتي ، وأن يقول المالك عبدي وأمتي وإنما يقول فتاي وفتاتي وغلامي ، وعن قول خيبة الدهر ، وعن التلاعن بلعنة الله أو بغضبه أو بالنار .
في الطهارة
النهي عن البول في الماء الراكد ، وعن قضاء الحاجة على قارعة الطريق وفي ظل الناس وفي موارد الماء ، وعن استقبال القبلة واستدبارها ببول أو غائط ، واستثنى بعض أهل العلم ما كان داخل البنيان ، وعن الاستنجاء باليمين ، وأن يتمسح بيمينه والنهي عن الاستنجاء بالعظم والروث لأنه زاد إخواننا من الجن . وعن الاستنجاء بالروث لأنه علف دوابهم .
والنهي أن يمسك الرجل ذكره بيمينه وهو يبول ، وعن السلام على من يقضي حاجته .
ونهي المستيقظ من نومه عن إدخال يده في الإناء حتى يغسلها .
في الصلاة
النهي عن التنفل عند طلوع الشمس وعند زوالها وعند غروبها وهي تطلع وتغرب بين قرني شيطان ، فإذا رآها الكفار عباد الكواكب سجدوا لها وعن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس وبعد العصر حتى تغرب الشمس ، وهذا في صلاة النافلة التي ليس لها سبب ، أما ما كانت لسبب فلا بأس كتحية المسجد .
والنهي عن جعل البيوت مقابر لا يتنفل فيها وعن وصل صلاة فريضة بصلاة حتى يتكلم ( بذكر أو غيره ) أو يخرج ، والنهي أن يصلي بعد أذان الفجر شيئا إلا ركعتي سنة الفجر .
والنهي عن مسابقة الإمام في الصلاة والنهي أن يصلي خلف الصف ، وعن الالتفات في الصلاة ، وعن رفع البصر إلى السماء في الصلاة ، وعن قراءة القرآن في الركوع والسجود فإن دعا في سجوده بدعاء من القرآن فلا بأس .
والنهي أن يصلي الرجل في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء فلا يصلي وهو عاري الكتفين والنهي عن الصلاة وهو بحضرة طعام يشتهيه ، وعن الصلاة وهو يدافع البول والغائط والريح ، لأن كل ذلك يشغل المصلي ويصرفه عن الخشوع المطلوب .
والنهي عن الصلاة في المقبرة والحمام . والنهي في الصلاة عن نقر كنقر الغراب ، والتفات كالتفات الثعلب ، وافتراش كافتراش السبع ، وإقعاء كإقعاء الكلب ، وإيطان كإيطان البعير ، وهو أن يعتاد مكانا في المسجد لا يصلي إلا فيه ، وعن الصلاة في مبارك الإبل فإنها خلقت من الشياطين .
والنهي وعن مسح الأرض أثناء الصلاة فإن احتاج فواحدة لتسوية الحصى ونحوه وعن تغطية الفم في الصلاة . والنهي أن يرفع المصلي صوته في الصلاة فيؤذي المؤمنين وعن مواصلة قيام الليل إذا أصابه النعاس بل ينام ثم يقوم ، وعن قيام الليل كله وبخاصة إذا كان ذلك تباعا .
والنهي عن التثاؤب والنفخ في الصلاة ، وعن تخطي رقاب الناس وعن كف الثياب وكفت الشعر في الصلاة ، وكف الثياب جمعها وتشميرها وكفت الشعر جمعه وحبسه .
والنهي عن إعادة الصلاة الصحيحة وهذا نافع للموسوسين . وأيضا النهي أن يخرج المصلي من صلاته إذا شك في الحدث حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا وعن التحلق قبل الصلاة يوم الجمعة ، وعن مس الحصى والعبث والكلام أثناء الخطبة ، وعن الاحتباء فيها وهو ضم الفخذين إلى البطن وشدهما بالثوب أو باليدين .
والنهي أن يصلي الرجل شيئا إذا أقيمت الصلاة المكتوبة والنهي أن يقوم الإمام في مكان أرفع من مقام المأمومين دون حاجة ، وعن المرور بين يدي المصلي ونهي المصلي أن يدع أحدا يمر بين يديه أو بينه وبين سترته .
والنهي عن البصاق في الصلاة تجاه القبلة وإلى الجهة اليمنى ، ولكن يبصق عن يساره أو تحت قدمه اليسرى ، وأن يضع المصلي نعليه عن يمينه أو شماله حتى لا يؤذي من بجانبيه وإنما يضعهما بين رجليه . والنهي عن النوم قبل العشاء إذا كان لا يأمن فوات وقتها ، وعن الحديث بعد صلاة العشاء إلا لمصلحة شرعية ، وأن يؤم الرجل الرجل في سلطانه إلا بإذنه . ومثله نهي الزائر أن يؤم أصحاب الدار إلا إذا قدموه ، والنهي أن يؤم قوما وهم له كارهون لسبب شرعي .
في المساجد(/2)
النهي عن الشراء والبيع ونشد الضالة في المساجد والنهي عن اتخاذ المساجد طرقا إلا لذكر أو صلاة ، والنهي عن إقامة الحدود في المسجد والنهي عن التشبيك بين اليدين إذا خرج عامدا إلى المسجد ، لأنه لا يزال في صلاة إذا عمد إلى الصلاة . والنهي أن يخرج أحد من المسجد بعد الأذان حتى يصلي . والنهي أن يجلس الداخل في المسجد حتى يصلي ركعتين ، والنهي عن الإسراع بالمشي إذا أقيمت الصلاة ، بل يمشي وعليه السكينة والوقار والنهي عن الصف بين السواري والأعمدة في المسجد إلا إذا دعت الحاجة . ونهي من أكل ثوما أو بصلا وكل ما له رائحة كريهة أن يقرب المسجد والنهي أن يمر الرجل في المسجد ومعه ما يؤذي المسلمين ، والنهي عن منع المرأة من الذهاب إلى المسجد بالشروط الشرعية ، ونهي المرأة أن تضع طيبا إذا خرجت إلى المسجد . والنهي عن مباشرة النساء في الاعتكاف ، والنهي عن التباهي في المساجد ، وعن تزيينها بتحمير أو تصفير أو زخرفة وكل ما يشغل المصلين .
في الجنائز
النهي عن البناء على القبور أو تعليتها ورفعها والجلوس عليها والمشي بينها بالنعال وإنارتها والكتابة عليها ونبشها . والنهي عن اتخاذ القبور مساجد والصلاة إلى القبر إلا صلاة الجنازة في المقبرة والنهي أن تحد المرأة على ميت فوق ثلاثة أيام إلا الزوج فإنها تحد عليه أربعة أشهر وعشرة أيام ، ونهي المتوفى عنها زوجها عن الطيب والاكتحال والحناء والزينة كأنواع الحلي ولبس الثوب المصبوغ ( وهو ثوب الزينة ) .
والنهي عن النياحة والنهي عن الإسعاد ( وهو أن تساعد المرأة من مات له ميت بالبكاء ، فهو بكاء لغير الله ثم إن الاجتماع بهذه الصفة على البكاء يعد من النياحة ) ومن المحرمات استئجار النائحة ، وشق الثوب ونشر الشعر لموت ميت .
والنهي عن نعي أهل الجاهلية أما مجرد الإخبار بموت الميت فلا حرج فيه .
في الصيام
النهي عن صيام يوم الفطر ويوم الأضحى وأيام التشريق الثلاثة بعد الأضحى ويوم الشك ، وعن إفراد الجمعة بالصوم وكذلك يوم السبت ، والنهي عن صيام الدهر والنهي عن تقدم شهر رمضان بصيام يوم أو يومين ، والنهي عن الصيام في النصف الثاني من شعبان ما لم يكن له صوم معتاد من قبل . والنهي أن يصل يوما بيوم في الصوم دون إفطار بينهما ، وعن صيام يوم عرفة بعرفة إلا لمن لم يجد الهدي ، والنهي عن المبالغة في المضمضة والاستنشاق إذا كان صائماً . والنهي أن تصوم المرأة صيام نافلة وبعلها شاهد إلا بإذنه ، وعن ترك السحور للصائم ولو جرعة ماء . ونهي الصائم عن الرفث والمشاتمة والمقاتلة .
الحج والأضحية
النهي عن تأخير الحج بغير عذر ، والنهي عن الرفث والفسوق والجدال في الحج .
ونهي المحرم أن يلبس القميص أو العمامة أو السراويل أو البرنس أو الخف ، وأن تلبس المحرمة النقاب أو القفازين ، والنهي عن قلع شجر الحرم أو قطعه أو خبطه .
والنهي عن حمل السلاح في الحرم أو الصيد فيه أو تنفير الصيد أو ألتقاط لقطته إلا لمعرف . والنهي عن تطييب من مات محرما وعن تغطية رأسه وعن تحنيطه ، بل يدفن في ثيابه فهو يبعث ملبيا .
والنهي أن ينفر الحاج حتى يكون آخر عهده بالبيت ( أي طواف الوداع ) ورخص للحائض والنفساء في تركه .
والنهي عن ذبح الأضحية قبل صلاة العيد والنهي عن الأضحية المعيبة والنهي أن يعطي الجزار منها شيئا على أنه أجرة ونهي من أراد أن يضحي إذا دخلت عشر ذي الحجة أن يأخذ شيئا من شعره أو أظفاره أو بشرته حتى يضحي .
في البيوع والمكاسب
والنهي عن أكل الربا ، وعن البيوع التي تشتمل على الجهالة والتغرير والخداع ، والنهي عن بيع الشاة باللحم ، وبيع فضل الماء وبيع الكلب والهر والدم والخمر والخنزير والأصنام وعسب الفحل وهو ماؤه الذي يلقح به ، والنهي عن ثمن الكلب وكل شيْء حرمه الله فثمنه حرام بيعا وشراء . وكذلك النهي عن النجش وهو أن يزيد في ثمن السلعة من لا يريد شراءها كما يحصل في كثير من المزادات . والنهي عن كتم عيوب السلعة وإخفائها عند بيعها ، والنهي عن البيع بعد النداء الثاني يوم الجمعة ، والنهي عن بيع ما لا يملك وعن بيع الشيء قبل أن يحوزه ويقبضه ، والنهي عن بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة إلا مثلا بمثل يدا بيد . والنهي أن يبيع الرجل على بيع أخيه وأن يشتري على شراء أخيه وأن يسوم على سوم أخيه ، والنهي عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها وتنجو من العاهة . والنهي عن التطفيف في المكيال والميزان ، والنهي عن الاحتكار والنهي عن تلقي الركبان ، وهو تلقي من يقدم من خارج البلد سواء للبيع منهم أو البيع لهم بل يتركون حتى يأتوا سوق البلد وفي ذلك مصلحة للجميع .(/3)
والنهي أن يبيع حاضر لباد ( مثل أن يكون ساكن البلد سمسارا للقادم من البادية ) فعليه أن يدعه يبيع بنفسه ، والنهي أن يبيع الرجل جلد أضحيته ، ونهي الشريك في الأرض أو النخل وما شابهها عن بيع نصيبه حتى يعرضه على شريكه ، والنهي عن الأكل بالقرآن والاستكثار به ( مثل الذين يقرأون القرآن ويسألون به الناس ) والنهي عن أكل أموال اليتامى ظلما وعن القمار والميسر والغصب ، والنهي عن أخذ الرشوة وإعطائها والنهي عن السرقة ، وعن الاختلاس من الغنيمة وعن النهبة ، وهي نهب أموال الناس والنهي عن أكل أموالهم بالباطل وكذلك أخذها بقصد إتلافها والنهي عن بخس الناس أشياءهم ، والنهي عن كتمان اللقطة وتغييبها وعن أخذ اللقطة إلا لمن يعرفها ، والنهي عن الغش بأنواعه ، والنهي أن يأخذ المسلم من مال أخيه المسلم شيئا إلا بطيب نفس منه وما أخذ بسيف الحياء فهو حرام ، والنهي عن قبول الهدية بسبب الشفاعة ، والنهي عن التبقر في المال وهو الاستكثار منه والتوسع فيه وتفريقه في البلدان بحيث يؤدي إلى توزع قلب صاحبه وانشغاله عن الله .
في النكاح
النهي عن التبتل وهو ترك النكاح ، والنهي عن الاختصاء ، والنهي عن الجمع بين الأختين والنهي عن الجمع بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها لا الكبرى على الصغرى ولا الصغرى على الكبرى خشية القطيعة . والنهي أن ينكح الرجل امرأة أبيه .
والنهي عن الشغار وهو أن يقول مثلا زوجني ابنتك أو أختك على أن أزوجك ابنتي أو أختي فتكون هذه مقابل الأخرى وهذا ظلم وحرام والنهي عن نكاح المتعة وهو نكاح إلى أجل متفق عليه بين الطرفين ينتهي العقد بانتهاء الأجل ، والنهي عن النكاح إلا بولي وشاهدين ، والنهي أن يخطب الرجل على خطبة أخيه حتى يترك أو يأذن له ، والنهي عن خطبة المعتدة من وفاة زوج تصريحا إنما يكون ذلك بالتلميح ، والمطلقة الرجعية لا يجوز خطبتها مطلقا ، والنهي عن إخراج المطلقة الرجعية من بيتها ونهي المرأة أن تخرج من بيت زوجها وتتركه في عدة الطلاق الرجعي والنهي عن إمساك المطلقة أو مراجعتها وليس له رغبة فيها وإنما لتطول عليها المدة فتتضرر والنهي أن تكتم المطلقة ما خلق الله في رحمها ، والنهي عن اللعب بالطلاق والنهي أن تسأل المرأة طلاق أختها سواء كانت زوجة أو مخطوبة مثل أن تسأل المرأة الرجل أن يطلق زوجته لتتزوجه ، والنهي أن يحدث الزوج والزوجة بما يكون بينهما من أمور الاستمتاع والنهي عن إفساد المرأة على زوجها والعكس ونهى النبي صلى الله عليه وسلم أن تكلم النساء إلا بإذن أزواجهن ، ونهي المرأة أن تنفق من مال زوجها إلا بإذنه ، ونهي المرأة أن تهجر فراش زوجها فإن فعلت دون عذر شرعي لعنتها الملائكة ، والنهي عن إيذاء الناشز إذا رجعت إلى طاعة زوجها . والنهي أن تدخل المرأة أحداً بيت زوجها إلا بإذنه ، ويكفي إذنه العام إذا لم يخالف الشرع .
والنهي عن ترك إجابة الدعوة إلى الوليمة بغير عذر شرعي ، وعن التهنئة بقولهم بالرفاء والبنين لأنها من تهنئة الجاهلية ، وأهل الجاهلية كانوا يكرهون البنات .
والنهي أن يطأ الرجل امرأة فيها حمل من غيره والنهي أن يعزل الرجل عن زوجته الحرة إلا بإذنها والنهي أن يطرق الرجل أهله ويفاجأهم ليلا إذا قدم من سفر فإذا أخبرهم بوقت قدومه فلا حرج ، ونهي الزوج أن يأخذ من مهر زوجته بغير طيب نفس منها ، والنهي عن الإضرار بالزوجة لتفتدي منه بالمال والنهي عن الظهار والنهي عن الميل إلى إحدى الزوجتين دون الأخرى وعن مجانبة العدل بين الزوجات ، وعن نكاح التحليل وهو أن يتزوج مطلقة ثلاثاً لكي يحلها لزوجها الأول .
في أمور متعلقة بالنساء
النهي أن تبدي المرأة زينتها إلا للمحارم ، ونهي النساء عن التبرج ونهي النساء أن يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ، والنهي أن تضار والدة بولدها أو مولود له بولده ، والنهي عن التفريق بين الوالدة وولدها ، وعن المبالغة في ختان المرأة . والنهي أن تسافر المرأة إلا مع ذي محرم ، والنهي عن مصافحة المرأة الأجنبية وعن تطيب المرأة عند خروجها ومرورها بعطرها على الرجال وأن يختلي الرجل بالمرأة الأجنبية والنهي عن الدياثة والنهي عن إطلاق النظر إلى المرأة الأجنبية وعن اتباع النظرة النظرة .
في الذبائح والأطعمة
النهي عن الميتة سواء ماتت بالغرق أو الخنق أو الصعق أو السقوط من مكان مرتفع أو نطحتها أخرى أو التي افترسها السبع إلا ماذكي وعن الدم ولحم الخنزير وما ذبح على غير اسم الله وما ذبح للأصنام وعن الأكل مما ذبح دون أن يذكر اسم الله عليه تعمدا .
والنهي عن أكل لحم الجلالة وهي الدابة التي تتغذى على القاذورات والنجاسات وكذا شرب لبنها وعن أكل كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير ، وأكل لحم الحمار الأهلي ، وعن قتل الضفدع للدواء وهي مستخبثة لا يؤكل لحمها عند جمهور العلماء .(/4)
والنهي عن صبر البهائم وهو أن تمسك ثم ترمى بشيء إلى أن تموت أو أن تحبس بلا علف ، والبهيمة التي تصبر بالنبل هي المجثمة التي نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أكلها لأنها لم تذبح بالطريقة الشرعية .
والنهي عن الأكل من صيد الكلب غير المعلم أو إذا خالطته كلاب أخرى فإنه لا يدري أيها الذي صاد والنهي عن أكل الصيد إذا أصابه بآلة فقتلته بثقلها أو صدمتها كالمعراض ، أما إذا أصابه بمحدد كالسهم فخرق أو خزق وسمى الله فليأكل .
والنهي عن الذبح بالسن والظفر ، وأن يذبح بهيمة بحضرة أخرى ، وأن يحد الشفرة أمامها .
والنهي عن أكل طعام المتباريين وهما المتفاخران اللذان يصنعان الطعام للمفاخرة والمراءاة ويتنافسان في ذلك وهو داخل في أكل المال بالباطل .
في اللباس والزينة
النهي عن الإسراف في اللباس وعن الذهب للرجال ، وعن التختم في الوسطى والتي تليها ( أي السبابة ) وعن خاتم الحديد .
والنهي عن التعري وعن المشي عريانا وعن كشف الفخذ .
والنهي عن إسبال الثياب وعن جرها خيلاء وعن لبس ثوب الشهرة وثوب الحرير .
والنهي عن المفدم وهو المشبع حمرة بالعصفر فلا يلبسه الرجل .
والنهي عن تشبه الرجال بالنساء ولبس ملابسهن وعن تشبه النساء بالرجال ولبس ملابسهم وعن لبس القصير والرقيق والضيق من الثياب للنساء .
والنهي عن الانتعال قائما وذلك فيما في لبسه قائماً مشقة كالأحذية التي تحتاج إلى ربط . والنهي عن المشي في نعل واحدة لأن الشيطان يمشي في النعل الواحدة .
والنهي عن الوشم وعن تفليج الأسنان و وشرها مثل أخذها بالمبرد ولا يدخل في ذلك تقويم الأسنان بالأسلاك ونحوها .
والنهي عن مشابهة المشركين في إعفاء الشارب وقص اللحية بل نقص الشارب ونعفي اللحية .
والنهي عن النمص وهو نتف شعر الوجه وأشده الأخذ من الحاجبين وعن حلق المرأة شعرها وعن وصل الشعر بشعر مستعار لآدمي أو لغيره للرجال والنساء ، وعن نتف الشيب وعن تغيير الشيب بالسواد وعن الصبغ بالسواد وعن القزع وهو حلق بعض الرأس وترك بعضه .
والنهي عن تصوير ما فيه روح في الثياب والجدران والورق سواء كان مرسوما أو مطبوعا أو محفورا أو منقوشا أو مصبوبا بقوالب ونحو ذلك وإن كان لابد فاعلا فليصنع الشجر وما لا روح فيه .
والنهي عن افتراش الحرير وجلود النمور وكل ما فيه خيلاء والنهي عن ستر الجدران .
في آفات اللسان
النهي عن شهادة الزور .
والنهي عن قذف المحصنة .
والنهي عن قذف البريء وعن البهتان .
والنهي عن الهمز واللمز والتنابز بالألقاب والغيبة والنميمة والسخرية بالمسلمين ، وعن التفاخر بالأحساب والطعن في الأنساب وعن السباب والشتم والفحش والخنا والبذاءة وكذلك الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم .
والنهي عن الكذب ومن أشده الكذب في المنام مثل اختلاق الرؤى والمنامات لتحصيل فضيلة أو كسب مادي أو تخويفا لمن بينه وبينهم عداوة ومن عقوبته أن يكلف يوم القيامة بأمر مستحيل وهو أن يعقد بين شعيرتين .
والنهي أن يزكي المرء نفسه ، وعن النجوى فلا يتناجى اثنان دون الثالث من أجل أن ذلك يحزنه ، وعن التناجي بالإثم والعدوان ، وعن لعن المؤمن ولعن من لا يستحق اللعن .
والنهي عن رفع الصوت فوق الصوت النبي صلى الله عليه وسلم ومن ذلك رفع الصوت فوق صوت القارئ للحديث وكذلك رفع الصوت عند قبره صلى الله عليه وسلم .
والنهي عن سب الأموات ، وسب الديك لأنه يوقظ للصلاة وسب الريح لأنها مأمورة وسب الحمى لأنها تنفي الذنوب وسب الشيطان لأنه يتعاظم والمفيد هو الاستعاذة بالله من شره .
والنهي عن الدعاء بالموت أو تمنيه لضر نزل به ، وعن الدعاء على النفس والأولاد والخدم والأموال .
والنهي عن تسمية العنب كرما لأن أهل الجاهلية كانوا يعتقدون أن الخمر تدعو إلى الكرم ، والنهي أن يقول الرجل خبثت نفسي والنهي أن يقول نسيت آية كذا وإنما يقول أنسيت ولا يقل اللهم اغفر لي إن شئت بل يعزم في الدعاء والمسألة ، النهي عن إطلاق لفظة سيد على المنافق والنهي عن التقبيح وخاصة تقبيح الزوج زوجته ( مثل أن يقول قبحك الله ) ، وعن قول راعنا ، والنهي عن السؤال قبل السلام ، والنهي عن التمادح .
في آداب الطعام والشراب
النهي عن الأكل مما بين أيدي الآخرين وعن الأكل من وسط الطعام وإنما يأكل من حافته وجوانبه فإن البركة تنزل وسط الطعام ، والنهي عن ترك اللقمة إذا سقطت بل يزيل عنها الأذى ثم يأكلها ولا يدعها للشيطان .
والنهي عن الشرب في آنية الذهب والفضة والنهي عن الشرب واقفا وعن الشرب من ثلمة الإناء المكسور حتى لا يؤذي نفسه وعن الشرب من فم الإناء والنهي عن التنفس فيه ، وعن الشرب بنفس واحد بل يشرب ثلاثا فإنه أهنأ وأمرأ وأبرأ .(/5)
والنهي عن النفخ في الطعام والشراب والنهي عن الأكل والشرب بالشمال ، وأن يأكل الشخص وهو منبطح على بطنه وأن يقرن الرجل بين تمرتين عند الأكل إلا إذا أذن له صاحبه المشترك معه في الطعام وذلك لما في الإقران من الشره والإجحاف برفيقه ، والنهي عن استعمال آنية أهل الكتاب التي يستعملونها فإذا لم يجد غيرها فليغسلها ويأكل فيها ، والنهي عن الجلوس على مائدة يشرب عليها الخمر .
في آداب النوم
والنهي عن النوم على سطح ليس له جدار حتى لا يسقط إذا تقلب أثناء نومه والنهي عن مبيت الرجل وحده والنهي عن ترك النار في البيت موقدة حين النوم ، والنهي أن يبيت الرجل وفي يده غمر مثل الزهومة والزفر والنهي عن النوم على البطن ، والنهي عن وضع إحدى الرجلين على الأخرى عند الاستلقاء على القفا إذا كان يكشف العورة ، والنهي أن يحدث الإنسان بالرؤيا القبيحة أو أن يفسرها لأنها من تلعب الشيطان .
في أمور متفرقة
النهي عن قتل النفس بغير حق ، والنهي عن قتل الأولاد خشية الفقر وعن الانتحار .
والنهي عن الزنا و النهي عن اللواط وشرب الخمر وعصره وحمله وبيعه . والنهي عن الفرار من الزحف إلا لسبب شرعي ، والنهي عن إيذاء المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا ، والنهي عن إرضاء الناس بسخط الله .
والنهي عن نقض الأيمان بعد توكيدها في العهود والمواثيق ، وعن الغناء والكوبة وهو الطبل وعن المزمار وعن المعازف ، والنهي عن انتساب الولد لغير أبيه ، والنهي عن التعذيب بالنار ، والنهي عن تحريق الأحياء والأموات بالنار والنهي عن المثلة وهي تشويه جثث القتلى ، والنهي عن الإعانة على الباطل والتعاون على الإثم والعدوان ، والنهي عن حمل السلاح على المسلمين .
والنهي أن يفتي بغير علم والنهي عن يطيع أحداً في معصية الله والنهي عن الحلف كاذبا وعن اليمين الغموس ، وعن قبول شهادة الذين يرمون المحصنات ولم يأتوا بأربعة شهداء إلا إذا تابوا ، وعن تحريم الطيبات التي أحلها الله ، وعن اتباع خطوات الشيطان ، وعن التقدم بين يدي الله ورسوله لا بقول ولا بفعل .
والنهي أن يستمع لحديث قوم بغير إذنهم ، وعن الاطلاع في بيوت قوم بغير إذنهم ، وعن الدخول إلى بيوت الناس إلا بعد الاستئذان ، وعن النظر إلى العورات ،
والنهي أن يدعي ما ليس له والنهي أن يتشبع بما لم يعط وأن يسعى إلى أن يحمد بما لم يفعل .
والنهي عن دخول ديار الأقوام الذين أهلكهم الله بالعذاب إلا مع البكاء أو التباكي ويدخل معتبرا لا متفرجا ، والنهي عن اليمين الآثمة ، والتجسس وسوء الظن بالصالحين والصالحات والنهي عن التحاسد والتباغض والتدابر والنهي عن التمادي في الباطل .
والنهي عن الكبر والفخر والخيلاء والإعجاب بالنفس وعن الفرح المذموم بالدنيا الذي يسبب الأشر والبطر .
والنهي عن المشي في الأرض مرحاً وعن تصعير الخد للناس وهو علامة الكبر . والنهي أن يعود المسلم في صدقتة ولو بشرائها ، والنهي أن يقتل الوالد إذا قتل ولده ، وأن ينظر الرجل إلى عورة الرجل والمرأة إلى عورة المرأة . وعن النظر إلى فخذ حي أو ميت والنهي عن انتهاك حرمة الشهر الحرام أما مجاهدة الكفار فيه فهي مشروعة .
والنهي عن الإنفاق من الكسب الخبيث .
والنهي عن استيفاء العمل من الأجير وعدم إيفائه أجره والنهي عن عدم العدل في العطية بين الأولاد . والنهي عن المضارة في الوصية وعن الوصية لوارث ، لأن الله قد أعطى الورثة حقوقهم ، وأن يوصي بماله كله ويترك ورثته فقراء فإن فعل فلا تنفذ وصيته إلا في الثلث .
والنهي عن سوء الجوار وعن إيذاء الجار ، وعن هجر المسلم فوق ثلاثة أيام دون سبب شرعي .
والنهي عن الخذف وهو رمي الحصاة بين إصبعين لأنها مظنة الأذى مثل فقء العين وكسر السن ، والنهي عن الاعتداء .
والنهي أن يجهر الناس بعضهم على بعض بقراءة القرآن ، والنهي عن الدخول بين المتناجيين وأن يفرق بين اثنين إلا بإذنهما ، وأن يقيم شخصاً من مقعده ويجلس هو فيه ، وأن يقوم الرجل من عند أخيه حتى يستأذن . والنهي عن القيام على رأس الجالس ، وعن الجلوس بين الشمس والظل ، لأنه مجلس الشيطان .
والنهي عن الإضرار بالمسلمين ، وعن شهر السلاح على المسلم .
والنهي أن يشير إلى أخيه المسلم بحديدة .
والنهي عن تعاطي السيف مسلولا خشية الإيذاء ، والنهي عن ردّ الهدية إذا لم يكن فيها محذور شرعي ، والنهي عن الإسراف والتبذير ، وعن التكلف للضيف ، وعن إعطاء المال للسفهاء . ونهي الناس أن يتمنى ما فضل الله بعضهم على بعض من الرجال والنساء . والنهي عن إعطاء المال للسفهاء ، والنهي عن التنازع ، والنهي عن الرأفة بالزاني والزانية عند إقامة الحد . وعن إبطال الصدقات بالمن والأذى .(/6)
والنهي عن كتمان الشهادة ، والنهي عن قهر اليتيم ونهر السائل ، والنهي عن التداوي بالدواء الخبيث فإن الله لم يجعل شفاء الأمة فيما حرم عليها ، والنهي عن قتل النساء والصبيان في الحرب ، والنهي عن التعمق والتكلف والنهي عن الأغلوطات وهي الإتيان بالمسائل المشكلة إلى العالم لمغالطته وتحديه وتشويش فكره أو إرادة السائل إظهار فضله وذكائه أو السؤال عن أمور لم تقع من الفرضيات والجدليات التي لا تنفعه في دينه .
والنهي عن اللعب بالنرد والنهي عن لعن الدواب والنهي عن خمش الوجه عند المصيبة ، وعن غش الرعية ، والنهي أن ينظر الإنسان إلى من هو فوقه في أمور الدنيا بل ينظر إلى من هو أسفل منه حتى يعرف نعمة الله عليه فلا يزدريها ، والنهي أن يفخر أحد على أحد ،
والنهي عن إخلاف الوعد ، والنهي عن خيانة الأمانة ، والنهي عن كتم العلم والنهي عن الشفاعة السيئة مثل أن يتوسط في الشر .
والنهي عن سؤال الناس دون حاجة ، والنهي عن الجرس في السفر والنهي عن اتخاذ الكلاب إلا لحاجة ككلب الماشية وكلب الزرع والصيد والحراسة .
والنهي عن الضرب فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله والنهي عن كثرة الضحك والنهي عن إكراه المرضى على الطعام والشراب فإن الله يطعمهم ويسقيهم والنهي عن إحداد النظر إلى المجذومين .
والنهي أن يروع المسلم أخاه المسلم أو يأخذ متاعه لاعبا أو جادا والنهي عن الأخذ والإعطاء بالشمال ، والنهي عن النذر لأنه لا يرد من قضاء الله شيئا وإنما يستخرج به من البخيل ، وعن ممارسة الطب بغير خبرة ، وعن قتل النمل والنحل والهدهد .
والنهي أن يسافر الرجل وحده ، والنهي أن يمنع الجار جاره أن يغرز خشبة في جداره .
والنهي عن جعل السلام للمعرفة وإنما يسلم على من عرف ومن لم يعرف ، وعن إجابة من بدأ بالسؤال قبل السلام ، وعن تقبيل الرجل الرجل .
والنهي عن جعل اليمين حائلة بين الحالف وعمل البر بل يأتي الذي هو خير ويكفر عن يمينه ، وعن القضاء بين الخصمين وهو غضبان أو يقضي لأحدهما دون أن يسمع كلام الآخر .
والنهي عن إخراج الصبيان خارج البيت عند غروب الشمس حتى يشتد السواد لأنها ساعة تنتشر فيها الشياطين ، والنهي عن الجذاذ بالليل وهو قطع الثمار وعن الحصاد بالليل لئلا يخفى على المساكين ولئلا يكون فرارا من الفقراء قال الله تعالى : ( وآتوا حقه يوم حصاده ) .
والنهي أن يمر الرجل في السوق ومعه ما يؤذي المسلمين كالأدوات الحادة المكشوفة ، والنهي عن الخروج من البلد التي وقع فيها الطاعون أو الدخول إليها .
والنهي عن الحجامة يوم الجمعة والسبت والأحد والأربعاء وإنما يحتجم يوم الخميس والاثنين والثلاثاء ، والنهي عن تشميت من عطس فلم يحمد الله ، والنهي عن التفل تجاه القبلة ، والنهي عن التعريس على قارعة الطريق في السفر ، وهو النزول للنوم والاستراحة وذلك لأنها مأوى الدواب ، والنهي عن الضحك من الضرطة وهي صوت الريح لأن كل إنسان معرض لذلك ولا يخلو منه شخص وفيه رعاية لنفوس الآخرين .
والنهي عن رد الطيب والوسائد والريحان .
وختاما هذا ما تيسر جمعه من المنهيات ، نسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يجنبنا الإثم والفواحش ما ظهر منها وما بطن وأن يباعد بيننا وبين أسباب سخطه وأن يتوب علينا إنه سميع قريب مجيب . سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين .(/7)
منهيات في العبادات
في الطهارة :
النهي عن البول في الماء الراكد ، وعن قضاء الحاجة على قارعة الطريق وفي ظل الناس وفي موارد الماء ، وعن استقبال القبلة واستدبارها ببول أو غائط ، واستثنى بعض أهل العلم ما كان داخل البنيان ، وعن الاستنجاء باليمين ، وأن يتمسح بيمينه والنهي عن الاستنجاء بالعظم والروث لأنه زاد إخواننا من الجن . وعن الاستنجاء بالروث لأنه علف دوابهم .
والنهي أن يمسك الرجل ذكره بيمينه وهو يبول ، وعن السلام على من يقضي حاجته .
ونهي المستيقظ من نومه عن إدخال يده في الإناء حتى يغسلها .
في الصلاة :
النهي عن التنفل عند طلوع الشمس وعند زوالها وعند غروبها وهي تطلع وتغرب بين قرني شيطان ، فإذا رآها الكفار عباد الكواكب سجدوا لها وعن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس وبعد العصر حتى تغرب الشمس ، وهذا في صلاة النافلة التي ليس لها سبب ، أما ما كانت لسبب فلا بأس كتحية المسجد .
والنهي عن جعل البيوت مقابر لا يتنفل فيها وعن وصل صلاة فريضة بصلاة حتى يتكلم ( بذكر أو غيره ) أو يخرج ، والنهي أن يصلي بعد أذان الفجر شيئا إلا ركعتي سنة الفجر .
والنهي عن مسابقة الإمام في الصلاة والنهي أن يصلي خلف الصف ، وعن الالتفات في الصلاة ، وعن رفع البصر إلى السماء في الصلاة ، وعن قراءة القرآن في الركوع والسجود فإن دعا في سجوده بدعاء من القرآن فلا بأس .
والنهي أن يصلي الرجل في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء فلا يصلي وهو عاري الكتفين
والنهي عن الصلاة وهو بحضرة طعام يشتهيه ، وعن الصلاة وهو يدافع البول والغائط والريح ، لأن كل ذلك يشغل المصلي ويصرفه عن الخشوع المطلوب .
والنهي عن الصلاة في المقبرة والحمام . والنهي في الصلاة عن نقر كنقر الغراب ، والتفات كالتفات الثعلب ، وافتراش كافتراش السبع ، وإقعاء كإقعاء الكلب ، وإيطان كإيطان البعير ، وهو أن يعتاد مكانا في المسجد لا يصلي إلا فيه ، وعن الصلاة في مبارك الإبل فإنها خلقت من الشياطين .
والنهي وعن مسح الأرض أثناء الصلاة فإن احتاج فواحدة لتسوية الحصى ونحوه وعن تغطية الفم في الصلاة . والنهي أن يرفع المصلي صوته في الصلاة فيؤذي المؤمنين وعن مواصلة قيام الليل إذا أصابه النعاس بل ينام ثم يقوم ، وعن قيام الليل كله وبخاصة إذا كان ذلك تباعا .
والنهي عن التثاؤب والنفخ في الصلاة ، وعن تخطي رقاب الناس وعن كف الثياب وكفت الشعر في الصلاة ، وكف الثياب جمعها وتشميرها وكفت الشعر جمعه وحبسه .
والنهي عن إعادة الصلاة الصحيحة وهذا نافع للموسوسين . وأيضا النهي أن يخرج المصلي من صلاته إذا شك في الحدث حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا وعن التحلق قبل الصلاة يوم الجمعة ، وعن مس الحصى والعبث والكلام أثناء الخطبة ، وعن الاحتباء فيها وهو ضم الفخذين إلى البطن وشدهما بالثوب أو باليدين .
والنهي أن يصلي الرجل شيئا إذا أقيمت الصلاة المكتوبة والنهي أن يقوم الإمام في مكان أرفع من مقام المأمومين دون حاجة ، وعن المرور بين يدي المصلي ونهي المصلي أن يدع أحدا يمر بين يديه أو بينه وبين سترته .
والنهي عن البصاق في الصلاة تجاه القبلة وإلى الجهة اليمنى ، ولكن يبصق عن يساره أو تحت قدمه اليسرى ، وأن يضع المصلي نعليه عن يمينه أو شماله حتى لا يؤذي من بجانبيه وإنما يضعهما بين رجليه . والنهي عن النوم قبل العشاء إذا كان لا يأمن فوات وقتها ، وعن الحديث بعد صلاة العشاء إلا لمصلحة شرعية ، وأن يؤم الرجل الرجل في سلطانه إلا بإذنه .
ومثله نهي الزائر أن يؤم أصحاب الدار إلا إذا قدموه .
والنهي أن يؤم قوما وهم له كارهون لسبب شرعي .
في المساجد :
النهي عن الشراء والبيع ونشد الضالة في المساجد والنهي عن اتخاذ المساجد طرقا إلا لذكر أو صلاة ،
والنهي عن إقامة الحدود في المسجد والنهي عن التشبيك بين اليدين إذا خرج عامدا إلى المسجد ، لأنه لا يزال في صلاة إذا عمد إلى الصلاة .
والنهي أن يخرج أحد من المسجد بعد الأذان حتى يصلي .
والنهي أن يجلس الداخل في المسجد حتى يصلي ركعتين .
والنهي عن الإسراع بالمشي إذا أقيمت الصلاة ، بل يمشي وعليه السكينة والوقار والنهي عن الصف بين السواري والأعمدة في المسجد إلا إذا دعت الحاجة .
ونهي من أكل ثوما أو بصلا وكل ما له رائحة كريهة أن يقرب المسجد والنهي أن يمر الرجل في المسجد ومعه ما يؤذي المسلمين .
والنهي عن منع المرأة من الذهاب إلى المسجد بالشروط الشرعية .
ونهي المرأة أن تضع طيبا إذا خرجت إلى المسجد .
والنهي عن مباشرة النساء في الاعتكاف .
والنهي عن التباهي في المساجد ، وعن تزيينها بتحمير أو تصفير أو زخرفة وكل ما يشغل المصلين .
في الجنائز(/1)
النهي عن البناء على القبور أو تعليتها ورفعها والجلوس عليها والمشي بينها بالنعال وإنارتها والكتابة عليها ونبشها . والنهي عن اتخاذ القبور مساجد والصلاة إلى القبر إلا صلاة الجنازة في المقبرة والنهي أن تحد المرأة على ميت فوق ثلاثة أيام إلا الزوج فإنها تحد عليه أربعة أشهر وعشرة أيام ، ونهي المتوفى عنها زوجها عن الطيب والاكتحال والحناء والزينة كأنواع الحلي ولبس الثوب المصبوغ ( وهو ثوب الزينة ) .
والنهي عن النياحة والنهي عن الإسعاد ( وهو أن تساعد المرأة من مات له ميت بالبكاء ، فهو بكاء لغير الله ثم إن الاجتماع بهذه الصفة على البكاء يعد من النياحة ) ومن المحرمات استئجار النائحة ، وشق الثوب ونشر الشعر لموت ميت .
والنهي عن نعي أهل الجاهلية أما مجرد الإخبار بموت الميت فلا حرج فيه .
في الصيام :
النهي عن صيام يوم الفطر ويوم الأضحى وأيام التشريق الثلاثة بعد الأضحى ويوم الشك ، وعن إفراد الجمعة بالصوم وكذلك يوم السبت ، والنهي عن صيام الدهر والنهي عن تقدم شهر رمضان بصيام يوم أو يومين ، والنهي عن الصيام في النصف الثاني من شعبان ما لم يكن له صوم معتاد من قبل .
والنهي أن يصل يوما بيوم في الصوم دون إفطار بينهما ، وعن صيام يوم عرفة بعرفة إلا لمن لم يجد الهدي .
والنهي عن المبالغة في المضمضة والاستنشاق إذا كان صائماً .
والنهي أن تصوم المرأة صيام نافلة وبعلها شاهد إلا بإذنه ، وعن ترك السحور للصائم ولو جرعة ماء .
ونهي الصائم عن الرفث والمشاتمة والمقاتلة .
الحج والأضحية :
النهي عن تأخير الحج بغير عذر .
والنهي عن الرفث والفسوق والجدال في الحج .
ونهي المحرم أن يلبس القميص أو العمامة أو السراويل أو البرنس أو الخف ، وأن تلبس المحرمة النقاب أو القفازين .
والنهي عن قلع شجر الحرم أو قطعه أو خبطه .
والنهي عن حمل السلاح في الحرم أو الصيد فيه أو تنفير الصيد أو ألتقاط لقطته إلا لمعرف .
والنهي عن تطييب من مات محرما وعن تغطية رأسه وعن تحنيطه ، بل يدفن في ثيابه فهو يبعث ملبيا .
والنهي أن ينفر الحاج حتى يكون آخر عهده بالبيت ( أي طواف الوداع ) ورخص للحائض والنفساء في تركه .
والنهي عن ذبح الأضحية قبل صلاة العيد والنهي عن الأضحية المعيبة .
والنهي أن يعطي الجزار منها شيئا على أنه أجرة ونهي من أراد أن يضحي إذا دخلت عشر ذي الحجة أن يأخذ شيئا من شعره أو أظفاره أو بشرته حتى يضحي .
المنهيات الشرعية
الشيخ محمد صالح المنجد(/2)
مهارات القراءة السريعة
الكتاب : مهارات القراءة السريعة
المؤلف : جوبيس تيرلي
عدد الصفحات : 110 صفحة
الناشر : دار المعرفة للتنمية البشرية
* فكرة الكتاب :
ننفق الكثير من وقتنا في قراءة الكتب أو التقارير أو المقالات أو حتى الصحف اليومية، وفي هذا العصر عصر الانفجار المعلوماتي والسرعة نحتاج إلى القراءة في وقت أقصر، لذا لا بد أن نلجأ إلى ما يُعرف بالقراءة السريعة التي تمكن من قراءة الكثير في وقت قصير، وهذا الكتاب يمدك بالأساليب والطرق اللازمة لتعلم هذه المهارة بوقت قصير . ...
الفصل الأول
لماذا ينبغي لك أن تتقن القراءة السريعة؟
تعتبر القراءة من أهم المهارات التي يجب أن نتعلمها لكي نتواصل مع الآخرين ونواكب المعرفة، ونتعلم ما نحتاجه، لذا فنحن بحاجة أن نتعلم ونقرأ الكثير بشكل سريع في وقت قصير، وهذا ما توفره لنا مهارة القراءة السريعة.
* لماذا يجب أن تنمي مهارات القراءة لديك؟
(1) القراءة تنمي ثقتي بنفسي.
(2) القراءة تجعلني أكثر كفاءة في إنجاز أعمالي.
(3) القراءة تجعل قراراتي أكثر فاعلية.
(4) القراءة تزيد من فرص ترقيتي في مجال عملي.
(5) القراءة تجعلني أكثر ثباتاً في مواجهة الأزمات والضغوط.
(6) القراءة تزيد من فهمي وإدراكي للأمور.
(7) القراءة تجعلني عضواً بارزاً وفعالاً في فريق عملي.
(8) القراءة تجعلني لبقاً في محادثة الآخرين.
(9) القراءة تجعلني أكثر دقة وذكاءً وبديهة.
(10) القراءة تزيد من قدرتي على تحمل المسؤولية.
الفصل الثاني
الاستعداد للقراءة السريعة بعض الأمور الأساسية لذلك
قبل البدء في تعلم مهارة القراءة السريعة تحتاج إلى:
(1) قصص من الصحف اليومية.
(2) مقالات من المجلات.
(3) عدد من الروايات.
(4) كتب علمية.
(5) ساعة إيقاف أو ساعة رقمية.
(6) قلم رصاص أو حبر، ومشابك ملونة.
ما هو معدل سرعتك في القراءة –اختبر نفسك-؟
لكي تختبر معدل سرعة قراءتك في مادة ما اتبع ما يلي:
(1) في إحدى الصفحات أوجد عدد الكلمات في السطر الواحد فمثلاً عدد الكلمات في الأسطر الستة الأولى هي (60 كلمة) 60 كلمة÷ 6 أسطر= 10 كلمات في السطر الأول.
(2) اضرب 10 كلمات في السطرx30 سطراً (الصفحة كاملة)= 300 كلمة في الصفحة.
(3) اضرب 300 كلمة في الصفحةx 10 صفحات (عدد الصفحات المقروءة)= 3000 كلمة.
(4) اقسم 3000 كلمة÷3 دقائق (الوقت المستغرق في القراءة)=1000كلمة في الدقيقة.
فتكون قراءتك هي 1000 كلمة في الدقيقة الواحدة.
الفصل الثالث
القراءة من أجل السرعة في القراءة
هناك ثلاثة أساليب تساعدك على زيادة معدل سرعة قراءتك، وهذه الأساليب تتطلب منك تحريك يدك لتتبع الأسطر، وسواء كان أصبعك أو كان قلماً كلها تسمى "منظم القراءة" (وهو الشيء الذي يساعدك في تتبع ما تقرأ) وهذه الأساليب:
1) الحركة الآمنة لليد كمؤشر:وهي تناسب لقراءة المواد الصعبة والمفصلة كالعقود والبحوث.
2) الحركة شبه الآمنة لليد كمؤشر: وهي تناسب لقراءة المواد الأقل صعوبة مثل تقرير العمل غير الرسمي.
3) الحركة اللصيقة لليد: وهي تناسب قراءة المواد السهلة مثل: الجرائد والمجلات والقصص.
كيف تعمل هذه الأساليب؟
(1) الحركة الراسخة أو الآمنة لليد: وتتلخص باستخدام إصبع السبابة كمرشد. تتبّع كل سطر من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، وفي نهاية كل سطر حرك إصبعك إلى أعلى اليسار لمنع تثبيت العين، ثم ابدأ مرة أخرى من اليمين، ومن الضروري المحافظة على إيقاع ثابت لحركة الإصبع، وإذا قابلك ناقص أكمل حتى ينتهي الهامش الذي على يسار السطر، وانتبه من تحريك رأسك يميناً وشمالاً، فقط الحركة للعين لتتابع حركة الإصبع على السطر.
(2) الحركة شبه الراسخة (الآمنة) لليد:
في هذه الطريقة سوف تستخدم منظم قراءتك ليتتبّع الجزء الأوسط فقط من القطعة التي تريد قراءتها.
(3) الحركة السلسة لليد:
في هذه الطريقة ضع سبابتك تحت سطر من سطور الصفحة المقروءة. ابدأ من أقصى اليمين متمه إلى أقصى اليسار، وبينما سبابتك على السطر الذي تقرؤه حرّك السبابة سطراً أو سطرين، بينما أنت تتابع القراءة والحركة، كرّر هذا الأمر، وفي هذه الطريقة يقع بصرك على كامل الجزء المقروء وليس على أجزاء الكلمة، تحتاج هذه الطريقة وقتاً كافياً لممارستها حتى تتقن هذا الأسلوب.
التنوع في حركة اليد:
(1) الحركة المتعرجة (z).
(2) من المنتصف إلى أسفل الصفحة مباشرة.
(3) حركات تحتاج فيها لأصبعين.
(4) من أعلى إلى أسفل بشكل متوازٍٍ.
(5) من أعلى إلى أسفل إلى أعلى على شكل حرف (7).
(6) من أعلى إلى أسفل ثم انقطاع ثم إلى أعلى مرة أخرى.
(7) طريقة الركض وهي مفضلة للأغلبية لقراءة المواد الصعبة.
*أربع نصائح من أجل قراءة أسرع
(1) ادفع نفسك إلى القراءة، ولا تُضِع وقتك في معرفة كل كلمة على حدة.
(2) لا تكن عبداً للمفردات، وابحث عن معنى المفردة لاحقاً.
(3) اقرأ ولا تتكلم، ولا تنطق الكلمات وأنت تقرأ لأن ذلك يُقلل من سرعتك.(/1)
(4) اعزل نفسك عن الضوضاء الخارجية وعوامل التشتيت.
الفصل الرابع
القراءة لأجل الفهم والحفظ
تفيد الدراسات بأن المتفوقين في ميادين العمل المختلفة هم الذين لديهم حصيلة متميزة من مفردات اللغة، ومن الطرق التي تساعدك على بناء المفردات:
(1) اشتر كمبيوتر جيب صغير لاستيعاب الكلمات ومفرداتها.
(2) طور اهتماماتك وتدرب على الاستخدام الأمثل لقواعد اللغة.
*تنمية المجال البصري
عندما تنمي الجانب البصري ستكون قادراً على فهم الرسالة التي يريدها كاتب المقال دون الحاجة لقراءة النص المكتوب.
*قوة الصورة
تتجه الصور إلى العقل تاركة فيه انطباعات ذهنية.
*الإعادة الفورية
هي ما يُعرف بالخريطة الذهنية، والتي من خلالها يسجل الإنسان في ذهنه الكلمات الدالة على المعنى حتى يكوّن لها صوراً ذهنية، وتذكُّر كلمة واحدة سيُطلق الفكرة أو القصة أو المعلومة بكاملها.
*استخدام الإعادة الفورية (الخرائط الذهنية) في الحالات الآتية:
1-تقدّم متحدثاً.
2-تلقي خطاباً.
3-عندما تجري اتصالاً هاتفياً.
4-عدما تذهب للتسوق.
5-تدون الملاحظات في الخطابات والاجتماعات.
*الأسئلة الخمسة
وهي (من، ماذا، متى، أين، لماذا).
عند قراءة نص معين ضع رقم (1) على كل كلمة تجيب على من، و(2) على كل كلمة تجيب على ماذا، وكذلك الأمر في (3) متى، و(4) أين، و(5) لماذا، وعندما تريد مراجعة النص سريعاً انظر فقط إلى الأرقام وستتذكر المعلومات التي تريد معرفتها بشكل سريع.
*مهارات القراءة السريعة
1. الآليات، وتشمل حركات اليد المتنوعة.
2. الرؤية والفهم، وتشمل مفردات الألفاظ والمجال البصري وغيرها.
3. الحِفظ، ويشمل التدرّب والمِران على القراءة السريعة تدريجياً وغيرها.
4. الحالة العاطفية، وتشمل المواقف الإيجابية وتنمية مؤشر القراءة وغيرها.
الفصل الخامس
كل الخطوات مجتمعة
*قراءة علمية –استخدم طريقة القراءة متعدّدة الأوجه:
تستخدم هذه الطريقة لقراءة المادة العلمية لأنها منظمة بشكل منطقي وتعرف هذه الطريقة بـ (sq3r) اختصار:
S=survey –امسح، q=question أسأل
R=read –اقرأ.
R=recite –احفظ.
R= write –اكتب.
R= review –استعرض.
(1) استعرض: تصفح كل شيء من الصفحة الأولى إلى الفهارس، واسأل نفسك، لماذا أقرأ هذا الكتاب؟ وماذا سيضيف لي؟
(2) نظرة عامة على الكتاب: انظر بشكل سريع لمحتويات الكتاب لبرمجة عقلك للتعامل مع هذا الكتاب.
(3) اقرأ من أجل الفهم والاستيعاب.
(4) بعد المعاينة أعد استعراض ما قرأت وحاول زيادة الاستيعاب.
(4) اعمل على تصميم خريطة ذهنية (إعادة فورية) لتذكر النقاط الرئيسة لما قرأت.
هذه الخطوات ستجعلك دوماً في حالة استعداد جيد للقيام بمهامك بكل ثقة.
*قراءة نص غير قصصي، اتبع ما يلي:
(1) استعرض الوثيقة بسرعة، ولاحظ الموضوع الذي توجه المعلومة بشأنه.
(2) تمرّن على زيادة قدرتك على استيعاب ما تقرأ.
(3) ضع علامات على المواد التي تحتاج إلى إعادة قراءة.
(4) ضع ما قرأت على هيئة خرائط ذهنية.
(5) استعرض ما قرأت، وتأكد من احتياجك لاتخاذ قرار ما.
*قراءة نص قصصي، اتّبع ما يلي:
(1) استعرض القصة بشكل سريع.
(2) تكيّف مزاجياً مع القصة.
(3) صمّم هياكل للإعادة الفورية.
(4) استشعر القصة وكأنك تشاهد فلماً.
(5) قسّم ما تقرأ إلى أجزاء أو فصول، وخصّص لكل جزء زمناً محدداً.
الفصل السادس
على مسؤوليتك: الحفاظ على مهاراتك في القراءة السريعة
*طوّر مهاراتك في القراءة:
(1) اقرأ كثيراً، وخصص وقتاً لممارسة مهارات القراءة.
(2) اقرأ من أجل الوصول إلى الأفكار الأساسية لما تقرأ.
(3) طوّر قدرتك على الفهم بقراءة المقالات الصعبة.
(4) خطط وقتاً محدّداً للقراءة، وصمّم على أن تنتهي في الوقت المحدّد.
(5) ركز انتباهك وابتعد عن مصادر التشتيت.
(6) تمرس على تكوين الخرائط الذهنية لما تقرأ، سيزيد هذا من فهمك ومن ثم حفظك.
(7) نوّع حركات اليد أثناء القراءة لتجريب طرق ووسائل أخرى.
(8) كن مرناً ومتحكماً في أن تكون سريعاً أو بطيئاً في القراءة لأجل فهم أفضل.
تذكّر: (أن الشخص الذي لا يقرأ ليس أفضل حالاً من الشخص الذي لا يعرف كيف يقرأ) ويل روجرز.
علّم أصدقاءك القراءة بسرعة باستخدام القواعد التالية:
1. استخدم يدك كمنظم عند تعليم القراءة باستخدام أصبع السبابة ونوّع في حركات اليد المتنوعة.
2. انظر إلى الصورة كاملة بدلاً من أن تستبعد المفردات، ومع التكرار سوف تنمي المجال البصري لديك، ويقل تثبيت العين.
3. بعد مدة زمنية استخدم طريقة الركض في القراءة.
4. ادفع نفسك للتعلم بشكل يومي.
5. لا تتلفظ بالكلمات التي تقرؤها.
6. لا تركز على الكلمات، ولكن ركز على الصفحة بكاملها.
7. اعمل على زيادة قدرتك على الفهم من خلال التركيز العميق. ...(/2)
مهارات القراءة والكتابة والمذاكرة
كيف تكتب بحثا علميا
________________________________________
1 : معنى البحث :
1. تصنيف وتنظيم.
2. تأليف.
3. جمع متفرق.
4. إعداد وتحضير.
5. صناعة.
6. دراسة وتحليل.
7. ابتكار وإبداع وتجديد.
8. تحقيق صحة معلومة مجهولة.
إنَّ كتابة البحث لا تعدَّ هما؛لأنه يمكنك الاستعانة بفكرك وقدراتك المستريحة. يمكنك الاستعانة بالمكتبة الإنترنت. ويمكنك مناقشة موضوع البحث مع المشرف. ويمكنك الاستعانة بذوي الخبرة . ويمكنك الاستفادة من زميلاتك ممن تمرست في كتابة البحث.
2 : موضوع البحث:
يدور موضوع البحث حول قضية من قضايا الثقافة الإسلامية والغة العربية وآدابها في المساق الثالث والرابع ، ويفضل أن يكون حول الآثار الإيجابية للثقافة الإسلامية في حياة الفرد والمجتمع، بحيث يعالج البحث مشكلة واقعية حياتية ، وحول موضوعات التخصص في المساق الخامس.
3- خطوات البحث العلمي:
أولا : تعريف مشكلة البحث: ويكون بتحديد الموضوع( مشكلة البحث )، وطرح الأسئلة ضمن الزمان والمكان والأحداث والأشخاص والعلاقات.
ثانيا: تجميع المعلومات : ( من الكتب والمراجع والمعاجم والمقابلات والاستبانات …) ومعرفة ما يؤثر فيها من عوامل ، أو علاقات تربط بينها وبين غيرها من المتغيرات والأفكار .
ثالثاً: تشكيل الفرضيات: ( الفرض هو تخمين ذكي من صاحب المشكلة يتأثر بنوع الخبرة السابقة بموضوع المشكلة ، ويكون على شكل جملة خبرية تتطلب البحث عن علاقة بين متغيرين ،أو فكرتين ، أو مقولتين ؛ نحو : يؤثر الدوام الطويل للمكتبة على سرعة إنجاز البحث الصفي ) .
رابعا: تحليل المعلومات: (وهي القياسات ) ويكون بالتأكد من صحة الفرضيات باختبارها ومراجعتها وموازنتها .
خامسا : استخلاص النتائج ونشرها ( التوصل إلى الحل ) ويكون بتفسير ومناقشة ما تم التوصل إليه من حلول وكشف العلاقات ( غاية البحث ).
4: مهارات ضرورية في كتابة البحث العلمي وهي
متطلبات هامة للورقة البحثية:
1. تصميم صفحة العنوان.
2. بيانات المقدمة.
3. طرق نقل المعلومات للبحث.
4. اختصار المعلومات( التلخيص).
5. تحديد عناوين البحث الرئيسة والفرعية.
6. استخدام البطاقات لكتابة المعلومات وجمعها من مصادرها.
7. التقسيم إلى فصول.
8. توثيق البحث(الهوامش)
9. إبداء الرأي الشخصي عند النقل.
10. الخاتمة ونتائج البحث.
11. تنظيم صفحة المحتويات.
12. تنظيم مصادر ومراجع البحث.
5- المقدمة وتتضمن العناصر التالية:
1. عنوان البحث.
2. أهمية موضوع البحث وسبب اختياره.
3. الهدف من البحث وأهميته، وسبب الكتابة.
4. أقسام الورقة البحثية ومكوناتها. [عرض فصول البحث أو أقسامه أو أجزائه ] .
5. طريقة معالجة موضوع البحث(المنهج).[الطريقة والإجراءات].
6. الإشارة إلى ما وجدته الباحثة من ملاحظات أثناء قيامها بالبحث.
7. الدراسات السابقة باختصار.
8. الإشارة إلى ما وجدته الباحثة من ملاحظات أثناء قيامها بالبحث .
9. أهم نتيجة توصلت إليها الباحثة.
10. توجيه الشكر لكل من قدم له مساعدة ومنهم المشرف.
6: شروط اختيار النقطة البحثية :
1. توفر المراجع والمصادر حولها.
2. اتصال النقطة البحثية بالتخصص المدروس.
3. مناسبتها للوقت اللازم لإنجازها.
4. وضوح الهدف من النقطة البحثية.
5. توفر المكان الذي تطبق فيه النقطة البحثية.
6. كيف نقوم بإنجاز النقطة البحثية.
7 : توجيهات وملاحظات : إذا كان الورقة البحثية تتضمن تعريفات كثيرة فلابد من :
1. تعريف الكلمات والمصطلحات الواردة خصوصاً تلك المصطلحات التي تتضمن معان كثيرة .
2. استخدمي سؤلاً ليكون الجملة الرئيسة .
3. يجب أن يكون التعريف جامعاً مانعاً غير ناقص ولا مجتزأ.
في حالة وجود نوع من المقارنة في الورقة البحثية فلا بد من الآتي:
1. تقديم مفصل لكلا النقطتين محل المقارنة .
2. فصلي في النقطة الأولى قبل الانتقال إلى المقارنة .
3. استخدمي كلمات مناسبة للمقارنة مثل : مقارنة بـ ، من جهة أخرى، وعلى العكس من ، ومن جانب آخر، وبصورة أخرى ، وعلى النقيض من هذا الرأي ترى الباحثة ، … ) .
في حالة وجود وصف في الورقة البحثية احرصي على الآتي:
1. جملة رئيسة في بداية الفقرة أو في نهايتها .
2. لا تبسطي في الوصف بتقليل المعلومات الضرورية .
3. لا تقدمي حكماً مبكراً .
4. نظمي المعلومات بطريقة سهلة وطبيعية .
5. رأي الباحثة حيث يتم تقديمه بطريقة المقارنة السابقة التي أشرنا إليها.
8 : الخاتمة:
وتتضمن النتائج التي توصلت إليها الباحثة بعد استعراض أشبه ما يكون بما تم تقديمه في المقدمة. وتتضمن العناصر التالية :
1. عنوان البحث وعرض أو ذكر فصول البحث أو أقسامه أو أجزائه .
2. تقديم النتائج التي انتهت إليها الباحثة بشكل متسلسل حسب أسئلة الدراسة ، أو حسب تسلسل فروضها أو حسب ورود القضايا والمحاور الرئيسة في البحث .(/1)
3. تحليل وبيان أسباب تلك النتائج التي توصلت إليها الباحثة وبيان علاقتها بالمتغيرات المختلفة .
4. مقارنة نتيجتها بنتيجة غيرها من الباحثين .
5. وضع مقترحات وتوصيات لإكمال الموضوع أو فروعه أو متعلقاته على يد باحث آخر .
9 : قائمة للتعرف على طريقة الكتابة حيث تساعد في مرحلة المراجعة وقبل الكتابة النهائية:
أولاً: تركيب الجملة:
تنظيم المعلومات المجمعة للبحث ، وتقسيمها إلى أقسام صغيرة مترابطة. ويشترط في الفقرة الخاصة بالتقسيم ما يلي:
تقديم جملة رئيسة تحدد النقطة الأساسية في الفقرة . وتحديد الأقسام .وتعريف كل قسم .ثم ضرب الأمثلة، وأخيرا جملة ختامية تلخص الأقسام السابقة.
ويمكن للتحقق من كتابة البحث طرح التساؤلات التالية:
1. هل الجمل طويلة جداً؟
2. هل الجمل غير واضحة المعنى؟
3. هل الزمن(ماض، أم مضارع) مناسب للكتابة .
4. هل المبتدأ والخبر متناسقان إعراب ياً ( الرفع) .
5. هل الضمائر التي تشير إلى أشخاص أو أحداث واضحة غير مربكة للقارئ ؟
6. هل الصفات مناسبة للموصوفات من حيث العدد والنوع ؟
10 : التنظيم ( على مستوى الفقرة) اداخليا
1. هل الفكرة واضحة، مختصرة، ومباشرة؟
2. هل تحوي كل فقرة فكرة جديدة ؟
3. هل تحوي كل فقرة جملة رئيسة تضبط الفقرة ؟ وما هي ؟
4. هل الفقرة كافية في التفاصيل والأمثلة ؟
5. هل كل جملة في الفقرة ترتبط عضوياً بالجملة الرئيسة ؟
6. هل أدوات الربط مناسبة ؟
7. هل المعلومات المقدمة متناسقة معنوياً ؟
8. هل الخاتمة كافية ؟
9. هل دعمت الآراء المقدمة بالأمثلة والشواهد ؟
11: الأسلوب:
1. هل اللغة والمفردات المستخدمة تناسب المعنى المقصود ؟ ( اللغة معاصرة أم تراثية ، مباشرة أم أدبية، سهلة واضحة )
2. هل استخدمت بعض العبارات أو المصطلحات أكثر من اللازم ؟
3. هل هناك تكرار في بعض الكلمات ؟ ؛ الكاتب يلجأ إلى الاستطراد .وهل يكثر من المترادفات والأضداد .وهل الاستطراد مفيد أم معيب ؟
4. هل يستخدم الكاتب المؤكدات في بداية الجمل ؟
5. أي الجمل أكثر سيطرة أهي الجمل الفعلية أم الاسمية ؟لا
6. هل يلف الغموض الفكرة أم أنها واضحة جلية ؟
7. هل استدل بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية أو المأثورات نثرا أو شعرا ؟.وهل الاقتباسات تتناسب والسياق ؟
8. هل الأسلوب سردي أو حواري أو بطريقة ترقيم الأفكار ؟ وهل هو صعب معقد أو دقيق واضح ، وهل هو تعليمي
12 : الإملاء والترقيم:
1. مراجعة النص للتأكد من خلوه من الأخطاء الإملائية، وخاصة في كتابة الهمزات؛ لكثرة من يخطئ فيها.
2. تأكدي من وجود علامات الترقيم في مكانها الصحيح المعبر عن الوقفات الصحيحة ، ومنها: النقطة، علامات الاستفهام، علامات التعجب، الفاصلة، الفاصلة المنقوطة، الشرطة، علامات التنصيص، علامات التقسيم إلى فروع، الأعداد وتنسيقها .
13 : فهرس البحث( المحتويات )
يوضع في بداية البحث أو في آخره ، ويتضمن توزيع المادة الواردة في البحث حسب ورودها متسلسلة ، حيث يوضع كل عنوان رئيسي أو فرعي ويقابله رقم الصفحات التي ورد فيها . مثال :
فهرس المحتويات
14: صفحة المصادر والمراجع
ترتب صفحة قائمة المصادر والمراجع حسب أسماء المؤلفين ترتيبا ألفبائياً ، وهي كما يلي : أ ب ت ث ج ح خ د ذ ر ز س ش ص ض ط ظ ع غ ف ق ك ل م ن هـ و ي .
ويكون توثيق وترتيب المعلومات إذا كانت من الكتب كما يلي :[ توثيق الكتب]
1-اسم المؤلف 2- اسم الكتاب 3- مكان النشر 4-دار النشر 5- رقم الطبعة 6-سنة النشر
ويكون ترتيب وتوثيق المعلومات إذا كانت من دوريات: [الصحف والمجلات اليومية والأسبوعية والشهرية ] كما يلي :
1-اسم المؤلف 2-(عنوان المقال) ويكون بين قوسين 3-اسم الدورية ويوضع خط تحت الاسم 4- مكان النشر 5- رقم والعدد المجلد 6-تاريخ نشر العدد
ويُفصل بين كل معلومة وأخرى بفاصلة ، ويوضع خط تحت اسم الكتاب عندما يكون مرجعا ، ويوضع خط تحت اسم الدورية إذا كانت مرجعا ، وتنتهي المعلومات بالنقطة.
مثال على الكتاب :
1. عبد الله بن مسلم ، أدب الكاتب ، دار صادر ، ط ( 1 ) ، بيروت ، 1962 م .
2. فضل عباس ، إعجاز القرآن الكريم ، دار الفرقان ،ط (1 ) ، عمان ، 1991م .
3. مصطفى صادق الرافعي ، تاريخ آداب العرب، دار الكتاب العربي ، ط ( 2 ) ،بيروت ، 1394هـ / 1974م .
مثال على الدوريات :
1. أحمد أمين ، جمع اللغة العربية ، مجلة مجمع اللغة العربية ، مجمع اللغة العربية ، ج 8 ، القاهرة ، 1934م .
2. أحمد عمر مختار ،ظاهرة الترادف بين القدماء والمحدثين ، المجلة العربية للعلوم الإنسانية ، جامعة الكويت ، ع 6 ،مجلد 2 ، 1982 م .
3. صالح العلمي ، مفردات اللغة العربية ، مجلة المجمع العلمي العراقي ، المجمع العلمي العراقي ، مجلد 41 ، بغداد ، 1410هـ / 1982م .
15 : طرق جمع المادة العلمية
النقل الحرفي:
ويوضع النص المنقول بين علامتي تنصيص “ “، ويشار بعلامة أو بمعلومة في الحاشية ( الهامش ) إلى المصدر الذي أخذ عنه .(/2)
النقل بالمعنى:
ويوضع النص من غير علامتي تنصيص، ويشار بعلامة أو بمعلومة في الحاشية ( الهامش )إلى المصدر الذي أخذ عنه.
16 : التوثيق:
ماذا يعني توثيق البحث ؟
1. هو استخدام الأدلة العلمية ( العقلية والنقلية) من مصادرها لزيادة قوة الفكرة المعروضة والبرهان عليها.
2. ويتم توثيق المعلومة بالإشارة إلى مصدرها في النص أو في الهامش.
3. لأمانة العلمية والصدق.
ما خطوات التوثيق في الكتابة Word:؟
1.وضع القلم ( الماوس ) في نهاية النص المنقول.
2.الذهاب قائمة إلى Insert.
3.اختيار Footnote من قائمة Insert .
4.اختيار Option عند أول توثيق فقط. واختيارAutoNumber
5.اختيار طريقةContiu في الترقيم، ثم الموافقة Ok.
6.تغيير اتجاه التوثيق من الشمال إلى اليمين.
7.البدء بالكتابة باسم المؤلف فاسم الكتاب فرقم الصفحة.
17: طريقة إعادة ترتيب البطاقات البحثية:
1. تجمع المعلومات من مصادرها كما هي في النص الأصلي ، دون تلخيص أو إعادة صياغة أو عصرنة أسلوب .
2. يمكن أن يكتب أكثر من بطاقة في موضوع واحد ، وهذا أفضل .
3. تثبت على البطاقة المعلومات التوثيقية : اسم المؤلف ، اسم الكتاب ، الجزء ، الصفحة ، دار النشر ، ومكان النشر ، وسنة النشر ، ورقم الطبعة .
4. تكتب البطاقات وتختار معلوماتها بناء على صلتها بالموضوع ومحاوره وفرضياته ومحدداته .
5. تصنف البطاقات بناء على صلة كل بطاقة بمحور( أو فصل ) من محاور البحث .
6. تعزل البطاقات غير المناسبة أو التي يظن أنها لا تتصل بالموضوع صلة قوية ، أو إذا أدخلت لا تخدم الموضوع ، وتكون معلوماتها حشوا .
7. بعد تريتب البطاقات بناء على محاور البحث تقرأ ثانية كي تفهم ، ويكون للطالبة شخصية في بحثها.
18: كيف يمكن أن تبرز شخصية الباحث؟
1. إعادة صياغة أو عصرنة أسلوب ما .
2. المقارنة والمفارقة بين المعلومات المتناقضة أو المتشابه
3. إضافة تفصيلات لمعلومات مختصرة موجزة .
4. نقض أدلة وبراهين بأدلة وبراهين أقوى، تقوية الأدلة الواردة بأدلة وبراهين أخرى.
5. إظهار الموافقة أو المخالفة مع بيان سبب مقبول مؤيد بالدليل.
6. اختصار وتلخيص ما تم كتابته في البطاقة.
7. تحليل المقروء وإيراد الأدلة والبراهين التي تدعم وجهة نظر الطالبة.
8. لا بد من أن تأخذي حريتك المسؤولة في التعبير.
9. تفرغ المعلومات وتكتب المعلومات والآراء والتعليقات على مسودة البحث .
10. تقدم مسودة البحث للمدرس المشرف على البحث ؛ كي يقوم بمراجعتها وتقديم الملاحظات العلمية.
19 :نماذج جمع المعلومات على البطاقات :
1) بطاقة جمع المعلومات عن كتاب :
2) بطاقة جمع المعلومات عن الدوريات :مجلات وصحف .
3) نموذج لبطاقة بحثية للمحاضرات والقصص الإخبارية .
20 : تصميم صفحة عنوان البحث
تعد صفحة العنوان مهمة لما لها من أثر واضح في لفت نظر القارئ وجذبه للاطلاع على موضوع البحث ، وجدير بالطالبة أن تهتم به اهتمامها ببقية عناصر البحث إن لم يكن أكثر ، ومن تقسيمات صفحة العنوان أن نطبق النقاط التالية في هذه الصفحة المهمة وهي :
1. يوضع اسم الجامعة ثم اسم الوحدة أو القسم على الجانب العلوي الأيمن من الورقة .
2. يوضع العنوان الرئيسي في نهاية الثلث الأول من الورقة ، أعلى قليلا من المنتصف ، ويكون بخط واضح ومميز عن غيره من الأسماء المكتوبة الخط وبنط ( حجم ) كبير نسبيا .
3. يوضع العنوان الفرعي تحت العنوان الرئيسي مباشرة ، ويكون أصغر منه حجما .
4. يوضع العنوان الجانبي تحت العنوان الفرعي مباشرة ، ويفضل أن يكون كذلك بخط وحجم أصغر قليلا من الخط الذي فوقه .
5. يوضع بعد العنوان مباشرة بمسافتين اسم المدرس المشرف على البحث .
6. يوضع اسم الطالبة معدة البحث ثم يتلوه مباشرة رقمها الجامعي بعد مسافة واحدة من اسم المشرف .
7. يوضع الفصل الدراسي وتاريخه الهجري ثم الميلادي في منتصف القسم الأخير من الورقة .
21 - نموذج إعداد صفحة العنوان .
إعداد: د. خالد خميس فرّاج
كيف تبدو ذو قيمة أكبر على الورق
________________________________________
ما هي السيرة الذاتية ؟
• ... هي بطاقة تعريف للفرد.
• ... هي المفتاح للوصول للمقابلة الشخصية.
• ... هي بمثابة النداء الذي يقول لصاحب العمل (قم بتعييني! وليس إدراجي بين الملفات).
• ... هي الأداة الأساسية التي تستخدمها لترويج نفسك لجذب انتباه صاحب العمل.
مواصفات السيرة الذاتية:
1. ... يجب أن تكون سيرتك الذاتية لها تأثير قوي وإيجابية.
2. ... الصدق في المعلومات الواردة في السيرة الذاتية.
3. ... تنظيم وترتيب الأفكار.
4. ... استخدم العناوين.
5. ... التنسيق الزمني للسيرة الذاتية.
6. ... الوضوح التام لا تترك مجالا لخيالات القارئ ولا تفترض به أنه يعرف ما تعتبره بديهيا. مثال: اختصار CS والذي تعني به .(Computer Science)
7. ... تجنب الأخطاء الإملائية والقواعدية، لأن مقدار إتقانك للغة يعكس مدى ثقافتك.(/3)
8. ... استخدم ورقا جيدا أبيض اللون وابتعد عن الألوان، وحجم الورق يكون .A4
9. ... لا تضع صورتك الشخصية على السيرة الذاتية.
10. ... النظافة.
تقسيم السيرة الذاتية (يوجد مثال عملي بالأسفل):
1. ... المعلومات الشخصية: الاسم، تاريخ الميلاد، الجنسية، الحالة الاجتماعية، العنوان، أرقام الهواتف، البريد الالكتروني، عنوان صفحة الويب الشخصية.
2. ... المؤهلات الأكاديمية: التاريخ، اسم المؤهل والتقدير إذا كان عالي، المؤسسة التعليمية، المكان.
3. ... الخبرة الوظيفية: الفترة التي بدأت فيها العمل، الوظيفة، المهام الوظيفية. كما وتشمل الخبرة الوظيفية الوظائف التي تحتاج تفرغ كامل أو التي لا تتطلب تفرغ كامل والتدريب العملي والصيفي.
4. ... الدورات التدريبية: الفترة، اسم الدورة، المكان المنظم للدورات.
5. ... الأنشطة: الفترة، اسم النشاط، المكان الذي أقيم فيه النشاط.
6. ... المهارات.
7. ... الهوايات.
8. ... المعرفون: الاسم، المسمى الوظيفي، العنوان وأرقام الهواتف.
كما ويمكن إضافة اللغات والجوائز التي حصلت عليها
تذكر:
• ... إن قضاء المزيد من الوقت في إنشاء سيرتك الذاتية هو استثمار رائع في مستقبلك.
• ... اطلب على الأقل من شخصين آخرين أن يقوما بمراجعة سيرتك الذاتية بعد طباعتها.
• ... إذا كنت ترد على إعلان يحتوي على رقم مرجعي فتأكد من كتابتك لهذا الرقم على الظرف.
• ... تجنب لف السيرة الذاتية أو تدبيسها.
• ... تأكد من أنك قد حصلت مقدما على تصريح من أي شخص تنوي كتابته كشخص يمكن الرجوع إليه سواء كانت علاقتك به مهنية أو شخصية.
• ... من أكثر الأمور التي يشكو منها متخصصوا الموارد البشرية هو أن الكثير من الأشخاص يتقدمون لوظائف غير مؤهلين لها قبل أن تسلم سيرتك الذاتية لصاحب العمل المحتمل أقرا مواصفات الوظيفة بدقة لكي تتأكد أن لديك المهارات والخبرة والتعليم الذي يبحث عنها صاحب العمل.
________________________________________
نموذج لسيرة ذاتية:
المعلومات الشخصية:
الاسم: مريم محمد الشامسي
الجنسية: إمارات
الحالة الاجتماعية: عزباء
مكان وتاريخ الولادة: العين-11/8/1980
العنوان البريدي: ص.ب2323- العين- دولة الإمارات العربية المتحدة
رقم الهاتف: منزل-0000000/03 ، متحرك-0000000/050
البريد الإلكترونيmm00@hotmail.com:
المؤهلات العلمية:
• سبتمبر 1998- فبراير 2003 بكالوريوس في إدارة الأعمال
إدارة – تقدير امتياز
كلية الإدارة والاقتصاد
جامعة الإمارات العربية المتحدة.
• سبتمبر1995- يونيو 1998 شهادة الثانوية العامة – فرع أدبي
مدرسة الزايدية الثانوية
العين، دولة الإمارات العربية المتحدة
الخبرات الوظيفية:
• سبتمبر2002- ديسمبر2002 العمل بنظام الساعات في وحدة التدريب
والتأهيل الوظيفي الطلابي
كلية الإدارة والاقتصاد – جامعة الإمارات.
المهام الوظيفية :
1- التسجيل والإعلان عن أنشطة الوحدة.
2- القيام بتوزيع شهادات ورشة العمل.
3- المتابعة والتنظيم لورش العمل .
4- إعداد التقارير .
• يناير2002- فبراير 2002 التدريب العملي .
مركز التدريب والتأهيل الموظفين
منطقة العين التعليمية .
الدورات:
• 16،10/3/2003 دورة الكتابة الوظيفية، ملتقى أسرة الجامعة، جامعة الإمارات.
• 6،5،4/5/2002 دورة كيف تفجرين طاقات الكامنة، جامعة الإمارات العربية المتحدة.
• 22،21/4/2002 دورة ابدىء وعينك على المستقبل، جامعة الإمارات العربية المتحدة.
الأنشطة :
1 /2001 المشاركة في تنظيم مؤتمر الكيمياء، منطقة العين التعليمية .
2000/2001 عضوه في جمعية الإدارة والاقتصاد، جامعة الإمارات العربية المتحدة.
المهارات:
• مهارات الاتصال .
• مهارات القيادة .
• مهارات التفكير الإبداعي .
• مهارات استخدام الحاسب الآلي MS: Word- Excel- Power point - Internet Explorer
الهوايات:
القراءة – الرسم والتصميم – المشاركة في الأنشطة .
المعرفون:
الدكتور: حسن محمد
قسم إدارة الأعمال، كلية الإدارة والاقتصاد،
جامعة الإمارات العربية المتحدة.
متحرك:0000000/050
البريد الإلكتروني:
________________________________________
الخطاب المرفق Cover Letter
الهدف من الخطاب:
1. ... تقديم نفسك.
2. ... التشجيع على قراءة السيرة الذاتية.
خصائص الخطاب:
• ... قصير نسبيا ومتصل بالموضوع.
• ... وجهه لأشخاص محددين.
• ... استخدم نفس الخط ونفس الحجم الذي استخدمته للسيرة الذاتية.
• ... أن لا يتجاوز صفحة واحدة.
• ... أن لا يزيد عن ثلاث فقرات.
________________________________________
رسالة طلب وظيفة
السيد/ خميس الشامسي المحترم
مدير إدارة الموارد البشرية
جامعة الإمارات العربية المتحدة
تحيه طيبه وبعد،
لقد لفت نظري الإعلان الخاص بكم وأنا اعتقد أن لدي المهارات والخبرات الضرورية لشغل وظيفة فني كمبيوتر والذي أعلنت في جريدة الاتحاد بتاريخ 15/1/2003 .(/4)
أفيدكم علما بأنني خريج جامعة الإمارات العربية المتحدة تخصص حاسب آلي لعام 2002. وقد تدربت في شركة العين للتوزيع في الفترة من 4/1/2001 إلى 6/2/2001.
أكون شاكرا لكم لو أتحتم لي فرصة للمقابلة الشخصية في الوقت الذي ترونه مناسبا وأرجو الرد منكم في أقرب وقت ممكن على العنوان التالي : العين ص.ب. 155 – رقم الهاتف : 03/7810212 الجوال :050/
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
الاسم :
التوقيع :
*** مرفق السيرة الذاتية وجميع الأوراق الثبوتية .
إعداد: خاطرة
القراءة السريعة
________________________________________
القرين الهام لتطوير الذات
- ما معادلة حساب سرعة القراءة ؟
- كيف تصبح قارئً سريعا بلا منافس ؟
- ما أكبر خطأ يقع فيه بطيئي القراءة ؟
- كيف ترى الكلمات رموزاً ملونةً وجميلة ؟
في زمن أصبحت فيه القراءة السريعة ضرورة لملاحقة ما تقذف به ثورة المعلومات ومناهج التعليم، ارتأيت مشاركة القراء الكرام بعض الطرق التي من شأنها أن تعين على زيادة سرعة القراءة.
كيف تصبح قارئ سريعا؟
بالتدريب وحده تصبح قارئا سريعا. تذكر أن الناس لم يولدوا مع "موهبة القراءة السريعة" وبالعودة قليلا إلى أيام الدراسة الابتدائية يوقن المرء صدق ذلك القول. فلا يمكن للعداء الرياضي أو لاعب الكرة الحصول على اللياقة البدنية العالية إلا بالتدريب. فالنرى كيف يمكن أن ندرب أنفسنا على ذلك.
تمرين القراءة السريعة
إن أتباع التمرين الآتي والملاحظات التالية له سيساعد في زيادة سرعة قراءتك إن شاء الله. أحضر ساعة منبه وورق ملاحظات وقلم رصاص، وكتابا أو مقالا تود قراءته. يفضل أن تكون المادة المقروءة ممتعة وسهلة للقارئ.
قياس سرعة القراءة
قبل قياس سرعة القراءة يجب تحديد وقت القراءة بالدقائق والالتزام بالتوقف فور انتهائه، مثال إذا انتهت الفترة المحددة (عشرة دقائق مثل) توقف عن القراءة فوراً. يفضل استخدام منبه صوتي لمعرفة موعد الانتهاء تجنبا لربكة النظر المتكرر للساعة.
معادلة سرعة القراءة
بالمعادلة الآتية يستطيع الفرد تحديد سرعة قراءته ومن ثمة العمل على زيادتها بأتباع خطوات التمرين:
سرعة القراءة (أو عدد الكلمات في الدقيقة الواحدة) = (عدد الكلمات في السطر الواحد) ضرب (عدد الأسطر في الصفحة) ضرب (عدد الصفحات المقروءة) مقسومة على (الوقت المستغرق في القراءة).
إن المعدل الطبيعي لسرعة القراءة، للذين تعتبر المادة المقروءة لغتهم الأصلية، هو 200 إلى 300 كلمة في الدقيقة. فإذا كنت أقل قليلا من المعدل فأنت ضمن حدود المعدل. أما إذا اجتزت السرعة أعلاه فأنت أعلى من المعدل الطبيعي وبإمكانك مضاعفة القراءة بالتمرين المستمر. وأعلم بأنك قد تكون "أسرع قارئ" ليس فقط في بيتك أو منطقتك وإنما في البلد الذي تعيش فيه، بالتدريب المستمر، فسرعة القراءة ليس لها حدود.
التصفح السريع Skimming: يعتبر التصفح السريع قبل الدخول للجزء المقرر قراءته أحد أهم الطرق لأخذ فكرة مختصرة عن الموضوع. وذلك يكون بقراءة العناوين الرئيسية والفرعية بالإضافة إلى تمرير العين سريعا على الأسطر أو بدايات ونهايات الفقرات ومحاولة قراءة الأمثلة التي عادة ما توجد في وسط الفقرات لفهم فكرة الفقرة. ذلك من شأنه أن يساهم في جعل القارئ أكثر راحة وسرعة عند البدء بالقراءة لكونه ألف الموضوع. الآن أبدء بالقراءة مع تشغيل المنبه وتوقف عند الوقت الذي حددته لقياس السرعة.
حركة العين: في الخطوة التالية ضاعف سرعتك من خلال النظر إلى السطر على أنه (مجموعة) من الكلمات محاولا فهم معناها. مثال أنظر إلى السطر الواحد على أنه مقسم إلى 3 أو 4 مجموعات من الكلمات المتلاصقة، ومن خلال النظر السريع إليها (أي المجموعات) حاول فهم معناها. احذر توقف العين طويلا على الكلمة وهو ما يسمى بالمعاينة أو (Fixation) فهو أمر يجب التخلص منه. لقد أثبتت دراسات كثيرة أن العين غير المدربة تتوقف بمعدل ستة إلى ثمانية مرات على السطر الواحد وهو بلا شك تأخير للقارئ.
أما الرجوع المتكرر للتأكد من كلمة معينة (Regression)، والذي يكون بسبب عدم تأكد القارئ من كلمة معينة أو إحساسه بأنه قد فاته شيء مهم فيمكن التغلب عليه بتذكر أن ما قد فاته لا يخرج عن احتمالين وهما (معلومة مهمة أو أخرى غير مهمة) فان كانت مهمة فسيعيدها الكاتب بالتأكيد وإن كانت غير ذلك فلم يفت القارئ شيئا يذكر. فأنت عندما تشاهد فيلما في السينما ويفوتك شيء مهم يستحيل أن تطلب من المختصين إعادة اللقطة! ولكنك تواصل على أمل أن يأتي باقي الفيلم بما تريد معرفته. الآن واصل القراءة من حيث انتهيت بالمدة (نفسها) التي حددتها لنفسك مسبقا، وليس نتيجة المعادلة. اطلب من زميلك أو قريبك متابعة طريقة انتقال عينيك السريعة على السطر.(/5)
تجنب لفظ الكلمات: وهي لفظ الكلمات "ذهنيا" أثناء القراءة. وتعد هذه العادة أسوء عادات بطيئو القراءة وغالبيتهم يمارسونها ولكن بدرجات متفاوتة. إن ملازمة هذه العادة من شأنه أن يزيد الأمر سوءً، ولكن اللجوء إليها في بعض الأحياء لقراءة بعض الكلمات الصعبة أمرٌ لا بأس به. أما طريقة لفظ الكلمات "شفاهة" بتحريك الشفاه فهي أسوء مراحل هذه العادة. وربما يكون السبب في ذلك هو أن بداية تعلم الكلمات في المراحل الدراسية الأولى كان بنطقها بصوت عال بتشجيع من المدرسين وتصحب هذه العادة الكثير من الناس حتى سن متأخرة من العمر. مثال ذلك، عندما يقرأ طالبا في الثانوية أو الجامعة درساً للفصل فأنه يقرأه بصوتٍ عالٍ مما يزيد من تعزيز هذه العادة السلبية لدى الأشخاص. وفي كلا الحالتين تعد هذه العادة عائقاً أساسياً يحول دون الإسراع في القراءة. وللتغلب على هذه العادة ولمضاعفة سرعة القراءة يجب النظر إلى الكلمات على أنها رموز بديهية تفهم بالنظر وليس بالقراءة (ذهنية كانت أم شفهية). مثال عند النظر إلى القمر، الشمس، السيارة، المنزل، أو حتى وجوه أفراد أسرتك لا تحتاج إلى أن تنطقها، الأمر الذي يختلف عند البعض أثناء القراءة وذلك يفسر بأن الممارسة هي من جاءت بهذه العادة السلبية، ويمكننا التغلب عليها من خلال ممارسة عادة النظر إلى الكلمات دون النطق بها. تخيل وأنت تقرأ أنك تنظر إلى فيلما أو مسلسلا تلفزيونيا لا تحتاج إلى تحريك الشفاه أو اللفظ الذهني للمشاهد (الكلمات في حالة القراءة). وبعبارة أخرى حول الكلمات إلى صور أثناء المرور السريع عليها. تقول كاثرن ردواي في كتابها كيف تصبح قارئ سريعا "عندما تجتمع القراءة والتصور أو التخيل Visualization تصبحان السرعة والإدراك أعلى". وتضيف المؤلفة بخصوص التدرب على زيادة الإدراك أنه عندما ترى كلمة منزل تخيلها في عقلك منزلا، فمع مرور الوقت وإتقانك التخيل الجيد سوف تصبح الكلمات مصورة و ملونة." الآن واصل القراءة بالمدة المحددة سلفا مع تطبيق جميع ما قرأت.
هذه بعض النقاط العامة لرفع مستوى التركيز والسرعة وجعل القراءة أكثر متعة وفائدة:
استخدام جميع الحواس: كلما استخدم القارئ أكبر عدد ممكن من حواسه كلما زادت نسبة التركيز لديه. وتعتبر العين أهم حاسة لكونها الناقل الأول للحروف المكتوبة. ويعتبر المرور السريع أحد أفضل طرق القراءة وذلك من خلال تمرير العين على الأسطر بسرعة معقولة لمحاولة فهم ما هو مكتوب في السطر من خلال "اللمحة السريعة". يفضل أن يصاحب هذا المرور عدم تحريك الرأس بشكل أفقي أثناء القراءة لأنها طريقة متعبة. فلو افترضنا أن في الصفحة الواحدة ما يقارب ثلاثون سطراً لكتاب عدد صفحاته 500 صفحة فان رأس القارئ سيتحرك 15 ألف مرة! وشخصيا أراها كافية لأن تجرك إلى نوم عميق! إذاً فالحل هو أن يكون الرأس مستقرا (لا يتحرك) ناظراً إلى منتصف الصفحة ومن ثمة النزول به عمودياً إلى أسفل الصفحة مع الحركة الأفقية المعقولة للعين لقراءة الأسطر كما ذكرنا.
فترات الراحة: القراء يختلفون فيما بينهم في مدة التركيز، فهناك من يستطيع التركيز لمدة 15-30 دقيقة أو ساعة كاملة. لذا فيجب على القارئ أخذ قسطا كافيا من الراحة قبل معاودة القراءة. وبشكل عام فإن دراسات أخيرة أثبتت أن الإنسان الطبيعي تستمر فترة التركيز لديه لمدة ساعة ونصف إلى ساعتين.
تطوير الذاكرة والاستدعاء: لقد أثبت علماء النفس أن الاحتفاظ في المعلومات يقل بمرور الوقت، خصوصاً إذا لم تستخدم المعلومات أو تراجع. لذا فيجب أن يراجع الشخص المعلومات بين فترة وأخرى أو يحاول استخدامها. على سبيل المثال، يمكن للقارئ مناقشة الكتاب أو المقال مع صديق له لتثبيت المعلومات.
إن التدريب (اليومي) على القراءة السريعة بتطبيق ما سلف يحقق نتائج مذهلة. وأود التوضيح بأن بداية التطبيق العملي قد تكون مملة للبعض ولكنها سرعان ما ستشعرك بمتعة لم تألفها من قبل عندما تبدأ بالتهام الصفحات تلو الأخرى دون أن تشعر!
تأليف: محمد النغيمش
عائلات شرهة!
________________________________________
أسرة تتفرق ويقع الطلاق بين الزوجين بسبب المال، شاب يدخل السجن بسبب الديون المتراكمة التي لم يستطع أداءها، عائلة تهبط من قمة الرخاء المعيشي إلى الفقر والعوز بسبب الديون أو مغامرة مالية خاسرة، والسؤال هنا، لماذا نرى الكثير من المشاكل التي يتسبب بها المال؟ الأسباب كثيرة وسأفصل ثلاث نقاط أساسية، يعاني منها مجتمعنا بشكل واضح.(/6)
المال أساس الحياة، وبغيره لا نستطيع أن نعيش، والمال وسيلة لا غنى عنها، ويصبح طامة وكارثة إن جعلناه هدفاً وغاية في الحياة، ولذلك نجد أن الناس يسعون سعياً محموماً لجمعه واستغلاله، وتجد أن البعض يريد أن يصل إلى مستوى مالي معين، وبعد أن يحقق هدفه هذا، لا يشعر بالسعادة أبداً، لأنه يرى أن هناك من هو أعلى منه في المستوى المالي، وينسى أنه في حال خير من حال الكثير من البشر، فتجده إذا ما اشترى سيارة فخمة جديدة، لا يسعد بها إذ يريد سيارة أفخم وأغلى، لماذا لا يفرح بها ويسر؟ لأنه جعل المال هدفاً لا وسيلة ولن يجد السعادة أبداً من جعل المال غايته.
والبعض قد يضيع أسرته وأطفاله بسبب المال، فيسافر من الشرق إلى الغرب ويعود للمنزل لبضعة أيام فقط، لا لكي يجلس مع زوجته وأطفاله إنما لكي يراجع حساباته ويبحث عن صفقات أخرى، أو فرصة للحصول على المال في تلك الدولة أو تلك، ثم لا يجد هؤلاء الأطفال أباً يربيهم، إنما الفضائيات والأصدقاء من حولهم، والأم بين هذا الأب وتلك الفضائيات والبيئة المحيطة بهم قد لا تستطيع أن تسيطر عليهم وعلى ما يتلقونه من مفاهيم، فيضيع الأطفال وينحرفون، والسبب هو المال الذي أتعب الأب نفسه من أجل جمعه لأطفاله.
السبب الثاني هو ما نراه من حب المظاهر لدى الكثير من شبابنا، يشتري الشاب سيارة غالية تخطف معظم راتبه ثم لا يبقى شيء لوقود سيارته أو حتى للضروريات التي لا غنى عنها، وبعضهم لا يستطيع أن يدفع الديون المتراكمة عليه والفوائد الربوية التي قد تصبح أكبر من المال نفسه، فيزج به إلى السجن، فلا هو يستطيع العمل ليسد ما عليه من الديون، ولا السجن يحل المشكلة، لماذا لا يشتري سيارة صغيرة توفر عليه مبالغ مالية يستفيد بها في ضروريات أخرى؟
والبعض يرى أنه من العيب أن يناقش البائع على السعر، فهو يضع يده مباشرة في جيبه ويخرج المبلغ المطلوب ويرى ذلك رجولة وشهامة، والبعض لا يتعب نفسه في البحث بين البدائل للسلعة التي يريد شرائها، فقد يشتري الغالي، وبينما يوجد ما هو أرخص وأفضل مما اشتراه، ومن الناس من يأبى إلا أن يشتري أغلى الساعات، وأغلى الأحذية، ويخيط ثيابه بأرقى أنواع الأقمشة، مع أنه يستطيع أن يستغني عن كل هذا بشراء ما هو دون هذا ويكون في نفس الوقت ذو مظهر مقبول.
وحب المظاهر هذا يؤدي بالإنسان إلى أن يبحث عن أفخم السلع وأغلاها من أجل الزينة والمظهر الخارجي فقط، وبالتالي فإن ماله يذهب بلا فائدة في أمور كثيرة ليست من الضروريات أو الحاجات، بل هي من الكماليات التي نستطيع أن نستغني عنها، وهنا تلعب نظرة الناس للآخرين دورها البارز، فالإنسان قيمته بسيارته ونعاله وثوبه، وبالتالي لا يرضى البعض إلا أن يظهر بأحلى مظهر أمام الناس حتى لا ينظرون له بعين نقص.
السبب الثالث هو نقص الوعي في كيفية استغلال المال بأفضل الطرق، فنجد أن العائلة تنفق أموالها في جوانب عدة، بدون أي تخطيط أو تحديد للأولويات، فيبرز النقص في جوانب أخرى مهمة أيضاً، فتستدين أو تحاول أن تقلل من المصاريف في بعض المجالات حتى تسد هذا النقص.
في هذه الحالة هناك حل بسيط، وهو التخطيط! نعم أعلم أن البعض ربما يرفض التخطيط جملة وتفصيلاً، بسبب النظر القاصرة وقلت الوعي بأهمية التخطيط، ولكن لا يمكن لأحد أن يجادل في فائدة التخطيط في كل مجال، لذلك يجب أن نخطط كيفية صرف أموالنا ونضع احتياجاتنا المستقبلية، حتى نوفر بعض المال لشراء هذه الاحتياجات.
قبل التخطيط، تحتاج العائلة أو يحتاج الفرد منا إلى تحليل الوضع المالي الحالي، فيرصدون الإيرادات ويضبطون المصروفات، فنضع جدولين، الأول لضبط الإيرادات، نكتب فيه الإيراد الذي سنحصل عليه خلال أربعة أشهر مثلاً، سواء كراتب أو مكافئات أو تجارة أو أي إيراد آخر، والجدول الثاني لضبط المصروفات، فنضع لكل شهر جدول، ندون فيه المصروفات اليومية التي نحتاجها، وبهذا نعرف كم من الأموال لدينا وكم صرفنا من هذه الأموال وفي ماذا صرفناها.
بعد عدة أشهر من رصد المصروفات والإيرادات سنكون نظرة واعية حول الموارد المالية للعائلة أو للفرد، وسنعرف في ماذا صرفنا هذه الأموال، وهل هذا الصرف كان صحيحاً أم أن هناك أولويات أخرى أهم؟ وسنعرف كيف نقلص من مصروفاتنا الغير ضرورية ونخصص جزء من المال من أجل التوفير، وبدون هذا التخطيط لن نستطيع أبداً أن نعرف كيف يطير الدرهم من أيدينا إلى جيوب التجار في غمضة عين!
ختاماً دعوني أذكر لكم هذه الإحصائيات، حيث تبين في إحصائية أن دولة من دول الخليج تنفق الأسرة فيها 43% في الوجبات السريعة والترفيه، ودول الخليج متشابهة من الناحية اجتماعية، لذلك أعتقد أن الوضع هنا يشابه هذه الدولة، أما العائلة اليابانية تنفق أغلب أموالها في التعليم والتدريب والتطوير، فهل نصبح كاليابانيين؟ أتمنى!
تأليف: عبدالله المهيري(/7)
لطالما كتبت وكتب غيري عن القراءة وأهميتها وفوائدها، لكن أرى أن كتاباتنا السابقة لم تتعمق كثيراً في أهمية القراءة، فهناك مفاهيم أعمق مما كنا نطرحه يجب أن نتناولها، وهناك مفاهيم يجب أن تصحح، هذا ما أراه حسب وجهة نظري، والقراءة والكتاب والثقافة والتقدم والتطور أمور متلازمة ومفاهيم مترابطة، لذلك علينا أن لا نمل من التطرق لمثل هذه المواضيع بحجة التكرار، وعلينا أن لا نمل من طرحها لأننا نعاني من ظاهرة شح القراءة في مختلف شرائح المجتمع، وتكفي هذه الإحصائية التي قرأتها في جريدة محلية للدلالة على مدى معاناة الكتاب معنا كعرب، إذ قرأت في الإحصائية أن متوسط ساعات القراءة في إحدى الدول الأوروبية يصل إلى 200 ساعة سنوياً، بينما تنخفض هذه الساعات وتتقلص و"تنبطح" إلى 6 دقائق فقط سنوياً للفرد العربي! والعهدة على الصحيفة.
عندما كنا نسأل عن هواياتنا، كنا نجيب بعدت إجابات ومن ضمنها القراءة، ولا أدري هل فعلاً نحن نقرأ بشكل مستمر وجاد حتى ندرج القراءة ضمن قائمة لا منتهية من الهوايات؟ أم أن قراءة الجرائد وملاحقها الرياضية والفنية وقراءة مجلات "الهشك بشك" نعتبرها قراءة؟ ثم هل القراءة تعتبر هواية؟
دعوني أتفلسف قليلاً وأقول؛ هل نذكر التنفس ضمن قائمة هواياتنا؟! سؤال غريب، أدرك ذلك تماماً! ماذا لو سمعنا أحدهم يقول: هوايتي المفضلة هي الأكل؟! سنضحك ونأخذ منه هذه الكلمات على أنها نكتة طريفة يريد بها أن يؤنسنا في هذا الزمان النكد أو حقيقة طريفة خصوصاً إن كان من أصحاب الأجسام الممتلئة!، بالتأكيد ستستغربون هذه الفلسفة، لماذا؟ لأن هذه الأمور عادات أو أفعال ضرورية طبيعية لكل إنسان ولكل كائن آخر، وكذلك أرى القراءة، أرى أنها أمر ضروري لكل إنسان تماماً كالتنفس والأكل لا غنى عنها، بل والقراءة أمر يتميز به الإنسان عن باقي المخلوقات ولذلك أرى أن القراءة ليست هواية أبداً.
من الأمور الأخرى التي يجب أن نتعمق في طرحها، هي مسألة غرس حب المعرفة في نفوسنا وفي أبنائنا، حب المعرفة والاستطلاع والفضول العلمي والبحث والاستقراء والاستنتاج، هذه العادات المفيدة يجب غرسها في المجتمع وإحلالها محل عادات أخرى سلبية، ولأن القراءة إحدى وسائل المعرفة والعلم، فمن الطبيعي أن نرى المجتمع يقبل على القراءة ما دام أن حب المعرفة قد غرس فيه، لكن إن وضعنا المعرفة في مرتبة بعد الغناء والحفلات والمظاهر والأسواق و"المغازل" .... الخ، إن وضعناها بعد كل هذا فمعنى ذلك أننا ألغينا حب المعرفة تماماً من حياتنا وصارت حياتنا سلسلة من الأمور التافهة والنتيجة النهائية تساوي إنسان تافه.
الأمر طبعاً ليس بهذه السهولة، أعني غرس حب المعرفة، لأن تراكم العادات السلبية على مر السنين يحتاج إلى سنين طويلة لتغييرها، وكذلك غرس العادات الإيجابية يحتاج إلى مجهود منظم ومخطط يسير وفق أهداف محددة، وهذا ما نفتقده في الكثير من الجهود التي تهدف إلى غرس قيم إيجابية في المجتمع.
ولو نظرنا بنظرة شمولية لواقع وأسلوب الحياة عند أهم فئة من المجتمع وهي الشباب، سنرى مظاهر عديدة سلبية وإيجابية، الإيجابي منها هي وجود القدرة لدى الشباب في التغيير الوضع إلى الأفضل، أقول هنا وجود القدرة، لكن أين الإرادة؟ نحن نفتقد للإرادة بسبب السلبية والأنانية، الكل ينتظر الكل حتى يصلح أمر ما أو يزيل عائقاً ما، قد نكتب ونتحدث عن السلبيات لكن أي الفعل الإيجابي الذي يجب أن يقوم به كل فرد تجاه المشكلة أو السلبية؟
تقولون: وما علاقة هذا بموضوع القراءة؟ أقول بأن الفعل الإيجابي تجاه أي مشكلة سيؤدي إلى حل هذه المشكلة ولو كان هذا الفعل صغيراً، وبتراكم المبادرات والأفعال الإيجابية سنصل إلى حل مشاكلنا، مثلاً، بمقدور كل مجموعة من الشباب سواء كانوا في المدرسة أو الجامعة أن يقوموا بعمل جماعة للمكتبة أو للقراءة، ومن ثم يقوموا بعمل أنشطة تسير في اتجاه تشجيع القراءة وحب الاستزادة من العلم والثقافة. باستطاعة كل شاب أن يساهم في تكوين مكتبة على مستوى المنزل أو الحي أو المسجد، في استطاعة كل فرد منا تشجيع الآخرين على القراءة بإهدائهم الكتب أو حتى بتعريفهم بعناوين الكتب.
أشكال الفعل الإيجابي تجاه هذه القضية تتنوع وتتفرع ولو حولنا أن نذكرها فلن تنتهي لأن المجال في هذا واسع والآفاق رحبة، وكل شخص يستطيع أن يبدع في خدمة هذا الهدف، غرس حب المعرفة في مجموعة محددة من المجتمع.
القراءة أمر ضروري ولا نستطيع أن نعتبرها هواية نمارسها متى نشاء، بل هي عادة نمارسها يومياً وبشكل تلقائي، وغرس حب المعرفة عامل مساعد على حب القراءة، لأن القراءة وسيلة من وسائل اكتساب المعرفة، وحتى نغرس حب المعرفة في المجتمع علينا أن نحاول ونبادر بأفعال إيجابية تجاه خدمة هذا الهدف. هذا ملخص لكل ما سبق قوله في هذه المقالة.
تأليف: عبدالله المهيري
القراءة ليست هواية؟
________________________________________
كيف تلتهم كتاباً؟!(/8)
________________________________________
قال لي أحد الأصدقاء: إن الصفحة الواحدة من الكتاب تأخذ مني نصف ساعة!، وطبعاً لا يعني هذا الكلام نصف ساعة على وجه الدقة، بل هي مبالغة مقبولة في زمن المبالغات الغير معقولة، وهو يقصد أن قراءة صفحة من أي كتاب تأخذ من وقته الشيء الكثير، وهذا ما يسبب الضجر والملل للقارئ، والذي بدوره يجعله يبتعد عن القراءة الجادة وربما يبتعد حتى عن قراءة الصحف اليومية، وهذه مشكلة، إذ أن القراءة أساس من أسس الثقافة والعلم ولا غنى عنها لكل إنسان يريد النجاح والتفوق.
وهذه المشكلة التي يعاني منها صديقي العزيز، تتكرر لدى الكثير من الناس بكل تأكيد، فهم راغبون في القراءة لكنهم لا يعلمون كيف يقرءون، والحل يا سادة يكمن في عدة طرق إن جمعتها فستكون بإذن الله العلاج الناجع لمرض أقض المضاجع!
اعلم أخي الكريم بأن طرق القراءة تختلف باختلاف المواد التي تقرأها، فالمقالة تقرأ بأسلوب، والكتاب له أسلوب، والأخبار والتحقيقات لها أسلوب مختلف، لذلك لا يصح أن تقرأ جميع أنواع المواد بطريقة واحدة، فتبدأ من أول كلمة وتنطلق نحو آخر كلمة بخطى بطيئة متثاقلة، فتتوقف في منتصف الطريق وربما قبل ذلك ضجراً ومللاً. فما الحل؟
أولاً: لا تقرأ الفقرات والجمل كلمة كلمة، بل اشمل بنظرك ثلاث كلمات وأكثر إن استطعت، ولا ترجع لقراءة كلمة سابقة، بل امضي ولا تخشى فوات كلمة أو معنى، واعلم أنك ستعاني في أول الأمر من الضيق نتيجة قلة الفهم، لكنه شعور مؤقت سيزول مع تعودك على هذا الأسلوب، وقم بزيادة سرعتك أكثر كلما استطعت ذلك، وتمرن على الصحف اليومية وستجد النتيجة بإذن الله خلال أيام.
ثانياً: عند قراءتك للمقالات والتحقيقات والأخبار الصحفية، اقرأ أول فقرتين ثم آخر فقرتين وفي أكثر الأحيان يكون هذا كافياً لفهم موضوع المقالة، وإن أردت أن تفهم التفاصيل فأكمل قراءة المقال كاملاً، وإلا لا تضيع وقتك في قراءة ما لا ترغب فيه، وقد يكفي أن تقرأ العناوين فقط لكي تحدد إذا ما كنت ترغب في قراءة المقال أو الخبر أم لا.
ثالثاً: عندما تشتري أو تستعير كتاباً لا تستعجل الشراء حتى تقرأ اسم الكتاب والعناوين الفرعية له إن وجدت، ثم اقرأ الفهرس، وانتقي بعض الصفحات واقرأها بسرعة حتى تأخذ فكرة سريعة عن الكتاب، ثم عند قراءتك للكتاب اقرأه مرتين، الأولى قراءة سريعة قد تأخذ منك من خمس إلى عشر دقائق، قلب فيها صفحات الكتاب بسرعة متأملاً في العناوين وبعض الكلمات المتفرقة، ثم اقرأه قراءة متأنية وفي نفس الوقت سريعة، بحيث تستطيع قراءة الكتب الكبيرة ذات الثلاثمائة صفحة في يوم أو يومين.
رابعاً: اقرأ بتعمق، وهذه النصيحة قلما تطبق، كيف تركز في القراءة؟ يكون هذا بإزالة كل ما يشتت ذهنك، فليس من المعقول أن تقرأ في بيئة يرتفع فيها الضجيج والإزعاج، أو ينتشر فيها الفوضى وعدم الترتيب، وكذلك يجب أن تركز ذهنياً في القراءة وتزيل من ذهنك كل ما ليس له علاقة بالقراءة، ولا تقرأ أثناء وبعد التهامك للطعام! إذ أن العقل يكسل وربما تنعس فلا تستطيع فهم ما تقرأ.
خامساً: تدرج في قراءتك، فلا تبدأ بالكتب الكبيرة والمعقدة لغوياً، ابدأ بالقصص القصيرة والطرائف والكتيبات الصغيرة، ثم ارتقي بنفسك إلى الروايات الطويلة والكتب المتوسطة الحجم، ثم بعد ذلك انتقل لكتب الكبيرة أو ذات المواضيع الصعبة، ولا تنقطع عن القراءة، لأنها تسبب خمولاً قد يعيدك إلى ما كنت عليه قبل القراءة، وهذا ما حدث معي، وتذكر أن القراءة رياضة العقل.
سادساً: استمر في تطبيق هذه الاقتراحات لأنها نصائح مجربة وبديهية حتى تصل إلى مرحلة أسميها مرحلة جنون القراءة! وهي أن تمسك الكتاب فلا تتركه حتى تلتهمه التهاماً كاملاً فتقرأه من أول كلمة إلى آخره بلا ملل ولا ضجر، بفهم عميق واستيعاب أوسع.
أخيراً: قد يقول قائل: قد تكرر طرح هذا الموضوع كثيراً حتى مللنا منه، وأقول: لولا أهمية القراءة لما كررت الكتابة عنها، ولنتذكر هذه الجملة التي تزين شعار معرض أبوظبي للكتاب وستفهمون لماذا أكرر طرح هذا الموضوع "أمة تقرأ أمة ترقى"
تأليف: عبدالله المهيري
كيف تستفيد من قراءتك ؟
________________________________________
كلنا يقرأ... لم نكن نقرأ الكتب فعلى الأقل نقرأ المجلات والصحف اليومية، وكل هذه يجب ألا تخلو من الفائدة، ولكي لا تذهب قراءتنا هباء ولا يضيع وقتنا سدى، فعلينا أن نحاول قدر الإمكان الاستفادة مما نقرأ، وهذه بعض النصائح أو بعض الوسائل للاستفادة مما نقرأ أسجلها من خلال التجربة:
أ - نوعية الكتب
لابد أولا من الدقة في اختيار الكتب لتتحقق الفائدة بالفعل.(/9)
1. ... عليك اختيار الكتب النافعة التي تفيدك في دينك ودنياك ،وعلى رأسها علوم الشريعة من تفسير وحديث وفقه وسيرة، ثم كتب اللغة والتاريخ، ثم غيرها من العلوم ، وكذلك بالنسبة للمجلات.فلا بد من الابتعاد عن المجلات الهابطة أو حتى ذات المستوى الذي يقل عن المتوسط مما ليس فيها علم ولا فائدة ، فاحرص أخي المسلم على قراءة المجلات الدينية والسياسية ذوات الكلمة الصادقة الصريحة ولا تقرأ من المجلات الأخرى إلا المقالات النافعة إن وجدت.
2. ... عليك أيضا التعرف على أسماء المؤلفين ذوي الأمانة والثقة والكلمة الصادقة الهادفة البعيدين عن الإسفاف وعن الفساد والإفساد لتقرأ لهم ، ولا تقرأ لغيرهم من ذوي الأهداف السيئة والأغراض الدنيئة كالكتاب المأجورين وأمثالهم ، إلا إذا كانت قراءتك لهدف معين معرفي أو تخصصي ، أو لتحذير الناس من آرائهم ، وهذه الرخصة ليست للجميع بل لمن عنده من العلم نصيب يستطيع به التعرف على الحق وتمييز الصواب من الخطأ بأرضية صلبة من معارف الدين. أما المبتدئون فقد يتأثرون بما يقرؤون إذا لم تكن معرفتهم بالدين عميقة.
3. ... إذا كنت مبتدئا فاقرأ أولا الكتب الواضحة التي لا يشوب أسلوبها غموض أو تعقيد لئلا تسأم أو تمل عندما تشعر أنك لا تفهم جيدا كل ما تقرأ ، ولا شك أن الأسلوب السهل السلس والمشرق المثير في الوقت نفسه له دور كبير في حب القراءة.
4. ... ومن الأفضل أن تكون الكتب محققة تحقيقا علميا فهي أكثر فائدة بما تضيفه من تعليقات وبما تعرفنا به من تخريج الأحاديث ونسبة الآراء والأقوال لأصحابها ومصادرها بدقة ونظام وترتيب.
5. ... نوع قراءاتك في مختلف فروع العلم والمعرفة لتلم بأساسيات كل علم والأمور الهامة فيه ، ولكي لا تكره علما لأنك تجهله ، والإنسان عدو ما جهل كما قال الشاعر:
تفنن و خذ من كل علم ، فإنما * * * يفوق امرؤ في كل فن له علم
فأنت عدو للذي أنت جاهل * * * به ، ولعلم أنت تتقنه سلم
ثم ركز على تخصص معين تميل أليه أكثر لتتزود منه بعلم أكبر،فتكون ثقافتك أوسع بالاطلاع على مختلف العلوم ويكون تخصصك في علم بعينه أكثر من غيره سبيلا إلى الإحاطة بمعظم جوانب هذا العلم دون أن تترك مطالعاتك للعلوم الأخرى و الأخذ من كل منها بطرف.
6. ... ولا تترك أمهات الكتب من الكتب التراثية القديمة ذات الفائدة العظمى ، ولا تصغ لادعاءات صعوبة الأسلوب أو عدم تشويقه ولا لدعوات التجديد لتلك الكتب وصياغتها بأسلوب جديد مختصر ومشوق كما يقولون ، لأن هذه الدعوات ليس لها هدف سوى إبعادنا عن ديننا ولغتنا ببعدنا عن أمهات الكتب العظيمة التي تحوي الفوائد الجليلة في كل العلوم وهم يهدفون أيضا إلى ‘إضعاف لغة القرآن وإلى بخس علماء المسلمين السابقين حقوقهم وأقدارهم. ومن يقرأ فيها يجد العلم مع الأسلوب المنوع والمشوق لا سيما لطلاب العلم ممن قطعوا فيه شوطا.
ب - طريقة القراءة
1. ... لا بد أيضا أن تكون طريقة قراءتك مناسبة من حيث المكان الذي تقرأ فيه وكيفية الجلوس وكيفية القراءة ونحوها من أمور.
2. ... لا بد أن يكون المكان الذي تجلس فيه للقراءة مناسبا لها بألا يوجد فيه ما يشغل الفكر ويعطل الذهن ويشتت التركيز.
3. ... لا تقرأ وأنت مستلق لأن ذلك أدعى إلى جلب النوم والكسل.
4. ... ولتكن جلستك جلسة مريحة بحيث تتجنب ظهور متاعب صحية في المستقبل كآلام الظهر.
5. ... لا بد أن تكون الإضاءة جيدة فحاول أن تتجنب الضوء الأصفر (اللمبات) فالضوء الأبيض (الفلورسنت) أفضل وأكثر حماية للعينين، والأفضل أن تكون القراءة في ضوء النهار الطبيعي في مكان مناسب جيد الحرارة.
6. ... أبعد الكتاب عن عينيك لئلا تتضررا وإن كنت تعاني من مشاكل في النظر فلا تقرأ بكثرة حتى تراجع طبيب العيون.
7. ... ركز جيدا أثناء القراءة فيما تقرأ، وأعط كل انتباهك له، وحاول أن تتفاعل معه كأن تتذكر معلومات سابقة حول ما تقرأ،أو أن تبكي إذا مر بك ما يدعو لذلك من ذكر الله والتحذير من الذنوب والأخطاء ووصف النار... الخ.
8. ... اقرأ ببطء إن كان الكتاب هاما جدا أو صعب الأسلوب نوعا ما أو يحتاج إلى التعمق في الفهم أو ترغب أنت في حفظ بعض ما تقرأ ، أما إن كان عاديا فاقرأ قراءة متوسطة ليست بالبطيئة المتأملة المتفحصة كثيرا ولا بالسريعة المضيعة لمعاني ما تقرأ.
9. ... القراءة الصامتة أفضل فهي أسرع وأقل إجهادا لأنها لا تشرك الكثير من أعضاء الحس فيها فتساعد بذلك على زيادة التركيز.
ج - كيفية الاستفادة
الهدف من القراءة حصول الفائدة وجني ثمار التعب والوقت بقطف أجمل ولأفضل زهور العلم،وذلك باتباع الآتي:
1. ... ضع في بالك أولا أن تقرأ قدرا معينا من الكتاب أو تخصص وقتا معينا لا بد أن تقرأ فيه.
2. ... اقرأ مقدمة الكتاب أولا.وإن شعرت ببعض الملل من مقدمات بعض الكتب، لأن قراءتها ستفيدك غالبا في معرفة هدف الكاتب من تصنيف كتابه ولتتعرف على موضوع الكتاب بصورة بينة واضحة.(/10)
3. ... إذا لم تفهم نقطة معينة أو استعصى عليك فهم فكرة ما أو خطر على بالك سؤال لم تجد له إجابة فضع علامة على ما لم تفهم أو دوّن ما يطرأ على ذهنك من أسئلة ثم حاول أن تسأل عنها من هو أكثر منك علما في هذا الموضوع.
4. ... دع القلم معك أو في متناول يدك عندما تقرأ،وحاول أن تضع جوار كل فقرة الفكرة العامة التي تناولتها في المكان الخالي قربها( الحاشية أو الهامش) وحاول أن تدون بعض الملاحات الهامة إذا طرأت على ذهنك أو أن تلخص بعض الفقرات أو تسجل بعض النقاط الهامة.
5. ... حاول أن تستعين بوسائل أخرى تدعم معلوماتك حول ما تقرأ كالأشرطة السمعية أو المرئية أو المجلات الأخرى والصحف إذا وجد منها ما يتعلق بموضوع كتابك.
6. ... بعد أن تنتهي من القراءة أغلق الكتاب وحاول أن تستعيد في ذهنك أهم الأفكار التي قرأتها.
7. ... ثم أعد تقريرا حول موضوع الكتاب تذكر فيه اسم الكتاب ومؤلفه ودار نشره ثم تلخص موضوعه فيما لا يتجاوز صفحة واحدة من الحجم المتوسط مع ذكر الثمرة التي حصلت عليها واكتسبتها من الكتاب ، وحاول أيضا أن تذكر رأيك في أسلوب الكاتب من جميع النواحي : من حيث السلاسة أو الصعوبة والتعقيد واستيفاء الشواهد المناسبة، والحيادية والموضوعية في الكتابة وغير ذلك من أمور ، ولا بد أن تكون قراءتك قراءة ناقد خبير فتميز الصحيح من الفاسد من الكتب والأقوال الواردة وحبذا لو استطعت جمع ما كتب في الموضوع الواحد من مصادر متعددة.
8. ... حاول أن تتحدث مع الآخرين حول مضمون ما قرأت وعلمت فيستفيد الناس وتثبت أنت معلوماتك.
9. ... حاول حفظ بعض العبارات الجميلة ذات المعاني الرائعة ليقوى أسلوبك ويزداد ثراؤك اللغوي ويمكن أن يأتي ذلك اكتسابا عفويا من مداومة القراءة.
مع تمنياتي للجميع بالفائدة والتوفيق.
إعداد: أنوار الأمل
حتى تصير مثقفا
________________________________________
اللفظة العربية "ثقافة" هي الترجمة السائدة للكلمة الإنجليزية “Culture”، وتعود جذور الكلمة الإنجليزية إلى اللفظ اللاتيني “Culture” ويعني حرث الأرض وزراعتها، وقد ظلت اللفظة مقترنة بهذا المعنى طوال العصرين اليوناني والروماني. وفي فترة لاحقة، استخدمها المفكر اليوناني "شيشرون" مجازًا بالدلالات نفسها، حين أطلق على الفلسفة “Mentis Culture” أي زراعة العقل وتنميته، مؤكدًا أن دور الفلسفة هو تنشئة الناس على تكريم الآلهة.
وفي عام 1871م، قدم إدوارد تيلور تعريفًا لهذا المفهوم في كتابه “Primitive culture”، حيث اعتبره "ذلك الكل المركب الذي يشمل المعرفة والعقائد والفن والأخلاق والقانون والعرف وكل القدرات والعادات الأخرى التي يكتسبها الإنسان بصفته عضوًا في مجتمع".
وبانتقال مفهوم “Culture” إلى “Kultur” الألماني اكتسبت الكلمة مضمونًا جماعيًا، فقد أصبحت تدل على التقدم الفكري الذي يحصل عليه الفرد أو المجموعات أو الإنسانية بصفة عامة. بناءً على ذلك، عالج المفكرون الألمان العلاقة بين علوم الـ “Culture” والعلوم الطبيعية.
من ناحية أخرى اتجه المفكرون الإنجليز إلى النظر في التطبيقات العملية لمفهوم “Culture” في المسائل السياسية والدينية، لذلك عرّفها كلايد كلوكهون بأنها: مجموعة طرائق الحياة لدى شعب معيّن في الميراث الاجتماعي التي يحصل عليها الفرد من مجموعته التي يعيش فيها.
وهذه بعض النصائح التي قد تساعدك لتصبح مثقفا:
1. ... قراءة لمدة عشر دقائق يوميا ..
2. ... سماع شريط ..
3. ... حضور محاضرات ودورات بمعدل محاضره كل شهر ودورة كل ستة أشهر ..
4. ... تعلم لغة جديدة ..
5. ... جعل التميز هو الهدف في العمل ..
6. ... الاستيقاظ مبكرا واستغلال هذا الوقت في تدوين فكره جديدة ..القيام بعمل محبب إلي النفس ..
7. ... الاحتفاظ بمفكرة صغيره قريبه من السرير ويدون بها الأفكار الطارئة قبل النوم فهي تعتبر هدية من العقل ..
8. ... قبل النوم يجب التوجه بسؤال إلي النفس ...هل تريد هذا اليوم أن يعود مره أخري ...هل أنجزت شيئا فيه ..هل تريد أن تقوم بطريقه مختلفة في اليوم التالي
9. ... قيم يومك دائما وسترى النتيجة ..
أخيرا دع لنفسك المجال لتجرب ولا تقيدها ... ومع الأيام ستتحول إلى الشخصية التي تحبها ..
________________________________________
بتصرف من كتاب مفاتيح النجاح للكاتب الدكتور .. إبراهيم الفقي
إعداد: نور
خطوات نحو النجاح الدراسي
________________________________________
حوار هادئ مع الشباب
النجاح مطلب الجميع وتحقيق النجاح الدراسي يعتبر من أولويات الأهداف لدى الطالب ..ولكل نجاح مفتاح وفلسفة وخطوات ينبغي الاهتمام بها …ولذلك أصبح النجاح علما وهندسة ..
النجاح فكرا يبدأ وشعورا يدفع ويحفز وعملا وصبرا يترجم ..وهو في الأخير رحلة ..
سافر فإن الفتى من بات مفتتحا * * * قفل النجاح بمفتاح من السفر
وسنحاول في هذا الحوار التطرق لبعض من هذه الخطوات ..(/11)
المفاتيح العشرة للنجاح الدراسي
1. ... الطموح كنز لا يفنى: لا يسعى للنجاح من لا يملك طموحا ولذلك كان الطموح هو الكنز الذي لا يفنى ..فكن طموحا وانظر إلى المعالي ..
هذا عمر بن عبد العزيز خامس الخلفاء الراشدين يقول معبرا عن طموحه:" إن لي نفسا تواقة ،تمنت الإمارة فنالتها،وتمنت الخلافة فنالتها ،وأنا الآن أتوق إلى الجنة وأرجو أن أنالها "
2. ... العطاء يساوي الأخذ:النجاح عمل وجد وتضحية وصبر ومن منح طموحه صبرا وعملا وجدا حصد نجاحا وثمارا ..فاعمل واجتهد وابذل الجهد لتحقق النجاح والطموح والهدف ..فمن جدّ وجد ومن زرع حصد..
وقل من جد في أمر يحاوله * * * وأستعمل الصبر إلا فاز بالظفر
3. ... غير رأيك في نفسك : الإنسان يملك طاقات كبيرة وقوى خفية يحتاج أن يزيل عنها غبار التقصير والكسل ..فأنت أقدر مما تتصور وأقوى مما تتخيل وأذكى بكثير مما تعتقد..اشطب كل الكلمات السلبية عن نفسك من مثل " لا أستطيع – لست شاطرا.." وردّد باستمرار " أنا أستحق الأفضل – أنا مبدع – أنا ممتاز – أنا قادر .."
4. ... النجاح هو ما تصنعه .(فكر بالنجاح – أحب النجاح..)
النجاح شعور والناجح يبدأ رحلته بحب النجاح والتفكير بالنجاح ..فكر وأحب وابدأ رحلتك نحو هدفك ..
تذكر : " يبدأ النجاح من الحالة النفسية للفرد ، فعليك أن تؤمن بأنك ستنجح – بإذن الله – من أجل أن يكتب لك فعلا النجاح ."
الناجحون لا ينجحون وهم جالسون لاهون ينتظرون النجاح ولا يعتقدون أنه فرصة حظ وإنما يصنعونه بالعمل والجد والتفكير والحب واستغلال الفرص والاعتماد على ما ينجزونه بأيديهم .
5. ... الفشل مجرد حدث..وتجارب : لا تخش الفشل بل استغله ليكون معبرا لك نحو النجاح لم ينجح أحد دون أن يتعلم من مدرسة النجاح ..وأديسون مخترع الكهرباء قام بـ 1800 محاولة فاشلة قبل أن يحقق إنجازه الرائع ..ولم ييأس بعد المحاولات الفاشلة التي كان يعتبرها دروسا تعلم من خلالها قواعد علمية وتعلم منها محاولات لا تؤدي إلى اختراع الكهرباء ..
تذكر : الوحيد الذي لا يفشل هو من لا يعمل ..وإذا لم تفشل فلن تجدّ ..الفشل فرص وتجارب ..لا تخف من الفشل ولا تترك محاولة فاشلة تصيبك بالإحباط ..
وما الفشل إلا هزيمة مؤقتة تخلق لك فرص النجاح.
6. ... املأ نفسك بالإيمان والأمل :الإيمان بالله أساس كل نجاح وهو النور الذي يضيء لصاحبه الطريق وهو المعيار الحقيقي لاختيار النجاح الحقيقي ..الإيمان يمنحك القوة وهو بداية ونقطة الانطلاق نحو النجاح وهو الوقود الذي يدفعك نحو النجاح ..
والأمل هو الحلم الذي يصنع لنا النجاح ..فرحلة النجاح تبدأ أملا ثم مع الجهد يتحقق الأمل ..
7. ... اكتشف مواهبك واستفد منها : لكل إنسان مواهب وقوى داخلية ينبغي العمل على اكتشافها وتنميتها ومن مواهبنا الإبداع والذكاء والتفكير والاستذكار والذاكرة القوية ..ويمكن العمل على رعاية هذه المواهب والاستفادة منها بدل أن تبقى معطلة في حياتنا ..
8. ... الدراسة متعة .. طريق للنجاح : المرحلة الدراسية من أمتع لحظات الحياة ولا يعرف متعتها إلا من مرّ بها والتحق بغيرها ..متعة التعلم لا تضاهيها متعة في الحياة وخصوصا لو ارتبطت عند صاحبها بالعبادة ..فطالب العلم عابد لله وما أجمل متعة العلم مقرونا بمتعة العبادة .. الدراسة وطلب العلم متعة تنتهي بالنجاح ..وتتحول لمتعة دائمة حين تكلل بالنجاح .
9. ... الناجحون يثقون دائما في قدرتهم على النجاح :
الثقة في النجاح يعني دخولك معركة النجاح منتصرا بنفسية عالية والذي لا يملك الثقة بالنفس يبدأ معركته منهزما ..
10. ... النجاح والتفوق = 1% إلهام وخيال + 99%جهد واجتهاد:
الإلهام والخيال لا يشكل أكثر من 1% من النجاح بينما الطريق الحقيقي للنجاح هو بذل الجهد والاجتهاد وإن ما نحصل عليه دون جهد أو ثمن فليس ذي قيمة..
لا تحسبن المجد تمرا أنت آكله * * * لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا
(الجهد المبذول تسعة أعشار النجاح )
11خطوة للاستعداد للمذاكرة
1. ... اخلص النية لله واجعل طلب العلم عبادة.
2. ... تذكر دائما أن التوفيق من الله والأسباب من الإنسان
3. ... احذف كلمة " سوف " من حياتك ولا تؤجل .
4. ... أحذر الإيحاءات السلبية :أنا فاشل – المادة صعبة ..
5. ... ثق بتوفيق الله وابذل الأسباب.
6. ... ثق في أهمية العلم وتعلمه.
7. ... أحذر رفقاء السوء وقتلة الوقت ..
8. ... نظم كراستك ترتاح مذاكرتك ..
9. ... أد واجباتك وراجع يوما بيوم..
10. ... تزود بأحسن الوقود ..(أفضل التغذية أكثر من الفواكه والخضراوات وامتنع عن الأكلات السريعة ..)
11. ... لا تذاكر أبدا وأنت مرهق ..
نظم وقتك
1. ... تذكر أن أحسن طريقة لاستغلال الوقت أن تبدأ الآن.!!
2. ... حدد أولوياتك الدراسية وفق الوقت المتاح.
3. ... ضع جدولا يوميا – أسبوعيا لتنظيم الوقت والأولويات .
4. ... تنظيم الوقت :
رغبة + إرادة + ممارسة + جهد = متعة.
من طرق تقوية الذاكرة(/12)
1. ... الفهم أولا..يساعد على الحفظ والتخزين ..
2. ... استذكر موضوعات متكاملة .
3. ... الترابط بين ما تستذكر وما لديك من معلومات يقوي الذاكرة..
4. ... الصحة بشكل عام عامل أساسي لتقوية الذاكرة:
النوم المريح – غذاء متكامل – الرياضة البدنية – الحالة النفسية التفاؤل – الاسترخاء – التعامل مع الناس ...
5. ... خلق الاهتمام – الفرح – حب الاستطلاع – التمعن –التركيز الفكري – كلها وسائل لتقوية ذاكرتك.
6. ... تصنيف المواد حسب المواضيع وحسب البساطة والصعوبة يسهل عملية الاستذكار.
من أجل حفظ متقن
1. ... صمم على تسميع ما ستحفظ. (استمع لنفسك)
2. ... افهم ثم احفظ.
3. ... قسم النص إلى وحدات ثم احفظ.
4. ... وزع الحفظ على فترات زمنية.
5. ... كرر ثم كرر ...كرر..
6. ... اعتمد على أكثر من حاسة في الحفظ.
10% تقرأ –20% تسمع –30% ترى –50%ترى وتسمع –80%مما تقوله –90% تقوا وتفعل -)
ارسم صورا تخطيطية – لوّن بعض الرسوم أو الفقرات الرئيسية-
7. ... لا تؤجل الحفظ – أسرع إلى الحفظ.
8. ... قاوم النسيان ودعم التذكر.(الحماس-الراحة- التخيل والربط-التكرار-التلخيص- المذاكرة قبل النوم..)
9. ... تجنب المعاصي.
شكوت إلى وكيع سوء حفظي * * * فأرشدني إلى ترك المعاصي
تأليف: الدكتور مصطفى أبو سعد
كيف تختار تخصصك في الجامعة
________________________________________
Career: Choosing Your College Major
هل فكّرت وأنت صغير أن تصبح طبيبا عظيما، أو مدرسا، أو حتى ضابط شرطة؟ والآن بعد أن أصبحت أكبر سنا، هل تريد أن تصبح لاعب كرة مشهور، أو عالم آثار، أو محاسب؟ أم أنك لم تفكر بهذا منذ مدة طويلة؟ لكن إن كنت على وشك التخرج من المدرسة الثانوية، ينبغي عليك أن تفكر من الآن بالكلية التي ستدرس بها. هذه الدورة ستساعدك على تقييم اهتماماتك ونقاط قوتك لتكون قادرا على تحديد مجال تخصصك في الجامعة.
هيا نبدأ
التخطيط للجامعة جزء مهم جدا من التخطيط لوظيفة المستقبل. عليك أن تحدد ما الذي تريد أن "تتخصص" به لتقوم بممارسته في المستقبل بطريقة أكثر احترافية. إن قمت بعملية التخطيط هذه بطريقة سليمة ستقلل من احتمالية شعورك بالحزن والغم لاحقا لسوء اختيارك لتخصصك.
كبداية، ينبغي عليك أن تسأل نفسك بعض الأسئلة مثل:
• ... هل أحب العمل مع الأطفال؟
• ... هل أحب كتابة قصصي الخاصة؟
• ... هل أحب حل المشاكل الرياضية؟
• ... هل أحب أن أبني وأركب الأشياء؟
• ... هل الكمبيوتر والبرمجة تمتعني؟
• ... هل أحب التمثيل والمسرح؟
من المهم أن تعرف ما الذي يمتعك القيام به وما الذي لا يمتعك. قد تبتسم وأن تتخيل نفسك تقوم بالأعمال بشكل احترافي. وربما تتساءل، كيف يمكنني القيام بذلك؟ كيف يمكنني معرفة ماذا أحب وما الذي أحسن القيام به؟
حسنا، هنالك خطوات بسيطة يمكن أن تساعدك لمعرفة نفسك أكثر.
ركّز
الخطوة الأولى: ركّز واكتب قائمة باهتماماتك، ومهاراتك، ومزاياك الشخصية.
خذ ورقة وقلم وتوجه لغرفة هادئة. اكتب اسمك في أعلى الورقة. ثم اكتب قائمة باهتماماتك، ومهاراتك، ومبادئك، ومزاياك الشخصية في أربع أوراق مختلفة. قد يأخذ منك هذا بعض الوقت. من الأفضل كتابة كل شي يمكن أن تفكر به عن نفسك بحرية تامة.
الاهتمامات: ما هي هواياتك؟ ماذا تحب أن تعمل؟ ما هي مادتك المفضلة؟ ما هي الكتب التي تقرأها؟ ما هي الإصدارات والمجلات التي تشدّك لاقتنائها؟
المهارات: قد توجد أمور تحسن أدائها بشكل طبيعي، كالرياضيات، الرسم، الكتابة، أو حتى الشعر. ما هي المهام التي تشعر أنها سهلة بالنسبة لك بينما يراها الآخرون صعبة؟ ما هي نقاط قوتك؟ وما هي نقاط ضعفك؟ ربما يمكنك فهم كيفية عمل برامج الكمبيوتر، أو يمكنك تركيب دراجة هوائية من نظرة واحدة فقط لدليل التركيب.
المبادئ: ما هب مبادئ في الحياة؟ ما الذي يشدك له بقوة؟ هل أنت ضد التمييز العنصري؟ هل أنت مدافع عن حقوق الإنسان؟ هل أنت رجل مهتم بالبيئة؟ هل أنت ملتزم دينيا وتحب الأنشطة الإسلامية؟ هل النقود مهمة جدا في حياتك؟
الشخصية: حدد شخصيتك. هل أنت إنسان هادئ يفضل العمل في زاوية بمفرده؟ هل تكره أن تكون مطوّقا أم تفضل أن تكون حرا معظم الوقت؟ هل تحب التحدث للناس أم أنك إنسان خجول؟ هل أنت محب للاستطلاع ولا تستطيع التوقف عن طرح الأسئلة؟ هل تشعر بالعطف على الحيوانات أو الأطفال المعوقين؟ فكّر كيف كان الأصدقاء يصفونك في الماضي. هل أنت صبور، لطيف، وصاحب علاقات جيدة؟
اجعل قائمتك شاملة وصادقة بقدر المستطاع.
حلل
الخطوة الثانية: حلل قائمتك.(/13)
الآن، قائمتك جاهزة، اقرأها بدقة، وعلى ورقة ثانية، قم بعمل عمودين. في أحد العمودين اكتب الوظائف والمهن والأعمال التي تشعر أنك تحب أن تمارسها – شيء من المحتمل أن تكون سعيدا لقيامك به بقية حياتك. افترض أنك ترى أن التدريس ليس فكرة سيئة، أو ربما تراودك فكرة أن تصبح خبير ديناصورات تنهك نفسك بالبحث عن المتحجرات في الصحاري. دوّن كل ذلك.
في العمود الثاني، اكتب المهن والوظائف التي تظن أنها تناسبك، مبنية على جلسة التركيز التي قمت بها. على سبيل المثال، إن كان بقائمة أشياء مثل:
الاهتمامات: كتب ومجلات.
المهارات: الكتابة والأبحاث.
المبادئ: تقدير التعليم.
الشخصية: اشعر بتعاطف خاص تجاه الأطفال المعوقين، وأحب المتحدثين والخطباء الواثقين.
إذن بإمكانك الكتابة في العمود الثاني: مدرس لأصحاب الاحتياجات الخاصة، مدرس للمرحلة الابتدائية، أمين مكتبة. ربما تندهش عندما ترى المهن التي كتبتها في كلا العمودين متشابهة إلى حد بعيد. هذا بلا شك يساعدك على معرفة المهمة أو الوظيفة التي تتناسب مع مقدرتك ورغبتك.
بإمكانك أيضا أن تطلب من والديك تقييمك وأن تقرأ عن مهن ووظائف أخرى لترى أي واحدة تتلاءم معك. بإمكانك الاستعادة بشبكة الإنترنت للحصول على تقييم لبعض المهن. يوجد لديك بلا شك الكثير من الاهتمامات التي تتناسب مع العديد من الأعمال.
البحث عن الوظيفة
الخطوة الثالثة: حاول الحصول على أكبر قدر ممكن من المعلومات عن المهن والوظائف والأعمال المدرجة بقائمتك.
بمجرد أن تصبح قائمتك جاهزة، حاول أن تقابل أصدقائك، وجيرانك، وأصدقاء والديك، أو أي شخص يعمل في نفس المهن والوظائف التي تهمك. اقض يوما معهم لتعرف كيف تدار هذه الأعمال على أرض الواقع. اسألهم عن تعليمهم وعن الأمور التي قاموا بها ليؤهلوا أنفسهم لهذه الوظائف. اسألهم عن أصعب الأشياء التي يقومون بها عادة وعن أكثر الأمور الممتعة في عملهم. حاول أن تحصل على أكبر قدر ممكن ومفيد من المعلومات.
بمجرد أن تسير على هذه الخطوات ستحصل على صورة أفضل وأوضح عن المهنة التي من الأفضل أن تدرس وتأهل نفسك لها في الجامعة.
ترجمة: خالد الحر
طوّر مهاراتك في الكتابة
________________________________________
المراجع
• ... Improve your writing skils.
• ... دليل التدريب القيادي، للدكتور هشام طالب.
مدخل
يقول الكاتب عبد الله أبو العنين في كتابه "لكي يكون لحياتنا معنى": "لا شك في أن السبب الرئيسي في عدم اتخاذ الكتابة هواية عند كثير من الشباب يرجع إلى الفكرة التي يذيعها بعض الكتّاب عن أن الكتابة موهبة، إذ أن ذلك جعل الشباب يفهم إما أن تكون الكتابة موهبة أو لا تكون. ولذلك فإن كثيرين منهم لا يحاولون الكتابة إطلاقاً. وإذا حاول البعض ذلك فإنه لا يستمر في المحاولة لمدة طويلة. وإذا كان بعض كبار الكتّاب قال بذلك فإن بعضهم الآخر يقول بأن الموهبة في الكتابة لا تمثل إلا جزءاً من عشرة أجزاء. وأما التسعة الأجزاء الأخرى فتتمثل في ممارسة الكتابة نفسها في صبر لا يعرف الملل.
والشيء الذي لا ريب فيه هو أن الكتابة كذلك عادة تكتسب بالممارسة كما تكتسب أي عادة أخرى. فنحن لم نعرف في تاريخ الكتابة الطويل كاتباً قد ولد وهو قادر على الكتابة دون أن يحاولها ويمارسها طويلاً. وإذا كان هناك من يقول بأن الكتابة صعبة، فان صعوبتها تأتي من أنها تفكير، والتفكير صعب ولكننا حين نتعود عليه فانه يغدو سهلاً ميسوراً. وما يصدق على التفكير يصدق على الكتابة كذلك إذ أنها بالممارسة الطويلة تصبح لا صعوبة فيها.
ونحن نستطيع أن نتعود على الكتابة باتخاذها هواية نمارسها في أوقات فراغنا كما نمارس أي هواية أخرى. وقد نجد صعوبة في البداية ولكننا حين نستمر، فأننا نتغلب على هذه الصعوبة."
ما هي الكتابة ؟
إذا اعتبرنا أن الكتابة "نقل التّفكير بالكلمات من عقل لآخر" فبإمكاننا أن نرى أربعة مهارات رئيسيّة معقّدة يجب توافرها هي:
1. ... طريقة تفكير مستقلة فبغيرها لن يستمتع أحد بقراءة ما نكتبه.
2. ... القدرة على تنظيم أفكارنا فبغيرها سيرى القارئ الأشجار ولكنّ لن يرى الثمار فلن يستفيد منها.
3. ... اختيار أفضل الكلمات المعبرة عما في عقولنا فبغيرها لن يفهم أحد ما نحاول التعبير عنه.
4. ... خلق مساحة للقرّاء لملئها بخبرتهم الخاصّة فبغيرها ما كتبناه سينسى في الحال.
هل تبدو هذه طلبات مستحيلة بالنسبة لك؟ لا تقلق، لأنّ الكتابة تتطلب عمل المستحيل من كلّ منا. يمكنك التصديق بكل بساطة أن هنالك طرقا لتسلّق الجبل. فلن تبلغ القمّة بسهولة، لكنّ بالتسلّق ستدخل البهجة للقلب والرؤية ستصبح أفضل باستمرار.
استخدم هذا المنهج لتعلّم بعض الاستراتيجيّات البسيطة التي يمكنك استخدامها لتحسين مهاراتك في الكتابة.
الشخصيّة(/14)
الشخصيّة ليست مثل الإبداع. لقد كان هناك مفكّرون مبدعون قليلون في كلّ التاريخ، لكننا جميعا فريدون في استجابتنا للعالم من حولنا. وهذا ما تقوله الأغنية بشكل جميل "إنها نفس القصة القديمة، لكنها جديدة عليّ".
تتركز المشكلة عند الكتابة في الثقة بالنفس. نحن لا نثق في أصواتنا المنبعثة من داخلنا، لا نثق في عواطفنا، لا نثق في ملاحظاتنا واستنتاجاتنا. إننا نخاف من ارتكاب ما قد يجلب لنا الاستهزاء.
خذ النّوتة والقلم، اختر كرسيّك المفضّل وقل لنفسك: "سأكتب الآن شيئاً مهما بالنسبة لي". امسك بقلمك فوق النوتة ودوّن عواطفك وأحاسيسك ومشاعرك.
هل تجد نفسك جريئا حينما تصورت أنه بإمكانك أن تكون كاتبا؟
هل أنت قلق لما سيقوله عنك أفراد عائلك لأنك خرجت عن القاعدة؟
هل تخشى من وجود شخص خفي يراقبك وأنت تفعل هذا "العمل الأحمق"؟
هل يوجد في مخيلتك كاتب مشهور أو ناقد أدبي أو حتى أحد المدرسين في مدرستك يقلل من شأن كتابتك؟
إن لم تشعر بأي من هذه الانفعالات المقلقة فأنت في ورطة. الثقة بالنفس هنا تعني أمران هما القلق عما سيقوله الآخرون عنك (و) مدى قدرتك على انتقاد ذاتك. يجب أن نزيد ثقتنا بأنفسنا. هل تتساءل الآن كيف؟ الإجابة هي: بمواصلة الكتابة. يجب أن نستمر في الكتابة. يجب أن نكتب بشكل يومي إن أمكن ذلك.
إن كنت تريد أن تعرف ما نستطيع كتابته تابع معنا الدرس القادم.
الكتابة كنشاط عادي
هناك طريقة واحدة لزيادة ثقتك بنفسك وهي الكتابة على أساس منظم. عليك محاولة الكتابة في معظم الأيام إن أمكن ذلك. وبداية اكتب لنفسك فقط. ليس للنشر، وليس للقراءة بصوت عالٍ للأصدقاء، وليس حتى للذرّية أو أحفادك المستقبليين. فبرغم كل شيء، لا يمكنك أن تتوقع أن تكون قادرا على إقامة حفلة موسيقية على البيانو من غير سنوات من التدريب لأصابعك العشرة. كما أنك لن تكون راغباً بأن يسمعك أحد في هذه الفترة.
اشتر لنفسك نوتة كتابة واجلس معها كل يوم. بداية يجب أن تكون هنالك ورقة فارغة أمامك، فربما يكون لديك بعض الخوف في قلبك ولا يوجد برأسك شيئا تريد كتابته.
اكتب شيئا واضحا، فقط لتبدأ به، مثل: أنا أجلس هنا الآن ولا يوجد برأسي أي شيء أكتبه. حسناً، ذلك لن يجعل العالم مشتعلاً، ولكن هذا لا يهم. أنت تتحدث الآن لنفسك فقط. بعد ذلك أعطي لنفسك مجالا للاسترخاء لفترة، حتى لو أخذت غفوة قصيرة. عاجلا أو آجلا، ستشدك ذاكرتك لفكرة، أو صورة، أو عاطفة، أو حدث حصل منذ فترة قصيرة. انظر إن كان بإمكانك وضع هذا الأمر في كلمات أم لا. اكتب بسرعة أو ببطء بما يناسبك، ولكن لا تكن قلقا من ناحية الجودة. حاول أن تستمتع بذلك، حاول أن تنطلق، أن تغضب، أن تحزن، لا تقلق على المنطق، اكتب كل ما يدور في رأسك، فأنت غير مراقب. لن يصدم أحد غيرك بما كتبته. وإذا صدمت، فقد يكون ذلك لأنك كتبتا شيئا ممتعا.
ماذا لو شعرت بالنعاس؟
حسنا، ذلك أمر جيد.
وماذا لو لم يأتني أي شي مع أني انتظرت طويلا؟
أغلق النوتة، وقم بعمل أي شيء بمفردك. ربما القيام بالمشي قليلا، أو الاستماع للموسيقى، أو النظر في ألبوم للصور القديمة، أو الجلوس فقط والنظر للفضاء. ولتكن لديك الثقة بأن عقلك الباطن يعمل الآن. ربما تظهر النتائج غداً وربما بعد غد، ولكن عاجلا أم آجلا ستظهر الكلمات في عقلك، وتريد أن تُكتب.
تمارين الكتابة
ملاحظات: قد تضايقك بعض المشاكل التي لا تستطيع إيجاد حل لها. لذلك اكتب لنفسك، تجادل مع نفسك، ودع القلق في كلماتك. اترك ما كتبته ثم ارجع له في وقت لاحق. قد لا تجد حل المشكلة –فبض المشاكل لا توجد لها حلول- ولكن ينبغي أن تكون قد أنجزت نوعا من التوضيح. أي أنك قادر على التعبير بالكلمات.
صور الكلمة: ارسم صورة ساكنة بالكلمات، وإن أخذتك الكلمات لمكان آخر اترك لها المجال لذلك. ارسم صورة بيت، شجرة، بحيرة، مكان ما بجانب مكان إقامتك. لا تذهب لهذا المكان أولا، وإنما حاول أن ترسمه من خلال ذاكرتك. ارسمه بالأبيض والأسود ومن ثمّ لوّنه. والآن اذهب لزيارة المكان الذي وصفته. أيّهم أكثر صدقا وأيهم أكثر خيالا وشاعرية صورة كلماتك أم الأصل؟
العواطف: اختر حادثا معينا وقم بوصف عواطفك المركبة والمتناقضة التي انتابتك وقتها. حاول أن تفعل ذلك بعد وقوع الحادث بوقت قصير.
الأصوات والروائح: حاول تمييز خصائص الصوت والرائحة. ودعها تقودك داخل الذاكرة.
الحوار: هل تستطيع أن تتذكر ما قالوه وبماذا أجبتهم؟ هل تستطيع تذكر الكلمات التي نكررها، الكلمات التي يساء استخدامها، الكلمات التي توحي بأكثر من معنى؟ هل تستطيع إعادة تشكيل الحوار لإظهار جوهره وإبراز العواطف؟
الخيال: قم بوصف نزهة في سيارة سريعة، أو قم بوصف الطفو على ظهرك في بحر هادئ. تخيّل السفر، التزحلق، الطيران الشراعي، التحليق، الانقضاض والابتلاع، الهبوط. حاول أن يكون اختيارك للكلمات وبناء الجمل يساهم في جعلك تعيش هذا الأمر.
النقد الذاتي – الجزء الأول(/15)
إلى هنا تكون قد اكتسبت عادة الكتابة بانتظام. اختر من نوتتك نصا من النصوص التي تعتبرها مهمة بالنسبة لك واطبعه في برنامج معالج الكلمات في كمبيوترك ثم اطبعه على الورق. أسند ظهرك على الكرسي وأمسك بيدك القلم والورقة المطبوعة وجهّز نفسك. ستقوم الآن بتصحيح كتابتك الأصلية. وهذه بعض الطرق المقترحة لعمل ذلك.
التوازن: هل ينقل لك النص مدى أهمية الحدث الموصوف؟ ربما يكون وصفك بسيطا وبحاجة لمزيد من التضخيم ليعطي ثقلا مناسبا للحدث الموصوف. استفد من كل الخبرة التي اكتسبتها من تمارينك على الكتابة وقرر ما إذا كانت الأوصاف الإضافية عمليات عاطفية أم تبديلات ضرورية في الحوار. ثم انتظر إن كنت تستطيع إيصال المشاعر بالحدث بشكل أكثر دقة بتغيير إيقاعه أو بتضمينه معلومات حسّية مختارة بعناية.
الإحساس: هل كل الجمل التي تكتبها تولّد أحاسيس لدى القارئ؟ هل يمكن بكل أمانة أن تضع معنا لكل كلمة؟ إذا وجدت بعض الكلمات الغير متأكد من معانيها فاستخدم القاموس لاستخراجها . هل المعنى المشار إليه في القاموس متوافق مع نيّتك؟ إذا كان الجواب لأي من هذه الأسئلة "لا" عليك مراجعة نصّك. حاول تبسيط جملك، فلا تستخدم الكلمات للإبهار، استخدمها لتبليغ ما ترمي إليه فقط. وكن دقيقا في استخدام اللغة.
المزاج: ما نكتبه عبارة عن قوالب. كل قالب قد يكون فكرة، صورة، مشهد، زاوية كاميرا، أو حديث مع النفس. وكل قالب كذلك له لونه، عطره، إيقاعه، ومزاجه. انظر لاختيارك للكلمات. هل تتفق في المجاز أم تتضارب؟ افحص تشبيهاتك. ففي مشهد للحب الجارف، إن كتبت: إنه يبتسم مثل الهامبرجر، قد يكون هذا التشبيه ضارّا بالموقف.
التكرار: قد يميل عقلك لكلمات معينة ويريد مواصلة استخدامها. ابحث عن هذا في مراجعتك لموضوعك. واستعن بقاموسك لإيجاد المترادفات المناسبة. لكن تذكّر أن التكرار أفضل من استخدام كلمات غريبة أو غير مستخدمة.
القوانين أو القواعد: الكاتب فنان، لذلك عليه أن يدفع نفسه للتأكد من جوانب النحو والإملاء وعلامات الترقيم الغير واثق منها. مهما يكن، إذا كان الكاتب واثقا من تشرّبه للقواعد، فيكنه حين إذن كسرها –إذا كان لديه سبب وجيه لعمل ذلك. وإذا كان ما يكتبه ذا أثر جيد عند القراءة.
القطع: عندما تبدأ بالكتابة تشعر وكأن كل كلمة في النص ثمينة. ولكنها ليست كذلك. هذه بعض الطرق المقترحة لقطع الأجزاء الزائدة من نصك:
• ... حتى إن كانت فكرة، أو تشبيه أو جملة رائعة، إن لم تكن ذات علاقة بموضوعك: تخلص منها.
• ... أبرز نسخة من النص على جهاز الكمبيوتر، وحاول أن تمسح بعض الفقرات واطبع الموضوع على الورق ثانية. إذا لم يتطلب الموضوع إرجاع أي من الفقرات الممسوحة: فلا ترجعها.
• ... انظر لحوارك، إذا كان هنالك سطر وحيد لا يكشف عن الشخصية أو يقود للقصة: استأصله.
• ... أخيرا، عليك تحديد غاية كل جملة وكل كلمة وكل علامة من علامات الترقيم. هذه الخطوة هي الأخيرة وليست الأولى.
احترم جمهورك
المعرفة: دُعِيَ عالم ليحاضر في تخصصه، فسأل صاحب الدعوة عن مدى معرفة المستمعين. افترض أن صاحب الدعوة أجاب بأنهم جاهلون تماما لكنهم على قدر عال جدا من الذكاء. إن مراجعة جريدة النيويورك للكتب مثال جيد لهذا الأمر. فهي لا تتطلب منك معرفة أي شيء عن موضوع الكتاب المراجع. حيث يتم شرح الموضوع بإيجاز لتتم عملية توسيع مداركك بشكل مقبول.
لكن هل هذا هو الطريق الصحيح لك ككاتب؟ أنا لا أعتقد ذلك. هناك نوعين من المعرفة يفضل أن تلمح أو تفصح بهما: معرفة خاصة ومعرفة عامة. المعرفة الخاصة هي تلك الأشياء التي يمكنك أنت والقريبين منك شخصيا أو جغرافيا فقط أن يعرفوها. يجب عليك أن تقرر ما إذا كان لدى قرائك أيضا هذه المعرفة أو أن عليك نسجها في روايتك. أما مع المعرفة العامة فلا حاجة لك بالإفصاح عن كل شيء فالتلميح كافي في كثير من الحالات.
الفراغ: أشرك قراءك بالسماح لهم بقراءة ما بين السطور. الفلم التعليمي الذي يشترط شرح صوتي لما تراه على الشاشة من الأفضل أن يكون له أسباب قوية لذلك. وذلك لأن الأفلام التعليمية وسيلة للعرض البصري وليست للتعبير الصوتي. عند الكتابة، يجب أن يكون الحديث مقنعا، ولكن العرض يترك للقارئ مساحة فارغة ليملأها بتفسيراته الشخصية لربط ما تمت كتابته مع حياتهم وخبراتهم ومعرفتهم الخاصة. الكتابة الجيدة تكون هذا المزيج بشكل صحيح.
القراءة بصوت عالٍ
هذا هو وقت قراءة نصك المراجع بصوت عال. هل تتعثّر؟ إذن رما يوجد خطأ ما في تركيبة جملك. حاول مراجعتها، وحاول تبسيطها. الفكرة الجيدة والصورة القوية ستنجو، مهما يكن فهنالك تقدم متواضع. النحو والقواعد الجيدة لكن تخفي التفكير الضعيف.
عندما تشعر بتحسن نصك، سجله على شريط كاسيت أو على القرص الصلب. ركب السماعات وأغلق عينيك واستمع فقط. ثم اسمعه ثانية وثالثة واسأل نفسك هذه الأسئلة:
هل استمر لمدة طويلة جدا؟(/16)
إن كانت الإجابة نعم، إذن عليك إجراء المزيد من الاستئصال.
هل هنالك كلمات أو عبارات محزنة؟
إن كانت الإجابة نعم، إذن عليك تبسيط قلم ومصطلحاتك.
هل قمت بترتيب أفكاري وصوري بشكل متسلسل وواضح؟
إن كانت الإجابة نعم، تهانينا.
هل يمكنني سماع الموسيقى في نثري؟
إن كانت الإجابة نعم، فذلك رائع.
مشروع الكتابة
بعد الكثير من التمارين التي ساعدتك على اكتساب المهارة أنت الآن جاهز للعمل.
هيا لنبدأ معا:
رسائل للأصدقاء: انفعل مع الخطاب، وتحرر من القيود، واكتب بسرعة، واحتفظ بنسخ منها.
مفكرة: لا تحاول أبدا تسجيل كل شيء. اختر حادثا واحدا فقط حدث اليوم أو في الماضي. فربما تساعدك تلك الأحداث لتأليف قصة مع الوقت.
لأجيال المستقبل: جيلين من قصتك، مأساتك، سعادتك، حكمتك، حماقتك، شفقتك، ستصبح شيئا ذا قيمة بالنسبة لعائلتك. ومن يقرأها قد يختار منها شيئا يناسب شخصيته.
مقالة جريدة: الصحفي الذي يفهم الحقائق بشكل صحيح، ولديه فطنة وأسلوب نثري يزين به حديثه، بإمكانه أن يجد موضوعات قريبة بالقراء من حوله، يحولها بعد ذلك للطباعة.
المقال: إن كان الهيكل والمنطق والتنامي المثير للأفكار هو ما يهمك، فعليك قراءة بعض المقالات ثم جرب واحدا. ابحث عن رفاقك الكتّاب وتناقش معهم.
القصة القصيرة: لا تتوقع أن تنشر، ولكن التحق بجمعية أدبية أو حاول البدء في واحدة.
أخيرا، أتمنى لك سعادة كبيرة في تسلق هذا الجبل. قد تكون هنالك مشقة، وقد يصيبك الدوار أو العواصف. ولكن لا تنسى أن المنظر والمشهد يتحسن ويصبح أجمل مع الوقت.
تبلّد ذهن الكاتب
تستخدم عبارة ((تبلّد ذهن الكاتب)) في حالة توقف ذهن الكاتب عن التفكير بحيث يصبح غير قادر على المضي قدما في كتابة كلمة أخرى في الموضوع. إن هناك استراتيجيات عديدة يمكن أن تساعد في التغلب على هذه الحالة. وعلى سبيل المثال، فإن باستطاعتنا:
• ... التحاور مع المهتمين أو المطلعين على الموضوع المراد الكتابة عنه، والاستفادة من آرائهم. وفي إطار هذه العملية يتم توليد مسارات أو طرق جديدة لتناول الموضوع.
• ... أن نترك الكتابة جانباً لفترة ونعود إليها فيما بعد بنظرة جديدة.
• ... القراءة حول الموضوع.
• ... قراءة ما سبق كتابته.
لمذاكرة أفضل
________________________________________
المراجع:
• ... Study the Easy Way, written by Toby Brown.
• ... استراتيجيات للمذاكرة، إعداد بوب نيلسون، ترجمة علي الأحمد.
المقدمة
يقضي الإنسان منا عادة 12 سنة في المدرسة. وقد يضيف عليها 3-5 سنوات في الجامعة. ممن الممكن بعدها أن يستمر في دراسته ليحصل على الماجستير أو الدكتوراه. هذا بالإضافة إلى الدورات التعليمية في المجالات المختلفة سواء كانت متعلقة بالعمل أو بهوايات الشخص نفسه.
خلال هذه مدة الدراسة الطويلة هذه، يبذل الفرد منا جهدا ليس بسيطا لنجاح والحصول على الشهادات المطلوبة. وقد يوفّق البعض، بينما لا يوفّق الآخرين. وحتى درجة التوفيق في النجاح تختلف من شخص لآخر. بشكل عام، إن استطاع الإنسان إيجاد وسيلة مناسبة للدراسة، سيساعده ذلك على اجتياز هذه المرحلة بأقل "خسائر" ممكنة إن جاز لنا التعبير.
هذا ما سنقدمه خلال هذه الدورة. إنها تحتوي على بعض التنبيهات والنصائح التي تكوّن مجتمعة طريقة فعّالة للدراسة. قد يعتبر البعض أن هذه النصائح صعبة التطبيق. لكن بالإمكان اختيار ما يتناسب مع ظروف الشخص ونفسيته، وترك ما لا يتناسب معه.
المكان المناسب لك
إن الدراسة تشتمل على نشاطين رئيسيين هما (القراءة، والكتابة). ومن الضروري جدا البحث عن مكان مناسب لكلا الأمرين. من الأفضل توفر الأمور التالية في هذا المكان:
1. ... سطح عمل مريح (طاولة أو مكتب).
2. ... مقعد مريح.
3. ... إضاءة جيدة (مصباح متحرّك إن أمكن).
من السهل إيجاد المكان المناسب إن كنت تعيش بمفردك. أما إن كنت تعيش مع عائلتك، حاول الجلوس بعيدا عن أماكن الضوضاء والحركة في المنزل.
أربع طرق
هنالك أربع طرق لاكتساب المعلومات:
الرؤية، الاستماع، التسميع، الكتابة.
عادة ما تكون إحدى هذه الطرق هي الأفضل في التعلم من البقية. وهذا الأمر يختلف من شخص لآخر. لكن بشكل عام، كلما زادت عدد الحواس المشتركة في العملية التعليمية كلما زادت الاستفادة وتركزت المعلومات. ولنأخذ مثالا على دمج هذه الطرق:
1. ... استماع: عندما تحصر الفصل وتستمع لشرح المعلّم.
2. ... كتابة: عندما تدوّن الملاحظات.
3. ... رؤية: عندما تبدأ الدراسة وتقرأ ملاحظاتك.
4. ... تسميع: عندما تقرأ ما كتبت بصوت عال.
جزّء أوقات الدراسة(/17)
من الأفضل تحديد فترات للدراسة تتخللها فترات للراحة. فهذا يحول دون الإصابة بالإحباط او الإجهاد الذي قد يسببه التركيز لمدة طويلة. وهذا الأمر يحتاج لتخطيط. فإذا شعرت أنك بحاجة لساعة كاملة لتعلم مسألة إحصائية، قم بتقسيم هذه الساعة لثلاث فترات زمنية مدتها 20 دقيقة للدراسة وافصل بينها بـ 20 أو 30 دقيقة للراحة. يمكنك استغلال هذه أوقات الراحة هذه في أمور كثيرة، كأداء بعض الأعمال المنزلية، أو مشاهدة التلفزيون، أو ممارسة لعبة معينة، أو الاستماع للراديو. أما إن كان وقتك ضيقا فبإمكانك دراسة مادة ثانية في فترات الراحة هذه.
حاول أن لا تلجا لعملية "حشو الدماغ" الذي يلجأ له الكثير من الطلبة، حيث يبدءون الدراسة في اليوم الذي يسبق الامتحان مباشرة. لتلافي هذا الأمر يجب أن تقتنع تماما أن الدراسة يجب أن تكون أولا بأول. سيساعد هذا على التقليل من قلق الذي يسبق الامتحان عادة.
نصائح عامّة
النصيحة الأولى: تبادل أرقام الهواتف.
من الضروري جدا أن تتعرّف على اثنين أو أكثر من الطلبة في كل مادة من المواد، وأن تبادلهم أرقام هواتف. سيكون لديك بذلك من تستطيع مناقشته في المعلومات التي تعلمتها. كما أنك ستحصل على نسخ من الملاحظات والمعلومات والإعلانات التي دونت في المحاضرة في حالة غيابك عنها.
النصيحة الثانية: جهّز نفسك ذهنيا.
مارس عملية التأمل لتهدئة نفسك وتصفية ذهنك من جميع المشاكل والهموم قبل البدء بالدراسة. إن لم يسبق لك محاولة الاستغراق في التأمل، يوجد بالمكتبة العديد من الكتبة الجيدة حول "كيف يمكنك" ذلك.
إن كنت تعتقد أن هذا الأمر لا يناسبك، استخدم أساليبك الخاصة لتهدئة نفسك وتصفية ذهنك. قد يكون من المفيد تجربة قراءة جزء من القرآن، أو صلاة ركعتين، أو الاستماع لموسيقى الهادئة، أو أداء بعض التمارين الرياضية. لا يهم ما تعمله ما دام يدي إلى تصفية ذهنك قبل البدء بالدراسة.
النصيحة الثالثة: التبسيط.
ستمرّ عليك أثناء دراستك فقرات تبدو صعبة الحفظ. حاول أن تبسط هذه الفقرات إلى نقاط رئيسية مكوّنة من أفعال وأسماء. لنأخذ هذه الفقرة على سبيل المثال:
التشكيل الثقافي هو التعليم على ربط عاملين في البيئة ببعضهما. العامل الأول يؤدي إلى رد فعل أو شعور معين. العامل الثاني محايد بطبعه بالنسبة لردة الفعل ، ولكن عند ربطه بالأول يحدث رد الفعل المتشكل عند الشخص منذ الصغر. مثال على التشكيل الثقافي أن كلمة وجه القمر تشير إلى الجمال عند العرب ، لكنها تشير إلى القبح عند الأمريكيين.
بدلاً من قراءة كل كلمة، يمكنك تفكيك القطعة بصرياً:
التشكيل الثقافي = التعليم = ربط عاملين
العامل الأول يؤدي إلى رد فعل
العامل الثاني = محايد بطبعه. لكن بعد ربطه بالأول --- يحدث رد الفعل.
النصيحة الرابعة: الترتيب الهجائي.
يمكن للترتيب الهجائي أن يساعد في حفظ المعلومات. افترض أن عليك تذكّر الأطعمة التسعة التالية: فاصوليا، فول، شمندر، لوبياء، فراولة، لحم، شعير، فجل، لوز.
نلاحظ هنا أن الأسماء مقسّمة إلى ثلاثة حروف هي (ش، ف، ل) –كالشعير، الفول، اللوز... الخ.
قد يساعد هذا الترتيب على الحفظ. استخدم خيالك لإيجاد أن نظام يساعدك على التذكّر.
النصيحة الخامسة: تعلّم بينما أنت نائم.
أخيرا اقرأ أي شيء تجد صعوبة في تعلّمه قبل الذهاب للنوم مباشرة. يبدو أن تماسك المعلومات يكون أكثر كفاءة وفاعلية خلال النوم. إن عقلك "النائم" أكثر صفاء من عقلك "المستيقظ".
الكتب
يمكنك تثبيت المعلومات في عقلك باتباع أساليب بسيطة، من أهمها (تخطيط وإبراز) الأفكار الهامة في الكتاب. وهذه بعض الأمور التي قد تساعدك في عمل ذلك:
• ... اقرأ قسماً واحداً فقط وعلم ما تريد بعناية.
• ... أرسم دائرة أو مربع حول الكلمات المهمة أو الصعبة.
• ... على الهامش رٌقم الأفكار المهمة والرئيسية.
• ... ضع خطاً تحت كل المعلومات التي تعتقد بأهميتها.
• ... ضع خطاً تحت كل التعاريف والمصطلحات.
• ... علم الأمثلة التي تُعبر عن النقاط الرئيسة.
• ... في المساحة البيضاء من الكتاب أُكتب خلاصات ومقاطع وأسئلة.
توجد أيضا عدة طرق مفيدة ثم تطويرها للمساعدة على تعلّم الكتب بكفاءة أعلى. من هذه الطرق:
طريقة SQ3R للقراءة: وهي وسيلة لدراسة فعّالة طوّرها د. فرانسيس روبينسون. هذه الطريقة مبنية على خمسة المبادئ: تصفح، تسائل، اقرأ، سمّع، راجع.
تصفح: اقرأ مقدمة الفصل. ستتكون لديك بذلك فكرة عامة عنه. ثم مر على الصفحات التالية محاولا قراءة العناوين والكلمات البارزة وما كتب على الصور والأشكال البيانية. حاول مراجعة الإشارات التي وضعها المدرّس –إن وجدت، وأخيرا حاول قراءة أي ملخص موجود للفقرات أو الفصل.(/18)
تسائل: حول اسم الفصل وعناوينه الفرعية إلى أسئلة. سيساعدك هذا على تذكّر المعلومات التي تعرفها واستيعاب معلومات جديدة بسرعة أكبر. بإمكانك أن تسأل نفسك "ماذا أعرف عن هذه المادة؟" و "ماذا قال المدرّس عن هذه المادة؟". واقرأ الأسئلة الموجودة في الكتاب عن كل فصل –إن وجدت كذلك. ولا تنسى أن تترك فراغا تحت السؤال لتملأه بالإجابة حينما تتأكد منها.
اقرأ: ابدأ بالقراءة وسجل ملاحظاتك، وابحث عن أجوبة للأسئلة التي طرحتها من قبل. اقرأ المقاطع الصعبة بتروّي وتركيز، توقف وأعد قراءة الأجزاء التي لم تفهمها، اقرأ القسم وراجعه قبل الانتقال إلى قسم آخر. وحاول حل الأسئلة الموجودة في نهاية كل فصل من الكتاب –إن وجدت.
سمّع: بعدما تنتهي من القسم، سمّع لنفسك الأجوبة التي وضعتها. تأكد من كتابة الأجوبة في هوامش الكتاب وأوراق خارجية. وسمّع مرة أخرى ما قمت بكتابته.
راجع: عندما تنتهي من قراءة الفصل، انظر إن كان بإمكانك الإجابة عن جميع الأسئلة التي وضعتها. وتأكد من أنك كتبت بعض المعلومات بتعبيراتك أنت في هوامش الكتاب وأوراق خارجية، ووضعت خطوطا تحت المفاهيم والنقاط الهامة. كما تأكد من فهمك لكل ما كتبته أو وضعت خطا تحته. سيساعد هذا على تثبيت المعلومات في الذهن.
ما يجب الحرص عليه هو: أن المراجعة عملية مستمرة. وإليك بعض النصائح الإضافية للمراجعة:
• ... راجع المواد بشكل يومي ولو لمدة قصيرة.
• ... إقراء الدرس قبل الحصة.
• ... راجع مع حلقة دراسية (هذا سيساعدك على تغطية نقاط مهمة ربما تجاهلتها عند المذاكرة لوحدك).
• ... ذاكر المواد الصعبة عندما يكون عقلك في أنشط حالاته.
طريقة ميردر للدراسة:
المزاج: تحلى بمزاج إيجابي للمذاكرة، وتخٌير الوقت والبيئة المناسبين للمذاكرة.
الفهم: ضع علامة أية معلومات لا تفهمها من الكتاب، وركز على جزء معين من الكتاب أو على مجموعة تمارين.
استرجع: بعد قراءة الوحدة توقف وأعد صياغة ما تعلّمته بأسلوبك.
استوعب: تفحّص المعلومات التي لم تفهمها، وحاول الرجوع لمصادر إضافة، ككتب أخرى عن نفس المادة، أو مدرّس بإمكانه توضيح هذه المعلومات لك.
توسع: في هذه الخطوة، اسأل ثلاثة أسئلة عن المواد المدروسة:
1. ... لو استطعت الحديث مع مؤلف الكتاب، ما هي الأسئلة والانتقادات التي سأطرحها؟
2. ... كيف أطبق هذه المعلومات في اهتماماتي اليومية؟
3. ... كيف أجعل هذه المعلومات مفهومة ومرغوبة لباقي الطلبة؟
راجع: ليست الدراسة كل شيء، إنما عليك المراجعة بعد الانتهاء من الدراسة.
تدوين الملاحظات وكتابة الملخصات
هذه الملاحظات والملخصات قد تكون للكتاب أو قد تكون لشرح المدرّس. وهذه بعد النصائح لكتابة هذه الملخصات:
• ... أي أمر يؤكد عليه المدرس أو يستغرق به وقتا لإملائه أو كتابته على اللوحة يجب أن يدون في دفتر ملاحظاتك. متضمنا الرسومات البيانية وشروحاتها.
• ... لا تحاول أن تكتب كل كلمة ينطق بها المعلّم. اكتب فقط المفاهيم الأساسية، والكلمات الرئيسية وتعاريفها. فغالبا ما يكون الكتاب ممتلئا بالتفاصيل.
• ... إذا لم تفهم أي معلومة اطلب من المعلّم أن يعيد شرحها. إذا كان سؤالك في الفصل يسبب لك الإحراج قم بذلك بعد الفصل أو اسأل أحد الطلبة الذي تبادلت أرقام الهواتف معهم. اسأل بعد الفصل مباشرة ولا تنتظر لليوم التالي فربما تنسى سؤالك.
• ... تأكد من عمل قائمة بجميع المصطلحات المهمة الموجودة بالكتاب، حتى إن لم يتطرق لها المعلّم في شرحه.
وإليك طريقة لتنظيم ورقة المصطلحات. ثم اكتب قائمة بالمصطلحات والمفاهيم في الجنب الأيمن أما التعاريف فاكتبها في الجنب الأيسر كهذا:
الكلمات:
- الدراسة
- التعلم ... التعاريف:
- هي الأعمال التي نقوم بها لكسب المعرفة أو الفهم.
- الحصول على المعرفة أو المهارة.
اقرأ هذه القائمة بصوت عال. أثناء قراءتك ستتمكن من معرفة الأجزاء التي تحفظها جيدا. أعد كتابة الأجزاء التي لا تعرفها جيدا.
أعد قراءتهم بصوت عال كما كتبتها.(هذا الأسلوب يجمع بين الطرق الأربعة للتعلم: الرؤية، التسميع، الاستماع، الكتابة).
الآن ابدأ باختبار نفسك. اخفي التعاريف بورقة فارغة وحاول أن تكتب تعريف كل مصطلح من المصطلحات. عندما تنهي الصفحة تأكد من إجاباتك. أعد كتابة المصطلحات التي لم تعرفها.
ثم اخفي المصطلحات وانظر إن كان بإمكانك كتابة المصطلحات من خلال قراءتك للتعاريف. مرة أخرى اكتب المصطلحات المفقودة. وابدأ العملية من جديد. في كل مرة ستقصر قائمتك إلى أن يبقى لديك القليل من الأمور التي تعاني مشاكل في تذكرها.
أخيرا، في اليوم الذي يسبق الامتحان، اقرأ جميع صفحات ملاحظاتك (الملاحظات الأصلية بالإضافة إلى القوائم المعادة كتابتها) بصوت عال. اختبر نفسك إن شعرت أن هذا ضروري. واقرأ آخر ورقة من الملاحظات المعاد كتابتها التي تحتوي على أصعب الأمور للتذكر قبل ذهابك للنوم. اقرأ هذه القائمة مجددا قبل الدخول للامتحان.(/19)
نصائح للاختبار
هنالك خمسة أنواع رئيسية للأسئلة:
صح أم خطأ، الخيارات المتعددة، املأ الفراغ، الإجابات القصيرة، الأسئلة المقالية.
• ... ألق نظرة سريعة على الامتحان كاملا، سيساعدك ذلك على تحديد الوقت المطلوب للإجابة على كل قسم.
• ... اقرأ الأسئلة المقالية أولا قبل الإجابة على أي جزء من الاختبار. عندما تبدأ بحل الأجزاء الأخرى سجل باختصار العبارات والأفكار تراها مناسبة للقسم المقالي.
• ... تجاوز أي سؤال تواجهك به مشاكل، فيمكنك الرجوع له لاحقا، وربما تساعدك الأسئلة التالية على تذكّر الإجابة.
• ... أسئلة الصح والخطأ والخيارات المتعددة عادة ما تكون الأسهل. لذا قم بحل هذه الأجزاء أولا إن أمكنك ذلك. وربما ساعدتك هذه الأسئلة على تذكّر إجابات املأ الفراغ وإعطائك أفكار للأسئلة المقالية.
• ... كن حذرا من الأسئلة السلبية مثل "ما الذي لا ينتمي إلى القرن الحادي والعشرين؟". "أي من الكلمات التالية ليست فعلا".
• ... إجابة تخمينية جيدة أفضل من ترك الورقة بيضاء وقد تحصل منها على بعض العلامات. لا تحاول أن تتفنن في تخمينك.
• ... اكتب إجاباتك القصيرة في جمل بسيطة وواضحة. تضمين الإجابة والمعلومة الصحيحة أهم من الرونق الأدبي.
• ... الأسئلة المقالية تمتحن قدرة الطالب على التفكير والربط بين الأفكار في الموضوع. المعلومات الصحيحة مهمة، ولكن تقديمها في إطار منظم ومترابط مهم أيضا. وهذه بعض النصائح لحل الأسئلة من هذا النوع:
o ... ابتدأ بكتابة المعلومات (التعاريف والمصطلحات المهمة التي لا تريد أن تنساها) على صفحة بيضاء.
o ... اقرأ كل الأسئلة المقالية بدقة قبل أن تبدأ الكتابة، فغالبا ما تكون هنالك أسئلة اختيارية. اختر دائما السؤال المستعد لإجابته بشكل دقيق. وقدر الوقت الضروري للسؤال.
o ... ابدأ كتابة جوابك بجملة متينة تحتوى على الفكرة الرئيسية للموضوع. فالمقطع الأول يقدم خريطة لبقية الجواب عبر سرد النقاط الأساسية. بعد ذلك توسع بشرح كل نقطة على حدة.
o ... ركز على النقاط الرئيسية في إجابتك. استخدم النقاط الرئيسية لتبدأ الجملة. لا تضمّن أكثر من نقطة في الجملة الواحدة. استخدم أدوات الربط أو الترقيم لتنسيق أفكارك.
o ... انهي إجاباتك الكتابية بخاتمة متينة. يمكنك إعادة كتابة فكرتك الرئيسية وشرح سبب أهميتها. ثم راجع ورقتك لتصحيح الأخطاء الإملائية وتأكد أنها سهلة القراءة. إذا ضايقك الوقت، ضع إجابتك في خطوط عريضة.
الخاتمة
أشكرك على قراءتك هذه الدورة. وأتمنى أن تساعدك هذه الوسائل على تطوير مستواك الدراسي أو إيجاد وسائل جديدة لعمل ذلك.
السيرة الذاتية
________________________________________
كل منا يريد أ يحصل على عمل، يكسب بعض المال منه. وعندما يقدم طلبا لوظيفة معينة، يطلب منه إحضار بعض الأوراق، كالشهادات وغيرها. ومن هذه الأوراق ما يسمى "بالسيرة الذاتية" وهي عبارة عن ملخص للمعلومات الشخصية، والخبرات، والمؤهلات، والمهارات، وغيرها من الأمور التي تساعد أصحاب العمل على معرفة مميزاتك.
وكلما كانت هذه السيرة الذاتية أوضح، كلما ساعد ذلك في إبراز مزاياك لأصحاب العمل.
لذا، وضعنا في هذا الفصل، نموذج مقترح لشكل السيرة الذاتية، يمكنك تعديله بما يتناسب مع مؤهلاتك.
السيرة الذاتية
________________________________________
المعلومات الشخصية
________________________________________
الاسم: خالد محمد الحر
العنوان: ص ب 11611 الدوحة - قطر
رقم الهاتف : 02456546
لجنسية : قطري
الحالة الاجتماعية : عازب
العمر : 23 سنة
الهدف الوظيفي : مبرمج كمبيوتر.
________________________________________
المؤهلات العلمية
________________________________________
سبتمبر 1994 - يونيو 1999 : بكالريوس إدارة أعمال ، جامعة قطر,
الدوحة ، قطر ، 1999.
سبتمبر 1992 – يونيو 1995: شهادة الثانوية العامة ، مدرسة الأحمدي الدوحة ،
قطر ، 1995.
________________________________________
الدورات
________________________________________
15 يونيو – 18 أغسطس ،1995: دورة في استخدام الكمبيوتر (WINDOWS 3.1) مركز الأفاق .
________________________________________
الخبرات
________________________________________
6 فبراير- 14 يونيو ،1999: تدريب عملي وزارة الأشغال ، قسم الكمبيوتر ،
العمل : إنشاء نظام قاعدة بيانات في أوراكل 8 لقسم المشتريات
و لقسم الصادر والوارد .
1 أغسطس - 30 فبراير ،1998 : تدريب صيفي في مؤسسة الدوحة للإعلام ، إدارة الشؤون الإدارية
و المالية ، قسم الكمبيوتر .
العمل : التدريب على إنشاء نماذج في الأوراكل .
يونيو - سبتمبر ،1997: تدريب صيفي في وزارة الإسكان ، قسم الكمبيوتر .
العمل: مصمم صفحات للإنترانت.
________________________________________
الإنجازات
________________________________________(/20)
• ... ممثل طلاب في جمعية شؤون الطلبة في الكلية ، 1997 .
• ... المشاركة في تنظيم مؤتمر تكنولوجيا المعلومات التجارية (BIT CONFERENCE) ، جامعة قطر ، 1998 . العمل: تنظيم قاعة المؤتمر .
• ... الحصول على شهادة دولية في اللغة الإنجليزية - International English Language Testing System (IELTS) - في 1998 بدرجة 6.5 من جامعة كامبريدج (Cambridge Local Examinations Syndicate University).
• ... تحليل نظام لقسم الصادر والوارد ، و تحليل و إنشاء نظام لقاعدة البيانات على أوراكل ، لقسم الإسكان ، المؤسسة الثقافية ، 1999.
________________________________________
المهارات
________________________________________
• ... استخدام الحاسب بإتقان ، طباعة على الآلة الكاتبة والحاسب باللغتين العربية الإنجليزية.
• ... قيادة السيارة.
________________________________________
اللغات
________________________________________
اللغة العربية و اللغة الإنجليزية ، قراءة وكتابة وتحدثا : مستوى جيد جدا.
________________________________________
الهوايات
________________________________________
ممارسة لعبة الشطرنج ، الرياضة .
________________________________________
المعرفون
________________________________________
• ... الأستاذ : توني هرن ، أستاذ في اللغة الإنجليزية ، جامعة قطر (الدوحة ، دولة قطر ، هاتف : 1231231 ، فاكس 4443232 ، البريد الإلكتروني : t_haren@hotmail.com ، ص ب : 3321)
• ... الأستاذ: سالم علي أحمد ، مدرس كمبيوتر ، جامعة قطر ( الدوحة ، دولة قطر ، هاتف : 1231231 ، فاكس 4443232 ، البريد الإلكتروني : salem@email.com , ص ب : 3321)
• ... الأستاذة: إليتا جورج ، مدرسة كمبيوتر، جامعة قطر ( الدوحة ، دولة قطر ، هاتف : 1231231 ، فاكس 4443232 ، البريد الإلكتروني : ereta@flashmail.com ، هاتف متحرك : 5554544 ، ص ب : 3321)
________________________________________التاريخ : 20 يونيو 2001
مع تمنياتنا لكم بدوام التوفيق.
ملاحظة: المعلومات الواردة في النموذج عبارة عن معلومات وهمية وضعت للتوضيح فقط.
إعداد: إماراتية(/21)
مهارات تعديل سلوك الأطفال
________________________________________
تعديل السلوك Behavior Modification
تعديل السلوك هو فرع من فروع علم النفس التطبيقية يتضمن التطبيق المنظم للإجراءات المستندة إلى مبادئ التعلم بهدف تغيير السلوك الإنساني ذي الأهداف الاجتماعية .ويتم ذلك من خلال تنظيم أو إعادة تنظيم الظروف والمتغيرات البيئية الحالية ذات العلاقة بالسلوك وبخاصة منها تلك التي تحدث بعد السلوك كذلك يشتمل تعديل السلوك على تقديم الأدلة على أن تلك الإجراءات وحدها ولا شيء غيرها هي التي تكمن وراء التغير الملاحظ في السلوك.
وقد حققت تكنولوجيا تعديل السلوك في العقود الأربعة الماضية نجاحا هائلا في ميدان التربية وعلى وجه التحديد قدمت هذه التكنولوجيا استراتيجيات فعالة للتدخل العلاجي والتربوي يمكن توظيفها بنجاح وبسهولة نسبيا لتشكيل السلوك التكيفي وإزالة السلوك غير التكيفي. وقد كان لهذا النجاح اثر بالغ على مسار التربية.
ملاحظة سلوك الأطفال:
الطفل إنسان نام دائم التغير وعليه فان سلوكه في أي لحظه أو مناسبة قد يختلف كثيرا أو قليلا عنه في الأخرى نتيجة تنوع المتغيرات النفسية والبيئية التي تؤثر عليه في كل حاله.
شروط مسبقة لملاحظة السلوك:
1. ... التأكد من رغبة الطفل في التعاون وقبول التغيير في سلوكه.
2. ... كون البيئة الضرورية كافية ومناسبة لعملية التغيير.
3. ... وجود الوقت الكافي للتغيير حتى النهاية.
4. ... امتلاك المعالج للسلوك للمعرفة الكافية والخبرة والميول الإيجابية التي تساعده على المعالجة.
خطوات ملاحظة سلوك الطفل استعدادا لتعديله:
تشمل ملاحظة وتحليل السلوك ثلاث عمليات هي:
1. تحديد طبيعة المشكلة السلوكية:
تستلزم طبيعة السلوك الإنساني المركبة المتغيرة تحديد المعالج ماهية السلوك الذي يريد تعديله بدرجة مقبولة من الدقة حيث يتعين عليه تحديد ووصف خمسة أجزاء أو عناصر تشكل معا مقومات فهمه أو إدراكه للسلوك المطلوب للطفل:
• العوامل المكونة للسلوك:
وتتمثل في كافة المنبهات والعوامل البيئية التي تثير لدى الطفل السلوك غير المرغوب ولا يتوقف تحديد هذه المثيرات السلوكية على العوامل الخارجية فقط بل يجب أن تشمل أي عامل ذاتي لدى الطفل كحاجة نفسية او خاصية جسمية قد تساهم في إنتاج سلوكه السلبي.
• الحالة البيولوجية:
وتشمل عوامل كحالة الطفل الجسمية وما يعتريها من عاهات وعلل وقدراته العقلية العامة واستقراره العاطفي أو النفسي تساعد معرفة هذه العوامل المعالج على تغيير البيئة المحيطة بالطفل بالصيغ المفيدة لتصحيح الحالة البيولوجية والاستجابة لمتطلباتها.
• الإجابة السلوكية العامة:
يعين المعالج نوع الإجابات الحركية واللفظية التي تمثل دائما سلوك الطفل كالصراخ مثلا وهذه الإجابات السلوكية إما أن تكون تقليدية الاشراط كما في طريقة بافلوف وواطسن او فعالية الاشراط كما في طريقة سكنر فإذا كان صراخ الطفل تقليدي الاشراط عندئذ قد تكون عوامل البيئة ومنبهاتها السبب الرئيسي في حدوثه حيث يتم تحديدها والعمل على إزالتها لتصحيح السلوك أو حذفه، أما إذا كان الصراخ فعال الاشراط أي نتائجه الذاتية على الطفل هي التي تحفز القيام به مرة ثانية عندئذ يعمل المعالج في الغالب إلى إجراء تعزيزي سلبي أو إيجابي يتولى رعاية النتائج لديه أو حرمانه منها للسيطرة على مشكلته السلوكية أو الحد منها.
• معززات السلوك :
يلاحظ المعالج هنا نوع معززات السلوك عند الطفل سواء هذه ذاتية او خارجية سلبية او إيجابية يفيد هذا التحديد على ضبط أنواع المعززات ودرجة قوتها التي تؤثر في السلوك عند إجراء التعديل
• العلاقة المحتملة بين الإجابة والتعزيز
يعين المعالج بالملاحظة والوصف الاستجابات التي يبديها الطفل نتيجة توفر معزز او منبه محدد وهذا يوصل بالطبع إلى تحديد نوع المعزز وقوته من إنتاج السلوك للمساعدة في بناء جداول التعزيز اللازمة لتنفيذ عملية تعديل السلوك
خطوات التعرف على المشكلة السلوكية(ملاحظتها) وتحديد طبيعتها العامة
اسم الطفل............. العمر............. التاريخ..................
المشكلة العامة...............................................
ماهية المشكلة لدى الطفل ووسيلة التعبيرعنها.....................................................
العوامل المكونة للمشكلة .................................
نوع سلوك المشكلة .......................................
منبهات ومعززات السلوك .............................
قوة المنبهات أو المعززات ...........................
توصيات عامة لمعالجة المشكلة ونوع السلوك
المرغوب احداثة .......................................
تحديد نموذج حدوث المشكلة(/1)
بعد معرفة المعالج لنوع المشكلة السلوكية وتخصيص عواملها ومنبهاتها ومعززاتها يقوم الآن بملاحظة نموذج حدوث المشكلة (السلوك المشكل ) لدى الطفل ،أي مقدار تكرار الطفل للسلوك خلال مدة زمنية مثل عشرة دقائق او نصف ساعة او ساعة او حصة دراسية او يوم كامل
والخط القاعدي في علم تعديل السلوك هو نموذج تكرارية السلوك طبيعيا خلال فترة زمنية او اكثر يقوم المعالج بملاحظته فيها فبل عملية التعديل وعند تحديد الخط القاعدي يجدر بالمعالج ما يلي:
عدم معرفة الطفل بعملية الملاحظة وتحديد الخط القاعدي لسلوكه قرآن كريم
إتمام الملاحظة من قبل اثنين على الأقل كلما أمكن ذلك وذلك للتأكد من صلاحية ودقة قرآن كريم النتائج
إنجاز الملاحظة في فترة محددة من الأسبوع او اليوم او الحصة وان تتم معالجتها قرآن كريم فيما بعد في فترات مماثلة وذلك لاحتمال اختلاف العوامل البيئية المؤثرة على حدوث السلوك من فترة إلى أخرى
تمثيل نموذج حدوث المشكلة (الخط القاعدي) بالرسم
تصبح المشكلة السلوكية في هذه المرحلة واضحة لدى المعالج وما علية إلا تلخيص بيناتها وتمثيلها بالرسم لاختيار استراتيجية لمعالجتها وتنفيذ عملية تعديلها
يستفاد من الرسم ما يلي:
دعم تصور المعالج بالمشاهدة المحسوسة?
مساعدة المعالج على إدراك لطريقة او أسلوب المعالجة?
استنتاج مدى نجاح عملية التعديل السلوكي وإجراءاتها في تغيير السلوك المطلوب من? خلال مقارنة حدوثه قبل وبعد عملية التعديل
استخلاص بعض العلاقات التي قد تربط بين استراتيجية التعديل ومقدار التغير الناتج? في السلوك وبين نموذج السلوك قبل التعديل وبعده وبين المعززات المستعملة وقوتها والسلوك نفسه
تصميم عملية تعديل سلوك الأطفال
إن انتهاء المعالج من تحديد طبيعة المشكلة السلوكية ونموذج حدوثها بالرسم يؤدي به إلى اختيار إجرائي إحصائي يستطيع بواسطته تنظيم مدخلات وعمليات التعديل من مخرجاتها المطلوبة
إن التصميم المنفرد يمكن تطبيقه بعدة أساليب منها ما يلي:
تصميم الموضوع المنفرد البسيط?
تصميم العكس او الإبطال?
تصميم الخط القاعدي المتعدد..... ويضم التصاميم التالية:?
تصميم الخط القاعدي المتعدد لسلوك مختلفة?
تصميم الخط القاعدي المتعدد بظروف بيئية مختلفة?
تصميم الخط القاعدي المتعدد بعدة تلاميذ?
تعديل سلوك الطفل بتصميم الموضوع المنفرد البسيط
يعمد المعالج خلال هذا التصميم إلى اختيار إجراء التعديل المناسب للسلوك الذي سيعمل على تغييره ثم استخدامه مع الطفل وبعد انتهاء المدة المخصصة لتعديل السلوك يقيس المعالج فاعلية الإجراء على أساس الخط القاعدي المتوفر لديه
تنتهي مهمة المعالج حسب هذا التصميم حال تحققه من حدوث التغيير في سلوك الطفل دون حاجة إلى متابعته للتأكد من استمراره لدى الطفل واستقراره في شخصيته وتتلخص عملية التعديل السلوكي بواسطة تصميم الموضوع المنفرد البسيط كما يلي:
الخط القاعدي للسلوك ? إجراء التعديل السلوكي
تعديل سلوك الأطفال بتصميم العكس أو الإبطال
يعين المعالج في هذه الطريقة – كما في الحال دائما – الخط القاعدي الأول لسلوك الطفل ثم يقوم بإجراء عملية التعديل . عند انتهاء عملية التعديل وتحقق المعالج من حدوث التغيير المطلوب في سلوك التلميذ .يرجعه (الطفل)إلى ظروفه السابقة التي سادت فترة تعيين الخط القاعدي لسلوكه ،ليرى إذا كان هذا التغيير الحاصل قد نتج من عوامل جانبية غير مرئية او من إجراء التعديل نفسه .وعلى هذا سمي هذا النوع من التصميم بالعكس او الإبطال لان المعالج فيه يقوم بعكس ظروف الطفل إلى حالتها الطبيعة السابقة ،او إبطال الظروف الجديدة (ظروف إجراء التعديل ) والعودة بالطفل مرة أخرى إلى ظروفه القديمة السابقة
يطلق على المرحلة الجديدة التي يعيشها الطفل للتحقق من صدق اثر إجراء التعديل على سلوكه بمرحلة العكس أو الإبطال او مرحلة الخط القاعدي الثاني
تعديل سلوك الطفل بتصميم الخط القاعدي المتعدد
يشمل هذا الأسلوب ثلاثة تصاميم أخرى فرعية هي:
تصميم الخط القاعدي المتعدد لسلوك مختلفة(/2)
يتلخص تصميم الخط القاعدي المتعدد بسلوك مختلفة بتعيين المعالج لعدة سلوك مختلفة لواحد من الأطفال أو مجموعة منهم مثل الخروج من المقعد أو وخز الآخرين او الصراخ المفاجئ ثم يلاحظها واحدا بعد الآخر لتحديد نموذج حدوثها والحصول على خطوطها القاعدية، يختار المعالج ألان اجرءا تعديليا سلبيا أو إيجابيا لمعالجة هذه السلوك الثلاثة بواسطته بادئا بسلوك واحد فقط حيث بعد التحقق من صلاحية الإجراء وتأثيره في تعديل السلوك الأول ينتقل إلى تعديل السلوك الثاني وإذا حدث أن تغير السلوك الثاني حسب المطلوب حينئذ يستعمل المعالج الإجراء في معالجة السلوك الأول والثاني والثالث وهكذا ،فإذا كان الأثر الذي أحدثه الإجراء على السلوك المختلفة إيجابيا يستطيع المعالج القول على أساس ذلك بان الإجراء الذي استعمله كان السبب في إحداث التغيير المطلوب في أنواع السلوك المختلفة للطفل أو مجموعة من الأطفال
تصميم الخط القاعدي المتعدد بظروف بيئية مختلفة
يقصد بالظرف البيئية المختلفة، المواقف اليومية المتنوعة التي يمكن للطفل فيها إظهار السلوك ويختار المعالج خلال هذا التصميم سلوكا واحدا للطفل يرى ضرورة تعديله ثم يقوم بتحديد نموذج حدوثه – خطه القاعدي في عدة مواقف مختلفة مثل ساحة المدرسة خلال فترة الفسحة وفي الفصل خلال نشاط المادة وفي البيت
يعين المعالج إجراء التعديل الذي يراه مناسبا لسلوك الطفل ثم يستعمله أولا في الفصل فإذا نجح في إحداث التغيير المطلوب ينتقل إلى ساحة المدرسة للتجربة وهكذا تماما كما هي الحال في تصميم الخط القاعدي المتعدد لسلوك مختلفة
تصميم الخط القاعدي المتعدد بعدة أطفال
قد يجد المعالج في بعض الحالات أن عددا من الأطفال يقومون بنوع واحد من السلوك الإيجابي أو السلبي مثل التعاون والعناية بالآخرين ،الصدق في الحديث أو كذبه ،حب النكتة والتندر ،الاعتداء على الآخرين........
يتولى المعالج بعد التحقق من نوع السلوك الذي يرى تعديله وعدد الأطفال الذين يتصفون به ملاحظة نموذج حدوث السلوك – خطه القاعدي لدى كل منهم ثم يختار إجراء التعديل المناسب- المعزز الإيجابي أو السلبي – لإحداث التغيير المطلوب فيه . وكما هو الأمر في تصميم الخط القاعدي المتعدد بسلوك مختلفة وظروف بيئية مختلفة يجرب المعالج فعالية المعزز الذي اختاره في أحداث التغيير في سلوك الطفل الأول فإذا نجح في هذا يجرب المعزز مع الطفل الثاني (بالإضافة إلى استمرار التجربة مع الطفل الأول ) وإذا ثبت أن المعزز مؤثر أيضا في سلوك الطفل الثاني يبدا حينئذ باستعماله مع الثالث وهكذا مع بقية الأطفال
أنواع وإجراءات تعديل سلوك الأطفال
تتمثل هذه الأنواع بأربعة هي:
1. تعديل سلوك الأطفال بزيادة حدوثه
2. تعديل سلوك الأطفال بتكوين عادات جديدة
3. تعديل سلوك الأطفال بتقليله أو حذفه
4. تقوية وصيانة سلوك الأطفال
أولا..... تعديل سلوك الأطفال بزيادة حدوثه
يتصف السلوك الذي يجري تعديله هنا بالإيجابية عموما ومع هذا فان مقدار حدوثه لدى الطفل ليس بالدرجة الكافية وعليه يعمد المعالج إلى تنمية وزيادته باستخدام التعزيز الإيجابي
وسائل التعزيز الإيجابي في زيادة السلوك
المنبهات الإيجابية الأساسية (الطعام ،الشراب ،الدفء....)?
المنبهات الإيجابية المشروطة ،وتسمى في بعض الأحيان المنبهات الثانوية (المديح? والثناء،الهدايا الرمزية ،الألقاب الأدبية ......)
المنبهات العامة ،المنبهات العامة هي نوع من المعززات المشروطة التي تعمل على? إثارة عدد متنوع من السلوك لدى كثير من الأطفال
مبادئ عامة لاستخدام المعززات الإيجابية في زيادة سلوك الأطفال
التركيز على المعززات الاجتماعية?
الاعتدال في التقديم?
إقران منبه إيجابي بآخر?
استعمال المعززات الرمزية?
التعميم من موقف سلوكي إلى آخر?
ثانيا..... تعديل سلوك الأطفال بتكوين عادات جديدة
مبادئ عامة لتكوين عادات جديدة
عندما يتحدث المعالج(المربي)عن تعليم الطفل عادات جديدة يعني أن هذا الطفل يفتقر إلى هذه العادات وأنها أيضا ذات أهمية له لدرجة تستحق معها المحاولة لزرعها في شخصيته أو تكوينها لديه .
ويتوجب على المعالج(المربي) عند تعليم الطفل لعادات جديدة ،مراعات كافة الخطوات والعمليات تشملها مهمة تعديل السلوك والتي مرت سابقا مع تركيزه بهذه المناسبة على ما يأتي:
1. تحديد معايير لتحديد صحة السلوك الجديد وعناصره العامة
2. تحديد معايير لقياس صحة السلوك الجديد ،تتمثل في الغالب بمواصفات واجزاء السلوك في الخطوة السابقة
3. تحديد نقطة البداية السلوكية التي سيبنى عليها السلوك الجديد
4. اختيار طريقة لتكوين السلوك الجديد ،كان تكون إحدى الإجراءات التالية أو خليط منها كالمفاضلة ،والحث والاقتداء ،والتشكيل ،والتسلسل والتلاشي التدريجي.
5. اختيار المعززات السلوكية وطريقة تقديمها للطفل(/3)
6. تنفيذ عملية التعديل – تعليم العادة أو السلوك الجديد بإحدى الإجراءات الواردة في رقم( 4)
وسائل تعديل السلوك بتكوين عادات جديدة
1- المفاضلة.
يقوم المعالج(المربي) بملاحظة أنواع السلوك المختلفة التي يبديها الطفل وعندما يلاحظ تشابه أحدها لدرجة كبيرة مع نوع السلوك المرغوب الذي يود تطويره لديه ،يتولى عندئذ تعزيزه حسب جدول مناسب ،وننصح المربي استعمال جدول التعزيز المتواصل حيث يستطيع به تعزيز سلوك الطفل في كل مرة يحدث فيها ،حتى إذا تبلور هذا السلوك الجديد يمكن للمربي بعدئذ استعمال جدول آخر حسبما تقتضيه طبيعة السلوك وحاجة الطفل إلى التعزيز
2- الحث والاقتداء بالنماذج
إن الملاحظة من الوسائل الهامة المباشرة وغير المباشرة التي يتم فيها تعديل السلوك الفردي بشكل مقصود أو ذاتي عفوي
وعلى المعالج(المربي) عند اختياره للنموذج الذي سيقتدي الطفل بسلوكه ان يراعي الأمور التالية :
شهرة النموذج أو شعبيته ،يجب أن يتميز النموذج بالسلوك الذي يراد تقليده? والاقتداء به كما يستحسن أن يكون ذا شخصية مفضلة ومحببة لدى الطفل الذي سيقوم بنسخ السلوك
التشابه بين النموذج والطفل?
التركيب السلوكي ،كلما كان التركيب السلوكي للعادة بسيطا كلما سهلت عملية? الاقتداء والعكس صحيح ويتحتم على (المربي ) إذا كان السلوك مركبا أن يجزاه إلى عناصر وخطوات متسلسلة ثم يطلب من الطفل تقليد كل عنصر على حدة حتى يتم له اكتساب كافة أجزاء السلوك ثم تتاح الفرصة للطفل لإبداء السلوك كليا مرة واحدة
3 -التشكيل
يبدا التشكيل بما يملك الطفل ويستمر المربي بتعزيز كل إضافة جديدة إيجابية تؤدي في النهاية لتكوين السلوك المطلوب
يقوم المربي عند استعماله للتشكيل بتعيين نقطة بداية سلوكية أي نواة السلوك الذي يريد تطويره لدى الطفل ثم يعين كافة الأجزاء أو الخطوات السلوكية اللازمة التي يجب على الطفل تعلمها أو إظهارها لاكتساب السلوك الجديد يراعي بالطبع في هذه الخطوات السلوكية الطول المناسب لقدرات الطفل
4- التسلسل
وكثيرا ما يمتلك الطالب بصيغة متفرقة أو مشوشة الخطوات السلوكية المختلفة للعادة المطلوبة حيث تنحصر عادة المربي في مثل هذه الأحوال في تنظيم في مثل هذه الأجزاء أو الخطوات معا واقران بعضها ببعض حسب حدوثها بالحث والتعزيز من خلال ما يعرف في التعديل السلوكي بالتسلسل
5-التلاشي التدريجي
يعمد المعالج(المربي ) في هذا الإجراء إلى سحب أو تخفيف المنبه الذي يحفز حدوث السلوك ثم يعززه تدريجيا حتى يصل الطفل لمرحلة يستطيع فيها إظهار السلوك بمنبه أو تعزيز رمزي أو لفظي .
تعديل سلوك الأطفال بتقليله أو حذفه
سنتحدث الآن عن تعديل سلوك الطفل بالتقليل أو الحذف بواسطة عشر إجراءات ،والجدير بالذكر أن هذه الإجراءات عموما هي صيغ أو وسائل مختلفة لعقاب الأطفال على سلوكهم غير المرغوب يتميز كل منها بإنتاج اثر نفسي مباشر أو غير مباشر عليهم
إن الفقرات التالية ستوضح كيفية استخدام هذه الإجراءات لتحقيق التعديل السلوكي المطلوب
الغرامة الكلية المؤقتة
يقوم المعالج(المربي)عند إدارته للغرامة الكلية المؤقتة بسحب المعززات البيئية لسلوك الطفل مؤقتا أو إبعاد الطفل من البيئة المعززة نفسها لفترات تتراوح عادة بين دقيقتين وعشر دقائق حيث من الممكن أن ينتج في الحالتين كف الطفل أو توقفه عن إبداء السلوك السلبي
الغرامة المتدرجة والربح المتدرج
يشبه مفهوم الغرامة المتدرجة مفهوم الغرامة الكلية المؤقتة من حيث فقدان الطفل للمعززات التي تحفز فيه السلوك السلبي ولكنهما يختلفان في كون الأول يتم بسحب كمية معينة من المعززات كل مرة يبدي فيها الطفل السلوك غير المرغوب بينما في الثاني – الغرامة الكلية المؤقتة- يتم سحب المعززات كليا من الطفل لفترة زمنية محددة . وهناك اختلاف آخر بين المفهومين يتمثل في كون الغرامة المتدرجة مادية في الغالب أما في الثانية فهي نفسية
إزالة الظروف غير المرغوبة
يتمثل هذا الأمر في إزالة الظروف وراء سلوك الطفل السلبي مؤديا في الغالب إلى تقليله أو حذفه
تغيير المنبه
يتلخص هذا الإجراء بسحب المعززات أو المثيرات السلبية التي تنتج السلوك غير المرغوب وفي هذه الحالة يعمد المعلم إلى تحديد تلك المنبهات التي بوجودها يميل الطفل إلى إحداث السلوك غير المرغوب ثم يعمد إلى سحبها أو التقليل من فعاليتها بإدخال منبهات إيجابية بديلة
الإشباع
يسمح المعالج(المربي)للطفل من خلال الإشباع بان يحفزه لتكرار السلوك السلبي حتى ينهك الطفل من ذلك .فيكيف بذاته عنه أو بعض الحالات المتطرفة يطلب الطفل إعفاءه من ذلك
الانطفاء (الإلغاء)
يتلخص مفهوم الانطفاء كإجراء لتقليل السلوك أو حذفه في توقف المربي عن تعزيز السلوك السلبي للطفل بالتجاهل غالبا فيبدا السلوك نتيجة لهذا بالانحسار قوة وكما حتى ينطفئ تماما من شخصية الطفل
العقاب(/4)
العقاب يكون لفظيا بالتأنيب أو التوبيخ أو ماديا بالخسارة لشيء يمتلكه الطفل كالفلوس مثلا أو بالضرب ف بالحالات المتطرفة .إن تحذيرات استخدامه توضح أن استعماله قد يحدث لدى الطفل سلوكا أو مظاهر شخصية سلبية غير مستحبة في الغالب
التصحيح الزائد
يتلخص هذا الإجراء بالطلب من الطفل الرجوع إلى البديل الإيجابي للسلوك السلبي الذي مارسه (أو يمارسه) ثم تطبيقه لعدة مرات أو لمدة من الزمن حتى يتسنى له تصحيح حالته واكتساب السلوك المرغوب المضاد وتقويته عنده
إعداد: أحمد عبد الله أبو عايش(/5)
مهارة التربية بالمداعبة
إبراهيم الأزرق*
دخلت بيت فلان بعد العصر فوجدت صغيرهم مشدوها ينظر إلى التلفاز، لم أكترث بالأمر ودرجت في الحديث مع صاحبي.. وفجأة يقطع كلامي صوت انفجار الطفل ضاحكاً!.. تأهبت وجعلت أنظر!، ثم لاحظت أن الأمر فيما يبدو عند أهل البيت طبيعي، إلا أن ذلك شدَّني لأنظر إلى ما يتابعه الطفل فلم أتمالك نفسي وانفجرت بعد دقيقة ضاحكاً!.. وهنا نظر إليَّ صاحب الدار باستغراب! ورغم ملاحظتي تفرقته (العنصرية)! بيني وبين الصبي، إلا أني تجاوزت ذلك؛ واندفعت أشرح له كيف أن الفأر ورط القط مع الكلب مفتول العضلات في موقف كانت نتيجته مأساوية للقط المسكين، فكاهية عند المشاهدين.. ورغم أن ملامح وجه صاحبي كانت ضجرة إلاّ أنه هز رأسه بتفهم، فلم يسعني إلاّ استجماع شتات الوقار الذي طار، ومن ثم تحويل مسار الكلام في صورة حاولت أن تبدو طبيعية؛ وانتهت الزيارة..
ثم مرت أيام، وزرت جارنا مرة أخرى؛ فإذا بصغيرهم في نفس الحال الأولى مشدوهاً ينظر إلى التلفاز.. لم أبال بالأمر؛ وجعلت أتجاذب أطراف الحديث مع جاري العزيز.. وفجأة يقطع حبل أفكاري ضحك الطفل كالمرة السابقة.. نظرت فإذا الطفل يتابع ذات المشهد الذي لم أتمالك نفسي عنده في المرة الماضية غير أني لم أكترث هذه المرة كثيراً.. تبسمت لموقف الفأر من القط والكلب، وواصلت حديثي، وبعدها انصرفت..
وبعد شهر تقريباً زرت جارنا العزيز، وبينما كان الجدل محتدماً في بعض مواضيع الساحة الساخنة فإذا بالضحك يهز أرجاء الغرفة!، وعندها قطعت حديثي؛ والتفت إلى الغلام؛ فإذا به يضحك من نفس المشهد؛ فلم يسعني حينها إلا أن أقطب حاجبي بغير شعور، ثم تملكت نفسي؛ واستجمعت ذاكرتي؛ وأكملت ما كنت بدأته، وبعدها استأذنت، وانصرفت..
رجعت إلى بيتي بعد أن أرخى الليل أستاره.. وكالعادة تجاذبت قبل النوم مع زوجي أطراف الحديث، وكان فيما قالت أنها تود أن تكتب مقالاً عن التربية بالمداعبة، وتسألني إن كانت عندي أفكار حول الموضوع.. أمسكت بالورقة والقلم؛ وجعلت أعصف الذهن بحثاً عن أفكار مناسبة، وفجأة تذكرت صغير جارنا العزيز.. تذكرت شأنه مع الفأر والقطة والكلب، وعندها فتح الله عليَّ باكتشاف سر ضحكه!..
لقد جبل الأطفال على حب المرح؛ فهم يحبون الطريف، ويتقبلونه؛ حتى لا يكاد أحدهم يمله؛ على الرغم من كثرة تكراره، وترداده أحيانا.. ولقد أدرك بعض صناع ثقافة العصر من أهل الغرب هذا الأمر؛ فاستطاع أن يدخل ثقافته في عقول النشء من خلال الأفلام الكرتونية، وإن بدت عند الكبار مجرد خزعبلات كوميدية؛ جدير بها أن تمل قريباً..
بل وجدت بعض أهل الفكر من الغربيين أمثال بنيامين باربر ناقمين على ميكي ماوس الناطق بالفرنسية في ووالت ديزني باريس!، ونحوها من المنتجات الأمريكية؛ ويرون أنها أحصنة طروادة التي تتسلل منها أمريكا إلى ثقافات الأمم..
وللأسف!؛ كم من أب في شرقنا غافل عن هذه الحقيقة، ويحسب أن التربية الجادة المؤثرة تكون بتقطيب الجبين، ومط الشفة، وإصدار التعليمات، مع اتخاذ هراوة غليظة؛ ويظن أنه بذلك يربي الأبناء تربية جادة!.. ويزيد الأمر سوءاً من يمارس ذلك باسم الدين!.. وما درى المتجهم المسكين أن سيد المربيين، وأستاذهم بغير مدافع صلى الله عليه وسلم في وادٍ وهو في واد آخر؛ فما أبعد البَون بين هديه وبين صنيع أولائك؛ فقد علَّمنا صلى الله عليه وسلم أنماط التربية، وضرب لنا الأمثال العملية في التربية بالرفق، واللين، والفكاهة، والمداعبة؛ فلا يمنعه -وهو القائد الأول - محله من أن يداعب صغيراً مات طائره قائلاً مذكرا في نوع من المشاكسة الظريفة: يا أبا عمير! ما فعل النغير؟!..
ولك أن تترجم حاصلها بالدارجية فتقول: (وي وي مات الطير)..
وأين أصحاب الصرامة هؤلاء من دلعه صلى الله عليه وسلم لسانه للحسين كما روى ابن حبان في صحيحه..
بل حتى الصلاة يلاطف فيها صلى الله عليه وسلم صبيبين جعلا منه مطية وهو ساجد؛ فلا تعجب ولا تسأل عن تعلق ذينك الصبيين (الحسن والحسين رضي الله عنهما) بالصلاة، وحبهما لها.. وحسبك أنهما سيِّدا شباب أهل الجنة..
ولو أن صاحبنا المربي المقطب مر به مثل هذا الموقف لرأيت ملاكماً بارعاً يلقن الأطفال بقبضتيه دروساً في التربية غير البدنية!، وفي احترام الشعائر الدينية!..
وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم غير خبر يفيد ملاطفته الصغار، ومداعبته الأطفال؛ فلا غرو أن يشب ناشئة ذلك الجيل وملء قلوبهم حب له صلى الله عليه وسلم، وإيمان، وتصديق.
لقد نجح صلى الله عليه وسلم في تسخير الدعابة، والملاطفة لأجل إنشاء جيل مسلم، مرتبط بنبيه، محب له، ولمنهجه الوسط، بعيد عن التجهم، والغلظة، مجانب للتهتك والمجون، متزن؛ يعرف للجد وقته، ويحفظ للنفس والإخوان والأهل حقهم..(/1)
وهكذا كان الصحابة من بعده؛ فقد روى ابن أبي الدنيا في كتاب العيال عن ثابت بن عبيد قال: ما رأيت أحداً أفكه في بيته؛ ولا أحلم في مجالسه من زيد بن ثابت!.. أتدري أيها الصارم من هو زيد بن ثابت؟!.. قال علماؤنا: المعروف لايعرّف!..
اللهم فارزقنا، والمربين المقطبين فرْد تجاعيد الوجه، وحسن اقتفاء الأثر.(/2)
مهداة إلى الأمة الإسلامية
محمد إقبال
ترجمة: د.عبد الوهاب عزام
إيه يا منكراً أحاديث iiعشقي
ختم الله إليك iiالأمما
كم تقي فيك كالرسل iiمُنيب
لك طرف بالنصارى iiسُحِرا
يا من الأفلاك من iiهبوتها
سرت كالموج دؤوب iiالسفر
كفراش في لظى الحب اصبري
أحكمي العشق بروح قد iiصفا
صحبة النصران قلبي iiهجرا
ورفيقي رهن حسن الآخرين
سدة الساقي بخديه iiيدوس
وأنا فيك قتيل الحاجب
أنا من نظم مديح أرفع
كم مرايا صغتها من iiكلمي
لا ترى المنة جيدي تأطر
مُقدم في الدهر مثل iiالخنجر
أنا في نار الحياة iiالشرر
* * ii*
قصدت بابك روحي في iiخشوع
إن في الزرقاء يماً يقطر
أجمع القطر ربيعاً جارياً ii(9)
قد حبيتِ الحب من iiمحبوبنا
قذف العشق بقلبي iiحرقاً
وشققت الصدر، كالورد لك ii(11)
لتنالي نظرة من iiسحرك
ثم أشدو قصصاً من iiأمسك
* * ii*
أسأل الحق حياة iiتحصف
نائح والليل ساجٍ iiسادل
تصطلي روحي بحزن iiوألم
أملاً في الصدر صيّرت iiدما
ما احتراقي كشقيق iiأبداً
كالشمع دموعي iiغسلى
محفل الناس بنوري iiيشرق
ما لناري في الحشا من iiفترة
إن روجي في سحيق iiالجسد
مذ براني الحق فجر iiالخلقة
أنةٌ للعشق تفشي سره
تجعل العصف لهيباً iiيحرق
* * ii*
في ضمير العشق رسمٌ iiكالشقر
هذه الوردة أحبو صدرك
لأرى في تربكِ الروض الينيع ...
... ليس بي حرقة تكون بغيري عرفي (1)
بك حقاً كل بدء iiختما
وجريح القلب رفّاء iiالقلوب
وعن الكعبة أبعدتِ السُّرى ii(2)
" من رنا الكون إلى طلعتها " (3)
" أين تبغين مراد النظر؟ " ii(4)
وخذي عشك بين iiالشرر
جددي العهد بحب المصطفى
حينما وجهكِ عندي iiأسفرا
واصف الطرَّة منهم iiوالجبين
منشداً قصة غلمان المجوس ii(5)
وتراب في حماك iiالحادب
لست ممن لأمير يركع
فعن اسكندر تغلو هممي (6)
من زهور الروض حجري صفِرُ (7)
من قلوب الصخر مائي أمترى ii(8)
في ثياب من رمادي iiأستر
* * ii*
في هدايا من لهيب iiودموع
فوق قلب لاهب لا iiيفتر
وإلى روضك أزجي iiصافياً
أنت قلب قد ثوى في صدرنا ii(10)
صاغ مرآة فؤادي iiالمحرقا
مدنياً مرآته من وجهك
وترى مغلولة في شعرك ii(12)
فأذكى حرقاً في iiنفسك
* * ii*
لفريق نفسه لا يعرف
يهجع الناس ودمعي هاطل
ورد " يا قيوم " أنسي في iiالظلم
ليرى في أدمعي iiمنسجما
فيم أستجدي من الفجر الندى ii(13)
في ظلام الليل أذكى شعلي
أنشر النور ونفسي أحرقُ
ما بأسبوعي فراغُ الجمعة ii(14)
آهةٌ ثوب غبار ترتدي ii(15)
زلزلت أوتار عودي أنتي
آهةٌ في العشق تذكي iiجمرهُ
وفراشاً من تراب تخلق ii(16)
* * ii*
وله وردة وجدٍ تستعر
في سبات منك أذكى iiحشرك
وبأنفاسك أرواح iiالربيع
الهوامش :
(1)ترجمة بيت لعرفى الشيرازي صدر به الشاعر هذه التقدمة . ومعناه لا يستطيع أحد إنكار ما أصف من آلام عشقي . فإنه إن شعر بالآلام التي أصفها فهذه الآلام لا تكون بي ولكن به هو إنني أصف شيئاً لا يمكن أن يكون في قلب غيري . فكيف يستطيع إنكاره .
(2)يعني أهل أوروبا الذين سيطروا على الهند وغيرها حقبة .
(3)الأفلاك من الهبوة التي أثرتها في جهادك على الأرض .
(4)الشطران بين الأقواس بيت للشيخ سعدي الشيرازي .
(5)يعني أن الشعراء الآخرين فتنوا بذكر الحان وغلمان المجوس ، وهؤلاء في الشعر الفارسي كغلمان النصارى في الشعر العربي يقرن ذكرهم باللهو والسكر، إذ كانوا خدم الحانات .
(6)مرآة اسكندر مشهورة في الشعر الفارسي ، يقال إنه كان يرى فيها الأقاليم ولعل أصل الخرافة منارة الإسكندرية ومراياها . ويقول الشاعر هنا إن في شعري مرايا كمرآة إسكندر، فلست في حاجة إليها .
(7)يعني أنه لا يجني الزهر في حجره بل يستكبر أن يجنيه استغناء عنه .
(8)حذف بعد هذا بيتان .
(9)الربيع النهر الصغير.
(10)محبوبنا الرسول صلى الله عليه وسلم .
(11)يتخيل الشعراء أن الورد يمزق صدره حين يتفتح ، ويقول الشاعر إن العشق صاغ قلبه وهو يشق صدره فيضع هذه المرآة أمام الأمة الإسلامية لترى حقيقتها .
(12)أي لتقدري جمالك ، وتدركي مزاياك وتحبي نفسك .
(13)الشقيق زهر أحمر يجعله الشعراء مثلاً للاحتراق . ويقول إقبال ما هذا الاحتراق الذي هو لون لا حقيقة له ، ولماذا أستجدي الندى من الفجر كالشقيق وغيره من الزهر. أنا أحترق بناري كالشمع وأتخذ من دمعي ندى .
(14)أيامه كلها عمل وجهد ليس فيها يوم راحة .
(15)روحه آهة والحسد تراب يسترها كما يتردى الإعصار بالغبار .
(16)تجعل العصف وهو الهشيم ضعيف اللهب ، ناراً قوية تحرق غيرها ، وتخلق من التراب فراشاً هائماً يهفو على النار .(/1)
مهرجان الخلود
(يوم ذكرى الجلاء)
شعر: محمد المجذوب
رايةَ العز صفِّقي في iiالعَلاءِ
وتَهادَيْ على الفضاء فقد iiطا
إنه مَصرعُ الظلامِ iiوفجرٌ
حُلُمٌ طالما استضاء به iiالسا
مسحتْ كفُّه جراحَ iiالثكالى
صفحةٌ أنتِ من جهاد الميا
في ثناياك يشرق الأملُ iiالعذ
فتَجلّيْ على القلوب iiتُنا
تستشف الأحلام في خفقك iiالسا
* * ii*
أمسُكِ المُوجِعُ الرهيبُ iiتوارى
ملأتْ دربَه الضحايا وقد iiضا
وطريق الأحرار ما زال مذ iiكا
عشقوا الحقَّ غايةً وغلا iiالمَهر
وإذا الحق لم يفز بهوى iiالحرِّ
فاحفظيها ذكرى تخلِّدُ iiللأ
ثروة الشعب ذكرياتُ iiمواضٍ
* * ii*
أين عهدٌ من الظلام دهى iiالشا
عبثتْ فيه أنيبُ الذئبِ iiبالليث
أفسد الأنفسَ الضعيفةَ iiفانقا
ألفتْ ذلةَ الخيانةِ iiحتى
فهي نصلٌ في مهجة الوطن iiالدا
وهي في منطق السياسة سرٌّ
غمةٌ فرجتْ دجاها يدُ iiاللهِ
فإذا الغادرون في ظلمة iiالتا
ذهبوا في مواكب العار iiيحدو
وعلى الشام من طيوفِ iiمآسيهم
تنفخُ الحقدَ في الصدور على iiالبغي
ولقد يُعذر الشَّماتُ من iiالحرِّ
* * ii*
أيْ عرينَ الأُسودِ حدِّثْ عن الأمـ
عن جنود الظلامِ روَّعها iiالنو
عن عهود الدسائس الحُمرِ iiعن
عن عذاب الأحرار في حَلَكِ المُطبِقِ
عن ليالي الآلام أيامَ iiيعلو
ضقتَ صدراً به ومن قبلُ قد iiضا
قد يمر الحديثُ عن أمسِ iiلكن
غرد الكون أمس في عرسك iiالفخم
وحبستُ الألحانَ وحديَ في iiالقلب
وأنا الشاعر الذي جُرِّعَ iiالصا
في زوايا سجونك السودِ منه
وعلى جُدرِها الرهيبةِ iiلونٌ
فهبِ الروح نفحةً منك أسكبْ
عرسُك اليومَ مهرجانٌ من الخلد
تتلاقى الأمجادُ فيه، فمِن iiما
وعلى أسدك الغطاريفِ iiمنه
فتأمل ترَ الزبيرَ iiوسعداً
... عَلَمَ المجدِ لا رَمَتْك يدُ iiالدهر
عدت للشام والربيع iiفللهِ
شعبُك الحرُّ يا رجائيَ iiآلى
شعبُك الحرُّ يا غراميَ iiآلى
فأعدْ للحياة ما سَلَبَ الغد
وابقَ للدهر مِشعلَ الرحمةِ iiالكبرى
قد تزول الجبال لكن iiمُحيا ... واملئي بالجلالِ يومَ iiالجلاءِ
لَ إليك الحنينُ من ذا iiالفضاءِ
عبقريٌّ من الهدى iiوالضياء
رون في غيهبِ الأسى iiوالشقاءِ
وسرى في الجفونِ طيفَ iiعزاء
مينِ وسفْرٌ من أدمعِ iiالشهداء
بُ مشيراً إلى الغد iiالوضاء
جيكِ بوجدِ المولَّهين iiالظِّماء
حر نوراً يَشِعُّ في iiالظلماءِ
* * ii*
غيرَ ذكرى مخضوبةٍ iiبالدماء
ق مداه بزحمةِ iiالأشلاء
ن على الأرض، مسرحَ iiالأرزاء
فغالَوا ببذلهم iiوالفداء
فما العيش غيرَ محض iiالفناء
بناء ذخراً من عِزة الآباء
تَحفزُ الشعبَ للذرى iiالشماء
* * ii*
م وأخنى عليهِ iiبالبأساء!
وعاث الطغاةُ iiبالأبرياء
دتْ إليه حقيرةَ الأهواء
لا تبالي بعزةٍ أو iiحياء
مي وسيف في قبضة iiالدُّخلاء
يجعل الحق باطلاً في iiالمِراء!
بصبحٍ منوَّر iiالأنداء
ريخ رمزُ الجريمةِ iiالنكراء
هم هُتافُ الهَوانِ iiوالازدراء
بقايا الآلام بعدَ iiالوباء
وتُذكي حوافزَ iiالبغضاء
إذا لاح مصرعُ iiاللؤماء
* * ii*
ـس ولا تُخفِ موجعَ iiالأنباء
رُ فولَّت أمامَ جيش iiالضياء
أسرار تلك العصابة الخرقاء
تأسو جراحها بالإباء(1)
ك لواء.. يا ذلَّه من iiلواء!
ق بمرآه صدرُ هذا iiالهواء
رُبَّ مُرٍّ يأتي بحلو iiالشفاء
وغنّتْه ألسنُ iiالشعراءِ
فلم أستجب لغيرِ iiالبكاء(2)
بَ حنيناً بيومِك الوضاء
أثرٌ ناطق بذاك iiالبلاء
من بقايا الجراحِ في iiأحشائي
في سَماعِ الوجودِ سحرَ iiغِنائي
تجلّى عليه قلبُ iiالسماء
ض مضيءٍ ومن غدٍ iiمستضاء
مظهرُ العزِّ باهر iiاللألاءِ
والمثنّى خلفَ الوجوهِ iiالوِضاء
ولا زلتَ مُشرقَ iiالأضواء
ربيعان من سناً وسناءِ
ليَصُونَنْك من عوادي iiالقضاء
لَيَرُدَّنَّ ماضيَ iiالآباء
رُ من الخير والهدى iiوالوفاء
ومَجلى العُلى ورمزَ iiالإخاء
كَ سيبقى لنا بقاءَ iiالسماء
(1) المطبق: السجن الانفرادي، وقد ألقيت القصيدة في ثكنة من مخلفات الجيش الفرنسي.
(2) إشارة إلى يوم جلاء الفرنسيين عن الثكنة إذ لم يتمكن الناظم من الكلام أثناء ذلك الاحتفال(/1)
مهرجان القصيد (1)
بقلم الدكتورعدنان علي رضا النحوي
" مَهْرَجَانَ القَصيد " غَنِّ قَصِيْدِي
بَيْنَ زُهْرِ المُنَى وحُلْوِ النَّشِيدِ
فالمَعَاني انتَقَيْتُها مِنْ جِنَانٍ
والهَوَى صُغْتُه مَآثِرَ صيدِ
والقَوَافِي كَأَنها عَبَقُ الرَّوْ
ضِ وَنفْحُ الوُرُودِ بَيْنَ الوُرُودِ
*
*
*
هَاهَنا نَفْحَةٌ مِنَ الأَمَلِ الحُلْـ
ـو وفَيْضٌ من خَيره الْممدُودِ
وَلقَاءٌ يَمُوْجُ بالنُّورِ يَجْلو
مَكرُمَات ِ البَيَانِ دَفْقَ الجُودِ
إِيْهِ " لَكْنُو " فَكَمْ ضَمَمْتِ نَديًّا
مِنْ شُيُوخٍ وَمِنْ شَبابٍ نَجيْدِ
يَا حَنانَ الهَوَى وصَفْوَ ودادٍ
غَرِّدي مِنْ قَصِيدِك المَعْهُودِ
زَيِّني دَارَكِ الغَنيَّةَ بالشَّوْ
ق ، بِمَجْدٍ ، بِمَلحَمَات الجُدُودِ
*
*
*
كَمْ دَعَوْتُ القَصِيدَ من دَمْعَة الذُلِّ
فَأَلْوَى إلى مَكَانٍ بَعيدِ
كمْ تَلَفَّتُّ في دُرُوب هَوَانٍ
وَحَوَالَيَّ ألفُ خَطْوٍ شريدِ
وَبقَايَا قَواَفِلٍ مَزَّقَتْها
عَضّةُ الرِّيح والتطامُ النُّجُودِ
زَحَمَتْها عَلَى الدُّرُوب زَوَايا
وَرَمَتْها في غَيْهَبٍ وسُدُودِ
أَفْلَتَتْ مِنْ يَدَيَّ زُهْرُ القوَافي
وَنَأى اللحْنُ في بطونِ البيْدِ
وَالمَعَاني تَنَاثَرَتْ في فَضَاءٍ
واخْتَفَتْ خَلْفَ أُفْقِهِ المسْدُودِ
كِبْرياءُ القَصِيدِ يَشْمُسُ عَنْ ذُلٍّ
ويَنْأَى عَن الهَوَى والجُحودِ
عِزّةٌ فِيه ، إِنَّهُ أدَبُ الإِسْـ
ـلاَمِ غَرْسُ الإِيمانِ ، رَيُّ العُهودِ
*
*
*
يَا إِبَاءَ القَصِيدِ يَرْفَعُهُ الصّدْ
قُ فَيَرْقَى إلى مَطَافِ خُلُودِ
لاَ يَسِفُّ الهَوَى وَلاَ يَهْبطُ الحسُّ
وَلاَ ينحني لعَضّ قُيودِ
شَرَفُ القَوْلِ مِنْ هُدَى الحقِ
وسِحْرُ البَيَانِ بالتَوْحيدِ
أَدَبٌ يَرْتَوي البَيَانُ لَدَيه
مِنْ حَديثٍ ، مِنَ الكتاب المَجيدِ
رَفَّ بالطَّيْبِ عُودُهُ فَتَمنَّى
كُلُّ رَوْضٍ نَدَاوَةً مِنْ عُودِ
يَنْشُرُ الجَوْهَرَ الكَرِيْم عَلَى الدَّهْـ
ـرِ غَنِيّاً باللؤلؤ المنضودِ
فأتى الشاعرُ المدلُّ عليه
صاغه من أساورٍ و عقودِ
فَتَمَنَّتْ مُهَفْهَفَاتُ الغَوَاني
حِلْيَةً حَوْلَ مِعْصَمٍ أَوْجِيدِ
*
*
*
هُوَ رَفُّ النَّدَى عَلَى الوَرَق اليَا
بِسِ يَهْتَزُّ في رَبيعٍ جَدِيدِ
هُوَ خَفْقُ الأوْتَارِ بالنَّغَم الحَا
نيْ عَلَى بَهْجَةٍ وَفَرْحَةِ عِيدِ
هُوَ زَهْوُ الصِّبَا التَّقيِّ وَشَوْقٌ
مَنْ عَفافٍ وَزِيْنَةٌ في بُرُودِ
هُوَ في الكَوْنِ آيَةٌ حَوَّم المَجْـ
ـدُ عَلَيْهَا رَوائِعاً مِنْ نشيْدِ
*
*
*
يَا حَنَانَ القَصيدِ ، يَا لمْسَةَ الإِسْـ
ـلاَم سَلْوَى الحَزين مَأْوى الطَّريدِ
يَا رِحَابَ الأمَان يَمْسَحُ ذُلاًّ
عَنْ جُفُونٍ وَدَمْعَةً عَنْ خُدُودِ
يَا حِمىً يَفْزَعُ الضَّعِيفُ إليْهِ
فإذَا فيه قُوَّةٌ مِنْ أُسُودِ
يا غَنَاءَ الفَقِير في مَنْهَج الحق
وَفي دَرْبِهِ الأمِين الرَّشيدِ
يا لَنُعْمَى الإِنسَانِ يَحْمِلُ مِنْهُ
مِشْعَلاً شَقَّ مِنْ لَيَالٍ سُوْدِ
*
*
*
رَفْرَفَ الشَّوْقُ فانْتَقَى أَدَبُ الإِسـ
ـلاَمِ مِنْهُ قُمْريَّةَ التَغْريدِ
وَهَبَ الحُبُّ عِنْدَه الآيَةَ الكُبْـ
ـرى وأَغْنَى قُدْسِيَّةَ التَرْدِيد
فَهُوَ الله لاَ إله سِواهُ
هِيَ أَعْلَى هَوىً وَأَحْلى نَشِيدِ
رَجِّعي يَا دُنا جَلاَلَ هَوَانا
واسْجُدي وانْعَمي بهذا السُّجودِ
أنا عَبْدٌ لله مَا أَعظَمَ الحُبَّ
ـب وَ أَغْنَاهُ باليقيَن الشَّديد
يَا أَهازِيجُ يَا نَشيدَ اللَّيَالي
رَجِّعي اللحْنَ أَو أعيدي قَصِيدي
أنا بالحبّ نَشْوَةٌ في فَمِ الدّهْـ
ـرِ وَلْحنٌ مِنَ الهَوَى المنْشُودِ
*
*
*
يَا عَطَاءَ الإِسْلاَم يَا نَفْحَةَ الإِيـ
ـمَان يَادُرَّةَ العَطَاءِ الفَرِيدِ
أَدَبٌ شَعَّ في اللّيالي مَعَ العَزْ
م زَكَا عِطْرُهُ دَماً مِنْ شهيدِ
كَمْ جَلاهُ عَلَى المَيادين فُرْسَا
نٌ وَغَنَّتْهُ وَثْبَةٌ مِنْ صِيدِ
فانْهَضِي يَا رَوَائعَ الشِّعْرِ هذي
سَاحَةٌ زَغْردي لَهَا وَ أَعيدي
أَنْت في ذِرْوَةِ البَيَانِ عَطَاءٌ
زَاخِرٌ بالهُدَى وأَبْحُرُ جُودِ
*
*
*
يَا دِيِارَ الإِسْلاَمِ جُنَّتْ رُبَاهَا
بَيْنْ عَادٍ مَرَوِّعٍ وَحَسُودِ
أَطْلقي دُونَهُ البَراكِينَ ، صُبِّي
حِمماً ، زَلْزلي القَوَاعِدَ ، مِيْدي
وَاعصِفي غَضْبَةَ الأعَاصِير ، وارْمي
فَوْقَهُ مِنْ قَنابلٍ و حَديدِ
لسْتُ بِالشَّاعِرِ المُدِلِّ إذا لَمْ
يَكُ شِعْري قَذَائِفاً مِنْ وَقُودِ
وَإِذا مَا انْطَوى عَلَى الغِمد سَيْفٌ
أَو خَلاَ السَّاحُ من هَوَى صِنديدِ
سَوفَ يَمْضي عَلَى الطّرِيقِ قَصِيدِي
كالنَّدَى رَفَّ في رَبِيعٍ جَدِيد
*
*
*
يا أَديبَ الإِسْلامِ أَيْنَ السَّرَايا
نَزَعَتْ عن مَضَاجِعٍ وَ مُهُودِ
أَيْقَظَتْهَا صَوَاعِقٌ مِنْ نِداءٍ
خاطِفَاتٌ بَقيَّةً مِنْ كُبُودِ
دَفَعَتْها إلى النِّزَال أَهَازِيْـ
ـجُ فَمَاجَتْ عَلى لهيب النَّشيدِ
وَجَلتْهَا عَلَى بِطَاح " فِلَسْطْيـ(/1)
ـنَ " دَويّاً في يَوْمِهَا المَشْهُودِ
وَعَلَى " كَابُلٍ " ، وَزَمْزَمَتِ الأرْ
ضُ لَهِيْباً وَ أَرْعَدَتْ بالجُنُودِ
*
*
*
أَدَبُ التَّائِهينَ لَيْلٌ و َخَمْرٌ
بَيْنَ كَأَسٍ مُحطَّمٍ أَوْ غيدِ
حِينَ يَغْفُو القَصِيدُ في خَدَرِ السُّكْـ
ـرِ لخَصْرٍ مُهَفْهَفٍ وَنُهُودِ
أَدَبٌ ذَلَّ في الفُجُورُ و نَامَتْ
بَيْنَ أحْضَانِهِ جُفُونُ العَبيدِ
يَتَوَارَوْنَ خَلْفَ سِحْرِ شِعَارٍ
كاذبٍ أَوْ زَخَارِفٍ ووُعُودِ
سَمِّ مَا شِئْت مِنْ مِثالٍ فَهَذا
أَدَبُ الضَّائع الشَقيِّ الجَحُودِ
سَوفَ يَفنَى مَعَ الزّمَان وَيَبْقَى
أَدَبُ الحقِّ شُعْلَةً في الوُجُودِ
*
*
*
ألقيت في مؤتمر الأدب الإسلامي في لكهنو الهند الذي عُقد خلال الفترة (25-27) ربيع الثاني 1406هـ ، الموافق (7-9) كانون الثاني 1986م
20/4/1406هـ
1 / 1 /1986م ... ... ...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
· من ديوان مهرجان القصيد .(/2)
مهلا يا قوافل السياح
الكاتب : تركي العبدلي
ستنطلق قوافل السياح بعد أيام قلائل تجوب الأرض ، وتقلع أسراب الطائرات متجهة إلى أقاصي الأرض ، فمنهم من يبحث عن المناظر الخلابة والأجواء الساحرة ، ومنهم من يفتش عن الأخبار الغريبة والعلوم العجيبة ، ومنهم من يبحث في عادات الأمم وتقاليد الشعوب ، حاملين معهم الأموال الطائلة عازمين على إنفاق أوقاتهم النفيسة وأعمارهم العزيزة في أصقاع المعمورة .
ولن أجعل من مقالي هذا حجر عثرة في طريقهم ، بل أقول سيروا على بركة الله ما لم تغشو منكرا أو تقولوا زورا ، ولكنني أريد أن أقول لكم كلمة ، تنفعكم ولا تضركم ، وتزيدكم ولا تنقصكم ، وتسركم ولا تحزنكم ، فيا ليتني أجد أذنا صاغية وقلب واع لما أقول.
إن السياحة ليست مشروعا طرأ على الأمم من غير نظير سابق ، وليست اختراعا لم يعرف إلا في عصرنا ، بل هو قديم قدم وجود الإنسان على الأرض ، مذ رحلة آدم في بحثه عن حواء ، ولكنها ذات وجوه فمنها السياحة للمتعة وهناك السياحة الطبية وهناك السياحة الاقتصادية وكذلك السياحة الاستكشافية العلمية ...الخ
ففي الإسلام كانت السياحة الاقتصادية - والتي كان يقوم بها تجار المسلمين والاستكشافية والتي كان يقوم بها جغرافيهم ومؤرخيهم - أبرز أنواع الأسفار في عصرهم.
كما أن السياحة الترفيهية والاستكشافية أبرز أنواع السياحة في هذا العصر ، لكن للأسف أن النتائج هناك ليست كالنتائج هنا ، فؤلائك حرصوا أن يكونوا رسلا للإسلام حاملين همّ نشره بين الأمم ليخرجوهم من ظلمات الشرك والإلحاد إلى نور الإسلام ، متمثلين بقوله تعالى (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ ) فهل تعلمون ماذا كانت نتائج سياحتهم وأسفارهم في أنحاء المعمورة ؟ بأن الله أعطاهم بغيتهم فبارك الله لهم في مقصدهم الدنيوي وأغناهم من فضله ، ولكن العظمة كل العظمة بأنهم لم يكونوا صناع مال فحسب بل صناع حياة ، نعم لقد وهب الله الحياة الأبدية لأمم الأرض على أيديهم ، فهذه اندونيسيا أكبر دولة إسلامية من حيث السكان ما كانت لولاهم ، بل جنوب آسيا وعِدَّ من الدول فيها ما شئت ، وهذه أفريقيا لا سيما جنوبها كالزنجبار وساحل العاج وغيرهما كثير فهل تعتقد أخي القارئ أن هذه الشعوب لولا جهود هؤلاء في الدعوة - بفضل من الله عز وجل- كان لهم حظ من الإسلام ، هل تعتقد أن المسلمين آنذاك عقدوا الاجتماعات المطولة ، وعملوا ورش عمل لدعوة سكان هذه الدول أم إنه الدافع الإيماني لدى عامة المسلمين والذي دفع بأفرادهم بأن يقوموا جماعات وفرادى بإنقاذ البشرية من أوحال الكفر والضلال .
ألا ترغب أخي الحبيب - وكذلك أنت أختي الفاضلة - أن تكون من صناع الأمم والحضارات ، ألا توجد بين خلجات نفسك تلك الجذوة الإيمانية التي لو نفخت فيها قليلا لأضاءت دروب البشرية ؟
اعلم أن القصر الشامخ ، والصرح العظيم ، والسد المنيع ، إنما يبدأ بنيانه بتلك الطوبة الصغيرة التي يضعها العامل على الأرض مؤذنا بها بداية العمل ، ألا تود أن تكون صاحب تلك الطوبة حتى تغمر نفسك ببحور الحسنات؟
ألم يقل نبيك صلى الله عليه وسلم (من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيئا) ؟ ألا تريد أن تغسل حياتك من الذنوب المتراكمة والخطايا المتزاحمة بفيض من النور الذي وعدنا الله به على الصراط (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) ؟ .
فيا أحبتي السياح إليكم ما جادت به نفسي من أفكار دعوية تكون من خلالها سائحا مسلما جامع بين رضى ربك ورضى نفسك ، بين الواجب الديني والنصيب الترفيهي فترجع من سفرك محملا بحسنات الأعمال لا أوزارها ، والدرجات العلى لابدركات الهاوية ، فأقول :
1- كن سفيرا لدينك قبل أن تكون سفيرا لبلدك ، فكثير من السياح يحرصون على سمعة بلدهم فتجدهم يتجنبون كثيرا من الأخلاق والسلوكيات حتى لايلصقوا ببلدهم صفة سيئة وهذا جيد بلا شك ، لكن الواجب على السائح أن يكون - مع ذلك - سفيرا لدينه، سفيرا للإسلام ، بأن يوضح للآخرين بأن ما يقوم به هو واجب شرعي قبل أن يكون التزام وطني .
2- احرص أن يكون معك بعض الكتيبات والأشرطة والتي تكون بلغة البلد التي تزمع السفر لها ، لتيسر لك سبيل الدعوة وتكسر حاجز اللغة والذي قد يعيقك في الدعوة .(/1)
3- حادثة مهمٌ ذكرها ، الـIPC لجنة للتعريف بالإسلام في الكويت ، لاحظت في إحدى العطل الصيفية بأن هناك إقبال شديد على موقعها من احد الدول الأوربية وهي بريطانيا ، وبعد التتبع وجدت أن السبب أن هناك فتاة لم يتجاوز عمرها الأربعة عشر ، قامت بوضع لافتة عليها عنوان سايدIPC ، فتارة تجول في الهايد بارك وتارة في الأسواق وتارة ...الخ مما لفت أنظار المارة فضلا على أنها كانت توزع العنوان على من ترى في الأماكن التي تجوبها مما دفع الفضول بالناس للدخول على هذا الموقع ! أفلا ترون أنها طريقة مجدية في الدعوة .
4- ما الذي يمنع من أن تجلس مع صاحب التاكسي والذي استأجرت سيارته طوال اليوم أو النادل في الفندق أو الذي يجلس بجانبك في ذلك القارب وأنت في رحلة بحرية ، أو تغدو على ذلك الرجل والذي جلس بمفرده يستمتع بالمناظر الجميلة على قمة جبل فتضيفه بكأس من عصير ليكون مفتاح الحوار بينكما ، أو تدعو مجموعة السياح للصلاة إن حان وقتها لاسيما إن كنت في بلد مسلم ، فتذهب لذلك الغربي الذي أخذ يلتقط لكم الصور وأنتم في صلاتكم لتشكره ! وتبين له معنى الصلاة في دينك .
5- أن تلجأ لله بالدعاء بأن تكون مفتاح خير على هذه الأمة وداعية هدى ومبلغ للرسالة التي اصطفانا بها الله تعالى وجعلنا أمة وسطا ، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول : (أن من الناس مفاتيح للخير مغاليق للشر، وإن من الناس مفاتيح للشر مغاليق للخير، فطوبى لمن جعل الله مفاتيح الخير على يديه ، وويل لمن جعل الله مفاتيح الشر على يديه) فمن عزم على الخير وهداية الناس لاشك بأن مفاتيح الخير على يديه بعون من الله تعالى .
والآن فلتنطلق ركائبكم بحفظ ربكم، وأسأل الله الباري أن يحفظكم في حلكم وترحالكم، وترجعون لدياركم سالمين غانمين من خيري الدنيا والآخرة.(/2)
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة الطبعة الثانية
هذه رسالة في مهمات المسائل في المسح على الخفين كتبتها حين رأيت الحاجة داعية على ذلك وقد جهدت على الاقتصار على الدليل وعرض مذاهب الأئمة المشهورين وترجيح ما يقتضي الدليل والنظر ترجيحه .
وقد حرصت على ألا أثقل المتن والحواشي بتخريجات غير مجدية وخلافات ليس فيها كبير فائدة .
وحينها اقتصرت على ذكر المسألة ودليلها الصحيح .
فإلى بيان ذلك.
المسألة الأولى :
اعلم أن المقيم يمسح يوماً وليلة والمسافر ثلاثة أيام .يبتدئ من وقت مسحه على خفيه وقد قال بعض أهل العلم من أول حدث بعد لبس .
وهذا ضعيف بل الصحيح من وقت مسحه على خفيه وهو قول أحمد بن حنبل اختاره ابن المنذر وهو المأثور عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب (1) – رضي الله عنه – ولو أحدث ولم يمسح لم يعتبر شيئاً فإذا مسح ابتدأ المدة حتى ولو كان مسحه لتجديد وضوء لظاهر الأخبار الواردة في هذا الباب ولذلك عدلت في توقيت مدة المسح عن عبارة من قال كالنووي في المجموع وغيره يبتدئ من حين المسح بعد الحدث وقلت من وقت مسحه على خفيه ليدخل فيه الوضوء من غير حدث . واعلم أن دليل التوقيت في حق المقيم والمسافر حديث علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – المخرج في صحيح الإمام مسلم (3/175- نووي ) قال " جعل رسول الله –صلى الله عليه وسلم – ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر ويوماً وليلة للمقيم " .
والتوقيت على ما جاء في هذا الحديث في حق المقيم والمسافر أمر واجب على الصحيح وهو مذهب الجمهور خلافاً لمالك وبعض أهل العلم وأدلة الجمهور ومنها حديث علي المتقدم – أظهر دلالة وأقوى برهاناً من أدلة مالك ومن وافقه .
إلا أن المسافر الذي يخشى فوات رفقة أو يتضرر بالنزع ونحو ذلك من الأعذار له أن يمسح إلى زوال عذره كما قال بذلك بعض أهل العلم مثل شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – (2) " لما روى ابن ماجة (3)والدار قطني (4) في سننه والبيهقي في السنن الكبرى(5) عن عقبة بن عامر أنه وفد على عمر بن الخطاب عاماً قال عقبة . وعَلىَّ خفاف من تلك الخفاف الغلاظ فقال لي عمر . متى عهدك بلبسهما ؟ فقال لبستهما يوم الجمعة واليوم جمعة فقال له عمر أصبت السنة " وهذا الأثر إسناده صحيح إلا أن قوله " أصبت السنة " لم تثبت فالصحيح أن عمر قال " أصبت " ولم يقل السنة . وذكر السنة في هذا الأثر شاذ كما بين ذلك الإمام الدار قطني (6) – رحمه الله .
وعلى كل فالأثر تقوم به حجة فلا يعلم لعمر وعقبة (7) مخالف من الصحابة . وفعل عقبة يدل على أن الأمر كان معلوماً عند الصحابة ولو لم يسبق لعقبة علم بجواز هذا الفعل ما فعله اجتهاداً وإن كان فعله اجتهاداً فقد صوبه عمر وهو خليفة راشد ملهم قد أمرنا النبي –صلى الله عليه وسلم – أن نقتدي به كما في جامع الترمذي (5/569) من طريق عبدالملك بن عمير عن ربعي عن حذيفة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم –" اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر " قال الترمذي – رحمه الله – هذا حديث حسن .
وفي صحيح مسلم (8) من طريق ثابت عن عبدالله بن رباح عن أبي قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( فإن يطيعوا أبا بكر وعمر يرشدوا ... )
المسألة الثانية :
لا بد أن يدخل الخفين أو الجوربين على طهارة كما هو محل اتفاق عند أهل العلم (9) إلا ما يذكر عن بعضهم وهو خلاف شاذ لا يعتد به ويجوز على الصحيح كما هو مذهب الأحناف ورواية عن أحمد أن يدخل الخف رجله اليمنى بعد غسلها قبل غسل اليسرى ثم يغسل اليسرى ويدخلها الخف .
ولو أدخل خفيه في قدميه قبل أن يغسلهما لم يجزه ووجب عليه نزعهما ثم غسل قدميه .
وفي الصحيحين وغيرهما عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه – أنه كان مع النبي – صلى الله عليه وسلم - في ذات ليلة في مسير فذكر وضوء النبي – صلى الله عليه وسلم – قال : ومسح برأسه ثم أهويت لأنزع خفيه فقال : دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين ومسح عليهما (10) .
المسألة الثالثة :
__________
(1) انظر ( مسائل الإمام أحمد لأبي داود (10) والأوسط لابن المنذر (1/442-443) والمجموع للنووي ( 1/487) .
(2) انظر فتاوى شيخ الإسلام جمع ابن قاسم 21/215 والإنصاف 1/176.
(3) رقم 558.
(4) ج /195 .
(5) ج1 / 280.
(6) العلل للدار قطني (2/110/111) .
(7) قد احتج بأثر عقبة عن عمر من لا يرى التوقيت في المسح على الخفين ولا حجة فيه فظاهر فعل عقبة أن ذلك للحاجة وأما لغير الحاجة : فالتوقيت واجب .
(8) ج 5 /183-187 بشرح النووي .
(9) انظر " فتح الباري ( 1/309-310) والمغني ( 1/284) مع الشرح الكبير ) والمجموع للنووي ( 1/512-513) .
(10) صحيح البخاري ( 1/309) – الفتح وصحيح مسلم ( 3/169-170 نووي ) .(/1)
اختلف العلماء – رحمهم الله تعالى – في حكم المسح على الخف أو الجورب المخرق . وأصح ما قيل في هذه المسألة أنه يجوز المسح على المخرق والمرقع إذ لا دليل على منع المسح على الخف المخرق قال الإمام المشهور سفيان الثوري – رحمه الله – امسح عليها ما تعلقت به رجلك وهل كانت خفاف المهاجرين والأنصار إلا مخرقة مشققة مرقعة ) ذكره عبدالرزاق عنه في المصنف (1) ومن طريقه رواه البيهقي في السنن الكبرى (2) وهذا قول إسحاق وابن المبارك وابن عيينة وأبي ثور وغيرهم(3) .
وقد يقال بأولوية المسح على الخف السليم الخالي من الخروق خروجاً من الخلاف ولاسيما لأهل القدرة والذين لا يشق عليهم ذلك فإن مسحوا على المخرق والمعيب صح بدون كراهة على الصحيح .
وأما جعل الخف غير المخرق شرطاً لصحة المسح فلا دليل عليه فقد رخص النبي – صلى الله عليه وسلم – في المسح على الخفين والجوارب وأطلق ولم يقيد المسح على الخف أو الجورب بقيود وإطلاق ما أطلق الشارع أمر متعين فإذا جاء القيد عن الشارع ولم يكن أغلبياً وجب اعتباره وهو منتف هنا وأما كوننا نقيد كلام النبي – صلى الله عليه وسلم – بكلام بعض الفقهاء الذين هم بشر يخطئون ويصيبون فهذا أمرٌ لا يجوز فلذلك .
لا يمنع المسلم ولا المسلمة من المسح على الخف أو الجورب المخرق ما دام اسمه باقياً ولو كان فيه من العيوب ما فيه .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – في الفتاوى
(21/174) " فلما أطلق الرسول –صلى الله عليه وسلم – الأمر بالمسح على الخفاف مع علمه بما هي عليه في العادة ولم يشترط أن تكون سليمة من العيوب وجب حمل أمره على الإطلاق ولم يجز أن يقيد كلامه إلا بدليل شرعي وكان مقتضى لفظه أن كل خف يلبسه الناس ويمشون فيه فلهم أن يمسحوا عليه وإن كان مفتوقاً أو مخروقاً من غير تحديد لمقدار ذلك فإن التحديد لا بد له من دليل " وقال أيضاً رحمه الله 0 " وأيضاً فأصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – الذين بلغوا سنته وعملوا بها لم ينقل عن أحد منهم تقييد الخف بشيء من القيود بل أطلقوا المسح على الخفين مع علمهم بالخفاق وأحوالها فعلم أنهم كانوا قد فهموا عن نبيهم جواز المسح على الخفين مطلقاً .
المسألة الرابعة :
لم يرد حديث تقوم به حجة في كيفية المسح على أعلى الخفين فلذلك يكفي المسلم والمسلمة إمرار اليد على القدم اليمنى واليسرى بحيث يصدق عليه أنه مسح (4)كما هو قول الشافعي وأبي ثور وغيرهما(5) ويقتصر بالمسح على أعلى الخف ، أما مسح أسفل الخف فلم يثبت فيه دليل . والحديث الوارد في ذلك معلول عند الأئمة الكبار (6) فلا يصح العمل به وقد روى أبو داود وغيره بسند صحيح من طريق الأعمش عن أبي اسحاق عن عبد خير عن علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – قال : " لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه وقد رأيت رسول الله –صلى الله عليه وسلم يسمح على ظاهر خفيه " .
المسألة الخامسة :
اختلف العلماء – رحمهم الله تعالى – في حكم الطهارة بعد نزع الخفين أو الجوربين بعد المسح عليهما هل يبقى على وضوئه أم تنتقض طهارته فيكون نزع الخفين ناقضاً من النواقض أم أنه يغسل قدميه إذا نزع خفيه كما قال بذلك بعض الفقهاء .
__________
(1) ج 1/194- رقم 753 ) .
(2) ج 1/283) .
(3) انظر : الأوسط لابن المنذر ( 1/448- 449) .
(4) جاءت بعض الأحاديث في بيان مقدار المجزيء من المسح ولكن لا يصح منها شيء كحديث يروى عن علي – رضي الله عنه – أنه رأى رسول الله –صلى الله عليه وسلم – يمسح على ظهر الخف خطوطاً بالأصابع )) وحديث جابر –رضي الله عنه – قال مر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل يتوضأ فغسل خفية فنخسه برجليه وقال ليس هكذا السنة أمرنا بالمسح هكذا وأمر بيديه على خفيه .
وحديث المغيرة بن شعبة . رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بال ثم جاء حتى توضأ ومسح على خفيه ووضع يده اليمنى على خفه الأيمن ويده اليسرى على خفه الأيسر ثم مسح أعلاها مسحة واحدة حتى كأني أنظر إلى أصابعه صلى الله عليه وسلم على خفيه .
فهذه الأحاديث كلها ضعيفة واهية فلا تقوم بها حجة لأن الحجة في الأحاديث الصحيحة دون الضعيفة .
والمسلم لم يشرع له العمل بالحديث الضعيف . وأما تساهل الكثير في العمل بالحديث الضعيف ولا سيّما إذا كان في فضائل الأعمال فهذا لا يخرجه عن كونه ضعيفاً .
والصحيح من أقوال اهل العلم أن الحديث الضعيف لا يعمل به مطلقاً لا في الفضائل ولا في الأحكام ولا في غيرها فالكل شرع من عندالله ولا يقوم الشرع إلاعلى صحيح الأخبار دون ضعيفها وساقطها والله أعلم .
(5) انظر فتاوى شيخ الإسلام جمع ابن قاسم (21/215) والإنصاف (1/176) .
(6) فقد ضعفه أحمد والبخاري وأبو حاتم وأبو زرعة والترمذي والشافعي وغيرهم من الأئمة وانظر جامع الترمذي ( 1/163) والعلل لابن أبي حاتم (1/54) والتلخيص ( 1/159) لابن حجر .(/2)
أصح هذه الأقوال فيما يظهر من حيث الدليل أن طهارته باقية دون حاجة إلى غسل القدمين ونُقل هذا القول عن جماعة من أهل العلم منهم الحسن البصري والنخعي وقتادة وعطاء وغيرهم واختاره ابن حزم وشيخ الإسلام ابن تيمية (1) وبعضهم قاس ذلك على من مسح رأسه ثم حلقه فإنه لا يجب عليه أن يعيد مسح رأسه . وهذا القياس ضعيف فلا ينظر إليه لأن الشعر أصل في الرأس وليس بدلاً وأما المسح على الخفين فإنه بدل عن غسل القدمين فلا يقاس ما كان أصلاً على ما كان بدلاً .
وقلت إن هذا القول هو الصحيح لأنه مذهب الخليفة الراشد علي بن أبي طالب – رضي الله عنه - ولم يخالفه في ذلك أحد من الصحابة فيما أعلم فنستغني به عن القياس الذي لم تتوفر شروطه وتنتف موانعه .
وقد روى البيهقي (2) والطحاوي (3) في شرح معاني الآثار واللفظ له " عن أبي ظبيان أنه رأى عليا رضي الله عنه – بال قائماً ثم دعا بماء فتوضأ ومسح على نعليه ثم دخل المسجد فخلع نعليه ثم صلى " وهذا أثر صحيح .
وقوله " بال قائماً " فيه رد على قول من قال إن علياً توضأ على طهارة وفيه محل الشاهد أنه لا ينتقض وضوء الماسح على الخف أو الجورب وكذلك العمامة بالنزع .
فإن قيل أيعيدهما أعني الخفين أو الجوربين مرة أخرى ويبتدئ مدة المسح من جديد .
ويحصل بذلك تسلسل كلما أوشكت المدة أن تنقضي نزع خفيه أو جوربيه ثم أدخلهما ويصدق عليه أنه أدخلهما على طهارة قلت هذا ممنوع لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين " (4) والمقصود بالطهارة هنا الطهارة بالماء والذي ينزع خفيه ويريد إدخالهما مرة أخرى إنما يدخلهما على طهارة مسح و هذا لا يجوز لأنه لم يدخلهما على طهارة ماء والنص جاء بطهارة الماء ولم يرد بطهارة المسح ولذلك لا يجوز إعادة الخفين أو الجوربين والمسح عليهما منعاً للتسلسل الحاصل بالجواز ومنعاً لإلغاء المدة التي وقتها النبي - صلى الله عليه وسلم –للمقيم والمسافر لأنه لو أجيز إعادتهما والمسح عليهما – ولا قائل به (5) لم يكن لتوقيت النبي – صلى الله عليه وسلم – فائدة لأنه يلزم من القول بإعادتهما القول بابتداء مدة المسح من الإدخال ويحصل بذلك إلغاء للتوقيت ومخالفة صريحة لما سنه النبي - صلى الله عليه وسلم- لأمته ولو كان هذا جائزاً لأرشد إليه النبي – صلى الله عليه وسلم - ولما أمرهم بالنزع والله أعلم .
المسألة السادسة :
إذا مسح يوماً وليلة فما فوق ثم قدم بلده الذي يسكن فيه فلا يجوز له في هذه الحالة المسح على الخفين بل ينزعهما ثم يغسل قدميه لأن رخص السفر قد انتهت بالوصول إلى البلد فلا يجوز الزيادة عن اليوم والليلة في المسح كما هو قول جمهور العلماء (6) وإن وصل بلده وقد مضى دون يوم وليلة يتمهما .
وأما المقيم إذا مسح يوماً ثم سافر فإنه يمسح يومين زيادة على اليوم فيكون مسحُه ثلاثة أيام . وهذا الصحيح من أقوال أهل العلم وبه قال الأحناف (7) ورواية عن الإمام لأحمد رجحها كثير من أصحابه وجاء عن الإمام أحمد – رحمه الله – أنه رجع عن قوله (( يتم مسح مقيم )) لأن رخص السفر قد حلت له والمسافر كما تقدم في حديث علي يمسح ثلاثة أيام إلا أن يخشى فوات رفقته أو يتضرر بالنزع لشدة برد ونحو ذلك من الأعذار فله أن يمسح أكثر من ثلاثة أيام لأثر عقبة بن عامر وقد تقدم ذكره في المسألة الأولى والله أعلم .
المسألة السابعة :
" إذا لبس جورباً على جورب " . فإن كان لبس ذلك على طهارة فالحكم في هذه الحالة للفوقاني وإن مسح على التحتاني صح ذلك على الصحيح .
__________
(1) انظر صحيح البخاري ( 1/208) مع الفتح ) وفتح الباري ( 1/310) والأوسط لابن المنذر ( 1/459) واختيارات شيخ الإسلام للبعلي ص (15) والمحلى (1/337)
(2) 1/228) .
(3) 1/97) طبعة دار الكتب العلمية .
(4) الحديث متفق عليه من حديث المغيرة وقد تقدم ذكره .
(5) وأما ما رواه عبدالرازق في المصنف ( 1/210) من طريق فضيل بن عمرو عن إبراهيم أنه كان يحدث ثم يمسح على جرموقين له من لبود يمسح عليهما ثم ينزعهما وإذا قام إلى الصلاة لبسهما ويصلي .
فيقال عنه ليس في هذا الأثر ما يصلح لمعارضة الأصل ولا نقض الإجماع وقوله (( وإذا قام إلى الصلاة لبسهما )) أي أنه لبس الجوربين على طهارة المسح ولم يأت بعد ذلك أنه أحدث ومسح عليهما فهذا فيصل المسألة وقد تقدم قول العلماء في ذلك وأنهم متفقون فيما أعلم أنه لا يمسح عليهما بل يجب خلع الخفين أو الجوربين وغسل القدمين والله أعلم .
(6) انظر مسائل الإمام أحمد رواية ابنه عبدالله (1/119-120) والأوسط (1/446) والمغني (1/296-297) والمجموع (1/489) .
(7) انظر شرح فتح القدير (1/154-155) والمغني ( 1/295) والمبدع في شرح المقنع (1/143) .(/3)
وأما إن لبس الفوقاني على حدث فلا يجوز له أن يمسح على الفوقاني عند جمهور أهل العلم (1) لأنه لبس ذلك على غير طهارة . فإذا مسح على التحتاني ثم لبس الفوقاني جاز له حينئذ المسح على الفوقاني . وفي هذه الحالة على هذا القول إذا نزع الفوقاني فالحكم كالحكم فيما إذا نزع خفيه وقد سبق أن الطهارة لا تنتقض .
وهذه المسائل السبع من أهم المسائل في المسح على الخفين والسؤال يكثر عنها .
والقصد من كتابة هذه المسائل هو تقريب ا لمسائل بأدلتها إلى سائر الخلق لتكون عوناً لهم على معرفة أمور دينهم والتفقه على وفق الأدلة الصحيحة .
فالمسلم لم يقيد بمذهب أو بقول أحد سوى قول الرسول – صلى الله عليه وسلم أو ما اتفق عليه أهل العلم – والله الموفق للصواب والهادي إلى سبيل الرشاد .
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه .
تمت مراجعتها على يد كاتبها
بتاريخ 2/1/1421هـ
سؤال وجوابه حول الاتباع والتقليد
الحمد لله رب العالمين ، أما بعد ... فقد سأل بعض الأخوة وقال : ما الحكم إذا تنازع اثنان في مسألة فقهية ؟ فهل يحق لكل واحد منهما أن يأخذ بما قال إمام مذهبه أم أنه يجب البحث عن الحق وما ينصره الدليل ؟ أفتونا وجزاكم الله خير الجزاء .
فأجبته : إذا لم يكن في المسألة دليل ظاهر وكان مبني الحكم في المسألة على الاجتهاد فللمسلم أن يقتدي بمن يراه أعلم الناس وأورعهم (2) ولا حرج عليه في ذلك . أما إذا كان في المسألة دليل فلا يجوز للمسلم أن يأخذ بما يقول إمامه إن كان مخالفاً للدليل بل عليه أن يدع قول إمامه كائناً من كان إذا بلغه الدليل لأنه الواجب على جميع الخلق .وأقوال العلماء يحتج لها ولا يحتج بها ، ويستعان بها في فهم النصوص وتصوير المسائل ونحو وذلك .
أما كونها حجة على كلام الله تعالى وكلام رسوله -صلى الله عليه وسلم – فلم يقل به أحد من الأئمة بل هو مخالف للكتاب والسنة والإجماع وقد أمر الله تعالى باتباع كتابه وطاعة رسوله –صلى الله عليه وسلم – في مواضع كثيرة من القرآن فقال تعالى { وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } وقال تعالى { قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ } وقال تعالى { فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } وقال تعالى { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ(20) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ(21). إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ(22) } الآية .
__________
(1) وقد أجاز بعض أهل العلم كما في المجموع (1/506) المسح على الفوقاني وإن لبسه على حدث ومنه تعلم عدم صحة الإجماع المذكور في هذه المسألة قال ابن قدامة – رحمه الله – في المغني (1/286مع الشرح الكبير ) إذا لبس خفين ثم أحدث ثم لبس فوقهما خفين أو جرموقين لم يجز المسح عليهما بغير خلاف لأنه لبسهما على حدث ، وفي قوله بغير خلاف نظر فالمسألة فيها خلاف ولم ينعقد عليها إجماع غاية ما في ذلك أن المنع قول الجمهور وهذا ليس بإجماع وأيضاً لا يلزم منه الرجحان .
والقول بالجواز فيه قوة وله وجه من النظر .
والقول بأنه لبسهما على غير طهارة لا يضر ما دام الأصل المباشر للقدم ملبوساً على طهارة . والفوقاني تابع للتحتاني فهما كالجورب الواحد ولذلك يتبعه في التوقيت ولا يأخذ توقيتاً مستقلاً ولذلك أقول لا يصح القول بأنه أدخلهما على غير طهارة لأن الخف أو الجورب الأول أدخل على طهارة وهذا الفوقاني تابع له فلذلك لم يأخذ حكماً مستقلاً في مدة المسح بل تبع أصله وعلى هذا القول إذا نزع الفوقاني لا يؤثر على طهارته وله إعادته مرة أخرى لثبوت أحكام المسح بالخف أو الجورب المباشر للقدم فهذا وجه هذا القول وفيه قوة والنفس تميل إليه ومن أراد الاحتياط بحيث لا يلبس الفوقاني إلا على طهارة فهذا حسن ولكن الاحتياط شيء والمنع شيء آخر . علماً أنه يلزم المانعين بعض اللوازم كتسلسل مدة المسح لأن الفوقاني لا يتعلق بالتحتاني فله حكم مستقل وكذلك يلزم من جوز لبس الجورب على جورب منع ذلك وإن لبس على طهارة لأن الطهارة طهارة مسح وليست بطهارة ماء فالذي لا يجعلهما بمنزلة الخف الواحد يطالب بالدليل على جواز اللبس على طهارة المسح ولو كنتُ لا أرى جواز لبس ا لجورب الفوقاني على حدث لمنعت لبس الجورب على جورب وإن لبسه على طهارة لأن الطهارة طهارة مسح ولم يرد دليل بجواز ذلك .
والقول بهذا القول أعني منع لبس الجورب على جورب عند من لا يرى جواز لبس الفوقاني على حدث متعين لأنه أسلم من التناقض والاضطراب والعلم عند الله .
(2) الورع هو الذي يمنعه ورعه أن يقول على الله مالا يعلم .(/4)
وقد أوصى الأئمة – رحمهم الله – أصحابهم بعدم التقليد وأوجبوا عليهم الأخذ بالدليل لأنه الفرض واللازم على جميع المسلمين فمن ظهر له الدليل وجب عليه اتباعه وترك ما عداه قال تعالى { اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ(3) } وقد شهد الله تعالى بالهداية لمن أطاع رسوله –صلى الله عليه وسلم كما في سورة النور { وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا } ومن ترك الدليل لقول أبي حنيفة أو مالك والشافعي أو أحمد فقد خالف الأصل الذي أجمع عليه المسلمون ،قال الإمام الشافعي – رحمه الله تعالى – " أجمع المسلمون على أن من استبانت له سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم – لم يكن له أن يدعها لقول أحد " .
وقال الإمام مالك –رحمه الله تعالى – " ليس أحد بعد النبي –صلى الله عليه وسلم – إلا ويؤخذ من قوله ويترك إلا النبي –صلى الله عليه وسلم - وما يفعله بعض الناس من التعصب لإمام مذهب من ينتسبون إليه فهذا مخالف لهدي السلف ومخالف لما عليه أئمة المذاهب فإنهم متفقون على ذم التقليد وذم التعصب فالواجب على المسلم أن ينصر الدليل وأن يأخذ به سواء كان مع المالكي أو الحنفي أو الشافعي أو الحنبلي أوالظاهري أو مع غيرهم فلم يحصر الله تعالى الحق في هذه المذاهب فاصحابها بشر يخطئون ويصيبون وليسوا بمعصومين من الزلل والخطأ قال الإمام الشافعي – رحمه الله – " ما من أحد إلا وتذهب عليه سنة الرسول –صلى الله عليه وسلم – وتعزب عنه فمهما قلت من قول أو أَصلت من ِأصل فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم – خلاف ما قلت فالقول ما قال الرسول صلى الله عليه وسلم وهو قولي " .
وقد تنازع الأئمة رحمهم الله تعالى في مسائل كثيرة في أحكام الطهارة والصلاة والزكاة والصيام والحج والبيوع والطلاق والظهار وغيرها فلم يقل أحد مِن أهل المعرفة والتحقيق أنه يجوز لكل أحد أن يأخذ بما يشاء من هذه المذاهب دون رجوع للأدلة باستثناء المقلد العاجز عن معرفة الدليل .
ولو جاز لكل مسلم أن يذهب إلى ما يهوى ويشتهي من هذه الأقوال والآراء لكان الدين هو هذه المذاهب ولم يكن حينها للكتاب والسنة كبير فائدة . نعوذ بالله من ذلك .
وحينئذٍ أقول بما اتفق عليه المسلمون من وجوب رد المسائل المختلف فيها إلى الكتاب والسنة على فهم أئمة السلف والنظر في أقوالهم واجتهاداتهم وترجيح ما رجحه الدليل .
ومن أمثلة ذلك أن العلماء تنازعوا في أحكام نواقض الوضوء واختلفوا في أكل لحم الجزور ولمس النساء فيما دون الجماع وما يخرج من غير السبيلين في الجسد ويعبر عن ذلك بعض الفقهاء بقوله والخارج النجس من الجسد (1) .
فكان لكل إمام قول في هذه المسألة ، فمذهب الأئمة الثلاثة مالك وأبي حنيفة والشافعي أن لحم الجزور لا ينقض الوضوء ، ومذهب أحمد – رحمه الله – أنه ينقض الوضوء ، واختاره ابن حزم .
والصحيح في ذلك مذهب أحمد فقد صح في ذلك حديثان عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم - يدلان على أن لحم الجزور ينقض الوضوء أحدهما حديث جابر بن سمرة في صحيح مسلم (2) والآخر حديث البراء عند أبي داود (3) والترمذي (4) وغيرهما .
وأما لمس النساء باليد والقبلة ونحو ذلك فقد ذهب الشافعي إلى أن لمس المرأة ينقض الوضوء سواء كان بشهوة أم بغير شهوة .
وذهب أبو حنيفة إلى أن اللمس لا ينقض الوضوء مطلقاً .
وذهب مالك وأحمد في رواية إلى أنه لا ينتقض الوضوء إلا بشهوة .
والمتأمل للأدلة في هذه المسألة يجد أن الأحناف أقرب المذاهب للصواب وهو رواية عن أحمد اختارها شيخ الإسلام ، فإنه لم يرد دليل تقوم به حجة يدل على النقض لا بشهوة ولا بغيرها . والبراءة الأصلية دليل من الأدلة يجب اعتبارها فكان مذهب الأحناف أظهر من غيره في هذه المسألة ، وقد جاء عن النبي –صلى الله عليه وسلم - أنه يقبل ويخرج إلى الصلاة ولم يذكر أنه توضأ ولم يرد في الحديث أيضاً أن ذلك بدون شهوة فدل على العموم إلا أن في صحة هذا الخبر نظراً فقد رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه من طريق وكيع عن الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت عن عروة عن عائشة به وهو معلول لم يسمعه حبيب من عروة (5). وقد صح في الباب غير حديث والله أعلم
__________
(1) اعلم أن بعض الفقهاء –رحمهم الله يتساهلون في الحكم على الأعيان فيحكمون على مسائل بالنجاسة بدون دليل ولا قياس صحيح وقد تقرر في الأدلة الشرعية أن الأعيان طاهرة حتى تتبين نجاستها وكل ما لم تثبت نجاسته بدليل فهو طاهر كالمني ونحوه والله أعلم .
(2) ج 4/48 نووي .
(3) 2 ) 1/ 315- عون المعبود ) .
(4) 1/ 122 – 123 ).
(5) انظر جامع الترمذي 1/133 ونصب الراية 1/70-76وتنقيح التحقيق 1/437-442 .(/5)
وأما الذي يخرج من الجسد كالدم ونحوه فمذهب أحمد أن ذلك ناقض من نواقض الوضوء ومذهب الشافعي أنه لا ينقض الوضوء مطلقاً وهذا الصحيح وهو قول مالك ورواية عن أحمد رجحها شيخ الإسلام وكثير من أهل العلم فإنه لم يرد دليل على أن ما يخرج من الجسد سوى السبيلين ينقض الوضوء والأصل عدم النقض .
وهذه الأمثلة إنما ذكرتها ليعلم أن الحق ليس محصوراً على عالم أو طائفة أو مذهب معين وأن المسلم ليس مأموراً باتباع أو التزام مذهب معين بل الحق ضالته ومطلبه وكل مذهب فيه خطأ وصواب .
فالحنبلي معه كثير من الحق في كثير من المسائل والشافعي والمالكي والحنفي كلهم كذلك وقد تفرد الإمام ابن حزم عن الأئمة الأربعة ببعض المسائل وكان الحق معه فالأئمة يتفاوتون في بلوغ الأدلة لهم ومعرفة صحيحها من ضعيفها وناسخها من منسوخها ومطلقها من مقيدها ، والمحق يتبع من كان الحق معه دون تحيز ويرد الباطل دون تشنيع أو قدح في ذواتهم وتنتقص لمكانتهم لأنهم مجتهدون فهم دائرون بين الأجر والأجرين ومع ذلك فلا يجب على أحد اتباع واحد منهم ومن زعم ذلك فقد ضل سواء السبيل فإنه لا يجب اتباع أحد سوى النبي –صلى الله عليه وسلم لأن قوله الحق ولا ينطق عن الهوى .
وأما غيره من العلماء وأئمة المذاهب وغيرهم فلا يؤخذ من أقوالهم إلا ما وافق الحق وهذه المسألة مسألة كبيرة مهمة لا تلج إلا قلب من الهمه الله رشده ووقاه شر نفسه . وكم من مدع للعلم مشتغل بالتصنيف وقع في التعصب المهلك والتقليد الأعمى ويغضب إذا خولف إمامه ما لا يغضب لكتاب الله ولا لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فالموفق من جعل كتاب الله وسنة رسوله –صلى الله عليه وسلم حكماً على قول كل أحد . وإن خالفه من خالفه أو بدّعه من بدّعه فقد جرت عادة المقلدين والمتعصبين في تبديع مخالفيهم وتضليلهم وهذا شأن كل مبطل ومنحرف عن الحق والصراط المستقيم إذا عجز عن إقامة الحجة والدليل لجأ إلى مثل هذه الأفاعيل وقد دل الكتاب والسنة على أن الحق له أعداء كثيرون يصدون عنه وينهون عنه ويأتون بقوالب متنوعة على حسب أمزجتهم وما تهواه نفوسهم . وصاحب الحق يتعين عليه ألا يتزعزع عن الحق الذي عليه ويدعو إليه فإن الله ناصره ومؤيده ولا يزال منصوراً ما دام يقوم بنصر الدين ونصر الحق مخلصاً في ذلك لله ولا يزال معه من الله ظهير ما دام على تلك الحالة .
قال تعالى { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69) } . وقال تعالى { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7) } .ومن نصره الله فقد كفاه شر أعدائه . ولكن لا يتم النصر إلا بأمرين .
الإخلاص لله تعالى في القول والعمل ، وموافقة هدي النبي – صلى الله عليه وسلم – فإذا توفر هذان الشرطان فلا غالب له وإن اجتمع عليه من بين المشرق والمغرب ، قال تعالى { إِنْ يَنْصُرْكُمْ اللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ (160) } والحمد لله رب العالمين ..
الفهرس
الموضوع ... ... ... ... ... ... ... ...
المقدمة
المسألة الأولى :
يمسح المقيم يوماً وليلة والمسافر ثلاثة أيام .
المسألة الثانية :
إدخال الخفين على طهارة .
المسألة الثالثة :
... حكم المسح على الخف المخرق وترجيح الجواز .
المسألة الرابعة :
في كيفية المسح والاقتصار على أعلى الخف .
حاشية في عدم العمل بالحديث الضعيف .
المسألة الخامسة :
... حكم وضوء المسلم بعد نزع الخفين أو الجوربين وترجيح بقاء الطهارة
لا يجوز إعادة الخفين بطهارة المسح والمسح عليهما بعد الحدث .
المسألة السادسة :
... إذا قدم المسافر بلده وقد مسح يوماً وليلة .
المسألة السابعة :
إذا لبس جورباً على جورب .
================================
سؤال وجوابه حول الاتباع والتقليد
الواجب على جميع الخلق إتباع الدليل وترك كل قول يخالف الكتاب والسنة
لم يحصر الله الحق في المذاهب المشهورة .
حكم الوضوء من لحوم الإبل وبيان الراجح في ذلك .
حكم الوضوء من لمس المرأة وتقبيلها .
المسلم ليس مأموراً بإتباع أو التزام مذهب معين .
كثير من يدعي العلم ويشتغل بالتصنيف وقع في التعصب .(/6)
مهمة التبليغ ونصرة افسلام
بقلم الشيخ :أبووائل أكرم أحمد عمير
هذه الوصايا أوصي بها نفسي أولا ثم إخوني وأخواتي الدعاة عبر هذا الموقع الجليل العظيم الذي يسعى القائمين عليه بنشر الخير وزرعه من خلاله بين الناس، فنسأل الله تعالى أن يسكننا وإياهم آعالي الجنان بجوار الرحمان، ونسأله سبحانه وتعالى كما أننا نزرع بموقع طريق الجنة أن نحصد ثماره هناك إنه ولي ذلك والقادر عليه.
.
أيها الدعاة إن الدفاع عن الإسلام، ورد حيل المحتالين وشبه المفترين، وكشف طرق المفسدين، والقيام بواجب الإعذار والإنذار، والتبليغ والبيان، والإيضاح وعدم الكتمان واجب معظم وفرض محتم على جميع المسلمين كبيرا وصغيرا ذكرا وأنثى، كل على حسب علمه وطاقته واستطاعته، ويتأكد ذلك في حق العلماء والفقهاء المخلصين أئمة الأنام والقادة الأعلام العارفين بالحلال والحرام، الذين بنورهم يهتدي المهتدون، وعلى منهاجهم يسلك الموفقون.
أيها الدعاة: إنها مهمة خطيرة جليلة، لابد من القيام بها لتحفظ معاقد ديننا ومعاقله، وتحمى من التغيير موارده ومناهله التي يسعى من خلالها الأعداء بزعزعة ثوابت شريعتنا وخلخلة قواعدها، والتشكيك في مسلماتها، وحاولة منهم في عقد أولوية بدعهم، وإطلاق لعنان فتنهم، ومضادة لشريعتنا المشرقة النقية، بطرق الخداع والمكر والتأول والدجل والكذب، ولبس الحق بالباطل بأقوال مزخرفة وألفاظ خادعة، تبريرا لإنحرافهم .. يتولى كبر هذا الجرم العظيم منافقون معاندون .. للإسلام مبغظون .. يظهرون ما لا يبطنون .. ويفسدون في الأرض ولا يصلحون.
استخدموا طرقا ماكرة ووسائل مضللة فاجرة تقلب الحقائق والأحداث ليظهر الحق وأهله في صورة الباطل والباطل وأهله في صورة الحق، يقول الإمام أحمد: " هذه الحيل التي وضعها هؤلاء عمدوا إلى السنن فاحتالوا في نقضها، أتو إلى الذي قيل لهم: إنه حرام فاحتالوا فيه حتى حللوه، ما أخبثهم يحتالون لنقض سنن رسول الله ".
صدقت يا إمام السنة فها نحن نرى حقيقة هذا العداء لسنة المصطفى بالتشكيك في نقلها ورواتها، وردها على حساب أهوائهم ورفضهم لقبول الآحاد منها مع التوافق لأخذهم المتوتر الذي لهم فيه مصالح ومنافذ، كما أن فيهم أيضا من يرد السنة جملة بدعوى أن فيها الضعيف والموضوع وو .. إلى آخر تلك السخفات فلعنهم الله أين ما كانوا، ولن ينالوا مبتغاهم فإن الله لهم بالمرصاد بتسخيره عز وجل لهذا الدين رجالا أفذاذا في العلم والمعرفة يبطلون الباطل ويعلون الحق.
وفي الحديث الذي رواه ابن عبد البر يقول رسول الهدى : " يحمل هذا الدين من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغاليين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين " إنه العهد والميثاق الذي أخذه على العلماء الخالق جل في علاه: " وإذ أخذنا ميثق الذين أوتوا الكتب لتبيننه للناس ولا تكتمونه " ] آل عمران:187 [، قال قتادة رحمه الله تعالى: " هذا ميثاق أخذه الله على أهل العلم، فمن علم شيئا فليعلمه، وإياكم وكتمان العلم، فإن كتمان العلم هلكة ".
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: " حكم الله ورسوله يظهر على أربعة ألسنة: لسان الراوي، ولسان المفتي، ولسان الحاكم، ولسان الشاهد، والواجب على هؤلاء الأربعة أن يخبروا بالصدق المستند إلى العلم، وآفة أحدهم الكذب والكتمان، فمتى كتم الحق أو كذب فيه فقد حاد الله في شرعه ودينه، وقد أجرى الله سنته أن يمحق بركة علمه ودينه ودنياه، بالكتمان يعزل الحق عن سلطانه، وبالكذب يقلب عن وجهه، والجزاء من جنس العمل، فجزاء أحدهم أن يعزله عن سلطانه المهابة والكرانة والمحبة والتعظيم، الذي يلبسه أهل الصدق والبيان، ويلبسه ثوب الهوان والمقت والخزي بين عباده، فإذا كان يوم القيامة جازى الله سبحانه من يشاء من الكاذبين الكاتمين بطمس الوجوه وردها على أدبارها كما طمسوا وجه الحق وقلبوه عن وجهه، جزاءا وفاقا:" وما ربك بظلم للعبيد " ] فصلت:46 [ انتهى كلامه رحمه الله بشيء من التصرف.
أيها الدعاة: إن خطر كتمان العلم والحق من أسباب العذاب المهين، واستحقاق اللعن والطرد والابعاد عن رحمة أرحم الراحمين قال سبحانه وتعالى: " إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بينه للناس في الكتاب أولائك يلعنهم الله ويلعنهم اللعنون إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم " ] البقرة:159-160 [ ، قال قرطبي رحمه الله: أخبر الله تعالى أن الذي يكتم ما أنزل من البيان والهدى أنه ملعون .
وقال تعالى: " ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون " ] البقرة:12 [(/1)
وقال سبحانه: " وإذ أخذ الله ميثق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون " ] آل عمران:187 [. قال ابن كثير: " كتموا ذلك أي رسالة محمد وصفته، وتعوضوا عما وعدوا عليه من الخير في الدنيا والآخرة بالدون الطفيف والخط الدنيوي السخيف، فبئست الصفقة صفقتهم، وبئست البيعة بيعتهم، وفي هذا تحذير للعلماء أن يسلكوا مسلكهم، فيصيبهم ما أصابهم، ويسلك بهم مسلكهم، فعلى العلماء أن يبذلوا ما في أيديهم من العلم النافع، الدال على العمل الصالح، ولا يكتموا منه شيئا " انتهى كلامه.
يقول أبو هريرة رضي الله عنه: " لولا آيتان من كتاب الله تعالى ما حدثتكم حديثا " وقرأ الآيتين السابقتين.
ويقول رسول الرحمة : " من سئل عن علم يعلمه فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار " أخرجه أحمد وأبوا داود.
والبشارة البشارة للذين يبلغون رسالات الله بكل أمانة وصيانة، ولا يمنعهم من ذلك لومة اللائمين، قال جل وعلا: " الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله وكفى بالله حسيبا " ] الأحزاب:39 [ وفي الحديث عن أبي سعيد الخذري رضي الله عنه أن النبي "قال في خطبته: " ألا، لا يمنعن رجلا هيبة الناس أن يقول بحق إذا علمه " رواه الترميذي وأحمد وزاد: " فإنه لا يقرب من أجل، ولا يباعد من رزق أن يقال بحق أو يذكر بعظيم ".
وقال عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم: " لا يحقرن أحدكم نفسه " قالوا: يا رسول الله كيف يحقر أحدنا نفسه ؟ قال: " يرى أمرا لله عليه فيه مقال ثم لا يقول فيه، فيقول الله عز وجل له يوم القيامة، ما منعك أن تقول في كذا وكذا ؟ فيقول: خشية الناس، فيقول الله: فإياي كنت أحق أن تخشى " رواه ابن ماجه.
ومهمة التبليغ هو ديدان الأنبياء والرسل، وقد قال الله لنبيه :" ياأيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك " وقال له سبحانه: " قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدا إلا بلاغا من الله ورسالاته " ] الجن:21-23 [
فهي إذن مهنة الأنبياء التي من أجلها يحيون وعلى تبليغها يعيشون وفي سبيلها يموتون لسان حالهم عليها نحيا وعليها نموت وفي سبيلها نجاهد وبها نلقى الله .. ولهذا أبرأ المصطفى ذمته في تبليغه وأعلنها في مجتمعه الطاهر لتحملها الأجيال جيلا من بعد جيل من صعيد عرفات بقوله: " هل بلغت؟ .. نعم نعم بارسول الله { فاللهم فاشهد} " وقالت عائشة: " من حدثكم أن محمدا كتم شيئا من الوحي فقد كذب " رواه مسلم، وقال أبو ذر رضي الله عنه: " توفي رسول الله وما طائر يحرك جناحيه في السماء إلا وقد ذكر لنا منه علما " .
• أيها الدعاة ويا أنصار الحق والهدى وأهل العلم واتقى وجنود الدعوة والارشاد إن الوظيفة والمهمة عظيمة لكن الأجر أعظم لما أفصح به النبي الأكرم لعلي: " لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم " رواه البخا ري ومسلم.
• شروط التبليغ التي ينطلق منها الداعية: فإن التبليغ لرسالة الله عز وجل
يكون بالضوابط الشرعية المرعية ومنها:
1- العلم بما يدعو له وإليه فهذا فيه مرعاة لحرمة هذه الشريعة العظيمة، يقول الإمام أحمد: " لا يجوز الإفتاء إلا لرجل عالم بالكتاب والسنة "، ويقول بعض السلف: " إن أحدكم ليفتي في مسألة، ولو وردت على عمر بن الخطاب لجمع لها أهل بدر ".
2- العمل على ضوء عقيدة أهل السنة والجماعة.
3- الوسطية: قال علي رضي الله عنه: " الحكيم كل الحكيم من لم يقنط الناس من رحمة الله ولم يؤمنهم من مكر الله ".
4- فقه الواقع ونبد الخلاف والفرقة لقوله تعالى: " إنما المؤمنون إخوة ".
فقوموا أيها الدعاة إلى المجتمع والأمة لتعلموا جاهلهم، وتعظوا غافلهم، وتنصحوا معرضهم، وتجادلوا مبطلهم، ولتكن الدعوة وهمكم، ونشر التوحيد الخالص ديدنكم، وشعيرة الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر وظيفتكم .. وبلغوا حتى الممات فهذا هدي نبيكم فها هو يوصي وهو على فراش الموت ينادي " الصلاة وما ملكت أيمانكم" فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
بقلم: الشيخ أبو وائل أكرم أحمد عمير(/2)
مواصفات المرأة المؤهلة لها للقيام بالدعوة والإصلاح والبناء
تكلمنا في مقال سابق عن دور المرأة الدعوي الإصلاحي وحددنا مكان وظيفتها الذي يجب أن تلزمه كما حدده الله لها وهو عليم خبير بما يصلح عباده وفي هذا المقال نتناول السمات التي تؤهل المرأة كي تقوم بوظيفتها ، وذلك أن المرأة لكي تقوم بما يلزمها لابد لها من مؤهلات أو مقومات تستطيع بها
أن تقوم بما أنيط بها من وظائف دعوية وإصلاحية ونجمل ذلك فيما يلي:
الصفة الأولى: أن تكون المرأة صالحة في نفسها عالمة بما تدعو إليه ملمة بقواعد الأعمال التي ستقوم بها.
لابد أن تكون المرأة صالحة في نفسها مؤمنة بربها متبعة لنبيها صلى الله عليه وسلم شاعرة بمسئوليتها مدركة لدورها في البناء ونشر دين الله عز وجل مؤمنة بأن ذلك واجب عليها وفق شرع الله عز وجل، وإنما اشترطنا الصلاح حتى تكون قدوة حسنة في بيتها ومجتمعها وبين نسائها وحتى تكون قدوة طيبة لطالباتها ، والصلاح لا يتأتى للمرأة إلا بالعلم الشرعي الذي يلزمها فرضا أن تتلقاه من أفواه العلماء من النساء والرجال وتقويه بمطالعة الكتب ومناقشة المختصين، وقد زخر زماننا بوسائل متعددة تجعل المرأة تتلقى ما تحتاجه من علم وهي في قرارها ويسهل عليها الحصول على مرادها من أفواه العلماء بواسطة الأشرطة المسجلة أو السماع من المذياع أو الرائي ويمكنها بواسطة الهاتف أن تناقش وتسأل عما أشكل عليها وبغير العلم والصلاح لا يمكن أن تقوم بوظيفتها على أكمل وجه ولا يمكن أن يكتب لها النجاح لأن فاقد الشيء لا يعطيه والجاهل بالشيء يهدم ولا يبني.
الصفة الثانية: القدرة على البيان والتعبير.
لا شك أن الفصاحة والبيان له دور في إيصال المعلومات والتعامل مع الآخرين من مدعوين وزملاء عمل وعليه فلابد أن يكون للمرأة شيء من البيان والفصاحة وطلاقة اللسان وتعبير بيان تعبر به عما يختلج في ضميرها تعبيراً صادقاً ، يظهر ما في قلبها ويكشف ما في نفسها حتى توصل المعاني وتقدر على لغة الخطاب الذي يساعدها على فهم الآخرين لها ويكون عوناً لها على النجاح وفي إدارتها ووظيفتها والطريق إلى ذلك أن تلم المرأة بشيء من علوم اللغة العربية نحواً وصرفاً وبلاغة وأدباً وذلك لا يتأتى دون أن تحضر المرأة دروساً في ذلك وقد كانت أم المؤمنين عائشة غاية في الفصاحة والبلاغة وهكذا غيرها من أمهات المؤمنين رضي الله عنهن أجمعين ومن هنا وجب على المرأة تكوين نفسها العلمي لتهيئ نفسها للعمل والقيام بمسئولياتها.
الصفة الثالثة: أن تتمتع بالحكمة.
الحكمة هي: وضع الشيء في موضعه، ولا يمكن أن تكون المرأة ناجحة في دعوتها أو في وظيفتها إلا بالحكمة والإدراك لما تريد أن تعمله أو تقوله حتى تستطيع أن توصل العلم إلى من تخاطبه وتغرس الحق فيمن تلقاه، ومن الحكمة أن ينزل المخاطب المنزلة اللائقة به ذلك لأن المرأة قد تواجه في مجتمعها ثلاثة أصناف من البشر: صنف جاهل فلابد من معاملته بما يتناسب معه من البيان، وصنف عالم بواجباته العملية، ولكن عنده شيء من التفريط والإهمال والغفلة ، فلابد أن يعامل معاملة بحسب حاله فليس من الحكمة أن يعامل كالجاهل. والصنف الثالث: عالم معاند مستكبر، ولا يمكن أن يسوى بين هذه الأصناف في الخطاب وليس من الحكمة ذلك، ومن هنا فإن أكثر ما يحصل من خلل وعدم نجاح في العمل والدعوة إنما هو بعدم وجود الحكمة لدى القائمات بواجباتهن الدعوية لكونهن يخاطبن الناس ويتعاملن مع أجناسهن بما لا يقتضيه الحال ، فليس من الحكمة مثلاً أن تقوم المرأة في فرح فتتكلم عن الموت وعذاب القبر كما أنه ليس من الحكمة أن تتكلم في العزاء، عن فضل النكاح وأنواع التجارات وغيره لأن هذا يؤدي إلى الخلل في القيام بالدعوة والعمل.
الصفة الرابعة: أن تتمتع المرأة بحسن التعليم والتربية وأن تكون قوية الشخصية غير مستسلمة.
وإنما قلنا هذا لأن المرأة تمارس هذه الوظيفة داخل بيتها وداخل مجتمعها وداخل مدرستها إذا كانت معلمة فأولادها هي تربيهم داخل البيت قبل أن يلقوا غيرهم وسيكونون غداً لبنة في المجتمع فإذا كانت الأم على جانب من الأخلاق وحسن المعاملة ودقة التوجيه وبصر في التعليم وتربي على يديها رجال المستقبل وبناته كان لهم اثر كبير في إصلاح المجتمع.
لذلك فالواجب على المرأة أن تتقن فن تربية الأولاد داخل منزلها وداخل أسرتها، ومن عجزت عن شيء استعانت بما نقص عندها بغيرها من الأقارب سواء كانوا رجالاً أو نساء وتبدأ بأبيها ثم الأقرب فالأقرب ، ومما يجب أن تتصف به قوة الشخصية وعمق المعرفة وسلامة العقيدة حتى تكون على مستوى التحدي غير مستسلمة للواقع قائلة: ’’ سار الناس على هذا فلا أستطيع أن أغير ,, لأنها لو استسلمت هكذا لما استطاعت الإصلاح والبناء لأن الإصلاح لا يكون إلا بتغيير ما فسد إلى صلاح والصالح إلى ما هو أصلح حتى تستقيم الأمور.(/1)
وليس في شرعنا استسلام للواقع، وإلا لماذا أصر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه على تغيير الأمة من أمة تعبد الأوثان إلى أمة تفرد الله وحده بالعبودية وقد صدع رسول الله صلى الله عليه وسلم جهاراً نهاراً بدعوته بعد نزول قوله تعالى: [فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين] متحدياً كل الأعراف والتقاليد لأن ظروف التغيير محفوفة بالمخاطر تحتاج لقوة وعدم استسلام وهذا لا يعني عدم ترتيب الأوليات في مهمات العمل وجعل المهم في جدول الإدارة في مؤخرة الجدول إذ لابد من تقديم الأهم.
الصفة الخامسة: الحركة والنشاط داخل المجتمع.
لابد للمرأة لكي تقوم بدورها الإصلاحي البنّاء أن يكون لها دور في الحركة داخل مجتمعها وهو القرار المذكور في قوله تعالى: [ وقرن ] لأن مجتمع النساء هو موضع قرار وإدارة عمل المرأة الذي يخصها بين جنسها داخل الدور المغلقة هو القرار، ولذلك كان على المرأة أن تتحرك لتثقيف بنات جنسها من خلال المجتمع سواء داخل المدرسة أو الجامعة أو مراحل ما بعد الجامعة وكل ذلك صالح أن يكون محلا يصدق عليه [ وقرن ] ليس فيه ظهور ولا بروز ولا خلطة ويمكن أن يكون للمرأة جدولاً لممارسة الإصلاح في البيت وفي المدرسة أو الجامعة، وفي ترتيب جلسات للعلم لبنات جنسها وإلقاء محاضرات ودروس عامة ولا يمنع ذلك من كتابة المقالات ونشر الموضوعات والكتب لنشر العلوم الشرعية وبيان استقلالية المرأة في وظيفتها وإيضاح محل عملها الذي تمارس فيه نشاطها وواجبها نحو دينها وأمتها، فإذا فعلت ذلك أثر ذلك في بناء المجتمع وتكاملت الجهود فقوى البناء وصلح المجتمع.(/2)
مواطن نموذجي
شعر : أحمد مطر
يا أيها الجلادُ أبْعِدْ عنْ يدي
هذا الصَفََدْ.
ففي يدي لم تبقَ يَدْ
ولم تَعُدْ في جسدي روحٌ
ولمْ يَبْقَ جَسَدْ
كيسٌ مِنَ الجلدِ أنا
فيه عِظامٌ ونَكدْ
فوهَتُهُ مشدودةٌ دوماً
بحبلٍ منْ مَسَدْ !
مُواطنٌ قحٌ أنا كما ترى
معلقٌ بينَ السماءِ والثَرى
في بلدٍ أغفو
وأصحو في بلدْ !
لا عِلمَ لي
وليسَ لي مُعْتَقَدْ
فإنني مُنذُ بلغتُ الرُّشْدَ
ضَيَّعتُ الرَّشَدْ !
وإنني ـ حسبَ قوانينِ البلدْ ـ
بلا عُقَدْ :
أُذنايَ وَقْرٌ
وَفَمي صَمْتٌ
وعينايَ رَمَدْ
**
من أثر التعذيبِ خَرَّ مَيَّتاً
وأغلقوا مَلفَّهُ بكلمتينِ:
ماتَ ( لا أحَدْ )(/1)
مواقف العلماء تحيي الأمة
قد مات في حديدهم أقوام
حسن قطامش
حين يَدْلَهِمّ الخطب ، ويجل الأمر ، ويظهرالفساد ، ويشيع الظلم في كثير من البلدان التي نَحّت الحكم بما أنزل الله ، حينئذ يخشى الناس على أنفسهم وأولادهم وذويهم ، فيضطرون إلى الانزواء بعيداً عن معترك الأحداث بل ويخضعون لهذا الواقع المظلم ، ويستسلمون له بعد أن ألجمت ألسنتهم تلك الأوضاع ، فنجدهم قد رضوا أن يتجرعوا مرارة الصبر ، وربما شربوا كؤوس الذل والمهانة ، لكن الظالم ينسى حين بغيه وجبروته تدبير الخالق العزيز الجبار وأنه له بالمرصاد ، فيتمادى في بغيه ويزيد في طغيانه ، ولكن يأبى الله إلا أن ينصر دينه ويتم نوره ، ويدحض الباطل ، ويعلي الحق ، فيقيض لتلك الشعوب الذليلة المنكسرة من يخرجها من خنوعها وذلتها ، ويبعث فيها روح العزة والكرامة وذلك حين يضحي العلماء والدعاة بأنفسهم ..
حينما يقعون تحت سياط الجلادين وسيوف الجبارين وأعواد المشانق ، لأنهم لا يخافون في الله لومة لائم ليقولوا للناس : إن الموت في سبيل الله خير من الموت جبناً وذلاً ، ويقيض الله كذلك لأولئك الظلمة الطغاة من يرهب قلوبهم ، ويزلزل كراسيهم بالصدع بكلمة الحق ابتغاء مرضاة الله ، بعد أن يتخذوا كل الوسائل المتاحة والمشروعة لذلك ، وبعد أن يصر الظالم على ظلمه ، ويقف من شرع الله موقف المعارض ويقف من الدعاة إلى الله موقف المعادي والمحارب .
إن إحياء الأمة من مواتها ، وبعثها من غفوتها ونومها ، وإخراجها من عبادة غير الله ، وقيادتها إلى ربها وسوقها إليه سوقاً جميلاً ، وحمل هذا الدين والسعي به والجهاد في سبيله ، إن هذا وغيره هو من سمات العلماء الفحول عبر تاريخنا المجيد ، ونستعرض هنا صوراً من مواقف أولئك العلماء لعلها تكون إحياءاً للغافلين ، ورهبة للظالمين ، إذ ضحوا بأرواحهم في سبيل إعلاء دين الله سبحانه ، وهي العزاء لكل مسلم يسوؤه تلك التصرفات الجائرة ضد الدين ودعاته .
ولو استرجعنا التاريخ لوجدنا الأمر لا يكاد يختلف ، بل يسجل التاريخ تلك الحقيقة الجلية ألا وهي الصراع بين حزب الرحمن وحزب الشيطان ، ولن تموت أمثال هذه الكلمات الصادقة : « ولأموتن في حديدي هذا حتى يأتي قوم يعلمون أنه قد مات في هذا الشأن قوم في حديدهم ... » ! ! فإلى أولئك الذين يسقطون ظلماً وعدواناً في الدفاع عن الإسلام ودعوته : ليعلموا أنه قد سبقهم أقوام على الطريق نفسه ، وإليك أخي صوراً من تلك المواقف [ سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلاْ ولن تجد لسنة الله تحويلا ] .
الإمام البويطي هو العلامة ، سيد الفقهاء ، يوسف أبو يعقوب بن يحيى المصري البويطي صاحب الشافعي ولازمه مدة وفاق الأقران ، وكان إماماً في العلم قدوة في العمل زاهداً ربانياً متهجداً ، دائم الذكر .. سعى به أصحاب ابن أبي دُؤاد حتى كتب فيه ابن أبي دُؤاد إلى والي مصر فامتحنه أي في محنة خلق القرآن فلم يجب ، وكان الوالي حسن الرأي فيه ، فقال له : قل فيما بيني وبينك ، قال : إنه يقتدى بي مئة ألف ، ولا يدرون المعنى ! ! فأمر به أن يحمل إلى بغداد .
قال الربيع بن سليمان : رأيته على بغل في عنقه غلٌ ، وفي رجليه قيدٌ وبينه وبين الغل سلسلة فيها لَبِنَةٌ طوبة وزنها أربعون رطلاً ، وهو يقول : « إنما خلق الله الخلق « بكن » فإذا كانت مخلوقة فكأن مخلوقاً خُلق بمخلوق .. ولئن دخلت عليه لأصْدُقَنّه يعني الواثق ولأموتن في حديدي هذا حتى يأتي قوم يعلمون أنه قد مات في هذا الشأن قوم في حديدهم » .
وتوفي رحمه الله في قيده مسجوناً بالعراق في سنة إحدى وثلاثين ومئتين من الهجرة . الإمام نعيم بن حماد هو العلامة صاحب التصانيف ، وكان شديداً في الرد على الجهمية حُمل إلى العراق في إبان تلك الغيمة مع البويطي مقيدين .. وكان يقول : « من شبه الله بخلقه فقد كفر ، ومن أنكر ما وصف به نفسه فقد كفر ، وليس في ما وصف الله به نفسه ورسوله تشبيه » . قال ابن يونس : حُمل على القول بتلك الفرية فامتنع أن يجيب فسجن ومات في سجنه سنة تسع وعشرين ومئتين ، وجر بأقياده ، فألقي في حفرة ، ولم يكفن ولم يصلى عليه .. وأوصى نُعيم بن حماد أن يدفن في قيوده وقال : « إني مخاصم » .(/1)
الإمام الخزاعي هو أبو عبد الله أحمد بن نصر الخزاعي ، كان أماراً بالمعروف ، قوالاً بالحق من أكابر العلماء العاملين ، ومن أهل العلم والديانة . حمل من بغداد إلى سامراء مقيداً ، وجلس له الواثق فقال له : « ما تقول في القرآن ؟ » قال : « كلام الله » ، ق ال : « أفمخلوق هو ؟ » قال : « كلام الله » قال : « فترى ربك يوم القيامة ؟ » قال : « كذا جاءت الرواية » قال : « ويحك يُرى كما يُرى المحدود المتجسم ، ويحويه مكان ، ويحصره ناظر ؟ أنا كفرت بمن هذه صفته ... » ، ما تقولون فيه ؟ » فقال قاضي الجانب الغربي : « هو حلال الدم » ووافقه فقهاء ، قال الواثق : « ما أراه إلا مؤدياً لكفره قائماً بما يعتقده » ودعا بالسيف وقام .
وقال : « إني لأحتسب خُطاي إلى هذا الكافر .. » فضرب عنقه بعد أن مدوا له رأسه بحبل وهو مقيد .
قال الحسن بن محمد الحربي : سمعت جعفر الصائغ يقول : رأيت أحمد بن نصر حين قتل ... قال رأسه : لا إله إلا الله والله أعلم . وعُلق في أذن أحمد بن نصر ورقة فيها : « هذا رأس أحمد بن نصر دعاه الإمام إلى القول بخلق القرآن ونفي التشبيه فأبى إلا المعاندة فجعله الله إلى ناره » وبقي رأسه منصوباً ببغداد ، والبدن مصلوباً بسامراء وفي رجليه زوج قيود . هذه صور لابتلاء العلماء على مر التاريخ من الظلمة والطواغيت والنتيجة أن أولئك العلماء يترحم عليهم حتى الآن ، أما أولئك الظلمة المحادون لله ولرسول ولشريعته ، فإنهم محل المقت والكراهية .. [ وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقبلون ].
________________________
(1) سورة فاطر : 43 . (2) سير أعلام النبلاء 12/58 . (3) سير أعلام النبلاء 10/610 . (4) سير أعلام النبلاء 11/167 ، والبداية والنهاية 10/318 . (5) سورة الشعراء : 227 .(/2)
مواقف الليبراليين تجاه سبِّ الرسول
06-2-2006
بقلم خباب بن مروان الحمد
"...هؤلاء الصحافيون الذين يشكِّكون بجدوى المقاطعة ، هل تغافلوا عن النداءات الدنماركيَّة التي تستنجد بالاتحاد الأوروبي لإنهاء المقاطعة الإسلاميَّة لمنتجاتها؟ وهل تغابوا عن الخسائر الدنماركيَّة ..."
(1) حقاًَ لم نتفاجأ من موقف النابت على أعين الغزاة ، حامد كرزاي الذي عارض إجماع البلدان الإسلاميَّة ـ رسمياً وشعبياً ـ وعبَّر خلال زيارته للدنمارك عن رضاه كرجل مسلم!! عن التفسيرات التي قدَّمتَّها (كوبنهاجن) للإساءة لرسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وقال معلناً:(الواقع أنَّ الصحافة حرَّة في الدنمارك كما في أفغانستان اليوم).
أتساءل حينها: هل يسمح كرزاي بأنَّ يسبَّ شخصه في الصحف الأفغانيَّة الحرَّة؟ أو يكتب أحد من ملالي الطالبان مقالاً يتَّهمه فيه بالعمالة والخيانة لشعبه وأمَّته الأفغانيَّة ، بعد أن أسلمها للهوان والذلَّة إبَّان مشاركته لأمريكا في حربها على الإسلام ؟ وبما أنَّه رئيس للحريَّة الأفغانيَّة فهل سيسمح لمن شاء بأن يتحدَّث بما شاء لأن قوانين الحريَّة ، تسمح بذلك عنده؟.
فمثلاً: هل يسمح ويرضى حامد كرزاي كرجل مسلم! بأن تُسبَّ الحكومة الأمريكيَّة في الصحف الأفغانيَّة الحرَّة ، ومن ثمَّ يقدِّم كاتب المقال التفسيرات التي يراها مسوِّغة لمقاله بسبِّ أمريكا وأذنابها. أجزم مسبقاً وبدون تردُّد أن الوضع يختلف تماماً في الفكر الكرزايي ! فقد يُلْحَق صاحب المقالة في سجون (باغرام) وإخواتها التي يقدِّم المسؤولون فيها كامل حريَّتهم للتعبير عن الغضب ضد المتطرفين - على حدِّ زعمهم -! لأنَّهم يعيشون تحت ظلِّ الديموقراطيَّة الأفغانيَّة الجديدة .
ولله درُّ من قال:
يُقاد للسجن من سبَّ الزعيم ومن * * *سبَّ الرسول فإنَّ الناس أحرار
(2) أحد المواقع الإخباريَّة على الإنترنت ينشر استفتاءً واستطلاعاً للرأي ؛ عن الموقف من نشر صور مسيئة للرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهل هي من حريَّة الرأي التي لا تستدعي الغضب ؟.
ويُظْهِرُ أصحاب هذا الموقع أنَّ (54%) يرون أنَّ هذا من قبيل حريَّة الرأي ويعقِّب الموقع إزاء ذلك: بأنَّ هذا استطلاع لا يبرهن ولا يقتضي صحَّة ذلك أو أنَّ هذا هو الحقيقة !! مع أنَّ المتابع للمعلِّقين على نتيجة ذلك الاستطلاع يلحظ بأنَّ 95% منهم فأكثر يستهجنون تلك الرسومات الساخرة برسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - بل من غير المسلمين كما يظهر للمراقب القارئ لتلك التعليقات.
و نحن لا ننسى أنَّ هذا الموقع قد أجرى استطلاعاً سابقاً حول تطبيق حدِّ الردَّة الذي أثبتته شريعة الإسلام ، وهل يخالف حقوق الإنسان أم لا؟ وقد أظهر هذا الموقع على صفحته الرئيسيَّة رأي الرافضين لذلك وهم 42% ممَّن رفضوا حدَّ الردَّة لمخالفته لحقوق الإنسان ، وأخفوا رأي الموافقين على إقامة حدِّ الردَّة في الاستطلاع نفسه وهم الأكثريَّة بنسبة 55% لأنَّهم يعتبرون ذلك من أحكام الإسلام ...
ودعونا نقول: أين النزاهة والأمانة في نقل الأخبار على حقيقتها أيها الليبراليُّون المتحررون من قيد اللاَّحريَّة ؟! أم أنَّ حريَّة التلاعب في نقل الأخبار أباحت لكم أن تظهروا ما تشاؤون وتخفوا ما تشاؤون ؟ أتواصيتم به بل أنتم قوم طاغون.
ثمَّ هل قضايا الشريعة وثوابتها تحتاج لاستطلاعات واستفتاءات للعقول البشريَّة والأدمغة الإنسانيَّة المتغذِّية على فتات الخبز لكي تبدي رأيها حول ثوابت الشريعة ومحكماتها؟! إنَّ ذلك لشيء عجاب!.
(3) يكتب أحدهم مقالاً في أحد المواقع الإخباريَّة على الإنترنت ذائعة الصيت ، وفي إحدى الجرائد التي تعنى بالقضايا الاقتصاديَّة ، ملخَّصه لماذا تقاطع الشعوب الإسلاميَّة دولة الدنمارك التي تسعى إلى تقديم جسور التعايش السلمي بينه وبين المسلمين ؟ وما ذنب هذا البلد بأن تقاطع منتجاته بجريرة صحيفة أساءت لرسول الله ؟.
بل ينصُّ قائلاً بأنَّ المسلمين:(عمَّموا خطأ جريدة على دولة كاملة لا تملك بحكم القانون أي سيطرة على هذه الجريدة)!! يقول هذا ذلك الرجل مع أنَّه يعلم بأنَّ قوانين هذا البلد يمنع من الإساءة لأيِّ ديانة أو شخصيَّة دينيَّة ، ثمَّ إنَّ دعواه بأنَّه لمَ نقاطع منتجات بلد الدنمارك بذنب صحيفة أخطأت بحقِّ رسول الله ، فالجواب عليه : لقد أثبتت الإحصاءات الواضحة بأنَّ غالبيَّة شعب الدنمارك لم يرضَ بأن يعتذر بالإساءة لشخص رسول الله - صلَّى الله عليه وسلم - يأتي هذا فيما أظهر استطلاع للرأي نُشر الأحد أن غالبية الدانماركيين لا يشعرون بأن على حكومتهم ووسائل إعلامهم أن تعتذر للمسلمين. وقال 79% ممن شملهم الاستطلاع: إن رئيس الوزراء يجب ألا يعتذر نيابة عن الدانمارك ، بينما قال 18% : إن عليه الاعتذار.
ومن ناحية أخرى قال 62% :إنه لا يتعين على الصحيفة تقديم اعتذار بينما قال 31% إن عليها أن تعتذر، كما ذكر ذلك موقع(إسلام أون لاين).(/1)
وهذا أحد المنهزمين من قومنا ينشر مقالاً في إحدى الجرائد السيَّارة بعنوان : لا تقاطعوا المنتجات الدنماركيَّة ! يبدي فيه أنَّ العاطفة الجيَّاشة التي أدَّت بالمسلمين بمقاطعة المنتجات الدنماركيَّة تجاه السخرية من الصحف الدنماركيَّة بشخص رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - لن تفيد شيئاً وأنَّ هذه المقاطعة غير ذات جدوى اقتصاديَّة ، لأنَّ المتضررين من المقاطعة هم الوكلاء التجاريون الذين يحملون امتياز بيعها في البلدان الإسلاميَّة.
ولا أدري من نصَّب هذا ليكون محامياً عن المنتجات الدنماركيَّة ، أو وكَّله لنصح المسلمين بعدم مقاطعة منتجات الدنمارك ؟ وكذلك هل ظهر أحد من هؤلاء الوكلاء التجاريون وأعلن أنَّه تضرَّر من هذه المقاطعة ؟ بل العكس خلاف ذلك فقد رأيناهم تداعو بكلِّ شجاعة لطلب المقاطعة ، فهل هذا المسكين أحرص من التُّجَّار على أموالهم أم أنَّها عقليات التطبيع ! وحتَّى حكومات البلاد الإسلاميَّة لم تعلِّق بشيء على المقاطعة الشعبية الإسلاميَّة للمنتجات الدنماركيَّة ، ولم تلزم أصحاب الشركات والمؤسَّسات بالتعامل الاقتصادي معها.
ثمَّ هؤلاء الصحافيون الذين يشكِّكون بجدوى المقاطعة ، هل تغافلوا عن النداءات الدنماركيَّة التي تستنجد بالاتحاد الأوروبي لإنهاء المقاطعة الإسلاميَّة لمنتجاتها؟ وهل تغابوا عن الخسائر الدنماركيَّة التي ستصاب بها حين تقاطع دول الخليج العربي فقط منتجاتها خلال فترة قصيرة ، حيث ستبلغ حجم خسائر الدنمارك إلى أكثر من 4 مليون كراون؟ ويكفي أنَّ شركة (آرلا) الدنماركيَّة قالت : إنَّها ستخسر ما يقارب 1 ملايين كرونة يومياً بما يعادل مليون ونصف دولاراً أمريكياً نتيجة للمقاطعة في السعودية فقط ، فما بالك بالبلدان الإسلاميَّة الأخرى ، بل أعلنت إحدى الشركات بأنَّه إذا استمرَّت المقاطعة لأسبوع واحد فربَّما تضطر لإغلاق مصانعها في الدنمارك الذي يعمل فيه 16 عاملاً.
ولهذا فلتبشر الدنمارك وحكومتها العنصريَّة بخيار الشعوب الإسلاميَّة بمقاطعتها لمنتجاتها تحت شعار:(إذا كان لكم حرية الرأي،فإنَّ لنا حرية الاختيار)ويستحيل على أيِّ حكومة أن تجبر إرادة الشعوب على ذلك.
قارئي العزيز: ينبغي علينا أن نتكاتف بهذه المقاطعة ولو اعتذرت الصحف الدنماركيَّة ، ولو اعتذر الدنمارك كلُّه ، لأنَّ شخص رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يجب أن نرعاه ونحميه من أيِّ أحد يستهزئ به ولو تاب ، وماذا لو سبَّ صاحب شركة آباءنا وأمَّهاتنا ثم اعتذر لنا بعد ذلك ؟ إنَّنا سنجد في أنفسنا عليه بعض الشيء ولو اعتذر ولن نتعامل معه،فكيف برسول الأمَّة الإسلاميَّة محمد بن عبدالله - عليه صلوات ربِّنا وسلامه - .
؟ فلنجتمع يا شباب الدين قاطبة *** لنصرة الحقِّ في جدٍّ من العمل
وأيسر الأمر أن تلقي بضاعتهم***ردَّت إليهم جزاء المارق الثَّمل
وأختم مبشِّراً بأنَّه لابدَّ من يوم للدنمارك يقتصُّ فيه الله لشخص رسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فإنَّه سبحانه وتعالى متكفِّلٌ بالانتقام لرسوله ، وقد قال ابن تيميَّة - رحمه الله - :(إنَّ الله منتقم لرسوله ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ ممَّن طعن عليه وسبَّه ، ومظهر لدينه ولكذب الكاذب ؛ إذا لم يمكن الناس أن يقيموا عليه الحد) (الصارم المسلول2/233) .
وقال (2/318):(ولعلَّك لا تجد أحداً آذى نبيَّاً من الأنبياء ثمَّ لم يتب إلاَّ ولابدَّ أن يصيبه الله بقارعة).
وقال:( ومن سنَّة الله أن يعذِّب أعداءه تارة بعذاب من عنده، وتارة بأيدي عباده المؤمنين).
ولهذا نقول بملء أفواهنا للدنمارك وأهلها: انتظروا بعقاب من عند الله ؛ فإنَّا لمنتظرون ! وصدق الله ـ جلَّ وتقدَّس ـ(فليحذر الذي يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم).
وأخيراً : يا ليبراليُّون ماذا كنَّا ننتظر منكم غير هذا اللمز من طرفٍ خفي ، أو السكوت على تلك الإساءة ؟! فلسنا أغبياء بدرجة كافية(/2)
مواقف عالية من صبر النبي صلى الله عليه وسلم على الأذى (2)
5 – أخرج الإمام أحمد من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن الملأ من قريش اجتمعوا في الحجر فتعاقدوا باللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى وإساف ونائلة : لو قد رأينا محمدا لقد قمنا إليه قيام رجل واحد فلم نفارقه حتى نقتله .
فأقبلت ابنته فاطمة رضي الله عنها فقالت : هؤلاء الملأ من قريش قد تعاقدوا عليك لو قد رأوك لقد قاموا إليك فقتلوك , فليس منهم رجل إلا قد عرف نصيبه من دمك .
فقال : يابنية أريني وضوءًا فتوضأ , ثم دخل عليهم المسجد , فلما رأوه قالوا : ها هو ذا وخفضوا أبصارهم وسقطت أذقانهم في صدروهم وعُقِروا في مجالسهم فلم يرفعوا إليه بصرا ولم يقم إليه رجل .
فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قام على رؤوسهم فأخذ قبضة من التراب فقال: شاهت الوجوه , ثم حصبهم , فما أصاب رجلاً منهم من ذلك الحصى حصاة إلا قتل يوم بدر كافرًا ([1]) .
في هذا الخبر بلغ الملأ من قريش القمة في التحجر الفكري حيث ضاعفوا من تهديدهم ومحاولتهم القضاء على دعوة الإسلام بالقوة , وذلك بالقضاء على داعيها الأول صلى الله عليه وسلم .
ولكننا نجد من رسول الله صلى الله عليه وسلم في مقابل ذلك إصرارًا أكيدا على تبليغ دعوته مهما تكن الحواجز والعوائق .
ونجد في هذا الخبر مثلا على شجاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم العظيمة , حيث علم من ابنته فاطمة رضي الله عنها عن قعود المشركين له وتهديدهم إياه , ومع ذلك خرج من بيته منفردا ودخل عليهم وهم مجتمعون , وإن هذا الإقدام العظيم مع احتمال وقوع الضرر البالغ يُعدُّ قمة في التضحية والبذل من أجل دعوة الإسلام .
لقد كان الشيء الذي يهيمن على مشاعر النبي صلى الله عليه وسلم هو التفكير في دعوته وبذل كل الطاقة في محاولة الوصول إلى قلوب الناس , ولقد كان أمر حماية النفس وسلامتها من التعرض للضرر شيئا ثانويًّا لايأخذ له الرسول صلى الله عليه وسلم أي اعتبار إذا تعارض مع الإقدام على تبليغ الدعوة .
6 – وأخرج الإمام مسلم من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي عند البيت , وأبو جهل وأصحاب له جلوس وقد نحرت جزور بالأمس , فقال أبو جهل: أيكم يقوم إلى سلا جزور بني فلان فيأخذه فيضعُه في كتفي محمد إذا سجد , فانبعث أشقى القوم – وهو عقبة بن أبي معيط كما جاء مصرحا به في رواية مسلم الثانية – فأخذه فلما سجد النبي صلى الله عليه وسلم وضعه بين كتفيه .
قال : فاستضحكوا , وجعل بعضهم يميل على بعض وأنا قائم أنظر , لو كان لي منعة طرحته عن ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم , والنبي صلى الله عليه وسلم ساجد مايرفع رأسه حتى انطلق إنسان فأخبر فاطمة , فجاءت وهي جويرية فطرحته عنه , ثم أقبلت عليهم تشتمهم .
فلما قضي النبي صلى الله عليه وسلم صلاته رفع صوته ثم دعا عليهم وكان إذا دعا دعا ثلاثا , وإذا سأل سأل ثلاثا , ثم قال " اللهم عليك بقريش – ثلاث مرات " فلما سمعوا صوته ذهب عنهم الضحك وخافوا دعوته , ثم قال : " اللهم عليك بأبي جهل بن هشام وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة , والوليد بن عتبة وأمية بن خلف , وعقبة بن أبي معيط " .
قال : وذكر السابع ولم أحفظه – فو الذي بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم بالحق لقد رأيت الذين سمى صرعى يوم بدر , ثم سحبوا إلى القليب قليب بدر ([2]) .
في هذه الرواية وما في معناها أمثلة للأذى الذي لقيه رسول الله صلى الله عليه وسلم على يد الكفار في مكة مما يُقصد به الإهانة المادية بإلحاق الأذى الجسماني , والمعنوية بتحطيم المشاعر وإغاظة النفوس, وهي أبلغ من الحسية .
هذا وإن ماجرى من عقبة بن أبي معيط يُعدُّ اعتداء مهينا على أعظم رجل عرفه التاريخ, وهو يؤدي شعائر دينه , مما يدل على تدني مستوى أهل الباطل في معاملة أهل الحق , وهذا علامة على توغل عداوتهم وإفلاسهم في مجال الفكر والحجة البيانية , حيث استخدموا أيديهم وقوتهم المادية .
وإن حقد الكفار الدفين يجعلهم يتصرفون بمقتضى عواطفهم لابمقتضى عقولهم , حيث إنهم لو راجعوا أنفسهم بعد ذلك لأنكروا عملهم , بينما أهل الحق لاينزلون أبدا إلى هذا المستوى الهابط.
أما موقف عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فإنه مثال لشدة الإرهاب الذي كان يواجهه المستضعفون في مكة , الذين لم تكن لهم عشائر تحميهم .
فالصحابة رضي الله عنهم يحبون رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم مما يحبون أنفسهم ولكن ابن مسعود كان على يقين من أنه لن يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهو جثة هامدة أو مايشبه ذلك , فلن يتمكن من تخليصه من الأذى .
ومن هذا الخبر نفهم أن للنساء مهمة يقمن بها لايستطيع الرجال أحيانًا أن يقوموا بها فقد استطاعت فاطمة رضي الله عنها أن تزيل الأذى عن أبيها صلى الله عليه وسلم وأن تسب الملأ من قريش دون أن تتعرض للأذى لأن تقاليد العرب تمنعهم من الاعتداء على النساء .(/1)
وهكذا في كل زمن ينبغي للدعاة أن يستفيدوا من دور المرأة في الأمور التي تحسنها وقد لايدركها الرجال مستفيدين من الأعراف الاجتماعية التي تخدمهم .
وحنيما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأعداء خافوا من دعوته , وهكذا الكفار يخافون من عاقبة الدعاء في الدنيا فقط , حيث إنهم لايؤمنون بالآخرة , فهل يتنبه بعض المسلمين الذين لايرتدعون عن ظلم الناس إلا خوفًا من استجابة دعائهم وحلول العقوبة الدنيوية غافلين عن مواقف الحساب يوم القيامة ؟!
ومما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم قد تأثر تأثرًا كبيرًا مما حصل له ما جاء في رواية أخرى لهذا الخبر وفيها " ثم خرج – يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم - من المسجد فلقيه أبو البَخْتَري بسوط يتخصر به فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم أنكر وجهه فقال : مالك ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم خلِّ عني , فقال: علم الله لا أخلي عنك أو تخبرني ماشأنك فلقد أصابك شيء , فلما علم النبي صلى الله عليه وسلم أنه غير مُخَلٍّ عنه أخبره فقال: إن أبا جهل أمر فطُرِح عليّ فرث , فقال أبو البختري : هلمَّ إلى المسجد .
فأتى النبي صلى الله عليه وسلم وأبو البختري فدخلا المسجد ثم أقبل أبو البختري إلى أبي جهل فقال: يا أبا الحكم أنت الذي أمرت بمحمد فطُرح عليه الفرث ؟ قال: نعم , قال : فرفع السوط فضرب به رأسه, قال : فثار الرجال بعضها إلى بعض , قال وصاح أبو جهل , ويْحكم هي له , إنما أراد محمد أن يلقي بيننا العداوة وينجو هو وأصحابه .
ذكره الهيثمي وقال : رواه البزار والطبراني في الأوسط وفيه الأجلح بن عبد الله الكندي وهو ثقة عند ابن معين وغيره وضعفه النسائي وغيره ([3]) .
وأبو البَخْتَري هو ابن هشام بن الحارث بن أسد , وأمه من بني هاشم , وكان من فريق المعتدلين من الكفار الذي تميزوا بوضوح بعد نقض صحيفة المقاطعة وكان من الذين نادوا بنقضها.
7 – وأخرج أبو نعيم من طريق محمد بن إسحاق عن عثمان بن عروة بن الزبير عن أبيه عن هبَّار بن الأسود قال : كان أبو لهب وابنه عتبة قد تجهزوا إلى الشام وتجهزتُ معهما فقال ابنه عتبة: والله لأنطلقن إليه ([4]) فلأوذينه في ربه فانطلق حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يامحمد هو يكفر بالذي دنى فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اللهم ابعث عليه كلبًا من كلابك" .
ثم انصرف عنه فرجع إليه ([5]) فقال : أي بني ماقلت له ؟ قال : كفرت بإلهه الذي يعبد. قال فماذا قال لك : قال , قال : اللهم ابعث عليه كلبًا من كلابك , فقال : أي بني والله ما آمن عليك دعوة محمد .
قال : فسرنا حتى نزلنا الشراة وهى مأسدة فنزلنا إلى صومعة راهب, فقال: يامعشر العرب ماأنزلكم هذه البلاد وإنها مسرح الضيغم ؟ فقال لنا أبو لهب : إنكم قد عرفتم حقي, قلنا: أجل يا أبا لهب فقال : إن محمدًا قد دعا على ابني دعوة والله ما آمنها عليه فاجمعوا متاعكم إلى هذه الصومعة ثم افرشوا حوله , فبينما نحن حوله وأبو لهب معنا أسفل , وبات هو فوق المتاع فجاء الأسد فشم وجوهنا فلما لم يجد مايريد تقبض ثم وثب فإذا هو فوق المتاع , فجاء الأسد فشم وجهه ثم هزمه هزمة ففضخ رأسه , فقال: سيفي ياكلب , لم يقدر على غير ذلك, ووثبنا فانطلق الأسد وقد فضخ رأسه فقال له أبو لهب : قد عرفت والله ماكان لينفلت من دعوة محمد ([6]) .
وهكذا استجاب الله تعالى دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعث على عتبة بن أبي لهب الأسد الذي أصبح جنديًّا من جنود الدفاع عن الحق فأهلكه , ولم تُجْدِ كل الاحتياطات الامنية التي أحاط بها أبو لهب ابنه .
ومن الغريب في الأمر أن أولئك الكفار يوقنون بأن النبي صلى الله عليه وسلم مستجاب الدعوة ومع ذلك يستمرون في مقاومته وإيذائه , ولايحملهم ذلك على الإيمان به والاستجابة لدعوته , وهذه صورة من صور اتباع الهوى المنحرف , حيث يكون الحق واضحا مثل الشمس فيحيد أصحاب الهوى المنحرف عن اتباعه .
ولقد حمى الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم في مواطن أخرى من أذى الكفار كما أخرج الإمام مسلم بإسناده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال أبو جهل : هل يعفِّر محمد وجه بين أظهركم ([7]) ؟ قال: فقيل : نعم , فقال : واللات والعزى لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن على رقبته – أو لأعفرن وجهه في التراب – قال: فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي , زعم ليطأ على رقبته , قال: فما فجأهم منه إلا وهو ينكص على عقبيه ويتقي بيديه , قال: فقيل له : مالك ؟ فقال: إن بيني وبينه لخندقًا من نار وهولاً وأجنحة .فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوًا عضوًا .(/2)
قال : فأنزل الله عز وجل – لاندري في حديث أبي هريرة أو شيء بلغه-(كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى)(أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى)(إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى)(أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى)(العلق : 9 )(عَبْداً إِذَا صَلَّى)(أَرَأَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَى)(أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى)(أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى) ([8])(أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى)(كَلَّا لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ)(نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ)(فَلْيَدْعُ نَادِيَه)(سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ)(كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) [ العلق : 6 – 19] ([9]) .
ومن ذلك ما أخرجه الإمام أبو بكر الحميدي بإسناده عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت : لما نزلت (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ) (المسد : 1 )
أقبلت العوراء أم جميل ([10]) ولها ولولة ([11]) وفي يدها فهر ([12]) وهي تقول :
مذمما أبينا ([13]) *** ودينه قلينا ([14]) *** وأمره عصينا
ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد , ثم قرأ قرآنًا اعتصم به – كما قال – وقرأ
(وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَاباً مَّسْتُوراً) (الإسراء : 45 )
فأقبلت حتى وقفت على أبي بكر , ولم تر رسول الله صلى الله عليه وسلم , فقالت : يا أبا بكر إني أُخبرتُ أن صاحبك هجاني , فقال: لاورب هذا البيت ماهجاك , قال : فولَّت وهي تقول : قد علمَتْ قريش أني بنت سيدها ([15]) .
ومن أمثلة ذلك ماسبق من خبر أبي جهل حينما هدد بفضخ رأس النبي صلى الله عليه وسلم بالحجر فمنعه الله تعالى منه .
ولكن الله تعالى يمكِّن الكفار أحيانًا – كما في الخبر السابق – من إيصال الأذى لرسوله صلى الله عليه وسلم , وذلك لرفع ذكره في العالمين , وليكون قدوة لأتباعه المؤمنين في الرضا بقضاء الله تعالى , والصبر الجميل على الأذى .
وقد يمكِّن الله تعالى أهل الباطل من أهل الحق برهة من الزمن فيقومون بالتنكيل بأهل الحق ومحاولة إسكات أصواتهم , ولكن سرعان ماينهار بناؤهم أمام تماسك أهل الحق وصدق تمثيلهم لدينهم , كما قال الله (لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدُبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ) (آل عمران : 111 )
-----------------------------
([1] ) الفتح الرباني 20/223 .
وذكره الهيثمي وقال : رواه أحمد بإسنادين ورجال أحدهما رجال الصحيح – مجمع الزوائد 8/228 .
وأخرجه أبو نعيم من طريق ابن عباس رضي الله عنهما دلائل النبوة لأبي نعيم /60 .
وأخرجه الحاكم بنحوه وقال : صحيح الإسناد ولم يخرجاه – المستدرك 3/157 .
([2] ) صحيح مسلم رقم 1794 , كتاب الجهاد , صحيح البخاري رقم 2934 كتاب الجهاد .
([3] ) مجمع الزوائد 6/18 .
([4] ) يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم .
([5] ) يعنى إلى أبيه .
([6] ) دلائل النبوة لأبي نعيم /162 .
وأخرجه أيضًا الحاكم وقال : صحيح الإسناد ولم يخرجاه , وأقره الذهبي – المستدرك 2/539 – وحسن إسناد الحاكم الحافظ ابن حجر – فتح الباري 4/39 - .
([7] ) يعني هل يلصق وجهه بالعفر وهو التراب ويعني بذلك السجود .
([8] ) يعنى أبا جهل .
([9] ) صحيح مسلم , كتاب المنافقين /رقم 2797 ص 2154 .
([10] ) هي امرأة أبي لهب المذكورة في السورة .
([11] ) أي عويل .
([12] ) أي حجر .
([13] ) تريد محمدًا صلى الله عليه وسلم , وهكذا كان الكفار يسمونه على سبيل السخرية .
([14] ) أي أبغضنا .
([15] ) مسند الحميدي 1/153 / 154 , رقم 323 .
وأخرجه أبو عبد الله الحاكم من طريق الحميدي , وذكر مثله , وقال : صحيح الإسناد ولم يخرجاه , وأقره الذهبي – المستدرك 2/361 .(/3)
مواقف عالية من صبر النبي صلى الله عليه وسلم على الأذى(1)
لقد تعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يدعو إلى الله في مكة إلى أذى شديد من زعماء الكفار، ولقد كان قوي الشخصية شجاعًا في مواجهة هؤلاء الزعماء على الرغم مما كانوا عليه من قوة معنوية , ومكانة عالية بين العرب , فقد كانوا يقتلون بنظراتهم الحادة وألسنتهم السليطة كل ضعيف خوار,وكان العرب جميعًا يحترمونهم ويقدرون رأيهم لمكانتهم من خدمة بيت الله الحرام وجواره.
ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم واجههم بما يكرهون حينما أصروا على باطلهم , وتحداهم بما عجزوا عن مقاومته حتى أسقط سمعتهم الوهمية القائمة على الدجل واستغلال غفلة العقول ، فلم يكن منهم إلا أن ضاعفوا من كيدهم وأذاهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به .
وقد جاءت روايات في بيان ماتعرض له رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأذى , فمن ذلك :
1 – ماأخرجه ابن إسحاق رحمه الله قال : حدثني يحيى بن عروة بن الزبير عن أبيه عروة بن الزبير عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : قلت له : ما أكثر مارأيت قريشًا أصابوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما كانوا يظهرون من عداوته ؟ قال : حضرتهم وقد اجتمع أشرافهم يومًا في الحجْر , فذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من أمر ذلك الرجل قط , قد سفه أحلامنا وشتم آباءنا , وعاب ديننا , وفرق جماعتنا , وسب آلهتنا , لقد صبرنا منه على أمر عظيم , أو كما قالوا .
فبينما هم في ذلك إذا طلع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل يمشي حتى استلم الركن , ثم مر بهم طائفًا بالبيت , فلما مر بهم غمزوه ببعض القول . قال : فعرفت ذلك في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال : ثم مضى فلما مر بهم الثانية غمزوه بمثلها فعرفت ذلك في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم : ثم مر بهم الثالثة فغمزوه بمثلها , فوقف ثم قال: أتسمعون يامعشر قريش ؟ أما والذي نفسي بيده لقد جئتكم بالذبح .
قال: فأخذت القوم كلمته حتى مامنهم رجل إلا كأنما على رأسه طائر واقع , حتى إن أشدهم فيه وصاة قبل ذلك لَيَرْفَؤْه بأحسن مايجد من القول , حتى إنه ليقول : انصرف أبا القاسم, فو الله ماكنت جهولاً .
قال : فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان الغد اجتمعوا في الحِجْر وأنا معهم فقال بعضهم لبعض : ذكرتم مابلغ منكم , ومابلغكم عنه , حتى إذا بادأكم بما تكرهون تركتموه .
فبينما هو في ذلك طلع عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فوثبوا إليه وثبة رجل واحد , وأحاطوا به يقولون : أنت الذي تقول كذا وكذا ؟ لما كان يقول من عيب آلهتهم ودينهم , فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : نعم أنا الذي أقول ذلك.
قال : فلقد رأيت رجلاً منهم أخذ بجمع ردائه . قال : فقام أبو بكر رضي الله عنه دونه, وهو يبكي ويقول : أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله ! ثم انصرفوا عنه , فإن ذلك لأشد مارأيت قريشًا نالوا منه قط ([1]) .
وأخرجه أبو يعلى والطبراني بنحوه وفيه أن أبا جهل قال : يا محمد ماكنت جهولاً , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أنت منهم " .
ذكره الهيثمي وقال : وفيه محمد بن عمرو بن علقمة وحديثه حسن , وبقية رجال الطبراني رجال الصحيح ([2]) .
2 – أخرج الحافظ أبو بكر عبد الله بن الزبير الحميدي بإسناده عن أسماء بنت أبي بكر أنهم قالوا لها : ما أشدُّ مارأيت المشركين بلغوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم , فقالت : كان المشركون قعدوا في المسجد يتذاكرون رسول الله صلى الله عليه وسلم ومايقول في آلهتهم فبينما هم كذلك إذ دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقاموا إليه وكانوا إذا سألوا عن شيء صَدَقهم فقالوا : ألست تقول كذا وكذا ؟ فقال: بلى فتشبثوا به بأجمعهم .
فأتى الصريخ إلى أبي بكر فقيل له : أدرك صاحبك فخرج من عندنا وإن له غدائر ([3]) فدخل المسجد وهو يقول : ويلكم أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم ؟ قال: فلهوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقبلوا على أبي بكر , فرجع إلينا أبو بكر فجعل لايمس شيئًا من غدائره إلا جاء معه , وهو يقول : تباركت ياذا الجلال والإكرام ([4]) .
وقد أشار الحافظ ابن حجر إلى هذه الرواية وقال : ولقصة أبي بكر هذه شاهد من حديث علي أخرجه البزار من رواية محمد بن علي عن أبيه أنه خطب فقال:من أشجع الناس؟ فقالوا: أنت.
قال : أمَا إني مابارزني أحد إلا أنصفت منه , ولكنه أبو بكر , لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذته قريش , فهذا يجره وهذا يتلقاه , ويقولون له : أنت تجعل الآلهة إلها واحدا , فو الله مادنا منه أحد إلا أبو بكر يضرب هذا ويدفع هذا , ويقول : ويلكم أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله .(/1)
ثم بكى عليّ ثم قال : أُنشِدكم الله أمؤمن آل فرعون أفضل أم أبو بكر ؟ فسكت القوم, فقال علي : والله لساعة من أبي بكر خير منه, ذلك رجل يكتم إيمانه وهذا يعلن إيمانه ([5]) .
وأخرج الإمام أحمد وأبو يعلى من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال : لقد ضربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة حتى غشي عليه فقام أبو بكر فجعل ينادي : ويلكم أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله فقالوا من هذا : فقالوا : أبو بكر المجنون .
ذكره الهيثمي وقال : ورجالهما رجال الصحيح ([6]) .
3 – وأخرج الحافظ ابن سيد الناس من حديث عروة بن الزبير قال : حدثني عمرو بن عثمان بن عفان عن أبيه عثمان بن عفان قال : أكثر مانالت قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم أني رأيت يوما- قال عمرو : فرأيت عيني عثمان بن عفان ذرفتا من تذكر ذلك – قال عثمان بن عفان: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بالبيت ويده في يد أبي بكر , وفي الحجْر ثلاثة نفر جلوس : عقبة بن أبي معيط , وأبو جهل بن هشام , وأمية بن خلف , فمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما حاذاهم أسمعوه بعض مايكره , فعُرِف ذلك في وجه النبي صلى الله عليه وسلم , فدنوت منه حتى وسَطته , فكان بيني وبين أبي بكر, وأدخل أصابعه في أصابعي حتى طفنا جميعا , فلما حاذاهم قال أبو جهل : والله لانصالحك ما بَلَّ بحر صوفة وأنت تنهى أن نعبد مايعبد آباؤنا , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنَّى ذلك !
ثم مضى عنهم فصنعوا به في الشوط الثالث مثل ذلك , حتى إذا كان في الشوط الرابع ناهضوه ووثب أبو جهل يريد أن يأخذ بمجامع ثوبه فدفعته في صدره فوقع على استه , ودفع أبو بكر أمية بن خلف , ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم عقبة بن أبي معيط , ثم انفرجوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو واقف , ثم قال : أما والله لاتنتهون حتى يحل بكم عقابه عاجلا .
قال عثمان : فو الله مامنهم رجل إلا أخذه أَفْكل ([7]) , وهو يرتعد , فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: بئس القوم أنتم لنبيكم , ثم انصرف إلى بيته , وتبعناه خلفه حتى انتهى إلى باب بيته, ووقف على السُّدَّة ثم أقبل علينا بوجهه فقال : أبشروا فإن الله عز وجل مظهرٌ دينه , ومُتِمٌّ كلمته وناصر نبيه , إن هؤلاء الذين ترون مما يذبح الله بأيديكم عاجلا ، قال : ثم انصرفنا إلى بيوتنا , فو الله لقد رأيتهم قد ذبحهم الله بأيدينا ([8]) .
وذكر الحافظ ابن حجر في شرح حديث عبد الله بن عمرو السابق من رواية الزبير بن بكار والدارقطني في "الأفراد" من طريق عبد الله بن عروة بن الزبير , عن عروة قال: حدثني عمرو بن عثمان عن أبيه عثمان .. وذكر أوله , ثم قال : " فذكر قصة يخالف سياقها حديث عبد الله بن عمرو هذا , فهذا الاختلاف ثابت على عروة في السند , ولكن سنده ضعيف , فإن كان محفوظًا حمل على التعدد , وليس ببعيد لما سأبينه" ثم قارن بين الروايتين وقال : وهذا يقوي التعدد ([9]) .
وهذا يعني أنه إذا كان خبرًا واحدًا فالمعتبر هو حديث عبد الله بن عمرو لأنه أقوى إسنادًا, وإن حمل على تعدد القصة وهو الذي رجحه الحافظ ابن حجر فإن ضعفه محتمل للتقوية , وهكذا أورده الحافظ ابن سيد الناس على أنه خبر مستقل
4 – وأخرج الإمام أحمد من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم وهو جالس حزينًا قد خُضِب بالدماء , ضربه بعض أهل مكة , قال فقال له: مالك؟ قال فقال له : فعل بي هؤلاء وفعلوا , قال فقال له جبريل : أتحب أن أريك آية ؟ قال: نعم , قال: فنظر إلى شجرة من وراء الوادي فقال : ادع تلك الشجرة , فدعاها فجاءت تمشي حتى قامت بين يديه , فقال: مرها فلترجع , فرجعت إلى مكانها , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : حسبي ([10]) .
من هذه النصوص نعرف مدى ماكان المشركون يضمرون لرسول الله صلى الله عليه وسلم من عداوة , حيث كانوا يجتمعون على محاربته ويوصي بعضهم بعضا بالوقوف في وجهه , ويلوم بعضهم بعضا على التقصير في مباداته بالعداء .
وحينما يكون العدو متفرقا أمره ويقاوم أفرادُه الدعوة الوافدة وهم فرادى فإن أمره يكون ميسورًا إذ بإمكان صاحب الدعوة أن يصل إلى إقناع بعضهم بدعوته وأن يتفادى عداوة الآخرين بكلمة مودة أو برد حازم يسكت عدوه , فأما حين يجتمع أفراد العدو على صاحب الدعوة فإن موقفه يكون حرجا أمامهم إذ أن السيادة في مثل هذه الاجتماعات تكون للدهماء الذين تحركهم عادةً العصبيةُ القبلية والتمسك بالموروثات وإن كانت تتنافى مع العقل السليم , ولايتمكن صاحب الدعوة – والحالة هذه – من مخاطبة أصحاب العقول المفكرة .(/2)
وقد كان زعماء قريش الذين تغلب هذه الصفات على أصحاب الرأي منهم هم الذين يحتلون ساحات المسجد الحرام ولايتركون الفرصة لأصحاب العقول المفكرة التي تميل إلى التحرر من الأوهام والخرافات التي لاتنسجم مع العقول السليمة .. لايتركون لهم الفرصة ليلتقي بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يسمعوا كلامه فقد قاموا بالحجْر الفكري على مجتمعهم وطبقوا ذلك بصرامة فائقة حتى كان من يريد السماع من النبي صلى الله عليه وسلم يضطر إلى التسلل في الخفاء .
ومن هنا كان موقف النبي صلى الله عليه وسلم صعبًا للغاية في معاملتهم وكان لابد له أحيانًا أن يخرج عن حلمه المعهود ليسلك معهم طريق الحزم والمجابهة كما هو الحال في الخبر الأول لأن الذين يواجهونه يخاطبونه بعواطفهم الثائرة الحاقدة ولايخاطبونه بعقول متزنة تدرك مايُلقَى عليها من قول وتفكر فيه، فلما قال لهم : أما والذي نفسي بيده لقد جئتكم بالذبح استكانوا وخضعوا له .
لقد كان زعماء الكفار أولئك يحاولون أن يبنوا لأنفسهم مجدا من خلال جرأتهم على الرسول صلى الله عليه وسلم وإقدامهم على سبه وإيذائه أمام الجمهور , حيث يظهرون بمظهر الأبطال الذين لايبالون بسخط النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين ولا بسخط حماتهم من بني هاشم , فكان من المناسب أن يجيبهم النبي صلى الله عليه وسلم بكلام شديد يهز فيه من شخصياتهم ويسقط فيه من معنوياتهم حتى لايمتدحوا أمام أتباعهم بتلك المواقف الوهمية , ولقد حصل للنبي صلى الله عليه وسلم ما أراد حيث وجموا لسماع ذلك الكلام وتكلموا بكلام يحمل معنى الاعتذار عن موقفهم السيء ذلك .
إن اجتماعهم على الباطل يلغي تفكيرهم السليم ويجعلهم ينطلقون من الحماس المتأجج من العواطف الثائرة , وغالبًا مايكون التفكير والتوجيه من فرد أو أفراد يتزعمون أفراد المجتمع, فيبقى أغلب الأفراد تابعين لهؤلاء الزعماء من غير تفكير في صواب مادعوهم إليه من خطئه ولذلك أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يدعوهم إلى التفكير المتأمل المتجرد عن فكر الجماعة الذي يهيمن عادة على الأفراد حيث يقول تعالى: (قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ) (سبأ : 46 )
فإذا خلا الإنسان بنفسه ثم تفكر في أمر النبي صلى الله عليه وسلم فإنه سيلغي من حسابه اتهامه بالجنون وغيره مما ألصقه به الأعداء , وكذلك إذا خلا بصاحبه وقَارَنَا بين النبي صلى الله عليه وسلم ومن عُرف عنهم الإصابة بهذه التهم , لأن الفكر – والحال هذه – ينطلق من العقل المتجرد من العاطفة والتبعية للقوى المهيمنة على العقول فلابد أن يصل إلى النتيجة الصحيحة الموافقة للعقل السليم .
وحينما يخلو الإنسان إلى فكره يخبو نداء العاطفة تدريجيًّا ويرتفع نداء العقل فيصلُ الإنسان إلى الحكم الصحيح العادل .
وفي هذه الأخبار مواقف رائعة لأبي بكر رضي الله عنه,حيث وقف دون النبي صلى الله عليه وسلم ودافع الناس عنه وحماه بنفسه حتى انصرف عنه أعداؤه , وفيها بيان لشدة الأذى الذي تحمله في سبيل ذلك,وهذا دليل على قوة إيمانه وشجاعته النادرة واستهانته بنفسه في سبيل الدفاع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وفي أحد هذه الأخبار شهادة على شجاعة أبي بكر البالغة يقدمها بطل كبير من أبطال الإسلام هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه الذي لم تنتكس له راية ولم يقف له أحد في موقف.
وإنما يدرك فضل أهل الفضل من شاركهم في هذا الفضل , حيث شهد له بالإقدام على مدافعة المشركين وإنقاذ النبي صلى الله عليه وسلم من بين أيديهم بينما لم يجرؤ غيره على ذلك , وإن هذا الموقف بقدر مايصور شجاعة أبي بكر وتضحيته فإنه يصور فظاعة المشركين وعنفهم في الانتقام وقوة شخصياتهم التي أوقفت المؤمنين حتى عن الدفاع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وإن من مزايا هذه الشهادة الكريمة أنها تم إعلانها على ملأ من الناس, وفي وقت بدأ فيه بعض الموتورين والجهال بالغضِّ من شأن بعض كبار الصحابة , فأراد علي رضي الله عنه أن يعدِّل الموازين, وأن ينبئ الناس بأن محبتهم له يجب أن لاتطغى بحيث يترتب عليها التهوين من شأن كبار الصحابة كأبي بكر وعمر رضي الله عنهم أجمعين .
وإننا حين نبرز حق أبي بكر وفضله كما أعلنه علي رضي الله عنهما فإننا نقدر لعلي هذا الموقف الكريم المشتمل على التواضع الجمِّ والوفاء الكبير لأخوة له مضوا على درب الجهاد والدعوة.
وفي الخبر الأخير بيان لموقف عثمان رضي الله عنه حيث دفع أبا جهل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أوقعه على الأرض . مع ماكان يتمتع به أبو جهل من مكانة عالية بين قومه , فرضي الله عن هؤلاء الصحابة الذين صمدوا – مع قلتهم – لأهل الباطل وهم في أوج عزهم وكثرتهم .
-----------------------------(/3)
([1] ) سيرة ابن هشام 1/289 , السير والمغازي /229 .
وأخرج الإمام أحمد من طريق ابن إسحاق وذكره مثله – مسند أحمد 2/218 _ .
وذكره الهيثمي وقال : وقد صرح ابن إسحاق بالسماع وبقية رجاله رجال الصحيح – مجمع الزوائد 6/16 -.
وأخرج الإمام البخاري نحوه مختصرًا – صحيح البخاري رقم 3678 , كتاب فضائل الصحابة - .
([2] ) مجمع الزوائد 6/16 .
([3] ) أي إن شعر رأسه مفرق إلى غدائر .
([4] ) مسند الحميدي 1/155 رقم 324 , وعزاه الحافظ ابن حجر إلى أبي يعلى والحميدي – المطالب العاليه4/192, رقم 4279 – وحسن إسناده – فتح الباري 7/169- ووثق البوصيري رجاله – هامش المطالب العالية 4/193 - .
([5] ) فتح الباري 7/169 .
([6] ) مجمع الزوائد 6/17 .
وأخرجه الحاكم من حديث أنس رضي الله عنه وقال : صحيح على شرط مسلم , وأقره الذهبي – المستدرك3/67.
([7] ) الأفكل بفتح الهمزة وسكون الفاء الرعدة – القاموس المحيط - .
([8] ) عيون الأثر 1/103 .
([9] ) فتح الباري 7/168 .
([10] ) مسند أحمد 3/113 .
وذكره الحافظ ابن كثير وقال : هذا إسناد على شرط مسلم – البداية والنهاية 6/128 – 129 – وصححه الحافظ الذهبي – تاريخ الإسلام / السيرة 130 - .(/4)
مواقف في هجرتي الحبشة الأولى والثانية(2)
قالت – أم سلمة – فلما خرجنا من عنده قال عمرو بن العاص : والله لآتينه غدًا عنهم بما أستأصل به خضراءهم" .
" قالت : فقال له عبد الله بن أبي ربيعة – وكان أتقى الرجلين فينا - : لا تفعل فإن لهم أرحامًا وإن كانوا قد خالفونا , قال : والله لأخبرنه أنهم يزعمون أن عيسى عبد " .
" قالت : ثم غدا عليه من الغد فقال له : أيها الملك إنهم يقولون في عيسى بن مريم قولاً عظيمًا فأرسلْ إليهم فسلْهم عما يقولون فيه " .
وهكذا تفتقت عبقرية عمرو بن العاص عن مكيدة قاتلة للمسلمين لولا أن هيأ الله لهم وجود ذلك الملك العادل , إذ إن اعتقاد المسلمين في عيسى عليه السلام مناقض تمامًا لما عليه النصارى في دينهم المحرف , حيث يعتقد المسلمون أنه عبد الله ورسوله , ويعتقد النصارى أنه ابن الله تعالى , وحينما علم المسلمون بذلك اشتد عليهم الأمر وعظم كربهم حينما أرسل إليهم الملك ليسألهم عن اعتقادهم في عيسى عليه السلام .
" قالت – أم سلمة – فأرسل إليهم ليسألهم عنه , قالت: ولم ينزل بنا مثلها قط , فاجتمع القوم , ثم قال بعضهم لبعض : ماذا تقولون في عيسى بن مريم إذا سألكم عنه ؟ قالوا : نقول والله ماقال الله تعالى وماجاءنا به نبينا كائنًا في ذلك ماهو كائن " .
وهكذا اجتمع الصحابة وتشاوروا في الأمر , وتساءلوا عما يقولونه للنجاشي إذا سألهم عن ذلك , وقد أجمعوا على أن يقولوا له ماقال الله تعالى وماجاءهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم كائنًا في ذلك مايكون , وهذه هي المرة الثانية التي يجتمعون فيها ويتشاورون ثم يُجمعون على رأي واحد .. فلله درهم ما أعلى تربيتهم , وما أقوى إيمانهم , وما أعز نفوسهم !
لقد صبروا قبل ذلك في مكة على قهر الطغاة وإذلالهم وتعذيبهم , فهل هاجروا منها إلى الحبشة ليغيِّروا شريعة الله لمجرد مساءلة ستكون بينهم وبين النجاشي ؟! وليُفتَرض أنه سيقتلهم , أو في أحسن الأحوال سيسفِّرهم من بلاده , فإنهم قد استعدوا لتحمُّل كل ماينتج عن قول كلمة الحق كائنًا في ذلك مايكون .
وهكذا يكون الإيمان القوي ... وهكذا تكون الاستقامة .
" قالت – أم سلمة - : فلما دخلوا عليه قال لهم : ماذا تقولون في عيسى ابن مريم ؟ قالت: فقال جعفر بن أبي طالب : نقول فيه الذي جاءنا به نبينا صلى الله عليه وسلم , ويقول : هو عبد الله ورسوله وروحه ([1]) وكلمته ([2]) ألقاها إلى مريم العذراء البتول ([3]) " .
" قالت : فضرب النجاشي بيده إلى الأرض فأخذ منها عودًا ثم قال: والله ماعدا عيسى بن مريم ماقلت هذا العود " .
" قالت : فتناخرت ([4]) بطارقته حين قال ما قال , فقال : وإن نخرتم والله , اذهبوا فأنتم شيوم بأرضي – والشيوم : الآمنون – مَنْ سبكم غرم , ثم قال : من سبكم غرم , ثم قال : من سبكم غرم , ما أحب أن لي دَبْرًا ([5]) من ذهب وأني آذيت رجلا منكم .
ثم قال : ردوا عليهما هداياهما – يعني مندوبي قريش – فلا حاجة لي بها , فو الله ما أخذ الله مني الرشوة حين رد عليّ ملكي فآخذ الرشوة فيه , وما أطاع الناس فيّ فأطيعهم فيه .
" قالت : فخرجا من عنده مقبوحين مردودا عليهما ماجاءا به , وأقمنا عنده بخير دار , مع خير جار " .
وهكذا نطق هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم بالحق ولم يخافوا في الله لومة لائم , ولم يساوموا في أمور دينهم , ولم يداهنوا مع أنهم في موقف الضعف , وقد نزل بهم هذا الأمر العظيم الذي أهمهم وأقلقهم .
وبهذا تبين لنا من هذا الخبر كيف كان المسلمون الأوائل يتعرضون للأذى والكيد من اعدائهم, وكيف كان سلوكهم في مواجهة الكيد , إنهم لم يكونوا يستسلمون لأعدائهم ويداهنونهم, وفي الوقت نفسه لم يكونوا يقاومون بالقوة والعنف وحالهم لاتسمح لهم بذلك , بل كانوا يقاومون بالصبر على الأذى مع عرض ما يدعون إليه بالبيان الرائع الذي يمتلك القلوب, ويجبر كل متجرد من الهوى الجامح على أن يميل إليهم ويعطف عليهم .
ولقد كانوا في كل محاوراتهم مستسلمين لله تعالى مفوضين إليه أمرهم فيما يكون من نتائج, حيث لم تكن هذه النتائج تشغل بالهم , وإنما الذي كان يشغل بالهم هو أن يوفقوا في عرض الإسلام كاملاً نزيهًا كما جاء من عند الله تعالى , وهم يؤمنون أنهم ومن يحاورونهم في قبضة الله تعالى , وأنه قادر على أن يسخر لهم خَلْقَه ليتم بهم نصر الحق وتأييد دعاته .(/1)
وهكذا سخر الله تعالى لهذه الفئة المؤمنة قلب النجاشي , فنطق بالاعتراف بموافقة ماجاء في القرآن في شأن عيسى عليه السلام كما جاء في الإنجيل الصحيح , وهذا أمر يصعب الاعتراف به لأن من لهم الهيمنة من النصارى لايعتقدون بذلك , وقد جر عليه هذا الاعتراف متاعب من قومه, وهو يعلم قبل النطق بذلك صعوبة هذا الأمر , ولكن الله تعالى أنطقه بذلك نصرا لهذه الفئة المؤمنة, وإعزازًا للإسلام , وخذلانا للشرك وأهله , فقد عاد وفد قريش بأسوأ حال وهما يجران أذيال الخيبة , ويحملان معهما الهدايا التي رفض النجاشي قبولها , وعاد المؤمنون المهاجرون بالعز والمنعة والأمن والطمأنينة .
وجدير بالذكر أن ننبه إلى أن عمرو بن العاص قد أسلم بعد ذلك , وأصبح من زعماء المسلمين الذين فتح الله بهم البلاد وهدى بهم العباد رضي الله عنه وأرضاه .
هذا وإن هذا الموقف يعدُّ مثالاً تطبيقيًّا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " من التمس رضا الله بسخط الناس كفاه الله مُؤْنة الناس , ومن التمس رضا الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس" أخرجه الإمام الترمذي وسكت عنه وحسنه السيوطي وصححه الألباني ([6]) .
فهؤلاء الصحابة رضي الله عنهم قد التمسوا رضا الله عز وجل , مع أن الظاهر في الأمر أنه يترتب عليه في هذه القضية سخط أولئك النصارى , وهم الذين لهم الهيمنة عليهم , فكانت النتيجة أن الله عز وجل سخَّر لهم قلب ملك الحبشة حتى نطق بالحق الموافق لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم مع مخالفته الصريحة لمعتقدهم المنحرف الذي قام عليه مُلكُهم , ومايغلب على الظن من ثورة النصارى المتعصبين عليه .
فأي قوة هذه التي حملت ملك الحبشة على مخالفة المذهب السائد في بلده والذي يترتب على التمسك به بقاؤه في الملك , مع إظهار موافقة قوم لاشأن لهم في بلده ولاقوة .. أي قوة هذه إن لم تكن تسخير الله تعالى إياه لنصرة قضية هؤلاء المسلمين ؟
وهذا دليل على أنه كان عند بعض النصارى إيمان صحيح بدينهم , ولكنهم يكتمون ذلك لكون الغلبة والسيادة في الأرض لأصحاب الدين المحرف , ومن الذين كانوا على الاعتقاد الصحيح ملك الحبشة , وكان يُخفى إيمانه هذا مداراة لقومه إبقاء على نفسه وملكه , فلما وقع في هذا الابتلاء أظهر إيمانه , حيث أصبح بين أمرين : الأمر الأول أن يداري قومه وينكر على هؤلاء الصحابة اعتقادهم في عيسى بن مريم عليه السلام , وهذا يلزم عليه جحد الحق , وكيف يجحد الحق وهو أعلى رجل في الدولة ؟ كما يلزم عليه أن يبعد المسلمين من بلاده لكونهم طعنوا في معتقد النصارى السائد , ولو لم يفعل ذلك فإن رجال دولته لن يقروا بقاء المسلمين وقد قالوا ماقالوا .
والأمر الثاني : أن يظهر اعتقاده الصحيح الموافق لاعتقاد المسلمين إرضاء لربه وإراحة لضميره وانتصارًا لحزب الله المؤمنين مهما ترتب على ذلك من نتائج , وهذا الأمر هو الذي سلكه من غير تردد , وتحدى به علماء دينه , ورجال دولته , فكان بهذا الموقف الكبير من عظماء التاريخ , ولقد حدث ماكان متوقعًا من قيام الثورة ضد ذلك الملك الصالح عقب تلك المفاوضات المذكورة .
" قالت – أم سلمة - : فو الله إنا لعلى ذلك إذ نزل به – يعني النجاشي – رجل من الحبشة ينازعه في ملكه , قالت : فو الله ماعلمتُنا حَزنَّا حزنا قط كان أشد علينا من حزن حزنَّاه عند ذلك , تخوفًا أن يظهر ذلك الرجل على النجاشي , فيأتي رجل لايعرف من حقنا ماكان النجاشي يعرف منه .
قالت : وسار إليه النجاشي وبينهما عرض النيل , قالت: فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : مَنْ رجل يخرج حتى يحضر وقيعة القوم ثم يأتينا بالخبر ؟
فقال الزبير بن العوام : أنا , قالوا : فأنت , وكان من أحدث القوم سنَّا .
قالت : فنفخوا له قربة فجعلها في صدره , ثم سبح عليها حتى خرج إلى ناحية النيل التي بها ملتقى القوم , ثم انطلق حتى حضرهم , قالت : فدعونا الله تعالى للنجاشي بالظهور على عدوه, والتمكين له في بلاده , قالت : فو الله إنا لعلى ذلك متوقعون لما هو كائن , إذ طلع علينا الزبير وهو يسعى , فلمع بثوبه وهو يقول : ألا أبشروا فقد ظفر النجاشي وأهلك الله عدوه , ومكن له في بلاده , قالت : فو الله ماعلمتُنا فرحْنا فرحة قط بمثلها .
قالت : ورجع النجاشي , وقد أهلك الله عدوه , ومكن له في بلاده , واستوسق عليه أمر الحبشة ([7]) , فكنا عنده في خير منزل حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة ([8]) .
وقول أم سلمة رضي الله عنها : " حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة " تريد من قدم منهم إلى مكة وكانت معهم , أما بقيتهم فقد قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة عام خيبر وعلى رأسهم جعفر بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين , ويبين ذلك ماجاء في رواية البيهقي لهذا الخبر حيث جاء في آخره : " ثم أقمنا عنده حتى خرج من خرج منا راجعا إلى مكة وأقام من أقام " ([9]).(/2)
وهكذا قام الزبير بن العوام رضي الله عنه برحلة الاستطلاع النهرية , وهذا مثل من أمثلة شجاعته المبكرة وقد أثبت التاريخ بعد ذلك أنه رجل المغامرات والأهوال , ولقد كان هناك احتمال كبير لأن يصاب في أثناء المعركة أو بعدها خصوصًا لكونه من العرب وللاحتمال الظاهر من أن المعركة قامت بين النجاشي والمتمردين من قومه بسبب مخالفته معتقداتهم في عيسى عليه السلام وتصريحه بأن ما قاله جعفر في ذلك هو الدين الحق , ولكن الزبير كان يملك نفسا وثابة نحو المخاطر قد بُنيَتْ على إيمان قوي بقضاء الله تعالى وقدره فأقدم على تلك الرحلة وطمأن المسلمين على مصير تلك المعركة .
أما أولئك المسلمون الصالحون فإنهم قد قاموا بما يستطيعون من نصرة النجاشي , حيث استعملوا السلاح الذي كان بإمكانهم أن يستعملوه , وهو الدعاء , وأكرمْ به من سلاح يمضي في سُدول الليل فيعطي مفعوله في تخذيل الأعداء وهزيمتهم , لأن جميع المخلوقين في قبضة الله جل وعلا وتحت مشيئته فإن شاء نصر المسلمين ومن يناصرهم وإن كانوا قلة , وإن من أسباب تَنَزُّل نصره تعالى ارتفاع دعاء المؤمنين الصادقين .
وهل يشك متأمل في بلوغ أولئك الصحابة أعلى درجات الصدق واليقين ؟ ولذلك فإن مما يوافق سنن الله تعالى أن ينزل نصره على النجاشي استجابة لدعاء هؤلاء المؤمنين الصادقين .
هذا وقد روى أبو نعيم الأصبهاني هذه الأخبار وغيرها , وقال بعدها : وكل هذه الروايات عمَّن لايدفع عن صدق وفهم .
ومن الإضافات التي اشتملت عليها هذه الروايات ماجاء في رواية عروة بن الزبير أن عمرو ابن العاص وصاحبه قالا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن هذا الرجل الذي بين أظهرنا وأفسد فينا تناولك ليفسد عليك دينك وملكك وأهل سلطانك , ونحن لك ناصحون , وأنت لنا عَيْبة صدق , تأتي إلى عشيرتنا بالمعروف وتأمن تجارنا عندك , فبعَثنا قومُنا إليك لننذرك فساد ملكك ([10]) .
وفي هذه الإضافة دليل على أن وفد قريش لم يقتصر على مجرد المطالبة بإعادة المسلمين المهاجرين لمصلحة تخص بلادهم وقومهم , وإنما اتهموهم بإفساد بلادهم وحذَّروا ملك الحبشة منهم حتى لاينتقل إفسادهم إلى ملكه وبلاده .
وهكذا نجد دعاة الباطل وحماته في كل زمن يصورون دعاة الحق المصلحين على أنهم من المفسدين في الأرض , وذلك لفساد تصور أهل الباطل وانقلاب مفاهيمهم حول مقومات الإفساد والإصلاح وصفاتهما المحددة لهما .
فالإصلاح في نظر هؤلاء يقوم على اعتبار تحقيق أهواء الزعماء المهيمنين على البلاد سواء كانوا مستقلين في نظراتهم للأمور وحكمهم أم كانوا خاضعين لمن هو أقوى منهم , فما وافق رأي هؤلاء الزعماء الأحياء منهم والأموات فإنه هو الإصلاح في الأرض , وما خالفه فهو الإفساد في نظرهم , ولذلك كان كلام وفد قريش مركزًا على بيان مخالفة المسلمين لما عليه الملأ من قومهم وماورثوه من أسلافهم بغضِّ النظر عن كونه حقا في ذاته أو باطلا .
وهذا يعدُّ نوعا من الانغلاق الفكري وتحجيم الطاقات البشرية عن الانطلاق والبحث عن المستويات العليا من المبادئ والمثل .
ولقد كان ملك الحبشة على المستوى العالي من النظر والتأمل حيث قارن بين دعوة المسلمين ودعوة المشركين فرأى بوْنًا شاسعا بين الدعوتين , يتمثل في ارتفاع إلى أعلى درجات السمو في دعوة الإسلام , وهبوط إلى أسفل دركات الانحطاط في دعوة الشرك فكان بكل قوته وطاقاته في صف الإسلام والمسلمين .
وإن النجاشي يعدُّ مثالا عاليا في التحري والتدقيق والبحث عن حقائق الأمور حيث لم يستفزه وفد الكفار ولم تستخفه دعواهم على المسلمين بأنهم سيفسدون عليه ملكه .
ولقد كان أقل تصرف سيفعله الذين لايتصفون بالعدالة أن يأخذوا الاحتياط لملكهم ودولتهم بإبعاد أولئك المتهمين , خاصة وأن دولة الحبشة لاتستفيد أي شيء من إقامتهم فيها , ولكن لفرط إحساس ذلك الملك بفظاعة الظلم ودقة تحريه للعدالة لم يُقدم على هذا التصرف القاصر الظالم , بل أرعى سمعه للطرفين حتى استوعب القضية وبان له وجه الحق فصرح بنصر الحق وأهله على الرغم من إدراكه نتائج ذلك المحرجة له أمام زعماء دولته .
فلله دره ! ما أعظمه من عالم دقيق العلم بخفايا الأمور ونتائجها وحاكم عادل لاتستهويه قوى البشر المبنية على الجبروت والطغيان !
ولاننسى في ختام هذا المقال أن نثبت شرفه الكبير باعتناق الإسلام , كما سيأتي بيان ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى فرحمه الله رحمة واسعة .(/3)
أما قوله " فو الله ما أخذ الله مني الرشوة حين رد عليّ ملكي " فيبينه ما أخرجه ابن إسحاق عن الزهري رحمهما الله قال : فحدثت عروة بن الزبير حديث أبي بكر بن عبد الرحمن عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم فقال : هل تدري ما قوله : "ما أخذ الله مني الرشوة حين رد عليّ ملكي فآخذ الرشوة فيه , وما أطاع الناس فيّ فأطيع الناس فيه ؟" قال قلت: لا , قال : فإن عائشة أم المؤمنين حدثتني أن أباه كان ملك قومه ولم يكن له ولد إلا النجاشي , وكان للنجاشي عم له من صلبه اثنا عشر رجلا , وكانوا أهل بيت مملكة الحبشة , فقالت الحبشة بينها : لو أنا قتلنا أبا النجاشي وملَّكنا أخاه فإنه لا ولد له غير هذا الغلام , وإن لأخيه من صلبه اثني عشر رجلا فتوارثوا ملكه من بعده بقيت الحبشة بعده دهرا , فغدوا على أبي النجاشي فقتلوه , وملَّكوا أخاه فمكثوا على ذلك حينا .
ونشأ النجاشي مع عمه وكان لبيبا حازما من الرجال , فغلب على أمر عمه ونزل منه بكل منزلة , فلما رأت الحبشة مكانه منه قالت بينها : والله لقد غلب هذا الفتى على أمر عمه وإنا لنتخوف أن يملِّكه علينا , وإن ملَّكه علينا لَيَقْتُلنَّا أجمعين , لقد عرف أنا نحن قتلنا أباه , فمشوا إلى عمه فقالوا : إما أن نقتل هذا الفتى وإما أن تخرجه من بين أظهرنا فإنا قد خفنا على أنفسنا , قال: ويلكم قتلتم أباه بالأمس وأقتله اليوم ! بل أخرجه من بلادكم .
قالت : فخرجوا به إلى السوق فباعوه من رجل من التجار بستمائة درهم , فقذفه في سفينة فانطلق به , حتى إذا كان العشي من ذلك اليوم هاجت سحابة من سحائب الخريف فخرج عمه يستمطر تحتها فأصابته صاعفة فقتلتْه .
قالت : ففزعَت الحبشة إلى ولده فإذا هو مُحْمق ([11]) , ليس في ولده خير , فمرج على الحبشة أمرهم , فلما ضاق عليهم ماهم فيه قال بعضهم لبعض : تعلَّموا , والله إن مَلكَكم الذي لايقيم أمركم غيره لَلَّذي بعتم غَدْرَةً , فإن كان لكم بأمر الحبشة حاجة فأدركوه الآن .
قالت : فخرجوا في طلبه وطلب الرجل الذي باعوه منه , حتى أدركوه فأخذوه منه ثم جاؤوا به , فعقدوا عليه التاج وأقعدوه على سرير الملك , فملَّكوه , فجاءهم التاجر الذي كان باعوه منه فقال : إما أن تعطوني مالي , وإما أن أكلمه في ذلك ؟ قالوا : لانعطيك شيئًا قال: إذًا والله أكلمه , قالوا : فدونك وأياه , قالت : فجاءه فجلس بين يديه فقال: أيها الملك ابتعت غلامًا من قوم بالسوق بستمائة درهم فأسلموا إليّ غلامي وأخذوا دراهمي , حتى إذا سرت بغلامي أدركوني فأخذوا غلامي ومنعوني دراهمي .
قالت : فقال لهم النجاشي : لتعطنَّه دراهمه أو لْيضعنَّ غلامه يده في يده فليذهبنَّ به حيث شاء , قالوا : بل نعطيه دراهمه , قالت : فلذلك يقول ماأخذ الله مني رشوة حين رد عليّ ملكي فآخذ الرشوة فيه , وما أطاع الناس فيّ فأطيع الناس فيه , قالت : وكان ذلك أول ما خُبر من صلابته في دينه وعدله في حكمه ([12]) .
هذا وقد جاء في خبر آخر مايدل على أن رجال دولة الحبشة ظلوا غاضبين على النجاشي لقوله عن عيسى عليه السلام بأنه عبد الله , وفي ذلك يقول ابن إسحاق : وحدثني جعفر بن محمد عن أبيه قال : اجتمعت الحبشة , فقالوا للنجاشي : إنك قد فارقتَ دينَنا وخرجوا عليه , فأرسل إلى جعفر وأصحابه , فهيأ لهم سُفنًا , وقال: اركبوا فيها وكونوا كما أنتم , فإن هُزِمْتُ فامضوا حتى تلحقوا بحيث شئتم , وإن ظفرت فاثبتوا .
ثم عَمَدَ إلى كتاب فكتب فيه : هو يشهد أن لا إله إلا الله , وأن محمدًا عبده ورسوله , ويشهد أن عسى بن مريم عبده ورسوله وروحه , وكلمته ألقاها إلى مريم , ثم جعله في قبائه , عند المنكب الأيمن .
وخرج إلى الحبشة , وصفُّوا له , فقال : يامعشر الحبشة , ألست أحق الناس بكم ؟ قالوا: بلى , قال : فكيف رأيتم سيرتي فيكم ؟ قالوا : خير سيرة , قال: فما بالكم ؟ قالوا : فارقت ديننا, وزعمت أن عيسى عبدٌ , قال: فما تقولون أنتم في عيسى ؟ قالوا : نقول هو ابنُ الله , فقال النجاشي , ووضع يده على صدره على قبائه : هو يشهد أن عيسى بن مريم [كذلك] , لم يزد على هذا شيئًا , وإنما يعني ماكتب , فرضوا وانصرفوا عنه .
فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم , فلما مات النجاشي صَلَّى عليه , واستغفر له ([13]) .
وقد أثبت هذا الخبر اهتمامًا كبيرًا من النجاشي بالمسلمين , وأنه وضع خطة لنجاتهم ورحيلهم فيما إذا كانت الدولة لقومه وزال عنه الملك لعلمه بأن قومه لن يُبقُوا على المسلمين وقد قالوا ماقالوا عن عيسى عليه السلام , وهذا شاهد على رسوخ إيمانه وقوة يقينه برسالة محمد صلى الله عليه وسلم .
----------------------------------
([1] ) يعني جعله روحا لمن أرسل إليهم .
([2] ) يعني أنه خلق بقوله الله تعالى "كن" .
([3] ) العذراء التي لم تتزوج , والبتول المنقطعة لعبادة الله تعالى .
([4] ) يعني أخرجوا أصواتا من مناخرهم استنكارًا لما سمعوا .(/4)
([5] ) قال ابن هشام : " ويقال : دِبْرًا من ذهب , ويقال : فأنتم سيوم , والدبر بلسان الحبشة : الجبل " .
([6] ) سنن الترمذي , آخر كتاب الزهد " تحفة الأحوذي 7/97" .
الجامع الصغير 6/51 رقم 8394 .
صحيح الجامع الصغير رقم 5973 " 5/258" .
([7] ) أي اجتمعوا عليه واستقر له الملك .
([8] ) سيرة ابن هشام 1/346 , السير والمغازي لابن إسحاق /213 .
وأخرجه الإمام أحمد – مسند أحمد 5/290 , والحاكم وقال : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه , وأقره الذهبي – المستدرك 2/309 – وقال الحافظ ابن كثير : هذا إسناد جيد قوي – السيرة النبوية لابن كثير – 2/11- .
وحسن الحافظ ابن حجر إسناد الإمام أحمد – فتح الباري 7/189 - .
وذكره الحافظ الهيثمي وقال : رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح غير ابن إسحاق وقد صرح بالسماع – مجمع الزوائد 6/27 - .
([9] ) دلائل النبوة للبيهقي 2/304 .
([10] ) دلائل النبوة لأبي نعيم 1/80 – 84 .
([11] ) الضمير يعود على النجاشي , والمحمق بكسر الميم هو الذي يلد الحمقى .
([12] ) سيرة ابن هشام 1/351 – 354 .
وأخرجه الإمام أحمد من طريق ابن إسحاق بهذا الإسناد وذكر نحوه – مسند أحمد 1/201 – 203 , 5/290-292
([13] ) سيرة ابن هشام 1/354 .(/5)
مواقف في هجرتي الحبشة الأولى والثانية (1)
لقد اشتد أذى المشركين على المسلمين في مكة المكرمة كما تقدم ذكر أمثلة من ذلك, ولقد واجه المسلمون ذلك الأذى بالصبر الجميل , ولكن المشركين أصبحوا يضاعفون من ذلك الأذى كلما تقدم بهم الزمن ورأوا أن كفة المسلمين تعلو شيئا فشيئًا بدخول بعض أشراف أهل مكة في الإسلام .
فلما رأى صلى الله عليه وسلم ذلك وجه أصحابه إلى الهجرة ليسلموا من الأذى وليعبدوا الله تعالى في حرية, وليقوموا بنشر الإسلام في بلاد أخرى , وقد اختار لهم الحبشة لما اشتهر عن حاكمها من العدل والرحمة .
وقد أخرج أهل السير خبر الهجرتين , ومن ذلك ماذكره الحافظ ابن كثير من رواية يونس بن بكير عن ابن إسحاق قال : حدثني الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام عن أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت : لما ضاقت مكة وأوذي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو لايستطيع دفع ذلك عنهم وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في منعة من قومه ومن عمه , لايصل إليه شيء مما يكره ومما ينال أصحابه , فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن بأرض الحبشة ملكًا لايُظلم أحد عنده فالحقوا ببلاده حتى يجعل الله لكم فرجًا ومخرجًا مما أنتم فيه" ([1]) .
وذكر ابن هشام عن ابن إسحاق هذا الخبر ولم يذكر إسناده وذكر فيه أسماء العشرة الذين خرجوا في الهجرة الأولى , وقد اصطحب بعضهم نساءهم ([2]) .
وأخرج ابن سعد من طريق شيخه محمد بن عمر الواقدي بإسناده عن الحارث بن الفضيل ورجل من بني ظفر قالا : فخرجوا متسللين سرًّا وكانوا أحد عشر رجلاً وأربع نسوة حتى انتهوا إلى الشعيبة منهم الراكب والماشي , ووفق الله تعالى للمسلمين ساعة جاؤوا سفينتين للتجار, حملوهم فيهما إلى أرض الحبشة بنصف دينار , وكان مخرجهم في رجب من السنة الخامسة من حيث نُبِّئَ رسول الله صلى الله عليه وسلم , وخرجت قريش في آثارهم حتى جاؤوا البحر حيث ركبوا فلم يدركوا منهم أحدا ([3]) .
وفي هذا الخبر زيادة على ماذكر ابن إسحاق بيان تاريخ هذه الهجرة , ومطاردة قريش لهم وعدم ظفرهم بهم .
وذكر الحافظ ابن حجر أن مخرجهم كان في شهر رجب من السنة الخامسة , ونسبه إلى أهل السير ([4]) .
ثم ذكر ابن إسحاق رحمه الله خبر الهجرة الثانية مطولاً من حديث أم سلمة رضي الله عنها.
قال ابن إسحاق : حدثني محمد بن مسلم الزهري عن أبي بكر ابن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي , عن أم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: "لما نزلنا أرض الحبشة جاورنا بها خير جار النجاشيَّ , أمِنَّا على ديننا , وعبدنا الله تعالى, لانُؤْذى ولانسمع شيئًا نكرهه .
فلما بلغ ذلك قريشًا ائتمروا بينهم أن يبعثوا إلى النجاشي فينا رجلين منهم جَلْدَين , وأن يهدوا للنجاشي هدايا مما يستطرف من متاع مكة , وكان من أعجب مايأتيه منها الأُدم ([5]) , فجعلوا له أدمًا كثيرًا , ولم يتركوا من بطارقته بطريقًا إلا أهدوا له هدية , ثم بعثوا بذلك عبد الله ابن أبي ربيعة , وعمرو بن العاص , وأمروهما بأمرهم , وقالوا لهما : ادفعا إلى كل بطريق هديته قبل أن تكلما النجاشي فيهم , ثم قدِّما إلى النجاشي هداياه , ثم سَلاَه أن يُسلمهم إليكما قبل أن يكلمهم .
قالت : فخرجا حتى قدما على النجاشي , ونحن عنده بخير دار عند خير جار , فلم يبق من بطارقته بطْريقٌ إلا دفعا إليه هديته قبل أن يكلما النجاشي , وقالا لكل منهم : إنه ضَوَى إلى بلد الملك منا غلمان سفهاء , فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا دينكم , وجاؤوا بدين مبتدع, لانعرفه نحن ولا أنتم , وقد بعثَنَا إلى الملك فيهم أشرافُ قومهم ليردوهم إليهم , فإذا كلمنا الملك فيهم , فأشيروا عليه بأن يسلمهم إلينا ولايكلمهم , فإن قومهم أعلى بهم عينًا وأعلم بما عابوا عليهم, فقالوا لهما : نعم .
ثم إنهما قدَّما هداياهما إلى النجاشي فقبلها منهما ثم كلماه فقالا له : أيها الملك إنه قد ضوى إلى بلدك منا غلمان سفهاء , فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك , وجاؤوا بدين ابتدعوه لانعرفه نحن ولا أنت , وقد بعثَنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردَّهم إليهم فهم أعلى بهم عينًا وأعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه .
قالت : ولم يكن شيء أبغض إلى عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص من أن يسمع كلامهم النجاشي .
قالت : فقالت بطارقته حوله : صدقا أيها الملك , قومهم أعلى بهم عينًا , وأعلم بما عابوا عليهم , فأسْلمْهم إليهما فليرداهم إلى بلادهم وقومهم .
قالت : فغضب النجاشي , ثم قال : لاها الله , إذًا لا أسلمهم إليهما , ولايُكاد قوم جاوروني ونزلوا بلادي , واختاروني على من سواي , حتى أدعوهم فأسألهم عما يقول هذان في أمرهم , فإن كانوا كما يقولان أسلمتهم إليهما , ورددتهم إلى قومهم , وإن كانوا على غير ذلك منعتهم منهما , وأحسنت جوارهم ماجاوروني " .(/1)
هذا خبر مهم فيه كشف مخططات الأعداء التي يدبرونها للقضاء على المسلمين ومواقف عالية في عدالة الحكام , ومواقف إسلامية عالية من الصحابة رضي الله عنهم في التمثيل الصادق للإسلام, ثم نتائج باهرة في صمود أهل الحق واعتزازهم بدينهم , ونتائج فاضحة لأهل الباطل في كيدهم لأهل الحق .
ونبدأ بالإشارة على المخطط الأثيم الذي رسمه زعماء الكفر في مكة آنذاك لإرغام المسلمين على العودة والبقاء تحت سياط الذل والتبعية الممقوتة .
وإنه لعجيب أن يلاحق الكفار المسلمين خارج بلادهم , وكأنهم رأوا أن حرية العبادة التي سعدوا بها في أرض الحبشة لايجوز أن يهنئوا بها وهم قد خرجوا عن الإطار العام الذي رسمه الطغاة في مكة لأبناء قبائلهم ومن حالفهم أو صار مملوكًا لهم , وهذا مثال لنوع من التفكير المحدود, وضيق الأفق الذي يعيش فيه الطغاة في كل زمن , حيث يقفز إلى أذهانهم تصورات طائشة مبنية على الشعور بأن خروج طائفة من متبوعيهم عن الإطار المرسوم يعدُّ إهانة لهم , وعدم اعتراف بسلطتهم , وبالتالي يتطور هذا الشعور إلى التفكير بإمكان قيام هؤلاء بعمل مضاد , وإن كانوا لا دولة لهم ولاسلطان , فيحملهم ذلك على المزيد من الملاحقة والمتابعة .
ولذلك رأينا زعماء الكفر حاولوا إعادة المهاجرين إلى مكة المكرمة ليعيشوا تحت سلطانهم, فقام الطغاة بتشكيل الوفد المذكور الذي يضم عمرو بن العاص رضي الله عنه , الذي يُعدُّ أعظم دهاة العرب كما شهد له عمر بن الخطاب رضي الله عنه حينما وجهه لحرب داهية الروم "أرطبون" فقال : رمينا أرطبون الروم بأرطبون العرب فانظروا عمَّ تنفرج .
وأعدوا مجموعة من الهدايا لملك الحبشة ووزرائه , واختاروا الجلود المدبوغة , لأنها أنفس شيء يأتي إلى الحبشة من بلاد العرب , ولقد أحسنوا إعداد الخطة , حيث أجادوا الوفد , ووجهوا عضوي الوفد إلى الاتصال أولاً بالوزراء وتقديم الهدايا لهم , وشرح القضية أمامهم ليكسبوهم إلى صفهم فيما إذا بحث الوفد القضية مع النجاشي .
كما أن من بنود الخطة أن يحاول الوفد التأثير على النجاشي ليُصدر حكمه دون أن يسمع كلام المسلمين , وذلك لعلمهم بأن المسلمين يملكون من الحجة والقوة المعنوية ما لايملكه غيرهم وإن كان خصمهم آنذاك عمرو بن العاص , لكنه بعد أن أسلم زاده الإسلام عظمة وتفوقًا , وأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء من بعده يُعدونه لعظائم الأمور .
لقد اتفق وفد قريش ووزراء النجاشي على الخطة الأثيمة التي تقضي بتسليم المسلمين بدون استجواب , وبدون أن ينالوا حريتهم في التعبير عن أنفسهم ومايريدون , وهي خطة جاهلية درج عليها الطغاة من قديم الزمن , ولم ينكرها وزراء النجاشي لأن ملوكهم السابقين كانوا على درجة من الطغيان , فقد كان مألوفًا عندهم أن يؤخذ فرد أو أفراد فيحكم عليهم غيابيًّا , وينفذ الحكم من غير حضورهم ولاتمكُّنهم من الدفاع عن أنفسهم .
وهكذا حينما يتمكن الطغيان من النفوس يرى أصحاب السلطة أن الأمر بيدهم, فإن شاؤوا أعطوا الحريات , وإن شاؤوا منعوها , وحينما يخشون من الاعتراض عليهم فإنهم قد يعرضون قضايا المتهمين في المحاكم , ويقومون بأدوار تمثيلية متقنة , توهم العالم أنهم يعطون حرية الكلمة والدفاع عن النفس , ثم هم ينفذون ما يمليه عليهم طغيانهم , إذ أن الطغاة من البعيد جدًّا أن يتنازلوا عن مظاهر الطغيان إلا بقوة قاهرة تنقلهم من الجو المتعفن الذي يعيشون فيه إلى جو آخر يضطرون فيه إلى التنازل عن بعض مافي نفوسهم من الجبروت والترفع , أو يزولون ويزول معهم طغيانهم .
وهكذا كان وقوف النجاشي وحده وإصراره على منح المسلمين حرية الكلمة هو الذي أنقذ الله تعالى به أولئك الصحابة رضي الله عنهم , ولقد زال الطغاة أو زال طغيانهم بدخولهم في الإسلام وبقيت مظاهر العدالة التي سطرها التاريخ للنجاشي شاهدة على ما للعدالة من بقاء وخلود .
وأخيرًا خضع وزراء النجاشي لرأيه الذي يمثل العدالة والوفاء .
" قالت أم سلمة رضي الله عنها : - ثم أرسل إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاهم , فلما جاءهم رسوله اجتمعوا , ثم قال بعضهم لبعض : ماتقولون للرجل إذا جئتموه ؟ قالوا : نقول والله ماعلَّمَنا وما أمرنا به نبينا صلى الله عليه وسلم كائنًا في ذلك ماهو كائن " .
وهكذا كان أمر المسلمين شورى بينهم , وكل أمر يتم عن طريق الشورى فهو أدعى إلى نجاحه , لأنه يضم خلاصة عقول كثيرة .
وإن من مظاهر السمو التربوي في هؤلاء الصحابة أنهم لم يختلفوا , بل أجمعوا على رأي واحد, هو أن يعرضوا الإسلام كما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم كائنًا في ذلك ماهو كائن , وإن هذا الاجتماع يعدُّ ثاني خطوة من خطوات النجاح بعد الشورى وكان عددهم بعد الهجرة الثانية ثلاثة وثمانون رجلا .(/2)
هذا وإن الذي أجمعوا عليه يعدُّ دليلاً على قوة توحيدهم واستسلامهم لله تعالى , حيث عزموا على عرض الإسلام بعزة وإن كان في ذلك هلاكهم , ولم يجعلوا لآرائهم واجتهاداتهم مدخلاً في ذلك الأمر لوضوحه , حيث كان الأمر إما أن يَعرضوا الإسلام كاملاً كما جاء من عند الله تعالى , أو أن يسلكوا سبيل المداهنة فيعرضوا منه مايوافق هوى ملك الحبشة ووزرائه, وفي هذا سلامتهم في ظاهر الأمر , لكنهم لقوة توحيدهم لم ينظروا إلى موضوع سلامتهم في الدنيا , وإنما نظروا إلى سلامتهم في الآخرة , فعزموا على عرض الإسلام كاملاً وعدم المداهنة .
وجاء في رواية أخرجها الحاكم والطبراني من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن عمرو بن العاص وصاحبه قالا للنجاشي : إنهم – يعني المسلمين – لايسجدون لك , قال: فلما انتيهنا إليه زَبَرَنَا مَنْ عنده : اسجدوا للملك , فقال جعفر : لانسجد إلا لله , فقال النجاشي: وماذاك ؟ قال : إن الله بعث فينا رسوله وهو الرسول الذي بشر به عيسى عليه السلام برسول يأتي من بعده اسمه أحمد فأمرنا أن نعبد الله ولانشرك به شيئًا ... الحديث ([6]) .
وهذا موقف عظيم من مواقف الاعتزاز بالإسلام والمحافظة على سلامة التوحيد, مع رهبة الموقف الذي كانوا فيه , حيث إن الأمر يتطلب في حياة الناس المعتادة أن يسلك جعفر وأصحابه طريق المداراة , ولو أدى ذلك إلى المداهنة , ولكن المؤمنين حقًّا لايفعلون ذلك بل يمثلون الحق الذي أمرهم به دينهم مهما حصل عليهم من أذى , وكذلك فعل المؤمنون في الحبشة رضي الله عنهم, وقد سخَّر الله تعالى قلب النجاشي فكان نعم النصير والحامي لهم , وكان لهذا الموقف الشجاع وأمثاله من جعفر رضي الله عنه الأثر الكبير في قناعة النجاشي بالإسلام .
إنه لابد من الدعوة إلى الإسلام بكل مافيه من قوة وتميز وإن أنكره الناس في أول الأمر, فإن قوة إصرار دعاته على تطبيقه والاستعلان به مع مخالفة التيار العام لهم يدفع المخالفين والحيارى ومن خلت أذهانهم من أي دين إلى التفكير الجاد في دوافع هذا الإصرار القوي , وفي النهاية يهديهم التأمل والتفكير السليم إلى عظمة هذا الدين الذي يدفع معتنقيه إلى المجابهة والمغامرة بالأنفس والأموال .
قالت أم سلمة رضي الله عنها في سياق روايتها : "فلما جاؤوا وقد دعا النجاشي أساقفته فنشروا مصاحفهم حوله سألهم فقال لهم : ما هذا الدين الذي قد فارقتم فيه قومكم ؛ ولم تدخلوا في ديني , ولا في دين أحد من هذه الملل ؟
قالت : فكان الذي كلمه جعفر بن أبي طالب رضوان الله عليه فقال له : أيها الملك , كنا قومًا أهل جاهلية , نعبد الأصنام , ونأكل الميتة , ونأتي الفواحش , ونقطع الأرحام, ونسيء الجوار, ويأكل القوي منا الضعيف ؛ فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا , نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه , فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده , ونخلع ماكنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان , وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة , وصلة الرحم , وحسن الجوار, والكف عن المحارم والدماء , ونهانا عن الفواحش , وقول الزور , وأكل مال اليتيم , وقذف المحصنات وأمرنا أن نعبد الله وحده لانشرك به شيئًا , وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام .
قالت : فعدد عليه أمور الإسلام , فصدَّقناه وآمنَّا به واتبعناه على ماجاء به من الله , فعبدنا الله وحده فلم نشرك به شيئًا , وحرَّمنا ماحرم علينا , وأحللنا ما أحل لنا , فعدا علينا قومنا , فعذبونا وافتتنونا عن ديننا , ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله تعالى , وأن نستحل ماكنا نستحل من الخبائث , فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا , وحالوا بيننا وبين ديننا , خرجنا إلى بلادك , واخترناك على من سواك ورغبنا في جوارك , ورجونا أن لانظلم عندك أيها الملك" .
وهكذا سألهم النجاشي عن دينهم الجديد الذي خالفوا فيه دين قومهم وجميع الأديان, فكان جواب جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه مشتملاً على أمرين مهمَّين : أولهما نقد الدين الذي تحولوا عنه وهو الوثنية , والثاني الإشادة بالدين الذي هداهم الله تعالى إليه وهو الإسلام وهكذا يكون الحوار الناجح .. البدء بالتخلية قبل التحلية .
فقد بدأ بتفريغ الأذهان من تصور أي صلاح وخير في دين الوثنية , وركز في ذلك على عبادة الأصنام , وهي انحدار فكري سحيق .
وذكر أكل الميتة , وهو أمر تتقزز منه النفوس الطيبة .
وذكر إتيان الفواحش , وهو أمر تنفر منه الطباع السليمة .
وذكر قطع الرحم وإساءة الجوار , وهي أخلاق تتنافى مع خلق الوفاء الذي تنشده الأمم في شعوبها .
وذكر عدوان القوي على الضعيف , وهذا هبوط عن مرتبة الإنسانية إلى الحيوانية , حيث إن من سمة الحيوانات المفترسة العدوان على الحيوانات الضعيفة وافتراسها .(/3)
ثم أشاد بدين الإسلام الذي هداهم الله إليه , فأثنى أولاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي عن طريقه كانت هذه الهداية , حيث ذكر أنه منهم يعرفون نسبه ونشأته فليس غريبًا عنهم , ووصفه بالصدق والأمانة والعفاف , وهذه من أصول مكارم الأخلاق التي تقاد بها الأمم والشعوب إلى الخير والرشاد .
ثم ذكر موجزًا لدعوته استفتحه بالدعوة إلى التوحيد ونبذ الشرك .
وإنه لفرق هائل بين من يدعوك لعبادة مدبر الكون وخالق الأرض والسماوات الذي يملك إماتة الناس وإحياءهم ورزقهم .. ومن يدعوك إلى من هو دونه ولايمكن أن يوضع معه في مفاضلة, حيث يدعوك إلى عبادة أصنام من الشجر والحجر لاتسمع ولاتبصر ولاتضر ولاتنفع .
ثم ذكر مادعا إليه من مكارم الأخلاق التي تقوم عليها الحياة الكريمة , وتنتظم بها أمور الأمة من صدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار .
ثم أشار إلى مادعا إليه من الكف عن مساويء الأخلاق التي تعوق قيام المجتمع الصالح وتفرق بين أفراد الأمة وتغذي حياة الفوضى والاضطراب , فذكر الكف عن المحارم والدماء , واجتناب الفواحش , وقول الزور , وأكل مال اليتيم , وقذف المحصنات البريئات بالفاحشة .
ثم ذكر إيمانهم بهذا الدين الحنيف , وتطبيقهم ماجاء فيه من تكاليف , وماقام به قومهم من العدوان عليهم ليعيدوهم إلى الوثنية , وأن هذا هو الذي دفعهم إلى الهجرة , وأشاد بجوار النجاشي, وبين أن الذي حملهم على اختيار بلاده رجاؤهم التمتع بعدله المشهور .
وهكذا جاء بيان جعفر الذي قوض به أركان الجاهلية وكشف زيفها , ثم شرح مقاصد الإسلام العالية التي يؤمن بسموها كل ذي عقل سليم مجرد من اتباع الهوى المنحرف .
وكان هذا البيان الرائع مقدمة لتلاوة آيات من كتاب الله تعالى كان لها الأثر النهائي في حسم الموقف لصالح دعاة الحق , وهذا مابينته أم سلمة في روايتها حيث قالت : "فقال له النجاشي : هل معك مما جاء به عن الله من شيء ؟ قالت : فقال له جعفر : نعم , فقال له النجاشي : فاقرأه علي , قالت : فقرأ عليه صدرًا من (كهيعص) (مريم : 1 )
ولم يرد في الخبر تحديد نهاية الآيات التي قرأها ولكن يظهر من سياق القصة أنه قد أكمل آيات قصة مريم في خبر ولادتها بعيسى عليهما السلام وماجرى منه من خطاب قومه آنذاك, حيث كان إيراد القصة هو سبب بكاء النجاشي وأساقفته وذلك إلى قول الله تعالى : (فَأَجَاءهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً) (مريم : 23 )
ولقد كان جعفر رضي الله عنه حكيمًا حينما أعرض عن قراءة الآيات التي تلي هذه الآيات حيث إنها تشتمل على الرد على النصارى في ادعائهم أن عيسى ابن الله جل وعلا عن ذلك, لأنه كان في مقام الدعوة ولم يكن في مقام الجدل وبيان الحق في هذه القضية , هذا على فرض أن السورة قد نزلت كلها في ذلك الوقت .
ولكن ماتحاشاه جعفر قد كادهم به عمرو كما سيأتي .
" قالت : فبكى والله النجاشي حتى اخضلت لحيته , وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلا عليهم , ثم قال لهم النجاشي : إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة ([7]) , انطلقا فو الله لا أسلمهم إليكما ولايُكادون" .
وهكذا كان اختيار جعفر بن أبي طالب موفقًا حيث اختار الآيات التي تتحدث عن مريم وابنها عيسى عليهما السلام أمام قوم يعظمونهما كثيرًا , وكان من آثار حسن الاختيار , إلى جانب حسن العرض وصدق النية أن تأثر ذلك الملك ووزراؤه فبكوا جميعًا .
وهذا الموقف من النجاشي يدلنا على مدى وضوح دعوة النبي صلى الله عليه وسلم أمام أهل الكتاب, فلقد عرف أنه النبي الذي ذكر في كتبهم المقدسة , وأنه ينزل عليه جبريل عليه السلام الذي كان ينزل على موسى عليه السلام , مع أنه لم ير النبي صلى الله عليه وسلم ولم يعش معه , فكيف بأهل الكتاب الذين عاشوا معه في المدينة واطلعوا على معجزاته وصاحبوا التنزيل ؟!
وإنه لموقف رائع أن يبلغ التأثير على تلك الطبقة الراقية إلى حد البكاء , مما يدل على تفوق ظاهر عند المسلمين آنذاك في مجال الدعوة .
وهكذا يجب على الدعاة أن يغتنموا الفرص المناسبة , وأن يختاروا الموضوعات الملائمة مع ملاحظة صدق النية وحسن العرض .
----------------------------------
(1 ) السيرة النبوية لابن كثير 2/67 .
(2 ) سيرة ابن هشام 1/330 .
(3 ) طبقات ابن سعد ذ/204 . (2) فتح الباري 7/188 .
(3) يعني الجلود .
(6 ) المستدرك 2/309 , وقال الحاكم : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه , وأقره الذهبي مجمع الزوائد , وقال الهيثمي : رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح – 6/30 –31 .
(7 ) أي من مصدر واحد , والمشكاة المكان الذي توضع فيه المصابيح .(/4)
مواقف مشرفة
الخير في الأمة الإسلامية باق إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فمهما ضعفت الأمة، ومهما تأخرت عن مكانها اللائق بها باعتبارها خير أمة أخرجت للناس، ومهما عظمت المؤامرة عليها وتنوعت أدواتها، إلا أنها تبقى أمة خصبة، تنبت الرجال والعلماء العظماء، يكونون فيها كالمصابيح في الدجى، وتظل مواقفهم مواقف عزة وفخر لهم وللأمة الإسلامية كلها. وما جرى مع أحد أمراء عسير وبعض علمائها، في أشد مراحل ضعف الدولة، قبل سقوطها، دليل صدق على ما نقول.
1- أمير عسير (حسن بن علي آل عائض) وبعض علمائها
أثناء سعي بريطانيا وغيرها من دول الكفر لهدم الخلافة، وتمزيق أواصر الأمة، أرسلت هذه الدول المئات بل الآلاف من الجواسيس متسترين بشتى أنواع الحيل وأساليب الخداع، ومن هذه الأساليب الاتصال بالوجهاء من علماء أو مفكرين أو شيوخ قبائل، وإغرائهم بكل سبل الإغراء الدنيوية الممكنة لتحريضهم على الخلافة الإسلامية وتشجيعهم على شق عصا الطاعة، والخروج على الدولة.
فقد أرسلت بريطانيا مطلع عام 1330هـ وفداً مؤلفاً من ثلاثة من ضباط المخابرات البريطانية، برئاسة ضابط يدعى (هارولد يعقوب) إلى إمارة عسير، وهذه الإمارة بقيت على ولائها للخلافة الإسلامية، وكان أمراؤها وعلماؤها على قدر كبير من الوعي على أطماع الدول النصرانية. التقى الوفد البريطاني بأمير عسير (حسن بن علي آل عائض) وأطلعوه على مهمتهم، وكانت تتلخص في الطلب منه الوقوف إلى جانب بريطانيا لإجلاء العثمانيين عن عسير، ووعدوه بمساعدته مادياً وعسكرياً، وتكفلوا له إبقاء أسرته آل عائض، حكاماً على عسير جيلاً بعد جيل، وأن تكون لهم سفارة تمثلهم في كل ما يجري لمصلحة الطرفين، وأبدوا استعدادهم لإنذار الباب العالي بإخلاء عسير، وتسليمها لأسرته آل عائض. ومنع ابن سعود وإمام اليمن يحيى حميد الدين، وشريف مكة حسين بن علي، والإدريسيين، وتكون موانئ عسير مراكز تجارية مهمة، كما تتعهد له بريطانيا بتقديم مساعدة سنوية له ولأسرته، كما تفعل مع أصدقائها السابق ذكرهم.
عندما أدرك أمير عسير مهمة الوفد البريطاني، استدعى أربعة من علماء عسير الأجلاء هم الجهري، والزميلي، وابن جعيلان، والحفظي، وطلب منهم وضع كتاب موجه لحكومة بريطانيا رداً على عرضها المذكور، يقول مؤرخ هذه الفترة من تاريخ عسير، كنت أجلس مع الوفد البريطاني، ولا يعرف أعضاؤه أني أجيد لغتهم، فكانوا يتساءلون فيما بينهم، هل في هذا العرب الأذلاء رجولة أسلافهم؟؟ ومن لا يزال يعتز بماضي أجدادهم؟؟ ترى ماذا سيحمِّلنا هذا البدوي إلى أمتنا العظيمة؟؟
اتفق العلماء الأربعة على نص الكتاب الموجه إلى حكومة بريطانيا ثم عرضوه على أمير عسير حسن بن علي آل عائض، فأقره ووقعه وهذا نصه:
«... من حسن بن علي آل عائض وعلماء عسير، إلى عظماء وقادة بريطانيا، السلام على من اتبع الهدى... وبعد،
إن وفدكم قد عرض علينا الدنيا، وإنا نعرض عليكم الدنيا والآخرة، فإنا ندعوكم بدعوة الإسلام، أسلموا تسلموا من عذاب الله، وارفعوا الظلم عن عباد الله يرفعه الله عنكم، ولا يتخذ بعضكم بعضاً أرباباً من دون الله يؤتكم الله أجركم مرتين، ويمددكم بأموال أكثر مما تأملون من استعماركم، فإنكم إن رجعتم إلى عقولكم، علمتم أن ما أنزله الله تعالى على رسوله موسى وعيسى هو ما جاء به محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو الحق من ربكم، وقد ختم الله به الرسالات، وإن عدتم إلى رشدكم عرفتم أن هذا ما شهدت به كتبكم. وإن أبيتم إلا الهوى والضلالة، فعليكم ما على أهله، ولا رابط بيننا وبينكم، ولتذهب وفودكم إلى أمثالكم».
ولما سُلِّم الكتاب إلى هارولد يعقوب قرأه على زميليه أعضاء الوفد وملامح الذهول تعلو وجهه، فلما انتهى منه علق أحدهم قائلاً: لو كان قادة العرب اليوم مثل هذا لما ظفرت بريطانيا بل ودول أوروبا كلها بقطعة أرض من بلادهم.
2- فتوى شيخ الهند مولانا محمود حسن
شيخ الهند مولانا محمود حسن، سجن على يد البريطانيين في مالطة لمدة 3 سنوات لأنه التزم بالحق ورفض التنكر للخلافة العثمانية. فقد قام الخائن الشريف حسين باعتقال شيخ الهند وتلميذه مولانا حسين أحمد مدني (والذي عرف فيما بعد باسم شيخ الإسلام) في الحجاز (مكة) في 23 صفر 1335 هجري. وأرسلا إلى مالطة عن طريق القاهرة على متن سفينة في 29 ربيع الثاني 1335 هـ الموافق 21 فبراير/شباط 1917 وقمعا في السجن على يد البريطانيين لمدة 3 سنوات وأربعة أشهر. وأفرج عنهما فيما بعد ووصلا إلى بومباي في 8 يونيو/حزيران 1920. وصادفت فترة عودتهم من مالطة مع فترة انبعاث حركة الخلافة في الهند.(/1)
كان شيخ الهند آنذاك، رئيس دار العلوم ديوباند، وكان يدعم الخلافة مباشرةً وعمل بجهد لاستعادتها. وكان قد التقى مع والي الخلافة في مكة ومعاوني الخليفة. وقدم الوالي بعض الوثائق للشيخ لمساعدته في صراع المسلمين في الهند ضد البريطانيين الطغاة. ومن أهم هذه الوثائق نداء من الوالي إلى مسلمي الهند. في هذا النداء، مدح والي مكة شيخ الهند لمقاومته للحكم البريطاني الاستعماري وطلب من مسلمي الهند أن يقدموا له الدعم. كما أكد لهم بأن الخلافة ستقدم الدعم المادي لحركة المقاومة هذه. وتعرف هذه الوثيقة التي كتبها والي مكة في التاريخ باسم «غالب نماه». وبعد أن أدى الشيخ مناسك الحج في 1334 هـ، التقى أيضاً بأنور باشا وجمال باشا وهم من ضباط الخلافة. وكتب أنور باشا رسالة نداء لمسلمي الهند معبراً عن تقديره لمقاومتهم المستمرة ضد المستعمر الإنكليزي، وكانت رسالته مشابهة لرسالة «غالب نماه» حيث أكد دعم الخلافة العثمانية لهم مادياً في صراعهم ضد الإنكليز. كما وطلبت الرسالة من جميع مواطني وموظفي الخلافة العثمانية بأن يكونوا على ثقة تامة بشيخ الهند وتوفير الرجال والدعم المادي لحركته. وتم تحضير نسخ من هذه الرسائل وتوزيعها في الهند بالرغم من جميع التحديات المفروضة من قبل المخابرات الإنكليزية، وتم توزيعها فيما بعد في جميع أنحاء باكستان. في بداية القرن العشرين، دعم معظم العلماء في الهند موضوع الخلافة ولكنه اليوم منسي وللأسف من قبل العديد من الأشخاص. إن نص الفتوى يظهر لنا كيف كان شيخ الهند يعتبر مهمة الخلافة ورأيه حول التعاون مع المستعمرين. لقد أخذت هذه الفتوى من النسخة المترجمة إلى الإنكليزية من كتاب "سجناء مالطة (أسيران ومالطة)" بقلم مولانا سيد محمد ميان، ونشرته جمعية علماء الهند بالشراكة مع دار ماناك للنشر بي.في.تي، ل.ت.د.
فتوى شيخ الهند، مولانا محمود حسن
سؤال: ما رأي العلامة والمفتي حول المواضيع التالية؟
1- قبلت إدارة المدارس المعونات من الحكومة البريطانية بسبب النفقات الزائدة. هل يسمح لهم بقبول هذه المعونات من الحكومة آخذين بعين الاعتبار قرارهم بعدم التعاون مع الحكومة البريطانية؟
2- هل يسمح قبول رواتب الحكومة المقدمة إلى الطلاب والأشخاص الذين يحملون رتب في الحكومة البريطانية؟
3- هل يسمح للطلاب بترك مثل هذه المدارس دون إعلام أهاليهم أو من يكفلهم نظراً لمعارضتهم لمثل هذه الأعمال؟
4- من واجبنا توفير النفقة لزوجاتنا وأولادنا ووالدينا الكبار في السن، هل من الضروري ترك هذا الواجب في سبيل إعادة إقامة الخلافة؟
5- هنالك بعض المدارس التي تعارض فكرة الخلافة وحركة عدم التعاون، وهذه المدارس تقبل المعونات من الحكومة أو من رئيس حكومة المقاطعة، هل يسمح التدريس أو الدراسة أو قبول أي نوع من الوظائف الإدارية أو التعليمية في مثل هذه المعاهد؟
6- هل من المسموح أخذ المال من صندوق الخلافة لتلبية حاجات شخصية، أو لتلبية متطلبات الأشخاص الذين من واجبنا الاعتناء بهم؟
7- ما نوع العلاقة التي يجب بناؤها مع الأشخاص الذين يخدمون الحكومة، أو الذين يعملون كموظفين في مدارس تقبل المعونات من الحكومة؟
8- فيما يتعلق بإقامة الخلافة أو بالحركة ضد التعاون مع الحكومة البريطانية، هل يسمح قبول المساعدة أو التعاون (سواء المعنوي أو المادي) من الهندوس؟
9- إن المال من صندوق النقد المستمر لمدرسة أليجار هي لبنائها الذي كلف حوالي أربعمائة ألف روبية [الروبية: وحدة النقد في الهند وباكستان] إضافةً إلى تكاليف المكتبة والكتب والمراجع التي تصل إلى آلاف الروبيات، أليس من واجب أعضاء المدرسة استخدامها بطريقة لائقة وحمايتها من الخراب؟
10- هل يجب على الطلاب الذين يتلقون دراسة إنكليزية حديثة أن يتلقوا تعليماً دينياً أيضاً حتى يتمكنوا من نقل معرفتهم إلى الآخرين عندما ينهون دراستهم؟ أم عليهم أن يبذلوا جهدهم من أجل نجاح الخلافة وحركة عدم التعاون؟ باختصار، أيهم أفضل؟ تلقي تعليم ديني، أم المشاركة في حركة إقامة الخلافة وحركة عدم التعاون؟
الأجوبة
بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله رب العالمين والصلاة على سيدنا محمد سيد المرسلين
إن القلب هو عبارة عن قلب وليس صخرة لا تتأثر بالحزن، سوف نبكي آلاف المرات، فلماذا سيضايقنا أحد ما؟
قبل أن أجيب على هذه الأسئلة، أود أن أذكر أن من المهم أن يدرك كل مسلم صادق أنه يتوجب عليه أن يخرج من دائرة التفكير الضيق، وأن يفكر بجميع النعم التي أنعمها الله علينا كوننا مسلمين. وإذا نظرنا بعمق إلى الوضع الحالي في ضوء تجاربنا القديمة، سنجد أنه من الواضح أن أغلى ثروة لدى المسلمين هي إيمانهم. ومن واجب كل مسلم أن يحمي هذا الإيمان بكل قوته. ومن دون أي خدعة أو خجل أو أعمال ماكرة، قد تسرق هذه الثروة منا!(/2)
لقد حاول أعداء الإسلام بشتى الطرق أن يهاجموا ويؤذوا شرف ورونق الإسلام. إن العراق وفلسطين وسوريا الذين فتحوها هم أصحاب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وأتباعه بعد العديد من التضحيات، قد أصبحت من جديد هدفاً لجشع أعداء الإسلام. وفي الوقت الحالي إن شرف الخلافة ممزق. وخليفة المسلمين الذي كان يوحد كل الأمة على هذه الأرض، والذي هو خليفة الله على الأرض، والذي كان يطبق القانون العالمي للإسلام، ويحمي حقوق ومصالح المسلمين، ويضمن سيادة كلام خالق الكون على الأرض، قد أصبح اليوم محاطاً بالأعداء وأصبح دوره هامشياً. "لقد حملت على كتفي جبلاً من المشاكل، ولو وضع هذا الثقل على النهار لتحول ليلاً!"
إن راية الإسلام تحلق منخفضة اليوم. إن أرواح أسيادنا أبو عبيدة (رضي الله عنه) وسعد بن أبي وقاص (رضي الله عنه) وخالد بن الوليد (رضيي الله عنه) وأبو أيوب الأنصاري (رضي الله عنه) غير مطمئنة اليوم. لماذا؟ لأن المسلمين قد فقدوا كرامتهم وشرفهم واحترامهم، وفقدوا شجاعتهم وخوفهم على دينهم، وكل ذلك كان جزءاً من إرثهم، بسبب جهلهم وانشغالهم بتفاهات الدنيا.
اليوم لا يساعد المسلم أخاه المسلم إلا في الأوقات الصعبة، بل وللأسف أصبح متشوقاً للحصول على رضى وصداقة الكافر مما جعله يقطع رأس أخيه. لقد شرب المسلمون من دماء إخوانهم المسلمين. لقد أغرق المسلمون أيديهم في دماء إخوتهم.
يا أبناء الإسلام! ويا محبي هذه الأمة الرائعة! أنتم تعرفون أكثر مني أن النار التي أحرقت الخيم في العالم الإسلامي، ووضعت النار في قصور الخلافة الإسلامية، قد أشعلت بالدماء الحارة للعرب والهنود. وأن جزءاً كبيراً من الثروة الكبيرة التي نجح النصارى بالاستيلاء عليها من الأمم الإسلامية قد كانت بفضل جهدكم.
وبالنتيجة، هل هناك أي مسلم غبي لا يدرك النتائج التي سيؤول إليها أي تعاون مع النصارى؟ وهذا الأمر ينطبق أيضاً على وضع يكون فيه رجل غارق يبحث عن أي مساعدة ولو من قطعة قش ويبحث عن طرق تعاون كي تنقذه من الغرق؟
يا أبناء شعبي! هذا ليس وقت النقاش في مواضيع افتراضية أو مواضيع إضافية، بل هذا الوقت للعمل بروح إسلامية من أجل كرامة وشرف ديننا. إنني أخشى أن الفروقات، سواء الصغيرة أو الكبيرة، بين العلماء قد تؤثر على روحنا وشجاعتنا. أنا لا اطلب منكم أن تحملوا السيف وتذهبوا للجهاد في العراق أو سوريا ضد أعداء الإسلام بجانب إخوتكم. إنما طلبي الوحيد هو أن لا تعززوا من قوة أيدي أعداء الإسلام، وأن تتبعوا أوامر الله بشجاعة وإخلاص:
- قال تعالى: [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ] [المائدة 51].
- وقال تعالى: [لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ] [آل عمران 28].
- وقال تعالى: [بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ - الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا] [النساء 138-139].
- وقال تعالى: [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا] [النساء 144].
- وقال تعالى: [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ] [المائدة 57].
- وقال تعالى: [تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ وَلَوْ كَانُوا - عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ] [المائدة 80-81].(/3)
- وقال تعالى: [لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا ءَابَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ] [المجادلة 22].
- وقال تعالى: [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ] [الممتحنة 1].
هنالك الكثير من الآيات في القرآن تتحدث في هذا الشأن، إلا أن المجال هنا لا يتسع لذكرها جميعها. ولكن أود أن أوضح أنني ترجمت كلمة "ولي" بكلمة "مساعد" و"صديق" هنا. وقد اقتبست المعنى والشرح من تفسيرات الراسخين في العلم من أمثال الإمام ابن جرير الطبري والحافظ عماد الدين بن كثير والإمام فخر الدين الرازي. إن هدفي هنا هو أن أفسر لكم أن "عدم التعاون" يعني عدم مساعدتهم وعدم قبول مساعدتهم أيضاً. وبالتالي: الجواب على سؤاليكم الأول والثاني هو أنه يتوجب عدم قبول المساعدات من الحكومة البريطانية والمقدمة للمدارس وعدم قبول الطلاب للبعثات. وعندما يتخذ الطلاب قرارهم بعدم التعاون، فلا يجب أن يعتمدوا على إذن والديهم، بل هو حقهم وعليهم تحفيز والديهم -بأدب واحترام- بالموافقة على عدم التعاون مع الحكومة البريطانية. إن هذه المعضلة التي يواجهها الطلاب حالياً قد واجهها أيضاً المسلمون في عهد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم). وقد سألوا الرسول آنذاك كيف بإمكانهم أن يقطعوا علاقتهم مع الكفار لأنهم إذا قاموا بذلك فسيفترقون عن والديهم وإخوتهم وأخواتهم وسائر أقاربهم. كما ستفشل أعمالهم وتهدر ممتلكاتهم وتدمر قراهم. وقد قدمت إليهم الأجوبة على أسئلتهم هذه عن طريق الآية التالية: [قُلْ إِنْ كَانَ ءَابَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ] [التوبة 24].
يوجد أحيانا خوف في قلوبنا أنه في حال فشلت الحركات القائمة في جميع أنحاء الدولة واستمر وجود الحكومة، سيكون هنالك فرص لخسارات كبيرة. وكان هذا النوع من الآراء موجوداً آنذاك أيضاً. ولهذا ذكر في القرآن الكريم: [نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَة] [المائدة 52] (أي أن يقول المنافقون أن علاقة الصداقة بيننا وبين اليهود ضرورية لأنه في حال فشل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بمهمته وانتصر اليهود في النهاية، سنواجه صعوبات كبيرة في تلك الحال.) وهنا أجابهم الله سبحانه وتعالى: [فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ] [المائدة 52].
يا إخوتي! إني أدعوكم للتمسك بأوامر الله والإيمان به فقط، فتثبتوا بأهدافكم واستمروا برفض التعاون مع البريطانيين. وإذا كان باستطاعتكم فلا تتأخروا بتقديم الدعم والعون للإسلام والمسلمين. ففي هذا الوقت من الصعب تجاهل هذا الأمر أو التساهل فيه.(/4)
إنه لأمر جيد أن أغلبية الهندوس يتطلعون للتعاون معكم ودعمكم. إن حادثة جاليان والأباغ في بنجاب إضافة إلى الرغبة في الحكم الذاتي قد جعلا الوقت ملائماً لعدم التعاون مع البريطانيين النصارى. كما وقد سمعت بأن جماعة السيخ قد قررت أيضاً رفض التعاون مع البريطانيين. توكلوا دائماً على الله وتصرفوا عندما يكون الوقت مناسباً. إن الله هو وليكم ونصيركم الوحيد! وإذا جاء شعب من مجتمع آخر لمساعدتكم في مهمتكم النبيلة ولدعمكم في الأزمات، يجب أن تتعاونوا معهم أيضاً. ويجب أن تعاملوهم بلطف وتهذيب وحتى أن تكونوا أكرم منهم، قال الله تعالى: [لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الممتحنة 8-9].
وتجدر الإشارة هنا إلى أن التعاون وإقامة العلاقات مع الهندوس لا يعني أن على المسلمين تكييف أوامر دينهم بشكل يلائم طرق الكفار. فإذا قاموا بذلك، فسيسجلون الخطايا على أنفسهم مقابل التقوى
إن هدفي هو أن تتصرفوا بشكل يدعو إلى عدم التعامل مع الحكومة البريطانية. ويجب أن تتوكلوا على الله وحده أثناء قيامكم بذلك. أما فيما يتعلق بالطلاب، فيجب عليهم المشاركة في نشر هذه الحركة إذا لم يكن لديهم أي عمل إجباري آخر. أما من لديه أي التزام تجاه زوجة أو أولاد أو والدين فيجب أن يشارك بشكل لا يدفعه إلى إهمال عائلته. وإذا كان أحدهم يعمل بجهد من أجل مساعدة وحماية الخلافة وقدمت له لجنة الخلافة مبلغاً من المال لتلبية حاجاته، يسمح له بقبولها.
إذاً باختصار، إن التعاون مع الكفار غير جائز، ويتوجب أن يبتعد أي شخص عن التعاون مع البريطانيين. يجب أن يبعد المسلمون تفكيرهم عن أي شيء يتعلق بالكفار، وأن يتوكلوا على الله الذي بيده مصير كل من المتسول والملك. برأيي من الحكمة أن يختار أصحاب القدر الواحد رضى الله وحده أولاً ومن ثم يستمر في طريقه مطمئناً دون أن يأبه بالعواقب.
والآن أود أن أختتم هذا الحديث بالتأكيد بأنني لست مفتٍ، ولكنني آمل أن تكون براهيني قد أجابت على بعض أسئلتكم. إضافة إلى الاعتناء بسلامة مبنى كلية اليجارث ومكتبتها يجب أن يوازن ضميركم ويقارن ذلك مع قيمة إستانبول وسوريا وفلسطين والعراق.
وفي النهاية يجب القول أن نجاح حركات عدم التعاون تعتمد علينا. ولا يجب أن نقوم بأي عمل يؤدي إلى الإضرار أو إلى هدر الدماء. هذه هي النصيحة التي يقدمها كل المثقفين، ويجب علينا أن نستوعب هذه النصيحة وإلا سيكون هنالك خوف من الخسارة بدلاً من الفوز. لندعُ الله الذي هو مصدر عزتنا من كل قلبنا أن لا ينزع الكرامة عن أمتنا، وأن لا يجعلنا هدفاً للكفار، وأن يساعدنا في عملنا الصالح.
3- مواقف الأمة، الخاصة والعامة، عند إلغاء الخلافة
أعلن مصطفى كمال أتاتورك إلغاء الخلافة في 28 رجب 1342هـ الموافق 3/3/1924م، في ذلك الوقت كان الإنكليز يحتلون دار الخلافة وبلاد الشام بعد أن سلمها لهم الخائن مصطفى كمال، وكان قبل إعلان إلغاء الخلافة قد تم تجريد الخلافة من السلطة قبل سنتين من سقوطها، أما بلاد الحجاز فكان آل سعود مطايا للإنجليز ينفذون مخططاتهم بتجييش المسلمين لقتال الخلافة، أما مصر فقد وقعت تحت الاحتلال الإنجليزي وكذلك العراق.
لقد ظلت الخلافة رمز العزة للمسلمين ووحدتهم، فهي مكلفة في نظر المسلمين برعاية شؤونهم والذود عنهم وإقامة شريعة دينهم؛ ولذلك حزن المسلمون حزناً شديداً لمصير الخلافة، وكان من أوائل من تنبه لخطر الكماليين على الخلافة هو شيخ الإسلام مصطفى صبري، فقد هاجم الكماليين ولجأ لمصر منبهاً أهلها بما يجري ضد الخلافة قبل إعلان سقوطها، منكراً على الكماليين فعلهم بفصلهم الخلافة عن الدولة.
تفاجأ العالم الإسلامي بقرار إلغاء الخلافة التي لم ينقطع ظلها عن المسلمين طوال أربعة عشر قرناً فارتفع صوت أحمد شوقي بقصيدة قوية صادقة المشاعر يقول فيها:
ضجَّت عليكِ مآذنٌ ومنابرٌ--------وبكتْ عليكِ ممالكٌ ونواحِ
الهندُ والهةٌ ومصرُ حزينةٌ--------تبكي عليكِ بمَدمعٍٍ سَحَّاحِ
والشَّامُ تسألُ والعراقُ وفارسٌ--------أمحا من الأرض الخلافةَ ماح؟
والشاعر محرم كتب قصيدة بهذه المناسبة يقول فيها:
مضى الخلفاءُ عنكِ أين حلُّوا--------وكيفَ بقيتِ وحدَكِ خبِّرينَا(/5)
وكتب الشيخ محمد حسنين مقالاً عنيفاً هاجم فيه الكماليين مبيناً فيه فظاعة جرمهم. وكتب محمد الباقوني مقالاً ينكر على الكماليين صنيعهم وأن الخلافة ليست ملكاً لهم لأنها خلافة المسلمين، والترك لا يتجاوز عددهم اثنان في المائة من عدد المسلمين. وكتب محمد شاكر أيضاً يقول: «فأي شر يحسب هؤلاء الملاحدة أنهم بإلغاء الخلافة يدفعونه، وأي خير يظنون أنهم للدولة يجلبونه... لقد نقضوا موثقاً أخذته عليهم ثمانية قرون وبعض قرن، واطرحوا أمانة حملوها كل ذلك العهد وخرجوا للمسلمين من تبعة لم يخرجهم منها أحد، وحاولوا عبثاً أن يحلوا بيعة بعنق كل مسلم في الأرض معقودة».
واضطرب الناس وأصبحوا في حيرة فلم يعرفوا كيف يتصرفون، فقد كان الدعاء يوم الجمعة لخليفة المسلمين وصاروا يدعون لسلطان مصر، ثم خرج الأزهر ببيان موقع باسم ستة عشر عالماً من علماء الأزهر أذاعوه بعد إلغاء الخلافة بأربعة أيام يقررون فيه بطلان ما تجرأ عليه الكماليون من عزل الخليفة عبد المجيد، وينبه المسلمين إلى حاجتهم للخليفة، ويدعوهم للإسراع في عقد مؤتمر (يقرر ما يراه في أمر الخلافة من الطريق الشرعي ويحذرهم من تسرب الخلاف الذي يؤخر الإسلام ويوهنه). وفي اليوم التالي نشر الشيخ محمد حسين وكيل الأزهر السابق مقالاً يبين فيه خطأ الكماليين فيما ذهبوا إليه من أن الخلافة عقبة في طريق التقدم، وختمه بدعوة المسلمين للنظر في أمر الخلافة. وعلى أثر ذلك كثرت الدعوات لعقد مؤتمر الخلافة وخاصة بعد أن أذيعت الشائعات لترشيح الملك حسين للخلافة. وعلى أثرها نشر علماء التخصص في الأزهر بياناً حذروا فيه من الانخداع بنداءات الخونة المارقين الذين ينادون ببيعة الملك حسين بن علي صنيعة الإنكليز. وحذروا من تهافت كل مملكة على جعل الخليفة فيها؛ فيتعدد بذلك خلفاء المسلمين، وتذهب ريحهم، وتضرب عليهم الذلة والمسكنة إلى يوم الدين.
ثم نشطت الدعوة إلى المؤتمر الإسلامي واجتمع العلماء برئاسة شيخ الجامع الأزهر وأصدروا بياناً في 25/3/1924م أفتوا فيه ببطلان بيعة عبد المجيد، وقرروا دعوة ممثلي جميع الأمم الإسلامية إلى مؤتمر يعقد في القاهرة برئاسة شيخ الإسلام للبت فيمن يجب أن تسند إليه الخلافة الإسلامية، وحددوا شهر شعبان موعداً لانعقاده. وشكلت لجنة المؤتمر الإسلامي وانتشرت فروعها في البلاد. وصدرت مجلة باسم المؤتمر الإسلامي تدعو فيه بأن المطلوب من المؤتمر هو اختيار خليفة للمسلمين. ولم ينعقد المؤتمر في موعده وأجّل مرات إلى أن عقد في 1926م وكان اجتماعاً فاشلاً لم يسفر عن شيء. وكان من بين من عمل على إفشاله ملك الأفغان (أمان الله خان). الذي كان طامعاً في الخلافة، بالإضافة إلى عمل مندوبي البلاد الإسلامية في معارضتهم ترشيح الملك فؤاد للخلافة، وكذلك أخذ الملك حسين البيعة لنفسه في فلسطين وشرق الأردن، وكذلك معارضة الإنجليز في ظهور الخلافة الإسلامية في أي صورة من الصور، وانقسم الرأي العام حول مسألة الخلافة، فسعد زغلول لما له من مكانة عند الناس كان يعارض مشروع الخلافة، وأخذ يريب الناس من هذا المشروع بحجة أن الإنجليز هم الذين يدفعون الملك فؤاد لترشيح نفسه. وانقسمت لجنة المؤتمر فمنهم من رأى بأن مصر لا تصلح لإقامة الخلافة لأنها محتلة، وأنه من الأجدى أن يعقد المؤتمر في أحد العواصم الحرة من الممالك الإسلامية. وانعقد المؤتمر آخر الأمر في أيار/ مايو 1926م حضره ما يقرب من ثلاثين عضواً، وبعضهم حضر بشخصه لا يمثل هيئة أو حكومة، وبعضهم حضر للاستماع دون المشاركة أو إبداء الرأي مثل مندوب إيران. وفشل المؤتمر وانتهى إلى تقرير أن الخلافة الشرعية المستجمعة لشروطها المقررة في كتب الشريعة الغراء من أهمها الدفاع عن حوزة الدين في جميع بلاد المسلمين، وتنفيذ أحكام الشريعة الغراء فيها، لا يمكن تحقيقها بالنسبة للحالة التي عليها المسلمون الآن. وقرر أن تبقى هيئة المجلس الإداري لمؤتمر الخلافة بمصر على أن ينشئ له شُعَباً في البلاد الإسلامية المختلفة تكون على اتصال بها لعقد مؤتمرات متوالية فيها حسب الحاجة.
صدرت كتب معارضة للكماليين منها (النكير على منكري النعمة من الدين والخلافة). لمصطفى صبري فقد تناول فيه أربعة مسائل:
1- فساد دين الكماليين.
2- الكلام عن عصبيتهم للجنس التركي ومحاربتهم للعصبية الإسلامية.
3- بيان أن الكماليين والاتحاديين اسمان مختلفان لشيء واحد.
4- الحديث عن صلتهم باليهود وعن تواطئهم مع الإنجليز.
أما الكتاب الثاني (الخلافة أو الإمامة العظمى) لمحمد رشيد رضا فقد تناول فيه:
1- بيان أن نهضة المسلمين تتوقف على إقامة الخلافة الإسلامية.
2- الدعوة إلى تعاون العرب والترك على إقامة الخلافة.
3- التأمل في واقع العالم الإسلامي توصلاً لتلمس الطريق إلى نهضته.
وفي تركيا عمد مصطفى كمال أتاتورك إلى قتل العلماء والأئمة الذين عارضوه.(/6)
وهكذا نرى بأن المسلمين كانوا يستشعرون أهمية الخلافة في حياتهم لكنهم لم يتصرفوا إزاء هذه الفاجعة وهي إلغاء الخلافة التصرف الذي يليق بأمة الإسلام باعتبارها قضية مصيرية، وأنه يجب اتخاذ إجراء الحياة والموت إزاءها، فلم يدركوا أن هذه القضية قضية مصيرية يتوقف عليها مصير المسلمين ومصير الإسلام، وأن الإجراء الصحيح هو حمل السلاح وقتال الكماليين، ولو أدركوا ذلك لما وقع ما وقع. واليوم ونحن نرى حال الأمة الإسلامية والمحنة التي تعيشها نقول: حان الوقت الذي يجب فيه على كل مسلم أن يجعل قضية عودة الإسلام لحياة المسلمين بإقامة الخلافة بالطريقة الشرعية قضية مصيرية له في هذه الحياة؛ لتعود الأمة لعزتها وليعم الخير العالم كله(/7)
مواقف من صبر الصحابة على الأذى(2)
لقد تنوعت وسائل الأذى من الكفار للمسلمين وكانوا يعاملون كل مسلم حسب مكانته الاجتماعية وعمله , وفي ذلك يقول ابن إسحاق رحمه الله : وكان أبو جهل الفاسق يغري بهم- يعني بالمسلمين – في رجال من قريش , إذا سمع بالرجل قد أسلم , له شرف ومنعة أنَّبه وأخزاه, وقال : تركت دين أبيك وهو خير منك , لَنُسفِّهن حلمك , ولنُفَيِّلنَّ رأيك ([1]) , ولنَضَعَنَّ شرفك. وإن كان تاجرًا قال: والله لنُكَسِّدَنَّ تجارتك , ولنهلكن مالك , وإن كان ضعيفًا ضربه وأغرى به ([2]) .
وهكذا يقف الكفار في مواجهة المسلمين فيقومون بتشويه سمعتهم وإسقاط مكانتهم في المجتمع بكل الطرق التي يرونها مؤثرة , وهم لعدم إيمانهم بالله واليوم الآخر لايتورعون عن مأثم ولايخشون عقوبة على أعمالهم السيئة , فلذلك يبيحون لأنفسهم الكذب والتزوير , ويضللون الرأي العام بأقوال وأخبار مختلقة , يقصدون منها إضعاف معنوية المسلمين .
ومن كان ماله من المسلمين يقوم على التجارة ونحوها مما يقوم على التعامل مع الآخرين فإنهم يحاصرونه ويشوهون سمعته التجارية ويضعون العراقيل في وجهه حتى يفلس في تجارته .
هكذا شأن الكفار والمنافقين في حربهم مع المؤمنين في كل زمن , وقد لايملك المسلمون من وسائل المقاومة إلا الصبر والزهد في الدنيا وانتظار الفرج , فإذا تحققت فيهم هذه الصفات كما توافرت لدى الصحابة رضي الله عنهم فإنهم جديرون بنصر الله تعالى والتمكين في الأرض .
هذا ومما استعمله الكفار ضد المسلمين من الأذى جحود حقوقهم المالية حتى يكفروا بالإسلام, ومن ذلك ماجاء في رواية أخرجها الإمام البخاري رحمه الله من حديث خباب بن الأرتّ رضي الله عنه قال : جئت العاص بن وائل السهمي أتقاضاه حقًّا لي عنده , فقال: لا أعطيك حتى تكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم , فقلت : لا حتى تموت ثم تبعث , قال: وإني لميت ثم مبعوث؟ قلت: نعم , قال: إن لي هناك مالاً وولدًا فأقضيك , فنزلت هذه الآية (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا) ([3]) .
وقول خباب " لا حتى تموت ثم تبعث " ليس على ظاهره بل المراد منه تبكيت ذلك الكافر, يقول الحافظ ابن حجر في ذلك : مفهومه أنه يكفر حينئذ – يعني بعد البعث – لكنه لم يُرد ذلك لأن الكفر حينئذ لايتصور , فكأنه قال : لا أكفر أبدًا , والنكتة في تعبيره بالبعث تعيير العاص بأنه لايؤمن به ([4]) , ويحتمل أنه أراد تهديده بذلك .
هذا ومما يلاحظ من الأخبار السابقة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمنع المسلمين آنذاك من الرد على عدوان الأعداء ويأمرهم بالصبر على الأذى لأن وضعهم لم يكن يسمح لهم بالدفاع عن أنفسهم بالقوة , ولاشك أن وراء أمرهم بالصبر حكَمًا عظيمة .
ولقد حاولت أن ألتمس شيئًا من هذه الحكم , ولكني وجدت أن ماسطره الأستاذ سيد قطب رحمه الله تعالى أبلغ وأشمل مما كتبته بكثير فرأيت اقتباس ماكتبه في هذا الموضوع لأهميته , يقول رحمه الله تعالى :
أما حكمة هذا فلسنا في حلٍّ من الجزم بها , لأننا حينئذ نتألَّى على الله مالم يبين لنا من حكمة, ونفرض على أوامره أسبابًا وعللا , قد لاتكون هي الأسباب والعلل الحقيقية , أو قد تكون ولكن يكون وراءها أسباب وعلل أخرى لم يكشف لنا عنها , ويعلم سبحانه أن فيها الخير والمصلحة .. وهذا هو شأن المؤمن أمام أي تكليف , أو أي حكم في شريعة الله لم يبين الله سببه محددا جازما حاسما فمهما خطر له من الأسباب والعلل لهذا الحكم أو لذلك التكليف, أو لكيفية تنفيذ هذا الحكم أو طريقة أداء ذلك التكليف , مما يدركه عقله ويحسن فيه , فينبغي أن يعتبر هذا كله مجرد احتمال . ولايجزم – مهما بلغت ثقته بعلمه وعقله وتدبره لأحكام الله- بأن ما رآه هُوَ حكمةً , هو الحكمةُ التي أرادها الله .. نصا .. ,ليس وراءها شيء , وليس من دونها شيء ! فذلك التحرج هو مقتضى الأدب الواجب مع الله . ومقتضى مابين علم الله ومعرفة الإنسان من اختلاف في الطبيعة والحقيقة .
وبهذا الأدب الواجب نتناول حكمة عدم فرض الجهاد في مكة وفرضيته في المدينة .. نذكر مايتراءى لنا من حكمة وسبب .. على أنه مجرد احتمال .. وندع ماوراءه لله . لانفرض على أمره أسبابًا وعللا , لايعلمها إلا هو .. ولم يحددها هو لنا ويطلعنا عليها بنص صريح!
إنها أسباب .. اجتهادية .. تخطيئ وتصيب . وتنقص وتزيد . ولانبغي بها إلا مجرد تدبر أحكام الله . وفق ما تظهره لنا الأحداث في مجرى الزمان .(/1)
"أ" ربما كان ذلك لأن الفترة المكية كانت فترة تربية وإعداد , في بيئة معينة , لقوم معينين , وسط ظروف معينة . ومن أهداف التربية والإعداد في مثل هذه البيئة بالذات , تربية نفس الفرد العربي على الصبر على ما لا يصبر عليه عادة من الضيم يقع على شخصه أو على من يلوذون به. ليخلص من شخصه , ويتجرد من ذاته , ولاتعود ذاته ولا من يلوذون به , محور الحياة في نظره, ودافع الحركة في حياته .. وتربيته كذلك على ضبط أعصابه , فلا يندفع لأول مؤثر – كما هي طبيعته – ولا يهتاج لأول مهيج . ليتم الاعتدال في طبيعته وحركته .. وتربيته على أن يتبع مجتمعا منظمًا له قيادة يرجع إليها في كل أمر من أمور حياته , ولايتصرف إلا وفق ما تأمره – مهما يكن مخالفًا لمألوفه وعادته – وقد كان هذا هو حجر الأساس في إعداد شخصية العربي , لإنشاء "المجتمع المسلم " الخاضع لقيادة موجهة , المترقي المتحضر , غير الهمجي أو القبلي .
"ب" وربما كان ذلك أيضًا , لأن الدعوة السلمية أشد أثرًا وأنفذ في مثل بيئة قريش , ذات العنجهية والشرف , والتي قد يدفعها القتال معها – في مثل هذه الفترة – إلى زيادة العناد وإلى نشأة ثارات دموية جديدة , كثارات العرب المعروفة , التي أثارت حرب داحس والغبراء , وحرب البسوس – أعوامًا طويلة , تفانت فيها قبائل برمتها – وتكون هذه الثارات الجديدة مرتبطة في أذهانهم وذكرياتهم بالإسلام , فلا تهدأ بعد ذلك أبدا . ويتحول الإسلام من دعوة إلى ثارات وذحول تنسى معها فكرته الأساسية , وهو في مبدئه فلا تذكر أبدًا !
"ج" وربما كان ذلك أيضًا , اجتنابًا لإنشاء معركة ومقتلة في داخل كل بيت . فلم تكن هناك سلطة نظامية عامة , هي التي تعذب المؤمنين وتفتنهم . إنما كان ذلك موكولا إلى أولياء كل فرد , يعذبونه هم ويفتنونه ويؤدبونه ! ومعنى الإذن بالقتال – في مثل هذه البيئة – أن تقع معركة ومقتلة في كل بيت .. ثم يقال : هذا هو الإسلام ! ولقد قيلت حتى والإسلام يأمر بالكف عن القتال ! فقد كانت دعاية قريش في الموسم , في أوساط العرب القادمين للحج والتجارة : إن محمدا يفرق بين الوالد وولده , فوق تفريقه لقومه وعشيرته ! فكيف لو كان كذلك يأمر الولد بقتل الوالد , والمولى بقتل الولي .. في كل بيت وكل محلة ؟
"د" وربما كان ذلك أيضًا , لما يعلمه الله من أن كثيرين من المعاندين الذين يفتنون أوائل المسلمين عن دينهم , ويعذبونهم ويؤذونهم , هم بأنفسهم سيكونون من جند الإسلام المخلص , بل من قادته . ألم يكن عمر بن الخطاب من بين هؤلاء ؟!
"هـ" وربما كان ذلك , أيضًا , لأن النخوة العربية , في بيئة قبلية , من عادتها أن تثور للمظلوم , الذي يحتمل الأذى , ولايتراجع ! وبخاصة إذا كان الأذى واقعًا على كرام الناس فيهم.. وقد وقعت ظواهر كثيرة تثبت صحة هذه النظرة – في هذه البيئة – فابن الدَّغِنَّة لم يرض أن يترك أبا بكر – وهو رجل كريم – يهاجر ويخرج من مكة , ورأى في ذلك عارًا على العرب ! وعرض عليه جواره وحمايته .. وآخر هذه الظواهر نقض صحيفة الحصار لبني هاشم في شعب أبي طالب, بعد ما طال عليهم الجوع واشتدت المحنة .. بينما في بيئة أخرى من البيئات ذات الحضارة القديمة التي مردت على الذل , قد يكون السكوت على الأذى مدعاة للهزء والسخرية والاحتقار من البيئة , وتعظيم المؤذي الظالم المعتدي !
"و" وربما كان ذلك أيضًا , لقلة عدد المسلمين حينذاك , وانحصارهم في مكة . حيث لم تبلغ الدعوة إلى بقية الجزيرة . أو بلغت أخبارها متناثرة , حيث كانت القبائل تقف على الحياد , من معركة داخلية بين قريش وبعض أبنائها , حتى ترى ماذا يكون مصير الموقف .. ففي مثل هذه الحال قد تنتهي المعركة المحدودة , إلى قتل المجموعة المسلمة القليلة , حتى ولو قتلوا هم أضعاف من سيقتل منهم , ويبقى الشرك , وتنمحي الجماعة المسلمة . ولم يقم في الأرض للإسلام نظام , ولا وجد له كيان واقعي .. وهو دين جاء ليكون منهج حياة , وليكون نظامًا واقعيًّا عمليًّا للحياة .(/2)
"ز" في الوقت ذاته لم يكن هناك ضرورة قاهرة ملحة , لتجاوز هذه الاعتبارات كلها , والأمر بالقتال ودفع الأذى . لأن الأمر الأساسي في هذه الدعوة كان قائمًا – وقتها – ومحققا .. هذا الأمر الأساسي هو وجود الدعوة .. وجودها في شخص الداعية - صلى الله عليه وسلم - وشخصه في حماية سيوف بني هاشم , فلا تمتد إليه يد إلا وهي مهددة بالقطع ! والنظام القبلي السائد يجعل كل قبيلة تخشى أن تقع في حرب مع بني هاشم , إذا هي امتدت يدها إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - فكان شخص الداعية من ثم محميًّا حماية كافية .. وكان الداعية يبلغ دعوته – إذن – في حماية سيوف بني هاشم ومقتضيات النظام القبلي , ولايكتمها , ولايخفيها , ولايجرؤ أحد على منعه من إبلاغها وإعلانها, في ندوات قريش في الكعبة , ومن فوق جبل الصفا , وفي اجتماعات عامة .. ولايجرؤ أحد على سد فمه ! ولايجرؤ أحد على خطفه وسجنه أو قتله ! ولايجرؤ أحد على أن يفرض عليه كلاما بعينه يقوله , يعلن فيه بعض حقيقة دينه , ويسكت عن بعضها . وحين طلبوا إليه أن يكف عن سب آلهتهم وعيبها لم يكف . وحين طلبوا إليه أن يسكت عن عيب دين آبائهم وأجدادهم وكونهم في جهنم لم يسكت . وحين طلبوا إليه أن يُدْهن فيدهنوا . أي أن يجاملهم فيجاملوه , بأن يتبع بعض تقاليدهم ليتبعوا هم بعض عبادته , لم يدهن .. وعلى الجملة كان للدعوة وجودها الكامل , في شخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - محروسًا بسيوف بني هاشم – وفي إبلاغه لدعوة ربه كاملة في كل مكان وفي كل صورة .. ومن ثم لم تكن هناك الضرورة القاهرة لاستعجال المعركة والتغاضي عن كل هذه الاعتبارات البيئية التي هي في مجموعها , مساندة للدعوة ومساعدة في مثل هذه البيئة ([5]) .
وربما كان من الحِكَم في ذلك أن يظهر للأعداء عظمة هذا الدين , وأنه هو الدين الحق لما يتمثل به أتباعه من الصبر الطويل على الأذى , والمقدرة الفائقة على ضبط النفس, حيث يتساءل الأعداء عن السر الكامن وراء الصبر والثبات , فلا يجدون إجابة على تساؤلاتهم إلا بالتفكير في هذا الدين العظيم الذي كان وراء هذا الصمود العجيب والصبر الجميل .
هذا وقد اضطر بعض المعذبين من الصحابة للاستجابة لفتنة الكفار ظاهرًا وموافقتهم على قول مايطلبونه منهم للتخلص من تعذيبهم , كما قال ابن إسحاق رحمه الله : وحدثني حكيم بن جبير عن سعيد بن جبير قال : قلت لعبد الله بن عباس رضي الله عنهما : أكان المشركون يبلغون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من العذاب مايعذرون به في ترك دينهم ؟ قال: نعم والله , إن كانوا ليضربون أحدهم حتى مايقدر على أن يستوي جالسًا من شدة الضر الذي نزل به , حتى يعطيهم ما سألوه من الفتنة ([6]) .
وهكذا كان بعض الصحابة رضي الله عنهم يتعرضون في ذلك العهد لأنواع من التعذيب هي فوق احتمال البشر , مما حمل بعضهم مع قوة إيمانهم على موافقة المشركين ظاهرًا فيما ألزموهم بقوله مما يتنافى مع الإسلام .
وقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم أولئك المعذبين على اتقاء عذاب المشركين بإظهار مايريدون منهم , ومن أدلة ذلك ما أخرجه الإمام الطبري من حديث أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر قال: أخذ المشركون عمار بن ياسر فعذبوه حتى قاربهم ([7]) في بعض ماأرادوا , فشكا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم , فقال النبي صلى الله عليه وسلم : كيف تجد قلبك ؟ قال: مطمئنا بالإيمان , قال النبي صلى الله عليه وسلم فإن عادوا فعد.
ذكر ذلك في تفسير قوله تعالى: (مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) ([8]) [النحل :106] .
وهذا يعدُّ رخصة للمسلمين الذين يتعرضون للبلاء الشديد على يد الكفار , فمن ثبت وراغم الكفار كما فعل بلال فهو أفضل , ومن أخذ بالرخصة كما فعل عمار فإنه لا إثم عليه مادام قلبه مطمئنًا بالإيمان , ولله الحمد والفضل .
وفي قوله صلى الله عليه وسلم " كيف تجد قلبك ؟ " دلالة على أهمية صيانة الفكر من أن يتطرق إليه شيء من الشبهات التي يثيرها الكفار .
إن هؤلاء المعذبين قد استطاع الكفار أن يثخنوا في أجسادهم وأن يُلجئوا بعضهم إلى قول مالا يعتقدون , ولكنهم لم يستطيعوا أبدا أن يهيمنوا على عقولهم وأفكارهم .
إن الفكر حصن حصين وهبه الله تعالى للإنسان , فلا يستطيع البشر مهما أوتوا من قوة أن يطلعوا على أسراره وخفاياه , ولا أن يهيمنوا عليه فيغيروا من معتقده .
إن الطغاة الجبابرة يستطيعون أن يفعلوا في أجساد المؤمنين المعذبين ماشاؤوا وأن ينتزعوا من بعضهم مايريدون من اعترافات , ولكنهم لايستطيعون أن يتحكموا في أفكارهم , وهذا من أبرز علامات الفشل والعجز , لأن تغيير الأفكار هو المقصود الأول من وراء ذلك التعذيب .
--------------------------
([1] ) يعني لنخطئن رأيك .(/3)
([2] ) السيرة النبوية لابن هشام 1/328 .
([3] ) صحيح البخاري التفسير , سورة مريم /3 رقم 4732 وتكملة الآيات : (أَاطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78)كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (79)وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا) (80) سورة مريم مريم / 77 – 80 .
([4] ) فتح الباري 8/430 .
([5] ) في ظلال القرآن 2/452 , سورة النساء /77 .
([6] ) سيرة ابن هشام 1/328 .
([7] ) في تفسير الطبري "باراهم" وأثبت مافي تفسير ابن كثير المنقول من الطبري لأنه هو الموافق لسياق الخبر – تفسير ابن كثير 2/637 .
([8] ) تفسير الطبري 14/182 .(/4)
مواقف من صبر الصحابة على الأذى (1)
لقد كانت مواجهة زعماء قريش لدعوة الإسلام عنيفة متواصلة . ولقد ساءهم كثيرًا أن دخل في الإسلام عدد من أشرافهم وأبنائهم , فحاولوا فتنتهم بالتأليف أولاً حيث أغروهم بالأموال والجاه إذا هم تركوا دينهم , فلم ينجحوا معهم في ذلك فلجؤوا إلى محاولة حرمانهم من الأموال والمتاع فلم يثنهم ذلك عن عزمهم على التمسك بدينهم الحنيف .
عند ذلك تحول الكفار إلى فتنة التخويف حيث قاموا بإيذاء المسلمين وتعذيبهم , وقد يبدؤون بفتنة الترهيب قبل المرور بفتنة الترغيب لإدراكهم بأن المسلمين ليسوا طلاب دنيا وأن أي محاولة في ترغيبهم ستبوء بالفشل , أو انطلاقًا من شدة حنقهم على الإسلام ودعاته .
وقد مر بهذه الفتنة أكثر المسلمين سواء في ذلك الأغنياء والفقراء والأحرار والعبيد.
ومن أمثلة ذلك ماذكره ابن سعد من رواية محمد بن عمر الواقدي بإسناده إلى إبراهيم بن محمد بن أبي طلحة قال : قال طلحة بن عبيد الله : حضرت سوق بصرى فإذا راهب في صومعته يقول : سلوا أهل الموسم أفيهم رجل من أهل الحرم ؟ قال طلحة : قلت : نعم أنا . فقال : هل ظهر أحمد بعد ؟ قلت ومن أحمد ؟ قال : ابن عبد الله بن عبد المطلب , هذا شهره الذي يخرج فيه, وهو آخر الأنبياء ومخرجه من الحرم , ومهاجره إلى نخل وحرة وسباخ فإياك أن تسبق إليه.
قال طلحة : فوقع في قلبي ما قال , فخرجت سريعًا حتى قدمت مكة , فقلت: هل كان من حدث ؟ قالوا نعم محمد بن عبد الله الأمين قد تنبأ , وقد اتبعه ابن أبي قحافة , قال: فخرجت حتى دخلت على أبي بكر فقلت : أتَبعت هذا الرجل ؟ قال : نعم فانطلق إليه فاتبعه فإنه يدعو إلى الحق, فأخبره طلحة بما قال الراهب , فخرج أبو بكر بطلحة فدخل به على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم طلحة , وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال الراهب فَسُرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك , فلما أسلم أبو بكر وطلحة أخذهما نوفل بن خويلد بن العدوية فشدهما في حبل واحد , ولم يمنعهما بنو تيم , وكان نوفل بن خويلد يُدْعَى أسد قريش فلذلك سُمِّي أبو بكر وطلحة القرينين .
ورواه الحاكم والبيهقي من طريق الواقدي بهذا الإسناد .
وذكره ابن كثير والذهبي من هذا الطريق , وسكت هؤلاء الأئمة عنه ([1]) .
وهذه الرواية من طريق الواقدي وقد حكم علماء الحديث عليه بالترك ولكن العلماء اعتمدوا رواياته في السيرة والمغازي , ويكفي إقرار هؤلاء الأئمة : ابن سعد والحاكم والبيهقي وابن كثير والذهبي لهذه الرواية .
ومن ذلك ماجرى للزبير بن العوام رضي الله عنه من تعذيب عمه له كما أخرج الحاكم عن أبي الأسود عن عروة قال : أسلم الزبير بن العوام وهو ابن ثمان سنين وهاجر وهو ابن ثمان عشرة سنة وكان عم الزبير يعلق الزبير في حصير ويدخن عليه بالنار ويقول : ارجع إلى الكفر فيقول الزبير: لا أكفر أبدًا .
وسكت عنه الحاكم والذهبي ([2]) .
وقال الهيثمي : رواه الطبراني ورجاله ثقات إلا أنه مرسل ([3]) .
وكذلك ماجرى لعثمان بن عفان من تعذيب عمه له كما أخرج ابن سعد بإسناده عن محمد بن إبراهيم بن حارث التيمي عن أبيه قال : لما أسلم عثمان بن عفان أخذه عمه الحَكَم بن أبي العاص بن أمية فأوثقه رباطًا وقال : أترغب عن ملة آبائك إلى دين محدث ؟ والله لا أحلك أبدًا حتى تدع ماأنت عليه من هذا الدين , فقال عثمان : والله لا أدعه أبدًا ولا أفارقه , فلما رأى الحكم صلابته في دينه تركه ([4]) .
وهكذا جرى التعذيب والإذلال لهؤلاء الكبراء المعروفين في قبيلة قريش من أصحاب النسب الرفيع , ولم يردوا على قومهم الذين آذوهم لأنهم كانوا في المرحلة الأولى التي أمرهم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصبر على الأذى وعدم رد الاعتداء بمثله .
ومن أمثلة الثبات على الدين رغم التعرض للمحن ماجرى لسعد ابن أبي وقاص رضي الله عنه مع أمه , وذلك فيما أخرجه أبو يعلى والطبراني وابن مردويه وابن عساكر عن أبي عثمان النهدي قال : إن سعد بن أبي وقاص قال : نزلت في هذه الآية
(وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) [لقمان :15]
كنت رجلاً برًّا بأمي فلما أسلمت قالت : ياسعد ماهذا الذي أراك قد أحدثت ؟ لَتَدعنَّ دينك هذا أو لا آكل ولا أشرب حتى أموت فتعيَّر بي فيقال ياقاتل أمه , قلت : يا أُمَّه لاتفعلي فإني لا أدع ديني هذا لشيء , فمكثت يومًا وليلة لاتأكل , فأصبحت قد جهدت,فمكثت يومًا آخر وليلة قد اشتد جهدها, فلما رأيت ذلك قلت يا أمه تعلمين والله لو كانت لك مائة نفس فخرجت نفسًا نفسًا ماتركت ديني هذا لشيء فإن شئت فكلي وإن شئت فلا تأكلي,فلما رأت ذلك أكلت فنزلت هذه الآية([5]).
وأخرجه الإمام مسلم بنحوه ضمن حديث طويل ([6]) .(/1)
وقد ظهر بهذا إيمان سعد القوي حيث ثبت على دينه ولم يخضع لهذا الابتلاء الذي جعله في خيار بين طاعة الله وطاعة أمه , ففضل طاعة الله جل وعلا .
أما المستضعفون منهم كالموالي فإنهم تعرضوا لأذًى شديد متواصل , واتفق زعماء المشركين على الاستمرار في إيذائهم حتى يظفروا بمن يرجع منهم عن دينه فيكون ذلك نصرًا لهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال ابن إسحاق : ثم إنهم عَدَوا على مَنْ أسلم , واتّبع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أصحابه , فوثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين , فجعلوا يحبسونهم ويعذبونهم بالضرب والجوع والعطش, وبرمضاء مكة إذا اشتد الحر , من استضعفوا منهم , يفتنونهم عن دينهم , فمنهم من يفتن من شدة البلاء الذي يصيبه ومنهم من يَصْلُبُ لهم , ويعصمه الله منهم .
وكان بلال , مولى أبي بكر رضي الله عنهما , لبعض بني جمح , مُولَّدا من مولديهم , وهو بلال بن رباح , وكان اسمه أُمّه حمامة , وكان صادق الإسلام , طاهر القلب , وكان أمية بن خلف بن وهب بن حذافة بن جُمَح يخرجه إذا حَميت الظهيرة , فيطرحه على ظهره في بطحاء مكة ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره , ثم يقول له : لا والله لاتزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد , وتعبد اللات والعزى , فيقول وهو في ذلك البلاء : أحَد أحَد ([7]) .
وأخرج الإمام أحمد والحاكم خبر تعذيب بلال وغيره من المستضعفين , وقال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه وأقره الذهبي . وكذلك صححه الذهبي في تاريخ الإسلام ([8]) .
وقد ذكر ابن إسحاق رحمه الله أن أبا بكر مرَّ به وهو يعذب فاشتراه من أمية بن خلف الجمحي ثم أعتقه لوجه الله تعالى , وذكر أنه أعتق ستة آخرين من المعذبين وهم : عامر بن فهيرة, وأم عبيس , وزنِّيرة , والنهدية وابنتها وجارية بني مؤمِّل ([9]) .
وأخرج الإمام البيهقي بإسناده عن يونس بن بكير عن هشام بن عروة عن أبيه : أن أبا بكر أعتق ممن كان يُعذَّب في الله سبعة , فذكر منهم "الزِّنِّيرة" قال : فذهب بصرها وكانت ممن يعذب في الله على الإسلام , فتأبى إلا الإسلام , فقال المشركون : ما أصاب بصرها إلا اللات والعزى, فقالت : كلا والله ماهو كذلك , فرد الله عليها بصرها ([10]) .
وفي هذا الخبر دلالة على قوة إيمان الصحابة ووضوح عقيدة التوحيد عندهم وأن ذلك كان حتى على مستوى العامة منهم .
وإن ما أكرم الله تعالى به تلك المرأة المؤمنة من رد بصرها إليها يُعدُّ إرغامًا للكافرين حيث كانوا يعتقدون أن أصنامهم تضر وتنفع من دون الله تعالى .
وهكذا كان أبو بكر ينفق ماله لإنقاذ المسلمين المستضعفين من أيدي الكافرين الطغاة ابتغاء رضوان الله تعالى والدار الآخرة .
وقد أثنى الله تعالى على هذا العمل الصالح بآيات من سورة (الليل) وذلك كما أخرج الحاكم من طريق ابن إسحاق قال حدثني محمد بن عبد الله بن أبي عتيق عن عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه قال : قال أبو قحافة لأبي بكر : أراك تعتق رقابًا ضعافًا فلو أنك إذ فعلت مافعلت أعتقت رجالاً جُلْدًا يمنعونك ويقومون دونك , فقال أبو بكر : يا أبت إني إنما أريد ما أريد: لِمَا نزلت هذه الآيات فيه
(فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى (5)وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6)فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7)وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8)وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9)فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10)وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (11)إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12)وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى (13)فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14)
لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15)الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16)وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17)الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18)وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى (19)إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20)وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21) [الليل:5-21] .
قال الحاكم : هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ([11]) .
وذكره السيوطي ونسبه إلى ابن جرير وابن عساكر عن عامر بن عبد الله بن الزبير وذكر نحوه وقال فيه : فحدثني بعض أهل بيتي أن هذه الآية نزلت فيه (فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى...) الآيات ([12]) .(/2)
وفي هذه المحاورة بين أبي بكر وأبيه ندرك لونًا من ألوان الفرق بين نظرة أهل الجاهلية ونظرة المسلمين بالنسبة لوجوه إنفاق المال وبذل المعروف , فوالد أبي بكر ينظر إلى مستقبل الحياة الدنيا فيشير على ولده بأن يضع المعروف فيمن يستطيعون نفعه في مستقبل حياته , وهذا مبلغ علمه, فهو لايؤمن بالآخرة , وبالتالي فإنه لايتصور معروفًا يُبذل في الدنيا لَيجني باذله نفعه في الآخرة , ولهذا فإن بذل المعروف في ضعاف الناس الذين لايرجو نفعهم في الدنيا يعدُّ في نظره ونظر أهل الجاهلية من ضعف الرأي وضآلة التفكير , بينما يجيبه أبو بكر بقوله :"يا أبت إنما أريد ماأريد" فإذا كان أهل الجاهلية يريدون قبض ثمن معروفهم في الدنيا فإنه لايريد ذلك , وإنما يريده في الحياة الآخرة طلبًا لرضوان الله تعالى والدرجات العُلَى في الجنة .
وحينما يُحشر الخلائق يوم القيامة وتوزن الأعمال ويكون الحساب يذكر العاملون للدنيا فقط أنهم قد خسروا كل شيء , ويوقنون بأن الذين عملوا للآخرة كانوا أكمل عقلاً وأسد رأيًا منهم .
وإنه ليشبه عمل هؤلاء الذين يعملون لدنيا هم مايقوم به بعض المسؤولين من المسلمين الذين يقدمون المعروف لكبار الناس ممن يرجون نفعهم في الحياة الدنيا ولايريدون ببذل المعروف وجه الله تعالى والدار الآخرة . بينما يقبضون معروفهم عن ضعفاء الناس الذين لايرجون منهم نفعًا دنيويًّا , وإن كان هؤلاء يختلفون عن أهل الجاهلية بكونهم مسلمين ولهم أعمال صالحة أخرى .
إن الذي ينظر في بذل المعروف إلى الكسب الأخروي لايفرق في ذلك بين كبراء الناس وضعفائهم , ولا بين أصحاب المسؤولية ومن هم خلْوٌ منها لأنه لاينتظر منهم وهو يبذل لهم المعروف أن يبادلوه بمثله وإنما ينتظر الأجر والرفعة في الآخرة , وذلك هو الفلاح الأكبر .
ومما ينبغي التنبيه إليه أن والد أبي بكر قد أسلم يوم فتح مكة رضي الله عنهما .
وممن تعرض للأذى عمار بن ياسر وأبوه وأمه رضي الله عنهم .
قال ابن إسحاق رحمه الله : وكانت بنو مخزوم يخرجون بعمار بن ياسر وأبيه وأمه – وكانوا أهل بيت إسلام – إذا حميت الظهيرة يعذبونهم برمضاء مكة , فيمر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول – فيما بلغني – صبرًا آل ياسر موعدكم الجنة , فأما أمه فقتلوها وهي تأبى إلا الإسلام ([13]) .
وأخرجه الحاكم وقال : صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه وأقره الذهبي ([14]) .
وذكره الهيثمي وقال : رواه الطبراني ورجاله ثقات ([15]) .
وقد بقيت آثار التعذيب على ظهر عمار بعد ذلك كما روى ابن سعد عن محمد بن كعب القرظي قال : أخبرني من رأى عمار بن ياسر متجردًا في سراويل , قال : ونظرت إلى ظهره فإذا فيه حَبَط فقلت : ما هذا ؟ قال: هذا ماكانت قريش تعذبني في رمضاء مكة ([16]) .
وممن تعرضوا للأذى خباب بن الأرَتّ رضي الله عنه , ومن ألوان هذا العذاب ما أخرجه أبو نعيم عن الشعبي قال : سأل عمر خبابًا عما لقي من المشركين , فقال خباب : يا أمير المؤمنين انظر إلى ظهري , فقال عمر : مارأيت كاليوم , قال : أوقدوا لي نارًا فما أطفأها إلا ودك ظهري([17]) .
وأخرجه ابن ماجه من حديث أبي ليلى الكندي قال : جاء خباب إلى عمر فقال: ادْنُ فما أحد أحق بهذا المجلس منك إلا عمار , فجعل خباب يريه آثارًا بظهره مما عذبه المشركون .
قال البوصيري في الزوائد : إسناده صحيح ([18]) .
وإنما ذكر عمر عمارًا لاشتراكه مع خباب في التعذيب , والرواية الأولى تبين أن خبابًا أظهر آثار التعذيب بعدما سأله أمير المؤمنين عمر عن ذلك رضي الله عنهم أجمعين .
وأخرج الإمام البخاري بسنده عن خباب بن الأرت قال : شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد ببردة له في ظل الكعبة , فقلنا : ألا تستنصر لنا , ألا تدعو لنا ؟ فقال: قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها فَيُجَاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ويمشط بأمشاط الحديد من دون لحمه وعظمه فما يصده ذلك عن دينه , والله لَيتمَّنَّ هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضْرَمَوت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون ([19]) .
ومن هذه النماذج العالية نعرف كيف كان الصحابة رضي الله عنهم يضحون بأنفسهم في سبيل هذا الدين ويتحملون أنواع الأذى في سبيل إظهار دعوتهم , حتى ضربوا بذلك أروع الأمثلة لمن جاء بعدهم في الصبر والتضحية , وتقديم مصلحة الدعوة الإسلامية على المصالح الذاتية .(/3)
وفي قوله صلى الله عليه وسلم : " صبرًا آل ياسر موعدكم الجنة " تحديد للهدف العالي الذي يجب أن يسعى له كل مسلم , فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يَعدْهم بقصور الدنيا وبساتينها ونعيمها مع ماكان يعلمه بوحي من الله تعالى من غلبة هذا الدين وانتصار المسلمين على أمم الأرض في المستقبل , لأن هذا ليس هو الهدف السامي الذي شرع الله الإسلام من أجله إنما الهدف السامي هو الذي أثنى الله به جل وعلا على صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله :(يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا) [الفتح :من 29] وهو ماوُعد به آل ياسر في هذا الحديث لأن المراد بالفضل في الآية الجنة .
إنه لو كان الوعد بمتاع الحياة الدنيا الزائل لما هانت على هؤلاء أنفسهم لأن هذا الهدف يستدعي استبقاءهم لأنفسهم حتى يظفروا به , ولما وُجد الشهداء في سبيل الله تعالى إلا قليلاً ولما حصل النصر والتمكين في الأرض للمسلمين .
إن الإسلام يشد المسلمين إلى الآخرة لتهون عليهم الحياة الدنيا , فإذا عرفوا هذا الهدف وطبقوه انتصروا على أعدائهم لأن وصولهم إلى هذا الهدف يستدعي تسابقهم إلى الموت في سبيل الله تعالى , أما أعداؤهم فإن أهدافهم دنيوية قريبة وإن الوصول إليها يستدعي تنافسهم على البقاء, والمنطق الطبيعي في ذلك أن يحاول كل واحد منهم أن يدرأ الخطر عن نفسه ويتقي بغيره , بينما المنطق الطبيعي بالنسبة للمسلمين الذين يعون الهدف السامي أن يفدي كل واحد منهم إخوانه بنفسه ليسبقهم على الوصول إلى الهدف .
ومن هنا كان المسلمون الحقيقيون المدركون لأهداف دينهم المطبقون لمناهجه لايمكن أن يُغلبوا بشكل نهائي وإنما قد يصابون بانتكاسات مؤقتة بسبب أخطاء يرتكبونها ثم يعودون لمحاولة بلوغ الأهداف السامية , كما هو الحال في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
________________________
(1) طبقات ابن سعد 3/214 , المستدرك 3/369 , دلائل النبوة للبيهقي 2/166 , البداية والنهاية 3/28 , تاريخ الإسلام / السيرة / 139 .
(2) المستدرك 3/359 – 360 .
(3) مجمع الزوائد 9/151 .
(4) طبقات ابن سعد 3/55 .
(5)الدر المنثور 5/165 .
(6) صحيح مسلم , فضائل الصحابة 1877 رقم 1748 .
(7)سيرة ابن هشام 1/324 – 325 .
(8) مسند أحمد 1/404 , المستدرك 3/284 , تاريخ الإسلام / السيرة / 217 .
(9) سيرة ابن هشام 1/329 – 326 .
(10)دلائل النبوة للبيهقي 2/282 .
(11) المستدرك 2/525 .
(12) الدر المنثور 6/358 .
(13)سيرة ابن هشام 1/327 .
(14) المستدرك 3/388 .
(15) مجمع الزوائد 9/293 .
(16) سبل الهدى والرشاد 2/360 .
(17) الحلية 1/143 – 144 .
(18) سنن ابن ماجه / المقدمة رقم 153 .
(19)صحيح البخاري رقم 6943 (الفتح 12/315 ) .(/4)
مواقيت الصلاة من خلال قوله تعالى أقم الصلاة لدلوك الشمس.."
علي بن عبد الرحمن العويشز 27/6/1426
02/08/2005
المقدمة:
الحمد لله أحق حمداً وأوفاه، والصلاة والسلام على محمد بن عبد الله خير خلقه ومصطفاه، وعلى آله وصحبه وسلك طريقه، واتبع سنته، واهتدى بهداه إلى يوم نلقاه.
أما بعد:
فإن كتاب الله تبارك وتعالى هو أصل العلوم وأُسها، فما من علم ٍنافعٍ في الدنيا و الآخرة إلا وفي القرآن تقرير له أو تبيينه.
ومن ذلك علم الفقه، فيعرض القرآن للحكم الشرعي ويقرره بأبلغ عبارة وأروعها، وأوجز أسلوب وأبدعه، مع التذكير بالله وصفاته، وباليوم الآخر وأحواله وأهواله حتى يكون المتلقي أسرع استجابة، وأقرب أوبة.
لذلك حُقَّ لطالبِ العلم ِأن يعتنيَ بآيات الأحكام، ويدرسها، ويتفقها فيها، ليتلقى العلم والإيمان من الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.
وفي هذا البحث المتواضع أعرض لتفسير آية من آيات الأحكام التي تبيين المواقيت الزمانية لأعظم عبادة عملية شرعها رب الأرباب وملك الملوك جلَّ في علاه وتقدس.
أبين مواقيت الصلاة من خلال تفسيري لآية الإسراء: "أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهوداً".
وفي هذا البحث المختصر سأعرض لتأويل هذه الآية، وأقوال أئمة التفسير فيها، مع تبيين مواقيت الصلوات الخمس المفروضة.
لذا فقد جعلت بحثي على طريقة المسائل. وهي على النحو التالي:
1) المسألة الأولى:مناسة الآية لما قبلها.
2) المسألة الثانية: الأمر بإقامة الصلاة.
3) المسألة الثالثة:المراد بدلوك الشمس.
4) المسألة الرابعة: المراد بغسق الليل.
5) المسألة الخامسة: قرآن الفجر.
6) المسألة السادسة: شهود قرآن الفجر.
7) المسألة السابعة:دلالة الآية على أوقات الصلاة.
8) المسألة الثامنة:تحرير مواقيت الصلاة.
والله المسئول أن يوفقنا للعلم النافع، والعمل الصالح، وأن يجزي شيخنا الدكتور صالح الناصر خير الجراء و أجزله وأوفاه، على ما بذله في تعليمنا وإرشادنا.
والله المستعان وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله و صحبه أجمعين.
تمهيد:
إن منزلة الصلاة في دين الإسلام منزلة عظيمة ورتبتها رتبة خطيرة، فهي عمود الإسلام، وركنه الفاصل بين الكفر والإيمان، كما أنها من ناحية أُخرى مَفْزَعٌ و ملجاٌ و طمأنينة لمن حزبه أمر أو حل به كرب أو أراد أن يرتاح من هموم الدنيا ونكدها.
ولقد بلغ من شأن الصلاة أنها أول ما يحاسب عليه العبد فإن صلحت صلح سائر عمله، وإن فسدت فسد سائر عمله.
ومن صور اعتناء الله بالصلاة أنه فرضها في أعلى مكانٍ وصل إليه بشر، فرضها في السماء بخلاف بقية الفرائض فقد فرضت في الأرض، وكذلك فإنها فرضت أول ما فرضت خمسين صلاة، ثم خففت فأصبحت خمس صلوات في الأداء لا في الثواب، وكذلك فإن تاركها تهاوناً و كسلاً كافرٌ بالله العظيم، بل قد قال بعض السلف: " من أراد أن يعرف قدر الدين في قلبه، فلينظر إلى قدر الصلاة في قلبه".
وقال الإمام أحمد: " فكل مستخف بالصلاة، مستهين بها، فهو مستخف بالإسلام مستهين به، وإنما حظهم من الإسلام على قدر حظهم من الصلاة، ورغبتهم في الإسلام على قدر رغبتهم في الصلاة، فاعرف يا عبد الله، واحذر أن تلقى الله ولا قدر للإسلام عندك، فإن قدر الإسلام في قلبك، كقدر الصلاة في قلبك".
قال محمد بن نصر المروزي(1): ( أول فريضة بعد الإخلاص بالعبادة لله الصلاة، فجعل أول فريضة نصها بالتسمية بعد الإخلاص بالعبادة لله الصلاة، وقال عز وجل : "فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم"، وقال تعالى: "فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين".
ونظير ذلك جاءت الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم، وساق رحمه الله جملة من الأخبار بسنده منها حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله،وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإن فعلوا ذلك عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله)(2)وغيره.
ولقد عظّم الله جل وعلا شأن أوقات الصلاة، كما قال تعالى: "إنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى المُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً"(3)؛ ولذا: فإن العاجز عن فعل بعض شروط الصلاة وواجباتها كالطهارة، واستقبال القبلة، وستر العورة، والقيام، والركوع: فإنه يصلي في الوقت على أي حال يستطيعه ولو أمكنه فعلها بعد الوقت بتمام الشروط والواجبات. وكذا الأمر في صلاة الخوف، بل حتى في حال القتال و المطاحنة فإنهم يصلون إيماءً مع إمكانهم أن يصلوها تامةً بعد خروج الوقت ؛ كل ذلك محافظة على وقت الصلاة(4) .(/1)
ومن الآيات التي بيّن الله جلّ ذكره فيها مواقيت الصلاة قوله تعالى في سورة الإسراء : "أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهوداً" (78).
وفيها مسائل:
المسألة الأولى: مناسبة الآية لما قبلها:
لا شك أن الترتيب التوقيفي للآيات القرآنية بحد ذاته علم عظيم من علوم هذا الكتاب العزيز، وضرب من ضروب العظمة التي حيرت العقول، وأخذت بمجامع الألباب(5)
ومن هذه الآيات التي تبدو لأول وهلة أن لا صلة لها بين جاراتها قوله تعالى: "أقم الصلاة لدلوك الشمس."، وذلك أن الآيات قبلها تتحدث عن وحدانية الله عز وجل، وتقرير البعث والنشور، وامتنانه على خلقه جل في علاه بهذه النعم التي يسوقها للعباد، وتخويفه سبحانه لهم من سخطه وأليم عقابه، وأن الله تعالى ثبت ونصر عبده ونبيه محمد –صلى الله عليه وسلم- من كيد الكفار المحاربين له والشانئين لدعوته ودينه، وبيّن سبحانه أن هذه سنة سنها الله عز وجل في نصر عباده المؤمنين على أعدائهم، بعد ذلك أمره بإقامة الصلاة.
فما العلاقة والمناسبة بين إقامة الصلاة وما قبلها من قضايا ؟
يوضح لنا الإمام البقاعي -رحمه الله – ذلك قائلاً:
" ولما قرر أمر أصول الدين بالوحدانية ، والقدرة على المعاد، وقرر أمرهم أحسن تقرير، واستعطفهم بنعمه ، وخوفهم من نقمه، وقرر أنه سبحانه عصمه عليه الصلاة والسلام من فتنتهم بالسراء والضراء بما أنار به من بصيرته، وأحسن من علانيته وسريرته ، صار من المعلوم أنه قد تفرغ للعبادة، وتهيأ للمراقبة، فبدأ بأشرفها فوصل بذلك قوله تعالى "أقم" أي حقيقة بالفعل، ومجازاً بالعزم عليه."الصلاة" بفعل جميع شرائطها و أركانها ومبادئها وغاياتها، بحيث تصير كأنها قائمة بنفسها، فإنها لب العبادة بما فيها من خالص المناجاة.. "(6) .
وكذلك نجد الإمام أبي عبد الله القرطبي رحمه الله تعالى يشير إلى شيءٍ من ذلك بقوله:" لما ذكر مكايد المشركين أمر نبيه عليه السلام بالصبر والمحافظة على الصلاة وفيها طلب النصر على الأعداء ومثله: "ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين"(7) .
أقول: بهذين النقلين يمكن معرفة طرفاً من مناسبة الآية لما قبلها من الآيات.والله أعلم وأحكم.
المسألة الثانية: الأمر بإقامة الصلاة:
لم تأتي آية واحدة تأمر بمجرد أداء الصلاة، وإنما الأوامر الربانية تأتي بإقامة هذه الشعيرة العظيمة من شعائر ديننا الإسلامي.
قيقول الله تبارك وتعالى: "وأقم الصلاة لذكري"(8). وقوله جل ذكره: "وأن أقيموا الصلاة واتقوه وهو الذي إليه تحشرون"(9). وغيرها من الآيات.
إنَّ هذا الأمر يدل على عناية الله سبحانه بهذه الصلاة، وعظم قدرها عنده جل وعلا، وأن المسلم لا يطالب بفعل هذه الصلاة كيفما اتفق، وإنما المطلوب من المسلم أن يقيمها حق القيام فيصلي الصلاة الشرعية بشروطها، وأركانها، وواجباتها، وخشوعها، ومستحباتها، وبروحها، حتى يكون لها الأثر في حياته وسلوكه واستقامته على أمر الله عز وجل.قال الله عز من قائل: "إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر"(10) فالصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر الصلاة الشرعية التي جمع فيها المصلي قلبه على الله، وينطرح بين يديه، ويقبل عليه بكليته. وإلا فنحن نرى كثيراً من المصلين يقعون في الفواحش والمنكرات، بله الموبقات، والسبب –والعلم عند الله – أن صلاة كثير من الناس لا روح فيها ولا خشوع
عن ضمرة بن حبيب أن رسول الله صلى عليه وسلم قال:
( إن أول شئ يرفع من هذه الأمة الأمانة والخشوع حتى لا تكاد ترى خاشعا)(11).
والله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
المسألة الثالثة:المراد بدلوك الشمس:
أصل الدلوك من الميل والشمس تميل إذا زالت أو غربت وقيل من الدلك والإنسان عند الزوال يدلك عينيه لشدة ضوء (12).
قال ابن عطية:
"الدلوك هو الميل في اللغة فأول الدلوك هو الزوال وآخره هو الغروب ومن وقت الزوال إلى الغروب يسمى دلوكا لأنها في حالة ميل فذكر الله تعالى الصلوات التي تكون في حالة الدلوك"(13).
وللعلماء في الدلوك قولان:
أحدهما: أنه زوال الشمس عن كبد السماء قاله عمر وابنه وأبو هريرة وبن عباس وطائفة سواهم من علماء التابعين وغيرهم.
الثاني: أن الدلوك هو الغروب قاله علي وبن مسعود وأبي بن كعب وروي عن بن عباس قال الماوردي: "من جعل الدلوك اسما لغروبها فلأن الإنسان يدلك عينيه براحته لتبينها حالة المغيب ومن جعله اسما لزوالها فلأنه يدلك عينيه لشدة شعاعها".
وقال أبو عبيد: "دلوكها غروبها ودلكت براح يعني الشمس أي غابت ".وأنشد قطرب : هذا مقام قدمى رباح ذبب حتى دلكت براح براح. بفتح الباء على وزن حزام وقطام ورقاس اسم من أسماء الشمس ورواه الفراء بكسر الباء وهو جمع راحة وهي الكف أي غابت وهو ينظر إليها وقد جعل كفه على حاجبه.
قال تقي الدين ابن تيمية –رحمه الله-:(/2)
"وليس هذا من استعمال اللفظ المشترك في معينه كليهما، أو استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه، بل هذا استعماله في حقيقته المتضمنة للأمرين جميعاً، فتأمله فإنه موضوع عظيم النفع وقل ما يفطن له.
وأكثر آيات القرآن دالة على معنيين فصاعدا فهي من هذا القبيل مثال ذلك قوله تعالى أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل فسر الدلوك بالزوال وفسر بالغروب وليس بقولين بل اللفظ يتناولهما معا فإن الدلوك هو الميل ودلوك الشمس ميلها
ولهذا الميل مبتدأ ومنتهى فمبتداه الزوال ومنتهاه الغروب واللفظ متناول لهما بهذا الاعتبار"(14).
ولهذا الاختلاف في تفسير الدلوك ذهب قوم إلى أن صلاة الظهر يتمادى وقتها من الزوال إلى الغروب لأن الله سبحانه علق وجوبها على الدلوك وهذا دلوك كله قاله الأوزاعي وأبو حنيفة في تفصيل وأشار إليه مالك والشافعي في حالة الضرورة(15).وسيأتي الكلام على تحديد أوقات الصلاة في المسألة الثامنة –إن شاء الله تعالى-.
المسألة الرابعة: المراد بغسق الليل:
روى مالك عن ابن عباس قال: " وغسق الليل اجتماع الليل وظلمته".
وقال أبو عبيدة : "الغسق سواد الليل".
قال ابن قيس الرقيات:
إن هذا الليل قد غسقا واشتكيت الهم والأرقا
وقد قيل: غسق الليل مغيب الشفق.وقيل: إقبال ظلمته.
قال زهير:
ظلت تجود يداها وهي لاهية حتى إذا جنح الإظلام والغسق
يقال غسق الليل غسوقا والغسق اسم بفتح السين وأصل الكلمة من السيلان يقال غسقت العين إذا سالت تغسق وغسق الجرح غسقانا أي سال منه ماء أصفر وأغسق المؤذن أي أخر المغرب إلى غسق الليل وحكى الفراء غسق الليل وأغسق وظلم وأظلم ودجا وأدجى وغبس وأغبس وغبش وأغبش وكان الربيع بن خثيم يقول لمؤذنه في يوم غيم أغسق أغسق يقول أخر المغرب حتى يغسق الليل وهو إظلامه الثالثة.
لذا فقد اختلف العلماء في آخر وقت المغرب.
فقيل وقتها وقت واحد لا وقت لها إلا حين تحجب الشمس وذلك بين في إمامة جبريل فإنه صلاها باليومين لوقت واحد.
وقيل:من غروبها إلى غياب الشفق.وسيأتي –إن شاء الله -.
المسألة الخامسة: قرآن الفجر:
انتصب قرآن من وجهين:
أحدهما: أن يكون معطوفاً على الصلاة، ويكون المعنى وأقم قرآن الفجر أي صلاة الصبح، قاله الفراء.
وقال أهل البصرة: انتصب على الإغراء. أي: فعليك بقرآن الفجر، قاله الزجاج.
"وعبر عنها بالقرآن خاصة دون غيرها من الصلوات لأن القرآن هو أعظمها إذ قراءتها طويلة مجهور بها حسبما هو مشهور مسطور(16).
قال أبو محمد البغوي -رحمه الله – في تفسير قرآن الفجر:
"يعني صلاة الفجر سمي صلاة الفجر قرآنا لأنها لا تجوز إلا بقرآن"(17)
المسألة السادسة: شهود قرآن الفجر:
قال ابن كثير -رحمه الله- (18):
"عن عبد الله بن مسعود عن أبي هريرة رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا قال تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار.
وأسند البخاري إلى أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"فضل صلاة الجميع على صلاة الواحد خمس وعشرون درجة وتجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الفجر"
يقول أبو هريرة أقرؤا إن شئتم وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا. و عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا قال تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار ورواه الترمذي والنسائي وابن ماجه وقال الترمذي حسن صحيح وفي لفظ في الصحيحين من طريق مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:( يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ويجتمعون في صلاة الصبح وفي صلاة العصر فيعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم ربهم وهو أعلم بكم كيف تركتم عبادي فيقولون أتيناهم وهم يصلون وتركناهم وهم يصلون)
وقال عبد الله بن مسعود:" يجتمع الحرسان في صلاة الفجر فيصعد هؤلاء ويقيم هؤلاء"
وكذا قال إبراهيم النخعي ومجاهد وقتادة وغير واحد في تفسير هذه الآية "
المسألة السابعة: دلالة الآية على أوقات الصلاة.
قال القرطبي –رحمه الله -:
"وهذه الآية بإجماع من المفسرين إشارة إلى الصلوات المفروضة"(19) .
قال الكلبي -رحمه الله -في التسهيل:
"هذه الآية إشارة إلى الصلوات المفروضة فدلوك الشمس زوالها والإشارة إلى الظهر والعصر وغسق الليل ظلمته وذلك إشارة إلى المغرب والعشاء وقرآن الفجر صلاة الصبح"(20) .
وقال ابن سعدي –رحمه الله-:
" ففي هذه الآية ذكر الأوقات الخمسة للصلوات المكتوبات "(21).
المسألة الثامنة:تحرير مواقيت الصلاة:
قال ابن قدامة:
أجمع المسلمون على أن الصلوات الخمس مؤقتة بمواقيت معلومة محدودة، وقد ورد في ذلك أحاديث صحاح جياد، نذكر أكثرها في مواضعها إن شاء الله تعالى(22).
والعمدة في هذا الباب عند أهل العلم من القرآن قوله تعالى: "أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل.." الآية وشبيهاتها ومن السنة حديثان هما:(/3)
الأول:حديث عبد الله بن عمرو أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا صليتم الفجر فاته وقت إلى أن يطلع قرن الشمس الأول ثم إذا صليتم الظهر فاته وقت إلى أن يحضر العصر فإذا صليتم العصر فاته وقت إلى أن تصفر الشمس فإذا صليتم المغرب فاته وقت إلى أن يسقط الشفق فإذا صليتم العشاء فاته وقت إلى نصف الليل) وفي لفظ عند مسلم: (وقت الظهر ما لم يحضر العصر ووقت العصر ما لم تصفر الشمس ووقت المغرب ما لم يسقط ثور الشفق ووقت العشاء إلى نصف الليل ووقت الفجر ما لم تطلع الشمس) (23).
والحديث الثاني حديث ابن عباس – رضي الله عنه- أن النبي – صلى الله عليه وسلم- قال: (أمّني جبريل عليه السلام عند البيت مرتين فصلى الظهر في الأولى منهما حين كان الفيء مثل الشراك ثم صلى العصر حين كان كل شيء مثل ظله ثم صلى المغرب حين وجبت الشمس وأفطر الصائم ثم صلى العشاء حين غاب الشفق ثم صلى الفجر حين برق الفجر وحرم الطعام على الصائم وصلى المرة الثانية الظهر حين كان ظل كل شيء مثله لوقت العصر بالأمس ثم صلى العصر حين كان ظل كل شيء مثليه ثم صلى المغرب لوقته الأول ثم صلى العشاء الآخرة حين ذهب ثلث الليل ثم صلى الصبح حين أسفرت الأرض ثم التفت إلي جبريل فقال يا محمد هذا وقت الأنبياء من قبلك والوقت فيما بين هذين الوقتين)(24).
وسأعرض لأوقات الصلاة فيما يلي بشيء من التفصيل فأقول:
وقت صلاة الظهر:
*أجمع أهل العلم على أن دخول وقت الظهر بزوال الشمس عن كبد السماء(25).
*واختلفوا في آخر وقتها على قولين:
القول الأول: أن آخر وقتها إذا صار ظلّ كل شيء مثله سوى ظلّ الزوال، وهوقول مالك والثوري والشافعي والأوزاعي وأبي يوسف ومحمد وأبي ثور وداود.
ودليلهم حديث ابن عباس (رضي الله عنهما) أن جبريل أمّ النبي في يومين، فصلّى الظهر في اليوم الأول حين زالت الشمس، وصلى الظهر في اليوم الثاني حين صار ظلّ كل شيء مثله، ثم قال جبريل: (يا محمد: هذا وقت الأنبياء من قبلك، والوقت فيما بين هذين اليومين)(26).
القول الثاني: أن وقت الظهر إلى أن يصير ظل كل شيء مثليه، وهو قول أبي حنيفة(27).
وسبب الخلاف في ذلك: اختلاف الأحاديث ؛وذلك أنه ورد في إمامة جبريل أنه صلى بالنبي صلى الله عليه وسلم الظهر في اليوم الأول،حين زالت الشمس، وفي اليوم الثاني حين كان ظل كل شيء مثله، ثم قال:" الوقت ما بين هذين " وروي عنه صلى الله عليه وسلم: ( إنما بقاؤكم فيما سلف قبلكم من الأمم،كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس، أوتي أهل التوراة التوراة،فعملوا حتى إذا انتصف النهار ثم عجزوا فأعطوا قيراطا قيراطا، ثم أوتي أهل الإنجيل، فعملوا إلى صلاة العصر، ثم عجزوا فأعطوا قيراطا،ثم أوتينا القرآن فعملنا إلى غروب الشمس، فأعطينا قيراطين قيراطين،فقال أهل الكتاب: أي ربنا أعطيتهم ونحن كنا أكثر عملا قال الله تعالى: هل ظلمتكم من أجركم من شيء قالوا:لا.قال: فهو فضلي أوتيه من أشاء).
فذهب مالك والشافعي إلى حديث إمامة جبريل وذهب أبو حنيفة إلى مفهوم ظاهر هذا وهو أنه إذا كان من العصر إلى الغروب أقصر من أول الظهر إلى العصر على مفهوم هذا الحديث فواجب أن يكون أول العصر أكثر من قامة وأن يكون هذا هو آخر وقت الظهر قال أبو محمد بن حزم: وليس كما ظنوا وقد امتحنت الأمر فوجدت القامة تنتهي من النهار إلى تسع ساعات وكسر. قال القاضي: أنا الشاك في الكسر. وأظنه قال وثلث(28) .
قال ابن عبد البر: خالف أبو حنيفة في قوله هذا الآثار والناس وخالفه أصحابه.
وأولى القولين بالصواب القول الأول. والله تعالى أعلم.
مسألة:
يعرف الزوال بزيادة الظلّ بعد تناهي قصره، وبيان ذلك: أن الشمس إذا طلعت صار لكل شاخص ظلّ طويل من جهة المغرب، ولا يزال الظل يقصر مع ارتفاع الشمس، حتى يتوقف عن النقصان،والشمس في وسط السماء،فإذا بدأ بالزيادة ولو شعرة فهو الزوال.
وإذا أردت ضبط آخر وقت الظهر: فضع علامة عند بداية الزيادة، واحسب مقدار طول الشاخص من عند العلامة لا من الشاخص، والظل الذي يكون بين الشاخص والعلامة هو الذي يسميه الفقهاء بظل الزوال، أو بفيء الزوال ؛ أي: الظل الذي زالت عليه الشمس(29).
وقت صلاة العصر:
*يدخل وقت العصر بخروج وقت الظهر ؛ أي من مصير ظل كل شيء مثله سوى فيء الزوال على القول الصحيح كما تقدم ؛ لحديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما مرفوعاً: (ثم إذا صليتم الظهر فإنه وقت إلى أن يحضر العصر)(30).
*أما آخر وقت العصر ففيه خلاف قوي بين العلماء على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن آخره إذا صار ظلّ كل شيء مثليه سوى فيء الزوال، وما بعده إلى غروب الشمس فوقت ضرورة(31). وهو قول الشافعي،والثوري، وروي عن أحمد.(/4)
القول الثاني: أن آخره إذا اصفرت الشمس، وما بعده إلى غروب الشمس فوقت ضرورة. وهو مذهب المالكية(32)، وقول الإمام أبي ثور،والأوزاعي، وأبي يوسف، ومحمد بن الحسن، ورواية عن الإمام أحمد، وهي أصح عنه(33)، واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية(34)رحمهم الله.
القول الثالث: أن العصر ليس له وقت ضرورة، بل كله وقت جواز إلى غروب الشمس وهو قول أبو حنيفة(35).
والراجح هو القول الثاني والدليل عليه حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما مرفوعاً: (فإذا صليتم العصر: فإنه وقت ما لم تصفر الشمس).
أمّا وقت الضرورة فالدليل عليه مجموع حديثين:
الأول: حديث أبي هريرة رضي الله عنه يرفعه: (ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر) متفق عليه(36).
والثاني: حديث أنس (رضي الله عنه) قال: (سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (تلك صلاة المنافق، يجلس يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني الشيطان، قام فنقرها أربعاً، لا يذكر الله فيها)(37).
فحديث أنس بن مالك رضي الله عنه يدل على أن تأخير العصر إلى قرب غروب الشمس أمر مذموم،وذلك أنه وصف تلك الصلاة التي تصلى في هذا الوقت بصلاة المنافق،لكن من أخرها إليه فصلاته أداء لا قضاء ؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه المتقدم، وهذا هو وقت الضرورة. ويكون حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما محدداً لنهاية وقت الاختيار وبداية وقت الضرورة.
أما حديث ابن عباس (رضي الله عنهما) في إمامة جبريل للنبي، وفيه أنه صلى به العصر في اليوم الأول حين كان ظلّ كل شيء مثله، وصلّى به في اليوم الآخر حين كان ظلّ كل شيء مثليه، وفي آخر الحديث قال جبريل: (يا محمد هذا وقت الأنبياء من قبلك، والوقت فيما بين هذين اليومين) فإنه لا يعارض حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما ؛ لأن حديث عبد الله بن عمرو دلّ على زيادة في وقت العصر فوجب الأخذ بها.
وبهذا الترجيح تجتمع الأدلة ولا تتعارض والله أعلم.
وقت صلاة المغرب:
*أجمع أهل العلم على أن أول وقت المغرب إذا غربت الشمس(38).
*أما آخر وقتها: فاختلف العلماء فيه على قولين:
القول الأول: أنه ينتهي بمغيب الشفق الأحمر، وهو قول الحنابلة، والحنفية، وبعض أصحاب الشافعي، والثوري، وإسحاق، وأبي ثور.
واستدلوا بأدلة منها:
ما أخرجه مسلم من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما مرفوعاً:
(فإذا صليتم المغرب: فإنه وقت إلى أن يسقط الشفق)(39).
عن أبي موسى الأشعري (رضي الله عنهما) عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (أنه أتاه سائل يسأله عن مواقيت الصلاة ثم أمره يعني: بلالاً(40)، فأقام المغرب حين وقعت الشمس ) وفي اليوم الثاني: ( أخّر المغرب حتى كان عند سقوط الشفق) ثم أصبح فدعى السائل: فقال: (الوقت بين هذين)(41).
والمراد بالشفق الوارد في الأحاديث هو الشفق الأحمر لا الأبيض، والأدلة على ذلك كثيرة:
قوله: (ووقت المغرب ما لم يسقط ثور الشفق(42)أخرجه مسلم، والثّوَرَان إنما يطلق على الحمرة دون البياض(43).
قول ابن عمر (رضي الله عنهما): (الشفق: الحمرة)(44).
القول الثاني: أنه ليس لها إلا وقت واحد، عند مغيب الشمس، وهوأشهر الروايات عن مالك(45)، وقول الشافعي.
ودليلهم حديث ابن عباس في إمامة جبريل عليه السلام: وفيه (أنه صلى المغرب في اليومين حين غربت الشمس)(46) .
قال ابن رشد المالكي:
وسبب اختلافهم في ذلك معارضة حديث إمامة جبريل في ذلك لحديث عبد الله بن عمر وذلك أن في حديث إمامة جبريل أنه صلى المغرب في اليومين في وقت واحد وفي حديث عبدالله ووقت صلاة المغرب مالم يغب الشفق فمن رجح حديث إمامة جبريل جعل لها وقتا واحدا ومن رجح حديث عبد الله جعل لها وقتا موسعا وحديث عبد الله خرجه مسلم ولم يخرج الشيخان حديث إمامة جبريل أعني حديث ابن عباس الذي فيه أنه صلى بالنبي عليه الصلاة والسلام عشر صلوات مفسرة الأوقات ثم قال له الوقت ما بين هذين والذي في حديث عبد الله من ذلك هو موجود أيضا في حديث بريدة الأسلمي خرجه مسلم وهو أصل في هذا الباب قالوا وحديث بريدة أولى لأنه كان بالمدينة عند سؤال السائل له عن أوقات الصلوات وحديث جبريل كان في أول الفرض بمكة .(47)
والقول الراجح -والله تعالى أعلم –هو القول الأول لظهور أدلته، أما حديث ابن عباس (رضي الله عنهما) في إمامة جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم، فإنه محمول على تأكيد الاستحباب وكراهية التأخير، جمعاً بينه وبين الحديثين المتقدمين وما في معناهما، وعلى فرض التعارض: فإن حديثيّ ابن عمرو وأبي موسى مقدمان ؛ لأنهما متأخران، فيبينان آخر الأمر بالمدينة(48).
وقت صلاة العشاء:
*أجمع أهل العلم على أن وقت العشاء يبدأ بمغيب الشفق(49)، والمراد بالشفق هو الحمرة على الأرجح من قولي العلماء كما سبقت الإشارة إليه.
*أما آخر وقت العشاء ففيه خلاف قوي:
القول الأول: أن وقت العشاء يمتد إلى طلوع الفجر.
القول الثاني: أن وقت العشاء ينتهي بانتصاف الليل.(/5)
القول الثالث: بالتفصيل ؛ فوقت الاختيار ينتهي بانتصاف الليل، وما بعده فوقت ضرورة إلى طلوع الفجر.
وسبب الخلاف في ذلك: تعارض الاثار ففي حديث إمامة جبريل أنه صلاها بالنبي عليه الصلاة والسلام في اليوم الثاني ثلث الليل وفي حديث أنس أنه قال أخر النبي صلى الله عليه وسلم صلاة العشاء إلى نصف الليل خرجه البخاري وروي أيضا من حديث أبي سعيد الخدري وأبي هريرة عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال لولا أن أشق على أمتي لأخرت العشاء إلى نصف الليل وفي حديث أبي قتادة ليس التفريط في النوم إنما التفريط أن تؤخر الصلاة حتى يدخل وقت الأخرى(50).
والراجح-والعلم عند الله - هو القول الثاني: أنه ينتهي بانتصاف الليل، وليس له وقت ضرورة، وهو قول ابن حزم(51)(رحمه الله) وبعض الشافعية(52) وبعض الحنابلة(53)، واختاره من العلماء المعاصرين الشيخ ابن عثيمين (حفظه الله)(54).
والدليل عليه: حديث عبد الله بن عمرو مرفوعاً: (فإذا صليتم العشاء: فإنه وقت إلى نصف الليل) أخرجه مسلم.
واستدل القائلون بأن ما بعد نصف الليل إلى طلوع الفجر وقت للعشاء إما وقت اختيار، أو وقت ضرورة بحديث أبي قتادة (رضي الله عنه) أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (أما إنه ليس في النوم تفريط، إنما التفريط على من لم يصلِّ حتى يجيء وقت الصلاة الأخرى)(55).
فقالوا: إن هذا الحديث يدل على أن كل وقت متصل بالآخر، وعليه: فإن وقت العشاء لا يخرج إلا بدخول وقت الفجر.
والجواب عن هذا الاستدلال أن يقال: إن حديث أبي قتادة عام مخصوص بغيره، فكما خصّ منه وقت الفجر فإنه غير متصل بالظهر بالإجماع(56)، فكذا يُخَصّ منه أيضاً وقت العشاء بالسنة، كما سبق في حديث عبد الله بن عمرو (رضي الله عنهما) الذي يدل على انتهاء وقت العشاء بانتصاف الليل.
وهنا ثلاثة تنبيهات:
الأول: يتوهم كثير من الناس أن الليل ينتصف عند الساعة الثانية عشرة، وهذا تصور خاطئ، والصواب: أن انتصاف الليل يُعرف بمضي نصف الوقت من غروب الشمس إلى طلوع الفجر، فإذا كانت الشمس تغرب الساعة السادسة، والفجر يطلع الساعة الرابعة، فإن نصف الليل يكون الساعة الحادية عشرة تماماً، وبه يخرج وقت العشاء.
الثاني: يؤخر بعض الناس وخاصّة النساء صلاة العشاء إلى ما قبل النوم، ويكون التأخير في بعض الأحيان إلى ما بعد نصف الليل، وهذا خطأ كبير ينبغي التنبّه له وتحذير الآخرين منه.
الثالث: أن راتبة العشاء وهي ركعتان بعد العشاء يخرج وقتها بانتهاء وقت العشاء، وبعض الناس قد يؤخرها إلى آخر الليل، وحينئذ يكون فعلها قضاءً لا أداءً(57).
وقت صلاة الفجر:
أجمع العلماء على أن وقت الفجر يدخل بطلوع الفجر الثاني(58).
قال ابن قدامة(59): (وهو البياض المستطيل المنتشر في الأفق، ويسمّى الفجر الصادق).
ويخرج وقت الفجر بطلوع الشمس، لدليلين:
الأول: عن عبد الله بن عمرو بن العاص (رضي الله عنهما) أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: (إذا صليتم الفجر فإنه وقت إلى أن يطلع قرن الشمس) أخرجه مسلم.
الثاني: عن أبي هريرة (رضي الله عنه) أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (من أدرك من الصبح ركعةً قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح) متفق عليه.والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد.
الخاتمة:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
وبعد:
فهذا ما يسر الله لي تناوله من هذه الآية العظيمة، وسمح به الوقت، فما كان فيه من صواب فمن الله وحده، وما كان فيه من خطأ فمن نفسي والشيطان والله ورسوله منه بريئان.
والله أعلم وصلى اله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم.
(1) تعظيم قدر الصلاة 1/86
(2) البخاري (25)، ومسلم (22)، وأبو داود (1556)،و الترمذي (2606)،والنسائي (3095)، وابن ماجه (71) وغيرهم.
(3) النساء: 103
(4) انظر: كتاب الصلاة لابن القيم، ص 56 58
(5) لذلك فقد اعتنى علماء التفسير بهذا في كتبهم فتجدهم يذكرون هذا في ثنايا تفسيرهم، بل قد أفرده بعضهم بالتصنيف من أشهر من كتب في هذا هو برهان الدين أبو الحسن إبراهيم بن عمر البقاعي المتوفى سنة (885). وهو المعروف بعلم المناسبات.
(6) نظم الدرر11/491.
(7) أحكام القرآن 10/196.
(8) طه (14)
(9) الأنعام (72).
(10) العنكبوت (45).
(11) أخرجه أحمد 6/26، الزهد لابن المبارك ج1/56. وغيرها.
(12) تفسير السمعاني ج3/ص267
(13) المحرر الوجيز 3/477.
(14) مجموع الفتاوى لابن تيمية 15/11
(15) أحكام القرآن للقرطبي 10/196
(16) راجع القرطبي 10/198.
(17) تفسير البغوي ج3/ص128
(18) تفسير ابن كثير ج3/ص55 بتصرف.
(19) أحكام القرآن للقرطبي 10/196
(20) التسهيل لعلوم التنزيل - الكلبي 2/177.
(21) تفسير السعدي 1/465
(22) المغني 1/224
(23) أخرجه مسلم (611-612)،والبيهقي في الكبرى (1612)وغيرهما.(/6)
(24) أخرجه أحمد (1/333) والترمذي (149) وقال أبو عيسى: وفي الباب عن أبي هريرة وبريدة وأبي موسى وأبي مسعود الأنصاري وأبي سعيد وجابر وعمرو بن حزم والبراء وأنس. وأخرجه الحاكم (1/306)،والبيهقي في الكبرى (1/364)، والطبراني في الكبير (10/309)، والطحاوي في شرح معاني الآثار(1/146)، وابن المنذرفي الأوسط(2/325)وغيرهم. قال ابن حجر: (وفي إسناده عبد الرحمن بن الحارث بن عياش بن أبي ربيعة مختلف فيه لكنه توبع أخرجه عبد الرزاق عن العمري عن عمر بن نافع بن جبير بن مطعم عن أبيه عن بن عباس نحوه قال بن دقيق العيد هي متابعة حسنة وصححه أبو بكر بن العربي وابن عبد البر) .
(25) انظر: الإجماع لابن المنذر، 7.المغني 1/224. قال ابن رشد (اتفقوا على أن أول وقت الظهر الذي لا تجوز قبله هو الزوال إلا خلافا شاذا روي عن ابن عباس) بداية المجتهد 1/67
(26) سبق تخريجه.
(27) المبسوط(1/144-145).
(28) المجتهد 1/67
(29) انظر: المغني لابن قدامة.
(30) تقدم تخريجه.
(31) وقت الضرورة: هو الوقت الذي لا يجوز تأخير الصلاة إليه إلا لعذر، فإن أخرها لغير عذرٍ أثم، ومتى فعلها فيها فهو مدرك لها أداءً في وقتها، سواء أخرها لعذر أو لغير عذر، (انظر: الشرح الكبير، 1/436).
(32) انظر: مواهب الجليل، 1/389.
(33) انظر: المغني، 2/15.
(34) انظر: مجموع الفتاوى، 23/268.
(35) المبسوط (1/145).
(36) البخاري (554)، ومسلم (608).
(37) أخرجه مسلم، 622.
(38) انظر: مراتب الإجماع لابن حزم، ص 31.والمغني 1/230
(39) سبق تخريجه.
(40) أي: المأمور هو بلال مؤذن الرسول.
(41) أخرجه مسلم، ح 614.
(42) ثور الشفق: أي: ثورانه وانتشاره (شرح مسلم للنووي، 5/112).
(43) انظر: المغني، 2/26.
(44) أخرجه عبد الرزاق، ح 2122، وصححه البيهقي وغيره، انظر: السنن الكبرى، 1/373، وبلوغ المرام، ص 44.
(45) بداية المجتهد1/65
(46) سبق تخريجه.
(47) بداية المجتهد 1/69
(48) انظر: شرح مسلم للنووي، 5/111، وإعلام الموقعين، 2/403.
(49) حكاه النووي في المجموع، 3/41.
(50) بداية المجتهد 1/70
(51) انظر: المحلى، 2/198.
(52) انظر: المهذب، 3/39.
(53) انظر: الإنصاف 1/436
(54) انظر: الشرح الممتع، 2/109.
(55) أخرجه مسلم، ح 681.
(56) انظر: كتاب الإجماع لابن المنذر، ص7.
(57) تحديد أوقات الصلاة لعبد الله الإسماعيل.
(58) انظر: الإفصاح، 1/106.
(59) المغني، 2/30.(/7)
مواكب الأحرار
عبد لله
فجر كأنفاس الورود iiنسيمه
قد لاح في الآفاق يذكي iiجذوةً
خاض الدياجي في بحار قد iiبدت
وبوارح هز الجسور iiعويلها
* * ii*
فرس بها من جعبة ما شابها
بل جمع أبرار كآسادٍ غدت
من كل بتار مِكَرّ iiذاكر
ومرابط كالطود أمسى شامخاً
* * ii*
هي ذي الزحوف تتابعت iiأرتالها
هذي جموعك يا شآم قد iiانبرت
ومواكب الأحرار هزَّ iiهديرها
في كل شِعب صلصلت أسيافها
* * ii*
يا موكب الأحرار إني iiتائق
للدعوة السمحاء تحدو iiخطوكم
هذا ندائي والنوائب iiجمَّةٌ
فالجرح ينزف والقيود iiبمعصمي
والقدس ثكلى جلجلت في iiمسمعي
* * ii*
ألفٌ من الأبرار يا قدسي iiغدوا
الله أكبر من مآقي iiتدمر
دقَّتْ صروح الظالمين وما iiانبرت
في مصر.. في الأفغان رجع ندائها
ومآذن الشهباء هبت iiللندا
* * ii*
يا ثورة الإسلام هيا iiحطمي
جرحي سعيرٌ.. والقيود iiخناجرٌ
فتفجري.. وتسعري.. وتأججي
والشعب يزحف والمآذن شعلة
* * ii*
والكل يهتف في غمار iiلهيبها
أنا مسلم في القدس دوَّتْ ثورتي
الله أكبر يالها من ثورة
ويطلُّ فجرٌ كم له من iiعاشق
هو فجر أحمد للدنا iiينبوعها
من عهد أحمد للقيامة iiمشرق ... في بلقع لعواصفٍ iiهوجاء
للنور جوزاً.. فوق ذي iiالجوزاء
موجاً.. خضمّاً ثائر iiالأنواء
وزئيرها لم يخب في الأنحاء
* * ii*
ناب هوى في محفل iiالجبناء
بعرينها دوحاً بذي iiالأشلاء
لله في هجع الورى iiبخناء
في ركبها ضمّت بلا iiاستعلاء
* * ii*
بالنور تطوي حلكة iiالظلماء
تعلي النداء لقبة iiالجوزاء
قلب المحيط.. وذروة iiالعلياء
فارتجت الآكام للأصداء
* * ii*
للراية الخضرا.. تضيء سمائي
تحيي الوجود بنورها iiالوضاء
ذي سحنتي تُنبي بها.. iiودمائي
والموت ينسج لي خيوط iiردائي
الله أكبر.. أين هم iiأبنائي؟
* * ii*
في وحشة الأخدود.. في iiالبيداء
دوَّتْ كما البركان.. في iiالأشلاء
نيرانها غضبى بكل iiسماء
أعظم به في موطن iiالإسراء
وشوامخ الأحرار في iiالفيحاء
* * ii*
ليل الطغاة بفجرك iiالوضاء
هذي إليك.. وذمتي iiووفائي
تحت الطغاة.. وأوقدي بدمائي
والأرض ترجف.. والفضاء iiالنائي
* * ii*
أنا مسلم فلتصدعي بندائي
في مصر في بغداد.. في iiصنعاءِ
ستدكّ ليل الظلم.. iiوالإغضاء
ومُلوَّع في وحشة iiعمياء
من ديمة دهرية الإرواء
رغم الطغاةِ بعرض كل iiسماء(/1)
مواكب الشهداء
بقلم الدكتورعدنان علي رضا النحوي
تَأَلقي يَا جِنَانَ الخُلْدْ كَمْ بَطَلٍ ... ... إِليك في زَهْوَةٍ الأَشْوَاقِ قدْ نَفَرا
مُضَمَّخاً بزَكيِّ الطّيبِ يَنشُرُهُ ... ... مُجَلَّلاً بهُدَى الإِحْسان مُؤتزِرِاً
يَحُفُّهُ في جَلاَلٍ مِنْ شَهَادِتِهِ ... ... نُورٌ ويُلْقي عَلِيه سُنْدُساُ خَضِرا
خَفَّتْ إِلَيْه طُيوفٌ مِنْ مَنائِرِهَا ... ... عِيْنٌ كَوَاعِبُ تَجْلُو الحُسْنَ والحَوَرا
كَمْ كانَ قَبْلُ عَلَى الدُّنيا يجُولُ بِهَا ... ... مُجَاهِداً في سبيل الله مُنْتَصِرا
مَا كَانَ يَخْطُو خُطاً إِلاَّ يَهُزُّ بِها ... ... داراً مِن الظّلم أو يرمْي بِها جُدُرا
وَمَا خَطَا للهُدَى إِلا أَنارَ بِهِ ... ... دَرْباً وشقَّ سَبِيلاً أَو جَلا ظَفَرا
كُلُّ الرَّيَاحِين مِنْ أَنْفَاسه عَبَقَتْ ... ... وكُل مِسكٍ عَلى جولاته انْتَشَرَا
يَكَادُ يَسْكُبُ في كُلُّ الدُّروب دَماً ... ... يَرْوِي بِه الأرْض أَو يروي به العُصُرا
إِنَّ الشهيد حياةُ الناس كُلِّهِمِ ... ... فِيهِ وكُلَّ رُواء الأرض مِنْهُ جَرى
يُعَلِّم النَّاس قَوْلَ الحقَّ أَيْنَ مَضَوْا ... ... ويَجْتلي في مَيادينِ التَّقَى الخَبَرا
لَولاَه لمْ يَبْقَ للإِحْسَانِ مَنْزِلةٌ ... ... في النّاسِ أَو صَادقٌ يقْفُو له أثَرا
هِيَ الشَّهَادَةُ أعْراسٌ يُزَفُّ لَها ... ... رِجَالُها ومَعَالي المجدِ حيثُ تَرَى
تَزَاحُموا في دُرُوبِ الحقِّ واستبَقُوا ... ... إِلى مَنَاهِلِها الأَحداثَ و الغِيَرَا
تَنَافسُوا في مَيَادِينِ الهُدَى شَرَفاً ... ... وأَقْبَلُوا وَثَبَاتٍ بَيْنَها زُمَرَا
وآيَةُ الله فِيهمْ أَنَّهُمْ سَبَقُوا ... ... راضين ، كُلٌّ عَلى إِحْسَانِهِ ظَفرا
وخَلَّفُوا في وحُولِ الأرض مَنْ عِلقَتْ ... ... قُلوبُهم بَهوى مِنْهَا ومَنْ قَصَرا
تَنَافَسُوا شَهْوَةَ الدَّنْيَا فَما رَبحِوا ... ... إِلا الهَلاكَ ولم يَلْقَوا بِهَا وَطَرا
لما انْتَهى أَجَلٌ قالُوا : إِذنْ خَسِرَتْ ... ... تِجَارَةٌ ، وَيْلَهُمْ ، يَا ذُلَّ مَنْ خَسِرا
* * ... * ... * *
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
· من كتاب عبد الله عزام أحداث ومواقف .(/1)
موالاة الكافرين
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله . ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ? [آل عمران : 102] ? يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ً? [النساء : 1 ] والصلاة والسلام على سيدنا محمد أشرف الأنبياء والمرسلين ، الذي بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته . وبعد :
فحاجة المسلمين اليوم ماسة إلى أن يعودوا إلى دينهم، وأن يقووا أخوتهم ويحققوا الموالاة فيما بينهم فيقوي بعضهم بعضاً وينصر بعضهم بعضاً ويتراحمون ويتحابون ويكونون أمة واحدة كما يريد الله ، لا بد من التحقق بذلك ، مع كراهية ومعاداة أعداء الله من اليهود والنصارى وسائر الكفرة ، فإن هذا الأمر من عقائد الإسلام ومعاقده التي لا يجوز لمسلم أن يتساهل بها أو يفرط فيها.. فها نحن نرى بأم أعيننا أن قوى الكفر والظلم والطغيان قد تداعت علينا من كل حدب وصوب، وتنادى الجميع للقضاء على هذا الدين عبر وسائل مختلفة، ولن يقف في وجه هذه الحرب الصليبية اليهودية الوثنية، المتواطئة مع المرتدين والمنافقين سوى اتحاد المسلمين وتلاحمهم صفاً واحداً كما قال تعالى: ?إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ ? [الصف:4].
وقال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح المتفق عليه: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى).
وما أوتي المسلمون إلا من قبل التفريط في هذه القضية الهامة من قضايا العقيدة والإيمان حيث تفرقوا واختلفوا وتقاطعوا وانفرط عقدهم مع ركونهم وموالاتهم لأعدائهم واعتمادهم عليهم في العظيم والحقير والكبير والصغير فأصابهم الله بذنوبهم وسلط عليهم عدوهم فاستباح حماهم ومقدساتهم ونهب ثرواتهم وطمس هويتهم ولقد حذرنا الله من الركون إلى الكفار الظالمين المعتدين وتوعد من يركن إليهم بالخزي والنار ، فقال سبحانه: ?وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ ? [هود:113].
فقد ذكر الله تعالى أن الركون إلى الظلمة من الكفار الصرحاء ، والكفار المدلسين أو الظالمين موجب لمسيس النار وعذابها في الآخرة مع الذلة وعدم النصرة في الدنيا، فمخالفة أمر الله في حب الكافرين وموالاتهم ومناصرتهم يستجلب غضب الله وعقابه ، كيف ركنا إلى أعدائنا وربطنا مصيرنا بهم والله يقول: ?وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ ... ? [هود:113].
والمعنى لا تميلوا إليهم أدنى ميل فإن الركون هو الميل اليسير كالتزيي بزيهم وتعظيمهم والإشادة بهم، والميل بالقلب إليهم وطاعتهم ومداهنتهم وتكثير سوادهم والرضا بأعمالهم وأخلاقهم. لقد اتخذ بعض الحكام الركون إلى الكفار سياسة وكياسة ، ليساعدوهم على اغتصاب الحكم واحتكار الثروات في بلاد الإسلام.
ولهذا قرر العلماء أن الركون إلى الكفار وموالاتهم من أعظم الذنوب الموجبة لدخول النار، فإن اقترن بذلك حب زوال الإسلام ومحوه وزوال أهله كان ذلك من أعظم الكفر وأشد أنواعه والعياذ بالله .
أيها المؤمنون: إن اليهود والنصارى قد خادعوا المسلمين وأظهروا لهم الود المتكلف والصداقة المزيفة حتى تمكنوا منهم وألبسوهم ثوب المذلة والعار ومزقوهم شر ممزق ، حصل كل ذلك في الماضي والحاضر بسبب ركون المسلمين إليهم ومتابعتهم لهم.(/1)
ولنا في التاريخ عبرة لو كنا نعقل وما أشبه الليلة بالبارحة، إن الركون إلى الكفار الظلمة يعرض المسلمين إلى الهلاك والدمار ثم لا ينصرون ماداموا على تلك الحالة وها نحن نعيش غير منصورين بسبب أننا في قبضة أعدائنا الأصدقاء كما يسميهم البعض وما أصدق هذه الآية في حقنا وهي قوله تعالى: ?...وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ? [هود:113]. حين كان المسلمون في الأندلس في بداية أمرهم متمسكين بتعاليم دينهم منفذين لأوامر الله ورسوله محافظين على أخلاقهم الإسلامية كانوا منصورين أعزة مُهابين من أعدائهم ثم تحولت بهم الحال وساءت أمورهم وأصبحوا بعد الأنفة والعزة والشرف أسرى الشهوات والأوهام. وكان مبدأ ذلك التحول أن النصارى خادعوا أمراء المسلمين ودعوهم إلى معاهدات واتفاقيات ونصت تلك المعاهدات على حرية التدين وحرية التجارة وحرية التعليم ولما تمت تلك المعاهدة أقام ابن عباد رئيس الأمراء احتفالاً صاخباً ومهرجاناً وأفراحاً دامت عشرات الأيام ، ولقد حضر الأمراء جميعاً تلك المعاهدة ووقعوا عليها وكان بعضهم قد ركبوا على جياد نعالها من ذهب ولما تمت تلك الاحتفالات والأفراح، رجعوا إلى ديارهم آمنين مطمئنين، ولم يرفض التوقيع على هذه المعاهدة إلا أحد الأمراء يقال له أبن مصعب فإنه قال: ويحكم يا أبناء العرب وعظماء الإسلام كيف تبيحون حرية التجارة والتعليم في دياركم؟ أفلا ترون أن القوم سيعلمون أبنائكم تاريخ أممهم ويحتقرون آبائكم أولا ترون أن الخمر يباع في بلادكم بعد الآن بحرية التجارة، وسينشرون في البلاد الفسق والفساد والفجور والخلاعة، وينتهي الأمر بفساد البلاد وخراب العباد وطرد العرب من البلاد الأوربية فلما سمع القوم مقالته هزءوا به ساخرين ونبذوه جميعاً، وقالوا : لست في العير ولا في النفير واتهموه بعدم الفهم والإدراك لأمور السياسة فماذا جرى بعد ذلك؟ مضت سنون ثم تلتها سنون، وصح ما توقع ابن مصعب حيث انتشر الخمر والفسوق وفشت المنكرات في الطرقات والأسواق وكثر الترف في الطبقات الحاكمة ثم في سائر الفئات فذهبت النخوة والدين وتحلل المجتمع وسقط في المستنقع واستعان بعض الأمراء بالنصارى على بعض إخوانهم ثم كانت القارعة ووقعت الواقعة ونزلت بهم الصاعقة حيث أغار عليهم الصليبيون وهم في غرة فقصموا ظهر البلاد وأزالوا ملك بني عباد وأمراء الأجناد وقبروهم أجمعين في تصفية عرقية لم يشهد لها التاريخ مثيلاً ومن استسلم منهم رموه في البحر وقتلوهم شر قتلة، ?وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ? [هود:117]، ?وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ? [إبراهيم:42]، وما هذا إلا مصداق لقوله تعالى: ?وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ ? [هود:113].
فلم يجد الأندلسيون أولياء ينصرونهم من الخطر لما أحاط بهم الصليبيون من كل جانب وهم غافلون لأنهم ركنوا إليهم وخالفوا أمر الله فأصبحوا حصيداً خامدين ، وها هي المأساة اليوم تتكرر على مرأى ومسمع .
إن ما نعيشه من ذلة وهوان واحتقار وتسلط واستعباد ما هو إلا نتيجة للسياسات الإجرامية الخاطئة التي ربطتنا بعدونا وركنا إليه في طعامنا وشرابنا وفي تعليمنا وإعلامنا وسياستنا واقتصادنا وفي سلاحنا وتخطيط وبرمجة حياتنا، وعظمناهم وأحببناهم وسلمنا إليهم مقاليد أمورنا ، ضاربين بتعاليم ربنا عرض الحائط، لم نأبه بإرشاده لنا وتحذيره لنا من أعدائنا في قوله سبحانه: ?لَا يَتَّخِذْ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ? [آل عمرآن:28]،و ?يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ? [الممتحنة:1]،و ?وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ... ? [هود:113].
إن على جميع المسلمين حكاما ومحكومين أن يتنبهوا من غفلتهم وأن يحذروا من أعدائهم وأن يتوبوا إلى الله عز وجل في تنفيذ أمره واجتناب نهيه، حتى لا يخسروا الدنيا والآخرة وذلك هو الخسران المبين.. اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك فينا ولا يرحمنا.
الخطبة الثانية
قال الله تعالى مبيناً لنا طبيعة الكفار في تعاملهم معنا: ?ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ? [البقرة:217].
ففي هذه الآية تقرير صادق من العليم الخبير ، يكشف عن الإصرار الخبيث والعداوة المتأصلة في نفوس أعداء الإسلام، لهذا الدين وأهله، في كل جيل وفي كل أرض.(/2)
إن وجود الإسلام بذاته، هو غيظ وكمد ورعب لأعداء الإسلام والمسلمين في كل وقت وحين، فهم يعرفون ما في الإسلام من القوة والنزاهة والعدل والحق بحيث يخشاه كل طاغ، ويرهبه كل باغ، ويكرهه كل مفسد، ذلك لأنهم لا يأمنون على باطلهم وبغيهم وفسادهم، وفي الأرض أمة مسلمة تؤمن بهذا النظام الرباني المميز الفريد. ولهذا فهم لا يزالون يقاتلون المسلمين حتى يردوهم عن دينهم إن استطاعوا ، ولم يرخص الله عز وجل في موافقتهم خوفاً على النفس والمال، بل أخبر أن من يوافقهم بعد قتالهم لنا ليدفع شرهم، إنه مرتد ، خارج عن الإسلام ، فإن مات على ردته بعد أن قاتله الكفار فإنه من أهل النار الخالدين فيها.
فكيف حال من وافقهم من غير قتال، وسارع في تنفيذ رغباتهم، سيكون بلا شك أولى بعدم العذر وأولى بحكم الردة والكفر، والعياذ بالله.
هذا دين الله وهذا حكمه الذي لا يعجب الكفار ولا المنافقين والذين يسعون إلى إلغاء مثل هذه الآيات وحذفها من منهاج التعليم. فحكم الله تعالى لا يبدل ولا يغير وسيظل المسلمون متمسكون بدينهم حتى يرث الله الأرض ومن عليها. فمن رجع عن دينه إلى الكفر فهو كافر سواء كان الدافع لذلك خوفاً على نفس أو مال أو أهل من الكفار، وسواء كان كفره من الباطن أم من الظاهر، وسواء كان طامعاً من الكفار والمشركين بمال أو جاه أو شهوة فهو كافر على كل حال من تلك الأحوال جميعاً. ما عدا صورة واحدة استثناها الله وهي ما إذا أكره على قول كلمة الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان جاز له موافقتهم في الظاهر، أما إن وافقهم في الباطن فهو كافر مثلهم ، لأن الباطن لا سلطان لأحد من الناس عليه، وإن صبر المكره على أذى الكفار ولم يوافقهم في طلبهم على قول كلمة الكفر، فقتل فهو بذلك شهيد، كما فعل كثير من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، قال تعالى: ?مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنْ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ(106)ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ? [النحل:106-107].
اللهم إنا نعوذ بك أن نرتد على أعقابنا أو أن نفتن في ديننا وإذا أردت بعبادك سوءاً فاقبضنا إليك غير مفتونين. اللهم صلي وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
) صححه الألباني في السلسلة الصحيحة ج3 ص71 رقم الحديث:1083.قال الألباني : وأخرجه البخاري بلفظ : ترى المؤمنين ... ؛ وله طريق ثالث بلفظ : المسلمون كرجل واحد ...(/3)
موانع الانتفاع بالعمل يوم القيامة
الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، وبعد :
فإن من علامة توفيق الله عز وجل للعبد أن يوقظه من غفلته ويوفقه لتدارك عمره القصير فيما ينفعه غداً في الدار الآخرة ، ومن علامة الخذلان أن ينسى العبد نفسه ، ويفرِّط في ساعاته وأيامه ولياليه ؛ فينصرم العمر القصير دون أن يقدم لنفسه ما ينفعها عند الله عز وجل فضلاً عما يضره ويهلكه .
وعندما ينظر الواحد منا إلى حاله وحال كثير من الناس يجد التفريط وتضييع الأوقات بما لا ينفع أو بما يضر عياذاً بالله تعالى ولو حاسب كل واحد منا نفسه وحاول الرجوع إلى ما مضى من عمره الذي مر كلمح البصر ، وما عمله في ذلك العمر من القربات ، أو ما ضيعه من الأوقات لوجد النتيجة جِدَّ محزنةٍ إلا من رحمه الله تعالى لأن ما ضاع من الأوقات بما لا ينفع أو بما يضر أكثر من تلك التي عمل فيها بالطاعات ؛ فإذا أضيف إلى ذلك أن العبد لا يضمن أيضاً انتفاعه من طاعاته وقرباته التي أداها ؛ وذلك لتعرضها لبعض المفسدات والآفات كالرياء والسمعة والعجب ، أو عدم موافقتها لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ، فماذا سيبقى من الطاعات القليلة إذا مرت على مصفاة الإخلاص والمتابعة ؟ إنه لا يبقى إلا أقل القليل .
إذن فالأمر جِدُّ خطيرٍ ولا يجوز للعبد أن يهمل نفسه ويتركها بلا محاسبة وتدقيق وتفتيش حتى لا يأتي يوم القيامة فيبدو له من الله ما لم يحتسب .
وفي هذه المقالة القصيرة محاولة للتعرف على موانع الانتفاع بالعمل يوم القيامة لعلنا نتجنبها فننتفع بأعمالنا الصالحة يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم . والأصل في معرفة هذه الموانع قوله تعالى : (وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً ) (الإسراء : 19) . وهذه الآية وإن كانت قد انطوت على ذكر الشروط للانتفاع بالعمل الصالح فإن
مفهوم المخالفة فيها يشير إلى موانع الانتفاع ؛ حيث ذكر الله عز وجل في هذه الآية الكريمة أن من شروط قبول العمل عند الله عز وجل وكونه مشكوراً عنده سبحانه ما يلي :
1- إرادة الدار الآخرة بقوله وعمله .
2- تصديق هذه الإرادة والسعي إلى الآخرة بعمل موافق لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم .
3- أن يكون صاحب العمل موحِّداً مؤمناً بالله عز وجل غير مشرك به .
يقول الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى عند هذه الآية: وقوله : (وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ ) (الإسراء : 19) أي : أراد الدار الآخرة ، وما فيها من النعيم والسرور، (وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا ) (الإسراء: 19) ، أي طلب ذلك من طريقه ، وهو متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم: (وَهُوَ مُؤْمِنٌ ) (الإسراء: 19) ، أي : وقلبه مؤمن ، أي مصدق بالثواب والجزاء ( َأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً ) (الإسراء: 19) [1] . ومن خلال هذه الآية الكريمة تُستنبَط الموانع التي تحُول بين العبد وبين أن ينتفع بعمله يوم القيامة وهي كما يلي :
1- أن لا يكون صاحب العمل مؤمناً بالله عز وجل ولا بوعده ووعيده ، أو كان مشركاً به أو مرتداً عن دينه ؛ فلو تقرب العبد إلى الله عز وجل بقربات كثيرة من صلاة وصيام وغيرها وهو مشرك بالله عز وجل الشرك الأكبر وذلك بصرف أي نوع من أنواع العبادة لغير الله عز وجل فإنه بذلك لا ينتفع بأي عمل صالح عند الله عز وجل لأن توحيد الله عز وجل والبراءة من الشرك وأهله يُعَدُّ الشرطَ الأعظم في الانتفاع من بقية الأعمال والأقوال ، وبدون ذلك تحبط جميع الأعمال كما في قوله تعالى : ( وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ ) (الزمر : 65) ، وقوله تعالى : (وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) ( الأنعام:88) ، وقوله تعالى : (فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ) (الأنبياء :94) إلى غيرها من الآيات .
وخطورة هذا المانع أنه يحبط جميع الأعمال ؛ بينما الموانع التالية تحبط العمل الذي وُجِدَتْ فيه فقط ، ولا ينبغي للعبد أن يستهين بهذا المانع ولا أن يأمنه ؛ بل عليه أن يخافه وأن يفتش في عقيدته وأعماله كلها خشية الوقوع في هذه الآفة العظيمة التي تحبط الأعمال ولا يغفرها الله عز وجل إلا بتوبة . ومن يأمن الشرك بعد إمام الحنفاء إبراهيم عليه السلام حيث دعا ربه بقوله : (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ ) ( إبراهيم : 35 ) ؟ ! .(/1)
2- إرادة العبد بعمله الدنيا وليس الآخرة ، وهذا مانع كبير يحول بين العبد وبين أن ينتفع بعمله يوم القيامة ؛ وهذا يكثر في عمل المرائين والمريدين بأعمالهم شهرة أو منصباً أو مالاً أو أي عرض من أعراض الدنيا الفانية ؛ فهؤلاء لا خلاق لهم في الآخرة من تلك الأعمال الملوَّثة . قال الله تبارك وتعالى : (مَن كَانَ يُرِيدُ الحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ ) (هود : 15) . وقد أدخل العلماء في ذلك من أدى العمل بإخلاص لله تعالى لكنه أراد من عمله وتوبته وتركه للمعاصي آثارها الدنيوية فحسب ؛ وذلك بأن يبارك الله له في المال والولد ، ويجنبه المصائب والجوائح في الدنيا فقط ، فمن كان دافعه إلى العمل إرادة ثواب عمله في الدنيا فقط فإن هذه الأعمال معلولة غير مقبولة وغير مشكورة عند الله عز وجل يوم القيامة، أما من أراد بعمله الآخرة وأراد مع ذلك بركتها في الدنيا فهذا مرغَّب فيه وسعيه مشكور عند الله عز وجل إذا كمل الشروط الأخرى لقبول
العمل .
3- أن يكون سعيه وعمله مخالفاً لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ لأن من شروط الانتفاع بالسعي والعمل أن يكون موافقاً لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مبتدع ولا مبدل ، وهذا هو الذي أشار إليه الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى عند تفسيره لآية الإسراء ؛ حيث قال : ( وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَ ) (الإسراء : 19) ، أي : طلب ذلك من طريقه وهو متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم . ومن أوضح الأدلة في أن تخلف المتابعة عن العمل يمنع من الانتفاع به عند الله عز وجل قول الرسول صلى الله عليه وسلم : « من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد » [2] ، ومن هنا وجب الحذر من الابتداع والتعبد لله عز وجل بما لم يأذن به سبحانه أو يشرعه رسوله صلى الله عليه وسلم ؛ فإن التفريط في ذلك يضيع على العبد سعيه وعمله ولو كان صاحبه مخلصاً لله فيه مريداً منه الدار الآخرة ؛ لأن قبول العمل عند الله عز وجل مقيد بالشروط السالفة الذكر مجتمعة كلها في العمل ؛ فلو تخلف واحد منها بطل العمل وحِيلَ بين صاحبه وبين الانتفاع منه .
وبذلك يتبين لنا خطورة إهمال النفس ومحاسبتها والحرص الشديد على إحسان العمل وإتقانه وتجنيبه كل ما يفسده ويمنع من الانتفاع منه في يوم عصيب رهيب الحسنة فيه لا تعدلها الدنيا بزينتها وزخرفها ثمناً .ولنا أن نتصور كم يصفو لنا من العمل النظيف النافع عند الله عز وجل بعد أن يمر على هذه المصفيات السالفة الذكر ؟ إن الناظر فيها اليوم إلى نفسه وما أسلف من الأعمال الصالحة ليذهل عندما يرى قلَّتها وضياع العمر بما لا ينفع إلا من رحم الله تعالى . ثم ليت أن هذه الأعمال على قلتها تكون مقبولة عند الله عز وجل إذن لهان الخطب ؛ لكنها إذا عرضت على المصفيات السالفة الذكر فإن المحصلة في النهاية ستكون أقل القليل ؛ فمصفاة الإخلاص تمنع كل عمل لم يُرَدْ به وجه الله عز وجل ، ومصفاة المتابعة تمنع كل عمل لم يؤدَّ على وجه الموافقة لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم . ثم إن هذه المحصلة النظيفة من الأعمال والتي هي أقل القليل معرضة هي الأخرى لمانع خطير يحول بين العبد وبين الانتفاع من أعماله التي تعب عليها وأتقنها على قلتها حتى أصبحت مقبولة عند الله عز وجل وهذا لمانع خطير هو :
4 - حقوق العباد ومظالمهم : يقول الله عز وجل : (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ ) (الزمر :30-31) والخصومة تكون فيما بين العباد من مظالم ؛ فعن الزبير بن العوام رضي الله عنه قال : لما أنزلت هذه الآية قال : أيْ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ! أيكرر علينا ما كان بيننا في الدنيا مع خواص الذنوب ؟ قال : « نعم ليكررن عليكم حتى يؤدَّى إلى كل ذي حق حقه » [3] قال الزبير : والله إن الأمر شديد .
ومن الأحاديث المشهورة في ذلك حديث المفلس الذي قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم : « أتدرون من المفلس ؟ قالوا : المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع . قال : إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة وكان قد شتم هذا ، وقذف هذا ، وأكل مال هذا ، وسفك دم هذا ، وضرب هذا ، فينقص هذا من حسناته، وهذا من حسناته .قال : فإن فنيت حسناته قبل أن يُقضى ما عليه أُخذ
من خطاياهم ، فطُرحت عليه ، ثم طُرح في النار » [4] .(/2)
وهذا المانع الخطير من موانع الانتفاع بالعمل الصالح يوم القيامة من أشد الموانع خطراً وأصعبها تحرزاً ؛ فلا يسلم من تبعات العباد إلا من رحم الله عز وجل ، وقليل ما هم . والغرماء يوم القيامة لا يقبلون من عمل خصومهم إلا النظيف الذي تجاوز مصفاة الإيمان والإخلاص والمتابعة . أما العمل الملوَّث فلا يقبلونه لعدم نفعه ؛ فإذا كان العمل النظيف أقل القليل كما سبق بيانه لأنه ثمرة تصفيات كثيرة ، وكل مصفاة تُسقِط منه جزءاً إذا كان الأمر كذلك فإن المغبون الخاسر مَنْ ضيَّع هذا القليل ووزعه يوم القيامة بين خصومه وغرمائه ، وحال بين نفسه وبين الانتفاع بأعماله المقبولة عند الله عز وجل وذلك بتفريطه في الدنيا في حقوق العباد ، أو الاعتداء عليهم في دين أو عقل أو نفس أو مال أو عرض .
ومما ينبغي التنبيه عليه أن أكثر الخصوم يوم القيامة هم من أقرب الناس للنفس كالأب والولد والزوجة والزوج ؛ وذلك لما بينهم من الحقوق والواجبات ، ووجود الاحتكاك الدائم بهم والاجتماع معهم في كثير من الأوقات .
فالحذرَ الحذرَ من ظلم الأبناء في دينهم وإهمال تربيتهم والنفقه عليهم .. إلخ والحذرَ الحذرَ من بخس الوالدين حقوقهم وعدم الإحسان إليهم ، وكذلك الحال في بقية الأقارب والأباعد [5] .
نسأل الله عز وجل أن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه موافقة لسنة نبيه صلى الله عليه وسلم صادرة عن إيمان وتوحيد خالصين . كما نسأله أن يجنبنا ظلم العباد والاعتداء على حقوقهم ، وأن يخرجنا من الدنيا كافِّين اللسانَ عن أعراضهم ، خُمْصَ البطون من أموالهم ، خفيفي الظهور من دمائهم . وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
________________________
(1) تفسير ابن كثير ، عند الآية (19) من سورة الإسراء .
(2) رواه مسلم ، ح/3243 .
(3) الترمذي ، 9/11 ، وقال حسن صحيح ، ورواه الإمام أحمد ، 1/167 .
(4) رواه مسلم ، كتاب البر والصلة ، ح/ 2581 .
(5) يرجع إلى رسالة : (وقد خاب من حمل ظلماً) لمعرفة صور الظلم والمظالم .
مجلة البيان / العدد ( 153) التاريخ- جمادى الأولى / 1421هـ .(/3)
موانع السعادة 9/2/1426
أ.د. ناصر بن سليمان العمر
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أفضل الصلاة وأتم التسليم، و بعد:
معاً أيها القارئ الكريم نلتقي في طريق من طرق الخير، ودرب من دروب المحبة ومسلك من مسالك السعادة.
السعادة مطلب لجميع البشر، فصنف منهم يبحث عنها في المال، وآخر في الشهرة، وثالث في الشهادات، ولكن هل تراهم عثروا على ما بحثوا؟
لا ريب أن ثمة موانع كثيرة للسعادة تحول دون الوصول إليها والتنعم بالعيش فيها.
وإليك يا أخي القارئ أهم تلك الموانع:
1- الكفر: يقول الله _تعالى_: "ومن يرد الله أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السماء" هكذا يصور القرآن التعاسة والشقاء تصويراً دقيقاً.
2- عمل المعاصي والآثام والجرائم: ولن أستشهد على هذا الأمر فهو واضح جلي، لكني أذكر قولاً من أقوال الكفار لبيان القضية.
يقول ألكس كاريل: "إن الإنسان لم يدرك بعد فداحة النتائج التي تترتب على الخطيئة ونتائجها لا يمكن علاجها على وجه العموم". ويقول سقراط وهو كافر: "إن المجرم دائماً أشقى من ضحيته، وإن من يكون مجرماً ولم يعاقب على جرمه يكون من أشقى الناس".
هكذا يقول هذان الكافران، وفي الأثر أن صحابياً أذنب فجاء إلى الرسول _صلى الله عليه وسلم_ وقال: يا رسول الله طهرني وكررها عليه حتى أقام عليه الحد.
3- الحسد والغيرة:- وأمر الحسد خطير، حتى إن الله _تعالى_ يأمرنا بالاستعاذة من شر الحاسد، قال _تعالى_ : "ومن شر حاسد إذا حسد".
وقال الله _تعالى_: "أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله".
وقال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ موجهاً أمته: "لا تحاسدوا ولا تقاطعوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخواناً".
4- الحقد والغل: قال _تعالى_ في سورة الحشر: "ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا"، فجعل من صفات المؤمنين الابتهال بهذا الدعاء؛ لأن الغل من موانع السعادة.
يقول إبراهيم الجمل: "الحاقد يظل طوال وقته لا يفكر إلا في النيل من الذي يحقد عليه، فقد يكذب عليه، وقد يضر به ولا يهاب في سبيل ذلك ما يفعل".
5- الغضب: لا شك أن الغضب من حواجب السعادة والانشراح، ولذلك امتدح الله المؤمنين قائلاً عنهم: "وإذا ما غضبوا هم يغفرون" ويقول الرسول _عليه الصلاة والسلام_: "ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد من يملك نفسه عند الغضب".
6- الظلم: فإن الظلم مرتعه وخيم وعاقبته سيئة إلى أبعد الحدود، ومن الأمثلة المعاصرة التي تصور عقبى الظلم ومآل الظلمة، رجل تجبر وتكبر وبلغ به التجبر والطغيان إلى حد أنه كان يقول للمؤمنين وهو يعذبهم حينما يستغيثون بالله يقول: أين إلهكم لأضعنه في الحديد... فكان جزاؤه العاجل أن تصطدم سيارته بشاحنة تحمل حديداً، فدخل الحديد في جسمه من أعلى رأسه إلى أحشائه، وعجز المنقذون أن يخرجوه إلا قطعاً. هكذا أهلكه الله بالحديد وهو الذي يقول: إنه سيضع الله في الحديد _تعالى_ عما يقول الظالمون.
7- الخوف من غير الله _عز وجل_: إن الخوف من غير الباري _سبحانه_ يورث الشقاء والذلة، ولذلك قال الله: "أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين". وقال إبراهيم لقومه كما ورد في القرآن: "ولا أخاف ما تشركون به".
8- التشاؤم: فقد كان المصطفى _صلى الله عليه وسلم_ يعجبه الفأل ويكره التشاؤم؛ لأنه سبب في التعاسة والمتاعب.
يقول الدكتور عزيز فريد: "المتشائم يتحمل بفعل اتجاهه التشاؤمي متاعب عدة هي أشد وقعاً على أعصابه من الكوارث والملمات التي قد تحل به".
9- سوء الظن: فالله _سبحانه_ يقول: "يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم".
ويقول الرسول _صلى الله عليه وسلم_ : "إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث".
10- الكبر: المتكبر يعيش في شقاء دائم وتعاسة أبدية، وإن تغطرس وتعالى على الناس وغمطهم حقوقهم.
11- تعلق القلب بغير الله: كتعلق قلب العاشق بمعشوقته، ويكفي لتصوير خطورة الأمر أن نقرأ قصة مجنون ليلى لنعلم كيف عاش هذا الرجل شريداً طريداً حتى جن، ومات وهو عاشق، فيا لها من خسارة دنيوية وأخروية.
12- المخدرات: إن كثيراً من الناس يتوهم أن السعادة تجتلب بمعاقرة المخدرات والمسكرات فيقبلون عليها قاصدين الهروب من هموم الدنيا ومشاغلها وأتراحها، وإذا بهم يجدون أنفسهم كالمستجير من الرمضاء بالنار؛ لأن المخدرات في الحقيقة مجلبة للشقاء واليأس والانحلال والدمار.
والآن بعد عرفنا موانع السعادة فلنعد إلى طريق الفكاك والتخلص من تلك الموانع.. أسأل الله أن يحيينا حياة السعداء ويمتنا ميتة الشهداء، ويحشرنا مع زمرة الأنبياء، هذا وصلى الله وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(/1)
موانع الهداية
عبدالرحمن بن يحيى
مكتب الدعوة و الإرشاد بسلطانة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فلما كان تمام النعمة على العبد إنما هو بالهدى والرحمة، وكان لهما ضدان: الضلال والغضب، أمرنا الله سبحانه أن نسأله كل يوم وليلة مرات عديدة أن يهدينا صراط الذين أنعم عليهم، وهم أولو الهدى والرحمة، وأن يجنبنا طريق المغضوب عليهم، وهم ضد المرحومين، وطريق الضالين، وهم ضد المهتدين، ولهذا كان هذا الدعاء من أجمع الدعاء وأفضله وأوجبه، ولذلك اشتدت حاجة العبد بل ضرورته إلى أن يسأل الله أن يهديه الصراط المستقيم كل يوم سبع عشرة مرة فرضا عليه، لكن قد تتخلف الإجابة نظرا لضعف الدعاء في نفسه، فإنه ورد عنه { إن الله لا يستجيب دعاءً من قلب غافل لاهٍ } فغفلة القلب أثناء الدعاء تبطل قوته، وقد يقول كثير من الناس لماذا مع كثرة التوجهات والدعاء لا زلنا نشكو من ضعف الهداية؟ إنني أرغب في الهداية لكني لا أستطيع فما هو السبب؟
هذه هي صورة المشكلة فما أسبابها وما نتائجها وما علاجها ؟!:
لا شك أن موانع الهداية كثيرة قد تجتمع كلها في الواحد مرة واحدة، وقد يتخلف بعضها، وقد يحول بين العبد والهداية مانع واحد. وعلى كل سوف نذكر جملة منها، وهي عشرة موانع:
1- من موانع الهداية: ضعف المعرفة: فإن كمال العبد في أمرين: معرفة الحق من الباطل، وإيثار الحق على الباطل، فإن من الناس من يعرف الحق لكن إيثاره على الباطل قد يكون عنده ضعيفا، والجاهل إذا عرف كان قريب الانقياد والاتباع، وبهذا يكون قد قطع نصف الطريق إلى الحق وما بقي عليه إلا قوة العزيمة على الرشد " اللهم أسألك العزيمة على الرشد " رواه أحمد وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً [الكهف:68]، وهذا السبب هو الذي حال بين كثير من الكفار وبين الإسلام، فإنهم لا يعرفون عنه شيئا، ومع ذلك يكرهونه، وكما قيل: الناس أعداء لما جهلوا.
ومن المؤسف جهل المسلمين في هذه الأيام بحقيقة هذا الدين، فمنهم من يقول: إذا تبت وأنبت إلى الله وعملت صالحاً ضيق علي رزقي ونكد علي معيشتي، وإذا رجعت إلى المعصية وأعطيت نفسي مرادها جاءني الرزق والعون، ونحو هذا. هو يعبد الله من أجل بطنه وهواه، وإذا حصل مثل هذا فالله يختبر صدق العبد وصبره، فلا إله إلا الله! كم فسد بهذا الاغترار من عابد جاهل، ومتدين لا بصيرة له، ومنتسب إلى العلم لا معرفة له بحقائق الدين، أما قرأت قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ [الحج:11]، فسبحان الله! كم صدت هذه الفتنة الكثير عن القيام بحقيقة هذا الدين، والسبب: الجهل بالدين، والجهل بحقيقة النعيم الذي يطلبه ويعمل من أجل أن يصل إليه، كم نسبة نعيم الدنيا بالنسبة لنعيم الآخرة؟ أما الأوامر والنواهي فهي رحمة وحمية، ونغص الله الدنيا على المؤمنين حتى لا يطمئنوا إليها ويركنوا إليها ويرغبوا في نعيم الآخرة.
2- ومن موانع الهداية عدم الأهلية: فإنه قد تكون المعرفة تامة لكن يتخلف عنه عدم زكاة المحل وقابليته وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَّأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ [لأنفال:23] مثل: الأرض الصلدة التي يخالطها الماء، فإنه يمتنع النبات فيها لعدم قبولها، فإذا كان القلب قاسيا لم يقبل النصائح، وأبعد القلوب من الله: القلب القاسي، وكذا إذا كان القلب مريضا، فلا قوة فيه ولا عزيمة، لما يؤثر فيه ا لعلم. ومن صفاتهم كما وصفهم الله: وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ [لزمر:45].
3- ومن موانع الهداية الحسد والكبر: وقد فسره عليه الصلاة والسلام بأنه " بطر الحق وغمط الناس "، وضده التواضع، وهو قبول الحق مع من كان، ولين الجانب، والمتكبر متعصب لقوله وفعله، وذلك هو الذي حمل إبليس على عدم الانقياد للأمر لما أمر بالسجود، وهو داء الأولين والآخرين، إلا من رحم الله، وبه تخلف اليهود عن الإيمان بالرسول ، وقد عرفوه وشاهدوه، وعرفوا صحة نبوته الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [البقرة:146]، فذكر سبحانه أنهم يعرفون صفات الرسول كما يعرفون أبناءهم ولكنهم قوم بهت. وبهذا الداء امتنع عبد الله بن أبي بن سلول عن الإيمان، وبه تخلف الإيمان عن أبي جهل، ولهذا لما سأله رجل عن امتناعه مع أنه يعرف أنه صادق قال: تسابقنا نحن وبنو هاشم على الشرف حتى إذ ا كنا كفرسي رهان قالوا، منا نبي، فمتى ندركها؟ والله لا نؤمن به، وكذلك سائر المشركين فإنهم كلهم لم يكونوا يرتابون في صدقه، وأن الحق معه، ولكن حملهم الكير والحسد على الكفر والعناد.(/1)
4- ومن موانع الهداية: مانع الرياسة: ولو لم يكن في صاحبه حسد ولا كبر عن الانقياد للحق لكن لا يمكنه أن يجتمع له الانقياد للحق وملكه ورياسته، فيضن بملكه ورياسته، كحال هرقل وأضرابه، فإنه قال في آخر كلامه مع أبي سفيان: " فإن كان ما تقول حقا فسيملك موضع قدمي هاتين، ولو أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه "، أنه لا يستطيع الوصول إليه لتخوفه على حياته ومملكته من قومه. وما نجا من هذا الداء - وهو داء أرباب الولاية - إلا من عصم الله كالنجاشي. وهذا هو داء فرعون وقومه فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ [المؤمنون:47]، وقد قيل، إن فرعون لما أراد متابعة موسى وتصديقه شاور هامان وزيره، فقال له: بينما أنت إله تعبد تصير عبدا تعبد غيرك، فاختار الرياسة على الهداية.
5- ومن موانع الهداية: مانع الشهوة والمال: وهو الذي منع كثيرا من أهل الكتاب من الإيمان خوفا من بطلان مأكلهم وأموالهم التي تصير إليهم من قومهم، وقد كان كفار قريش يصدون الرجل عن الإيمان بحسب شهوته، فيدخلون عليه منها، فكانوا يقولون لمن يحب الزنا: إنه يحرم الزنا، ويقولون لمن يحب الخمر: إنه يحرم الخمر، وبه صدوا الأعشى الشاعر عن الإسلام، وأخبروه بأنه يحرم الخمر، فرجع وهو في طريقه إلى الرسول، فوقصته ناقته فسقط فمات.
وقد قال بعض أهل العلم: لقد فاوضت غير واحد من أهل الكتاب عن الإسلام، فكان آخر ما قال لي أحدهم: أنا لا أترك الخمر وشربها، وإذا أسلمت حلتم بيني وبينها وجلدتموني على شربي، وقال لي أيضا آخر بعد أن عرضت عليه الإسلام: إن ما قلت حق، ولكني لي أقارب أرباب أموال وإني إذا أسلمت لم يصل إلي منها شيء، وأنا آمل أن أرثهم. ولا ريب أن هذا القدر في نفوس خلق كثير من الكفار، فإذا اجتمع في حقهم قوة داعي الشهوة والمال مع ضعف داعي الإيمان، فلا ريب أن العبد يجيب داعي الشهوة والمال وَمَن لَّا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ [الأحقاف:32].
6- ومن موانع الهداية: مانع محبة الأهل والأقارب والعشيرة: فيرى أنه إذا اتبع الحق وخالفهم أبعدوه وطردوه عنهم، وهذا سبب بقاء خلق كثير من الكفار بين قومهم وأهليهم وعشائرهم، وهذه الحالة تحصل كثيرا بين اليهود والنصارى، وكيف أنهم ينبذون كل من خالف مذهبهم ويعادونه كلهم، مما جعل كثيرا من أبنائهم وممن ينتسب إليهم يتركون الحق بعد معرفته ويعرضون عنه.
ومن يك ذا فم مر مريض ***** يجد مرا به الماء الزلالا
7- ومن موانع الهداية: محبة الدار والوطن وإن لم يكن بها عشيرة ولا أقارب، لكن يرى أن في متابعته للرسول أو أهل الحق الذين اتبعوه - فيه خروج عن داره ووطنه إلى دار الغربة، فيضن بوطنه على متابعة الحق أو الدخول في الإسلام بعد تيقنه، ومن قرأ سيرة سلمان وما لاقى من المتاعب في سبيل الوصول إلى الحق لعلم أي مجاهدة جاهد بها نفسه، وكيف ترك أهله وعشيرته ووطنه وهاجر إلى المدينة، وقد سمي (الباحث عن الحقيقة)، وكذا الأمر في سائر الصحابة الذين تركوا أهلهم وأبناءهم وأموالهم وخرجوا إلى مدينة الرسول يبتغون فضلا من الله ورضوانا، وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون.
8- ومن موانع الهداية: من تخيل أن في الإسلام ومتابعة الرسول إزراء وطعنا منه على آبائه وأجداده: وهذا هو الذي منع أبا طالب وأمثاله عن الإسلام فرأوا أنهم إذا أسلموا سفهوا أحلام آبائهم وأجدادهم، ولهذا قال أعداء الله لأبي طالب عند الموت: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فكان آخر ما قاله هو على ملة عبد المطلب، فصدوه عن الحق من هذا الباب، لعلمهم بتعظيمه أباه عبد المطلب، وقد ذكرنا سابقا بأنهم يأتون الرجل من باب شهوته، أو من هذا الباب، ولهذا قال أبوطالب: لولا أن تكون مسبة على بني عبد المطلب لأقررت بها عينك ، وقد قرر ذلك في شعره:
ولقد علمت بأن دين محمد ***** من خير أديان البرية دينا
لولا الملامة أو حذار مسبة ***** لوجدتني سمحا بذاك مبينا
وقد يقول قائل: هذا في قوم قد كانوا فبانوا، وهذه شبه عند البعض، فقد سمعت في هذه الأيام ونحن في بعض المناطق البدوية من بقول: لا أترك عادات آبائي وأجدادي وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا [المائدة:104]، وهذا السبب هو الذي منعهم من الدخول في الإسلام أو قبول الحق بعد معرفته وتيقنه.(/2)
9- ومن موانع الهداية: متابعة من يعاديه من الناس أو دخوله في الإسلام أو سبقه إليه: وهذا القدر منع كثيرا من اتباع الهدى بعد معرفة؟ حيث يكون للرجل عدو ويبغض مكانه ولا يحب أرضا يمشي عليها ويقصد مخالفته؛ فيراه قد اتبع الحق فيحمله بغضه له على معاداة الحق وأهله ولو لم يكن بينه وبينهم عداوة، وهذا كما جرى لليهود مع الأنصار فإنهم كانوا أعداءهم وكانوا يتواعدونهم بخروج النبي وأنهم يتبعونه ويقاتلونهم معه، فلما سبقهم الأنصار إليه وأسلموا حملتهم معاداتهم على البقاء على كفرهم ويهوديتهم.
10- ومن موانع الهداية: مانع الألفة والعادة والمنشأ: وهذا السبب وإن كان أضعف الأسباب معنى فهو أغلبها على الأمم وأرباب المقالات والنحل، وليس مبر أكثرهم بل جميعهم إلا ما عسى أن يشذ. ودين العوائد هو الغالب على أكثر الناس، والانتتقال عنه كالانتقال من طبيعة إلى طبيعة ثانية، فصلوات الله وسلامه على أنببائه ورسله خصوصا على خاتمهم وأفضلهم محمد ، وكيف غيروا عادات الامم الباطلة ونقلوهم إلى الإيمان حتى استحدثوا به طبيعة ثانية خرجوا بها عن عاداتهم وطبيعتهم الفاسدة المتمثلة في قولهم: إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ [الزخرف:23]، ولا يعلم مشقة هذا على النفوس إلا من زاول تقل رجل واحد عن دينه ومقالته إلى الحق، فجزى الله المرسلين أفضل ما جزى به أحدا من العالمين.
أما أسباب الهداية فهي كثيرة جداُ، منها: الدعاء والقرآن والرسل وبصائر العقول، فكما أن للشفاء من المرض أسباباً، فكذلك للهداية أسباب، فالمريض إذا مرض يذهب إلى الطبيب ويبذل السبب من أجل طلب الشفاء والعافية، وكذا الأمر بالنسبة للهداية وهي مبذولة ولا يمنع منها إلا هذه الأسباب التي تعمى على القلوب وإن كانت لا تعمى الأبصار.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على رسوله الأمين.(/3)
موانع تكفير المعين
عبد الرحمن بن فؤاد الجار الله
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين،،، أما بعد:
فإن الموانع تنقسم إلى عدة أقسام كما قرر ذلك أهل العلم من خلال الاستقراء، وهي:
أ- موانع في الفاعل:
وهي ما يعرض له فتجعله لا يؤاخذ بأفعاله وأقواله، وتسمى عند الأصوليين بـ(العوارض الأهلية)، انظر التقرير والتحبير (2/230)، وتيسير التحرير (2/258)، وشرح التلويح على التوضيح (2/348)، وهي قسمان:
1- عوارض غير مكتسبة (سماوية): ونُسبت إلى السماء لأنها نازلةٌ منها بغير اختيار العبد وإرادته، فلا دخل له في كسبها، وهي أنواع كالصغر والجنون، ولا يُؤاخذ بما يفعلُ إنْ تلبست به، وإنما يؤاخذ بما يتعلق بحقوقِ العباد كالضمان.
2- عوارض مكتسبة: وهي التي للعبد نوع اختيارٍ في اكتسابها أو ترك إزالتها، وهي سبعةٌ ستةٌ من العبد، وهي: الجهل، والسفه، والسُكر، والهزل، والخطأ، والسَفَرُ، وواحدٌ من غيره وهو: الإكراه، والمتعلقة بموضوعنا والتي قد يعذر بها هي أربع وهي:
العارض الأول: الخطأ: وهو انتفاء القصد، مثلَ: سَبْقِ اللسان، والدليل قوله - تعالى -: ((وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ)) (الأحزاب: من الآية5).
والعبرة في الخطأ كمانعٍ من موانع التكفير، أنْ يقصد المكلف بفعله إتيانَ الفعل المُكَفِر لا أنْ يقصد الكفر به.
العارض الثاني: التأويل: والمراد به: وضع الدليل الشرعي في غير موضعه باجتهادٍ أو شبهةٍ تنشأ عن عدم فهم دلالة النص، أو فهِمَهُ فهماً خاطئاً ظنهُ حقاً، أو ظنَّ غير الدليل دليلاً.
فيُقدم المكلف على الفعل الكفري وهو لا يراه كفراً، فينتفي شرطُ العمد، فإنْ أُقيمت عليه الحجة وبُيِّنَ خطأه وأصرَّ على فعله كَفَرَ حينئذٍ.
والتأويل المانع: هو التأويل السائغ، وهو الذي له مُسوِّغٌ في الشرع أو في اللغة، مثاله: تأويل المتكلمين لليد بالقدرة.
وأما التأويل غير السائغ: فهو التأويل الذي ليس له مُسوِّغٌ في الشرع أو في اللغة، ويكون صادراً عن محض رأي وهوى. مثاله: تأويل الرافضة لقوله - تعالى -: ((بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَان)) بالحسن والحسين. وهو غيرُ مقبولٍ، وغير مُؤثرٍ في الحكم بالكفرِ.
وقد نقلَ العبدري في التاج والإكليل لمختصر خليل (6/285) عن ابن أبي الربيع قوله: "لأنَّ ادعاءه للتأويل في لفظٍ صُراحٍ لا يُقبل..."ا.هـ.
قال ابن الوزير في كتابه إيثار الحق على الخلق في رد الخلافات (1/377): "وكذلك لا خلاف في كفر من جحد ذلك المعلوم بالضرورة للجميع وتستر باسم التأويل فيما لا يمكن تأويله، كالملاحدة في تأويل جميع الأسماء الحسنى بل جميع القرآن والشرائع والمعادِ الأخروي من البعث والقيامة والجنة والنار"ا. هـ.
العارض الثالث: الجهل: ويكون مانعاً إذا كان من الجهل الذي لا يتمكن المكلف من دفعه أو إزالته. مثل شخصٍ في مكان منقطع وليس لديه أي وسيلة للعلم وللتعلم.
والعلماء متفقون على عدم عذر المُعْرض إن تمكن من العلم، والمراد هنا هو عُذرُ من لم يتمكن من العلم.
قال القرافي في الفروق (4/448): "لأنَّ القاعدة الشرعية دلت على أن كل جهل يمكن المكلف رفعه لا يكون حجة للجاهل لاسيما مع طول الزمان واستمرار الأيام فإنَّ الذي لا يُعلم اليوم يُعلم في غدٍ ولا يلزم من تأخير ما يتوقف على هذا العلم فسادٌ فلا يكون عذراً"ا. هـ.
وقال البعلي في قواعده (1/58): "جاهل الحكم هل هو معذورٌ أم لا؟ "، ثم قال: "فإذا قلنا يُعذر فإنما محله إذا لم يُقصِّر ويُفرِّط في تعلم الحكم أما إذا قصر أو فرَّط فلا يعذر جزماً"ا. هـ.
فيُعتبر الجهل مانعاً لمن كان عنده أصل التوحيد لكن خفيت عليه بعض المسائل التي قد تخفى أو تُشكل على مثله.(/1)
وقال الشيخ إبراهيم بن عبد اللطيف في إجماع أهل السنة النبوية على تكفير المعطلة الجهمية (1/116): "وليس كلُّ جهلٍ يكون عذراً لصاحبه فهؤلاء جُهال المقلدين لأهل الكفر كفارٌ بإجماع الأمة، اللهم إلا من كان منهم عاجزاً عن بلوغ الحق ومعرفته لا يتمكن منه بحالٍ مع محبته له وإرادته وطلبه وعدم المرشد إليه أو من كان حديث عهدٍ بالإسلام أو من نشأ بباديةٍ بعيدةٍ فهذا الذي ذكر أهل العلم أنه معذورٌ؛ لأن الحجة لم تقم عليه، فلا يكفر الشخص المعين حتى يعْرِفَ وتقوم عليه الحجة بالبيان وأما التمويه والمغالطة من بعض هؤلاء بأنَّ شيخ الإسلام توقف في تكفير المعين الجاهل فهو من التلبيس والتمويه على خفافيش البصائر، فإنما المقصود به في مسائلَ مخصوصةٍ قد يخفى دليلها على بعض الناس كما في مسائل القدر والإرجاء ونحو ذلك مما قاله أهل الأهواء فإن بعض أقوالهم تتضمن أموراً كفرية، من ردِّ أدلة الكتاب والسنة المتواترة فيكون القول المتضمن لردِّ بعض النصوص كفراً ولا يُحكم على قائله بالكفر لاحتمال وجود مانع يمنع منه، كالجهلِ وعدم العلم بنفس النص أو بدلالته؛ فإن الشرائع لا تلزم إلا بعد بلوغها، ولذلك ذكرها في الكلام على بدع أهل الأهواء وقد نصَّ على هذا، فقال في تكفير أُناسٍ من أعيان المتكلمين بعد أن قرر هذه المسألة، قال: وهذا إذا كان في المسائل الخفية فقد يقال بعدم الكفر، وأما ما يقع منهم في المسائل الظاهرة الجليَّة أو ما يُعلم من الدين بالضرورة فهذا لا يتوقف في كفر قائله". [قلت: ولم أجد قول شيخ الإسلام مع بالغِ التتبع، فلعله نقله بمعناه والله أعلم].
ثم قال: "وهؤلاء الأغبياء أجملوا القضية وجعلوا كُلَّ جهلٍ عذراً ولم يفصلوا وجعلوا المسائل الظاهرة الجليَّة وما يعلم من الدين بالضرورة كالمسائل الخفية التي قد يخفى دليلها على بعض الناس وكذلك من كان بين أظهر المسلمين كمن نشأ بباديةٍ بعيدةٍ أو كان حديث عهدٍ بالإسلام فضلوا وأضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبيل"ا. هـ.
العارض الرابع: الإكراه، قال - تعالى -: ((إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإيمَانِ)) (النحل: من الآية106).
وحكم الأخذ به رخصة: كفعل عمار بن ياسر - رضي الله عنه - فقد أخرج الحاكم في مستدركه (3362)، والبيهقي في الكبرى (16673)، من طريق عبد الرحمن بن حمدان الجلاب بهمدان عن هلال بن العلاء الرقي عن أبيه عن عبيد الله بن عمرو الرقي عن عبد الكريم عن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر عن أبيه قال: أخذ المشركون عمار بن ياسر فلم يتركوه حتى سبَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - وذكر آلهتهم بخير ثم تركوه فلما أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما وراءك؟ "، قال: شر يا رسول الله، ما تُركتُ حتى نلتُ منك وذكرتُ آلهتهم بخير. قال: " كيف تجد قلبك؟ " قال: مطمئن بالإيمان. قال: "إنْ عادوا فعُدْ"، قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
وعدم الأخذ به عزيمة: كفعل عبد الله بن حذافة السهمي رضي الله عنه، وهي كما رواها ابن الجوزي في كتابيه الثبات عند الممات (1/53)، وفي المنتظم (4/320)، بسنده إلى ابن عباس قال: أسرَتِ الروم عبد الله بن حذافة السهمي صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال له الطاغية: تنصَّر وإلا ألقيتك في النقرة النحاس، فقال: ما أفعل. فدعا بنقرة من نحاس فمُلئت زيتاً وأُغليت ودعا رجلاً من المسلمين فعرض عليه النصرانية فأبى فألقاه في النقرة فإذا عظامه تلوح، فقال لعبد الله ابن حذافة: تنصَّرْ وإلا ألقيتك، قال: ما أفعل، فأمر أن يُلقى في النقرة فكتفوه فبكى، فقالوا: قد جزع، قد بكى، قال: ردوه، فقال: لا تظنّن أني بكيت جزعاً؛ ولكن بكيت إذ ليس لي إلا نفسٌ واحدة يُفعل بها هذا في الله - عز وجل -، كنت أحب أن يكون لي أنفسٌ عدد كلَّ شعرةٍ فيَّ، ثم تُسلط عليَّ فتفعل بي هذا، قال: فأعجبه وأحبَّ أنْ يُطلقه، فقال: قبِّلْ رأسي وأُطلقك، قال: ما أفعل، قال: تنصَّر وأُزوجك ابنتي وأُقاسمك ملكي، قال: ما أفعل، قال: قبِّل رأسي وأُطلق معك ثمانين من المسلمين، قال: أما هذا فنعم، فقبل رأسه فأطلقه وثمانين معه. فلما قدموا على عمر قام إليه عمر فقبَّل رأسه، وكان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُمازحون عبد الله ويقولون: قبَلْتَ رأسَ عِلْجٍ.
وللإكراه شروطٌ لا يكون مانعاً بدون توفرها:
1- أنْ يكون المُكْرِهُ قادراً على إيقاع ما يهدد به، والمُكْرَهُ عاجزٌ عن الدفع ولو بالفرار.
2- أنْ يغلب على ظن المُكْرَهِ أنه إذا امتنع أُوقِع به ما يُهدَّدُ به.
3- أنْ لا يظهر على المُكْرَهِ ما يدُّل على تماديه، بأن يعمل أو يتكلم زيادة على ما يمكن أنْ يدفع به البلاء.
4- أنْ يُظهِّر إسلامه متى ما زال عنه الإكراه.
5- أنْ يكون ما يُهدَّدُ به مما لا طاقة لا به، ويعبر عنه عند الأصوليين بـ(الإكراه الملجئ) كأن يُقطع منه عضوٌ.(/2)
فيجب التفريق بين النطق بكلمة الكفر أو فعله، ثم العودة إلى إظهار الإسلام، وبين الإقامة على الكفر والبقاء عليه.
وقال ابن قدامة في المغني (9/31): "وروى الأثرم عن أبي عبد الله-يعني الإمام أحمد- أنه سُئل عن الرجل يُؤمر فيعرض على الكفر ويكره عليه، أله أن يرتد؟ فكرهه كراهةً شديدة، وقال: ما يُشبه هذا عندي الذين أُنزلت فيهم الآية من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، أولئك كانوا يُرادون على الكلمة ثم يتركون يعملون ما شاءوا، وهؤلاء يريدونهم على الإقامة على الكفر وترك دينهم"ا. هـ.
ب- موانع في الفعل:
1- كون الفعل أو القول غير صريح في الدلالة على الكفر.
2- كون الدليل الشرعي الذي استُدِل به غير قطعي في دلالته على أن ذلك الفعل أو القول مكفراً.
ج- موانع في الثبوت:
وذلك بأن لا يكون قد ثبت الكفر على فاعله أو قائله الثبوت الشرعي.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
http://www.saaid.net المصدر:(/3)
موت بابا الفاتيكان يكشفُ انحرافاتٍ في عقيدةِ الأمةِ
...
الحمدُ للهِ وبعدُ:
قرأتُ بعضَ التعليقاتِ لبعضِ الكُتابِ في الساحةِ السياسيةِ على موتِ كبيرِ النصرانيةِ في هذا الزمانِ، ولن أذكر الأسماءَ، وحسبي أنني أمتثلُ قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ما بال أقوام )، فإنهُ من المؤسفِ أن ترى الانحرافَ الخطيرِ في ثوابتِ الدينِ من أجلِ إرضاءِ غيرِ اللهِ - جل وعلا -، فهذا يترحمُ على موتِ الطاغوتِ البابا!
(( " يوسف القرضاوي: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين وأزكى صلوات الله وتسليماته على من بعثه الله رحمة للعالمين وحجة على الناس أجمعين سيدنا وإمامنا وأسوتنا وحبيبنا ومعلمنا محمد وعلى أهله وصحبه ومن دعا بدعوته واهتدى بسُنته إلى يوم الدين،
أما بعد فقد جرت عاداتنا في هذا البرنامج أن نتحدث عن أعلام العلماء من المسلمين حينما ينتقلون من هذه الدنيا إلى الدار الآخرة ونحن اليوم على غير هذه العادة نتحدث عن عَلم ولكن ليس من أعلام المسلمين ولكنه عَلم أعلام المسيحية وهو الحَبر الأعظم البابا يوحنا بولس الثاني بابا الفاتيكان والكنيسة الكاثوليكية وأعظم رجل يُشار إليه بالبنان في الديانة المسيحية.
لقد توفي بالأمس وتناقلت الدنيا خبر هذه الوفاة ومن حقنا أو من واجبنا أن نقدم العزاء إلى الأمة المسيحية وإلى أحبار المسيحية في الفاتيكان وغير الفاتيكان من أنحاء العالم وبعضهم أصدقاء لنا، لاقيناهم في أكثر من مؤتمر وأكثر من ندوة وأكثر من حوار، نقدم لهؤلاء العزاء في وفاة هذا الحَبر الأعظم الذي يختاره المسيحيون عادة اختيارا حرا، نحن المسلمين نحلم بمثل هذا أن يستطيع علماء الأمة أن يختاروا يعني شيخهم الأكبر أو إمامهم الأكبر اختيارا حرا وليس بتعيين من دولة من الدول أو حكومة من الحكومات، نقدم عزاءنا في هذا البابا الذي كان له مواقف تذكر وتشكر له، ربما يعني بعض المسلمين يقول أنه لم يعتذر عن الحروب الصليبية وما جرى فيها من مآسي للمسلمين كما اعتذر لليهود وبعضهم يأخذ عليه بعض أشياء ولكن مواقف الرجل العامة وإخلاصه في نشر دينه ونشاطه حتى رغم شيخوخته وكبر سنه، فقد طاف العالم كله وزار بلاد ومنها بلاد المسلمين نفسها، فكان مخلصا لدينه وناشطا من أعظم النشطاء في نشر دعوته والإيمان برسالته وكان له مواقف سياسية يعني تُسجل له في حسناته مثل موقفه ضد الحروب بصفة عامة.
فكان الرجل رجل سلام وداعية سلام ووقف ضد الحرب على العراق ووقف أيضا ضد إقامة الجدار العازل في الأرض الفلسطينية وأدان اليهود في ذلك وله مواقف مثل هذه يعني تُذكر فتشكر.. لا نستطيع إلا أن ندعو الله تعالى أن يرحمه ويثيبه بقدر ما قدَّم من خير للإنسانية وما خلف من عمل صالح أو أثر طيب ونقدم عزاءنا للمسيحيين في أنحاء العالم ولأصدقائنا في روما وأصدقائنا في جمعية سانت تيديو في روما ونسأل الله أن يعوِّض الأمة المسيحية فيه خيرا. "
النص نقلا عن موقع الجزيرة نت.http://www.qaradawi.net/site/topics/article.aspx?cu_no=2&item_no=3970&version=1&template_id=105&parent_id=16
))
وذلك يجعل الإنسانيةَ هي الجامع بينهُ وبين البابا!، والبعضُ يختارُ الفتاوى أو الآياتِ التي تناسبُ هواهُ لينصر فكرتهُ بالهوى المتبعِ - نسألُ اللهَ السلامةَ والعافيةَ -، وكأن القرآن والسنة النبوية لم يبينا الموقفَ من موتِ الكفارِ، ورابعٌ يستدلُ بالمتشابهِ ويتركُ المحكمَ ليلوي أعناقَ النصوصِ لتوافق هواهُ - نسألُ اللهَ السلامة والعافيةَ -، فأرجو أن تتسعَ صدورهم، وأن يريهم الحق حقاً ويرزقهم اتباعه، ويريهم الباطلَ باطلاً ويرزقهم اجتنابهُ.
مدخل:
ولا شك أن الإنسانَ إذا مات فإن كان من أهلِ التوحيدِ بكت عليه السماءُ، وأما إن كان من أي ملةٍ أخرى يهودية أو نصرانية أو غيرها فقد استراحت الأرضُ والسماءُ منه ولا شك قال - تعالى-: (( فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ ))[ الدخان: 29 ]، أَيْ لِكُفْرِهِمْ، فالسماءُ والأرضُ لا تبكيان على الكافرين، بل تبكيان على فراقِ المؤمن الصالحِ من هذه الدنيا، قال المباركفوري في " تحفةِ الأحوذي ": " فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ " أَيْ: لَمْ تَكُنْ لَهُمْ أَعْمَالٌ صَالِحَةٌ تَصْعَدُ فِي أَبْوَابِ السَّمَاءِ فَتَبْكِي عَلَى فَقْدِهِمْ، وَلَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ بِقَاعٌ عَبَدُوا اللَّهَ - تعالى- فِيهَا فَقَدَتْهُمْ فَلِهَذَا اِسْتَحَقُّوا أَنْ لَا يُنْظَرُوا وَلَا يُؤَخَّرُوا لِكُفْرِهِمْ وَإِجْرَامِهِمْ، وَعُتُوِّهِمْ وَعِنَادِهِمْ ".ا.هـ.(/1)
وليس بالضرورةِ أن يكونَ هذا البكاءَ المذكور في الآيةِ بدموعٍ وأنينٍ حتى يشبه بكاء الإنسِ، ولكنهُ بكاءٌ خاصٌ بهما، لا يعلمهُ إلا خالقهما، قال شيخُ الإسلامِ ابنُ تيمية كما في " جامع الرسائل " ( ص 37 ): " بكاءُ كلِ شيءٍ بحسبهِ، قد يكونُ خشيةً للهِ، وقد يكونُ حزناً على فراقِ المؤمنِ ".ا.هـ.
وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ بْنِ رِبْعِيٍّ أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - - صلى الله عليه وسلم - مُرَّ عَلَيْهِ بِجَنَازَةٍ فَقَالَ: ( مُسْتَرِيحٌ وَمُسْتَرَاحٌ مِنْهُ )، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْمُسْتَرِيحُ وَالْمُسْتَرَاحُ مِنْهُ؟ فَقَالَ: ( الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ يَسْتَرِيحُ مِنْ نَصَبِ الدُّنْيَا، وَالْعَبْدُ الْفَاجِرُ يَسْتَرِيحُ مِنْهُ الْعِبَادُ، وَالْبِلَادُ، وَالشَّجَرُ، وَالدَّوَابُّ ) رواه البخاري (6512)، ومسلم (950)، وبوب عليه النسائي في سننهِ: " الاستراحةُ من الكفارِ ".
الأدلةُ من القرآنِ:
وهذا الانحرافُ في ثوابتِ الدينِ والعقيدةِ لا بد أن يقابلَ بالردِ عليه من نصوصِ الكتابِ والسنةِ والإجماعِ، وبيانِ الموقفِ الشرعي من أعداءِ الملةِ من اليهودِ والنصارى وغيرهم من الأديانِ الوثنيةِ ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حي عن بينة - نسألُ اللهَ الثبات -.
* قال - تعالى-: (( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ))[ البقرة: 161 ].
أَخْبَرَ - تعالى- عَمَّنْ كَفَرَ بِهِ وَاسْتَمَرَّ بِهِ الْحَال إِلَى مَمَاته بِأَنَّ " عَلَيْهِمْ لَعْنَة اللَّه وَالْمَلَائِكَة وَالنَّاس أَجْمَعِينَ خَالِدِينَ فِيهَا " أَيْ فِي اللَّعْنَة التَّابِعَة لَهُمْ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، ثُمَّ الْمُصَاحَبَة لَهُمْ فِي نَار جَهَنَّم الَّتِي " لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ الْعَذَاب" فِيهَا أَيْ لَا يُنْقَص عَمَّا هُمْ فِيهِ، " وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ" أَيْ لَا يُغَيَّر عَنْهُمْ سَاعَة وَاحِدَة وَلَا يَفْتُر بَلْ هُوَ مُتَوَاصِل دَائِم - فَنَعُوذ بِاَللَّهِ مِنْ ذَلِكَ -.
قال الجصاصُ في " تفسيره ": " بَابُ لَعْنِ الْكُفَّارِ: قَالَ اللَّهُ - تعالى-: (( إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ )) فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ لَعْنَ مَنْ مَاتَ كَافِراً، وَأَنَّ زَوَالَ التَّكْلِيفِ عَنْهُ بِالْمَوْتِ لَا يُسْقِطُ عَنْهُ لَعْنَهُ، وَالْبَرَاءَةَ مِنْهُ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: " وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ " قَدْ اقْتَضَى أَمْرَنَا بِلَعْنِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ ".ا.هـ.
* وقال - تعالى-: (( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ))[ آل عمران: 91 ]، أَيْ مَنْ مَاتَ عَلَى الْكُفْر فَلَنْ يُقْبَل مِنْهُ خَيْر أَبَداً وَلَوْ كَانَ قَدْ أَنْفَقَ مِلْء الْأَرْض ذَهَباً فِيمَا يَرَاهُ قُرْبَة كَمَا سُئِلَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ عَبْد اللَّه بْن جُدْعَان - وَكَانَ يُقْرِي الضَّيْف، وَيَفُكّ الْعَانِيَ، وَيُطْعِم الطَّعَام - هَلْ يَنْفَعهُ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: ( لَا إِنَّهُ لَمْ يَقُلْ يَوْماً مِنْ الدَّهْر رَبّ اِغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي يَوْم الدِّين ).
* وقال - تعالى-: (( لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ))[ المائدة: 17، 72 ].
* وقال - تعالى-: (( لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ ))[ المائدة: 73 ].
* وقال - تعالى-: (( وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ))[ التوبة: 30 ].
الأدلةُ من السنةِ:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ: ( وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ ؛ لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ ) رواهُ مسلم (153).(/2)
قال الإمامُ النووي في " شرحِ مسلم ": " وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَفِيهِ نَسْخُ الْمِلَلِ كُلِّهَا بِرِسَالَةِ نَبِيِّنَا - صلى الله عليه وسلم -، وَفِي مَفْهُومِهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ دَعْوَةُ الْإِسْلَامِ فَهُوَ مَعْذُورٌ، وَهَذَا جَارٍ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي الْأُصُولِ أَنَّهُ لَا حُكْمَ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ عَلَى الصَّحِيحِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم -: ( لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ ) أَيْ مِمَّنْ هُوَ مَوْجُودٌ فِي زَمَنِي وَبَعْدِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَكُلُّهُمْ يَجِبُ عَلَيْهِ الدُّخُولُ فِي طَاعَتِهِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْيَهُودِيّ وَالنَّصْرَانِيَّ تَنْبِيهاً عَلَى مَنْ سِوَاهُمَا وَذَلِكَ لِأَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى لَهُمْ كِتَابٌ فَإِذَا كَانَ هَذَا شَأْنَهُمْ مَعَ أَنَّ لَهُمْ كِتَاباً فَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ لَا كِتَابَ لَهُ أَوْلَى. وَاللَّهُ أَعْلَمُ ".ا.هـ
وَقَالَ أَيُّوب السِّخْتِيَانِيّ عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر قَالَ: كُنْت لَا أَسْمَع بِحَدِيثٍ عَنْ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى وَجْهه إِلَّا وَجَدْت مِصْدَاقه أَوْ قَالَ تَصْدِيقه فِي الْقُرْآن، فَبَلَغَنِي أَنَّ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: ( لَا يَسْمَع بِي أَحَد مِنْ هَذِهِ الْأُمَّة يَهُودِيّ وَلَا نَصْرَانِيّ فَلَا يُؤْمِن بِي إِلَّا دَخَلَ النَّار )، فَجَعَلْت أَقُول: " أَيْنَ مِصْدَاقه فِي كِتَاب اللَّه؟ "، قَالَ: وَقَلَّمَا سَمِعْت عَنْ رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - إِلَّا وَجَدْت لَهُ تَصْدِيقاً فِي الْقُرْآن حَتَّى وَجَدْت هَذِهِ الْآيَة " وَمَنْ يَكْفُر بِهِ مِنْ الْأَحْزَاب فَالنَّار مَوْعِده " قَالَ: " مِنْ الْمِلَل كُلّهَا ".
قال ابنُ كثيرٍ عند تفسيرِ الآية: (( وَمَنْ يَكْفُر بِهِ مِنْ الْأَحْزَاب فَالنَّار مَوْعِده ))[ هود: 17 ]: " ثُمَّ قَالَ - تعالى- مُتَوَعِّداً لِمَنْ كَذَّبَ بِالْقُرْآنِ أَوْ بِشَيْءٍ مِنْهُ " وَمَنْ يَكْفُر بِهِ مِنْ الْأَحْزَاب فَالنَّار مَوْعِده " أَيْ وَمَنْ كَفَرَ بِالْقُرْآنِ مِنْ سَائِر أَهْل الْأَرْض مُشْرِكهمْ وَكَافِرهمْ وَأَهْل الْكِتَاب وَغَيْرهمْ وَمِنْ سَائِر طَوَائِف بَنِي آدَم عَلَى اِخْتِلَاف أَلْوَانهمْ وَأَشْكَالهمْ وَأَجْنَاسهمْ مِمَّنْ بَلَغَهُ الْقُرْآن كَمَا قَالَ - تعالى-: (( لِأُنْذَركُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ )) وَقَالَ - تعالى-: (( قُلْ يَا أَيّهَا النَّاس إِنِّي رَسُول اللَّه إِلَيْكُمْ جَمِيعاً ))، وَقَالَ - تعالى-: (( وَمَنْ يَكْفُر بِهِ مِنْ الْأَحْزَاب فَالنَّار مَوْعِده )) ا.هـ.
هل أعمالُ البرِ التي فعلها البابا تنفعه؟
ومن الطوامِ التي قرأتها لبعضِ الكتابِ أنهُ يعددُ أعمالَ الهالك البابا، ومواقفهُ من قضايا المسلمين - زعم -، ويجعلُها مسوغاً لذكرِ مآثرهِ وأعمالهِ، بل ربما يترحمُ عليه، فلننظر ماذا قال اللهُ ورسولهُ عن مثل هذه الأعمالِ؟
قَالَ - تعالى-: (( وَاَلَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالهمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبهُ الظَّمْآن مَاء حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدهُ شَيْئاً ))[ النور: 39 ].
قال ابنُ كثيرٍ في " تفسيره ": فَأَمَّا الْأَوَّل مِنْ هَذَيْنِ الْمَثَلَيْنِ فَهُوَ لِلْكُفَّارِ الدُّعَاة إِلَى كُفْرهمْ، الَّذِينَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْء مِنْ الْأَعْمَال وَالِاعْتِقَادَات، وَلَيْسُوا فِي نَفْس الْأَمْر عَلَى شَيْء، فَمَثَلهمْ فِي ذَلِكَ كَالسَّرَابِ الَّذِي يُرَى فِي الْقِيعَان مِنْ الْأَرْض عَنْ بُعْد كَأَنَّهُ بَحْر طَامّ، فَكَذَلِكَ الْكَافِر يَحْسَب أَنَّهُ قَدْ عَمِلَ عَمَلاً، وَأَنَّهُ قَدْ حَصَّلَ شَيْئاً، فَإِذَا وَافَى اللَّه يَوْم الْقِيَامَة وَحَاسَبَهُ عَلَيْهَا، وَنُوقِشَ عَلَى أَفْعَاله؛ لَمْ يَجِد لَهُ شَيْئاً بِالْكُلِّيَّةِ قَدْ قُبِلَ: إِمَّا لِعَدَمِ الْإِخْلَاص، أَوْ لِعَدَمِ سُلُوك الشَّرْع كَمَا قَالَ - تعالى-: (( وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَل فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَنْثُوراً ))ا.هـ.
وقال القرطبي: " وَهَذَا مَثَل ضَرَبَهُ اللَّه - تعالى- لِلْكُفَّارِ يُعَوِّلُونَ عَلَى ثَوَاب أَعْمَالهمْ؛ فَإِذَا قَدِمُوا عَلَى اللَّه - تعالى- وَجَدُوا ثَوَاب أَعْمَالهمْ مُحْبَطَة بِالْكُفْرِ؛ أَيْ لَمْ يَجِدُوا شَيْئاً كَمَا لَمْ يَجِد صَاحِب السَّرَاب إِلَّا أَرْضاً لَا مَاء فِيهَا؛ فَهُوَ يَهْلِك أَوْ يَمُوت "ا.هـ.(/3)
ومصداقاً للآية ما جاء في سنةِ المصطفى - صلى الله عليه وسلم - من حوارٍ بين الله - جل وعلا - وبين من كان يعبدُ غيرَ اللهِ فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: أَنَّ نَاساً فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالُوا: " يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ " قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " نَعَمْ؛ قَالَ : " هَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الشَّمْسِ بِالظَّهِيرَةِ صَحْواً لَيْسَ مَعَهَا سَحَابٌ؟ وَهَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ صَحْواً لَيْسَ فِيهَا سَحَابٌ؟ قَالُوا: " لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ "، قَالَ: " مَا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ اللَّهِ - تَبَارَكَ وَتعالى - يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا كَمَا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ أَحَدِهِمَا، إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ لِيَتَّبِعْ كُلُّ أُمَّةٍ مَا كَانَتْ تَعْبُدُ، فَلَا يَبْقَى أَحَدٌ كَانَ يَعْبُدُ غَيْرَ اللَّهِ - سُبْحَانَهُ - مِنْ الْأَصْنَامِ وَالْأَنْصَابِ إِلَّا يَتَسَاقَطُونَ فِي النَّارِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ إِلَّا مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ مِنْ بَرٍّ وَفَاجِرٍ وَغُبَّرِ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَيُدْعَ الْيَهُودُ فَيُقَالُ لَهُمْ: " مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ؟ " قَالُوا: " كُنَّا نَعْبُدُ عُزَيْرَ بْنَ اللَّهِ "، فَيُقَالُ: " كَذَبْتُمْ مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ صَاحِبَةٍ وَلَا وَلَدٍ، فَمَاذَا تَبْغُونَ؟ قَالُوا: " عَطِشْنَا يَا رَبَّنَا فَاسْقِنَا، فَيُشَارُ إِلَيْهِمْ أَلَا تَرِدُونَ، فَيُحْشَرُونَ إِلَى النَّارِ كَأَنَّهَا سَرَابٌ يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضاً، فَيَتَسَاقَطُونَ فِي النَّارِ، ثُمَّ يُدْعَى النَّصَارَى فَيُقَالُ لَهُمْ: " مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ؟ "، قَالُوا: " كُنَّا نَعْبُدُ الْمَسِيحَ بْنَ اللَّهِ "، فَيُقَالُ لَهُمْ: " كَذَبْتُمْ مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ صَاحِبَةٍ وَلَا وَلَدٍ "، فَيُقَالُ لَهُمْ: " مَاذَا تَبْغُونَ؟، فَيَقُولُونَ: " عَطِشْنَا يَا رَبَّنَا فَاسْقِنَا "، قَالَ: " فَيُشَارُ إِلَيْهِمْ أَلَا تَرِدُونَ، فَيُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ كَأَنَّهَا سَرَابٌ يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضاً فَيَتَسَاقَطُونَ فِي النَّارِ... " الحديث أخرجه البخاري (4581)، ومسلم (182).
* وَقَالَ - تعالى-: (( وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً ))[ الفرقان: 23 [.
* وَقَالَ - تعالى-: (( مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ ))[ إبراهيم: 18 [.(/4)
قال ابنُ كثيرٍ عند تفسيرِ الآية: " هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّه - تعالى- لِأَعْمَالِ الْكُفَّار الَّذِينَ عَبَدُوا مَعَهُ غَيْره، وَكَذَّبُوا رُسُله، وَبَنَوْا أَعْمَالهمْ عَلَى غَيْر أَسَاس صَحِيح؛ فَانْهَارَتْ وَعَدِمُوهَا أَحْوَج مَا كَانُوا إِلَيْهَا فَقَالَ - تعالى-: (( مَثَل الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ )) أَيْ: مَثَل أَعْمَالِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذَا طَلَبُوا ثَوَابَهَا مِنْ اللَّه - تعالى- لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى شَيْء فَلَمْ يَجِدُوا شَيْئاً، وَلَا أَلْفَوْا حَاصِلاً إِلَّا كَمَا يَتَحَصَّل مِنْ الرَّمَادِ إِذَا اِشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ الْعَاصِفَةُ " فِي يَوْم عَاصِف " أَيْ ذِي رِيح شَدِيدَة عَاصِفَة قَوِيَّة فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى شَيْء مِنْ أَعْمَالِهِمْ الَّتِي كَسَبُوا فِي الدُّنْيَا إِلَّا كَمَا يَقْدِرُونَ عَلَى جَمْع هَذَا الرَّمَاد فِي هَذَا الْيَوْم كَقَوْلِهِ - تعالى-: (( وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً ))، وَقَوْله - تعالى-: (( مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْم ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمْ اللَّه وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ )) وَقَوْله - تعالى-: (( يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَاَلَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِن بِاَللَّهِ وَالْيَوْم الْآخِر فَمَثَله كَمَثَلِ صَفْوَان عَلَيْهِ تُرَاب فَأَصَابَهُ وَابِل فَتَرَكَهُ صَلْداً لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْء مِمَّا كَسَبُوا وَاَللَّه لَا يَهْدِي الْقَوْم الْكَافِرِينَ))، وَقَوْله فِي هَذِهِ الْآيَة (( ذَلِكَ هُوَ الضَّلَال الْبَعِيد )) أَيْ سَعْيهمْ وَعَمَلهمْ عَلَى غَيْر أَسَاس وَلَا اِسْتِقَامَة حَتَّى فَقَدُوا ثَوَابَهُمْ أَحْوَج مَا كَانُوا إِلَيْهِ (( ذَلِكَ هُوَ الضَّلَال الْبَعِيد )).ا.هـ.
* وَعَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ: قُلْتُ: " يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ ابْنَ جُدْعَانَ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَصِلُ الرَّحِمَ، وَيُطْعِمُ الْمِسْكِينَ، فَهَلْ ذَلِكَ نَافِعُهُ؟ "، قَالَ: ( لَا يَنْفَعُهُ؛ إنَّهُ لَمْ يَقُلْ يَوْماً رَبِّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ ).أخرجهُ مسلم (214)، وبوب عليه النوويُّ: " الدليلُ على أن من مات على الكفرِ لا ينفعهُ عملٌ ".
وقال النوويُّ في " شرحِ مسلم ": " مَعْنَى هَذَا الْحَدِيث: أَنَّ مَا كَانَ يَفْعَلهُ مِنْ الصِّلَة وَالْإِطْعَام وَوُجُوه الْمَكَارِم لَا يَنْفَعهُ فِي الْآخِرَة ; لِكَوْنِهِ كَافِراً، وَهُوَ مَعْنَى قَوْله - صلى الله عليه وسلم -: ( لَمْ يَقُلْ رَبّ اِغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي يَوْم الدِّين ) أَيْ لَمْ يَكُنْ مُصَدِّقاً بِالْبَعْثِ، وَمَنْ لَمْ يُصَدِّق بِهِ كَافِر وَلَا يَنْفَعهُ عَمَل، قَالَ الْقَاضِي عِيَاض - رَحِمَهُ اللَّه تعالى-: وَقَدْ اِنْعَقَدَ الْإِجْمَاع عَلَى أَنَّ الْكُفَّار لَا تَنْفَعهُمْ أَعْمَالهمْ، وَلَا يُثَابُونَ عَلَيْهَا بِنَعِيمٍ وَلَا تَخْفِيف عَذَاب، لَكِنَّ بَعْضهمْ أَشَدّ عَذَاباً مِنْ بَعْض بِحَسَبِ جَرَائِمهمْ ".ا.هـ.
فالخلاصةُ أن أعمالَ البرِ التي قام بها البابا - كما يزعمُ البعضُ - أو أي كافرٍ لا تنفعهُ يومَ القيامةِ، بل تكونُ هباءً منثوراً كما قررت الآياتُ وسنةُ المصطفى - صلى الله عليه وسلم -.
الاستغفارُ للكافرِ والترحمُ عليه محرمٌ:
من العجبِ أن ترى البعضَ يترحم على البابا، ويستدلُ بقولهِ - تعالى-: (( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ))[ الزلزلة: 7 ]، وهذا - والذي نفسي بيده - لمن أعجبِ العجبِ، وقال هذا الكلامُ ممن يفتون في الفضائيات - نسألُ اللهُ السلامة والعافية -، وأقولُ: سبحانك هذا بهتانٌ عظيمٌ، ألهذا الحدُ بلغ بك أن تأخذ بالمتشابهِ وتتركُ المحكم الذي جاءت نصوصٌ كثيرةٌ بمنعِ الاستغفارِ والترحمِ على الكافر؟!
وإليكم النصوصُ المحكمةُ الدالةُ على المنعِ من الاستغفارِ للكافرِ أو الترحمِ عليه، وقبل ذلك نردُ على الاستدلالِ بالآية التي جوز فيها مفتي الفضائيات الترحم للبابا، والردُ يكونُ من لسانِ النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي بين ما المقصود بالآية؟(/5)
عَنْ أَبِي هُرَيْرَة - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: ( الْخَيْل لِثَلَاثَةٍ: لِرَجُلٍ أَجْرٌ، وَلِرَجُلٍ سِتْرٌ، وَعَلَى رَجُلٍ وِزْرٌ، فَأَمَّا الَّذِي لَهُ أَجْر فَرَجُل رَبَطَهَا فِي سَبِيل اللَّه فَأَطَالَ طِيَلهَا فِي مَرْج أَوْ رَوْضَة فَمَا أَصَابَتْ فِي طِيَلهَا ذَلِكَ فِي الْمَرْج وَالرَّوْضَة كَانَ لَهُ حَسَنَات، وَلَوْ أَنَّهَا قَطَعَتْ طِيَلهَا فَاسْتَنَّتْ شَرَفاً أَوْ شَرَفَيْنِ كَانَ آثَارهَا وَأَرْوَاثهَا حَسَنَات لَهُ، وَلَوْ أَنَّهَا مَرَّتْ بِنَهَرٍ فَشَرِبَتْ مِنْهُ وَلَمْ يُرِدْ أَنْ تُسْقَى بِهِ كَانَ ذَلِكَ حَسَنَات لَهُ، وَهِيَ لِذَلِكَ الرَّجُل أَجْر، وَرَجُل رَبَطَهَا تَغَنِّياً وَتَعَفُّفاً، وَلَمْ يَنْسَ حَقّ اللَّه فِي رِقَابهَا وَلَا ظُهُورهَا فَهِيَ لَهُ سِتْر، وَرَجُل رَبَطَهَا فَخْراً وَرِيَاء وَنِوَاء فَهِيَ عَلَى ذَلِكَ وِزْر )، فَسُئِلَ رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - عَنْ الْحُمُر فَقَالَ: ( مَا أَنْزَلَ اللَّه شَيْئاً إِلَّا هَذِهِ الْآيَة الْفَاذَّة الْجَامِعَة (( فَمَنْ يَعْمَل مِثْقَال ذَرَّة خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَل مِثْقَال ذَرَّة شَرّاً يَرَهُ )) أخرجهُ البخاري (4962)، ومسلم (987).
وَالطِّوَل وَالطِّيل: الْحَبْل الَّذِي تَرْبِط فِيهِ، مَعْنَى الْفَاذَّة: الْقَلِيلَة النَّظِير، وَالْجَامِعَة: أَيْ الْعَامَّة الْمُتَنَاوِلَة لِكُلِّ خَيْر وَمَعْرُوف.
وَمَعْنَى الْحَدِيث: لَمْ يَنْزِل عَلَيَّ فِيهَا نَصٌّ بِعَيْنِهَا, لَكِنْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة الْعَامَّة، فهذهِ الأعمالُ لا يؤجرُ عليها إلا مؤمنٌ وليس الكافر، ويجدُ ثوابها في الآخرة بنيتهِ التي نوى بها.
ونأتي الآن على مسألتنا وهي الاستغفار والترحم على الكافر.
إبراهيمُ عليه السلام تبرأ من أبيه الكافر:
قَالَ - تعالى-: (( وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ ))[ التوبة: 114 [.
قال القرطبي: " وَالْمَعْنَى: لَا حُجَّة لَكُمْ أَيّهَا الْمُؤْمِنُونَ فِي اِسْتِغْفَار إِبْرَاهِيم الْخَلِيل - عَلَيْهِ السَّلَام - لِأَبِيهِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ إِلَّا عَنْ عِدَة "ا.هـ، والمقصود بـ " عِدَة " قولهُ - تعالى-: (( سَأَسْتَغْفِرُ لَك رَبِّي ))[ مَرْيَم: 47 ]، ولكن عندما تبين أن أباهُ مات على الكفرِ تبرأ منه - عليه السلام -، ولذلك بين النبي - صلى الله عليه وسلم - كيف يكونُ مآلُ والد إبراهيم؟
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " يَلْقَى إِبْرَاهِيمُ أَبَاهُ آزَرَ يَوْمَ الْقِيَامَة، وَعَلَى وَجْه آزَرَ قَتَرَة وَغَبَرَة، فَيَقُول لَهُ إِبْرَاهِيم: أَلَمْ أَقُلْ لَك لَا تَعْصِنِي؟ فَيَقُول أَبُوهُ: فَالْيَوْم لَا أَعْصِيك، فَيَقُول إِبْرَاهِيم: يَا رَبِّ إِنَّك وَعَدْتنِي أَنْ لَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ، فَأَيّ خِزْي أَخْزَى مِنْ أَبِي الْأَبْعَد، فَيَقُول اللَّه: إِنِّي حَرَّمْت الْجَنَّة عَلَى الْكَافِرِينَ، ثُمَّ يُقَال: يَا إِبْرَاهِيم مَا تَحْتَ رِجْلَيْك؟ اُنْظُرْ، فَيَنْظُر فَإِذَا هُوَ بِذِيخٍ مُتَلَطِّخ، فَيُؤْخَذ بِقَوَائِمِهِ فَيُلْقَى فِي النَّار " أخرجهُ البخاري (3350) وَالذِّيخ بِكَسْرِ الذَّال الْمُعْجَمَة بَعْدَهَا تَحْتَانِيَّة سَاكِنَة ثُمَّ خَاء مُعْجَمَة ذَكَر الضِّبَاع، وَقِيلَ لَا يُقَال لَهُ ذِيخ إِلَّا إِذَا كَانَ كَثِير الشَّعْر.
قال الحافظُ ابنُ حجرٍ في " الفتح " (8/359) عن الحكمةِ من مسخِ آزر على صفةِ الذيخِ: " قِيلَ: الْحِكْمَة فِي مَسْخه لِتَنْفِرَ نَفْس إِبْرَاهِيم مِنْهُ، وَلِئَلَّا يَبْقَى فِي النَّار عَلَى صُورَته فَيَكُون فِيهِ غَضَاضَة عَلَى إِبْرَاهِيم، وَقِيلَ: الْحِكْمَة فِي مَسْخه ضَبْعاً أَنَّ الضَّبْع مِنْ أَحْمَق الْحَيَوَان، وَآزَرَ كَانَ مِنْ أَحْمَق الْبَشَر، لِأَنَّهُ بَعْدَ أَنْ ظَهَرَ لَهُ مِنْ وَلَده مِنْ الْآيَات الْبَيِّنَات أَصَرَّ عَلَى الْكُفْر حَتَّى مَاتَ، وَاقْتَصَرَ فِي مَسْخه عَلَى هَذَا الْحَيَوَان لِأَنَّهُ وَسَط فِي التَّشْوِيه بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا دُونَهُ كَالْكَلْبِ وَالْخِنْزِير، وَإِلَى مَا فَوْقَهُ كَالْأَسَدِ مَثَلاً، وَلِأَنَّ إِبْرَاهِيم بَالَغَ فِي الْخُضُوع لَهُ، وَخَفْض الْجَنَاح، فَأَبَى وَاسْتَكْبَرَ، وَأَصَرَّ عَلَى الْكُفْر، فَعُومِلَ بِصِفَةِ الذُّلّ يَوْمَ الْقِيَامَة، وَلِأَنَّ لِلضَّبْعِ عِوَجاً فَأُشِيرَ إِلَى أَنَّ آزَرَ لَمْ يَسْتَقِمْ فَيُؤْمِن بَلْ اِسْتَمَرَّ عَلَى عِوَجه فِي الدِّين "ا.هـ.(/6)
قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْر بْن الْعَرَبِيّ: تَعَلَّقَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - فِي الِاسْتِغْفَار لِأَبِي طَالِب بِقَوْلِهِ - تعالى-: (( سَأَسْتَغْفِرُ لَك رَبِّي ))[ مَرْيَم: 47 ] فَأَخْبَرَهُ اللَّه - تعالى- أَنَّ اِسْتِغْفَار إِبْرَاهِيم لِأَبِيهِ كَانَ وَعْداً قَبْل أَنْ يَتَبَيَّن الْكُفْر مِنْهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ الْكُفْر مِنْهُ تَبَرَّأَ مِنْهُ، فَكَيْفَ تَسْتَغْفِر أَنْتَ لِعَمِّك يَا مُحَمَّد وَقَدْ شَاهَدْت مَوْته كَافِراً.
النبي - صلى الله عليه وسلم - يُنهى عن الاستغفارِ للمشركين:
قال - تعالى-: (( مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَاَلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْد مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَاب الْجَحِيم ))[ التوبة: 113 [.
قال القرطبي في " تفسيره ": " هَذِهِ الْآيَة تَضَمَّنَتْ قَطْع مُوَالَاة الْكُفَّار حَيّهمْ وَمَيِّتهمْ فَإِنَّ اللَّه لَمْ يَجْعَل لِلْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ، فَطَلَبُ الْغُفْرَان لِلْمُشْرِكِ مِمَّا لَا يَجُوز، فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ صَحَّ أَنَّ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ يَوْم أُحُد حِين كَسَرُوا رَبَاعِيَته، وَشَجُّوا وَجْهه: " اللَّهُمَّ اِغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ " فَكَيْفَ يَجْتَمِع هَذَا مَعَ مَنْع اللَّه - تعالى- رَسُوله وَالْمُؤْمِنِينَ مِنْ طَلَب الْمَغْفِرَة لِلْمُشْرِكِينَ، قِيلَ لَهُ: إِنَّ ذَلِكَ الْقَوْل مِنْ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - إِنَّمَا كَانَ عَلَى سَبِيل الْحِكَايَة عَمَّنْ تَقَدَّمَهُ مِنْ الْأَنْبِيَاء، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ مُسْلِم عَنْ عَبْد اللَّه قَالَ: كَأَنِّي أَنْظُر إِلَى النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - يَحْكِي نَبِيّاً مِنْ الْأَنْبِيَاء ضَرَبَهُ قَوْمه وَهُوَ يَمْسَح الدَّم عَنْ وَجْهه وَيَقُول: " رَبّ اِغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ". وَفِي الْبُخَارِيّ أَنَّ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - ذَكَرَ نَبِيّاً قَبْله شَجَّهُ قَوْمه فَجَعَلَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - يُخْبِر عَنْهُ بِأَنَّهُ قَالَ: " اللَّهُمَّ اِغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ "، قُلْت: وَهَذَا صَرِيح فِي الْحِكَايَة عَمَّنْ قَبْله، لَا أَنَّهُ قَالَهُ اِبْتِدَاء عَنْ نَفْسه كَمَا ظَنَّهُ بَعْضهمْ ".ا.هـ.
وقد جاء في سببِ نزولِ هذه الآيةِ:
عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الْوَفَاةُ جَاءَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَوَجَدَ عِنْدَهُ أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِأَبِي طَالِبٍ: ( يَا عَمِّ؛ قُلْ: " لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ كَلِمَةً أَشْهَدُ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ )، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ: " يَا أَبَا طَالِبٍ أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ "؛ فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَعْرِضُهَا عَلَيْهِ، وَيَعُودَانِ بِتِلْكَ الْمَقَالَةِ حَتَّى قَالَ أَبُو طَالِبٍ آخِرَ مَا كَلَّمَهُمْ: " هُوَ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ "، وَأَبَى أَنْ يَقُولَ: " لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ "، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: " أَمَا وَاللَّهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ "، فَأَنْزَلَ اللَّهُ - تعالى- فِيهِ: (( مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ ))، وَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: (( إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ))[ الْقَصَص: 56 [ أخرجهُ البخاري (4675)، ومسلم (24(.
قال الحافظُ ابنُ حجرٍ في " الفتح ": " أَيْ مَا يَنْبَغِي لَهُمْ ذَلِكَ، وَهُوَ خَبَر بِمَعْنَى النَّهْي هَكَذَا وَقَعَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَة ".ا.هـ.
والنبي - صلى الله عليه وسلم - نهاه ربهُ عن الاستغفار لأمه:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: " زَارَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - قَبْرَ أُمِّهِ، فَبَكَى وَأَبْكَى مَنْ حَوْلَهُ، فَقَالَ: ( اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي فِي أَنْ أَسْتَغْفِرَ لَهَا فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي، وَاسْتَأْذَنْتُهُ فِي أَنْ أَزُورَ قَبْرَهَا فَأُذِنَ لِي، فَزُورُوا الْقُبُورَ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الْمَوْتَ ) أخرجه مسلم (976).(/7)
قال الإمامُ النووي في " شرح مسلم ": " وَفِيهِ: النَّهْي عَنْ الِاسْتِغْفَار لِلْكُفَّارِ ".ا.هـ.
وجاء في " الموسوعةِ الفقهيةِ " عند مادةِ " استغفار ": " اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الِاسْتِغْفَارَ لِلْكَافِرِ مَحْظُورٌ، بَلْ بَالَغَ بَعْضُهُمْ فَقَالَ: إنَّ الِاسْتِغْفَارَ لِلْكَافِرِ يَقْتَضِي كُفْرَ مَنْ فَعَلَهُ، لِأَنَّ فِيهِ تَكْذِيباً لِلنُّصُوصِ الْوَارِدَةِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ - تعالى- لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ، وَأَنَّ مَنْ مَاتَ عَلَى كُفْرِهِ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ ".ا.هـ.
والنبي - صلى الله عليه وسلم - حكم على أبيه أنهُ في النارِ لأنه مات على الكفرِ:
عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَجُلاً قَالَ: " يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ أَيْنَ أَبِي؟"، قَالَ: ( فِي النَّارِ )، فَلَمَّا قَفَّى دَعَاهُ فَقَالَ: ( إِنَّ أَبِي وَأَبَاكَ فِي النَّارِ ) ( أخرجهُ مسلم )، قال النووي في " شرح مسلم ": " فِيهِ: أَنَّ مَنْ مَاتَ عَلَى الْكُفْر فَهُوَ فِي النَّار، وَلَا تَنْفَعهُ قَرَابَة الْمُقَرَّبِينَ ".ا.هـ، وقال في " المجموعِ " (5/144): " وَأَمَّا الصَّلَاةُ عَلَى الْكَافِرِ وَالدُّعَاءُ لَهُ بِالْمَغْفِرَةِ فَحَرَامٌ بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَالْإِجْمَاعِ ".ا.هـ.
قال العلامةُ الألباني - رحمه الله - في " أحكامِ الجنائزِ " ( ص 124 ): " ومن ذلك تعلمُ خطأَ بعضِ المسلمين اليوم من الترحمِ والترضي على بعضِ الكفارِ، ويكثُرُ ذلك من بعضِ أصحابِ الجرائدِ والمجلاتِ، ولقد سمعتُ أحدَ رؤساءِ العربِ المعروفين بالتدينِ يترحمُ على " ستالين " الشيوعي الذي هو ومذهبهُ من أشدِ وألدِ الأعداءِ على الدينِ! وذلك في كلمةٍ ألقاها الرئيسُ المشارُ إليه بمناسبةِ وفاةِ المذكورِ، أذيعت بالراديو! ولا عَجَبَ من هذا فقد يخفى عليه مثلُ هذا الحكمِ، ولكن العجب من بعضِ الدعاةِ الإسلاميين أن يقعَ في مثلِ ذلك حيثُ قال في رسالةٍ له: " رحم اللهُ برناردشو... "، وأخبرني بعض الثقاتِ عن أحدِ المشايخِ أنه كان يصلي على من مات من الفرقةِ الإسماعليةِ الباطنيةِ مع اعتقاده أنهم غيرُ مسلمين؛ لأنهم لا يرون الصلاةَ ولا الحجَّ ويعبدون البشرَ! ومع ذلك كان يصلي عليهم نفاقاً ومداهنةً لهم، فإلى اللهِ المشتكى وهو المستعان ".ا.هـ.
لا يجوز تشميتُ العاطس الكافرِ بالرحمةِ:
أَبِي مُوسَى - رضي الله عنه - قَالَ: " كَانَ الْيَهُودُ يَتَعَاطَسُونَ عِنْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، يَرْجُونَ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ " يَرْحَمُكُمْ اللَّهُ "، فَيَقُولُ : ( يَهْدِيكُمُ اللَّهُ، وَيُصْلِحُ بَالَكُمْ ) أخرجهُ الترمذي (2739) وقال: " حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ ".
قال الحافظُ ابنُ حجرٍ في " الفتح " تعليقاً على حديث أبي موسى - رضي الله عنه -: " وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ الشَّرْع فَحَدِيث أَبِي مُوسَى دَالّ عَلَى أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ فِي مُطْلَق الْأَمْر بِالتَّشْمِيتِ، لَكِنْ لَهُمْ تَشْمِيت مَخْصُوص وَهُوَ الدُّعَاء لَهُمْ بِالْهِدَايَةِ وَإِصْلَاح الْبَال وَهُوَ الشَّأْن وَلَا مَانِع مِنْ ذَلِكَ، بِخِلَافِ تَشْمِيت الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّهُمْ أَهْل الدُّعَاء بِالرَّحْمَةِ بِخِلَافِ الْكُفَّار ".ا.هـ.
الإجماعُ على كفرٍ من لم يكفرِ الكافرَ أو شك في كفرهِ:
وبعد هذه النصوصِ نأتي على مسألةٍ مهمةٍ لها علاقةٌ وثيقةٌ بما نحن بصددهِ ألا وهي من لا يريدُ أن يكفرَ أو يشككَ في كفرِ الكافرِ من أمثالِ الطاغوتِ البابا، وهذا مزلقُ خطيرٌ جداً قد يوقعُ الإنسانَ في الكفر شعر أم لم يشعر، وقد حكى الإجماعَ عددٌ من العلماءِ على تكفيرِ من لم يكفر أو شك أو توقف في كفرِ الكافرِ.
فهذا القاضي عياض - رحمهُ اللهُ - في " الشفا " (2/281) ينقلُ الإجماعَ على كفرِ من لم يكفر الكافر أو شك في كفره، وذلك عند كلامهِ عن تكفيرِ من صوب أقوال المجتهدين في أصولِ الدين حيثُ قال: " وقائلُ هذا كلهِ كافرٌ بالإجماعِ على كفرِ من لم يكفر أحداً من النصارى واليهود، وكل من فارق دين المسلمين أو وقف في تكفيرهم أو شك ".ا.هـ.
وقال أيضاً: " ولهذا نكفرُ من دان بغيرِ ملةِ الإسلامِ من المللِ، أو وقف فيهم، أو شك، أو صحح مذهبهم وإن أظهرَ مع ذلك الإسلامَ، واعتقد إبطال كل مذهب سواه، فهو كافرٌ بإظهارهِ ما أظهر من خلافِ ذلك ".ا.هـ.
وقال صاحبُ " مغني المحتاج إلى معرفةِ ألفاظ المنهاج " في معرضِ سرده لصورِ الردة: " أَوْ لَمْ يُكَفِّرْ مَنْ دَانَ بِغَيْرِ الْإِسْلَامِ كَالنَّصَارَى، أَوْ شَكَّ فِي كُفْرِهِمْ... أَوْ قَالَ مُعَلِّمُ الصِّبْيَانِ مَثَلاً: الْيَهُودُ خَيْرٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّهُمْ يُنْصِفُونَ مُعَلِّمِي صِبْيَانِهِمْ ".ا.هـ.(/8)
وقال صاحبُ " كشاف القناع " في كتابِ الردةِ: " ( أَوْ لَمْ يُكَفِّرْ مَنْ دَانَ ) أَيْ تَدَيَّنَ ( بِغَيْرِ الْإِسْلَامِ كَالنَّصَارَى ) وَالْيَهُودِ ( أَوْ شَكَّ فِي كُفْرِهِمْ أَوْ صَحَّحَ مَذْهَبَهُمْ ) فَهُوَ كَافِرٌ لِأَنَّهُ مُكَذِّبٌ لِقَوْلِهِ - تعالى-: (( وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ ))ا.هـ.
وقال أيضاً: " ( وَقَالَ الشَّيْخُ: مَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ الْكَنَائِسَ بُيُوتُ اللَّهِ، وَأَنَّ اللَّهَ يُعْبَدُ فِيهَا، وَأَنَّ مَا يَفْعَلُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى عِبَادَةً لِلَّهِ، وَطَاعَةً لَهُ وَلِرَسُولِهِ، أَوْ أَنَّهُ يُحِبُّ ذَلِكَ أَوْ يَرْضَاهُ ) فَهُوَ كَافِرٌ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ اعْتِقَادَ صِحَّةِ دِينِهِمْ، وَذَلِكَ كُفْرٌ كَمَا تَقَدَّمَ ( أَوْ أَعَانَهُمْ عَلَى فَتْحِهَا ) أَيْ الْكَنَائِسِ ( وَإِقَامَةِ دِينِهِمْ وَ ) اعْتَقَدَ ( أَنَّ ذَلِكَ قُرْبَةٌ أَوْ طَاعَةٌ فَهُوَ كَافِرٌ ) لِتَضَمُّنِهِ اعْتِقَادَ صِحَّةِ دِينِهِمْ، وَقَالَ ( الشَّيْخُ ) فِي مَوْضِعِ آخَرَ: مَنْ اعْتَقَدَ أَنْ زِيَارَةَ أَهْلِ الذِّمَّةِ فِي كَنَائِسِهِمْ قُرْبَةٌ إلَى اللَّهِ فَهُوَ مُرْتَدٌّ، وَإِنْ جَهِلَ أَنَّ ذَلِكَ مُحَرَّمٌ عُرِّفَ ذَلِكَ، فَإِنْ أَصَرَّ صَارَ مُرْتَدّاً ) لِتَضَمُّنِهِ تَكْذِيبَ قَوْله - تعالى-: (( إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ )).ا.هـ.
وقال صاحبُ " مطالبِ أولي النهى ": " ( أَوْ لَمْ يُكَفِّرْ مَنْ دَانَ )؛ أَيْ: تَدَيَّنَ ( بِغَيْرِ الْإِسْلَامِ ) كَالنَّصَارَى وَالْيَهُودِ ( أَوْ شَكَّ فِي كُفْرِهِ ) أَوْ صَحَّحَ مَذْهَبَهُ؛ فَهُوَ كَافِرٌ؛ لِقَوْلِهِ - تعالى-: (( وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ ))الْآيَةَ ".ا.هـ.
وقال شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ في " الفتاوى " (2/368) في بيانِ حقيقةِ عقيدةِ وحدةِ الوجودِ، وأنها أشرُ من قولِ النصارى: " فهذا كلهُ كفرٌ باطناً وظاهراً بإجماعِ كلِ مسلمٍ، ومن شك في كفرِ هؤلاءِ بعد معرفةِ دينِ الإسلامِ فهو كافرٌ كمن يشكُ في كفرِ اليهودِ والنصارى والمشركين ".ا.هـ.
وهذا الشيخُ محمدُ بنُ عبد الوهابِ يعدُه من نواقضِ التوحيدِ فيقول في الناقضِ الثالثِ: " من لم يكفرِ المشركين، أو شك في كفرهم، أو صحح مذهبهم ".
فليحذر المميعين للدينِ من أجل إرضاءِ الناسِ بسخطِ اللهِ.
عبد الله الزقيل ... ...
********************(/9)
(موج من فوقه موج)
هذه حقيقة تم الوصول اليها بعد إقامة مئات من المحطات البحرية ..
والتقاط الصور بالأقمار الصناعة .. والذي قال هذا الكلام هو البروفيسور شرايدر .. وهو من أكبر علماء البحار بألمانيا الغربية .. كان يقول : إذا تقدم العلم فلا بد أن يتراجع الدين .. لكنه عندما سمع معاني آيات القرآن بهت وقال : إن هذا لا يمكن أن يكون كلام بشر .. ويأتي البروفيسور دورجاروا أستاذ علم جيولوجيا البحار ليعطينا ما وصل إليه العلم في قوله تعالى : ( أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ )سورة النور : 40 .. فيقول لقد كان الإنسان في الماضي لا يستطيع أن يغوص بدون استخدام الآلات أكثر من عشرين مترا .. ولكننا نغوص الآن في أعماق البحار بواسطة المعدات الحديثة فنجد ظلاما شديدا على عمق مائتي متر .. الآية الكريمة تقول بَحْرٍ لُّجِّيٍّ ) كما .. أعطتنا اكتشافات أعماق البحار صورة لمعنى قوله تعالى : ( ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ ) فالمعروف أن ألوان الطيف سبعة ...منها الأحمر والأصفر والأزرق والأخضر والبرتقالي إلى آخرة .. فإذا غصنا في أعماق البحر تختفي هذه الألوان واحدا بعد الآخر .. واختفاء كل لون يعطي ظلمة .. فالأحمر يختفي أولا ثم البرتقالي ثم الأصفر .. وآخر الألوان اختفاء هو اللون الأزرق على عمق مائتي متر .. كل لون يختفي يعطي جزءا من الظلمة حتى تصل إلى الظلمة الكاملة .. أما قوله تعالى : ( مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ ) فقد ثبت علميا أن هناك فاصلا بين الجزء العميق من البحر والجزء العلوي .. وأن هذا الفاصل ملئ بالأمواج فكأن هناك أمواجا على حافة الجزء العميق المظلم من البحر وهذه لا نراها وهناك أمواج على سطح البحر وهذه نراها .. فكأنها موج من فوقه موج .. وهذه حقيقة علمية مؤكدة ولذلك قال البروفيسور دورجاروا عن هذه الآيات القرآنية : إن هذا لا يمكن أن يكون علما بشريا
المصدر " الأدلة المادية على وجود الله " لفضيلة الشيخ محمد متولي الشعراوي
2/الشمس والقمر
وجدوا أن القمر يسير بسرعة 18 كيلو مترا في الثانية والواحدة والأرض 15 كيلومترا في الثانية والشمس 12 كيلومترا في الثانية .. الشمس تجري والأرض تجري والقمر يجري قال الله تعالى ( وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ) عليّ يجري ومحمد يسير بمنازل وعليّ لا يدرك محمدا ما معنى هذا ؟ معناه أن عليّا يجري ومحمد يجري ولكن عليّا لا يدرك محمدا الذي يجري الله يقول : ( وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ) ثم قال : ( لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ ) يكون القمر قبلها أم لا ؟ .. القمر قبلها وهي تجري ولا
تدركه وتجري ولا تدركه لأن سرعة القمر 18 كيلومترا والأرض 15 كيلو مترا والشمس 12 كيلومترا فمهما جرت الشمس فإنها لا تدرك القمر ولكن ما الذي يجعل القمر يحافظ على منازله ؟ وكان من الممكن أن يمشي ويتركها ؟وجدوا أن القمر يجري في تعرج يلف ولا يجري في خط مستقيم هكذا ولكنه جري بهذا الشكل حتى يبقى محافظا على منازله ومواقعه تأملوا فقط في هذه الحركة القمر , الشمس , الأرض , النجوم تجري لو اختلف تقدير سرعاتها.. كان اليوم الثاني يأتي فنقول : أين الشمس ؟ نقول والله تأخرت عنا عشرين مرحلة ! ويجئ بعد سنة من يقول : أين الشمس ؟ نقول : والله ضاعت ..! من أجرى كل كوكب ؟ ( وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ) يسبح ويحافظ على مداره ويحافظ على سرعته ويحافظ على موقعه صنع من ؟ ذلك تقدير العزيز العليم ! هل هذا تقدير أم لا ؟ وهل يكون التقدير صدفة ؟ .. لا إن التقدير يكون من إرادة مريد .. هذا التقدير من قويّ .. من قادر سبحانه وتعالى وضع كل شئ في مكانه وأجراه في مكانها
لمصدر " وغدا عصر الأيمان " للشيخ عبد المجيد الزندانى
3/ الذبابة
قال صلى الله عليه وسلم : ( إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه ثم لينتزعه فإن في إحدى جناحية داء وفي الأخرى شفاء ) أخرجه البخاري وابن ماجه وأحمد .. وقوله : ( إن في أحد جناحي الذباب سم والآخر شفاء فإذا وقع في الطعام فامقلوه فإنه يقدم السم ويؤخر الشفاء ) رواه أحمد وابن ماجه(/1)
من معجزاته الطبية صلى الله عليه وسلم التي يجب أن يسجلها له تاريخ الطب بأحرف ذهبية ذكره لعامل المرض وعامل الشفاء محمولين على جناحى الذبابة قبل اكتشافهما بأربعة عشر قرنا .. وذكره لتطهير الماء إذا وقع الذباب فيه وتلوث بالجراثيم المرضية الموجودة في أحد جناحيه نغمس الذبابة في الماء لإدخال عامل الشفاء الذي يوجد في الجناح الآخر الأمر الذي يؤدي إلى إبادة الجراثيم المرضية الموجودة بالماء وقد أثبت التجارب العلمية الحديثة الأسرار الغامضة التي في هذا الحديث .. أن هناك خاصية في أحد جناحي الذباب هي أنه يحول البكتريا إلى ناحية .. وعلى هذا فإذا سقط الذباب في شراب أو طعام وألقى الجراثيم العالقة بأطرافه في ذلك الشراب أو الطعام .. فإن أقرب مبيد لتلك الجراثيم وأول واحد منها هو مبيد البكتريا يحمله الذباب في جوفه قريبا من أحد جناحيه فإذا كان هناك داء فدواؤه قريب منه .. ولذا فإن غمس الذباب كله وطرحه كاف لقتل الجراثيم التي كانت عالقة به وكاف في إبطال عملها كما أنه قد ثبت علميا أن الذباب يفرز جسيمات صغيرة من نوع الإنزيم تسمى باكتر يوفاج أي مفترسة الجراثيم وهذه المفترسة للجراثيم الباكتر يوفاج أو عامل الشفاء صغيرة الحجم يقدر طولها بـ 20 : 25 ميلي ميكرون فإذا وقعت الذبابة في الطعام أو الشراب وجب أن تغمس فيه كي تخرج تلك الأجسام الضدية فتبيد الجراثيم التي تنقلها من هنا فالعلم قد حقق ما أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم بصورة إعجازية ومن هنا يتجلى أن العلم في تطوره قد أثبت في نظرياته العلمية موافقته وتأكيده على مضمون الحديث الشريف مما يعد إعجازا علميا قد سبق به العلماء الآن
المصدر " الإعجاز العلمي في الإسلام والسنة النبوية " محمد كامل عبد الصمد
أخوكم
طه حسين أبو على(/2)
موجز المسيرة التاريخية للبيانات والوثائق الوضعية لحقوق الإنسان
بقلم الدكتور عدنان علي رضا النحوي
على أثر هزيمة المسلمين في مواقع كثيرة في الأرض : في الجولات الأولى من الحروب الصليبية ، في أسبانيا ، في جنوب شرق آسيا ، انحسار الدولة العثمانية عن كثير من أقطار أوروبا الشرقية ، سقوط دولة المغول في الهند ، على أثر هذه الهزائم التي أدت إلى سقوط الخلافة ، وإلى احتلال الأعداء لمناطق واسعة من العالم الإسلامي ، أخذ الغرب يعزز كل مظاهر التقدّم لنفسه ، لعلمائه ورجاله وفلاسفته ، .. ويُخفي ما للمسلمين من أثر كبير في التطور الذي بلغته أوروبا في العصور الحديثة ، إلا قليلاً من رجالهم الذين حاولوا الإنصاف أو بعض الإنصاف .
لا نتحدث هنا عن العلوم والصناعة مع أهميتهما ، ولكننا نتحدث عن الفكر الإنساني والتصور للكون والحياة والإنسان ، والتطور الذي بلغته القوانين بالنسبة لحقوق الإنسان .
لقد أصبح من الخطأ المتعارف عليه اليوم أن يُقال إن حقوق الإنسان وقوانينها بدأت مع الثورة الفرنسية التي امتدت من سنة 1789م حتى سنة 1799م . ويُرْوَى أن من بين من صاغوا وثيقة حقوق الإنسان في الثورة الفرنسية " الماركيز لا فاييت The Marquis De Lafayette " ( 1757 ـ 1834م )(1) ، وفي قول آخر أمانول جوزيف سييس ( 1748 ـ 1836م ) (2) ، ثم أقرتها الجمعية الوطنية وأعلنتها كوثيقة رسمية لحقوق الإنسان في 26 آب 1789م . ويُقال إن هذه الوثيقة اعتمدت على مصدرين : الأَول : كتابات جان جاك روسو ( 1712م ـ 1778م ) وفولتير ( 1694م ـ 1778م ) وغيرهما من الفرنسيين ، والكاتب الإنجليزي جون لوك John Locke (1632 ـ 1704م ) وغيرهم من كتاب أوروبا . والثاني : إعلان وثيقة الاستقلال الأَمريكي الصادرة في 4 تموذ (يوليو ) 1776م ، التي كتبها توماس جيفرسون ( 1743 ـ 1826م ) وأقرّها الكونجرس الأمريكي . ومن أهم ما ورد في وثيقة الاستقلال الأمريكي النصّ التالي : " نؤمن أن الحقائق التالية تثبت صحتها بنفسها : إن الناس خُلقوا متساوين ، وأن الله منحهم حقوقاً غير قابلة للتبديل. ومن هذه الحقوق : الحرّية والحياة وطلب السعادة " .
وكذلك جان جاك روسو جاء في كتابه العقد الاجتماعي " أن الناس يولدون أحراراً ولكنهم يعيشون مكبَّلين بالسلاسل في كل مكان " .
وانطلقت شعارات الثورة الفرنسية في أوربا : " الحرية ، المساواة ، الإخاء " Liberte , Egalite , Fraternite: Liberty , equality , brotherhood " .
ولكن الثورة الفرنسية في ممارستها خلال سنواتها العشر ارتكبت من المظالم ما يتناقض مع هذه الشعارات ، ارتكبت المظالم باسم الشعارات ، كما تُرْتكَبُ اليوم كثير من المظالم في الأرض تحت شعارات السلام والحرية والمساواة والإخاء .
وظل كثير من الناس يعتقدون أن حقوق الإنسان ابتدأت لأول مرة مع هذه الفترة في التاريخ البشري ، وأن ما تلا ذلك كان مبنياً عليه . وفي ذلك مغالطة كبيرة . فالإنسان جاهد لأَجل حقوقه منذ قديم الزمان . وكلما قام ظلم من فئة كان يظهر فئة من المظلومين تقود الثورة والصراع ضد الظالمين . وإن حرص الإنسان على حقوقه قضية مغروسة في الفطرة كما سنوضح . فالجهاد ضد الظلم أو الصراع ضدّه تبعثه الفطرة السليمة أو بقيّة منها إذا شوّهت الفطرة . فقد يثور ضد الظلم طائفة من الناس ، فإن نجحوا أصبحوا هم أنفسهم ظالمين ، ونسُوا حقوق الإنسان وما كانوا يطالبون به . وفي كثير من الأحيان كان يقوم المنتصرون بوضع قوانين تعطي طرفاً من الحقوق للناس وتعطي كل الحقوق لأنفسهم . واستغرقت هذه الحالة مسيرة طويلة في التاريخ كانت الحقوق فيها تُمنَح من البشر للبشر ، ويصوغها البشر كجزء مستقل عن رسالة عامة إن وجدت الرسالة العامة ، أو كجزء مستقل يمثل جوهر الصراع ، ولعله من المفيد أن نتتبَّع مسيرة القوانين البشرية في خطواتها الرئيسة :
1ـ القانون البابلي الذي يعود للقرن الثالث والعشرين قبل الميلاد .
2ـ قانون حمورابي .
3ـ القوانين اليونانية في مراحل مختلفة ، وتعاليم المدرسة الرواقية التي أسسها زينون الكيتيوني في معبد أثيناذي الأعمدة والأروقة . وزينون عاش في الفترة 335ـ 263ق.م .
4ـ وثيقة الحريات العظمى الماغناكارتا Magns Carta التي أُجْبِرَ ملك بريطانيا على توقيعها سنة1215 م
5ـ وثيقة المثول أمام القضاء في بريطانيا تشمل بعض الضمانات للمتهم ، وقد صدرت سنة 1679م .
6ـ وثيقة الحقوق الإنجليزية سنة 1689م .
7ـ وثيقة الاستقلال الأمريكي سنة 1776م .
8ـ إعلان حقوق الإنسان أثناء الثورة الفرنسية الذي صدر سنة 1789م .
9ـ وثيقة حقوق اِلإنسان العامة للأمم المتحدة بتاريخ 10/12/1948م .
10ـ الميثاقان العالميان الصادران عن الهيئة العامة للأمم المتحدة أحدهما عن الحقوق المدنية والسياسية ، والثاني عن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الصادران في 19/12/1966م . ووثائق الأمم المتحدة هذه ليس لها قوة الإلزام .(/1)
وأمام الادعاء الغربي بأنهم أول من نادى بحقوق الإنسان ، وأمام التجاهل الكامل للإسلام والمسلمين ، والضعف العام الذي أصاب الأمة المسلمة وتمزّقها ، حاول بعض المسلمين أَن يضع لحقوق الإنسان في الإسلام على غرار ما فَعل الغرب .
" البيان العالمي عن حقوق الإنسان في الإسلام " الذي صدر عن المجلس الإسلامي " الذي يتخذ من لندن مركزاً له ، والذي عقد مؤتمراً عالمياً في باريس خلال شهر ذي القعدة سنة 1401هـ ، وأصدر بيانه في 21ذي القعدة 1401هـ الموافق 19أيلول 1981م . وقد شمل هذا البيان مدخلاً ثم ثلاثاً وعشرين مادة ، ثم المصادر للآيات والأحاديث .
وقد صدر كذلك " إعلان القاهرة حول حقوق الإنسان في الإسلام " الصادر عن منظمة المؤتمر الإسلامي في 14 محرّم 1411هـ الموافق 5 آب ( أغسطس ) 1990م . وقد شمل هذا الإعلان خمساً وعشرين مادة . واختتمت موادها بالمادة الخامسة والعشرين التي تنصّ على أن " الشريعة الإسلامية هي المرجع الوحيد لتفسير أو توضيح أي مادة من مواد هذه الوثيقة " كما شمل الإعلان مدخلاً لمواده .
وقد نصت المادة الأولى في البيان العالمي الصادر من باريس الذي ذكرناه أعلاه :
" الناس جميعاً سواء في المجتمع لا امتياز ولا تمييز بين فرد على أساس من أصل أو عنصر أو جنس أو لون أو لغة أو دين " . ونرى أن هذا النصّ جاء واسعاً عاماً دون أن يشير إلى القيود والضوابط التي وضعها الإسلام لتوفير العدالة وضمان الحقوق العادلة . إن هذا النص نصّ عَلمانيٌّ لا يتفق وحقائق الإسلام كما سنشير إلى ذلك بعد قليل .
أما بيان القاهرة فقد كان أكثر دقّة ، لولا أنه أعاد النصّ العَلمانيّ السابق . فقد جاء في المادة الأولى :
البشر جميعاً أسرة واحدة جمعت بينهم العبودية لله والبنوّة لآدم ، وجميع الناس متساوون في أصل الكرامة الإنسانية وفي أصل التكليف والمسؤولية دون تمييز بينهم بسبب العرق أو اللون أو اللغة أو الجنس أو المعتقد الديني أو الانتماء السياسي أو الوضع الاجتماعي أو غير ذلك من الاعتبارات . وإن العقيدة الصحيحة هي الضمان لنمو هذه الكرامة على طريق تكامل الإنسان .
( أ ) إن الخلق كلهم عيال الله ، وإِنَّ أحبَّهم إلى الله أنفعهم لعياله ، وإنه لا فضل لأحد على الأخر إلا بالتقوى والعمل الصالح .
(ب) لقد وضّح هذا النص أن المساواة هي في أصل الكرامة الإنسانية وأصل التكليف ، وورود كلمة "أصل" كان موفقاً جداً .
كما بين أن العقيدة الصحيحة التي هي الإسلام ، وإن لم ينصّ على كلمة الإسلام ، هي الضمان لنمو الكرامة .
كما بين أَن أساس التفاضل بين الناس هو التقوى والعمل الصالح . هذه القواعد الربانيّة تكشف من حيث المبدأ الفرق بين البيانات الوضعية وبين البيانات النابعة عن منهاج الله .
ولكننا نود أن نشير إلى أن حقوق الإنسان لا يمكن لبيان عام أن يوفيها حقَّها ، ولكنَّ منهاج الله كله هو البيان الحق المعجز المتكامل ، كما سنوضح ذلك في فصول أُخرى . إن البيان أو الوثيقة على غرار ما ذكرناه أعلاه لا يستطيع أن يوفي عرض حقوق الإنسان أبداً ، ولا أن يربطها بالمسؤوليات كما ربطها منهاج الله .
إن منهاج الله – قرآناً وسّنة ولغة عربية – هو بأكمله البيان الأول المعجز لحقوق الإنسان ، وليست البيانات الوضعية التي أشرنا إِليها سابقاً . فالنص ، مثلاً ، على أن الناس متساوون دون تمييز بينهم بسبب اختلاف العرق أو اللون أو اللغة أو الجنس أو المعتقد الديني ، هو نصٌّ عَلمانيّ غربي يُحْشر حشراً بين بعض الأفكار الإسلامية ، كما رأينا في النصوص السابق ذكرها من البيانات الوضعية . فينكشف التناقض والاضطراب . إن هذا النصّ مناف لقواعد الإسلام ، ونصوص القرآن والسنّة ، وللتطبيق العملي في حياة النبوة الخاتمة والخلفاء الراشدين . فوجود بعض الحقوق التي يشترك فيها الناس ، لا يعني أنهم يشتركون في جميع الحقوق . فالمعتقد الديني له دور أساسيّ في تحديد الحقوق وفي التفريق بينها ، فلا يمكن للإسلام أن يساوي بين المؤمن والكافر بعد أن فرّق الله بينهما :
(( أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يستوون )) [ السجدة : 18 ]
وتتوالى الآيات لتؤكد هذه الحقيقة الأساسية في الإسلام . وسنرى في الفصول المقبلة كيف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وضح جوانب هذه القضية في الكتاب الذي كتبه في المدينة حيث جعل المؤمنين أمّة من دون الناس .
وكذلك قوله سبحانه وتعالي :
(( أم حسب الذين اجترحوا السيّئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواءً محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون . )) [ الجاثية : 21 ]
وكذلك قوله سبحانه وتعالى :
(( من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزيهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون )) [ النحل : 97 ](/2)
كيف يتساوى المؤمن والكافر في ميزان الله ، وقد جاء الإسلام ليجتثّ الكفر من جذوره ، وليجفف مستنقعاته ، ولتقوم الدعوة الإسلامية ، والأمة المسلمة ، بهذه المسؤولية العظيمة .
وكذلك فرّق الإسلام في بعض الحقوق بين المسلم والذمي ، وجعل للذمي حقوقاً يرعاها الإسلام ويوفي بها ، على ضوء ما جاء في الكتاب والسنة . وكنا نتمنى أن تشير البيانات الوضعية السابقة إلى هذه الاختلافات ، وأن تجهر بها حقاً من عند الله لا نملك أن نخفيه ولا أن نعطله . إنها مرحلة من الضعف نمرّ بها لن تكون حجّة على الإسلام ، بل الإسلام حجّة على الجميع .
ولكن هذه النصوص التي وردت في البيان الصادر عن المجلس الإسلامي العالمي ، أو إعلان القاهرة ، يشعر القارئ أنها تتحاشى المجاهرة بنصوص إسلامية أُخرى واردة في الكتاب والسنة . ففي بيان القاهرة جاء التعبير : "العقيدة الصحيحة " كأنما هو وسيلة لتحاشي المجاهرة بكلمة الإسلام . فالإعلان الواضح الصريح أنه هو وحده العقيدة الصحيحة ، وأن الدين عند الله الإسلام ، وأنه من يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه ، وأنه في الآخرة من الخاسرين .
الدعاة مكلفون بتبليغ الإسلام كما نزل من عند الله ، لا يُكْتَم منه شيء ، ولا يُتنازَل منه عن شيء ، وإلا لا يكون التبليغ قد تم . إن هذا شرط رئيس لتبليغ رسالة الله إلى الناس ، وبهذا أمر الله رسوله :
(( يا أيها الرسول بلّغ ما أُنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك منالناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين )) [ المائدة : 67 ]
وقد لعن الله الذين يكتمون ما أنزل الله من البيّنات والهُدى ، مشيراً بذلك إلى ما فعله اليهود والنصارى :
(( إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيّناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون )) [ البقرة : 159 ]
لذلك نرى أن الذين يقومون بأمر الدعوة والبلاغ في دين الله لا يملكون إلا أن يصدعوا بما أمرهم الله ، فيبلِّغوا رسالة الله كما أنزلت واضحة جلية .
(( فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين )) [ الحجر : 94 ]
وإن التورية لن تفيد ، لا من حيث البلاغ ، ولا من حيث حقيقة المشركين . فالمشركون بينهم من يعرف الإسلام وتفاصيله ويدرسونه دون أن يؤمنوا به ، بل ليحاربوه . فإن وارينا أو كتمنا فإنهم يعلمون عندئذ أننا خائفون منهم أو منافقون لهم ، فنفقد هيبتنا في نفوسهم ، ونخسر عون الله ونصره .
أما بالنسبة لما ورد في نص وثيقة الاستقلال الأمريكي من أن الناس خلقوا جميعاً متساوين ، وأن الله منحهم حقوقاً غير قابلة للتبديل ، فإن الوثيقة لم تشمل ولم تشر إلى منهج متكامل يبيّن حقوق الإنسان كاملة ، ولا طبقت أمريكا هذا النصّ لا مع الهنود الحمر ، ولا مع السود ولا مع شعوب أخرى كثيرة سَحَقت فيها حقوق الإنسان .
ولقد جَرَّد الغرب كله الإنسان من كثير من حقوقه حين جرّدوا المرأة من حجابها وسترها ، وحين ألقوها في لهيب فتنة الجنس مع الشباب والرجال ، وحين حطموا الأسرة وجّردوا المرأة من حقوق الأمومة والزوجية ، وجرّدوا الزوج من سكن الحياة الزوجية وحقّه في القوامة ، وجرّدوا الأبناء من حقِّ رعاية الأبوة والأمومة . وحين جرّدوا الإنسان من سلامة فطرته التي فطره الله عليها ، ومن حمايتها .
ولا يختلف الوضع كثيراً بالنسبة لوثيقة الثورة الفرنسية التي ارتكبت أقسى الجرائم الوحشية .
--------------------------------------------------------------------------------
(1) (L30 – 310 ) : New Standard Encyclopedia Vol . 10
(2) د. محمد عماره ـ الإسلام وحقوق الإنسان ضرورات لا حقوق ( ص:13) .(/3)
موسم التجارة الرابحة
د. عبد العزيز بن فوزان الفوزان * 8/12/1425
19/01/2005
يعيش المسلمون في هذه الأيام موسمًا عظيمًا، وأيامًا فاضلة، رفع الله شأنها، وأعلى مكانها، وميّزها عن بقية أيام العام، وجعلها غُرّة في جبين الدهر، ألا وهي أيام العشر، أعني العشر الأول من ذي الحجة، هذه الأيام المباركة التي اختصها الله بمزيد من الشرف والكرامة، وجعلها ميدانًا للمنافسة في الخيرات، والمسابقة بين المؤمنين في مجال الباقيات الصالحات، وموسمًا عظيمًا للتجارة الرابحة مع الله.
وإن شرف هذه الأيام، أمر معلوم من دين الإسلام، وقد تواطأت نصوص الكتاب والسنة على التنويه بفضلها، والإشادة بمكانتها ورِفعة قدرها، والإعلان عن تعظيم الله لشأنها، فقد أقسم الله بها تشريفًا لها، وتنبيهًا على فضلها فقال سبحانه: "والفجر* وليال عشر* والشفع والوتر".
والليالي العشر: هي عشر ذي الحجة، كما قاله ابن عباس وابن الزبير ومجاهد، وغير واحد من السلف والخلف. و"الوتر" قيل: هو يوم عرفة، لكونه التاسع، والشفع، هو يوم النحر، لكونه العاشر. وهذان اليومان داخلان في الأيام العشر، ولكن الله خصّهما بالقسم اهتمامًا بشأنهما، وبيانًا لمزيد شرفهما، وأنهما أفضل أيام العشر، التي هي أفضل أيام الدهر.
وهذه الأيام العشر، هي الأيام المعلومات التي قال الله - تعالى- عنها: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ) [الحج:27-28].
وإنما قيل عنها معلومات: للحرص على عِلمها، من أجل أن وقت الحج في آخرها.
أما السنة النبوية، فقد جاء فيها نصوص كثيرة تدل على فضل هذه الأيام، وأنها أفضل أيام العام، وأن العمل فيها أعظم أجرًا، وأحب إلى الله، وأزكى عنده، وأحظى لديه من العمل فيما سواها من الأيام، يقول النبي –صلى الله عليه وسلم-: "ما من أيام العمل الصالح فيهن، أحب إلى الله منه في هذه الأيام العشر، قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله، ولم يرجع من ذلك بشيء" رواه البخاري وغيره.
وروى الدارمي والبيهقي بإسناد حسن أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: "ما من عمل أزكى عند الله –عز وجل- ولا أعظم أجرًا، من خير يعمله في عشر الأضحى، قيل: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: "ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله ولم يرجع من ذلك بشيء"، قال القاسم بن أبي أيوب: وكان سعيد بن جبير إذا دخل أيام العشر، اجتهد اجتهاداً شديدًا، حتى ما يكاد يقدر عليه.
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، وهي تدل دلالة صريحة على أن عشر ذي الحجة، هي أفضل أيام السنة على الإطلاق، فإن قوله: "ما من أيام" نكرة في سياق النفي، فتفيد العموم، ثم إنها مؤكّدة بـ "من" البيانية، وهي مزيدة لاستغراق النفي، فيكون المعنى: ما من أيام الدنيا أيام أفضل عند الله، ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر. وقد صرح بذلك النبي –صلى الله عليه وسلم- في حديث آخر بقوله: "ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر، فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد" رواه أحمد بسند صحيح.
ولأجل هذا اختلف العلماء: أيهما أفضل عشر ذي الحجة أم العشر الأواخر من رمضان؟
قال ابن كثير –رحمه الله-: "وبالجملة، فهذا العشر- يعني عشر ذي الحجة- قد قيل: إنه أفضل أيام السنة، كما نطق به الحديث، وفضّله كثير على عشر رمضان الأخير، لأن هذا يُشرع فيه ما يُشرع في ذلك من صلاة وصيام وصدقة وغيرها، ويمتاز هذا باختصاصه بأداء فرض الحج فيه. وقيل: ذلك أفضل، لاشتماله على ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر. وتوسط آخرون، فقالوا: أيام هذا أفضل، وليالي ذلك أفضل، وبهذا يجتمع شمل الأدلة. والله أعلم" أ.هـ.
وقال ابن القيم: "فإن قلت: أي العشرين أفضل؟ ... فالصواب، أن يُقال: ليالي العشر الأخير من رمضان، أفضل من ليالي عشر ذي الحجة، وأيام عشر ذي الحجة، أفضل من أيام عشر رمضان، وبهذا التفصيل يزول الاشتباه" أ.هـ.
والحقيقة أنه لا يهمنا كثيرًا، أي الأقوال أرجح؟ بقدر ما يهمنا أن ندرك فضل هذه العشر، وعظم شأنها عند الله تعالى حتى نحرص على اغتنامها، والمنافسة على الخير فيها، وبهذا نعلم مقدار ما نحن فيه من غفلة وتفريط، وحرمان من هذه الخيرات، وخسارة لتلك النّفَحَات.(/1)
وإنّ المرء ليسرُّ سرورًا عظيمًا حين يرى اجتهاد الناس في العشر الأواخر من رمضان، واهتمامهم بها، وحرصهم على اغتنامها، والمنافسة على الخير فيها، ولكنه يعجب أشد العجب، حين يرى هؤلاء الصالحين أنفسهم، لا يحفلون بهذه الأيام المباركة، ولا يهتمون لها، ولا يجتهدون فيها كاجتهادهم في العشر الأخير من رمضان، مع أن هذه الأيام أفضل من تلك الأيام كما سبق؛ فكانت جديرة بأن يهتم بها أكثر، وأن يحرص المؤمن على اغتنامها بشكل أكبر، ويستثمر كل لحظة من لحظاتها فيما يقرّبه إلى الله ويرفع درجاته عنده.
وقد دلّت الأحاديث السابقة على أن العمل الصالح في عشر ذي الحجة أحب إلى الله، وأفضل عنده من العمل نفسه لو عُمل في غيرها من الأيام، وأن العبادة فيها أزكى عند الله وأعظم أجرًا من نفس العبادة، لو فُعِلت في غيرها من أيام العام. فإذا تصدّقت بمائة ريال في هذه العشر، فإنه أعظم أجرًا وأحب إلى الله من التصدّق بهذه المائة في شهر شعبان أو شوال، أو غيرها، وإذا صلّيت ركعتين في هذه العشر فإنهما أحب إلى الله من ركعتين مثلهما تصليهما في غير هذه العشر. وعلى ذلك فقس بقية الأعمال.
بل دلّت هذه الأحاديث على أن العمل فيها، وإن كان مفضولاً، فإنه أعظم أجرًا، وأزكى عند الله، وأحبّ إليه من العمل في غيرها، وإن كان فاضلاً، ولا أدل على ذلك من كون العمل فيها أعظم من الجهاد في سبيل الله الذي يتضمن قطف الرؤوس، وإزهاق النفوس، وتقطيع الأعضاء، وإسالة الدماء، والذي هو من أفضل الأعمال، وذروة سنام الإسلام. فالعمل في هذه العشر أفضل من سائر الأعمال في غيرها، وأفضل من أنواع الجهاد كلها إلا النوع الذي استثناه الرسول –صلى الله عليه وسلم- بقوله: "إلا رجل خرج بنفسه وماله ولم يرجع من ذلك بشيء".
وإذا كان الأمر كذلك، وعلمت أيها المسلم أن الله يحب العمل في هذه الأيام ويباركه ويزكيه، فحرِيّ بك أن تجتهد في هذه الأيام، وتحرص على اغتنام كل لحظة من لحظاتها، وأن تعمّرها بأنواع الطاعات والقّربات التي تزيدك قربًا من ربك، وتكون سببًا لسعادتك ونجاتك في دنياك وآخرتك، فإن الأيام مراحل الآجاب، ومخازن الأعمال، وليس لك أيها الإنسان من عمرك إلا ما قضيته في طاعة ربك، واستودعته عملاً صالحًا تجده أحوج ما تكون إليه، في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، (فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون، ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون).
وإن هذه المواسم الفاضلة لَمِن أعظم نعم الله على عباده، حيث تستحثّ هممهم، وتشحذ عزائمهم للمسارعة إلى الخيرات، ومجاهدة النفس على فعل الطاعات واجتناب المنكرات، حتى تزكو نفوسهم، وترقّ قلوبهم، وتنجلي عنها تلك السحب الكثيفة من الغفلة والقسوة، وحتى تكون هذه الطاعات غذاء لأرواحهم، وأُنسًا لقلوبهم، وسببًا لسعادتهم في دنياهم وآخرتهم، ولله درّ القائل:
يا خادم الجسم كم تسعى لخدمته أتعبت نفسك فيما فيه خسران
أقبل على الروح فاستكمل فضائلها فأنت بالروح لا بالجسم إنسان
ومما يدل على فضل هذه العشر: أن الله –عز وجل- شرع فيها من الأعمال الجليلة الفاضلة، ما لم يشرعه في غيرها من الأيام، وأنها تختص باجتماع أمهات العبادة فيها من الصلاة والصيام والصدقة والحج والأضاحي يوم العيد، ولا يتأتي ذلك في غيرها، ولهذا فإن إدراك هذه العشر المباركة نعمة عظيمة جليلة، وإن واجب المسلم استشعار هذه النعمة، واغتنام هذه الفرصة، وذلك بالاجتهاد في الطاعات والمسارعة إلى الخيرات.
وإن أفضل ما تقرب به العباد إلى ربهم: القيام بما افترضه عليهم، وأداؤه على الوجه الذي يحبه ويرضاه، يقول الله - تعالى- في الحديث القدسي: "من عادى لي وليًا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إليّ عبدي بشيء أحبّ إليّ مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه...".
فينبغي لك أيها المسلم أن تحرص غاية الحرص على أداء الفرائض وإتمامها، وبخاصة الصلاة التي هي عمود الدين وآكد أركان الإسلام بعد الشهادتين، ولا يكن حالك في هذه الأيام الفاضلة كحالك في غيرها من التأخر عن صلاة الجماعة، أو التواني في التكبير إليها، أو التشاغل عنها، والغفلة عن التدبر والخشوع فيها، وهكذا في بقية الفرائض والواجبات.
وإن من الواجبات التي تتأكد في هذه الأيام: التوبة الصادقة النصوح. والتوبة واجبة في كل وقت، ومن كل ذنب كما قال تعالى:(وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون) ولكنها في مثل هذه المواسم آكد وأوجب، وأرجى أن تُقبل، وأن يوفّق صاحبها للهداية والاستقامة؛ فإنه إذا اجتمع للمسلم توبة نصوح، مع أعمال فاضلة، في أزمنة فاضلة، فهذا عنوان الفلاح بتوفيق الله، قال تعالى:(فأما من تاب وآمن وعمل صالحاً فعسى أن يكون من المفلحين) وقال سبحانه:(وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى).(/2)
والتوبة بالنسبة للحاج أوجب عليه من غيره؛ لأن قبول حجّه مشروط بالتوبة الصادقة، وترك الرّفث والفسوق، والنّدم على ما فرّط منه من الذنوب، والعزم الأكيد على عدم العودة إليها بعد انقضاء موسم الحج، قال الله تعالى:(فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج).
ومن ترك المعاصي حال حجه وهو عازم على معاودتها بعد الحج، فإنه لم يتب توبة صادقة، ولم يترك الرفث والفسوق على الحقيقة، بل لا يزال متصفاً بالفسق؛ لأنه لم يتب حقيقة من الذنب، فلا يعدّ حجّه مبروراً، ولا يحصل له تكفير جميع الذنوب في قول النبي –صلى الله عليه وسلم-:"من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه" متفق عليه.
ومن فضل الله تعالى على الحاج أنه يجتمع له فضل الزمان، وفضل المكان، وفضل الحال. فينبغي أن يكون ذلك دافعاً له إلى المبادرة إلى التوبة الصادقة من جميع الذنوب، واستثمار هذه الفضائل العظيمة في استباق الخيرات، والمسارعة إلى مغفرة الله تعالى وجنة عرضها الأرض والسماوات.
ومما يُشرع في هذه الأيام: الصيام، فيسنّ للمسلم أن يصوم تسع ذي الحجة كما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يصومها، فقد ثبت من حديث حفصة –رضي الله عنها- قالت:"كان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم تسع ذي الحجة ويوم عاشوراء وثلاثة أيام من كل شهر".
ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم- حثّ على العمل الصالح فيها، والصيام من أفضل الأعمال، كيف وقد قال الله عنه في الحديث القدسي:"كل عمل ابن آدم له إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به" أخرجه البخاري ومسلم، وأخرجا كذلك عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال:"من صام يوماً في سبيل الله باعد الله بين وجهه وبين النار سبعين خريفاً". الله أكبر، ما أعظمه من أجر! وما أجزله من عطاء! صيام يوم واحد ابتغاء وجه الله –تعالى- لا رياء فيه ولا سمعة ولا طلباً لعرَض دنيوي، يباعد الله به بين صاحبه وبين النار مسيرة سبعين عاماً!! فما بالكم بمن يصوم تسع ذي الحجة، هذه الأيام التي اختصت بمزيد من الشرف والكرامة!
وإن عجزت أيها المسلم، وضعفت همتك عن صيام التسعة كلّها، فلا تعجز عن صيام ثلاثة أيام منها من أولها أو وسطها أو آخرها، فإن صيام ثلاثة أيام من كل شهر سنة متبعة، فإذا كنت محروماً من صيامها في كل شهر، فلا تقعد عن صيامها في هذا الشهر الكريم وبخاصة في العشر الأول منه، وإن ضعفت همّتك عن هذا، أو شُغلت عنه، فإيّاك أن يفوتك صيام يوم عرفة، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال عن صيامه:"أحتسب على الله أن يكفّر السّنة الماضية والسّنة القابلة" أخرجه مسلم.
وهذا إنما يُستحبّ لغير الحاج، أما الحاج فلا يُشرع له صيامه؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يصمه في حجّه، وحتى يتقوى بالفطر على الذّكر والدعاء في ذلك اليوم العظيم.
وأعظم ما ينبغي فعله في هذه الأيام: الذكر بجميع أنواعه من تكبير وتسبيح وتهليل وتحميد ودعاء واستغفار وقراءة القرآن لقوله تعالى:(ويذكروا اسم الله في أيام معلومات) وهي عشر ذي الحجة كما سبق، ولقوله -صلى الله عليه وسلم-: "فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد" رواه أحمد بإسناد صحيح.
وأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بالإكثار من التهليل والتكبير والتحميد فيها دون غيرها من العبادات، دليل على أنها من آكد العبادات والشعائر في هذه الأيام العشر.
وقد أدرك ذلك سلف الأمة –رضي الله عنهم- فكانوا يلهجون بذكر الله منذ دخول العشر، ويعلنون ذلك في بيوتهم ومساجدهم وأسواقهم وأماكن أعمالهم، ويذكرون الله على كل أحوالهم.
وقد جاء في صحيح البخاري: " وكان ابن عمر وأبو هريرة يخرجان إلى السوق في أيام العشر يكبّران، ويكبّر الناس بتكبيرهما"، وفيه أيضاً: "وكان عمر –رضي الله عنه- يكبر في قبته بمنى، فيسمعه أهل المسجد فيكبرون، ويكبر أهل الأسواق، حتى ترتج منى تكبيراً" والآثار في هذا الباب كثيرة.
والإكثار من التكبير والجهر به من الشعائر التي يشابه بها المقيمون حجاج بيت الله الحرام.
وقد أصبح التكبير في هذا الزمن من السنن المهجورة، ولا سيما في أول العشر فلا تكاد تسمعه إلا من القليل. فحرِي بالمسلمين أن يحيوا هذه السنة فيفوزوا بأجر العمل، وأجر إحياء سنة تكاد تندثر.
وأما صفة التكبير، فليس له صفة يجب الالتزام بها، والأمر في ذلك واسع، والمقصود هو كثرة الذكر على أي صفة مشروعة.
وقد ورد عن السلف صفات متعددة، والمنقول عن أكثرهم أنهم كانوا يقولون: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر ولله الحمد. وعن بعضهم: الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد، وعن بعضهم: الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً.(/3)
وبالإضافة إلى التكبير المطلق الذي يبتدئ من أول ذي الحجة إلى غروب الشمس من اليوم الثالث عشر، فإنه يشرع كذلك التكبير المقيّد بأدبار الصلوات بعد السلام، وهو يبتدئ بالنسبة لغير الحجاج من فجر يوم عرفة إلى صلاة العصر من آخر أيام التشريق. وبالنسبة للحجاج من صلاة الظهر يوم النحر إلى صلاة العصر من آخر أيام التشريق. وهذا هو أصح الأقوال الذي عليه جمهور السلف والفقهاء قديماً وحديثاً.
وظاهر النصوص: أن التكبير المقيّد شامل للمقيم والمسافر، والجماعة والمنفرد، والصلاة المفروضة والنافلة. والمسبوق ببعض الصلاة يكبر إذا فرغ من قضاء ما فاته؛ لأن التكبير ذكر مشروع بعد السلام.
ومن خصائص هذه الأيام العشر: مشروعية الحج فيها، وهو من أفضل ما يُعمل في هذه الأيام، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "تابعوا بين الحج والعمرة، فإنهما ينفيان الفقر والذنوب، كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة" حديث صحيح رواه الترمذي والنسائي. وبيّن عليه الصلاة والسلام أن الحج المقبول ليس لصاحبه جزاء إلا الجنة، فقال: "العمرة إلى العمرة كفّارة لما بينهما والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة" متفق عليه.
والحج ركن من أركان الإسلام، وهو واجب في العمر مرة على كل مسلم بالغ عاقل مستطيع للحج ببدنه وماله. فإن كان ذا مال، ولكنه عاجز عن الحج بنفسه بسبب كبر سنة، أو مرضه الذي لا يُرجى برؤه، فإنه يجب عليه أن يوكل من يحج عنه. وإن كان عجزه يُرجى زواله كالمرض الطارئ، فإنه ينتظر حتى يشفى منه ثم يحج، فإن مات قبل تمكنه، حُجّ عنه من تركته.
والواجب على المسلم: المبادرة إلى الحج عند توفر شروطه فيه. يقول النبي صلى الله عليه وسلم:"تعجلوا إلى الحج فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له" حديث حسن رواه أحمد وغيره. وصحّ عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنه قال: "من أطاق الحج فلم يحج فسواء عليه مات يهودياً أو نصرانياً" وهو وإن كان موقوفاً على عمر، فإنه في حكم المرفوع؛ لأن عمر لا يجزم بمثل هذا من قبل نفسه.
ومما يجدر التنبيه إليه أنه إذا دخل عشر ذي الحجة، وأراد المسلم أن يضحّي، فإنه لا يجوز له أن يأخذ من شعره ولا أظافره، ولا بشرته شيئاً. لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من كان له ذبح يذبحه، فإذا أهلّ هلال ذي الحجة، فلا يأخذ من شعره ولا من أظافره شيئاً حتى يُضحّي".
وفي حديث آخر:"فليمسك عن شعره وأظافره حتى يضحّي"، فهذا أمر يدلّ على الوجوب، وذاك نهي يفيد التحريم، ولا صارف لهما.
لكن لو تعمد وأخذ، فعليه أن يستغفر الله، ولا فدية عليه، وأجر الأضحية كامل إن شاء الله.
ولا حرج في غسل الرأس للرجل والمرأة، ولكن لا يتعمد إسقاط الشعر، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- إنما نهى عن الأخذ ولم ينه عن الغسل ونحوه. والحكمة من النهي عن الأخذ: أنه لمّا كان المضحّي مشابهاً للمحرم في بعض أعمال النسك، وهو التقرب إلى الله بذَبْح القربان، أُعطي بعض أحكامه.
ثم إن هذا النهي ظاهره: أنه يخص صاحب الأضحية، ولا يعم الزوجة والأولاد المضحَّى عنهم، إلا إذا كان لأحدهم أضحية تخصّه، ولأن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يضحّي عن آل محمد، ولم يُنقل عنه أنه نهاهم عن الأخذ.
نسأل الله -تعالى- أن يوفقنا للمسارعة إلى الخيرات، واغتنام فضائل الأوقات، وأن يتقبل منا صالح أعمالنا، ويكفّر عنا سيئاتنا. إنه هو الغفور الشكور.* عضو هيئة التدريس في كلية الشريعة بالرياض(/4)
موسى....وفرعون عظات وعبر
الحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنا، مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هادِيَ لَهُ، وأشْهَدُ أنْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ، وأشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ?يا أيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها، وَبَثَّ مِنْهُما رِجَالاً كَثِيراً وَنِساءً، واتَّقُوا اللَّهَ الذي تَساءَلُونَ بِهِ والأرْحامَ إنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً?[ النساء : 1]. ?يا أيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وأَنْتُمْ مُسْلِمُون? [آل عمران: 102]. ? يا أيُّهَا الَّذين آمَنوا اتَّقُوا اللَّه وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أعْمالَكُمْ، ويَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ، وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزَاً عَظِيماً? [الأحزاب:71].
تعيش أمة الإسلام اليوم وضعاً صعباً وخطيراً حيث أضحت الأعداء تحكمها وتتحكم فيها وتمارس ضدها أبشع أنواع الظلم والتسلط والاستبداد . ولقد جرت سنة الله في هذه الحياة أن يبتلى عباده بالخير والشر، وتتبدل المواقف في حياة الأمم من قوة إلى ضعف ومن ضعف إلى قوة وقد جعل الله تعالى للأمة المستضعفة طرقاً ومخارج تنجيها من ذل أعدائها وظلمهم وجبروتهم.. وفي حياة بني إسرائيل مع فرعون تتجلى الصورة بوضوح. بنوا إسرائيل كانوا في غاية من الضعف والذلة والمهانة وفرعون ودولته يمارسون مع تلك الأمة أبشع أنواع الظلم والتسلط والاستكبار وفي القرآن الكريم مساحات كبيرة فصل الله لنا فيها أخبار القوم لنأخذ منها العبرة ونستفيد من ذلك في حياتنا .. ونحن نواجه الجبروت والطغيان اليهودي والصليبي الذي يستهدف ديننا ووجودنا.
فقد بعث الله نبيه موسى عليه الصلاة والسلام في مهمة عظيمة وهي إنقاذ بني إسرائيل من الظلم والعبودية. إنها مهمة شاقة وكبيرة حيث كان عليه الصلاة والسلام يواجه نظاماً دكتاتورياً جاوز الحد في الفساد والطغيان.
كما كان يواجه أمة قد فسدت نفوسها وأسنت حياتها واستسلمت للظلم ولم تعد تفكر في الحرية والخلاص . بعث الله نبيه موسى عليه السلام بدعوة الحق إلى فرعون وملأه مؤيداً بالمعجزات والبراهين ولكن قوبلت بالرفض ووجهت بالحرب، وتمالأ الطغاة على ذلك كما قال تعالى: ? وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ ?[الأعراف:127 ] هكذا يواجه الطغاة في كل زمان دعاة الحق والخير والعدل. إنهم يعلنون عليه الحرب ويصمونهم بالفساد والإرهاب مغترين بقوتهم وجموعهم وعتادهم وأموالهم.
فكيف تواجه الأمة الضعيفة المتجردة من كل أسباب القوة المادية تلك القوى الغاشمة المتسلطة هذا ما يبينه نبي الله موسى لقومه.
? قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ?[الأعراف:128].
هذا هو الجواب الطبيعي على تهديد فرعون ومواجهة سياسته الإجرامية: استعينوا بالله على هذا الطاغية واصبروا على إيذائه، فإن الأرض ملك لله يورثها من يشاء من عباده.. وليست ملكاً لفرعون ولا لدولته ورجالاته ليسوا إلا نزلاء وسيرتحلون، فهي بحسب سنته تعالى دول، والعاقبة الحسنة التي ينتهي إليها الصراع والتنازع بين الأمم للذين يتقون ويسلكون سنن الله تعالى التي جعلها سبباً لإرث الأرض كالإيمان والاتحاد وجمع الكلمة والاعتصام بالحق وإقامة العدل والصبر على المكاره، والاستعانة بالله عز وجل ولا سيما عند الشدائد.
إن موسى عليه السلام يخبرهم بأن العاقبة ستكون لهم بإرث الأرض بشرط أن يكونوا من المتقين العاملين بشرعه السائرين على سنته في نظام خلقه، وليس الأمر كما يتوهمون ويتوهم فرعون وقومه من بقاء القوي على قوته والضعيف على ضعفه. لكن قوم موسى بلغ بهم الذل والخوف والهلع مبلغاً عجيباً، فردوا على موسى عليه السلام رداً فضيعاً حيث قالوا: ? قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا... ?[ الأعراف:129] يعنون أنهم لم يستفيدوا من إرساله لإنقاذهم من ظلم فرعون شيئاً فهو يؤذيهم ويظلمهم بعد إرساله كما كان يؤذيهم من قبل أو أشد فهم في نفق مظلم لا تبدو له نهاية، إنها كلمات تبين مدى ما في النفوس من تبرم وتضجر وانكسار ويجيبهم نبي الله على ذلك بقوله: ?عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ?.[ الأعراف:129](/1)
إن نبي الله يرى سنة الله تجري وفق وعده للصابرين المتقين في الاستخلاف والتمكين ويرى سنة الله تعالى في هلاك الظالمين المستكبرين وكذلك كان. لقد سار فرعون وملؤه في سياسة الجبروت والعدوان ونفذ وعيده وتهديده فقتل الرجال واستحيا النساء وأسرف في الظلم والعدوان ونبي الله موسى وقومه يحتملون كل ذلك، ويرجون فرج الله ونصره. إنها معركة غير متكافئة بكل المقاييس المادية قلة مؤمنة مجردة تواجه الباطل المدجج بالقوة والمال والعتاد . إن سياسة الإرجاف والتخويف وسياسة القتل والتنكيل تجعل الكثير يجمحون عن الإيمان، فأمام تلك الأحكام العرفية التي فرضها فرعون وملؤه أحجم الناس عن الاستجابة لنبي الله موسى كما قال تعالى: ? فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ ?[يونس: 83].
إن الشباب هم حملة المبادئ ورواد التغيير لديهم القابلية والحيوية والنشاط في سرعة الاستجابة وسرعة التنفيذ. لقد آمنت تلك الذرية بموسى عليه السلام وسيف فرعون مسلول على من يؤمن، وأحكامه العرفية معلنة مشهورة، إن اعتناق الإيمان في مثل تلك الأحوال والظروف هو إيمان الواثق بالله المطمئن لوعده ووعيده.
وبين الله لنا فضل المؤمنين بموسى في ظل تلك الأوضاع البوليسية التي كانت مطبقة من قبل فرعون فقال: ? وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ ? ـ غالب قاهرـ ? وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ ? وهذا يعني أنه كان متغلباً على بني إسرائيل قاهراً لهم لا يستطيعون مقاومته.
وفي هذه الظروف العصيبة يبين نبي الله لقومه ما يجب عليهم فعله للتخلص من الظلم والطغيان حين رأى خوفهم من فرعون كما أخبر الله عز وجل: ? وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ فَقَالُواْ عَلَى اللّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ?[يونس:84-86].
لقد وجههم إلى الاعتماد والتوكل على رب الأرض والسماوات إن كنتم آمنتم بالله وصدقتم بوعده ووعيده فكلوا أموركم إليه وحده.. إن نبي الله يربط القلوب ويصلها بخالقها وبارئها في تلك الظروف الصعبة لأن القلوب إذا اتصلت بالله أكسبها ذلك قوة وتمسكاً وثباتاً على الحق، ويجعلها تستهين بكل ما ينالها من أنواع الإيذاء والبلاء.. وتشق طريقاً للخلاص من كيد الكائدين ومؤامرات الكافرين.
وكذلك يجب على المسلمين اليوم والأخطار تحيط بهم من كل حدب وصوب، عليهم أن يرجعوا إلى خالقهم وبارئهم، يطلبون منه المعونة والمدد على خصومهم وأعدائهم.
وأمر آخر أمر الله به موسى وهارون وهو من أعظم الأمور قال تعالى: ? وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ?[يونس:87].
إنها تعبئة روحية إلى جوار التعبئة النظامية في الأخذ بالأسباب المتاحة. ولقد ذكر أن بني إسرائيل كانت لهم أماكن للعبادة يجتمعون فيها فلما جاء موسى رسولاً من رب العالمين خرب فرعون أماكن عبادتهم وضيق عليهم الخناق وطارد المصلين فأمروا بأن يجعلوا بيوتهم مساجد متوجهة نحو القبلة خيفة من الكفرة لئلا يظهروا عليهم فيؤذوهم ويفتنونهم عن دينهم كما كان حال المسلمين في الفترة المكية.. ثم أمرهم الله جميعاً بإقامة الصلاة فإن الصلاة شأن عظيم في الحياة ولا سيما عند اشتداد المعارك وحصول المشاق. ولقد كان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يلجأ إلى الصلاة كلما حزبه أمر قال تعالى: ? وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ.. ?[البقرة:45].
لقد أثبتت التجارب بأن الإيمان وقوة العقيدة هي السلاح الأول في المعركة، وأن الآلة الحربية مهما عظمت إذا كانت في يد الجندي الخائر الإيمان والعقيدة لا تساوي شيئاً كثيراً في ساعة الشدة (يمكن أن يكون لها قيمة في الاستعراضات)
إن الأمة الإسلامية في أشد الحاجة إلى الرجوع إلى الله وإقامة الصلاة جماعة في مساجدها ويوم أن تمتلئ المساجد وتقام فيها الصلوات الخمس كاملة غير منقوصة فأبشروا بكل خير في الدنيا والآخرة ? ...وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ?[يونس:87].
الخطبة الثانية:
طريق آخر من طرق النجاة ومسلك عظيم من مسالكها اتخذه نبي الله موسى عليه السلام، وهو سلاح مهلك ومدمر للأعداء إذا لجأ إليه المظلومون والمستضعفون إنه سلاح الدعاء.(/2)
لقد اتجه نبي الله موسى إلى ربه، وقد يئس من فرعون وملئه أن يكون فيهم موضعاً للإيمان أو الاستجابة على الرغم من كل المعجزات والبينات التي أيده الله بها كل ذلك لم يزدهم إلا علواً وفساداً في الأرض واستكباراً وكانت للقوم حضارات وزينة وأموالاً يملكونها تضعف أمام بريقها كثير من القلوب، فتتهاوى أمام الجاه والسلطان ، لأن وجود النعمة في أيدي المفسدين ينشأ عنها إضلال الناس وإفسادهم إما بالإغراء أو بالتهديد.
اتجه موسى إلى ربه جل وعلا يدعوه أن يدمر تلك الأموال الطائلة التي كان يتبجح بها فرعون ووزراؤه، ويكفي أن تعرف عظمة تلك الأموال في قصة قارون قال تعالى: ? وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ?[يونس:88-89]. وقد ذكروا بأن موسى كان يدعوا ربه وهارون يؤمن على دعائه.
لقد طلب موسى من الله أن يجرد القوم من وسائل البغي والإغراء بأن يطمس الله على تلك الأموال بتدميرها والذهاب بها بحيث لا ينتفع بها أصحابها في هذه الحياة ، وحتى لا يستعلوا بها على الآخرين. ولقد ذكر كثير من المفسرين بأن المصريين حرموا من الانتفاع بها بل أودعوها جوف الأرض ولقد أثبتت الحفريات عن وجود كنوز كبيرة امتلأت بها متاحف أوربا وأمريكا وغيرها فضلاً عن المتاحف المصرية وهذا نوع من الطمس والإزالة نرى كثيراً من الأثرياء طمس الله على أموالهم وحال بينهم وبين الانتفاع بها لشحهم بها على مشاريع الخير وبخلهم على الفقراء. فلا يسهمون في إقامة دور العلم ولا دور الصناعة أو الزراعة ولا في دعم القرآن وإقامة مراكزه. إنهم يجمعون أرصدتهم في البنوك العالمية في حسابات سرية يموتون وهم فقراء محرومون من تلك الأموال قد طمس الله عليها وحال بينهم وبين الانتفاع بها.
ولقد استجاب الله دعوة نبيه موسى التي قضّت مضاجعهم ونغّصت حياتهم وأخرجتهم من النعمة والترف كما قال تعالى: ? وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَونَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّن الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ فَإِذَا جَاءتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ وَقَالُواْ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُّفَصَّلاَتٍ فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ ?[الأعراف:130-133].
جدب ونقص في الثمرات أنزل الله عليهم هذه المصائب والنكبات آيات واضحات على صدق نبي الله موسى. آيات مفصلات: الطوفان الذي يغرق عليهم مزارعهم وديارهم والجراد الذي يأكل عليهم المحاصيل والثمار. والقمل الذي سلط على أجسادهم ودوابهم يمتص دماءها ويفتك بها.
الضفادع : قيل إنها كثرت عندهم حتى نغصت عليهم بسقوطها في طعامهم وشرابهم ووجدوها في فراشهم وبين ملابسهم.
وأما الدم فقيل إنهم أصيبوا بالرعاف، وقيل كان يوجد في مياه الشرب. إنها آيات تقشعر منها النفوس وتضطرب لها. (ولعلها تكون الجمرة الخبيثة) .
آيات مفصلات أرسلها الله عليهم رجاء أن يتنبهوا لضعفهم وعجزهم وحقارة إلههم فرعون وعجزه تجاه آيات الله ولكن طبيعة فرعون وقومه موغلة في السوء والإجرام حيث لم يذعنوا. وكانت المصائب إذا اشتدت عليهم ونزلت بساحتهم يلجئون إلى موسى قائلين: ?... قَالُواْ يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ ?[الأعراف:134-135].(/3)
أيها المؤمنون علينا ونحن نواجه اليهود والنصارى مجتمعين أن نأخذ بأسباب النصر ونعد ما نستطيع إعداده من إمكانات وقدرات وقبل ذلك وبعده الصدق في الإيمان واللجوء إلى جبار السماوات والأرض والتضرع إليه وندعوه بأن يهلك أعداءنا من اليهود والنصارى بزعامة أمريكا وإسرائيل الذين يريدون هدم ديننا ونهب خيراتنا ومحاربة كتاب ربنا بفرض عملائهم ومخططاتهم الرامية إلى تجفيف منابع الإسلام والهيمنة على الأمة. إنهم وبكل وقاحة يصرحون بأن يلغى القرآن من مناهج التعليم في البلدان الإسلامية .. وفينا سمّاعون لهم ممن يسارعون فيهم ويطبقون رغباتهم جبناً وخوراً مصادمين بذلك رغبات الشعوب التي لن ترضى عن الإسلام بديلاً متناقضين مع ذواتهم.(/4)
موسيقى في المسجد
الشيخ محمد بن إبراهيم السبر*
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وبعد:
فإن مما شاع في الآونة المتأخرة جراء التقدم التقني والصناعي استخدم الهواتف النقالة التي هي سمة من سمات ثورة الاتصالات، غير أن بعض الناس لا يحسنون التعامل مع التقنية، وتطويعها في الاستخدام الأمثل في النفع الديني والدنيوي بل وحتى الإنساني، فإن هذه التقنيات والمخترعات والأحدوثات ليست شراً محضاً، ولا خيراً محضاً، وهي على حسب مستعملها ومتعاطيها.
وقد أضحت أجهزة الجوالات صديقاً دائماً للمرء، لا ينفك عنها في عمله وبيته، حتى في دور العبادة والطاعة والعلم والتعليم، بيد أن استعمالها شابه بعض الأخطاء والتصرفات المشينة من وضع الجوال على نغمات صاخبة، أو تركيب أغان مشهورة لمطربين ومطربات، أو مشاهد لفنانين وفنانات، أو صوراً.. وهلم جراً.
إنني من واقع عملي إماماً وخطيباً أعاني من هذه القضية معاناة مستمرة تبدو ظاهرة في سماع النغمات الخاصة بالجوال، وقد تكون بصوت عال, أو سماع الأغاني والموسيقى المركبة على أجهزة الهاتف النقال، ناهيك عن عدم إغلاق الجوالات حال الدخول في الصلاة، وأحياناً في صلاة الجمعة، وعند الدروس والمحاضرات المقامة في الجامع، إن هذه التصرفات تتنافي مع ما ينبغي أن يكون عليه المرء المسلم في دور العبادة، وأثناء مزاولة العبادة من الخشوع والسكون والطمأنينة, فالمسلم مطلوب منه أن يعظم الصلاة، وأن يقدرها حق قدرها، ومن ذلك تنزيه الصلاة والمساجد من هذه الآفة الغريبة التي تنافي جلالة الموقف، وعظمة المكان، وتذهب خشوع المصلين قال - تعالى-: ((ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ))(الحج:32)، وقال - تعالى-: ((فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ))(النور: 37,36).
إن المساجد قد نُهي أن يباع فيها ويشترى، وأن تُنشد فيها الضالة، لأن المساجد لم تبن للدنيا بل بنيت لله وتوحيده وإخلاص العبادة له - سبحانه وتعالى -، إنها أماكن الذكر والعبادة والتسبيح والتهليل، ومتعبد عباد الله المؤمنين بالاعتكاف والدعاء وغير ذلك من أنواع العبادات والطاعات، فمحالٌ أن يخالط ذلك شيءٌ من الدنيا وزينتها، ولو كان ذلك بحثاً عن ضالة مفقودة فكيف بالتفاخر بإسماع الناس نغمات الجوال، وكيف بإدخال الموسيقى المحرمة إلى المساجد.
إنني أخاطب واضعي النغمات الموسيقية في الجوالات بتقوى الله - جل وعلا -، وترك هذا المنكر العظيم، فإن الغناء حرام، وآلات الغناء من المعازف، والموسيقى حرام أيضاً، فقد سئلت اللجنة الدائمة للإفتاء عن حكم النغمات الموسيقية في الجوال فأجابت: "لا يجوز استعمال النغمات الموسيقية في الهواتف أو غيرها من الأجهزة، لأن استماع الآلات الموسيقية محرم كما دلت عليه الأدلة الشرعية، ويُسْتَغْنَى عنها باستعمال الجرس العادي، وبالله التوفيق" [ مجلة الدعوة العدد 1795 ص 42].
كما أذكر أخي واضع النغمات الموسيقية باحترام الذوق العام، ومراعاة شعور إخوانه المسلمين الذين يتأذون منها خاصة أثناء ممارسة عبادتهم، وإن لم يكن كذلك فلا أقل من إغلاقه وقت الصلاة حتى لا تجمع مع سيئة نغمة الجوال سيئةً أخرى وهي الإيذاء لإخوانك المصلين، أو المرضى في المستشفيات، والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده, ومن حقوق الطريق كف الأذى كما أخبر بذلك الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم -.
ولابد لك أخي المصلي من إغلاق الجوال أو وضعه على الصامت عند دخول المسجد وذلك لئلا يشوشَ على المصلين، ويقطعَ عليهم خشوعهم وإقبالهم على صلاتهم، وإذا حصل أنْ نسي المصلي ولم يغلقْه أو يضعه على الصامت فليبادر إلى إغلاقه وإسكاته إذا اتصل أحد؛ لأن بعض الناس يدعه يرن وربما كان بنغمات موسيقية مؤذية، فلا يُغْلِقُهُ ولا يسكته؛ خوفاً من حدوث الحركة في الصلاة، والذي ينبغي لهذا أن يعلم أن تلك الحركة لمصلحة الصلاة، بل لمصلحة المصلين عموماً..(/1)
كما إن من المتحتم على الجميع الاحتساب على هؤلاء، ونهيهم عن هذا المنكر العظيم بالحكمة والموعظة الحسنة، وتذكيرهم باحترام دور العبادة والعلم والمصحات والمستشفيات, وأرى أنه من الواجب على أئمة المساجد أن يتعاهدوا الجماعة كلما سمعوا أو رأوا ذلك بالكلمة والموعظة، وإعداد خطبة تتحدث عن الموضوع وتعالجه, أو قراءة فتاوى العلماء المحذرة من ذلك، كما إن الإمام لا بأس أن ينبه المصلين قبل إحرامه بالصلاة بإغلاق الجوالات، لأن وجود النغمات الموسيقية يذهب الخشوع في الصلاة, وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وفق الله الجميع لما يحب ويرضى، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(/2)
موقد الغاز إيمان مغازي الشرقاوي
بتوجاز ...
لقد امتن الله علينا بآية النار فقال: أفرأيتم النار التي تورون (71) أأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون (72) نحن جعلناها تذكرة ومتاعا للمقوين (73) (الواقعة). وقد كان الناس قديماً يستخدمون النار ويطعمونها الحطب والخشب لتكبر وتنمو وتستطيع حمل ما يوضع في بطنها أو يحمل على ظهرها من طعام، وكذلك استخدموا الفحم لنفس الغرض، ولا يزال البعض في أيامنا هذه يشوي على شوّايات وإن تطورت توقد نارها وتستعر بالفحم خاصة في الرحلات البرية.
حينما نطهو طعامنا على نار البوتاجاز ونجد حرارتها لا بد أن نشعر شعوراً رهيباً نحو تلك النار، ذلك الجندي القويّ من جنود الله، وندرك كيف خدع الشيطان بقوتها أناساً ضلوا فعبدوها من دون الله وقدموا لها القرابين، ونعرف كذلك السرّ في نهي الله تعالى لنا عن تعذيب أحد بالنار؛ إذ لا يعذب بالنار إلا رب النار مالكها ومسخرها القادر القهار.
وتذكرنا حرارتها بنار جهنم، تلك النار الموقدة التي قال عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أُوقد على النار ألف سنة حتى احمرت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى ابيضت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى اسودت فهي سوداء مظلمة" (الترمذي)، فنستعيذ بالله من شرها ونبتعد عن أسباب دخولها، ونشكره سبحانه أن سخر لنا نار الدنيا وجعلها نافعة.
بوتقة المحن
وحين نفتح الفرن لنخرج ما فيه من طعام نرى نفوساً صُهرت في بوتقة المحن، وصفيت في مصفاة الابتلاء كالمعادن حين تختبر بالنار، فيظهر منها الغالي والرخيص، والحقيقي والمزيف، والصالح والفاسد، ونجد في طعامنا الذي طيّبته النار وأنضجته، صورة لنفس المؤمن وقد نضجت لتصبح في أفضل حال وأحسن رونق، وذلك حين تطيب وتصفو بعد البلاء، ويخرج صاحبها الصابر من أتون الفتن والاختبار في دنياه نقياً صامداً قوياً، بعد أن تحمل لفح نارها وشدة لهيبها، يخرج وقد صُقل جوهره واختبر معدنه وعرف أصله ومخبره، فصار أكثر نفعاً كالطعام بعد نضجه حين يُشبع الجائعين ويسد حاجة المحتاجين ويصير أشهى وأنفع!
والآن وقد علم الله تعالى الإنسان ما لم يكن يعلم، وبعد أن تقدم العلم واقتحمت التكنولوجيا عالم الإنسان وصار لها وجود في شتى المجالات، أبدع الناس في صنع البوتاجازات وتطورت حتى أصبح منها ما يعمل أوتوماتيكياً وما عليك إلا أن تضع طعامك في الفرن الخاص بالبوتاجاز ثم تضبطه على الوقت الذي تريد أن تطبخ فيه الطعام بالساعة والدقيقة، وهو مبرمج على أن يعمل ذاتياً، وقد تبع ذلك التطور أن أقبل الكثيرون على التفنّن في عمل المأكولات والحلويات بطرق مختلفة وأساليب متنوعة.
حتى أصبح لتعليم طرق الطبخ وأصوله معلمون ومعلمات وبرامج منتظمة الظهور على شاشات الفضائيات، فصار الإسراف في تناول الطعام سمة من سماتنا إلا القليل؛ نظراً لضعف النفوس أمام إغراء البطون، وحب التغيير وانفتاح الشعوب واختلاط أكلاتها، وكثرة الإعلانات عن أشهى الوجبات والأطعمة وأنواع الحلوى والمشهّيات، والله تعالى يقول: وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين 31 (الأعراف).
وصرنا نعاني من السمنة وما تتسبب فيه من أمراض ومشكلات، وبدلاً من اتباع الهدي النبوي في مأكلنا ومشربنا اتبعنا طرق ووصفات "الريجيم" التي لن تكون بأي حال كهدي رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم في الأكل حين قال: "ما ملأ آدمي وعاء شراً من بطنه، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة فثلث لطعامه، وثلث لشرابه وثلث لنفسه" (الترمذي).
سوء استعمال
إن من آفات هذه الأجهزة المريحة لنا سوء استعمالها من بعضنا والإسراف في المباحات المتعلقة بوجودها عندنا وتضييع الوقت الذي توفره لنا في أمور لا تفيد.
إن ضيافتنا الآن فقدت بساطتها وعدم التكلف فيها، ودخلها هي الأخرى ما يدخل النفس من حب الشهرة والظهور، والفخر والتباهي والمغالاة، ففقدت أجمل ما فيها وهو الجود بالموجود، ورفع الكلفة بين الأحبة والإخوة والأصدقاء من جانب الضيف والمضيف على السواء، حتى أصبحت عبئاً ثقيلاً على ربة البيت ورب الأسرة. ولا أقصد بذلك أن يكون المرء بخيلاً، فليس الكرم في شيء مما ذكرناه، بل إنه أحياناً يلقي بعضنا ببقية الطعام في سلة المهملات وكان الأولى به أو بثمنه، أن يعطيه لفقير أو محتاج.
الرسول القدوة
تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: "إن كنا لننظر إلى الهلال ثم الهلال ثم الهلال، ثلاثة أهلة في شهرين، وما أوقد في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار" (البخاري).
وتقول: "ما شبع آل محمد من خبز الشعير يومين متتابعين حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم" (مسلم).. فلقد كانوا يعيشون على التمر والماء، مع أنه عليه السلام يقول: "سيد طعام أهل الدنيا، وأهل الجنة اللحم" (ابن ماجه)، ومع ذلك فلم يكن يأكل منه إلا قليلاً، وينهى عن كثرة أكله ويقول: "إن للقلب فرحة عند أكل اللحم، وما دام الفرح إلا أشر وبطر، ولكن مرة ومرة" (الترمذي).(/1)
وكان يرضى باليسير من الطعام وكان أكثره خبز الشعير، وكان يقول: "نعم الإدام الخل" (مسلم). فليكن لنا الأسوة الحسنة في رسول صلى الله عليه وسلم، وحين نطهو طعامنا فلنتحرالحلال منه، ولنتأدب بأدب الإسلام معه فلا نعب منه شيئاً، وعند أكله نشكر الله تعالى على نعمته، ونتذكر الفقراء واليتامى والمساكين فنطعمهم مما أطعمنا الله لتحل البركة ويكثر الخير.(/2)
موقع الإنسان بين الكونين
أديب إبراهيم الدباغ
في كتابَي الله تعالى: القرآن، والكون، تقوم الآيات تنادي الأرواح التي سئمتْ لبثها عند مشارف الأرض لتعلوَ وترتقي فوق السماوات السبع، حيث لا يعرف أحد المدى الذي يبلغه نورها ولأْلاَؤها هناك في الأعالي.فالقرآن ـ كما يرى النورسي ـ كونٌ عظيمٌ إلاَّ أنّه مقروء ومسطور و لا يَقِلُّ في عظمته وسعته وامتداده عن عظمة الكون المنظور والمحسوس بسماواته وشموسه ونجومه وأقماره، والإنسان بين هذين الكونين العظيمين يبحث عن جوهره المهيب، ويفتش عن مستقرّ روحه، وموطن إيمانه وأمنه.
فأدعية "النورسي" ومناجاته ترتفع في حشد عظيم من آي القرآن، وآي الكون، وهو جهد جرئ وجدير يبذله الرجل لكي يبقي على التوازن المطلوب بين الكونين، في حين تسعى المعرفة الكونية إلى قهر الروح وتحديد مساراتها بينما هي- أي الروح- تلاحق مغيّبات بعيدة يقصر خيال الكون عن إدراكها.
إنَّ القهرَ الذي يمارسه الكون إزاء الروح، وعدم سماحه لها بمجاوزة محدودياته، أصابَ نبيَّ الله إبراهيم عليه السلام بالهلع، فصرخ مستغيثاً: {لا أُحِبُّ الآفلين} أي أنا زائلٌ فانٍ فلا ينفعني الزائلون والفانون، ولن يكون وقوفي عندهم، بل أريد الحي الذي لا يموت، والباقي الأبدي الذي لا يزول.
فالآيات الكونية ليستْ مطلوبةً لذاتها، بل مطلوبة لِمَنْ هو بعدها، ولِمَنْ هو فوقها، وهو الله تعالى خالق الكون والإنسان ومَنزلُ القرآن.
وقد بقي "النورسي" طوال حياته يسعى دوماً لتحرير الإنسان من سجنين دنيويين رهيبين يكبّلانه ويحولان بينه وبين إدارة محركاته الروحية للانطلاق نحو الأمداء العالية من القرب الإلهي ومقصود الروح، وموطنها الفطري، وهذان السجنان هما: غرور "أنا" داخل النفس بما يُسبَغُ عليه من صفات لا تليق إلاّ بالألوهية والربوبية، و"الكون" خارج النفس الذي وقف عنده علم بعض العلماء، وفكر بعض المفكرين ولم يتجاوزانه، وفي هذين السجنين هلكَ الكثير من الخلائق ولا زالوا يهلكون.
وفي المناجاة الآتية يحشد "النورسي" مفردات كونية ذات دلالات عميقة تلفت الانتباه إلى الشمولية التي تطبع فكره ووجدانه، فيقول:
"سبحانك يا من أنطق السماء بحمده وتسبيحه بكلمات النجوم والسيارات.
ويا من انطق الأرض بحمده وتسبيحه بكلمات الأشجار والنباتات..
وانطق النبات والشجر بكلمات الأزهار والثمرات..
وانطق الزهر والثمر بكلمات البذور والنواتات..
وانطق النواة والبذر بلسان السنابل وكلمات الحبات..
سبحانك يا من يسبح بحمدك الضياء بأنواره، والهواء بإعصاره، والماء بأنهاره، والأرض بأحجاره، والنبات بأزهاره، والشجر بأثماره، والجو بأطياره، و السحاب بأمطاره، والسماء بأقماره.
والصلاة والسلام على سيدنا محمد نبراس [1] الأنبياء، وزبرقان [2] الأصفياء ونيّر [3] الأولياء، وشمس الثقلين، وضياء الخافقين. وعلى آله نجوم الهدى، وأصحابه مصابيح الدجى" [4].
________________________________________
[1] النبراس: المصباح.
[2] بكسر الزاي والباء : أي القمر.
[3] بفتح النون وتشديد الياء: المقصود الشمس.
[4] المثنوي العربي النوري ص 334(/1)
موقف الآخر من قضية الولاء والبراء
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد ..
فلقد كثر الكلام في الآونة الأخيرة عن قضية علاقة المسلمين بغيرهم من أصحاب الديانات الأخرى سواءً كانت سماوية أو أرضية وظهرت مصطلحات قديمة تم استحضارها من سلة مهملات التاريخ مثل [زمالة الأديان] [السلام العالمي] [الإنسانية الدولية] إلى غير ذلك من الأفكار التي تم استيرادها خصيصًا لإثارة الجدل والشبه والشكوك على عقيدة المسلمين ومن المصطلحات الحديثة التي ظهرت في الفترة الأخيرة [مصطلح الآخر] ويقصد بالآخر غير المسلم الذين هم عادة اليهود والنصارى المقيمين داخل البلدان الإسلامية كأقلية وسط المجتمعات المسلمة، ولما كان هذا المصطلح كسابقيه يخفي تحت جمال ظاهره الكثير من الأباطيل والحقائق فوجب علينا أن نوضح العديد من الحقائق التاريخية في قضية الآخر .
إن عداوة حزب الشيطان وأولياءه لحزب الرحمن وأولياءه عداوة أبدية باقية ببقاء الفريقين فطالما هناك خير فهناك شر وطالما هناك أهل للحق فهناك أهل للباطل، ولما كانت هذه العداوة باقية أبدًا إلى أن يرث الله عز وجل الأرض ومن عليها فإنها حتمًا ولابد أن تتطور وتختلف أساليبها باختلاف الزمان وتبعًا لطبيعة المرحلة تكون المواجهة، ولكل زمان سلاحه، فقديمًا كانت الحرب بالسيف والسهم والآن بالصواريخ والطائرات، وقديمًا كانت حرب الإسلام وبالغزو والاحتلال حال ضعف المسلمين، وبالكيد والمكر والشائعات حال قوتهم، وأعداء الإسلام ما فتأوا يطورون أساليبهم القتالية ضد أمة الإسلام بل إنهم يغيرون أساليبهم الشريرة من بلد لآخر فما يناسب بلدًا قد لا يناسب الآخر فمثلاً كان الغزو والاحتلال أسلوبهم في أفغانستان أو العراق لضعف البلدين ووجود المنافقين فهيا، وكانت السيطرة الاقتصادية والتحكم في المعونات أسلوبهم مع مصر والأردن وغيرهما، وهكذا ومن الأسلحة الجديدة والتي ليست حقًا بجديدة لأنه قد سبق استخدامها وبنجاح هو سلاح خطير اسمه [اضطهاد الآخر] أو [كبت الحريات الدينية عند الأقليات غير المسلمة] فلقد تم التلويح بهذا السلاح الخطير لمصر والسعودية [على الرغم من خلو السعودية من غير المسلمين] وقاومت مصر قليلاً، ولكنها سرعان ما خضعت للتهديدات الأمريكية، وجاءت التنازلات تترى بعد إلغاء الخط الهمايوني، وتعيين بعض الأقباط في وزارات هامة سيادية [مثل يوسف غالي وزير الاقتصاد ] ثم توجت التنازلات بإقرار يوم عيد الأقباط الأرثوذكس [7 يناير] إجازة رسمية في البلاد كلها .
والعجيب أن المسلمين نتيجة جهلهم بدينهم وبتاريخهم يجعلون أمثال تلك الشبهات والتهم تروج عليهم فيقعون صرعى حمى التأويل الدفاعي للإسلام، وتعقد المؤتمرات للدفاع عن الإسلام ضد هجمات أعداءه وينبري العلماء للدفاع عنه بصورة كأننا مخطؤون ومذنبون يقفون موقف المدافع ابتداءً وتراهم يأولون ويشوهون حقائق الإسلام من حيث لا يشعرون، وهذا يذكرنا من قبل عندما احتل الإنجليز مصر بدعوى حماية الأقباط ونشروا الشائعات عن ذلك فانبرى العلماء والمشايخ للدفاع ويا ليتهم ما قالوا، قال الشيخ المراغي [شيخ الأزهر السابق] في رسالة بعث بها إلى مؤتمر الأديان العالمي [اقتلع الإسلام من قلوب المسلمين جذور الحقد الديني بالنسبة لأتباع الديانات السماوية الأخرى، وأقر بوجود زمالة عالمية بين أفراد النوع البشري، ولم يمانع أن تتعايش الأديان جنبًا على جنب]، وهذه عينة مما يمكن أن تنتجه حملات التشكيك على عقيدة المسلمين .
ولا أريد أن أطيل عليكم إنما بالجملة كانت التهمة والسلاح الجديد المحارب به المسلمين هو [اضطهادهم للآخر] وتمسكهم بعقيدتهم الناصع [عقيدة الولاء والبراء]، ولكن السؤال الذي يثور في هذا المقام والذي يجب أن نجيب عليه للمسلمين ليس لغيرهم لأن الأعداء لا يعنونا في هذا المقام بشيء لأنه مهما حشدنا عليهم من حجج وأدلة لا يفد ذلك، ولا يغير من عداوتهم للمسلمين، هذا السؤال هو ما موقف الآخر منا ومن مجتمعه ومن قضية الولاء والبراء التي يطالب أعداء الإسلام بالتخلي عنها لصالح الإنسانية والزمالة العالمية ؟
هم يطلبون منا أن نحبهم ونتولّهم ونجعلهم كالمسلمين بقلوبنا قبل أجسادنا فهلا سألوا [الآخر] عن موقفه من المسلمين ؟ هل قرأوا في كتب التاريخ عن أفعال أهل الذمة [الآخر] مع المسلمين ؟ ثم هل قرأوا في أحداث التاريخ عن موقف المسلمين إذا كانوا أقلية وأصبحوا هم [الآخر] في مجتمع غير مسلم، وكيف تصرف وتعامل معهم الأكثرية ؟(/1)
سوف نطوف في أحداث التاريخ الإسلام لنرى حجم الجرائم التي ارتكبها [الآخر] في حق مجتمعه المسلم والبلد المسلم، ولنرى هل كان [الآخر] فعلاً يشعر أنه [مواطن] في بلده المسلم؟ ولنرى أيضًا مدى كان موقفه من قضية الولاء والبراء التي طالما طلب ما أعداء الإسلام أن نتخلى عنها من أجل عيون [الآخر] وحتى تحقق [الإخوة الإنسانية] و[زمالة الأديان] و[السلام العالمي] وعند السرد يتضح الخبر .
الآخر ودوره في سقوط الأندلس :
عندما فتح المسلمون الأندلس كان أهلها من النصارى وبعضهم من اليهود لم يعاملهم المسلمون معاملة الفاتح المتجبر الذي يستبيح الديار والأعراض، ولم يكرههم على ترك دينهم إنما ترك لهم حرية الاعتقاد، وقامت دولة الإسلام في الأندلس بقوة وتمكن خاصة في عهد الدولة الأموية وعبد الرحمن الداخل ومن جاء بعده، وكان النصارى المعاهدون [الآخر] قد أصبحوا أقلية بسبب إسلام معظم أهل الأندلس بعد الفتح اختيارًا لا إجبارًا، وكان [الآخر] يعيش آمنًا مطمئنًا على داره وعرضه وماله في ظل الحكومة الإسلامية وكانوا يستوطنون القواعد الأندلسية الكبرى مثل قرطبة، وإشبيلية، وطليطلة وبلنسية وسرقسطة، ويتمتع النابهون من أبناء [الآخر] بعطف الخلفاء وثقتهم وتقديرهم، ويشغل الكثير منهم مناصب هامة في الإدارة وفي القصر [لاحظ أن هذا مخالف لما يجب أن تكون عليه عقيدة الولاء والبراء بين المسلمين، وما ورد من النهي عن اتخاذهم بطانة من دون المسلمين ].
فلم سقطت دولة الخلافة الأموية بالأندلس وقامت دولة الطوائف المشؤومة على الإسلام والمسلمين طرأ تغيير ملحوظ على أحوال النصارى المعاهدين [الآخر] حيث تمتعوا بحرية مطلقة في كل شيء أكبر من الأول بكثير واعتنى ملوك الطوائف بالآخر بشدة وأولاهم رعاية فائقة وبذلوا جهودًا كبيرًا في تأمين [الآخر] وحمايته وكسب مودته وان ملوك قرطبة وإشبيلية وسرقسطة يتسابقون في العطف على [الآخر]، وكانت بواعث هذه السياسة الودية واضحة؛ ذلك لأن أسبانيا النصرانية في تلك المرحلة كانت بدأت تتفوق على الأندلس المسلمة وبدأت تشن ما يسمى بـ [حرب الاسترداد] وكان ملوك الطوائف يشعرون في [الآخر] أنه مكمن للخطر والدسائس، وكان بنو عباد ملوك قرطبة أكثر الناس تسامحًا مع [الآخر] وبلاط بني عباد يغص بالنصارى واليهود، وعلى شاكلته كان باقي الملوك فهذا [عبد الله بن بلقين] يصطنع النصارى، ويعتمد على الفرسان النصارى، ويتخذهم نصحاء وأمناء ووزراء يعاونوه في حربه ضد المسلمين!، وهذا ابن هود نكبة الإسلام في شمال شرق الأندلس كان أكبر ملوك الطوائف تسامحًا نحو [الآخر]، ويعتمد على مخالفة [الآخر] في كل مشاريعه ضد المسلمين، وكان هو السبب وراء بطولة الفارس الصليبي الشهير [الكمبيادور] .
هذه كانت حالة [الآخر] في ظل حكم المسلمين بالأندلس رفاهية وأمان ورعاية وحماية ووزارة وبطانة وكلها أمور يجب أن تجعل ولاءهم الأول لهذا الحكم وهذا المجتمع، ولكن كيف كان رد فعل الآخر تجاه كل هذه المزايا والنعيم ؟
كان [الآخر] أو النصارى المعاهدون بالرغم من هذه الرعاية والحماية، وهذا التسامح الكبير من جانب ملوك الطوائف لم يشعروا أبدًا أنهم جزء من المجتمع المسلم، ولم يشعروا قط بعاطفة من الولاء نحو تلك الحكومة المسلمة التي كانت تبذل وسعها لحمايتهم واسترضائهم بل لبثوا دائمًا على ضغنهم وخصومتهم لها وتبصرهم بها ينتهزون أية فرصة للإيقاع بها، وممالأة ملوك أسبانيا النصرانية ومعونتهم بكل وسيلة على محاربتها وتسهيل مهمتهم في غزوها والتنكيل بها، والأمثلة على ذلك كثيرة منها :
أ ـ حصار قلمرية سنة 456 هـ : وفيه قام [الآخر] أو النصارى المعاهدون، وقد كانوا كثرة في هذه المنطقة بدور بارز في معاونة الجيش الأسباني الصليبي، وقام رهبان دير [لورفان] القريب من قلمرية بمؤنهم المختزنة بإمداد الجيش الصليبي دلوهم على عورات المدنية حتى سقطت بيد الصليبيين .
ب ـ سقوط طليطلة سنة 478 هـ : دأب [الآخر] في طليطلة على تدبير الدسائس وبث الفتن والاضطرابات داخل المدينة والاتصال المستمر بألفونسو الصليبي زعيم صليبي أسبانيا ومؤازرة الناقمين من المسلمين الأغبياء ضد الحكومة القائمة والعمل على تحطيم كل جبهة حقيقية للمقاومة ولعب [الآخر] دوره على أكمل وجه حتى سقطت طليطلة بيد ألفونسو الصليبي سنة 478 هـ .(/2)
جـ ـ غزوة الأندلس الكبرى 519 هـ : هذه الغزوة تمثل قمة الاجتراء والخيانة وذروة نكران الجميل من جانب [الآخر] عندما قام النصارى المعاهدون باستدعاء [ألفونسو الأرجوني] المعروف بالمحارب وكان أخوي ملوك الصليبيين وقتها لغزو الأندلس واحتلالها ووعدوه بانضمام عشرات الألوف منهم وأرسلوا له بأسمائهم في عرايض لضمان ولائهم ووعدوه بالمساعدة بالذخائر والمؤن والأرواح والدماء، وبالفعل قام ألفونسو المحارب بغزوته الشهيرة واخترق قواعد الأندلس يعيث فيها فسادًا، وجنود [الآخر] ينضمون إليه أثناء سيره يدلونه على المسالك والطرق ومداخل البلاد، ولكن بفضل الله عز وجل وحده فشلت تلك الغزوة الجريئة، وعاد ألفونسو خائبًا فما كان من [الآخر] إلا أن شعر بخطورة موقفه ففر ورجل في صحبة [ألفونسو] وترك دياره وأهله .
بالجملة كان [الآخر] في الأندلس نكبة على اللابد والعباد، ورغم كل ما لاقاه من عون ورعاية وحماية من الحكومات الإسلامية، وكانوا طابورًا خامسًا للأعداء، وهذا ما أقر به مؤرخي الصليبيين أنفسهم فهذا الأستاذ [بيدال] يقول [إن نجم المعاهدين قد بزغ ثانية عقب انحلال الدولة الأندلسية وقيام دول الطوائف الضعيفة واستطاعوا أن يؤدوا خدمات جليلة لقضية النصرانية والاسترداد النصراني] بل إن الحرية الممنوحة لـ [الآخر] دفعته لئن يتطاول على المسلمين وأصلهم كما نرى من الرسالة الشهيرة التي كتبها [ابن جرسيا] في تفضيل العجم على العرب سنة 450 هـ، وهي رسالة تفيض تحاملاً ضد الجنس العربي، وتنوه بوضاعة منبته وخسيس صفاته، وحقارة عيشه وميوله وانغماسه في شهوات الجنس، وتشييد بالعكس بصفات العجم [كل من ليس عربي]، وترفعهم عن الشهوات الدنية وتبحرهم في العلوم وغير ذلك، مما يوضح نتاج سياسة التسامح واللين مع [الآخر] والجدير بالذكر أن خيانات وجرائم [الآخر] المتكررة دفعت فقهاء المسلمين لئن يحملوا الحكام على عقابهم كما حدث من كبير فقهاء الأندلس [ابن رشد الجد] عندما أصدر فتوى بوجوب تغريب [الآخر] المعاهدين من الأندلس إلى المغرب، وذلك سنة 521 هـ، في عهد أمير المسلمين على بن يوسف .
الآخر ودوره مع التتار في دمشق :
دائمًا يذكر المؤرخون أن سبب خروج التتار على بلاد المسلمين كان بسبب ما وقع بين جنكيز خان ملك التتار وعلاء الدين خوارزم ملك المسلمين وقتها، ولكن السبب الحقيقي الذي ذكره المحققون من المؤرخين هو الكيد الصليبي الذي خاف من إسلام قبائل التتر باحتكاكهم مع المسلمين كما حدث لأبناء عمومتهم من الترك مثل السلاجقة والتركمان، والذي لو وقع لأصبح المسلمون قوة لا يقف أمامها أحد فعمل الصليبيون على إرسال الرسل للتتار يحسنوا فيها لهم غزو بلاد الإسلام، وغلاتها ومنتجاتها وخيراتها وحمالها، وكان سلاح النساء النصرانيات يعمل بقوة في التتار عندما دخلوا على شكل خليلات وعاهرات المهم خرج التتار كالجراد المنتشر الذي يأكل الأخضر واليابس، ولا يذر شيئًا حتى تمكنوا من إسقاط الخلافة العباسية سنة 656 هـ، وواصلوا زحفهم حتى وصلوا إلى دمشق في شهر صف ر سنة 658 هـ، وجعلوا على المدينة واليًا من قبلهم رجلاً اسمه [إبل سيان]، وكان معظمًا لدين النصارى، وهذا يوضح أثر الصليبيين على التتر منذ البداية، فاجتمع هذا الشقي بأساقفة وقساوسة النصارى الذين كانوا يمثلون [الآخر] في هذا الوقت، وعظمهم جدًا، وزار كنائسهم صارت لهم دولة وصولة بسبب وذهب طائفة من النصارى [الآخر] إلى هولاكو، وأخذوا معهم هدايا وتحفًا وقدموا من عنده ومعهم أمان فرمان من جهته، ودخلوا من باب [توها] ومعهم صليب منصوب يحملونه على رؤوس الناس ومن ينادون بشعارهم ويقولون [ظهر الدين الصحيح دين المسيح] ويذمون دين الإسلام وأهله، ومعهم أواني الخمر لا يمرون على باب مسجد إلا رشوا عنده خمرًا، ويرشون منها على وجوه الناس وثيابهم، ويأمرون كل من يجتازون به في الأزقة والأسواق أني قوم لصليبهم، ووقف خطيبهم إلى دكة دكان في السوق فمدح دين النصارى، وذم دين الإسلام وأهله ثم دخلوا كنيسة مريم، وأخذوا في ضرب النواقيس ابتهاجًا بما فعلوه، وكان في نيتهم إن طالت مدة التتار أن يخربوا كثيرًا من المساجد وغيرها، وعندما اعترض المسلمون ودخلوا على الشقي [إبل سيان] ليشكوا إليه وكان هذا فصلاً آخر من فصول موقف [الآخر] عندما يجد فرصة للتنفيث عن مكنونات صدره ودفائن حقده .
الآخر ودوره في الحملة الفرنسية على مصر :(/3)
وفي مصر كان للآخر جولة وجولات تطفح بمدى شعور [الآخر] من انعزال وانقطاع عن المجتمعات المسلمة التي ظل في حمايتها قرونًا عديدة، ولكن أبرز هذه الخيانات وأخس هذه الأدوار ما كان من [الآخر] عندما احتل الفرنسيون مصر سنة 1213 هـ، بدافع صليبي مغلف بدوافع اقتصادية وتجارية وسياسية وجدوا أمامهم معارضة شعبية إسلامية قوية وصامدة من مسلمي مصر فقرروا الاستفادة من وجود [الآخر] بالديار المصرية، ولعبوا على وتر العقيدة الصليبية عند [الآخر]، ونجح الفرنسيون في استثارة [الآخر] وجندوا العناصر النصرانية المصرية التي طالما عاشت وترعرعت آمنة مطمئنة بأرض مصر، وكان وفر الخيانة من [الآخر] وقتها ممثلاً في شخصية المعلم [يعقوب حنا] الذي يعد أبرز من خانوا بلادهم في المجتمع الحديث حيث قام هذا الصليبي الخائن بتكوين فرق عسكرية من النصارى المصريين وقام الضباط الفرنسيون بتدريبهم على نظم أوروبا العسكرية وتزويدهم بالأسلحة الحديثة لمساعدتهم في قمع الثورات الشعبية، وقد منحه الفرنسيون رتبة [جنرال]، ولقب القائد العام للفيالق القبطية بالجيش الفرنسي .
وقد استطاعت القوات الفرنسية بمعاونة ميليشيات يعقوب القبطي من قمع ثورة القاهرة الأولى سنة 1213 هـ، وثورة القاهرة الثانية سنة 1214هـ، وقد أباح الكلب [كليبر] للمعلم يعقوب القبطي أن يفعل بأهل القاهرة ما يشاء بعد أن قمع ثورة القاهرة الثانية، فقام بإحراق الدور ونهب الأموال تهديم المساجد وانتهك الأعراض ووقع منه من المنكرات والأحقاد ما يعجز القلم عن وصفه، وكانت أفعال [الآخر] أو يعقوب بن حنا القبطي وفرقته القبطية العسكرية بداية لما عرف في التاريخ المصري باسم الفتنة الطائفية، والعجيب أنه صار بعد ذلك قديسًا يقام له بأرض مصر مولدًا واحتفالاً بذكراه في الجهاد ضد المسلمين، ولكن العجيب من ذلك موقف المؤخرين النصارى المعاصرين حيث يثنون على ما قام به هذا الخائن الصليبي؛ فهذا هو الكاتب الصليبي الشهير د. لويس عوض المعروف بكراهيته الشديدة للإسلام يقول : [إن الدور الذي قام به المعلم يعقوب حنا مع الفرنسيين ضد العثمانيين يعتبر تعاونًا يستحق بموجبه أن يقام له تمثال من ذهب في أكبر ميادين القاهرة ويكتب عليه أنه أول من نادى باستقلال مصر في العصر الحديث] .
الآخر ودوره في هدم الخلافة العثمانية :
ونحن هنا قد وصلنا للدور الأروع والأفظع والجريمة الأشنع التي قام بها [الآخر] في حق مجتمعه المسلم ودولته التي عاش فيها ونما وازدهر ، وهو الذي قام به اليهود والنصارى من رعايا الدولة العثمانية، حيث كان أوروبا الصليبية في حربها ضد الدولة العثمانية حريصة على تمزيق الدولة بإثارة الفتن وتفجير الثورات الدينية الداخلية، وكانت أدواتهم في ذلك وسلاحهم الشرير في تنفيذ مخططهم الآثم هو [الآخر] اليهود والنصارى، رغم ما كان يلقاه [الآخر] من عناية ورعاية وعطف من سلاطين الدولة العثمانية حتى أن كثيرًا من هؤلاء السلاطين قد تزجوا من نساء [الآخر]، ولربما يضطلع اليهود بالدور الأكبر في هدم الخلافة العثمانية، ولكن هذا لا يقلل دور النصارى في إثارة الفتن والقلاقل، وكان القساوسة ورجال الدين على صلات وثيقة بزعماء الدول الأوروبية وخصوصًا روسيا، وهذا يتضح من نص الوثيقة التاريخية الهامة التي أرسلها بها البطريرك [جريجوريوس] إلى قيصر روسيا يبين له فيها كيفية هدم الدولة العثمانية من الداخل، التي يركز فيها على كيفية تحطيم الروح الإيمانية والمعنوية للمسلمين، وتمزيق الروابط التي تجمعهم نحو النصر [عقيدة الولاء والبراء].
ولنعرض لدور طرفي [لآخر] في هدم الخلافة العثمانية :
أولاً : دور النصارى في هدم الخلافة العثمانية :
كانت الدولة العثمانية تنظر إلى رعاياها النصارى على أنهم جزء من نسيج هذه الدولة يتولون المناصب ويشتركون في المعارك وينعمون بالمن والأمان، والرفاهية التامة، وازداد نفوذهم مع تدهور الدولة العثمانية، وانتشار الأفكار التغريبية، خاصة من بداية عهد السلطان محمود الثاني المتوفى سنة 1839 م ـ 1255هـ، والذي فتح المجال على مصراعيه للنصارى، ومسخ عقيدة الولاء والبراء تمامًا، فها هو يقول في إحدى خطبه : [إني لا أريد ابتداءً من الآن أن يميز المسلمون إلا في المسجد والمسيحيون إلا في الكنيسة واليهود في المعبد، إني أريد ما دام يتوجه الجميع نحوي بالتحية أن يتمتع الجميع بالمساواة في الحقوق].(/4)
لذلك نعمت النصرانية في عهد بحرية تامة جدًا، ثم جاء من بعد السلطان عبد المجيد الأول المتوفى عام 1860م ـ 1277 هـ، وكان شابًا في السادسة عشر فعبث برأسه المفتونون بالغرب، وعلى رأسهم [مصطفى باشا رشيد] الذي أصدر [خط شريف جلخانة] الذي ينص على المساواة في الحقوق والواجبات بين المسلم وغير المسلم ثم أتبعه بالخط الهمايوني الأكثر انحلالاً، والذي ينص على 8 نقاط ترشح وتؤكد على المساواة بين المسلم وغير المسلم في كافة الحقوق والواجبات، وتكتب شهادة بوفاة عقيدة الولاء والبراء عد هؤلاء القوم، ورغم كل هذه الحريات التي تصل لمرحلة التمييع الشديد والطمس الكامل لعقيدة الولاء والبراء كيف جاء رد فعل الآخر على هذه التنازلات ؟ وهل شعر أنه جزء من هذا الوطن الذي لا يفرق بينه وبين غيره ؟ الجواب: لا ، فالنصارى دأبوا على التحريض والثورات ويتضح ذلك جليًا في ثورة اليونان الكبيرة سنة 1821 م ـ 1237 هن وفي عهد من ؟ في عهد محمود الثاني الذي فتح الباب للنصارى على مصراعيه، وفي هذه الثورة كان النصارى يهاجرون من بلادهم إلى اليونان للاشتراك في ثورتها ضد الدولة العثمانية، وتسببت تلك الثورة في إضعاف الدولة العثمانية وتنازلها لروسيا عن الكثير من الموانئ والبلاد، وانفصال الشام ومصر تحت حكم العميل محمد علي باشا .
ويتضح أيضًا هذا الدور من ثورات النصارى الدائمة بأرمينيا وجورجيا الذين كانوا يرون دائمًا في الدولة العثمانية عدوًا أبديًا يجب التخلص منه .
ويتضح أيضًا هذا الدور في المحافل الماسونية التي دخلت بلاد الإسلام مع الحملة الفرنسية على مصر 1213 هـ، حيث كانت معظم هذه المحافل مكونة من النصارى، ومنها انبسقت الأفكار العلمانية والقومية فنجد أن فكرة القومية العربية التي وضعت أصلاً لضرب الولاء والبراء بين المسلمين نشأت ببيروت على يد رجال أمثال بطرس البستاني وإبراهيم اليازجي وغيرهم من رجال[الآخر] المشهورين .
دور اليهود في هدم الخلافة العثمانية :
إن كان للنصارى دور كبير في هدم الخلافة العثمانية فإن اليهود هم أصحاب الدور الأكبر والأخبث في تلك المهمة القذرة ذلك لأن النصارى كانوا يعتمدون سياسة الثورة والقوة التي تهدف لتحطيم الدولة عسكريًا، أما اليهود فقد كانوا يعملون في الخفاء وينخرون في جسد الأمة كالسوس يقفون بالمرصاد أمام محاولات الإحياء والصحوة ويروجون لكل المنظمات والأفكار الهدامة التي من شأنها على المدى البعيد أن تقوض هذا الملك الكبير، هذا رغم كبير الجميل الذي قام به العثمانيون تجاه اليهود، ذلك لأنه في عهد سليمان القانوني المتوفى سنة 974 هت، وقعت حنة محاكم التفتيش بالأندلس للمسلمين واليهود وتشرد من اليهود مئات اللوف وهاموا على وجوههم ورفضت كل البلاد استقبالهم لسابق سوء صنيعهم وسمعتهم الشهيرة في الفساد والشر، وكان سليمان متوجًا من امرأة يهودية كالأفعى اسمها [روكسلان] ظلت تستعطف سليمان ليتقبل اليهود ببلاده حتى وافق وأذن لهم بالاستيطان بالبلاد الثمانية فاستوطنوا الأناضول خاصة [إزمير، سلانيك، أدرنة] وتمتعوا بقدر كبير من الاستقلال الذاتي وتولوا المناصب واقتنوا الثروات وعاشوا في حرية ورفاهية تامة، فماذا كان رد فعلهم؟ وكيف تعامل [الآخر] مع دولته ومجتمعه ؟
أخذ اليهود في إنشاء جماعة خاصة بهم غرضها إفساد عقائد المسمين والدعوة لتجميع اليهود من شتى أنحاء العالم لاتخاذ القدس مقرًا لهم وهؤلاء المعروفين [يهود الدونمة] وداعيتهم [شتباي زيفي] الذي ادعى النبوة وذاع أمره بأوروبا والشام ومصر وجاءته وفود اليهود لتبايعه ولما أخذته الدولة العثمانية لتعاقبه ادعى الإسلام وأظهر أنه مسلم وسمى نفسه [محمد البواب] وطلب من الدولة أن تأذن له في الدعوة للإسلام بين اليهود وظل [شتباي زيفي] على يهوديته في الباطن يمارس العمل للصهيونية في الخفاء ويظهر الإخلاص للإسلام في العلن ويعتبر ضرته [يهود الدونمة] سياسته موجهة ضد الدولة العثمانية أكبر من كونها حركة دينية، وكان لها إسهامات عديدة في هدم الخلافة عن طريق :
أ ـ هدم القيم الإسلامية في المجمع العثماني المسلم والعمل على نشر الإلحاد والأفكار الغربية والدعوة للعري والاختلاط بين الرجال والنساء خاصة في المدارس والجامعات .
ب ـ قام يهود الدونمة بدور فعّال في نصرة القوى المعادية للسلطان عبد الحميد، والتي تحركت من [سلانيك] لعزله وهم الذين سمموا أفكار الضباط للشباب وتغلغلوا داخل صفوف الجيش .
جـ ـ قام اليهود بالتأثير في جمعية الاتحاد والترقي، تحكموا فيهم وحركوهم كالدمى حتى ينفذوا مخططهم الشرير في عزل عبد الحميد وتطبيق الدستور العلماني .
د ـ أسسوا المحافل الماسونية داخل الدولة العثمانية، واستخدموا شعارات خادعة مثل الحرية ومكافحة الاستبداد ونشر الديمقراطية لاجتذاب البسطاء وترويح الأفكار الهدامة .(/5)
ويعتبر [شتباي زيفي] والذي هلك سنة 1678م ـ 1067 هـ، أول من نادى باتخاذ فلسطين وطن قومي لليهود، ويعتبر المؤسس الحقيقي للصهيونية العالمية، وذلك قبل [تيودور هيرتزل] بثلاثة قرون، ويكفي أن نعرف أن [مصطفى كمال] ينتسب إلى هذه الطائفة اليهودية الخبيثة لندرك مدى دور [الآخر] في تحطيم الخلافة العثمانية .
ويعتبر اليهودي [موئيز كوهين] مؤسس الفكر القومي الطوراني، وكتابه في القومية الطورانية هو الكتاب المقدس للسياسة الطورانية التي قوضت الخلافة العثمانية، وأحبطت فكرة الجامعة الإسلامية واليهود ويؤكدون على دورهم في تحطيم الخلافة العثمانية بإرسال أحد كبار اليهود، وهو [إيمانويل قراصو] وهو من قادة الاتحاد والترقي ليسلم السلطان عبد الحميد قرار عزله كنوع من التشفي والانتقام وإظهار عاقبة رفض عبد الحميد لطلبهم باستيطان فلسطين .
هذه كانت جولة سريعة في أحداث التاريخ السابقة التي ربما تكون غائبة عن ذهن المسلمين الآن كعادتهم مع تاريخهم التليد وضحنا فيها موقف الآخر من قضية الولاء والبراء، أما واقعنا الحاضر وتاريخنا القريب فهو مليء أيضًا بالمواقف التي تبرهن لنا على حقيقة موقف الآخر في مجتمعه المسلم نذكر منها رؤوس أقلام للتذكرة والتنبيه :
ـ ما جرى من الآخر في بلاد البوسنة والهرسك والمجازر البشعة التي ارتكبت في حق المسلمين لا لشيء إلا لأنهم أرادوا أن يكون لهم دولة خاصة ترف شعار الإسلام .
ـ ما جرى من الآخر في بلاد كوسوفا ومقدونيا .
ـ ما جرى من الآخر في الشيشان .
ـ ما جرى من الآخر في جنوب السودان وجنوب نيجيريا وساحل العاج وأثيوبيا وأريتريا .
ـ ما جرى من الآخر في لبنان وخيانة الآخر الكبيرة بتكوين جيش صليبي بقيادة أنطوان لحد .
وما زالت دماء المسلمين تراق كل يوم وليلة في شتى بقاع الأرض على يد الحليف [الآخر] والذي نعم مئات السنين تحت حكم الإسلام .
مما سبق عرضه من تلك الدراسة التاريخية الموجزة، والعرض السريع لأحداث التاريخ القديم والمعاصر يتضح لنا عدة أمور هامة في قضية الآخر، وموقفه من الولاء والبراء لمجتمعه .
أولاً : أن [الآخر] الممثل في اليهود والنصارى قد نعموا في ظل حكم الدولة الإسلامية بكل أنواع الأمان والرفاهية والمساواة التي لم يكن يخطر لهم بمثلها على بال لو حكم بعضهم بعضًا [مثلما حدث من الأسبان عندما حكموا الأندلس طردوا كل اليهود منها]، ولم يعلم من أحداث التاريخ شيئًا يدان به المسلمون في معاملتهم للآخر بل إن حسن المعاملة كانت سببًا لإسلام الكثير من أبناء لمن يقدر على الدفاع عنهم، فعلم أهل حمص أن هذا الدين هو الدين الحق فأمنوا .
ثانيًا : أن [الآخر] رغم كل هذه المعاملة الحسنة والتسامح الكبير الذي يصل على حد التساهل لم يشعروا أنهم جزء من المجتمع المسلم بل دائمًا، وأبدًا يشعرون أنهم نسيج بمفرده ويشعرون نصارى مدينة طرابلس الشامية يرحلون بعيالهم ونسائهم مع الصليبيين عندما خرجوا من هذه المدينة مع نهاية الحروب الصليبية سنة 680هـ، ونجد مثلاً أن الإنجليز عندما احتلوا العراق سنة 1917م/1335هـ، دخلوا بغداد في استقبال رائع وكبير من اليهود والنصارى الذين أعلنوا أنهم في خدمة الإنجليز وتحت تصرفهم، وعندما طالب المسلمون بالعراق تكوين دولة مستقلة لهم من شمال الموصل إلى الخليج العربي سنة 1338 هـ، رفض اليهود والنصارى ذلك وطلبوا أن يكونوا رعايا بريطانيين .
ثالثًا : أن [الآخر] لم يكتف بانعزاله شعوريًا ووجدانيًا عن المجتمع المسلم الذي يحيى فيه بل تمادى في ذلك، وأصبح بمثابة الطابور الخامس لأعداء الأمة المسلمة يحيكون الدسائس وينقلون الأخبار ويتجسسون لصالح الأعداء فهم مع كل عدو وحاقد على الإسلام، حتى ولو لم يطلب الأعداء منه العمل فالآخر دائمًا تحت أمر وخدمة وتصرف أعداء الإسلام، ولم يعلم منهم موقفًا واحدًا في نصرة الدين أو الدفاع عن مجتمعه المسلم الذي يحيى فيه إلا ما كان اضطراريًا أو دفاعًا عن النفس .(/6)
رابعًا : أن [الآخر] لم ينشط أو يرفع رأسًا أو يحيك المؤامرات أو يتعاون مع أعداء الإسلام إلا في الفترات التي تضعف فيها عقيدة الولاء والبراء عند المسلمين أنفسهم ويتساهلون مع [الآخر] ويرفعونه إلى درجة المساواة مع المسلمين كما حدث عند إطلاق الخط الهيمايوني في عهد السلطان [محمود الثاني] حيث شهد هذا العصر إطلاق المحافل الماسونية والمدارس التبشيرية والإرساليات النصرانية، وظهور الأفكار التحررية والعلمانية، ومن قبل نشط الآخر في الأندلس في عهد ملوك الطوائف المشهورين لتجميعهم الشديد في أمر الإسلام وضعف عقيدتهم الإسلامية مما أتاح الفرصة أمام [الآخر] لئن يتآمر مع أسبانيا الصليبية وتضيع حواضر الإسلام التليدة قرطبة طليطلة، إشبيلية، وهكذا، وعلى المقابل ففي الفترات التي كانت الدولة المسلمة تطبق شرع الله بصورة تامة وكاملة خاصة عقيدة الولاء والبراء، وكانت شروط أهل الذمة تطبق على الآخر كانت هذه الفترات، هي فترات القوة والعظمة والفترات التي لم يستطع فيها الآخر أن يتحرك أو يخرج مكنون صدره أو حتى يفكر في التآمر على المجتمع لأنه يعلم علم اليقين أن يد الشرع ستطوله وعندها يكون العقاب الأليم والحد الفاصل .
خامسًا : أن المتاعب والفتن التي تسبب فيها [الآخر] لمجتمعه المسلم لم يكن لها أن تحدث لو أن المجتمع المسلم كان ملتزمًا بشرعه متمسكًا بعقيدته النقية وهذا يقودنا إلى حقيقة هامة قررها القرآن الكريم منذ أكثر من أربعة عشر قرنًا من الزمان عندما قال رب العزة [ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم] فمهما فعل المسلمون ومهما قدموا من تنازلات للآخر ومهما تساهلوا وتهاونوا معه إلى حد التمييع فلن يرضى الآخر عن كل هذا ولن يشعر بأنه جزء من هذا المجتمع، ولن ترضيه قصائد المدح وشعارات الوحدة الوطنية .
وإفطارات الكنائس والإجازات الرسمية والكنائس الجديدة إلى غير ذلك كل ذلك لن يُرضي الآخر؛ لأنه أولاً وأخيرًا عدو لله ولرسوله، وصدق الشاعر عندما قال :
كل العداوات ترجى مودتها إلا عداوة من عاداك في الدين(/7)
موقف الإسلام من الأديان والحضارات الأخرى
د - جعفر شيخ إسماعيل
1. صدام الحضارات: هل هو أمر لازم؟
إننا نعيش في عصر ما تزال وسائل المواصلات والاتصالات فيه تتزايد سرعتها وكفائتها يوماً بعد يوم، فيزداد بازديادها انتقال الناس والأشياء والأفكار سهولة وسرعة، فيزداد بذلك تشابك مصالح الناس، ويكثر اعتماد بعضهم على بعض، ويقوى تأثير بعضهم في بعض. لم يعد من الممكن لأية أمة تريد تحقيق مصالحها أن تعيش منعزلة غنية بنفسها عن غيرها، مهما كانت قوتها الاقتصادية وإمكاناتها العلمية والتقنية والبشرية. بل أصبح من الضروري لكل أمة أن تكون ذات نظرة عالمية، وأن تهتم لذلك بسياستها الخارجية اهتمامها بالسياسة الداخلية.
لكن الناس في عصرنا ما زالوا تتقاسمهم –حتى داخل البلد الواحد- الأديان والثقافات، وربما يقال وتتقاسمهم على المستوى العالمي مختلف الحضارات. هل من الممكن لسكان هذه القرية الأرضية المنقسمين هذا الانقسام أن يعيشوا مع ذلك متسالمين آمنين متعاونين على تحقيق مصالحهم؟ أم أن الصراع بين ثقافاتهم على المستوى المحلي وبين حضاراتهم على المستوى العالمي ضربة لازب لا مفر منها؟ لا أحد يستطيع أن يجزم، فعلم المستقبل عند الله تعالى، وتصرفات البشر يصعب التنبؤ الجازم بها لما يعتريها من عدم العقلانية في كثير من الأحيان. لكن الأمر من الخطورة بمكان يستدعي النظر والتأمل. فلا بد للعلماء والمفكرين ورجال الدولة المسلمين من أن يولوه من العناية ما يستحق نظراً وعملاً وتخطيطاً.
المفكرون في الدول الكبرى من أكثر الناس اهتماماً بهذه القضية لأنهم يقدرون من خطرها ما لا يقدر غيرهم. ويمكن تلخيص توقعاتهم في أربعة آراء:
فمنهم من يرى أن الصدام بين الحضارت آت لا محالة، فهو ينصح قومه بإعداد العدة للدفاع عن الحضارة الغربية.[1]
ومنهم من يرى أن الصراع الثقافي قد بدأ في داخل الحضارة الغربية نفسها فلم تعد الحضارة التي كانت قبل.[2]
ومنهم من يرى أن الحضارة الغربية في شكلها الأمريكي المتفوق، والمتمثل في الليرالية السياسية، واقتصاد السوق هي مطمح أنظار الأمم، والغاية التي يتسابقون إليها، وحين يصلونها فتلك نهاية التاريخ في هذا المضمار.[3]
ومنهم من يرى أن التعايش السلمي بين الثقافات والحضارات ممكن إذا اتخذ الناس سبيل الديمقراطية العلمانية التعددية.
2. طبيعة العصبيات الثقافية:
ما الموقف الذي يجب على المسلمين اتخاذه إزاء الثقافات والحضارات المخالفة للإسلام في عصرنا هذا وفي ظروفنا هذه؟ إن الناس يهتدون في اتخاذهم لمواقفهم بما عندهم من علم وبما وهبهم الله من عقل. لكن المسلمين يهتدون إلى جانب ذلك بما حباهم الله تعالى به من هداية القرآن الكريم: (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم) [الإسراء:9] وهداية القرآن ليست هداية دينية بالمعنى المحدود الشائع في عصرنا لهذه الكلمة. إنها هداية تشمل كل ما يحتاج إليه الناس أفراداً وجماعات في أمورهم الروحية والجسدية، في حياتهم الدنيوية والأخروية. من أنواع هداية القرآن المتصلة بموضوعنا هذا أن يعطينا حقائق عامة عن المجتمعات البشرية من النوع الذي يحاول علماء الاجتماع أن يصلوا إليه بدراساتهم التجريبية. يهتدي المسلمون بهذه الحقائق في نظرتهم للكون البشري، وفي تفسيرهم لما يحدث فيه، وفي تعاملهم معه. لا أقول إنهم يستغنون بهذه التوجيهات القرآنية عن دراسة الواقع واستخلاص الحقائق منه، لكن الهداية القرآنية تعطيهم في هذا الصدد حقائق كلية مهمة قد لا يستطيعون الوصول إليها بجهدهم البشري. من هذه الحقائق الاجتماعية:
أولاً: أن كل جماعة من البشر ترى أن ما هي عليه من المعتقد والقيم والعمل أفضل مما عليه غيرها، مهما كان ما هي عليه باطلاً بمقياس الشرع الحق:
(كذلك زينا لكل أمة عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم فينبؤهم بما كانوا يعملون) [الأنعام: 108]
ثانياً: أنه كلما كان غيرهم أقرب إليهم كان أحب إليهم:
قال تعالى: (وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذاً لاتخذوك خليلاً) [الإسراء:73]
ثالثاً: أنهم لا يرضون رضىً كاملاً إلا عن من كان على شاكلتهم:
قال تعالى: (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم) [البقرة: 120]
رابعاً: أن حرصهم على أن يكون غيرهم معهم يدفعهم للضغط على المخالف –ولا سيما مخالفاً يُساكنهم- بأنواع من الضغوط تصل أحياناً حد الضرب أو السجن أو النفي أو حتى القتل:
قال تعالى: (وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك) [الأنفال: 30]
(قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنُخرجنَّك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودُنَّ في ملتنا. قال أو لو كنا كارهين) [الأعراف: 88](/1)
خامساً: أن من أهل الأديان والحضارات من يَعدُ دينه أو حضارته من خصائص قوميته او عرقه فلا يريد للآخرين أن يشركوه فيها، بل لا يراهم مساوين له حتى من الناحية الإنسانية فلذلك لا يرى نفسه مُلزماً بأن يلتزم في تعامله معهم بالقيم الخُلقية:
قال تعالى: (ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك، ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائماً، ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيلٌ، ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون) [آل عمران:75]
سادساً: لكن أولئك وهؤلاء جميعاً يريدون لمعتقداتهم أو لحضارتهم أن تكون هي المسيطرة وأن يكون أصحاب الحضارات الأخرى خداماً لمصالحهم. هذه الرغبة في السيادة والسيطرة تدفعهم لأن يعدوا العدة لضمان بقاء حضارتهم وللدفاع عنها في حال وجود خطر يهددها، وللعمل لإخضاع الآخرين لها. وهم يستعملون في ذلك كل إمكاناتهم التي يرونها مساعدة لتحقيق هذه الأهداف بما في ذلك اللجوء إلى الحرب.
أوضح مثال في عصرنا على هذه الرغبة الجامحة في السيطرة، وفي الحرص على ضمان دوامها، هو حال الغرب ممثلاً في دولته الكبرى، الولايات المتحدة الأمريكية. أنهم لا يخفون شيئاً من هذا الذي ذكرناه، بل يعلنون عنه في صراحة، ويفصلون الأمر فيه تفصيلاً تظنه حين تقرؤه كلاماً لخصومهم أو لأعدائهم. وهذا نفسه إنما هو من فرط ثقتهم بأنفسهم. فالأستاذ هنتجتون مثلاً يقرر في مقاله الذي طبقت شهرته الآفاق أن الغرب هو المسيطر الآن على المؤسسات العالمية السياسية والاقتصادية، وأن
القرارات التي تتخذها الأمم المتحدة أو مجلس الأمن أو صندوق النقد الدولي والتي تعبر عن مصالح الغرب تبرز للعالم على أنها المعبرة عن مصالح المجتمع الدولي. بل إن عبارة المجتمع الدولي (التي حلت محل عبارة العالم الحر) صارت هي نفسها الاسم الملطف الذي يمنح الشرعية لكل الأعمال المعبرة عن مصالح الولايات المتحدة وسائر القوى الغربية. فعن طريق مؤسسة النقد وسائر المؤسسات الاقتصادية الدولية يسعى الغرب لخدمة مصالحه ويفرض على الأمم الأخرى السياسات الاقتصادية التي يراها مناسبة.[4]
ويقول:
إن الهدف من الحد من انشار الأسلحة إبان الحرب الباردة كان تحقيق توازن عسكري مستقر بين الولايات المتحدة وحلفائها والاتحاد السوفيتي وحلفائه. أما في عالم ما بعد الحرب الباردة فقد صار الهدف الأول من الحد من انتشار الأسلحة هو منع الدول غير الغربية من تطوير قدرات عسكرية قادرة على تهديد المصالح الغربية. يحاول الغرب أن يحقق هذا عن طريق الاتفاقات الدولية، والضغوط الاقتصادية، والحد من نقل تقنية السلاح والعتاد. [5]
3. الموقف الإسلامي من حيث المبدأ
تلك هي مواقف الأديان والحضارات من بعضها من بعض بصفة عامة. فما موقف الإسلام منها؟ مهمتي هنا ليست منهمة عالم السياسة الذي يصف المواقف الفعلية أو المتوقعة للأمم والشعوب والدول المنتمية للإسلام. إن المطلوب مني إنما هو بيان موقف الإسلام من حيث هو دين، أي الموقف الذي تهدي إليه نصوص الكتاب والسنة. إن سلوك المنتسبين إلى الإسلام متأثر بهذه النصوص على درجات متفاوتة، لكنه ليس بالضرورة متوافقاً معها دائماً. فما الموقف الذي تهدي إليه هذه النصوص الكريمة؟
أولاً: من المعتقدات:
أول ما يلاحظه الناظر في هذه النصوص أنها تميز بين الحكم على المعتقدات ومعاملة المعتقِدِين. إن معتقدات الناس –دينية كانت أو غير دينية- متعددة مختلفة، لكن الذي يعطيه الإسلام منها أهمية، ويقدمه على ما سواه، ويقسم الناس بمعياره تقسيماً أساساً، هو المعتقدات المتعلقة بالخالق سبحانه: موجود هو أو غير موجود؟ يُعبد وحده أم يُشرك في عبادته معه غيره؟ أحد هو في ذاته وصفاته أم يشركه في بعض ذلك بعض مخلوقاته؟ أرسل رسلاً وأنزل كتباً يجب أن تُتبع أم ترك الناس سدى؟
القول الأول من هذا كله هو الحق، والقول الثاني هو الباطل، ولا واسطة بينهما إذ (ماذا بعد الحق إلا الضلال). وكل ما كان لازماً عن المعتقد الحق فهو حق أيضاً، سواء كان صاحبه مؤمناً بالحق الأساس أم غير مؤمن، وكل ما كان لازماً عن المعتقد الباطل فهو باطل سواء كان صاحبه معتقداً للباطل الأساس أو غير معتقد. والمسلمون مدعوون لقبول الحق حتى لو قال به غير مسلم، ولإنكار الباطل حتى لو قال به عالم مسلم. ذلكم هو حكم الإسلام على المعتقدات.
ثانياً: من المعتقِدين:
أ . من المسلمين.
أما المعتقدون فهم فريقان: أصحاب المعتقد الحق وأصحاب المعتقدات الباطلة. أصحاب المعتقد الحق هم المسلمون وهم نوعان:
1. مسلمون بالمعنى العام؛ وهم كل من اتبع نبياً بعثه الله تعالى ولم يكذب بأحد من الأنبياء الذين سمع بهم.
2. ومسلمون بالمعنى الخاص؛ وهم أتباع النبي محمد صلى الله عليه وسلم من كل الجنسيات وكل الأقطار وفي كل الأمصار، منذ مبعثه وإلى قيام الساعة.(/2)
أصحاب المعتقد الحق هؤلاء مأمورون بأن يوالي بعضهم بعضاً موالاة كاملة قلبية وعملية، من أي جنس كانوا وفي أي عصر أو مصر وجدوا، أحياءً كانوا أو أمواتاً:
قال تعالى: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض) [التوبة:71]
(والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم) [الحشر:10]
ولإنهم إنما اجتمعوا على الحق فموالاة بعضهم لبعض لا تكون إلا لنصرة الحق، أي إنهم مأمورون بأن لا يتعاونوا على باطل حتى لو كان ضد عدو لهم يمقتونه أشد المقت:
قال تعالى: (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان) [المائدة:2)
(ولا يجرمنكم شنئان قوم على أن لا تعدلوا. إعدلوا هو أقرب للتقوى، واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون) [المائدة: 8]
بل إن المولاة تقتضي ليس فقط عدم التعاون والتناصر على الإثم والعدوان، وإنما تقتضي أن يمنع بعضهم بعضاً من ارتكاب الظلم والعدوان، وإن أدى ذلك إلى حمل السلاح على المعتدي المسلم:
قال الله تعالى:
(وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما. فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيئ إلى أمر الله. فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المُقسطين) [الحجرات:9]
وقال صلى الله عليه وسلم:
انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً. قالوا يارسول الله، هذا ننصره مظلوماً، فكيف ننصره ظالماً؟ قال: تأخذ فوق يديه.[6]
ب. من غير المسلمين
أما أصحاب المعتقد الباطل فهم كل من سوى أهل المعتقد الحق من أهل الشرك والإلحاد والكفر بأنبياء الله والتمرد على شرع الله. فما الموقف منهم؟ إن مما يلفت نظر الإنسان في الإسلام في هذا الصدد كونه يعترف بوجود ما يُسمى الآن بالآخر، بل بدوام وجوده. يقول الله تعالى:
(وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين) [يوسف: 103]
والإسلام يختلف في هذا عن الأديان والأيدلجيات التي لا مكان فيها للآخر. بل قد نستطيع أن نجزم بأنه لا يوجد في دين أو أيدلجية غير الإسلام ما يوجد فيه من اهتمام بهذا الآخر وتفصيل للمواقف التي تتخذ معه في أحواله وأحوالهم المختلفة. فالشيوعية كانت تعد قبول الناس جميعاً لها أمراً حتمياً. وقريب من هذا رأي فوكوياما الذي يعد الليرالية والرأسمالية نهاية المطاف لكل النظم المخالفة لها. إن مثل هذه التنبؤات تجعل صاحب المعتقد الذي تنبأ بها يضيق بالآخر ويعده سائراً ضد حركة التاريخ، ومحكوماً عليه بالفناء، فلا يبالي بالكيفية التي يعامله بها، بل قد لا يبالي بالتخلص منه معتقداً أن إنما يساعد بذلك حركة التاريخ.
ماذا نفعل مع هؤلاء المخالفين لنا بعد أن أُمرنا بالاعتراف بوجودهم؟ كيف نتصرف إزاءهم في عصرنا هذا وفي ظروفنا هذه؟ أقول في عصرنا هذا وفي ظروفنا هذه بهذا التقييد لإن الإسلام يضع لكل حال موقفاً أو حكماً يصلح له ولا يصلح لحال تضاده. فمن فقه هذا الدين اختيار الموقف المناسب للحال الذي يكون عليه الفرد أو تكون عليه الجماعة. هذه الخاصة من خواص الإسلام يمكن أن نطلق عليها بالتعبير الحديث العقلانية. وهي صفة يظن كثير من الناس –بل حتى من المتدينين- أنها أبعد ما تكون عن الدين. إذ المتدين في نظر هؤلاء إنسان يعتقد أن أوامر دينه ونواهيه كلها أوامر مطلقة، لا تعطي اعتباراً لزمان أو مكان، ولا تراعي ظرفاً ولا تأبه بنتائج مهما كانت خطيرة.
لكن السلوك العقلاني عكس ذلك تماماً. فالعقلاني إنسان يجعل السلوك والأعمال وسائل لتحقيق غايات، ويجعل هذه الغايات هي التي تحدد نوع السلوك وقيمته. لكن هنالك فرقاً بين ما يمكن تسميته بالعقلانية الشكلية والعقلانية الحقيقية. العقلانية الشكلية هي التي يلتزم صاحبها بما ذكرنا لكنه لا يضع اعتباراً لنوع الغاية التي يتغياها من عمله. فالسارق الذي يحذق الطريقة التي يحقق بها سرقته ويغيرها بحسب الظروف والملابسات، ويزن الخسائر والأرباح فلا يقدم على المخاطرة بسرقة تكاليف سرقتها أكثر من المسروق. عقلاني من الناحية الشكلية الظاهرية لكنه ليس عقلانياً في حقيقته. وكذلك الشخص الذي يُوصف بالانتهازية؛ إنه عقلاني من حيث كونه يسلك الطرق المناسبة لتحقيق مآربه مهما كانت، ومن غير تقيد بخلق في اختيار الوسائل. بعض المفكرين الغربيين صب جام غضبه على العقلانية واعتبرها من أسباب كثير من المصائب التي حلت بالغرب لأنه لم ينظر إلا إلى العقلانية الشكلية هذه، بل جعل العقلانية مخالفة بالضرورة للقيم والاعتبارت الروحية.[7](/3)
لكن العقلانية الإسلامية التي نتحدث عنها عقلانية خَيِّرة. ذلك بأن الإسلام، هو الهدى المنزل من عند الله، يحدد الناس غاياتهم الكبرى ويمدهم بالموازين التي يزنون بها وسائلهم، ولا يترك الأمر كله لتقديراتهم وآرائهم وأهوائهم. كثيراً ما يعبر العلماء عن غاية الإسلام الكبرى بقولهم إن الدين إنما جاء لتكميل المصالح وتقليل المفاسد. المصالح بمعناها الشرعي العام الذي يتضمن على وجه الخصوص مصالحهم الروحية. من ذلك مثلاً أنه في ظرفٍ أَمر المسلمين بأن يكفوا أيديهم ويقيموا الصلاة ولا يحملوا السلاح حتى على من اضطهدهم، وفي مرة أذن لهم بمقاتلته، وفي أخرى أمرهم بقتاله دفاعاً عن أنفسهم، وفي ثالثة أمرهم بجهاد الطلب. رضي من أقوام الجزية ولم يرض من آخرين، عاهد أقواماً ولم يعاهد آخرين. هَمَّ الرسول صلى الله عليه وسلم ذات مرة أن يتنازل للكفار عن بعض أموال المسلمين، وهكذا. إن الذي ينظر في هذه المواقف إذا سردت هكذا سرداً يظنها متناقضة متضاربة. لكنه إذا نظر في ظروفها وملابساتها علم أن وضع واحد منها موضع الآخر هو التناقض. نعم إن بعض الناس جعل الأمر بالقتال هو الأمر الناسخ لكل ما سبقه، نسخاً أبدياً يبطل أحكامها، ولا يُبقي للمسلمين خياراً إلا القتال مهما كانت الأحوال والظروف. لكن هذا ليس بالرأي السديد. فكثيراً ما سالم المسلمون وكثيراً ما عاهدوا حتى بعد تمام الدين وموت الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وكثيراً ما أفتى لهم علماؤهم حتى بالتنازل عن بعض حقوقهم، وكان رائدهم في هذا كله تلك العقلانية الإسلامية التي تجعل الغاية من التصرفات تحقيق أكبر قدر من المنافع ودفع أكبر قدر من المفاسد بقدر المستطاع. إن الهدف الأعلى من كل هذه المعاملات إنما هو إعلاء كلمة الله تعالى. إن الهدف ليس تحقيق مصلحة لقوم معينين ولا لعرق معين، ولا لبلد أو أرض مُعَينة، وإن كان تحقيق المصالح الدنيوية داخلاً بالضرورة في المعاملات البشرية.
4. الموقف في الظروف الراهنة
لعلنا نستطيع –مهتدين بتلك القواعد- الإسلامية أن نلخص المواقف التي يجب علينا اتخاذها في ظروفنا هذه إزاء الحضارات الأخرى في أربعة واجبات: دعوتهم إلى الإسلام، وإعداد القوة لرد المعتدي منهم، والجنوح إلى السلام، وتبادل المنافع.
أولاً: الدعوة إلى الحق:
بما أن الهدف الأسمى للمسلمين إنما هو إعلاء كلمة الله، فإن أول واجب على أهل الحق نحو غيرهم هو دعوتهم إلى هذا الحق. إنه ما أن يدخل الإسلام قلب امرئ إلا ويجد نفسه مدفوعاً لدعوة الآخرين إليه، لأن هذه الدعوة هي جزء من دينه الذي يتقرب به إلى ربه. لكن الهداية عمل قلبي لا يمكن أن يجبر الإنسان عليه، ولذلك يقرر القرآن الكريم أنه:
(لا إكراه في الدين) [البقرة: 256]
قال ابن كثير في تفسيره لهذه الآية:
أي لا تكرهوا أحداً على الدخول في دين الإسلام فإنه بَيِّن واضح دلائله وبراهينه، لا يحتاج إلى أن يكره أحد على الدخول ليه، بل من هده الله للإسلام وشرح صدره ونوّر بصيرته دخل فيه على بينة. ومن أعمى الله قلبه وختم على سمعه وبصره فإنه لا يفيده الدخول في الدين مُكرهاً مقسوراً.
لذلك لا يستعمل في الهداية إلا الوسائل التي تجعل المدعو يقبل الحق بإرادة واختيار.
هذه الوسائل المناسبة هي تلك التي أجملتها الآية الكريمة الشهيرة:
(أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلهم بالتي هي أحسن) [النحل:125]
يدخل في الحكمة استعمال الأدلة والبراهين العلمية والعقلية. ويدخل في الموعظة الحسنة كل ما من شأنه أن يلين قلوب المدعو ويعطفه على قبول الحق. ويدخل في المجادلة بالتي هي أحسن حسن الاستماع إلى ما عند الآخر من أدلة، والاعتراف له بما يقرره من حق، وعدم إحراجه، وسوقه بلطف من الحقائق التي يُسلم بها إلى تلك التي ينكرها، وهكذا.
إن الدعوة نقيض الاعتزال؛ فكل من يهتم بدعوة الناس إلى حق أو باطل، إلى أمر ديني أو دنيوي، لابد أن يتصل بهم ويهتم بهم اهتماماً يدعوه إلى دراسة تاريخ من يدعو من الأقوام، ومعرفة لغاتهم وثقافاتهم، وتقويم قدراتهم، وتقدير فضائلهم ومزاياهم، وهكذا. انظروا كيف تهتم الدول الكبرى في عصرنا بهذا كله لما لها من مصالح دنيوية فيه. فما دام الإسلام دين دعوة إلى الحق، كيف يكون دين اعتزال عن الخلق؟
مما يشجع المسلم على دعوة الآخرين والإحسان إليهم وعدم اليأس من هدايتهم، اعتقاده بأن الإنسان مخلوق خير في أصله، فكل ما فيه من خير هو مما فطره الله عليه في أصل خلقته، وكل ما فيه من شر فأمر عارض اكتسبه ببعده عن تلك الفطرة.
يقول الله تعالى: (ونفس وما سواها، فألهمها فجورها وتقواها. قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها) [الشمس:7-10]
ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: كل مولود يولد على الفطرة(/4)
تتمثل هذه الخيرية أساساً في كون الإنسان خُلق ليكون عبداً لله، وكون هذه الحقيقة مركوزة في فطرته، لا تتم إنسانيته ولا تكتمل سعادته إلا بتلبية مقتضياتها. لكن هذه الخيرية الجوهرية يتصل بها ويدور في فلكها كل ما في الإنسان من أنواع الخير الأخرى: عقلانيته، حسه الخلقي، ذوقه الجمالي، حرصه على ما ينفعه، أريحيته، وهكذا. فالإنسان في التصور الإسلامي ليس مادة هلامية تشكلها الظروف والثقافات، كما تقول بذلك بعض النظريات الغربية، ولا هو مفطور على الشر أو وارث له كما تدعي بعض تلك النظريات أيضاً؛ وإنما هو مخلوق ذو فطرة ثابتة لا تتغير
(فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله) [الروم:30]
نعم إن واقع الإنسان الخارجي لا يكون دائماً متسقاً مع جوهره الإنساني، لكن ذلك الجوهر يبقى كما هو، ويبقى معه الأمل في أن يعود الإنسان إليه مهما كانت انتماءاته وتصوراته الراهنة. وإذن فإن المسلم البصير بدينه، لا ينكر واقع الناس وتفرقهم ديانات وحضارات وشيعاً وأحزاباً، لكن بصره يظل يخترق هذه الحجب الواقعية، لينفذ إلى ما وراءها من حقيقة الناس الأصلية: إنهم عباد لله، فطرهم الله على معرفته وعبادته، وكل خير يدعون إليه. فدعوتهم إلى الخير وإن تعارضت مع ثقافة أو مصلحة طارئة يتعلقون بها، فهي متوافقة مع إنسانيتهم، وليست غريبة عنهم ولا مستوردة إليهم من مصدر غريب عليهم، وإنما هي مكبر لصوت الفطرة الذي يناديهم من داخل قلوبهم.
(فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون) [الروم:30]
إن تأكيد الإسلام على ثبات الفطرة وخيريتها، يجعلها هي السابقة على الانتماءات الدينية والثقافية والحضارية. فليست الثقافات والحضارات هي التي تصنع فطرة الإنسان وتحدد سلوكه وطرائق تفكيره، كما تقول بذلك بعض النظريات الغربية، وإنما فطرته هي المعيار الذي يمكنه من الحكم على تلك الثقافات والحضارات. فما وافقها كان موافقاً للإنسان وسبباً لسعادته وما خالفها كان من أسباب شقائه؛ فهو مخير بين البقاء عليه أو الانفكاك عنه. فالانتماء الثقافي أو الحضاري ليس ضربة لازب، كما تُصوره تلك النظريات وتقسم الناس بسببه تقسيمات يحسبها الناظر في كلامهم تقسيمات طبيعية باقية ما بقي الليل والنهار والجبال والأنهار.
والدين الحق النازل من السماء على أنبياء الله جميعاً منذ نوح إلى إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم دين موافق لهذه الفطرة.
ثانياً: إعداد القوة الرادعة:
إن الواجب على المسلمين في كل عصر أن يكون لهم من القوة ما يحقق لهم أمرين اثنين:
أولهما: إرهاب العدو حتى لا تحدثه نفسه بغزوهم أو الاعتداء عليهم بأي شكل من أشكال الاعتداء:
(وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم) [الأنفال:60]
هذا الإرهاب هو المسمي في الاصطلاح الحديث بالردع deterrence لا terrorism
وثانيهما: عدم فتنة الكفار. لقد كان من دعاء إبراهيم عليه السلام وقومه:
(ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا) [الممتحنة: 5]
وكان من دعاء موسى عليه السلام وقومه:
(ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين) [يونس: 85]
قال ابن كثير:
أي لا تظفروهم بنا وتسلطهم علينا فيظنوا أنهم إنما سلطوا لأنهم على الحق ونحن على الباطل فيفتنوا بذلك.
ومن هنا كان إعداد القوة الرادعة أمراً مكملاً للدعوة إلى الحق، لأنه بغير هذه القوة يكون الحال صاداً عما يدعو إليه المقال. إن واقع عالمنا يؤكد لنا أهمية هذا الذي يهدينا إليه كتاب ربنا. إن دول العالم تتسابق الآن كلها على اقتناء السلاح. منها ما يفعل ذلك بغرض الدفاع عن نفسه في حالة الاعتداء عليه، ومنهم من يفعل ذلك لمجرد الردع، ومنهم من يفعل ذلك لاكتساب المواقع الاستراتيجية ولنشر ما يؤمن به من مبادئ وقيم ونظم، حتى تكون هي المبادئ والقيم والنظم العالمية.
ولأن أرضنا أصبحت كالقرية الواحدة التي تتشابك مصالح الناس فيها تشابكاً كبيراً لم تعد المنافسة على السيطرة فيها قاصرة على أجزاء محدودة منها بل صارت عليها كلها. لكن السيطرة العالمية هذه له تكاليفها الباهظة. خذ مثال الولايات المتحدة مرة ثالثة. يخبرنا الأستاذ ستيفن آمبروز صاحب كتاب النهوض إلى العالمية: سياسة أمريكا الخارجية منذ عام 1938: أنه بعد(/5)
نصف قرن من الحرب العالمية الثانية أصبح للولايات المتحدة جيش ضخم من القوات العاملة البرية والجوية والبحرية، وأن ميزانية وزراة الدفاع زادت عن 300 بليون دولار. وأنه أصبح للولايات المتحدة تحالفات عسكرية مع أكثر من خمسين أمة، وأن لها أكثر من مليون جندي من المشاة والطيارين والبحرية في أكثر من مائة قطر. وأن لها مقدرة هجومية كفيلة بأن تدمر العالم عدة مرات. وأنها استعملت قوتها العسكرية للتدخل في الهند الصينية، ولبنان، وجمهورية الدومينيكان، وجرانادا، وأمريكا الوسطى، والخليج، وأنها أعانت على غزو لكوبا، وأنه وزعت كميات كبيرة من الأسلحة على دول صديقة في العالم، وأنها خاضت حروباً باهظة في كوريا وفيتنام. ولكن بالرغم من كل الأموال التي صُرفت على الأسلحة، ومهما كان بعد المدى الذي بسطت عليه أمريكا قوتها، فإن الأمن القومي لأمريكا ظل في خطر دائم.[8]
ثالثاً: الجنوح للسلم:
لكن إعداد القوة لتلك الأهداف التي ذكرناها يجب ألا يمنعنا من الجنوح المخلص للسلم ودعوة العالم كله إلى حل مشكلاته كلها بالتفاهم والعدل والقسط. إنه لا يمكن لإنسان عاقل يعرف ما لا يزال العالم ينتجه ويخزنه من أسلحة الدمار، ويعرف الأضرار البالغة الناتجة عن استعمالها، إلا أن يكون مع الداعين إلى تجنب الحروب، محلية كانت أو عالمية. لكن تجنب الحروب يقتضي تجنب أسبابها من كل أنواع الظلم والعدوان. هذا أمر لا تجدي فيه القرارات السياسية وحدها، بل ينبغي أن تتضافر الجهود لجعله جزءاً من ثقافة الناس وقناعاتهم التي يلتزم بها قادتهم ورؤساؤهم.
ونحن المسلمين أولى الناس بهذه الدعوة لتلك المصالح التي يشاركنا فيها غيرنا، ولسبب آخر خاص بنا، وهو أن السلم سيساعد بإذن الله على نشر هذا الحق الذي حبانا الله بمعرفته والإيمان به، وكلفنا بالدعوة إليه. كيف؟ إن أهم ما يميز عالمنا المعاصر هذا هو التوسع العظيم في العلوم الطبيعية. وقد كان لهذه العلوم جوانب ثلاثة: أحدها الحقائق التي اكتشفتها وجعلتها جزءاً من ثقافة الناس ومعارفهم، وثانياً المنهج العقلاني الذي سلكه العلماء للوصول إلى تلك الحقائق، والذي صار أمراً مسلماً بصوابه عند عامة المثقفين. وثالثها التقنية التي بينيت على تلك الحقائق والتي جعلها الله سبباً لتيسير الحياة في كثير من جوانبها. لذلك كله أُولع الناس ولا سيما الغربيين منهم بهذا العلم أيما إيلاع حتى كانوا يظنونه إلى مطلع هذا القرن سيحل حتى المشكلات الخُلُقية والروحية، فيحل بذلك محل الدين. لكن هذه الثقة تزعزعت بعد الحرب العالمية الأولى، ثم بدأت تتضاءل كلما رأى الناس أن التطور العلمي لم يصحبه تطور خُلقي ولا روحي، بل واكبه تقهقر روحي وتدهور خُلقي. لهذا بدأ الناس في العالم كله يبحثون عن الدين مرة أخرى، حتى صار ما يُسمى بالأصولية ظاهرة عالمية، فما من أهل دين إلا وقد بدؤوا يرجعون إلى دينهم ينشدون فيه ما لم يجدوه في العلوم الطبيعية. لكن الناس –ولاسيما المثقفين منهم- لا يمكنهم أن يعودوا إلى الدين مخلفين وراءهم ذلك المنهج العلمي الذي زودتهم به تلك العلوم، ولا يمكنهم أن يمحوا من ذاكرتهم الحقائق التي أطلعتهم عليها. بيد أنهم إذا ما تزودوا بزاد المنهج العلمي وحملوا معهم حقائقه في عودتهم إلى دينهم واجهتهم مشكلة هي أن أديانهم تقوم على دعاوى لا برهان عليها، وعلى معتقدات لا اتساق فيها، وكلا الأمرين لا يقبله المنهج العقلاني الذي رسخته في أذهانهم العلوم الطبيعية. ثم وجدوا تلك الأديان تقرر مسائل أثبت هذا العلم بطلانها. لقد نتج عن هذه الرغبة في العودة إلى الدين مع البقاء على المنهج العلمي مجالاً جديداً من الدراسات صار مقرراً في بعض الجامعات، أعني دراسة الصلة بين الدين والعلم التجريبي، ومحاولة التوفيق بينهما. إن لسان حال هؤلاء العقلاء من الدارسين يقول: أيا ليت لنا ديناً لا يأتي بمحالات العقول، ولا بما يكذبه الواقع المشهود، ويكون مع ذلك محققاً لما نرجوه من الدين من إشباع لأرواحنا واستقامة لأخلاقنا. وسيقول لهم المسلمون إن ما تمنيتموه عندنا فهاؤم اقرؤوا كتاب ربنا وسنة نبينا.
كلي أمل في أن يثوب كثير من الغربيين إلى الإسلام عن هذا الطريق كما يثوبون إليه عن طرق أخرى. ويوم ذاك لن تكون الحضارة الغربية حضارة نصرانية يهودية فحسب كما هي الآن، بل وإسلامية أيضاً. وإذا كان الدين هو أهم مكون للحضارة كما يقول هنتجتون فإن الشقة بين الحضارة الغربية والإسلامية ستضيق ويضيق بسببها احتمال الصدام.
رابعاً: تبادل المنافع:(/6)
إن التعايش السلمي بين أهل الأديان والحضارات كلها يُيسر عليهم تبادل المنافع المادية والفكرية، كما ييسر عليهم التعاون على حل المشكلات التي يبتلون بها جميعاً. إن ضمور العالم من حيث الاتصالات والمواصلات لم يخل من كثير من الآثار السيئة. فالأمراض تنتقل بسرعة من بلد إلى آخر، وتنتقل كذلك المخدرات والمجرمون، وأفلام الرذيلة والضلال. ثم هناك مشكلة تلوث البيئة وما نتج عنها من خرق لطبقة الأوزون، وما يُقال إنه سيترتب على ذلك من مشكلات على مستوى الكرة الأرضية كلها. كل هذه المصائب المشتركة تستدعي تعاوناً بين الناس في المجتمع الدولي.
لكن التعاون لا يقتصر على مواجهة هذه المصائب المشتركة، بل إن التعايش السلمي يساعد كل أمة على أن تتعاون مع من شاءت من الأمم التي ترى في تعاونها معها تحقيقاً لمصلحة الطرفين.
غير أنه من البديهي ان هذه الصورة المثالية للتعاون لن تتحقق إذا ظل أهل الحضارة الغربية على خوف دائم من أن تضعف أو تزول سيطرتهم، وعلى حرص دائم لذلك بأن لا يتطور غيرهم. إن هنتنجتن يرى أن الصدام القادم سيكون بين الحضارة الغربية من جهة والحضارتين الإسلامية والكنفشيوسية من جهة أخرى، أي أن الحضارتين الإسلامية والكنفشيوسية ستتعاونان على مواجهة الحضارة الغربية. لماذا تتعاون هاتان الحضارتان؟ ألأن الصلة بينهما أقوى من صلة كل منهما بالحضارة الغربية؟ إن هنتنجتن يُخبرنا بأن أهم مكون للحضارة هو الدين. فهل يقول إن الكنفشيوسية أقرب إلى الإسلام من النصرانية؟ ما أظن أحداً يعرف الديانتين، ويعرف مكانة النصرانية واليهودية في الإسلام بالنسبة إلى غيرهما من الأديان، يمكن أن يقول هذا. وإذن فإن السبب الحقيقي لهذا التعاون إن حدث لن يكون نابعاً من طبيعة الحضارتين، بل من معاملة الحضارة الغربية لهما. أريد أن أقول إن الحضارة الغربية هي التي تدفع الآخرين لمعاداتها حين تعمل على الوقوف في طريق التطور الطبيعي لغيرها، وحين تعد كل ما عداها خطراً عليها فتتحدث عن الغرب والآخر The West and the rest تماماً كما كان بعضهم ولعله لا يزال يصف كل من ليس على دينه بالأميين ولا يرى أنه مُلزم في التعامل معهم بخلق ولا دين.
----------------------
1 مقال صراع الحضارات، صامويل هنتجتون Samuel Hintington, Clash of Civilizations? Foreign Affairs, Summer 1993
[2] أنظر مثلاً: James Kurth, The Real Clash, The National Interest, No. 34, Fall 1994
[3] هذا هو رأي فوكوياما في كتابه نهاية التاريخ، الذي أثار جدلاً كثيراً في الغرب حين صدوره.
Ftancis Fukuyama, The End of History and the Last Man, The Free Press, New York. 1992
[4] هنتجتون ص 39 ، مرجع سابق
[5] هنتجتون ص 46 ، مرجع سابق
[6] رواه البخاري من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، في كتاب المظالم.
[7] Voltaire’s Bastards, London, 1992
[8] Stephen Ambrose, Rise to Globalis, Penguin Books. 1993, p. xi(/7)
(6)
موقف الإسلام من العلم والفلسفة الغربية
هل للفكر الإسلامي خصائص ذاتية متميزة تفرق بين دين الفكر البشري وتحول بينه وبين الانصهار في العالمية والأممية ؟
إن كثيراً مما يكتبه الباحثون في شئون الفكر والفلسفة والعلوم يحاول أن يصل إلى مسلمة تقول بأن الفكر الإسلامي هو أحد أطراف الفكر العالمي الذي تشكل في إطار الفكر اليوناني القديم والذي يسبح الآن في إطار الفكر الغربي العالمي وهذه المسلمة مرفوضة، وإن كان دعاة التغريب يرددونها ويكررونها حتى يثبتوها في الأذهان وهي في الحقيقة ليست صحيحة مطلقاً، بل وليس لها أي وجه من وجوه احتمال الصحة. وهي في غايتها محاولة للتآمر على الفكر الإسلامي وإخراجه من إطاره الخاص وطابعه المميز. ولقد يذهب البعض في التعليل الزائف والتحليل الباطل إلى القول بأن الفكر الإسلامي تأثر أو تشكل في ضوء أو في إطار الفكر اليوناني القديم (أو الفكر البشري كله هندياً وفارسياً وفرعونياً وبابلياً)، وهو الآن في نهضته الحديثة لا ضير أن يستمد من ثمرات الفكر الغربي الذي هو وليد الفكر اليوناني القديم.
وهذا القول مرفوض قطعاً، وقد كشف زيفه -عندما استعلن لأول مرة على لسان الدكتور طه حسين وقلمه- عشرات من الكتاب والباحثين.
والواقع أن "الفكر الإسلامي" هو وليد القرآن الكريم والسنة المطهرة، وأن هذا المنهج الرباني قد جاء للإسلام في صورته النهائية والكاملة والباقية بقاء البشر معلناً كلمة الله التي ألقاها إلى أنبيائه ورسله منذ بدأت رحلة النبوة والوحي بين السماء والأرض إلى أن توقفت بخاتم الرسل والرسالات والكتب.
ومن هنا فإن الإسلام جاء بالحقائق التي أرسل الله بها رسله وأنبياءه إلى الأمم، هذه الحقائق التي حرفت وغيرت وبدلت وتأولها المفسرون على النحو الذي نقلها من إطار الفكر الرباني الخالص المجرد المبرأ من كل شئ إلى الفكر البشري القائم على الهوى والمطمع والغايات الخاصة والمنحرف عن الأصل الحقيقي.
جاء الإسلام لتقرير الحقائق الربانية الأصيلة في مواجهة الفكر المختلط، الذي كان ربانياً في أصله ثم شابته زيوف وإضافات وحذوف، ومن هنا فإن الفكر الإسلامي مستمداً من الإسلام نفسه يجب أن تكون له خصائص ذاتية مميزة تفرق بينه وبين دين الفكر البشري، وحتى تظل البشرية سائرة في ضوء الهدي؛ لأنه لا بد أن يظل قادراً على رد كل زيف أو تحريف، وإن يكن ممتنعاً عن الانصهار في الفكر البشري أو محتوى منه أو داخلاً فيه.
وذلك لأنه هو في جوهره وأصوله القرآنية الأصيلة هو الشاهد والمهيمن على اضطراب الفكر البشري وزيف التغيرات والإضافات التي أصابته على مدى الأزمان والعصور.
ومن هنا فإننا نجد الفكر الإسلامي يعارض الجمود والتعصب والتقليد ويعارض كل ما يصادم قوانين الكون ونواميس الوجود ويرى أن كل شئ يبدأ من نقطة ثابتة وينتهي إليها "الحركة في إطار الثبات" وأن كل شئ يبدأ صغيراً ثم ينمو حتى يكتمل ثم يعود مرة أخرى في دورة جديدة، وهناك ارتباط جذري بين الفكر الإسلامي واللغة العربية؛ ذلك لأن كل لغة لها منهجها القائم على معانيها ومضامينها، ولقد هاجم المسلمون المنهج الأرسطي؛ لأنه مستند إلى خصائص اللغة اليونانية التي تخالف اللغة العربية وكذلك الأمر بالنسبة للمنهج الغربي.
(2) والفكر الإسلامي لا يعمل إلا ضمن النطاق الذي رسمه القرآن وحدده، ويحكم على كل ما يواجه المسلمين في ضوء القرآن نفسه ولا يحكمون منه منهجاً آخر، وهو في نفس الوقت متفتح على الثقافات العالمية يأخذ منها ويترك، وهو لا يأخذ إلا ما ينفعه ويتفق مع طوابعه وما يزيده قوة، وكل ما يأخذه يصهره صهراً تاماً في بوتقته، ولقد حرر الإسلام أتباعه من التأثير الأجنبي بكل أنواعه ودعا إلى اليقظة إزاء محاولة تغيير المعالم الأصلية لعقيدتهم وفكرهم وثقافتهم ومزاجهم النفسي.
ويعتبر المسلمون أن كل ما يقدمه الفكر العالمي هو مادة خام يأخذون منها ويدعون دون أن يكون مفروضاً عليهم.
ويؤمن الفكر الإسلامي بأن كل نظرية أو مذهب قام في مجتمع ما، فإنما أقامها أهلها على مقياس مجتمعهم وفي ظل تحدياته الواقعية والتاريخية معاً، فهي استجابة لظروف البيئة، ولذلك فهي سرعان ما تبدو مع مرور الزمن عاجزة عن تحقيق الهدف فيضاف إليها ويحذف منها، ولذلك فإن نقلها إلى بيئات أخرى عسير لأنها تعجز عن الحياة والنماء.
ولقد كان الفكر الإسلامي دائماً متفتحاً لثمرات الفكر البشري ولكنه كان قادراً حتى في أشد مراحل الضعف والتخلف على المحافظة على ذاتيته والحيلولة دون انصهاره في الفكر الأممي.
وقد رفض الفكر الإسلامي الفلسفة اليونانية واستعلاء الاعتزال وجبرية التصوف.(/1)
(3) والفكر الإسلامي لا يقر مفهوم "الانشطار" أو التجزئة؛ ذلك لأن الإسلام يقوم أساساً على التكامل وعلى التقاء العناصر المخلفة في كل موحد، وهو في هذا يختلف عن الفكر الغربي، كذلك لا يقر دعوة التولستوية والغاندية المتجزئة التي لا تقر مفهوم الجهاد. والإسلام يقوم على السلام والتسامح في نفس الوقت الذي يقوم فيه على المقاومة والقوة.
وللفكر الإسلامي أبعاد هامة:
(1) التكامل بمعنى وضع الجزء في مكانه من النظرية الكلية الجامعة في نظرة شاملة واعية بالحياة.
(2) العمق الزمني الذي يربط الإنسان بالتاريخ والواقع وقضايا الحياة.
(3) اتساع مكاني يربطه بالأحداث العالمية.
(4) العمق العقدي الذي يربط الإنسان برسالة السماء منذ بدئها إلى ختامها، ومنها ارتباط الأرض بالسماء، وارتباط الدنيا بالآخرة، وامتدادها إلى ما بعد الموت، بعثاً ونشوراً.
(5) تعليل الظواهر بعللها الطبيعية التي ترجع في نهايتها إلى إرادة الله.
(6) الالتزام الأخلاقي الذي هو عماد العلاقات بين القوى المختلفة، وأساسه التقوى.
ما هو العلم :
(4) إن الخلاف بين الفكر الإسلامي والفكر الغربي ليس مع العلم التجريبي ولكن مع الفلسفة، هذه الفلسفة التي أخذت إطارات العلم وحاولت أن تستعين بها على إذاعة مفاهيم المادة، وعلى الباحث المسلم أن يتنبه بأن هناك فاصلاً واضحاً وعميقاً بين العلم التجريبي وبين الفلسفة، ومن شأن هذا الفارق أن تتقبل العلم التجريبي؛ لأنه من المعرفة الإنسانية العامة، ويتحرر من تقبل الفلسفة؛ لأنها من المعطيات الذاتية الخاصة بالأمم والعقائد. والثقافات تختلف من أمة إلى أمة ومن عصر إلى عصر.
فالعلم لا ينكر وجود الله ولا ينكر الغيب، ولكنه يقصر جهده على عالم المحسوس والملموس من حيث هو تجربة مادية خالصة، ولكنه لا يدعي أنه يقدم نظرة كاملة للحياة. وقد تكشف للعلماء التجريبيين الآن بعد انفلاق الذرة أن هناك باتا قد فتح لعالم غيبي مجهول ضخم يعجز العلم بأدواته العاجزة عن اقتحامه، ولكنهم يعلمون الآن بوجوده ويقرون به.
وقد أعلن العلم أنه يعجز عن حل المشاكل، وقال العلماء أن الذهن البشري وحده لا يستطيع فهم حقائق الحياة. وقد تبين بعد طول الجهد المبذول أن العلم لا يكشف المجهول من الأسباب، ولكنه يدرس الظواهر وأنه يقوم في أول أمره على فروض، فإذا ثبتت بالتجربة أصبحت صحيحة وإذا فشلت لم تكن شيئاً.
وأهم ما تجاوزه العلم في المراحل الأخيرة اقترباً من مفهوم الدين هو تحطيم نظرية الجوهر الفرد، فإن فهم الذرة وانفلاقها قد ألغى تلك الفوارق التي تفصل بين المادة والطاقة ومن ثم أصبح معلوماً أن المادة تصبح طاقة والطاقة تصبح مادة.
والعلماء يقررون (حسب ما يقوله العلامة سبانيه في كتابه فلسفة الدين) أن ما عرفه العلماء من العلم هو جزء محدود وهو ليس إلا عدماً بالنسبة لما يجهلونه. وأن نظريات العلم نظريات وقتية مستعدة للتحوير والتغيير متى آن أوان ذلك.
يقول كاميل فلامريون: "لقد عجز العلماء عن حل مسألة استمرار الوجود ودوامه؛ فهم مُقِرون بضرورة وجود الخالق وبتأثيره الدائم المستمر، وذلك ليمكنهم تفسير تعاقب الكائنات وإدراك سر أصول الأشياء". ويقول: "إن الروح موجودة وجود كائن مستقل عن الجسم وهي متمتعة بخصائص لم تزل للآن مجهولة لدى العلم ويمكن للروح أن تؤثر أو تتأثر من بعد".
ويقول إميل بوترو، في كتابه العلم والدين: "عجز العلم عن حل كل المشاكل، والعلم مهما تقدم فهو محدود، لا يوجد غير الدين الذي يسد الفراغ".
وبذلك كله تغيرت المفاهيم المحدودة الأولى التي اختطها الفلاسفة وبنوا عليها نظريات وأيدلوجيات: ومن النظريات الزائفة قولهم أن المادة هي أساس كل شئ، ثم قولهم أن المادة عمياء صماء، وكيف يمكن أن يكون البديع الدقيق على تنوع كائناته وتباين موجوداته مادة، أو صدفة، إن المادة منقادة بواسطة قوانين ونواميس إلى التشكل وفق نسب مقدرة، ومن هنا فقد تبين زيف القول بأن المادة ذات كيان مستقل، والمادة في مفهوم العلم الحق اليوم ليست قديمة ولا باقية، وقد خلقها الله تبارك وتعالى وتبقى إلى أجل مسمى عنده، وليس شئ في هذا العالم من الصدفة أو الضرورة. أو أنه اعتباطي بغير غاية.
وفي ضوء هذا لا نقبل التمويه بأن العلم التجريبي المتصل بالمادة يصلح لدراسة الإنسانيات، ولابد أن يكون هناك منهج آخر لدراسة النفس والأخلاق والإنسان والمجتمع، غير منهج العلوم المادية والتجريبية.(/2)
ولقد شقيت البشرية في العصر الحديث؛ لأنها توسعت في العلوم المادية وقصرت في العلوم الإنسانية، وبذلك خلقت فجوة ضخمة وأزمة عميقة. وأصبح ذلك من أكبر الأخطار التي تواجه العالم المعاصر والإنسان الحديث، ذلك العجز عن التوازن بين مطالب الروح والفكر والنفس، المطالب المعنوية، وبين مطالب الجسد والمادة، وقد نتج عن ذلك ما تواجهه البشرية الآن من أزمة القلق والتمزق والضياع، وقد عبر عنه برجسون حين قال: "إن جسم البشرية قد تضخم تضخماً خارقاً للمادة، بينما ضعف روح البشرية وتضاءل".
ما هي الفلسفة :
ولقد حاولت الفلسفة أن تسد هذا الفراغ بتصورات مختلفة عن الكون والغيب والوجود والإنسان: لماذا جاء وإلى أين يذهب، ولكنها عجزت تماماً. عجزت لأنها حاولت أن تستعمل أسلوب العلم التجريبي فافترضت أن الإنسان مادة وحاكمته على هذا الأساس.
وفشلت لأنها ظنت أن العقل البشري قادر على إدراك حقائق الأشياء خارج نطاق وظيفته الخاصة ونطاقه المحدود.
ولقد كان لطغيان المفهوم المادي أثره البعيد في الفلسفة التي حاولت أن تلغي كل ما وراء الطبيعة ولا تعترف به. غير أن العلم اليوم أصبح يعترف بأن هناك عالماً آخر، وأن أمام العلماء من الدلائل ما يؤكد ذلك، فكيف تنكر الفلسفة هذا العالم؛ إنها اعتمدت على العقل والحواس وهما قاصران، والعلم نفسه يعترف بأن العقل البشري لا يستطيع أن يدرك شيئاً إلا عن طريق الحواس، ولذلك فإن كل ما يقع وراء الحس والعقل لا يمكن للعلم أن يبحث فيه أو أن يعرف عنه شيئاً. ولقد تبين أن هناك مسائل عديدة لا يستطيع العلم أن يجد لها حلاً ولا يصل إلى فهمها، واعتماد الفلسفة والعقل والحس لا يؤدي إلى شئ، إذن فهناك علم آخر مكمل لهذه العلوم: هو ذلك العلم الذي أرسل الله به الرسل وجاء به الوحي، وقرره كل كتاب سماوي. وإذا عجز العلم، وطاشت الفلسفة، فإن في أيدينا نحن المسلمين ما يسد الفراغ، ولقد أعطانا الدين الحق صورة كاملة لهذه الجوانب التي يعجز العقل والعلم عن الكشف عنها؛ حتى لا تكون في متاهة البحث الشاق تغير أدوات، والذي لا يصل إلى شئ، ولقد جاءت رسالات الأنبياء لتمنح الإنسان ذلك الأفق الواسع الرحب من الفهم، ليعرف أبعاد وجوده وكيانه وحياته ومصدره وماله، ويعرف ما بعد الموت، وما بعد الطبيعة جميعاً حتى تكون رؤيته للأشياء وتقديره سليماً وحتى تكون إرادته الخاصة ومسئولياته الفردية قائمة على أساس من الفهم والعدل.
إن وراء العقل الروح ووراء البصر البصيرة. والعقل هاد يستمد ضياءه من الروح وكلاهما العقل والبصر لا يدرك ما فوق مرتبته ولكنه يستطيع أن يعلم، فإن لو رأيت حجراً يرتفع في الهواء لعلمت أن رامياً رمى به، فعلمك أن رامياً رمى به ليس من قبل البصر، بل هو من قبل العقل؛ لأن العقل هو الذي يميز ويعلم أن الحجر لا يذهب علواً من تلقاء نفسه، أرأيت كيف أن البصر وقف عند حده فلم يتجاوزه فكذلك يقف العقل عند حده من معرفة الخالق تبارك وتعالى فلا يعدوه.
وعدم العلم بوجود الشيء لا يعني عدم وجوده، وعدم القدرة على الإحاطة بوجود الشئ لا يعني عدم وجوده، إذا كان الجهاز المستعمل (وهو العقل) في ذلك أقل وأصغر من الموجود نفسه.
وهنا نعرف محدودية العقل ومحدودية مهمة العلم وعجز الفلسفة عن طريق العقل عن الوصول إلى كُنه الأشياء وحقائق الوجود، والله تبارك وتعالى لا تدركه الأبصار؛ ولكنها تعرفه في خلقه ونظام كونه (وفي أنفسكم أفلا تبصرون).
العلم والفلسفة:
إن المعرفة التجريبية هي التي أخذت مفهوم العلم ولكن الفلسفة ليست إلا افتراضات خارج دائرة التجريب تحاول أن تصطنع الأسلوب العلمي في النظر والاستدلال. ولا تخلو من الأهواء والمطامع. وهي حين تحاول أن تنقل التجريب إلى عالم النفس والإنسانيات والأخلاق تتعثر وتخطئ. فإن مفاهيم الاجتماع والنفس والتربية والأخلاق لا تخضع للتجريب؛ لاختلاف النفوس والطبائع والبيئات والعصور، ولكن العلوم المادية تخضع لذلك. وكل ما يقال عنه في هذا المجال أنه علم فهو فلسفة. والفلسفة المعاصرة حسية مادية واقعية لا تعترف مطلقاً بغير ما يقع تحت التجربة من محسوس وملموس. ولذلك فهي تنكر العوالم الغيبية التي أصبح العلم يعترف بها. وهي تنكر الوحي والألوهية والنبوة والبعث والجزاء والأديان والكتب المنزلة. وهي لذلك قاصرة عن فهم أبعاد الحياة والوجود التي يعرفها المؤمن بالله، ومن أجل ذلك فقد اختفت في صياغة حياة ناجحة أو نافعة؛ لأنها عجزت عن العطاء الأخلاقي الذي يشكل الوازع النفسي. وقد جاء هذا النقص نتيجة الغلو في النظرة المحسوسة والتجارب الآلية والرياضية –كما يقول الدكتور محمد البهي- لأن هذا الغلو ركز القيمة كل القيمة فيما يدركه الحس وينشأ عن التجارب المادية، ولذا ألغى اعتبار المثل والقيم الرفيعة في حياة الإنسان كما ألغى رسالة الدين في توجيه الناس نحو الله.(/3)
ولقد حاول العلم الإدعاء وتحاول الفلسفة الإدعاء باسم العلم اليوم، إنها ستقضي على الدين ولكن كل الدلائل تؤكد زيف هذا الإدعاء، إن العلم سوف يعجز عن القضاء على الدين، بل إنه سوف يؤكد وجود الدين، وإذا كان الدين الحق لا يفسر ظواهر الكون كالعلم فإنه يضع الإطار الأخلاقي للحياة ويرسم منهج العلاقة بين الله والإنسان. والإسلام هو الذي أقام للعم منهجه التجريبي ووضع له آدابه وقيمه من حيث حرية البحث وكرامة العلماء وسمو الغاية وبعدها عن التدمير والشر.
وخطأ الفلسفة في نظرتها إلى الدين يرجع إلى أنها تظن أنها تصلح بديلاً له في تفسير أمور الطبيعة والحياة. كما أنها تتجاوز حدود الحق حين ترى أن الدين الحق عائق عن التطور.
ولقد توزعت الفلسفة بين اتجاه مادي واتجاه عقلي واتجاه روحي، في محاولة استخدام العقل في فهم الكون والطبيعة وعجز العقل، ولم يحقق هذا التمزق شيئاً؛ فإن الاتجاه المادي يرى أن العالم لم يزل موجوداً بنفسه وبلا صانع. والاتجاه العقلي يرى أن مشاكل ما وراء الطبيعة والأخلاق والدنيا والآخرة إنما يحلها العقل بأقيسته= وبراهينه، والاتجاه الروحي يعتمد على الحدس أو الإلهام وحده، بينما الاتجاه الإسلام إنما يقوم على مفهوم جامع شامل متكامل فيه العقل والقلب، والمادة والروح، وهو يتمثل الإنسان نفسه الجامع بينهما، فيكون أصدق نظرة وأعمق فهماً.
ولقد أكد الباحثون في الفلسفة أنفسهم: أن أي فلسفة مثالية أو مادية، روحية أو عقلية لم تصل إلى ما وصل إليه الإسلام من تحرير عقل الإنسان وتحطيم أغلاله الموروثة؛ فهو يخاطب العقل والقلب معاً، وقد أكد وحدانية الله وكرامة الإنسان: والقرآن يدعو إلى أسهل العقائد وأقلها غموضاً وأبعدها عن التقليد بالمراسم والطقوس وأكثرها تحرراً من الوثنية الكهنوتية؛ فقد أبطل القرآن سلطان الأحبار والرهبان والوسطاء بين العبد والرب، ولم يفرض على الإنسان قرباناً يسعى به إلى المحراب بشفاعة من ولي ولا ترجمان بين الله وعباده يملك التحليل والتحريم والغفران ويقضي بالحرمان أو النجاة. والخطاب أيما يتجه في القرآن إلى عقل الإنسان حراً طليقاً من سلطان الهياكل والمحاريب وسلطان كهنتها وسدنتها، وكل هذا من شأنه أن ينمي في الفرد الإحساس بالمسئولية ويفتح بضميره منفذاً واسعاً إلى الألوهية يربطه بها ربطاً مباشراً محكماً يرفع كل حجر على وجدانه. ولقد علم القرآن أتباعه أن يواجهوا الحياة بواقعية ورباطة جأش لا مثيل لهما في الأديان الأخرى وحثهم على الإقبال عليها والزهد بها في آن واحد، مع توازن مدهش، لا تفريط فيه ولا إفراط، شعاره الدين والدنيا.
"ليس بين الكتب التي توصف بالقداسة وتنسب إلى السماء كتاب كالقرآن: يدعو أتباعه على الدوام أن يكونوا أعزة أقوياء ولم يصلح في هذه الدعوة كتاب آخر كما أفلح القرآن" -دكتور محمد عبد الرحمن مرحبا.
وهكذا نرى أن النظر الفلسفي الخالص لا يمكن أن يكون أساساً للفكر الإسلامي؛ ذلك أنه لا يمكن الوصول إلى الحقائق الأولية إلا عن طريق الوحي، والفلسفة ليست قرينة الوحي، ولا مناظرة له؛ فهي لا تزيد عن أن تكون استخداماً للعقل.
الوثنية:
والظاهرة الواضحة الآن أن جميع الفلسفات المعاصرة تقوض دعائم الاعتقاد بوجود إله واحد بغض النظر عن البديل المقترح، فمنها مَن تقترح ألوهية المادة ومنها ألوهية الإنسان، ومنها ما يجعل الغريزة محور تفسير الوجود، وهدف الفلسفات الآن تدمير عقيدة التوحيد؛ لأنها العقيدة التي تحول دون سيطرة نفوذ المادية على مصير البشرية.
ويرى كثير من الباحثين أن تسلط النزعة المادية على الحضارة والفكر قد خلق وثنية جديدة أخطر من الوثنية التي جاء الإسلام للقضاء عليها. والوثنية هي عبادة المجسد. وهي اليوم عبادة المال وعبادة القوة وعبادة السلطان، وعبادة العلم وعبادة الحضارة وعبادة العبقرية وعبادة الكلمة وعبادة اللذة والترف والرفاهية. إن معنى الوثنية أن يخلق الإنسان إلهاً يعبده ويتخلى عن عبادة الله الحق، إن التلمودية اليهودية قد سيطرت على الفكر الغربي فنقلته من عبادة الله إلى عبادة العجل الذهبي "المال" وسيطرت لبناء إمبراطورية الربا.
إن العلم الذي هو معبود الغرب اليوم لم يستطع أن يقدم للبشرية حلاً لأزماتها ومشاكلها فيما سوى المتاع المادي، أما النفس الإنسانية فإنها تواجه أزمة خطيرة حانقة هي أزمة الضياع والتمزق والانهيار. العالم ليس مادة فقط وليس علماً وعقلاً فقط ولكنه إلى ذلك روح ووجدان وقلب وعاطفة.
لقد تبين أن الإنسان عاجز عن أن يقدم لنفسه الحلول الملائمة لمشاكل النفس ومشاكل الحياة الاجتماعية؛ وإنما يحتاج دائماً أن تقدم له هذه الحلول من جهة أعلى من عقله وقدرته وأسمى من أهوائه ومطامعه. ولن يكون ذلك إلا عن طريق الدين الحق.(/4)
يقول هارولد لاسكي: "عالم اليوم يعاني الشعور بخيبة الأمل، إن جيلنا فقد قيمه، لقد حل "الشك" السافر محل "اليقين" واليأس محل الأمل، ويبدو أن الاتجاهات الحديثة في الفن والأدب والموسيقا لا تعترف بالتراث الذي أبدع روائع الماضي، وأن الحرب قد سددت ضربتها القاضية للمعتقدات الدينية التي كانت مقياساً دائماً للسلوك، لقد انتصرت روح الإنكار على روح اليقين. إن منهج الغرب في الحياة قد وضع في بوتقة الانصهار. في مقدور هذا العلم أن يتيح الرفاهية المادية ولكنه يبدو عاجزاً عن اكتشاف مبادئ الرضا الروحي. ومنذ قرن مضى كان في مقدور الدين أن يتيح للكثيرين الأمل في تعويض ما نالهم من الحياة وذلك في الحياة الأخرى، أما الآن فقد أطفأ العلم أنوار السماء ولا طريق للخلاص إلا في ظل الحاضر العاجل".
ويقول خليل حاوي: "إن فجيعة القلوب هي في أن العقل محدود المعرفة عاجز عن إدراك حقائق الإيمان والدين. فمن المستحيل إدراك المطلق عن طريق العلم (أي التجربة) أو العقل لتعالي المطلق عن التجربة والواقع. والإنسان ليس كائناً يعقل فحسب؛ بل هوا كائن له قلب وإدراك، ومن حق الإرادة الإيمان بأشياء لا يثبتها العقل ولا ينفيها، فمن حقها أن تؤمن بمعتقدات الوحي والدين وخلود النفس وجود الله تبارك وتعالى؛ لأن العقل لا يستطيع أن ينفيها، وهكذا نرى أهل الفكر البشري في حيرة شديدة رحمنا الله منها بمفهومنا المتكامل الجامع بين الروح والمادة، دون أن يسقط في محظور المادية ودون أن يسقط في أزمة وحدة الوجود.
ونجد الفلسفة الغربية اليوم قد وصلت إلى مرحلة شاقة: ذلك أنها تجعل مهمتها قاصرة على جبرية النظرة؛ فهي تصور الواقع وتعايشه وتعلن الشبهات والشكوك، ثم تقف دون أن تضع الإجابات وبذلك تخلق الحيرة الشديدة في وجدان أتباعها. أما الإسلام فهو يختلف تماماً؛ إنه يدعو إلى تحرير المواقف وتصويبها في ضوء هدف أساسي تعرض عليه المواقف المختلفة ضمن إطار واضح محدد.
أما الغربي فإنه ينطلق من واقع غير مقيد بأي إطار أو ضوابط أخلاقية أو دينية، إنه يتحرك في إطار أوضاع الحياة وتحديات المجتمع، مؤمناً بالنسبية في الأخلاق والتطور المطلق في الحركة، والجبرية التي تسوقه دون إرادة، فهو لا يصل إلى غاية ولا يجد الاستجابة لكوينه النفسي والمعنوي والروحي الذي يصرخ في داخله تحت قسوة ضربات المادة والجنس والتحلل وحرية الإباحية.
وبذلك نجدنا تماماً أمام حقيقة لا ريب فيها يعبر عنها العلامة المودودي حين قال: "إن النظريات التي وضعها الإنسان عن نفسه وعن الحياة الدنيا وعن نظام الكون وعن ذات الإله مدفوعاً بدراسته الشخصية وتقديراته الخيالية وخضوعه لسلطان الأهواء ثم المواقف التي اتخذها على أساس تلك النظريات، فإنها في حقيقتها باطلة ومهلكة للإنسان نفسه من ناحية المصير، وإنما الحق هو الذي علمه الله للإنسان حين جعله خليفة في الأرض، وبموجب هذا الحق ليس من منهج من المناهج إلا المنهج الذي هو: المنهج الصحيح".
نعم: لقد فشل الفكر الغربي الحديث في استيعاب الحقيقية الإنسان وعجز عن تعيين أبعادها وحبس نفسه في إطار ضيق خانق هو إطار المادة، وبذلك عجز عن وضع الحلول المناسبة لأزماته وفشل في تفهم معضلاته الاجتماعية والأخلاقية التي باتت تعصف بمجتمعه اليوم وتهزه من الأساس.
وحين انتقل هذا الإعصار إلى أفق الفكر الإسلامي وجد من بعض العقول الساذجة بريقاً ومن بعض النفوس البسيطة تقبلاً، ثم تكشف زيفه سريعاً في محيط أمة مؤمنة بالله، وإيمانها عميق وراسخ في أعماق أربعة عشر قرناً، فلم يجد قبولاً أن يقال أن الطبيعة تدبر نفسها وأنها لست في حاجة إلى فاعل أو خالق، وما كان لهذا البريق أن يستمر ولا لهذا الصوت أن يعلو؛ لأنه يناقض مناقضة صريحة كل خلة في الإنسان، عقله وقلبه وفطرته ويناقض العلم ويناقض هذا الميراث الضخم من التوحيد الذي قضى على الغنوصية والهلينية قديماً وقضى معها على الوثنية وبيوت النار وكل ما سوى عبادة الواحد القهار، وما كان التاريخ يعود القهقري بهذه الأمة التي حملت رسالة التوحيد والتي هي خير أمة أخرجت للناس. ولذلك سرعان ما انقضت على هذا التيار قوى التصحيح والتحرر من الزيف والعودة إلى المنابع واستلهام الحق، كاشفاً بتلك الأصالة التي تؤمن بالله وبإرادة الإنسان ومسئوليته والتزامه الأخلاقي وخلود روحه وتوقه إلى ربه خالقه ومبدعه. ومهما علت دعوات المادية أو الماركسية، أو الوضعية المنطقية، أو الوجودية فإنها لن تجد سوقاً ولن تجد إلا أولئك الذين عجزوا عن فهم حقيقة دينهم، فالقرآن يقرر أن الدين فطرة في الإنسان فطر الله الناس عليها وأن أساسه الاعتقاد بخالق الكون وأنه واحد لا شريك له وما هدانا إليه القرآن لا يعارض العقل أو الفطرة.
{ فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم }.
أنور الجندي(/5)
(6)
موقف الإسلام من العلم والفلسفة الغربية
هل للفكر الإسلامي خصائص ذاتية متميزة تفرق بين دين الفكر البشري وتحول بينه وبين الانصهار في العالمية والأممية ؟
إن كثيراً مما يكتبه الباحثون في شئون الفكر والفلسفة والعلوم يحاول أن يصل إلى مسلمة تقول بأن الفكر الإسلامي هو أحد أطراف الفكر العالمي الذي تشكل في إطار الفكر اليوناني القديم والذي يسبح الآن في إطار الفكر الغربي العالمي وهذه المسلمة مرفوضة، وإن كان دعاة التغريب يرددونها ويكررونها حتى يثبتوها في الأذهان وهي في الحقيقة ليست صحيحة مطلقاً، بل وليس لها أي وجه من وجوه احتمال الصحة. وهي في غايتها محاولة للتآمر على الفكر الإسلامي وإخراجه من إطاره الخاص وطابعه المميز. ولقد يذهب البعض في التعليل الزائف والتحليل الباطل إلى القول بأن الفكر الإسلامي تأثر أو تشكل في ضوء أو في إطار الفكر اليوناني القديم (أو الفكر البشري كله هندياً وفارسياً وفرعونياً وبابلياً)، وهو الآن في نهضته الحديثة لا ضير أن يستمد من ثمرات الفكر الغربي الذي هو وليد الفكر اليوناني القديم.
وهذا القول مرفوض قطعاً، وقد كشف زيفه -عندما استعلن لأول مرة على لسان الدكتور طه حسين وقلمه- عشرات من الكتاب والباحثين.
والواقع أن "الفكر الإسلامي" هو وليد القرآن الكريم والسنة المطهرة، وأن هذا المنهج الرباني قد جاء للإسلام في صورته النهائية والكاملة والباقية بقاء البشر معلناً كلمة الله التي ألقاها إلى أنبيائه ورسله منذ بدأت رحلة النبوة والوحي بين السماء والأرض إلى أن توقفت بخاتم الرسل والرسالات والكتب.
ومن هنا فإن الإسلام جاء بالحقائق التي أرسل الله بها رسله وأنبياءه إلى الأمم، هذه الحقائق التي حرفت وغيرت وبدلت وتأولها المفسرون على النحو الذي نقلها من إطار الفكر الرباني الخالص المجرد المبرأ من كل شئ إلى الفكر البشري القائم على الهوى والمطمع والغايات الخاصة والمنحرف عن الأصل الحقيقي.
جاء الإسلام لتقرير الحقائق الربانية الأصيلة في مواجهة الفكر المختلط، الذي كان ربانياً في أصله ثم شابته زيوف وإضافات وحذوف، ومن هنا فإن الفكر الإسلامي مستمداً من الإسلام نفسه يجب أن تكون له خصائص ذاتية مميزة تفرق بينه وبين دين الفكر البشري، وحتى تظل البشرية سائرة في ضوء الهدي؛ لأنه لا بد أن يظل قادراً على رد كل زيف أو تحريف، وإن يكن ممتنعاً عن الانصهار في الفكر البشري أو محتوى منه أو داخلاً فيه.
وذلك لأنه هو في جوهره وأصوله القرآنية الأصيلة هو الشاهد والمهيمن على اضطراب الفكر البشري وزيف التغيرات والإضافات التي أصابته على مدى الأزمان والعصور.
ومن هنا فإننا نجد الفكر الإسلامي يعارض الجمود والتعصب والتقليد ويعارض كل ما يصادم قوانين الكون ونواميس الوجود ويرى أن كل شئ يبدأ من نقطة ثابتة وينتهي إليها "الحركة في إطار الثبات" وأن كل شئ يبدأ صغيراً ثم ينمو حتى يكتمل ثم يعود مرة أخرى في دورة جديدة، وهناك ارتباط جذري بين الفكر الإسلامي واللغة العربية؛ ذلك لأن كل لغة لها منهجها القائم على معانيها ومضامينها، ولقد هاجم المسلمون المنهج الأرسطي؛ لأنه مستند إلى خصائص اللغة اليونانية التي تخالف اللغة العربية وكذلك الأمر بالنسبة للمنهج الغربي.
(2) والفكر الإسلامي لا يعمل إلا ضمن النطاق الذي رسمه القرآن وحدده، ويحكم على كل ما يواجه المسلمين في ضوء القرآن نفسه ولا يحكمون منه منهجاً آخر، وهو في نفس الوقت متفتح على الثقافات العالمية يأخذ منها ويترك، وهو لا يأخذ إلا ما ينفعه ويتفق مع طوابعه وما يزيده قوة، وكل ما يأخذه يصهره صهراً تاماً في بوتقته، ولقد حرر الإسلام أتباعه من التأثير الأجنبي بكل أنواعه ودعا إلى اليقظة إزاء محاولة تغيير المعالم الأصلية لعقيدتهم وفكرهم وثقافتهم ومزاجهم النفسي.
ويعتبر المسلمون أن كل ما يقدمه الفكر العالمي هو مادة خام يأخذون منها ويدعون دون أن يكون مفروضاً عليهم.
ويؤمن الفكر الإسلامي بأن كل نظرية أو مذهب قام في مجتمع ما، فإنما أقامها أهلها على مقياس مجتمعهم وفي ظل تحدياته الواقعية والتاريخية معاً، فهي استجابة لظروف البيئة، ولذلك فهي سرعان ما تبدو مع مرور الزمن عاجزة عن تحقيق الهدف فيضاف إليها ويحذف منها، ولذلك فإن نقلها إلى بيئات أخرى عسير لأنها تعجز عن الحياة والنماء.
ولقد كان الفكر الإسلامي دائماً متفتحاً لثمرات الفكر البشري ولكنه كان قادراً حتى في أشد مراحل الضعف والتخلف على المحافظة على ذاتيته والحيلولة دون انصهاره في الفكر الأممي.
وقد رفض الفكر الإسلامي الفلسفة اليونانية واستعلاء الاعتزال وجبرية التصوف.(/1)
(3) والفكر الإسلامي لا يقر مفهوم "الانشطار" أو التجزئة؛ ذلك لأن الإسلام يقوم أساساً على التكامل وعلى التقاء العناصر المخلفة في كل موحد، وهو في هذا يختلف عن الفكر الغربي، كذلك لا يقر دعوة التولستوية والغاندية المتجزئة التي لا تقر مفهوم الجهاد. والإسلام يقوم على السلام والتسامح في نفس الوقت الذي يقوم فيه على المقاومة والقوة.
وللفكر الإسلامي أبعاد هامة:
(1) التكامل بمعنى وضع الجزء في مكانه من النظرية الكلية الجامعة في نظرة شاملة واعية بالحياة.
(2) العمق الزمني الذي يربط الإنسان بالتاريخ والواقع وقضايا الحياة.
(3) اتساع مكاني يربطه بالأحداث العالمية.
(4) العمق العقدي الذي يربط الإنسان برسالة السماء منذ بدئها إلى ختامها، ومنها ارتباط الأرض بالسماء، وارتباط الدنيا بالآخرة، وامتدادها إلى ما بعد الموت، بعثاً ونشوراً.
(5) تعليل الظواهر بعللها الطبيعية التي ترجع في نهايتها إلى إرادة الله.
(6) الالتزام الأخلاقي الذي هو عماد العلاقات بين القوى المختلفة، وأساسه التقوى.
ما هو العلم :
(4) إن الخلاف بين الفكر الإسلامي والفكر الغربي ليس مع العلم التجريبي ولكن مع الفلسفة، هذه الفلسفة التي أخذت إطارات العلم وحاولت أن تستعين بها على إذاعة مفاهيم المادة، وعلى الباحث المسلم أن يتنبه بأن هناك فاصلاً واضحاً وعميقاً بين العلم التجريبي وبين الفلسفة، ومن شأن هذا الفارق أن تتقبل العلم التجريبي؛ لأنه من المعرفة الإنسانية العامة، ويتحرر من تقبل الفلسفة؛ لأنها من المعطيات الذاتية الخاصة بالأمم والعقائد. والثقافات تختلف من أمة إلى أمة ومن عصر إلى عصر.
فالعلم لا ينكر وجود الله ولا ينكر الغيب، ولكنه يقصر جهده على عالم المحسوس والملموس من حيث هو تجربة مادية خالصة، ولكنه لا يدعي أنه يقدم نظرة كاملة للحياة. وقد تكشف للعلماء التجريبيين الآن بعد انفلاق الذرة أن هناك باتا قد فتح لعالم غيبي مجهول ضخم يعجز العلم بأدواته العاجزة عن اقتحامه، ولكنهم يعلمون الآن بوجوده ويقرون به.
وقد أعلن العلم أنه يعجز عن حل المشاكل، وقال العلماء أن الذهن البشري وحده لا يستطيع فهم حقائق الحياة. وقد تبين بعد طول الجهد المبذول أن العلم لا يكشف المجهول من الأسباب، ولكنه يدرس الظواهر وأنه يقوم في أول أمره على فروض، فإذا ثبتت بالتجربة أصبحت صحيحة وإذا فشلت لم تكن شيئاً.
وأهم ما تجاوزه العلم في المراحل الأخيرة اقترباً من مفهوم الدين هو تحطيم نظرية الجوهر الفرد، فإن فهم الذرة وانفلاقها قد ألغى تلك الفوارق التي تفصل بين المادة والطاقة ومن ثم أصبح معلوماً أن المادة تصبح طاقة والطاقة تصبح مادة.
والعلماء يقررون (حسب ما يقوله العلامة سبانيه في كتابه فلسفة الدين) أن ما عرفه العلماء من العلم هو جزء محدود وهو ليس إلا عدماً بالنسبة لما يجهلونه. وأن نظريات العلم نظريات وقتية مستعدة للتحوير والتغيير متى آن أوان ذلك.
يقول كاميل فلامريون: "لقد عجز العلماء عن حل مسألة استمرار الوجود ودوامه؛ فهم مُقِرون بضرورة وجود الخالق وبتأثيره الدائم المستمر، وذلك ليمكنهم تفسير تعاقب الكائنات وإدراك سر أصول الأشياء". ويقول: "إن الروح موجودة وجود كائن مستقل عن الجسم وهي متمتعة بخصائص لم تزل للآن مجهولة لدى العلم ويمكن للروح أن تؤثر أو تتأثر من بعد".
ويقول إميل بوترو، في كتابه العلم والدين: "عجز العلم عن حل كل المشاكل، والعلم مهما تقدم فهو محدود، لا يوجد غير الدين الذي يسد الفراغ".
وبذلك كله تغيرت المفاهيم المحدودة الأولى التي اختطها الفلاسفة وبنوا عليها نظريات وأيدلوجيات: ومن النظريات الزائفة قولهم أن المادة هي أساس كل شئ، ثم قولهم أن المادة عمياء صماء، وكيف يمكن أن يكون البديع الدقيق على تنوع كائناته وتباين موجوداته مادة، أو صدفة، إن المادة منقادة بواسطة قوانين ونواميس إلى التشكل وفق نسب مقدرة، ومن هنا فقد تبين زيف القول بأن المادة ذات كيان مستقل، والمادة في مفهوم العلم الحق اليوم ليست قديمة ولا باقية، وقد خلقها الله تبارك وتعالى وتبقى إلى أجل مسمى عنده، وليس شئ في هذا العالم من الصدفة أو الضرورة. أو أنه اعتباطي بغير غاية.
وفي ضوء هذا لا نقبل التمويه بأن العلم التجريبي المتصل بالمادة يصلح لدراسة الإنسانيات، ولابد أن يكون هناك منهج آخر لدراسة النفس والأخلاق والإنسان والمجتمع، غير منهج العلوم المادية والتجريبية.(/2)
ولقد شقيت البشرية في العصر الحديث؛ لأنها توسعت في العلوم المادية وقصرت في العلوم الإنسانية، وبذلك خلقت فجوة ضخمة وأزمة عميقة. وأصبح ذلك من أكبر الأخطار التي تواجه العالم المعاصر والإنسان الحديث، ذلك العجز عن التوازن بين مطالب الروح والفكر والنفس، المطالب المعنوية، وبين مطالب الجسد والمادة، وقد نتج عن ذلك ما تواجهه البشرية الآن من أزمة القلق والتمزق والضياع، وقد عبر عنه برجسون حين قال: "إن جسم البشرية قد تضخم تضخماً خارقاً للمادة، بينما ضعف روح البشرية وتضاءل".
ما هي الفلسفة :
ولقد حاولت الفلسفة أن تسد هذا الفراغ بتصورات مختلفة عن الكون والغيب والوجود والإنسان: لماذا جاء وإلى أين يذهب، ولكنها عجزت تماماً. عجزت لأنها حاولت أن تستعمل أسلوب العلم التجريبي فافترضت أن الإنسان مادة وحاكمته على هذا الأساس.
وفشلت لأنها ظنت أن العقل البشري قادر على إدراك حقائق الأشياء خارج نطاق وظيفته الخاصة ونطاقه المحدود.
ولقد كان لطغيان المفهوم المادي أثره البعيد في الفلسفة التي حاولت أن تلغي كل ما وراء الطبيعة ولا تعترف به. غير أن العلم اليوم أصبح يعترف بأن هناك عالماً آخر، وأن أمام العلماء من الدلائل ما يؤكد ذلك، فكيف تنكر الفلسفة هذا العالم؛ إنها اعتمدت على العقل والحواس وهما قاصران، والعلم نفسه يعترف بأن العقل البشري لا يستطيع أن يدرك شيئاً إلا عن طريق الحواس، ولذلك فإن كل ما يقع وراء الحس والعقل لا يمكن للعلم أن يبحث فيه أو أن يعرف عنه شيئاً. ولقد تبين أن هناك مسائل عديدة لا يستطيع العلم أن يجد لها حلاً ولا يصل إلى فهمها، واعتماد الفلسفة والعقل والحس لا يؤدي إلى شئ، إذن فهناك علم آخر مكمل لهذه العلوم: هو ذلك العلم الذي أرسل الله به الرسل وجاء به الوحي، وقرره كل كتاب سماوي. وإذا عجز العلم، وطاشت الفلسفة، فإن في أيدينا نحن المسلمين ما يسد الفراغ، ولقد أعطانا الدين الحق صورة كاملة لهذه الجوانب التي يعجز العقل والعلم عن الكشف عنها؛ حتى لا تكون في متاهة البحث الشاق تغير أدوات، والذي لا يصل إلى شئ، ولقد جاءت رسالات الأنبياء لتمنح الإنسان ذلك الأفق الواسع الرحب من الفهم، ليعرف أبعاد وجوده وكيانه وحياته ومصدره وماله، ويعرف ما بعد الموت، وما بعد الطبيعة جميعاً حتى تكون رؤيته للأشياء وتقديره سليماً وحتى تكون إرادته الخاصة ومسئولياته الفردية قائمة على أساس من الفهم والعدل.
إن وراء العقل الروح ووراء البصر البصيرة. والعقل هاد يستمد ضياءه من الروح وكلاهما العقل والبصر لا يدرك ما فوق مرتبته ولكنه يستطيع أن يعلم، فإن لو رأيت حجراً يرتفع في الهواء لعلمت أن رامياً رمى به، فعلمك أن رامياً رمى به ليس من قبل البصر، بل هو من قبل العقل؛ لأن العقل هو الذي يميز ويعلم أن الحجر لا يذهب علواً من تلقاء نفسه، أرأيت كيف أن البصر وقف عند حده فلم يتجاوزه فكذلك يقف العقل عند حده من معرفة الخالق تبارك وتعالى فلا يعدوه.
وعدم العلم بوجود الشيء لا يعني عدم وجوده، وعدم القدرة على الإحاطة بوجود الشئ لا يعني عدم وجوده، إذا كان الجهاز المستعمل (وهو العقل) في ذلك أقل وأصغر من الموجود نفسه.
وهنا نعرف محدودية العقل ومحدودية مهمة العلم وعجز الفلسفة عن طريق العقل عن الوصول إلى كُنه الأشياء وحقائق الوجود، والله تبارك وتعالى لا تدركه الأبصار؛ ولكنها تعرفه في خلقه ونظام كونه (وفي أنفسكم أفلا تبصرون).
العلم والفلسفة:
إن المعرفة التجريبية هي التي أخذت مفهوم العلم ولكن الفلسفة ليست إلا افتراضات خارج دائرة التجريب تحاول أن تصطنع الأسلوب العلمي في النظر والاستدلال. ولا تخلو من الأهواء والمطامع. وهي حين تحاول أن تنقل التجريب إلى عالم النفس والإنسانيات والأخلاق تتعثر وتخطئ. فإن مفاهيم الاجتماع والنفس والتربية والأخلاق لا تخضع للتجريب؛ لاختلاف النفوس والطبائع والبيئات والعصور، ولكن العلوم المادية تخضع لذلك. وكل ما يقال عنه في هذا المجال أنه علم فهو فلسفة. والفلسفة المعاصرة حسية مادية واقعية لا تعترف مطلقاً بغير ما يقع تحت التجربة من محسوس وملموس. ولذلك فهي تنكر العوالم الغيبية التي أصبح العلم يعترف بها. وهي تنكر الوحي والألوهية والنبوة والبعث والجزاء والأديان والكتب المنزلة. وهي لذلك قاصرة عن فهم أبعاد الحياة والوجود التي يعرفها المؤمن بالله، ومن أجل ذلك فقد اختفت في صياغة حياة ناجحة أو نافعة؛ لأنها عجزت عن العطاء الأخلاقي الذي يشكل الوازع النفسي. وقد جاء هذا النقص نتيجة الغلو في النظرة المحسوسة والتجارب الآلية والرياضية –كما يقول الدكتور محمد البهي- لأن هذا الغلو ركز القيمة كل القيمة فيما يدركه الحس وينشأ عن التجارب المادية، ولذا ألغى اعتبار المثل والقيم الرفيعة في حياة الإنسان كما ألغى رسالة الدين في توجيه الناس نحو الله.(/3)
ولقد حاول العلم الإدعاء وتحاول الفلسفة الإدعاء باسم العلم اليوم، إنها ستقضي على الدين ولكن كل الدلائل تؤكد زيف هذا الإدعاء، إن العلم سوف يعجز عن القضاء على الدين، بل إنه سوف يؤكد وجود الدين، وإذا كان الدين الحق لا يفسر ظواهر الكون كالعلم فإنه يضع الإطار الأخلاقي للحياة ويرسم منهج العلاقة بين الله والإنسان. والإسلام هو الذي أقام للعم منهجه التجريبي ووضع له آدابه وقيمه من حيث حرية البحث وكرامة العلماء وسمو الغاية وبعدها عن التدمير والشر.
وخطأ الفلسفة في نظرتها إلى الدين يرجع إلى أنها تظن أنها تصلح بديلاً له في تفسير أمور الطبيعة والحياة. كما أنها تتجاوز حدود الحق حين ترى أن الدين الحق عائق عن التطور.
ولقد توزعت الفلسفة بين اتجاه مادي واتجاه عقلي واتجاه روحي، في محاولة استخدام العقل في فهم الكون والطبيعة وعجز العقل، ولم يحقق هذا التمزق شيئاً؛ فإن الاتجاه المادي يرى أن العالم لم يزل موجوداً بنفسه وبلا صانع. والاتجاه العقلي يرى أن مشاكل ما وراء الطبيعة والأخلاق والدنيا والآخرة إنما يحلها العقل بأقيسته= وبراهينه، والاتجاه الروحي يعتمد على الحدس أو الإلهام وحده، بينما الاتجاه الإسلام إنما يقوم على مفهوم جامع شامل متكامل فيه العقل والقلب، والمادة والروح، وهو يتمثل الإنسان نفسه الجامع بينهما، فيكون أصدق نظرة وأعمق فهماً.
ولقد أكد الباحثون في الفلسفة أنفسهم: أن أي فلسفة مثالية أو مادية، روحية أو عقلية لم تصل إلى ما وصل إليه الإسلام من تحرير عقل الإنسان وتحطيم أغلاله الموروثة؛ فهو يخاطب العقل والقلب معاً، وقد أكد وحدانية الله وكرامة الإنسان: والقرآن يدعو إلى أسهل العقائد وأقلها غموضاً وأبعدها عن التقليد بالمراسم والطقوس وأكثرها تحرراً من الوثنية الكهنوتية؛ فقد أبطل القرآن سلطان الأحبار والرهبان والوسطاء بين العبد والرب، ولم يفرض على الإنسان قرباناً يسعى به إلى المحراب بشفاعة من ولي ولا ترجمان بين الله وعباده يملك التحليل والتحريم والغفران ويقضي بالحرمان أو النجاة. والخطاب أيما يتجه في القرآن إلى عقل الإنسان حراً طليقاً من سلطان الهياكل والمحاريب وسلطان كهنتها وسدنتها، وكل هذا من شأنه أن ينمي في الفرد الإحساس بالمسئولية ويفتح بضميره منفذاً واسعاً إلى الألوهية يربطه بها ربطاً مباشراً محكماً يرفع كل حجر على وجدانه. ولقد علم القرآن أتباعه أن يواجهوا الحياة بواقعية ورباطة جأش لا مثيل لهما في الأديان الأخرى وحثهم على الإقبال عليها والزهد بها في آن واحد، مع توازن مدهش، لا تفريط فيه ولا إفراط، شعاره الدين والدنيا.
"ليس بين الكتب التي توصف بالقداسة وتنسب إلى السماء كتاب كالقرآن: يدعو أتباعه على الدوام أن يكونوا أعزة أقوياء ولم يصلح في هذه الدعوة كتاب آخر كما أفلح القرآن" -دكتور محمد عبد الرحمن مرحبا.
وهكذا نرى أن النظر الفلسفي الخالص لا يمكن أن يكون أساساً للفكر الإسلامي؛ ذلك أنه لا يمكن الوصول إلى الحقائق الأولية إلا عن طريق الوحي، والفلسفة ليست قرينة الوحي، ولا مناظرة له؛ فهي لا تزيد عن أن تكون استخداماً للعقل.
الوثنية:
والظاهرة الواضحة الآن أن جميع الفلسفات المعاصرة تقوض دعائم الاعتقاد بوجود إله واحد بغض النظر عن البديل المقترح، فمنها مَن تقترح ألوهية المادة ومنها ألوهية الإنسان، ومنها ما يجعل الغريزة محور تفسير الوجود، وهدف الفلسفات الآن تدمير عقيدة التوحيد؛ لأنها العقيدة التي تحول دون سيطرة نفوذ المادية على مصير البشرية.
ويرى كثير من الباحثين أن تسلط النزعة المادية على الحضارة والفكر قد خلق وثنية جديدة أخطر من الوثنية التي جاء الإسلام للقضاء عليها. والوثنية هي عبادة المجسد. وهي اليوم عبادة المال وعبادة القوة وعبادة السلطان، وعبادة العلم وعبادة الحضارة وعبادة العبقرية وعبادة الكلمة وعبادة اللذة والترف والرفاهية. إن معنى الوثنية أن يخلق الإنسان إلهاً يعبده ويتخلى عن عبادة الله الحق، إن التلمودية اليهودية قد سيطرت على الفكر الغربي فنقلته من عبادة الله إلى عبادة العجل الذهبي "المال" وسيطرت لبناء إمبراطورية الربا.
إن العلم الذي هو معبود الغرب اليوم لم يستطع أن يقدم للبشرية حلاً لأزماتها ومشاكلها فيما سوى المتاع المادي، أما النفس الإنسانية فإنها تواجه أزمة خطيرة حانقة هي أزمة الضياع والتمزق والانهيار. العالم ليس مادة فقط وليس علماً وعقلاً فقط ولكنه إلى ذلك روح ووجدان وقلب وعاطفة.
لقد تبين أن الإنسان عاجز عن أن يقدم لنفسه الحلول الملائمة لمشاكل النفس ومشاكل الحياة الاجتماعية؛ وإنما يحتاج دائماً أن تقدم له هذه الحلول من جهة أعلى من عقله وقدرته وأسمى من أهوائه ومطامعه. ولن يكون ذلك إلا عن طريق الدين الحق.(/4)
يقول هارولد لاسكي: "عالم اليوم يعاني الشعور بخيبة الأمل، إن جيلنا فقد قيمه، لقد حل "الشك" السافر محل "اليقين" واليأس محل الأمل، ويبدو أن الاتجاهات الحديثة في الفن والأدب والموسيقا لا تعترف بالتراث الذي أبدع روائع الماضي، وأن الحرب قد سددت ضربتها القاضية للمعتقدات الدينية التي كانت مقياساً دائماً للسلوك، لقد انتصرت روح الإنكار على روح اليقين. إن منهج الغرب في الحياة قد وضع في بوتقة الانصهار. في مقدور هذا العلم أن يتيح الرفاهية المادية ولكنه يبدو عاجزاً عن اكتشاف مبادئ الرضا الروحي. ومنذ قرن مضى كان في مقدور الدين أن يتيح للكثيرين الأمل في تعويض ما نالهم من الحياة وذلك في الحياة الأخرى، أما الآن فقد أطفأ العلم أنوار السماء ولا طريق للخلاص إلا في ظل الحاضر العاجل".
ويقول خليل حاوي: "إن فجيعة القلوب هي في أن العقل محدود المعرفة عاجز عن إدراك حقائق الإيمان والدين. فمن المستحيل إدراك المطلق عن طريق العلم (أي التجربة) أو العقل لتعالي المطلق عن التجربة والواقع. والإنسان ليس كائناً يعقل فحسب؛ بل هوا كائن له قلب وإدراك، ومن حق الإرادة الإيمان بأشياء لا يثبتها العقل ولا ينفيها، فمن حقها أن تؤمن بمعتقدات الوحي والدين وخلود النفس وجود الله تبارك وتعالى؛ لأن العقل لا يستطيع أن ينفيها، وهكذا نرى أهل الفكر البشري في حيرة شديدة رحمنا الله منها بمفهومنا المتكامل الجامع بين الروح والمادة، دون أن يسقط في محظور المادية ودون أن يسقط في أزمة وحدة الوجود.
ونجد الفلسفة الغربية اليوم قد وصلت إلى مرحلة شاقة: ذلك أنها تجعل مهمتها قاصرة على جبرية النظرة؛ فهي تصور الواقع وتعايشه وتعلن الشبهات والشكوك، ثم تقف دون أن تضع الإجابات وبذلك تخلق الحيرة الشديدة في وجدان أتباعها. أما الإسلام فهو يختلف تماماً؛ إنه يدعو إلى تحرير المواقف وتصويبها في ضوء هدف أساسي تعرض عليه المواقف المختلفة ضمن إطار واضح محدد.
أما الغربي فإنه ينطلق من واقع غير مقيد بأي إطار أو ضوابط أخلاقية أو دينية، إنه يتحرك في إطار أوضاع الحياة وتحديات المجتمع، مؤمناً بالنسبية في الأخلاق والتطور المطلق في الحركة، والجبرية التي تسوقه دون إرادة، فهو لا يصل إلى غاية ولا يجد الاستجابة لكوينه النفسي والمعنوي والروحي الذي يصرخ في داخله تحت قسوة ضربات المادة والجنس والتحلل وحرية الإباحية.
وبذلك نجدنا تماماً أمام حقيقة لا ريب فيها يعبر عنها العلامة المودودي حين قال: "إن النظريات التي وضعها الإنسان عن نفسه وعن الحياة الدنيا وعن نظام الكون وعن ذات الإله مدفوعاً بدراسته الشخصية وتقديراته الخيالية وخضوعه لسلطان الأهواء ثم المواقف التي اتخذها على أساس تلك النظريات، فإنها في حقيقتها باطلة ومهلكة للإنسان نفسه من ناحية المصير، وإنما الحق هو الذي علمه الله للإنسان حين جعله خليفة في الأرض، وبموجب هذا الحق ليس من منهج من المناهج إلا المنهج الذي هو: المنهج الصحيح".
نعم: لقد فشل الفكر الغربي الحديث في استيعاب الحقيقية الإنسان وعجز عن تعيين أبعادها وحبس نفسه في إطار ضيق خانق هو إطار المادة، وبذلك عجز عن وضع الحلول المناسبة لأزماته وفشل في تفهم معضلاته الاجتماعية والأخلاقية التي باتت تعصف بمجتمعه اليوم وتهزه من الأساس.
وحين انتقل هذا الإعصار إلى أفق الفكر الإسلامي وجد من بعض العقول الساذجة بريقاً ومن بعض النفوس البسيطة تقبلاً، ثم تكشف زيفه سريعاً في محيط أمة مؤمنة بالله، وإيمانها عميق وراسخ في أعماق أربعة عشر قرناً، فلم يجد قبولاً أن يقال أن الطبيعة تدبر نفسها وأنها لست في حاجة إلى فاعل أو خالق، وما كان لهذا البريق أن يستمر ولا لهذا الصوت أن يعلو؛ لأنه يناقض مناقضة صريحة كل خلة في الإنسان، عقله وقلبه وفطرته ويناقض العلم ويناقض هذا الميراث الضخم من التوحيد الذي قضى على الغنوصية والهلينية قديماً وقضى معها على الوثنية وبيوت النار وكل ما سوى عبادة الواحد القهار، وما كان التاريخ يعود القهقري بهذه الأمة التي حملت رسالة التوحيد والتي هي خير أمة أخرجت للناس. ولذلك سرعان ما انقضت على هذا التيار قوى التصحيح والتحرر من الزيف والعودة إلى المنابع واستلهام الحق، كاشفاً بتلك الأصالة التي تؤمن بالله وبإرادة الإنسان ومسئوليته والتزامه الأخلاقي وخلود روحه وتوقه إلى ربه خالقه ومبدعه. ومهما علت دعوات المادية أو الماركسية، أو الوضعية المنطقية، أو الوجودية فإنها لن تجد سوقاً ولن تجد إلا أولئك الذين عجزوا عن فهم حقيقة دينهم، فالقرآن يقرر أن الدين فطرة في الإنسان فطر الله الناس عليها وأن أساسه الاعتقاد بخالق الكون وأنه واحد لا شريك له وما هدانا إليه القرآن لا يعارض العقل أو الفطرة.
{ فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم }.
أنور الجندي(/5)
موقف السلف من نشر أو سماع شبهات أهل البدع
رئيسي :المنهج :
إن نشر وقراءة وسماع الشبهات والأفكار المنحرفة، سواء كانت على هيئة حوارات، أو محاضرات، أو منتديات، أو تمثيليات.. إلخ. من غير إنكار ولا رد؛ إن كل ذلك مما يجب أن يمنع؛ لكيلا يتشرب القلب بالشبهات، ولكي يحفظ المسلم عمره من أن يضيع فيما لا ينفعه في الآخرة. ولكي لا يتحمل وزر غيره ممن يضلّون بسماعهم، أو قراءتهم لما ينشر من الشبهات، قال تعالى:{ لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ[25]}[سورة النحل].
أما من كانت لديه القدرة على رد الشبهات، وتفنيد الباطل وفضحه للناس؛ فإن الأمر حينئذ يختلف، ويصبح في سماع الباطل مصلحة لمعرفة من وراءه، والرد عليه، وفضحه للناس وحمايتهم من خطره وشبهاته.
وقد حذر الله من حضور المجالس التي يخاض فيها بالباطل، فقال:{ وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ[68]}[سورة الأنعام].
وقد جعل الله المشارك في مجالس الباطل دون إنكار لما فيها من الأقوال الباطلة من ضمن أهل الباطل؛ وذلك في قوله تعالى:{ وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا[140]}[سورة النساء] .
وإن مما يؤسف له اليوم تلك المواقف المتميعة من بعض الدعاة تجاه الأقوال المبتدعة والأفكار المنحرفة؛ حيث مكنوا لأهل البدع والعلمنة أن يقولوا باطلهم في مجلاتهم، ومواقعهم الإسلامية في شبكة الإنترنت، أو في بيوتهم، ومنتدياتهم، وألقوا سمعهم إليهم بحجة الحرية الفكرية والنقاش الحر!! حتى أضحت تلك المنابر طريقاً للاختراق الثقافي العلماني والبدعي، وسلماً لتزيين الباطل وتلميع رموزه ودعاته، وأخشى أن يكون أولئك ممّن قال الله فيهم:{يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ ...[2]}[سورة الحشر]. ففي هذا مخالفة لكتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومنهج السلف الصالح رضي الله عنهم.
أما المخالفة للقرآن الكريم: فكما مر بنا في آية الأنعام، وآية النساء من النهي عن مجالسة الخائضين في الباطل، إلا أن يبين باطلهم وينكر عليهم، في حالة عدم القدرة على منعهم. أما أن تفتح لهم أبواب المجلات والمواقع والبيوت؛ فهذا منكر قد نهى الله عنه أشد النهي، يقول الشيخ السعدي رحمه الله عند قوله تعالى في سورة الأنعام:{ وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ ...[68]}[سورة الأنعام]:'المراد بالخوض في آيات الله: التكلم بما يخالف الحق، من تحسين المقالات الباطلة، والدعوة إليها، ومدح أهلها، والإعراض عن الحق، والقدح فيه وفي أهله. فأمر الله رسوله أصلاً، وأمته تبعاً، إذا رأوا من يخوض في آيات الله بشيء مما ذكر، بالإعراض عنهم، وعدم حضور مجالس الخائضين بالباطل والاستمرار على ذلك، حتى يكون البحث والخوض في كلام غيره. فإذا كان في كلام غيره، زال النهي المذكور. فإن كان مصلحة، كان مأموراً به، وإن كان غير ذلك، كان غير مفيد ولا مأمور به. وفي ذم الخوض بالباطل، حث على البحث، والنظر، والمناظرة بالحق.
ثم قال:{وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ} أي: بأن جلست معهم، على وجه النسيان والغفلة:{فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} يشمل الخائضين بالباطل، وكل متكلم بمحرم، أو فاعل لمحرم، فإنه يحرم الجلوس والحضور عند حضور المنكر الذي لا يقدر على إزالته. هذا النهي والتحريم لمن جلس معهم، ولم يستعمل تقوى الله، بأن كان يشاركهم في القول والعمل المحرم، أو يسكت عنهم، وعن الإنكار، فإن استعمل تقوى الله تعالى، بأن كان يأمرهم بالخير، وينهاهم عن الشر والكلام الذي يصدر منهم، فيترتب على ذلك زواله وتخفيفه فهذا ليس عليه حرج ولا إثم، ولهذا قال: { وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ[69]}[سورة الأنعام]، أي: ولكن ليذكرهم، ويعظهم، لعلهم يتقون الله تعالى'[تفسير السعدي، 2/33].(/1)
ويقول الشيخ رشيد رضا رحمه الله عند هذه الآية:'... وسبب هذا النهي أن الإقبال على الخائضين والقعود معهم أقل ما فيه أنه إقرار لهم على خوضهم، وإغراء بالتمادي فيه، وأكبره أنه رضاء به ومشاركة فيه. والمشاركة في الكفر والاستهزاء كفر ظاهر لا يقترفه باختياره إلا منافق مراءٍ، أو كافر مجاهر. وفي التأويل لنصر المذاهب أو الآراء، مزلقة في البدع واتباع الأهواء، وفتنته أشد من فتنة الأول، فإن أكثر الذين يخوضون في الجدل والمراء من أهل البدع وغيرهم تغشهم أنفسهم بأنهم ينصرون الحق، ويخدمون الشرع، ويؤيدون الأئمة المهتدين، ويخذلون المبتدعين المضلين. ولذلك حذر السلف الصالحون من مجالسة أهل الأهواء أشد مما حذروا من مجالسة الكفار؛ إذ لا يخشى على المؤمن من فتنة الكافر ما يخشى عليه من فتنة المبتدع؛ لأنه يحذر من الأول على ضعف شبهته، ما لا يحذر من الثاني وهو يجيئه من مأمنه'[تفسير المنار، 7/ 506، 507].
أما ما ورد في السُّنة من النهي عن سماع الباطل، والخوض في آيات الله عز وجل: فعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ نَفَرًا كَانُوا جُلُوسًا بِبَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَلَمْ يَقُلْ اللَّهُ كَذَا وَكَذَا وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَلَمْ يَقُلْ اللَّهُ كَذَا وَكَذَا فَسَمِعَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَرَجَ كَأَنَّمَا فُقِئَ فِي وَجْهِهِ حَبُّ الرُّمَّانِ فَقَالَ: [بِهَذَا أُمِرْتُمْ أَوْ بِهَذَا بُعِثْتُمْ أَنْ تَضْرِبُوا كِتَابَ اللَّهِ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ إِنَّمَا ضَلَّتْ الْأُمَمُ قَبْلَكُمْ فِي مِثْلِ هَذَا إِنَّكُمْ لَسْتُمْ مِمَّا هَاهُنَا فِي شَيْءٍ انْظُرُوا الَّذِي أُمِرْتُمْ بِهِ فَاعْمَلُوا بِهِ وَالَّذِي نُهِيتُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]رواه ابن ماجة وأحمد واللالكائي في شرح أصول الاعتقاد.
فهذا نبي الله صلى الله عليه وسلم غضب أشد الغضب وأمرهم بالكف، ولم يفتح لهم باب الحوار والمناظرة بحجة حرية الحوار والفكر!! لأنه صلى الله عليه وسلم رحيم بأمته يخاف عليهم مما يكون سبباً في زيغهم وانحرافهم.
وأما ما جاء عن السلف رضي الله عنهم من التشديد على أهل البدع وعدم السماع منهم، أو إعطائهم المجال لطرح أفكارهم وآرائهم: فالروايات في ذلك كثيرة ومن أشهرها:
موقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه من صبيغ بن عِسْل: فعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ صَبِيغٌ قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَجَعَلَ يَسْأَلُ عَنْ مُتَشَابِهِ الْقُرْآنِ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ عُمَرُ وَقَدْ أَعَدَّ لَهُ عَرَاجِينَ النَّخْلِ فَقَالَ مَنْ أَنْتَ قَالَ أَنَا عَبْدُ اللَّهِ صَبِيغٌ فَأَخَذَ عُمَرُ عُرْجُونًا مِنْ تِلْكَ الْعَرَاجِينِ فَضَرَبَهُ وَقَالَ أَنَا عَبْدُ اللَّهِ عُمَرُ فَجَعَلَ لَهُ ضَرْبًا حَتَّى دَمِيَ رَأْسُهُ فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ حَسْبُكَ قَدْ ذَهَبَ الَّذِي كُنْتُ أَجِدُ فِي رَأْسِي. رواه الدارمي واللالكائي في شرح أصول الاعتقاد.
فهذا هو فعل عمر رضي الله عنه مع الخائضين في الباطل المتبعين للشبهات؛ حيث لم يمكِّنهم من قول الباطل بحجة النقاش الحر وحرية التفكير!!
وكان الحسن رحمه الله يقول:' لا تجالسوا أهل الأهواء، ولا تجادلوهم، ولا تسمعوا منهم'.
وكان ابن طاووس جالسًا، فجاء رجل من المعتزلة فجعل يتكلم، فأدخل ابن طاووس أصبعيه في أذنيه، وقال لابنه: أيْ بنيَّ أدخل أصبعيك في أذنيك، واشدد لا تسمع من كلامه شيئاً. قال معمر: يعني أن القلب ضعيف.
وأختم هذه المواقف بكتاب أرسله سماحة الشيخ عبد العزيز ابن باز إلى الشيخ العلاَّمة محب الدين الخطيب رحمهما الله ينبهه فيه سماحته حول ملحوظة وردت في مقال نشر في المجلة التي كان يصدرها محب الدين الخطيب. فإليك نصَّها:
'من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم العلاَّمة الشيخ محب الدين الخطيب رئيس تحرير مجلة الأزهر الغراء وفقه الله آمين..سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد:
فقد اطلعت على الكلمة المنشورة في مجلتكم الغراء عدد ربيع ثانٍ سنة 76 صفحة 354 للشيخ محمد الطنيخي مدير عام الوعظ والإرشاد للجمهورية المصرية؛ حيث يقول في آخرها ما نصه:'قد علمت أن الإيمان عند جمهور المحققين هو التصديق بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم؛ وهذا التصديق هو مناط الأحكام الأخروية عند أكثرهم؛ لأنه هو المقصود من غير حاجة إلِى إقرار أو غيره؛ فمن صدق بقلبه، ولم يقر بلسانه، ولم يعمل بجوارحه كان مؤمناً شرعاً عند الله تعالى ومقره الجنة إن شاء الله' انتهى.
فاستغربت صدور هذا الكلام، ونشره في مجلتكم الغراء الحافلة بالمقالات العلمية، والأدبية النافعة من جهتين:
إحداهما: صدوره من شخصية كبيرة تمثل الوعظ والإرشاد في بلاد واسعة الأرجاء كثيرة السكان.(/2)
والجهة الثانية: نشره في مجلتكم، وسكوتكم عن التعليق عليه، وهو كلام كما لا يخفى فيه تفريط وإفراط؛ تفريط في جانب الدين، ودعوة إلى الانسلاخ من شرائعه، وعدم التقيد بأحكامه، وإفراط في الإرجاء يظن صاحبه أنه على هدى، ويزعم أنه بمجرد التصديق قد بلغ الذروة في الإيمان، حتى قال بعضهم: إن إيمانه كإيمان أبي بكر وعمر بناءً على هذا الأصل الفاسد، وهو أن الإيمان مجرد التصديق وأنه لا يتفاضل! ولا شك أن هذا خلاف ما دل عليه القرآن والسُّنَّة، وأجمع عليه سلف الأمة.
وقد كتبت في رد هذا الباطل كلمة مختصرة تصلكم بطيه، فأرجو نشرها في مجلتكم، وأرجو أن تلاحظوا ما ينشر في المجلة من المقالات التي يخشى من نشرها هدم الإسلام؛ فتريح الناس من شرها والرد عليها لأمرين:
أحدهما: أن نشر الباطل من غير تعليق عليه نوع من ترويجه والدعوة إليه.
والثاني: أنه قد يسمع الباطل من لا يسمع الرد عليه فيَغتَرُّ به، ويتَّبع قائله، وربما سمعها جميعاً فعشق الباطل وتمكن من قلبه، ولم يقوَ الردُّ على إزالة ذلك من قلبه؛ فيبقى الناشر للباطل شريكاً لقائله في إثم من ضل به....'[جوانب من سيرة الإمام عبد العزيز بن باز ص 467]. وأقوال السلف ومواقفهم في هذا الشأن كثيرة ومعروفة.
فهل بعد كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومواقف سلفنا الصالح من كلام أو اجتهاد لمجتهد يرى فتح الباب لأهل الأهواء ليقولوا باطلهم بحرية، ثم يرد عليهم بعد ذلك من شاء؟!
ويا ليت أن الأمر اقتصر عندهم على سماع الباطل من مواقع أهل الفساد؛ إذن لكان الخطب أهون؛ ولكن المصيبة أن يفتح بعض الإسلاميين صحفهم ومجلاتهم، ومواقعهم، وبيوتهم ومنتدياتهم، ويدعون أهل الأهواء إليها ضيوفاً مكرمين. يتصدرون المجالس، والصفحات، ليقولوا فيها باطلهم، ويُعْطون من الوقت والكتابة ما لا يعطى لأهل الحق وأتباع السلف!!
إن فتح باب الحوار والمجادلة بالتي هي أحسن لا تعني أن تفتح الأبواب مشرعة لكل فكر دخيل، ورأي سقيم يتطاول على عقيدة الأمة وثوابتها، ولا تعني التمكين له، والاحتفاء به، ونشره بين الخاصة والعامة، بل إن الواجب الشرعي يقتضي نصرة الحق، وردّ الباطل، وكشف زيوفه.
وعندما ننهى عن التمكين للعلمانيين والمبتدعة في منابرنا الإعلامية، فلا يعني هذا قمع المخالف والتسلط عليه-كما يزعم بعضهم- ، ولا أن أهل الحق أضعف من أن يقيموا الحجة، وأجبن من أن يناظروا غيرهم-كما يزعم آخرون-؛ ولكن لا بد أن تحفظ الأمة بسياج من العلم والتقى يحميانها من شبهات أهل الأهواء، وأحابيل أهل الزيغ والضلال.
ومناظرة العلمانيين ورءوس المبتدعة لها وسائلها العلمية التي تحقق المقصود بعيداً عن فتنة العامة، وأنصاف المتعلمين الذين لا يقدرون هذه الأمور التقدير الصحيح، وصدق ابن مسعود رضي الله عنه بقوله:'مَا أَنْتَ بِمُحَدِّثٍ قَوْمًا حَدِيثًا لَا تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ إِلَّا كَانَ لِبَعْضِهِمْ فِتْنَةً ' رواه مسلم.
وإنني أؤكد هنا أن الرأي الآخر الذي ينبغي أن تفتح له الأبواب، ويقدر أهله، هو الرأي الاجتهادي الذي يسوغ فيه الاختلاف عند علماء الأمة، وهو الرأي الذي يبنى على الدليل والبرهان، وينطلق من ثوابت الأمة، وقواعد الاستدلال العلمي، والحوار في هذه الدائرة هو الذي نص الأئمة على قبوله، وسعة الصدر عند وجوده، فما زال الأئمة يجتهدون ويخالف بعضهم بعضاً في مسائل عديدة، ويتحاورون محاورة علمية تثري العلوم وتحيي الملكات.
أما الرأي الآخر: الذي يتجاوز ثوابت الأمة، ويتمرد على أصولها وعقيدتها فحقه الهجر، ويجب الرد عليه وكشف انحرافاته. إن هذا الأمر خطير يجب الإقلاع عنه حتى لا يحمل فاعله وزر نفسه، ووزر من يضلهم بأقوال المبطلين بحجة:'الرأي والرأي الآخر!' و'حرية الفكر' كما زعموا. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
من:' موقف السلف من نشر، أو سماع شبهات أهل البدع'
للشيخ/ عبد العزيز بن ناصر الجليل(/3)
موقف السلف من نشر أو سماع شبهات أهل البدع.....عبد العزيز الجليل ...
...
28-02-2004
إن نشر وقراءة وسماع الشبهات والأفكار المنحرفة سواء كانت على هيئة حوارات، أو محاضرات، أو منتديات، أو تمثيليات.. إلخ. من غير إنكار ولا رد: إن كل ذلك مما يجب على المسلم أن يمنع قلمه وسمعه وبصره منه لكيلا يتشرب القلب ببعض هذه الشبهات، ولكي يحفظ المسلم وقته وعمره من أن يضيع فيما لا ينفعه في الآخرة. ولكي لا يتحمل وزر غيره ممن يضلّون بسماعهم أو قراءتهم لما ينشر من الشبهات
قال الله ـ تعالى ـ: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [النحل: 25].
أما من كانت لديه القدرة على رد الشبهات وتفنيد الباطل وفضحه للناس؛ فإن الأمر حينئذ يختلف ويصبح في سماع الباطل مصلحة لمعرفة من وراءه والرد عليه وفضحه للناس وحمايتهم من خطره وشبهاته.
وقد حذر الله ـ عز وجل ـ المؤمنين من حضور المجالس التي يخاض فيها بالباطل، فقال: {وَإذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 68].
وقد جعل الله ـ عز وجل ـ المشارك في مجالس الباطل دون إنكار لما فيها من الأقوال الباطلة من ضمن أهل الباطل؛ وذلك في قوله ـ تعالى ـ: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إنَّكُمْ إذًا مِّثْلُهُمْ إنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} [النساء: 140] .
وإن مما يؤسف له اليوم تلك المواقف المتميعة من بعض الدعاة تجاه الأقوال المبتدعة والأفكار المنحرفة؛ حيث مكنوا لأهل البدع والعلمنة أن يقولوا باطلهم في مجلاتهم، ومواقعهم الإسلامية في شبكة (الإنترنت) أو في بيوتهم، ومنتدياتهم، وألقوا سمعهم إليهم بحجة الحرية الفكرية والنقاش الحر!! حتى أضحت تلك المنابر طريقاً للاختراق الثقافي العلماني والبدعي، وسلماً لتزيين الباطل وتلميع رموزه ودعاته، وأخشى أن يكون أولئك ممّن قال الله فيهم: {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ} [الحشر: 2]. ففي هذا مخالفة لكتاب الله عز وجل، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومنهج السلف الصالح رضي الله عنهم.
أما المخالفة للقرآن الكريم فكما مر بنا في آية الأنعام وآية النساء من النهي عن مجالسة الخائضين في الباطل، إلا أن يبين باطلهم وينكر عليهم، في حالة عدم القدرة على منعهم. أما أن تفتح لهم أبواب المجلات والمواقع والبيوت فهذا منكر قد نهى الله ـ عز وجل ـ عنه أشد النهي.
يقول الشيخ السعدي ـ رحمه الله تعالى ـ عند قوله ـ تعالى ـ في سورة الأنعام: {وَإذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} [الأنعام: 68]: «المراد بالخوض في آيات الله: التكلم بما يخالف الحق، من تحسين المقالات الباطلة، والدعوة إليها، ومدح أهلها، والإعراض عن الحق، والقدح فيه وفي أهله. فأمر الله رسوله أصلاً، وأمته تبعاً، إذا رأوا من يخوض في آيات الله بشيء مما ذكر، بالإعراض عنهم، وعدم حضور مجالس الخائضين بالباطل والاستمرار على ذلك، حتى يكون البحث والخوض في كلام غيره. فإذا كان في كلام غيره، زال النهي المذكور. فإن كان مصلحة، كان مأموراً به، وإن كان غير ذلك، كان غير مفيد ولا مأمور به. وفي ذم الخوض بالباطل، حث على البحث، والنظر، والمناظرة بالحق.
ثم قال: {وَإمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ} أي: بأن جلست معهم، على وجه النسيان والغفلة: {فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} يشمل الخائضين بالباطل، وكل متكلم بمحرم، أو فاعل لمحرم، فإنه يحرم الجلوس والحضور عند حضور المنكر الذي لا يقدر على إزالته.
هذا النهي والتحريم لمن جلس معهم، ولم يستعمل تقوى الله، بأن كان يشاركهم في القول والعمل المحرم، أو يسكت عنهم، وعن الإنكار.
فإن استعمل تقوى الله تعالى، بأن كان يأمرهم بالخير، وينهاهم عن الشر والكلام الذي يصدر منهم، فيترتب على ذلك زواله وتخفيفه ـ فهذا ليس عليه حرج ولا إثم، ولهذا قال: {وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَلَكِن ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأنعام: 69]، أي: ولكن ليذكرهم، ويعظهم، لعلهم يتقون الله تعالى«(1).(/1)
ويقول الشيخ رشيد رضا ـ رحمه الله تعالى ـ عند هذه الآية: «والصواب من القول في الآية أنها عامة، وأن المخاطب بها أولاً بالذات سيدنا الرسول صلى الله عليه وسلم وكل من كان معه من المؤمنين؛ فكل ما ورد عن السلف في تفسيرها صحيح. والمعنى العام الجامع المخاطب به كل مؤمن في كل زمن: «وإذا رأيت» أيها المؤمن {الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا} المنزلة، من الكفار المكذبين، أو من أهل الأهواء المفرقين، {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} أي: انصرف عنهم وأرهم عرض ظهرك، بدلاً من القعود معهم، أو الإقبال عليهم بوجهك، {حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} أي غير ذلك الحديث الذي موضوعه الكفر بآيات الله والاستهزاء بها من قِبَل الكفار، أو تأويلها بالباطل من قِبَل أهل الأهواء، لتأييد ما استحدثوا من المذاهب والآراء، وتفنيد أقوال خصومهم بالجدل والمراء؛ فإذا خاضوا في غيره فلا بأس بالقعود معهم. وقيل إن الضمير في «غيره» للقرآن لأنه هو المراد بالآيات فأعيد الضمير عليها بحسب المعنى.
وسبب هذا النهي أن الإقبال على الخائضين والقعود معهم أقل ما فيه أنه إقرار لهم على خوضهم، وإغراء بالتمادي فيه، وأكبره أنه رضاء به ومشاركة فيه. والمشاركة في الكفر والاستهزاء كفر ظاهر لا يقترفه باختياره إلا منافق مراءٍ أو كافر مجاهر. وفي التأويل لنصر المذاهب أو الآراء، مزلقة في البدع واتباع الأهواء، وفتنته أشد من فتنة الأول، فإن أكثر الذين يخوضون في الجدل والمراء من أهل البدع وغيرهم تغشهم أنفسهم بأنهم ينصرون الحق ويخدمون الشرع، ويؤيدون الأئمة المهتدين، ويخذلون المبتدعين المضلين. ولذلك حذر السلف الصالحون من مجالسة أهل الأهواء أشد مما حذروا من مجالسة الكفار؛ إذ لا يخشى على المؤمن من فتنة الكافر ما يخشى عليه من فتنة المبتدع؛ لأنه يحذر من الأول على ضعف شبهته، ما لا يحذر من الثاني وهو يجيئه من مأمنه، ولا يعقل أن يقعد المؤمن باختياره مع الكفار في حال استهزائهم بآيات الله وتكذيبهم به وطعنهم فيها كما لا يقعد مختاراً مع المجادلين فيها المتأولين لها، وإنما يتصور قعود المؤمن مع الكافر المستهزئ في حال الإكراه وما يقرب منها كشدة الضعف، ولا سيما إذا كان في دار الحرب. ولم تكن مكة دار إسلام عند نزول هذه الآيات. ويدخل في أهل الأهواء المقلدون الجامدون الذين يحاولون تطبيق آيات الله وسنن رسوله على آراء مقلديهم بالتكلف، أو يردونها ويحرّمون العلم بها بدعوى احتمال النسخ أو وجود معارض آخر...»(2).
أما ما ورد في السُّنة من النهي عن سماع الباطل، والخوض في آيات الله ـ عز وجل ـ فكما روى اللالكائي بسنده عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن نفراً كانوا جلوساً بباب النبي صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم: ألم يقل الله كذا، وكذا؟ قال: فسمعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج فكأنما فُقِئَ في وجهه حب الرمان فقال: «بهذا أمرتم، أو بهذا بعثتم أن تضربوا القرآن بعضه ببعض؟ إنما هلكت الأمم قبلكم في مثل هذا. فانظروا الذي أُمرتم به فاعملوا به، وانظروا الذي نهيتم عنه فانتهوا عنه»(3).
فهذا نبي الله صلى الله عليه وسلم غضب أشد الغضب وأمرهم بالكف، ولم يفتح لهم باب الحوار والمناظرة بحجة حرية الحوار والفكر!! لأنه صلى الله عليه وسلم رحيم بأمته يخاف عليهم مما يكون سبباً في زيغهم وانحرافهم.
وأما ما جاء عن السلف ـ رضي الله عنهم ـ من التشديد على أهل البدع وعدم السماع منهم، أو إعطائهم المجال لطرح أفكارهم وآرائهم؛ فالروايات في ذلك كثيرة ومن أشهرها: موقف عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ من صبيغ بن عِسْل: فقد روى اللالكائي بسنده قال: أخبرنا أحمد بن علي بن العلاء قال: حدثنا أبو الأشعث، قال: حدثنا حماد بن زيد عن يزيد بن حازم عن سليمان بن يسار، أن رجلاً من بني تميم يقال له صبيغ بن عِسْل قدم المدينة وكانت عنده كتب، فجعل يسأل عن متشابه القرآن، فبلغ ذلك عمر ـ رضي الله عنه ـ فبعث إليه وقد أعد له عراجين النخل، فلما دخل عليه وجلس قال: من أنت؟ قال: أنا عبد الله صبيغ. قال عمر: وأنا عبد الله عمر، وأومأ عليه، فجعل يضربه بتلك العراجين؛ فما زال يضربه حتى شجه، وجعل الدم يسيل عن وجهه، قال: حسبُك يا أمير المؤمنين! فقد والله ذهب الذي أجد في رأسي»(4).
فهذا هو فعل عمر ـ رضي الله عنه ـ مع الخائضين في الباطل المتبعين للشبهات؛ حيث لم يمكِّنهم من قول الباطل بحجة النقاش الحر وحرية التفكير!!
وكان الحسن ـ رحمه الله تعالى ـ يقول: لا تجالسوا أهل الأهواء ولا تجادلوهم، ولا تسمعوا منهم(5).
وكان ابن طاووس جالساً فجاء رجل من المعتزلة قال: فجعل يتكلم قال: فأدخل ابن طاووس أصبعيه في أذنيه. قال: وقال لابنه: أيْ بنيَّ أدخل اصبعيك في أذنيك، واشدد لا تسمع من كلامه شيئاً. قال معمر: يعني أن القلب ضعيف.(/2)
وأختم هذه المواقف بكتاب أرسله سماحة الشيخ عبد العزيز ابن باز إلى الشيخ العلاَّمة محب الدين الخطيب ـ رحمهما الله ـ ينبهه فيه سماحته حول ملحوظة وردت في مقال نشر في المجلة التي كان يصدرها محب الدين الخطيب.
فإليك نصَّها: من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم العلاَّمة الشيخ محب الدين الخطيب رئيس تحرير مجلة الأزهر الغراء(6) وفقه الله آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته:
أما بعد: فقد اطلعت على الكلمة المنشورة في مجلتكم الغراء عدد ربيع ثانٍ سنة 76 صفحة 354 للشيخ محمد الطنيخي مدير عام الوعظ والإرشاد للجمهورية المصرية؛ حيث يقول في آخرها ما نصه: «قد علمت أن الإيمان عند جمهور المحققين هو التصديق بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم؛ وهذا التصديق هو مناط الأحكام الأخروية عند أكثرهم؛ لأنه هو المقصود من غير حاجة إلِى إقرار أو غيره؛ فمن صدق بقلبه، ولم يقر بلسانه، ولم يعمل بجوارحه كان مؤمناً شرعاً عند الله ـ تعالى ـ ومقره الجنة إن شاء الله» انتهى.
فاستغربت صدور هذا الكلام، ونشره في مجلتكم الغراء الحافلة بالمقالات العلمية والأدبية النافعة من جهتين:
إحداهما: صدوره من شخصية كبيرة تمثل الوعظ والإرشاد في بلاد واسعة الأرجاء كثيرة السكان.
والجهة الثانية: نشره في مجلتكم وسكوتكم عن التعليق عليه، وهو كلام ـ كما لا يخفى ـ فيه تفريط وإفراط؛ تفريط في جانب الدين، ودعوة إلى الانسلاخ من شرائعه، وعدم التقيد بأحكامه، وإفراط في الإرجاء يظن صاحبه أنه على هدى، ويزعم أنه بمجرد التصديق قد بلغ الذروة في الإيمان، حتى قال بعضهم: إن إيمانه كإيمان أبي بكر وعمر بناءً على هذا الأصل الفاسد، وهو أن الإيمان مجرد التصديق وأنه لا يتفاضل!
ولا شك أن هذا خلاف ما دل عليه القرآن والسُّنَّة، وأجمع عليه سلف الأمة.
وقد كتبت في رد هذا الباطل كلمة مختصرة تصلكم بطيه، فأرجو نشرها في مجلتكم، وأرجو أن تلاحظوا ما ينشر في المجلة من المقالات التي يخشى من نشرها هدم الإسلام؛ فتريح الناس من شرها والرد عليها لأمرين:
أحدهما: أن نشر الباطل من غير تعليق عليه نوع من ترويجه والدعوة إليه.
والثاني: أنه قد يسمع الباطل من لا يسمع الرد عليه فيَغتَرُّ به، ويتَّبع قائله، وربما سمعها جميعاً فعشق الباطل وتمكن من قلبه، ولم يقوَ الردُّ على إزالة ذلك من قلبه؛ فيبقى الناشر للباطل شريكاً لقائله في إثم من ضل به.
عصمني الله وإياكم وسائر إخواننا من أسباب الضلال والإضلال، وجعلنا وإياكم من الهداة المهتدين، وليكن على بال فضيلتكم ما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً»(7).
والله أعلم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته»(8).
وأقوال السلف ومواقفهم في هذا الشأن كثيرة ومعروفة.
فهل بعد كتاب الله ـ عز وجل ـ وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومواقف سلفنا الصالح من كلام أو اجتهاد لمجتهد يرى فتح الباب لأهل الأهواء ليقولوا باطلهم بحرية ثم يرد عليهم بعد ذلك من شاء؟!
ويا ليت أن الأمر اقتصر عندهم على سماع الباطل من مواقع أهل الفساد؛ إذن لكان الخطب أهون؛ ولكن المصيبة أن يفتح بعض الإسلاميين صحفهم ومجلاتهم، ومواقعهم، وبيوتهم ومنتدياتهم، ويدعون أهل الأهواء إليها ضيوفاً مكرمين. يتصدرون المجالس، والصفحات، ليقولوا فيها باطلهم، ويُعْطون من الوقت والكتابة ما لا يعطى لأهل الحق وأتباع السلف!!
إن فتح باب الحوار والمجادلة بالتي هي أحسن لا تعني أن تفتح الأبواب مشرعة لكل فكر دخيل ورأي سقيم يتطاول على عقيدة الأمة وثوابتها، ولا تعني التمكين له والاحتفاء به ونشره بين الخاصة والعامة، بل إن الواجب الشرعي يقتضي نصرة الحق وردّ الباطل وكشف زيوفه.
وعندما ننهى عن التمكين للعلمانيين والمبتدعة في منابرنا الإعلامية فلا يعني هذا قمع المخالف والتسلط عليه كما يزعم بعضهم، ولا أن أهل الحق أضعف من أن يقيموا الحجة وأجبن من أن يناظروا غيرهم كما يزعم آخرون؛ ولكن لا بد أن تحفظ الأمة بسياج من العلم والتقى يحميانها من شبهات أهل الأهواء، وأحابيل أهل الزيغ والضلال. ومناظرة العلمانيين ورؤوس المبتدعة لها طرائقها ووسائلها العلمية التي تحقق المقصود بعيداً عن فتنة العامة وأنصاف المتعلمين الذين لا يقدرون هذه الأمور التقدير الصحيح، وصدق علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ بقوله: «ما أنت محدث قوماً بحديث لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة».(/3)
وإنني أؤكد هنا أن الرأي الآخر الذي ينبغي أن تفتح له الأبواب، ويقدر أهله، هو الرأي الاجتهادي الذي يسوغ فيه الاختلاف عند علماء الأمة وهو الرأي الذي يبنى على الدليل والبرهان، وينطلق من ثوابت الأمة وقواعد الاستدلال العلمي، والحوار في هذه الدائرة هو الذي نص الأئمة على قبوله وسعة الصدر عند وجوده، فما زال الأئمة يجتهدون ويخالف بعضهم بعضاً في مسائل عديدة ويتحاورون محاورة علمية تثري العلوم وتحيي الملكات.
أما الرأي الآخر الذي يتجاوز ثوابت الأمة، ويتمرد على أصولها وعقيدتها فحقه الهجر، ويجب الرد عليه وكشف انحرافاته.
إن هذا الأمر خطير يجب الإقلاع عنه حتى لا يحمل فاعله وزر نفسه ووزر من يضلهم بأقوال المبطلين بحجة (الرأي والرأي الآخر!) وحرية الفكر كما زعموا.
أسأل الله ـ عز وجل ـ أن يهدينا لما اختلف فيه من الحق بإذنه، إنه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
___________________________________
(1) تفسير السعدي، 2/33.
(2) تفسير المنار، 7/ 506، 507.
(3) شرح أصول اعتقاد أهل السنة، 1/ 129، وقال المحقق: سنده حسن.
(4) شرح أصول اعتقاد أهل السنة، 4 / 703، وقال المحقق: هذه القصة رواها المؤلف من طريقين:
الأولى: رواية السائب عزاها ابن حجر إلى (ابن الأنباري)، وصحح إسنادها. الإصابة، 5/ 169.
الثانية: رواية ابن يسار، ورواها الدارمي في السنن (146).
(5) المصدر السابق نفسه.
(6) لعلها مجلة: الزهراء التي كان يصدرها الشيخ محب الدين الخطيب.
(7) مسلم (2674).
(8) جوانب من سيرة الإمام عبد العزيز بن باز ـ رحمه الله تعالى ـ، ص 467.(/4)
موقف السلف من نشر، أو سماع شبهات أهل البدع
إن نشر وقراءة وسماع الشبهات والأفكار المنحرفة، سواء كانت على هيئة حوارات، أو محاضرات، أو منتديات، أو تمثيليات.. إلخ. من غير إنكار ولا رد؛ إن كل ذلك مما يجب أن يمنع؛ لكيلا يتشرب القلب بالشبهات، ولكي يحفظ المسلم عمره من أن يضيع فيما لا ينفعه في الآخرة. ولكي لا يتحمل وزر غيره ممن يضلّون بسماعهم، أو قراءتهم لما ينشر من الشبهات، قال تعالى:{ لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ[25]}[سورة النحل].
أما من كانت لديه القدرة على رد الشبهات، وتفنيد الباطل وفضحه للناس؛ فإن الأمر حينئذ يختلف، ويصبح في سماع الباطل مصلحة لمعرفة من وراءه، والرد عليه، وفضحه للناس وحمايتهم من خطره وشبهاته.
وقد حذر الله من حضور المجالس التي يخاض فيها بالباطل، فقال:{ وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ[68]}[سورة الأنعام].
وقد جعل الله المشارك في مجالس الباطل دون إنكار لما فيها من الأقوال الباطلة من ضمن أهل الباطل؛ وذلك في قوله تعالى:{ وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا[140]}[سورة النساء] .
وإن مما يؤسف له اليوم تلك المواقف المتميعة من بعض الدعاة تجاه الأقوال المبتدعة والأفكار المنحرفة؛ حيث مكنوا لأهل البدع والعلمنة أن يقولوا باطلهم في مجلاتهم، ومواقعهم الإسلامية في شبكة الإنترنت، أو في بيوتهم، ومنتدياتهم، وألقوا سمعهم إليهم بحجة الحرية الفكرية والنقاش الحر!! حتى أضحت تلك المنابر طريقاً للاختراق الثقافي العلماني والبدعي، وسلماً لتزيين الباطل وتلميع رموزه ودعاته، وأخشى أن يكون أولئك ممّن قال الله فيهم:{يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ ...[2]}[سورة الحشر]. ففي هذا مخالفة لكتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومنهج السلف الصالح رضي الله عنهم.
أما المخالفة للقرآن الكريم: فكما مر بنا في آية الأنعام، وآية النساء من النهي عن مجالسة الخائضين في الباطل، إلا أن يبين باطلهم وينكر عليهم، في حالة عدم القدرة على منعهم. أما أن تفتح لهم أبواب المجلات والمواقع والبيوت؛ فهذا منكر قد نهى الله عنه أشد النهي، يقول الشيخ السعدي رحمه الله عند قوله تعالى في سورة الأنعام:{ وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ ...[68]}[سورة الأنعام]:'المراد بالخوض في آيات الله: التكلم بما يخالف الحق، من تحسين المقالات الباطلة، والدعوة إليها، ومدح أهلها، والإعراض عن الحق، والقدح فيه وفي أهله. فأمر الله رسوله أصلاً، وأمته تبعاً، إذا رأوا من يخوض في آيات الله بشيء مما ذكر، بالإعراض عنهم، وعدم حضور مجالس الخائضين بالباطل والاستمرار على ذلك، حتى يكون البحث والخوض في كلام غيره. فإذا كان في كلام غيره، زال النهي المذكور. فإن كان مصلحة، كان مأموراً به، وإن كان غير ذلك، كان غير مفيد ولا مأمور به. وفي ذم الخوض بالباطل، حث على البحث، والنظر، والمناظرة بالحق.
ثم قال:{وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ} أي: بأن جلست معهم، على وجه النسيان والغفلة:{فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} يشمل الخائضين بالباطل، وكل متكلم بمحرم، أو فاعل لمحرم، فإنه يحرم الجلوس والحضور عند حضور المنكر الذي لا يقدر على إزالته. هذا النهي والتحريم لمن جلس معهم، ولم يستعمل تقوى الله، بأن كان يشاركهم في القول والعمل المحرم، أو يسكت عنهم، وعن الإنكار، فإن استعمل تقوى الله تعالى، بأن كان يأمرهم بالخير، وينهاهم عن الشر والكلام الذي يصدر منهم، فيترتب على ذلك زواله وتخفيفه فهذا ليس عليه حرج ولا إثم، ولهذا قال: { وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ[69]}[سورة الأنعام]، أي: ولكن ليذكرهم، ويعظهم، لعلهم يتقون الله تعالى'[تفسير السعدي، 2/33].(/1)
ويقول الشيخ رشيد رضا رحمه الله عند هذه الآية:'... وسبب هذا النهي أن الإقبال على الخائضين والقعود معهم أقل ما فيه أنه إقرار لهم على خوضهم، وإغراء بالتمادي فيه، وأكبره أنه رضاء به ومشاركة فيه. والمشاركة في الكفر والاستهزاء كفر ظاهر لا يقترفه باختياره إلا منافق مراءٍ، أو كافر مجاهر. وفي التأويل لنصر المذاهب أو الآراء، مزلقة في البدع واتباع الأهواء، وفتنته أشد من فتنة الأول، فإن أكثر الذين يخوضون في الجدل والمراء من أهل البدع وغيرهم تغشهم أنفسهم بأنهم ينصرون الحق، ويخدمون الشرع، ويؤيدون الأئمة المهتدين، ويخذلون المبتدعين المضلين. ولذلك حذر السلف الصالحون من مجالسة أهل الأهواء أشد مما حذروا من مجالسة الكفار؛ إذ لا يخشى على المؤمن من فتنة الكافر ما يخشى عليه من فتنة المبتدع؛ لأنه يحذر من الأول على ضعف شبهته، ما لا يحذر من الثاني وهو يجيئه من مأمنه'[تفسير المنار، 7/ 506، 507].
أما ما ورد في السُّنة من النهي عن سماع الباطل، والخوض في آيات الله عز وجل: فعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ نَفَرًا كَانُوا جُلُوسًا بِبَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَلَمْ يَقُلْ اللَّهُ كَذَا وَكَذَا وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَلَمْ يَقُلْ اللَّهُ كَذَا وَكَذَا فَسَمِعَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَرَجَ كَأَنَّمَا فُقِئَ فِي وَجْهِهِ حَبُّ الرُّمَّانِ فَقَالَ: [بِهَذَا أُمِرْتُمْ أَوْ بِهَذَا بُعِثْتُمْ أَنْ تَضْرِبُوا كِتَابَ اللَّهِ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ إِنَّمَا ضَلَّتْ الْأُمَمُ قَبْلَكُمْ فِي مِثْلِ هَذَا إِنَّكُمْ لَسْتُمْ مِمَّا هَاهُنَا فِي شَيْءٍ انْظُرُوا الَّذِي أُمِرْتُمْ بِهِ فَاعْمَلُوا بِهِ وَالَّذِي نُهِيتُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]رواه ابن ماجة وأحمد واللالكائي في شرح أصول الاعتقاد.
فهذا نبي الله صلى الله عليه وسلم غضب أشد الغضب وأمرهم بالكف، ولم يفتح لهم باب الحوار والمناظرة بحجة حرية الحوار والفكر!! لأنه صلى الله عليه وسلم رحيم بأمته يخاف عليهم مما يكون سبباً في زيغهم وانحرافهم.
وأما ما جاء عن السلف رضي الله عنهم من التشديد على أهل البدع وعدم السماع منهم، أو إعطائهم المجال لطرح أفكارهم وآرائهم: فالروايات في ذلك كثيرة ومن أشهرها:
موقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه من صبيغ بن عِسْل: فعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ صَبِيغٌ قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَجَعَلَ يَسْأَلُ عَنْ مُتَشَابِهِ الْقُرْآنِ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ عُمَرُ وَقَدْ أَعَدَّ لَهُ عَرَاجِينَ النَّخْلِ فَقَالَ مَنْ أَنْتَ قَالَ أَنَا عَبْدُ اللَّهِ صَبِيغٌ فَأَخَذَ عُمَرُ عُرْجُونًا مِنْ تِلْكَ الْعَرَاجِينِ فَضَرَبَهُ وَقَالَ أَنَا عَبْدُ اللَّهِ عُمَرُ فَجَعَلَ لَهُ ضَرْبًا حَتَّى دَمِيَ رَأْسُهُ فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ حَسْبُكَ قَدْ ذَهَبَ الَّذِي كُنْتُ أَجِدُ فِي رَأْسِي. رواه الدارمي واللالكائي في شرح أصول الاعتقاد.
فهذا هو فعل عمر رضي الله عنه مع الخائضين في الباطل المتبعين للشبهات؛ حيث لم يمكِّنهم من قول الباطل بحجة النقاش الحر وحرية التفكير!!
وكان الحسن رحمه الله يقول:' لا تجالسوا أهل الأهواء، ولا تجادلوهم، ولا تسمعوا منهم'.
وكان ابن طاووس جالسًا، فجاء رجل من المعتزلة فجعل يتكلم، فأدخل ابن طاووس أصبعيه في أذنيه، وقال لابنه: أيْ بنيَّ أدخل أصبعيك في أذنيك، واشدد لا تسمع من كلامه شيئاً. قال معمر: يعني أن القلب ضعيف.
وأختم هذه المواقف بكتاب أرسله سماحة الشيخ عبد العزيز ابن باز إلى الشيخ العلاَّمة محب الدين الخطيب رحمهما الله ينبهه فيه سماحته حول ملحوظة وردت في مقال نشر في المجلة التي كان يصدرها محب الدين الخطيب. فإليك نصَّها:
'من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم العلاَّمة الشيخ محب الدين الخطيب رئيس تحرير مجلة الأزهر الغراء وفقه الله آمين..سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد:
فقد اطلعت على الكلمة المنشورة في مجلتكم الغراء عدد ربيع ثانٍ سنة 76 صفحة 354 للشيخ محمد الطنيخي مدير عام الوعظ والإرشاد للجمهورية المصرية؛ حيث يقول في آخرها ما نصه:'قد علمت أن الإيمان عند جمهور المحققين هو التصديق بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم؛ وهذا التصديق هو مناط الأحكام الأخروية عند أكثرهم؛ لأنه هو المقصود من غير حاجة إلِى إقرار أو غيره؛ فمن صدق بقلبه، ولم يقر بلسانه، ولم يعمل بجوارحه كان مؤمناً شرعاً عند الله تعالى ومقره الجنة إن شاء الله' انتهى.
فاستغربت صدور هذا الكلام، ونشره في مجلتكم الغراء الحافلة بالمقالات العلمية، والأدبية النافعة من جهتين:
إحداهما: صدوره من شخصية كبيرة تمثل الوعظ والإرشاد في بلاد واسعة الأرجاء كثيرة السكان.(/2)
والجهة الثانية: نشره في مجلتكم، وسكوتكم عن التعليق عليه، وهو كلام كما لا يخفى فيه تفريط وإفراط؛ تفريط في جانب الدين، ودعوة إلى الانسلاخ من شرائعه، وعدم التقيد بأحكامه، وإفراط في الإرجاء يظن صاحبه أنه على هدى، ويزعم أنه بمجرد التصديق قد بلغ الذروة في الإيمان، حتى قال بعضهم: إن إيمانه كإيمان أبي بكر وعمر بناءً على هذا الأصل الفاسد، وهو أن الإيمان مجرد التصديق وأنه لا يتفاضل! ولا شك أن هذا خلاف ما دل عليه القرآن والسُّنَّة، وأجمع عليه سلف الأمة.
وقد كتبت في رد هذا الباطل كلمة مختصرة تصلكم بطيه، فأرجو نشرها في مجلتكم، وأرجو أن تلاحظوا ما ينشر في المجلة من المقالات التي يخشى من نشرها هدم الإسلام؛ فتريح الناس من شرها والرد عليها لأمرين:
أحدهما: أن نشر الباطل من غير تعليق عليه نوع من ترويجه والدعوة إليه.
والثاني: أنه قد يسمع الباطل من لا يسمع الرد عليه فيَغتَرُّ به، ويتَّبع قائله، وربما سمعها جميعاً فعشق الباطل وتمكن من قلبه، ولم يقوَ الردُّ على إزالة ذلك من قلبه؛ فيبقى الناشر للباطل شريكاً لقائله في إثم من ضل به....'[جوانب من سيرة الإمام عبد العزيز بن باز ص 467]. وأقوال السلف ومواقفهم في هذا الشأن كثيرة ومعروفة.
فهل بعد كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومواقف سلفنا الصالح من كلام أو اجتهاد لمجتهد يرى فتح الباب لأهل الأهواء ليقولوا باطلهم بحرية، ثم يرد عليهم بعد ذلك من شاء؟!
ويا ليت أن الأمر اقتصر عندهم على سماع الباطل من مواقع أهل الفساد؛ إذن لكان الخطب أهون؛ ولكن المصيبة أن يفتح بعض الإسلاميين صحفهم ومجلاتهم، ومواقعهم، وبيوتهم ومنتدياتهم، ويدعون أهل الأهواء إليها ضيوفاً مكرمين. يتصدرون المجالس، والصفحات، ليقولوا فيها باطلهم، ويُعْطون من الوقت والكتابة ما لا يعطى لأهل الحق وأتباع السلف!!
إن فتح باب الحوار والمجادلة بالتي هي أحسن لا تعني أن تفتح الأبواب مشرعة لكل فكر دخيل، ورأي سقيم يتطاول على عقيدة الأمة وثوابتها، ولا تعني التمكين له، والاحتفاء به، ونشره بين الخاصة والعامة، بل إن الواجب الشرعي يقتضي نصرة الحق، وردّ الباطل، وكشف زيوفه.
وعندما ننهى عن التمكين للعلمانيين والمبتدعة في منابرنا الإعلامية، فلا يعني هذا قمع المخالف والتسلط عليه-كما يزعم بعضهم- ، ولا أن أهل الحق أضعف من أن يقيموا الحجة، وأجبن من أن يناظروا غيرهم-كما يزعم آخرون-؛ ولكن لا بد أن تحفظ الأمة بسياج من العلم والتقى يحميانها من شبهات أهل الأهواء، وأحابيل أهل الزيغ والضلال.
ومناظرة العلمانيين ورءوس المبتدعة لها وسائلها العلمية التي تحقق المقصود بعيداً عن فتنة العامة، وأنصاف المتعلمين الذين لا يقدرون هذه الأمور التقدير الصحيح، وصدق ابن مسعود رضي الله عنه بقوله:'مَا أَنْتَ بِمُحَدِّثٍ قَوْمًا حَدِيثًا لَا تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ إِلَّا كَانَ لِبَعْضِهِمْ فِتْنَةً ' رواه مسلم.
وإنني أؤكد هنا أن الرأي الآخر الذي ينبغي أن تفتح له الأبواب، ويقدر أهله، هو الرأي الاجتهادي الذي يسوغ فيه الاختلاف عند علماء الأمة، وهو الرأي الذي يبنى على الدليل والبرهان، وينطلق من ثوابت الأمة، وقواعد الاستدلال العلمي، والحوار في هذه الدائرة هو الذي نص الأئمة على قبوله، وسعة الصدر عند وجوده، فما زال الأئمة يجتهدون ويخالف بعضهم بعضاً في مسائل عديدة، ويتحاورون محاورة علمية تثري العلوم وتحيي الملكات.
أما الرأي الآخر: الذي يتجاوز ثوابت الأمة، ويتمرد على أصولها وعقيدتها فحقه الهجر، ويجب الرد عليه وكشف انحرافاته. إن هذا الأمر خطير يجب الإقلاع عنه حتى لا يحمل فاعله وزر نفسه، ووزر من يضلهم بأقوال المبطلين بحجة:'الرأي والرأي الآخر!' و'حرية الفكر' كما زعموا. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
من:' موقف السلف من نشر، أو سماع شبهات أهل البدع'
للشيخ/ عبد العزيز بن ناصر الجليل(/3)
موقف العامة من خلاف المفتين
د. يوسف بن أحمد القاسم 24/12/1426
24/01/2006
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
فقد تميز عصرنا الحاضر بالتقدم التقني في مجالات عديدة، ومنها التقدم في المجال الإعلامي، وتنوع وسائل الاتصال الحديثة، وقد كان لهذه التقنية الحديثة جوانب إيجابية كثيرة وأخرى سلبية.
ومن جوانبها الإيجابية -ولا شك- توظيف هذا الإعلام في خدمة العلم الشرعي، بأسلوب التعليم، أو الإفتاء، أو نحو ذلك مما لا يخفى، مما أدى إلى تذليل الكثير من العقبات، وتيسير العديد من الصعاب، حيث أصبح العلم يصل بكل يسر وسهولة إلى فرد الأسرة وهو في بيته، وإلى السائق وهو في سيارته، وإلى الموظف وهو في عمله، وإلى التاجر وهو في متجره، وهذا بخلاف ما كان عليه الحال في أزمنة سابقة، حيث كان المستفتي يرحل –أحياناً- من أجل مسألة، كما ذكر ذلك الخطيب البغدادي (ت 462هـ) في الفقيه والمتفقه (2/375) حيث قال: "أول ما يلزم المستفتي إذا نزلت به نازلة أن يطلب المفتي ليسأله عن حكم نازلته، فإن لم يكن في محله وجب عليه أن يمضي إلى الموضع الذي يجده فيه، فإن لم يكن ببلده لزمه الرحيل إليه وإن بعدت داره، فقد رحل غير واحد من السلف في مسألة" أهـ.
وبكل حال، فإن البرامج المشار إليها، مع ما فيها من فوائد جمة، ومصالح راجحة، إلا أنها كانت سبباً في بث العديد من الفتاوى المختلفة في المسألة الواحدة، مما أدى إلى وقوع اللبس لدى العامة، حتى كثر سؤالهم عن موقف المستفتي من هذا الخلاف، هل يأخذ برأي الجمهور، أم بالرأي الأشد؛ لأنه الأحوط، أم بالرأي الأخف؛ لأنه الأيسر،...أم ماذا؟
وقبل الإجابة على هذا التساؤل، أمهِّدُ له بالتنبيهات الآتية:
التنبيه الأول: أنه يجب على العامي أن يستفتي من يثق به ممن يغلب على ظنه أنه من أهل العلم والدين، كما أشار إلى ذلك ربنا عز وجل إذ يقول: (فاسألوا أهل الذكر...) أي: أهل العلم. ولهذا قال ابن سيرين –رحمه الله-: "إن هذا العلم دين فلينظر أحدكم عمن يأخذه".
قال الخطيب البغدادي في الفقيه والمتفقه (2/376): "وإذا قصد أهل محله للاستفتاء، فعليه أن يسأل من يثق بدينه، ويسكن إلى أمانته عن أعلمهم وأمثلهم، ليقصده ويؤم نحوه، فليس كل من ادعى العلم أحرزه، ولا كل من انتسب إليه كان من أهله". أهـ.
وبناء عليه، فإنه لا يصح أن يستفتي العالم إذا كان فاسقاً، ولا العابد إن كان جاهلاً ولو كان إماماً لمسجد أو جامع، ولا أن يستفتي طالب العلم في بابٍ لا يحسنه، فلا يُسأل –مثلاً- في باب المعاملات المالية المعاصرة من لا يحسن فهمها، أولا يدرك واقعها، أو لا يحيط بتفاصيلها المؤثرة في الحكم، ولو كان عالماً شهيراً، يقصده العامة لشهرته لا لعلمه، كما حذر من ذلك العلامة ابن القيم في إعلام الموقعين (6/119) حيث قال: "وهذا الضرب إنما يستفتون بالشكل لا بالفضل، وبالمناصب لا بالأهلية، قد غرهم عكوف من لا علم عنده عليهم، ومسارعة أجهل منهم إليهم، وتعج منهم الحقوق إلى الله تعالى عجيجاً، وتضج الأحكام إلى من أنزلها ضجيجاً، فمن أقدم بالجرأة على ما ليس له بأهل، فتيا، أو قضاء، أو تدريس، استحق اسم الذم، ولم يحل قبول فتياه ولا قضائه، هذا حكم دين الإسلام" أهـ.
وهذا الكلام القيم من ابن القيم –رحمه الله- يجرنا إلى التنبيه الثاني وهو: أنه لا يجوز العمل بمجرد فتوى المفتي إذا علم المستفتي أن الأمر في الباطن بخلاف ما أفتاه، كما لا ينفعه لو كان خصماً قضاء القاضي له بذلك، كما قال النبي –صلى الله عليه وسلم- "فمن قطعت له من حق أخيه شيئاً، فلا يأخذه، فإنما أقطع له به قطعة من النار" متفق عليه.(/1)
فالمفتي والقاضي في هذا سواء، ولهذا لا ينبغي للمستفتي أن يعمل بمجرد فتوى المفتي إذا لم تطمئن لها نفسه، ولم يسكن لها قلبه، ولو كان هذا المفتي ممن يتصدر للفتوى، كما يدل لذلك الحديث الذي حسنه النووي في أربعينه (ص47) عن وابصة بن معبد –رضي الله عنه- وفيه أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال له: "... استفت قلبك، البر ما اطمأنت إليه النفس، واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في النفس، وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك" رواه أحمد في مسنده (4/227)، والدارمي في سننه (2/246)، وبنحو هذا صرح العلامة ابن القيم في الإعلام (6/192-193) وإذا كان هذا في زمانه، فكيف في زماننا الذي كثر فيه المفتون الذين يجرون وراء رخص الفقهاء بحجة المصلحة، أو التيسير على الناس..!! ثم قال كلاماً نفيساً، ما نصه: "ولا يظن المستفتي أن مجرد فتوى الفقيه تبيح له ما سأل عنه إذا كان يعلم أن الأمر بخلافه في الباطن، سواء تردد أو حاك في صدره، لعلمه بالحال في الباطن، أو لشكه فيه، أو لجهله به، أو لعلمه جهل المفتي، أو محاباته في فتواه، أو عدم تقيده بالكتاب والسنة، أو لأنه معروف بالفتوى بالحيل والرخص المخالفة للسنة، وغير ذلك من الأسباب المانعة من الثقة بفتواه، وسكون النفس إليها..." أهـ.
وكلامه القيم هذا –رحمه الله- يجرنا إلى التنبيه الثالث.
وهو: أنه لا يجوز للعامي أن يتتبع رخص الفقهاء، لا رخص الشارع، ففرق بين الأخذ برخصة الله تعالى، وبين تتبع رخص خلقه.
فالأول: مندوب إليه بقوله –صلى الله عليه وسلم-: "عليكم برخصة الله التي رخص لكم" وأما الثاني: فهو محرم بإجماع أهل العلم، كما صرح بذلك الحافظ ابن عبد البر فيما حكاه عنه ابن النجار في شرح الكوكب المنير (4/578) حيث نقل عنه أنه قال: "لا يجوز للعامي تتبع الرخص إجماعاً" أهـ. وقال الإمام أحمد –رحمه الله- (لو أن رجلاً عمل بكل رخصة كان فاسقاً" وقال الإمام الغزالي –رحمه الله- في المستصفى (2/391): (لا يجوز للمستفتي أن يأخذ بمذهبٍ بمجرد التشهي، أو أن ينتقي في كل مسألة أطيبها عنده" أهـ.
وحكى الزركشي في البحر المحيط (6/325) عن النووي أنه سئل: (هل يجوز أن يُقلَّد غير المذهب في رخصةٍ لضرورةٍ ونحوها) فأجاب: (يجوز أن يعمل بفتوى من يصلح للإفتاء إذا سأله اتفاقاً من غير تلقط الرخص، ولا تعمد سؤال من يعلم أن مذهبه الترخيص في ذلك" أهـ.
ومن جليل ما نقل في سدّ ذريعة الترخص، ما رواه الإمام البيهقي في سننه الكبرى (10/211) بإسناده عن إسماعيل القاضي (ت282هـ) أنه قال: (دخلت على المعتضد (ت289هـ) فدفع إليَّ كتاباً نظرت فيه، وقد جمع فيه الرخص من زلل العلماء، وما احتج به كل منهم، فقلت: مصنَف هذا زنديق. فقال: لم تصح هذه الأحاديث؟ قلت: الأحاديث على ما رويت، ولكن من أباح المسكر –أي النبيذ- لم يبح المتعة، ومن أباح المتعة لم يبح المسكر، وما من عالم إلا وله زلة، ومن جمع زلل العلماء، ثم أخذ بها، ذهب دينه، فأمر المعتضد بإحراق ذلك الكتاب).
ومما تؤخذ منه العبرة في هذا الباب، ما قاله الإمام ابن الجوزي (ت597هـ) عن نفسه في كتابه الوعظي صيد الخاطر (2/304) ما نصه: "ترخصتُ في شيء يجوز في بعض المذاهب، فوجدت في قلبي قسوة عظيمة، وتخايل لي نوع طردٍ عن الباب، وبعد، وظلمة تكاثفت فقالت نفسي: ما هذا؟ أليس ما خرجت عن إجماع الفقهاء؟ فقلت لها: يا نفس السوء! جوابُك من وجهين:
أحدهما: أنكِ تأولت ما لا تعتقدين، فلو استُفْتيت لم تفتِ بما فعلت. قالت: لو لم أعتقد جواز ذلك ما فعلته. قلت: إلا أن اعتقادكِ هو ما ترضينه لغيركِ في الفتوى.
والثاني: أنه ينبغي لكِ الفرح بما وجدتِ من الظلمة عقيب ذلك؛ لأنه لولا نورُ في قلبك ما أثرَّ مثل هذا عندك. قالت: فلقد استوحشت بهذه الظلمة المتجددة في القلب. قلت: فاعزمي على الترك، وقدِّري ما تركتِ جائزاً بالإجماع، وعُدِّي هجره ورعاً، وقد سلمتِ) أهـ.
فإذا تقرر: أنه لا يجوز تتبع الرخص، ولا تلقط الزلل، فما هو موقف العامي إزاء خلاف المفتين؟
في هذه المسألة خلاف قديم، حكاه غير واحد من أهل العلم، ومنهم ابن الصلاح (ت643هـ) في أدب المفتي والمستفتي (ص164)، حيث عدَّ في المسألة خمسة أوجه عن أصحابه الشافعية، وتابعه ابن حمدان الحنبلي (ت695هـ) في صفة الفتوى والمفتي والمستفتي (ص80)، واعتبرها خمسة مذاهب، ورجح ما رجحه ابن الصلاح –بالتفصيل الذي ذكره وبالعبارة نفسها- دون أدنى إشارة إلى ذلك! وهذه الأقوال هي:
الأول: أنه يأخذ بأغلظها، فيأخذ بالحظر دون الإباحة، لأنه الأحوط، ولأن الحق ثقيل، وهذا محكي عن أهل الظاهر، وأقوى ما استدلوا به حديث النعمان بن بشير الثابت في الصحيحين، وفيه (إن الحلال بيَّن، وإن الحرام بيَّن، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات، فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه...)(/2)
الثاني: أنه يأخذ بأخفها، لأنه الأيسر، والنبي –صلى الله عليه وسلم- بعث بالحنيفية السمحة، وما خيِّر رسول الله –صلى الله عليه وسلم- بين أمرين إلا اختار أيسرهما، ما لم يكن إثماً، كما ثبت بذلك الحديث، وفي التنزيل: "يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر" وهذا القول وجه عند الشافعية.
الثالث: يسأل مفتياً آخر، فيعمل بفتوى من يوافقه، وحاصل هذا أنه يأخذ برأي الأكثر، وهكذا لو كان في المسألة رأيان، أحدهما قول الجمهور، فيأخذ به، لغلبة الظن بصحة هذا الرأي، كتعدد الأدلة والرواة، وهذا القول هو وجه عند الشافعية.
الرابع: يتخير، فيأخذ بقول أيهما شاء، وهذا القول كما في البحر المحيط (6/313) نقله المحاملي عن أكثر أصحابه من الشافعية –وصححه الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في اللمع، والخطيب البغدادي في الفقيه والمتفقه (2/432) واحتج له: بأن العامي ليس من أهل الاجتهاد، وإنما عليه أن يرجع إلى قول عالم ثقة، وقد فعل ذلك، فوجب أن يكفيه، وكذا اختار هذا القول القاضي أبو يعلى، وأبو الخطاب، وذكر أنه ظاهر كلام أحمد، كما في شرح الكوكب المنير (4/580) وكذا اختاره المجد كما في المسودة (ص519).
الخامس: يجتهد في الأوثق، فيأخذ بفتوى الأعلم، الأورع، واختار هذا القول السمعاني الكبير، كما حكاه عنه ابن الصلاح في أدب المفتي (ص165) فإن استويا تخير، وهذا هو اختيار ابن قدامة في الروضة (385) واختاره الغزالي في المستصفى (2/391) وصححه النووي في روضة الطالبين (11/105) وقرره من المعاصرين الشيخ ابن عثيمين في كتابه الأصول من علم الأصول، كما في مجموع فتاواه ورسائله (11/82).
فإن كان أحدهما أعلم، والثاني أورع، ففي أيهمايقدَّم خلاف، والأصح عند ابن الصلاح الأول، كما في أدب المفتي (ص160).
هذا، وقد حكى هذه الأقوال الخمسة، العلامة ابن القيم في الإعلام (6/205) إلا أنه اعتبر الأخذ بقول الأعلم قولاً خامساً، والأخذ بقول الأورع قولاً سادساً، وزاد قولاً سابعاً، وهو: أنه يجب على العامي أن يتحرى، ويبحث عن الراجح بحسبه، ثم رجح هذا القول، وقال: "فيعمل، كما يعمل عند اختلاف الطريقين، أو الطبيبين، أو المشيرين" وهذا هو عين ما رجحه شيخه ابن تيمية فإنه قال في مجموع الفتاوى (33/168): "وأما تقليد المستفتي للمفتي، فالذي عليه الأئمة الأربعة، وسائر أئمة العلم: أنه ليس على أحد، ولا شرع له، التزام قول شخص معين في كل ما يوجبه ويحرمه ويبيحه، إلا رسول الله –صلى الله عليه وسلم- لكن منهم من يقول: على المستفتي أن يقلد الأعلم الأورع ممن يمكن استفتاؤه. ومنهم من يقول: بل يخيَّر بين المفتين إذا كان له نوع تمييز، فقد قيل: يتبع أي القولين أرجح عنده بحسب تمييزه فإن هذا أولى من التخيير المطلق. وقيل: لا يجتهد إلا إذا صار من أهل الاجتهاد. والأول أشبه؛ فإذا ترجح عند المستفتي أحد القولين إما لرجحان دليله بحسب تمييزه، وإما لكون قائله أعلم وأورع، فله ذلك، وإن خالف قوله المذهب" أهـ. هذا، وفي المسألة أقوال أخرى حكاها الزركشي في البحر المحيط (6/313-315) وغيرُه من الأصوليين، ولكن أشهرها ما تقدم ذكره.
وبكل حال، فالأرجح ما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم، وهو أن العامي إذا اختلفت عليه الفتوى، فإنه يجتهد حسب تمييزه، ويتقي الله حسب استطاعته، فإن ترجح له قول أحد المفتين لكونه الأعلم الأورع، أخذ بفتواه. فإن استويا في العلم والورع، أو شق عليه معرفة الأعلم منهما، ولكن ما استدل به أحدهما أقوى في الحجة وظهور الدليل مما استدل به الآخر، أخذ به، أو كانت نفسه تسكن لفتيا أحدهما، ويطمئن لها قلبه، دون فتيا الآخر، أخذ بهذا المرجح، وكذا لو ترجح له قول أحدهما، لكثرة من أفتى به من أهل العلم، أخذ به.. وهكذا. قال العلامة ابن القيم –رحمه الله- في الإعلام (6/137-138) موجهاً هذا القول (وقد نصب الله سبحانه وتعالى على الحق أمارات كثيرة، ولم يسوِّ الله –سبحانه وتعالى- بين ما يحبه وبين ما يسخطه من كل وجه، بحيث لا يتميز هذا من هذا، ولابد أن تكون الفطر السليمة مائلة إلى الحق، مؤثرة له، ولابد أن يقوم لها عليه بعض الأمارات المرجحة..." أهـ.(/3)
وبهذا يظهر لك ضعف قول من قال: إنه يخيَّر بين القولين، وقد أنكر هذا القول ابن القيم في الإعلام (3/570) فقال: "وإن كلفنا بتقليد البعض، وكان جعل ذلك إلى تشهينا واختيارنا، صار دين الله تبعاً لإرادتنا واختيارنا وشهواتنا. وهو عين المحال" أهـ. وكذا أنكره الإمام الشاطبي في الموافقات (5/94-97) بكلام نفيس، أسوقه لأهميته، حيث قال ما نصه: "....وذلك أن المتخير بالقولين –مثلاً- بمجرد موافقة الغرض، إما أن يكون حاكماً به، أو مفتياً، أو مقلداً عاملاً بما أفتاه به المفتي" فذكر حالة الحاكم به، ثم المفتي، ثم العامي –وهو المقصود- فقال: ( وأما إن كان عامياً، فهو قد استند في فتواه إلى شهوته وهواه، واتباع الهوى عين مخالفة الشرع، ولأن العامي إنما حكَّم العالم على نفسه ليخرج عن اتباع هواه، ولهذا بعثت الرسل وأنزلت الكتب... وعامة الأقوال الجارية في مسائل الفقه إنما تدور بين النفي والإثبات، والهوى لا يعدوهما، فإذا عرض العامي نازلته على المفتي، فهو قائل له: (أخرجني عن هواي ودلني على اتباع الحق) فلا يمكن –والحال هذه- أن يقول له: (في مسألتك قولان؛ فاختر لشهوتك أيهما شئت!) فإن معنى هذا تحكيم الهوى دون الشرع. ولا ينجيه من هذا أن يقول (ما فعلت إلا بقول عالم) لأنه حيلة من جملة الحيل التي تنصبها النفس، وقاية عن القال والقيل، وحيلة لنيل الأغراض الدنيوية، وتسليط المفتي العامي على تحكيم الهوى بعد أن طلب منه إخراجه عن هواه رمي في عماية، وجهل بالشريعة، وغش في النصيحة..." أهـ.
ثم تكلم –رحمه الله- عن تتبع الرخص، وأنكر هذا بكلام نفيس، وكأنه يشير بذلك إلى أن القول بالتخيير هو من تتبع الرخص، أو أنه كالبوابة له.
ومثل ذلك: القول بالأخذ بأخف القولين، لأنه الأيسر... استدلالاً بحديث: "ما خيِّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما..." أو بنحو هذا من الأدلة، فليس الاستدلال بهذا الحديث أو نحوه بأولى من الاستدلال بحديث الصحيحين: "ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام..." للأخذ بأغلظ القولين.
وكلا الحديثين لا ينهض الاستدلال بهما لذلك، فلا الأول لجواز الأخذ بالأيسر، ولا الثاني لوجوب الأخذ بالأحوط، فغاية ما في الأول الندب إلى الأخذ بالأيسر فيما ثبتت إباحته، بخلاف مسألتنا، فهي فيما اختلف فيه، وغاية ما في الثاني كراهة الوقوع في الشبهات، وندب المسلم الورع إلى الابتعاد عنها، لا غير.
لهذا، وغيره فقد ردَّ الإمام الشاطبي هذا القول، وهو الأخذ بأخف القولين، وأجاب عنه بما نصه: "وهو –أي الأخذ بالأيسر- أيضاً مؤد إلى إيجاب إسقاط التكليف جملة، فإن التكاليف كلها شاقة ثقيلة، ولذلك سميت تكليفاً من الكلفة، وهي المشقة (قلت: لكنها مشقة معتادة) فإذا كانت المشقة حيث لحقت في التكليف تقتضي الرفع بهذه الدلائل، لزم ذلك في الطهارات، والصلوات، والزكوات، والحج، والجهاد، وغير ذلك، ولا يقف عند حد إلا إذا لم يبق على العبد تكليف، وهذا محال، فما أدى إليه مثله، فإن رفع الشريعة مع فرص وضعها محال......." أهـ والله تعالى أعلم.(/4)
موقف العُقَلاء
من زلات الدعاة
و العُلَماء
تأليف
الدكتور أحمد بن عبد الكريم نجيب الشريف?
بسم الله الرحمن الرحيم
الطبعة الأولى
1423 للهجرة – 2002 للميلاد
جميع حقوق النشر و التأليف محفوظة للمؤلف
تقديم
الحمد لله و كفى و صلاةً و سلاماً على عباده الذين اصطفى ، و بعد :
فإنّ الله تعالى أبى العصمةَ إلا لكتابه الذي ( لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ و لا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ) ، و لنبيّه صلى الله عليه و سلّم في تبليغ الرسالة ، و ذلك مقتضى حفظ دينه ، و إقامة حجّته على خلقه .
و اصطفى تعالى لحمل العلم من كلّ خلفٍ عدولَه و خصّهم بالفهم و الاستنباط السليم ، فسخّروا ما آتاهم الله من فضله في إقامة الحجّة و بيان المحجّة ، و استشعروا عِظَم واجب التبليغ و التوقيع عن ربّ العالمين فقاموا به خيرَ قيامٍ ، تحمُّلاً و أداءً ، و كان حقّاً على من عرَف فضلهم ، و خبرَ سبقهم أن يتقرّب إلى الله بحبّهم و الذبّ عن أعراضهم ، كيفَ و هم أهل الذكر الذين أُمرنا بسؤالهم و طاعتهم ، كما في قوله تعالى : ( وَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) [ النحل : 43 ] .
و ما ابتُليَ عالمٌ بجاهلٍ بقدرهِ ، طاعنٍ في دينه أو علمه ، إلاّ قيّض الله له من ينافح عنه و يذبّ عن عِرضه ، و هذا واجب كفائيٌّ في أقلِّ أحواله .
و إن فرَّطَ في القيام بواجب الذبّ عن العلماء أقوامٌ ، فقد أفرَط آخرون في هذا الباب ، فجانبوا الصواب ، و صاروا إلى الممنوع ؛ بمجاوزةِ المشروع ، حيث غلَوا في علمائهم ، و تعصبّوا لآرائهم و أقوالهم ، و نصّبوا أنفسهم للتبرير و الدفاع عن زلاّتهم ، و هذا من أشنع أنواع التعصّب ، في التقليد و التمذهُب .
و صار أهل الحقّ – و هم أوسط الناس و أعدلهم – إلى إعمال الدليل ، و التماس العذر للعالم في زلّته ، و التأدّب في ردّ مقالته و عَدَم المبالغة في تعظيم العالِم ( المستَفتَى و غيرِه ) بأخذ كلّ ما يصدُر عنه ، أو اعتقاده إصابَتَه الحقَّ في كلّ ما يُفتي فيه أو يُخبِر به ، لأنَّه من بني البَشر ، ( و كلُّ بني آدَم خطّاء ، و خير الخطائين التوّابون ) كما أخبر - صلى الله عليه وسلم - [ فيما رواه الترمذي و ابن ماجة و أحمد بإسنادٍ حسن ] ، و العالِم في هذا كغيره ؛ معرَّضٌٌٌ للخطأ ، و الوَهمِ ، و النسيان .
و لخطورة زلات العلماء عليهم و على الأتباع ، رأيت أن أضع بين يدي القارئ الكريم جملة مسائل ذات صلة بموضوعها ، مرتّبةً في مقاصد على النحو التالي :
المقصد الأول
في بيان المقصود بزلّة العالم
أقْدَمُ ذكر لزلات العلماء – فيما وقفت عليه – جاء في سنن أبي داود ، حيث روى عن معاوية أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الغلوطات [ رواه أبو داود في سننه ( 3171 ) بإسناد ضعيف ] .
قال الخطابي : الأغلوطات جمع أغلوطة : أفعولة من الغلط كالأحدوثة و الأعجوبة ... يقال : مسألة غَلوطٌ إذا كان يُغلَط فيها ، كما يقال : شاة حلوب ، و فرس رسوب ، فإذا جعلتها اسماً زدت فيها الهاء ، فقلتَ : غلوطة كما يقال حلوبة و ركوبة ... قال الأوزاعي : و هي شرار المسائل , و المعنى أنه نهى أن يعترض العلماء بصعاب المسائل التي يكثر فيها الغلط ليستزلوا بها , و يسقط رأيهم فيها . [ عون المعبود : 10 / 64 ] .
كما ذُكِرَت زلات العلماء في معرِض التحذير منها فيما روي عن عدد من الصحابة ، منهم عمر بن الخطّاب ، و معاذ بن جبل ، رضي الله عنهما ، و سيأتي ذكرُها لاحقاً إن شاء الله .
و أصل الزلّة و الزَّلَل في اللغة من زلَّ يزِلُّ ، إذا انحَرفَ عن مساره ، أو نَزَل عن مستواه .
قال لبيد بن ربيعة [ كما في معجم البلدان : 4 / 108 و 224 ]:
لو يقومُ الفِيلُ أو فَََيَّالُهُ
زَلَّ عن مِثْلِ مَقَامي و زَحَلْ
أي : لم يبلغ مكانتي بل انحطَّ عنها .
و عليه فبإمكاننا تحديد المراد من زلّة العالم بأنّه : خطؤه و مجانبته الصواب باجتهاد في آحاد المسائل ، مع سلامة أصوله في الاستدلال و التقعيد .
و كأنَّ المسألة التي زلَّ فيها لا تناسب مكانته في العلم و التحقيق و الوَرَع ، بل هي دونها ، أو مائلة عن السبيل التي ينتهجها عادةً .
المقصد الثاني
في التحذير من زلات العلماء وقوعاً فيها و متابعةً عليها
فإذا كان الآمر كذلك فلا غرابة في أن يبالغ المحققون في التحذير من متابعة العالم في زلاّته ، وممّن أجاد في هذا الباب و أفاد الحافظ أبو عمر بن عبد البر حيث أفرد فصلاً من كتابه ( الجامع في بيان العلم و فضله ) في خطر زلة العالم ، و نقله عنه ابن القيم [ في إعلام الموقعين : 2/173-175 ] ، و الشاطبي [ في الموافقات : 4/168- 172 ] .(/1)
قال ابن القيّم : ( العالِم يزِلُّ و لا بُدَّ ، إذ لَيسَ بمعصومٍ ، فلا يجوز قبول كلِّ ما يقوله ، و يُنزَّل قوله منزلة قول المعصوم ، فهذا الذي ذمَّه كلّ عالِم على وجه الأرض ، و حرَّموه ، و ذمُّوا أهلَه ) [ إعلام الموقعين : 2 / 173 ] .
و قال الإمام الشاطبي عقبَ إيراد كلام ابن عبد البر في خطَر زلّة العالم : ( لابد من النظر في أمور تبنى على هذا الأصل :
منها : أن زلة العالم لا يصح اعتمادها من جهة ، و لا الأخذ بها تقليداً له ، و ذلك لأنها موضوعة على المخالفة للشرع ، و لذلك عُدَّت زلةً ، و إلا فلو كانت معتداً بها لم يُجعل لها هذه الرتبة ، و لا نُسِب إلى صاحبها الزلل فيها ، كما أنه لا ينبغي أن يُنسب صاحبها إلى التقصير ، و لا أن يُشنَّعَ عليه بها ، و لا يُنتَقَصَ من أجلها ، أو يعتقد فيه الإقدام على المخالفة بحتاً ، فإن هذا كله خلاف ما تقضي رتبته في الدين ...
و منها : أنه لا يصح اعتمادها خلافاً في المسائل الشرعية ، لأنها لم تصدر في الحقيقة عن اجتهاد ، و لا هي من مسائل الاجتهاد ، و إن حصل من صاحبها اجتهاد فهو لم يصادف فيه محلاً ، فصارت في نسبتها إلى الشرع كأقوال غير المجتهد , و إنما يُعد في الخلاف الأقوال الصادرة عن أدلة معتبرة في الشريعة ، كانت مما يقوى أو يضعف ، و أما إذا صدرت عن مجرد خفاء الدليل أو عدم مصادفته فلا ، فلذلك لا يصح أن يعتد بها في الخلاف ، كما لم يعتد السلف الصالح بالخلاف في مسألة ربا الفضل ، و المتعة ، و محاشي النساء ، و أشباهها من المسائل التي خفيت فيها الأدلة على من خالف فيها ) [ الموافقات ، للشاطبي : 4/170 و ما بعدها ] .
و قد رويَ أنّ رسول الله صلى الله عليه و سلم : ( لا يكن أحدكم إمعةً يقول : أنا مع الناس إن أحسن الناس أحسنت و إن أساءوا أسأت ، و لكن وطِّنوا أنفسكم على أن تحسنوا إن أحسن الناس ، و إن أساءوا أن تجتنبوا إساءتهم ) [ الحديث في بعض السنن ، و فيه مقال ] .
و رُويَ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوله : ( ثلاث يهدمن الدين زلة العالم ، و جدال المنافق بالقرآن ، و أئمة مضلون ) [ رواه الدارمي في سننه عن زياد بن حدير ، و أورده ابن تيميّة في الفتاوى الكبرى : 6 / 95 ، و صححه الألباني في مشكاة المصابيح بتحقيقه : 1 / 89 ، و روي نحوه عن أبي الدرداء رضي الله عنه ، انظر : الموافقات ، للشاطبي : 4 / 17 ، 18 و 4 / 168 ، و قد وردت في هذا المعنى أخبار مرفوعة ليس منها شيئ يصحّ ، انظر بعضها في : مجمع الزوائد : 1 / 186 ] .
و في مسند أبي حنيفة [ 1 / 68 ] أنَّ رجلا قال لمعاذ حين حضره الموت أوصني ، فقال : ( اتق زلة العالم ) ، و في بعض الروايات أنّ معاذاً قال ذلك للحارث بن عميرة ، و في إسناده شهر بن شوحب ، و فيه كلام [ انظر : مجمع الزوائد : 2 / 313 ] .
و رويَ عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله : ( ويل للأتباع من عثرات العالم ) . قيل : و كيف ذاك ؟ قال : ( يقول العالم شيئاً برأيه ثم يجد من هو أعلم منه برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيترك قوله ذلك ، ثم يمضي الاتباع ) [ الموافقات ، للشاطبي : 3 / 318 و الفتاوى الكبرى ، لابن تيميّة : 6 / 96 ] .
و عند الدارمي عن محمد بن واسع قال : كان مسلم بن يسار يقول : ( إياكم و المراء فإنها ساعة جهل العالم و بها يبتغي الشيطان زلته ) .
و قال الفُضيل بن عياض رحمه الله : ( إني لأرحم ثلاثة : عزيز قوم ذلّ ، و غني قوم افتقر ، و عالماً تلعب به الدنيا ) .
و قال الإمام الذهبي رحمه الله : ( من يتتبّع رُخَص المذاهِب ، و زلاّت المجتهدين فقد رقَّ دِينه ) [ سير أعلام النبلاء : 8 / 81 ] .
و حكى الزركشي أن القاضي المالكي إسماعيل بن إسحاق الأزدي رحمه الله ، قال : ( دخلت على المعتضد ، فَدَفَع إليَّ كتاباً نظرت فيه ، و قد جمع فيه الرخص من زلل العلماء ، و ما احتج به كل منهم ، فقلت : إن مصنف هذا زنديق . فقال : ألم تصح هذه الأحاديث ؟ قلت : الأحاديث على ما رُوِيَت ، و لكن من أباح المسكر لم يبح المتعة ، و من أباح المتعة لم يبح المسكر ، و ما من عالم إلا و له زلّة ، و من جمع زلل العلماء ، ثم أخذ بها ذهب دينه ، فأمَر المعتضد بإحراق ذلك الكتاب ) [ البحر المحيط : 6 / 326 ] .
و قد أحسن مَن قال :
أيُّها العالِم إيّاك الزَلَل
و احذَرِ الهفوةَ فالخَطبُ جَلَلْ
هفوةُ العالِمِ مُستَعظَمَةٌ
إن هَفَا يوماً أصبَحَ في الخَلْقِ مَثَلْ
إن تكُن عندَكَ مُستَحقَرةٌ
فهيَ عِندَ اللهِ و الناسِ جَبَلْ
أنتَ مِلحُ الأرضِ ما يُصلحُهُ
إن بَدا فيهِ فَسادٌ أو خَلَلْ
المقصد الثالث
في بيان مكمن الخطورة في زلات العلماء
كثيراً ما يُقال : ما بالكم تحذّرون من زلّة العالم مع كونه لا يخطئ إلا عن اجتهاد ، يستحق عليه الأجر ، و هو في جميع أحواله بين الأجر و الأجرين .(/2)
و ردّاً على هذه الشبهة نقول : إنّ مكمن الخطورة في زلّة العالم ، ليس في كونها خطأ من مجتهد ، و لكن فيما يترتب عليها من عمل الأتباع و المقلدين من بعده ، و ممّا يستفاد من قول ابن عبّاس المتقدّم في التحذير من زلّة العالِم : ( فيترك قوله ذلك ، ثم يمضي الأتباع ) ، بيان أنّ خطر الزلّة في كون شرّها متعدياً إلى من قلّد صاحبها فيها ، و كفى بهذا محرّضاً على النكير على من صار إليها ، أو تترّس بها في تحليل ما حرّم الله ، و قد يلحق صاحبها إثم من استنّ به فيها ، شأنه في ذلك شأن من سنّ سنّةً سيّئة .
روى ابن ماجة و أبو داود و ابن حبّان و غيرهم بإسناد حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( من أُفتِيَ بغير علم كان إثمه على من أفتاه ، و من أشار على أخيه بأمر يعلم أن الرشد في غيره فقد خانه ) .
قال المباركفوري : ( من أُفتِيَ بغير علم ) : على بناء المفعول أي من وقع في خطأ بفتوى عالم فالإثم على ذلك العالم و هذا إذا لم يكن الخطأ في محل الاجتهاد أو كان إلا أنه وقع لعدم بلوغه في الاجتهاد حقه . قاله في فتح الودود .
و قال الملا علي القاري : على صيغة المجهول , و قيل : من المعلوم يعني كل جاهل سأل عالماً عن مسألة فأفتاه العالم بجواب باطل فعمل المسائل بها و لم يعلم بطلانها فإثمه على المفتي إن قصر في اجتهاده ، ( يعلم ) : المراد بالعلم ما يشمل الظن ... ( فقد خانه ) : أي خان المُستشارُ المُستشيرَ إذ ورد أن المستشار مؤتمن , و من غشنا فليس منا . اهـ . [ عون المعبود : 10 / 65 ] .
قال الشاطبي بعد أن سرد جملة من الآثار في التحذير من زلة العالم : ( و هذا كله ، و ما أشبهه ، دليل على طلب الحذر من زلة العالم ، و أكثر ما تكون عند الغفلة عن اعتبار مقاصد الشارع في ذلك المعنى الذي اجتهد فيه ، و الوقوف دون أقصى المبالغة في البحث عن النصوص فيها ، و هو و إن كان قَصَد و لا تعمد و صاحبه معذور و مأجور ، لكن مما ينبني عليه في الاتباع لقوله فيه خطر عظيم ، و قد قال الغزالي : إن زلة العالم بالذنب قد تصير كبيرةً وهي في نفسها صغيرةٌ ، و ذَكر منها أمثلةً ، ثم قال : فهذه ذنوب يتبع العالم عليها ، فيموت العالم ، و يبقى شرُّه مستطيراً في العالَم أياماً متطاولةً ، فطوبى لمن إذا مات ماتت معه ذنوبه ، و هكذا الحكم مستمرٌ فى زلته فى الفتيا من باب أولى ، فإنه ربما خفي على العالِم بعض السنة أو بعضُ المقاصد العامة فى خصوص مسألته فيفضي ذلك إلى أن يصير قوله شرعاً يُتَقَلَّد ، و قولاً يُعتبر في مسائل الخلاف ، فربما رجع عنه ، و تبين له الحق فيفوته تدارُك ما سار في البلاد عنه ، و يضل عنه تلافيه فمن هنا قالوا : زلة العالم مضروب بها الطبل ) [ الموافقات : 4 / 170 ] .
و قال - رحمه الله – في هذا المعنى أيضاً : ( تستعظم شرعاً زلة العالم و تصير صغيرته كبيرة من حيث كانت أقواله و أفعاله جارية في العادة على مجرى الاقتداء فإذا زل حملت زلته عنه قولاً كانت أو فعلا لأنه موضوع مناراً يُهتدى به فإن علم كون زلته زلة صغرت في أعين الناس وجسر عليها الناس تأسيا به و توهموا فيها رخصة علم بها و لم يعلموها هم تحسينا للظن به و إن جهل كونها زلة فأحرى أن تحمل عنه محمل المشروع و ذلك كله راجع عليه ) [ في الموافقات : 3 / 317 ] .
و قال ابن القيّم : ( و من المعلوم أن المَخُوفَ في زلة العالم تقليده فيها إذ لولا التقليد لم يُخَف من زلة العالم على غيره فإذا عَرَف أنها زلة لم يجز له أن يتبعه فيها باتفاق المسلمين فإنه اتباع للخطأ على عمد و من لم يعرف أنها زلة فهو أعذر منه و كلاهما مفرط فيما أمر به ) [ إعلام الموقعين : 2 / 192 ] .
و قد أحسن من قال : « زلة العالم كالسفينة تغرق ، و يغرق معها خلق كثير » [ أدب الدنيا و الدين ، ص : 46 ، و انظر : الموافقات ، للشاطبي : 3 / 318 ] .
المقصد الرابع
الأسباب المفضية إلى زلل العالم :
إذا استقرأنا جملة من المسائل المعدودة من قبيل زلاّت العلماء سنقف و لا بدّ على أنّ السبب المفضي إلى وقوع العالم فيها غالباً ما يكون أحَدَ أمرين ، هما :
أولاً : مغالطة المستفتين للعلماء ، و استدراجهم إلى ما يريد المستفتي الوصول إليه ، بالتلبيس تارةً و التدليس عليهم تارةً أخرى ، حيث ترى المستفتي يضمِّن سؤاله الفتوى التي يريد الوصول إليها ، و لا يفتأ يراوغ حتى ينتزعَها من العالم انتزاعاً ، ثم يطير بها فرِحاً يبثُّها هنا و هناك .
و قد رزئت هذه الأمة منذ القدم بأمثال هؤلاء المستَفْتين ، و الموفّق من العلماء مع عصمه الله من الوقوع في حبائلهم ، و وفَّقَه للإعراض عن ضلالاتهم ، و لعدم الركون إليهم .(/3)
ألا ترى أن من عظيم منن الله تعالى على خاتم أنبيائه و رسله أن ثبّته في وجه من أرادوا ليزلقوه بألسنتهم ، قال تعالى : ( و لَوْلا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً ) [ الإسراء : 74 ] .
يقول العلاّمة ابن القيم رحمه الله : ( يحرم عليه ـ أي على المفتي ـ إذا جاءته مسألة فيها تحايل على إسقاط واجب ، أو تحليل محرم ، أو مكر ، أو خداع ، أن يعين المستفتي فيها ، و يرشده إلى مطلوبه ، أو يفتيه بالظاهر الذي يتوصل به إلى مقصوده ؛ بل ينبغي له أن يكون بصيراً بمكر الناس و خداعهم و أحوالهم ، و لا ينبغي له أن يحسن الظن بهم ، بل يكون حذراً فطناً فقيهاً بأحوال الناس و أمورهم ، يؤازره فقهه في الشرع ، و إن لم يكن كذلك زاغ و أزاع ، و كم من مسألة ظاهرها جميل ، و باطنها مكر و خداع و ظلم ! فالغِرُّ ينظر إلى ظاهرها ، و يقضي بجوازه ، و ذو البصيرة ينفُذُ إلى مقصدها و باطنها . فالأول يَرُوج عليه زَغَلُ المسائل كما ، يروج على الجاهل بالنقد زَغَلُ الدراهم ، و الثاني يُخرِج زيفَها كما يخرج الناقد زيف النقود ، و كم من باطل يخرجه الرجل بحسن لفظه و تنميقه و إبرازه في صورة حق ! و كم من حق يخرجه بتهجينه و سوء تعبيره في صورة باطل ! و من له أدنى فطنة و خبرة لا يخفى عليه ذلك ) [ إعلام الموقعين : 4/ 229 ] .
و من منطلق الخبرة بأحوال الناس ، و الوقوف على مكرهم و تحايلهم على الشرع و حَمَلَتِه ، كان الأئمة الأثبات و لا يزالون يحتاطون في الفتيا ، و يردون مسائل المغالطين .
قال إمام دار الهجرة رحمه الله : ( قال رجل للشعبي : إني خبأت لك مسائل فقال : خبئها لإبليس حتى تلقاه فتسأله عنها ) [ الآداب الشرعية : 2 / 56 ] .
ثانياً : مسايرة العلماء لمن يستفتيهم ، و هذا من أعظم البلاء الذي حلّ بالأمّة في العصر الحاضر ، إذ نبَغَت فيها نابغة من الملفّقة الذين لا يألون جهداً في تطويع الشريعة لظروف العصر ، بدلاً من تحكيم الشريعة في أمور العباد الدينيّة و الدنيويّة ، و كوّنت هذه الدعوة أرضاً خصبة للعصرانيين ، و دعاة التلفيق ، و الترخيص .
و يتذرّع هؤلاء بمراعاة مصالح العباد ، و تيسير أمور معاشهم ، تحت وطأة الضغوط الاجتماعيّة ، و خاصّةً تلك التي يقبع تحتها ـ اضطراراً أو اختياراً ـ أبناء الجاليات الإسلاميّة المقيمة في الغرب .
و إذ يراعي هؤلاء بعض مقاصد الشريعة في فتاواهم ، يضربون صفحاً عن أحد أهم تلك المقاصد ، و هو تحقيق العبوديّة الحقّة من العباد لبارئهم .
يقول الشاطبي رحمه الله : ( المقصد الشرعي مِن وضْع الشريعة هو إخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبداً لله اختياراً كما هو عبد الله اضطراراً ) [ الموافقات : 2 / 128 ] .
و من زلَلِ بعض العلماء المعاصرين اتّخاذ التيسير منهجاً في الفتوى ، إلى حدٍّ انتهى بأصحابه إلى تحليل بعض المحرمات ، و إضعاف الوازع في نفوس المسلمين ، حتى أشربت قلوب الكثيرين منهم الفتن ، و قصرت هممهم عن القيام بما افتُرضَ عليهم ، و حُلَّت كثيرٌ من عرى الإسلام استناداً إلى فتاوى ميسِّرة ( أو مسايِرة ) للواقع .
و من أشنع صور المسايرة في العصر الحديث ممالأة الحكام و التغاضي عن مخالفاتهم ، و تبرير تعطيلهم لأحكام الشريعة الربّانيّة ، و استبدالها بزبالات الأذهان ، و شرائع الوضّاعين ، بدعوى الالتقاء مع المخالفين ( من المبتدعة و العصرانيين و الملاحدة ) على أرضيّة ( وطنيّة أو قوميّة ) جامعة ، تذيب الفوارق و الخلافات العقديّة ( و الطائفية ) ، و تقرّب بين الفِرَق و الأديان ، تحت مسمى التعايش تارةً ، و التقريب بين المذاهب ، و حوار الحضارات تارات أُخَر .
و لا ريب في أنّ من دعا إلى شيء من ذلك فهو من أئمّة الضلال ، و ينبغي أن لا يغترّ بظهوره في لبوس العلماء ، في زمنٍ تكاثر ( و ظَهرَ في بعض البلدان ) فيه علماء السوء ، و استطار شرّهم .
و من المغالطة اعتبار هذه الدعوات من قبيل زلات العلماء ، بل هي عين الباطل و الضلال ، و إن كان دعاتها يتذرّعون إلى الوصول إليها و ترويجها بمقولات بعض العلماء ، فهي في أصلها زلّة ، و لكنها ضلالٌ مبين بالنظر إلى ما آلت إليه ، و بالله العصمة .
المقصد الخامس
في بيان الواجب على الأتباع تجاه العالم إذا بدت زلّته
لخطورة وقوع العالم في الزلاّت ابتداءً ، و متابعته فيها ، و تلقّف الشواذّ من أقواله انتهاءً ، حذَّر أهل العِلم منها ، و أنكروا من أصرَّ عليها أو تابَعَه فيها ، منطلقين في ذلك من هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - في النصيحة .
روى مسلم في كتاب الإيمان من صحيحه عن تميم بن أوس الداري رضي الله عنه أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( الدين النصيحة ) ، قلنا : لمن ؟ قال : ( لله عزَّ و جل ، و لكتابه ، و لرسوله - صلى الله عليه وسلم - ، و لأئمة المؤمنين ، و عامتهم ) .(/4)
و من النصيحة للعلماء الواجبة لهم ما ذهب إليه ابن رجب الحنبلي رحمه الله في قوله : ( و مِمَّا يختص به العلماء ردّ الأهواء المضلة بالكتاب و السنة على مُورِدِها ، و بيان دلالتهما على ما يخالف الأهواء كلها ، و كذلك رد الأقوال الضعيفة من زلاّت العلماء ، و بيان دلالة الكتاب و السنة على ردّها ) [ جامع العلوم و الحكم ، ص : 98 ] .
و رويَ عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله : ( ويل للأتباع من عثرات العالم ) . قيل : و كيف ذاك ؟ قال : ( يقول العالم شيئاً برأيه ثم يجد من هو أعلم منه برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيترك قوله ذلك ، ثم يمضي الاتباع ) [ الموافقات ، للشاطبي : 3 / 318 و الفتاوى الكبرى ، لابن تيميّة : 6 / 96 ] .
و في رواية عنه رضي الله عنه ، أنّه قال : ( ويل للعالم من الأتباع ) [ مجموع الفتاوى : 20 / 274 ] ، أي لما يتابعونه فيه من الزلات .
فإذا أردنا خيراً بعلمائنا ، و ورثة النبوّة في أمّتنا ، كان لِزاماً علينا أن نلتزم تجاههم بأدبَين جليلين :
الأوّل : توقيرهم و معرفة قَدرهم ، و عدَم الحط من مكانتهم ، أو الطعن في علمهم و أمانتهم بسبب ما قد يقعون فيه من زلاّت ، أو يخطئون فيه من الفتاوى و السؤالات .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حين اضطره المقام إلى الخوض في مسألة زلات العلماء : ( نعوذ بالله سبحانه مما يفضي إلى الوقيعة في أعراض الأئمة ، أو انتقاص أحد منهم ، أو عدم المعرفة بمقاديرهم و فضلهم ، أو محادتهم و ترك محبتهم و موالاتهم ، و نرجو من الله سبحانه أن نكون ممن يحبهم و يواليهم و يعرف من حقوقهم و فضلهم ما لا يعرفه أكثر الأتباع ، و أن يكون نصيبنا من ذلك أوفر نصيب و أعظم حظ ، و لا حول و لا قوة إلا بالله ) [ الفتاوى الكبرى : 6 / 92] .
و قال أيضاً : ( ليس لأحد أن يتبع زلات العلماء كما ليس له أن يتكلم في أهل العلم و الإيمان إلا بما هم له أهل ) [ الفتاوى الكبرى : 2 / 23 ، و مجموع الفتوى : 32 / 239 ] .
و قال الإمام الذهبي في ترجمة الإمام محمد بن نصر المروزي : ( و لو أنا كلما أخطأ إمام في اجتهاده في آحاد المسائل خطأً مغفوراً له قمنا عليه و بدَّعناه ، و هجرناه ، لما سلم معنا ابن نصير ، و لا ابن مندة ، و لا من هو أكبر منهما ، و الله هو هادي الخلق إلى الحق ، هو أرحم الراحمين ، فنعوذ بالله من الهوى و الفظاظة ) [ سير أعلام النبلاء : 40/14 ] .
الثاني : الإعراض عن المسائل المعدودة من قبيل زلات العلماء ، و عدم ذكرها أو العمل بها ، أو الانتصار لها ، أو الدعوة إليها ، كي لا يغترّ أحدٌ بها لصدورها من عالم موثوق في علمه ، و عدالته ، و رجاحة رأيه ، فيصير الناس إلى تقليده فيها مع ظهور الخطأ عنده ، و جلاء الحق عند غيره ، أو إلى الطعن فيه ، و غمز قناته ممّن دأبوا على تتبّع السقطات ، و الطعن في العلماء و الدعاة .
قال ابن الجوزي في كتابه السر المكتوم : ( هذه الفصول هي أصول الأصول و هي ظاهره البرهان ، لا يهولنك مخالفتها لقول معظم في النفس ، و قد قال رجل لعلي عليه السلام أتظن أنا نظن أن طلحة و الزبير على الخطأ و أنت على الصواب ؟ فقال : إنه ملبوس عليك ، اِعرِف الحق تعرف أهله . و قال رجل للإمام أحمد بن حنبل رحمه الله إن ابن المبارك قال كذا فقال إن ابن المبارك لم ينزل من السماء [ الفروع في الفقه الحنبلي : 6 / 381 ] .
و قال الإمام القرطبي [ في تفسيره : 10 / 131 ] و قد ذَكَرَ الخلاف في حكم شرب النبيذ : ( فإن قيل : فقد أحل شربه إبراهيم النخعي ، و أبو جعفر الطحاوي ، و كان إمام أهل زمانه ، و كان سفيان الثوري يشربه ، قلنا : ذكر النسائي في كتابه أن أول من أحل المسكر من الأنبذة إبراهيم النخعي ، و هذه زلة من عالم ، و قد حُذِّرْنا من زلة العالم ، و لاحجة في قول أحد مع السنة ) .
و قال شيخ الإسلام : ( إن الله سبحانه كما غفر للمجتهد إذا أخطأ ، غفر للجاهل إذا أخطأ و لم يمكنه التعلم ، بل المفسدة التى تحصل بفعل واحد من العامة محرماً لم يعلم تحريمه و لم يمكنه معرفة تحريمه ، أقل بكثير من المفسدة التى تنشأ من إحلال بعض الأئمة لما قد حرمه الشارع ، و هو لم يعلم تحريمه و لم يمكنه معرفة تحريمه ، و لهذا قيل : احذروا زلة العالم فإنه إذا زل زل بزلته عالَمٌ ) [ مجموع الفتاوى : 20 / 274 ] .
فالديانة ـ إذن ـ في متابعة الحق و أخذه من لسان و مقال من قال به كائناً من كان ، و الإعراض عن الخطأ ، و ردّه على من قال به كائناً من كان ، و حذار حذار من غلوٍ في متبوع يصد عن اتباع المشروع .
يقول عبد الله بن مسعود ( : ( ألا لا يقلدن أحدكم دينه رجلاً إن آمن آمن وإن كفر كفر فإنه لا أسوة في الشر) .(/5)
و ما أبلغ و أحكم قول معاذ بن جبل ( فيما رواه عنه أبو داود بإسنادٍ صحيح : ( و أحذركم زيغة الحكيم ، فإن الشيطان قد يقول كلمة الضلالة على لسان الحكيم ، وقد يقول المنافق كلمة الحق ، قال الراوي : قلت لمعاذ : ما يدريني – رحمك الله – أن الحكيم قد يقول كلمة الضلالة ، و أن المنافق قد يقول كلمة الحق ؟ قال : بلى ، اجتنب من كلام الحكيم المشبهات التي يقال لها : ما هذه ، و لا يثنينك ذلك عنه فإنه لعله أن يراجع ، و تلقّ الحق إذا سمعته فإن على الحق نوراً ) .
فإذا تقرر هذا و بان الحق فيه ، ظهر لنا أن من زلات العلماء التي ينبغي الإعراض عنها ، مع إحسان الظن فيمن وقع فيها مجتهداً ـ تقديم بعض العلماء أقوال أئمة المذاهب على سواها ، و إن ظهر لهم في خلافه الحقُّ بدليله من الكتاب أو السنّة الثابتة ـ و من أمثلة ذلك ما قاله بعض المالكيّة : ( لما قال مالك في رواية ابن القاسم في المدونة أكره القبض في الفريضة تركته ، و لو كان في الموطأ و الصحيحين الاقتصار على حديث الأمر به و ما توفيقي إلا بالله عليه توكلت و إليه أنيب ) .اهـ . [ فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك ] .
و مثل هذا القول في النكارة ما ينسب إلى الإمام السبكي الشافعي ، من قول : ( الحكم بخلاف الصحيح في المذهب مندرج في الحكم بخلاف ما أنزل الله تعالى ) .
و نحو هذا كثير في كلام متعصّبة المذاهب .
و هو ما لا نقرّه ، و لا نقول به ، بل يتعين علينا و نحن ننشد الحق ، و لا نتعصّب لأحد دون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نبرأ من كلّ ما خالف الشرع و نردّه على قائله ، و ننظر في حال من قال به ، و نرى قوله : ( إما زلة عالم و وهلة فاضل عاقل ; أو افتراء كاذب فاسق ) بحسب حاله ، كما قال الإمام ابن حزم الظاهري في معرض ردّه بعض الأقوال الفاسدة [ انظر : المحلى : 3 / 219 ] .
المقصد السادس
في بيان الواجب على العالم إذا بان خطؤه
البشر هم البشر ، لا عصمة لأحدٍ منهم بعدَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، بل كلّهم خطاء ، و خير الخطّائين التوابون .
و قد نُدبنا إلى الرجوع عن الخطأ ، و التوبة من المعصية ، و لا فَرق في ذلك بين عامي و عالم ، أو أمير و مأمور ، أو كبير و صغير .
و مِن جملة الأخطاء التي يجب الرجوع عنها ما يقع فيه العالم من زلات في الفتيا و التأليف أو غير ذلك ، و حريٌّ به إن بان له الحق أن يرجع إليه ، و يعضَّ عليه بالنواجذ ، لينجو بنفسه ، و ينجو بنجاته الأتباع من بعده .
و له في ذلك أسوة حسنةٌ في نبيِّ الرحمة - صلى الله عليه وسلم - الذي ما ترك خيراً إلا و أرشدنا إليه ، و لا شراً إلا أخذ بحُجَزِنا فصرفنا عنه ، و حذَّرَنا منه ، و قد كان مدرسةً في اتباع الحقّ و الرجوع عمّا يخالفه .
فقد قعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - و أبو بكر يبكيان بعد أن تبيّن لهما الحق في مسألة أسارى بدر ، خلافاً لما ذهبا إليه .
أخرج مسلم في صحيحه عن عمَر بن الخطّاب رضي الله عنه في قصّة أسارى بدر ـ و كانوا سبعين رجلاً من المشركين ـ أنّهم : ( لما أسروا الأسارى ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر ، و عمر : ( ما ترون في هؤلاء الأسارى ؟ ) فقال أبو بكر : يا نبي الله هم بنو العم و العشيرة أرى أن تأخذ منهم فديةً ، فتكون لنا قوةً على الكفار ، فعسى الله أن يهديهم للإسلام . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( ما ترى يا ابن الخطاب ؟ ) قلت : لا و الله يا رسول الله ، ما أرى الذي رأى أبو بكر ، و لكني أرى أن تُمكنا فنضرب أعناقهم ... فهَوِيَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما قال أبو بكر ، و لم يهوَ ما قلتُ ، فلما كان من الغد جئتُ ، فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - و أبو بكر قاعِدَين يبكيان ، قلت : يا رسول الله أخبرني من أي شيء تبكي ، أنت و صاحبك فإن وجدت بكاءً بكيتُ ، و إن لم أجد بكاءً تباكيتُ لبكائكما . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( أبكي للذي عَرض علي أصحابك من أخذهم الفداء ، لقد عُرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة ، شجرة قريبة من نبي الله - صلى الله عليه وسلم - ، و أنزل الله عز و جل : ( مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَ اللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ و اللهُ عَزيزٌ حَكِيمٌ ) [ الأنفال : 67 ] .
فما أروعه من مثَل ، و يالِحُسنِها من تربية !
نبيّ الرحمة ، و صدّيق هذه الأمّة ، يبكيان ، و يعلّمان الدعاة و العلماء ، أدباً رفيعاً من آداب الدعاة ، في الرجوع إلى الحق ، و التمسك به .
و هكذا كان أصحابه رضوان الله عليهم من بعده ، يتلمسون سبل الهدى ، و ينصاعون إلى الحق ، و يعرضون عمّا يخالفه ، و لا يجد الواحد منهم غضاضةً في الرجوع عن رأيه ، و قبول الحقّ ممّن جاء به ، كائناً من كان .
كيف ، و هم المتواصون بالحقّ ، المتواصون بالصبر !!(/6)
و ما أجمل قول فاروق هذه الأمة رضي الله عنه في كتابه لمعاوية بن أبي سفيان عامله على الشام : ( و لا يمنعك قضاء قضيته بالأمس راجعت فيه نفسك و هديت لرشدك أن تراجع الحق فإن الحق قديم و مراجعة الحق خير من التمادي في الباطل ) .
قال السرخسي رحمه الله معقباً على كلام الفاروق هذا : ( و ليس هذا في القاضي خاصة بل هو في كل من يبين لغيره شيئا من أمور الدين الواعظ و المفتي و القاضي في ذلك سواء إذا تبين له أنه زل فليُظهر رجوعه عن ذلك ، فزلة العالم سبب لفتنة الناس ... و قوله : الحق قديم ؛ يعنى هو الأصل المطلوب ، و لأنه لا تنكتم زلة من زل ، بل تظهر لا محالة فإذا كان هو الذي يظهر على نفسه كان أحسن حالاً ، ثم العقلاء ، من أن تظهر ذلك عليه مع إصراره على الباطل ) [ المبسوط : 16 / 62 ] .
قلت : و ما إصرار المخطئ على خطئه بعد قيام الحجة عليه ، و وضوح المحجّة بين يديه ، إلا ضرب من ضروب المكابرة ، لا يصير إليها إلا مخذول أخذته العزّة بالاثم ، فآثر العاجل على الآجل ، و هذا حال علماء السوء الذين ابتليت بهم الأمّة قديماً و حديثاً ، و لهؤلاء خطر داهمٌ تتعيّن مقابلته بالنكير و التحذير .
روى مسلم في صحيحه عن حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي ، و لا يستنون بسنتي ، و سيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس ) .
و روى أحمد و غيره بإسناد حسن عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال لكعب : إني أسألك عن أمر فلا تكتمني قال : و الله لا أكتمك شيئاً أعلمه . قال : ما أخوف شيءٍ تخافه على أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - ؟ قال : أئمة مضلون . قال عمر : صدقت ، قد أسر ذلك إليَّ و أعلمنيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
و قال عبد الله بن المبارك رحِمَه الله :
و هل أفسد الدين إلا الملوك
و أحبار سوء و رهبانها
و مثل أحبار ( علماء ) السوء كما روي عن المسيح عليه السلام : كمثل صخرة وقعت في فم النهر ، لا هي تشرب و لا هي تترك الماء يخلص إلى الزرع ، أو كمثل قناة الحُش ظاهرها جص و باطنها نتن ، و مثل القبور ظاهرها عامر و باطنها عظام . [ انظر : إحياء علوم الدين: 1/74 ] .
... و ردعاً لهؤلاء ( ينبغي للإمام أن يتصفح أحوال المفتيين ، فمن صلح للفتيا أقره ، و من لا يصلح منعه ، و نهاه أن يعود ، و تواعده بالعقوبة إن عاد ، و طريق الإمام إلى معرفة من يصلح للفتوى ، أن يسأل علماء وقته ، و يعتمد أخبار الموثوقين فيهم ) قاله الخطيب البغدادي [ كما في آداب الفتوى ، للنووي ، ص : 17 ، 18 ] .
... قال ابن القيم رحمه الله : ( من أفتى الناس ، و ليس بأهل للفتوى فهو آثم عاصٍ ، و من أقره من ولاة الأمور على ذلك فهو آثم أيضاً ) .
ثمّ نقل عن أبي الفرج ابن الجوزي رحمه الله قوله : ( و يلزم ولي الأمر منعهم كما فعل بنو أمية ، و هؤلاء بمنزلة من يدل الركب و ليس له علم بالطريق ، و بمنزلة الأعمى الذي يرشد الناس إلى القبلة ، و بمنزلة من لا معرفة له بالطب ، و هو يطب الناس ، بل هو أسوأ حالاً من هؤلاء كلهم، و إذا تعين على ولي الأمر منع من لم يحسن التطبب من مداواة المرضى فكيف بمن لم يعرف الكتاب و السنة و لم يتفقه في الدين ! ) [ إعلام الموقّعين : 4 / 17 ] .
خاتمة
و بعد فقد علَّق الإمام البخاري في صحيحه عن عمار بن ياسر رضي الله عنهما قوله : ( ثلاث من جمعن فقد جمع الإيمان : الإنصاف من نفسك ، و بذل السلام للعالم ، و الإنفاق من الإقتار ) .
قال الحافظ في الفتح : ( قال أبو الزناد بن سراج و غيره : إنما كان من جمع الثلاث مستكملاً للإيمان لأن مداره عليها ; لأن العبد إذا اتصف بالإنصاف لم يترك لمولاه حقاً واجباً عليه إلا أداه , و لم يترك شيئاً مما نهاه عنه إلا اجتنبه , و هذا يجمع أركان الإيمان ) [ فتح الباري : 1 / 83 ] .
قلتُ : و بقَدر ما يبتعد المرء عن الإنصاف ، يكون الصواب عنه بعيداً ، و من رامَ الحقَّ ، أنصفَ الخَلقَ و رَحِمَهم .
و طلباً للإنصاف ، و إحقاقاً للحق ، لا غيرَ كان عَملي في هذا البحث ، تربيةً لنفسي ، و تذكيراً لإخواني طلبة العلم بما ينبغي أن يكون عليه الحال تجاه أهل العلم و الفضل .
و خشية الإفراط في إجلال العلماء ، و تقديسهم عن الأخطاء ، كان لزاماً علينا التذكير بأنّهم بشَرٌ يصيبون و يخطئون ، و إن كانوا في معظم الأحوال موافقين للحقّ فيما يقولون و يفعلون ، و أنّهم عنه لا يعدلون ، إلا أن تقَع منهم زلّة ، في حال التباسٍ أو غَفلة .
فإن وقَعَت منهم الزلّة ( أو وَقعوا فيها ) رأيتَ الناس بسبَبِها فِسطاطين ، مُفرِطٌ و مُفَرِّط .
مُفرِطٌ في تتبّع الزلاّت سواء كان قَصدُه الأخذ بها في العَمَل تَرخُّصاً ، أو الطَعن بسببها فيمن صدَرَت عنه تطاولاً و تنقصاً .(/7)
و مُفرّطٌ فيما أوجبه الله عليه ، من عدَم التقديم بينَ يديه ، و عَدَم الغلوّ في أحَدٍ من خلقه بالردّ – قبل الكتاب و السنّة - إليه .
و كلا الفريقين مجانبٌ للصواب ، صائرٌ إلى تباب ، ما لم يمتنَّ الله عليه بالتوبة قبل الحساب .
و قد بيّنت في رسالتي هذه ما يقتضي المقام تبيانه في هذا الباب ، باذلاً في طلب الحق و تقريبه للخلق وسعي ، فإن أصبت فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ، و إن أخطأتُ فمِن نفسي و من الشيطان ، و اللهَ تعالى أسألُ أن يغفر زلّتي ، و يقيل عثرتي .
و أفوّض أمري إلى الله ، إنّ الله بصير بالعباد
و الحمد لله ربّ العالمين
و صلّى الله و سلّم على نبيّنا محمّد ، و آله ، و صحبه أجمعين
و كتب
أحمد بن عبد الكريم نجيب
( الملقّب بالشريف )
دَبْلِن ( إيرلندا ) في غرّة جمادى الآخرة عام 1423 للهجرة
الموافق العاشر من يوليو ( تمّوز ) عام 2002 للميلاد
فهرس
الموضوع الصفحة
* * *(/8)
موقف العُقَلاء من زلات الدعاة و العُلَماء
تأليف
الدكتور أحمد بن عبد الكريم نجيب الشريف
الطبعة الأولى
1423 للهجرة – 2002 للميلاد
جميع حقوق النشر و التأليف محفوظة للمؤلف
للحصول على نسخه من الكتاب
تقديم
الحمد لله و كفى و صلاةً و سلاماً على عباده الذين اصطفى ، و بعد :
فإنّ الله تعالى أبى العصمةَ إلا لكتابه الذي ( لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ و لا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ) ، و لنبيّه صلى الله عليه و سلّم في تبليغ الرسالة ، و ذلك مقتضى حفظ دينه ، و إقامة حجّته على خلقه .
و اصطفى تعالى لحمل العلم من كلّ خلفٍ عدولَه و خصّهم بالفهم و الاستنباط السليم ، فسخّروا ما آتاهم الله من فضله في إقامة الحجّة و بيان المحجّة ، و استشعروا عِظَم واجب التبليغ و التوقيع عن ربّ العالمين فقاموا به خيرَ قيامٍ ، تحمُّلاً و أداءً ، و كان حقّاً على من عرَف فضلهم ، و خبرَ سبقهم أن يتقرّب إلى الله بحبّهم و الذبّ عن أعراضهم ، كيفَ و هم أهل الذكر الذين أُمرنا بسؤالهم و طاعتهم ، كما في قوله تعالى : ( وَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) [ النحل : 43 ] .
و ما ابتُليَ عالمٌ بجاهلٍ بقدرهِ ، طاعنٍ في دينه أو علمه ، إلاّ قيّض الله له من ينافح عنه و يذبّ عن عِرضه ، و هذا واجب كفائيٌّ في أقلِّ أحواله .
و إن فرَّطَ في القيام بواجب الذبّ عن العلماء أقوامٌ ، فقد أفرَط آخرون في هذا الباب ، فجانبوا الصواب ، و صاروا إلى الممنوع ؛ بمجاوزةِ المشروع ، حيث غلَوا في علمائهم ، و تعصبّوا لآرائهم و أقوالهم ، و نصّبوا أنفسهم للتبرير و الدفاع عن زلاّتهم ، و هذا من أشنع أنواع التعصّب ، في التقليد و التمذهُب .
و صار أهل الحقّ – و هم أوسط الناس و أعدلهم – إلى إعمال الدليل ، و التماس العذر للعالم في زلّته ، و التأدّب في ردّ مقالته و عَدَم المبالغة في تعظيم العالِم ( المستَفتَى و غيرِه ) بأخذ كلّ ما يصدُر عنه ، أو اعتقاده إصابَتَه الحقَّ في كلّ ما يُفتي فيه أو يُخبِر به ، لأنَّه من بني البَشر ، ( و كلُّ بني آدَم خطّاء ، و خير الخطائين التوّابون ) كما أخبر صلى الله عليه وسلم [ فيما رواه الترمذي و ابن ماجة و أحمد بإسنادٍ حسن ] ، و العالِم في هذا كغيره ؛ معرَّضٌٌٌ للخطأ ، و الوَهمِ ، و النسيان .
و لخطورة زلات العلماء عليهم و على الأتباع ، رأيت أن أضع بين يدي القارئ الكريم جملة مسائل ذات صلة بموضوعها ، مرتّبةً في مقاصد على النحو التالي :
المقصد الأول
في بيان المقصود بزلّة العالم
أقْدَمُ ذكر لزلات العلماء – فيما وقفت عليه – جاء في سنن أبي داود ، حيث روى عن معاوية أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الغلوطات [ رواه أبو داود في سننه ( 3171 ) بإسناد ضعيف ] .
قال الخطابي : الأغلوطات جمع أغلوطة : أفعولة من الغلط كالأحدوثة و الأعجوبة ... يقال : مسألة غَلوطٌ إذا كان يُغلَط فيها ، كما يقال : شاة حلوب ، و فرس رسوب ، فإذا جعلتها اسماً زدت فيها الهاء ، فقلتَ : غلوطة كما يقال حلوبة و ركوبة ... قال الأوزاعي : و هي شرار المسائل , و المعنى أنه نهى أن يعترض العلماء بصعاب المسائل التي يكثر فيها الغلط ليستزلوا بها , و يسقط رأيهم فيها . [ عون المعبود : 10 / 64 ] .
كما ذُكِرَت زلات العلماء في معرِض التحذير منها فيما روي عن عدد من الصحابة ، منهم عمر بن الخطّاب ، و معاذ بن جبل ، رضي الله عنهما ، و سيأتي ذكرُها لاحقاً إن شاء الله .
و أصل الزلّة و الزَّلَل في اللغة من زلَّ يزِلُّ ، إذا انحَرفَ عن مساره ، أو نَزَل عن مستواه .
قال لبيد بن ربيعة [ كما في معجم البلدان : 4 / 108 و 224 ]:
لو يقومُ الفِيلُ أو فَََيَّالُهُ *** زَلَّ عن مِثْلِ مَقَامي و زَحَلْ
أي : لم يبلغ مكانتي بل انحطَّ عنها .
و عليه فبإمكاننا تحديد المراد من زلّة العالم بأنّه : خطؤه و مجانبته الصواب باجتهاد في آحاد المسائل ، مع سلامة أصوله في الاستدلال و التقعيد .
و كأنَّ المسألة التي زلَّ فيها لا تناسب مكانته في العلم و التحقيق و الوَرَع ، بل هي دونها ، أو مائلة عن السبيل التي ينتهجها عادةً .
المقصد الثاني
في التحذير من زلات العلماء وقوعاً فيها و متابعةً عليها
فإذا كان الآمر كذلك فلا غرابة في أن يبالغ المحققون في التحذير من متابعة العالم في زلاّته ، وممّن أجاد في هذا الباب و أفاد الحافظ أبو عمر بن عبد البر حيث أفرد فصلاً من كتابه ( الجامع في بيان العلم و فضله ) في خطر زلة العالم ، و نقله عنه ابن القيم [ في إعلام الموقعين : 2/173-175 ] ، و الشاطبي [ في الموافقات : 4/168- 172 ] .(/1)
قال ابن القيّم : ( العالِم يزِلُّ و لا بُدَّ ، إذ لَيسَ بمعصومٍ ، فلا يجوز قبول كلِّ ما يقوله ، و يُنزَّل قوله منزلة قول المعصوم ، فهذا الذي ذمَّه كلّ عالِم على وجه الأرض ، و حرَّموه ، و ذمُّوا أهلَه ) [ إعلام الموقعين : 2 / 173 ] .
و قال الإمام الشاطبي عقبَ إيراد كلام ابن عبد البر في خطَر زلّة العالم : ( لابد من النظر في أمور تبنى على هذا الأصل :
منها : أن زلة العالم لا يصح اعتمادها من جهة ، و لا الأخذ بها تقليداً له ، و ذلك لأنها موضوعة على المخالفة للشرع ، و لذلك عُدَّت زلةً ، و إلا فلو كانت معتداً بها لم يُجعل لها هذه الرتبة ، و لا نُسِب إلى صاحبها الزلل فيها ، كما أنه لا ينبغي أن يُنسب صاحبها إلى التقصير ، و لا أن يُشنَّعَ عليه بها ، و لا يُنتَقَصَ من أجلها ، أو يعتقد فيه الإقدام على المخالفة بحتاً ، فإن هذا كله خلاف ما تقضي رتبته في الدين ...
و منها : أنه لا يصح اعتمادها خلافاً في المسائل الشرعية ، لأنها لم تصدر في الحقيقة عن اجتهاد ، و لا هي من مسائل الاجتهاد ، و إن حصل من صاحبها اجتهاد فهو لم يصادف فيه محلاً ، فصارت في نسبتها إلى الشرع كأقوال غير المجتهد , و إنما يُعد في الخلاف الأقوال الصادرة عن أدلة معتبرة في الشريعة ، كانت مما يقوى أو يضعف ، و أما إذا صدرت عن مجرد خفاء الدليل أو عدم مصادفته فلا ، فلذلك لا يصح أن يعتد بها في الخلاف ، كما لم يعتد السلف الصالح بالخلاف في مسألة ربا الفضل ، و المتعة ، و محاشي النساء ، و أشباهها من المسائل التي خفيت فيها الأدلة على من خالف فيها ) [ الموافقات ، للشاطبي : 4/170 و ما بعدها ] .
و قد رويَ أنّ رسول الله صلى الله عليه و سلم : ( لا يكن أحدكم إمعةً يقول : أنا مع الناس إن أحسن الناس أحسنت و إن أساءوا أسأت ، و لكن وطِّنوا أنفسكم على أن تحسنوا إن أحسن الناس ، و إن أساءوا أن تجتنبوا إساءتهم ) [ الحديث في بعض السنن ، و فيه مقال ] .
و رُويَ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوله : ( ثلاث يهدمن الدين زلة العالم ، و جدال المنافق بالقرآن ، و أئمة مضلون ) [ رواه الدارمي في سننه عن زياد بن حدير ، و أورده ابن تيميّة في الفتاوى الكبرى : 6 / 95 ، و صححه الألباني في مشكاة المصابيح بتحقيقه : 1 / 89 ، و روي نحوه عن أبي الدرداء رضي الله عنه ، انظر : الموافقات ، للشاطبي : 4 / 17 ، 18 و 4 / 168 ، و قد وردت في هذا المعنى أخبار مرفوعة ليس منها شيئ يصحّ ، انظر بعضها في : مجمع الزوائد : 1 / 186 ] .
و في مسند أبي حنيفة [ 1 / 68 ] أنَّ رجلا قال لمعاذ حين حضره الموت أوصني ، فقال : ( اتق زلة العالم ) ، و في بعض الروايات أنّ معاذاً قال ذلك للحارث بن عميرة ، و في إسناده شهر بن شوحب ، و فيه كلام [ انظر : مجمع الزوائد : 2 / 313 ] .
و رويَ عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله : ( ويل للأتباع من عثرات العالم ) . قيل : و كيف ذاك ؟ قال : ( يقول العالم شيئاً برأيه ثم يجد من هو أعلم منه برسول الله صلى الله عليه وسلم فيترك قوله ذلك ، ثم يمضي الاتباع ) [ الموافقات ، للشاطبي : 3 / 318 و الفتاوى الكبرى ، لابن تيميّة : 6 / 96 ] .
و عند الدارمي عن محمد بن واسع قال : كان مسلم بن يسار يقول : ( إياكم و المراء فإنها ساعة جهل العالم و بها يبتغي الشيطان زلته ) .
و قال الفُضيل بن عياض رحمه الله : ( إني لأرحم ثلاثة : عزيز قوم ذلّ ، و غني قوم افتقر ، و عالماً تلعب به الدنيا ) .
و قال الإمام الذهبي رحمه الله : ( من يتتبّع رُخَص المذاهِب ، و زلاّت المجتهدين فقد رقَّ دِينه ) [ سير أعلام النبلاء : 8 / 81 ] .
و حكى الزركشي أن القاضي المالكي إسماعيل بن إسحاق الأزدي رحمه الله ، قال : ( دخلت على المعتضد ، فَدَفَع إليَّ كتاباً نظرت فيه ، و قد جمع فيه الرخص من زلل العلماء ، و ما احتج به كل منهم ، فقلت : إن مصنف هذا زنديق . فقال : ألم تصح هذه الأحاديث ؟ قلت : الأحاديث على ما رُوِيَت ، و لكن من أباح المسكر لم يبح المتعة ، و من أباح المتعة لم يبح المسكر ، و ما من عالم إلا و له زلّة ، و من جمع زلل العلماء ، ثم أخذ بها ذهب دينه ، فأمَر المعتضد بإحراق ذلك الكتاب ) [ البحر المحيط : 6 / 326 ] .
و قد أحسن مَن قال :
أيُّها العالِم إيّاك الزَلَل *** و احذَرِ الهفوةَ فالخَطبُ جَلَلْ
هفوةُ العالِمِ مُستَعظَمَةٌ *** إن هَفَا يوماً أصبَحَ في الخَلْقِ مَثَلْ
إن تكُن عندَكَ مُستَحقَرةٌ *** فهيَ عِندَ اللهِ و الناسِ جَبَلْ
أنتَ مِلحُ الأرضِ ما يُصلحُهُ *** إن بَدا فيهِ فَسادٌ أو خَلَلْ
المقصد الثالث
في بيان مكمن الخطورة في زلات العلماء
كثيراً ما يُقال : ما بالكم تحذّرون من زلّة العالم مع كونه لا يخطئ إلا عن اجتهاد ، يستحق عليه الأجر ، و هو في جميع أحواله بين الأجر و الأجرين .(/2)
و ردّاً على هذه الشبهة نقول : إنّ مكمن الخطورة في زلّة العالم ، ليس في كونها خطأ من مجتهد ، و لكن فيما يترتب عليها من عمل الأتباع و المقلدين من بعده ، و ممّا يستفاد من قول ابن عبّاس المتقدّم في التحذير من زلّة العالِم : ( فيترك قوله ذلك ، ثم يمضي الأتباع ) ، بيان أنّ خطر الزلّة في كون شرّها متعدياً إلى من قلّد صاحبها فيها ، و كفى بهذا محرّضاً على النكير على من صار إليها ، أو تترّس بها في تحليل ما حرّم الله ، و قد يلحق صاحبها إثم من استنّ به فيها ، شأنه في ذلك شأن من سنّ سنّةً سيّئة .
روى ابن ماجة و أبو داود و ابن حبّان و غيرهم بإسناد حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( من أُفتِيَ بغير علم كان إثمه على من أفتاه ، و من أشار على أخيه بأمر يعلم أن الرشد في غيره فقد خانه ) .
قال المباركفوري : ( من أُفتِيَ بغير علم ) : على بناء المفعول أي من وقع في خطأ بفتوى عالم فالإثم على ذلك العالم و هذا إذا لم يكن الخطأ في محل الاجتهاد أو كان إلا أنه وقع لعدم بلوغه في الاجتهاد حقه . قاله في فتح الودود .
و قال الملا علي القاري : على صيغة المجهول , و قيل : من المعلوم يعني كل جاهل سأل عالماً عن مسألة فأفتاه العالم بجواب باطل فعمل المسائل بها و لم يعلم بطلانها فإثمه على المفتي إن قصر في اجتهاده ، ( يعلم ) : المراد بالعلم ما يشمل الظن ... ( فقد خانه ) : أي خان المُستشارُ المُستشيرَ إذ ورد أن المستشار مؤتمن , و من غشنا فليس منا . اهـ . [ عون المعبود : 10 / 65 ] .
قال الشاطبي بعد أن سرد جملة من الآثار في التحذير من زلة العالم : ( و هذا كله ، و ما أشبهه ، دليل على طلب الحذر من زلة العالم ، و أكثر ما تكون عند الغفلة عن اعتبار مقاصد الشارع في ذلك المعنى الذي اجتهد فيه ، و الوقوف دون أقصى المبالغة في البحث عن النصوص فيها ، و هو و إن كان قَصَد و لا تعمد و صاحبه معذور و مأجور ، لكن مما ينبني عليه في الاتباع لقوله فيه خطر عظيم ، و قد قال الغزالي : إن زلة العالم بالذنب قد تصير كبيرةً وهي في نفسها صغيرةٌ ، و ذَكر منها أمثلةً ، ثم قال : فهذه ذنوب يتبع العالم عليها ، فيموت العالم ، و يبقى شرُّه مستطيراً في العالَم أياماً متطاولةً ، فطوبى لمن إذا مات ماتت معه ذنوبه ، و هكذا الحكم مستمرٌ فى زلته فى الفتيا من باب أولى ، فإنه ربما خفي على العالِم بعض السنة أو بعضُ المقاصد العامة فى خصوص مسألته فيفضي ذلك إلى أن يصير قوله شرعاً يُتَقَلَّد ، و قولاً يُعتبر في مسائل الخلاف ، فربما رجع عنه ، و تبين له الحق فيفوته تدارُك ما سار في البلاد عنه ، و يضل عنه تلافيه فمن هنا قالوا : زلة العالم مضروب بها الطبل ) [ الموافقات : 4 / 170 ] .
و قال - رحمه الله – في هذا المعنى أيضاً : ( تستعظم شرعاً زلة العالم و تصير صغيرته كبيرة من حيث كانت أقواله و أفعاله جارية في العادة على مجرى الاقتداء فإذا زل حملت زلته عنه قولاً كانت أو فعلا لأنه موضوع مناراً يُهتدى به فإن علم كون زلته زلة صغرت في أعين الناس وجسر عليها الناس تأسيا به و توهموا فيها رخصة علم بها و لم يعلموها هم تحسينا للظن به و إن جهل كونها زلة فأحرى أن تحمل عنه محمل المشروع و ذلك كله راجع عليه ) [ في الموافقات : 3 / 317 ] .
و قال ابن القيّم : ( و من المعلوم أن المَخُوفَ في زلة العالم تقليده فيها إذ لولا التقليد لم يُخَف من زلة العالم على غيره فإذا عَرَف أنها زلة لم يجز له أن يتبعه فيها باتفاق المسلمين فإنه اتباع للخطأ على عمد و من لم يعرف أنها زلة فهو أعذر منه و كلاهما مفرط فيما أمر به ) [ إعلام الموقعين : 2 / 192 ] .
و قد أحسن من قال : « زلة العالم كالسفينة تغرق ، و يغرق معها خلق كثير » [ أدب الدنيا و الدين ، ص : 46 ، و انظر : الموافقات ، للشاطبي : 3 / 318 ] .
المقصد الرابع
الأسباب المفضية إلى زلل العالم :
إذا استقرأنا جملة من المسائل المعدودة من قبيل زلاّت العلماء سنقف و لا بدّ على أنّ السبب المفضي إلى وقوع العالم فيها غالباً ما يكون أحَدَ أمرين ، هما :
أولاً : مغالطة المستفتين للعلماء ، و استدراجهم إلى ما يريد المستفتي الوصول إليه ، بالتلبيس تارةً و التدليس عليهم تارةً أخرى ، حيث ترى المستفتي يضمِّن سؤاله الفتوى التي يريد الوصول إليها ، و لا يفتأ يراوغ حتى ينتزعَها من العالم انتزاعاً ، ثم يطير بها فرِحاً يبثُّها هنا و هناك .
و قد رزئت هذه الأمة منذ القدم بأمثال هؤلاء المستَفْتين ، و الموفّق من العلماء مع عصمه الله من الوقوع في حبائلهم ، و وفَّقَه للإعراض عن ضلالاتهم ، و لعدم الركون إليهم .(/3)
ألا ترى أن من عظيم منن الله تعالى على خاتم أنبيائه و رسله أن ثبّته في وجه من أرادوا ليزلقوه بألسنتهم ، قال تعالى : ( و لَوْلا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً ) [ الإسراء : 74 ] .
يقول العلاّمة ابن القيم رحمه الله : ( يحرم عليه ـ أي على المفتي ـ إذا جاءته مسألة فيها تحايل على إسقاط واجب ، أو تحليل محرم ، أو مكر ، أو خداع ، أن يعين المستفتي فيها ، و يرشده إلى مطلوبه ، أو يفتيه بالظاهر الذي يتوصل به إلى مقصوده ؛ بل ينبغي له أن يكون بصيراً بمكر الناس و خداعهم و أحوالهم ، و لا ينبغي له أن يحسن الظن بهم ، بل يكون حذراً فطناً فقيهاً بأحوال الناس و أمورهم ، يؤازره فقهه في الشرع ، و إن لم يكن كذلك زاغ و أزاع ، و كم من مسألة ظاهرها جميل ، و باطنها مكر و خداع و ظلم ! فالغِرُّ ينظر إلى ظاهرها ، و يقضي بجوازه ، و ذو البصيرة ينفُذُ إلى مقصدها و باطنها . فالأول يَرُوج عليه زَغَلُ المسائل كما ، يروج على الجاهل بالنقد زَغَلُ الدراهم ، و الثاني يُخرِج زيفَها كما يخرج الناقد زيف النقود ، و كم من باطل يخرجه الرجل بحسن لفظه و تنميقه و إبرازه في صورة حق ! و كم من حق يخرجه بتهجينه و سوء تعبيره في صورة باطل ! و من له أدنى فطنة و خبرة لا يخفى عليه ذلك ) [ إعلام الموقعين : 4/ 229 ] .
و من منطلق الخبرة بأحوال الناس ، و الوقوف على مكرهم و تحايلهم على الشرع و حَمَلَتِه ، كان الأئمة الأثبات و لا يزالون يحتاطون في الفتيا ، و يردون مسائل المغالطين .
قال إمام دار الهجرة رحمه الله : ( قال رجل للشعبي : إني خبأت لك مسائل فقال : خبئها لإبليس حتى تلقاه فتسأله عنها ) [ الآداب الشرعية : 2 / 56 ] .
ثانياً : مسايرة العلماء لمن يستفتيهم ، و هذا من أعظم البلاء الذي حلّ بالأمّة في العصر الحاضر ، إذ نبَغَت فيها نابغة من الملفّقة الذين لا يألون جهداً في تطويع الشريعة لظروف العصر ، بدلاً من تحكيم الشريعة في أمور العباد الدينيّة و الدنيويّة ، و كوّنت هذه الدعوة أرضاً خصبة للعصرانيين ، و دعاة التلفيق ، و الترخيص .
و يتذرّع هؤلاء بمراعاة مصالح العباد ، و تيسير أمور معاشهم ، تحت وطأة الضغوط الاجتماعيّة ، و خاصّةً تلك التي يقبع تحتها ـ اضطراراً أو اختياراً ـ أبناء الجاليات الإسلاميّة المقيمة في الغرب .
و إذ يراعي هؤلاء بعض مقاصد الشريعة في فتاواهم ، يضربون صفحاً عن أحد أهم تلك المقاصد ، و هو تحقيق العبوديّة الحقّة من العباد لبارئهم .
يقول الشاطبي رحمه الله : ( المقصد الشرعي مِن وضْع الشريعة هو إخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبداً لله اختياراً كما هو عبد الله اضطراراً ) [ الموافقات : 2 / 128 ] .
و من زلَلِ بعض العلماء المعاصرين اتّخاذ التيسير منهجاً في الفتوى ، إلى حدٍّ انتهى بأصحابه إلى تحليل بعض المحرمات ، و إضعاف الوازع في نفوس المسلمين ، حتى أشربت قلوب الكثيرين منهم الفتن ، و قصرت هممهم عن القيام بما افتُرضَ عليهم ، و حُلَّت كثيرٌ من عرى الإسلام استناداً إلى فتاوى ميسِّرة ( أو مسايِرة ) للواقع .
و من أشنع صور المسايرة في العصر الحديث ممالأة الحكام و التغاضي عن مخالفاتهم ، و تبرير تعطيلهم لأحكام الشريعة الربّانيّة ، و استبدالها بزبالات الأذهان ، و شرائع الوضّاعين ، بدعوى الالتقاء مع المخالفين ( من المبتدعة و العصرانيين و الملاحدة ) على أرضيّة ( وطنيّة أو قوميّة ) جامعة ، تذيب الفوارق و الخلافات العقديّة ( و الطائفية ) ، و تقرّب بين الفِرَق و الأديان ، تحت مسمى التعايش تارةً ، و التقريب بين المذاهب ، و حوار الحضارات تارات أُخَر .
و لا ريب في أنّ من دعا إلى شيء من ذلك فهو من أئمّة الضلال ، و ينبغي أن لا يغترّ بظهوره في لبوس العلماء ، في زمنٍ تكاثر ( و ظَهرَ في بعض البلدان ) فيه علماء السوء ، و استطار شرّهم .
و من المغالطة اعتبار هذه الدعوات من قبيل زلات العلماء ، بل هي عين الباطل و الضلال ، و إن كان دعاتها يتذرّعون إلى الوصول إليها و ترويجها بمقولات بعض العلماء ، فهي في أصلها زلّة ، و لكنها ضلالٌ مبين بالنظر إلى ما آلت إليه ، و بالله العصمة .
المقصد الخامس
في بيان الواجب على الأتباع تجاه العالم إذا بدت زلّته
لخطورة وقوع العالم في الزلاّت ابتداءً ، و متابعته فيها ، و تلقّف الشواذّ من أقواله انتهاءً ، حذَّر أهل العِلم منها ، و أنكروا من أصرَّ عليها أو تابَعَه فيها ، منطلقين في ذلك من هدي النبي صلى الله عليه وسلم في النصيحة .
روى مسلم في كتاب الإيمان من صحيحه عن تميم بن أوس الداري رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( الدين النصيحة ) ، قلنا : لمن ؟ قال : ( لله عزَّ و جل ، و لكتابه ، و لرسوله - صلى الله عليه وسلم - ، و لأئمة المؤمنين ، و عامتهم ) .(/4)
و من النصيحة للعلماء الواجبة لهم ما ذهب إليه ابن رجب الحنبلي رحمه الله في قوله : ( و مِمَّا يختص به العلماء ردّ الأهواء المضلة بالكتاب و السنة على مُورِدِها ، و بيان دلالتهما على ما يخالف الأهواء كلها ، و كذلك رد الأقوال الضعيفة من زلاّت العلماء ، و بيان دلالة الكتاب و السنة على ردّها ) [ جامع العلوم و الحكم ، ص : 98 ] .
و رويَ عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله : ( ويل للأتباع من عثرات العالم ) . قيل : و كيف ذاك ؟ قال : ( يقول العالم شيئاً برأيه ثم يجد من هو أعلم منه برسول الله صلى الله عليه وسلم فيترك قوله ذلك ، ثم يمضي الاتباع ) [ الموافقات ، للشاطبي : 3 / 318 و الفتاوى الكبرى ، لابن تيميّة : 6 / 96 ] .
و في رواية عنه رضي الله عنه ، أنّه قال : ( ويل للعالم من الأتباع ) [ مجموع الفتاوى : 20 / 274 ] ، أي لما يتابعونه فيه من الزلات .
فإذا أردنا خيراً بعلمائنا ، و ورثة النبوّة في أمّتنا ، كان لِزاماً علينا أن نلتزم تجاههم بأدبَين جليلين :
الأوّل : توقيرهم و معرفة قَدرهم ، و عدَم الحط من مكانتهم ، أو الطعن في علمهم و أمانتهم بسبب ما قد يقعون فيه من زلاّت ، أو يخطئون فيه من الفتاوى و السؤالات .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حين اضطره المقام إلى الخوض في مسألة زلات العلماء : ( نعوذ بالله سبحانه مما يفضي إلى الوقيعة في أعراض الأئمة ، أو انتقاص أحد منهم ، أو عدم المعرفة بمقاديرهم و فضلهم ، أو محادتهم و ترك محبتهم و موالاتهم ، و نرجو من الله سبحانه أن نكون ممن يحبهم و يواليهم و يعرف من حقوقهم و فضلهم ما لا يعرفه أكثر الأتباع ، و أن يكون نصيبنا من ذلك أوفر نصيب و أعظم حظ ، و لا حول و لا قوة إلا بالله ) [ الفتاوى الكبرى : 6 / 92] .
و قال أيضاً : ( ليس لأحد أن يتبع زلات العلماء كما ليس له أن يتكلم في أهل العلم و الإيمان إلا بما هم له أهل ) [ الفتاوى الكبرى : 2 / 23 ، و مجموع الفتوى : 32 / 239 ] .
و قال الإمام الذهبي في ترجمة الإمام محمد بن نصر المروزي : ( و لو أنا كلما أخطأ إمام في اجتهاده في آحاد المسائل خطأً مغفوراً له قمنا عليه و بدَّعناه ، و هجرناه ، لما سلم معنا ابن نصير ، و لا ابن مندة ، و لا من هو أكبر منهما ، و الله هو هادي الخلق إلى الحق ، هو أرحم الراحمين ، فنعوذ بالله من الهوى و الفظاظة ) [ سير أعلام النبلاء : 40/14 ] .
الثاني : الإعراض عن المسائل المعدودة من قبيل زلات العلماء ، و عدم ذكرها أو العمل بها ، أو الانتصار لها ، أو الدعوة إليها ، كي لا يغترّ أحدٌ بها لصدورها من عالم موثوق في علمه ، و عدالته ، و رجاحة رأيه ، فيصير الناس إلى تقليده فيها مع ظهور الخطأ عنده ، و جلاء الحق عند غيره ، أو إلى الطعن فيه ، و غمز قناته ممّن دأبوا على تتبّع السقطات ، و الطعن في العلماء و الدعاة .
قال ابن الجوزي في كتابه السر المكتوم : ( هذه الفصول هي أصول الأصول و هي ظاهره البرهان ، لا يهولنك مخالفتها لقول معظم في النفس ، و قد قال رجل لعلي عليه السلام أتظن أنا نظن أن طلحة و الزبير على الخطأ و أنت على الصواب ؟ فقال : إنه ملبوس عليك ، اِعرِف الحق تعرف أهله . و قال رجل للإمام أحمد بن حنبل رحمه الله إن ابن المبارك قال كذا فقال إن ابن المبارك لم ينزل من السماء [ الفروع في الفقه الحنبلي : 6 / 381 ] .
و قال الإمام القرطبي [ في تفسيره : 10 / 131 ] و قد ذَكَرَ الخلاف في حكم شرب النبيذ : ( فإن قيل : فقد أحل شربه إبراهيم النخعي ، و أبو جعفر الطحاوي ، و كان إمام أهل زمانه ، و كان سفيان الثوري يشربه ، قلنا : ذكر النسائي في كتابه أن أول من أحل المسكر من الأنبذة إبراهيم النخعي ، و هذه زلة من عالم ، و قد حُذِّرْنا من زلة العالم ، و لاحجة في قول أحد مع السنة ) .
و قال شيخ الإسلام : ( إن الله سبحانه كما غفر للمجتهد إذا أخطأ ، غفر للجاهل إذا أخطأ و لم يمكنه التعلم ، بل المفسدة التى تحصل بفعل واحد من العامة محرماً لم يعلم تحريمه و لم يمكنه معرفة تحريمه ، أقل بكثير من المفسدة التى تنشأ من إحلال بعض الأئمة لما قد حرمه الشارع ، و هو لم يعلم تحريمه و لم يمكنه معرفة تحريمه ، و لهذا قيل : احذروا زلة العالم فإنه إذا زل زل بزلته عالَمٌ ) [ مجموع الفتاوى : 20 / 274 ] .
فالديانة ـ إذن ـ في متابعة الحق و أخذه من لسان و مقال من قال به كائناً من كان ، و الإعراض عن الخطأ ، و ردّه على من قال به كائناً من كان ، و حذار حذار من غلوٍ في متبوع يصد عن اتباع المشروع .
يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : ( ألا لا يقلدن أحدكم دينه رجلاً إن آمن آمن وإن كفر كفر فإنه لا أسوة في الشر) .(/5)
و ما أبلغ و أحكم قول معاذ بن جبل رضي الله عنه فيما رواه عنه أبو داود بإسنادٍ صحيح : ( و أحذركم زيغة الحكيم ، فإن الشيطان قد يقول كلمة الضلالة على لسان الحكيم ، وقد يقول المنافق كلمة الحق ، قال الراوي : قلت لمعاذ : ما يدريني – رحمك الله – أن الحكيم قد يقول كلمة الضلالة ، و أن المنافق قد يقول كلمة الحق ؟ قال : بلى ، اجتنب من كلام الحكيم المشبهات التي يقال لها : ما هذه ، و لا يثنينك ذلك عنه فإنه لعله أن يراجع ، و تلقّ الحق إذا سمعته فإن على الحق نوراً ) .
فإذا تقرر هذا و بان الحق فيه ، ظهر لنا أن من زلات العلماء التي ينبغي الإعراض عنها ، مع إحسان الظن فيمن وقع فيها مجتهداً ـ تقديم بعض العلماء أقوال أئمة المذاهب على سواها ، و إن ظهر لهم في خلافه الحقُّ بدليله من الكتاب أو السنّة الثابتة ـ و من أمثلة ذلك ما قاله بعض المالكيّة : ( لما قال مالك في رواية ابن القاسم في المدونة أكره القبض في الفريضة تركته ، و لو كان في الموطأ و الصحيحين الاقتصار على حديث الأمر به و ما توفيقي إلا بالله عليه توكلت و إليه أنيب ) .اهـ . [ فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك ] .
و مثل هذا القول في النكارة ما ينسب إلى الإمام السبكي الشافعي ، من قول : ( الحكم بخلاف الصحيح في المذهب مندرج في الحكم بخلاف ما أنزل الله تعالى ) .
و نحو هذا كثير في كلام متعصّبة المذاهب .
و هو ما لا نقرّه ، و لا نقول به ، بل يتعين علينا و نحن ننشد الحق ، و لا نتعصّب لأحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نبرأ من كلّ ما خالف الشرع و نردّه على قائله ، و ننظر في حال من قال به ، و نرى قوله : ( إما زلة عالم و وهلة فاضل عاقل ; أو افتراء كاذب فاسق ) بحسب حاله ، كما قال الإمام ابن حزم الظاهري في معرض ردّه بعض الأقوال الفاسدة [ انظر : المحلى : 3 / 219 ] .
المقصد السادس
في بيان الواجب على العالم إذا بان خطؤه
البشر هم البشر ، لا عصمة لأحدٍ منهم بعدَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بل كلّهم خطاء ، و خير الخطّائين التوابون .
و قد نُدبنا إلى الرجوع عن الخطأ ، و التوبة من المعصية ، و لا فَرق في ذلك بين عامي و عالم ، أو أمير و مأمور ، أو كبير و صغير .
و مِن جملة الأخطاء التي يجب الرجوع عنها ما يقع فيه العالم من زلات في الفتيا و التأليف أو غير ذلك ، و حريٌّ به إن بان له الحق أن يرجع إليه ، و يعضَّ عليه بالنواجذ ، لينجو بنفسه ، و ينجو بنجاته الأتباع من بعده .
و له في ذلك أسوة حسنةٌ في نبيِّ الرحمة صلى الله عليه وسلم الذي ما ترك خيراً إلا و أرشدنا إليه ، و لا شراً إلا أخذ بحُجَزِنا فصرفنا عنه ، و حذَّرَنا منه ، و قد كان مدرسةً في اتباع الحقّ و الرجوع عمّا يخالفه .
فقد قعد رسول الله صلى الله عليه وسلم و أبو بكر يبكيان بعد أن تبيّن لهما الحق في مسألة أسارى بدر ، خلافاً لما ذهبا إليه .
أخرج مسلم في صحيحه عن عمَر بن الخطّاب رضي الله عنه في قصّة أسارى بدر ـ و كانوا سبعين رجلاً من المشركين ـ أنّهم : ( لما أسروا الأسارى ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر ، و عمر : ( ما ترون في هؤلاء الأسارى ؟ ) فقال أبو بكر : يا نبي الله هم بنو العم و العشيرة أرى أن تأخذ منهم فديةً ، فتكون لنا قوةً على الكفار ، فعسى الله أن يهديهم للإسلام . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما ترى يا ابن الخطاب ؟ ) قلت : لا و الله يا رسول الله ، ما أرى الذي رأى أبو بكر ، و لكني أرى أن تُمكنا فنضرب أعناقهم ... فهَوِيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ، و لم يهوَ ما قلتُ ، فلما كان من الغد جئتُ ، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم و أبو بكر قاعِدَين يبكيان ، قلت : يا رسول الله أخبرني من أي شيء تبكي ، أنت و صاحبك فإن وجدت بكاءً بكيتُ ، و إن لم أجد بكاءً تباكيتُ لبكائكما . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أبكي للذي عَرض علي أصحابك من أخذهم الفداء ، لقد عُرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة ، شجرة قريبة من نبي الله صلى الله عليه وسلم ، و أنزل الله عز و جل : ( مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَ اللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ و اللهُ عَزيزٌ حَكِيمٌ ) [ الأنفال : 67 ] .
فما أروعه من مثَل ، و يالِحُسنِها من تربية !
نبيّ الرحمة ، و صدّيق هذه الأمّة ، يبكيان ، و يعلّمان الدعاة و العلماء ، أدباً رفيعاً من آداب الدعاة ، في الرجوع إلى الحق ، و التمسك به .
و هكذا كان أصحابه رضوان الله عليهم من بعده ، يتلمسون سبل الهدى ، و ينصاعون إلى الحق ، و يعرضون عمّا يخالفه ، و لا يجد الواحد منهم غضاضةً في الرجوع عن رأيه ، و قبول الحقّ ممّن جاء به ، كائناً من كان .
كيف ، و هم المتواصون بالحقّ ، المتواصون بالصبر !!(/6)
و ما أجمل قول فاروق هذه الأمة رضي الله عنه في كتابه لمعاوية بن أبي سفيان عامله على الشام : ( و لا يمنعك قضاء قضيته بالأمس راجعت فيه نفسك و هديت لرشدك أن تراجع الحق فإن الحق قديم و مراجعة الحق خير من التمادي في الباطل ) .
قال السرخسي رحمه الله معقباً على كلام الفاروق هذا : ( و ليس هذا في القاضي خاصة بل هو في كل من يبين لغيره شيئا من أمور الدين الواعظ و المفتي و القاضي في ذلك سواء إذا تبين له أنه زل فليُظهر رجوعه عن ذلك ، فزلة العالم سبب لفتنة الناس ... و قوله : الحق قديم ؛ يعنى هو الأصل المطلوب ، و لأنه لا تنكتم زلة من زل ، بل تظهر لا محالة فإذا كان هو الذي يظهر على نفسه كان أحسن حالاً ، ثم العقلاء ، من أن تظهر ذلك عليه مع إصراره على الباطل ) [ المبسوط : 16 / 62 ] .
قلت : و ما إصرار المخطئ على خطئه بعد قيام الحجة عليه ، و وضوح المحجّة بين يديه ، إلا ضرب من ضروب المكابرة ، لا يصير إليها إلا مخذول أخذته العزّة بالاثم ، فآثر العاجل على الآجل ، و هذا حال علماء السوء الذين ابتليت بهم الأمّة قديماً و حديثاً ، و لهؤلاء خطر داهمٌ تتعيّن مقابلته بالنكير و التحذير .
روى مسلم في صحيحه عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي ، و لا يستنون بسنتي ، و سيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس ) .
و روى أحمد و غيره بإسناد حسن عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال لكعب : إني أسألك عن أمر فلا تكتمني قال : و الله لا أكتمك شيئاً أعلمه . قال : ما أخوف شيءٍ تخافه على أمة محمد صلى الله عليه وسلم ؟ قال : أئمة مضلون . قال عمر : صدقت ، قد أسر ذلك إليَّ و أعلمنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم .
و قال عبد الله بن المبارك رحِمَه الله :
و هل أفسد الدين إلا الملوك *** و أحبار سوء و رهبانها
و مثل أحبار ( علماء ) السوء كما روي عن المسيح عليه السلام : كمثل صخرة وقعت في فم النهر ، لا هي تشرب و لا هي تترك الماء يخلص إلى الزرع ، أو كمثل قناة الحُش ظاهرها جص و باطنها نتن ، و مثل القبور ظاهرها عامر و باطنها عظام . [ انظر : إحياء علوم الدين: 1/74 ] .
و ردعاً لهؤلاء ( ينبغي للإمام أن يتصفح أحوال المفتيين ، فمن صلح للفتيا أقره ، و من لا يصلح منعه ، و نهاه أن يعود ، و تواعده بالعقوبة إن عاد ، و طريق الإمام إلى معرفة من يصلح للفتوى ، أن يسأل علماء وقته ، و يعتمد أخبار الموثوقين فيهم ) قاله الخطيب البغدادي [ كما في آداب الفتوى ، للنووي ، ص : 17 ، 18 ] .
قال ابن القيم رحمه الله : ( من أفتى الناس ، و ليس بأهل للفتوى فهو آثم عاصٍ ، و من أقره من ولاة الأمور على ذلك فهو آثم أيضاً ) .
ثمّ نقل عن أبي الفرج ابن الجوزي رحمه الله قوله : ( و يلزم ولي الأمر منعهم كما فعل بنو أمية ، و هؤلاء بمنزلة من يدل الركب و ليس له علم بالطريق ، و بمنزلة الأعمى الذي يرشد الناس إلى القبلة ، و بمنزلة من لا معرفة له بالطب ، و هو يطب الناس ، بل هو أسوأ حالاً من هؤلاء كلهم، و إذا تعين على ولي الأمر منع من لم يحسن التطبب من مداواة المرضى فكيف بمن لم يعرف الكتاب و السنة و لم يتفقه في الدين ! ) [ إعلام الموقّعين : 4 / 17 ] .
خاتمة
و بعد فقد علَّق الإمام البخاري في صحيحه عن عمار بن ياسر رضي الله عنهما قوله : ( ثلاث من جمعن فقد جمع الإيمان : الإنصاف من نفسك ، و بذل السلام للعالم ، و الإنفاق من الإقتار ) .
قال الحافظ في الفتح : ( قال أبو الزناد بن سراج و غيره : إنما كان من جمع الثلاث مستكملاً للإيمان لأن مداره عليها ; لأن العبد إذا اتصف بالإنصاف لم يترك لمولاه حقاً واجباً عليه إلا أداه , و لم يترك شيئاً مما نهاه عنه إلا اجتنبه , و هذا يجمع أركان الإيمان ) [ فتح الباري : 1 / 83 ] .
قلتُ : و بقَدر ما يبتعد المرء عن الإنصاف ، يكون الصواب عنه بعيداً ، و من رامَ الحقَّ ، أنصفَ الخَلقَ و رَحِمَهم .
و طلباً للإنصاف ، و إحقاقاً للحق ، لا غيرَ كان عَملي في هذا البحث ، تربيةً لنفسي ، و تذكيراً لإخواني طلبة العلم بما ينبغي أن يكون عليه الحال تجاه أهل العلم و الفضل .
و خشية الإفراط في إجلال العلماء ، و تقديسهم عن الأخطاء ، كان لزاماً علينا التذكير بأنّهم بشَرٌ يصيبون و يخطئون ، و إن كانوا في معظم الأحوال موافقين للحقّ فيما يقولون و يفعلون ، و أنّهم عنه لا يعدلون ، إلا أن تقَع منهم زلّة ، في حال التباسٍ أو غَفلة .
فإن وقَعَت منهم الزلّة ( أو وَقعوا فيها ) رأيتَ الناس بسبَبِها فِسطاطين ، مُفرِطٌ و مُفَرِّط .
مُفرِطٌ في تتبّع الزلاّت سواء كان قَصدُه الأخذ بها في العَمَل تَرخُّصاً ، أو الطَعن بسببها فيمن صدَرَت عنه تطاولاً و تنقصاً .(/7)
و مُفرّطٌ فيما أوجبه الله عليه ، من عدَم التقديم بينَ يديه ، و عَدَم الغلوّ في أحَدٍ من خلقه بالردّ – قبل الكتاب و السنّة - إليه .
و كلا الفريقين مجانبٌ للصواب ، صائرٌ إلى تباب ، ما لم يمتنَّ الله عليه بالتوبة قبل الحساب .
و قد بيّنت في رسالتي هذه ما يقتضي المقام تبيانه في هذا الباب ، باذلاً في طلب الحق و تقريبه للخلق وسعي ، فإن أصبت فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ، و إن أخطأتُ فمِن نفسي و من الشيطان ، و اللهَ تعالى أسألُ أن يغفر زلّتي ، و يقيل عثرتي .
و أفوّض أمري إلى الله ، إنّ الله بصير بالعباد
و الحمد لله ربّ العالمين
و صلّى الله و سلّم على نبيّنا محمّد ، و آله ، و صحبه أجمعين
و كتب
أحمد بن عبد الكريم نجيب
( الملقّب بالشريف )
دَبْلِن ( إيرلندا ) في غرّة جمادى الآخرة عام 1423 للهجرة
الموافق العاشر من يوليو ( تمّوز ) عام 2002 للميلاد
http://www.saaid.net/Doat/Najeeb
alhaisam@msn.com(/8)
موقف الغرب من الإسلام
سهيلة زين العابدين حمَّاد 10/3/1424
11/05/2003
لقد وقف الغرب من الإسلام موقفاً عدائياً عبر التاريخ، ويظهر هذا العداء بجلاء ووضوح في الآتي:
1-الحروب الصليبية:
حارب الغرب الإسلام، والحروب الصليبية التي شنها على الإسلام -مدى قرنين من الزمان- أكبر دليل على هذا .
الحركة الاستشراقية:
عندما فشلت هذه الحروب في تحقيق أهدافها، احتضنت الكنيسة الاستشراق الذي استمر على مدى ثمانية قرون يهاجم الإسلام، وينال من التشريعات القرآنية، ومن سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومن النبي الكريم، لتشويه الإسلام، وسيرة نبيه -صلى الله عليه وسلم- للحيلولة دون إسلام النصارى، ولتنصير المسلمين، وللسيطرة على المسلمين سياسياً وعسكرياً واقتصادياً واحتوائهم علمياً وفكرياً، ولا تزال الحركة الاستشراقية مستمرة حتى يومنا هذا، وقد تغير مسماها، إذ أصبحت تحمل مسمى الدراسات (الشرق أوسطية) ملقية بمصطلح (الاستشراق) في مزبلة التاريخ -بعدما كُشفت أغراضه وأهدافه- مركزة على هذه المنطقة التي تضم المقدسات الإسلامية، وباعتبارها محور الصراع، مع سيرها على ذات المنهج. ولقد صرَّح المستشرق اليهودي الفرنسي (مكسيم ردنسون) أنَّهم لن يتخلوا عن مناهجهم إرضاءً للعرب .
3-دعوة البابوية استقبال الألفية الثالثة بلا إسلام:
والإسلام ظل –وسيظل- مخيفاً لأعدائه الذين يخططون للقضاء على كل ما هو إسلامي، ويرهبهم الجهاد في سبيل الله للدفاع عن الأوطان وتحريرها، فعملوا على تغييب الجهاد واعتباره إرهاباً، وملاحقة المجاهدين في فلسطين وغيرها كإرهابيين لتصفيتهم والقضاء عليهم، والحملة الحالية الموجهة ضد الإسلام، وضد المملكة ليست وليدة أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وإنَّما مخطط لها منذ سنين طويلة، فلقد أعلن (بابا الفاتيكان) في المجمع المسكوني عام 1965م أنهم سوف يستقبلون الألفية الثالثة بلا إسلام، ففي شهر مايو عام 1992م صرَّح نائب الرئيس الأمريكي في حفل الأكاديمية البحرية الأمريكية بولاية (ماريلاند) أنَّهم قد أخيفوا في هذا القرن بثلاثة تيارات هي: الشيوعية، والنازية، والأصولية الإسلامية، وقد سقطت الشيوعية والنازية، ولم يبق أمامهم سوى الأصولية الإسلامية.
4- إعلانهم في مؤتمر التنصير -الذي عقد في (كلورادو) بالولايات المتحدة- أنّ الحضارة الإسلامية شرّ برمتها، ويجب العمل على اقتلاعها من جذورها، وأنَّ كلمة (مسجد) و (مسلم) تستفزهم.
4-إعلان جورج بوش حرب صليبية ثانية على الإسلام:
فما أعلنه الرئيس الأمريكي أنَّ حرب الإرهاب هي حرب صليبية على الإسلام لم تكن زلة لسان، وكل الأحداث التي حدثت -والمخطط لها- تؤكد أنَّ هناك حرباً شرسة على الإسلام على مختلف الجبهات، وعلى كل الأصعدة، والحملة المكثفة على المملكة العربية السعودية تؤكد ذلك؛ لأنَّ المملكة مهد الإسلام، ولأنَّها أكثر الدول الإسلامية اهتماماً بتحفيظ القرآن الكريم للجنسين، وبتدريس المواد الدينية من تفسير للقرآن الكريم، وحديث وتوحيد وفقه في جميع المراحل الدراسية، وذلك لينشأ أبناؤها على أسس سليمة من العقيدة.
والغربيون يدركون تماماً أنّ الدين الإسلامي والتاريخ الإسلامي يخلوان من الحقد الديني الذي يمتلئ به التاريخ الأوروبي، وتلمود اليهود وتشريع التوراة المحرفة، وتاريخ اليهود الصهاينة في فلسطين.
والذي يؤكد ما أقوله إنَّ التلمود يبيح دماء وأعراض وأموال غير اليهود، ويسب سيدنا عيسى -عليه السلام- ويشتمه، وإسرائيل قائمة على أساس الدين بكل ما تحمله عقيدتهم من استعلاء على الشعوب، وأنَّهم شعب الله المختار، وإسرائيل بكل ما تقوم من حرب إبادة لشعب بأكمله -وهو أعزل- وتضربه بالطائرات والصواريخ والدبَّابات، وتجرف الأراضي، وتهدم المنازل، وتقتل الأطفال والنساء والشيوخ، وتروع الآمنين، وتمثل بجثث القتلى من الأطفال، وتنزع منها أعضاءها، هذا كله لا يعد إرهاباً في نظر الغرب، بل اعتبروا جهاد الشعب الفلسطيني ومقاومته للاحتلال الصهيوني إرهاباً، مع أنهم قاوموا هم من احتل أراضيهم، فأمريكا قاومت الاستعمار البريطاني، وفرنسا قاومت الاحتلال الألماني لأراضيها.
والواضح أنّ نجاح انتفاضة الأقصى -فيما ألحقته من خسائر لإسرائيل- جعلت الصحف الإسرائيلية –الآن- تتحدث عن انهيار إسرائيل، وقد أصبح الآن عدد النازحين من إسرائيل من اليهود أكثر من المهاجرين إليها، إضافة إلى الخسائر المالية التي تكاد تشل اقتصاد إسرائيل، فهذا ضاعف من جنون الغرب، -ولا سيما أمريكا- الموجه حملاته ضد الإسلام، وكل ما هو إسلامي، وتجفيف منابع الجمعيات الخيرية التي تدعم الشعب الفلسطيني بصورة خاصة؛ لإجهاض الانتفاضة والقضاء عليها .(/1)
وينبغي ألا ننسى أنَّ هذه الحملات التي تحركها وتصعدها الصهيونية العالمية؛ لأنهم مستفيدون منها إلى حد كبير، كما لا يخفى على الجميع مدى سيطرة الصهيونية على وسائل الإعلام الغربية، من صحافة وإذاعة وتلفزيون وسينما ومسرح، وشركات إعلان، وكذلك على مصادر الخبر، وهي وكالات الأنباء، فجريدة (النيويورك تايمز) -التي تقود حملة شعواء على المملكة- صاحبها يهودي، والكاتب الصحفي بها -المتحامل على الإسلام- يهودي صهيوني، وهذا يجعلنا ندرك أبعاد هذه الحمل(/2)
موقف المسلمين من الحكام والسلاطين
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
فإن قضايا الحاكم والحكومات؛ من الأمور العظام التي وقع فيها خلط وتخليط ورغبات، وعظمت فيها الأهواء وارتفعت الرايات، وشنت من أجلها الغارات والهجمات، حتى وصل فيها الأمر مع المخالف إلى التبديع والتفسيق والرمي بعظيم الملمات، بل ربما وصل الحد إلى التكفير والرمي بأبشع الضلالات.
والأمر يحتاج إلى تثبت ووقفات؛ قبل إصدار الحكم أو التسرع بإعلان الحرب وشن الغارات.
حاجة الناس إلى حاكم يسمعون و يطيعون له
فإن من المعلوم بالضرورة من دين الإسلام أنه لا دين إلا بجماعة و لا جماعة إلا بإمامة و لا إمامة إلا بسمع و طاعة و أن الخروج عن طاعة ولي الأمر و الدعوة للخروج عليه من أعظم أسباب الفساد في البلاد و العباد و العدول عن سبيل الهدى و الرشاد(1).
قال الحسن البصري: "و الله لا يستقيم الدين إلا بولاة الأمر و إن جاروا و ظلموا و الله لما يصلح الله بهم أكثر مما يفسدون"(2).
و قال ابن رجب: "السمع و الطاعة لولاة أمور المسلمين فيها سعادة الدنيا و بها تنتظم مصالح العباد في معايشهم و بها يستعينون على إظهار دينهم و طاعة ربهم"(3).
و الخروج عن طاعة ولي الأمر و الدعوة للخروج عليه بغزو أو غيره: "معصية و مشاقة لله و رسوله و مخالفة لما عليه أهل السنة و الجماعة السلف الصالح"(4).
وقد وقعت مقاييس في الجيل الأول وتفاضل بين الحكام أدى إلى فساد عريض كما قورن بين سيرة عثمان رضي الله عنه في حكمه وبين سيرة أبي بكر وعمر مما أدى إلى التجرؤ عليه وأفضى ذلك إلى قتله رضي الله عنه وكذلك ما وقع لعلي رضي الله عنه ووصل الحد إلى تكفيره والخروج عليه وهكذا كلما قورن الحاكم بمن قبله وقع الخلل وعظم التباين إن لم ينضبط بضابط من الشرع.
موقف أهل السنة من حكام المسلمين
والحاكم هو كل من تولى أمر المسلمين؛ سواء كان قرشيا أو غير قرشي عبدا أو حرا, تولى بمشورة واختيار أو بغلبة وقهر, برا كان أو فاجرا, سنيا كان أو مبتدعا, فهؤلاء جميعا يجب لهم السمع والطاعة في المنشط والمكره والعسر واليسر ما لم يأمروا بمعصية.
عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (تَكُونُ النُّبُوَّةُ فِيكُمْ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةٌ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَرْفَعَهَا ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا عَاضًّا فَيَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا جَبْرِيَّةً فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةً عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ ثُمَّ سَكَتَ) [رواه أحمد (17939)]
فقد بين النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن هؤلاء جميعا هم حكام المسلمين فيهم البر والفاجر والعدل والظالم مع الأخذ في الاعتبار أنها لا تكون ابتداء إلا في قريش.
فوجبت طاعتهم والإحسان لمحسنهم والصبر على مسيئهم وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار أنهم سيحرمون هذا الأمر بعده ووعدهم بالأجر في الآخرة.
عَنْ أَنَسِ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْأَنْصَارِ: (إِنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي وَمَوْعِدُكُمْ الْحَوْضُ) [البخاري (3793)]
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (فَإِنْ كَانَ لِلَّهِ يَوْمَئِذٍ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةٌ جَلَدَ ظَهْرَكَ وَأَخَذَ مَالَكَ فَالْزَمْهُ) [رواه أحمد]
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَإِنْ اسْتُعْمِلَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ كَأَنَّ رَأْسَهُ زَبِيبَةٌ) [البخاري (7142)]
قال الحافظ "الفتح": الإمامة لا تكون إلا في قريش وأجمعت الأمة أنها لا تكون في العبيد، وأما لو تغلب عبد حقيقة بطريق الشوكة فإن طاعته تجب إخمادا للفتنة ما لم يأمر بمعصية.
ولا تشق عصا الحكام ولا يخرج عليهم أحد من المسلمين؛ لا سرا ولا جهرا مادام يحكم لهم بالإسلام, ولا يكفر الحاكم بشبه ولا بأمر عليه خلاف بل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم كفرا بواحا, أي واضحا بينا لا غموض فيه ولا لبس, عندكم فيه من الله برهان لا مرجع لهوى أو إلى أراء الرجال.(/1)
فعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ دَعَانَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَايَعْنَاهُ فَقَالَ فِيمَا أَخَذَ عَلَيْنَا: (أَنْ بَايَعَنَا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي مَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا وَعُسْرِنَا وَيُسْرِنَا وَأَثَرَةً عَلَيْنَا وَأَنْ لَا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ إِلَّا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ مِنْ اللَّهِ فِيهِ بُرْهَانٌ) [البخاري (7056)]
قال الحافظ في الفتح: قوله (وَأَثَرَةً عَلَيْنَا) بفتح الهمزة والمثلثة, والمراد أن طواعيتهم لمن يتولى عليهم لا تتوقف على إيصالهم حقوقهم بل عليهم الطاعة ولو منعهم حقهم. قوله (وَأَنْ لَا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ) أي الملك والإمارة, زاد أحمد من طريق عمير بن هانئ عن جنادة (وإن رأيت أن لك) -أي وإن اعتقدت أن لك- في الأمر حقا فلا تعمل بذلك الظن بل اسمع وأطع إلى أن يصل إليك بغير خروج عن الطاعة, زاد في رواية أبي النضر عن جنادة عند ابن حبان وأحمد (وإنْ أَكَلُوا مَالَكَ وَضَرَبُوا ظَهْرَك).
قوله (إِلَّا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا) بموحدة ومهملة قال الخطابي: معنى قوله بواحا يريد ظاهرا باديا من قولهم باح بالشيء يبوح به بوحا وبواحا إذا أذاعه وأظهره.أهـ
فلا يجوز منازعتهم أو الخروج عليهم إلا بكفر واضح بين لا شبهة فيه.
عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (سَتَكُونُ أُمَرَاءُ فَتَعْرِفُونَ وَتُنْكِرُونَ فَمَنْ عَرَفَ بَرِئَ وَمَنْ أَنْكَرَ سَلِمَ وَلَكِنْ مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ قَالُوا أَفَلَا نُقَاتِلُهُمْ قَالَ لَا مَا صَلَّوْا) [مسلم (1854)]
وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من الخروج عليهم وبين الوعيد في الدنيا والآخرة لمن أراد أن يشق العصا.
ففي الدنيا:
عَنْ عَرْفَجَةَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (إِنَّهُ سَتَكُونُ هَنَاتٌ وَهَنَاتٌ فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُفَرِّقَ أَمْرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَهِيَ جَمِيعٌ فَاضْرِبُوهُ بِالسَّيْفِ كَائِنًا مَنْ كَانَ) [مسلم (1852)]
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ النَّفْسُ بِالنَّفْسِ وَالثَّيِّبُ الزَّانِي وَالْمَارِقُ مِنْ الدِّينِ التَّارِكُ لِلْجَمَاعَةِ) [البخاري (6878)]
وفي الآخرة:
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا فَكَرِهَهُ فَلْيَصْبِرْ فَإِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ يُفَارِقُ الْجَمَاعَةَ شِبْرًا فَيَمُوتُ إِلَّا مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً) [البخاري (7143)]
قال البخاري: بَاب إِذَا قَالَ عِنْدَ قَوْمٍ شَيْئًا ثُمَّ خَرَجَ فَقَالَ بِخِلَافِهِ .
عَنْ نَافِعٍ قَالَ لَمَّا خَلَعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ جَمَعَ ابْنُ عُمَرَ حَشَمَهُ وَوَلَدَهُ فَقَالَ إِنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (يُنْصَبُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَإِنَّا قَدْ بَايَعْنَا هَذَا الرَّجُلَ عَلَى بَيْعِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنِّي لَا أَعْلَمُ غَدْرًا أَعْظَمَ مِنْ أَنْ يُبَايَعَ رَجُلٌ عَلَى بَيْعِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُنْصَبُ لَهُ الْقِتَالُ وَإِنِّي لَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْكُمْ خَلَعَهُ وَلَا بَايَعَ فِي هَذَا الْأَمْرِ إِلَّا كَانَتْ الْفَيْصَلَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ) [البخاري (7111)]
قال الحافظ ابن حجر: وفد إلى يزيد جماعة من أهل المدينة منهم عبد الله بن غسيل الملائكة حنظلة بن أبي عامر وعبد الله بن أبي عمرو بن حفص المخزومي في آخرين فأكرمهم وأجازهم, فرجعوا فأظهروا عيبه ونسبوه إلى شرب الخمر وغير ذلك, ثم وثبوا على عثمان فأخرجوه, وخلعوا يزيد ابن معاوية فبلغ ذلك يزيد فجهز إليهم جيشا مع مسلم بن عقبة المري وأمره أن يدعوهم ثلاثا فإن رجعوا وإلا فقاتلهم, فإذا ظهرت فأبحها للجيش ثلاثا ثم أكفف عنهم. فتوجه إليهم فوصل في ذي الحجة سنة ثلاثين فحاربوه, وكان الأمير على الأنصار عبد الله بن حنظلة وعلى قريش عبد الله بن مطيع وعلى غيرهم من القبائل معقل بن يسار الأشجعي, وكانوا اتخذوا خندقا, فلما وقعت الوقعة انهزم أهل المدينة, فقتل ابن حنظلة, وفر ابن مطيع, وأباح مسلم بن عقبة المدينة ثلاثا, فقتل جماعة صبرا؛ وكان ابن عمر أنكر الخروج على يزيد وتوعد بالمقاطعة لمن هم بذلك, ولكن وقع المحظور.(/2)
وقد أخرج مسلم من حديث عبد الله بن عمرو رفعه (مَنْ بَايَعَ إِمَامًا فَأَعْطَاهُ صَفْقَةَ يَدِهِ وَثَمَرَةَ قَلْبِهِ فَلْيُطِعْهُ إِنْ اسْتَطَاعَ فَإِنْ جَاءَ آخَرُ يُنَازِعُهُ فَاضْرِبُوا عُنُقَ الْآخَرِ). قوله وإن من أعظم الغدر بعد الإشراك بالله أن يبايع رجل رجلا على بيع الله ثم ينكث بيعته. قوله (ثُمَّ يُنْصَبُ لَهُ الْقِتَالُ) بفتح أوله, وفي رواية مؤمل (نصب له يقاتله). قوله "فلا يخلعن أحد منكم يزيد ولا يسعى في هذا الأمر" (إِلَّا كَانَتْ الْفَيْصَلَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ) أي القاطعة وهي فيعل من فصل الشيء إذا قطعه, وفي هذا الحديث وجوب طاعة الإمام الذي انعقدت له البيعة والمنع من الخروج عليه ولو جار في حكمه وأنه لا ينخلع بالفسق.
فصفة الخروج على الحكام هي عقيدة الخوارج.
قال الذهبي "السير" 3/226: عن الحسن قال لما كان من أمر الناس ما كان زمن الفتنة أتوا ابن عمر فقالوا أنت سيد الناس وابن سيدهم والناس بك راضون اخرج نبايعك فقال لا والله لا يهراق في محجمة من دم؛ ولا في سببي ما كان في رُوح.
قال أبو موسى يوم التحكيم لا أرى لهذا الأمر غير عبد الله بن عمر فقال عمرو بن العاص لابن عمر إنا نريد أن نبايعك فهل لك أن تعطى مالا عظيما على أن تدع هذا الأمر لمن هو أحرص عليه منك, فغضب وقام فأخذ ابن الزبير بطرف ثوبه فقال يا أبا عبد الرحمن إنما قال لتعطي مالا على أن أبايعك فقال والله لا أعطي عليها ولا أعطى ولا أقبلها إلا عن رضى من المسلمين.
قلت - الذهبي: كاد أن تكون البيعة له يومئذ مع وجود مثل الإمام علي وسعد ابن أبي وقاص ولو بويع لما اختلف عليه اثنان ولكن الله حماه وخار له.
وأول خروج كان على علي رضي الله عنه من قبل الخوارج وذلك بعد أن رضي بالتحكيم فكفروه وقال حكم الرجال وأرسل إليهم ابن عباس فناظرهم ورجع منهم جماعة وقاتل الباقين.
موقف أهل السنة من الحكام الجائرين
والأمر الذي عليه أهل السنة والجماعة للحكام إذا ظلموا أو جاروا هو السمع والطاعة في غير معصية طالما أنهم لم يكفروا كفرا صريحا واضحا كالشمس في رابعة النهار قد أجمع عليه العلماء لا خلاف فيه كما سبق في الحديث: (وَأَنْ لَا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ إِلَّا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ مِنْ اللَّهِ فِيهِ بُرْهَانٌ) [البخاري (7056)]
وهذا الحجاج أرسله عبد الملك بن مروان للقضاء على الخوارج والمارقين فكسر شوكتهم وأسرف في القتل وأظهر استخفافا ببعض الصحابة كأنس وابن عمر وكان مبيرا كما أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم.
قتل ابن الزبير وصلبه وشتم أمه أسماء رضي الله عنها.
خرج عليه عبد الرحمن بن الأشعث وكان رجلا صالحا تقيا فبعد أن مكنه الحجاج من جيش عرمر لمتابعة فلول الخوارج خرج فكسرهم ثم دعا القراء بالكوفة للخروج على الحجاج فخرج معه جماعة وأنكر الصحابة والعلماء الخروج حتى قال ابن عمر والله لا أفتح على المسلمين باب فتنة ولا أكون سببا في إراقة محجم دم من مسلم.
وخرج ثلاثة من العلماء ابن أبي ليلى وعامر الشعبي وسعيد ابن جبير وانتهى بهزيمة ابن الأشعث وجيء بالقراء فقتل الحجاج جماعة وأبقى آخرين وأما ابن أبي ليلى فقتل مع ابن الأشعث في معركة دير الجماجم وفر الشعبي وابن جبير, وطلبهما الحجاج وأمسك بهما فلما سألهما عن الخروج اعتذر الشعبي وقال: ما كنا فجارا أقوياء ولا بررة أتقياء, فعفى عنه وأما ابن جبير فقال: كانت في عنقي بيع لابن الأشعث فقتله الحجاج.
قال الذهبي في السير: عن عتبة مولى الحجاج قال حضرت سعيدا حين أتى به الحجاج بواسط فجعل الحجاج يقول ألم أفعل بك ألم أفعل بك فيقول بلى قال فما حملك على ما صنعت من خروجك علينا قال بيعة كانت علي -يعني لابن الأشعث- فغضب الحجاج وصفق بيديه وقال فبيعة أمير المؤمنين كانت أسبق وأولى وأمر به فضربت عنقه.
قال الذهبي: وقيل لو لم يواجهه سعيد بن جبير بهذا لاستحياه كما عفا عن الشعبي لما لاطفه في الاعتذار.
ورغم ذلك لم يكفره أحد أو يجيز الخروج عليه رغم أن جماعة من الصحابة كانوا متوافرين منهم ابن عمر وأنس.
فعن أبي أسامة قال رجل لسفيان: أشهد على الحجّاجِ، وعلى أبي مسلم (5) أنهما في النار، قال: لا؛ إذا أقرّا بالتّوحيد.(6)
إذا أمر ولي الأمر بمعصية
فالسمع والطاعة لولي الأمر واجب فإذا أمر ولي الأمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة لهذه المعصية.
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن السمع و الطاعة تجب لولي الأمر ما لم يأمر بمعصية فإن أمر بمعصية فلا سمع و لا طاعة في تلك المعصية خاصة أما بقية أوامره فتسمع و تطاع كما أخرج البخاري في الصحيح عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِي اللَّه عَنْه عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ حق عَلَى الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ فِيمَا أَحَبَّ وَكَرِهَ مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِمَعْصِيَةٍ فَإِذَا أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلَا سَمْعَ وَلَا طَاعَةَ).(/3)
قال أهل العلم: معناه: تجب طاعة ولاة الأمور فيما يشق و تكرهه النفوس و غيره مما ليس بمعصية فإن كانت معصية فلا سمع و لا طاعة.
و قوله: فلا سمع و لا طاعة يعني فيما أمر به من المعصية فقط فإذا أمر بأمر محرم وجب أن لا يطيعه في ذلك الأمر فلا يمتثل لأن طاعة الله أوجب و لا يفهم من ذلك أنه إذا أمر بمعصية فلا سمع و لا طاعة مطلقاً في كل أوامره بل يسمع و يطاع مطلقاً إلا في المعصية فلا سمع و لا طاعة(7).
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله : إذا أمروا بأمر فإنه لا يخلو من ثلاثة حالات:
الحالة الأولى: أن يكون مما أمر الله به فهذا يجب علينا امتثاله لأمر الله به و أمرهم به لو قالوا: أقيموا الصلاة وجب علينا إقامتها امتثالاً لأمر الله و امتثالاً لأمرهم قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: الآية59]
الحالة الثانية: أن يأمروا بما نهى الله عنه و في هذه الحالة نقول سمعاً و طاعة لله و معصية لكم لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق مثل أن يقول: لا تصلوا جماعة في المساجد فنقول: لا سمع و لا طاعة.
الحالة الثالثة: أن يأمروا بأمر ليس عليه أمر الله و رسوله صلى الله عليه وسلم و لا نهي الله و رسوله صلى الله عليه وسلم: فالواجب السمع و الطاعة لا نطيعهم لأنهم فلان و فلان و لكن لأن الله أمرنا بطاعته و أمرنا بذلك رسوله عليه الصلاة و السلام قال: (اسمع و أطع و إن ضرب ظهرك و أخذ مالك).
و سألوه عن الولاة الذين يأخذون حقهم و يهضمون الرعية حقهم؟ قال: (عليهم ما حملوا و عليكم ما حملتم). حملنا السمع و الطاعة اهـ (8).
السمع والطاعة للحكام الآن
فقد وقع في شأن حكام الزمان نزاع عظيم، فمنهم من أنزلهم منزلة أبي بكر وعمر، وبرر جور بعضهم، وألبسه صبغة الشرع، ومنهم من كفرهم ودعا للخروج عليهم، وفي كلا الأمرين شطط.
فهؤلاء الذين يقولون بأنه لا سمع و لا طاعة لهؤلاء الحكام بحجة أن الأحاديث الواردة في السمع و الطاعة إنما هي في الإمامة العامة العظمى لا الخاصة.. فلا شك أن هذا قول باطل مخالف لإجماع أهل العلم، قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب: الأئمة مجمعون من كل مذهب على أن من تغلب على بلد له حكم الإمام في جميع الأشياء و لولا هذا ما استقامت الدنيا لأن الناس من زمن طويل قبل الإمام أحمد إلى يومنا هذا ما اجتمعوا على إمام واحد و لا يعرفون أحداً من العلماء ذكر أن شيئاً من الأحكام لا يصح إلا بالإمام الأعظم (9).
و قال الإمام الشوكاني: معلوم أنه قد صار في كل قطر الولاية إلى سلطان و في القطر الآخر كذلك، فلا بأس بتعدد السلاطين، و يجب الطاعة لكل واحد منهم بعد البيعة له على أهل القطر الذي ينفذ فيه أوامره و نواهيه، و كذلك صاحب القطر الآخر.
و من أنكر هذا فهو مباهت لا يستحق أن يخاطب بالحجة لأنه لا يعقلها(10).
حكم إنزال أمراء الجماعات منزلة الحكام وأصحاب الولايات
ومن عظيم الأمور وأخطرها على بنيان الأمة وكيانها ما يقع من بعض الجماعات من أخذ البيعة التي لا تنعقد إلا لأصحاب الولايات العظمى لأمرائهم.
وينزل هذا الأمير نفسه منزلة ولي الأمر الذي له القدرة و السلطان على سياسة الناس فيدعوا للسمع و الطاعة له أو أعطته تلك الجماعة بيعة تسمع و تطيع له بموجبها وولي الأمر قائم ظاهر!
و هذا لا شك أنه خطأ عظيم و ذنب جسيم و من فعل هذا فقد حاد الله و رسوله صلى الله عليه وسلم و خالف نصوص الشريعة فلا تجب طاعته بل تحرم إذ لا سلطان له و لا قدرة على شيء أصلاً فعلام يسمع له و يطاع كما يطاع و يسمع لولي الأمر القائم الظاهر.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: النبي صلى الله عليه وسلم أمر بطاعة الأئمة الموجودين المعلومين الذين لهم سلطان يقدرون به على سياسة الناس لا بطاعة معدوم و لا مجهول و لا من ليس له سلطان و لا قدرة على شيء أصلاً.(11)
متابعة الحكام في الأنظمة العامة
من الناس من يقول: إن له الحق في الخروج على الأنظمة العامة التي يضعها ولي الأمر و عدم التقيد بها و أنها لا تلزم الطاعة فيها كالمرور و الجوازات وما يحدث من قوانين لحماية أرصدة البلد إلى آخره بحجة أنها ليست على أساس شرعي و أن طاعة الإمام في الأمور الشرعية فقط أما المباحات و المندوبات فلا تجب!!! و هذا لا شك أنه خطأ نشأ من قلة العلم قال الشيخ عبد العزيز ابن باز رحمه الله تعالى: هذا باطل و منكر بل يجب السمع و الطاعة في هذه الأمور التي ليس فيها منكر بل نظمها ولي الأمر لمصالح المسلمين ويجب الخضوع لذلك و السمع و الطاعة في ذلك لأن هذا من المعروف الذي ينفع المسلمين(12).
و قال العلامة المباركفوري: الإمام إذا أمر بمندوب أو مباح وجب(13).
إذا لم يطلب الإمام بيعة لجميع المسلمين
بعض الناس يقول أنا لم أبايع الإمام فلا سمع له عندي! و هذا لا شك أنه خطأ من القول و جهل من صاحبه.(/4)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ما أمر الله به و رسوله صلى الله عليه وسلم من طاعة ولاة الأمور و مناصحتهم واجب على الإنسان و إن لم يعاهدهم عليه و إن لم يحلف لهم الأيمان المؤكدة اهـ(14).
قال الشيخ ابن باز: إذا اجتمع المسلمون على أمير وجبت الطاعة على الجميع و لو ما بايع بنفسه، الصحابة و المسلمون ما بايعوا أبا بكر بايعه من في المدينة و لزمت البيعة للجميع. اهـ(15).
الجهاد تحت راية ولي الأمر
الجهاد من أعظم و أكبر ما يختص به ولي الأمر فإذا كان آحاد الناس يدعون إليه فستكون فوضى وفتنة عظيمة.
فإذا دعا إليه ولي الأمر قال تعالى: { حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَال } [الأنفال: الآية65] فالمؤمنون تبع لولي أمرهم في ذلك(16).
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: (مَنْ خَرَجَ مِنْ الطَّاعَةِ وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ فَمَاتَ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً وَمَنْ قَاتَلَ تَحْتَ رَايَةٍ عِمِّيَّةٍ يَغْضَبُ لِعَصَبَةٍ أَوْ يَدْعُو إِلَى عَصَبَةٍ أَوْ يَنْصُرُ عَصَبَةً فَقُتِلَ فَقِتْلَةٌ جَاهِلِيَّةٌ وَمَنْ خَرَجَ عَلَى أُمَّتِي يَضْرِبُ بَرَّهَا وَفَاجِرَهَا وَلَا يَتَحَاشَى مِنْ مُؤْمِنِهَا وَلَا يَفِي لِذِي عَهْدٍ عَهْدَهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَلَسْتُ مِنْهُ) [رواه مسلم]
احترام ولي الأمر وعدم انتقاصه وإظهار عيوبه
فقد بين صلى الله عليه وسلم أن ولي الأمر يجب إجلاله و إكرامه و يحرم انتقاصه و إهانته كما أخرج الإمام أحمد في المسند و الترمذي في السنن عَنْ زِيَادِ بْنِ كُسَيْبٍ الْعَدَوِيِّ قَالَ : كُنْتُ مَعَ أَبِي بَكْرَةَ تَحْتَ مِنْبَرِ ابْنِ عَامِرٍ وَهُوَ يَخْطُبُ وَعَلَيْهِ ثِيَابٌ رِقَاقٌ فَقَالَ: أَبُو بِلَالٍ انْظُرُوا إِلَى أَمِيرِنَا يَلْبَسُ ثِيَابَ الْفُسَّاقِ فَقَالَ: أَبُو بَكْرَةَ اسْكُتْ فإني سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (مَنْ أَكْرَمَ سُلْطَانَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي الدُّنْيَا أَكْرَمَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَنْ أَهَانَ سُلْطَانَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي الدُّنْيَا أَهَانَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ).
فتأملوا كيف أن أبا بكرة رضي الله عنه اعتبر الكلام في ولي الأمر و القدح فيه من إهانته و قد علق الإمام الذهبي رحمه الله على هذه القصة بقوله: أبو بلال هذا خارجي و من جهله عدَّ ثياب الرجال الرقاق لباس الفساق(17).
الأمر بالصبر و النهي عن نزع يد من طاعة
وقد أمر صلى الله عليه وسلم بالصبر و نهى عن نزع يد من طاعة و لو رأى الحاكم على معصية كما أخرج مسلم في الصحيح عن عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيَّ قال: قال رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ وَلِيَ عَلَيْهِ وَالٍ فَرَآهُ يَأْتِي شَيْئًا مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ فَلْيَكْرَهْ مَا يَأْتِي مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَلَا يَنْزِعَنَّ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ).
و أخرج مسلم في الصحيح عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مَنْ كَرِهَ مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا فَلْيَصْبِرْ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ خَرَجَ مِنَ السُّلْطَانِ شِبْرًا فَمَاتَ عَلَيْهِ إِلَّا مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً).
و أخرج البخاري في تاريخه عن وائل أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن كان علينا أمراء يعملون بغير طاعة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (عليهم ما حملوا و عليكم ما حملتم).
و أخرج مسلم في الصحيح عن حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ قَالَ صلى الله عليه وسلم: (يَكُونُ بَعْدِي أَئِمَّةٌ لَا يَهْتَدُونَ بِهُدَايَ وَلَا يَسْتَنُّونَ بِسُنَّتِي وَسَيَقُومُ فِيهِمْ رِجَالٌ قُلُوبُهُمْ قُلُوبُ الشَّيَاطِينِ فِي جُثْمَانِ إِنْسٍ قَالَ قُلْتُ كَيْفَ أَصْنَعُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ أَدْرَكْتُ ذَلِكَ قَالَ تَسْمَعُ وَتُطِيعُ لِلْأَمِيرِ وَإِنْ ضُرِبَ ظَهْرُكَ وَأُخِذَ مَالُكَ فَاسْمَعْ وَأَطِعْ).
فهذا الحديث العظيم الذي يغفل عنه كثير من الناس: الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بطاعة الأمير و إن ظلم الأمير بأخذ المال و جلد الظهر.
الصبر على جور الأئمة من أصول أهل السنة
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "الصبر على جور الأئمة أصل من أصول أهل السنة و الجماعة"(18).
و هذا حق لأن الأمر بالصبر على جور الأئمة و ظلمهم يجلب من المصالح و يدرأ من المفاسد ما يكون به صلاح العباد و البلاد.(/5)
قال ابن تيمية: "ما يقع من ظلمهم و جورهم بتأويل سائغ أو غير سائغ فلا يجوز أن يزال لما فيه من ظلم و جور كما هو عادة أكثر النفوس تزيل الشر بما هو شر منه و تزيل العدوان بما هو أعدى منه فالخروج عليهم يوجب من الظلم و الفساد أكثر من ظلمهم فيصبر عليه كما يصبر عند الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر على ظلم المأمور و المنهي في مواضع كثيرة"(19).
و قال الشيخ ابن باز: "الخروج على ولاة الأمور يسبب فساداً كبيراً و شراً عظيماً فيختل به الأمن و تضيع الحقوق و لا يتيسر ردع الظالم و لا نصر المظلوم"(20).
و قال أئمة الدعوة: ما يقع من ولاة الأمور من المعاصي و المخالفات التي لا توجب الكفر و الخروج من الإسلام فالواجب فيها مناصحتهم على الوجه الشرعي برفق واتباع ما عليه السلف الصالح من عدم التشنيع عليهم في المجالس و مجامع الناس واعتقاد أن ذلك من إنكار المنكر الواجب إنكاره على العباد و هذا غلط فاحش و جهل ظاهر لا يعلم صاحبه ما يترتب عليه من المفاسد العظام في الدين و الدنيا كما يعرف ذلك من نور الله قلبه و عرف طريقة السلف الصالح و أئمة الدين(21).
و لما أراد بعض العلماء نزع يد الطاعة في ولاية الواثق بسبب فتنة خلق القرآن منعهم الإمام أحمد و ناظرهم في ذلك و قال: عليكم بالإنكار في قلوبكم و لا تخلعوا يداً من طاعة لا تشقوا عصا المسلمين و لا تسفكوا دماءكم و دماء المسلمين معكم و انظروا في عاقبة أمركم و اصبروا حتى يستريح بر و يستراح من فاجر و ليس هذا ـأي نزع أيديهم من طاعة ولي الأمرـ صواباً هذا خلاف الآثار.
فقال بعضهم: إنا نخاف على أولادنا إذا ظهر هذا لم يعرفوا غيره و يمحى الإسلام و يدرس(22)!
فقال لهم الإمام أحمد: كلا إن الله عز و جل ناصر دينه و إن هذا الأمر له رب ينصره و إن الإسلام عزيز منيع فخرجوا من عند أبي عبد الله و لم يجبهم إلى شيء مما عزموا عليه أكثر من النهي عن ذلك و الاحتجاج عليهم بالسمع و الطاعة حتى يفرج الله عن الأمة فلم يقبلوا منه(23) .
و قال العلامة الإمام عبد اللطيف آل الشيخ رحمه الله تعالى : أكثر ولاة أهل الإسلام من عهد يزيد بن معاوية حاشا عمر بن عبد العزيز و من شاء الله من بني أمية قد وقع منهم من الجراءة و الحوادث العظام و الخروج و الفساد في ولاية أهل الإسلام و مع ذلك فسيرة الأئمة الأعلام و السادة العظام معهم معروفة مشهورة لا ينزعون يداً من طاعة فيما أمر الله به و رسوله صلى الله عليه وسلم من شرائع الإسلام لا يعلم أن أحداً من الأئمة نزع يداً من طاعة و لا رأى الخروج عليهم(24).
فبهذه الكلمات أردت بها بيان الصواب في التعامل مع الحكام والأمراء والسلاطين، وبيان هدي السلف الذي هو وسط فلا تجاوز ولا شطط، وأن في استقرار الأحكام الشرعية وإنزالها منازلها المرضية صلاح العباد والبلاد، {وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} [يوسف21]، فنسأل الله العظيم أن يصلح حكامنا وولاة أمرنا لما في طاعة الله عز وجل ومتابعة رسوله صلى الله عليه وسلم ولما فيه خير البلاد والعباد- اللهم آمين.
________________________________________
(1) نصيحة مهمة 23.
(2) جامع العلوم و الحكم (2/117) .
(3) جامع العلوم و الحكم (2/117) .
(4) انظر نصيحة مهمة 29 .
(5) من أمراء الجور
(6) ابن الجعد "المسند" (1905)
(7) معاملة الحكام 78 .
(8) من شريط طاعة ولاة الأمور .
(9) الدرر السنية (7/239) و معاملة الحكام 24 .
(10) السيل الجرار (4/512) مختصراً .
(11) المنهاج (1/115) .
(12) المعلوم19 .
(13) تحفة الأحوذي (5/365) .
(14) المجموع (35/9) .
(15) من شريط طاعة ولاة الأمور .
(16) صالح آل الشيخ / مجلة الدعوة العدد 1816 /16شعبان/1422هـ (33) .
(17) النبلاء (14/508) .
(18) المجموع (28/179) .
(19) المجموع (28/179) .
(20) المعلوم 9 .
(21) نصيحة مهمة 30 .
(22) هذه الشبه يحتج بها كثير ممن لا يصبرون على جور الأئمة !!! فتأمل جواب الإمام أحمد رحمه الله جيداً تجده مطابقاً للسنة .
(23) انظر : محنة الإمام أحمد 70-72 و المجموع (12/488) و المعاملة 7 .
(24) الدرر السنية (7/177) .(/6)
موقفنا من أهل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم -
أبو عبد الله الذهبي..
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، ثم أما بعد: -
لقد تطرقت في حلقة مضت بعنوان (التحرز من الانتساب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا بحق) إلى عدد من الأحاديث التي تزجر عن هذا الفعل..
وقد طُلب مني أن أكتب حلقة أخرى تتعلق بما هو الواجب تجاه أهل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم -.. لذا رأيت أن أنقل ما ذكر في هذا الباب من كلام أهل العلم، مع تعليق بسيط والله الموفق..
إنه مما لاشك فيه أن الناس قد انقسموا في هذا الباب (الموقف من أهل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم -) مواقف شتى.. لكن ماهو الموقف الحق الذي يجب أن يقفه المسلم تجاههم، حتى لا يغلو فيهم، وفي الوقت نفسه لا يجفو عنهم..
ثم إنه لا يشك منصف أن أهل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - من أشرف البيوت نسباً.. ومن أكرمهم أصلاً وطبعاً.. ومن أنبلها أرومة.. وقد أوجب الله علينا محبة هذا البيت الكريم تبعاً ملحبة مُشرّفهم - صلى الله عليه وسلم -، فمحبتهم وبرهم من محبته مبره، وبغضهم من بغضه، فهي عندنا فرض واجب كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية، ويؤجر العبد عليه. انظر مجموع الفتاوى (4 / 487).
والعجيب أن الناس قد انقسموا تجاه هذا البيت الكريم إلى أصناف ثلاثة، ما بين تفريط وإفراط، ولاشك أن بينهما وسط، وهو الطريق المستقيم.. وبيان ذلك: -
الصنف الأول: مُفَرِّطون في حقهم، وهو الجفاة فيهم، البغاة عليهم.
الصنف الثاني: مُفْرِطون في حبهم، متجاوزون الحد الشرعي فيه، وهو الغلاة فيهم.
الصنف الثالث: معتدلون منصفون، مفارقون طريقة الصنفين (الغالين والجافين)، وهم الواسطة بينهما.
جاء في السنة لابن أبي عاصم برقم (1017) من حديث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أنه قال: (ليحبني قوم حتى يدخلون النار فيّ، وليبغضني قوم حتى يدخلون النار في بغضي). وإسناده صحيح.
وجاء أيضاً في السنة لابن أبي عاصم برقم (1018) عن علي - رضي الله عنه - أنه قال: (يهلك فيّ رجلان مُفْرِط في حبي ومُفَرِّط في بغضي) وإسناده حسن.
قال العلامة محمود شكري الألوسي - رحمه الله - في تفسير روح المعاني (25 / 32): والكثير من الناس في حق كلٍّ من الآل والأصحاب في طرفي التفريط والإفراط، وما بينهما هو الصراط المستقيم، ثبتنا الله - تعالى -على ذلك الصراط.
ويقول العلامة صديق حسن خان - رحمه الله - في هذا السياق أيضاً: وهذه المحبة لهم واجبة متحتمة علىكل فرد من أفراد الأمة، ومن حُرِمها فقد حُرم خيراً كثيراً، ولكن لابد فيها من لفظ الإفراط والتفريط، فإن قوماً غلوا فيها فهلكوا، وفرّط فيها قوم فهلكوا، وإنما الحق بين العافي والجافي، والغالي والخالي. انظر: الدين الخالص (ص 3 / 351).
وسيكون الكلام في هذا المبحث بشيئة الله - تعالى -عن مذهب أهل السنة والجماعة في آل البيت، وكيف يتعاملون مع النصوص الواردة في فضلهم؟ وما الحق الذي يرونه واجباً لهم؟ ثم ما الواجب عليهم؟ ثم أذكر شروط تولي أهل السنة لأهل البيت، وأختم المبحث بطرح سؤال مهم، وهو (هل القول بتفضيل بني هاشم يعد تفضيلاً مطلقاً على جميع الشخاص وفي كل الأحوال؟ )..
فأقول وبالله - تعالى -التوفيق: -
موقف السلف تجاه أهل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - موقف الإنصاف والاعتدال، وهو الحق الحقيق بالاتباع، فهم بين الجافي والغالي، وهو الصواب البحت، لتوسطه بين جانبي الإفراط والتفريط.
فأهل السنة أسعد الناس بموالاة أهل البيت، يعرفون فيهم وصية النبي - صلى الله عليه وسلم - بالإحسان إليهم، ويعتبرون محبتهم واجبة محتمة على كل فرد من أفراد الأمة. انظر: الدين الخالص لصديق خان (3 / 351، 357).
و هذا مجمل عقيدة أهل السنة والجماعة في أهل البيت الكرام..
1- أهل السنة يوجبون محبة أهل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويجعلون ذلك من محبة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويتولونهم جميعاً، لا كالرافضة الذين يتولون البعض ويفسقون البعض الآخر.
2- أهل السنة يعرفون ما يجب لهم من الحقوق، فإن الله جعل لهم حقاً في الخمس والفيء، وأمر بالصلاة عليهم تبعاً للصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -.
3- أهل السنة يتبرؤون من طريقة النواصب الجافين لأهل البيت، والروافض الغالين فيهم.
4- أهل السنة يتولون أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويترضون عنهن، ويعرفون لهن حقوقهن، ويؤمنون بأنهن أزواجه في الدنيا والآخرة.
5- أهل السنة لا يخرجون في وصف آل البيت عن المشروع، فلا يغالون في أوصافهم، ولا يتعقدون عصمتهم، بل يعتقدون أنهم بشر تقع منهم الذنوب كما تقع من غيرهم.
6- أهل السنة يعتقدون أن أهل البيت ليس فيهم مغفور الذنب، بل فيهم البر والفاجر، والصالح والطالح الفاسد -.
7- أهل السنة يعتقدون أن القول بفضيلة أهل البيت لا يعني تفضيلهم في جيمع الأحوال، وعلى كل الشخاص، بل قد يوجد من غيرهم من هو أفضل منهم لاعتبارات أخرى.(/1)
أقوال أئمة السلف وأهل العلم والإيمان من بعدهم، مرتبين حسب الترتيب الزمني في بيان هذه العقيدة..
تواتر النقل عن أئمة السلف وأهل العلم جيلاً بعد جيل على اختلاف أزمانهم وبلدانهم بوجوب محبة أهل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإكرامهم والعناية بهم، وحفظ وصية النبي - صلى الله عليه وسلم - فيهم، ونصوا على ذلك في أصولهم المعتمدة، ولعل كثرة المصنفات التي ألفها أهل السنة في فضائلهم ومناقبهم أكبر دليل على ذلك..
وإليك طائفة من أقوالهم في ذلك..
1- قول خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - (ت13هـ).
روى الشيخان في صحيحيهما عنه - رضي الله عنه - أنه قال: والذي نفسي بيده، لقرابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحب إلي أن أصل من قرابتي. البخاري برقم (4241) ومسلم برقم (1759).
2- قول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - (ت23هـ).
روى ابن سعد في الطبقات (4 / 22) عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال للعباس - رضي الله عنه -: والله لإسلامك يوم أسلمت كان أحب إلي من إسلام الخطاب يعني والده لو أسلم؛ لأن إسلامك كان أحب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من إسلام الخطاب.
3- قول زيد بن ثابت - رضي الله عنه - (ت42هـ).
عن الشعبي قال: صلى زيد بن ثابت - رضي الله عنه - على جنازة، ثم قُرّب له بغلته ليركبها، فجاء ابن عباس - رضي الله عنهما - فأخذ بركابه، فقال زيد: خل عنك يا ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال هكذا نفعل بالعلماء، فقبّل زيد يد ابن عباس وقال، هكذا أُمِرْنا أن نفعل بأهل بيت نبينا. الطبقات لابن سعد (2/ 360).
4- قول معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه - (ت60هـ).
أورد الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (2/ 140) أن الحسن بن علي دخل على معاوية في مجلسه، فقال له معاوية: مرحباً وأهلاً بابن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأمر له بثلاثمائة ألف.
وأورد ابن كثير أيضاً في البداية (8 / 139) أن الحسن والحسين - رضي الله عنهما - وفدا على معاوية - رضي الله عنه -، فأجازهما بمائتي ألف، وقال لهما: ما أجاز بهما أحد قبلي، فقال الحسين، ولم تعط أحد أفضل منا.
5- قول ابن عباس - رضي الله عنهما - (ت68هـ).
قال رزين بن عبيد: كنت عند ابن عباس - رضي الله عنهما - فأتى زين العابدين علي بن الحسين، فقال له ابن عباس: مرحباً بالحبيب ابن الحبيب. أخرجه أحمد في الفضائل (2 / 777).
6- قول أبي جعفر أحمد بن محمد الطحاوي (ت321هـ).
قال - رحمه الله - في عقيدته الشهيرة: (ونحب أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا نفرط في حب أحد منهم، ولا نتبرأ من أحد منهم، ونبغض من يبغضهم وبغير الخير يذكرهم، ولا نذكرهم إلا بخير)..
وقال أيضاً: (ومن أحسن القول في أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأزواجه الطاهرات من كل دنس، وذريته المقدسين من كل رجس، فقد برئ من النفاق). انظر العقيدة الطحاوية شرح ابن أبي العز (ص 467 471).
7- قول الإمام الحسن بن علي البربهاري (ت 329هـ).
قال في شرح السنة (ص 96 97): واعرف لبني هاشم فضلهم، لقرابتهم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتعرف فضل قريش والعرب، وجميع الأفخاذ، فاعرف قدرهم وحقوقهم في الإسلام، وموالي القوم منهم، وتعرف لسائر الناس حقهم في الإسلام، واعرف فضل الأنصار ووصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيهم، وآل الرسول فلا تنساهم، واعرف فضلهم وكرامتهم.
8- قول الإمام أبي بكر محمد بن الحسين الآجري (ت360هـ).
قال في كتابه الشريعة (5/ 2276): واجب على كل مؤمن ومؤمنة محبة أهل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبنو هاشهم: علي بن أبي طالب وولده وذريته، وفاطمة وولدها وذريتها، والحسن والحسين وأولادهما وذريتهما، وجعفر الطيار وولده وذريته، وحمزة وولده، والعباس وولده وذريته - رضي الله عنهم -، هؤلاء أهل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، واجب على المسلمين محبتهم وإكرامهم واحتمالهم وحسن مداراتهم، والصبر عليهم، والدعاء لهم.
9- قول الإمام عبد الله بن محمد الأندلسي القحطاني (ت387هـ).
قال - رحمه الله - في النونية، انظر: كفاية الإنسان من القصائد الغر الحسان، جمع محمد أحمد سيد (ص41): -
واحفظ لأهل البيت واجب حقهم **** واعرف علياً أيما عرفان
لاتنتقصه ولا تزد في قدره **** فعليه تصلى النار طائفتان
إحداهما لا ترتضيه خليفة **** وتنصه الأخرى إلهاً ثاني
10- قول الموفق ابن قدامة المقدسي (ت620هـ).(/2)
قال في لمعة الاعتقاد: ومن السنة الترضي عن أزواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمهات المؤمنين المطهرات المبرءات من كل سوء، أفضهم خديجة بنت خويلد، وعائشة الصديقة بنت الصديق التي برأها الله في كتابه، زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - في الدنيا والآخرة، فمن قذفها بما برأها الله منه فهو كافر بالله العظيم. انظر لمعة الاعتقاد بشرح الشيخ ابن عثيمين (ص 152).
11- أقوال شيخ الإسلام ابن تيمية (ت728هـ).
قال في العقيدة الواسطية (ص195) بشرح الشيخ الفوزان: ويحبون أهل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويتولونهم ويحفظون فيهم وصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حيث قال يوم خدير خم: (أذكركم الله في أهل بيتي) وقال للعباس عمه وقد اشتكى إليه أن بعض قريش يجفو بني هاشم، فقال: (والذي نفسي بيده لا يؤمنون حتى يحبونكم لله ولقرابتي) وقال: (إن الله اصطفى إسماعيل، واصطفى من بني إسماعيل كنانة، واصطفى من كنانة قريشاً، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم).
وقال - رحمه الله - في بيان عقيدة السلف في أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -: ويتولون أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - أمهات المؤمنين، ويؤمنون بأنهن أزواجه في الآخرة خصوصاً خديجة - رضي الله عنها - أم أولاده وأول من آمن به وعاضده على أمره، وكان لها منه المنزلة العالية، والصديقة بنت الصديق - رضي الله عنها -، التي قال فيها النبي - صلى الله عليه وسلم -: (فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام)، ويتبرؤون من طريق الروافض الذين يبغضون الصحابه ويسبونهم، ومن طريقة النواصب الذي يؤذون أهل البيت بقول أو عمل. العقيدة الواسطية (ص 198، 201) بشرح الشيخ الفوزان.
وقال - رحمه الله -: ولا ريب أن لآل محمد - صلى الله عليه وسلم - حقاً على الأمة لا يشاركهم فيه غيرهم، ويستحقون من زيادة المحبة والموالاة ما لايستحقه غير قريش من القبائل، كما أن قريشاً يستحقون من المحبة والموالاة مالا يستحقه غير قريش من القبائل، كما أن جنس العرب يستحق من المحبة والموالاة مالا يستحقه سائر أجناس بني آدم. وهذا على مذهب الجمهور الذي يرون فضل العرب على غيرهم، وفضل قريش على سائر العرب، وفضل بني هاشم على سائر قريش، وهذا هو المنصوص عن الأئمة كأحمد وغيره. منهاج النسة (4 / 599).
12- قول الحافظ ابن كثير (ت774هـ).
قال - رحمه الله - في تفسيره (6 / 199): ولا ننكر الوصاة بأهل البيت، والأمر بالإحسان إليهم، واحترامهم وإكرامهم، فإنهم من ذرية طاهرة من أشرف بيت وجد على وجه الأرض فخراً وحسباً ونسباً، ولا سيما إذا كانوا متبعين للسنة النبوية الصحيحة الواضحة الجلية، كما كان عليه سلفهم كالعباس وبنيه وعلي وأهل ذريته - رضي الله عنهم - أجميعن.
13- قول محمد بن إبراهيم الوزير اليماني (ت840هـ).
قال - رحمه الله - في إيثار الحق على الخلق (ص 460-461): وقد دلت النصوص الجمة المتواترة على وجبوب محبتهم وموالاتهم يعني أهل البيت وأن يكون معهم ففي الصحيح (ولا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا.. ) وفيه: (المرء مع من أحب)، ومما يخص أهل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قول الله - تعالى -{إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا} [الأحزاب /33]. فيجب لذلك حبهم وتعظيمهم وتوقيرهم واحترامهم والاعتراف بمناقبهم؛ فإنهم أهل آيات المباهلة والمودة والتطهير، وأهل المناقب الجمة والفضل الشهير.
14- أقوال العلامة صديق حسن خان (ت1307هـ).
قال - رحمه الله - في الدين الخالص (3/ 270):.. وأما أهل السنة فهم مقرون بفضائلهم يعني أهل البيت كلهم أجمعين.. لا ينكرون على أهل البيت من الأزواج والأولاد، ولا يقصرون في معرفة حق الصحابة الأمجاد، قائمون بالعدل والإنصاف، حائدون عن الجور والاعتساف، فهم الأمة الوسط بين هذه الفرق الباطلة الكاذبة الخاطئة.
وقال في موضع بين عقيدة أهل السنة في الأزواج والعترة:.. وأهل السنة يحرمون الكل ويعظمونهن حق العظمة، وهو الحق البحت، وكذلك يعترفون بعظمة أولاده - صلى الله عليه وسلم -، من فاطمة - رضي الله عنها -، ويذكرونهم جميعاً بالخير والدعاء والثناء، ومن لم يراع هذه الحرمة لأزواجه المطهرات، وعترته الطارات، فقد خالف ظاهر الكتاب وصريح النص منه. الدين الخالص (3 / 268). وقطف الثمر في بيان عقيدة أهل الأثر (ص 101، 103).
15- قول العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي (ت1376هـ).
قال - رحمه الله - في النتبيهات اللطيفة (ص 94):.. فمحبة أهل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - من وجوه منها: -
أولاً: لإسلامهم وفضلهم وسوابقهم.
ومنها: لما يتميزون به من قرب النبي - صلى الله عليه وسلم - واتصالهم بنسبه.
ومنها: لما حث عليه ورغب فيه.
16- قول العلامة حافظ بن أحمد الحكمي (ت1377هـ).
قال - رحمه الله - في سلم الوصول:
وأهل بيت المصطفى الأطهار **** وتابعيه السادة الأخيار.(/3)
فكلهم في محكم القرآن **** أثنى عليم خالق الأكون.
انظر: معارج القبول بشرح سلم الوصول (3/ 1196).
17- قول الشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين (ت 1421هـ).
قال - رحمه الله - في شرح العقيدة الواسطية (2 /273): ومن أصول أهل السنة والجماعة أنهم يحبون آل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يحبونهم للإيمان، وللقرابة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا يكرهونهم أبداً.
شروط ولاية أهل السنة لآل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -..
يظهر من خلال معتقد أهل السنة والجماعة أنهم يشترطون لموالاة قرابة النبي - صلى الله عليه وسلم - شرطين لابد من تحققهما لتكون الموالاة لهم، وإلا فإنهم لا يجدون ذلك الاحترام وتلك المكانة، فإن فيهم المؤمن والكافر، والبر والفاجر، والسني والرافضي، وغير ذلك..
الشرط الأول: أن يكونوا مؤمنين مستقيمين على الملة..
فإن كانوا كفاراً فلا حق لهم في الحب والتعظيم والإكرام والولاية، ولو كانوا من أقرب الناس إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، كعمه أبي لهب..
يقول الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله - في تقرير هذا الشرط: فنحن نحبهم لقرابتهم من رسول الله - عليه الصلاة والسلام -، ولإيمانهم بالله، فإن كفروا فإننا لا نحبهم ولو كانوا أقارب الرسول - عليه الصلاة والسلام -، فأبو لهب عم الرسول - عليه الصلاة والسلام - لا يجوز أن نحبه بأي حال من الأحوال، بل يجب أن نكرهه لكفره، ولإيذائه النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكذلك أبو طالب، فيجب علينا أن نكرهه لكفره، ولكن نحب أفعاله التي أسداها إلى الرسول - عليه الصلاة والسلام - من الحماية والذب عنه. شرح العقيدة الواسطية (2 / 274 275).
الشرط الثاني: أن يكونوا متبعين للسنة النبوية الصحيحة..
فإن فارقوا السنة وتركوا الجادة، وخالفوا هدي النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتلبسوا بالبدع والمحدثات، فإنه ليس لهم حق في الحب والتعظيم والإكرام والولاية، حتى يرجعوا إلى السنة، ويتمسكوا بها، والواجب في هذه الحالة دعوتهم إلى العودة إلى الكتاب والسنة، ونبذ ما سواهما من الأهواء والبدع، وأن يكونوا على ما كان عليه سلفهم، كعلي - رضي الله عنه - وسائر بنيه، والعباس - رضي الله عنه - وأولاده.
يقول العلامة صديق حسن خان - رحمه الله - في تقرير هذا الشرط في معرض التعليق على حديث: (تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا: كتاب الله وعترتي) الحديث حسن بالمتابعة -: المراد بهم من هو على طريقة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وسمته ودله أي حاله -، وهديه ولا يستقيم المقارنة بكتاب الله إلا إذا كانوا موافقين له عاملين به، فمعيار الأخذ بالعترة اتفاقهم بالقرآن في كل نقير وقطمير....
إلى أن قال: وأما من عاد منهم مبتدعاً في الدين فالحديث لا يشمله، لعدم المقارنة وهذا أوضح من كل واضح، ولا يخفى إلا على الأعمى، وكم من رجال ينسبونهم إليه - صلى الله عليه وآله وسلم - في اتحاد الطين قد خرجوا من نسبة الدين، ودخلوا في عداد المنتحلين والغالين والجاهلين، وسلكوا سبيل المبتدعين المشركين، كالسادة الرافضة والخارجة والمبتدعة ونحوهم، فليس هؤلاء مصداق هذا الحديث أصلاً وإن صحت نسبهتم الطينية إليه - صلى الله عليه وآله وسلم - فقد فارقوه في السنة الدينية..
فالحاصل أن نفس هذا الحديث يخرج الخارجين عن الطريقة المثلى المأثورة التي جعلها رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أمارة للفرقة الناجية في حديث الافتراق، قال: (هم ما أنا عليه اليوم وأصحابي) فمن كان من أهل البيت على هذه الشيمة الشريفة فهو المستحق لما في الحديث، ومن لم يكن كذلك فليس أهلاً بما هنالك. الدين الخالص (3 / 348).
يقول الشيخ الفوزان في تقرير شرطي تولي أهل السنة لقرابة النبي - صلى الله عليه وسلم -:.. وذلك إذا كانوا متبعين للسنة، مستقيمين على الملة كما كان عليه سلفهم، كالعباس وبنيه وعلي وبنيه، وأما من خالف السنة ولم يستقم على الدين فإنه لا تجوز محبته، ولو كان من أهل البيت. شرح العقيدة الواسطية (ص 196).
وبهذا تعلم أن قول المقريزي - رحمه الله -: (فليست بدعة المبتدع منهم، أو تفريط المفرّط منهم في شيء من العبادات أو ارتكابه من المحرمات مخرج له من بنوة النبي - صلى الله عليه وسلم -، بل الولد ولد على كل حال عق أو فجر) السلوك في معرفة الملوك (7 / 199).
فهذا قول لا يستقيم على ما قرره أهل السنة، وأنه مبالغ فيه، فالكلام ليس في كونه من ولد النبي - صلى الله عليه وسلم -، أم لا، وإنما في موالاته ومحبته حال بدعته، وبالله - تعالى -التوفيق.
http://saaid.net المصدر:(/4)
مولد المختار
شعر: بدر شاكر السياب
"بعد طواف السياب الخصب في ميادين الفكر والأدب، اكتشف من جديد روعة الإسلام، وقيم عمود الخليل. وقد تجلى هذا في عدد من أخريات قصائده التي لم تنشر كلها. وكان السياب قد ألقى هذه القصيدة بمناسبة المولد النبوي عام 1961 في أحد مساجد العراق".
دموع اليتامى في دُجى الليل تقطرُ ونوحُ الثكالى عاصف فيه يصفرُ
و أغفى على الآهات طفل مُيتَّمٌ تقطّر فيه الحقدَ أمِّ وتبذرُ
إذا جُنَّ ليلٌ في الصحارى و لألأتْ نجومٌ ، وقد يخضلّ ليلٌ و يقمرُ
ففي كل قلب من دُجى الليل سُدْفةٌ و في كل عقل ظلمةٌ ليس تسفُر
وقامت من الأنصاب في البيت عصبةٌ كدَوْحٍ من الصوّان بالشرّ يثمرُ
و أجرى على النهرين أقيالُ فارسٍ دماً يعربياً واستباحوا ودمّروا
و في الشام يطغى في حمى الروم تابعٌ ويعدو على الأحرار كسرى وقيصرُ
وأشرقتَ فاهتزتْ نواويس في الدُّجى وأوشك موتى أن يهبّوا ويُنْشَروا
نبيَّ الهدى ، يا نفحةَ الله للورى ويا خيرَ ما جاد الزمان المُقتِّرُ
إذا ما افتخرنا كنتَ للفخر أولاً و إن جاءنا نصرٌ فذكراك تنصرُ
ولولاك ما اندكَّتْ عروش، ولا هوى صليبٌ على كفَّيه كنا نُسمَّرُ
وكم سار في شرقٍ من الغرب جحفلٌ بقرآنك الهادي، و في الغرب عسكروا
و يا مولدَ المختار، ميلادُ أمةٍ وميعادُ بعث، أنت فيها مُقدَّرُ
إلا قبسةٌ مما تنفّستَ في الدُّجى فنحيا، وينهّد الظلام المسوّرُ
ألا تُفْجرُ البركان في مُقْفراتنا فيستبسل الأحرارُ أيان يُفْجَرُ؟!
تلبَّدَ وجهُ الليل تُخفيهِ غيمةٌ من الوحل والقار المُدّمّى تزمجرُ
و مالت على الأفق الضرير منائرُ وخرّت قبابٌ، وانهوى، ثمَّ منبرُ
كأنْ لمْ يَضيء بالنور ميلادُ أحمد و لم تنطفئ للفرس نار ومسعرُ
ولم يدحر الجيشَ الصليبيّ صامدٌ ولا راعت الغازينَ " اللهُ أكبرُ "
رمتْ رأسَها أفعى من الفرس تغتذي بأشلاء من أبقاه قيسٌ ومنذرُ
شعوبيةٌ رقطاءَ بالدين تارة وبالعدل أخرى تحتمي وهي منكرُ
و ما الدين إلا العُرْبُ، إن ذلّ منهمُ عزيزٌ، تهاوى وهو دامٍ مُعَفَّرُ
هي الراية الحمراء من عهد قُرمُطٍ وهيهات يحظى بالذي شاء أحمرُ
إذا خبَّؤوها فهي للشرِّ مْكمنٌ وإن نشروها فهي للعار مظهرُ
و لاحت من الكيد اليهوديّ غيمةٌ على أفقنا المنكوب بالويل تُنذرُ
تبدَّى لظاها فهو نورٌ ورحمةٌ وسحرٌ لمن بالمال يُشرى ويؤجَرُ
تذكرتُ –والميلادُ حالٍ بنوره- شعاعاً من المعراج ذكراه مطهرُ
سما من مطاوي نومه يقصد السما نبيٌّ تلقّاه البراق المطهَّرُ
أتى صخرةٌ بيضاءَ يندى بياضُها كما لاح في الظلماء نجمٌ منوّرُ
فيا صخرةَ المعراج قد سُدَّ بالدّجى وبالإثم منا فيكِ شقٌّ ومَعْبَرُ
فما عاد بين الله والناس منفذٌ كأنْ حلَّ بالأرض العذابُ المسعَّرُ
وعاث ببيت الله فَدْمٌ مشرَّدٌ كأنَّ فلسطين المدماة خيبرُ
كأن لمْ يسرْ طه إليها ولادحا أبو حسنٍ من بابها فهي تصفرُ
وما زال في وهرانَ والأرض حولها علوجٌ أباحوا واستباحوا ودمّروا
إذا جنّ ليلٌ ساءلتْ كلُّ أيَّمٍ كواكبَه عن بعلها: أين يُقْبَرُ؟
جهادٌ على اسم الله يَلْظى أوارُه فيكوي جبينَ الظلم مما يسعّرُ
نبيَّ الهدى،، عذراً إذا الشعر خانني ولكنه قلبي بما فيه يقطرُ
نبيَّ الهدى،، كن لي لدى الله شافعاً فإني ، ككل الناس، عانٍ محيَّرُ
تمرَّسْتُ بالآثامِ حتى تهدَّمتْ ضلوعي، وحتى جنَّتي ليس تثمرُ
ولكنّ من ينجدْه طه فقد نجا ومن يهدِه –والله - هيهات يخسرُ(/1)
مولد سيد العرب وهادي العجم
الشهيد حسن البنا
حروف من نور
"نص حديث الإمام الشهيد حسن البنا الذي أذاعته الإذاعة المصرية سنة 1948م بمناسبة ذكرى المولد النبوي الشريف".
الحمد لله وصلى الله على سيدنا محمد نور الكون وجماله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديهم وسلم تسليماً كثيراً.
أيها المستمعون الكرام.. تحية من عند الله مباركة طيبة:
في ليلة الثاني عشر من هذا الشهر المبارك عام الفيل بمكة المكرمة، افترت ثغور الزمن عن أجمل بسماتها، وتفتحت أكمام البشرية عن أنضج ثمراتها، وأشرقت آفاق السماء بأضوأ أنوارها: محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، نجيب بني هاشم، وفتى قريش، وفخر كنانه، وسيد العرب، وهادي العجم، ورحمة الله للعالمين صلى الله عليه وسلم، فتوالت بذلك بشرى الهواتف، وانسكب في مسمع الدهر أعذب حداء لركب الحضارة الإنسانية، وأحلى نشيد في تاريخ الوجود.
ولد الهدى فالكائنات iiضياء
الروح والملأ الملائك حوله ... ... وفم الزمان تبسّم iiوثناء
للدين والدنيا به iiبشراء
أيها المستمعون الكرام..
مظاهر الفضل والجلال والعظمة والجمال التي تحيط بهذا المولد الكريم والرسول العظيم سفر ضخم لا تتناهى صفحاته ولا تنقضي عجائبه وآياته، فهو عظيم في نسبه العربي المصفى، عظيم في نشأته الفاضلة الكريمة، وعظيم في خلقه الجميل المنير، عظيم في خلقه الكامل المظهر، عظيم في سيرته الجامعة لكل معاني الفضل والكمال صلى الله عليه وسلم.
وإن أضوأ صفحات هذا السفر المشرق بالنور والبهاء.. الفياض بالسنا والسناء، وأجلها أثراً في حياة الإنسانية، ما يتصل برسالته الخالدة الباقية رسالة الإسلام الحنيف، الذي هو كمال نعمة الله على عباده، وتمام منته على خلقه، وصدق الله العظيم:
(اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً).
والآن والعالم كله تتجاذبه المذاهب والآراء، وتعبث بالعقول والضمائر فيه الدعوات والأهواء، وتضطرب سفينة الحياة في هذا الخضم الزاخر من النظم والأفكار لا تستقر على حال من القلق، أعتقد أن من حق هذه الإنسانية المعذبة على نفسها ومن حقها على من عندهم أثارة من علم بقواعد النظم الاجتماعية، وخصائص الرسالات الإصلاحية، أن يتقدم كل بكل ما يعلم من وسائل الإنقاذ حتى لا تصطدم السفينة التي تتقاذفها العواصف الهوجاء، فتتحطم على صخور الشواطئ الجامدة الخرساء من حدود المادة وآثارها ومعارفها الصماء.
أيها المستمعون الكرام..
إن رسالة الإسلام الإصلاحية الاجتماعية، كنظام كامل شامل يكفل للإنسانية السعادة والاستقرار والطمأنينة والسلام ويحل ما بين يديها وما خلفها من مشكلات جسام، تمتاز عن كل ما عرفت البشرية إلى الآن من النظم والرسالات بأمور ثلاثة:
الأول: بشمول مبادئها النظرية التي ضمت كل خير جاء به غيرها مع تركها كل ما يعلق بذلك من أضرار، فأعلن رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم في رسالته الخالدة: الإخاء الإنساني، والحرية والسلام، إذ حطم الفوارق العنصرية بين الشعوب، وقضى على كل نعرات الأجناس والألوان، وعلى روح الكراهية والحقد والتعصب الذميم بين أفراد الشعوب بمثل قوله تعالى:
(يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم).
وربى أتباعه على حب السلام فختام صلواتهم سلام، وتحيتهم في الأولى والآخرة سلام.. والقرآن قد نزل في موكب السلام ولئن كانت أوروبا لم تلتق بالإسلام إلا في ساح الوغى، أو كان لها من مطامعها السياسية والاستعمارية ما ساء به حكمها وفهمها لمشروعية الجهاد فيه، فالخالق في ذلك واضح أبلج في قوله تعالى:
(أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير)
(وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله).
وما التوحيد إلا إعلان للحرية الإنسانية، فلا عبودية إلا للواحد القهار، ولا مخافة إلا من رب العالمين، فلا طغيان ولا استعلاء ولا مصادرة للحريات.
(ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين).
ومن المبادئ التي اشتمل عليها الإسلام كذلك: العدل الاجتماعي.. فالإسلام يعلن في المجتمع مبادئ العدل المقرونة بالرحمة:
(إن الله يأمر بالعدل والإحسان)..
والعدل في الحكم:
(وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل)
والعدل مع الخصوم:
(ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى)..
والعدل ولو على الأقارب والأصدقاء:
(كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنياً أو فقيراً فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أو تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيراً).
ثم هو يحمي العدل بالقوة حين لا يجدي سواها:
(فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين).
وضمن حقوق الأسرة والمرأة وضمن الحياة الطيبة لأفراد المجتمع على السواء.(/1)
وأمّن حق الحياة والملك والعمل والحرية والعلم والأمن لكل فرد.
وحدد موارد الكسب فلا ضرر فيها ولا ضرار، مع الشدة في محاربة الجرائم والفساد.
وحل مشاكل المال.
وقضى على نظام الطبقات.
وطارد الرأسمالية القاسية..
وقضى على سوء الاستغلال والنظام الربوي.
وكفل حقوق العمال والأجراء..
وضمن تعاون الحاكم والمحكوم على البر والتقوى.
كما ترتكز مبادئه على الربانية والتسامي بالنفس الإنسانية، وتأكيد وحدة الأمة والقضاء على كل مظاهر الفرقة وأسبابها، مع إلزام الأمة الجهاد في سبيل مبادئ الحق التي جاء بها هذا النظام، واعتبار الدولة ممثلة للفكرة الإسلامية، وقائمة على حمايتها ومسؤولة عن تحقيق أهدافها في المجتمع وإبلاغها للناس جميعاً.
والأمر الثاني: الذي تمتاز به هذه الرسالة التي جاء بها صاحب هذه الذكرى المباركة، هو رسم الطرائق التطبيقية وتبسيطها وتحويلها إلى أعمال يومية، وما الصلاة والصوم والزكاة والحج وما وضع الإسلام من عبادات وقربات وأعمال إلا مظهر من مظاهر هذا التطبيق في ألطف صوره وأجمل آثاره.
والأمر الثالث: اعتمادها على الضمير الإنساني الموصول برب العالمين، وتقريرها الجزاء في الحياة الآخرة للعاملين، ووضوح ذلك كله في آيات الكتاب المبين:
(ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها، قد أفلح من زكّاها، وقد خاب من دسّاها)
(وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهوداً إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين) يونس: 61
(فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره)
(ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين).
أيها المستمعون الكرام:
تلك هي رسالة الإسلام التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم قامت عليها إمبراطورية الإسلام الأولى، فشهد الناس في خلفائه الراشدين وأصحابه الهادين المهتدين أروع المثل للأخلاق الكاملة والحياة الاجتماعية الفاضلة.
ولم تعدم من المنصفين من غير المؤمنين بها من قدرها وعرف لها فضلها وأذاع في الناس خصائصها وآثارها.. ويوم غفل أبناؤها عن هذه الخصائص والمميزات ونسوا سر قوتهم، ومظهر وحدتهم، وأصل عظمتهم وسناد أستاذيتهم:
(كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله).
ثم اندفعوا بعد ذلك يقلدون غيرهم فيما لا ينفع، وينقلون عن سواهم ما لا يفيد.. كان مثلهم كمثل فرقة الإنقاذ التي تركت مضخة الإطفاء وسارت في قافلة المحترقين فأهملت بذلك واجبها، وأصبحت معهم طعماً للنيران.
أيها السادة الأكرمون:
إن من واجب أهل الدين كافة على اختلاف نحلهم في هذا العصر، أن يعلنوا رسالة الله الخالصة.
وإن يتعاونوا على ما يتهدد البناء الإنساني والحضارة العالمية من إلحاد وإباحية..
وأن من واجب المسلمين خاصة وهم يحملون ميراث الحضارة الحقيقي من أهل الحق والعدل والخير التي أهدرتها المدنية الغربية في ذلك الصراع الخطير الذي تدور رحاه بين الكتلة السلافية والكتلة الغربية، الذي امتد خطره إلى الشرق الأوسط والأدنى وتفجر بركانه في فلسطين العربية المجاهدة، أن يعودوا إلى رسالة نبيهم، فهي حلقة النجاة، وسفينة الخلاص، وأن يترسموا في حياتهم وكفاحهم هدي القرآن الكريم، ونظام الإسلام العظيم، فتستقيم لهم سبل الحياة الحرة العزيزة، ويصبحوا أئمة يهدون الناس بأمر الله، ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله:
(ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم).
(قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين، يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم).
ونعمت الهدية، هدية لرسول الله صلى الله عليه وسلم في عيد ميلاده، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(/2)
موميا فرعون
مقدمة :
أخبر الله تعالى في كتابه عن بعض المكذبين به وبرسله , وكيف انتقم منهم وجعلهم آية لمن بعدهم , ومن أولئك المكذبين
ـ بل هو على رأسهم ـ فرعون , فأخبر الله عن تكذيبه بموسى ,وعن علوه وادعائه الربوبية والألوهية ,
ثم ذكر الله حادثة لحاقه لبني إسرائيل
وكيف دعاه طغيانه لتجاهل تلك المعجزة وهي انفلاق البحر لموسى ومن معه , ثم خوضه لذلك اليبس في البحر , فلما كان في وسطه عاد البحر كما كان فأنجى الله موسى ومن معه , وأغرق فرعون وجنوده.
وبعد هذه المعجزة أظهر الله معجزة أخرى , وهي إخراج جثة فرعون من اليم ,ومع هذا
الإخراج وعد الله بجعلها آية لمن بعده ,قال تعالى :) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ ( [ يونس :92 ] .
فاليوم ننجيك ببدنك :
بعد اكتشاف موميا فرعون (رمسيس الثاني ) في إحدى المقابر الفرعونية حرص العلماء على دراسة هذه المومياء , وممن تعرض لدراستها الطبيب الفرنسي المسلم موريس بوكاي ـ بل قام ببعض المعالجة لها ـ وقد كشف عن مطابقة ما جاء في القرآن بخصوص إغراق فرعون ومصيره بعد ذلك مع الواقع المتمثل في وجود جثته إلى يومنا هذا آيةً للعالمين, فيقول في ذلك :
"إن رواية التوراة بشأن خروج اليهود مع موسى عليه السلام من مصر تؤيد بقوة الفرضية القائلة بأن منفتاح Mineptahخليفة رمسيس الثاني هو فرعون مصر في زمن موسى عليه السلام ، وأن الدراسة الطبية لمومياء منفتاحMineptah قدمت لنا معلومات مفيدة أخرى بشأن الأسباب المحتملة لوفاة هذا الفرعون. إن التوراة تذكر أن الجثة ابتلعها البحر ولكنها لا تعطي تفصيلاً بشأن ما حدث لها لاحقاً. أما القرآن فيذكر أن جثة الفرعون الملعون سوف تنقذ من الماء كما جاء في الآية السابقة، وقد أظهر الفحص الطبي لهذه المومياء أن الجثة لم تظل في الماء مدة طويلة ، إذ أنها لم تظهر أية علامات للتلف التام بسبب المكوث الطويل في الماء .(1)
و لقد ذكر موريس بوكاي ما نصه :(و جاءت نتائج التحقيقات الطبية لتدعم الفرضية السابقة، ففي عام 1975 م جرى في القاهرة انتزاع خزعة صغيرة من النسيج العضلي ،بفضل المساعدة القيمة التي أسداها ألأستاذ Michfl Durigon . وأظهر الفحص الدقيق بالميكروسكوب حالة الحفظ التامة لأصغر الأجزاء التشريحية للعضلات، و تشير إلى أن مثل هذا الحفظ التام لم يكون ممكناً لو أن الجسد بقي في الماء بعض الوقت، أو حتى لو أن البقاء خارج الماء كان طويلاً قبل أن يخضع لأولى عمليات التحنيط . وفعلنا أكثر من ذلك و نحن مهتمون بالبحث عن الأسباب الممكنة لموت فرعون
جرت الدراسات الطبية ـ الشرعية للمومياء بمساعدة Ceccaldiمدير مخبر الهوية القضائية في باريس و الأستاذ Durigon وسمحت لنا بالتحقق من وجود سبب لموت سريع كل السرعة بفعل كدمات جمجمية ـ مخية سببت فجوة ذات حجم كبير في مستوى صاقورة القحف مترافقة مع آفة رضية ، و يتضح أن كل هذه التحقيقات متوافقة مع قصص الكتب المقدسة التي تشير إلى أن فرعون مات حين ارتد عليه الموج .(2)
ويقول الشيخ عبدالمجيد الزنداني : وقد أخبرني الدكتور موريس بوكاي في مقابلة معه أنه أحد الأطباء الذين قاموا بالكشف على جثة فرعون فوجدوا فيها :
1- آثار الموت غرقاً.
2- آثار ملح ماء البحر .
3- أظهرت أشعة (x) تكسير العظام دون تمزق الجلد واللحم مما يدل أن كسر العظام كان بسبب ضغط الماء .(3)
ويبين الدكتور بوكاي وجه الإعجاز في هذه القضية قائلاً : "وفي العصر الذي وصل فيه القرآن للناس عن طريق محمد صلى الله عليه وسلم، كانت جثث كل الفراعنة الذين شك الناس في العصر الحديث صواباً أو خطاً أن لهم علاقة بالخروج، كانت مدفونة بمقابر وادي الملوك بطيبة على الضفة الأخرى للنيل أمام مدينة الأقصر الحالية . في عصر محمد صلى الله عليه وسلم كان كل شيء مجهولاً عن هذا الأمر ولم تكتشف هذه الجثث إلا في نهاية القرن التاسع عشر, وبالتالي فإن جثة فرعون موسى التي مازالت ماثلة للعيان إلى اليوم تعد شهادة مادية في جسد محنط لشخص عرف موسى عليه السلام، وعارض طلباته ، وطارده في هروبه ومات في أثناء تلك المطاردة، وأنقذ الله جثته من التلف التام ليصبح آية للناس كما ذكر القرآن الكريم .(4)
وهذه المعلومة التاريخية عن مصير جثة فرعون لم تكن في حيازة أحد من البشر عند نزول القرآن ولا بعد نزوله بقرون عديدة، لكنها بينت في كتاب الله قبل ألف وأربعمائة عام على لسان النبي الأمي , مما يشهد بأن مصدر هذا العلم هو الوحي الإلهي .(5)
إعداد/ عادل الصعدي
مراجعة/عبد الحميد أحمد مرشد
(1) - القرآن والعلم الحديث لموريس بوكاي .
(2) - القرآن والعلم المعاصر لموريس بوكاي .
(3) - كتاب علم الإيمان (1 /224 ) للشيخ عبدالمجيد الزنداني.(/1)
(4) - دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة د . موريس بوكاي ، ص 269 دار المعارف ط 4 / 1977 ، بتصرف .
(5) - كتاب علم الإيمان (1/ 225 ) للشيخ عبدالمجيد الزنداني .(/2)
موْلِد الكون
أورخان محمد علي ...
هذا الكون الشاسع والواسع الذي لا يرى الإنسان له حدودًا كان محط تساؤل الإنسان وفضوله منذ القديم، وكانت الأسئلة في ذهنه حوله كثيرة وصعبة، مثل:
كيف ظهر هذا الكون إلى الوجود ؟ وما عمره؟ أحادث هو أم قديم وأزلي ؟ وهل يمكن أن يكون هناك أزليان: خالق أزلي وكون أزلي؟
هذه بعض الأسئلة التي كانت محل نقاش بين الفلاسفة المؤمنين مئات الأعوام. أما الفلاسفة الملحدون فكانوا يدّعون أن الكون لا يحتاج إلى خالق؛ لأن المادة أزلية، أي وجدت من القديم.... أي كانوا يضيفون إلى المادة إحدى صفات الخالق وهي صفة الأزلية؛ لذا كان من ضمن قوانينهم الفيزيائية(لا يمكن خلق المادة من العدم، كما لا يمكن إفناء المادة . (
ولكن الإمام أبي حامد الغزالي - رحمه الله - كان أول من حل مشكلة قدم العالم، وأجاب على جميع المشاكل المثارة حول مدة الترك، أي الفرق الزماني بين الأزل وبين بدء خلق الكون، فقال بأن الكون حادث وأنه لم يكن قبله زمان... أي أن الزمان والمكان بدآ بعد خلق الكون؛ لأن الزمن مرتبط بالحركة، ولو تصورنا أن كل شيء في الكون قد سكن وتوقف إذن لتوقف الزمن، أي لم يَعُد هناك زمان. وهكذا فمن الخطأ توهم وجود زمان قبل خلق الكون. وعندما أشارت النظرية النسبية إلى أن الزمن بُعْد رابع كان من البديهي عدم وجود الزمن في عالم لم تخلق بعد أبعاده الأخرى.
لا نريد هنا أن ندخل في تفاصيل فلسفية قد يسأم منها القارئ ولا يستسيغها. ولكننا نريد أن نشير هنا إلى آخر نظرية علمية حول مولد الكون، وكيف أنها أثبتت بأدلة علمية بأن الكون حادث وأنه وُلِد قبل كذا مليار سنة.
الكون بين السكون والحركة
والحقيقة أن اكتشاف الإنسان لظاهرة الإشعاع كان أول ضربة لنظرية أزلية المادة، فما دامت الشمس وجميع النجوم الأخرى مشتعلة وتبعث الإشعاعات، إذن فلا بد من وجود بداية لها؛ لأنها لو كانت أزلية لنفد وقودها منذ مليارات السنوات.
ولكن العلماء الملحدون تناسوا هذه الحقيقة الظاهرة لكل عين واستمروا في الدفاع عن كون أزلي لا يحتاج إلى خالق. وكانت نظرية (الكون المستقر Steady State) التي كانت هي النظرية المقبولة في الأوساط العلمية حتى منتصف القرن العشرين تقول بأن الكون ساكن وهو لانهائي في الزمان والمكان.
كان هذا الأنموذج للكون يريح الفلاسفة الملحدين ويقدم لهم سندًا علميًّا، أو على الأقل لا ينقض أهم دعوى عندهم وهي أزلية المادة.
ولكن علم الفيزياء كان يقدم وسيلة مهمة في معرفة العديد من خصائص الأجرام السماوية والنجوم، فقد كشف "فاستو مالفن سليفر" عام 1913م أن بعض الأجسام - التي كان يعتقد سابقًا أنها غبار كوني - تبتعد عنا بسرعة 1800كم/ ثانية، وكان هذا الاكتشاف مفاجأة كبيرة للعلماء، ولم تكن تلك الأجسام إلا مجرات بعيدة عنا.. ثم أعلن "أدوين هوبل" عام 1929م قانونه المعروف: (إن المجرات تبتعد عنا بسرعة تتناسب طرديًّا مع بعدها عنا)
وقد تبين فيما بعد أن المجرات لا تبتعد فقط عنا، بل هي تتباعد فيما بينها كذلك. وكان هذا يعني أن الكون يتوسع على الدوام، مصداقًا لقوله تعالى "وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُون".
الحساء الكوني !!
وما دام الكون في توسع دائم، إذن لو شغَّلنا الفيلم عكسيًّا - أي إلى الوراء - فمن الضروري أن الكون كله كان متركزًا في السابق في نقطة واحدة أطلق عليها العلماء اسم "الذرة البدائية" أو "الحساء الكوني". وقال علماء آخرون إن حجم هذه النقطة كان يساوي الصفر وكتلته لا نهائية. وهذا تعبير آخر من أن الكون ظهر من العدم؛ لأن هذا هو معنى نقطة حجمها يساوي صفر.
ولكن أي قوة تقوم بقذف مائة مليار مجرة بسرعة جنونية، مبعدة الواحدة عن الأخرى وموسعة الكون نتيجة هذا التباعد السريع؟ لا يمكن أن تكون قوة الجاذبية أو قوة التنافر الكهربائي بين الأقطاب المتشابهة هي هذه القوة، فقوة الجاذبية قوة تحاول جذب الأجرام السماوية نحو المركز وليس إبعادها نحو الخارج. كما أن قوة التنافر الكهربائية أضعف بكثير من القيام بمثل هذه العملية. ونظرًا لوجود تعادل كهربائي في الكون فمثل هذه القوة لا وجود لها تقريبًا بين الأجرام السماوية.
إذن فلا بد أن انفجارًا هائلاً حدث عند ميلاد الكون هو الذي أدى إلى توسع الكون.
وقد أطلق العلماء على هذا الانفجار اسم (الانفجار الكبير (BIG BANG، وبعد إجراء بعض التعديلات على نظرية الانفجار الكبير، فإن الصيغة الحالية لها باختصار، هي:
(أن انفجارًا هائلاً وقع في هذه الذرة البدائية التي كانت تحتوي على مجموع المادة والطاقة. وفي اللحظات الأولى من الانفجار الهائل ارتفعت درجة الحرارة إلى عدة تريليونات؛ حيث خلقت فيها أجزاء الذرات، ومن هذه الأجزاء خلقت الذرات، ومن هذه الذرات تألف الغبار الكوني الذي نشأت منه المجرات فيما بعد).
متى انفجر الكون؟
ولكن متى حدث هذا الانفجار الكبير؟(/1)
لا يوجد رقم قطعي في هذا الخصوص. ولكن إذا تذكرنا أن (ثابت هويل) لمليون سنة ضوئية هو 15,3كم/ ثا، حصلنا على رقم (20) مليار سنة. ولكن علينا ألا ننسى بأن سرعة توسع الكون وتباعد المجرات ليست ثابتة، وأنها كانت في السابق أسرع؛ لذا فإن تاريخ الانفجار في الأغلب كان قبل (15) مليار سنة تقريبًا. وهذا هو الرأي المرجح حاليًا.
من الأدلة المهمة على نظرية الانفجار الكبير هو وجود الإشعاع الكوني، فقد قال العلماء بأنه لو كان هناك مثل هذا الانفجار لكان من الضروري أن يخلف وراءه إشعاعًا. وفعلاً تم العثور على هذا الإشعاع عندما أرسلت مؤسسة (ناسا) الأمريكية لأبحاث الفضاء قمرًا صناعيًّا لغرض التثبت من هذا الإشعاع عام 1989م وزودته بأحدث الأجهزة الحساسة، واحتاج هذا القمر الصناعي لثماني دقائق فقط للعثور على هذا الإشعاع وقياسه.
دليل آخر على هذه النظرية هو أن مقادير ونسب وجود غازَي الهيدروجين والهليوم في الكون تتطابقان مع حسابات هذه النظرية، ولو كان الكون أزليًّا لاحترق جميع الهيدروجين وتحول إلى غاز الهليوم.
دعاة الأزلية في مأزق
ولا تكمن أهمية نظرية "الانفجار الكبير" في الجانب العلمي والفلكي فقط، فهذه النظرية سحبت سلاحًا أو قل عذرًا قويًّا كان يستند إليه الفلاسفة والمفكرون والعلماء الملحدون؛ لأنها أنهت أسطورة "أزلية المادة وأزلية الكون".
وقد امتعض العديد من العلماء والفلاسفة الملحدون من هذه النظرية، فمثلاً يقول الفيلسوف الملحد (أنطوني فلوف):
(يقولون: إن الاعتراف يفيد الإنسان من الناحية النفسية. وأنا سأدلي باعتراف: إن أنموذج (الانفجار الكبير شيء محرج جدًّا بالنسبة للملحدين؛ لأن العلم أثبت فكرة دافعت عنها الكتب الدينية... فكرة أن للكون بداية).
ويقول العالم (دونيس سكايما) - وكان من أشد أنصار نظرية (الكون المستقر) -
(لم أدافع عن نظرية الكون المستقر لكونها صحيحة، بل لرغبتي في كونها صحيحة. ولكن بعد أن تراكمت الأدلة فقد تبين لنا أن اللعبة قد انتهت، وأنه يجب ترك نظرية الكون المستقر جانبًا).
ومع أن ظهور أن المادة حادثة وغير أزلية، وأن للكون بداية.. يدل على الخلق، وأن الكون خُلق من قِبل الخالق، إلا أن طبيعة هذا الانفجار الكبير أضاف أدلة أخرى على أن الكون خُلق بتقدير دقيق ونظام رائع. ذلك لأن أي انفجار لا يكون إلا مخربًا وهادمًا ومشتتًا ومبعثرًا للمواد، ولكن عندما نرى أن انفجارًا بهذا العنف وبهذا الهول يؤدي إلى تشكيل وتأسيس كون منظم غاية النظام، فإن هناك إذن وراءه يد قدرة وعلم وإرادة وتقدير لانهائي فوق الطبيعة. وإلى هذا يشير العالم البريطاني المشهور (فرد هويل) عندما يقول:
(تقول نظرية الانفجار الكبير بأن الكون نشأ نتيجة انفجار كبير، ونحن نعلم أن كل انفجار يشتت المادة ويبعثرها دون نظام، ولكن هذا الانفجار الكبير عمل العكس بشكل محفوف بالأسرار؛ إذ عمل على جمع المادة معًا لتشكيل المجرات).
سرعة توسع الكون
من أهم أسرار هذا الانفجار الكبير هي السرعة الحرجة التي وُهِبَت لهذا التوسع الكوني عقب هذا الانفجار. وإلى هذا يشير العالم البريطاني المعروف (بول ديفز) عندما يقول:
(لقد دلّت الحسابات أن سرعة توسع الكون تسير في مجال حرج للغاية، فلو توسع الكون بشكل أبطأ بقليل جدًّا عن السرعة الحالية لتوجه إلى الانهيار الداخلي بسبب قوة الجاذبية، ولو كانت هذه السرعة أكثر بقليل عن السرعة الحالية لتناثرت مادة الكون وتشتت الكون، ولو كانت سرعة الانفجار تختلف عن السرعة الحالية بمقدار جزء من مليار × مليار جزء لكان هذا كافيًا للإخلال بالتوازن الضروري؛ لذا فالانفجار الكبير ليس انفجارًا اعتياديًّا، بل عملية محسوبة جيدًا من جميع الأوجه وعملية منظمة جدًّا).
وماذا نستنتج من كل هذه الشواهد والمعلومات العلمية ؟
يشرح (بول ديفز) النتيجة الحتمية لهذه الدلائل والتي لا تقبل النقاش فيقول:
( من الصعب جدًّا إنكار أن قوة عاقلة ومدركة قامت بإنشاء هذا الكون المستندة إلى حسابات حساسة جدًّا... إن التغييرات الرقمية الحساسة جدًّا والموجودة في أسس الموازنات في الكون دليل قوي جدًّا على وجود تصميم على نطاق الكون).
أما العالم الفيزيائي المشهور (ستيفن هوفكن) فهو يتناول في كتابه (التاريخ المختصر للزمن) الدقة المذهلة الموجودة لسرعة توسع الكون في الثانية الأولى الحرجة من الانفجار الكبير، فيقول:
(إن سرعة توسع الكون سرعة حرجة جدًّا إلى درجة أنها لو كانت في الثانية الأولى من الانفجار أقل من جزء واحد من مليون × مليار جزء لانهار الكون حول نفسه قبل أن يصل إلى وضعه الحالي).
إذن هذا هو مبلغ الدقة المذهلة في تنظيم هذا الانفجار الكبير وفي تصميم سرعته.
والنتيجة الحتمية التي يصل إليها عالم الفلك الأمريكي (جورج كرنشتاين) في كتابه (الكون التكافلي Symbiotic Universe) هي:(/2)
(كلما دقَّقنا الأدلة واجهتنا على الدوام الحقيقة نفسها، وهي أن هناك قوة عاقلة فوق الطبيعة تدخلت في نشوء الكون).
"قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاواتِ وَالأَرْض".
"سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ أَنَّهُ الْحَقّ".
-------------------------------------
المصدر : اسلام اون لاين ...(/3)
ميثاق الذر
إلياس بلكا
الغيب ما لا سبيل للإنسان إلى إدراكه، ولذلك نرجع إلى الدين ونصوص الوحي للتعرف على أحداث ووقائع وعوالم لا نعلم عنها شيئاً، وهي مع ذلك حقيقية وموجودة.
من ذلك ما اصطلح العلماء على تسميته ب: "ميثاق الذر"، أو "عهد الذر"، فما هو هذا الميثاق وما قصته؟
الميثاق في القرآن:
يقول الله جل جلاله - في إشارة إلى هذا الميثاق -:( وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين 172) {الأعراف: 172}.
وقد فسر بعض العلماء الآية على معنى أن الله - تعالى - أخرج الذرية، وهم الأولاد، من أصلاب آبائهم، وذلك الإخراج أنهم كانوا نطفة، ثم صيرهم - تعالى -في أطوار من الخلق حتى استووا بشراً سوياً، ثم أشهدهم على أنفسهم بما ركب فيهم - وفي سائر خلقه - من دلائل الوحدانية وعجائب الصنع، فبهذا الإشهاد صاروا كأنهم قالوا بلى، وإن لم ينطقوا، فهذا كله على سبيل المجاز التمثيلي(1).
بيانه من السنة:
وهذا الرأي - الذي قال به جماعة من المفسرين - صحيح بحسب مقتضيات اللغة وسياق الآية، لكن السنة لا تساعد عليه، حيث جاءت بعض الروايات في قصة "ميثاق الذر" تفيد وقوعها حقيقة لا مجازاً. والحديث - كما هو مقرر عند العلماء - مبين للقرآن الكريم ومفسر لمجمله، ولذلك كان أعلى أنواع التفسير هو تفسير القرآن بالقرآن، ثم تفسير القرآن بالحديث والآثار.
وقد سئل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - عن الآية المتقدمة فحدث أنه سمع النبي {يقول فيها: "إن الله - تعالى -خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية، فقال: خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون. ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية، فقال: خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون..."(2) قال أبو عبدالله القرطبي: معنى هذا الحديث قد صح عن النبي {من وجوه ثابتة كثيرة(3)، ومنها ما رواه ابن عباس عن النبي الكريم: إن الله أخذ الميثاق من ظهر بني آدم - عليه السلام - بنعمان يوم عرفة، فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها فنثرها بين يديه، ثم كلمهم قُبُلا، قال: ألست بربكم قالوا بلى" شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين 172 أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون 173 {الأعراف: 172، 173}(4).
فهذا الحديث يثبت أصل الإخراج في عالم الذر، لذلك قال الطحاوي في عقيدته: ونؤمن بأن "الميثاق الذي أخذه الله - تعالى -من آدم وذريته حق"(5). ثم جاءت روايات أخرى عن الرسول الكريم وبعض صحابته تفصل في القصة، ومن مجموعها يتحصل مايلي: (6)
عالم الذر:
لما خلق الله - تعالى -آدم، أخرج جميع أبنائه إلى الوجود، أي كل البشر من عهد آدم إلى آخر الناس الذين تقوم عليهم القيامة. وهذا الإخراج يحتمل أن يكون من ظهر آدم فقط، فيظهر كل أبنائه منه، ويحتمل أن الباري - سبحانه - أخرج من ظهر آدم بنيه لصلبه فقط، ثم أخرج بني بنيه من ظهور بنيه، وهكذا على حسب الظهور الجسماني في الدنيا إلى يوم القيامة، فاستغنى عن ذكر إخراج بني آدم من آدم بقوله: "من بني آدم"(7).
لكن الناس لم يكونوا - حين الإخراج - كحالهم اليوم، بل كانوا - كما ورد في الحديث - كالذر، والذر يقال لصغار النمل، أو للهباء والغبار الدقيق الذي يطير في الهواء، أي أن الذر يضرب به المثل في الصغر، ومنه الذرة(8)، وذر الله الخلق في الأرض نشرهم. وقد خلق الله - تعالى -في ذلك الذر العقل والفهم والنطق، حتى يستوعبوا العهد(9).
ثم إن البشرية حين خرجت إلى عالم الذر انحصرت جميعاً قُدّام آدم ونظر إليهم بعينه - كما في رواية الترمذي -، وخاطبهم الله - سبحانه -: ألست بربكم، فقالوا: بلى". قال القرطبي: "أخذ عليهم العهد بأنه ربهم وأن لا إله غيره. فأقروا بذلك والتزموه، وأعلمهم أنه سيبعث إليهم الرسل، فشهد بعضهم على بعض"(10). ثم أعادهم الباري إلى صلب آدم، فلا تقوم الساعة حتى يولد كل من أخذ منه الميثاق(11).
فهذا هو القدر الذي اتفقت عليه الأحاديث والأخبار، وليس في بعض التفاصيل التي ذكرها بعض المفسرين كزمان أخذ العهد وكيفيته... نصوص ثابتة، ولا يضرنا جهل جزئيات القصة. "وكل ما عسر على العقل تصوره يكفينا فيه الإيمان به، ورد معناه إلى الله تعالى"(12).
عودة إلى الآية:
قرأ الكوفيون وابن كثير: ذريتهم، والمعنى أن البشرية كلها ذرية واحدة لآدم. وقرأ الباقون: "ذرياتهم"، والمعنى أن الله - تعالى -استخرج ذريات كثيرة، أي أجيالاً من الناس(13).
واختلف المفسرون في القائل شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين 172 {الأعراف: 172} فقيل: لما قال الذر: بلى، قالت الملائكة: شهدنا بإقراركم، لئلا تقولوا كنا غافلين. وقيل: هو من قول بني آدم، المعنى: بلى شهد بعضنا على بعض(14).
العوالم الثلاثة:
تثبت قصة الذر أن وجود الإنسان يمر بمراحل ثلاث:
الأولى: عالم الذر.(/1)
فهذا عالم حقيقي، وكل واحد منا شهده ووعاه، والظاهر أن الله - تعالى -لما رد الذر إلى ظهر آدم قبض أرواحهم(15)، لقد "أشهد الله جميع خلقه على نفسه منذ البداية، ولم يتخلف عن تلك المشاهدة مخلوق سابق أو لاحق"(16).
ولذلك قال الشيخ الطرطوشي: "إن هذا العهد يلزم البشر، وإن كانوا لايذكرونه في هذه الحياة. كما يلزم الطلاق من شهد عليه به وقد نسيه"(17).
الثانية: عالم الدنيا.
الثالثة: عالم الآخرة.
الفطرة من آثار "عهد الذر":
وقد رأى بعض العلماء أن فطرة الإيمان أصلها ذلك العهد البعيد الذي أخذه الله - سبحانه - على الإنسانية، ولذلك قالوا: إن الآية عامة تخاطب جميع الناس؛ لأن في قرارة كل واحد منهم شعوراً بأن له خالقاً ومدبراً. وجاء إرسال الرسل تذكيراً بالعهد، وإقامة للحجة لما ذهل البشر عن التوحيد(18)؛ ولذلك كان للإنسان شعور - على الجملة - بعالم الغيب، كما قال الشعراوي في ميثاق الذر: "لولا هذه المشاهدة لما استطاع إنسان أن يستوعب قضية الإيمان بالغيب، وفي قمتها الإيمان بوجود إله"(19).
ومصداق هذا حديث: "كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه"(20)، وكذلك الحديث القدسي: "إني جعلت عبادي حنفاء، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً"(21). قال أبو العباس القرطبي: حنفاء، جمع حنيف، وهو المائل عن الأديان كلها إلى فطرة الإسلام... و(الشياطين) يعني شياطين الإنس من الآباء والمعلمين... وشياطين الجن بوساوسهم، ومعنى اجتالتهم، أي صرفتهم عن مقتضى الفطرة الأصلية(22).
خاتمة:
إن عالم الذر جزء من عالم الغيب الواسع، وهو مثال للقدرة الإلهية التي تقلب الوجود الإنساني في أطوار مختلفة، تدل كلها على أن لهذا الوجود غاية يسير إليها: أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون 115 {المؤمنون: 115}.
-----------------------------------------
*المصادر:
1- تفسير القرآن العظيم، لعماد الدين بن كثير. دار ابن كثير، دمشق، طبعة أولى 1994.
2- الجامع الصغير بشرح السراج المنير، لجلال الدين السيوطي. دار الفكر.
3- الجامع لأحكام القرآن، لأبن عبدالله القرطبي. دار الكتب العلمية، 1988.
4- حاشية أحمد الصاوي على تفسير الجلالين. راجعها عبدالعزيز الأهل، مطبعة عبدالحميد حنفي. القاهرة 1381.
5- شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتحليل، لأبي عبدالله ابن القيم. دار الكتاب العربي بمصر.
6- شرح العقيدة الطحاوية، لابن أبي العز تحقيق عبدالله التركي وشعيب الأرناؤوط مؤسسة الرسالة، بيروت. ط1، 1987.
7- لسان العرب لابن منظور، دار صادر، بيروت، 1955.
8- مراح لبيد لكشف معنى قرآن مجيد، لمحمد نووي الجاوي دار الفكر 1981.
9- الموت والحياة، لمحمد متولي الشعراوي، سلسلة مكتبة الشعراوي الإسلامية، مصر.
@@ الهوامش:
1- مراح لبيد، (306/1)، الجامع لأحكام القرآن (200/7).
2- رواه الإمام مالك في الموطأ، باب النهي عن القول في القدر، وكذا أبو داود والنسائي والترمذي وابن حبان وابن أبي حاتم والطبري، لكن قال ابن كثير: كلهم من طريق مالك. والحديث حسنه الترمذي، انظر: تفسير ابن كثير (264/2).
3- الجامع لأحكام القرآن (200/7)، وانظر: شفاء العليل، ص: (24).
4- رواه الإمام أحمد في مسنده، والنسائي في كتاب التفسير من سننه، والطبري في جامع البيان، وأخرجه الحاكم في المستدرك وصحح إسناده؛ كما في تفسير ابن كثير (262/2-263).
5- الطحاوية وشرحها (302/2).
6- راجع هذه الروايات في التفاسير بالمأثور خاصة، ومنها تفسير ابن كثير (263/2-264)، وقد أورد ابن القيم كثيراً من هذه الأخبار في: شفاء العليل، ص(23) إلى (28)، وكذا صاحب شرح العقائد الطحاوية (303/1) فما بعدها، وقصة الذر ثابتة عن ابن عباس من كلامه أيضاً، ومثلها لا يقال إلا عن توقيف.
7- حاشية الصاوي على تفسير الجلالين (106/3-107) شفاء العليل ص: (28).
8- لسان العرب مادة ذرر (304/4).
9- مراح لبيد (306/1).
10- الجامع لأحكام القرآن (200/7).
11- حاشية الصاوي (106/2).
12- حاشية الصاوي (108/2).
13- راجع: تفسير ابن كثير (265/2)، الجامع لأحكام القرآن (202/7).
14- الجامع لأحكام القرآن (202/7)، مراح لبيد (306/1)، حاشية الصاوي (106/2).
15- حاشية الصاوي (107/2).
16- الموت والحياة، لمحمد الشعراوي ص: (9).
17- عن الجامع لأحكام القرآن (201/7).
18- الجامع لأحكام القرآن (201/7)، شفاء العليل ص: (28)، تفسير ابن كثير (265/2).
19- الموت والحياة ص: (9).
20- رواه الطبراني في المعجم الكبير، وأبو يعلى، والبيهقي في السنن الكبرى عن الأسود ابن سريع، وصححه السيوطي، عن الجامع الصغير (96/3).
21- رواه مسلم في باب تعليم الجاهل، من كتاب العلم، من صحيحه.
22- المفهم (712/6).
*أستاذ بكلية الآداب، ظهر المهراز، فاس.
http://jmuslim.naseej.com المصدر:(/2)
ميراث المرأة
أم معاوية
إننا لا نعجب إذا اتخد الكفار أمر نصيب المرأة في الميراث وحظها من الشهادة ونحو ذلك ذريعة واهية للتشكيك في حكم الله عز وجل .. ولكن العجب كله ممن يحملون أسماء إسلامية وفي بلاد الإسلام ويمالئون الغرب الكافر فيما ذهب إليه رافضين بذلك حكم الإسلام الذي يدعونه !!.
أما الميراث .. فلم يكن للمرأة في الشرائع الأخرى ـ على اختلافها ـ أن ترث .. وإنما جاء ذلك متأخراً بعد الإسلام بقرون..
وأما في الإسلام فنجد أن الله عز وجل قرر للمرأة الحق في أن ترث بداية .. قال تعالى: { لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً } [النساء:7].
ثم جاءت الآيات بعد ذلك مبينة المقدار الذي ترثه المرأة في أغلب الأحوال فقد قال الله عز وجل: { وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَاء فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [النساء:176]..
فلقد صرح الله عز وجل أنه يبين لخلقه هذا البيان لئلا يضلوا .. فمن سوى بين الرجل والمرأة في الميراث خلافاً لحكم الله تعالى فهو ضال قطعاً.. ثم بين أنه سبحانه وتعالى أعلم بالحكم والمصالح وبكل شيء من خلقه وذلك في قوله تعالى: { وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }..
والحكمة في هذا التفضيل ظاهرة ولا تخفى .. إذ أن الأمر يتعلق بالعدالة في توزيع الأعباء والواجبات على قاعدة " الغرم بالغنم " فالأغلب في توزيع الميراث هو كون المرأة نصيبها على النصف من نصيب الرجل .. إلا أن هناك حالات استثنائية خاصة تأخذ المرأة مثله أو قريبا منه .. وهذه لا نقيس عليها، إنما نتكلم على الأعم الأغلب والذي اتخذه زعماء الإباحية " مسمار حجا " فقالوا: إن هذا عدم اعتراف بإنسانيتها كاملة .. أو أنه انتقص من كرامتها ومكانتها بذلك .. .
والجواب: هو أن هذا الكلام باطل كلية .. فمن المستحيل أن يضع الإسلام مبدأ ثم يضع أحكاماً تخالفه! فلقد قرر أنها في الإنسانية والكرامة والأهلية كرجل تماماً " إنما النساء شقائق الرجال " .. إنما الأمر يتعلق بالعدالة في توزيع الأعباء على أساس من القاعدة المذكورة .. كما سبق.
ففي نظام الإسلام المرأة تأخذ مهراً تضيفه لإرثها وليس عليها أية واجبات مالية أو مسئوليات نحو البيت والنفقة والأبناء ونحو ذلك .. إنما كل هذه الأمور أسندها الإسلام إلى الرجل ليضطلع بها ويقوم عليها .. من تأثيث منزل الزوجية ودفع المهر للزوجة وهو خاص بها .. وليس عليها أن تعطيه منه شيئاً اللهم إلا إذا طابت بذلك نفساً .. كما أن على الرجل تحمل كافة الأعباء المالية..
وقد كان الإسلام مع المرأة كريماً متسامحاً إذ طرح عنها كل تلك الأعباء وألقاها على كاهل الرجل ثم أعطاها نصف ما يأخذ!! .. وهذه لحكمة بالغة .. ألا وهي مصلحة الأسرة، وتفرغ المرأة لشئون بيتها وأولادها .. وهذا لعمري قمة الإنصاف لو أنهم يفهمون !!.. .
يقول بعض الكتاب: " لولا يقيني بأن الإسلام ينصف الناس جميعاً ويعدل بينهم .. لقلت:إن الإسلام ينحاز إلى المرأة ويقف في صفها .. ويؤثرها على الرجل "..
ويقول الأستاذ محمد رشيد رضا: " إن إعطاءهن نصف الميراث تفضيل لهن عليهم (يعنى الرجال) في أكثر الأحوال ".
ولقد قال المفكر الغربي" غوستاف لوبون " عن ميراث المرأة في الإسلام: " إن مبادئ الميراث التي ينص عليها القرآن على جانب عظيم من العدل والإنصاف .. ويظهر من مقابلتي بينها وبين الحقوق الفرنسية والإنجليزية أن الشريعة الإسلامية منحت الزوجات حقوقاً في الميراث لا نجد لها مثيلاً في قوانيننا ".
ثم إن القوانين المستحدثة لدى الغرب والتي ساوى بعضها مؤخراً في الميراث بين الرجل والمرأة جعل عليها من الأعباء والمسئوليات مثل ما على الرجل .. وفي بعض الأحيان ما يفوقه مما تسبب للمرأة في تعاسة وشقاء كانت في غنى عنه .. وربما يكون هذا الأمر منطقيا إذا ساووا بينهما في الميراث كما في الأعباء والمسئوليات .. يقول الأستاذ مصطفى السباعي: " أما أن نعفى المرأة من كل عبء مالي ومن كل سعي للإنفاق على نفسها وأولادها ونلزم الرجل وحده .. ثم نعطيها مثل نصيبه في الميراث .. فهذا ليس أمراً منطقياً مقبولاً في شريعة العدالة "..
أنه لا مجال للمطالبة بمساواة المرأة مع الرجل في الميراث إلا بعد مطالبتهما بمساواتهما في الأعباء والواجبات .. إنها فلسفة متكاملة، فلا بد من الأخذ بها كلها أو تركها كلها. على أننا نفترض هذا الفرض .. " تنزلا " مع الذين يناقشون أحكام الله، وإلا فشرع الله لا يقبل المساومة أو النقاش { لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ } [الأنبياء:23].(/1)
ولكن!.. وإن طبقت هذه الفلسفة فستكلف المرأة من المشقة ما ينبو عنه كاهلها، وتضيق به ذرعا .. خاصة وهي مختصة دون الرجل بالحمل والولادة والإرضاع والتربية والاهتمام بشئون البيت والأولاد ..
فيالرحمة الإسلام بالمرأة .. ويالقسوة المتشدقين بالمساواة عليها..(/2)
ميزان
د. عبد الرحمن صالح العشماوي*
سئل حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه -: كيف يعرف الرجل منا، هل أصابته فتنة أم لا؟
قال: إن كان ما يراه حراماً بالأمس يراه حلالاً اليوم فقد فُتن.
هنا ميزان واضح يرسم حذيفة معالمه أمامنا في كلمات مختصرات واضحات لا تحتاج إلى إعمال تفكير لفهمها، ولكنها تحتاج - في نظري - إلى شيء من التفصيل.
إن المعنى الواضح من كلام حذيفة بن اليمان يؤكد لنا أنَّه يقصد ما ثبتت حرمتُه شرعاً مما لا يدخل تحريمه في دائرةِ خلافٍ بين أحدٍ من علماء المسلمين وفقهائهم، وكأني به يقول كلمته هذه وفي ذهنه لفظ الحديث النبوي الشريف الصحيح : (الحلال بيَّن والحرام بيَّن)، فإذا وصل المسلم إلى درجة الشك في حرمة ما ظهرت حرمتُه وثبتت، أو في حِلَّ ما ظهر حِلُّه وثبت، فلا شك أنَّه قد فُتن شرَّ فتنةٍ والعياذ بالله.
إذا ظهر هذا المعنى الواضح من كلمة حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - تجلّى لنا الفرق الكبير بين هذا المعنى، وبين ما قد يراه الناس من رجوع عالمٍ عن فتوى سابقةٍ له بناها على اجتهاد سابقٍ تبيَّن له مع الأَّيام خطؤه، حيث يرجع ذلك العالم عن فتواه معلناً حقيقة اجتهاده السابق فيها، وموضحاً حقيقة العلم اليقينيّ الذي وصل إليه في شأنها حتى أعلن رجوعه عنها.
هنا يصبح الأمر ميزةً لذلك العالم، وورعاً منه يشكر عليه، وهو بلا شك يؤجر عليه من الله - سبحانه وتعالى - إن صلحت نيته، وخلصت لله سريرته، وقد حدث هذا من عدد من العلماء والفقهاء الأجلاء على مدى التاريخ. وفي هذا من عظمة أولئك الرجال ما لا يخفى.
ولا يدخل في معنى كلام حذيفة - رضي الله عنه - ما قد يراه الناس من تغيير بعض أهل العلم والفقه والفكر بعض أساليبهم في دعوتهم وتعليمهم وتعاملهم مع الوقائع والأشخاص، فهذا داخل أيضاً في مجال الاجتهاد للبحث عن الأفضل في أساليب الدعوة وطرائق المناقشة، وهو أمر متاح ما دام قائماً على اجتهاد صادق ونية خالصة لوجه الله.
أما ميزان حذيفة - رضي الله عنه - فهو ميزان دقيق واضح المعالم يجب على كلّ مسلم أن يستخدمه بدقة في وزن مواقفه، خاصةً في أزمنة الفتن التي تصير كقطع الليل المظلم يصبح فيها الحليم حيران.
ومثال ذلك أن يكون الإنسان على يقين بتحريم الرشوة مهما تغيرت أسماؤها، وأن يعلم يقينه بحرمتها، ثم يلين ويضعف أمامها حينما تلوح له بحلاوتها الممزوجة بمرارة المعصية وسوء العاقبة.
هنا يجب على المسلم أن يستخدم هذا الميزان الرائع الدقيق الذي أشار إليه حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - في كلمته السابقة.
ويُقاس على الرشوة غيرها من الأمور المحرمة التي لها علاقة برغبات النفس البشرية ومصالحها الدنيوية، كالمتاجرة في بعض المحرمات، أو الاعتداء بمنطق القوة على بعض حقوق الضعفاء، أو تسويغ معاملات الربا الواضحة استجابةً لهوى النفس.
هنا يكون ميزان حذيفة بن اليمان مهماً؛ لأنه يوضح لمَن تسرقه غفلته من نفسه حقيقة ما هو عليه.
إشارة:
إشراقة الشمس في غنىً عن إقرار النائمين.(/1)
مَا تَقَعُ بِهِ الرِّدَّةُ :
- تَنْقَسِمُ الْأُمُورُ الَّتِي تَحْصُلُ بِهَا الرِّدَّةُ إلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ :
أ - رِدَّةٌ فِي الِاعْتِقَادِ .
ب - رِدَّةٌ فِي الْأَقْوَالِ .
ج - رِدَّةٌ فِي الْأَفْعَالِ .
د - رِدَّةٌ فِي التَّرْكِ . إلَّا أَنَّ هَذِهِ الْأَقْسَامَ تَتَدَاخَلُ , فَمَنْ اعْتَقَدَ شَيْئًا عَبَّرَ عَنْهُ بِقَوْلٍ , أَوْ فِعْلٍ , أَوْ تَرْكٍ . مَا يُوجِبُ الرِّدَّةَ مِنْ الِاعْتِقَادِ :
11 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ أَشْرَكَ بِاَللَّهِ , أَوْ جَحَدَهُ , أَوْ نَفَى صِفَةً ثَابِتَةً مِنْ صِفَاتِهِ , أَوْ أَثْبَتَ لِلَّهِ الْوَلَدَ فَهُوَ مُرْتَدٌّ كَافِرٌ . وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ بِقِدَمِ الْعَالَمِ أَوْ بَقَائِهِ , أَوْ شَكَّ فِي ذَلِكَ . وَدَلِيلُهُمْ قوله تعالى : { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إلَّا وَجْهَهُ } . وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ : ( لِأَنَّ حُدُوثَ الْعَالَمِ مِنْ قَبِيلِ مَا اجْتَمَعَ فِيهِ الْإِجْمَاعُ وَالتَّوَاتُرُ , بِالنَّقْلِ عَنْ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ , فَيَكْفُرُ بِسَبَبِ مُخَالَفَتِهِ النَّقْلَ الْمُتَوَاتِرَ ) .
12 - وَيَكْفُرُ مَنْ جَحَدَ الْقُرْآنَ كُلَّهُ أَوْ بَعْضَهُ , وَلَوْ كَلِمَةً . وَقَالَ الْبَعْضُ : بَلْ يَحْصُلُ الْكُفْرُ بِجَحْدِ حَرْفٍ وَاحِدٍ . كَمَا يَقَعُ الْكُفْرُ بِاعْتِقَادِ تَنَاقُضِهِ وَاخْتِلَافِهِ , أَوْ الشَّكِّ بِإِعْجَازِهِ , وَالْقُدْرَةِ عَلَى مِثْلِهِ , أَوْ إسْقَاطِ حُرْمَتِهِ , أَوْ الزِّيَادَةِ فِيهِ . أَمَّا تَفْسِيرُ الْقُرْآنِ وَتَأْوِيلُهُ , فَلَا يَكْفُرُ جَاحِدُهُ , وَلَا رَادُّهُ ; لِأَنَّهُ أَمْرٌ اجْتِهَادِيٌّ مِنْ فِعْلِ الْبَشَرِ . وَقَدْ نَصَّ ابْنُ قُدَامَةَ عَلَى أَنَّ اسْتِحْلَالَ دِمَاءِ الْمَعْصُومِينَ وَأَمْوَالِهِمْ , إنْ جَرَى بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ - كَمَا فَعَلَ الْخَوَارِجُ - لَمْ يَكْفُرْ صَاحِبُهُ . وَلَعَلَّ السَّبَبَ أَنَّ الِاسْتِحْلَالَ جَرَى بِاجْتِهَادٍ خَاطِئٍ , فَلَا يَكْفُرُ صَاحِبُهُ .
13 - وَكَذَلِكَ يُعْتَبَرُ مُرْتَدًّا مَنْ اعْتَقَدَ كَذِبَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْضِ مَا جَاءَ بِهِ , وَمَنْ اعْتَقَدَ حِلَّ شَيْءٍ مُجْمَعٍ عَلَى تَحْرِيمِهِ , كَالزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ , أَوْ أَنْكَرَ أَمْرًا مَعْلُومًا مِنْ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ .
( حُكْمُ سَبِّ اللَّهِ تَعَالَى ) :
14 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ سَبَّ اللَّهَ تَعَالَى كَفَرَ , سَوَاءٌ كَانَ مَازِحًا أَوْ جَادًّا أَوْ مُسْتَهْزِئًا . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَلَئِنْ سَأَلَتْهُمْ لَيَقُولُنَّ إنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاَللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمَانِكُمْ } . وَاخْتَلَفُوا فِي قَبُولِ تَوْبَتِهِ : فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى قَبُولِهَا , وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ . وَلَمْ نَجِدْ لِلشَّافِعِيَّةِ تَفْرِقَةً بَيْنَ الرِّدَّةِ بِذَلِكَ وَبَيْنَ الرِّدَّةِ بِغَيْرِهِ .
حُكْمُ سَبِّ الرَّسُولِ :
15 - السَّبُّ هُوَ الْكَلَامُ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ الِانْتِقَادُ وَالِاسْتِخْفَافُ , وَهُوَ مَا يُفْهَمُ مِنْهُ السَّبُّ فِي عُقُولِ النَّاسِ , عَلَى اخْتِلَافِ اعْتِقَادَاتِهِمْ , كَاللَّعْنِ وَالتَّقْبِيحِ . وَحُكْمُ سَابِّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ مُرْتَدٌّ بِلَا خِلَافٍ . وَيُعْتَبَرُ سَابًّا لَهُ صلى الله عليه وسلم كُلُّ مَنْ أَلْحَقَ بِهِ صلى الله عليه وسلم عَيْبًا أَوْ نَقْصًا , فِي نَفْسِهِ , أَوْ نَسَبِهِ , أَوْ دِينِهِ , أَوْ خُصْلَةٍ مِنْ خِصَالِهِ , أَوْ ازْدَرَاهُ , أَوْ عَرَّضَ بِهِ , أَوْ لَعَنَهُ , أَوْ شَتَمَهُ , أَوْ عَابَهُ , أَوْ قَذَفَهُ , أَوْ اسْتَخَفَّ بِهِ , وَنَحْوَ ذَلِكَ .
هَلْ يُقْتَلُ السَّابُّ رِدَّةً أَمْ حَدًّا ؟
16 - قَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَابْنُ تَيْمِيَّةَ : إنَّ سَابَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يُعْتَبَرُ مُرْتَدًّا , كَأَيِّ مُرْتَدٍّ ; لِأَنَّهُ بَدَّلَ دِينَهُ فَيُسْتَتَابُ , وَتُقْبَلُ تَوْبَتُهُ . أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ - فِيمَا يَنْقُلُهُ السُّبْكِيّ - فَيَرَوْنَ أَنَّ سَبَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رِدَّةٌ وَزِيَادَةٌ , وَحُجَّتُهُمْ أَنَّ السَّابَّ كَفَرَ أَوَّلًا , فَهُوَ مُرْتَدٌّ , وَأَنَّهُ سَبَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَاجْتَمَعَتْ عَلَى قَتْلِهِ عِلَّتَانِ كُلٌّ مِنْهُمَا تُوجِبُ قَتْلَهُ وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ سَابَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَا يُسْتَتَابُ إلَّا أَنْ يَكُونَ كَافِرًا فَيُسْلِمَ .(/1)
حُكْمُ سَبِّ الْأَنْبِيَاءِ عليهم الصلاة والسلام :
17 - مِنْ الْأَنْبِيَاءِ مَنْ هُمْ مَحَلُّ اتِّفَاقٍ عَلَى نُبُوَّتِهِمْ , فَمَنْ سَبَّهُمْ فَكَأَنَّمَا سَبَّ نَبِيَّنَا صلى الله عليه وسلم وَسَابُّهُ كَافِرٌ , فَكَذَا كُلُّ نَبِيٍّ مَقْطُوعٍ بِنُبُوَّتِهِ , وَعَلَى ذَلِكَ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ . وَإِنْ كَانَ نَبِيًّا غَيْرَ مَقْطُوعٍ بِنُبُوَّتِهِ , فَمَنْ سَبَّهُ زُجِرَ , وَأُدِّبَ وَنُكِلَ بِهِ , لَكِنْ لَا يُقْتَلُ , صَرَّحَ بِهَذَا الْحَنَفِيَّةُ .
حُكْمُ سَبِّ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم :
18 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ قَذَفَ عَائِشَةَ رضي الله عنها , فَقَدْ كَذَّبَ صَرِيحَ الْقُرْآنِ الَّذِي نَزَلَ بِحَقِّهَا , وَهُوَ بِذَلِكَ كَافِرٌ قَالَ تَعَالَى فِي حَدِيثِ الْإِفْكِ بَعْدَ أَنْ بَرَّأَهَا اللَّهُ مِنْهُ : { يَعِظُكُمْ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } . فَمَنْ عَادَ لِذَلِكَ فَلَيْسَ بِمُؤْمِنٍ . وَهَلْ تُعْتَبَرُ مِثْلُهَا سَائِرُ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ ؟ قَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الصَّحِيحِ وَاخْتَارَهُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ : إنَّهُنَّ مِثْلُهَا فِي ذَلِكَ . وَاسْتَدَلَّ لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } . وَالطَّعْنُ بِهِنَّ يَلْزَمُ مِنْهُ الطَّعْنُ بِالرَّسُولِ وَالْعَارُ عَلَيْهِ , وَذَلِكَ مَمْنُوعٌ . وَالْقَوْلُ الْآخَرُ وَهُوَ مَذْهَبٌ لِلشَّافِعِيَّةِ وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى لِلْحَنَابِلَةِ : إنَّهُنَّ - سِوَى عَائِشَةَ - كَسَائِرِ الصَّحَابَةِ , وَسَابُّهُنَّ يُجْلَدُ , لِأَنَّهُ قَاذِفٌ . أَمَّا سَابُّ الْخُلَفَاءِ فَهُوَ لَا يَكْفُرُ , وَتَوْبَتُهُ مَقْبُولَةٌ .
حُكْمُ مَنْ قَالَ لِمُسْلِمٍ يَا كَافِرُ :
19 - عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : { أَيُّمَا امْرِئٍ قَالَ لِأَخِيهِ : يَا كَافِرُ , فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا إنْ كَانَ كَمَا قَالَ , وَإِلَّا رَجَعَتْ عَلَيْهِ } وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ بِفِسْقِ الْقَائِلِ . قَالَ السَّمَرْقَنْدِيُّ : وَأَمَّا التَّعْزِيرُ فَيَجِبُ فِي جِنَايَةٍ لَيْسَتْ بِمُوجِبَةٍ لِلْحَدِّ , بِأَنْ قَالَ : يَا كَافِرُ , أَوْ يَا فَاسِقُ , أَوْ يَا فَاجِرُ . وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ مَنْ أَطْلَقَ الشَّارِعُ كُفْرَهُ , مِثْلَ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم : { مَنْ أَتَى كَاهِنًا أَوْ عَرَّافًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم } . فَهَذَا كُفْرٌ لَا يُخْرِجُ عَنْ الْإِسْلَامِ بَلْ هُوَ تَشْدِيدٌ . وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ : مَنْ كَفَّرَ مُسْلِمًا وَلَوْ لِذَنْبِهِ كَفَرَ ; لِأَنَّهُ سَمَّى الْإِسْلَامَ كُفْرًا , وَلِخَبَرِ مُسْلِمٍ : { مَنْ دَعَا رَجُلًا بِالْكُفْرِ أَوْ قَالَ عَدُوَّ اللَّهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ إلَّا حَارَ عَلَيْهِ } . أَيْ رَجَعَ عَلَيْهِ هَذَا إنْ كَفَّرَهُ بِلَا تَأْوِيلٍ لِلْكُفْرِ بِكُفْرِ النِّعْمَةِ أَوْ نَحْوِهِ وَإِلَّا فَلَا يَكْفُرُ , وَهَذَا مَا نَقَلَهُ الْأَصْلُ عَنْ الْمُتَوَلِّي , وَأَقَرَّهُ , وَالْأَوْجَهُ مَا قَالَهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ أَنَّ الْخَبَرَ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُسْتَحِلِّ فَلَا يَكْفُرُ غَيْرُهُ , وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ قَوْلُهُ فِي أَذْكَارِهِ أَنَّ ذَلِكَ يَحْرُمُ تَحْرِيمًا مُغَلَّظًا .
مَا يُوجِبُ الرِّدَّةَ مِنْ الْأَفْعَالِ :
20 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ إلْقَاءَ الْمُصْحَفِ كُلِّهِ فِي مَحَلٍّ قَذِرٍ يُوجِبُ الرِّدَّةَ ; لِأَنَّ فِعْلَ ذَلِكَ اسْتِخْفَافٌ بِكَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى , فَهُوَ أَمَارَةُ عَدَمِ التَّصْدِيقِ . وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ : وَكَذَا إلْقَاءُ بَعْضِهِ . وَكَذَا كُلُّ فِعْلٍ يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِخْفَافِ بِالْقُرْآنِ الْكَرِيمِ . كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مَنْ سَجَدَ لِصَنَمٍ , أَوْ لِلشَّمْسِ , أَوْ لِلْقَمَرِ فَقَدْ كَفَرَ . وَمَنْ أَتَى بِفِعْلٍ صَرِيحٍ فِي الِاسْتِهْزَاءِ بِالْإِسْلَامِ , فَقَدْ كَفَرَ . قَالَ بِهَذَا الْحَنَفِيَّةُ وَدَلِيلُهُمْ قوله تعالى : { وَلَئِنْ سَأَلَتْهُمْ لَيَقُولُنَّ إنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاَللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ } .
الرِّدَّةُ لِتَرْكِ الصَّلَاةِ :(/2)
21 - لَا خِلَافَ فِي أَنَّ مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ جَاحِدًا لَهَا يَكُونُ مُرْتَدًّا , وَكَذَا الزَّكَاةُ وَالصَّوْمُ وَالْحَجُّ ; لِأَنَّهَا مِنْ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ الْمَعْلُومِ مِنْ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ . وَأَمَّا تَارِكُ الصَّلَاةِ كَسَلًا فَفِي حُكْمِهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : أَحَدُهَا : يُقْتَلُ رِدَّةً , وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَقَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ , وَعَامِرٍ الشَّعْبِيِّ , وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ , وَأَبِي عَمْرٍو , وَالْأَوْزَاعِيِّ , وَأَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ , وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ , وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ , وَعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ حَبِيبٍ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ , وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ , وَحَكَاهُ الطَّحَاوِيُّ عَنْ الشَّافِعِيِّ نَفْسِهِ , وَحَكَاهُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ , وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ , وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ , وَأَبِي هُرَيْرَةَ , وَغَيْرِهِمْ مِنْ الصَّحَابَةِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : يُقْتَلُ حَدًّا لَا كُفْرًا , وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ , وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : أَنَّ مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ كَسَلًا يَكُونُ فَاسِقًا وَيُحْبَسُ حَتَّى يُصَلِّيَ , وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ .
سَبُّ الدِّينِ وَالْمِلَّةِ :
19 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ سَبَّ مِلَّةَ الْإِسْلَامِ أَوْ دِينَ الْمُسْلِمِينَ يَكُونُ كَافِرًا , أَمَّا مَنْ شَتَمَ دِينَ مُسْلِمٍ فَقَدْ قَالَ الْحَنَفِيَّةُ كَمَا جَاءَ فِي جَامِعِ الْفُصُولَيْنِ : يَنْبَغِي أَنْ يَكْفُرَ مَنْ شَتَمَ دِينَ مُسْلِمٍ , وَلَكِنْ يُمْكِنُ التَّأْوِيلُ بِأَنَّ الْمُرَادَ أَخْلَاقُهُ الرَّدِيئَةُ وَمُعَامَلَتُهُ الْقَبِيحَةُ لَا حَقِيقَةَ دِينِ الْإِسْلَامِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَكْفُرَ حِينَئِذٍ . قَالَ الْعَلَّامَةُ عُلَيْشٌ : يَقَعُ كَثِيرًا مِنْ بَعْضِ شِغْلَةِ الْعَوَّام كَالْحَمَّارَةِ وَالْجَمَّالَةِ وَالْخَدَّامِينَ سَبُّ الْمِلَّةِ أَوْ الدِّينِ , وَرُبَّمَا وَقَعَ مِنْ غَيْرِهِمْ , وَذَلِكَ أَنَّهُ إنْ قَصَدَ الشَّرِيعَةَ الْمُطَهَّرَةَ , وَالْأَحْكَامَ الَّتِي شَرَعَهَا اللَّهُ تَعَالَى لِعِبَادِهِ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم فَهُوَ كَافِرٌ قَطْعًا , ثُمَّ إنْ أَظْهَرَ ذَلِكَ فَهُوَ مُرْتَدٌّ . فَإِنْ وَقَعَ السَّبُّ مِنْ الذِّمِّيِّ فَإِنَّهُ يَأْخُذُ حُكْمَ سَبِّ اللَّهِ أَوْ النَّبِيِّ , ذَكَرَ ذَلِكَ مَنْ تَعَرَّضَ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ . نُقِلَ عَنْ عَصْمَاءَ بِنْتِ مَرْوَانَ الْيَهُودِيَّةِ أَنَّهَا كَانَتْ تَعِيبُ الْإِسْلَامَ , وَتُؤْذِي النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَتُحَرِّضُ عَلَيْهِ فَقَتَلَهَا عَمْرُو بْنُ عَدِيٍّ الْخِطْمِيُّ . قَالُوا : فَاجْتَمَعَ فِيهَا مُوجِبَاتُ الْقَتْلِ إجْمَاعًا . وَهَذَا عِنْدَ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ , أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَدْ قَالُوا : يَجُوزُ قَتْلُهُ وَيُنْقَضُ عَهْدُهُ إنْ طَعَنَ فِي الْإِسْلَامِ طَعْنًا ظَاهِرًا .
الرّدّة بإهانة المصحف :
33 - إذا أهان المسلم مصحفاً متعمّداً مختاراً يكون مرتداً ويقام عليه حد الرّدّة .
وقد اتّفق الفقهاء على ذلك , فمن صور ذلك ما قال الحنفيّة : لو وطئ برجله المصحف استخفافاً وإهانةً يكون كافراً , وكذا من أمر بوطئه يكون كافراً .
ولو ألقى مصحفاً في قاذورةٍ متعمّداً قاصداً الإهانة فقد ارتدّ عند الجميع , قال الشّافعيّة : وكذا لو مسّه بالقاذورة ولو كانت طاهرةً كالبصاق والمخاط .
فإن كان ذلك عن سهوٍ أو غفلةٍ أو في نومٍ لم يكفر .
وكذا إن كان مكرهاً أو مضطراً ففعله لا يكفر .
اعتقاد الكنيسة بيت اللّه واعتقاد زيارتها قربةً :
19 - نصّ الشّيخ تقي الدّين من الحنابلة على أنّ من اعتقد أنّ الكنائس بيوت اللّه أو أنّه يعبد فيها , أو أنّه يحب ذلك ويرضاه فهو كافر لأنّه يتضمّن اعتقاد صحّة دينهم , وذلك كفر , أو أعانهم على فتح الكنائس وإقامة دينهم , واعتقد ذلك قربةً أو طاعةً , وكذلك من اعتقد أنّ زيارة أهل الذّمّة كنائسهم قربةً إلى اللّه فهو مرتد .
وفي مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 1 / ص 263)(/3)
وَالْإِنْسَانُ مَتَى حَلَّلَ الْحَرَامَ - الْمُجْمَعَ عَلَيْهِ - أَوْ حَرَّمَ الْحَلَالَ - الْمُجْمَعَ عَلَيْهِ - أَوْ بَدَّلَ الشَّرْعَ - الْمُجْمَعَ عَلَيْهِ - كَانَ كَافِرًا مُرْتَدًّا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ . وَفِي مِثْلِ هَذَا نَزَلَ قَوْلُهُ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ : { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } أَيْ هُوَ الْمُسْتَحِلُّ لِلْحُكْمِ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ ، وَلَفْظُ الشَّرْعِ يُقَالُ فِي عُرْفِ النَّاسِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَعَانٍ : " الشَّرْعُ الْمُنَزَّلُ " وَهُوَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَهَذَا يَجِبُ اتِّبَاعُهُ وَمَنْ خَالَفَهُ وَجَبَتْ عُقُوبَتُهُ . وَالثَّانِي " الشَّرْعُ الْمُؤَوَّلُ " وَهُوَ آرَاءُ الْعُلَمَاءِ الْمُجْتَهِدِينَ فِيهَا كَمَذْهَبِ مَالِكٍ وَنَحْوِهِ . فَهَذَا يَسُوغُ اتِّبَاعُهُ وَلَا يَجِبُ وَلَا يَحْرُمُ ، وَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يُلْزِمَ عُمُومَ النَّاسِ بِهِ وَلَا يَمْنَعَ عُمُومَ النَّاسِ مِنْهُ . وَالثَّالِثُ " الشَّرْعُ الْمُبَدَّلُ " وَهُوَ الْكَذِبُ عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ عَلَى النَّاسِ بِشَهَادَاتِ الزُّورِ وَنَحْوِهَا وَالظُّلْمِ الْبَيِّنِ فَمَنْ قَالَ إنَّ هَذَا مِنْ شَرْعِ اللَّهِ فَقَدْ كَفَرَ بِلَا نِزَاعٍ .(/4)
مَحَبَّةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
رئيسي :تربية :الأربعاء 12 جمادى الأولي 1425هـ - 30 يونيو 2004
الحديث عن محبته عليه الصلاة والسلام متعة عظيمة ! أما الألسنة: فتترطب بذكره، والصلاة عليه، وأما الآذان: فتتشنف بسماع سيرته وهديه وحديثه، وأما العقول: فتخضع لما ثبت من الحكم والسنة التي جاء بها عليه الصلاة والسلام، وأما الجوارح والأعضاء: فتنتفع وتتمتع بموافقة هديه وفعله وحاله صلى الله عليه وسلم.
أولا :مفهوم المحبة:
المحبة كما قال ابن القيم، ووافقه ابن حجر قال: ' المحبة لا تُحَدُّ- أي لا يذكر لها تعريف- إذ هي أمر ينبعث بنفس يصعب التعبير عنه' .
ثم المحبة لها جوانب منها: محبة الاستلذاذ بالإدراك، كحب الصور الجميلة والمناظر والأطعمة والأشربة .. تلك محبة فطرية، أو تكون محبة بإدراك العقل، وتلك المحبة المعنوية التي تكون لمحبة الخصال الشريفة، والأخلاق الفاضلة، والمواقف الحسنة، وهناك محبة لمن أحسن إليك، ولمن قدم لك معروفاً، فتنبعث المحبة حينئذٍ ؛ لتكون ضرباً من ضروب الحمد والشكر، فينبعث الثناء بعد ذلك ترجمة لها وتوضيحاً لمعانيها .
قال النووي رحمه الله في كلمةٍ جميلة: وهذه المعاني كلها موجودة في النبي صلى الله عليه وسلم لما جمع من جمال الظاهر والباطن، وكمال الجلال، وأنواع الفضائل وإحسانه إلى جميع المسلمين بهدايته إياه إلى الصراط المستقيم، ودوام النعم والإبعاد من الجحيم..فإن نظرت إلى وصف هيئته صلى الله عليه وسلم؛ فجمال ما بعده جمال، وإن نظرت إلى أخلاقه وخلاله؛ فكمال ما بعده كمال، وإن نظرت إلى إحسانه وفضله على الناس جميعًا وعلى المسلمين خصوصاً؛ فوفاء ما بعده وفاء .
فمن هنا: تعظم محبته صلى الله عليه وسلم ويستولي في المحبة على كل صورها وأعظم مراتبها، وأعلى درجاتها، فهو صلى الله عليه وسلم الحري بأن تنبعث محبة القلوب والنفوس له في كل لحظةٍ، وفي كل تقلبات حياتنا، ولذلك ينبغي أن ندرك عظمة هذه المحبة، وهنا وقفة نتمم بها هذا:
فنحن نتعلق ونرتبط برسول الله صلى الله عليه وسلم من جوانب شتى: في جانب العقل معرفةً وعلماً، نقرأ ونحفظ سيرته وحديثه وهديه وسنته، والواجب منها والمندوب منها ونحو ذلك، ومحبةً بالقلب، وهي عاطفة مشبوبة، ومشاعر جياشة، ومحبة متدفقة، وميلٌ عاصف تتعلق به النفس والقلب برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لما فيه من المعاني الحسية والمعنوية .
ثم محبة بالجوارح تترجم فيها المحبة إلى الاتباع لسنته وفعله عليه الصلاة والسلام، فلا يمكن أن نقول إن المحبة إتباعٌ فحسب ! فأين مشاعر القلب؟ ولا يصلح أن نقول إنها الحب والعاطفة الجياشة، فأين صدق الإتباع؟ ولا ينفع هذا وهذا ! فأين المعرفة والعلم التي يؤسس بها من فقه سيرته وهديه وأحواله عليه الصلاة والسلام؛ لذا فنحن نرتبط في هذه المحبة بالقلب والنفس، وبالعقل والفكر، وبسائر الجوارح والأحوال والأعمال، فتكمل حينئذٍ المحبة ؛ لتكون هي المحبة الصادقة الخالصة الحقيقية العملية الباطنية، فتكتمل من كل جوانبها؛ لنؤدي بعض حق رسول الله صلى الله عليه وسلم علينا .
ثانيًا:حكم محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم:
هي واجبة على كل مسلمٍ قطعاً، والأدلة على ثبوت وجوبها كثيرة، ومن ذلك قول الله سبحانه- الذي جمع في آيةٍ واحدة كل محبوبات الدنيا، وكل متعلقات القلوب، وكل مطامع النفوس ووضعها في كفةٍ، وحب الله، وحب رسوله في كفةٍ- قال تعالى:{ قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ[24]}[سورة التوبة].
قال القاضي عياض رحمه الله:' فكفى بهذا حضاً و تنبيهاً و دلالة و حجة على إلزام محبته ، و وجوب فرضها ، و عظم خطرها ، و استحاقه لها صلى الله عليه و سلم ، إذ قرّع تعالى من كان ماله وأهله، وولده أحب إليه من الله، ورسوله، و أوعدهم بقوله تعالى:{ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ}، ثم فسقهم بتمام الآية فقال:{وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}، وأعلمهم أنهم ممن ضل ولم يهده الله عز وجل ' .فهذه آيةً عظيمة تبين أهمية ووجوب هذه المحبة .
ويأتينا دليل عظيم، وبليغ في قول الحق: { النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ...[6]}[سورة الأحزاب].
وبين ابن القيم الدلالة على وجوب المحبة في هذه الآية من وجوهٍ كثيرة ضمنها أمرين:(/1)
الأول: أن يكون أحب إلى العبد من نفسه: لأن الأولوية أصلها الحب ونَفْسُ العبد أحب إليه من غيره، ومع هذا يجب أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم أولى به منها أي أولى به من نفسه وأحب إليه من نفسه، فبذلك يحصل له اسم الإيمان، ويلزم من هذه الأولوية والمحبة كمال الانقياد والطاعة والرضى والتسليم، وسائر لوازم المحبة من الرضى بحكمه، والتسليم لأمره، وإيثاره على ما سواه .
وأما الجانب الثاني: أن لا يكون للعبد حكم على نفسه أصلاً: بل الحكم على نفسه لرسول صلى الله عليه وسلم، يحكم عليه أعظم من حكم السيد على عبده، أو الوالد على ولده، فليس له في نفسه تصرف إلا ما تصرف فيه الرسول صلى الله عليه وسلم، الذي هو أولى به من نفسه، أي بما جاء به عن الله عز وجل، وبلغهم من آياته وأقامه ونشره من سنته صلى الله عليه وسلم .
و قوله سبحانه:{ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ...[31]}[سورة آل عمران]. من الأدلة العظيمة الشاهدة على وجوب محبة النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ لا نزاع في أن محبة الله واجبة، وأن أتباع النبي ومحبته طريق إلى محبة الله. والآيات أكثر من أن تحصر في هذا المقام.
وأما أحاديثه صلى الله عليه وسلم فصريحة في الدلالة على وجوب هذه المحبة، ومن ذلك: قول النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ] رواه البخاري ومسلم.
وكذلك قصة عمر بن الخطاب رضي الله عنه: فقد كان مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِهِ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ:' يَا رَسُولَ اللَّهِ لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا مِنْ نَفْسِي' فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ لَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ] فَقَالَ لَهُ عُمَرُ:'فَإِنَّهُ الْآنَ وَاللَّهِ لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي' فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [الْآنَ يَا عُمَرُ] رواه البخاري.
و قول عمر الأول بمقتضى الأصل الطبعي في الإنسان أن أحب شيءٍ إليه نفسه، فلما أخبره النبي صلى الله عليه وسلم بالمصطلح الإيماني؛ أقرّ عمر بأنه بالمعنى الإيماني يفضل النبي، ويحب النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من نفسه، فقال له حينئذٍ رسول الله صلى الله عليه وسلم: [الْآنَ يَا عُمَرُ].
ثم إن حبّ الإنسان نفسه طبع، وحب غيره اختيار- كما ذكر الخطابي- ولذلك عمر جوابه الأول ذكر الطبع، ثم بعد ذلك ذكر الاختيار الذي هو مقتضى الإيمان .
ومن هنا ذكر العلماء أن محبة النبي صلى الله عليه وسلم على ضربين:
أحدهما: فرض، وهو المحبة التي تقتضي الإيمان بنبوته، وبعثته، وتلقي ما جاء به بالمحبة والقبول، والرضى والتسليم .
ودرجةً ثانية هي: محبة مندوبة، وهي تقصي أحواله ومتابعة سنته، والحرص على التزام أقواله وأفعاله قدر المستطاع والجهد والطاقة .
ومن الأدلة كذلك: قول النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ثَلاث مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بِهِنَّ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ أَنْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ]رواه مسلم.
ومن الأدلة كذلك: حديث جميل رائع قال فيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [مِنْ أَشَدِّ أُمَّتِي لِي حُبًّا نَاسٌ يَكُونُونَ بَعْدِي يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ رَآنِي بِأَهْلِهِ وَمَالِهِ]رواه مسلم .
فكلنا محب لرسول الله صلى الله عليه وسلم محبة وجوبٍ، ومحبة اختيارٍ وتعظيمٍ له عليه الصلاة والسلام، وأمر هذا الوجوب لا يحتاج لأدلة، فلعلنا ندرك عظمة هذا الوجوب عندما ندرك هذه النصوص الواضحة في أن محبته ينبغي أن تكون أعظم من محبة النفس التي بين جنبيك، وأنفاسك التي تتردد، وقلبك الذي يخفق، فضلاً عن محبة الزوج، والأبناء، أو الأمهات والآباء، فما أعظم هذه المحبة التي هي أعظم محبةٍ لمخلوقٍ من بني آدم في الدنيا، وفي الخليقة كلها، وهي التي استحقها سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، ووجبت على كل مؤمنٍ بالله سبحانه.
ثالثًا: لماذا نحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
هذا السؤال لنهيج القلوب والمشاعر لهذه المحبة، ولنؤكدها، ولنحرص على غرسها في سويداء القلوب والنفوس حتى تتحرك بها المشاعر، وتنصبغ بها الحياة، وتكون هي السمت والصبغة التي يكون عليها المسلم في سائر أحواله بإذن الله.(/2)
أولاً: نحبه؛ لأنه حبيب الله:ومن أحب الله؛ أحب كل ما أحبه الله، وأعظم محبوب من الخلق لله هو رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد قال عليه الصلاة والسلام: [وَلَكِنْ صَاحِبُكُمْ خَلِيلُ اللَّهِ]رواه مسلم. يعني نفسه صلى الله عليه وسلم، والخلة هي أعلى درجات المحبة.
ثانيًا: لأن الله أظهر لنا كمال رأفته وعظيم رحمته صلى الله عليه وسلم بأمته: فنحن نحب الإنسان متى وجدناه بنا رحيماً، وعلينا شفيقًا، ولنفعنا مبادراً، ولعوننا مجتهداً .. فنحبه من أعماق قلوبنا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو في هذا الباب أعظم مَنْ رحمنا، ورأف بنا، وإن كان بيننا وبينه هذه القرون المتطاولة، قال تعالى:{ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ[128]}[سورة التوبة].
ولو أردنا أمثلةً لذلك؛ طال بنا المقام، فرسول الله صلى الله عليه وسلم كثيراً ما كان يقول: [لَوْلا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي...]. وكم من الأحاديث الذي ورد فيها رقته ورحمته بأمته:
كما في حديث: مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ قَالَ: أَتَيْنَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ شَبَبَةٌ مُتَقَارِبُونَ فَأَقَمْنَا عِنْدَهُ عِشْرِينَ يَوْمًا وَلَيْلَةً وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَحِيمًا رَفِيقًا فَلَمَّا ظَنَّ أَنَّا قَدْ اشْتَهَيْنَا أَهْلَنَا أَوْ قَدْ اشْتَقْنَا سَأَلَنَا عَمَّنْ تَرَكْنَا بَعْدَنَا فَأَخْبَرْنَاهُ قَالَ: [ ارْجِعُوا إِلَى أَهْلِيكُمْ فَأَقِيمُوا فِيهِمْ وَعَلِّمُوهُمْ وَمُرُوهُمْ وَذَكَرَ أَشْيَاءَ أَحْفَظُهَا أَوْ لَا أَحْفَظُهَا وَصَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي فَإِذَا حَضَرَتْ الصَّلَاةُ فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أَحَدُكُمْ وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْبَرُكُمْ]رواه البخاري ومسلم. رحمة بهم .
بل كان إذا سمع بكاء الصبي يخفف من صلاته رأفةً وشفقةً على قلب أمه به، وذلك من كمال رحمته وشفقته عليه الصلاة والسلام .
ومن ذلك: كمال نصحه لأمته، وعنايته بتعليمهم، حتى قيل للصحابة: ' قَدْ عَلَّمَكُمْ نَبِيُّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى الْخِرَاءَةَ'رواه مسلم. أي: حتى قضاء الحاجة، علم أمته كل شيء، وكان عليه الصلاة والسلام لا يدع فرصةً إلا ويعلمهم، ولا يدع فرصةً إلا ويقول: [ لِيُبَلِّغ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ] رواه البخاري ومسلم. حتى جئنا إلى أيامنا هذه وإلى ما بعدها، وكأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا نراه في يقظته ومنامه، بل نحن نعرف عن رسول الله عليه الصلاة والسلام من سيرته أكثر مما نعرف عن أنفسنا .. لم يعرفوا منكم عن صغره من يعرف منكم حاله في نومه أو يقظته، رُصدت حياته صلى الله عليه وسلم، ورصد لنا وصفه وشعره كم شعرةً بيضاء في لحيته، كل ذلك في وصفٍ دقيقٍ بليغٍ، حتى كأن كل شيءٍ في حياته كأنما ورد في وضح النهار، وفي رابعة الشمس كما يقولون .
ثالثًا: من دواعي محبته صلى الله عليه وسلم: خصائصه وخصاله العظيمة: ويكفينا في ذلك قول الله:{ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ[4]}[سورة القلم]. واجتمع فيه ما تفرق من وجوه الفضائل والأخلاق والمحاسن في الخلق كلهم، فكان هو مجتمع المحاسن عليه الصلاة والسلام، وحسبنا ذلك في هذه الدواعي، وإلا فالأمر كثير ؛ فإن الذين مالت قلوبهم، وملئت حباً لرسول الله عليه الصلاة والسلام من أصحابه، إنما سبى قلوبهم، واستمال أنفسهم بما كان عليه من الخلق وحسن المعاملة، وكمال الرحمة، وعظيم الشفقة، وحسن القول إلى غير ذلك من ما هو معلوم من شمائله عليه الصلاة والسلام .
رابعًا: مظاهر محبته صلى الله عليه وسلم وعلاماتها: فلكل شيءٍ دليل، ولكل إدعاءٍ برهان، ومن هنا
نذكر بعض هذه المعالم العظيمة المهمة من مظاهر وعلامات محبته صلى الله عليه وسلم:
ومن أولها: محبته باتباعه، والأخذ بسنته صلى الله عليه وسلم: وكما قال ابن الجوزي مستشهدًا بقول مجنون ليلى:
إذا قيل للمجنون ليلى تريد أم الدنيا وما في طواياها
لقال غبار من تراب نعالها أحب إلى نفسي وأشفى لبلواها
قال ابن الجوزي:' وهذا مذهب المحبين بلا خلاف، فكل محبٍ يكون أدنى شيءٍ من محبوبة أعظم إليه من كل شيءٍ في دنياه، فكان أدنى شيءٍ من الله، ومن رسوله أعظم وأحب إلى كل مؤمن من كل شيءٍ في دنياه ' .(/3)
قال ابن رجب رحمه الله في 'جامع العلوم والحكم':' فمن أحب الله ورسوله محبةً صادقةً من قلبه؛ أوجب له ذلك أن يحب بقلبه ما يحبه الله ورسوله، ويكره ما يكره الله ورسوله، ويرضى ما يرضى الله ورسوله، ويسخط ما يسخط الله ورسوله، وأن يعمل بجوارحه بمقتضى هذا الحب والبغض؛ فإن عمل بجوارحه شيئاً يخالف ذلك بأن ارتكب بعض ما يكرهه الله ورسوله، أو ترك بعض ما يحب الله ورسوله مع وجوبه والقدرة عليه، دلّ ذلك على نقص محبته الواجبة، فعليه أن يتوب من ذلك، ويرجع إلى تكميل المحبة الواجبة ' .
ثانياً : الإكثار من ذكره صلى الله عليه وسلم والصلاة عليه:
فمن أحب إنساناً أكثر ذكره، وأكثر ذكر محاسنه، فينبغي أن نعطر مجالسنا في كل وقتٍ وحينٍ بذكر مآثر النبي صلى الله عليه وسلم، وسيرته وأحواله وشمائله، وهذا الذكر هو الذي يهيج هذه المحبة ويبعثها، وكثرة الصلاة عليه والسلام تترك هذا المعنى:{ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[56]}[سورة الأحزاب].
وفي حديث أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا ذَهَبَ ثُلُثَا اللَّيْلِ قَامَ فَقَالَ: [ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا اللَّهَ اذْكُرُوا اللَّهَ جَاءَتْ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ جَاءَ الْمَوْتُ بِمَا فِيهِ جَاءَ الْمَوْتُ بِمَا فِيهِ] قَالَ أُبَيٌّ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أُكْثِرُ الصَّلَاةَ عَلَيْكَ فَكَمْ أَجْعَلُ لَكَ مِنْ صَلَاتِي فَقَالَ: [مَا شِئْتَ] قَالَ قُلْتُ الرُّبُعَ قَالَ: [مَا شِئْتَ فَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ] قُلْتُ النِّصْفَ قَالَ: [ مَا شِئْتَ فَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ] قَالَ قُلْتُ فَالثُّلُثَيْنِ قَالَ: [مَا شِئْتَ فَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ] قُلْتُ أَجْعَلُ لَكَ صَلَاتِي كُلَّهَا قَالَ: [إِذًا تُكْفَى هَمَّكَ وَيُغْفَرُ لَكَ ذَنْبُكَ] رواه الترمذي وأحمد .
قال الشراح: كان أُبّي يقصد أن له وردٌ من الدعاء دائم، فكان يصلي فيه على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: كم أجعل لك من ذلك ؟ قال زد حتى لو كان الحمد والثناء والصلاة على رسول الله عليه الصلاة والسلام ؛ فإنه وإن قلّ الدعاء يكون فيه ما وعد به النبي صلى الله عليه وسلم: [إِذًا تُكْفَى هَمَّكَ وَيُغْفَرُ لَكَ ذَنْبُكَ].
ثالثاً: تمني رؤيته والشوق إليه: وتلك بعض مشاعر المحبة، وقد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [مِنْ أَشَدِّ أُمَّتِي لِي حُبًّا نَاسٌ يَكُونُونَ بَعْدِي يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ رَآنِي بِأَهْلِهِ وَمَالِهِ]رواه مسلم .
وهذا بلال رضي الله عنه ذهب إلى بلاد الشام بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يقول : لم أطق أن أبقى في المدينة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان إذا أراد أن يؤذن إذا جاء بقوله :' أشهد أن محمداً رسول الله ' تخنقه عبرته، فيبكي، فمضى إلى الشام وذهب مع المجاهدين، ورجع بعد سنوات، ثم دخل إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحان وقت الأذان، فأذن بلال، فبكى، وأبكى الصحابة بعد انقطاعٍ طويل غاب فيه صوت مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتذكروا بلالاً وأذانه، وتذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وكان بلال رضي الله عنه عند وفاته تبكي زوجته بجواره، فيقول: ' لا تبكي غدًا نلقى الأحبة محمداً وصحبه '.. فكان يشتاق للقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو واحد من المبشرين بالجنة كما ثبت ذلك في الحديث. وهكذا روي عن حذيفة بن اليمان، وعن عمار بن ياسر رضي الله عنهم أجمعين كلهم روى أو ذكر القاضي عياض في الشفاء أنهم قالوا:'غداً نلقى الأحبة محمداً وصحبه ' .
رابعًا : محبة الكتاب الذي أنزل عليه، والذي بلّغه لأمته:
وهو معجزته الخالدة إلى قيام الساعة، كلام الله وكتابه العظيم، الذي فيه الهدى والنور، فمن أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب القرآن، والتعلق به .
خامسًا: محبة آل بيته صلى الله عليه وسلم: ومن أصول أهل السنة والجماعة أنهم يحبون أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتولونهم، ويحفظون فيهم وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم .
خامسًا:الأسباب الجالبة لمحبة النبي صلى الله عليه وسلم:
أولها: تعظيم محبة الله.
ثانياً: قراءة سيرته صلى الله عليه وسلم: اقرأوا السيرة، وعلموها أبنائكم، قال السلف:' كانوا يعلموننا مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يعلموننا الآية من القرآن' .
ثالثاً: تذكر الأجر العاجل في الدنيا والآجل في الآخرة بمحبة النبي صلى الله عليه وسلم.
رابعاً: تولى الصحابة رضوان الله عليهم، والإكثار من ذكر سيرتهم.(/4)
خامساً: تعظيم السنة النبوية:حتى إذا قيل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يكون منك ما كان من الصحابة .. يقول الراوي كانوا إذا قيل: قال النبي صلى الله عليه وسلم: اشرأبت الأعناق، وشخصت الأبصار، وأصغت الأسماع .. لا انصراف ولا التفات ولا تحرك، بل احترام وإجلال لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
سادساً: إجلال المحبين للسنة والعاملين بها: كل محدّثٍ، وكل عاملٍ بسنة، وكل ملتزمٍ للسنة نحبه؛ لأنه يذكرنا برسول الله صلى الله عليه وسلم .
سابعاً: الذبّ عن السنة والدفاع عنها
سادساً:ثمار المحبة:
هذه المحبة في الدنيا عون على الطاعة، والإكثار من العبادة، وخفة ذلك على النفس، وإقبال الروح على مزيدٍ من الطاعات .. وأما في الآخرة فحسب المحبة أن تكون نجاته من النار، ولحوقاً برسول الله صلى الله عليه وسلم كما قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ]رواه البخاري ومسلم.
سابعًا:وقفة أخيرة:محبة النبي صلى الله عليه وسلم بين الغلو والجفاء:
هذه المحبة التي قلناها ما بال بعضنا يفسدها بغلوٍ يخرج عن حد الاعتدال، أو جفاءٍ يبتعد فيه المسلم عن حق رسول الله صلى الله عليه وسلم في تعظيم محبته عليه الصلاة والسلام؟
الغلو خرج به قوم إلى صورٍ كثيرة لا تخفى عليكم من حيث الواقع، ولكني أذكرها من حيث المنهج والمبدأ .
من يجعل المدح مدخلاً لذكر ما هو خاص مستحق لله لا يجوز أن يشاركه فيه غيره، ولا أن يوصف به غيره، ولو كان هذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يُدعى لرسول الله عليه الصلاة والسلام ما هو من حق الله، وخصائص الله سبحانه، وهذا يأباه النبي صلى الله عليه وسلم !
وقد علّمه للناس في وقته وفي زمانه، كما قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [إِذَا حَلَفَ أَحَدُكُمْ فَلَا يَقُلْ مَا شَاءَ اللَّهُ وَشِئْتَ وَلَكِنْ لِيَقُلْ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ شِئْتَ] بعضهم يقولون هذه الألفاظ تعبير عن المشاعر، ولا نقصد بها عين الألفاظ ! نقول: هل أنتم أعلم أو أحكم من رسول الله عليه الصلاة والسلام؟ لِمَ لم يترك التنبيه على الألفاظ إذا كانت ليست مؤثرة في النفس، والفكر والعقل !!
وضرب آخر من الغلو وهو: الإتيان بالمخالفات عملية وفعلية لسنة وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم: بادعاء للمحبة، أو في أوقات وأفعال وأحوالٍ تُدعى فيه محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالاجتماع لمحبته مع وجود الاختلاط، أو وجود ما هو مذموم من الغناء، أو بادعاء أمورٍ غيبية من حلول روحه، أو من تجسد روحه، أو من رؤيته، ونحو ذلك .. وهذه الأمور التي لا تثبت، وهذا الادعاء ليس له دليل، وليس له حجة .
ثم أمر ثالث أيضاً في هذا الغلو وهو: الإدعاء والاختراع لأمورٍ وأقوال وأحوال لم تثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
النبي عليه الصلاة والسلام علمنا الصلاة عليه، ووردت لنا في أحاديثه صيغ كثيرةٍ من الصلوات، ولكن أن نخصص صلوات معينة، لا بد أن تحفظ، وأن تذكر بعددٍ من المرات، من أين لنا هذا ؟ ومن أين لنا أن نوجب على الناس، أو أن نسنّ لهم، أو أن نشرّع لهم ما لم يشرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكلامه أوثق وأقوى، وهو الذي أوتي جوامع الكلم عليه الصلاة والسلام .
ونجد كذلك هناك ادعاءات كثيرة فيما يتعلق بالأقوال والأحاديث، بعضها ضعيف، وبعضها موضوع، وبعضها لا يثبت، ومع ذلك كل هذا يقال، وينسب لرسول صلى الله عليه وسلم بادعاء الرغبة في المحبة ! أو التحليل، وهذا كله خارج حد الاعتدال .
وأما الجفاء: فكذلك إن كنا ننكر الغلو ونحذر منه فكذلك الجفاء، ومن صور الجفاء ترك زيارة مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، أو ترك السلام على رسول الله عليه الصلاة والسلام، وترك التعلق بسنته.
ومن الجفاء: ردّ الأحاديث الصحيحة، بموجب مقتضيات عقولهم، يقول لك : نعم هذا حديث ! لكن هذا لا يعقل، وهذا لا يصلح في هذا الزمان ! هذا كله ضربٌ من المخاطر العظيمة في شأن المحبة، بل في شأن الإيمان بنبوة الرسول صلى الله عليه وسلم .
العدول عن سيرته .. عدم الهيبة والتعظيم والإجلال عند ذكره، أو ذكر حديثه .. لماذا لا نعظم الرسول صلى الله عليه وسلم؟ لماذا لا نثير هذه السيرة ؛ لتكون المحبة أعظم في القلوب؟ .
من أعظم الهجر والجفاء لمحبة النبي صلى الله عليه وسلم: الابتداع، كل مبتدعٍ يتلبس بدعةً يخالف فيها سنة النبي صلى الله عليه وسلم فهو ضرب من الجفاء، كأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول له افعل كذا، وهو يفعل غيره ونقيضه ! وهذا أمرٌ عظيمٌ جداً .
من أهم الأمور في الجفاء: ترك الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم.(/5)
وكذلك: عدم معرفة قدر الصحابة وذمهم: كيف تدعي حبّ الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم تذمّ أصحابه الذين كانوا عن يمينه وعن يساره، الذين فدوه بأرواحهم، وجعلوا صدورهم دروعاً تتلقى السهام ؛ ليذودوا عن رسول الله عليه الصلاة والسلام؟ كيف يمكن لأحدٍ أن يدعي المحبة وهو يذمّ أو يتهم أو يشنع على أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين ؟
من الجفاء: عدم العناية بالسيرة النبوية، وعدم معرفة الخصائص والخصال: خصال النبي صلى الله عليه وسلم وخصائصه عظيمة جداً، أكثرها لا يعرفها الناس، ولا يعرفون أحاديثه الثابتة، ولا المعجزات المادية، ومن المهم أن نذكرها.
أسأل الله أن يعظم محبة رسوله في قلوبنا، وأن يجعل محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم عندنا من محبة أنفسنا، وأن يجعل محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم طمأنينة قلوبنا، وانشراح صدورنا، وأن يجعل محبته عوناً لنا على طاعة الله عز وجل، وحسن الصلة به.
من محاضرة:'مَحَبَّةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ' للشيخ/ علي بن عمر بادحدح(/6)
مَراتِعُ الأشواق في مَرابع العُشاق
(2/3) د. محمد عمر دولة*
الجزء الثاني:ذكريات مكة المكرمة (في الحرم الشريف)
-- (1) --
سُبحان الله.. حينما تقترب من (الحرم).. تشعر بالمهابةِ تغمرك.. والوقارِ يملأ قلبَك.. فالأنوارُ المتلالئة تزيد المكانَ روعةً وجمالاً وجلال إنه بيتُ الله.. الذي وُضِعَ للناس.. واختارَه الله عز وجلَّ من دون سائرِ البقاعِ.. تهوي إليه الأفئدة، وتحنُّ إليه القلوب.. وصدقَ الله العظيم: (إنَّ أوّلَ بيتٍ وُضِعَ للناسِ لَلذي ببكَّةَ مُبارَكاً وهُدًى لِلعالَمِين فيه آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إبراهيم ومَن دخَلَه كان آمِناً).[1]
تمتزج.. في هذا الموقفِ المهيب.. مشاعرُ الفرح والسعادة بمشاعرِ الوقارِ والمهابة وسرعانَ ما تحضرُك.. كلماتُ ابنِ القيم رحمه الله: "لو لم يكن له شَرفٌ إلا إضافتُه إياه إلى نفسِه بقوله: (وطهِّرْ بيتي)؛ لكفى بهذه الإضافة فضلا وشرف وهذه الإضافة هي التي أقبلَتْ بِقلُوبِ العالَمِين إليه، وسلَبت نفوسَهم؛ حُباًّ له وشوقاً إلى رؤيته؛ فهذه المثابةُ لِلمُحبِّين يَثُوبُون إليه ولا يَقْضُون منه وَطَراً أبد كلما ازدادُوا له زيارةً ازدادوا له حبّاً وإليه اشتياق فلا الوصال يشفيهم، ولا البعاد يسليهم. كما قيل:
أطوفُ به والنفس بعدُ مَشوقةٌ **** إليهِ وهل بعد الطوافِ تدانِ؟
وألثم منه الركن أطلب برد **** بقلبيَ من شوقٍ ومن هَيَمانِ
فواللهِِ ما أزدادُ إلا صَبابةً **** ولا القلبُ إلا كثرة الخَفَقانِ
فيا جنة المأوى ويا غاية المنى **** ويا مُنيتي من دون كل أمان
أبت غلباتُ الشوق إلا تقربا ** إليك فما لي بالبعادِ يدان
وما كان صَدِِِِِِِِّي عنك صدَّ ملالة **** ولي شاهدٌ من مُقلتي ولساني
دعوت اصطباري عنك بعدك والبكا** فلبَّى البكا والصبرُ عنك عصاني
وقد زعموا أنَّ المحب إذا نأى** سيَبْلَى هواه بعد طُولِ زمانِ
ولو كان هذا الزعمُ حقا لكان ذا** دواء الهوى في الناسِ كل زمانِ
بلى إنه يبلى والهوى على** حالِه لَمْ يُبْلِهِ الْمَلَوان
وهذا محبٌّ قاده الشوق والهوى** بغيرِ زمامٍ قائد وعنان
أتاك على بعد المزار ولو وَنَتْ** مَطِيتُه جاءت به القَدمان".[2]
----------------- (2) -----------------
تتذكر.. وأنت تخطو باتجاهِ الحرمِ الشريفِ.. مَواكِبَ الأنبياء وخُطواتِ الصالحين.. الذين وَفَدُوا إلى هذا البيتِ العتيق.. من غابرِ الأزمان، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : (كأني أنظر إلى موسى عليه السلام هابطاً من الثنيّة له جُؤارٌ إلى الله تعالى بالتلبية)،[3] وقال صلى الله عليه وسلم : (كُونوا على مَشاعرِكم؛ فإنكم على إرثٍ من إرثِ إبراهيم).[4](/1)
ما أعظمَ البيتَ الحرامَ.. فليس في الدنيا كلِّها.. مكانٌ ينبضُ بتاريخ العظماء.. مثل هذا المكانِ المقدَّسِ المبارَك.. العامرِ بذكرياتِ الصالحين الأولين.. فما أسعدَ النفسَ "وهي ترِفُّ حول هذا البيت وتستَرْوِحُ الذكرياتِ.. طيف إبراهيم الخليل عليه السلام وهو يُودِع البيت فِلْذَةَ كَبِدِه إسماعيلَ وأمَّه, ويتوجه بقلبه الخافقِ الواجفِ إلى ربه: (ربَّنا إني أسكنتُ مِن ذُرِّيَّتي بوادٍ غيرِ ذي زرعٍ عند بيتِك المحرَّمِ ربَّنا لِيُقِيمُوا الصلاةَ فاجعلْ أفئدةً مِن الناسِ تهوي إليهم وارزقْهم مِن الثمراتِ لعلَّهم يشكُرون).. وطيف هاجر وهي تسترْوِحُ الماءَ لنفسها ولطفلِها الرضيع في تلك الحَرَّةِ الملتهبة حول البيت, وهي تروحُ بين الصفا والمروة وقد نَهَكَها العطشُ, وهدَّها الجَهْدُ وأضناها الإشفاقُ على الطفل.. ثم ترجعُ في الجولةِ السابعة وقد حَطَمَها اليأس لتجدَ النبعَ يتدفق بين يدَيِ الرضيع الوضيء. فإذا هي زمزم: ينبوع الرحمة في صحراء اليأس والجدب.. وطيف إبراهيم عليه السلام وهو يرى الرؤيا, فلا يتردد في التضحية بفِلْذةِ كبدِه, ويمضي في الطاعةِ المؤمنة إلى ذلك الأفقِ البعيد: (قال: يا بُنَيَّ إني أرى في المنامِ أنِّي أذبحُك فانظرْ ماذا ترى؟) فتجيبُه الطاعة الراضيةُ في إسماعيل: (قال: يا أبتِ افعَلْ ما تؤمرْ ستجدُني إنْ شاء الله مِن الصابِرِين).. وإذا رحمةُ الله تتجلَّى في الفداء: (ونادَيْناه أنْ يا إبراهيمُ قد صَدّقتَ الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسِنِين إنَّ هذا لَهُو البلاءُ المبِينُ وفَدَيْناه بِذِبْحٍ عَظِيم).. وطيف إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام يرفعان القواعدَ من البيتِ في إنابةٍ وخُشوعٍ: (ربَّنا تقبَّلْ منا إنك أنت السميعُ العليم ربَّنا واجعلْنا مُسلِمَيْن لك ومِن ذُرِّيَّتِنا أمةً مُسلمةً لك وأرِنا مَناسِكَنا وتُبْ علينا إنك أنت التوابُ الرَّحيم).. ثم تتواكبُ الأطيافُ والذكرياتُ من محمد صلى الله عليه وسلم وهو يدرجُ في طُفُولَتِه وصِباه فوق هذا الثرى حولَ هذا البيت, وهو يرفعُ الحجرَ الأسودَ بيديه الكريمتين فيضعه موضعه؛ ليطفئ الفتنةَ التي كادت تنشبُ بين القبائل وهو يصلِّي وهو يطوفُ وهو يخطبُ وهو يعتكفُ وإنّ خطواته عليه الصلاة والسلام لَتَنْبِضُ حَيَّةً في الخاطر, وتتمثلُ شاخِصةً في الضمير, يكاد الحاجُّ هناك يلمَحُها وهو مُستغرِقٌ في تلك الذكرياتِ، وخطواتُ الحشدِ من صحابتِه الكرامِ وأطيافُهم ترِفُّ فوق هذا الثرى حول ذلك البيت, تكاد تسمعها الأذن وتكاد تراها الأبصار".[5]
--------------- (3) ---------------
تتذكر.. على أعتاب مكة.. أمجادَ الفاتحين الأولين.. من المهاجرين والأنصار.. وكيف انهزمَ المشركون.. وفرَّ بعضُهم، كما روى ابن كثير وابن فهد أنَّ حِماس بن قيس بن خالد، كان قبلَ فتحِ مكة يُعِدُّ السلاحَ ويُصلح منه؛ فتقول له امرأتُه: لماذا تُعِدُّ ما أرى؟ فيقول: لِمُحمدٍ وأصحابِه. فتقول: والله ما أراه يقوم لِمحمدٍ وأصحابِه شيءٌ فيقول: والله إني لأرجو أن أُخْدِمَك بعضَهم ثم ينشد:
إنْ يُقبلوا اليومَ فما لي عِلَّهْ** هذا سِلاحٌ كامِلٌ وألَّهْ
وذو غِرارَيْن سَريعُ السَّلَّه
فانهزمَ حتى دخلَ على امرأتِه، وقال لها: أغْلِقي عَليَّ بابي فقالت: أينَ ما كنتَ تقول؟ فأنشد:
وأنتِ لو رأيتِنا بالْخِنْدَمَهْ** إذْ فرَّ صَفوانُ وفرَّ عِكْرمَهْ
ولَحِقَتْنا بالسيوفِ المسلِمَهْ** يَقْطَعْن كلَّ ساعدٍ وجُمجُمَهْ
ضرباً فلا تسمع إلا غَمغَمَهْ** لهم نَهِيتٌ حولَنا وهَمْهَمَهْ
لم تنطِقي في اللومِ أدنَى كَلِمَهْ [6]
----------------- (4) -----------------
سُبحان الله.. ما أجملَ الكعبةَ وأجلَّه وما أحلى الطوافَ به وأنت تستشعر.. ملايين الطائفين من الصالحين.. منذ آلاف السنين
الله أكبر..كم تحيا القلوبُ.. في هذا المكانِ الطاهر.. وكم تسعد الأرواح
فإنَّ المرءَ يستشعرُ بركةَ هذا البيتِ.. في قلبِه ومَشاعِرِه.. وإنه لَيُحِسُّ بردَ الخُشوعِ يَسري بين جَنبَيه.. ورُوحَ العُبوديةِ تدبُّ بين جَوانِحِه.. فقد امتلأ القلبُ ذُلا وانكِساراً وتعظيماً لهذا البيت؛ (ومن يُعظِّمْ شعائرَ الله فإنها مِن تقوى القلوب).[7]
وتَرِدُ على ذهنِك وقلبِك.. في هذا المكان كلماتُ أحمد بن عبد الرحمن المقدسي رحمه الله ووَصِيَّتُه لِلوافِدِين على البيتِ العتيق: "إذا رأى البيتَ الحرامَ استحضرَ عظمتَه في قلبِه, وشَكرَ اللهَ سبحانه وتعالى على تبليغِهِ رُتبةَ الوافِدِين إليه. ولْيَستَشْعِرْ عظمةَ الطوافِ به؛ فإنه صلاةٌ, ويعتقدْ عند استلامِ الحجرِ أنه مُبايِعٌ للهِ على طاعتِهِ, ويضمُّ إلى ذلك عزيمتَهُ على الوفاءِ بالبيعة, وليتذكَّرْ بالتعلُّقِ بأستارِ الكعبة والالتصاقِ بالملتزم لَجْأَ المذنبِ إلى سيِّدِه وقُرْبَ المحب. وأنشد بعضُهم في ذلك:
سُتورُ بيتِكَ نَيْلُ الأمنِ منكَ وقدْ ** عُلِّقتُها مُستجيراً أيها البارِي(/2)
وما أظنُّكَ لما أن عَلِقْتُ بها** خوفاً من النارِ تُدنِينِي من النارِ
وها أنا جارُ بيتٍ أنتَ قلتَ لنا** حُجُّوا إليه وقد أَوْصَيْتَ بالجارِ "[8]
----------------- (5) ------------------
ما أشرفَ هذا المكان.. وما أكرمَه على الله.. وعلى عبادِ الله الصالحين؛ فلقد أصرَّ عبدُ الله بن عمر رضي الله عنهما أن يحجَّ إليه وهو شيخٌ كبيرٌ.. ولم يخشَ الفِتنةَ المستعرةََ بين الحجاج وابن الزبير.. وبكتْ عائشة رضي الله عنها؛ حَسرةً على فوات عُمرتِها حين حلَّ بها ما كُتب على النساء
وقد كانوا حُجاجُ بيتِ الله الحرام يتحملون المخاطرَ والأهوالَ ونفادَ الماء وقُطاعَ الطريق؛ من أجلِ وُفُودِهم إلى البيت العتيق. ولله ما أحسنَ ما رواه الحطاب عن المازري في مسألة سقوطِ فرضِ الحج عمن يُكرَه على دفعِ مالٍ غيرِ مُجْحِفٍ به لظالمٍ، قال أبو عبد الله المازري: "ولقد عمل مجلسُ شيخنا أبي الحسن اللخمي بصفاقص[9] وحولَه جَمعٌ من أهل العِلم مِن تلامذتِه وهم يتكلَّمون على هذه المسألة، فأكثروا القول والتنازع فيها: فمن قائلٍ بالإسقاط، ومن متوقفٍ صامتٍ، والشيخُ رحمه الله لا يتكلَّمُ، وكان معنا في المجلس الشيخ أبو الطيب الواعظ، وكُنا ما أبصَرْناه. فأدخلَ رأسَه في الحلقة، وخاطب الشيخَ اللخمي، وقال: يا مولاي الشيخ:
إنْ كان سَفكُ دمي أقصَى مُرادِهم ** فما غَلَتْ نظرةٌ منهم بسفكِ دمي "[10]
------------------ (6) ------------------
الحمد لله.. هذا هو البيت العتيق.. أول بيتٍ.. وضعَه الله لِخَلقِه.. وذَكرَه في كتابِه.. ونسبَه إلى نفسِه..
وتتناهى إلى ذهنِك.. في هذا الموقفِ الشريف.. كلماتُ الصنعاني رحمه الله: "نوّهَ الله تعالى في كتابه العزيز بذكرِ البيتِ، وكرّره تنويهاً له وتشريفاً, وأضافه إلى ذاته الشريفة فزاده تشريفاً وتعريفاً, لا تشبعُ من لقائه القلوب, ولا ترحلُ الأنفس عنه إلا وهي بذكره طروب و
لا يرجع الطرفُ عنها حين ينظرها** حتى يعودَ إليها وهو مُشتاق"[11]
---------------- (7) ----------------
ما أجملَ الصلاةَ في هذا المكان.. وما أطيبَه فالصلاةُ عامِرةٌ بالخشوع.. والمناجاة.. والدعاء الصادق المنيب وأما أجرُ الصلاةِ في المسجد الحرام فغنيمةٌ من الغنائم
كيف وقد روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلاة في مسجدي هذا أفضلُ من ألفِ صلاةٍ فيما سواه إلا المسجد الحرام). وفي روايةٍ: (خيرٌ من ألف صلاة في غيره من المساجد إلا المسجد الحرام).[12]
---------------- (8) ------------------
فترفَّقْ.. يا سائق الأظعان.. فليس هذا اليوم كسائر الأيام.. ولا تعجَلْ يا صاحِ.. فليس لِهذا المكان شبيهٌ في أي مكان فهو يعبق بالتاريخ والذكريات
يا سائقاً غَنِّ النياق وزمزما** أبشرْ فقد نلتَ المقام وزمزما
كم كنت تذكرنا منازل مكة ** وتقول إنّ بها المُنَى والمغنما
برِّدْ بماء سقاية العباس ما ** كابَدْتَه طولَ الطريقِ من الظَّما
وانهض وهَرْوِلْ بين زمزم والصفا** وادخلْ إلى الحجر الكريم مسلِّما
ومقام إبراهيم زُرْهُ مُبادِراً** وبحِجر إسماعيل صَلِّ معظِّما
وانظر عروسَ البيت جَلَّى حُسنُها** للناظرين ولُذْ بها مُستعصِما[13]
فكلُّ شيء حولَ البيت.. يُذكِّرك بالله.. وبرسولِ الله صلى الله عليه وسلم .. وبالصحابة الكرام.. الذين نصروه وعزروه وحموا هذا الدين وعظموا هذا البلد الأمين
هذه الخيف وهاتيك مِنَى ** فترفَّقْ أيها الحادي بن
واحبسِ الركبَ علينا ساعةً** نندب الربعَ ونبكي الدِّمَنا
فَلِذا الموقفِ أعددنا البُكا** ولذا اليوم دموعٌ تُقتَنَى
زمناً كان وكنا جيرةً** يا أعادَ الله ذاك الزَّمَنا
بَيْنُنا يومَ أُثِيلات النَّقا** كان من غير تراضٍ بينَن [14]
------------------- (9) ------------------
الله أكبر.. هذا هو (الحجرُ الأسود).. الذي تُقَبِّله الأفواه وتحنو عنده الجباه.. كما قال البدر أحمد بن الصاحب المصري:
لِلحَجرِ الأسودِ كم لاثِمٍ** وساجِدٍ مرَّغَ فيه الجِباهْ
تزدحمُ الأفواهُ على رَشْفِه** كأنه يَنبُوعُ ماءِ الحياهْ [15]
وتتذكر علماء الإسلام الربانيين.. الذين درجوا في هذا المكان.. وكان الناسُ يَحتَفُون بهم.. ويُقبِّلُون أيديَهم كما يُقبِّلُون الحجرَ الأسود.. فقد روى الذهبي أنَّ أبا القاسم سعد بن علي السنجاري[16] "إذا خرج إلى الحرم يخلو المطاف، ويُقبِّلون يدَه أكثرَ مما يُقبلون الحجر الأسود".[17]
وها هو الملتزم.. فما أسعدَ المستغفرين التائبين المتضرِّعين إلى ربِّهم في هذا الموطنِ الذي يُجاب فيه الدعاء.. فابكِ يا صاحِ على نفسِك.. واستغفرِ لذنبِك.. وقلْ كما قال الشيخ صديق حسن خان رحمه الله: "لما استسعدتُ بالتزام الملتزم, تمثلتُ بهذه الأبيات, وأرجو من الله قبولَها:
أسِيرُ الخطايا عند بابِك واقِفُ** على وَجَلٍ مما به أنتَ عارفُ
يَخاف ذُنوباً لم يَغِبْ عنك غيبُها** ويرجوك فيها فهو راجٍ وخائفُ(/3)
ومن ذا الذي يُرجَى سِواك ويُتّقَى** ومالَك في فَصلِ القضاءِ مُخالِفُ
فيا سيِّدي لا تُخْزِني في صحيفتي** إذا نُشِرتْ يومَ الحساب الصحائفُ
وكُن مؤنِسِي في ظُلمةِ القبرِ عندما** يَصُدُّ ذَوُو القُربى ويَجْفُو الموالِفُ
لئنْ ضاقَ عني عَفوُك الواسعُ الذي** أُرَجِّي لإسرافِي فإنِّيَ تالِفُ[18]
------------------- (10) -------------------
وحينما تصلُ.. قدماك إلى (الصفا) و(المروة).. تتذكر هاتين البقعتين الطاهرتين اللَّتين خلَّدَ الله ذِكْرَهما في كتابِه العزيز.. (إنَّ الصَّفا والمروةَ مِن شعائرِ الله فمَنْ حَجَّ البيتَ أو اعتمرَ فلا جُناحَ عليهِ أن يطََّوَّفَ بهما).[19]
ويخطر على بالك ما رواه عُروةُ بن الزبير رضي الله عنهما قال: (قلتُ لعائشة: ما أرى عليَّ جُناحاً أن لا أتطوّفَ بين الصفا والمروة. قالت: لو كان كما تقول لكان فلا جُناح عليه أن لا يَطَّوَّفَ بهما. إنما أُنزل هذا في أُناسٍِ من الأنصار كانوا إذا أهلُّوا لِمَناةَ في الجاهلية فلا يحلُّ لهم أن يَطَّوَّفوا بين الصفا والمروة. فلما قدِمُوا مع النبي صلى الله عليه وسلم ذكروا ذلك له فأنزل الله تعالى هذه الآية؛ فلَعَمْرِي ما أتمَّ الله حَجَّ مَنْ لم يَطُفْ بين الصَّفا والمروة).[20]
ويسرح بك الخيال.. إلى استغاثة هاجر عليها السلام بربِّها.. فتملأ قلبَك بالاستغاثة بالله عزَّ وجلَّ والاستعانة به في تفريجِ كلِّ الكروب.
وتحضرك.. هاهنا.. كلمات الحافظ ابن كثير رحمه الله.. حين قال في قصة هاجر عليها السلام: "لما خافت على ولدِها الضيعة هنالك, ونفد ما عندهما, قامت تطلب الغوث من الله عز وجل, فلم تزل تتردّد في هذه البقعة المشرّفة بين الصفا والمروة, متذلّلةً خائفةً وَجِلةً مُضطرةً فقيرةً إلى الله عز وجلّ؛ حتى كشف الله كربتها وآنس غربتَها وفرّج شدّتها, وأنبع لها زمزم التي ماؤها (طعامُ طُعْمٍ وشفاءُ سُقْمٍ)؛ فالساعي بينهما ينبغي له أن يستحضر فقرهُ وذلَّه وحاجتَه إلى الله: في هدايةِ قلبِه وصلاحِ حالِه وغُفرانِ ذنبه, وأن يلتجئ إلى الله عز وجل؛ لتفريج ما هو به من النقائصِ والعيوبِ, وأن يهديَهُ إلى الصراط المستقيم, وأن يُثَبِّتَهُ عليه إلى مماته, وأن يحوِّلَه مِن حالِهِ الذي هو عليه من الذنوب والمعاصي إلى حال الكمال والغفران والسّداد والاستقامة كما فعل بهاجر عليها السلام".[21]
اللهم تَقبَّلْ منِّي هذه العمرة.. واجعَلْها في صحائفِ الحسنات.. ولا تحرِمْنا الإقامةَ في هذا المكان المبارك.. ويَسِّرْ لعبادِك زيارتَه وشَرِّفْهم بالوُفودِ إليه
مَنْ رأى البرق بنجدٍ إذْ تراءَى** أَسْلبَ النومَ وأهدى البُرَحاءَ
فاضَ فيضاً كجفوني ماؤه ** والتظى وهناً كأنفاسي التظاءَ
نامَ سُمّارُ الدُّجى عن ساهرٍ ** تَخِذَ الهمَّ سَمِيراً والبكاءَ
أسْعَدَتْهُ أدمُعٌ تفضَحُهُ ** وإذا أحسنَ الدمعُ أساءََ
يا خليليَّ ولم أُشْعِرْكما** بالهوى حتى تبيَّنتُ الإخاءَ
عَلِّلا قلبِي بذكرى قاتلي ** رُبَّ داءٍ قاد للنفسِ دواءَ [22]
--------------------------------------
[1] البقرة 96-97.
[2] تيسير الكريم الرحمن للسعدي ص 140-141.
[3] رواه البخاري ومسلم.
[4] الجامع الكبير للترمذي 2/220. دار الغرب الإسلامي بيروت. تحقيق د.بشار عواد.
[5]في ظلال القرآن لسيد قطب 17/2419.
[6] السيرة النبوية لابن كثير 3/561، وإتحاف الورى بأخبار أم القرى لابن فهد 1/499-500.
[7] الحج 32.
[8] مختصر منهاج القاصدين ص 50.
[9] صفاقص: مدينة في جنوب تونس. وإليها يُنسَب عالم القراءات العلامة علي النوري الصفاقصي رحمه الله صاحب كتاب: (غيث النفع في القراءات السبع).
[10] مواهب الجليل للحطاب 2/497-498. دار الفكر بيروت. ط2. 1398. قال المازري: "فاستحسن اللخمي هذه الإشارة من جهة طرق المتصوفة لا من جهة التفقه". ومعلوم أنَّ ذكر المتصوفة هنا يقصد به من كان على جادة الطريق من الأوائل؛ وليس أصحاب البدع والضلالات والجهالات؛ فتنبهْ
[11] مقدمة الصنعاني في أهم الأحكام لمناسك الحج والعمرة ص 3 – 4.
[12] رواه البخاري 1/398، في أبواب التطوع، باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، حديث 1133. ورواه مسلم 2/1012، كتاب الحج، باب فضل الصلاة بمسجدي مكة والمدينة، حديث1394.
[13] رحلة الصِّدِّيق إلى البيت العتيق. للشيخ صديق حسن خان ص 31.
[14] ديوان ابن أفلح 4/23 ومثير الغرام الساكن لابن الجوزي ص 129.
[15] ولهذا الشاعر عدة أبيات في منائحِ الكرم في أخبار مكة والبيت وولاة الحرم لتقي الدين السنجاري 1/303-305.
[16] قال الذهبي رحمه الله: "طاف الآفاق، ثم جاور، وصار شيخ الحرم، وكان حافظا متقناً كثيرَ العبادة صاحب كرامات وآيات". تذكرة الحفاظ 3/243.
[17] تذكرة الحفاظ 3/243.
[18] رحلة الصديق ص 99.
[19] البقرة 158.(/4)