من فقه التعامل مع غير المسلمين
الشيخ الدكتور : يوسف القرضاوي
1. آيات وأحاديث أسيء فهمها:
- آية {لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ}.
- آية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ}.
- آية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ}.
- آية {وَلَنْ تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ}.
- حديث: "لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام... ".
2. الجزية:
3. تميز أهل الذمة في زيهم عن المسلمين.
4. موقفنا من الأقليات.
1- آيات وأحاديث أسيء فهمها:
آية {لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ}.
ومن الناس من اتخذ من قوله تعالى في سورة المجادلة: {لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} (المجادلة: 22)، اتخذوا منها دليلا على أن الإسلام ينهى عن مودة المسلم لغير المسلم بصفة مطلقة، ويؤكدون ذلك بقوله تعالى في أول سورة الممتحنة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ إِن كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ}.
وأود أن أبين هنا أن آية المجادلة لا تنهى عن مودة من كان غير مسلم، ولو كان مسالما للمسلمين بل تنهى عن موادة (من حاد الله ورسوله) أي حارب الله ورسوله، وشاق الله ورسوله، فهذا شخص معادٍ للإسلام وأهله، فكيف يطلب من المسلم أن يظهر له الود والمحبة؟.
ولو كانت مودة غير المسلم ممنوعة في الإسلام ما أجاز الشرع الإسلامي للمسلم أن يتزوج الكتابية. والزوجية في نظر الإسلام تقوم على أسس وأركان، منها: المودة والرحمة، كما قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (الروم: 21).
ولذا قال ابن عباس: لا يجوز زواج الكتابية إذا كانت من قوم معادين للمسلمين، واستدل العلماء لقوله بهذه الآية: {لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ}. والمفروض في الحياة الزوجية ما أثبتته الآية الأخرى: {وجعل بينكم مودة ورحمة} فآية (من حاد الله ورسوله) تعني الأعداء المحاربين للمسلمين.
- آية {لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ}:
يؤكد هذا آية الممتحنة: {لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة}. فالآية قد عبرت عنهم بأنهم أعداء الله، وأعداء المسلمين (عدوي وعدوكم)، وليس مقبولا أن يعادوا الله ورسوله والمؤمنين، ويقابل المسلمون معاداتهم بالولاء لهم، وإلقاء المودة إليهم.
وليس هذا لمجرد كفرهم بالإسلام، بل ضموا إليه إيذاء المسلمين وحصارهم وتعذيبهم وفتنتهم في دينهم، حتى أخرجوهم من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا: ربنا الله. ولذا قالت الآية: {تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ}.
وقد ذكرت السورة قاعدة من أعظم قواعد السلوك والتعامل مع المخالفين ولو كانوا أعداء، وهي: أن العداوة ليست أمرا دائما وأبديا بالضرورة، فقد تستحيل العداوة إلى مودة، ودوام الحال من المحال، وهذا ما قررته السورة بصيغة الرجاء حيث قال تعالى: {عَسَى اللهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً وَاللهُ قَدِيرٌ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (الممتحنة: 7). أي: والله قدير على تحويل القلوب من كراهية إلى مودة، والله غفور رحيم يعفو عما سلف، ويسامح عباده فيما مضى.
- آية (لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء):(/1)
وقوله تعالى في سورة المائدة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} يجب أن يفهم في ضوء السياق وأسباب النزول للآيات فالآية التي تليها تشير إلى أن اليهود والنصارى كانوا معادين للمسلمين، وكانوا في حالة من القوة والمنعة بحيث أصبح كثير من المنافقين ومرضى القلوب يحاولون التقرب إليهم، والموالاة لهم على حساب دينهم وأمتهم وجماعتهم. وهذا لا ينازع منصف في أنه خطر على سيادة الأمة ووحدتها وتماسكها، ولا سيما في مرحلة تكوينها وتأسيس بنيانها.
تقول الآية الكريمة التالية للآية المذكورة: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ * وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاَءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ} (المائدة: 52-53).
فالواضح من هذه الآية الأخيرة أننا أمام جماعة من المنافقين الانتهازيين المخادعين الذين يخونون جماعتهم، ويوالون أعداءها، ويحلفون لهم كاذبين إنهم لمعكم! ولذا يقول القرآن: (حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين).
ولا غرو أن من يوالي الأعداء وينضم إليهم، ويلقي إليهم بالمودة على حساب أمته أمر مجرَّم ومحرَّم وطنيا ودينيا، ولا سيما في أوقات الصراع والحروب، فهو في نظر الوطنية خيانة، وهو في نظر الدين ردة، وهي معنى قوله تعالى: (ومن يتولهم منكم فإنه منهم).
ومن هنا جاءت الآية التالية تقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَّرْتَدَّ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} (المائدة: 54).
كأن الآية تقول: إن هؤلاء الذين خانوا قومهم وانضموا إلى أعدائهم، وارتدوا عن دينهم، سيعوِّض الله الأمة خيرا منهم بجيل جديد أو أجيال جديدة على نقيض هؤلاء.
فهذه الآيات ليست في مطلق يهود ونصارى عاديين مسالمين للمسلمين، بل في يهود ونصارى معادين لهم، محاربين لدعوتهم، كاليهود الذين نقضوا عهد رسول الله، وانضموا إلى أعدائه من الوثنيين المشركين، الذين أغاروا على المدينة، وأرادوا القضاء على الرسول وأصحابه، واستئصال شأفة المسلمين، واقتلاع الإسلام من جذوره.
والآيات التالية في سياق النهي عن الولاء لليهود والنصارى تؤكد ذلك. يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللهَ إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ * وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ} (المائدة: 57-58).
فهؤلاء قوم أعلنوا الحرب على الإسلام وأهله، وهزؤوا بعقيدته، وهزؤوا بشعائره، وأعظمها الصلاة، واتخذوها هزوا ولعبا.
أما اليهود والنصارى العاديون المسالمون، فهم في نظر المسلمين أهل كتاب، أجاز القرآن مؤاكلتهم كما أجاز مصاهرتهم {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ} (المائدة: 5).
وإذا كان أهل الكتاب لهم مكانة خاصة ومعاملة خاصة لدى المسلمين، فإن النصارى منهم يعتبرهم القرآن أقرب مودة للمسلمين من اليهود الذين بارزوه بالعداوة برغم مبادرة الرسول -عليه الصلاة والسلام- بعقد الاتفاقية معهم بُعَيد هجرته إلى المدينة، وقد جعلهم فئة من أهل الدار يتناصرون في السلم والحرب، ويتواسون في السراء والضراء.
ولعل الآيات التي صدرت بها سورة الروم تدلنا بجلاء على قرب النصارى من المسلمين، فقد قامت حرب بين الدولتين العظيمتين في ذلك الزمن: الفرس في الشرق، والروم في الغرب، وانتصر الفرس على الروم في أول الأمر، فحزن لذلك المسلمون وفرح المشركون لأن الفرس مجوس يعبدون النار، ويعبدون إلهين للخير والشر، أو للنور والظلمة، فهم أقرب إلى مشركي العرب عبدة الأوثان، والروم كانوا نصارى أهل كتاب، فكانوا أقرب إلى المسلمين.(/2)
وتجادل الفريقان وتراهنوا حول مستقبل الأمتين، ولمن تكون الغلبة بعد؟ وكان المسلمون بطبيعة الحال مع الروم، والمشركون مع الفرس، فنزل قوله تعالى: {الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ للهِ الأمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} (الروم: 1-5).
انظر كيف بشر القرآن المسلمين بنصر الروم، وكيف عبّر عن مشاعر المسلمين بقوله: (ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله). فهذا هو موقف الإسلام المبدئي من أهل الكتاب عامة، ومن النصارى خاصة.
وهذا لا يمنع أن تأتي آيات من القرآن تنقد اليهود أو النصارى أو أهل الكتاب عامة، فيما حرَّفوا من كتبهم، وما بدَّلوا من عقائد موسى وعيسى، ومن ملة إبراهيم، وما غيروا من شرائع أنبيائهم، فالقرآن قد جاء مصدقا ومتمما للتوراة والإنجيل، كما أعلن ذلك في آيات كثيرة، كما جاء أيضا (مصححا) لها، أو بتعبير آخر (مهيمنا عليها) كما قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} (المائدة: 48).
كما ينقد القرآن مواقف أهل الكتاب -خصوصا اليهود- من دعوة الإسلام، ورسول الإسلام وأمة الإسلام، ومع هذا يأمر الرسول والمسلمين بالعفو والصفح، كما في قوله تعالى في سورة البقرة: {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (البقرة: 109).
ومعنى: (حتى يأتي الله بأمره) أي حتى يشرح الله صدورهم للإسلام، أو يروا انتصار الإسلام وعلو كلمته أمام أعينهم.
وقد أكدت سورة المائدة -وهي من أواخر ما نزل من القرآن- ذلك في قوله تعالى في شأن بني إسرائيل، وقد نقضوا ما أخذ الله عليهم من ميثاق: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (المائدة: 13).
فرغم ظهور الخيانة من أكثرهم أمر الرسول أن يعفو عنهم ويصفح، فهذا من الإحسان الذي يحبه الله تعالى. وهذا في نفس السورة التي نهت عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء.
ونلاحظ أن القرآن حين دان بني إسرائيل قال: {وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ} وذلك ليؤسس منهج العدل مع الخصوم في الرضا والغضب، ولذلك استثنى فقال: (إلا قليلا منهم).
وهذا هو نهج القرآن معهم ففي سورة آل عمران بعد أن تحدث عن بعض مساوئهم التاريخية، وقتلهم الأنبياء بغير حق، قال: {لَيْسُوا سَوَاءً مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ} (آل عمران: 113-115).
ويقرر القرآن أن من أقام منهم الأركان الأساسية للدين، وهي: الإيمان بالله تعالى، والإيمان بالخلود والجزاء في الآخرة، والعمل الصالح، فإن الله لن يضيع أجره، ولن يخيب سعيه، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (الحج: 17).
وقد كرر القرآن هذا المعنى وأكده في آية أخرى من سورة المائدة {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} (المائدة: 69).
* آية {وَلَنْ تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى}:
ومن الآيات التي تذكر كثيرا ويساء فهمها في العلاقة بين المسلمين من ناحية واليهود والنصارى من ناحية أخرى قوله تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} (البقرة: 120).(/3)
أرى كثيرا من المتدينين المسلمين الذين لا يتدبرون الآيات، ولا يتأملون النصوص بعمق وتأمل يجدون في هذه الآية حائلا دون التفاهم والتعايش والتصالح مع اليهود والنصارى. وهذا ليس بصحيح، ولا ينبثق هذا التفكير عن فهم سليم للآية الكريمة لعدة أمور:
أولا: لأن الآية خطاب خاص للرسول صلى الله عليه وسلم: (وَلَنْ تَرْضَى عَنكَ) ولم تجئ بلفظ عام من ألفاظ العموم المعروفة.
وثانيا: لو سلمنا بأنها خطاب للجميع، فإنها لا تدل على أكثر من عدم رضاهم عنا -الرضا الكامل، أو الرضا المطلق- حتى نتبع ملتهم. وهذا شأن كل ذي ملة متمسك بملته حريص عليها. ونحن كذلك لا نرضى عنهم تمام الرضا حتى يتبعوا ملتنا فهو موقف طبيعي ومتبادل بين أهل الملل أو أهل الأديان جميعا، وقد قال تعالى: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ} (البقرة: 145).
وثالثا: إن هدفنا ليس إرضاء اليهود والنصارى، حتى يكون عدم رضاهم حجر عثرة في طريقنا، أو عائقا دون تفاهمنا وتعايشنا، بل هدفنا هو إرضاء الله تبارك وتعالى قبل كل شيء -وسواء رضي الناس عنا أم سخطوا- ولن نبيع رضوان الله تعالى برضا أي مخلوق كان، ولا بأي ثمن مادي أو أدبي، ولو وضعوا الشمس في أيماننا، والقمر في شمائلنا، ما فرطنا مثقال ذرة في ابتغاء مرضاة ربنا.
ورابعا: أن الإسلام -برغم وجود هذه الآية- لم يمنع المسلم أن يؤاكل اليهودي أو النصراني، وأن يصاهره، فيتزوج ابنته أو أخته أو قريبته، وينجب منها أولادا، يبرون أمهاتهم وجداتهم وأخوالهم وخالاتهم، ويعاملونهم بما يجب لذوي الأرحام وأولي القربى من الحقوق والحرمات. كما قال تعالى: {وَأُولُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ} (الأنفال: 75). {وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ} (النساء: 1).
- حديث (لا تبدؤوا اليهود ولا النصارى بالسلام...).
وأما حديث "لا تبدؤوا اليهود ولا النصارى بالسلام، فإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه"([10]). فهذا مقيد بأيام الصراع والحروب، لا بأيام الاستقرار والسلام، وقد كان بعض الصحابة يقرأ السلام على كل من لقيه من مسلم وغير مسلم، عملا بالأمر بإفشاء السلام.
وهل من المعقول أن يبيح الإسلام للمسلم الزواج بالمسيحية ولا يبيح له أن يسلم عليها؟ وهل يمنع الولد أن يسلم على أمه أو على خاله أو خالته أو جده أو جدته وقد أمره الله بصلة الرحم، وإيتاء ذي القربى؟!.
وحسبنا هذا النص القرآني العام المحكم: {لاَ يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (الممتحنة: 8). فالقسط هو العدل، والبر هو الإحسان، وهو شيء فوق العدل. العدل: أن تعطي الحق، والبر أن تعطي فوق الحق، العدل: أن تأخذ مالك من حق، والبر: أن تتنازل عن بعض حقك أو عن حقك كله، وهذا ما رغب فيه القرآن في التعامل مع المسالمين من غير المسلمين.
إلقاء السلام على المسلمين وغير المسلمين:
أما إلقاء السلام على غير المسلمين فإن كانوا في مجلس يجمع بينهم وبين المسلمين خلاف في جواز من إلقاء السلام عليهم، وقد روى البخاري في صحيحه أن "رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ركب حمارا حتى مر على مجلس فيه أخلاط المسلمين والمشركين وعبدة الأوثان واليهود، وفيهم عبد الله بن أبي بن سلول، وفي المجلس ابن رواحة، فسلم عليهم النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم وقف فنزل..." ([11]).
وقد بوب البخاري لهذا الحديث بعنوان: "باب التسليم في مجلس فيه أخلاط من المسلمين والمشركين".
وقال النووي: السنة إذا مر بمجلس فيه مسلم وكافر أن يسلم بلفظ التعميم ويقصد به المسلم([12]).
ابتداؤهم بالسلام إذا كانوا وحدهم:
وأما ابتداؤهم بالسلام إذا كانوا وحدهم فذهب جمع من السلف إلى جواز إلقاء السلام عليهم، واستدلوا بأدلة منها:
1. قوله تعالى: {لاَ يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (الممتحنة: 8). ومن برهم: إلقاء السلام عليهم.
2. وقوله على لسان إبراهيم لأبيه: {سَلاَمٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي} (مريم: 47).
3. وقوله تعالى آمرا نبيه: {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلاَمٌ}([13]).
وذكر القرطبي أن عددًا من السلف فعل ذلك، ومنهم ابن مسعود، والحسن، والنخعي، وعمر بن عبد العزيز. كما ذكر ابن حجر في الفتح أن أبا أمامة، وابن عيينة فعلا ذلك أيضا.
ومما ورد أن ابن مسعود فعله مع دهقان صحبه في طريقه، فلما سئل: أليس يكره أن يبدؤوا بالسلام؟ قال: بلى، ولكن حق الصحبة.(/4)
وكان أبو أمامة إذا انصرف إلى بيته لا يمر بمسلم ولا نصراني، ولا صغير ولا كبير إلا سلّم عليه، فقيل له في ذلك، فقال: أمرنا أن نفشي السلام.
وسئل الأوزاعي عن مسلم مر بكافر فسلم عليه، فقال: إن سلمت فقد سلم الصالحون، وإن تركت فقد ترك الصالحون قبلك.
وقال أبو أمامة: إن الله جعل السلام تحية لأمتنا وأمانا لأهل ذمتنا([14]).
وأخرج ابن أبي شيبة من طريق عون بن عبد الله عن محمد بن كعب: أنه سأل عمر بن عبد العزيز عن ابتداء أهل الذمة بالسلام فقال: نرد عليهم ولا نبدؤهم. قال عون: فقلت له: فكيف تقول أنت؟ قال: ما أرى بأسا أن نبدأهم ([15]).
أما حديث مسلم: "لا تبدؤوا اليهود بالسلام، فإذا لقيتم أحدهم في طريقه فاضطروه إلى أضيقه"([16])، فهو مقيد بأيام الحرب، ويدل على ذلك ما رواه البخاري في الأدب المفرد والنسائي عن أبي بصرة أن رسول الله قال: "إني راكب غدًا إلى اليهود فلا تبدؤوهم بالسلام"([17]).
ويمكن القول بتأكيد الجواز إن كان هناك سبب يستدعي السلام كقرابة أو صحبة، أو جوار، أو سفر، أو حاجة، وقد ذكر القرطبي ذلك عن النخعي فقال مؤوِّلا حديث أبي هريرة "لا تبدؤوهم بالسلام": إذا كان بغير سبب يدعوكم إلى أن تبدؤهم بالسلام من قضاء ذمام أو حاجة تعرض لكم قبلهم، أو حق أو جوار، أو سفر([18]).
أما إذا كانت التحية بغير السلام فلا مانع منها، كأن يقول له صباح الخير، مرحبا، مساء الخير.
رد السلام على غير المسلم:
وأما رد السلام على غير المسلم، فقد اتفق العلماء على أنه يرد على أهل الكتاب بـ "وعليكم"([19]). ويشهد لذلك قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم"([20]).
وقد جعل البخاري هذا الحديث تحت باب: "كيف الرد على أهل الذمة"، وعلّق على ذلك ابن حجر بقوله: في هذه الترجمة إشارة إلى أنه لا مانع من رد السلام على أهل الذمة، فلذلك ترجم بالكيفية([21]).
ويكون الرد بهذه الصيغة "وعليكم" إذا تحقق أنه قال: "السام عليكم" أو شك فيما قال([22]).
أما إذا تحقق من قول "السلام عليكم" قال ابن القيم: فالذي تقتضيه الأدلة الشرعية وقواعد الشريعة أن يقال له: وعليك السلام، فإن هذا من باب العدل، والله يأمر بالإحسان، وقد قال تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} (النساء: 86)، فندب إلى الفضل، وأوجب العدل([23]).
وقال الحافظ في الفتح: "قال ابن بطال: قال: رد السلام على أهل الذمة فرض لعموم الآية، وثبت عن ابن عباس أنه قال: من سلم عليك فرد عليه ولو كان مجوسيا"([24]).
وكنت قد قرأت منذ زمن بعيد كلاما لشيخنا العلامة السيد رشيد رضا في تفسيره "المنار" وأحب أن أنقل هنا بعض فقرات مما قاله: "إن الإسلام دين عام، ومن مقاصده نشر آدابه وفضائله في الناس ولو بالتدريج، وجذب بعضهم إلى بعض ليكون البشر كلهم إخوة. ومن آداب الإسلام التي كانت فاشية في عهد النبوة إفشاء السلام إلا مع المحاربين لأن من سلم على أحد فقد أمنه، فإذا فتك به بعد ذلك كان خائنا ناكثا للعهد.
ورُوي عن بعض الصحابة كابن عباس أنهم كانوا يقولون للذمي: السلام عليك. وعن الشعبي من أئمة السلف أنه قال لنصراني سلم عليه: وعليك السلام ورحمة الله تعالى. فقيل له في ذلك فقال: أليس في رحمة الله يعيش. وفي حديث البخاري الأمر بالسلام على من تعرف ومن لا تعرف، وروى ابن المنذر عن الحسن أنه قال {فحيوا بأحسن منها} للمسلمين، {أو ردوها} لأهل الكتاب، وعليه يقال للكتابي في رد السلام عين ما يقوله وإن كان فيه ذكر الرحمة".
إلى أن يقول رحمه الله: "أما جعل تحية الإسلام عامة فعندي أن ذلك مطلوب، وقد ورد في الأحاديث الصحيحة أن اليهود كانوا يسلمون على المسلمين فيردون عليهم، فكان من تحريفهم ما كان سببا لأمر النبي -صلى الله تعالى عليه وسلم- بأمر المسلمين أن يردوا عليهم بلفظ {وعليكم}، حتى لا يكونوا مخدوعين للمحرفين.
ومن مقتضى القواعد أن الشيء يزول بزوال سببه. ولم يرد أن أحدا من الصحابة نهى اليهود عن السلام لأنهم لم يكونوا ليحظروا على الناس آداب الإسلام، ولكن خلف من بعدهم خلف أرادوا أن يمنعوا غير المسلم من كل شيء يعمله المسلم حتى من النظر في القرآن وقراءة الكتب المشتملة على آياته، وظنوا أن هذا تعظيم للدين، وصون له من المخالفين، وكلما زادوا بعدا عن حقيقة الإسلام زادوا إيغالا في هذا الضرب من التعظيم، وإنهم ليشاهدون النصارى في هذا العصر يجتهدون بنشر دينهم، ويوزعون كثيرا من كتبه على الناس مجانا، ويعلمون أولاد المخالفين لهم في مدارسهم ليقربوهم من دينهم، ويجتهدون في تحويل الناس إلى عاداتهم وشعائرهم ليقربوا من دينهم.(/5)
وقال رحمه الله عن حديث "لا تبدؤوهم بالسلام": "فيظهر هنا أنه نهاهم أن يبدءوهم لأن السلام تأمين، وما كان يجب أن يؤمنهم وهو غير أمين منهم لما تكرر من غدرهم ونكثهم للعهد معه فكان ترك السلام عليهم تخويفا ليكونوا أقرب إلى المواتاة، وقد نقل النووي([25]) في شرح مسلم جواز ابتدائهم بالسلام عن ابن عباس وأبي أمامة وابن أبي محيريز رضي الله عنه قال: "وهو وجه لأصحابنا"([26]).
2- قضية الجزية:
برغم الصحائف المشرقة التي تؤكد مبادئ العدالة والسماحة التي جاء بها الإسلام، وبرغم التاريخ الحافل بالتسامح الفذ في شتى صوره ومظاهره رأينا بعض المستشرقين أثاروا بعض شبهات جمعوها من هنا وهناك، وحسبوها تشوِّه هذا الموقف الناصع، والتاريخ الرائع. والحقيقة أن هذه المسائل التي أثيرت حولها تلك الشبهات لو فهمت على وجهها، ووُضعت في زمنها وإطارها، لكانت مأثرة للإسلام وأمته في علاقاته مع أهل الذمة.
فمن هذه الشبهات التي أثارها ويثيرها المستشرقون: قضية (الجزية) التي غلفت بظلال كئيبة، وتفسيرات سوداء، جعلت أهل الذمة يفزعون من مجرد ذكر اسمها، فهي في نظرهم ضريبة ذل وهوان، وعقوبة فرضت عليهم مقابل الامتناع عن الإسلام. وهذه لا شك نظرة زائفة، ولا أساس لها من أحكام الإسلام وتعاليمه وفلسفته العامة.
ومن نظر إلى الأمم الغالبة قبل الإسلام وإلى ما كانوا يفرضونه على الأمم المغلوبة، تبين له عدل الإسلام وسماحته التي لا نظير لها.
وقد بينت في كتابي (غير المسلمين في المجتمع الإسلامي) وجه إيجاب الجزية على الذميين، وأنها بدل عن فريضتين فرضتا على المسلمين: فريضة لها طابع عسكري، وأخرى لها طابع مالي فريضة الجهاد، وفريضة الزكاة، وخصوصا فريضة الجهاد، فهي الأقرب إلى أن تكون الجزية بديلا عنها. ونظرا لـ (الطبيعة الدينية) لهاتين الفريضتين لم يلزم الإسلام بهما غير المسلمين.
على أنه في حالة اشتراك الذميين في الخدمة العسكرية والدفاع عن الحَوْزة مع المسلمين فإن الجزية تسقط عنهم.
كما أني بحثت في كتابي (فقه الزكاة) مدى جواز أخذ ضريبة من أهل الذمة بمقدار الزكاة، ليتساووا بالمسلمين في الالتزامات المالية، وإن لم تُسمَ (زكاة) نظرا لحساسية هذا العنوان بالنظر إلى الفريقين. ولا يلزم أيضا أن تُسمى (جزية) ماداموا يأنفون من ذلك. وقد أخذ عمر -رضيالله عنه- من (نصارى بني تغلب) -وهم قوم عرب- (الجزية) باسم (الصدقة) حين طلبوا منه ذلك، تألفا لهم، واعتبارا بالمسميات لا بالأسماء([27]) إذ المقصود أن يدفعوا ما يدل على إذعانهم لسلطان الدولة الإسلامية.
وزيادة في الإيضاح والبيان، ودفعا لكل شبهة، وردًّا لأية فرية، يسرني أن أسجل هنا ما كتبه المؤرخ المعروف سير توماس أرنولد في كتابه (الدعوة إلى الإسلام) عن الغرض من فرض الجزية وعلى من فُرضت. قال([28]): "ولم يكن الغرض من فرض هذه الضريبة على المسيحيين -كما يريدنا بعض الباحثين على الظن- لونا من ألوان العقاب لامتناعهم عن قبول الإسلام، وإنما كانوا يؤدونها مع سائر أهل الذمة. وهم غير المسلمين من رعايا الدولة الذين كانت تحول ديانتهم بينهم وبين الخدمة في الجيش، في مقابل الحماية التي كفلتها لهم سيوف المسلمين. ولما قدم أهل الحيرة المال المتفق عليه، ذكروا صراحة أنهم دفعوا هذه الجزية على شريطة: "أن يمنعونا وأميرهم البغي من المسلمين وغيرهم".([29])
كذلك حدث أن سجل خالد في المعاهدة التي أبرمها مع بعض أهالي المدن المجاورة للحيرة قوله: "فإن منعناكم فلنا الجزية وإلا فلا".([30])
ويمكن الحكم على مدى اعتراف المسلمين الصريح بهذا الشرط، من تلك الحادثة التي وقعت في عهد الخليفة عمر. لما حشد الإمبراطور هرقل جيشا ضخما لصد قوات المسلمين المحتلة، كان لزاما على المسلمين -نتيجة لما حدث- أن يركزوا كل نشاطهم في المعركة التي أحدقت بهم. فلما علم بذلك أبو عبيدة قائد العرب كتب إلى عمال المدن المفتوحة في الشام يأمرهم برد ما جُبي من الجزية من هذه المدن، وكتب إلى الناس يقول: "إنما رددنا عليكم أموالكم لأنه بلغنا ما جمع لنا من الجموع، وأنكم قد اشترطتم علينا أن نمنعكم، وإنا لا نقدر على ذلك، وقد رددنا عليكم ما أخذنا منكم، ونحن لكم على الشرط، وما كتبنا بيننا وبينكم إن نصرنا الله عليهم". وبذلك ردت مبالغ طائلة من مال الدولة، فدعا المسيحيون بالبركة لرؤساء المسلمين، وقالوا: "ردكم الله علينا، ونصركم عليهم (أي على الروم) .. فلو كانوا هم، لم يردوا علينا شيئا، وأخذوا كل شيء بقي لنا".([31])(/6)
وقد فرضت الجزية -كما ذكرنا- على القادرين من الذكور مقابل الخدمة العسكرية التي كانوا يطالبون بها لو كانوا مسلمين، ومن الواضح أن أي جماعة مسيحية كانت تُعفى من أداء هذه الضريبة إذا ما دخلت في خدمة الجيش الإسلامي. وكانت الحال على هذا النحو مع قبيلة (الجراجمة) وهي مسيحية كانت تقيم بجوار أنطاكية، سالمت المسلمين وتعهدت أن تكون عونا لهم، وأن تقاتل معهم في مغازيهم، على شريطة ألا تؤخذ بالجزية، وأن تعطى نصيبها من الغنائم.([32])
ولما اندفعت الفتوح الإسلامية إلى شمال فارس سنة 22هـ، أبرم مثل هذا الحلف مع إحدى القبائل التي تقيم على حدود تلك البلاد، وأعفيت من أداء الجزية مقابل الخدمة العسكرية.([33])
ونجد أمثلة شبيهة بهذه للإعفاء من الجزية في حالة المسيحيين الذين عملوا في الجيش أو الأسطول في ظل الحكم التركي. مثال ذلك ما عومل به أهل ميغاريا (Migaria) وهم جماعة من مسيحي ألبانيا الذين أُعفوا من أداء هذه الضريبة على شريطة أن يقدموا جماعة من الرجال المسلحين لحراسة الدروب على جبال (cithaeron) و(Geraned) التي كانت تؤدي إلى خليج كورنته وكان المسيحيون الذين استخدموا طلائع لمقدمة الفتح التركي، لإصلاح الطرق وإقامة الجسور، وقد أعفوا من أداء الخراج، ومنحوا هبات من الأرض المعفاة من جميع الضرائب.([34])
وكذلك لم يدفع أهالي (Hydra) المسيحيون ضرائب مباشرة للسلطان، وإنما قدموا مقابلها فرقة من مائتين وخمسين من أشداء رجال الأسطول، كان ينفق عليهم من بيت المال في تلك الناحية.([35])
وقد أعفي أيضا من الضريبة أهالي رومانيا الجنوبية الذين يطلقون عليهم (Armatioli)([36]) وكانوا يؤلفون عنصرًا هامًّا من عناصر القوة في الجيش التركي خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر الميلاديين، ثم المرديون (Midrdites) وكان ذلك على شريطة أن يقدموا فرقة مسلحة في زمن الحرب.([37]) وبتلك الروح ذاتها لم تقرر جزية الرؤوس على نصارى الإغريق الذين أشرفوا على القناطر([38]) التي أمدت القسطنطينية بماء الشرب([39])، ولا على الذين كانوا في حراسة مستودعات البارود في تلك المدينة([40]) نظرًا إلى ما قدموه للدولة من خدمات. ومن جهة أخرى أعفي الفلاحون المصريون من الخدمة العسكرية على الرغم من أنهم كانوا على الإسلام. وفرضت عليهم الجزية في نظير ذلك كما فرضت على المسيحيين".([41])
هذا ما سجله المؤرخ المنصف توماس أرنولد مؤيدا بالأدلة والمراجع الموثقة.
3- تميز أهل الذمة في زيهم عن المسلمين:
ومن هذه الشبهات التي ضخمها المستشرقون: ما يتعلق بملابس أهل الذمة وأزيائهم، وما روي أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- اشترط عليهم ألا يتشبهوا بالمسلمين في ثيابهم وسروجهم ونعالهم، وأن يضعوا في أوساطهم أو على أكتافهم شارات معينة تميزهم عن المسلمين. وينسب ذلك إلى عمر بن عبد العزيز أيضا.
ومن المستشرقين المؤرخين من يشكك في نسبة الشروط أو الأوامر المتعلقة بالزي إلى الخليفة العادل عمر بن الخطاب لأن كتب المؤرخين الأقدمين الموثوق بها، والتي عنيت بمثل هذه الأمور لم تشتمل عليها (كتب الطبري، والبلاذري، وابن الأثير، واليعقوبي... وغيرهم)([42]) وأنا مع هؤلاء.
و(الشروط العمرية) التي تنسب إلى عمر بن الخطاب، والتي شرحها ابن القيم في جزأين لم تثبت نسبتها إلى عمر بسند صحيح، وهذا ما اعترف به ابن القيم وغيره، ولكنه ادعى أن شهرتها تُغني عن ثبوت سندها. وهو ما لا نسّلمه، فكم من أمور تشتهر بين الناس -حتى بين أهل العلم منهم- ويتناقلها بعضهم عن بعض، وهي في الحقيقة لا أصل لها.([43]) فالمدار في إثبات النقول على صحة السند، وسلامته من الشذوذ والعلة.
على أن الأمر أهون من أن يتكلف إنكاره ورده، لو عرفت دواعيه وأسبابه، وعرفت الملابسات التاريخية التي وجد فيها.
فهو ليس أمرًا دينيًّا يتعبد به في كل زمان ومكان كما فهم ذلك جماعة من الفقهاء، وظنوه شرعا لازما، وهو -إن صح- ليس أكثر من قرار إداري أو أمر من أوامر السلطة الشرعية الحاكمة يتعلق بمصلحة زمنية للمجتمع آنذاك، ولا مانع من أن تتغير هذه المصلحة في زمن آخر، وحال أخرى، فيُلغى هذا الأمر أو يُعدل.
لقد كان التمييز بين الناس تبعا لأديانهم أمرًا ضروريًّا في ذلك الوقت، وكان أهل الأديان أنفسهم حريصين عليه، ولم يكن هناك وسيلة للتمييز غير الزي حيث لم يكن لديهم نظام (الهويات) أو البطاقات الشخصية المعروف في عصرنا، التي يسجل فيها -مع اسم الشخص ولقبه ـ دينه وحتى مذهبه في بعض البلدان، فالحاجة إلى التمييز وحدها هي التي دفعت إلى إصدار تلك الأوامر والقرارات. ولهذا لا نرى في عصرنا أحدا من فقهاء المسلمين، يرى ما رآه الأولون من طلب التمييز في الزي لعدم الحاجة إليه.(/7)
ويسرني أن أنقل هنا ما كتبه الدكتور الخربوطلي في توضيح هذه القضية ودوافعها، فقد قال:([44]) "ونحن نرى أنه لو افترضنا جدلا حقيقة هذه الأوامر الصادرة عن الخليفتين، فقد كان هذا لا غبار عليه، فهو نوع من التحديد للملابس في نطاق الحياة الاجتماعية، للتمييز بين أصحاب الأديان المختلفة، وبخاصة أننا في وقت مبكر من التاريخ، ليس فيه بطاقات تثبت الشخصية، وما تحمله عادة من تحديد الجنسية والدين والعمر وغير ذلك، فقد كانت الملابس المتميزة هي الوسيلة الوحيدة لإثبات دين كل من يرتديها، وكان للعرب المسلمين ملابسهم، كما للنصارى أو اليهود أو المجوس ملابسهم أيضا، وإذا كان المستشرقون قد اعتبروا أن تحديد شكل ولون الثياب هو من مظاهر الاضطهاد، فنحن نقول لهم: إن الاضطهاد في هذه الصورة يكون قد لحق بالمسلمين وأهل الذمة على السواء. وإذا كان الخلفاء ينصحون العرب والمسلمين بألا يتشبهوا بغيرهم، فمن المنطقي أن يأمروا غير العرب وغير المسلمين ألا يتشبهوا بالعرب المسلمين".
وناقش المؤرخ (ترتون)([45]) هذه المسألة أيضا، وأبدى رأيه فيها فقال: "كان الغرض من القواعد المتعلقة بالملابس: سهولة التمييز بين النصارى والعرب، وهذا أمر لا يرقى إليه شك بل نراه مقررا تقريرا أكيدا عند كل من أبي يوسف([46]) وابن عبد الحكم، وهما من أقدم الكُتاب الذين وصلت كتبهم إلينا، على أنه يجب أن نلاحظ أنه لم تكن ثمة ضرورة وقت الفتح لإلزام النصارى بلبس معين من الثياب يخالف ما يلبسه المسلمون إذ كان لكل من الفريقين وقتذاك ثيابه الخاصة، وكان النصارى يفعلون ذلك من تلقاء أنفسهم دون جبر أو إلزام. على أن الحاجة استلزمت هذه الفروض فيما بعد، حين أخذ العرب بحظ من التمدن إذ حمل الإغراء الشعوب الخاضعة لهم على الاقتداء بهم في ملابسهم، والتشبه في ثيابهم. ومهما يكن الرأي فإن كانت هذه الأوامر التي تحدد أنواع وأشكال الملابس حقيقية، فإنها لم توضع موضع التنفيذ في معظم العصور التاريخية.
وهناك فرق بين وجود القانون ومدى تطبيق هذا القانون، فقد انتهج معظم الخلفاء، والولاة المسلمين سياسة تسامح وإخاء ومساواة، ولم يتدخلوا كثيرا في تحديد ملابس أهل الذمة، ولم ترتفع أصوات مطلقا بالشكوى أو الاحتجاج.
وهناك أدلة تاريخية تثبت هذه الحقائق التي ذكرناها، فقد كان الأخطل الشاعر النصراني (المتوفى سنة 95هـ) يدخل على الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان، وعليه جبة وحرز من الخز، وفي عنقه سلسلة بها صليب من الذهب، وتتعصر لحيته خمرا([47]) ويحسن الخليفة استقباله!
كما أن الاتفاقية التي وقعها المسلمون في سنة 89هـ مع (الجراجمة) المسيحيين الذين يسكنون المناطق الجبلية من بلاد الشام تضمنت النص على أن يلبس الجراجمة لباس المسلمين.([48])
تحدث أبو يوسف عن لباس أهل الذمة وزيهم فقال: "لا يترك أحد منهم يتشبه بالمسلمين في لباسه، ولا في مركبه، ولا في هيئته". واعتمد أبو يوسف في تفسير ذلك على قول عمر بن الخطاب: "حتى يُعرف زيهم من زي المسلمين". أي أنه لا اضطهاد في الأمر، إنما هي وسيلة اجتماعية للتمييز، مثلما نرى اليوم في كل مجتمع حديث من تعدد الأزياء، لكل طائفة أو أصحاب حرفة أو مهنة زي واحد يميزهم.
4- موقفنا من الأقليات:
وقد عرضنا لموقف الإسلام من الأقليات في أكثر من كتاب، منها (غير المسلمين في المجتمع الإسلامي)، ورسالة (الأقليات الدينية والحل الإسلامي)، وكتاب (أولويات الحركة الإسلامية)، وبعض الفتاوى والبحوث في كتابنا (فتاوى معاصرة) الجزء الثاني، وكتابنا (من فقه الدولة في الإسلام). كما بينا ذلك في محاضرات شتى في أكثر من بلد.
وأعتقد أن اجتهادنا في هذه القضية الكبيرة قد استبانت معالمه، واتضحت صورته في ضوء الأدلة الشرعية، ولقي القبول من جمهرة المسلمين.(/8)
من فقه الدعاء
مواقف إيمانية
الشيخ محمد عبد الله الخطيب
(1)
يقول سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (أنا لا أحمل همَّ الإجابة، وإنما أحمل همَّّ الدعاء، فإذا أُلهمت الدعاء كانت الإجابة معه).
وهذا فهم عميق أصيل، فليس كل دعاء مجابًا، فمن الناس من يدعو على الآخرين طالبًا إنزال الأذى بهم؛ لأنهم ينافسوه في تجارة، أو لأن رزقهم أوسع منه، وكل دعاء من هذا القبيل، مردود على صاحبه لأنه باطل وعدوان على الآخرين.
والدعاء مخ العبادة، وقمة الإيمان، وسرّ المناجاة بين العبد وربه، والدعاء سهم من سهام الله، ودعاء السحر سهام القدر، فإذا انطلق من قلوب ناظرة إلى ربها، راغبة فيما عنده، لم يكن لها دون عرش الله مكان.
جلس عمر بن الخطاب يومًا على كومة من الرمل، بعد أن أجهده السعي والطواف على الرعية، والنظر في مصالح المسلمين، ثم اتجه إلى الله وقال: (اللهم قد كبرت سني، ووهنت قوتي، وفشت رعيتي، فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفتون، واكتب لي الشهادة في سبيلك، والموت في بلد رسولك).
انظر إلى هذا الدعاء، أي طلب من الدنيا طلبه عمر، وأي شهوة من شهوات الدنيا في هذا الدعاء، إنها الهمم العالية، والنفوس الكبيرة، لا تتعلق أبدًا بشيء من عرض هذه الحياة، وصعد هذا الدعاء من قلب رجل يسوس الشرق والغرب، ويخطب وده الجميع، حتى قال فيه القائل:
يا من رأى عمرًا تكسوه iiبردته
يهتز كسرى على كرسيه فرقًا ... ... والزيت أدم له والكوخ iiمأواه
من بأسه وملوك الروم iiتخشاه
ماذا يرجو عمر من الله في دعائه، إنه يشكو إليه ضعف قوته، وثقل الواجبات والأعباء، ويدعو ربه أن يحفظه من الفتن، والتقصير في حق الأمة، ثم يتطلع إلى منزلة الشهادة في سبيله، والموت في بلد رسوله، فما أجمل هذه الغاية، وما أعظم هذه العاطفة التي تمتلئ حبًا وحنينًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (أن يكون مثواه بجواره).
يقول معاذ بن جبل رضي الله عنه: (يا ابن آدم أنت محتاج إلى نصيبك من الدنيا، وأنت إلى نصيبك من الآخرة أحوج، فإن بدأت بنصيبك من الآخرة، مرّ بنصيبك من الدنيا فانتظمها انتظامًا، وإن بدأت بنصيبك من الدنيا، فات نصيبك من الآخرة، وأنت من الدنيا على خطر).
وروى الترمذي بسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: (من أصبح والآخرة أكبر همه جمع الله له شمله، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن أصبح والدنيا أكبر همه فرَّق الله عليه ضيعته، وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كُتب له).
وأخيرًا.. أرأيت كيف أُلهم عمر الدعاء وكانت الإجابة معه، وصدق الله العظيم إذ يقول: ?وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ? (البقرة: 186).(/1)
من فقه الدعوة في الحج
أ.د. ناصر بن سليمان العمر
الحمد لله وكفى، ثم أما بعد:
فإن الحج ركن من أركان الدين، وأحد المباني الأربعة التي اختلف قول بعض السلف في تكفير تاركها، ومما أثر ما روى عن عمر –رضي الله عنه- لقد هممت أن أبعث رجالاً إلى هذه الأمصار، فينظروا كل من له جدة ولم يحج فيضربوا عليه الجزية، ما هم بمسلمين، ما هم بمسلمين.
ولهذا –وغيره- عظمت مكانة الحج في النفوس، وتوافد الناس من أقطارها لأداء النسك، وربما كان فيهم المقصر المبالغ في التفريط، إلاّ أنه يرى الحج حتم عليه لازم، وسبيل لابد أن يكون له سالك، ومن طريف ما يذكر عن بعض من عرف بفسق أنه عندما أكثر عليه بعضهم في اللوم والتأنيب قال:
إذا صليت خمساً كل يوم ... ...
فإن الله يغفر لي فسوقي
ولم أشرك برب الناس شيئاً ... ...
فقد أمسكت بالدين الوثيق
وجاهدت العدو ونلت مالاً ... ...
يبلغني إلى البيت العتيق
فهذا الدين ليس به خفاء ... ...
دعوني من بنيات الطريق
وهذا على ما فيه من خطل يدلك على مكانة الحج في نفوس الناس ولاسيما من بعدت ديارهم أو نأت آثارهم في الغابرين المعظمين لشعائر الدين وشرائعه.
وإذا كانت الحال كذلك فمن البديهي أن ترى -أيها الداعية الموفق- في موقف الحج، وقد وفدت مئات الألوف المؤلفة من بلاد المسلمين وأصقاع الأرض الأخرى ما لا ترضاه من معاص وآثام وسوء تصرفات.
ومن الخطأ أن تظن نفسك في رحلة إلى الرحاب الطاهرة مع بعض الطيبين الموفقين، الذين قد يصبرون على الأذى، ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة. وإذا لم تتنبه لهذا فربما صدمت، وربما أسأت من حيث أردت أن تصلح.
وإذا تفطنت لهذا فإن مما ينبغي أن يعيه الداعية المصلح، أو الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، إذا جابه بعض منكرات الحجيج هو أن الله ما كلف نفساً فوق طاقتها، أو ما آتاها، ولذا فإن عليه أن يحسن قراءة الواقع -الذي ربما ارتبك عن واقع تلك البقاع في غير المواسم- وأن يعرف حدود قدرته، وما في إمكانه أن يغيره في ذلك الموقف ثم يتصرف في إطار تلك الحدود، بالأسلوب الحكيم الأمثل الذي ربما يكفل تغيراً للمنكر، أو يحقق أعلى المكاسب، ويدرأ أغلب المفاسد، وعندها يكون قد أدى الذي عليه (لا يكلف الله نفساً إلاّ وسعها)، وإن لم يزل المنكر. أما إذا اندفع الداعية أو المصلح أو المنكر وراء عاطفته التي تعدت حدود قدرته فربما أساء وظلم وربما استطال الشر ولم يغير من الواقع شيئاً، وتلك بلية قد تعرض لبعض الغيورين في غير الموسم، فينسى أحدهم أن الله لا يكلف نفساً إلاّ وسعها، فيركب الصعب ويترك الذلول لتغير واقعة فيبسل نفسه دون أن يصنع شيئاً –وهذا القيد الأخير ينبغي أن يلحظ- وقد كان الأجدر به أن يتدرج شيئاً فشيئاً أو يعد للأمر حتى يطيقه ولكنه الاستعجال.
وعوداً على موضوع الحج فإن هذا الخطأ قد يكثر في المواسم دون غيره لذهول بعضهم عن التغير الذي طرأ على واقعه، أو على ما في وسعه، والداعية الحكيم هو من راعى هذا الواقع المؤقت وعرف الفرق بينه وبين غيره، ثم انتهج السبيل الأحكم لأجل الإصلاح.
يذكرون عن أبي حازم وأظنه الإمام سلمة بن دينار الأعرج الأفزر التمار المدني القاص الزاهد أنه دخل الطواف ذات يوم فإذا هو بامرأة سافرة عن وجهها تطوف، وقد فتنت بعض الناس بحسن وجهها، فقال: يا هذه ألا تخمرين وجهك? فقالت: يا أبا حازم، إنا من اللواتي يقول فيهن الشاعر:
أماطت قناع الخز عن حر وجهها ... ...
وأبدت من الخدين برداً مهلهلا
من اللائي لم يحججن تبغين ريبة ... ...
ولكن ليقتلن البريء المغفلا
وترمي بعينيها القلوب إذا بدت ... ...
لها نظر لم يخط للحي مقتلا
فقال أبو حازم: فأنا أسأل الله ألا يعذب هذا الوجه بالنار.
فبلغ ذلك سعيد بن المسيب، وهو من شيوخ أبي حازم، فقال: رحم الله أبا حازم! لو كان من عباد كذا وسمى بلداً (العراق)، لقال لها: اغربي يا عدوة الله! ولكنه ظرف نساك الحجاز.
وظني أن تلك المرأة قد ارعوت، وإن لم ترعوي فقد سطر لنا هذا الإمام درساً في فقه الواقع، وتقدير ما في الوسع دون اندفاع.
ونحو هذا ما يذكر عن صلة ابن أَشْيَمْ من أمر الذي مر عليه وقد أسبل إزاره، فأراد الطلبة أو الناس من حوله أن يأخذوه بألسنتهم، فقال لهم دعوني أكفكموه.
ثم قال مخاطباً الشاب: يا ابن أخي لي إليك حاجة!
قال: وما هي يا عم؟
قال: ترفع إزارك؟
قال: نعم، ونعمة عين.
ثم قال: أهذا كان أمثل أم أخذكم إياه بألسنتكم؟
والشاهد من هذه الأخبار أن الحكمة في الدعوة ولاسيما أيام الحج مطلوبة، ومن جملة الحكمة في تلك المشاعر أن يراعي الداعية أحوال الوافدين من أقطار الأرض، وتباين معارفهم وفهومهم وعاداتهم وما ألفوه، وأن يراعي واقعه الجديد على أرض المناسك، ويعرف الفرق بين ما يسعه فيها تلك الأيام المزدحمة، وما يسعه في غيرها، وما بوسعه هناك في تلك الأيام وما ليس بوسعه، فيدعو إلى ما ينبغي أن يدعو إليه، كما ينبغي، في الوقت الذي ينبغي.(/1)
وتلك هي الحكمة، وقد قال _سبحانه_: "يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ" [البقرة:269]، جعلني الله وإياك من أهلها، ووفقني وإياك لدعوة من ضل إلى الهدى، والتبصير بنور الله أهل العمى، مع الصبر منهم على الأذى، وصلى الله وسلم على نبينا محمد خير من حج وثج وعج ودعا، وعلى صحبه ومن لآثارهم اقتفى.(/2)
من فنون التعامل الأسري
الزوجة أولاً:
1. إيّاك أن تقلل من قدر زوجتك عند أبنائك، أو تكثر من التشكي والتظلم من تقصيرها في حقك، إنهم لن يفعلوا تجاه ذلك شيئاً يذكر، بل إنك ستقلل من قدرك في قلوبهم، وتدخل عليهم الحزن والكآبة، وإذا كان هناك من ملحوظة، فكن كيساً في ذكرها وكن فطناً، فالتعريض يغني عن التصريح.
فلتجلس معهم بقدر:
2. أهمية تفريغ وقت يناسب كل مرحلة للجلوس مع الأولاد والسفر معهم، جلوس جزئي كل يوم ساعة مثلاً، وكل سنة شهر.
3. لا تضايق أبناءك بكثرة جلوس معهم، وكن معتدلاً في ذلك، وأعطهم شيئاً من الحرية، واختر الوقت المناسب للجلوس بينهم، وإياك والإكثار من دخول الفجأة، فقد ترى ما تكره ويرون منك ما يكرهون.
من أجل أب مهيب:
4. لا تدخل نفسك في كل جزئية فتضيع هيبتك "كن جاهلاً أو متجاهلاً...".
5. لو شعر أبناؤك باحترامك لهم لاحترموك، وحقوق الأبوة لا تبيح لك إهدار كرامتهم، والتبسط مع الأبناء ومداعبتهم لا تعني إسقاط الأدب وذهاب الهيبة.
6. لا تكثر المزح مع أبنائك، ولا تكن متجهماً، وخير الأمور الوسط، فكثرة المزح والضحك تسقط الهيبة والاحترام، والتجهم والغلظة تهدم المودة والمحبة، وكلا طرفي قصد الأمور ذميم.
7. لا تكثر الكلام مع أبنائك، وكن معتدلاً في ذلك، ولكل حالة ما يناسبها، ولكل مقام مقال، ومن كثر كلامه كثر سقطه، وقلة الكلام تعطيك هيبة واحتراماً.
8. الصراخ في وجوه الأبناء حيلة العاجز، ولا يزيد الابن إلا تمرداً، وقد لا يلقى له بالاً، حيث يتعود عليه، مع ما قد يكون له من تأثير سلبي في اهتزاز شخصية الطفل وكثرة ارتباكه، ومن علا صوته فقد ضعفت حجته وقلّت حيلته، ولولا بعد المستقى لما أطال رشاءه.
9. ربِّ أبناءك على أن يستجيبوا لك فور سماعهم لندائك دون أن يتوقف ذلك على معرفة ما تريد، حيث تكون استجابتهم؛ لأنك أنت قد دعوتهم بحكم أنك والدهم، لا من أجل الأمر الذي تريده، فهناك فرق بين الاستجابة لك والاستجابة لطلبك، فالأول يربي على السمع والطاعة والانضباط والنظام، والاستجابة من أجل الأمر الذي تريد تعود على الفوضى والسلبية والتسويف والخصام، ومن ثم التمرد.
فإذا طلبت ابنك ثم أرسل إليك سائلاً لماذا تدعوه فكن حازماً، وإياك والاستجابة لسؤاله، أو إغرائه، وتصرف بما يناسب الموقف ويحفظ هيبتك، وإلا فعلى هيبتك السلام.
ليس معناه أن تكون غضوباً:
10. الناس منهم من هو سريع الغضب سريع الفيأة، ومنهم بطيء الغضب بطيء الفيأة، ويتولد منهما نوعان آخران، فكن بطيء الغضب سريع الفيأة، واحذر أن تكون سريع الغضب بطيء الفيأة فهذا شرّ الأربعة.
11. لا تدفع ابنك إلى الزاوية الضيقة، واحذر احتقان الغضب وكبت المشاعر، فقد يقوم بعمل لا تحمد عقباه، إما في نفسه أو في المنزل في غفلة منك ومن أمّه، فكن حازماً حليماً حكيماً، فمعظم النار من مستصغر الشرر.
مثال السفر وتحديد الوقت دون حساب الوقفات والعوارض سيرفع من ضغطك وقد يحدث لك كارثة، أما حساب السرعة بهدوء وحساب الوقفات سيجعلك سعيداً جداً.
لكن بكلمات موزونة:
12. حذار من فلتات اللسان، وبخاصة من الأب فهي جرح لا يندمل.
13. المعاني أهم من المحسوسات، وقد يتحمل أبناؤك النقص في النفقة أو الترفيه أو السكن، ولكن لا يتحملون ما يسيء إليهم، كالسب أو الإهانة أو التجريح، وكلمة طيبة أثمن من هدية نادرة، وتشجيع موزون أغلى من جائزة يستحقونها.
لهم شؤونهم الخاصة حتى بالنسبة لك:
14. لا تتدخل في كل شؤون أولادك، وإذا اتفقوا على أمر ليس فيه خلل ولا خطل ولا إساءة لنظام البيت، فدعهم وما يعملون، بل شجعهم على ذلك إن كان مما يزيد ألفتهم، ويقوي وشائج الروابط بينهم، فمثلاً: لو أعطيت كل واحد منهم غرفة، ثم اتفقوا على تبادل الغرف، أو إعادة تقسيم الأعباء بينهم، دون أي ضرر يترتب على ذلك، فلا تقف حجر عثرة دون ما يريدون، ولكن أخبرهم بأن الأولى أن يستأذنوك قبل أن يتخذوا قرارهم، وإذا بدا لك أن المصلحة خلاف ما يريدون فأقنعهم بذلك بالأسلوب الذي يناسبهم، دون الاكتفاء بالمنع دون تعليل.
ماذا تريد يا أبي؟!
15. عوّد ابنك على أن يعرف ما له وما عليه، فالشريعة جاءت بذلك، وحديث معاذ في ذلك صريح وواضح "أتدري ما حق الله على العباد" ولماذا تجعله يعيش في دوامة لا يَدري ما هي حدود مسؤولياته وواجباته، وما هي حقوقه ومكافآته، ثم تعاقبه على أمور غير واضحة لديه، وقد سمعت من بعض الأبناء وهو يشكو والديه، بأنه لا يعرف ماذا يريدان، فيعيش الابن في حيرة وغموض، نتيجتها الفوضى والاضطراب، وكثرة الكلام والخصام.
في أعماق النفس:
16. العناية بالجوانب النفسية هي أهم مفاتيح التربية، فكم من ابن تحطم وانحرف بسبب موقف نفسي لم يحسن الوالدان التعامل معه، وكم من ولد كان سبب بروزه وتفوقه مسألة نفسية أحسن استثمارها من قبل الوالدين والأساتذة والمربين.(/1)
ولذا فمن المهم أن يولي الأبوان وأولياء الأمور والمربون هذا الجانب حقه من الرعاية والاهتمام، فنحن نتعامل مع بشر من لحم ودم ونفس وروح، والتركيز على جانب وإهمال الآخر يودي بصاحبه، والقرآن والسنة قد ركزا على هذا الجانب في مواضع عدة، وللرسول _صلى الله عليه وسلم_ مع صحابته أحداث ووقائع فيها العجب العجاب، واقرأ سورة يوسف والنور وارجع إلى أحاديث السلام والاستئذان والنجوى والغزوات وبخاصة حنين، تجد فيه مغانم كثيرة، ولا مانع من الإفادة مما لدى الآخرين في هذا العلم، على ألا يكون هو الأصل والمرجع، بل يرد ذلك إلى كتاب الله وسنة رسوله _صلى الله عليه وسلم_ وهدي سلف الأمة.
أريد ابناً إيجابياً:
17. ركز على الصفات الإيجابية في أبنائك، فإنها ستتعمق وتقوى مع الأيام، وشجعهم على ذلك حتى يكون ابنك أسيراً لتلك الصفات،
وحذار من إبراز صفات السلب، بل عالجها وحاول أن تتجاهلها دون إهمالها حتى تنقرض تلقائياً دون تركيز عليها حتى لا يستمرئها ويتهاون بها.
18. عوّد ابنك على الأخذ والإعطاء منذ الصغر، فتعويده على أن يكون آخذاً لا معطياً يجعله كسولاً غير منتج، ينتظر خدمة الآخرين له دون مقابل. إن تربيته على أن الحياة تقوم على الأخذ والعطاء، ينمي فيه عنصر الإيجابية الفعالة، حتى يصبح عطاؤه أكثر من أخذه، وبهذا يصبح عنصراً ناجحاً في الحياة، نافعاً لنفسه وأسرته ومجتمعه وأمته، وإلا أصبح وبالاً وكلاً.
كاتب المقال: أ.د. ناصر العمر
المصدر: موقع المسلم(/2)
من قال إن النفط أغلي من دمي؟!
شعر: فاروق جويدة/ العراق
مادام يحكمنا الجنون ..
سنرى كلاب الصيد تلتهم
الأجنة في البطون
سنرى حقول القمح ألغاماً
وضوء الصبح ناراً في العيون
سنرى الصغار على المشانق
في صلاة الفجر جهراً يصلبون
وحين يحكمنا الجنون
لا زهرة بيضاء تشرق
فوق أشلاء الغصون
لا فرحة في عين طفل
نام في صدر حنون
لا دين .. لا إيمان .. لا حق
ولا عرض مصون
وتهون أقدار الشعوب
وكل شيء قد يهون
مادام يحكمنا الجنون
*****
أطفال بغداد الحزينة يسألون
عن أي ذنب يقتلون
يترنحون على شظايا الجوع
يقتسمون خبز الموت .. ثم يودعون
شبح "الهنود الحمر" يظهر في صقيع بلادنا
ويصيح فينا الطامعون ...
من كل صوب قادمون
من كل جنس يزحفون
تبدو شوارعنا بلون الدم
والكهان في خمر الندامة غارقون
تبدو قلوب الناس أشباحاً
ويغدو الحلم طيفا عاجزاً
بين المهانة .. والظنون
هذي كلاب الصيد
فوق رؤوسنا تعوي
ونحن إلى المهالك مسرعون ..
*****
أطفال بغداد الحزينة
في الشوارع يصرخون
جيش التتار
يدق أبواب المدينة كالوباء
ويزحف الطاعون
أحفاد "هولاكو"
على جثث الصغار يزمجرون
جثث الهنود الحمر تطفو
فوق أعمدة الكنائس والثرى يغلي
صراخ الناس يقتحم السكون
أنهار دم فوق أجنحة الطيور الجارحات
مخالب سوداء تنفذ في العيون
مازال دجلة يذكر الأيام ..
والماضي البعيد يطل من خلف القرون
عبر الغزاة هنا كثيرا ً.. ثم راحوا
أين راح العابرون؟ !
هذي مدينتنا .. وكم باغ أتى
ذهب الجميع ونحن فيها صامدون
سيموت "هولاكو"
ويعود أطفال العراق
أمام دجلة يرقصون
لسنا الهنود الحمر
حتى تنصبوا فينا المشانق
في كل شبر من ثرى بغداد
نهر .. أو نخيل .. أو حدائق
وإذا أردتم سوف نجعلها بنادق
سنحارب الطاغوت فوق الأرض
بين الماء .. في صمت الخنادق
إنا كرهنا الموت لكن
في سبيل الله نشعلها حرائق
ستظل في كل العصور وإن كرهتم
أمة الإسلام من خير الخلائق
*****
أطفال بغداد الحزينة
يرفعون الآن رايات الغضب
بغداد في أيدي الجبابرة الكبار
تضيع منا .. تغتصب
أين العروبة .. والسيوف البيض
والخيل الضواري .. والمآثر .. والنسب؟
أين الشعوب وأين كهان العرب؟!
في معبد الطغيان يبتهل الجميع
ولا ترى غير العجب ..
البعض منهم قد شجب
والبعض في خزي هرب
وهناك من خلع الثياب
لكل جواد وهب ..
في ساحة الشيطان
نقرأ "سورة " الدولار!
يسعى الناس أفواجاً
إلى مسرى الغنائم والذهب
والناس تسأل عن بقايا أمة تدعى" العرب"!
كانت تعيش من المحيط إلى الخليج
ولم يعد
في الكون شيء من مآثر أهلها
ولكل مأساة سبب
باعوا الخيول ..
وقايضوا الفرسان في سوق الخطب
فليسقط التاريخ .. ولتحيا الخطب
أطفال بغداد الحزينة يصرخون
يأتي إلينا الموت في لبن الصغار
يأتي إلينا الموت في اللعب الصغيرة
في الحدائق .. في الأغاني
في المطاعم .. في الغبار
تتساقط الجدران فوق مواكب التاريخ
لا يبقى لنا منها .. جدار
عار على زمن الحضارة أي عار
من خلف آلاف الحدود
يطل صاروخ لقيط الوجه ..
لم يعرف له أبداً مدار
ويصيح فينا :
أين أسلحة الدمار؟ !
هل بعد موت الضحكة العذراء فينا
سوف يأتينا النهار؟
الطائرات تسد عين الشمس
والأحلام في دمنا انتحار
فبأي حق تهدمون بيوتنا
وبأي قانون
تدمر ألف مئذنة .. وتنفث سيل نار
تمضي بنا الأيام في بغداد
من جوع .. إلى جوع
ومن ظمأ .. إلى ظمأ
ووجه الكون جوع .. أو حصار
يا سيد البيت الكبير
في وجهك الكذاب
تخفي ألف وجه مستعار
نحن البداية في الرواية ..
ثم يرتفع الستار
هذي المهازل لن تكون نهاية المشوار
هل صار تجويع الشعوب
وسام عز وافتخار؟ !
هل صار قتل الناس في الصلوات
ملهاة الكبار؟ !
هل صار قتل الأبرياء
شعار مجد وانتصار؟!
أم أن حق الناس في أيامكم
نهب .. وذل .. وانكسار
الموت يسكن كل شيء حولنا
ويطارد الأطفال من دار .. لدار
مازلت تسأل :
أين أسلحة الدمار؟!
*****
أطفال بغداد الحزينة
في المدارس يلعبون
كرة هنا .. كرة هناك
طفل هنا .. طفل هناك
قلم هنا .. قلم هناك
لغم هنا ... موت .. هلاك
بين الشظايا
زهرة الصبار تبكي
والصغار على الملاعب يسقطون
بالأمس كانوا
كالحمائم في الفضاء يحلقون
*****
في الكوفة الغراء
عطر من عبير المصطفى
فجر أضاء الكون يوماً
لا استكان ولا غفا
يا آل بيت محمد ..
كم حن قلبي للحسين .. وكم هفا
غابت شموس الحق والعدل اختفى
مهما وفى الشرفاء في أيامنا
زمن " النذالة " ما وفى..
مهما صفا العقلاء في أوطاننا
بئر الخيانة ما صفا..
بغداد يا بلد الرشيد
يا قلعة التاريخ والزمن المجيد
بين ارتحال الليل
والصبح المجنح لحظتان
موت .. وعيد
ما بين أشلاء الشهيد
يهتز عرش الكون في صوت الوليد
ما بين ليل قد رحل
ينساب صبح بالأمل
لا تجزعي بلد الرشيد
لكل طاغية .. أجل
*****
طفل صغير ..
ذاب عشقاً في العراق
كراسة بيضاء يحضنها
وبعض الفل .. بعض الشعر والأوراق
حصالة فيها قروش
من بقايا العيد .. دمع جامد
يخفيه في الأحداق
عن صورة الأب الذي
قد غاب يوما ً.. لم يعد(/1)
وانساب مثل الضوء في الأعماق
يتعانق الطفل الصغير مع التراب
يطول بينهما العناق
خيط من الدم الغزير
يسيل من فمه
يذوب الصوت في دمه المراق
تخبو الملامح .. كل شيء في الوجود
يصيح في ألم : فراق
والطفل يهمس في أسى :
أشتاق يا بغداد تمرك في فمي
من قال إن النفط أغلى من دمي؟ !
بغداد لا تتألمي
مهما تعالت صيحة البهتان
في الزمن العمي
فهناك في الأفق البعيد صهيل فجر قادم
في الأفق يبدو سرب أحلام
يعانق أنجمي
مهما تواري الحلم عن عينيك
قومي .. واحلمي
ولتنثري في ماء دجلة أعظمي
فالصبح سوف يطل يوماً
في مواكب مأتمي
الله أكبر من جنون الموت
والزمن البغيض الظالم
بغداد لا تستسلمي
بغداد لا تستسلمي
من قال إن النفط أغلي من دمي؟!(/2)
من قتل الشيخ ديدات ؟
عبقري مؤمن مثل ديدات، متعمّق بدراسة الأديان، ويدعو إلى الله على بصيرة، همّه الدعوة للإسلام، والدفاع عن دين الله، ومناصرة المظلومين حول العالم، لا بد أن يُغضب قوى الشر، وأصحاب المعتقدات الفاسدة، وطوابير المنافقين حول العالم. لذلك فقد كان عام 1996م عام فرح وابتهاج للكنيسة على وجه الخصوص؛ فقد هدأت حركة الداعية، واستراح المحارب العنيد، الذي أحرج الكنيسة، وسحب البساط من تحت رجالاتها بمناظراته المُفحمة، فكثر الداخلون في الإسلام، وانكشفت كثير من تناقضات الأناجيل المحرفة، وظهر عوار المعتقدات النصرانية، التي يرفضها العلم والمنطق، وتُبطل كثيراً منها الحقائق التاريخية الثابتة.
حزنت في ذلك الوقت جماهير المسلمين في كل مكان، لِما أصاب الداعية المنافح عن عقيدة الإسلام، وهمّ بعض المتحمسين أن يتهموا الموساد أو الاستخبارات الأمريكية، أو المتعاطفين مع الكنيسة، بدس مادة غريبة لديدات، سببت له الشلل التام، وألزمته الفراش، إلا أن الخوف من التلويح بنظرية المؤامرة، التي تستعمل كلما أرادت جهات طمس الحقائق المغيّبة، وخاصة ما يتعلق منها بشؤون المسلمين منعتهم من ذلك.
مع أن حوادث مشابهة وقعت لعلماء ودعاة ومفكرين، تم السكوت عنها لعدم توافر الأدلة، والخوف من تهمة نظرية المؤامرة، فقد عقد قبل سنوات مؤتمر إسلامي في إحدى الدول المتقدمة، شارك فيه عدد من علماء العالم الإسلامي، وبعد رجوع ثلاثة منهم إلى بلدانهم ظهرت أعراض مرض غامض عليهم، واحد منهم هو الدكتور عبدالله علوان صاحب كتاب (تربية الأولاد في الإسلام)، وقيل وقتها: إن مخابرات إحدى الدول وضعت للعلماء الثلاثة مادة في الطعام، ويُعتقد أن أجهزة أمنية سهلت لهم ذلك بحكم العلاقة الوطيدة بين الدولتين، ومات العلماء الثلاثة، في أوقات متقاربة _رحمهم الله تعالى_.
لا أريد أن يفهم من كلامي أني أؤكد فرضية قتل الداعية ديدات، لكني أستطيع أن أؤكد أن عدداً من العلماء والمفكرين والمعارضين قتلوا بهذه الطريقة، في بعض الدول العربية والإسلامية، إلا أن موانع كثيرة تحول دون الإفصاح عن أسمائهم في الظروف الحالية.
والذي يدعو للتساؤل، أن قضية نظرية المؤامرة أكثر ما يردّدها الإعلام الرسمي في بعض الدول، أو رموز الصحافة العلمانية عندما يتعلق الأمر بقضية إسلامية، فلو قال قائل: إن اليهود قد انسحبوا من غزة، ويسعون لاستكمال بناء الجدار العازل، تمهيداً لعدوان كبير على الأقصى، يستهدف هدمه، لارتفعت عقيرة الإعلام الموجّه، تذمّ نظرية المؤامرة، وتدعو للعقلانية، وحسن الظن؛ لأن شارون داعية سلام، وانسحابه من غزة يؤكد أن الصهاينة تنازلوا عن أطماعهم التوسعية، وألقوا في البحر مخططات إسرائيل الكبرى!
واليوم تفقد الأمة ديدات الذي أجاب نداء الحق، بعد أن حاول أن يوصل رسالته بكل وسيلة ممكنة، وأن يدعو إلى الله، حتى وهو على سرير المرض، فلا نريد أن نطالب بمعرفة سبب الوفاة، وإنما ندعو إلى أن يعي المسلمون ما يجري حولهم، ويتفهموا جيداً أن الجميع مستهدف، من عدو خارجي لم يرحم حتى عملاءه، ومن ساروا في ركابه من التصفية ودس السم عندما انتهت الحاجة إليهم، والشواهد قريبة من الجميع.
إن رجلاً عظيماً مثل ديدات _رحمه الله_ يستحق منا أن نقف على كل مراحل حياته، وأن نستفيد من أسلوبه في الدعوة والمناظرات؛ لأنه في الحقيقة أسس مدرسة فريدة في الدعوة إلى الله، ودراسة الأديان، وأصول المناظرات، كما كان قدوة في كرم الأخلاق والتواضع، ومساعدة الآخرين، فكم نحن بحاجة إلى أمثال هذا الداعية الذي قرن القول بالعمل، وسار يدعو إلى الله على بصيرة، دون أن يلتفت إلى الخلف، حتى لقي وجه ربه _سبحانه_.
مما يؤسف له أن الغرب الذي أزعجه ديدات، بمناظراته الشهيرة، كان أكثر اهتماماً به من بعض الدول الإسلامية؛ لأن الغرب اعتبره ظاهرة خطيرة تستحق الدراسة، فأقامت الكنيسة قسماً خاصاً لدراسة مناظرات ديدات وكتبه، ومحاولة التشويش عليها، والتقليل من شأنها بطريقة خبيثة، بعيداً عن الأسلوب العلمي الرصين، على عادة الكنيسة في مخاطبتها للعاطفة، وتجاهل العقل والمنطق. في وقت نجد فيه إعلام كثير من دولنا يركز على دعاة الفن، وأرباب العهر الثقافي ، بينما يتجاهل عظماء الأمة وقادتها؛ لأن أكثر وسائل الإعلام مازالت متمسكة بالتبعية الإعلامية لوكالات الأنباء الصليبية والصهيونية، وتقوم بدور ببغائي مضحك، وشر البلية ما يضحك!
اللهم ارحم عبدك أحمد ديدات، واغفر له ذنوبه، وأكرم نزله، واجْزهِ عن الإسلام والمسلمين أحسن الجزاء، وأكرم الأمة بخير منه، ورّدنا إلى حقيقة ديننا رداً جميلاً، والحمد لله رب العالمين .
كاتب المقال: د.محمد الشواف
المصدر: المسلم نت(/1)
من قتل الطفولة
بقلم الدكتورعدنان علي رضا النحوي
كَمْ منزل صَرخَتْ بهِ جدرانُه ... ... أَسَفاً ودوّى ساحُه و الملعبُ
وتلفّتَتْ ! أيْنَ الطفولة أشْرَقَتْ ... ... والشوقُ من بسماتها يترقَّبُ
تجْري بها مَرَحاً ! فهذا واثِبٌ ... ... وثْباً إلى كُرَةٍ وذا يَتَوَثّبُ
ما بين ضحكَةِ مُقْبِل يهفو و غضـ ... ... ـبَةِ شارد قصَصٌ يلذُّ و يُعجب
طاب الضجيج أو الصّراخ ! ولذّ من ... ... صَخبٍ لمن يرضى هناكَ ويَغْضَبُ
وكأَنّما جمعوا أفانين الهوى ... ... لِعَباً يزيد مِنَ الهناء ويُطرِبُ
وعلى محيّاهم بشائر لَهفةٍ ... ... ورؤى أمانٍ في النفوس تُغيَّبُ
**** ... * ... ****
أيْن َ النسائم فوَّحتْ من عِطرِهمْ ... ... عِطراً يًمُدُّ من الحياة و يوهبُ
وكأنّ أنداء البراءة رَفْرَفَتْ ... ... ريّاً يمرُّ على الرُّبَى و يُخَضِّبُ
وكأنّما الأيام تجري دونهُمْ ... ... عيداً يحدِّد لهوَهم و يقرِّب
دنيا الطفولة لو رجوتَ بُلوغَها ... ... ضاق الخيال وضاق عنك المطْلَبُ
مُدَّتْ بأحلام الطفولة و ارتَقَتْ ... ... آفاقُها وزها مَداها الأرحَبُ
تغْنَى بكلِّ فريدةٍ من شَوقِها ... ... منثورةٍ تُجْلى هُناكَ و تُجْلَبُ
**** ... * ... ****
نجْوَي البَراءة والطّهارة والطُّفو ... ... لةِ آيةٌ توْحى ومعنى يُعْرِبُ
يَسْمو البيان بها ويعلو حُسْنُهُ ... ... حسناً و يُشْرِقُ في الحياة و يَعذُبُ
من فطرةٍ يَصْفو اليقين بها فَيَرْ ... ... وي صِدْقَها حُسْناً أبرَّ ويَسْكُبُ
وكأنّها معنى الجمالِ و جَوْهرٌ ... ... أسْمى وأغْنى بالصَّفاءِ و أطيَبُ
دنيا الطفولة جَنَّةٌ مَرْوِيِّةٌ ... ... بهُدىً يَطِيبُ به الجَنى و المشْربُ
**** ... * ... ****
وثِمارُها حُلْو الصَّفاء و ريُّها ... ... عَذْبٌ وظلٌ وارفٌ و مُحبَّبُ
و نسيمها يَسْري بِرَيَّا طُهْرها ... ... عَبَقاً ويُنشَرُ في الحياةِ و يوهَبُ
**** ... * ... ****
كم مُجْرِمٍ قَتَل الطُّفولةَ و انثنى ... ... كِبْراً يتيه و مجرِمٍ يتأهَّبُ
كم مُجْرِمٍ يُلْقي على ساحاتِها ... ... قَصْفاً فيَقْتُل ما يشاء و يَنْهَبُ
كم مُجْرِمٍ يُلْقي دويَّ سِلاحه ... ... موتاً يُمَزِّق في الدّيار و يَضْرِبُ
المجرمون عصابةٌ لا تَنْثَني ... ... إلاَّ وأَهْوال الجَريمة تُرْهِبُ
نثروا بها دنيا الطفولة فانثَنَتْ ... ... قِطَعاً يُمَزِّقُها الهَوانُ ويَسْلُبُ
وهوتْ عمائر فوقها و كأنّها ... ... تَحْنو على أكْبادِها و تُقَرِّبُ
غابَتْ بها صور الطفولة وارتَقَتْ ... ... في عالم حقًّ يَبرُّ و يحدُبُ
وتلفّتَتْ كُلُّ الرُّبى و تسَاءلتْ ... ... أيْنَ الطفولة و الهوى و الملْعَبُ
لم يَبْقَ إلاّ بَسْمةُ الطفل الذي ... ... غنّى الحياة بصدْقه لا يكذِبُ
هي بَسْمَةٌ لا تَنْمَحي ! سَتَظلُّ في ... ... إشْراقِها أمَلاً يُطِلُّ و يَرْقُبُ
نوراً يَشُّقُّ من الظلام ! وصيحةً ... ... يَعلو صداها في الديار ويُلْهِبُ
**** ... * ... ****
الرياض
26/5/1422هـ
16/8/2001م ... ... ...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
· من ملحمة الإسلام من فلسطين إلى لقاء المؤمن(/1)
من قرأ القرآن بالدف أو العود يكفر
عبد الله زقيل
الحمد لله وبعد،
لقد كنت متابعا لكثير من التعليقات والتعقيبات على فتوى الشيخ حمود العقلاء بخصوص فتوى الشيخ في الساقط الرويشد، ومن خلال متابعتي للموضوع كنت أبحثُ عن أقوال أهل العلم في هذه المسألة إلى أن وجدت نصين في المسألة.
اسم الكتاب: الجامع في ألفاظ الكفر.
بتحقيق: الشيخ الدكتور / محمد الخميس.
والكتاب يحتوي على أربع رسائل.
الرسالة الأولى:
ألفاظ الكفر لمحمد بن إسماعيل المعروف ببدر الرشيد الحنفي (ت 768 هـ)
قال في الكتاب المذكور (ص27) ما نصه: من قرأ القرآن على ضرب الدف والقضيب يكفر. ا. هـ.
ومن هذه الرسائل الرسالة الرابعة والتي بعنوان:
رسالة في ألفاظ الكفر لتاج الدين أبي المعالي مسعود بن أحمد الحنفي.
قال تاج الدين في الكتاب (ص443) ما نصه: إذا أنكر آية من القرآن أو سخر بآية من القرآن يكفر.
ولو قرأ القرآن على ضرب الدف أو عود يكفر. ا. هـ.
فما رأيكم في هذه النصوص أليست كافيه يا عباد الله؟؟
http://saaid.net المصدر:(/1)
فضيلة الشيخ سليمان بن ناصر العوان حفظه الله
سمعت في الإذاعة حديثاً منسوباً إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : من قرأ حم الدخان في ليلة أصبح يستغفر له سبعون ألف ملك !!! فماهي درجة هذا الحديث ؟
بسم الله الرحمن الرحيم
الجواب : هذا الحديث منكر ولا يصح في الباب شيء وقد ذكره ابن الجوزي في الموضوعات ( 1 / 248 ) وقال تفرد به عمر بن راشد وهو وهم صوابه عمر بن عبد الله .
والخبر رواه الترمذي في جامعه ( 2888 ) وابن عدي في الكامل ( 5 / 1720 ) من طريق زيد بن الحباب عن عمر بن أبي خثعم عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .
قال الترمذي رحمه الله . هذا الحديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه . وعمر بن أبي خثعم يضعف ، قال محمد : هو منكر الحديث )) .
وقال أبو زرعة : واهي الحديث حدّث عن يحيى بن أبي كثير ثلاثة أحاديث لو كانت في خمس مئة حديث لأفسدتها .
وروى الترمذي ( 2889 ) وأبو يعلى في مسنده ( 6224 ) من طريق هشام أبي المقدام عن الحسن البصري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال - صلى الله عليه وسلم - ( من قرأ حم الدّخان في ليلة الجمعة غفر له ) .
وهذا الإسناد معلول بعلتين :
الأولى : هشام بن زياد أبو المقدام . ليس بشيء قاله النسائي وغيره .
وقال ابن حبان في كتابه المجروحين ( 3 / 88 ) هشام بن زياد كان ممن يروي الموضوعات عن الثقات والمقلوبات عن الأثبات حتى يسبق إلى قلب المستمع أنه كان المتعمد لها . لا يجوز الاحتجاج به .
الثانية : الانقطاع فإن الحسن لم يسمع من أبي هريرة وقد قال الإمام أبو زرعة رحمه الله . لم يسمع الحسن من أبي هريرة ولم يره فقيل : فمنْ قال حدّثنا ؟ قال يخطىء .
وقال الترمذي رحمه الله عقيب هذا الحديث . لم يسمع الحسن من أبي هريرة هكذا قال أيّوب ويونس بن عُبيد وعليّ بن زيد .
والخبر أورده ابن الجوزي في الموضوعات ( 1 / 247 ) وقال هذا الحديث من جميع طرقه باطل لا أصل له .
قاله
سليمان بن ناصر العلوان
14 / 2 / 1422 هـ(/1)
من كل بستان وردة
د.عثمان قدري مكانسي
othman47@hotmail.com
-- كثير من عشاق شعر مجنون ليلى يتذكر بيتيه المشهورين
أوميضُ برق في الأبيرق لاحَ أم في ربا نجد أرى مصباحا
أم تلك ليلى العامرية أسفرت ليلاً فصيّرَتِ المساء صباحا
وكنت ، وما أزال أترنم بهما متلذذاً ببُحّة الحاء وامتدادها ، وممتعاً ناظرَيّ بلمعان البرق خلف جبال نجد وتلالها على الرغم أنني- وإن قطعتها مجيئة وذهاباً كل سنة على امتداد خمسة عشر عاماً قضيتها في الإمارات إلى الأردنّ ومنها- لم اقض في الرياض النجدية سوى أيام . لكن شعوري النفسي أنني في أرض الشعر والشعراء جعلني أهواها وآنسُها وأرتاح إليها ... وأتصور أنني أرى المصابيح الخافتة تطل عليّ في ليل الروابي التي تحوطني وأنا أقود سيارتي مسرعة إلى الهدف المنشود .. الشارقة حيث أقيم ، أو عمان حيث أقضي فيها الصيف مع الأهل والأحباب... وما كنت استطيع النفوذ إلى عالم الشاعر الهيمان أو تصديق مشاعره لأنني لم أكن أعرف – وإلى الآن فأنا لا أومن بشيء يُدعى الاستغراق في الحب – أن الغرام يصل بصاحبه إلى دمج صور الطبيعة الخلابة في المحبوبة فإذا هما شيء واحد – وإن كنت شاعراً أطرب للجمال وتختلج جُزيئات كياني انتعاشاً به - . فشاعرنا لم يستطع التفريق بين لمعان البرق في الليل البهيم فيحيل الظلام ضياء – كأكبر فلاش ضوئي في العالم – وبين وجه ليلى الذي أسفر فأشرقت له الروابي والآكام ! ...
ما قلته دفعني إليه ما تذكرتُه ِمن فعل الشاعر بكري رجب البابي الحلبي رحمه الله تعالى - وكان شاعراً مبدعاً رقيق الحاشية عذب التعابير لطيف المعشر – مع الشيخ العالم عبد الله سراج الدين بن الشيخ نجيب رحمهما الله تعالى حين دخل على الشيخ في غرفة إدارة الثانوية الشعبانية التي أسسها أبوه في حي " الفرافرة " في حلب القديمة لتخريج الدعاة إلى الله تعالى ثم عكف الشيخ عبد الله على تطويرها .. وكان الشاعربكري رجب البابي الحلبي يعمل فيها مدرساً للغة العربية وبعض المواد الشرعية الأخرى .. دخل عليه مساء فقال له : " صبحك الله بالخير " فالتفت إبه الشيخ عبد الله سراج الدين وحدجه بنظرة فيها استغراب وعتاب واستفهام . أما الاستغراب فلأنه قالها في المساء ، وهي عادة تقال في بلاد الشام صباحاً .. أما في الجزائر حيث درّست سنتين في بلاد القبائل الصغرى –بجاية – فيقولون مساء " صبحك الله بالخير" ، ويقولون صباحاً " مسّاك الله بالخير" وأعتقد أنهم على صواب ، ففي المساء يكون الواحد منا قد أمسى على خير، ويراه صاحبه فيدعو متمنياً له دوام السلامة " صبحك الله بالخير " . وهكذا يفعل في الصباح حين يراه فيرجو له الخير إلى المساء . وأما العتاب فلأن الشاعر دائم " النهفات " وينأى عن الجد في كثير من مواقفه ، وطبيعته المرحة تدفعه إلى ذلك . وأما الاستفهام فلأن الشاعر ما ألقى تلك الجملة إلا ليردفها بتفسير وتعليل .. هكذا عوّد الأحباب ، والشيخ منهم .. وقال الشيخ بهدوء المتمكن : يا شيخ بكري رجب البابي الحلبي- ناداه باسمه كاملاً - أتسخر منا أم تريد مزاحا ؟
وقف الشاعر أمامه مبتسماً متحبباً وعيناه تغزلان ذكاءً ثم قال :
صبّحته عند المساء فقال لي : تهزا بقدري أم تروم مزاحا ؟
فأجبته : إشراق وجهك غرّني حتى توهّمْت المساء صباحا
-- ولنقفز قفزة طويلة – ولا يقدر عليها إلا الرياضيون - من حلب إلى أمريكا الجنوبية وإلى محل بيع الأحذية في" بوينس آيرس " للشاعر اللبناني " نعمت قازان " افتتحه في ذلك الوقت قاصداً تسعة أعشار الرزق .. ويدخل عليه صاحبه الشاعر " توفيق غضون " مهنئاً ومباركاً ، فيتلقاه " نعمت " بوجه بشوش ويقدم له الشراب ، ويشكره على زيارته إياه . لكن " توفيقاً " لا يكتفي بالشراب ضيافة ، ويصر على أن ينال حذاءً هدية ، وأعلن أنه لن يغادر المحل إلا بهذه الهدية التي طلبها ... ويبتسم " نعمت " ويرضخ للأمر ، فيختار " توفيق " هديته ويحملها ، وقبل المغادرة يقدم له صاحب المحل ورقة مطوية وهو يودعه ... يفتحها " توفيق قبل الخروج ، فيقرأ فيها بيتين يقول فيهما :
لقد أهديت توفيقاً حذاءً فقال الحاسدون : وما عليه؟
أما قال الفتى العربي يوماً شبيه الشيء منجذب إليه ؟
لم ينبس " توفيق" ببنت شفة ، لكنه أخرج ورقة من جيبه وكتب عليها :
لو كان يُهدى إلى الإنسان قيمتُه لكنت أستأهل الدنيا وما فيها
لكن تقبلت هذا النعل معتقداً أن الهدايا على مقدار مهديها
وكان هناك ابتسامتان تنمان عن صداقة وأريحية ، ومضى توفيق بهديته شاكراً .(/1)
-- لطيف أنْ يجتمع الأصحاب في رحلة أنس خارج المدينة ، على شاطئ البحر أو النهر ، أو في بستان تحت ظلال الأشجار يقضون نهاراً ممتعاً بين نكتة أدبية وفكرة اجتماعية ، ومسابقة شعرية ، ورياضة وسباحة و... لحم مشوي ، ولا ننس المقولة النبوية الكريمة : " وعليّ جمع الحطب " إلا إذا كان أحدهم فقيراً لا يستطيع مجاراتهم في المصروف فهذا له وضع آخر نذكره بعد قليل .. والأصل أن يشترك الجميع في الخدمة والمصروف إلا إذا كان أحدهم أو بعضهم مدعوين . لكنني قرأت أن بخيلاً سمجاً حين أراد أن يشارك صديقه في كلفة الرحلة قال مقسماً العمل على الطريقة التالية :
منك الطعام ، ومني النار أوقدها والماء مني ومنك السمن والعسل
فقلت : تلك والله إذاً قسمة ضيزى .
فإذا كان مدعواً ضيفاً كريماً أو كان لطيف المعشريودّه الجميع ويريدون رفقته وكان هو فقيراً لا يقدر على مجاراتهم فتحمّلوا نفقته على أن يقريهم من شعره وأدبه فشيء ظريف وتصرف رفيق وهذا ما حصل مع صاحبنا حين اقترحوا عليه أن يختار نوع الطعام الذي يفضله في الرحلة ، فماذا كان جوابه؟ ما الذي طلبه منهم وهو أحوج ما يكون إلى ثياب تستره ؟
قال لهم بلسان الحال ، فلما لم ينتبهوا أخبرهم بلسان المقال :
قالوا اقترح شيئاً نُجِدْ لك طبخَه قلت اطبخوا لي جُبّة وقميصاً(/2)
من كلام ابن القيم رحمه الله
(أعلم أن أشعة لا إله الله تبدد من ضباب الذنوب وغيومها بقدر قوة ذلك الشعاع وضعفه، فلها نور ويتفاوت أهلها في ذلك النور قوة وضعفا لا يحصيه إلا الله تعالى، فمن الناس من نور هذه الكلمة في قلبه كالشمس، ومنهم من نورها في قلبه كالكوكب الدري، ومنهم من نورها في قلبه كالمشعل العظيم، وآخر كالسراج المضيء، وأخر كالسراج الضعيف، ولهذا تظهر الأنوار يوم القيامة بأيمانهم وبين أيديهم على هذا المقدار، بحسب ما في قلوبهم من نور هذه الكلمة علما وعملا ومعرفة وحالا، وكلما عظم نور هذه الكلمة وأشتد أحرق من الشبهات والشهوات بحسب قوته وشدته، حتى إنه ربما وصل إلى حال لا يصادف معها شبة ولا شهوة ولا ذنبا إلا أحرقه، وهذا حال الصادق في توحيده، الذي لم يشرك بالله شيئا، فأي ذنب أو شهوة أو شبهة دنت من هذا النور أحرقها، فسماء إيمانه قد حرست بالنجوم من كل سارق لحسناته، فلا ينال منها السارق إلا على غرة وغفلة لا بد منها للبشر، فإذا استيقظ وعلم ما سُرق منه، استنقذه من سارقه أو حصل أضعافه بكسبه، فهو هكذا أبدا مع لصوص الجن ولإنس ليس كمن فتح لهم خزانته وولى الباب ظهره) انتهى كلامه رحمه الله تعالى.(/1)
من كلمات التائبين
• كتبت والفرح يشع بين كلماتها :
يوم كنت لا أدرك شيئا من الحياة غير حياة اللهو والبعد عن تعاليم الدين الإسلامي يومها ذاك كانت الرياح تعصف بي وتقتلع جذور الطمأنينة والهناء من أعماق نفسي والأمواج تتصارع علي وتطرحني يمينا وشمالا ساعة في سماع أغنية ماجنة وساعة يسترق أذني حديث لاه وساعة أقلب صفحات كتاب لا يمت إلى الإسلام بصلة أو مجلات خليعة لشياطين الأنس يد فيها . كان ذلك لا يزيد حياتي إلا فراغا ومللا أكثر فالضيق لا يزال في نفسي والوحدة تكاد تقتلني رغم كثرة الصحاب .
فأخذت أبحث عن الدواء ... عن بديل لتلك الحياة التي لم أرتضها لنفسي وبدأت أقلب صفحات تلك الأيام التي تمر مر السحاب وبينما أنا كذلك والأفكار تتزاحم في خاطري تذكرت شيئا غاب عني منذ زمن ... فانطلقت بسرعة إليه وحملت القرآن العظيم وضممته إلى صدري في حنان وشوق يغمر نفسي ضممته بقوة وكأني أريد أن أمزجه بقلبي . وبريق الدمع يغمر عيني .. ومع كتاب الله رأت عيناي بصيصا من النور وأدركت عندها أن لا حياة بغير الالتزام بالإسلام وأن مصدر سعادة الإنسان هو الإيمان بالله .
فيا من تبحثون عن السعادة ... عن الاستقرار النفسي عن الطمأنينة .. عن النقاء .. عن الصفاء .. عن المعاني الإنسانية ..
لا تبتعدوا كثيرا .. ستجدون ضالتكم بين أيديكم في القرآن الكريم .. في تعاليم الدين .. قال تعالى : ( وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ) .. ذات النطاقين
• كنت ابكي ندما على ما فاتني من حب الله ورسوله , وعلى تلك الأيام التي قضيتها بعيدة عن الله عز وجل . ( امرأة مغربية أصابها السرطان وشفاها الله منه )
• لقد ولدت تلك الليلة من جديد , وأصبحت مخلوقاً لا صلة له بالمخلوق السابق وأقبلت على تلاوة القرآن , وسماع الأشرطة النافعة من خطب ودروس ومحاضرات . ( شاب تائب )
• نعم لقد كنت ميتاً فأحياني الله ولله الفضل والمنة . ( الشيخ أحمد القطان )
• وعزمت على التوبة النصوح والاستقامة على دين الله , وأن أكون داعية خير بعد أن كنت داعية شر وفساد ... وفي ختام حديثي أوجهها نصيحة صادقة لجميع الشباب فأقول : يا شباب الإسلام لن تجدوا السعادة في السفر ولا في المخدرات والتفحيط , لن تجدوها أو تشموا رائحتها إلا في الالتزام والاستقامة ... في خدمة دين الله ... في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
ماذا قدمتم يا أحبة للإسلام ؟ أين آثاركم ؟ أهذه رسالتكم ؟
شباب الجيل للإسلام عودوا *** فأنتم روحه وبكم يسود
وأنتم سر نهضته قديما *** وأنتم فجره الزاهي الجديد
( من شباب التفحيط سابقاً )
• لقد أدركنا الحقيقة التي يجب أن يدركها الجميع وهي أن الإنسان مهما طال عمره فمصيره إلى القبر , ولا ينفعه في الآخرة إلا عمله الصالح ( الممثل محسن محي الدين وزوجته الممثلة نسرين )
• أتمنى من الله وأدعوه أن يجعل مني قدوة صالحة في مجال الدعوة إليه , كما كنت من قبل قدوة لكثيرات في مجال الفن . ( الممثلة شهيرة )
• كما أتوجه إلى كل أخت غافلة عن ذكر الله .. منغمسة في ملذات الدنيا وشهواتها أن عودي إلى الله – أخيه – فوالله إن السعادة في طاعة الله . ( طالبة تائبة )
• وخرجت من المستشفى إلى المسجد مباشرة , وقطعت صلتي بالماضي .... وأنصح إخواني الشباب وغيرهم بالحذر من رفقاء السوء . ( مدمن تائب )
• فبدأت بالبكاء على نفسي وعلى ما مضى من عمري في التفريط في حق الله وحق الوالدين
( شاب تاب بعد سماعه موعظة )
• واليوم ما أكثر المغترين بهذه الدنيا الفانية , والغافلين عن ذلك اليوم الرهيب والذي يفر فيه المرء من أخيه , وأمه وأبيه , وصاحبته وبنيه , يوم لاينفع مال ولابنون إلا من أتى الله بقلب سليم . فهل من عودة قبل الموت ؟ ( شاب تاب بعد رؤيته ليوم القيامة في المنام )
• وختاماً أقول لكل فتاة متبرجة ... أنسيت أم جهلت أن الله مطلع عليك , أنسيت أم جهلت أم تجاهلت أن جمال المرأة الحقيقي في حجابها وحيائها وسترها ؟ (فتاة تائبة)
• كما أصبحت بعد الإلتزام أشعر بسعادة تغمر قلبي فأقول : بأنه يستحيل أن يكون هناك إنسان أقل مني إلتزاماً أن يكون أسعد مني , ولو كانت الدنيا كلها بين عينيه , ولو كان من أغنى الناس ... فأكثر ما ساعدني على الثبات – بعد توفيق الله – هو إلقائي للدروس في المصلى , بالإضافة إلى قراءتي عن الجنة بأن فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر من اللباس والزينة والأسواق والزيارات بين الناس وهذه من أحب الأشياء إلى قلبي . فكنت كلما أردت أن أشتري شيئاً من الملابس التي تزيد عن حاجتي أقول ألبسها في الآخرة أفضل .
(فتاة انتقلت من عالم الأزياء إلى كتب العلم والعقيدة )
• وقد خرجت من حياة الفسق والمجون , إلى حياة شعرت فيها بالأمن والأمان والأطمئنان والإستقرار . ( رجل تاب بعد موت صاحبه )(/1)
• وكلما رأيت نفسي تجنح لسوء أو شيء يغضب الله أتذكر عاى الفور جنة الخلد ونعيمها السرمدي الأبدي , وأتذكر لسعة النار فأفيق من غفلتي ... والحمد لله أني قد تخلصت من كل مايغضب الله عزوجل من مجلات ساقطة وروايات ماجنة وقصص تافهة أما أشرطة الغناء فقد سجلت عليها ما يرضي الله عز وجل من قرآن وحديث . (فتاة تائبة )
• حقيقة كنت في غيبوبة عن الإسلام سوى حروف كلماته . ( سوزي مظهر )
• نعم لقد كنت أتمنى أن أكون مسلمة ملتزمة لأن ذلك هو الحق والله تعالى يقول ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) ( شمس البارودي )
• دخلت إلى البيت وكان أول ما وقع عليه بصري صورة معلقة على الحائط لبعض الممثلات ... فاندفعت إلى الصور أمزقها ... ثم ارتميت على سريري أبكي ولأول مرة أحس بالندم على ما فرطت في جنب الله ... فأخذت الدموع تنساب في غزارة من عيني ( شاب تائب )
• فخرجت من البيت إلى المسجد ومنذ ذلك اليوم وأنا – ولله الحمد – ملتزم ببيوت الله لا أفارقها وأصبحت حريصاً على حضور الندوات والدروس التي تقام في المساجد وأحمد الله أن هداني إلى طريق السعادة الحقيقية والحياة الحقة ( الشاب ح . م .ج )
• وانتهيت إلى يقين جازم حاسم أنه لا صلاح لهذه الأرض , ولا راحة لهذه البشرية ولا طمأنينة لهذا الإنسان ولا رفعة ولا بركة ولا طهارة ... إلا بالرجوع إلى الله ... واليوم أتساءل كيف كنت سأقابل ربي لو لم يهدني ؟ ( طالبة تائبة )
• فتبت إلى الله وأعلنت توبتي وعدت إلى رشدي وأنا الآن ( ولله الحمد ) من الداعيات إلى الله ألقي الدروس والمحاضرات وأؤكد على وجوب الدعوة . (فتاة تائبة )
• بدأ عقلي يفكر وقلبي ينبض وكل جوارحي تناديني : أقتل الشيطان والهوى ... وبدأت حياتي تتغير ... وهيئتي تتبدل ... وبدأت أسير على طريق الخير وأسأل الله أن يحسن ختامي وختامكم أجمعين . (شاب تاب بعد سماعه لقراءة الشيخ علي جابر ودعائه )
وقفة
أخي على طريق الحق ... اعلم وفقني الله وإياك للصواب بأنه لم يتميز الآدمي بالعقل إلاّ ليعمل بمقتضاه فاستحضر عقلك ، واخل بنفسك تعلم بالدليل أنك مخلوق مكلف وأن عليك فرائض أنت مطالب بها ، وأن الملكين يحصيان ألفاظك ونظراتك ، وأن أنفاس الحي خطاه إلى أجله .
أسألك أخي وأنت الحكم !!!
لو أن الله خلقك أعمى هل تعص الله بنظرك ؟
ولو أن الله خلقك أصم هل تعص الله بأذنك ؟
لو أن الله خلقك أبكم هل تعص الله بلسانك ؟
ولو أن الله خلقك مشلولاً هل تعص الله بقدمك ؟
إذاً .... أخي إنما أنت تعص الله سبحانه وتعالى بنعم الله ، فهل يستحق المنعم هذا الجزاء ؟
ولو أنك .... أخي !!! تفكرت في لذة أمس أين ذهبت ، لقد رحلت وأبقت ندماً .
ولو أنك تفكرت أيضا أين شهوة النفس ؟ كم نكست رأساً وزلت قدماً !!!
قال الشاعر:
أيها اللاهي بلا أدنى وجل *** اتق الله الذي عز وجل
واستمع قولاً به ضرب المثل *** اعتزل ذكر الأغاني والغزل
وقل الفصل وجانب من هزل
كم أطعت النفس إذ أغويتها *** وعلى فعل الخنا ربيتها
كم ليالٍ لاهياً أنهيتها *** إن أهنى عيشة قضيتها
ذهبت لذاتها والإثم حل . نقلا من موقع صيدالفوائد(/2)
من لفافةٍ للحلوى ، إلى أكبر دار لنشر التراث !
02-9-2005
بقلم مبارك القحطاني
"...في حياتنا الكثير من الإنجازات و الإبداعات التي لو سبرت غورها ، و نبشت قعرها ، لألفيتها بدأت من ردة فعل لموقف معين ، حرّكت جمود الذهن ، فانبثقت منها فكرة ، قلّبها العقل على نار التفكير الهادئة ، ثم اختمرت ، و نضجت ..."
في حياتنا الكثير من الإنجازات و الإبداعات التي لو سبرت غورها ، و نبشت قعرها ، لألفيتها بدأت من ردة فعل لموقف معين ، حرّكت جمود الذهن ، فانبثقت منها فكرة ، قلّبها العقل على نار التفكير الهادئة ، ثم اختمرت ، و نضجت ، إلى أن انتهت أخيراً بمشروع عمل .
و من بين هذه المواقف التي لا تُعدّ = موقف طريف ، لكن كان له أثر كبير جدا في إعداد مشروع ضخم لإنقاذ جانب من تراث الأمة الإسلامية من الضياع و التلف ؛ و هو أن " الملا عبد القيوم " رحمه الله أحد علماء الهند في حيدر آباد الدكن في أواخر القرن التاسع عشر ميلادي ، حصل أن زاره بعض إخوانه في داره ، ثم بعث ابنه ليشتري بعض الحلوى ، فلما عاد الولد بالحلوى إذ بها ملفوفة ، ملفوفة بماذا ؟
كانت ملفوفة بمخطوطةٍ نادرةٍ تُعدّ كنزاً من كنوز تراثنا الإسلامي !.
فهال هذا الشيخ الجليل ما آل إليه حال مخطوطاتنا من ضياع ، و إهمال ، و امتهان ! .
لكن هذه الصدمة المُمضّة قدحت في ذهنه فكرة إنشاء دار تعمل على جمع هذه المخطوطات ، و حفظها ، و تحقيقها ، ثم نشرها ؛ لإنقاذها من هذا المصير المؤلم .
فاتّجه إلى الإمارة الآصفية في حيدر آباد الدكن ، وخاطب المسئولين عن التعليم والمعارف فيها ، فلقي منهم استجابة وتشجيعاً ، ثم شُكّلت لجنة مكونة من علماء أجلاّء ، و لقيت هذه اللجنة دعماً مادياً من الحاكم آنذاك و هو " نظام الملك آصفجاه " الذي تبناها و أصدر مرسوماً في عام 1308 هـ ، بإنشاء دائرة المعارف النظامية نسبة إليه ، ثم تحولت في عام 1956 م إلى دائرة المعارف العثمانية ( ولا علاقة لها بالدولة العثمانية ) نسبة إلى الحاكم " النظام مير عثمان " الذي كان يدعمها سنويا بعشرات الألوف من الجنيهات .
و استمرت طيلة عهدها في إحياء نفائس التراث الإسلامي لسنين طويلة فعلى سبيل المثال : نشرت " المستدرك على الصحيحين " للحاكم النيسابوري ، و " سنن البيهقي " ، و " التاريخ الكبير " للبخاري ، و " مسند أبي عوانة الإسفراييني " ، و " مسند الطيالسي " ، و " الصارم المسلول على شاتم الرسول " لشيخ الإسلام ابن تيمية ، و " تذكرة الحفاظ " للعلامة الذهبي ، هذا فضلا عن كتب اللغة والأدب و التاريخ ، مثل " الفائق في غريب الحديث و الأثر " للزمخشري ، و " الجمهرة لابن دريد " ، و كتباً كثيرة تصعب على العد والحصر في460مجلداً من أمهات الكتب .
و توسع نطاق عمل هذه الدائرة المباركة من جمع المخطوطات التي توجد في الهند إلى جمع المخطوطات من جميع مكتبات العالم عن طريق التصوير و الشراء ؛ إذ حظيت بالدعم المادي من جهات كثيرة ، بعد أن رأت دورها الإيجابي و الرائد في هذه القضية المهمة .
و قد عمل فيها العديد من جهابذة العلم و أساطين تحقيق التراث ، ويكفي أن نعلم أن العلامة " عبدالرحمن المعلّمي اليماني " رحمه الله ، قد عمل فيها محققاً و ناشراً للكثير من كتب السلف ، فكانت هذه الدائرة بحق مفخرة لأهل الهند ؛ يقول عنها العلامة " عبدالحي الحسني " : " إنها نشرت كتبا قيمة في الحديث و أسماء الرجال و التاريخ واللغة و وعلوم الحكمة و الرياضة كان يتسامع بها الفضلاء و يحن إليها العلماء ، ولم تر ضوء الشمس ، فكانت مأثرة علمية تذكر ، وتشكر " .
و يقول " محمد رشيد رضا " : " العالم الإسلامي يحمد للهند فضلها في طباعة الأعمال الأساسية في الموضوعات الإسلامية خاصة في السيرة و الحديث " .
و يقول " محمد الأرزنجاني الدمشقي " : " إن دائرة المعارف العثمانية قد أسدت إلى العلم و أهله أيادي بيضاء ، و لقد أخرجت كنوزا ثمينة جديرة بأن تكون من أزهى جواهر المعرفة في جيد الدهر . تلك العقود و الجواهر الخالدة التي كانت العقول النيرة تائقة لسبر غورها و الإستطلاع عليها من كل الأمم " .
و يقول العلامة " محمود الطناحي " : " و يعدّ ما نشرته دائرة المعارف العثمانية ؛ من كتب رجال الحديث ، و تراجمهم ، من أوسع و أعظم ما نشرته الدائرة ، و هو عمل لم تقم به هيئة أخرى ، في داخل العالم العربي ، أو خارجه " .
و أقوال كثيرة أعرضت عنها خشية الإطالة ، كلها تلهج بالثناء و العرفان لهذه الدار التي نشأت بفضل الله ثم لفافة الحلوى التي أتى بها الولد لأبيه " الملا عبد القيوم " ! .
فلا تحقرنّ يا أخي الكريم من الأفكار شيئا ؛ فإذا كان طريق الألف ميل يبدأ بخطوة ؛ فطريق أكبر الإنجازات يبدأ بفكرة ! .
---------
المراجع :
1- " دائرة المعارف العثمانية ، ظروف النشأة و مراحل التطور " ، حماد العنقري ، مقال منشور في مجلة الفيصل ، عدد 276.(/1)
2- " مدخل إلى تاريخ نشر التراث العربي " ، محمود الطناحي ، مكتبة الخانجي .(/2)
من للمطلقة؟
الأولى:
فتاة حصان رزان، طاهرة عفيفة، يضرب بها المثل في الحياء، تسير بالحديث عن أخلاقها الركبان، و لاغرو فقد ورثت ذلك عن آبائها الغر الميامين، وأخوالها الكرام الصادقين. تزوجت من شاب لم يشبه أباه، ولم يكرم من أكرمه، شاب تائه ضائع، شاب لايقدر عواقب الأمور و لا قدر الكرام ، فأساء عشرتها وأهانها، وبعد أشهر من المعاناة صارت أيماًً مطلقه.
الثانية:
كالأولى لكنها تزوجت من رجل قد بلغ من الكبر مبلغه، أصغر أبنائه في سنها، أطغته المادة، فظن أنه بالمال يشري العفيفات، ولم يعد لديه فرق بين سيارة يمتطيها وفتاة ابنة كرام يصطفيها، فكان مصيرها كالأولى..
أما الثالثة:
فليست بأسعد منهن حظا، ولا أوفر عزا، تزوجت من شاب ليس فيه ما يعيبه، لكن الأرواح جنود مجندة، والقلوب بينها تنافر واتفاق، فلم يكتب الله لهما الوئام فكان الفراق إلى غير لقاء.
وهكذا الرابعة و الخامسة....
إنها نماذج عدة تتفق معاناتها مهما اختلفت الصور وتنوعت، نماذج من فتياتنا اللاتي لم يكتب لهن التوفيق في الحياة الزوجية، فودعنها بعد شهر أو أشهر معدودة ، وظللن حبيسات البيوت لا يعلم معاناتهن إلا من خلقهن. " أنا الآن في الثالثة والعشرين من العمر، لكن أشعر أني في الثالثة والعشرين بعد المائة من العمر لشدة ما أشعر به من الضيق والملل. أنا لست سعيدة، ولكني راضية والحمد الله على كل حال، أنكرت كل شيء بداخلي من المشاعر والأحاسيس، لكن شيئا واحدا لم أستطع أن أنكره، إنه غريزة الأمومة تقوى بداخلي يوما بعد يوم، وأنا أرى كل من حولي يحضون بذلك، أقرب الناس أختي التي تصغرني فهي متزوجة برجل مثال الرجل الصالح وأخلاقه عالية، وعلاوة على ذلك فهي قريبا ستكون أما، إنني لا أحسدها ولكني أغبطها فقط... ". هذه كلمات وصلتني من فتاة شأنها كشأن أولئك " متزوجةمنذ سنة، نصفها زواج فعلي والنصف الأخر زواج صوري " كانت وزوجها كما قالت " خطين متوازيين لايلتقيان " حتى طلقت بعد ذلك. مشاعر كثيرة انتابتني وأنا أقرأ ما سطرته تلك الفتاة فشعرت بأسى لم أعتد الشعور بمثله ، كيف لا وقد اختلطت دموع المسكينة بقلمها، أبت عيناي إلا التجاوب معها، وبعد أن هدأت العاطفة الجياشة، امتد أثرها ليأخذ مساحة من الفكر الهاديء، أملت علي تلك المشاعر هذه السطور.
إنهن فلذات أكبادنا، وبناتنا قبل أن يكن بنات الناس، ذاك حين نملك المشاعر الإنسانية الحقة التي يمليها علينا ديننا، أما أولئك فاقدو الإحساس والمشاعر، فأحسب أنا سنفشل في مخاطبتهم حتى تحيا مشاعرهم.
أليس من حق أخواتنا علينا أن نزيل معاناتهن؟ وأن نمسح ولو بعض دموع الحزن التي قد غرقت في بحر الغفلة واللامبالاة ممن يعنيهم الأمر.
ولست أدري من سيتولى علاج المشكلة، مراكز الدراسات الغربية؟ أو منظمات حقوق الإنسان؟ أو هواة الثرثرة والتشدق من المتاجرين بالكلمة والمسترزقين من أقلامهم؟.... فمن غيرنا يعنى بأمرنا؟ ومن لهن غير آبائهن وإخوانهن- وكلنا يجب أن نشعر بأنا كذلك-؟
قد لا أضع النقاط على الحروف، ولا أكون جهيزة تقطع قول كل خطيب ولكن حسبي أن أنقل بعض المعاناة التي تعيشها فتيات كثر غابت عنهن أعين وأقلام الناصحين. وحسبي من النجاح أن أثير اهتمام عشرة من القراء. فحينئذ أجزم أن جهداً ما سيبذل، وكلمة ناصحه ستقال، وبعد ذلك مشكلة ستحل.
وعلى بريد الصراحة أبعث هذه الرسائل العاجلة.
الرسالة الأولى:
لمن يركب الزواج من ثانية فيصر على أن ينكح بكراً، أو يتزوج من خارج هذه البلاد، فلم لا تتنازل عن قدر من رغبتك وتتزوج واحدة من أولئك فتساهم في مسح دمعة، وإزالة حرقة، وقبل ذلك إعفاف امرأة قد يستهويها الشيطان حين لا تجد من يعفها فتبحث عن الرذيلة فيذوق المجتمع أجمع وبال المعصية.
الرسالة الثانية:
للآباء الذين سيسألهم الله عما استرعاهم"كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته" فليس من مؤهلات القبول لشاب خاطب أن يكون (ابن حمولة)، أو أبوه رفيقا لك، أو أمه إحدى محارمك " فابنتك لن تتزوج الحمولة، أو الأب أو الأم، إنما ستعاشر الشاب، فاتقوا الله في بناتكم ولا تزوجوهن إلا لمن يعرف قدرهن "خيركم خيركم لأهله"
الرسالة الثالثة:
لحملة الكلمة الصادقة الناصحة من الخطباء والكتاب، ما مصير هذه القضية وغيرها من حديثكم وخطبكم؟ فهلا كلمة قد تمسح بإذن الله دمعة، وتزيل بتوفيقه حزنا، وتزوج بعونه أيماً. فلله كم من دعوة صادقة ستنالها ، قد يكون معها خير الدنيا والآخرة.
الرسالة الرابعة:
وأخص بها صاحبات الأقلام السيالة من النساء الناصحات، فأنتن اللاتي تحملن الوكالة عن أخواتكن، ولعلكن أكثر منا شعورا بآلامهن. فهلا سطر يراعكن، وخطت أقلامكن كلمات صادقة تعبر عن معاناة أخواتكن الفاضلات.
إنها كلمات أرجو أن لا تأخذ العاطفة فيها أكثر من مساحتها، وآمل أن تجد آذاناً صاغية، والله الموفق، وعليه التكلان.(/1)
من لم يصل ركعتي الفجر فيصلهما بعد ما تطلع الشمس
الكاتب: الأستاذ محمد أحمد الوزير
الكلام على الحديث
رواية ودراية
الحمد لله رب العالمين ، وأصلى وأسلم على سيدنا محمد ِ، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا
أما بعد :
فقد طلب مني فضيلة الوالد العلامة / محمد بن إسماعيل العمراني البحث والنظر في الحديث الِآتي ، فأجبته إلى ذلك وتكلمت على الحديث ، وقسمت الكلام عليه في الفقرات التالية :
1ـ لفظ الحديث :
(( من لم يصل ركعتي الفجر فيصلهما بعد ما تطلع الشمس )).
2ـ من أخرج الحديث :
1. أخرجه الترمذي ج: 2 ص: 408 بشرح التحفة ،
2. وابن حبان في صحيحه ج: 6 ص: 224 ـ رقم 2472 ،
3. والحاكم في المستدرك على الصحيحين ج: 1 ص: 408،
4. و الدارقطني سننه ج: 1 ص: 382 ،
5. والبيهقي في السنن الصغرى ج: 1 ص: 442 ، الجميع من طريق عمرو بن عاصم حدثنا همام عن قتادة عن النضر بن أنس عن بشير بن نهيك عن أبي هريرة مرفوعا ...به).
3ـ الكلام على غير المشهورين من رجال الإسناد :
1ـ عمرو بن عاصم بن عبيد الله الكلابي القيسي أبو عثمان البصري صدوق في حفظه شيء كذا قال الحافظ في التقريب وقال في مقدمة الفتح وثقه ابن معين والنسائي وقال أبو داود لا أنشط لحديثه وقدم عليه الحوضي قال الحافظ قد احتج به أبو داود في السنن والباقون .
2ـ بشير بن نهيك بفتح النون وكسر الهاء واخره كاف السدوسي البصري ثقة .
وبقية رجال الحديث معروفون من رجال الصحيح ، لا داعي للإطالة بكتابة التراجم لهم، لشهرتهم بين العلماء وطلبة العلم ، والله أعلم .
4ـ الكلام على الحديث :
قال المباركفوري في التحفة عن الحديث :
وأخرجه أيضا الدارقطني في سننه من هذا الطريق وأخرجه أيضا الحاكم من هذا الطريق وتقدم لفظهما انفا وقال الحاكم هذا الحديث صحيح على شرط الشيخين انتهى ولم يحكم الترمذي عليه بشيء من الصحة والضعف قلت في إسناد هذا الحديث قتادة وهو مدلس ورواه عن النضر بن أنس بالعنعنة قال الحافظ بن حجر في طبقات المدلسين قتادة بن دعامة السدوسي البصري صاحب أنس بن مالك رضي الله عنه كان حافظ آلاف ومشهور بالتدليس وصفه به النسائي وغيره ثم هذا الحديث بهذا محفوظ تفرد به عمرو بن عاصم عن همام عدا جميع أصحاب همام فإنهم رووه بغير هذا اللفظ .
5ـ فقه الحديث :
قال الترمذي : والعمل على هذا ثم بعض أهل العلم وبه يقول سفيان الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق وابن المبارك .
قال الشوكاني في النيل بعد ذكر كلام الترمذي هذا ما لفظه وحكاه الخطابي عن الأوزاعي قال العراقي والصحيح من مذهب الشافعي أنهما يفعلان بعد الصبح ويكونان أداء قال والحديث لا يدل صريحا على أن من تركهما قبل صلاة الصبح لا يفعلهما إلا بعد طلوع الشمس وليس فيه إلا الأمر لمن لم يصلهما مطلقا أن يصليهما بعد طلوع الشمس ولا شك أنهما إذا تركا في وقت الأداء فعلا في وقت القضاء وليس في الحديث ما يدل على المنع من فعلهما بعد صلاة الصبح ويدل على ذلك رواية الدارقطني والحاكم والبيهقي فإنهما بلفظ من لم يصل ركعتي الفجر حتى تطلع الشمس فليصلهما انتهى كلام الشوكاني
قال ابن قدامة: فصل فأما قضاء سنة الفجر بعدها فجائز إلا أن أحمد اختار أن يقضيهما من الضحى وقال إن صلاهما بعد الفجر أجزأ وأما أنا فأختار ذلك وقال عطاء وابن جريج والشافعي يقضيهما بعدها لما روى عن قيس بن فهد قال رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أصلي ركعتي الفجر بعد صلاة الفجر فقال ما هاتان الركعتان يا قيس قلت يا رسول الله لم أكن صليت ركعتي الفجر فهما هاتان رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وسكوت النبي صلى الله عليه وسلم يدل على الجواز ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قضى سنة الظهر بعد العصر وهذه في معناها ولأنها صلاة ذات سبب فأشبهت ركعتي الطواف وقال أصحاب الرأي لا يجوز لعموم النهي ولما روى أبو هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من لم يصل ركعتي الفجر فليصلهما بعدما تطلع الشمس رواه الترمذي وقال لا نعرفه إلا من حديث عمرو بن عاصم قال ابن الجوزي رحمه الله وهو ثقة أخرج عنه البخاري وكان ابن عمر يقضيهما من الضحى وحديث قيس مرسل قاله أحمد والترمذي لأنه يرويه محمد بن إبراهيم عن قيس ولم يسمع منه وروي من طريق يحيى بن سعيد عن جده وهو مرسل أيضا ورواه الترمذي قال قلت يا رسول الله إني لم أكن ركعت ركعتي الفجر قال فلا إذا وهذا يحتمل النهي وإذا كان الأمر هكذا كان تأخيرها إلى وقت الضحى أحسن لنخرج من الخلاف ولا نخالف عموم الحديث وإن فعلها فهو جائز لأن هذا الخبر لا يقصر عن الدلالة على الجواز والله أعلم .
وقال الإمام الشوكاني في النيل: وفي الحديث مشروعية قضاء النوافل الراتبة وظاهره سواء فأتت لعذر أو لغير عذر وقد اختلف العلماء في ذلك على أقوال:(/1)
أحدها استحباب قضائها مطلقا سواء كان الفوت لعذر أو لغير عذر لأنه صلى الله عليه وآله وسلم أطلق الأمر بالقضاء ولم يقيده بالعذر وقد ذهب إلى ذلك من الصحابة عبد الله ابن عمر ومن التابعين عطاء وطاوس والقاسم بن محمد ومن الأئمة ابن جريج والأوزاعي والشافعي في الجديد وأحمد وإسحاق ومحمد بن الحسن والمزني.
والقول الثاني أنها لا تقضى وهو قول أبي حنيفة ومالك وأبي يوسف في أشهر الروايتين عنه وهو قول الشافعي في القديم ورواية عن أحمد والمشهور عن مالك قضاء ركعتي الفجر بعد طلوع الشمس.
والقول الثالث التفرقة بين ما هو مستقل بنفسه كالعيد والضحى فيقضي وبين ما هو تابع لغيره كرواتب الفرائض فلا يقضي وهو أحد الأقوال عن الشافعي.
والقول الرابع إن شاء قضاها وإن شاء لم يقضها على التخيير وهو مروي عن أصحاب الرأي ومالك. والقول الخامس التفرقة بين الترك لعذر نوم أو نسيان فيقضي أو لغير عذر فلا يقضي وهو قول ابن حزم واستدل بعموم قوله من نام عن صلاته الحديث ، وأجاب الجمهور أن قضاء التارك لها تعمد من باب الأولى وقد قدمنا الجواب عن هذه الأولوية .
6ـ الشواهد للحديث :
أخرج ابن ماجة رقم (416): شاهدا فعلي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :
حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم و يعقوب بن حميد بن كاسب قالا حدثنا مروان بن معاوية عن يزيد بن كيسان عن أبي حازم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم ((نام عن ركعتي الفجر فقضاهما بعد ما طلعت الشمس)) هذا إسناد رجاله ثقات .
وهذا الحديث صححه الألباني في صحيح ابن ماجة .
7ـ الحكم على الحديث :
الحديث من الأحاديث المتكلم عليها ، وللحكم عليه يمكن القول أن الذي فيه من كلام الأئمة التالي :
1ـ الانفراد ، فقد انفرد بروايته عمرو بن عاصم القيسي البصري .
2ـ عنعنة قتادة بن دعامة السدوسي الإمام .
وأقول : ولكن الناظر في رجال الحديث ، يتبين له بجلاء أن الحديث صحيح الإسناد ، ولكن الحديث من الأحاديث المعلة ، كما ترى في كلام المباركفوري ، وللجواب على ذلك يقال :
أ ـ مجرد الانفراد إذا كان بإسناد صحيح لا يضر لأن الأصل العمل به ، و هو الظاهر ، وعلى هذا القول جماعة من المتقدمين وأكثر المتأخرين من المحدثين كالنووي ، الحافظ ابن حجر ، والسيوطي ، والشوكاني والأمير الصنعاني ، ومن المعاصرين الألباني .
ب ـ وأما عنعة قتادة فإنها لاتضر وعنعنة من الطبقة الثانية كما هو معلوم ، وهذا الطبقة تقبل عنعنتهم ، وفي الصحيح كثير من الأحاديث المتفق على صحتها وفيها عنعنة قتادة ، وإن كان ما في الصحيحين على ما هو معروف عند المحدثين ، أن الأصل في العنعنة الموجودة فيهما حملها على السماع لجلالة صاحبي الصحيحين وتلقي الأمة لكتابيهما بالقبول .
ج ـ والشاهد الذي ورد عند ابن ماجة يجبر الضعف اليسير بسبب العنعنة ، ويرتقي بالحديث إلى درجة الاحتجاج ، وكلا الحديثين القولي والفعلي قد صححهما الألباني ، أما القولي في السلسلة الصحيحة 5/ 478 رقم 2361 ، وأما الفعلي ففي صحيح سنن ابن ماجة 1/ 190 رقم 949. والحديث القولي وشاهده الفعلي كاف في إثبات السنية ، وهو المقصود ، مع العلم على أن الحديث القولي ، لم يدل على عدم الجواز الصلاة عقب صلاة الفجر ، وإنما يدل على الأفضلية التي ذهب إليه المالكية ، ورواية الأمام أحمد المصححة في المذهب ، وأفتى بذلك العلامة / ابن باز رحمه الله ، وهو الراجح وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل ، والله أعلم .
المغني ج: 1 ص: 431
نيل الأوطار ج: 3 ص: 31
مصباح الزجاجة ج: 1 ص: 139 ، 74 باب من فاته الركعتين قبل الفجر .(/2)
من مآثر عمر رضي الله عنه
أ.د/محمد أديب الصالح
رئيس تحرير مجلة حضارة الإسلام
كنتم أذل الناس
* روي أنه لما قدم عمر رضي الله عنه الشام عرضت له مخاضة، فنزل عن بعيره ونزع خفيه فأمسكهما، وخاض الماء ومعه بعير، فقال أبو عبيدة:
- لقد صنعت اليوم صنيعاً عظيماً عند أهل الأرض.
فصك في صدره وقال:
- أوه لو غيرك يقول هذا يا أبا عبيدة!! إنكم كنتم أذل الناس فأعزكم الله برسوله، فمهما تطلبوا العز بغيره يذلكم الله.
* وجاء في رواية أخرى: أنه لما قدم رضي الله عنه الشام، استقبله الناس وهو على بعيره، فقالوا:
- يا أمير المؤمنين لو ركبت برذوناً فقد تلقاك عظماء الناس ووجوههم.
فقال عمر:
- لا أراكم ههنا، إنما الأمر ههنا –وأشار بيده إلى السماء- خلوا سبيل جملي.
أسعد الرعاة
* وكتب إلى عامله أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما:
أما بعد:
"فإن أسعد الرعاة من سعدت به رعيته.
وإن أشقى الرعاة من شقيت به رعيته.
وإياك أن ترتع فيرتع عمالك، فيكون مثلك عند الله عز وجل مثل البهيمة نظرت إلى خضرة من الأرض فرعت فيها تبتغي بذلك السمن، وإنما حتفها في سمنها والسلام عليك"
* مجلة حضارة الإسلام –السنة 10 –العدد 5-6 –رجب-شعبان 1389هـ - أيلول –تشرين1 1969م.(/1)
من محاسن الدين الإسلامي ...
الشيخ عبد العزيز بن محمد بن عبد الرحمن السلمان- يرحمه الله -
بسم الله الرحمن الرحيم
فصل في ذكر بعض محاسن الدين الإسلامي نصره الله عباد الله:
قال الله تعالى - وهو أصدق القائلين: (اليوم أكملت لكم دينكم، وأتممت عليكم نعمتي، ورضيت لكم الإسلام ديناً) أكمل الدين بالنصر، والإظهار على الأديان كلها، فنصر عبده ورسوله، وخذل أهل الشرك خذلاناً عظيماً، بعد ما كانوا حريصين على صد المؤمنين عن دينهم، طامعين في ذلك، فلما رأوا عز الإسلام وانتصاره يئسوا كل اليأس من المؤمنين، أن يرجعوا إلى دينهم، وصاروا يخافون منهم ويخشون، وأتم جل وعلا على عباده نعمته بالهداية والتوفيق، والعز والتأييد، ورضي الإسلام لنا ديناً، واختاره لنا من بين الأديان، فهو الدين عند الله لا غير، قال تعالى: (ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين). عباد الله: نظر أصحاب الأفكار البريئة السليمة في أحكام الإسلام فاعتنقوه، وتأملوا في حكمه الجليلة فأحبوه، وملكت قلوبهم مبادئه الحكيمة فعظموه، وكلما كان المرء سليم العقل، نير البصيرة، مستقيم الفكر، اشتد تعلقه به، لما فيه من جميل المحاسن، وجليل الفضائل، جاء الدين الإسلامي بعقائد التوحيد، التي يرتاح لها العقل السليم، ويقرها الطبع المستقيم، يدعو إلى اعتقاد أن للعالم إلهاً واحداً لا شريك له، أولاً لا ابتداء له، وآخراً لا انتهاء له، ( ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) له القدرة التامة، والإرادة المطلقة، والعلم المحيط، يلزم الخلق بالخضوع له والانقياد، والعمل على مرضاته، بامتثال أمره سبحانه، واجتناب نهيه، نصب الأدلة والبراهين، في الأنفس والآفاق، وحث العقول على النظر والاستدلال، لتصل بالبرهان إلى معرفته وتعظيمه، والقيام بحقوقه، فتراه تارة يلفت نظرك إلى أنه لا يمكن أن توجد نفسك، ولا أن توجد من دون موجد (أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون ) أما كون الإنسان موجداً لنفسه فهذا أمر ما ادعاه الخلق، وأما كون الإنسان هكذا من غير موجد، فأمر ينكره منطق الفطرة ابتداءً ولا يحتاج إلى جدل كثير أو قليل، وإذا كان هذان الفرضان باطلين، فإنه لا يبقى إلا الحقيقة، التي يقولها القرآن، وهي أن الخلق خلقه الله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي ( لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد )، وتارة يلفت النظر إلى السماوات والأرض، فهل هم خلقوها، فإنها لم تخلق نفسها، كما أنهم لم يخلقوا أنفسهم، وتارة يفتح أمام العقل والبصر صحيفة السماء، وما حوت من شمس مشرقة، وقمر منير، ونجم مضيء، فيقول (تبارك الذي جعل في السماء بروجاً جعل فيها سراجاً وقمراً منيراً) وفي الآية الأخرى يقول: (هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نوراً وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب) ويقول: (فالق الإصباح وجعل الليل سكناً والشمس والقمر حسباناً ذلك تقدير العزيز العليم) ويقول: ( أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج) ويقول: (أو لم ينظروا في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شيء ) ويقول: (الذي خلق سبع سموات طباقاً ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور، ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئاً وهو حسير ) ومرة يلفت النظر إلى الأرض، وما فيها من أشجار متنوعة، ( وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل) فتشاهد شجر العنب، بجوار شجر الحنظل، في قطعة واحدة، تسقى بماء واحد، وقد جعل لكل شجرة جذوراً، تمتص بها من الأرض ما يناسبها من الغذاء الذي به قوامها وحياتها، وتنفتح كل واحدة عن ثمرة تخالف الأخرى في اللون والطعم والرائحة، وكذلك باقي الأشجار المتجاورة التي أرضها واحدة وماؤها واحد، ألا يدل هذا على وجود صانع حكيم قادر؟ (إن في ذلك لآية) ومرة يلفت النظر إلى ما ينزله من السماء، من الماء الذي به قوام الحياة، ولو شاء لجعله أجاجاً، لا نفع فيه، ومرة يتحدث عن وحدانيته وانفراده بالملك والتدبير (ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله) الآية، وفي الآية الأخرى يقول في جزالة لفظ وفخامة معنى: (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) إلى غير ذلك من الأدلة، وشرع لعباده من العبادات ما يهذب النفوس، ويزكيها، وينظم العلاقات ويقويها، ويجمع القلوب ويزكيها، وهذا الذي جاء به الإسلام اتفقت في الدعوة إليه كل الرسل، قال تعالى: (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب). اللهم نور قلوبنا بنور الإيمان، وأعذنا من شر نفوسنا والشيطان، ووفقنا لطاعتك، وجنبنا العصيان، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه(/1)
أجمعين. فصل فقد اعترف المحققون المنصفون، أن كل علم نافع ديني أو دنيوي أو سياسي قد دل عليه القرآن دلالة لا شك فيها، فليس في شريعة الإسلام ما تحيله العقول، وإنما فيه ما تشهد العقول السليمة الزكية بصدقه ونفعه وصلاحه، وكذلك أوامره، كلها عدل، لا حيف فيها ولا ظلم، فما أمر بشيء إلا وهو خير خالص، أو راجح، وما نهى عن شيء إلا وهو شر خالص، أو ما تزيد مفسدته على مصلحته، وكلما تدبر العاقل اللبيب أحكام الإسلام قوي إيمانه وإخلاصه، وعندما يتأمل ما يدعو إليه هذا الدين القويم، يجده يدعو إلى مكارم الأخلاق، يدعو إلى الصدق والعفاف والعدل، وحفظ العهود، وأداء الأمانات، والإحسان إلى اليتيم والمسكين، وحسن الجوار، وإكرام الضيف، والتحلي بمكارم الأخلاق، يدعو إلى تحصيل التمتع بلذائذ الحياة في قصد واعتدال، يدعو إلى البر والتقوى، وينهى عن الفحشاء والمنكر، والإثم والعدوان، لا يأمر إلا بما يعود على العالم بالسعادة والفلاح، ولا ينهى إلا عما يجلب الشقاء والمضرة للعباد. وتأمل محاسن شرائع الإسلام الكبار، التي هي إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت، فعندما تأمل الصلاة التي هي صلة بين العبد وربه، تجد فيها الإخلاص لله، والإقبال عليه، والأدب والاحترام، والثناء والدعاء، والخضوع له، ومظهر الإجلال من العبد لربه، يؤدي واجب الإكبار والتعظيم والتقديس لسيده ومولاه، شأن العبد بين يدي سيده، يقف المرء بين يدي ربه، فيبتدئ بالاعتراف لله بأنه أكبر من كل شيء، وأنه مستحق لأن يعظم ويجل ويقدر (الله أكبر) ثم يأخذ في الثناء على الله بما هو أهله، ويخصه بالعبادة، وطلب المعونة ضارعاً إليه بأن يهديه الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم بالتوفيق والهداية، وأن يجنبه طريق المغضوب عليهم، لانحرافهم عن سواء السبيل، بعد أن عرفوه، وأن يبعده عن طريق الضالين، المنحرفين الذين عبدوا أهواءهم وشياطينهم. وعندئذ تمتلئ النفس من عظمة الله وهيبته وجلاله، فيخر المرء ساجداً لله على أشرف أعضائه، مظهراً للذلة والمسكنة إلى من بيده مقاليد السماوات والأرض، فمزايا الصلاة من ناحية الدين، خضوع لرب العالمين، وخشوع واعتراف بعظمة القاهر القادر، ومتى استشعر القلب ذلك، وامتلأت النفس من هيبة الله، كف عن المحرمات، ولا عجب من ذلك، فإن الله يقول عن الصلاة (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر ) وهي أكبر عون للعبد على مصالح دينه ودنياه، قال الله تعالى: (واستعينوا بالصبر والصلاة). أما عونها على مصالح دينه، فلأن العبد إذا داوم على الصلاة، وحافظ عليها، قويت رغبته في الخير، وسهلت عليه الطاعات، وبذل الإحسان، بطمأنينة نفس واحتساب، ورجاء للثواب، وأما عونها على مصالح الدنيا، فإنها تهون المشاق، وتسلي عن المصائب، والله سبحانه لا يضيع أجر من أحسن عملاً، فيجازيه بتيسير أموره، ويبارك في ماله وأعماله. وفي تأديتها جماعة يحصل التعارف والتواصل، والتواد والتعاطف والتراحم، ويسود الوقار والمحبة بين الصغير والكبير، ويحصل بذلك تعليم فعلي لصفة الصلاة. وانظر إلى ما أوجبه الله من الزكاة، ترى محاسن جمة، منها إصلاح حال الفقراء، وسد حاجة المسكين، وقضاء دين المدين، ومنها التخلق بأخلاق الكرام، من السخاء والجود، والبعد عن أخلاق اللئام، ومنها أن تطهر القلب من حب الدنيا ببذل اليسير، ومنها حفظ المال من المكدرات والمنغصات الحسية والمعنوية، ومنها الاستعانة بها على الجهاد في سبيل الله، والمصالح الكلية، التي لا يستغني عنها المسلمون ن ومنها دفع صولة الفقراء، ومنها أنها دواء للمجتمع، وطب للنفوس، بها يطهر المرء من رذيلة الشح، قال تعالى (ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون) ومنها أنها لو أخرجها الأغنياء لانقطع دابر الاشتراكية المتطرفة، والشيوعية المسرفة، ومنها أنها لو أديت تماماً لحصل بذلك راحة الحكام، وصرف مجهوداتهم إلى ما يعود على الأمم بالفلاح ورغد العيش. قصيدة تتضمن التضرع لله جل وعلا أرزاق من هو صامت أو سائل رزق الجميع سحاب جودك هاطل العظيم عظيم فضلك وابل الجميل عميم طولك طائل ميعاد صدق قد حكاه الفاصل وعد الوفي قضاء حكمك عادل يأتي المشبه ظالماً ويشاكل يحصي الثناء عليك فيها قائل ما لم يكن شركاً ففضلك حاصل ولتوبة العاصي بحلمك قابل ويزيدهم من فضله ويواصل ونواله أبداً إليهم واصل نعماً وعن شكر لها أنت غافل ما لا تكون لبعضه تستاهل تنسى وتغفل هل تعي يا غافل بقبائح العصيان منك تقابل طرق السلامة بل قلاك النازل سبل الخلاص وخاب فيها الآمل طرق وقد عظم البلا المتنازل سبب ولا يدنو لها متناول فيه نجاتك ليس يشغل شاغل لم تحتسبه وأنت عنه غافل أحد سواك فإن ذلك باقل أبواب غيرك فهو غر جاهل من غيركم فضلاً فذاك المائل أحد سواك فذاك ظل زائل بجلالكم ذا الرأي رأي باسل بسوى جنابك فهو رأي مائل عمل يرد على الذي هو عامل عمل وإن زعم المرائي باطل حسبي رضاك فكل شيء(/2)
زائل وإذا حصلت فكل شيء حاصل معبوده يا بئس ما أنت فاعل مولاه أوزار الكبائر حامل وجهي المعاصي ثم ذا أنا سائل صفح العيوب وستر عفوك شامل إذ لم يكن عمل لدي يقابل ووسائلي ندم ودمع سائل بة مقلع فيها الشروط كوامل فيقاً لما ترضى ففضلك كامل يا من له اسماً حسان فواضل والظن كل الظن أنك فاعل يا فاطر الخلق البديع وكافلاً أوسعتهم جوداً فيا من عنده يا مسبغ البر الجزيل ومسبل العفو يا صاحب الإحسان يا مرخ لنا الستر يا عالم السر الخفي ومنجز الـ يا من على العرش استوى يا صادق الـ عظمت صفاتك يا عظيم فجل أن جلت فضائلك العظام فلم نجد الذنب أنت له بمنك غافر يعصيك جمٌ ثم تصفح عنهم رب يربي العالمين ببره يعطيهموا ما أملوه من جوده تعصيه وهو يسوق نحوك دائماً ستر الذنوب وزاد في بذل العطا متفضل أبداً وأنت لجوده يدنو وتبعد ثم أنت لفضله وإذا دجى ليل الخطوب وأظلمت وعلمت أن لا منجي ثم تلاحمت وأيست من وجه النجاة فمالها وقنطت من ضعف اليقين ولم يكن يأتيك من ألطافه الفرج الذي في لحظة يأتيك لطف فارج يا موجد الأشياء من ألقى إلى يا طيب الأسماء من يقصد إلى ومن استراح بغير ذكرك أو رجا ومن استظل بغير ظلك راجياً ومن استعاذ إذا عرته ملمة والرأي في عكس الذي حبرته عمل أريد به سواك فإنه لو صلى ذاك وصام حج فإن ذا وإذا رضيت فكل شيء هين أنت المنى ورضاك سؤلي في الدجى أنا عبد سوء آبق كل على ولقد أتى العبد المسيء ميمماً قد أثقلت ظهري الذنوب وسودت ما لي سواك ولست أرجو غافراً ها قد أتيت وحسن ظني شافعي ولبست ثوب الخوف منك مع الرجى فاغفر لعبدك ما مضى وارزقه تو وارزقه علماً نافعاً وارزقه تو وافعل به ما أنت أهل جميله فإذا فعلت فحسن ظني صائب اللهم اجعلنا لك شاكرين، واجعلنا لك من الذاكرين، واجعلنا من عبادك الصابرين المحسنين المتقين، الذين أهلتهم لخدمتك، ووفقتهم لمحبتك وطاعتك، واغفر لنا ولوالدينا، ولجميع المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. فصل وتأمل الصيام وما فيه من المحاسن التي منها أنه يبعث في الإنسان فضيلة الرحمة بالفقراء، والعطف على البائسين، فغن الإنسان إذا جاع تذكر الفقير الجائع، ومنها أنه بامتناعه عن الأكل يعرف فضل نعمة الله عليه فيشكرها، ومنها أن الصيام يقوي النفس على الصبر والحلم، وهما تجنب كل ما من شأنه إثارة الغضب، لأن الصوم نصف الصبر، والصبر نصف الإيمان، ومنها أنه ينقي الجسم من الأخلاط الرديئة، ومنها أنه مهذب للنفوس، ومصفي للأرواح، ومطهر للأجسام، فله الأثر العجيب في حفظ القوى الباطنة، وحمايتها مما يضرها، ثم هو عبادة وامتثال لأمر الله سبحانه ن والمشقة الحاصلة من الصوم ليست بشيء في جانب رضى الله، طمعاً في الثواب والزلفى والأجر العظيم، إلى غير ذلك من المحاسن. وتأمل ما في حج بيت الله من المحاسن، التي منها أنه مجمع لسراة المسلمين، يجتمعون فيه من مشارق الأرض ومغاربها في صعيد واحد، يعبدون إلهاً واحداً، قلوبهم متحدة، وأرواحهم مؤتلفة في الحج، يتذكر المسلمون الرابطة الدينية، وقوة الوحدة الإسلامية، وفي الحج تذكر لحال الأنبياء والمرسلين ومقامات الأصفياء المخلصين، كما قال تعالى: (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) وتذكير بحال سيد المرسلين وإمامهم، ومقاماته في الحج التي هي أجل المقامات، وهذا التذكير أعلى أنواع التذكيرات، فإنه تذكير بأحوال عظماء الرسل، إبراهيم ومحمد صلى الله عليهم وسلم، ومآثرهم الجليلة، وتعبداتهم الجميلة، والمتذكر بذلك مؤمن بالرسل، معظم لهم، متأثراً بمقاماتهم السامية مقتد بهم، وبآثارهم الحميدة، ذاكراً لمناقبهم وفضائلهم، فيزداد به العبد إيماناً ويقيناً. ومن محاسن الحج تصفية النفس، وتعويدها البذل والإنفاق، وتحمل المشاق ن وترك الزينة والخيلاء، ومنها شعور المرء بمساواته لغيره، فلا ملك ولا مملوك، ولا غني ولا فقير، بل الكل هناك سواء، ومن محاسن الحج التنقل في البلاد لمعرفة أحوالها، وعادات سكانها، وزيارة مهبط الوحي والرسل الكرام، ومن محاسن الحج تذكر المجمع العظيم في صعيد واحد، يسمعهم الداعي، وينفذهم البصر، وذلك في المحشر ( يوم يقوم الناس لرب العالمين ) حفاة عراة غرلاً، ومن محاسنه توطين النفس على فراق الأهل والولد، إذ لابد من مفارقتهم، فلو فارقهم فجأة حصل صدمة عظيمة عند الفراق، ومن محاسن الحج انه متى قصده يتزود لسفره بكل ما يحتاج إليه، مدة ذهابه وإيابه، فيتزود للعقبى، وهي السفرة الطويلة، التي لا رجوع بعدها، حتى يبعث الله الأولين والآخرين. وفي سفر الحج قد يجد ما يحتاج إليه في غير بلده، ولا يجد في العقبى ما يحتاج إليه للدار الآخرة، إلا إذا تزوده في الدنيا (وتزودوا فإن خير الزاد التقوى). ومن محاسنه أن الإنسان يعتاد التوكل على الله، لأنه لا يمكنه أن يحمل كل ما يحتاج إليه في سفره للحج، فلابد من التوكل على الله تعالى فيما حمله، وفيما لم يحمله مع نفسه،(/3)
فيعتاد توكله إلى كل ما يحتاج إليه، ومن محاسنه أنه إذا أحرم نزع المخيط الذي هو لباس الأحياء، ويلبس غيره مما هو أشبه بلباس الأموات، فيجد ويجتهد في الاستعداد لما أمامه إلى غير ذلك من المحاسن التي يصعب حصرها. ثم تأمل محاسن الجهاد في سبيل الله، إذ فيه قمع أعداء الله، ونصر أوليائه، وإعلاء كلمة الإسلام، وحمل الكافر على ترك الكفر الذي هو أقبح الأشياء، والإقبال على ما هو أحسن الأشياء، وفيه إخراج البشر عن درجة الأنعام، قال تعالى في حق الكفرة: (إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل) ومن محاسنه اكتساب حياة الأبد، فإنه إن قتل فقد أعلى دين الله، وإن قُتل فقد أحيا نفسه، قال تعالى: (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون). ومنها ما يحصل للمجاهد في سبيل الله من الثواب الجزيل، ومنها تكثير المسلمين، وتقليل الكفرة، ومنها - وهو أعلاها - امتثال أمر الله حيث يقول: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة) وقوله: (يا أيها الذين ءامنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار). ومن محاسن الجهاد انهم في الانتصار يغنمون ويشكرون ويقتوون، وإن أديل عليهم الكفار عرفوا أن ذلك بسبب معصيتهم وذنوبهم، وفشلهم وتنازعهم، فيلجأوا إلى الله متضرعين تائبين، ومن محاسنه أن ترك الجهاد سبب للذل، لما ورد عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم بأذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم " رواه أبو داود. ومن محاسن الجهاد السلامة من النفاق، لحديث " من مات ولم يغز، ولم يحدث به نفسه مات على شعبة من النفاق " رواه أبو داود والنسائي، وفي الحديث الآخر " من لقي الله بغير أثر من جهاد، لقي الله وفيه ثلمة "، وفي الحديث الآخر: " ما ترك قوم الجهاد إلا عمهم الله بالعذاب ". ومن محاسنه استخراج عبودية أولياء الله، في السراء والضراء، وفيما يحبون ويكرهون، إلى غير ذلك من الأدلة الدالة على محاسن الجهاد في سبيل الله، لإعلاء كلمة الله. ثم تأمل ما جاءت به الشريعة من المعاملات، فمن محاسن البيع والشراء، وصول الإنسان إلى ما يحتاج إليه من مأكل ومشرب وملبس ومسكن، ومن محاسنه قطع مسافة الطلب ن فإن من طلب الشيء من معدنه يحتاج إلى الأسفار، وركوب المركوب، وتحمل الأخطاء، ومتى وجده بالبيع سلم من الأخطار، وسقط عنه مؤنة الأسفار، فانظر إلى العود والمسك، والسيارات والمكائن والأقمشة، والهيل والسكر ونحو ذلك ن معادنها بعيدة، فمن لطف الله بعباده أن سخر بعض الناس لبعض، وجاءت الشريعة الكاملة بحل أنواع المعاملات، كالإجارات والشركات، إلا ما دل الدليل على تحريمه، مما فيه ضرر أو ظلم أو جهالة أو نحو ذلك، فمن تأمل المعاملات الشرعية، رأى ارتباطها بصلاح الدين والدنيا، وشهد لله بسعة رحمته، ولطفه بعباده، وحكمته حيث أباح لعباده جميع الطيبات، ولم يمنع من ذلك إلا كل خبيث، ضار على الدين أو العقل أو البدن أو المال. فمن محاسن الإجارة دفع حاجات العباد، بقليل من الإبدال، ويسير من الأموال، فلا كل أحد يملك داراً يسكنها، ولا سيارة يركبها، ولا طائرة يركبها، ولا طاحونة يطحن فيها، ولا مخزناً لأمواله، ونحو ذلك مما يطول تعداده، فَجُوِّزتْ الإجارة، ولا حاجة إلى ذكر محاسن الصلح، فهو كما ذكره الله خير، قال تعالى: (والصلح خير). وأما الوكالة والكفالة، ففيهما من الإحسان ما لا يخفى على أحد ممن اعتقد الشرع، ومن لم يعتقد، وعقل الشرائع، أو لم يعقل، احتاج إلى الوكالة والكفالة، فإن الله تعالى خلق الخلائق، وجعلهم مختلفين في القصد والهمم، فليس كل أحد يرغب أن يباشر الأعمال بنفسه، ولا كل يهتدي إلى المعاملات، فمن لطف الله بخلقه إباحتها، فلا يليق بأصحاب المروات، وأولياء الأمور، مباشرة البياعات كلها بأنفسهم، فالنبي صلى الله عليه وسلم باشر بعض الأمور بنفسه، تعليماً لسنة التواضع، وبياناً لجوازه، وأضاف بعض الأمور إلى غيره، وباشر ذبح الأضحية بنفسه، وفوض إلى علي رضي الله عنه ذبح قسم من هديه صلى الله عليه وسلم. وأما الحسن في الكفالة، فإن فيها إظهار الشفقة والرحمة ومراعاة الأخوة، يبذل الذمة ليضمها إلى الذمة، فينفسح وجه المطالبة، ويسكن قلب المطالب بسبب السعة، قال الله تعالى: (وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم) إلى أن جعل كافلها زكريا، كما قال تعالى: (وكفلها زكريا) وإذا علمت محاسن الوكالة والكفالة، فالحوالة واضحة محاسنها، ففي الحوالة كفالة ووكالة، وزيادة فراغ ذمة الأصيل، عن الحزن الطويل، فإذا قبلت حوالته أدخلت على قلب أخيك - بفراغ ذمته - سروراً، ولا يخفى ما في إدخال السرور على المسلم من الأجر. ومن محاسن الشفعة أن الجار ربما يكون في حاجة إلى هذه الحصة المبيعة، كأن يكون بيته ضيقاً، ويريد اتساعه، أو تكون الأرض المشتركة بجوار مزارعه، ويحتاج إليها، ومن محاسنها التنبيه على عظم حق(/4)
الجار والشريك، حيث أن له الحق في التقدم على غيره في الشراء، إلا إذا أسقط حقه بامتناعه عن الشراء، ومنها دفع ضرر الجار، وهو مادة الضرر. وقال صلى الله عليه وسلم: " لا ضرر ولا ضرار " ولاشك عند أحد في حسن دفع ضرر التأذي بسبب المجاورة على الدوام، من إيقاد نيران، وإعلاء جدار، وإثارة غبار ودخان، وأعظم من ذلك سماع التلفزيون والمذياع، وإحداث أشياء تضر بملكه، ونحو ذلك من أنواع الضرر. وأما الوديعة فمحاسنها ظاهرة، إذ فيها إعانة عباد الله في حفظ أموالهم، ووفاء الأمانة، وهو من أشرف الخصال عقلاً وشرعاً، ومن محاسنها أنها إحسان إلى عباد الله، والله يحب المحسنين، ومنها أنها سبب للتآلف والتآخي بين المسلمين وسبب لمحبة بعضهم لبعض. ومن محاسن الإسلام النهي عن سوء معاملة الزوج لزوجته، وأن عليه أن يقارن بين المحاسن والمساوئ، فإذا كان منصفاً غض بصره عن المساوئ، إذا كانت محاسنها تغمرها، لاضمحلالها فيها، وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقاً رضي منها آخر " رواه مسلم. وأما الفرائض وتوزيع المال على الورثة، فقد وضعه الله بنفسه، بحسب ما يعلمه من قرب وبعد ونفع، وما هو أولى ببر العبد، ورتبه ترتيباً تشهد له العقول الصحيحة بالحسن وأنه لو وكل الأمر إلى آراء الناس وأهوائهم وإرادتهم، لحصل بسبب ذلك من الخلل والاختلال، وزوال الانتظام، وسوء الاختيار فوضى، ومن جملة المحاسن أن ألحق السبب بالنسب، فالسبب المناكحة والولاء، ولما جعل الله سبحانه عقد النكاح ذريعة المحبة والألفة، والازدواج، والاستئناس بين الناس، فلا يحسن أن يلحقها عند موت أحدهما مضاضة ألم الفراق، من غير أن يرتفق أحدهما بما فضل عنه نوع ارتفاق، ثم جعل للزوج ضعف ما للمرأة من الزوج. ومن جملة المحاسن انه لم يورث عند اختلاف الدين، إذا مات المسلم فالكافر لا يورث منه، لأن الكافر وإن كان قريباً نسباً، فهو بعيد ديناً، لأن الكافر ميت لا يرث الميت، قال الله تعالى: (أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس) الآية، وقال تعالى: (يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي)، وأما الكافر فيرث الكافر، لاستواء حاليهما وماليهما. وأما الهبة فمستحبة، إذا أريد بها وجه الله، والأصل فيها قبل الإجماع، قوله تعالى (فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً فكلوه هنيئاً مريئاً) وقوله: (وءاتى المال على حبه) والله سبحانه كريم جواد وهاب، ومن محاسنها أنها سبب للتحاب والتواد، كما في الحديث: " تهادوا تحابوا "، ومن محاسنها أنها تسل السخيمة، وفي الحديث: " تهادوا، فإن الهدية تسل السخيمة "، وقد أهدى صلى الله عليه وسلم للنجاشي حُلة وأواقي من مسك، وكان صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية ويثيب عليها، ومن محاسنها أنها تقوي الصلة، ومتى قويت الصلة سارت الأمة بقدم ثابت، فحسن الصلة بين أفراد الأمة سر نجاحها، ومن محاسنها وفرة الثقة بين المتهادين، إلى غير ذلك من المحاسن ز وأما النكاح فمستحب، ومحاسنه كثيرة، منها تحصين الفرج، ومنها تحصين الزوجة، ومنها حفظها والقيام بها، ومن محاسنه انه طريقة الرسل، ومن محاسنه تكثير الأمة، وتكثير النسل، ومنها تحقيق مباهاة النبي صلى الله عليه وسلم، ومنها قضاء حوائجه من طبخ ونحوه، ومنها حفظ بيته وأولاده، ومنها سكونه وطمأنينته إليها، واستئناسه بها، ومعاشرتها، وغير ذلك من المصالح التي لا يتسع هذا المقام لعدها. وأما الطلاق فمن محاسنه أن جعل الله عز وجل ملك الطلاق إلى الزوج، ومن محاسنه أن حكم بالحرمة الغليظة بعد الطلقات الثلاث، لأن الظاهر، أن من طلق ثلاثاً، رأى الصلاح في الفراق، وعلق الشرع حِل المطلقة ثلاثاً بالتزويج بزوج آخر، والدخول بها، ليصير هذا الشرط مانعاً له من العود إليها، ويثبت على رأي من الصلاح في مفارقتها، ومن المحاسن أنه لم يحكم بحرمتها على وجه لا رجوع فيه أصلاً، فإنه ربما لا يصبر عنها فيهلك في ذلك، فالشرع جعل للوصول إليها سبيلاً، لكن بعد ما يذوق الآخر عسيلتها، وتذوق عسيلته، ولا يجوز عن طريق التحليل، لحديث: " لعن الله المحلل، والمحلل له ". ومن محاسن الطلاق أن يكون في طهر لم يجامعها فيه، هذا هو السنة، فإنه إذا قضى وطره منها، انتقص ميله إليها طبعاً، فيبادر إلى مفارقتها بقليل داعية، ويسير أذية، فإن المرء إذا شبع من شيء سقط من عينه، وهان عليه، وإذا جاع قوي ذلك في قلبه فلا يحصل الطلاق عن روية، وربما يندم على ذلك، فيحتاج إلى نقض الطلاق، فكان الطلاق الحسن المسنون، أن يطلقها في طهر لم يجامعها فيه، فإن هذه الحال حالة كمال الرغبة، وتمام الميل، فالظاهر انه لا يقدم على الطلاق في هذه الحالة، إلا لحاجة داعية، فرخص له في الطلاق. ومن محاسنه أن جعل هزله جداً، قال صلى الله عليه وسلم: "ثلاث جدهن جد، وهزلهن جد، الطلاق والعتاق والنكاح" فإذا عرف الإنسان أنه بمجرد تلفظه به، ولو(/5)
مازحاً يقع، امتنع بإذن الله إذا كان عاقلاً. ومن محاسن القصاص، وفرض العقوبات، زجر النفوس الباغية، وردع القلوب القاسية، الخالية من الرحمة والشفقة، ومن محاسنه تأديب الجماعات الطاغية، فحكم بقتل القاتل، وأمر بقطع يد السارق، ليحقن الدماء، قال تعالى: (ولكم في القصاص حياة) الآية، والقطع لحفظ الأموال، فيعيش الناس آمنين مطمئنين، قال تعالى (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالاً من الله والله عزيز حكيم) وحرم الزنا ومقدماته كالنظر إلى الأجنبية، والخلوة بها، والقبلة واللمس، وأمر برجم الزاني، وقتل اللوطي على رؤوس الأشهاد، وحكم بجلد الزاني البكر، مائة جلدة والتغريب، كل ذلك محافظة على الأنساب والأعراض، وحماية للأخلاق، وصيانة للأمة من الفناء والفساد، وحرم الخمر، وعدها أم الخبائث، وحكم على متعاطيها بالجلد، لارتكابه النقائص والخسائس، كل ذلك ليبقى العقل سليماً، ويظل المال مصوناً، ويدوم الشرف والخلق طاهراً نقياً. شعراً: بصائر أقوام عن المجد نوم على وجه عصر بالجهالة مظلم وقوض أطناب الضلال المخيم لأهليه مجداً ليس بالمتهدم فطارت بأفكار على المجد حوم نهوضاً إلى العلياء من كل مجثم بأسرع من رفع اليدين إلى الفم لقد أيقظ الإسلام للمجد والعلى فأشرق نور العلم من حجراته ودك حصون الجاهلية بالهدى وأنشط بالعلم العزائم وابتنى وأطلق أذهان الورى من قيودها وفك أسار القوم حتى تحفزوا وعما قليل طبق الأرض حكمهم اللهم رب قلوبنا على محبتك وطاعتك، وثبتنا على قولك الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وألهمنا ذكرك وشكرك، وآتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار، واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. فصل ومن محاسن الإسلام الحث على المشورة والأخذ بها، متى كانت صائبة، متفقة مع العقل والمنطق والتجربة، قال تعالى: (وأمرهم شورى بينهم). ومن محاسنه أن أفضل الناس عند الله أكثرهم صلاحاً وتقوى، كما قال تعالى (إن أكرمكم عند الله أتقاكم). ومن محاسنه الحث على العتق، وتحرير الأرقاء، والإحسان إلى المملوك. ومن محاسنه الحث على الإحسان إلى الجار والضيف والمسكين واليتيم. ومن محاسن الإسلام أنه يدعو إلى تبادل الألفة والمحبة والتصافي والتعاون، قال صلى الله عليه وسلم: " المؤمن للمؤمن كالبنيان، يشد بعضه بعضاً ". ومن محاسنه أنه يذم النزاع والكراهية والتفرقة، قال تعالى: (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا) وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: " المؤمن للمؤمن كالبنيان، يشد بعضه بعضاً ". ومن محاسنه النهي عن النميمة والغيبة، والحسد والتجسس، والكذب والخيانة، والآيات والأحاديث الدالة على ذلك كثيرة جداً، فتذكر لها تجدها. ومن محاسنه النهي عن الظلم، والأمر بالعدل، مع القريب والبعيد، قال تعالى (يأيها الذين ءامنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى) وقال: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان). ومن محاسن الإسلام الحث على العفو عن المعتدي، قال تعالى: (وليعفوا وليصفحوا) وقال: (ادفع بالتي هي أحسن) وقال (وإن تعفوا أقرب للتقوى). ومن محاسنه الدعوة إلى الصلح بين الأخوين، والنهي عن الهجران، قال تعالى: ( إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم ) وقال: (والصلح خير). ومن محاسنه النهي عن التقاطع والتدابر، والتباغض والتحاسد، قال صلى الله عليه وسلم: " لا تقاطعوا ولا تدابروا ولا تباغضوا ولا تحاسدوا " الحديث. ومن محاسنه النهي عن الاستهزاء بالناس، وذكر عيوبهم، قال تعالى: ( يا أيها الذين ءامنوا لا يسخر قوم من قوم ) الآية. ومن محاسنه النهي عن بيع الإنسان على بيع أخيه، والخطبة على خطبته، إلا أن يأذن أو يُرد، لما ينشأ عن ذلك من العداوة والتقاطع. ومن محاسنه مشروعية السلام على المسلم، عرفه أو لم يعرفه، ومن محاسنه الأمر برد التحية بأحسن منها أو ردها قال تعالى: (وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها) الآية. ومن محاسنه الأمر بالتثبت فيما نسمعه، قال تعالى: (يا أيها الذين ءامنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم في أنفسكم نادمين) وقال: (ولا تقف ما ليس لك به علم) الآية. ومن محاسنه النهي عن البول في الماء الراكد، وفي ذلك العناية بالناحية الصحية، والوقاية من النجاسة والأمراض بإذن الله. ومن محاسنه النهي عن إيذاء المؤمنين والإضرار بهم، قال تعالى: (والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً) وقال صلى الله عليه وسلم: " من أكل الثوم والبصل والكراث، فلا يقربن مسجدنا، فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم ". ومن محاسنه النهي عن الأكل بالشمال، والشرب بها، لأنها لإزالة ما يستقذر، ولأن الشيطان يأكل بشماله، كما في الحديث. ومن محاسنه الأمر(/6)
باتباع جنازة المسلم، لما في ذلك من الدعاء والترحم عليه، والصلاة عليه، وجبر خواطر أهله المؤمنين. ومن محاسن الإسلام تشميت العاطس، وإبرار المقسم، لما في ذلك من التآلف والتآخي، والدعاء لأخيك بالرحمة، ولما في إبرار القسم من جبر خاطره، وإجابة طلبه، ما لم يكن فيه شيء من مخالفة الشرع. ومن محاسنه إجابة دعوة المسلم، ولاسيما إذا كان لعرس، ولم يكن فيها ما يخالف الشريعة، أو يخل بالمروءة والإنسانية. كما تراه اليوم عند بعض الناس من الملاهي والمنكرات، لأن في حضوره والحالة هذه تشجيع للفسقة وأهل المجون، وإعانة على نشر المعاصي، وعدم المبالاة فيها فإن كان يقدر على إنكار المنكر كإزالة التلفزيون ونحوه حضر وأزاله وإلا امتنع. ومن محاسن الدين الإسلامي أنه حرم على المسلم ترويع أخيه المسلم، إما بإخباره بخبر يفزعه، أو يشير إليه بسلاح، أو نحو ذلك. ومن محاسن الدين الإسلامي انه نهى عن تشبه الرجال بالنساء، وبالعكس، بأن تتشبه النساء بالرجال، لما في ذلك من المفاسد، التي منها التخنث فيمن يتشبه بهن، في ملابسهن وحركاتهن وكلامهن، كما هو موجود عند بعض المنحلين، والمغرورين أصحاب الخنافس والتواليتات محلوقي اللحى. ومن محاسن الإسلام إتقاء مواضع التهم والريب، كي يصون ألسنة الناس وقلوبهم عن سوء الظن به، وورد أن صفية زوج النبي صلى الله عليه وسلم جاءت تزوره وهو معتكف، فقام معها مودعاً حتى بلغت باب المسجد، فرآه رجلان من الأنصار، فسلما عليه، فقال: " على رسلكما، إنما هي صفية بنت حيي " فقالا: سبحان الله يا رسول الله! وكبر عليهما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الشيطان يبلغ من الإنسان مبلغ الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئاً " فهذا أشرف الخلق وأزكاهم، أبعد التهمة والشك عن نفسه، وقال عمر رضي الله عنه: " من أقام نفسه مقام التهم، فلا يلومن من أساء به الظن " ومر عمر رضي الله عنه برجل يكلم امرأته على ظهر الطريق، فعلاه وضربه بالدرة، فقال الرجل: يا أمير المؤمنين إنها امرأتي. فقال عمر: هلا كلمتها حيث لا يراك أحد من الناس. فالإسلام من محاسنه الابتعاد عن مواضع التهم والشبهات، فكيف لو رأى من تدخل على الخياط، يفصل على بدنها وحده، خالياً بها، أو رأى من تدخل على المصور وحدها، أو رأى من تركب مع من ليس محرماً لها، أو سافرت مسلمة إلى بلاد الكفر بدون محرم، أو دخلت على الدكتور وحدها باسم الكشف الطبي، أو نحو ذلك، مما حدث في زمننا الذي كثرت فيه الفتن، وقل فيه الأمر والنهي، وردع أهل الشر والفساد الذين قويت شوكتهم، وساند بعضهم بعضاً، عكس ما عليه أهل الخير والصلاح، من التفكك والتخاذل والمصانعات، فالله المستعان. تغاضيتم عن منكرات الأوامر فأعرضتم عن ذاك إعراض هاجر بأن تنصحوا بالحق أهل المناكر تنالوا بنصر الدين أجر المهاجر وحال وزير أو أمير مظاهر صواعق قهار وسطوة قاهر ولكنه يملي لطاغ وفاجر ولكن غفلتم عن سماع الزواجر دعاكم بصوت ماله من مناصر إذا رمتم في الحشر غفران غافر على المصطفى والآل أهل الفاخر أيا علماء الدين مالي أراكم أما الأمر بالمعروف والنهي فرضكم أما أخذ الميثاق ربي عليكم فإن هم عصوكم فاهجروهم وهاجروا إذا كان هذا حال قاض وعالم ولم تنتهوا عن غيكم فترقبوا فما الله عما تعملون بغافل وقد أرسل الآيات منه مخوفاً أجيبوا عباد الله صوت مناصح وقوموا سراعاً نحو نصرة دينكم وحسن ختام النظم أزكى صلاتنا اللهم بارك في أسماعنا وأبصارنا ونور قلوبنا، وأصلح ذات بيننا، وألف بين قلوبنا، واهدنا سبل السلام، ونجنا من الظلمات إلى النور، وجنبنا الفواحش، ما ظهر منها وما بطن، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. فصل ومن محاسن الإسلام أن الإنسان إذا ابتلي بشرير من الأشرار، أو فاجر من الفجار، أو محب للإجرام، ينبغي أن يحذره ويبتعد عن شره، ويداريه ويتجنبه ما أمكن، قال أبو الدرداء: إنا لنبش في وجوه قوم، وإن قلوبنا لتلعنهم، ومعنى هذا مداراة الأشرار الذين لا تقدر على ردعهم، والإنكار عليهم، لخوفك من شرهم وأذيتهم ن وإجرامهم، وتنكر بقلبك. ومن محاسن الإسلام الأمر بإصلاح ذات البين، والأدلة على ذلك من الكتاب والسنة كثيرة متظاهرة. ومن محاسنه الأمر بستر عورات المسلمين، وعيوبهم ونقائصهم، قال صلى الله عليه وسلم: " ومن ستر مسلماً ستره الله " وقال صلى الله عليه وسلم: " يا معشر من آمن بلسانه، ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم " الحديث وتقدم. ومن محاسن الإسلام إدخال السرور على قلب المسلم، ومساعدة المحتاج، قال صلى الله عليه وسلم: " لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه " وقال: " ومن كان في حاجة أخيه، كان الله في حاجته ". ومن محاسن الإسلام توقير المسلم، ولاسيما ذي الشيبة، ورحمة الصبيان، قال صلى الله عليه وسلم: "ليس منا من لم يوقر كبيرنا،(/7)
ويرحم صغيرنا " وقال صلى الله عليه وسلم: " إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم" الحديث. ومن محاسن الإسلام النهي عن الفُحش، وبذاءة اللسان، قال صلى الله عليه وسلم " ليس المؤمن بالطعان، ولا اللعان، ولا الفاحش، ولا البذيء". ومن محاسن الإسلام النهي عن التكلم سراً بين اثنين مع وجود ثالث، من أجل أن ذلك يحزن الثالث، فيظن أنهم يتناجون به، فهذا ينافي الأدب، وكذلك ليس من الأدب أن تتحدث بلغة أجنبية، إذا كان هناك من لا يعرفها، قال صلى الله عليه وسلم: "إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الآخر، حتى تختلطوا بالناس، من أجل أن ذلك يحزنه". ومن محاسن الدين الإسلامي أن لا يتدخل الإنسان فيما لا يعنيه، وهذه من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم، كما في الحديث: " من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه " أخذه بعضهم وصاغه بعبارة: (ابحث عن عملك الخاص). ولو تتبع المسلمون إرشادات نبيهم، ونصائحه صلى الله عليه وسلم، لاستراحوا وأراحوا غيرهم، ولو تتبعت أكثر المشاكل، والمنازعات والمخاصمات والمجادلات، لوجدت سببها الوحيد التدخل فيما لا يعني. ومن محاسن الدين الإسلامي النهي والتحذير عن الجلوس في الطرقات، لما في ذلك من التعرض لما لا ينبغي، ولما يلزم الإنسان القيام به وربما لم يقم به من الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ونصر الظلوم، وردع الظالم، وذلك نصره، وإعانة المسلم، وغض البصر، ورد السلام، وكف الأذى ز ومن محاسن الدين الإسلامي أن من استعاذنا بالله علينا أن نعيذه، وان من سألنا بالله نعطيه، ونكافئ من صنع إلينا معروفاً إن استطعنا، فإن لم نستطع ندعو له أن يجزيه الله جزاءً حسناً، على ما أسداه إلينا من المعروف عملاً بالحديث: " من استعاذكم بالله فأعيذوه " الحديث. والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وسلم. فصل ومن محاسن الدين الإسلامي أن تنصف من نفسك، وأن تحب للناس ما تحب لنفسك، وتضع نفسك موضع إخوانك المسلمين، وتعاملهم المعاملة التي تحب أن يعاملوك بها، وتؤدي حقوقهم، قال صلى الله عليه وسلم: " لا يستكمل العبد الإيمان حتى يكون فيه ثلاث خصال، الإنفاق من الإقتار، والإنصاف من نفسه، وبذل السلام " وقال تعالى: (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة). وقال صلى الله عليه وسلم: " طعام الاثنين يكفي الثلاثة " إلى أخر الحديث، وفي الحديث الآخر: " من كان معه فضل ظهر، فَلْيَعُدْ به على من لا ظهر له، ومن كان معه فضل من زاد، فليعد به على من لا زاد له " فذكر من أصناف المال ما ذكر، قال أبو سعيد: حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل. رواه مسلم. ومن محاسن الإسلام وأخلاقه السامية، أن يصون الإنسان عرض أخيه المسلم ونفسه وماله من ظلم أصابه بقدر استطاعته، ويرد عنه الظلم والعدوان، ويدافع ويناضل عنه حسب قدرته، فروى أبو الدرداء رضي الله عنه أن رجلاً نال من رجل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرد عنه رجل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من رد عن عرض أخيه، كان له حجاباً من النار" وورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من رد عن عرض أخيه، رد الله عن وجهه النار يوم القيامة" رواه الترمذي. ومن محاسن الإسلام الأمر بالتوسط بين البخل والإسراف، قال تعالى: (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوماً محسوراً) وقال: (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً). ومن محاسن الإسلام الحث على الصبر بأنواعه الثلاثة، الصبر على طاعة الله حتى يؤديها، والصبر عن معصية الله حتى يتركها، والصبر على أقدار الله المؤلمة. ومن محاسن الإسلام العطف على الضعفاء، والشفقة على الفقراء، والرأفة باليتامى، والخدم والعبيد والإماء، والإحسان إليهم، ودفع الأذى عنهم، وحسن معاملتهم، والتواضع معهم، وملاطفتهم وخفض الجناح لهم، ولين الجانب معهم، قال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: (واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين) وقال: (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه) وقال: ( فأما اليتيم فلا تقهر وأما السائل فلا تنهر ) وقال: ( أرأيت الذي يكذب بالدين. فذلك الذي يدع اليتيم. ولا يحض على طعام المسكين) وقال: (وما أدراك ما العقبة. فك رقبة. أو إطعام في يوم ذي مسغبة. يتيماً ذا مقربة. أو مسكيناً ذا متربة) وقال: (عبس وتولى. أن جاءه الأعمى. وما يدريك لعله يزكى) الآية. فصل ومن محاسن الدين الإسلامي الرأفة والرحمة والشفقة، لا القسوة والغلظة والتعذيب، حتى في حق الحيوانات البهيمية، عن ابن عمر رصي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "عذبت امرأة في هرة سجنتها حتى ماتت، فدخلت فيها النار لا هي أطعمتها وسقتها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض" متفق عليه. وروى الشيخان وغيرهما مرفوعاً: " أن رجلاً دنا من بئر فنزل وشرب منها، وعلى البئر كلب يلهث من العطش، فرحمه فنزع أحد خفيه فسقاه، فشكر الله له ذلك فأدخله الجنة ". وروى مسلم(/8)
وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على حمار قد وسم في وجهه فقال: " لعن الله الذي وسمه ". شعراً وصدته الأماني أن يتوبا على زلاته قلقاً كئيبا صحائف لم يخف فيها الرقيبا فما لي الآن لا أبدي النحيبا فلم أرع الشبيبة والمشيبا أصيح لربما ألقى مجيبا وقد أقبلت ألتمس الطبيبا حووا من كل معروف نصيبا وقد وافيت بابكم منيبا إليكم فادفعوا عني الخطوبا وكنت على الوفاء به كذوبا ويسر منك لي فرجاً قريبا ومن يرجو رضاك فلن يخيبا ولم أكسب به إلا الذنوبا يحير هول مصرعه اللبيبا بيوم يجعل الولدان شيبا وأصبحت الجبال به كثيبا حسير الطرف عرياناً سليبا إذا ما أبدت الصحف العيوبا أكون به على نفسي حسيبا إذا زفرت وأقلقت القلوبا على من كان ظلاماً مريبا خطاه أما يأني لك أن تتوبا رأينا كل مجتهد مصيبا جناباً للمنيب له رحيبا وكن في هذه الدنيا غريبا وكن في الخير مقداماً نجيبا تكن عبداً إلى المولى حبيبا مخالبة لطالبها خلوبا طموحاً يفتن الرجل الأريبا إذا ما أهملت وثبت وثوبا يجد في قلبه روحاً وطيبا يجر عليك أحقاداً وحوبا بذكر الله رياناً رطيبا ولا تضجر به وتكن هيوبا وفارقت المعاشر والنسيبا إذا ما قمت ظمآناً سغيبا ولا تبخل وكن سمحاً وهوبا إذا ما اشتد بالناس الكروبا طليق الوجه لا شكساً غضوبا أنا العبد الذي كسب الذنوبا أنا العبد الذي أضحى حزيناً أنا العبد الذي سطرت عليه أنا العبد المسيء عصيت سراً أنا العبد المفرط ضاع عمري أنا العبد الغريق بلج بحر أنا العبد السقيم من الخطايا أنا العبد المخلف عن أناس أنا العبد الشريد ظلمت نفسي أنا العبد الفقير مددت كفي أنا الغدار كم عاهدت عهداً أنا المقطوع فارحمني وصلني أنا المضطر أرجو منك عفواً فيا أسفى على عمر تقضى وأحذر أن يعاجلني ممات ويا حزناه من حشري ونشري تفطرت السماء به ومارت إذا ما قمت حيراناً ظميئاً ويا خجلاه من قبح اكتسابي وذلة موقف وحساب عدل ويا حذراه من نار تلظى تكاد إذا بدت تنشق غيظاً فيا من مد في كسب الخطايا ألا فاقلع وتب واجهد فإنا وأقبل صادقاً في العزم واقصد وكن من الصالحين أخاً وخلا وكن عن فاحشة جباناً ولاحظ زينة الدنيا ببغض فمن يخبر زخارفها يجدها وغض عن المحارم منك طرفاً فخائنة العيون كأسد غاب ومن يغضض فضول الطرف عنها ولا تطلق لسانك في كلام ولا يبرح لسانك كل وقت وَصَلِّ إذا الدجى أرخى سدولاً تجد أنساً إذا أودعت قبراً وصم ما تستطيع تجده رياً وكن متصدقاً سراً وجهراً تجد ما قدمته يداك ظلاً وكن حسن السجايا وذا حياء اللهم وفقنا توفيقاً يقينا عن معاصيك، وأرشدنا برشدك إلى السعي فيما يرضيك، وأجرنا يا مولانا من خزيك وعذابك، وهب لنا ما وهبته لأوليائك وأحبابك، وآتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. فصل ومن محاسن الإسلام مراعاة الحكمة، وذلك أن نضع كل إنسان من المؤمنين في منزلته، ونراعي كرامته وشعوره، ونجعله في المكان الذي يليق به. عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أنزلوا الناس منازلهم" رواه أبو داود، وروي أن عائشة رضي الله عنها كانت مسافرة، فنزلت منزلاً تستريح فيه، وتتناول طعامها، فجاء سائل فقير، فقالت: ناولوا هذا المسكين قرصاً، ثم مر رجل يركب فرساً، فقالت: أدعوه إلى الطعام. فقيل لها: لماذا تعطين المسكين قرصاً، وتدعين هذا الغني إلى الطعام، فأجابت: إن الله تعالى أنزل الناس منازل، لابد لنا أن ننزلهم تلك المنازل، هذا المسكين يرضى بقرص، وقبيح بنا أن نعطي هذا الغني - وهو على هذه الهيئة - قرصاً، فرحمها الله، ما أحسن هذا من جواب رد، دل على الحكمة وحسن الذوق، ونبل الخلق، وكرم المعاملة، والاقتداء التام بإرشادات الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل بيتاً من بيوته، فدخل عليه أصحابه، حتى امتلأ المجلس، فجاء جرير بن عبد الله البجلي، فلم يجد مكاناً، فقعد على الباب، فلف رسول الله صلى الله عليه وسلم رداءه، وقدمه له ليجلس عليه، وقال له: " اجلس على هذا " فأخذ جرير الرداء، ووضعه على وجهه، وجعل يقبله ويبكي، متأثراً من إكرام النبي صلى الله عليه وسلم له، ثم لفه ورده إلى النبي صلى الله عليه وسلم شاكراً مقدراً، وقال: ما كنت لأجلس على ثوبك يا رسول الله، أكرمك الله يا رسول الله كما أكرمتني، فنظر المصطفى صلى الله عليه وسلم يميناً وشمالاً، ثم قال: " إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه ". فانظر إلى هذه المعاملة الجميلة، تجد المثل الكامل في معاملة الرسول له، حيث راعى شعور جرير وأكرمه، وكيف تأثر جرير بهذه المعاملة الكريمة النبيلة اللطيفة. ومن محاسن الإسلام أنه أثبت للزوجات على الأزواج حقوقاً، مثل الحقوق التي للرجال بالمعروف، وحسن العشرة، وترك الإضرار، وجعل (للرجال عليهن درجة) أي في الفضيلة،(/9)
في الخلق والمنزلة، وطاعة الأمر، والإنفاق، وأداء المهر، والقيام بالمصالح، والفضل في الدنيا والآخرة. ومن محاسن الإسلام أن المرأة عند بعض العرب في الجاهلية تعد جزءاً من ثروة أبيها أو زوجها، وكان ابن الرجل يرث أرملة أبيه بعد وفاتها، وكان العرب قبل الإسلام يرثون النساء كرهاً، بأن يأتي الوارث ويلقي ثوبه على زوجة أبيه، ثم يقول ورثتها كما ورثت مال أبي، فإذا أراد أن يتزوجها تزوجها بدون مهر، أو زوجها لأحد عنده وتسلم مهرها ممن يتزوجها، أو حرم عليها أن تتزوج كي يرثها، فمنعت الشريعة الإسلامية هذا الظلم وهذا الإرث، قال تعالى: (يا أيها الذين ءامنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً) وكان العرب في الجاهلية يمنعون النساء من الزواج، فالابن الوارث كان يمنع زوجة أبيه من التزوج، كي تعطيه ما أخذته من ميراث أبيه، والأب يمنع ابنته من التزوج حتى تترك له ما تملكه، والرجل يطلق زوجته ويمنعها من الزواج، حتى يأخذ منها ما يشاء، والزوج المبغض لزوجته يسيء عشرتها، ويمللها، ولا يطلقها حتى ترد إليه مهرها، فالعرب قبل الإسلام كانوا يظلمون المرأة، ويتحكمون فيها، قال تعالى: (ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما ءاتيتموهن). وكانوا لا يعدلون بين النساء، في النفقة والكسوة والمعاشرة، فأمر الإسلام بالعدالة بينهن، قال تعالى: (وعاشروهن بالمعروف) الآية، وقال: (فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة) وقال: (وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وءاتيتم إحداهن قنطاراً فلا تأخذوا منه شيئاً أتأخذونه بهتاناً وإثماً مبيناً) وقال في ناحية الدين (من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون) وفي ناحية الأهلية والملك، قال تعالى: (للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون) وقال: (للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن). وحسب الإسلام ما كفل للمرأة من مساواة دينية، ومن مساواة في التملك والكسب، وما حقق لها من ضمانات في الزواج، بإذنها ورضاها دون إكراه ولا إهمال، قال صلى الله عليه وسلم: " لا تنكح الثيب حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن، وإذنها الصموت " وفي مهرها قال: (فآتوهن أجورهن فريضة). ومن محاسن الإسلام أن العرب قبل الإسلام كانوا يئدون البنات، ويدفنونهن وهن على قيد الحياة، خوفاً من العار، يهل الرجل على ابنته التراب حتى تموت، فجاء الإسلام وحرم وأْدَهُنَّ وقتلهن، تحريماً قاطعاً، ومنحهن الحق في الحياة، وبهذا أنصف الإسلام المرأة كل الإنصاف، وحافظ على حياتها وحقوقها الإنسانية. اللهم أعذنا من الهم والحزن، والعجز والكسل، والجبن والبخل، وغلبة الدين وقهر الرجال، وشماتة الأعداء، واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين. فصل ومن محاسن الإسلام إبطال الكهانة وتحريمها، وتحريم زجر الطير، وتحريم الميسر، وهو نوع من القمار، ومنها الأزلام والبحيرة والسائبة والوصيلة والحامي. ومنها رمي البعرة، كانت المرأة في الجاهلية إذا مات زوجها دخلت حشفاً، ولبست شر ثيابها، ولم تمس طيباً، حتى تمضي عليها سنة، ثم تؤتى بدابة، حمار أو طير أو شاة فتفتض به، فقلما تفتض بشيء إلا مات، ثم تخرج بعد ذلك، فتعطى بعرة فترمي بها، ثم تراجع ما شاءت. ومنها قتل الأولاد خشية الفقر، فكان الرجل يقتل ولده خشية أن يطعم معه إلى أن نهى الله عن ذلك بقوله: (ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم إن قتلهم كان خطئاً كبيراً). ومن محاسن الدين الإسلامي أنه حول الوثنيين والمشركين والكفار إلى مؤمنين صالحين، أتقياء ورعين، يخافون الله، ويعبدونه وحده لا شريك له، ويقفون بجانب الحق، لا تأخذهم في الله لومة لائم، (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة). ومن محاسن الإسلام تحريم الغدر، قال تعالى: (يا أيها الذين ءامنوا أوفوا بالعقود) ويقول تعالى: (وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولاً) وورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لكل غادر لواء يوم القيامة، يقال: هذه غدرة فلان " وقال صلى الله عليه وسلم: " أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً " وعد منها " وإذا عاهد غدر " وقال صلى الله عليه وسلم: " يقول الله ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة، رجل أعطى بي ثم غدر " الحديث رواه البخاري. ومن محاسن الدين الإسلامي الحث على العمل، وكسب الرزق، وترك الكسل، وسؤال الناس إلا عند الضرورة، فالإسلام دين سعي وعمل واجتهاد، لا دين كسل وعجز وتوان، دين يحافظ على العزة الإنسانية، والكرامة الشخصية، قال تعالى: (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله) وقال: (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى. وأن سعيه سوف يرى) ويحث على الجمع بين العمل للدين والدنيا، فيقول جل وعلا: (وابتغ فيما ءاتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا) ويقول: (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل(/10)
الله). ومن محاسن الإسلام القصد في الطعام والشراب، قال الله جل وعلا: (وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفي ) وعن المقداد بن معدي كرب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما ملأ ابن آدم وعاء شراً من بطنه، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة فاعلاً فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه " أخرجه الترمذي وابن ماجة. ومن محاسن الإسلام النهي عن المماطلة في الحقوق، قال صلى الله عليه وسلم: "مطل الغني ظلم، وإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع" رواه البخاري ومسلم. ومن محاسن الدين الإسلامي الأمر بإنظار المعسر، قال تعالى: (وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة) وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " كان تاجراً يداين الناس، فإذا رأى معسراً قال لفتيانه: تجاوزوا عنه، لعل الله يتجاوز عنا، فتجاوز الله عنه" رواه البخاري، وقال صلى الله عليه وسلم: "من أنظر معسراً فله بكل يوم مثله صدقة ". ومن محاسن الإسلام النهي عن الرشوة، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لعن الله الراشي والمرتشي في الحكم" رواه الترمذي، وورد: " لعن الله الراشي والمرتشي، والرائش الذي يمشي بينهما ". ومن محاسن الدين الإسلامي الحث على إقالة النادم، لما في ذلك من الإحسان، والمعروف وجبر خاطره، ففي الحديث: "من أقال مسلماً أقال الله عثرته" وفي رواية: "من أقال نادماً، أقاله الله يوم القيامة" وصلى الله على محمد وآله وسلم. فصل ومن محاسن الدين الإسلامي بذل النصيحة لله، ولكتابه ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم، فالنصيحة لله الإيمان به، ونفي الشرك عنه، وترك الإلحاد في أسمائه، وصفاته، ووصفه بأوصاف الكمال، وتنزيهه عن النقائص والعيوب، وطاعة أمره، واجتناب نهيه، وموالاة من أطاعه، ومعاداة من عصاه، وغير ذلك مما يجب له، وأما النصيحة لكتاب الله، فالإيمان به بأنه كلام الله، منزل غير مخلوق، وتحليل ما حلله، وتحريم ما حرمه، والاهتداء بهديه والتدبر لمعانيه، والقيام بحقوقه، والاتعاظ بمواعظه، والاعتبار بزواجره، وأما النصيحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتصديقه فيما جاء به، ومحبته، وتقديمه فيها على النفس والمال والولد، وتوقيره حياً وميتاً، ومعرفة سنته، ونشرها، والعمل بها، وتقديم قوله على قول كل أحدٍ كائناً ما كان، وأما النصيحة لأئمة المسلمين، فهي إعانتهم على الحق وطاعتهم فيه، وأمرهم به، وتذكيرهم بحوائج العباد، ونصحهم برفق ولين وعدل، واعتقاد ولايتهم، والسمع والطاعة لهم في غير معصية الله، وحث الناس على ذلك، وبذل ما تستطيعه من إرشادهم، وتنبيههم إلى ما ينفعه وينفع الناس، والقيام بواجبهم، وأما النصيحة لعامة المسلمين، فهي إرشادهم إلى مصالحهم في دنياهم وأخراهم، وكف الأذى عنهم، وتعليمهم ما جهلوا من أمر دينهم، وأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، وأن يحب لهم ما يحب لنفسه، ويكره لهم ما يكره لنفسه، ويسعى في ذلك حسب الإمكان. ومن محاسن الدين الإسلامي النهي عن قطيعة الرحم، قال الله تعالى: (فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم) وقال صلى الله عليه وسلم: "الرحم متعلقة بالعرش، تقول: من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله" رواه البخاري، وروى الطبراني عن عبد الله ابن أبي أوفى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الملائكة لا تنزل على قوم فيهم قاطع رحم ". ومن محاسن الدين الإسلامي النهي عن التشدد في الدين، وعن الزهد في الطيبات، لأن الإسلام دين اليسرة، والسهولة، والاعتدال، فعن أنس رضي الله عنه، قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، يسألون عن عبادته، فلما أخبروا كأنهم تقالوها، فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم، وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فقال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبداً. وقال الآخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر. وقال الآخر: وأنا أعتزل النساء، فلا أتزوج أبداً. فجاء إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال " أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني " رواه الشيخان. قصيدة في غربة الإسلام وأحسن فيضاً من عيون المحابر تقدس عن قول الغواة الغوادر وعن شافع في الابتدا أو موازر وشيد أعلام الهدى والشعائر عليه السوافي في القرى والجزائر ولم يثنه عن ذاك صولة قاهر نِذَارَتُهُ مقرونة بالبشائر لفادحه أهل النهى والبصائر أناخ بنا من كل باد وحاضر مصيبة قوم من عظام الفواقر فما بين طعان عليهم ونافر ويرمونهم شزر العيون النواضر وكل خليل أو قريب مصاهر وتنقيصهم في كل ناد لفاجر موالاة أهل الشرك من كل كافر فمن صامت في فعله أو مجاهر يكادون أن يبدوه فوق المنابر رجوع وإلا بالضبا والخناجر على الجمر أو في الجنب صلي المجامر لدى أهلها في ذلهم(/11)
كالأصاغر بقلب سليم للمهيمن شاكر لحفظ نصوص الدين أهل تناصر تنادوا عباد الله هل من مثابر وما رغبوا عنها لخرص الخواطر فلله ما أسنا سناها لسائر ملامة لوام وخذلان ناصر إلى ربه أكرم به من مهاجر بقلب حزين عند تلك الزواجر يخبرني عما حوى في الضمائر لينصر دين المصطفى ذي المفاخر ويقمع أهل الزيغ من كل فاجر مضى عودة نحو السنين الغوابر تَقَرُّ بها مما ترى عين ناظر وأعداؤه تحت القنا والحوافر مدى الدهر ما ناضت بروق المواطر لهم تابع يسعى بفعل الأوامر أقول وأولى ما يرى في الدفاتر هو الحمد للمعبود والشكر والثناء وجل عن الأنداد لا رب غيره وصل على من قام لله داعياً وأوضح دين الله من بعد ما سفت وعادى ووالى في رضى الله قومه محمد المبعوث للناس رحمة وبعد فإن تعجب لخطب تبلبلت فلا عجباً يوم من الدهر مثل ما وما ذاك إلا غربة الدين يالها ترى أهله مستضعفين أذلة ومستهزأ منهم فينغض رأسه وعاداهم من يدعي العلم والحجى فما شئت من شتم وقذف وغيبة وأكبر من هذا وأعظم فرية وأعينهم في فعل ذاك قريرة ومن قام بالإنكار فهو مشدد فإن يحكموا بالسوط ضرباً فإن يكن وأصبح ذو الإيمان فيهم كقابض وإخوانه النزاع في كل قرية وما زادهم إلا ثباتاً مع الرضى فأكرم بهم من عصبة الحق إنهم إذا ما بدا نص الكتاب وسنة وعضوا عليها بالنواجذ فاهتدوا عليك بهاتيك الصفات منافساً هم القوم لا يثنيهم عن مرادهم بنفسي فتى ما زال يدأب دائماً مكباً على آي الكتاب ودريه فياليتني ألقاه يوماً لعله ونرفع أيدينا إلى الله بالدعا وينصر أحزاب الشريعة والهدى فآه على تفريق شمل فهل لما عسى نصرٌ للدين تجمع شملنا فيرتاح أهل الدين فيها أعزة وأختم نظمي بالصلاة مسلماً على أحمد والآل والصحب والذي اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا إلى النار مصيرنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك فينا، ولا يرحمنا، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. فصل ومن محاسن الدين الإسلامي الترغيب في الدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من دعا إلى هدى، كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من اتبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً " رواه مسلم وأبو داود والترمذي. ومن محاسن الدين الإسلامي حث المرء على انتهاز فرصة الحياة لعمل ما ينفعه في الآخرة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث، صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له " رواه مسلم. وقال الله تعالى: ( يا أيها الذين ءامنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد ). ومن محاسن الدين الإسلامي الحث على وجوب الاعتماد على الله، ثم على إيمانه وعمله الصالح، لا على ما له من صلة بالمقربين إلى الله، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل الله: (وأنذر عشيرتك الأقربين) فقال: " يا معشر قريش، اشتروا أنفسكم، لا أغني عنكم من الله شيئاً، يا عباس بن عبد المطلب، لا أغني عنك من الله شيئاً، ويا صفية عمة رسول الله، لا أغني عنك من الله شيئاً، ويا فاطمة بنت محمد، سليني من مالي، لا أغني عنك من الله شيئاً " رواه الشيخان والترمذي. ومن محاسن الإسلام الأمر بتعهد النفس بالإصلاح، فيلزمها بأداء ما أمر الله به، واجتناب ما نهى عنه، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر. والآيات في الحث على التقوى كثيرة. ومن محاسن الإسلام أنه يجعل الإنسان على صلة دائمة بربه، حين تفد عليه النعمة، وحين تنزل به الشدة، قال صلى الله عليه وسلم "عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، إن أصابته سراء شكر، فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيراً له " رواه مسلم. ومن محاسن الإسلام أنه يحث الخلق ويوجههم إلى إصلاح أنفسهم ومجتمعهم، ويرشدهم، ويبين لهم كيف يحررون عقولهم، ويسمون بها عن مهاوي الضلال، إلى أن يخصوا الله جل وعلا بالعبادة، ويوضح لهم كيف يصقلون نفوسهم، ويغذون أرواحهم بالصلاة خمس مرات، ويوضح لهم كيف يطهرون أموالهم، بأداء حق الله، وكيف يبنون الأسرة المسلمة، التي هي نواة المجتمع، على أسس سليمة قوية، وذلك بتواصلهم، ومعرفتهم لحق قرابتهم، والآيات والأحاديث تدل على ذلك، فعن أبي أيوب الأنصاري، أن رجلاً قال: يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة، فقال القوم: ماله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أرب ماله؟ تعبد الله، لا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصل الرحم " الحديث رواه الشيخان. ومن محاسن الدين الإسلامي تحريم الخصومة بالباطل لمن يعلم، وتحريم الشفاعة التي تعطل إقامة لحدود التي شرعها الله، وتحريم القول على المؤمن بما ليس فيه،(/12)
فمن الغايات التي حرص الإسلام على تحقيقها أن يقيم المجتمع الإنساني على أسس قوية من العدالة والتراحم، وأن تسود أعضاءه روح المودة، والتعاون المثمر، ويسلم من عوامل الضعف، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من حالت شفاعته دون حد من حدود الله، فقد ضاد الله عز وجل، ومن خاصم في الباطل وهو يعلم، لم يزل في سخط الله حتى ينزع، ومن قال في مؤمن ما ليس فيه، أسكنه الله ردغة الخبال، حتى يخرج مما قال " أخرجه أحمد وأبو داود. ومن محاسن الدين الإسلامي تحريم شهادة الزور، وقول الزور، لما في ذلك من الأضرار والمفاسد، التي منها بيع آخرته بدنيا غيره، ومنها إساءته إلى من شهد له، بإعانته على ظلمه، ومنها إساءته إلى من شهد عليه، بإضاعة حقه، ومنها إساءته إلى القاضي، بإضلاله عن المحجة، ومنه إساءته إلى الأمة، بزلزلة الحقوق فيها، وعدم الاطمئنان عليها. ومن محاسن الدين الإسلامي إبطال ما عليه أهل لجاهلية وتحريمه، وهما الطعن في الأنساب، والنياحة على الميت، لما في صحيح مسلم، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " اثنتان في الناس هما بهم كفر، الطعن في النسب، والنياحة على الميت ". ومن محاسن الدين الإسلامي النهي عن لطم لخدود، وشق الجيوب في المصيبات، وفي الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ليس منا من ضرب الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية ". ومن محاسن الدين الإسلامي النهي عن الاستيلاء على الماء الذي لا يختص بأحد، ومنعه ابن السبيل، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم، رجل على فضل ماء بفلاة، يمنعه ابن السبيل " متفق عليه، وفي رواية وقال فيه " ورجل منع فضل ماء، فيقول الله له: اليوم أمنعك فضلي، كما منعت فضل ما لم تعمل يداك ". اللهم نور قلوبنا بنور الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين ن وألحقنا بعبادك الصالحين، الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. فصل ومن محاسن الدين الإسلامي انه يحرم الاعتداء، أو النيل من النفس أو المال أو العرض أو العقل، وكل جريمة من جرائم الاعتداء عليها عقوبة، من قصاص أو حد، والأخلاق الإسلامية - من الصدق والأمانة والوفاء والعفة وغيرها - ليست أموراً كمالية في نظر الإسلام، كما يتوهمه بعض الناس، بل هي واجبات، يحرص عليها، ومُعرض كل من يخرج عن دائرتها، بأنه سيقتص منه في الآخرة إن لم يتب ويتدارك، وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " أتدرون من المفلس؟ ! قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. فقال: إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه، أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار " رواه مسلم. ومن محاسن الدين الإسلامي انه يرشد معتنقه إلى أن صلاح حياته يتطلب منه أن يكون عفاً في كلامه، فلا يغتاب، ولا يفتري، ولا يكذب، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت " وقال: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام". ومن محاسن الدين الإسلامي أنه يحث المؤمن على أداء واجبه، وأن لا يدخر جهداً في توجيه أهله وإخوانه، وأقربائه وجيرانه، وكل من تربطهم به صلة وثيقة إلى الخير، ووسيلته إلى هذا التوجيه هي التواصي بالحق، والتواصي بالصبر، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ومن محاسن الدين الإسلامي الأمر بالحياء الذي هو أصل كل فضيلة، وعصمة من كل شر، لمن وفقه الله، وفي حديث عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "استحيوا من الله حق الحياء قلنا: يا رسول الله إنا نستحي والحمد لله. قال ليس ذاك، ولكن الاستحياء من الله حق الحياء أن تحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، ولتذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا" رواه الترمذي وأحمد والحاكم بسند صحيح. ومن محاسن الدين الإسلامي النهي عن اتخاذ شيء فيه روح غرضاً يرمي إليه، لما في الصحيحين أن ابن عمر رضي الله عنهما مر بفتيان من قريش، قد نصبوا طيراً وهم يرمونه، فلما رأوا ابن عمر تفرقوا، فقال ابن عمر: من فعل هذا؟ لعن الله من فعل هذا، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن من اتخذ شيئاً فيه الروح غرضاً. ومن محاسن الدين الإسلامي النهي عن بيع الحر، قال صلى الله عليه وسلم: " قال الله تعالى: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حراً أكل ثمنه، ورجل استأجر(/13)
أجيراً فاستوفى منه العمل، ولم يوفه أجره ". ومن محاسن الدين الإسلامي الوعيد الشديد على من استأجر أجيراً، واستوفى منه العمل، ولم يوفه أجره، للحديث المتقدم. ومن محاسن الدين الإسلامي تحريم السحر، وتصديق الكاهن، قال صلى الله عليه وسلم: " ليس منا تَطَيَّر أو تُطِيِّرَ له، أو تَكهن أو تُكهن له، أو سَحر أو سُحر له، ومن أتى كاهناً فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ". ومن محاسن الدين الإسلامي تحريم ( القِدَادَة ) والعياذ بالله، وهي الجمع بين رجل وامرأة أجنبية، سواء كان الجامع رجلاً أو امرأة. ومن محاسن الإسلام تحريم السعاية عند السلطان بمضرة مسلم. ومن محاسن الإسلام تحريم غصب المال، لأنه نوع من الظلم والفساد، والله لا يحب الظالمين. ومن محاسن الدين الإسلامي الحث على الاستقامة، التي هي الاعتدال في جميع الأمور، من الأقوال والأفعال، والمحافظة على جميع الأحوال، التي تكون بها النفس على أفضل حالة وأكملها، فلا يظهر منها قبيح، ولا يتوجه إليها ذم ولا لوم، وذلك إنما يكون بالمحافظة على الشرع الشريف، والتمسك بالدين القويم، والوقوف عند حدوده، مع التخلق بالأخلاق الفاضلة، والصفات الكاملة، قال الله تعالى: (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون) وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: (فاستقم كما أمرت) وقال النبي صلى الله عليه وسلم لسفيان بن عبد الله: "قل آمنت بالله ثم استقم". ومن محاسن الدين الإسلامي انه ما حرم شيئاً، عليهم إلا عوضهم خيراً منه، مما يسد مسده ويغني عنه، كما بين ذلك ابن القيم رحمه الله تعالى حرم عليهم الاستقسام بالأزلام، وعوضهم منه دعاء الاستخارة، وحرم عليهم الربا، وعوضهم التجارة الرابحة. وحرم عليهم القمار، وأعاضهم منه أكل المال بالمسابقة بالخيل والإبل والسهام. وحرم عليهم الحرير، وأعاضهم منه أنواع الملابس الفاخرة من الصوف، والكتان، والقطن. وحرم عليهم شرب المسكرات، وأعاضهم عنه بالأشربة اللذيذة، النافعة للروح والبدن. وحرم عليهم الخبائث من المطعومات، وأعاضهم عنها بالمطاعم الطيبات، وهكذا إذا تتبعنا تعاليم الإسلام كلها، وجدنا أنه جل وعلا لم يضيق على عباده في جانب، إلا وسع عليهم في جانب آخر من جنسه والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. فصل ومن محاسن الدين الإسلامي انه يقدر البواعث الكريمة، والقصد الشريف، والنية الطيبة، في تشريعاته وتوجيهاته كلها ن قال صلى الله عليه وسلم "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى"وبالنية الطيبة تنقلب المباحات والعادات إلى طاعات وقربات إلى الله، فمن تناول غذاءه بنية حفظ حياته وتقوية جسده، ليستطيع القيام بما أوجبه عليه ربه، من حقوق وتكاليف لأهله وأولاده، كان طعامه وشرابه مع النية الصالحة عبادة، ومن أتى شهوته مع ما أحله الله له من زوجة أو مملوكة له، يقصد إعفاف نفسه وأهله، وابتغاء ذرية صالحة، كان ذلك عبادة، تستحق المثوبة والأجر من الله، وفي ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم" وفي بضع أحدكم صدقة قالوا: يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته، ويكون له فيها أجر؟ قال: أليس إن وضعها في حرام كان عليه وزر، فكذلك إذا وضعها في حلال كان له أجر". ومن محاسن الدين الإسلامي أنه حرم على المسلم شراء ما غُصب أو سُرق، أو أُخذ من صاحبه بغير حق، لأنه إذا فعل ذلك يكون معيناً للغاصب والسارق والآخذ، وهذا إذا علم أنها سرقة ن ولو طال زمن غصبه أو سرقته في يد الغاصب أو السارق أو الناهب، فإن طول الزمن في الشريعة الإسلامية، لا يجعل الحرام حلالاً، ولا يسقط حق المالك الأصلي بالتقدم، وهذا أيضاً من محاسنه. ومن محاسن الدين الإسلامي تحريم الربا، لأن الربا يقتضي أخذ مال الإنسان من غير عوض، لأن من يبيع درهماً بدرهمين يحصل له زيادة درهم من غير عوض، ومال الإنسان مُتَعَلَّقُ بحاجته، وله حرمة عظيمة، كما هو معروف. ثانياً: استعمال الربا يفضي إلى انقطاع المعروف بين الناس من القرض. ثالثاً: يمنع من تحمل المشاق تجاه الاكتساب، فلا يكاد يتحمل مشقة الكسب ن وذلك يفضي إلى انقطاع منافع الخلق، وتكسيلهم عن الجد والاجتهاد في الطلب، وقد لعن الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه. عباد الله: إن ما سمعتم من المحاسن نقطة من بحر محاسن الدين الإسلامي، الذي جمع الله به فرقة العرب وشتاتهم، ووحد به قلوبهم وصفوفهم، وهذب طباعهم وأخلاقهم، حتى أوجد منهم أمة شديدة البأس، واسعة السلطان، ملكت ناصية الأرض، ونشرت عَلَم الإسلام في نواحيها، قال الله تعالى: (واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً) وقال: (واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره). دين نشره الله في أرجاء المعمورة كالشمس الضاحية، لا يحجب شعاعها، وكالقمر(/14)
الزاهر، لا يخفى ضوءه، ولا يخسف نوره. دين ترى أعداءه ومبغضيه يقتربون منه كل يوم، من حيث يشعرون، ومن حيث لا يشعرون، لأنهم بمخترعاتهم وعلومهم لم يزيدوا على أنهم به يشهدون، قال تعالى: (سنريهم آياتنا في الأفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق). دين يكيد له أعداؤه وحساده، من يوم أنزل، وهو كما ترى، لم يطفأ له نور، ولم يضعف له برهان، قال تعالى: (يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون) 9. أيها المسلم، حسبك أن تعلم أن الدين الإسلامي يحتوي على خيري الدنيا والآخرة، ونعيم العاجلة والآجلة، فما من فضيلة إلا حث عليها، وما من رذيلة غلا نفر منها، فإذا اعتصمت بحبله المتين، وحرصت على العمل بأحكامه، والتحلي بآدابه، عشت سعيداً حميداً. وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: لا للكفاية بل على الأعيان ت فبالتوجه والدعا بجنان خردل يا ناصر الإيمان وبنور وجهك يا عظيم الشان من غير ما عوض ولا أثمان الخلق محسنهم كذاك الجاني فيها نعوت المدح للرحمن أكوان بل أضعاف ذي الأكوان معبود الورى متقدس عن ثان من دون عرشك للثرى التحتاني أنت غياث كل ملدد لهفان ك يجيب دعوته مع العصيان ترضيك طالبها أحق معان سبغت علينا منك كل زمان العالي الذي أنزلت بالبرهان مقيمة من أمة الإنسان هذا الورى هو قيم الأديان دين الحنيف بنصره المتدان قد كنت تنصره بكل زمان حزب الضلال وعسكر الشيطان لخيارهم ولعسكر القرآن أهل تراحم وتواصل وتدان قد أحدثت في الدين كل زمان تفضي بسالكها إلى النيران يصلوا إليك فيظفروا بجنان واحفظهم من فتنة الفتان أنزلته يا منزل القرآن لجأوا إليك وأنت ذو الإحسان هذا الخلق إلا صادق الإيمان دنيا إليهم في رضى الرحمن نال الأمان ونال كل أمان بسواه من آراء ذي الهذيان واجعلهم هداة التائه الحيران إثبات أهل الحق والعرفان أنصار وانصرهم بكل زمان وارزقهم صبراً مع الإيقان ودعوا إليه الناس بالعدوان نصراً عزيزاً أنت ذو السلطان فلأنت أهل العفو والغفران يرضيك لا يفنى على الأزمان موجود بعد ومنتهى الإمكان حمداً بغير نهاية بزمان والتسليم منك وأكمل الرضوان تبعوهم من بعد بالإحسان هذا ونصر الدين فرض لازم بيد وإما باللسان فإن عجز ما بعد ذا والله للإيمان حبة بحياة وجهك خير مسؤول به وبحق نعمتك التي أوليتها وبحق رحمتك التي وسعت جميع وبحق أسماءٍ لك الحسنى معاً وبحق حمدك وهو حمد واسع الـ وبأنك الله الإله الحق بل كل معبود سواك فباطل وبك المعاذ ولا ملاذ سواك من ذاك للمضطر يسمعه سوا إنا توجهنا إليك لحاجة فأجعل قضاها بعض أنعمك التي انصر كتابك والرسول ودينك واخترته ديناً لنفسك واصطفيت ورضيته ديناً لمن ترضاه من وأقر عين رسولك المبعوث بالـ وانصر به النصر العزيز كمثل ما يا رب وانصر خير حزبينا على يا رب واجعل شر حزبينا فداً يا رب واجعل حزبك المنصور يا رب واحمهم من البدع التي يا رب جنبهم طرائقها التي يا رب واهدهم بنور الوحي كي يا رب كن لهم ولياً ناصراً وانصرهم يا رب بالحق الذي يا رب إنهم هم الغرباء قد يا رب قد عادوا لأجلك كل قد فارقوهم فيك أحوج ما هم ورضوا ولايتك التي من نالها ورضوا بوحيك من سواه وما ارتضوا يا رب ثبتهم على الإيمان وانصر على حزب النفاة عساكر الـ وأقم لأهل السنة النبوية الـ واجعلهم للمتقين أئمة تهدي بأمرك لا بما قد أحدثوا وأعزهم بالحق وانصرهم به واغفر ذنوبهم وأصلح شأنهم ولك المحامد كلها حمداً كما ملء السموات العلى والأرض الـ مما تشاء وراء ذلك كله وعلى رسولك أفضل الصلوات وعلى صحابته جميعاً والألي وختاماً فإليك كلمة موجزة قالها أحد العلماء أرسل طرفك إلى نشأة الأمة، وتبين أسباب نهوضها الأول، فترى أن ما جمع كلمتها، وأنهض همم آحادها، ولحم بين أفرادها، وصعد بها إلى مكانة تشرف منها على رؤوس الأمم وتسوسهم، وهي في مقامها بدقيق حكمتها، إنما هو " دين " قويم الأصول، محكم القواعد، شامل لأنواع الحكم، باعث على الألفة، داع إلى المحبة، مزك للنفوس، مطهر للقلوب من أدران الخسائس، منور للعقول بإشراق الحق من مطالع قضاياه، كافل لكل ما يحتاج إليه الإنسان من مباني الاجتماعات البشرية، وحافظ وجودها، وينادي بمعتقديه إلى جميع فروع المدنية الصحيحة، انظر إلى التاريخ قبل بعثة الدين، وما كانت عليه من الهمجية والشتات، وإتيان الدنايا والمنكرات، حتى إذا جاءها الدين وحدها وقوامها، وهذبها ونور عقولها، وقوم أخلاقها، وسدد أحكامها، فسادت على العالم، وساست من تولته بالعدل والإنصاف. اللهم عافنا من مكرك، وزينا بذكرك، واستعملنا بأمرك، ولا تهتك علينا جميل سترك، وامتن علينا بلطفك وبرك، وأعنا على ذكرك وشكرك، اللهم سلمنا من عذابك، وآمنا من عقابك. اللهم وفقنا للاستقامة والعدل فيما وليتنا عليه، اللهم إنا نعوذ بك من دنيا تمنع خير الآخرة، ونعوذ بك من حياة تمنع خير الممات، ونعوذ بك من أمل يمنع خير العمل، ونسألك أن تنور قلوبنا،(/15)
وتثبتنا على قولك الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وأن تغفر لنا ولوالدينا، ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(/16)
من مرتكزات الخطاب الدعوي في التبليغ والتطبيق الانفتاحية
يتناول الدرس انفتاح الخطاب الدعوي على الناس كافة، دون انغلاق بفئة، أو انحصار بنخبة، فالدعوة في طبيعتها للكافة، لا تقتصر على الصفوة من أهل التدين، ثم عرض للفئات التي يتعامل معها الدعاة وطبيعة العلاقة بينهم وبعض المفاهيم الخاطئة، ثم تناول طرق تبليغ الدعوة ووسائلها .
ويُراد بها: انفتاح الخطاب الدعوي على الناس كافة، دون انغلاق بفئة، أو انحصار بنخبة .. فالدعوة في طبيعتها للكافة، لا تقتصر على الصفوة من أهل التدين. وقد انطلق خطاب الله الداعي إليه، منفتحًا على جمهور الناس من أول الأمر قائلاً لهم: } يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ[21]{ 'سورة البقرة'.
والرسول الكريم إمام الدعاة صلوات الله وسلامه عليه توجه بخطابه الدعوي للناس كافة:} وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ[28]{ 'سورة سبأ'.
ومن كُلف بالتبليغ والتبيين، أمر أن ينطلق ببيانه للحق، إلى الناس، كما قال تعالى:} وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ[187]{'سورة آل عمران'. إذاً لابد أن يرتكز خطاب الدعاة على الانفتاحية، ينفتح على الناس جميعًا، ولا ينغلق على فئة من البشر.
أما دعوة بعضهم إلى وجوب الاقتصار على صفوة راسخة في العلم والإيمان، بتخصيص الدعوة فيها، دون جماهير الناس! فهي دعوة ضارة؛ لأنها ستعكف على علاج من صح وسلم، بإهمال الذي يعاين الألم.. فالانفتاحية تمثّل ـ والله أعلم ـ الفكرة الصائبة، في الدعوة إلى الله، التي سلكها الرسل، وهي التي تعكس بحق الواقع الإسلامي.
الدعاة وأهل المعصية: الدعاة لا يتجاهل خطابهم الدعوي أحدًا من أهل المعاصي والذنوب، بل إن الدعوة لتتجاوز المذنبين والعاصين من أفراد الأمة المؤمنين، إلى الكفار والملحدين.
ومن الناس من يطالب اليوم أن لا نعامل، أو نعاشر، أو ندعو إلا أهل الصفوة من أهل التدين، وينادي بعضهم أن نهجر أهل المعصية من المؤمنين في كل الأحوال.. وهذا خطأ كبير؛ لأن الصواب في أمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر؛ ذلك، لأنك قد تجد أحيانًا مرتكب كبيرة، أو شارب خمر غلبت شهوته ونفسه، يحب الله ورسوله، فكيف يُعزل هذا أو يُفصل أو يُهجر؟!
عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: أَنَّ رَجُلًا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ اسْمُهُ عَبْدَ اللَّهِ وَكَانَ يُلَقَّبُ حِمَارًا وَكَانَ يُضْحِكُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ جَلَدَهُ فِي الشَّرَابِ فَأُتِيَ بِهِ يَوْمًا فَأَمَرَ بِهِ فَجُلِدَ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ اللَّهُمَّ الْعَنْهُ مَا أَكْثَرَ مَا يُؤْتَى بِهِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:' لَا تَلْعَنُوهُ فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ إِنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ' رواه البخاري .
هكذا هدم رسول الإسلام ومعلم الدعاة فكرة العزل أو الهجر للمذنبين، حتى لا يعين الشيطان عليهم.
وهكذا فعل أئمة العلم والدين من بعده صلى الله عليه وسلم: فقد روى أبو يوسف رحمه الله أن أبا حنيفة النعمان كان له جار، وكان يشرب في الحانة، ثم يرجع بالليل يتغنى ويقول:
أضاعوني وأي فتى أضاعوا ليوم كريهة وسداد ثغر
فرجع ذات ليلة فأخذه الطائف فحبسه، ففقد أبو حنيفة صوته فسأل عنه، فقيل له: حبسه الطائف، فتكلم فيه أبو حنيفة حتى أطلق، ثم قال له: يا فتى! رأيتنا أضعناك .
إذاً فالذي على الداعية الفقيه: هو استيعاب مثل هذا المذنب في العمل الإسلامي، باستغلال عواطفه وطاقاته المؤمنة في إحقاق الحق وإبطال الباطل، لأن في ذلك إتاحة له لإتباع ما اقترف من سيئات بحسنات الدفاع عن الحق.
وقد يكون استيعاب مثل هذا سببًا لتوبته وصلاحه، كما كان من أمر أبي محجن الثقفي: أتي به سعد بن أبي وقاص يوم القادسية، وقد شرب الخمر، وكان قد حُد فيه مرات متعددة، يقال سبع مرات، فأمر به سعد، فقيّد وأودع في القصر، فلما رأى أبو محجن الخيول تجول حول حمى القصر، وكان من الشجعان الأبطال، صار يقول:
كفى حزنًا أن تدحم الخيل بالقنا وأترك مشدودًا عليّ وثاقيا
إذا قمتُ عناني الحديد وغلقت مصاريع من دوني تصمّ المناديا
وقد كنت ذا مالٍ كثير وإخوة وقد تركوني مفردًا لا أخا ليا(/1)
ثم قال لابنة حفصة امرأة سعد: [ أطلقيني ولك ـ والله علي ـ إن سلمني الله أن أرجع حتى أضع رجلي في القيد، فإن قتلت استرحتم مني] فحلته حتى التقى الناس، وكان بسعد جراحة، فلم يخرج يومئذ إلى الناس، وصعدوا به إلى العذيب ينظر إلى الناس، فوثب أبو محجن على فرس لسعد يُقال له البلقاء، ثم أخذ رمحًا، فجعل لا يحمل على ناحية من العدو إلا هزمهم، وجعل الناس يقولون: هذا ملك لِمَا يرونه يصنع، وجعل سعد يقولالضبر ضبر البلقاء، والظفر ظفر أبي محجن، وأبو محجن في القيد] فلما هُزم العدو رجع أبو محجن حتى وضع رجليه في القيد، فأخبرت ابنة حفصة سعدًا، بما كان من أمره، فقال سعدلا والله! لا أضرب اليوم رجلاً أبلى للمسلمين ما أبلا لهم] فخلّى سبيله، فقال أبو محجنقد كنت أشربها إذ يقام عليّ الحد وأطهر منها، فأما إذ بهرجتني! فهوالله لا أشربها أبدًا].
فرق مهم: وفَرْقٌ بين أن تبغض الذنب وبين أن تبغض المذنب؛ لأن الذنب لا يُحل ولا يُبيح بُغض المسلم، والمسلم يجب أن يكون محبوبًا للمسلم، كما أن الذنب لا يخرج مرتكبه المسلم من حظيرة الإسلام، فهذا أبو الدرداء رضي الله عنه، يمرّ على رجل قد أصاب ذنبًا، فكانوا يسبونه، فقالأرأيتم لو وجدتموه في قليب ألم تكونوا مستخرجيه؟] قالوا: بلى! قال فلا تسبوا أخاكم واحمدوا الله الذي عافاكم!] قالوا: أفلا تبغضه؟ قال:' إنما أبغض عمله، فإذا تركه فهو أخي].
هجر الثلاثة الذين خلفوا : أما الاستدلال لوجوب هجر المذنبين بقصة الثلاثة الذين خُلِّفوا وهجر الصحابة رضي الله عنهم مع رسولنا صلى الله عليه وسلم لهم خمسين يومًا هجرًا كاملاً فليس هو بدليل عام يصلح إنزاله لكل الأزمنة والأمكنة والأحوال، فيكون قاعدة عامة مستمرة، وإنما هو من قبيل سنن الأعيان ووقائع الأحوال، التي تختص بذات الحالة وما كان مثلها تمامًا لا غير.
ودليل تخصيص هذا الهجر في الثلاثة الذين خُلِّفوا ومن كان على حالهم تمامًا، دون غيرهم ممن شابه أحوالهم من بعض الوجوه، أمور:
الأول: أنه لو كان الهجر للعاصين لمعصيتهم، فإن بالمدينة يومئذ من هم أعتى من الثلاثة جرمًا، بل كان ممن تخلّف عن تبوك من هو منافق معلوم النفاق، ومع ذلك لم يهجرهم الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته.
الثاني: أنه لم يحدث هجر في تاريخ الإسلام إلا هذه الواقعة، فلم يتكرر مع تكرر وتوالي الذنوب والمعاصي .
الثالث: أنه حدث في العصر السني في المدينة ما هو أعظم خطرًا وشرًا على المسلمين، ومع ذلك لم يُهجر مرتكبه، وذلك أن الصحابي الجليل حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه قبيل الفتح، كتب إلى مكة ينصحهم بالاستعداد لجيش محمد صلى الله عليه وسلم، ويخبرهم بغزو النبي صلى الله عليه وسلم مكة، ويكتب إليهم بأسرار جيشه عددًا وعتادًا، وفي إعانة أهل الكفر على أهل الإسلام ما لا يخفى على أحد، ومع كل ذلك لما قال عمر رضي الله عنه: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ فَدَعْنِي فَلِأَضْرِبَ عُنُقَهُ، فقال الرسول الداعية القدوة صلى الله عليه وسلم: [ أَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ لَعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ إِلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ وَجَبَتْ لَكُمْ الْجَنَّةُ أَوْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ] فَدَمَعَتْ عَيْنَا عُمَرَ وَقَالَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ . رواه البخاري ومسلم وأبوداود والترمذي وأحمد.
ومعنى ذلك أنه: ليس من الصواب في شيء أن نجيز للناس هجر كل مذنب عاص في المجتمع الإسلامي، ولكن الحق الصحيح ألا يهجر أهل الذنوب والمعاصي بقدر ما يُدعون إلى الخير ويؤمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.
استدلالات أخرى للهجر يجب توجيهها: ولا يزال بعضنا يحاول أن يجعل الأصل هو هجر أصحاب الذنب، وإن كانوا ثابتين على الملة، ويستدلون بوقائع من ممارسات للسلف، ومواقف الرسول صلى الله عليه وسلم.
وليس الأمر كما ظنوا، إذ كل ما أثر في أمر الهجر لا يخلو من أربع حالات :
الحالة الأولى: أن يكن الهجر من قبيل الغضب والعتب في حقوق العشرة أو الأبوة أو الزوجية، كهجران الوالد الولد، والزوج الزوجة، ومن كان في معناهما، ولقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هجر نساءه شهرًا.
الحالة الثانية: أن يكون الهجر من قبيل العادة العامة والعرف العام، كالذي رُوي مرفوعًا: [ هجران الأحمق قربان عند الله] رواه الديلمي في مسند الفردوس.(/2)
الحالة الثالثة: أن يكون الهجر من قبيل هجر المبتدع، وفرق بين المبتدع والمذنب، إذ هجر المبتدع سائغ شيئًا ماـ وأقصد بالمبتدع:صاحب البدعة في أصول الدين لا الفروع، كالقدري والمرجئ والمتكلم في القرآن بالخلق.. أما الفروع فجلها خلافية اجتهادية، لا يحسن الإنكار فيها، ناهيك عن الهجر والمقاطعة.. فَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [ لِكُلِّ أُمَّةٍ مَجُوسٌ ومَجُوسُ أُمَّتِي الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا قَدَرَ إِنْ مَرِضُوا فَلَا تَعُودُوهُمْ وَإِنْ مَاتُوا فَلَا تَشْهَدُوهُمْ] رواه أبوداود وأحمد.
الحالة الرابعة: الهجر لأصحاب المعصية والذنب، غير أن كل ما روي في هذا الهجر قاصر عن الدلالة عليه: إما لضعفه، أو لتوجيهه، وهو ما تعلق به من أراد أن يكون هجر المذنب هو الأصل.
عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ قَالَ: قَدِمْتُ عَلَى أَهْلِي وَقَدْ تَشَقَّقَتْ يَدَايَ فَخَلَّقُونِي بِزَعْفَرَانٍ فَغَدَوْتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيَّ وَقَالَ:' اذْهَبْ فَاغْسِلْ هَذَا عَنْكَ' رواه أبوداود وأحمد.
وهذا الحديث ضعيف لا يُحتج به.
عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهُ: اعْتَلَّ بَعِيرٌ لِصَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيٍّ وَعِنْدَ زَيْنَبَ فَضْلُ ظَهْرٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِزَيْنَبَ:' أَعْطِيهَا بَعِيرًا' فَقَالَتْ أَنَا أُعْطِي تِلْكَ الْيَهُودِيَّةَ فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهَجَرَهَا ذَا الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمَ وَبَعْضَ صَفَرٍ. رواه أبوداود وأحمد.
وهذا الحديث ضعيف لا يُحتج به.
خلاصة القول في حالات الهجر الجائز: وغاية ما يمكن أن يُقال في قضية الهجران، ويتخذ من إجراء فيها، ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية: [وهذا الهجر يختلف باختلاف الهاجرين في قوتهم وضعفهم، وقلتهم وكثرتهم، فإن المقصود به زجر المهجور وتأديبه، ورجوع العامة عن مثل حاله، فإن كانت المصلحة في ذلك راجحة، بحيث يُفضي هجره إلى ضعف الشر وخفيته، كان مشروعًا .. وإن كان لا المهجور ولا غيره يرتدع بذلك، بل يزيد الشر، والهجر ضعيف، بحيث يكون مفسدة ذلك راجحة على مصلحته لم يشرع الهجر بل يكون التأليف لبعض الناس أنفع من الهجر، والهجر لبعض الناس أنفع من التأليف ..]ا.هـ.
انفتاح الخطاب الإسلامي على أهل الملل والأديان: ومما لا يقره الإسلام لدعاته: أن ينحصر خطابهم فيما بينهم، ولا يتعدى الأمة إلى غيرها من الأمم من أهل الديانات والملل؛ ذلك، أن دعوة الإسم تتوجه للعالمين لكل قرن وأمة في التاريخ، وكل قرية وقوم وملة على وجه الأرض:} إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ[27]{ 'سورة التكوير'.. }وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ[28]{ 'سورة سبأ' .
والمسلم يأمره القرآن أن لا ينغلق بل ينفتح بخطابه ليمتد على العالمين، يبشر بالحق الذي أوتيه، ويحيي حركة السابقين الأولين من سلف الأمة الصالحين ومن اتبعهم بإحسان، وقد انطلقوا يبلغون الإسلام إلى الأمم الأخرى.
وبهذه المبادئ الباقية ما بقيت السموات والأرض انطلق ربعي بن عامر رضي الله عنه يواجه بها الطغيان في الأرض.. يدخل على حاكم الفرس وقد زينوا مجلسه بالنمارق المذهبة، وعليه تاجه، وقد جلس على سرير من ذهب، يدخل عليه ربعي رضي الله عنه بثياب صفيقة، وسيف، وترس وفرس قصيرة، ولم يزل راكبها حتى داس بها على طرف البساط، ثم نزل وربطها ببعض تلك الوسائد، وأقبل عليه سلاحه ودرعه، وبيضته على رأسه يتوكأ على رمحه فوق النمارق، فخرق عامتها، فقال له ملكهم: ما جاء بكم؟
فأجاب: [الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه ].
بهذه الكلمات حدّد ربعي رضي الله عنه هدف الدعوة وحدودها، بأن هدفها: تحرير البشرية من الأغلال الثلاثة: عبادة غير الله، وضيق الدنيا، وجور الأديان الباطلة المحرفة .. وبأن حدود الدعوة ومنتهاها: العالمين، وخلق الله أجمعين.
أشكال الخطاب الإسلامي:
أولاً: خطاب القدوة : وهو أول خطاب يجب أن يُوجه إلى الناس من أصحاب الدعوات، وحملة الرسالات، وإلا فسيبقى الناس في حاجة شديدة لهذا الخطاب، مها وجه إليهم من خطاب آخر.(/3)
ولقد كان النبيون ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ قبل أن يقدموا خطاب ربهم للناس، يقدمون لهم أنفسهم فيجد الناس فيهم الصدق والأمانة، ويرجون منهم، ويتخذونهم أسوة حسنة، قال تعالى في رسولنا صلى الله عليه وسلم:} لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ [21]{ 'سورة الأحزاب'. وقال في النبيين من قبله- صلوات الله وسلامه عليهم -:}لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِر[6]َ{ 'سورة الممتحنة'.
لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بشخصه وجميع سلوكه، وحسن تعامله مع الناس، ترجمة صادقة للداعية الموفق، وأسوة حية لمن يرجو التحقق بالقرآن: [ كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ رواه مسلم وأحمد.
ثانيًا: خطاب المجادلة: إن الدعوات كلها تنطلق أساسًا من الحوار، وتتخذ سبيل الجدال في كل أطوارها، ولا تتوقف المجادلة إلا باعتراض عنيد يستوجب إزالته باليد والسيف، ثم تواصل المجادلة سيرها تلزم الحجة، وتقنع المرتاب. ولقد أكثر الدعاة من الجدل بالحسنى، عبر المرسلين والمتبعين لهم بإحسان، حتى تضايق قوم نوح من جداله:} قَالُوا يَانُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ[32] {'سورة هود'.
فالقرآن ينبّه الداعين إليه إلى التزام المجادلة في الدعوة إليه، ويقرنها بالحكمة والموعظة الحسنة، فيقول تعالى:} ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ[125] {'سورة النحل'.
ثالثًا: خطاب المجاهدة: لو أن الناس تقبّلوا الحق حين رأوا أصحابه يعطونهم القدوة من أنفسهم، أو بما قام بينهم من حوارات ومجادلات، أو تركوا الدعاة يبلغون دين الحق دون الصد عن سبيل الدعوة، لما احتاج المسلم أن يُشهر سيفه، ولاكتفى بالمجادلة .. ولكن حال المناقضين للفطرة، من أصحاب الجاه والسلطان والمال، أنهم لا يتركون الدعوة تمضي، ولا يخلون بين عامة الناس وبين اختيارهم بحرية، فيقفون في وجه الدعوة، فعندئذ لابد من إزاحة هذه العوائق من على طريق الدعوة، فيتحول خطاب المسلم من المشاكلة والاستحسان، ومن الحوار والجدال، إلى خطاب السيوف والرماح والنبال، ومن جهاد الجدال إلى جهاد القتال، حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله.
مرحلة الصفوية: انفتاح الخطاب الدعوي على جماهير الناس، ليس على إطلاقه، ولا يقتضي أن تكون الانفتاحية في كل حين وحال، بل لابد من الصفوية في مرحلة من مراحل الدعوة، وذلك أن الدعوة لا تنطلق بذاتها وإنما يحمل خطابها مؤمنون بها.
وهؤلاء المؤمنون الأوائل، هم الصفوة المقصودة، إذ المصلح، أو الداعي يبدأ بفئة متقاربة في الالتزام والطاعة، متقاربة في الفكر والاعتقاد والمبادئ والأهداف، متقاربة في الاجتهاد والتبليغ والدعوة، وهؤلاء هم الصفوة.
وهكذا كان الله سبحانه وتعالى مع الرسول صلى الله عليه وسلم، والرسول مع السابقين الأولين من صحابته رضوان الله عليهم. فالقرآن بدأ بتنشئة صاحب الدعوة، يهيئ فكره وعقله، مخاطبًا إياهما بـ:} اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ[1]خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ[2]اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ[3]{ 'سورة العلق'.
ثم هيأ روحه ودواخله آمرًا إياه أن :} قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا[2]نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا[3]أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْءَانَ تَرْتِيلًا[4]إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا[5]{ 'سورة المزمل'.
وبعد ذلك هيأ له راية الإبلاغ تبشيرًا وتنذيرًا، فأمره أن:} قُمْ فَأَنْذِرْ[2]وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ[3]وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ[4]وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ[5]{ 'سورة المدثر'.
والرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بدأ مع أهله، ثم أصدقائه، ثم عشيرته، ثم انطلق وصدع.
وفي أثناء ذلك عكف يربّي فئة خيّرة سابقت العالمين إلى الإيمان به واعتناق الدين الذين جاء به.
ولقد كان الصحابة الأولون مثلاً في التقوى والالتزام، والتخلق بخلق الإسلام.
من كتاب:' من مرتكزات الخطاب الدعوي في التبليغ والتطبيق' للشيخ/ عبد الله الزبير عبد الرحمن(/4)
من مزايا الدين الإسلامي
أخي الحبيب :
إليك أبعث هذه الرسالة المتواضعة ، من أخ محب ، ومن قلب مشفق ، يكن لك التقدير والود والاحترام .
أخي :
سبب هذه الرسالة ما يحدث الآن من كثرة الطعن في دين الإسلام ، من الكفار ، لعدم معرفتهم بمحاسن هذا الدين العظيم ، ومن جهلة المسلمين ، لجهلهم بمحاسن وسماحة الدين الذي ينتمون إليه ، فيسيؤون إليه من حيث لا يعلمون .
لذلك سطرت لك هذه الرسالة التي تبين جزء من عظمة الإسلام وتعدد مزاياه ، وكثرة محاسنه .
وهذا أخي غيض من فيض ، ولكن لعلها تكون عظة وعبرة .
وإليك هذه المزايا فأقول :
1-لا يوجد دين من الأديان يؤاخي العقل والعلم في كل ميدان إلاّ الإسلام .
2- ولا يوجد دين روحي مادي إلا الإسلام .
3- ولا يوجد دين يدعو إلى الحضارة والعمران إلا الإسلام .
4- ولا يوجد دين شهد له فلاسفة العالم المتحضر إلا الإسلام .
5- ولا يوجد دين يسهل إثباته بالتجربة إلا الإسلام .
6- ولا يوجد دين من أصوله الإيمان بجميع الرسل والأنبياء والكتب الإلهية إلا الإسلام .
7- ولا يوجد دين جامع لجميع ما يحتاجه البشر إلا الإسلام .
8- ولا يوجد دين فيه من المرونة واليسر الشيء الكثير إلا الإسلام .
9- ولا يوجد دين تشهد له الإكتشافات العلمية إلا الإسلام .
10- ولا يوجد دين صالح لكل الأمم والأزمان إلا الإسلام .
11- ولا يوجد دين يسهل العمل به في كل حال إلا الإسلام .
12- ولا يوجد دين لا إفراط فيه ولا تفريط إلا الإسلام .
13- ولا يوجد دين حفظ كتابه المقدس إلا الإسلام .
14- ولا يوجد دين صرح كتابه المنزل بأنه عام لكل الناس إلا الإسلام .
15- ولا يوجد دين يأمر بجميع العلوم النافعة إلا الإسلام .
16- الحضارة الحاضرة قبس من الإسلام .
17- هذه الحضارة مريضة ولا علاج لها إلا الإسلام .
18- ما شهد التاريخ حضارة جمعت بين الروح والمادة إلا حضارة الإسلام .
19- السلام العالمي لا يتم إلا بالإسلام .
20- لا يوجد دين يسهل إثباته بالتحليل العلمي إلا الإسلام .
21- لا يوجد دين وحد قانون المعاملات بين البشر إلا الإسلام .
22- لا يوجد دين أزال امتياز الطبقات إلا الإسلام .
23- لا يوجد دين حقق العدالة الاجتماعية إلا الإسلام .
24- لا يوجد دين لا يشذ عن الفترة في شيء إلاّ الإسلام .
25- لا يوجد دين منع استبداد الحكام وأمر بالشورى إلا الإسلام .
26 - لا يوجد دين أمر بالعدالة مع الأعداء إلا الإسلام .
27- لا يوجد دين بشرت به الكتب السماوية إلا الإسلام .
28- لا يوجد دين أنقذ المرأة في أدوارها : أماً وزوجة وبنتاً إلا الإسلام .
29- لا يوجد دين ساوى بين الأبيض والأسود والأصفر والأحمر إلا الإسلام .
30- لا يوجد دين أمر بالتعليم وحرم كتمان العلم النافع إلا الإسلام .
31- لا يوجد دين قرر الحقوق الدولية إلا الإسلام .
32- لا يوجد دين توافق أوامره ما اكتشفه الطب الحديث إلا الإسلام .
33- لا يوجد دين أنقذ الرقيق من المعاملات الوحشية وأمر بمساواته لسادته وحض على إعتاقه إلا الإسلام .
34- لا يوجد دين قرر سيادة العقل والخضوع لحكمة الإسلام
35- لا يوجد دين ينقذ الفقراء والأغنياء بفرض جزء من مال الأغنياء يعطى للفقراء إلا الإسلام
36- لا يوجد دين قرر من الأخلاق مقتضى الفطرة والحكمة الإلهية ، فللشدة موقف وللرحمة موقف إلا الإسلام .
37- لا يوجد دين أمر بالإحسان والرفق بجميع الخلق إلا الإسلام .
38- لا يوجد دين قرر أصول الحقوق المدنية على قواعد فطرية إلا الإسلام .
39- لا يوجد دين اعتنى بصحة الإنسان وثروته إلاّ الإسلام .
40- لا يوجد دين أثر في النفوس والأخلاق والعقول كالإسلام .
_______________________________
كتبها الشيخ أحمد بن حجر آل بوطامي وقال : ( يعجبني أن يكتب بماء الذهب وفي سويداء القلوب ) ،ما قاله عبد الفتاح الإمام في كتابه (( التفسير العصري القديم ))(/1)
من مصطلحات القرآن الكريم الشريعة )
من المصطلحات المهمة في القرآن الكريم مصطلح (الشريعة) بل إن من أسماء سورة الجاثية، أنها سورة (الشريعة)؛ وقد سبق أن أشرنا في مقال سابق إلى أن مصطلح (الشريعة) من المصطلحات المرادفة لمصطلح (الدين) وإذ كنا قد فصلنا القول في دلالة مصطلح (الدين) فلنعطف عليه القول ببيان معنى هذا المصطلح، مصطلح (الشريعة) فنقول:
(الشريعة) في أصل اللغة: هي مورد الشاربةُ الماءَ، ثم استعير لكل طريقة موضوعة بوضع إلهي ثابت؛ واشتق منه الشِّرْعة في الدين، والشريعة، قال - تعالى -: {لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا} (المائدة: 48) وقال - سبحانه -: {ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها} (الجاثية: 18) وقال الشاعر:
ولما رأت أن الشريعة همُّها *** وأن البياض من فرائصها دامي
ومن الباب: أشرعتُ الرمح نحوه إشراعًا؛ والإبل الشروع: التي شَرَعت ورَويت؛ ويقال: أشرعتُ طريقًا، إذا أنفذته وفتحته، وشرعت الإبل، إذا أمكنتها من الشريعة، أي: من مورد شرب الماء.
و(الشَّرِيعَة) و(الشِّرْعَة): ما سنَّ الله من الدِّين وأَمَرَ به؛ كالصوم، والصلاة، والحج، والزكاة، وسائر أَعمال البرِّ، ومنه قوله - تعالى -: {ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها} (الجاثية: 18).
وقوله - تعالى -: {لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا} (المائدة: 48) رُوي عن ابن عباس - رضي الله عنه - في تفسير الآية، قال: (الشرعة: ما ورد في القرآن، والمنهاج: ما ورد في السنة) ورُوي عنه في معنى الآية أيضًا، قال: (شرعة ومنهاجًا: سبيلاً وسُنَّة) وقال قتادة: شرعة ومنهاجًا، الدِّين واحد، والشريعة مختلفة؛ وقيل في تفسيره: (الشِّرْعَةُ): الدِّين، و(المِنهاجُ): الطريقُ؛ وقيل: (الشرعة) و(المنهاج) جميعًا: الطريق، والطريقُ ههنا: الدِّين؛ وقال بعضهم: (شِرْعَةً) معناها: ابْتِداءُ الطريق، و(المنهاج): الطريق المستقيم والواضح.
وقوله - تعالى -: {ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها} (الجاثية: 18) قال الفراء: على دين ومِلَّة ومنهاج؛ وقال بعضهم: {على شريعة} أي: على مِثال ومَذْهَبٍ؛ ومنه يقال: شَرَعَ فلان في كذا وكذا، إِذا أَخذ فيه؛ ويقال: فلان يَشْتَرِعُ شِرْعَتَهُ، ويَفْتَطِرُ فِطْرَتَهُ، ويَمْتَلُّ مِلَّتَه، كل ذلك من شرعة الدِّين، وفطرته، ومِلَّته.
و(شَرَع) الدِّين يَشْرَعُهُ شَرْعًا: سَنَّه؛ وفي التنزيل العزيز: {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا} (الشورى: 13) قال ابن الأَعرابي: {شرع) أَي: أَظهر، وقال في تفسير قوله - تعالى -: {شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله} (الشورى: 21) قال: أَظهروا لهم.
وقوله - تعالى - في قصة أصحاب السبت: {إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا} (الأعراف: 163) قيل في تفسيره: إنها الرافعة رؤوسها، ومنه قولهم: رمح شُراعيٌّ، أي: طويل.
على أن من المصطلحات القرآنية المرادفة لمصطلح الشريعة - مع فروق تُنظر في مظانها - مصطلح (الملة) وهو مصطلح قرآني آخر، يتقاطع مع مصطلح (الشريعة) في معان، ويفارقه في أخرى.
12/09/2005
http://www.islamweb.net المصدر:(/1)
من مظاهر إنسانية الرسول في فتح مكة
أ.د/
جابر قميحة
komeha@menanet.net
على مدى ثلاثة عشر عامًا ظل النبي- صلى الله عليه وسلم- يدعو قومه إلى الدين الحق، ولم يستجب إليه إلا القليل، وكان أغلبهم من الفقراء والعبيد والمستضعفين، وتحمَّل الرسول- صلى الله عليه وسلم- هو وأصحابه من الأذى ما يفوق طاقة البشر إلى أن أذن الله له وللمسلمين بالهجرة، وفي المدينة أقام النبي- صلى الله عليه وسلم- دولةً تقوم على الحق والخير والأخوة والبر والرحمة والإنسانية، وكان بينه وبين قريش معارك ضارية، انتصر في أغلبها إلى أن كان صلح الحديبية في العام السادس من الهجرة.. ومن نصوصه: قيام هدنة لعشر سنوات، وإعطاء الحق للقبائل في الدخول في حِلف أحد الطرفين؛ فدخلت قبيلة (بكر ( في حلف قريش، ودخلت قبيلة (خزاعة) في حِلف النبي- صلى الله عليه وسلم- ولكن قريشًا أغرت رجال (بكر) بـ(خزاعة)، وحرضتهم عليهم، واشتركوا معهم في قتل رجال من (خزاعة ( غدرًا؛ فانطلق "عمرو بن سالم الخزاعي" إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأنشد بين يديه شعرًا يشرح فيه غدر قريش وخيانتها ونقضها لعهد الحديبية، فقال: "نُصرت يا عمرو بن سالم".
وأمر- صلى الله عليه وسلم- بالزحف إلى مكة، فغادر الجيش الإسلامي المدينة في العاشر من رمضان سنة 8 هجرية، ودخل النبي- صلى الله عليه وسلم- وجيشه )الذي بلغ عشرة آلاف) مكةَ في مطالع الأسبوع الأخير من رمضان.
ومن المدينة إلى مكة نواكب أعمال الرسول- عليه السلام- وأقواله، فنجدها جميعًا- دون استثناء- تتدفق بالإنسانية الحانية، بعيدًا عن الصلف والغرور ومشاعر الانتشاء التي تستبد بالقادة في مواقف النصر، ونشير في هذه العجالة إلى بعض المواقف النبوية الإنسانية:
لقد كان ضمن الجيش الزاحف ما يُسمَّى بـ"الكتيبة الخضراء" أو "كتيبة الحديد" - وهي كما نسميها اليوم - "الكتائب المدرعة" ، وكان عليها "سعد بن عبادة" الذي أخذه شيء من الزَّهْو، فصاح: "اليوم يوم الملحمة، اليوم تُستحَل الحرمة، اليوم أذل الله قريشًا"، فغضب النبي- صلى الله عليه وسلم- وأعطى الراية لـ"علي بن أبي طالب"، وقال"لا يا سعد، بل اليوم يوم المرحمة، اليوم تُقدّس الحرمة، اليوم أعز الله قريشًا"، وبينما كان الجيش يزحف إلى مكة رأى (كلبة) تُرضع أولادها، فخشى أن يَسحقها الزاحفون دون أن يشعروا، فأمر "جعيل بن سراقة" أن يقوم حذاءها ؛ حتى لا يعْرِض لها أحد من الجيش ولا لأولادها ، وأمر المسلمين أن يدخلوا مكة بروح الموادعة والرحمة والمسالمة بلا قتال.
ووسع الملاذ لمن يريد الأمان من المشركين فأعلن- صلى الله عليه وسلم " - من دخل داره فهو آمن، ومن دخل البيت الحرام فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن".
ودخل مكة في تواضع عجيب؛ حيث كان يركب ناقته القصواء وقد أحنى رأسه على رَحله تواضعًا، حتى كادت تمس لحيته الرحلَ من شدة التواضع، وهو يقول: "لا عيش إلا عيش الآخرة...".
وأراد "فضالة بن عمير الليثي" أن يغتال النبي- صلى الله عليه وسلم- أثناء طوافه، فكشف الله للنبي خبيئته، وعفا عنه بعد أن أعلن إسلامه، ودعا له بالخير.
ورفض عرض "علي بن أبى طالب"- كرم الله وجهه- بأن تكون الحِجابة لهم، وقد انتزع "علي"- رضي الله عنه- مفتاح الكعبة من "عثمان بن طلحة"- سادنها في الجاهلية- فأخذ النبي- صلى الله عليه وسلم- المفتاح، وأعاده لـ"عثمان"، وأبقى سدانة البيت له ولقومه، وقال: "هاك مفتاحك يا عثمان، فاليوم يوم بر ووفاء"، وأعلن العفو العام عن قريش بمقولته الكريمة المشهورة: "اذهبوا فأنتم الطلقاء".
وأعلن في خطابه لأهل مكة أصولَ القيم الإنسانية العليا: "أيها الناس، لقد أذهب الله عنكم نخوة الجاهلية, وتعظمها بآبائها؛ فالناس رجلان: بَرٌّ تقيّ كريم على الله, وفاجر شقي هين على الله، والناس بنو آدم، وخلق الله آدم من تراب... ?يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ..? (الحجرات : 13.
حقًّا، لقد كان فتح مكة فتحًا حقيقيًّا لآفاق من الخير والحقّ والبر والنور والإنسانية .
إنسانية شاملة أصيلة:(/1)
وحينما دخل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مكة فاتحًا كان مثالا للبر والوفاء والعفو عند المقدرة، وفتح صدره لجميع من تحدثوا إليه، ومن الوقائع الطريفة في هذا المجال أن ـ سراقة بن مالك ـ الذي كان قد وعده النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ سواري كسرى وهو يلاحق الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأبا بكر في طريق الهجرة، تحدث إليه سراقة مذكرًا إياه بما وعد فقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : "نعم هذا يوم وفاء وبر، أدنوه، فأدنوه منه فأسلم، وسأله: يا رسول الله إن الضالة من الإبل تغشى حياض ماء وقد ملأتها لإبلي فهل لي في ذلك أجر؟ إن تركتها تشرب من حياضي وليست ملكي". فقال صلى الله عليه وسلم: "نعم في كل ذات كبد حرى أجر".
وكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ يستطيع أن يضرب أعناق (مجرمي الحرب) من رءوس قريش، الذين قتلوا أصحابه، وصادروا أموالهم، وخانوا وغدروا، وألبوا عليه العرب، ولكنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان منطقه الإنساني هو الحاكم والمهيمن.
وصفة الإنسانية في رسول الله إنما تمثل طابعًا متجذرًا أصيلاً شاملا، ومنها تنبع قائمة القيم المحمدية: فهو رحيم , وصفه ربه بصفتين من صفاته إذ قال (بالمؤمنين رءوف رحيم) , وهو القائل" من لا يرحم لا يرحم"، وهو الذي حَرَم الأقرع بن حابس أن يوليه على أموال بني تميم ؛ لأنه اكتشف أنه يقسو على أبنائه إذ قال حينما رأى الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقبل الحسن ابن علي: يا رسول الله إن لي عشرة من الولد ما قبَّلت واحدًا منهم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تلي لنا أمرا". وكان رحيمًا بالحيوان فقال: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته".
وكان حليمًا منطقه "اذهبوا فأنتم الطلقاء" و "اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون". وكان وفيًا يذكر خديجة بعد موتها ويتحدث عنها بما يرفع من شأنها أمام زوجاته، ويحسن لكل من كانت تحبهم خديجة . وكان متواضعًا حتى قال لرجلٍ ارتعش في حضرته: "هون عليك، فلست بجبارٍ ولا ملك، إنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد". وقد ذكرنا آنفا أنه لما دخل مكة كان يركب ناقته القصواء، وقد أحنى رأسه على رحله تواضعًا حتى كادت لحيته تمس الرحلْ من شدة التواضع، وهو يقول: "لا عيش إلا عيش الآخرة". ومن قبل كان يشارك أصحابه في حفر الخندق حتى كان الغبار يغطي وجهه الشريف، كما كان يشاركهم رجزهم، ويرفع صوته بالرجز معهم، وهو يشبه في وقتنا الحاضر الأغنيات العفوية التي يغنيها البناءون أثناء عملهم حتى يخففوا عن أنفسهم شدة العمل.
ويطول بنا المسار لو رحنا نستعرض قائمة القيم المحمدية، ولكنا نقول إنها طوابع نفسية وخلقية، وعقلية، وروحية نابعة من معين "الإنسانية" الأصيلة المتجذرة؛ لأن الله سبحانه وتعالى أدبه فأحسن تأديبه.(/2)
من مظاهر موالاة الكفار
أخي الحبيب :
هذه كلمات أوجهها لك من قلب صادق يحب لك الخير ، في موضوع عمت به البلوى بين المسلمين ، وأحببت أن تكون بعيدا عنه، لهذا كتبت لك هذه الرسالة .
أخي إن :
1- من مظاهر موالاة الكفار التشبه بهم في الملبس والكلام وغيرهما لأن التشبه بهم في الملبس والمأكل وغيرهما يدل على محبة المتشبه للمتشبه به ، ولهذا قال النبيّ -صلى الله عليه وسلم- ((من تشبه بقوم فهو منهم)) . فيحرم التشبه بالكفار فيما هو من خصائصهم ومن عاداتهم وعباداتهم وسمعتهم وأخلاقهم كحلق اللحى وإطالة الشوارب والرطانة بلغتهم إلاّ عند الحاجة وفي هيئة اللباس والأكل والرب وغير ذلك .
2- من مظاهر موالاة الكفار الإقامة في بلادهم وعدم الانتقال منها إلى بلد المسلمين لأجل الفرار بالدين لأن الهجرة بهذا المعنى ولهذا الغرض واجبة على المسلم لأن إقامته في بلاد الكفر تدل على موالاة الكافرين - ومن هنا حرم الله إقامة المسلم بين الكفار إذا كان يقدر على الهجرة قال تعالى {إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا أو لم تكن ارض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا إلاّ المستضعفين من الرجال والنساء والوالدان الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا} . فلم يعذل الله في الإقامة في بلاد الكفار إلاّ المستضعفين الذين لا يستطيعون الهجرة .
وكذلك من كان في إقامته مصلحة دينية كالدعوة إلى الله ونشر الإسلام في بلادهم .
3- ومن مظاهر موالاة الكفار السفر إلى بلادهم لغرض النزهة ومتعة النفس ، والسفر إلى بلاد الكفار محرم إلاّ عند الضرورة - كالعلاج والتجارة والتعلم للتخصصات النافعة التي لا يمكن الحصول عليها إلاّ بالسفر - فيجوز بقدر الحاجة ، وإذا انتهت الحاجة وجب الرجوع إلى بلاد المسلمين .
ويشترط كذلك لجواز السفر أن يكون مظهرا لدينه معتزاً بإسلامه مبتعداً عن مواطن الشر حذراً من دسائس الأعداء ومكائدهم ، وكذلك يجوز السفر أو يجب إلى بلادهم إذا كان لأجل الدعوة إلى الله ونشر الإسلام .
4- ومن مظاهر موالاة الكفار إعانتهم ومناصرتهم على المسلمين ومدحهم والذب عنهم ، وهذا - من نواقض الإسلام وأسباب الردة - نعوذ بالله من ذلك .
5- ومن مظاهر موالاة الكفار الاستعانة بهم والثقة بهم وتوليتهم المناصب التي فيها أسرار المسلمين واتخاذهم بطانة ومستشارين ، قال الله تعالى {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ قل موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها} [ آل عمران : 118 - 120 ] .
فهذه الآيات الكريمات تشرح دخائل الكفار وما يكنونه نحو المسلمين من بغض وما يدبرونه ضدهم من مكر وخيانة وما يحبونه من مضرة المسلمين وإيصال الأذى إليهم بكل وسيلة وأنهم يستغلون ثقة المسلمين بهم فيخططون للإضرار بهم والنيل منهم .
روى الإمام أحمد عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال : قلت لعمر رضي الله عنه : لي كاتب نصراني . قال : مالك قاتلك الله . أما سمعت الله يقول {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض} ألا اتخذت حنيفا ، قال : قلت يا أمير المؤمنين لي كتابته وله دينه . قال : لا أكرمهم إذ أهانهم الله ، ولا أعزهم إذ أذلهم الله ، ولا أدنيهم وقد أقصاهم الله . وروى الإمام أحمد ومسلم أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- خرج إلى بدر فتبعه رجل من المشركين فلحقه عند الحرة فقال : إني أردت أن أتبعك وأصيب معك ، قال : ((تؤمن بالله ورسوله)) ؟ قال لا - قال : ((ارجع فلن أستعين بمشرك)) .
ومن هذه النصوص يتبين لنا تحريم تولية الكفار أعمال المسلمين التي يتمكنون بواسطتها من الاطلاع على أحوال المسلمين وأسرارهم ويكيدون لهم بإلحاق الضرر بهم ومن هذا وقع في هذا الزمان من استقدام الكفار إلى بلاد المسلمين - بلاد الحرمين الشريفين - وجعلهم عمالاً وسائقين ومستخدمين ومربين في البيوت وخلطهم مع العوائل أو خلطهم مع المسلمين في بلادهم .(/1)
5- ومن مظاهر موالاة الكفار التأريخ بتاريخهم - خصوصاً التاريخ الذي يعبر عن طقوسهم وأعيادهم كالتاريخ الميلادي والذي هو عبارة عن ذكرى مولد المسيح عليه السلام ، والذي ابتدعوه من أنفسهم وليس هو من دين المسيح عليه السلام فاستعمال هذا التاريخ فيه مشاركة في إحياء شعارهم وعيدهم ، ولتجنب هذا لما أراد الصحابة رضي الله عنهم وضع تاريخ للمسلمين في عهد عمر رضي الله عنه عدلوا عن تواريخ الكفار وأرخوا بهجرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- مما يدل على وجوب مخالفة الكفار في هذا وفي غيره مما هو من خصائصهم - والله المستعان .
6- ومن مظاهر موالاة الكفار مشاركتهم في أعيادهم أو مساعدتهم في إقامتها أو تهنئتهم بمناسبتها أو حضور إقامتها - وقد فسر قوله سبحانه وتعالى {والذي لا يشهدون الزور} أي ومن صفات عباد الرحمن أنهم لا يحضرون أعياد الكفار .
7- ومن مظاهر موالاة الكفار مدحهم والإشادة بما هم عليه من المدنية والحضارة والإعجاب بأخلاقهم ومهاراتهم دون نظر إلى عقائدهم الباطلة ودينهم الفاسد قال تعالى {ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى} وليس معنى ذلك أن المسلمين لا يتخذون أسباب القوة من تعلم الصناعات ومقومات الاقتصاد المباح والأساليب العسكرية ، بل ذلك مطلوب قال تعالى {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة} وهذه المنافع والأسرار الكونية هي في الأصل للمسلمين قال تعالى {قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة} وقال تعالى {وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه} وقال تعالى {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا} . فالواجب أن يكون المسلمون سباقين إلى استغلال هذه المنافع وهذه الطاقات ولا يستجدون الكفار في الحصول عليها ، يجب أن يكون لهم مصانع وتقنيات .
8- ومن مظاهر موالاة الكفار التسمي بأسمائهم - بحيث يسمون أبناءهم وبناتهم بأسماء أجنبية ويتركون أسماء آبائهم وأمهاتهم وأجدادهم وجداتهم والأسماء المعروفة في مجتمعهم وقد قال النبيّ -صلى الله عليه وسلم- ((أحب الأسماء إلى الله عبدالله وعبدالرحمن)) . وبسبب تغيير الأسماء فقد وجد جيل يحمل أسماء غربية ، مما يسبب الانفصال بين هذا الجيل والأجيال السابقة ويقطع التعارف بين الأسر التي كانت تعرف بأسمائها الخاصة .
9- من مظاهر موالاة الكفار الاستغفار لهم والترحم عليهم وقد حرم الله ذلك بقوله تعالى {ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم} لأن هذا يتضمن حبهم وتصحيح ما هم عليه(1) .
----------------------------------------------
(1) نقلا عن مجلة الدعوة الصادرة يوم 17/8/1408هـ بعدد 1136.مقال بقلم الشيخ / صالح بن فوزان الفوزان ـ بتصرف ـ .(/2)
من معالم الحضارة الإسلامية في فلسطين
(الشبكة الإسلامية) الدكتور مروان خلف - الإيسيسكو
أصدرت المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (إيسيسكو) كتابا جديدا بعنوان (من معالم الحضارة الإسلامية في فلسطين) لمؤلفه الدكتور مروان خلف الأستاذ بالمعهد العالي للآثار الإسلامية في جامعة القدس.
ويبرز الكتاب المكانة السامية لفلسطين عند المسلمين ، ويستعرض الأطوار التاريخية التي تعاقبت عليها منذ الفتح العُمَرِي لها في السنة الخامسة عشرة للهجرة (636م) ، مرورا بعهود الأمويين والعباسيين والفاطميين والأيوبيين والمماليك فالعثمانيين ، حيث كانت فلسطين من سنة 922هـ (1516م) إلى سنة 1337هـ(1918م) جزءا من الدولة العثمانية إلى أن أخضعت بموجب قرار عصبة الأمم للإنتداب البريطاني في عام 1918م ، وإنتهاء بالاحتلال الصهيوني لها ، وقيام إسرائيل على أرضها في عام 1948م ، ثم احتلال القدس والضفة الغربية من طرف سلطات الاحتلال الإسرائيلية في عام 1967م .
ويعرض المؤلف للعمارة الإسلامية في فلسطين في استفاضة ، فيعرف بها في نسق دقيق ، وتتمثل العمارة الإسلامية في المساجد والجوامع والخانات والزوايا والتكايا والأربطة والقلاع والأسوار والجسور والحمامات ، إضافة إلى الخوانق والأسبلة والمنشآت المائية .
ويبدأ المؤلف بمسجد القبة المشرفة التي يصفها بأنها إحدى أهم المعالم المعمارية الإسلامية في العالم ثم المسجد الأقصى المبارك ، الذي هو القبلة الأولى للمسلمين وثاني مسجد بني لعبادة الله وحده وثالث الحرمين الشريفين ، ثم مسجد عمر بن الخطاب الذي أقيم على المكان الذي صلى فيه الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه عندما فتح القدس فالمسجد الإبراهيمي في الخليل .
ثم يعرض المؤلف لمساجد وجوامع كثيرة في فلسطين ، منها مسجد الشيخ علي البكاء في الخليل والجامع الأبيض في الرملة وجامع الجزار في عكا والجامع الكبير في جنين والجامع الأحمر في صفد وجامع البحر في عكا والمسجد الكبير في طبريا والجامع العمري الكبير وجامع السيد هاشم في غزة ومسجد النصر في حيفا والجامع الكبير في يافا .
فيعرف بها من الناحيتين التاريخية والمعمارية الفنية ، وينشر صورا وتصاميم هندسية لها على النحو الذي يقدم صورة شاملة للمظاهر العمرانية الشاهدة على ازدهار الحضارة الإسلامية في فلسطين.(/1)
من معاني الأسماء ...
محمد حسنين مخلوف ...
...
هذا شرح موجز، وتعريف يسير، لبعض أسماء الله الحسنى، وهو مأخوذ من كتاب قيّم للشيخ محمد حسنين مخلوف ـ رحمه الله.
الله: عَلَمٌ على الذات الواجب الوجود المستحق لجميع المحامد, وهو أعظم أسمائه تعالى لدلالته على الذات العلية الجامعة لكل صفات الألوهية المنعوتة بنعوت الربوبية، المنفردة بالوحدة في الذات والصفات والأفعال المعبودية بحق،فلا إله إلا الله ، ولا رب سواه، ولامعبود بحق إلا هو، وهو اسم انفرد به سبحانه فلم يُسَمَّ به غيره أصلاً كما ذكره الإمامان أبو حنيفة والشافعي والجمهور، وغيره من الأسماء صفات له عز وجل تجري عليه وتدل على المعاني الثابتة له تعالى، كالحياة والعلم والقدرة على وجه الكمال والتقديس. قال تعالى: ? اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ? ... [البقرة:255]، ? اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ? ... [النور:35]، ? اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ? ... [الأعراف:59].
الرحمن الرحيم: اسمان عربيان له تعالى، من الرحمة، وهي تقتضي التفضل والإحسان، ويراد بها غايتها، وهي إرادة إيصال الخير والثواب لمن يشاء من عباده، ودفع الشر عنهم أزلاً، أو هي إيصال الخير لهم ودفع الشر عنهم فيما لا يزال، وعلى الأول يكون الرحمن والرحيم من صفات الذات، وعلى الثاني من صفات الفعل.
ومعناهما: الرحمن بما ستر في الدنيا وأفاض من الخير على المحتاجين من عباده، والرحيم بما غفر في العقبى وجاد بالفضل والإنعام على العباد، أو الرحمن الذي إذا سُئل أعطى، والرحيم الذي إذا لم يُسأل يغضب، أو الرحمن بإزالة الكروب والعيوب، الرحيم بإنارة القلوب بالغيوب، أو الرحمن لتعليم القرآن، والرحيم للمؤمنين بتشريف التسليم والتكريم، قال تعالى: ? الرَّحْمَنُ ?1? عَلَّمَ الْقُرْآنَ ? ... [الرحمن: 1 ، 2]، وقال: ? سَلَامٌ قَوْلاً مِن رَّبٍّ رَّحِيمٍ ? ... [يس:58]، أو الرحمن الرحيم بكل ذلك وهو الأولى.
والرحمن عند الأكثر أبلغ من الرحيم، ولذا اشتهر في الدعاء( يا رحمن الدنيا ورحيم الآخرة)، ومعلوم أن رحمته تعالى في الدنيا شاملة للمؤمن والكافر، والصالح والطالح، وذلك بإيصال الرزق، وخلق الصحة، ودفع الأسقام والمصائب، بخلاف رحمته في الآخرة فإنها مختصة بالمؤمنين، وفي الأثر عن عيسى ـ عليه السلام ـ أنه قال: " (الرحمن رحمن الدنيا والآخرة والرحيم رحيم الآخرة) " .
وقد اختص الله تعالى باسم الرحمن فلم يسم به غيره جاهلية وإسلاماً كما اختص بلفظ الجلالة.
القدوس: المنزه عن سمات النقص والعيوب وموجبات الحدوث أو من تقدست عن الحاجات ذاته وتنزهت عن الآفات صفاته، أو من تقدس عن مكان يحويه وعن زمان يبليه مشتق من القدس وهو الطهارة والنزاهة؛ ولذا يقال [ البيت المقدس ] أي المكان الذي يتطهر فيه من الذنوب، وقيل لأمير الوحي جبريل ـ عليه السلام ـ روح القدس لطهارته من العيوب في تبليغ الوحي إلى الرسل ـ عليهم السلام ـ وقال تعالى حكاية عن الملائكة ? وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ? ... [البقرة:30] أي نطهر أنفسنا لك.
المؤمن: المصدق نفسه وكتبه ورسله فيما بلغوه عنه إما بالقول وإما بخلق المعجزات، مأخوذ من الإيمان وهو التصديق، أو المؤَمِن عباده من المخاوف بخلق الطمأنينة في قلوبهم، أو بإخبارهم أن لا خوف عليهم.
المهيمن: الرقيب الحافظ لكل شيء، المبالغ في المراقبة والحفظ، أو الشاهد على خلقه بما يصدر منهم من أقوال وأعمال، فهو العالم الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأكوان،وهو الرقيب عليهم لقوله: ? ثُمَّ اللّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ ? ... [يونس:46]، أو من اجتمع فيه العلم بجميع الأشياء، والقدرة التامة على تحصيل جميع المصالح، والمواظبة على تحصيلها، ولن يجتمع ذلك على الكمال إلا لله تعالى وحده، أو الذي يعلم السر والنجوى، ويسمع الشكر والشكوى، ويدفع الضر والبلوى، قال تعالى: ? الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ ? ... [الحشر:23].
الجبار: الذي يقهر عباده على كل ما يريد ويقسرهم عليهم، أو المنيع الذي لا يُنال، يقال للنخلة إذا طالت وقصرت الأيدي عن أن تنال أعلاها نخلة جبارة، أو المصلح أمور خلقه، المتصرف فيهم بما فيه إصلاحهم، والله تعالى مصلح لأمور الخلق كلهم. قال تعالى: ? الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ ?.
المتكبر: البليغ الكبرياء والعظمة، أو الذي يكبر عما يوجب نقصاناً أو حاجة، أو المتعالي عن صفات المخلوقات بذاته وصفاته العلية، أو الملك الذي لا يزول سلطانه، والعظيم الذي لا يجري في ملكه إلا ما يريد. قال تعالى: ? هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ? ... [الحشر:23].(/1)
وقال تعالى: ? وَلَهُ الْكِبْرِيَاء فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ? ... [الجاثية:37].
وقال تعالى: ? فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ ? ... [غافر:12].
الخالق: المقدر للأشياء المكون لها على مقدار معين بقدرته وإرادته وعلمه وحكمته، قال تعالى: ? فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ? ... [المؤمنون:14] أي المقدرين، ? أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ ? ... [الأعراف:54]. فالخلق هو التقدير المستقيم، والأمر هو قوله تعالى: ? كُنْ فَيَكُونُ ? ... [يس:82]، أو الخالق المبدع للأشياء الموجد لها من غير أصل ولا احتذاء، قال تعالى: ? إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ? ... [القمر:49]، أي أبدعناه وأوجدناه بقدر:? وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ? ... [الواقعة:60]، ? وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً ? ... [الفرقان:2]، ? هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم ? ... [فاطر:3]، أي موجد ومبدع غيره تعالى يرزقكم؟ ? كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ ? ... [الأنبياء: 104]، أي كما أبدعنا وأوجدنا الخلق أولاً نعيده ثانياً بقدرتنا، ? قُلِ اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ? ... [ الرعد: 16] أي الموجد المبدع لكل شيء أو المقدر لكل شيء بعلمه وقدرته وإرادته وحكمته.
البارئ: الموجد للأشياء بريئة من التفاوت وعدم تناسب الأجزاء، مأخوذ من البرء وأصله خلوص الشيء عن غيره، فهو أخص من الخالق، أو المقدر لها بمقاديرها بحكمته، قال تعالى: ? فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ ? ... [البقرة:54]، أو المميز الأشياء بعضها عن بعض بالأشكال المختلفة.
المصور: الذي صور جميع الموجودات ورتبها على اختلافها، وكثرتها وتنوعها، فأعطى كل شيء منها صورة خاصة وهيئة مفردة يتميز بها عن غيره، أو المبدع لصورها وكيفيتها كما أراد قال تعالى: ? خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ? ... [الأعراف:11]، ? وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ ? ... [غافر:64]، فأعطاكم الصور الحسنة التي أرادها لكم.
فالله تعالى يخلق الأشياء ويقدر المقادير، ويبرئها ويصورها على حسب الحكمة والمصلحة جل جلاله، قال تعالى: ? هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى ? ... [الحشر:24].
الغفار: الذي أسبل الستر على الذنوب في الدنيا، وتجاوز عن عقوبتها في الآخرة، من الغفر وهولغة بمعنى الستر، ويطلق مجازاً على العفو والصفح، قال تعالى: ? وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى ? ... [طه: 82]، ? اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً ? ... [نوح:10]، ? رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ ? ... [ص: 66].
وهو تعالى غافر وغفور، قال تعالى: ? غَافِرِ الذَّنبِ ? ... [غافر:3]، ? هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ? ... [يوسف:98]، ? إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ ? ... [فاطر:34]، ? إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ? ... [الزمر:53].
والغفور أبلغ من الغافر، والغفار أبلغ من الغفور؛ لأنه وضع للتكثير ومعناه أنه يغفر الذنب أبداً، والله ذو مغفرة، قال تعالى: ? وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ ? ... [الرعد:6].
القهار: الذي طلحت عند صولته صولة المخلوقين، وبادت عند سطوته قوى جميع الخلائق أجمعين، أو الذي يقصم ظهور الجبابرة فيقهرهم بالإذلال والإهانة والنكبات والإهلاك، والقهار من القهر وهو الغلبة وصرف الشيء عما طبع عليه بالقسر.
قال تعالى: ? وَبَرَزُواْ للّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ? ... [إبراهيم:48]، ? وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ? ... [ص: 65]، ? أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ? ... [يوسف:39]، ? لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ? ... [غافر:61]، والقهار مبالغة في القاهر، وهو تعالى القاهر والغالب على أمره، قال تعالى: ? وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ ? ... [الأنعام:18]، وقال: ? وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ? ... [يوسف:21].(/2)
الرزاق: المتولي خلق الأرزاق، المتفضل بإيصالها إلى العباد، والمسبب لها بالأسباب، قال تعالى: ? إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ? ... [الذاريات:58]، وهو مبالغة في حد الرزق، قال تعالى: ? وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ? ... [الجمعة:11]، ? وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ? ... [الحج:85]، ? اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ ? ... [الشورى:19]، ? هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ? ... [فاطر:3]، ? إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ? ... [العنكبوت:17].
ورزق الله تعالى لعباده رزقان: رزق الأبدان بالأطعمة والأكسية ونحوها، ورزق الأرواح بالعلوم والمعارف والإدراكات الصحيحة والإلهامات الصادقة، وهو أشرف الرازقين فإن ثمرته حياة الأبد في سعادة، وثمرة رزق الظاهر قوة البدن إلى مدة قريبة الأمر، وقد تكون في شقاوة.
الفتاح: الحاكم بين الخلائق ، وهومن الفتح بمعنى الحكم مبالغة فى الفتح، والله تعالى قد ميز الحق من الباطل، فأوضح الحق وبيّنه وقضى به، ودحض الباطل وأظهره وحكم ببطلانه، أو الذي يفتح خزائن الرحمة والخيرات، والنصرة والظفر، والمعارف على عباده، ويسهل لهم ما كان صعباً، وييسر ما كان عسيراً من أمور الدنيا والدين، قال تعالى: ? رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ ? ... [الأعراف:89]، ? مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ? ... [فاطر:2]، ? قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ ? ... [سبأ : 26].
اللطيف: هو الذي لطفت أفعاله وحسنت، أو الذي لا تدركه الحواس أو العليم بخفيات الأمور ودقائقها، او الذي يعلم دقائق المصالح وغوامضها ثم يسلك في إيصالها لمستحقيها سبيل الرفق دون العنف، أو البر بعباده الذي يلطف بهم من حيث لا يعلمون، ويهيئ مصالحهم من حيث لا يحتسبون، قال الراغب: قد يعبر باللطافة على تعاطي الأمور الدقيقة، وقد يعبر بها عما لا تدركه الحاسة، وقد يكون لرفقه بالعباد في هدايتهم، قال تعالى: ? اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ العَزِيزُ ? ... [الشورى:19]، وقال تعالى على لسان يوسف ـ عليه السلام ـ تبياناً للطفه ورفقه به بعد أن ألقاه إخوته في الجب: ? إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ ? ... [يوسف:100] بعد قوله: ? وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي ?... [يوسف:100].
ومنه قوله تعالى: ? أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ? ... [الحج:63]، وقال تعالى: ? لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ? ... [الأنعام:103].
الشكور: المثني على المصطفين من عباده، أو الذي يعطي الثواب الجزيل على العمل القليل فيقبل اليسير من الطاعات ويعطي الكثير من الدرجات، والشكور مبالغة من الشاكر، وهو من الشكر، وأصله الزيادة، يقال: شكير الشجرة لما نبت في أصلها من القضبان الصغار، وشَكَرتِ الأرضُ إذا كثر نباتها، وناقة شكيرة إذا كانت ممتلئة الضرع من اللبن.
وقال الراغب: " الشكر من العباد ثلاثة أضرب:- شكر القلب: وهو تصور النعمة وإدراكها، وشكر اللسان: وهو الثناء على المنعم، وشكر الجوارح: وهو مكافأة المنعم بقدر استحقاقه كما قال تعالى: ? اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً ? ... [سبأ:13]، وأما في حقه تعالى فمعناه إنعامه تعالى على عباده الطائعين ومثوبته لهم على ما أدوا من العبادة والطاعة ".
وإذا شكر العبد ربه على نعمه، زاده نعماً وأفضل عليه، كما قال تعالى: ? لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ ? ... [إبراهيم:7] وذلك من مزيد الفضل والعطاء، ولا شكورٌفي الحقيقة إلا الله تعالى الذي يعطيك مع استغنائه عنك وأنت منكر مع افتقارك إليه.
قال تعالى: ? إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ ? ... [الشورى:23]، ? إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ ? ... [فاطر:34]، ? وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ ? ... [التغابن:17].(/3)
والله تعالى شاكر قال تعالى: ? وَكَانَ اللّهُ شَاكِراً عَلِيماً ? ... [النساء:147]، وهذا الشكر فضل منه تعالى ونعمة، فهو يعطي عباده ويجزل العطاء مع استغنائه عنهم، ويشكرهم على قيامهم بحقه وشكر نعمائه مع افتقارهم إليه قال تعالى: ? وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ ? ... [آل عمران : 145].
الكبير: الذي كبر وعلا، في ذاته وصفاته وأفعاله عن مشابهة مخلوقاته، أو الذي فاق مدح المادحين ووصف الواصفين، فهو أكمل الموجودات وأشرفها، أو ذو الكبرياء والعلو والعظمة والرفعة والتنزه عن أوهام الخلق ومداركهم، فله تعالى كبرياء الذات والصفات والأفعال.
الحفيظ: البالغ الغاية في الحفظ، لما يريد حفظه، مبالغة في حافظ من الحفظ، بمعنى ضد السهو أو بمعنى الحراسة، فهو تعالى حافظ السماوات والأرض، قال تعالى: ? إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا ? ... [فاطر:41]، ? وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ? ... [البقرة:255]، لا يثقله ولا يشق عليه، وحافظ كتابه من التحريف والتبديل والتغير، قال تعالى: ? إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ? ... [الحجر:9]، وحفيظ على كل شيء، قال تعالى: ? إِنَّ رَبِّي عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ ? ... [هود:57]، ? وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ ? ... [سبأ: 21]، وحفيظ على أعمال خلقه ومحصيها عليهم للحساب والجزاء، قال تعالى: ? وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَولِيَاء اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ ? ... [الشورى:6].
المقيت: المتكفل بأرزاق خلقه وإعطائهم أقواتهم، أو الحفيظ، أو خالق الأقوات، أو المقتدر من قولهم: قاته يقوته قوتاً، وأطعمه قَوَّتَه وأقاته يُقيته، جعل له ما يقوته قال تعالى: ? وَكَانَ اللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتاً ? ... [النساء: 85]، وفي الحديث: ( كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت أو يقيت ).
الحسيب: الكافي، تقول العرب: نزلت بفلان، فأكرمني وأحسبني، أي أعطاني ما كفاني حتى قلت له: حسبي أي كافي، ومنه قوله تعالى: ? يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ? ... [الأنفال:64]، قال ابن عباس: " أي كافيك الله وكافيهم، وكل كفاية إنما هي من الله تعالى، أو الحسيب: بمعنى المحاسب، كالنديم بمعنى المنادم، ثم يعبر به عن الكافئ بالحساب قال تعالى: ? وَكَفَى بِاللّهِ حَسِيباً ? ... [النساء:6] أي محاسباً لهم على أعمالهم ومكافئاً لهم عليها: ? إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً ? ... [النساء: 86].
ومحاسبة الله تعالى عباده يوم القيامة، تذكيرهم بما عملوا في الدنيا من الحسنات والسيئات، وتعريفهم جزاءها من المثوبات و العقوبات، قال تعالى: ? يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً ? ... [آل عمران:30]، ? وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً ? ... [الكهف:49].
الكريم: هو الذي لا يضيع من توسل إليه، ولا يترك من التجأ إليه، وإذا أضيف الكرم إلى الله تعالى فهو اسم لكمال إحسانه وإنعامه، يبتدئ بالنعمة من غير استيجاب، ويتبرع بالإحسان من غير سؤال، ويعفو عن السيئات، ويغفر الذنوب، ويخفي العيوب، ويكافئ بالثواب الجزيل على العمل القليل، وقد جعل كل ما في الأرض لمنفعة عباده، فقال: ? خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ? ... [البقرة:29]، وأعد للمتقين في الآخرة جنة عرضها كعرض السماوات والأرض وسخر للإنسان كل ما في السماوات والأرضين، فقال تعالى: ? وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ ? ... [الجاثية:13]، وهو تعالى أكرم الأكرمين، قال تعالى: ? اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ? ... [العلق:3]،وهو الكريم المنعم المتفضل، قال تعالى: ? يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ?6? الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ ?7? فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ ? ... [الانفطار:6 - 8]، ? فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ? ... [النمل:40].(/4)
الرقيب: الحفيظ الذي لا يغفل، أو الحاضر الذي لا يغيب، أو العليم الذي لا يعزب عنه شيء من أحوال خلقه، يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد، ويعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها، وما ينزل من السماء وما يعرج فيها، ويعلم ما في البر والبحر، ويعلم ما في الصدور، ويعلم أقوالهم وأحوالهم، وهو بكل شيء عليم، قال تعالى: ? إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً ? ... [النساء:1]، ? فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ? ... [المائدة:117]، ? وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيباً ? ... [الأحزاب:52]. والعبد إذا وصف بالرقيب فمعناه الموكل بحفظ الأشياء المترصد لها، المحترز عن الغفلة عنها، يقال: رقبت الشيء أرقبه رقبة إذا راعيته وحفظته.
الواسع: الذي فضله شامل، ونواله كامل، أو المتسع علمه فلا يجهل، والمحيطة قدرته فلا يعجز، والغزير فضله فلا يبخل، قال تعالى: ? وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ ? ... [البقرة:255]، أي وسع علمه أو ملكه الكائنات، قال تعالى: ? وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ? ... [البقرة:261]، وهو عبارة عن سعة علمه وقدرته وأفضاله ورحمته، قال تعالى: ? وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً ? ... [الأنعام:80]، ? وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ? ... [الأعراف:156].
الودود: من الود وهو الحب، المحب للطائعين من عباده، المتحبب إليهم بإنعامه وإحسانه، ومحبة الله لعباده هي الإنعام عليهم، والإحسان إليهم، والرضا عنهم، والثناء عليهم، والعفو عنهم، والغفران لذنوبهم. أو المتحبب إلى أوليائه بمعرفته، وإلى المذنبين بعفوه ورحمته، وإلى عباده برزقه وكفايته. أو المودود في قلوب أوليائه لكثرة وصول إنعامه وإحسانه إليهم، قال تعالى: ? إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ ? ... [هود:90]، ? وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ ? ... [البروج:14].
الوكيل: الموكل إليه أمور العباد ومصالحهم، المتصرف فيها كما يشاء، وقد وكل العباد إلى الله تعالى أمورهم، واعتمدوا على إحسانه لعجزهم عن تحصيل مهماتهم، وقدرته تعالى عليها: ? وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً ? ... [النساء:81]، ? وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ? ... [الطلاق:3] وكافيه، وقال تعالى: ? وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ? ... [آل عمران: 173]، ? وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ? ... [الزمر:62]، ? وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ ? ... [الفرقان:58]، وقد قيل: الله الوكيل ابتَدَاك بكفايته، ثم تولاك بحسن رعايته، ثم ختم لك بجميل ولايته.
المتين: مشتق من المتانة، وهى شدة الشىء، واستحكامه وصلابته، وهو مبالغة فى معنى القوة،شديد القوة، قال تعالى: ? إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ? ... [ الذاريات:58].
الصمد: المقصود في الحوائج على الدوام لِعِظَمِ قدرته وكمالها. من صَمَد إليه إذا قصده، فهو تعالى السيد المصمود إليه، المقصود في جميع الشؤون، وعن ابن مسعود: (الصمد هو السيد الذي عَظُم سؤدده). وعن السَّدي : ( هو المقصود إليه في الرغائب المستغاث به عند المصائب). وعن الحسين بن الفضل: (هو الذي يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه). وعن ابن عباس: ( هو الكبير الذي ليس فوقه أحد). وعن أبي هريرة: (هو الذي يحتاج إليه كل أحد وهو مستغن عن كل أحد). وقيل: (هو الذي ترفع إليه الحاجات، وتطلب منه الخيرات) أو هو الذي ليس فوقه أحد، أو الباقي بعد خلقه، أو الذي يَغلب ولا يُغلب، أو المقدَّس عن الآفات، المنزه عن المخالفات، أو الأول بلا ابتداء، والآخر بلا انتهاء، قال تعالى: ? اللَّهُ الصَّمَدُ ? ... [الإخلاص:2].
التواب: الذي يقبل التوبة ويعفو عن السيئات كثيراً، قال تعالى: ? وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ? ... [الشورى:2]، ? إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ? ... [البقرة:128]، ? وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ? ... [البقرة:160]، ? وَأَنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ? ... [التواب:104].
والتواب: مبالغة في التائب من التوبة، بمعنى العودة والرجوع، يقال: تاب أي رجع، فمعنى كونه تعالى توابا،ً كونه كثير العودة بأصناف إحسانه على عباده، وذلك بأن يوفقهم بعد الخذلان، ويعطيهم بعد الحرمان، ويخفف عنهم بعض التشديد، ويعفو عنهم بعد الوعيد، ويكشف عنهم أنواع البلاء، ويفيض عليهم أنواع الآلاء، فهو تعالى ناسخ المكروه بالمحبوب وقابل التوبة من الذنوب، وكاشف الضر عن المكروب.(/5)
ومعنى التوبة في حق العبد رجوعه إلى الندم والتأسف والتحسر، وإلى العبودية والطاعة والإنابة إلى الله، وطلب العفو والغفران، قال تعالى: ? وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ? ... [النور:31]، ? فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ?39? أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ? ... [المائدة:39 ، 40].
العفوّ: ذو العفو، وهو ترك المؤاخذة على الذنب والتجافي عنه، أو هو إزالة الذنوب بالكلية ومحوها من ديوان الكرام الكاتبين، والعفُوّ: من العفو بمعنى الإزالة والمحو، يقال عَفَتِ الديار إذا دَرَسَتْ ذهبت آثارها، فالله تعالى بعفوه يمحو الذنوب وآثارها، والعفو أبلغ من المغفرة، وهي مشتقة من الغفر بمعنى الستر، والمحو أبلغ من الستر. قال تعالى: ? إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ? ... [الحج:60]، ? وَكَانَ اللّهُ عَفُوّاً غَفُوراً ? ... [النساء:99].
الرؤوف: ذو الرأفة والرحمة، أو هو المتعطف على المذنبين بالتوبة وعلى أوليائه بالعصمة، قال تعالى: ? وَاللّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ ? ... [آل عمران:30]، ? وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ? ... [الحديد:9]،? رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ? ... [الحشر:10].
النور: الظاهر بنفسه المظهر لغيره، أو المظهر لكل ما أخرجه إلى الوجود، وسمى الله نفسه نوراً من حيث أنه هو هذا النور، أو المدبر أو المنزَّه عن كل عيب، يقال: امرأة نُوار، أي بريئة من الريبة بالفحشاء، أو المنوِّر للأكوان قال تعالى: ? اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ? ... [النور:35]، ويطلق النور على الحق، كما تطلق الظلمة على الباطل ويشير إليه قوله تعالى: ? اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ ? ... [البقرة:257]، أي من أنواع الباطل إلى الحق، والمراد بالحق الذي فُسِّر به النور في هذه الآية، ما يقابل الباطل وهو يتناول التوحيد والشرائع، وما دل عليه دليل عقلي أو سمعي، وقيل: الهدى، وقيل العلوم والمعارف التي يفيضها على قلب المؤمن، وقيل غير ذلك في معنى النور في هذه الآية، وقد قال تعالى: ? وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا ? ... [الزمر:69]، أي بعدله ونصبه موازين قسطه وحكمه بالحق بين عباده، وقال: ? أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ ? ... [الزمر:22]، أي على بصيرة وهدى لا كمن أبى الإسلام فطبع على قلبه فقسا وضل: ? فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ? ... [الزمر:22].(/6)
من معاني الصيام
غير خاف على أحد أن الله عز وجل لم يشرع العبادة ويوجبها على عباده لحاجته إليها، فهو الغني سبحانه، وإنما شرعها لحكم ومعان عظيمة ، ومقاصد جليلة, تعود إلى نفع العبد في دينه ودنياه . وأول هذه المعاني والتي تشترك فيها جميع العبادات , أن الصوم فيه تربية على العبودية والاستسلام لله جل وعلا , فعندما تغرب الشمس يأكل الصائم ويشرب امتثالا لأمر الله , وإذا طلع الفجر يمسك عن الأكل والشرب وسائر المفطرات , فهو يتعبد الله عز وجل في صيامه وفطره , فإذا أمره ربه عز وجل بالأكل في وقت معين أكل , وإذا أمره بضد ذلك في وقت آخر امتثل، فالقضية إذا ليست قضية أذواق وأمزجة , وإنما هي قضية طاعة واستسلام وانقياد لأمر الله . ولا يعني ذلك خلو هذه الأوامر عن الحكمة، وإنما المراد أن قدم الإسلام لا تثبت إلا على ظهر الاستسلام لله سبحانه . ثم لا مانع بعد ذلك أن يبحث المسلم عن حكمة الخالق الكامنة وراء أوامره ونواهيه وهو ما نبحثه في هذا المقال بخصوص الصيام .إن الصوم يربي في النفس مراقبة الله عز وجل, وإخلاص العمل له , والبعد عن الرياء والسمعة , فهي عبادة بين العبد وبين ربه جل وعلا , ولهذا جاء أن الصوم عبادة السر , فإن بإمكان الإنسان ألا يصوم , وأن يتناول أي مفطر من المفطرات من غير أن يشعر به أحد من الناس, بل إنه بمجرد تغيير النية وقطعها يفطر ولولم يتناول شيئا من المفطرات طوال يومه, فامتناعه عن ذلك كله على الرغم من أنه يستطيع الوصول إليه خفية, دليل على استشعاره اطلاع الله على سرائره وخفاياه, ومراقبته له, ولأجل هذا المعنى اختص الله جل وعلا عبادة الصوم من بين سائر العبادات , ولم يجعل لها جزاء محددا , قال صلى الله عليه وسلم : ( كل عمل ابن آدم يضاعف , الحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف , قال الله عز وجل : إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به , يدع شهوته وطعامه من أجلي ) أخرجه مسلم . فقوله جل وعلا ( من أجلي ) تأكيد لهذا المعنى العظيم . والصوم يربي العبد على التطلع إلى الدار الآخرة, وانتظار ما عند الله عز وجل , حيث يتخلى الصائم عن بعض شهوات النفس ومحبوباتها , تطلعا إلى ما عند الله عز وجل من الأجر والثواب , وفي ذلك توطين للنفس على الإيمان بالآخرة , والتعلق بها , والترفع عن عاجل الملاذ الدنيوية , التي تقود إلى التثاقل إلى الأرض والإخلاد إليها . والصوم يربي النفس على الصبر, وقوة الإرادة والعزيمة , فإن الصبر لا يتجلى في شيء من العبادات كما يتجلى في الصوم , فإن المقصود من الصوم إنما هو حبس النفس عن الشهوات , وفطامها عن المألوفات , ولهذا كان نصف الصبر , والله تعالى يقول : {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} ( الزمر :10) .وفي الصوم كذلك تربية للمجتمع ، وتنمية للشعور بالوحدة والتكافل بين المسلمين , فالصائم حين يرى الناس من حوله صياما كلهم , فإنه يشعر بالترابط والتلاحم مع هذا المجتمع , فالكل صائم , والكل يتذوق لذة بالجوع في سبيل الله عز وجل. والكل يمسك ويفطر دون تفريق أو امتياز , لا يستثنى من ذلك أحد لغناه أو لجاهه أو منصبه , فأكرمهم عند الله أتقاهم , وأفضلهم أزكاهم . فما أعظمها من صورة معبرة عن وحدة المجتمع في ظل العبودية لله جل وعلا . والصوم يضيّق مجاري الدم , ويخمد نيران الشهوات , ويقلل فرص إغواء الشيطان لابن آدم , فإن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم , ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح : ( الصوم جنة ) ، أي وقاية يتقي به العبد الشهوات والمعاصي , ولهذا أمر صلى الله عليه وسلم من اشتدت عليه شهوة النكاح مع عدم قدرته عليه بالصيام ، وجعله وجاء لهذه الشهوة ومخففا من حدتها . ومن معاني الصوم أن يتذكر الصائم بصومه الجائعين والمحتاجين , فيتألم لآلامهم , ويشعر بمعاناتهم , فالذي لا يحس بالجوع والعطش قد لا يشعر بمعاناة غيره من أهل الفقر والحاجة, وإذا كان أحدنا يجد ما يفطر عليه من الطعام والشراب , فغيرنا قد لا يجد شيئا من ذلك . هذه بعض معاني تلك العبادة العظيمة , وقد جمعها الله عز وجل في قوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } ( البقرة : 183) فالحكمة التي شرع الصوم من أجلها هي تحقيق تقوى الله عز وجل, وهي ثمرة الصوم الشرعي ونتيجته, ومالم يكن الصوم طريقا لتحصيل هذه التقوى فقد فقد الغاية والمعنى الذي شرع لأجله , فليس المقصود من الصيام هو مجرد الامتناع عن الطعام والشراب والجماع فقط دون أي أثر لهذا الصوم على حياة الإنسان وسلوكه , ولذلك قال صلى الله عليه وسلم كما عند البخاري : ( من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه ) وقال : ( رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش ) رواه الإمام أحمد وابن ماجه بسند صحيح , قال جابر رضي الله عنه(/1)
إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمآثم , ودع أذى الجار , وليكن عليك وقار وسكينة يوم صومك , ولا تجعل يوم صومك يوم فطرك سواء . فينبغي للمسلم أن يستحضر هذه المعاني وهو يؤدي تلك العبادة العظيمة , حتى لا تخرج العبادة عن مقصودها , وحتى لا تتحول إلى عادة يؤديها مسايرة للبيئة والمجتمع , نسأل الله أن يوفقنا لحسن عبادته , وأن يتقبل منا الصيام والقيام إنه جواد كريم ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم والحمد لله رب العالمين . (الشبكة الإسلامية)(/2)
من معركة الشعر الجاهلى بين الرافعى وطه حسين
اتهام الرافعى لطه حسين فى دينه
د. إبراهيم عوض
لمصطفى صادق الرافعى الكاتب والشاعر المعروف كتاب بعنوان "تحت راية القرآن" كان فى الأصل مقالات فى جريدة "كوكب الشرق" ردَّ فيها على ما قاله طه حسين فى كتابه "فى الشعر الجاهلى" الصادر عام 1926م والذى سُحِب من الأسواق إثر هذه المقالات الرافعية التى فضحت ما فيه، ثم أعيد طَرْحه العام الذى يليه بعنوان "فى الأدب الجاهلى" بعد أن حُذِف منه ما يسىء للقرآن الكريم وللإسلام وأضيف إليه عدة فصول جديدة. وقد تناول الرافعى فى هذه المقالات طه حسين وكتابه المذكور من عدة جوانب، بيد أننى سأقتصر هنا على مناقشة ما قاله فى دين الرجل، وهو نفس الموضوع الذى أثاره الكتّاب والمعلقون فى جريدة "شباب مصر" فى الأسابيع الأخيرة، وذلك بغية مزيد من التوضيح لبعض ما قالوه فى هذا الصدد. وأود أن أنبه إلى أن ما سأكتبه هنا مأخوذ من كتابى "معركة الشعر الجاهلى بين الرافعى وطه حسين" الصادر فى عام 1987م. وهذا نص ما قلته هناك بدءا من الفقرة الثالثة من الفصل الثانى من الكتاب المذكور (ص/ 15- 26):
"لن نكتفى هنا بترديد رأى الرافعى فى طه حسين بل سنعرضه على النصوص ونقلّبه على كل وجوهه. وأريد أن أصارح القارئ منذ الآن بأن العلم لا يعرف تلك الحساسية التى تصيب بعض الناس حينما يرون من ينتقد هؤلاء الذين يعظّمهم، وتدفعهم إلى القول بأننا ينبغى ألا نتعرض لإيمان هذا الشخص أو ذاك، على أساس أن هذا تدسُّس إلى القلوب نَهَى عنه الإسلام. إن هذا الاعتراض يصح لو أن الباحث يرجم فى هذه القضية بالغيب، لكن إذا كانت هناك نصوص مقطوع بنسبتها إلى قائلها لا يمكن تأويلها فمعنى ذلك أن للباحث الحق فى دراسة الأمر. وقد سبق أن تناول كثير من الدارسين عقائد أمثال يزيد بن الوليد وابن المقفَّع والمتنبِّى والمَعَرّى والحاكم بأمر الله، فلم نسمع من ينكر عليهم، فلِمَ الكيل بمكيالين إذن؟ أيا ما يكن الأمر فإننا هنا بصدد تناول رأى الرافعى فى عقيدة طه حسين، وهذا الرأى جزء من تراثنا الفكرى والأدبى لا أظننا نكون أمناء لو أهلنا التراب عليه. كذلك فإننا لا ندَّعِى أن ما سنصل إليه من نتائج هو كلام لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فلا يقول هذا إلا جاهل أو مغرور، وإنما هو اجتهاد علمى قد يصحّ وقد يخطئ. وإذا كان طه حسين قد رأى أن من العلم أن يقول ما قال فى القرآن الكريم، فلماذا نعيب الرافعى إذا رأى فى موقف طه حسين هذا رأيا؟
إن الرافعى يرى أن طه حسين أداة أوربية استعمارية (تحت راية القرآن/ ط3/ مطبعة الاستقامة/ القاهرة/ 1953م/ 186)، غرضها توهين عُرَى الإسلام (ص/ 199)، ويأخذ عليه أنه لم يصلّ على النبى مرة واحدة فى كتابه ولو بحرف "ص" كما يفعل نصارى العرب (ص/ 207)، ويسميه: "المبشر طه حسين" مرة، و"المستر حسين" أخرى (ص/ 122، 177)، ويشبّه الجامعة (فى مجال العلم) بمستشفيات المبشِّرين (فى مجال الطب) (ص/ 145)، ويكنّيه "أبا مرجريت" و"أبا ألبرت" (ص/ 200، 344، 373)، ويشير إلى دور زوجته فى حياته وتأثيرها عليه (ص/ 349)، ويتهمه بالزندقة (ص/ 129- 130)، وبالإلحاد (ص/ 214، 216، 218) ، ويورد أيضا اتهام الشيخ مفتاح له بأنه كافر وتحديه له أن يقاضيه (ص/ 242- 243). وهو من ثم يدعو إلى إبعاده من الجامعة وحماية النشء من أفكاره (ص/ 188)، ويحرض عليه وزارة المعارف لأنه، كما يقول، يناقض بآرائه ما يقال للطلبة فى كتبها ومدارسها، والمفروض فى نظره ألا يكون هناك تناقض، وإلا فعليها أن تعلن صحة آرائه وتتابعه عليها (ص/ 171).
وحين يدافع أحمد لطفى السيد عن طه حسين على أساس حرية الفكر يردّ الرافعى بأنه لا ينازعه فى معانى حرية الرأى وأشباهها، ولكن النزاع فى الجدل والكفر (ص/ 314، وإن كان ظاهر كلامه قد يوحى بغير هذا). ومن هنا نراه يهاجم حرية الفكر إذا أدت إلى الكفر وتقطيع الأرحام (ص/ 306)، وإن عاد فسلَّم للجامعة بحرية الكفر لا الفكر فقط (يأسا منه، فيما هو واضح، أن يُصِيخ المسؤولون فى الجامعة إليه فى هذه النقطة)، وركز على "الغلطات التاريخية والأدبية التى وقع فيها أستاذها" (ص/ 273).
واتهام الرافعى لطه حسين بالكفر قائم على أساس أن هذا الأخير يرى أن القرآن تأليف لا وحى، وأن النبى عليه الصلاة والسلام رجلُ سياسةٍ لا رسول، وأنه يهاجم الصحابة (ص / 205)، وأنه يرفض الحديث الصحيح (ص/ 194، 205). وفى رأى الرافعى أن طه حسين يهاجم الأدب العربى "لأنه أساس فى حضارة القرآن، ولأن القرآن أساس فى الدين، ولأن الدين ينافى مذهبهم فى الحضارة الغربية التى يعملون لها جهد طاقتهم" (ص/ 306).(/1)
والرافعى، رحمه الله، لا يلقى اتهاماته بغير دليل، بل يسوق ما قاله طه حسين من أننا "يجب حين نستقبل البحث عن الأدب العربى وتاريخه أن ننسى قوميتنا وكل مشخصاتها، وأن ننسى ديننا وكل ما يتصل به" (ص/ 140- 141، والنص موجود فى ص 12 من كتاب "فى الشعر الجاهلى"/ مطبعة دار الكتب/ 1926م)، وقوله: "للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل، وللقرآن أن يحدثنا عنهما أيضا، ولكن ورود هذين الاسمين فى التوراة والقرآن لا يكفى لإثبات وجودهما التاريخى، فضلا عن إثبات هذه القصة التى تحدثنا بهجرة إسماعيل وإبراهيم إلى مكة... ونحن مضطرون إلى أن نرى فى هذه القصة نوعا من الحيلة فى إثبات الصلة بين اليهود والعرب من جهة، وبين الإسلام واليهودية، والتوراة والقرآن من جهة أخرى" (تحت راية القرآن/ 145- 146، وفى الشعر الجاهلى/ 26)، وما قاله أيضا من أن قريشا "كانت فى هذا العصر (يقصد عصر ما قبل الإسلام) ناهضة نهضة مادية تجارية، ونهضة دينية وثنية. وهى بحكم هاتين النهضتين كانت تحاول أن توجد فى البلاد وحدة سياسية ودينية مستقلة، وأنه "إذا كان هذا حقا، ونحن نعتقد أنه حق، فمن المعقول أن تبحث هذه النهضة الجديدة لنفسها عن أصل تاريخى قديم يتصل بالأصول التاريخية الماجدة التى تتحدث عنها الأساطير. وإذن فليس ما يمنع قريشا من أن تتقبل هذه "الأسطورة" التى تفيد أن الكعبة من تأسيس إسماعيل وإبراهيم كما قبلت روما قبل ذلك، ولأسباب مشابهة، "أسطورة" أخرى صنعها اليونان تثبت أن روما متصلة بإينياس بن بريام صاحب طروادة" (تحت راية القرآن/ 147، وفى الشعر الجاهلى/ 28- 29)، وكذلك قوله إن القرآن "يَذْكُر التوراة والإنجيل ويجادل فيهما اليهود والنصارى، وهو يذكر غير التوراة والإنجيل شيئا آخر هو صحف إبراهيم. ويذكر غير دين اليهود والنصارى دينا آخر هو ملة إبراهيم، هو هذه الحنيفية التى لم نستطع إلى الآن أن نتبين معناها الصحيح. وإذا كان اليهود قد استأثروا بدينهم وتأويله، وكان النصارى قد استأثروا بدينهم وتأويله، ولم يكن أحد قد احتكر ملة إبراهيم ولا زعم لنفسه الانفراد بتأويلها فقد أخذ المسلمون يردّون الإسلام فى خلاصته إلى دين إبراهيم (تحت راية القرآن/ 148، وفى الشعر الجاهلى/ 81)، وقوله أيضا: وليس يعنينى هنا أن يكون القرآن قد استأثر بشعر أمية بن أبى الصلت أو لا يكون" (تحت راية القرآن/ 141- 150، وفى الشعر الجاهلى/ 83)، وكذلك قوله فى الرد على المستشرق كليمان هوار وزَعْمه أن النبى قد استعان بشعر أمية بن أبى الصلت فى تأليف القرآن: "من ذا الذى يستطيع أن ينكر أن كثيرا من القصص كان معروفا بعضه عند اليهود، وبعضه عند النصارى، وبعضه عند العرب أنفسهم، وكان من اليسير أن يعرفه النبى، كما كان من اليسير أن يعرفه غير النبى. ثم كان النبى وأمية متعاصرين، فلم يكون النبى هو الذى أخذ من أمية، ولا يكون أمية هو الذى أخذ من النبى؟" (فى الشعر الجاهلى/ 85)، وهو ما يَلْمَح فيه الرافعى تعريضا من طه حسين بأن النبى هو مؤلف القرآن، وهو نفسه ما يفهمه من قوله فى تعليل مخالفته لمن يرون أن إنكار الشعر الجاهلى يسىء إلى القرآن (على أساس أن القرآن ليس فى حاجة إلى شواهد من الشعر على ألفاظه ومعانيها عند العرب): "إن أحدا لم ينكر عربية النبى فيما نعرف"، فهو يرى فى الإشارة الأخيرة أن القرآن هو كلام النبى، وقوله إنه يوجَد "نوع آخر من تأثير الدين فى انتحال (يقصد: "نحل") الشعر وإضافته إلى الجاهليين، وهو ما يتصل بتعظيم شأن النبى من ناحية أسرته ونسبه فى قريش، فلأمرٍ ما اقتنع الناس أن النبى يجب أن يكون صفوة بنى هاشم، وأن يكون بنو هاشم صفوة بنى عبد مناف، وأن يكون بنو عبد مناف صفوة مُضَر، ومضر صفوة عدنان، وعدنان صفوة العرب، والعرب صفوة الإنسانية كلها" (تحت راية القرآن/ 194، وفى الشعر الجاهلى/ 72- 73)، فالرافعى يرى أن هذا تهكم واستهزاء بالحديث الصحيح التالى: "إن الله اصطفى كنانة من وَلَدِ إسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة، واصطفى من قريش بنى هاشم، واصطفانى من بنى هاشم" (نفس المرجع والصفحة). ومثل هذا تكذيبه بوجود امرئ القيس مما يُعَدّ رفضا للحديث الصحيح الذى ورد بذكر هذا الشاعر (ص/ 197)، وقوله: "إن يزيد صورة صادقة من جده أبى سفيان فى السخط على الإسلام وما سنَّه للناس من سُنَن" (ص/ 211).(/2)
وبعد، فهذا جُلّ لا كُلّ ما رآه الرافعى رحمه الله مطعنا فى إيمان طه حسين بالإسلام وكتابه ونبيه. والحقيقة أن من الصعب تماما الدفاع عن طه حسين، اللهم إلا فى بعض النقاط الفرعية التى لا تقدم ولا تؤخر فى اتهام الرافعى له، إذ قد يمكن القول مثلا إنه حينما قال إنه لا يعنيه أن يكون القرآن قد تأثر بشعر أمية أَوْ لاَ لم يُجَوِّز الاحتمالين كما فهم الرافعى، بل قصد أن هذا ليس موضع الرد على كليمان هوار ولا أوانه، لأنه مشغول فقط ببحثه فى الشعر الجاهلى، وإن كان هذا فى الحقيقة لونا من التأويل المتعسف لكلامه. كما قد يمكن القول إن حكمه على أبى سفيان إنما هو رأى ارتآه على سبيل الاجتهاد، ومهما يكن قد أخطأ فيه فإن إحسان القول فى أبى سفيان ليس من دعائم الإسلام، أو إن طه حسين إذا كان يرفض الحديث الشريف الذى ينص على أفضلية الرسول وأسلافه فلأنه يراه غير صحيح رغم وروده فى كتب الصحاح. ثم قد يقول المجادلون إن النبى عليه الصلاة والسلام لا يضره أن يكون أسلافه أو لا يكونوا أفضل البشر...وهكذا. وقد نقبل جدلا كلامه فى عميد الأمويين، لكن هل من السهل أن تخفى علينا نبرة التهكم فى تناوله الحديث الذى يؤكد أفضلية الرسول على جميع البشر؟ وهل يليق بمسلم أن تكون هذه نظرته إلى الرجل الذى يؤمن بنبوته وما يعنيه اصطفاء الله له للقيام بهذه الرسالة العظيمة التى لا يُجْتَبَى لها إلا أفذاذ الأخيار من البشر؟
أيا ما يكن الأمر، فما القول فى مناداته بأن على من يريد دراسة الأدب العربى التجرد من دينه؟ إن هذا معناه شىء واحد هو أن الإسلام يناقض البحث العلمى، فكيف يجمع طه حسين بين الإيمان بالإسلام والإيمان بالمنهج العلمى، وهو يرى أنهما متناقضان؟ إن عليه أن يختار واحدا منهما ما دام الأمر كذلك، لأن من المستحيل، إلا على ذى عقل مضطرب أو مريض بانفصام فى شخصيته، أن يجمع بينهما.
إن طه حسين يعلن أنه، فى شكه فى الشعر الجاهلى، إنما يجرى على منهج ديكارت، فكيف إذن تجاهل أحد القوانين الفطرية التى رأى ديكارت أنها تعلو فوق كل شك، ألا وهو "قانون عدم التناقض"، الذى بمقتضاه لا يمكن أن "يكون" الشىء و"لا يكون" فى نفس الوقت، بل إما أن "يكون" فقط أو "لا يكون"؟ إن تطبيق هذا القانون على النقطة التى نحن بصدها يستلزم أن يؤمن طه حسين إما بالدين أو بالمنهج العلمى ما داما فى رأيه متعارضين (انظر مادة "Descartes"، وبالذات ص 85 من "A Dictionary of Philosophy, Pan Books, 1979" لمؤلفه Antony Flew).
أما قول طه حسين: "إن فى كل منا شخصيتين متمايزتين: إحداهما عاقلة تبحث وتنقد وتحلل وتغير اليوم ما ذهبت إليه أمس، والأخرى شاعرة تلذّ وتألم وتفرح وتحزن وترضى وتغضب فى غير نقد ولا بحث ولا تحليل، وتساؤله: ما الذى يمنع أن تكون الشخصية الأولى عالمة باحثة ناقدة، وأن تكون الثانية مؤمنة دَيِّنة مطمئنة طامحة إلى المثل الأعلى؟ ما لك لا تدع للعلم حركته وتغيره، وللدين ثباته واستقراره؟" (انظر "تحت راية القرآن"/ 349- 350) فهو مغالطات بهلوانية: فأولا إذا كان هو يعتقد أن الدين يتميز بالثبات والاستقرار فكيف يطالب باطّراحه والتجرد منه أثناء البحث؟ لقد كان الأحرى به أن يعرف أن بحث الأدب العربى لا يدخل فى نطاق الدين، ومن ثم لم تكن به حاجة (لو كان فعلا يعنى كلامه هذا) إلى دعوته المريبة تلك. وثانيا أنا لا أفهم العلاقة بين الرضا والغضب واللذة والألم والفرح والحزن وبين الإيمان. إن الإيمان هو اقتناع بعقيدة وتشريع ما، والاقتناع من شأن العقل لا من شأن المشاعر، التى كما يصورها هو نفسه لا تستقر على حال، مع أنه قال إن الدين يتميز بالثبات والاستقرار. إن الإسلام هو دين العقل لا التسليم القلبى دونما فهم أو بحث أو اقتناع، على عكس الأديان الأخرى التى يقع المؤمن بها فريسة للصراع بين عقله وعلمه وبين إيمانه وتسليمه، هذا الصراع الذى يظل يؤرقه ولو فى أعماق نفسه إذا حاول أن يكبته هناك فى تلك الأعماق المظلمة بعيدا عن وعيه، أو يدفعه فى نهاية الأمر إلى الكفر.(/3)
من هنا يرى الرافعى أن مقال طه حسين الذى اقتطف هو منه ما سبق (وكان طه حسين قد نشره فى جريدة "السياسة" تسويغا لموقفه وآرائه التى بثها فى كتابه "فى الشعر الجاهلى") إنما هو تفسير وتعليل لكفره على أساس من العلم، إذ "يريد أن يثبت فيه أنه من الممكن أن يكون مِثْلُه كافرا أشد الكفر على اعتبار أنه عالم يبحث بعقله، ثم لا يمنع ذلك أن يكون مؤمنا أقوى الإيمان فى شعوره" (المرجع السابق/ 350- 351)، كما يرى أن تسمية الشعور شخصية، والعقل شخصية أخرى، معناه أن النسيان هو أيضا شخصية، والذِّكْر شخصية، والإنسان عدة شخصيات، وأنه حين ينتقل من حالة إلى أخرى إنما ينتقل من شخصية إلى أخرى ويصبح رجلا غير الذى كان، بل يصبح كأن روحا تقمَّصته (السابق/ 351). وكذلك يرى أنه لا بد من التوفيق بين الدين والعلم فيما يختلفان عليه، وإلا كان أحدهما لغوا وعبثا (السابق/ 354)، وهو ما قلناه من قبل. لقد كان على طه حسين فى الحقيقة، بدلا من اللف والدوران، أن يحدد موقفه من الدين، وهو ما فعله فى نفس المقال الذى نحن بصدده، إذ قال: "إن العالِم ينظر إلى الدين كما ينظر إلى اللغة، وكما ينظر إلى الفقه، وكما ينظر إلى اللباس، من حيث إن هذه الأشياء كلها ظواهر اجتماعية يُحْدِثها وجود الجماعة وتتبع الجماعة فى تطورها. وإذن فالدين فى نظر العلم الحديث ظاهرة كغيره من الظواهر الاجتماعية، لم ينزل من السماء ولم يهبط به الوحى، وإنما خرج من الأرض كما خرجت الجماعة نفسها، وإنْ رأى دوركايم أن الجماعة تعبد نفسها، أو بعبارة أدق أنها تؤلِّه نفسها" (السابق/ 348- 349).
بهذا يكون موقف طه حسين آنذاك واضحا: فهو لا يؤمن بالإسلام، إن آمن به، على أنه دين سماوى أوحاه الله إلى نبيه محمد، بل على أنه اختراع بشرى. وإذن فالرافعى لم يكن متجنيا عليه قِيد شعرة حين رماه بالكفر والإلحاد. وأحب أن أبادر هنا إلى القول بأننى لا أريد بهذا أن أسىء إلى طه حسين، بل أبحث فقط الأمر بحثا علميا. وإذن أيضا فإن طه حسين حين أعلن من قبل (فى الخطاب الذى أرسله، على أثر الهجوم عليه بسبب كتابه، إلى مدير الجامعة أحمد لطفى السيد) أنه مسلم يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر لم يكن يعنى ما يقول (السابق/ 165)، إلا أن يكون الخطاب من تأليف لطفى السيد نفسه، وهو فى الواقع به أشبه. ذلك أن الإنسان لا يمكنه أبدا أن يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وهو فى ذات الوقت لا يؤمن بوحى ولا بإله، ما دامت الجماعة إنما تؤله نفسها وتعبد فى الحقيقة ذاتها، وما دام الدين لم ينزل من السماء، وإنما نبع من الأرض اختراعا بشريا.
أما قوله إنه لم يتعمد فى كتابه الخروج على الدين فهو خداع لا يجوز فى العقول، لأنه إذا لم يكن وصْف بعض قصص القرآن بأنها أساطير مخترَعة لغايات سياسية، والقول بأن المسلمين هم الذين ردّوا الإسلام فى خلاصته إلى دين إبراهيم وغير ذلك مما سبق أن أوردناه، هو الخروج على الدين فإنه لا يوجد شىء إذن اسمه الخروج على الدين. وأما تأكيدات طه حسين فى الخطاب الذى أرسله إلى مدير الجامعة بأن دروسه فى المحاضرات قد خلت خلوًّا تامًّا من التعرض للديانات "لأنى أعرف أن الجامعة لم تنشأ لمثل هذا"، فقد سبق أن قلنا إنه ليس تحت أيدينا ما يثبت أو ينفى ذلك. لكن السؤال الذى يلح على الذهن هو أنه إذا لم يكن قد تعرض للأديان فى محاضراته، والكتاب مملوء بالتعرض للأديان، والإسلام منها بالذات، فما الذى كان يقوله إذن فى تلك المحاضرات؟ على أن الدكتور طه عاد فأدلى لصحيفة "الإنفورماسيون" بما يلى: "قيل لهؤلاء البسطاء إنى أطعن فى الإسلام، فشهروا الحرب علىّ جميعا. على أنى أقول عاليا إنه ليس فى كتابى كلمة يمكن أن تُؤَوَّل ضد الدين. والعبارة التى يمكن أن أُنْتَقَد من أجلها تضع النصوص المقدسة بعيدة عن قسوة المباحث التاريخية" (السابق/ 252). وهو كلام لا ظل له من الحقيقة كما بيّنّا. وقد دعت هذه المخادعة الأستاذ الرافعى إلى تكذيبه ووصفه بعدم الحياء والعناد والمكابرة والكذب والسخرية بعقل الأمة (السابق/ 243).(/4)
والغريب أن الصحفى السورى سامى الكيالى، الذى رمى من اتهموا طه حسين فى دينه (بسبب ما ورد فى كتابه "فى الشعر الجاهلى") بالرجعية والجمود هو نفسه الذى طبع ونشر لإسماعيل أدهم بحثا بعنوان "طه حسين- دراسة وتحليل" (مطبعة مجلة "الحديث"/ حلب/ 1938م). وفى هذا البحث يمدح أدهم الدكتور طه واصفا إياه بالإلحاد والثورة على الدين، كما يشير إلى رأيه الذى يَعُدّ فيه الدين نتاجا بشريا. والغريب كذلك أن هذا البحث قد أُعِيد نشره فى عدد من أعداد مجلة "الحديث" نفسها التى كان يصدرها الكيالى، وكان ذلك فى نفس العام (عدد نيسان= إبريل)، ولكن بعد أن حُذِفت منه العبارات التى تتحدث عن إلحاد طه حسين وثورته على الدين ونظرته إليه على أنه نتاج بشرى، ووُضِع مكانها بعض النقط. إن هذا يبين حقيقة موقف ذلك الصحفى الذى لا ينبغى أن يخدعنا كلامه، وإلا فكيف يكون وصف طه حسين بالإلحاد من جانب إسماعيل أدهم جميلا، ووصفه بذلك من شيوخ الأزهر وعلماء مصر رجعية وتزمتا؟ كذلك من اللافت للنظر أن الكيالى لم يورد مما قاله طه حسين فى حق القرآن إلا جملة واحدة، ويا ليته أوردها كما هى، بل حرَّفها بما أذهب شناعتها، وزعم فوق هذا أنه إنما قالها على سبيل الاستطراد. فتأمَّل مدى الأمانة العلمية! (انظر كتابه "مع طه حسين"/ سلسلة "اقرأ"- عدد 112/ 1/ 56 وما بعدها)".
وبعد أن فرغنا من مناقشة ما قاله الرافعى فى آراء طه حسين ننتقل إلى تحليل ما قاله فيه هو نفسه. وقد ذكرنا أنه سماه: "المبشر"، وكنّاه: "أبا ألبرت" و"أبا مرجريت"، وقال إن سلطان زوجته عليه شديد. والحقيقة أن هذه الاتهامات، رغم عدم تفصيل الرافعى للقول فيها، تشير من بعيد إلى ما ذكره كاتب (سكرتير) طه حسين بعد ذلك بعشرات السنين، وهو فريد شحاتة النصرانى (أقول: "النصرانى" حتى لا يُتَّهَم مثلما اتُّهِم الرافعى وغيره بالرجعية والجمود)، إذ كتب أن طه حسين قد تعمَّد لاعتناق النصرانية عند زواجه من سوزان الفرنسية، وكان ذلك فى كنيسة إحدى القرى فى فرنسا (انظر مقال أحمد حسين "العودة لطه حسين مفخرة مصر"/ مجلة الثقافة / نوفمبر 1979م/ 4، وكذلك مقاله "لقد حُسِمت القضية وتحدد موقف طه حسين فى تاريخ مصر"/ مجلة الثقافة/ فبراير 1980م/ 8- 9).
والحقيقة أننا، جريا منا على المنهج الصارم الذى نتبعه فى كتاباتنا، لا نستطيع أن نجزم جزما بأن هذا قد حدث، إذ ليس بين أيدينا وثيقة مقطوع بصحتها تشهد على ما قاله كاتب طه حسين، الذى عاشره فى بيته وخارج بيته عشرات السنين واطَّلع عنه على ما لم يطَّلع عليه سواه، وإن كان هذا لا يمنع أن تظهر هذه الوثيقة يوما إن صحت رواية الرجل. كذلك فإن فريد شحاتة بالطبع لم يكن حاضرا طقوس التعميد الذى يشير إليه، فهو لم يكن قد عرف الدكتور طه بعد، وإن كان الحق يقتضى أن أذكر أن فريد هذا كان لصيقا بقلب طه حسين قبل أن يتركه، كما كان موضع أسراره الخطيرة لعشرات من السنين. ويمكن الرجوع فى هذا إلى الحوار الذى أجراه محمد شلبى مع الدكتور طه حسين فى كتابه "مع رواد الفكر والفن" (الهيئة العامة للكتاب/ 1982م/ الحوار كاملا، وبخاصة ص 132). ومع ذلك فهناك عدة ملاحظات لها دلالتها: فزوجة طه حسين، رغم أنها لم تترك شيئا فى حياة زوجها إلا ذكرته فى الكتاب الذى وضعته بعد وفاته عن حياتها معه، ورغم حرصها على أن تصدّ عنه هجوم من هاجموه حتى فى الأمور التى لا تمسها كقضية الشعر الجاهلى مثلا، لم تفتح فمها بكلمة واحدة تدفع بها عنه هذا الاتهام، مع أنها هى الوحيدة المتبقية (فيما أظن) ممن كانوا حاضرين هذا التعميد المشار إليه، بل هى السبب فيه (إن كان قد حدث) باعتبار أن هذا كان شرطا لزواج طه حسين منها، فما معنى عدم نفيها لما قاله واحد من أقرب المقربين إلى زوجها وأسرته؟ ترى لو كان هذا اتهاما باطلا أكانت ستسكت عليه مهما كان تديّنها وحبها لنصرانيتها ورغبتها فى أن تتكثر لدِينها من الأتباع والمتحولين إليه من الديانات الأخرى؟ بل لماذا لم تحاول أن تنفى هذه الدعوى بالباطل لو صح أنها حقيقة؟ أيمكن القول إنها خافت أن تُكَذِّبها سجلات تلك الكنيسة التى قال فريد شحاتة إن عميد الأدب العربى قد تم تعميده فيها إذا عَنّ يوما لأحد الباحثين المهتمين بهذا الموضوع أن يطَّلِع عليها أو ترى الدوائرُ المعنيّةُ فى فرنسا أن تُخْرِج هذه الوثيقة، إن كان لها وجود، وتُذِيعها على الناس عندما تُقَدِّر أنه قد حان الأوان لكشفها من أجل هذا الغرض أو ذاك؟ تلك أسئلة لا يستطيع الباحث فى الظروف الحاليّة أن يجيب عليها إجابة علمية قاطعة تَشْفِى الغليل، ولا يملك إلا أن يقول: فلْننتظر!(/5)
على أن الباحث مع ذلك لا يمكنه أن يمر مرور الكرام على الحقائق التالية: أن زوجة طه حسين لم تكن تحبه حين قبلته زوجا. وليس هذا تخمينا منا، فقد ذكرتْ هى هذا ذكرا صريحا فى أكثر من موضع من كتابها (انظر سوزان طه حسين/ معك/ دار المعارف/ 1979م/ 10، 16)، كما ذكر طه حسين قبلها ذلك بنفسه (الأيام/ 3/ دار المعارف/ 1945م/ 108 وما بعدها، 118.وانظر أيضا مقال أحمد حسين "لقد حُسِمت القضية وتحدد موقف طه حسين فى تاريخ مصر"/ مجلة الثقافة/ فبراير 1980/ 9- 10، وسامى الكيالى/ مع طه حسين/ 1/ 29) قائلا إن الذى حثها أو على الأقل شجعها على الزواج منه هو عمها القسيس الكاثوليكى (انظر "معك/ 17، وسامى الكيالى/ مع طه حسين/ 1/ 29 نقلا عن روبير لاندرى الكاتب الفرنسى). ومتى حصل هذا التشجيع من جانب العم القسيس، الذى كان طه حسين يقول عنه إنه أحب رجل إلى نفسه، ويرى فيه مثله الأعلى ودليله فى الحياة (معك/ 17)؟ فى الربع الأول من القرن العشرين حين كان المد الاستعمارى لبلاد المسلمين ولمصر فى أَوْجِه، ونظرة الأوربيين إلينا على أننا شعوب من الهمج على أشدها، وكراهيتهم لنا بوصفنا مسلمين فى قمتها. أليس غريبا أن يجهد قسيس كاثوليكى فرنسى فى العقد الثانى من القرن العشرين جهده فى إتمام زواج ابنة أخيه من شاب مسلم (أى كافر من وجهة نظره)، وترضى ابنة الأخ بهذا الشاب الذى لم يكن يتمتع بما تصبو إليه الفتيات عادةً من غِنًى أو منزلة اجتماعية عالية أو أناقة أو وسامة، ودَعْنا من أنه كان كفيفا، وكانت فرنسيته بالطبع فى ذلك الوقت مكسَّرة بحيث كان من الصعب عليه، حتى لو كان من أمهر الغَزِلين، أن يستميل قلبها بالكلام الخيالى المنمق. كذلك من المهم أن نلاحظ أنها هى نفسها كانت شديدة التمسك بنصرانيتها. أى أن افتراض لامبالاتها بكونها نصرانية وكونه مسلما ( أى كافرا من وجهة نظرها) هو افتراض غير مقبول. وثمة أمر آخر أرى أن له مغزاه، فقد ذكر طه حسين أنه حينما أتاه خطاب سوزان من قريتها فى الجنوب الفرنسى (هذا الخطاب الذى كان علامة بينهما على أنها رجعت عن موقفها فى رفضها الزواج منه لأنها لا تحبه) قد سافر وحده إلى هناك، ولم يستمع لزملائه المصريين الذين حاولوا أن يصدّوه عن الذهاب إشفاقا عليه (الأيام/ 3/ 112). يعنى أنه، حين أُعْلِنت خِطْبته على سوزان، بل أثناء أشهر ذلك الصيف كله، كان طه حسين وحده بين تلك الأسرة الفرنسية الكاثوليكية، وفيها ذلك العم القسيس الذى عضّد هذا الزواج، بل أغلب الظن أنه هو السبب فى تغيير ابنة أخيه لموقفها فى مدى شهر!
لقد حاول زملاؤه، كما مرّ، أن يصدّوه مشفقين عليه، لكنه أصرّ إصرارا على موقفه، وكان له ما أراد، فلم يحضر معه مصرى ولا مسلم هذه الخِطْبة. أليس لهذه الوقائع دلالتها الخطيرة؟ وتشير زوجة طه حسين إلى أن عمها القسيس، الذى كان متحمسا لزواجها به رغم نفورها منه، قد اصطحب خطيبها، حين زارهم فى قريتهم فى الجنوب الفرنسى، ساعتين تجولا أثناءهما فى الحقول وحدهما. بيَْدَ أنها لم تذكر لنا فيم تحدَّثا، أو ما الذى أخذه عليه العم من عهود قبل أن يعطيه ابنة أخيه. من هنا فإننا من الوجهة التاريخية الموثَّقة نجد أنفسنا كلما اقتربنا من هذه المسألة نصطدم بالصمت. فأى نوع من الصمت هذا؟ حتى الصحفى سامح كريم، الذى ينقل ما كتبه الآخرون عن طه حسين، عندما أتى إلى هذه النقطة أخذ يحوم حولها من غير أن يسميها، مكتفيا بالحديث عن فريد شحاتة ومذكراته عن عمله مع الدكتور طه وغَيْظ هذا منه ووَصْفه له بـ"هذا الشىء الذى أسمّيه: فريد شحاتة"، كل ذلك من غير أن يعرف القارئ الخالى الذهن عَلاَمَ يدور الكلام، وهو ما يجافى أمانة النقل (انظر، فى رحلة الحقول هذه، "معك"/ 17. وبالنسبة لصمت سامح كريم عن الاتهام المذكور انظر كتابه "ماذا يبقى من طه حسين؟"/ دار الشعب/ 1975م/ 124- 125).
كذلك من الملاحظات الدالة المتصلة بتكنية الرافعى لطه حسين: "أبا مرجريت" و"أبا ألبرت" أن السيدة سوزان، فيما أذكر، لم تشر فى كتابها "معك" إلى أنه كان يوجّه أولاده توجيها إسلاميا، ولا أظن من السهل الجواب على ذلك بأنها كنصرانية لا يهمها أن تشير إلى هذا، فإن هذه الملاحظة تصدق أيضا على كتاب "الأيام"، الذى كتبه هو وأفاض فيه القول عن كل شىء يتعلق به وبحياته وحياة أسرته. وبالمناسبة فالذى أعرفه هو أن "مؤنس" ابن الدكتور طه كان يسمَّى فى البيت: "كلود" لا "ألبرت".(/6)
ولعله يكون من المناسب هنا أن نشير إلى أن والدة طه حسين حين أخذ طه زوجته إلى كوم أمبو بعد عودته من فرنسا للتعرف إلى أسرته هناك، قد سألته، على حسب ما حكت لنا سوزان نفسها، أىّ نوع من النبيذ يجب شراؤه من أجلها (معك/ 31). فإذا كان هذا هو موقف والدته من أم الكبائر، وهى سيدة صعيدية عجوز غير متعلمة، وفوق ذلك طبعا مسلمة، ومتى؟ فى الربع الأول من القرن العشرين، وكل ذلك من أجل خاطر العروس الوافدة (لاحِظْ أن كل ظروف والدة طه حسين كان من شأنها أن تدفعها إلى الفزع الشديد من مجرد دخول الخمر إلى بيتها)، ألا يساعدنا هذا فى تخيل موقف طه حسين نفسه من أمر ذلك الزواج كله والضريبة التى كان عليه أن يدفعها فى مقابله، وهو الذى كان مُدَلَّها أشدَّ التدله فى سوزان، وكان فوق ذلك معجبا أقوى الإعجاب بالحضارة الأوربية وانغمر فيها فى بلادها انغمارا مطلقا؟
ولا يقف الأمر عند هذا الحد، فالمعروف أن طه حسين كان يختار سكرتيريه عادة من النصارى، فهل ينبغى أن نمر بهذه الحقيقة أيضا دون أن نلتفت إلى مغزاها؟ لقد اشتغل توفيق شحاتة كاتبا وقارئا له، ثم خلفه أخوه فريد، صاحب القصة الخاصة بتعميد طه حسين قبل زواجه من سوزان، التى لم تكن تحبه وكانت ترفض بفظاظة أن تسمع منه كلمة "الحب" أو أن يتحدث معها مجرد حديث فى موضوع الزواج إن أراد لزمالتهما وصداقتهما أن تستمر، والتى غيّرت رأيها فجأة بعد أن بصَّرها عمّها بمزايا الزواج من هذا الشاب الذى أطراه لها مؤكدا أنه سيتجاوزها باستمرار (انظر، فى هذه النقطة الأخيرة، سامى الكيالى/ مع طه حسين/ 1/ 28-29، وسوزان طه حسين/ معك/ 17). وإن الباحث ليتساءل: "يتجاوزها فى ماذا؟". وهناك غير الأخوين شحاتة سكرتيران آخران على شاكلتهما، وهما ألبير برزان (أول سكرتيريه) وسليم شحاتة، وإن كان هناك دكتور أزهرى قُدِّر له أن يشتغل مع طه حسين فترة من الوقت قال عنه د. زكريا البرى وزير الأوقاف الأسبق إنه قد لاحظ أن أسلوب حياة الدكتور طه يجرى على غير المعهود فى البيوت المسلمة (انظر مقاله: "الشيخ والأستاذ والدكتور والإمام" بجريدة "النور" فى 11 صفر 1407هـ- 15 أكتوبر 1986م).
والآن بعد أن رأينا هذه المسألة من كل جوانبها المتاحة فإننا نتساءل: هل نما إلى الرافعى فى ذلك الوقت المبكر ما أشار إليه فريدشحاتة بعد ذلك؟ لكن لماذا لم يذكر هذا صراحة، وهو الذى لم يكن هيّابا فى كتاباته؟ لقد لاحظنا أنه لم يجمجم فى تسمية الدكتور طه بـ"المبشر طه حسين" وتكنيته: "أبا مرجريت" وأبا ألبرت"، فهل بلغه ذلك الأمر أو شىء منه، لكنه لسبب أو لآخر لم يذكره؟ إن كان الجواب بالإثبات فمن الذى بلّغه إياه يا ترى؟ إن د. نجيب البهبيتى يتحدث فى كتابه "المدخل إلى دراسة التاريخ والأدب العربيَّيْن" عن أسرار أخرى تتعلق بأسرة سوزان والمهنة التى كانت تمارسها هى فى باريس...إلخ، وهى أسرار إن كانت جديدة علينا نحن الآن فلا شك أن المبعوثين المصريين فى العاصمة الفرنسية فى ذلك الوقت كانوا يعرفونها، فهل نقل إلى الرافعى واحدٌ من هؤلاء المبعوثين أو ممن لهم بهم اتصالٌ سرَّ هذا التعميد، الذى لا نستطيع مع ذلك من الوجهة التاريخية الموثَّقة أن نجزم به؟ الجواب طبعا: لا نعرف.
ومما قاله الرافعى رحمه الله فى د. طه حسين اتهامه إياه، كما رأينا، بأنه أداة أوربية استعمارية. ويتصل بهذا أنه ينقل، فى كتابه "تحت راية القرآن"، ما كتبته مجلة "الفتح" بعد شهرين من نشره لمقاله المسمَّى: "عصبية طه حسين على الإسلام"، ونَصّه: "ليقل لنا طه حسين كم يتقاضى من رجال التبشير، أو بعبارة أدق: من رجال الدول الغربية من أجرٍ على دعايته تلك لهم وعمله لصالحهم وجهاده من أجلهم، هذا الجهاد الطويل العنيف الذى لا يرهب فيه أمة بأسرها. إن ذلك الأجر لا بد أن يكون عظيما جدا كما يتحدث الناس فى أنديتهم" (تحت راية القرآن"/ 195- 196)، كما سمى فرنسا: وطن طه حسين الجديد (المرجع السابق/ 370).(/7)
والواقع أن الباحث الذى يريد أن يحقق هذا الأمر يجد نفسه أمام عدة حقائق لا يستطيع، إذا كان باحثا أمينا، أن يُغْفِلها. وهذه الحقائق، وكلها مستمدة مما كتبه طه حسين نفسه وزوجته، هى: علاقته الحميمة إلى حد مذهل بالأساتذة الأجانب فى الجامعة، حتى إنهم ليجتمعون عنده فى بيته كل أسبوع مرة، وذلك يوم الأحد (لاحظ!). ومن هؤلاء الأساتذة جريجوار وإميل برهييه وجريدور وسكايف ولالاند وسانياك (معك/ 74- 75). كما أنه هو الذى استقدم كازانوفا الفرنسى للتدريس فى الجامعة، مع أن طه حسين كان لا يزال فى أولى درجاته الجامعية فى سلك التدريس حينذاك، فمن أين له هذا الثقل الوظيفى والإدارى فى الجامعة؟ ومن الذى كان يقف وراءه؟ إن هذا الأستاذ كان هو المشرف على رسالة طه حسين فى باريس، وحين أتى إلى القاهرة كان طه حسين يزوره كل يوم (المرجع السابق/ 76، وانظر "الأيام"/ 3/ 121، وكذلك سامح كريم/ ماذا يبقى من طه حسين؟"/ 76). ومن لا يعرف هذا المستشرق نُحِيله إلى كتابه "Mahomet et La Fin du Monde" ليعرف آراءه السُّود فى الإسلام ونبيه، الذى يتهمه بتلفيق القرآن من عنده، كما يتهم الصحابة الكرام بالعبث بنصه عندما اتضح أن ما قاله الرسول عليه السلام عن قرب قيام الساعة كان محض هراء، فكان لا بد فى زعمه من زيادة بعض النصوص التى تمحو أثر هذه النبوءة الكاذبة. وقد حزن طه حسين لوفاته حزنا شديدا، وأشار إلى ذلك المرحوم الرافعى بقوله إنه حين هلك كان طه حسين هو "نادِبَته" الوحيدة فى مصر (تحت راية القرآن/ 275. كما وصفه بحق بأنه "كَذَبَنُوفا"/ 294).
ويشبه هذا ما كان من ود وتفاهم بين مرجليوث وطه حسين، حتى إن الدكتور طه، حين سافر إلى أوكسفورد لحضور مؤتمر المستشرقين هناك سنة 1928م، نزل هو وأسرته ضيفا عليه، وقامت زوجة هذا المستشرق المتطاول والحاقد على الإسلام ونبيه برعاية طفله المريض (معك/ 91). لقد عاش كاتب هذه السطور عدة سنين فى تلك المدينة التى كان يدرس فى جامعتها للحصول على درجة الدكتورية، ويعرف جيدا كراهية الأساتذة فى تلك الجامعة لكل ما هو مسلم أو إسلامى. ومرجليوث هذا بالذات من أشد المستشرقين بغضا للإسلام وكتابه ونبيه. إنه من هذه الناحية يأتى هو ولامانس البلجيكى فى المقدمة.ومن يرغب فى أن يأخذ فكرة عن هذا البغض القَتّال فليرجع فقط إلى كتابه "Muhammad and the Rise of Islam"، الذى يأخذ فيه جانب وَثَنِيِّى مكة فى كل موقف حتى فى تعذيبهم للمسلمين، كما وقف فى صف اليهود فى جميع مؤامراتهم لقتل النبى الكريم ومحاولتهم تدمير الإسلام الناشئ تدميرا نهائيا. وقد بلغ من سخطه على الرسول ودينه أنْ قد حمل على أحفاد القردة والخنازير حملة شعواء لأنهم، كما يقول، لم يحكموا أمرهم ويتخلصوا منه قبل أن يلتفت لتآمرهم عليه ويتخلص منهم أوّلاً. ولقد وصف هذا الرجل الوقح رسولنا الكريم بأنه "شيخ منسر: a robber- chief" (D. S. Margoliouth, Muhammad and the Rise of Islam, New York- London, 1905, P. 238). وكان يرى أنه ينبغى ألا نعير كلامه صلى الله عليه وسلم كبير ثقة (المرجع السابق/ 263). كما قال عن أبى عامر الراهب (هذا العميل البيزنطى الحاقد على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى نجاح دينه، والذى بنى له المناقون مسجدا فى أطراف المدينة بعيدا عن عيون المسلمين المخلصين ليلتقوا به فيه لحبك المؤامرات ضد الإسلام ونبيّه وأتباعه) إنه كان عنده قبل هجرة الرسول إلى يثرب ميل إلى الإصلاح الدينى، بيد أن القليل الذى خَبَرَه من محمد بعد هجرته قد أقنعه بأفضلية الوثنية (المرجع السابق/ 290- 291)، وغير ذلك ممما يعج به الكتاب من أقوال شنيعة لا تحترم حقائق التاريخ ولا تلقى بالا للقيم الإنسانية النبيلة التى أرساها محمد عليه الصلاة والسلام، وكان أول وأحسن من استمسك بها. فكيف يمكن أن تقوم مودة حميمة بين مسلم يحب دينه ويؤمن برسوله ولا يقبل أن يسىء إليه أحد وبين مثل هذا المستشرق الوغد الذى كان يكرهه عليه السلام كراهية العمى؟(/8)
وممن كانت له علاقة حميمة بالدكتور طه حسين المستشرق الفرنسى لويس ماسينيون، الذى كان يبدى اهتماما شديدا به فى أزماته التى يثيرها، والذى عَرَض عليه ذات مرة وظيفة فى الولايات المتحدة الأمريكية (معك/ 101)، وكان شديد الاحتفاء بابنه مؤنس أثناء دراسته بباريس، إذ كان يأخذه بعد خروجهما من محاضراته التى كان يَحْضُرها له مؤنس فيمشيان معا ويستعلم منه باهتمامٍ وُدِّىٍّ عن كل ما يقوم به أبوه من عمل أو يخطط للقيام به (المرجع السابق/ 253- 254). وماسينيون هذا هو أحد أعمدة الاستعمار الفرنسى فى الشرق الإسلامى العربى. وقد تحدث عن دوره هذا: الصحفى اللبنانى إسكندر الرياشى فى كتابه "رؤساء لبنان"، فليراجعه من شاء. وإننا لنسأل: ما سر هذا الاهتمام الزائد من جانب ماسينيون الاستعمارى وأمثاله بطه حسين؟ لعل ما يلقى بصيصا من الضوء على جواب هذا السؤال أن طه حسين كان يشتغل أثناء الحرب العالمية الثانية مراقبا لإذاعة فرنسا الحرة التى كانت تبث برامجها من دار الإذاعة المصرية.كما أنه قد استقبل الجنرال ديجول حين مجيئه للقاهرة فى إبريل سنة 1941م (السابق/ 129).
ولم تنس السيدة سوزان أن تتحدث عن جوانب من الصداقة الحميمة لزوجها بالمستشرق الفرنسى ريجى بلاشير أيضا. وبلاشير هذا هو الذى عبثت يده النجسة بآيات القرآن الكريم تقطيعا وتقديما وتأخيرا أثناء ترجمته لكتاب الله المجيد، وبلغت به الجرأة أن خطّأ القرآن نحويا وأسلوبيا فى مواضع غير قليلة، كما أضاف إلى سورة "النجم" الجملتين اللتين تسميان بـ"آيتى الغرانيق"، وهو ما لم يجرؤ أحد أن يفعله فى حدود علمنا جاعلاً إياهما جزءا من القرآن، وتعمد تشويه كتابنا الكريم بتفسيرات لا يمكن أن تخطر إلا فى خيال مريض يهذى، كقوله مثلا (مع كايتانى وشبرنجر) إن "جنة المأوى" التى ورد ذكرها فى سورة "النجم" هى فيلا فى ضواحى مكة، وإن "سدرة المنتهى" المذكورة فى ذات السورة هى شجرة بجوار تلك الفيلا. وبطبيعة الحال فالرجل ليس مريضا يهذى، لكنه حاقد يتعصب ضد القرآن ويحاربه بهذه الأساليب السافلة (انظر الهوامش التى خصصها ذلك المستشرق لتلك الآيات فى ترجمته للقرآن، وكذلك الفصل الذى درستُ فيه تلك الترجمة من كتابى "المستشرقون والقرآن"، وهو الفصل الثالث من الباب الأول).
ومن اهتمام المستشرقين والدوائر العلمية الغربية بطه حسين أن المستعرب الإيطالى نلينو مثلا فى مؤتمر المستشرقين الذى انعقد بإيطاليا أثناء الحكم الفاشى قد تنازل لطه حسين عن رئاسة القسم الذى كان يرأسه، وهو ما لم يحدث من قبل كما تقول السيدة سوزان (معك/ 123)، وأن الدكتوراهات الفخرية قد أُغْدِقت عليه إغداقا من الجامعات الأوربية على اختلافها (المرجع السابق/ 162، 172، 177، 180، 251مثلا). إن الصحفى السورى سامى الكيالى المعجب بطه حسين وباتجاهه الدائم نحو قبلة أوربا إعجابا أعمى يشير بفخر إلى هذا الاهتمام الزائد من جانب الجامعات الأوربية بطه حسين (مع طه حسين/ 1/ 123- 124)، مع أن هذا الاهتمام هو دليل على أن الرافعى لم يكن يلقى الكلام على عواهنه حين وصفه بأنه أداة أوربية، وإلا فما هذا الاحتفاء الغريب المريب بطه حسين من دون المفكرين والأدباء العرب الذين كانوا معاصرين له؟ أعَقُمَتْ بلاد المسلمين والعرب ومصر فلم تلد إلا طه حسين؟ إن هؤلاء المحتفين بطه حسين هم أنفسهم الذين يبغضوننا ويبغضون ديننا وأدبنا ولغتنا، وهم الذي استعمرونا وأذاقونا كأس المذلة مُتْرَعَةً ونهبوا بلادنا وقتلوا آباءنا، واقتطعوا من جسدنا وروحنا فلسطين وأعطَوْها لليهود، الذين ساعدهم طه حسين على النجاة بجلدهم عند اقتراب الألمان من العلمين، وهم الذين يُمِدّون إسرائيل بالمال والرجال والسلاح ليذبحونا. فهل يمكن أن يحتفى هؤلاء بأى واحد منا لو رَأَوْا أنه نافع لأمته؟ إن لدينا، والحمد لله، عقولا تفكر!(/9)
ومن مظاهر اهتمام المستشرقين بطه حسين كذلك أن بعضهم، حينما أُبْعِد الرجل عن الجامعة، قد أعلنوا أسفهم الشديد وهاجموا المسؤولين عن ذلك وعدّوه من المناضلين عن حرية الفكر. وأعلن برجشتراسر، وكان أيامها أستاذا بالجامعة المصرية، أنه لن يعود إلى الجامعة إلا إذا عاد إليها طه حسين (معك/ 109- 110). وهذا كله مع أن مئات الأساتذة الجامعيين المسلمين يُفْصَلون ويُسْجَنون ويُقَتَّلون فى أنحاء العالم المختلفة، ولم نسمع من أحد من هؤلاء المستشرقين ولو كلمة مجاملة من باب ذر الرماد فى العيون. وبالمناسبة فقد نابنى من الحُبّ جانبٌ بسبب الكتاب الذى أنقل منه هذا الفصل (أو إذا آثرنا الصراحة: بسبب طه حسين وما اقتحمتُه فى ذلك الكتاب من محرّمات وأقداس لا ينبغى أن يقترب منها أحد، وإلا تم التنكيل به حتى يكون عبرة لغيره)، فأوذيت أذى شديدا لم أُوذَه فى حياتى العلمية والوظيفية، ولم يكلِّف أحد من المتباكين على الحرية الفكرية عَيْنَه أن تذرف ولو دمعة واحدة من دموع التماسيح على سبيل التجمُّل، فضلا عن أن يثير الأمرَ فى وسائل الإعلام المحلية، بَلْه العالمية. وكان ذلك قبل مسألة د. نصر أبو زيد بقليل، الذى أخذت وكالات الأنباء فى كل أرجاء الدنيا تطيّر أخباره وتغطى الاحتجاجات التى كانت تظاهره من كل صَوْبٍ وحَدَب، وكأننا بصدد حرب كونية ثالثة! وأحب رغم ذلك ألا يفهمنى أحدٌ خطأً فيتوهم أنى مع اضطهاد الفكر، ولكنى فقط أتساءل عن سر هذا الاهتمام الغريب من قِبَل الدوائر العالمية المعادية للإسلام بطه حسين وأمثاله وقَصْره عليهم، وعليهم وحدهم! ومن المضحك الذى ينبغى إيراده هنا، وشر البلية ما يضحك كما يقول المثل المشهور، أن يبلغ التحمس لطه حسين عند أحد القساوسة المصريين، وهو كمال ثابت قلته (فى رسالته للماجستير عن الدكتور طه)، أن يهاجم، وهو رجل الدين النصرانى، شيوخ الأزهر ويتهمهم بالرجعية واصمًا إياهم بأنهم لم يفهموا الإسلام كما فهمه طه حسين. فالحمد لله الذى جعل هذا القس يفهم الإسلام خيرا من مشايخنا ويقوم فوق ذلك بدور القاضى بينهم وبين الأزهرى السابق الشيخ طه، ويصدر فى النهاية هذا الحكم المهذب العادل (انظر كتابه "طه حسين وأثر الثقافة الفرنسة فى أدبه"/ دار المعارف/ 90- 92).
فإذا عدنا إلى الرافعى واتهامه لطه حسين وجدنا من الصعب أن نرميه بالتجنى وإرسال القول على عواهنه. ومن المؤكد أنه، رحمة الله عليه، كان يعرف عن طبيعة علاقات طه حسين بالمستشرقين ورجال الدين والسياسة الغربيين الشىء الكثير بحكم المعاصرة، وبحكم اهتمامه كأديب ومفكر بقضايا الأدب والتاريخ العربى والإسلامى، وبحكم انغماسه التام فى الحياة الثقافية واتصاله بأقطاب الفكر والأدب والنهضة الإسلامية، وبحكم وجود الاستعمار البريطانى الدنس على أرض المحروسة مما يشجع من لهم علاقة بدوائر الغرب العلمية والسياسية على عدم الاستتار بهذه العلاقات، بالضبط كما هو حادث الآن فى الظروف السُّود التى يمر بها الوطن العربى بل أمة محمد على بكرة أبيها. ويمكن، لمن يريد التعرف إلى بعض العلاقات التى كانت لطه حسين بهذه الدوائر، الرجوع إلى الصفحات التالية: 162، 173- 174، 178، 190، 195، 197، 199، 202، 204، 266...إلخ من كتاب "معك" الذى وضعته زوجته عنه بعد وفاته والذى كان مرجعا أساسيا من مراجعنا فى هذا الفصل. ودعنا من رحلته التى قام بها إلى فلسطين وزار فيها الجامعة العبرية سنة 1927م، تلك الجامعة التى بذل طه حسين جهوده (المشكورة والمقدورة) حتى نجح فى تذليل الاعتراض الذى أبداه رجال البعثات فى مصر على ذهاب أحد الطلاب إليها (المرجع السابق/ 83، 186). وكذلك دعنا من إشرافه على مجلة "الكاتب المصرى" اليهودية، وتسهيله لأصدقائه من اليهود الخروج من مصر عند اقتراب الألمان من العلمين (السابق/ 140). ولعل من الطريف أن نشير هنا إلى ما ذكرته السيدة زوجته فى هذا الكتاب من أن أم وأخت أحد الشبان الإخوانيين، وكان قد حُكِم عليه ضمن آخرين مثله بالإعدام أيام الرئيس عبد الناصر لارتكابهم جرائم قتل (!) كما تقول، ألحتا على الدكتور طه أن يتدخل لإنقاذ الشاب. ولكنه لم يفعل بطبيعة الحال، ربما لأنه لم يكن يهوديا. ومع ذلك فهذه القصة غير مقنعة، إذ لا أظن أن سمعة طه حسين بين الإخوان وأسرهم كانت تشجع المرأتين على أن ترجوا تحقيق مثل هذا الطلب على يديه، وهو الذى هاجمهم أشد هجوم فى بعض ما كتب فى تلك الفترة.علاوة على أننى لا أعرف أن الإخوان قد ارتكبوا جرائم قتل فى عهد عبد الناصر أو حتى اغتيالات سياسية. وفى النهاية فإنى لا أعرف لماذا لم تذكر السيدة الكاتبة اسم الشاب. أغلب الظن أن مثل هذا الشاب وأمه وأخته ليس لهم وجود! والله أعلم.(/10)
من مفاخر الحضارة الإنسانية الحديثة !!
قتل المدنيين في الحروب
" مقدمات للنظر
في وضع" المدنيين الأبرياء "
في ساحة القتال
ملاحظة هامة : نشرت فقرات كثيرة منه في مقالة " التحريض ضد الإسلام الذي نشر في 7\2004
من مفاخر الحضارة الإنسانية الحديثة !!
قتل المدنيين في الحروب
مقدمات للنظر
في وضع" المدنيين الأبرياء " أثناء القتال
بين حكم الإسلام وواقع الحضارة المعاصرة
يظهر حرص الإسلام على سلامة " المدنيين الأبرياء أثناء الحروب من شروطه الأخلاقية والتشريعية التي وضعها للسلام والقتال
وليس السلام في الإسلام حالة سلبية تتمثل في إلقاء السلاح ، ولكنه – إسلاميا- صفة إيجابية تتمثل في إنجاز السلام بمعناه الإسلامي . فإذا وقع القتال فمن شروطه تطبيق الشريعة والعدل ، والإحسان ، ومن ذلك النهي عن التدمير والتحريق والتغريق ، وقتل الأطفال والنساء والشيوخ ، والتمثيل بالجثث ، وقطع الأشجار .
ولكي نبدأ النظر في الموضوع نرى حتمية النظر أولا في مقدمات ضرورية قبل الخوض في الجزئيات والتفاصيل إذ لا بد من رؤية شاملة لأصول الموضوع .
وفي هذه الرؤية الشاملة نجد أنفسنا أمام ثلاث مقدمات :
المقدمة الأولى : أن المسلمين يجدون أنفسهم حاليا بإزاء حرب شاملة - تتخللها هدنة هنا وهدنة هناك - قامت بالفعل منذ بداية الاستعمار الحديث أعلنها الغرب من جهته عليهم في جميع الجبهات ، واشتدت وتيرتها في العقدين الأخيرين ، وهي حرب معلنة – أو خفية - مستمرة ولن تزال حتى تحقق أهدافها من وجهة نظر الذين أعلنوها ، أو تفشل كما يتمنى الذين وقعت ولا تزال تقع عليهم .
المقدمة الثانية وهي تتمثل في أن تقنيات هذه الحرب جديدة تماما تدور في ظل حضارة جديدة لها ثقافتها الجديدة أيضا ، وهي من ثم تحتاج من أجل المواجهة التشريعية إلى تقييم جديد .
المقدمة الثالثة : أن خلافا واسعا وقع بين الفقهاء في المسألة .
أما عن المقدمة الأولى : فتظهر في تصور العداء التاريخي الذي يكنه الغرب للإسلام والمسلمين ونحن لن نغوص هنا في التاريخ ولكن نكتفي بلفتة وراءنا لسنوات قليلة .
(1) وأضع أمام القارئ ما عرضته مجلة الشروق الصادرة في إمارة الشارقة عدد 152 \6 بتاريخ 12\ 3 \1995 وعنوان غلافها ( استراتيجيات ونظريات مجنونة في بلاد الغرب : الإسلام العدو رقم 1 ) وفيه يقول بشير البكر في رسالته إلى المجلة من باريس : ( تقاطعت مجموعة من الإشارات الدولية خلال النصف الأول من الشهر الماضي [ يناير 1995 ] تلتقي جميعها حول الأصولية الإسلامية ، لكنها تتجاوزها إلى موقف الغرب من الإسلام بصورة عامة ، ودول الجنوب بصفة خاصة ، وجاءت أولاها من طرف الأمين العام لحلف شمال الأطلسي ( الناتو ) ويلي كلايس ، عند ما اعتبر أن الأصولية الإسلامية باتت العدو رقم واحد للحلف ، بعد انهيار المعسكر الاشتراكي ونهاية الحرب الباردة ولذلك يتوجب محاربتها ) وقد كشف كلايس عن مبادرته في حديثين صحافيين قبل أن يطرحها في صورة رسمية أمام مجلس سفراء الحلف في اجتماعه الأخير ، وانتقلت مبادرة كلايس إلى قرار سياسي أصدره الحلف بفتح حوار حول الموضوع مع دول مثل مصر وإسرائيل )
وفي التحقيق الذي كتبه الأستاذ بشير في العدد المشار إليه جاء في حديث للسيد ماريانو آغوري أحد أبرز الخبراء الأوربيين ومدير مركز الدراسات والبحوث الاستراتيجية الأسباني قوله : ( نرى أن الفضاء الإسلامي هو المكان الذي تنطلق منه المخاطر والتهديدات والكوارث في أواخر هذا القرن . إن حالة الارتياب من الإسلام ليست جديدة ، وهي ناتجة اليوم عن عداء خفي يشير إلى أن الإسلام هو الخطر الأكبر الذي يهدد الغرب بصفة غير مباشرة … وأخيرا والآن بعد ما اختفى الاتحاد السوفيتي يتساءل الاستراتيجيون والمختصون في الشئون الجيوسياسية عن المخاطر التي يمكن أن تنتج عن إسلام يمتلك القنبلة الذرية حيال أوربا خلال القرن الحادي والعشرين ، من هنا جاءت موجة الإعداد لمواجهة هذا العدو الجديد )
ثم يتحدث السيد ماريانو عن مدى جدية الخطر الإسلامي فيقول ( وهنا سوف أقتطف فقرة من تقرير أصدرته " الأكاديمية الملكية للشئون الدولية " في لندن ، وقد جاء في هذا التقرير ما يلي : " بالنسبة إلى الأوربيين كان الإسلام مسألة تشغل بالهم دائما ، غير أن هذه المشكلة ليست ظاهرة بعيدة ، والآن أصبحت جزءا من الواقع الثقافي في الأحياء الأكثر فقرا في بعض المدن الأوربية ، إن العدو القديم تسلل من الباب الخلفي حاملا لافتات غرائبية وغير منطقية تكونت عبر العصور : " جهاد ضد الكافرين ، وتقبل سلبي للمصير ، وللعقيدة المتزمتة " ) وعندما سئل السيد ماريانو ( ألا تعتقدون بأن ذلك يذكر بتقاليد المواجهة التاريخية في جانبها الصليبي ؟ ) قال : ( إن تقليد المواجهة بين العالمين الإسلامي والمسيحي يعود إلى تاريخ قديم ، غير أنه خلال العقدين الماضيين تكون ما يمكن تسميته وعيا جديا مناهضا للإسلام ) .(/1)
والغريب أن السيد ماريانو وهو يعود بالوعي الأوربي الجديد في مناهضته للإسلام إلى أكذوبة الخوف من امتلاكه لأسلحة الدمار الشامل – وهو ما تحولت إليه الولايات المتحدة الأمريكية في حربها للإرهاب - لا يطرأ على ذهنه سؤال عن المخاطر التي تهدد الوطن الإسلامي ، والتي يمكن أن تنتج عن عدو – كالدولة الصهيونية - يمتلك أسلحة الدمار الشامل .
ولنا أن نتشكك في جدية أن يكون امتلاك أسلحة الدمار الشامل سببا كافيا في شن حرب شاملة على العالم الإسلامي ، وإلا فقد ظل الاتحاد السوفيتي عقودا يمتلكها وتم علاج الحال بغير أن تنشب هذه الحرب ، وانحصر الأمر فيما أطلق عليه الحرب الباردة ، واليوم يمتلكها الاتحاد الروسي بالفعل وما من تفكير في شن حرب ضده ، وكذلك امتلكتها إسرائيل والهند وباكستان ودول أخرى ولم يجر العمل على شن حرب ، وربما قيل : استعيض عن ذلك بما يسمى توازن الرعب ، وإذن فلم لا يكون الأمر كذلك في امتلاك الدول الإسلامية مثلا ؟ وتوازن الرعب ضدها يظل قويا متفوقا شديد التفوق ؟
وهنا يشير بعضهم إلى ( أن التهديدات النووية يمكنها أن تكون صادرة من بلدان العالم الثالث حيث رؤساء الدول لا يتمتعون بقدر كاف من العقلانية ، وليسوا واعين للعواقب التي ستترتب على عدم الانصياع للمنطق المفروض من قبل الولايات المتحدة وروسيا خلال الحرب الباردة )
وهنا تبدو عنصرية هذا الطرح الذي ينطلق من عقيدة الغرب في تفوق الرجل الأبيض عنصريا ، كما يبدو منطقه متهافتا إذ يعني أن الجنون حالة إسلامية .
وبما أننا نحن المسلمين نواجه في الواقع عدوا عاقلا جدا ، فإنه لابد من وجود تفسير أكثر عمقا وشمولا وعقلانية من مجرد الإشارة إلى أسلحة الدمار الشامل : إنها فكرة الصراع في الغرب ، نجدها جزءا من بنيتهم الثقافية قديما وحديثا ، فهناك " صراع الآلهة " فوق جبال الأولمب ، كما نجده في أساطير الإلياذة والأوذيسة وما جره هذا الصراع من صراع بين أسبرطة وأثينا ، ثم هناك صراع الدولة الرومانية مع الدولة الفارسية ، وصراعها مع الإسلام ، وصراع المسيحية مع الإسلام ، وزحف هذا الصراع إلى أمريكا في عملية إبادة الهنود الحمر ، وزحف الاستعمار الحديث على الشرق ، وصراع الغرب لإبادة المسلمين في حروب القرم والقوقاز ، والبلقان ، وتحتل فكرة الصراع موضع العقيدة في التكوين الثقافي للإنسان الغربي المعاصر ، فهو - أي هذا الإنسان - قد يشك في عقيدته المسيحية ، وقد يشك في عقيدته الرأسمالية ، أو غيرها ولكن تبقى لديه فكرة الصراع راسخة لا تمس ، بدءا بالصراع البيولوجي الذي أسسه دارون ، ومرورا بالصراع الاجتماعي عند هربرت سبنسر ، وانتهاء بصراع القوميات عند نيتشة ، وهو - أي هذا الإنسان - في ذلك كله ينظر إلى الصراع لا باعتباره شرا لابد منه ، ولكن باعتباره آلية التقدم في الطبيعة والإنسانية والحضارة .
(2) ومن هنا يصبح من العجيب أن يُفجأ بعضنا بنداءات الصراع الحضاري كما عبر عنها أخيرا هذا أو ذاك من المفكرين أو السياسيين ، وهذه الفجاءة مصدرها الغفلة عن طبيعة عدو يبحث عن العداوة قبل أن تفرض عليه ، ويراها لحمة الانتماء في مجتمعاته هشة البنيان ، وينشدها كأنها فيتامين الصحة والعافية ، فهل يفيدنا نحن المسلمين في شيء أن نخدر أنفسنا بالكلام عن إنسانية الحضارة الغربية ، وسلام الحوار الديني الذي نعرف أنه لقد كانت المخابرات الفرنسية من سدنته الكبار– ضمن تيارات أخرى – بقيادة مديرها الأكبر الكونت دي مارانش ، منذ أوائل السبعينات من القرن الماضي ، في حركته نحو احتواء الإسلام سياسيا واقتصاديا في صيغة سماها " الحوار الإسلامي المسيحي" ثم طورها من بعد إلى ما سماه " الحوار الديني " ، وفقا لوثائق الأستاذ محمد حسنين هيكل في مقاله بمجلة " الكتب :وجهات نظر " ( مايو 2001) التي تصدر بالقاهرة ؟ بينما الطرف الآخر ينظر إلينا وإلى الإسلام على وجه الخصوص على أنه ظاهرة عرضت في مسار التاريخ ، وهي في طريقها إلى الزوال بفضل خطتهم الطويلة في الصراع ؟(/2)
إنه الصراع الذي لا يكتفي بمقتضى ثقافتهم بغير إبادة الآخر ، مهما ارتفعت لديهم شعارات الديموقراطية وحقوق الإنسان والحوار والاعتراف بالآخر ، فهي شعارات سطحية يسمح بها طالما كانت الأمور " تحت السيطرة " لحساب التفوق العنصري الأبيض ، أما إذا اهتز هذا التفوق أو تحركت ضده نذر الخطر من بعيد على مرمى قارات ومرمى قرون فإن الإبادة للآخر تنكشف لتكون هي الأساس ، إبادة الآخر في الأندلس ، إبادة الآخر في القارة الأمريكية الجديدة ( الهنود الحمر ) ، إبادة الآخر المسلم في أوربا الشرقية والبلقان وآسيا الصغرى والقوقاز ، إبادة الآخر في الشرق الأوسط ، في الجزائر وفلسطين والعراق وإيران ، إبادة الآخر في تصنيفهم للعالم أخيرا إلى محورين : أحدهما للخير ، والآخر للشر . تلك هي مشكلتهم المستعصية التي يعالجونها بلا هوادة منذ ظهور الإسلام إلى اليوم ، وليس من بعد أحداث حالية .
أليس من الضروري إذن أن نحذر المسلمين اليوم من التناوم والغفلة عن ثأر أوربا ضد الإسلام الذي يتركز في منطقة الشرق الأوسط بالذات ، ولن يكتفي هذا الثأر حتى يقتات على لحومهم ودمائهم وعظامهم بغير استثناء ، ويتطاول إلى قدسين : تم له الإطباق على أحدهما وهو بيت المقدس ، ويخطو حاليا بخطوات ثابتة نحو الآخر .
وهاهو وزير السياحة الإسرائيلي المدعو بني آلون يصرح لصحيفة هأرتس في مطلع شهر ( مايو 2003 م ) قائلا : " من الواضح أن الإسلام في طريقه إلى الزوال ، فما نشاهده اليوم في العالم الإسلامي ليس انتفاضة إيمان قوية ، بل انطفاء جذوة الإسلام ، أما كيف سيزول فبكل بساطة بقيام حرب مسيحية صليبية ضد الإسلام في غضون بضع سنوات ، ستكون الحدث الأهم في هذه الألفية ، وطبعا سنواجه مشكلة كبرى حين لا يبقى في الساحة سوى الديانتين الكبيرتين : اليهودية !! والمسيحية ، غير أن ذلك ما زال متروكا للمستقبل البعيد "
و رجوعا إلى أصحاب المناقصة وفلسفة التنازل في تعاملهم مع الغرب : ألسنا نراهم في موقف من مواقف الكوميديا السوداء إذ يردون – على لسان شيخ أزهرهم – بما نسمعه اليوم من كلامهم عن السلام والتسامح والحوار ، ( إن الإسلام لا يعادي أحدا ، بل إن الإسلام دين السلام وليس دين العداوة ) ( إن الإسلام يمد يده بالسلام العادل وبالاطمئنان والأمان ) مجلة الشروق سالف الذكر ص 20 أو هكذا نواجه المدفع بالمؤتمرات ، ويقفل الملف وتسلم الحرمات ، أو هكذا نقرأ الآيات كأنما نتستر على عورات ؟ ، أو هكذا نقرأ " ولا تقربوا الصلاة " ؟؟!
وفقا لنفسية الهزيمة والاستسلام هذه فإن الدول العربية – كما جاء بافتتاحية جريدة الخليج الإماراتية بتاريخ 1\ 3\ 2002 أخذت - ولا تزال في خطة خريطة الطريق - : ( تغرق الكيان الصهيوني بالمبادرات والمشاريع والأفكار والنوايا الحسنة والتطبيع والهرولة ومد الأيدي و"التسول " ، ونبذ الإرهاب ونبذ العنف ، وصولا – ربما إذا استمر الوضع على ما هو عليه – إلى نبذ المقاومة والكفاح وحق الدفاع عن النفس ، والشروع في مصادرة ما نملك من " حجارة وسكاكين الدمار " الشامل !! إن سمحت الولايات المتحدة و"إسرائيلها " بأن يبقى للدول العربية ما تملكه ) إن السلام المطلوب منا هو في ( سلموا الحقوق ، سلموا الأرض ، سلموا المقدسات ، وسلموا كل مقاوم ، وسلموا كل من يرمي حجرا ، وسلموا كل من في قلبه نبض : تسلموا ، ويسمح لكم بالبقاء في المنطقة بالشروط المعروفة والتي يمكن معها الترحم على الاستعمار أيام زمان ) هكذا وبمباركة من مفتين يعرضون من الإسلام ما يخل فيه بالتوازن بين السلام والجهاد.
(3) وبقدر ما أنه من المناقصة على الإسلام – في باب الدعوة للقتال - أن يعرض الحمائم فيه " حوار السلام والرحمة والتسامح " في نفس الوقت الذي وصلت قعقعة السلاح ضده إلى عنان السماء ، كذلك فإنه من المزايدة الفارغة على الإسلام - في باب الدعوة للسلام – أن ينكر أعداؤه عليه فريضة الجهاد ، لأنهم إذ ينكرونها فإنما يدعون إلى حالة من الفوضى والضعف يصبح السلام معها أمرا مستحيلا ، إذ من المؤكد تاريخيا أن الضعف يمثل الإغراء الأقوى بالاعتداء وتدمير السلام ، ومن المؤكد استراتيجيا كما هو معروف أن نفوذ الأقوياء ليس حصيلة قوتهم فحسب ولكنه معادلة من طرفين : قوتهم الذاتية + ضعف العدو وحرص رجاله على الحياة ، وهم إذ ينكرون الجهاد على الإسلام لا ينكرون عليه فريضة دينية فحسب ، ولكنهم يرتكبون نفاقا مكشوفا : حيث يحرصون على أن يغرق الكيان الصهيوني فلسطين بالدماء والدمار بأحدث الأسلحة الأمريكية ، تاركا للدول العربية أن تحصي الشهداء ، الذين يسقطون والمنازل التي تدمر والأراضي التي تجرف أو تصادر ) وحيث يحرصون على أن تمتلئ ترساناتهم الحربية بما يكفي لتدمير الحياة الإنسانية على الأرض مرات ومرات بينما هم يعملون على تجريد المسلمين من كل سلاح بدعوى السلام ، في الوقت نفسه .(/3)
(4) وإنه لمن التجهيل المتعمد الذي يأتينا من أبواب الدعاية والتلاعب بالعقول وصناعة الرأي العام وفق استراتيجية العدو ما يشاع من أن موقف الغرب الذي أعلنه أخيرا من الإسلام باعتباره العدو ومحور الشر في العالم إنما هو ضد المسلمين المتطرفين ، ثم جددوا عبارتهم فصارت ضد المسلمين الإرهابيين ، ثم جددوا عبارتهم فصارت ضد الإسلامويين لا المسلمين !! وهي عبارات شديدة الإبهام والغموض … روجتها وسائل الإعلام عن " معهد القيم الأمريكية " وهو بيت خبرة مستقل ، صدرت باسم ستين من المثقفين الأمريكيين ضمن رسالة مفتوحة موجهة إلى الأمريكيين والمجتمع الدولي يشرحون فيه لماذا يعتقدون أن الحرب على الإرهاب ضرورية عادلة ، حيث يفرقون في البيان بين الإسلام المعتدل والإسلاموية الشريرة ، وحيث علق الأستاذ سعد محيو في عموده اليومي في اليوم السابق على نشر البيان مترجما بجريدة الخليج قائلا : إن ( التمييز بين الإسلام والإسلاموية صائب تماما ) أما في رأينا فهي تفرقة غير صائبة مع الاعتذار للأستاذ سعد محيو ، إذ قد تختلط – في ساحة الإسلام المعتدل !! - بالتفرقة بين رجل السياسة الذي قد يكون معتدلا ورجل الجيش الذي لابد من أن يكون عنيفا ؟ فهل يصح أن ينسب رجل الجيش إلى الشر عندئذ ؟ ، أم أن نسبة الشر إلى أحدهما مقصود بها التضليل بخلط الأوراق . وهكذا يبتلع مثقفونا الطُّعم ، أو يريدون لنا أن نبتلعه .( أنظر ما جاء بجريدة الخليج يوم 27\2\2002 )
ونحن بحاجة إلى قدر كبير من السذاجة لنصدق ما يشاع من أن هذا الموقف قد جاء نتيجة ما ارتكبه بعض الحمقى من اعتداءات على المدنيين الأبرياء ، ففضلا عن أن هذه الأحداث كان من الممكن حصر النظر إليها في نطاق القانون والأمن والمخابرات القديرة التي تصل ميزانياتها السنوية إلى مليارات الدولارات والتي صنعت بعض هؤلاء الحمقى من قبل ، إلا أنه من المؤكد أنها لم تكن هي التي صنعت كل هذه الكراهية الهائلة التي تتفجر في الغرب ضد كل ما هو عربي أو إسلامي ، إذ لهذه الكراهية أصل ثقافي من صنع التبشير والاستشراق والسيطرة والمعرفة المؤدلجة من أجل السلطة ، وله ماض تاريخي طويل عريض يبدأ من ظهور الإسلام إلى حروبه مع الإمبراطورية الرومانية في الشرق الأوسط في الشام ومصر ، وحوض البحر الأبيض المتوسط والحروب الصليبية وجنوب أوربا ، مرورا بأسبانيا وأوربا الشرقية وسقوط الدولة العثمانية وانتشار الاستعمار الغربي القديم والحديث طوال عمر الإسلام ؛ والاستيطان الصهيوني أخيرا ، وليرجع من يريد الاستزادة إلى كتاب إدوارد سعيد عن الاستشراق ليعرف كيف تتجذر هذه الكراهية طوال القرون في الفكر والأدب والسياسة والاجتماع -
ولا نريد أن نستطرد هنا في العرض التاريخي مراعاة لشعور الطابور الخامس الذي يسكن في ديارنا فلقد بلغ الأمر ببعض إخواننا وهو بصدد بيان ما ارتكبه الغرب من مظالم تجاه الشرق بدءا من الحروب الصليبية إلى الاستعمار ، إلى ما سماه " الإطلالة الأمريكية على المنطقة " !! بلغ الأمر به أن استذكر أن هذا ( بالطبع لا يعني أن الشرق – يعني المسلمين - كانوا دوما ملائكة ، ولا بد في لحظة ما أن يأتي الوقت كي يعترف هؤلاء بأخطائهم ، بما في ذلك الوجود في أسبانيا لأكثر من 500 عام ؟!، وتهديد أمن أوربا المسيحية لأكثر من 500 عام آخر ، وصولا إلى العصور الحديثة التي شهدت تراجعا ملحوظا في التسامح الإسلامي تجاه الأقليات ) وردا على هذه المزاعم وقياسا على سلسلة الاعتذارات هذه كان ينبغي على أصحابها أن يطالبوا باعتذار العرب عن وجودهم في الشرق الأوسط منذ ظهور الإسلام ، وأن يطالبوا الأنجلو سكسون ، واللاتينيين بالاعتذار عن وجودهم في أمريكا منذ أقل من أربعمائة عام ، بل وأن يطالبوا المسيحيين بالاعتذار عن وجودهم في أوربا منذ ألفي عام ، حيث إن المسيحية ظهرت أصلا في آسيا ؟؟ !
وفي كلامهم عن اعتذار الشرقيين عن وجودهم في الأندلس لمدة 500 عام قياسا على اعتذار متوهم من الغرب عن مظالمه للشرق لابد لنا هنا من الكشف عن الفرق الذي عميت عنه العيون بين فتح إسلامي جعله الإسلام لأصحاب العقيدة لا لخصوص الفاتحين ولتصبح أجناس من الأمم هم أصحاب الإسلام وأصحاب دولته حقا : من فرس وأكراد ومماليك وتتار وأتراك وهنود وأوربيين أيضا ، وصل اعتناقهم للإسلام إلى حد جرى فيه النقاش ومن ثم التشكيك حول ما إذا كان العرب أصحاب الفتوحات الأولى مثلهم أو أقل منهم في ميزان اختصاصهم بالإسلام دولة وشريعة وحضارة ؟ .. أقول : لا بد لنا هنا من الكشف عن الفرق بين هذا الفتح الإسلامي و غزو يوناني ، وروماني ، وصليبي ، واستعماري ،وصهيوني ، وأمريكي أخيرا؟ لسنا بحاجة في هذه العجالة لسرد جرائمه و جرائره في استعباد الشعوب وامتصاص دمائهم وتصديرها لحساب الرجل الأبيض .(/4)
إنه في سياق المقارنة الزائفة بين الحروب الصليبية باعتبارها خطأ ارتكبه الغرب المسيحي ضد المسلمين !! ، في مقابلة خطأ المسلمين الذي ارتكب ضد الغرب المسيحي في فتح الأندلس – ولنقل غزوها لا بأس – وفتح جنوب فرنسا الذي لم يستقر ، وفتح بلاد شاسعة من أوربا … عندما يحدث ذلك من بعض رجالات الصحافة المتأمركين عندنا فإنه لابد من التعقيب عليه بكشف قناع الزيف فيه ، لا بالذهاب إلى تفاصيل التاريخ التي تدمغ هذه المقارنة بالجهل فحسب ، ولكن لنتساءل أيضا : أكان خطأ المسلمين ضد الغرب المسيحي قاصرا – في تقديرهم - على أسبانيا وأوربا ؟ أو هو ينسحب على فتح مصر والشام وجنوب البحر الأبيض المتوسط ، الذي كان غارقا في مستنقع البطالمة والرومان وأذنابهم ؟ ثم ينسحب إلى أفريقيا وآسيا باعتبار عالمية المسيحية في تقدير الغرب المسيحي ؟ ، ثم ينسحب إلى الجزيرة العربية بأدق وأقدس أماكنها التي هي ملك لهم حسب صريح خطتهم في مؤتمراتهم التاريخية في التبشير ؟
ولم لا نكشف الأوراق بطريقة محترمة لنقول : إن عالمية الدعوة الإسلامية ، وعالمية الدعوة المسيحية – حسب اعتقاد الكنيسة الموقرة – تدعونا إلى استبعاد هذه المباراة الصبيانية بين اعتذار عن خطأ من هنا واعتذار عن خطأ من هناك .. لنعالج القضية في إطارها الحضاري الصحيح : أي لنقارن إنسانيا بين دخول الصليبيين القدس - عندما قتلوا من رجال المسلمين وأطفالهم ونسائهم سبعين ألفا في أيام وأطلقوا من دمائهم نافورات جعلت خيل الصليبين تتعثر فيها داخل المسجد حتى الركب _ وبين دخول الإسلام مكة الطلقاء ، أو دخوله أسبانيا – دخولا حرمت منه فرنسا لسوء حظها – بمقاييس الحرية والعلم والحضارة والإنسانية ؟
ولست بحاجة في هذا المقام لفتح كثير من الملفات ولكن تكفيني الإشارة إلى شهادة المنصفين من مؤرخي الغرب وليقرأ من يريد أن يقرأ كتاب ( شمس الإسلام تسطع على الغرب ) للمستشرقة الألمانية زيجفريد هونكة – وبالمناسبة فعنوان الكتاب في أصله باللغة الألمانية هو كما ذكرته ، بينما المترجم العربي قدس الله سره حرفه إلى شمس العرب – فليقرأ القارئون : ليسألوا بعد ذلك : أين شمس الغرب المسيحي في سماء الشرق ؟ أين شمسه التي أطلت من سماء الأندلس بعد طرد المسلمين ، هل كنا لنجدها في غير محاكم التفتيش ، أو في أحياء الموريسكيين ( المسلمين المتنصرين قسرا ) ؟ أين شمسه لكي يبحث عنها الباحثون في عصور الظلام في أوربا نفسها التي افتقدوا في سمائها أي شعاع ، وليدركوا أن أوربا إنما نهضت بالخروج على المسيحية عندما لبست ثوب العلمانية وعندما تابعت خطى الإسلام في موقفه من العلم ؟ أين شمسه في موجة النهب والاستعمار الأوربي ؟ ثم موجة الاستيطان الصهيوني ؟ هذا هو السؤال ، ونرجو ألا يكون الجواب من نوع الأخطاء التي يراد منا أن نعترف بها كفتح الأندلس !!.
هذه هي المقدمة الأولى التي يتضح منها أن المعركة إنما هي مع الإسلام بكل أشكاله وألوانه ومع أهله جميعا معتدلين ومتطرفين ، والغرب على يقين (!!) بأن المتطرفين إنما يخرجون من عباءة المعتدلين ، ومن ثم فإن المعتدلين – في نظرهم - هم الأكثر خطرا ، واسألوا رجال المخابرات الحاذقين ، إنها إذن المعركة المعلنة من جانب الغرب على الإسلام على مستوى خريطة العالم شرقا وغربا وشمالا وجنوبا .
(2\2)
تطور وسائل القتال كمقدمة
لازمة لنظر الفقهاء في سلامة " المدنيين الأبرياء "
أثناء القتال
وأما الحقيقة الثانية اللازمة كمقدمة للنظر في حكم سلامة المدنيين الأبرياء أثناء القتال فأعني بها التطور الجذري الشامل الذي طرأ على وسائل القتال وأدواته ، وبخاصة إذا لاحظنا أننا نتكلم عبر تطور قيمي وحضاري وتكنولوجي امتد لعشرات القرون ، انتقلت فيه الإنسانية من حضارة إلى حضارة أخرى ، واصطحبت معها تغيرا في الثقافة المساندة ، ومن المسلم به أن الحضارة إذ تتطور بسرعة أكبر من ثقافتها – بفعل القفزات التكنولوجية المفاجئة - يصبح من الخطأ إصدار بعض الأحكام القيمية لها أو عليها من خلال الثقافة التي تم انفصال الحضارة عنها:(/5)
ومن ثم فنحن نرى أن الفقه الاجتهادي في الإسلام يواجه اليوم بتحد بارز في هذه القضية ، نظرا لاستحالة تحقيق الشروط الأخلاقية الإسلامية في الحرب الحديثة في سياق الحضارة المعاصرة ، وهي حرب لم تعد أسلحتها تعتمد على الطابع الأخلاقي أصلا ، كالشجاعة والشرف والمواجهة والمروءة والرجولة والمهارات الجسدية والإنفاق الشخصي ، تلك الأسلحة التي كانت تتطابق مع تقنية ميدان المعركة نفسها ومنها تقسيم الجيش إلى صفوف تتواجه خارج التجمعات السكانية ، وإنما هي تعتمد اليوم على المستوى الأعلى من التقدم العلمي التكنولوجي ، في الاقتصاد والاتصالات والتنظيم والإدارة والخبرة والتجسس ، والهندسة ، والجندي المدرب على الآلة ، المعبأ نفسيا ضد عدو لا يعرفه ، والذي يضرب مالا يراه ولا يحس به ، كما تعتمد على الصواريخ التي يساوي واحد منها دخل مدينة ، و الطائرات التي تساوي واحدة منها دخل إمارة ، والقنابل التي تساوي واحدة منها دخل دولة ، وميزانيات الدولة للحروب التي تبلغ – في الولايات المتحدة – هذا العام أكثر من أربعمائة مليار دولار ، تم دعمها بمثلها ، كما تعتمد أساسا على أسلحة الدمار الشامل وتدمير المدن ومراكز الطاقة والمصانع والجسور وخطوط الاتصال والمواصلات والإنتاج والتوزيع والبورصة والنقد ، وتجميد الأموال لعشرات السنين ، – أو سرقتها على الأصح – ومصادرة أموال الجمعيات الخيرية ، وبث الذعر في صفوف الجماهير إلى حد يمكن فيه تحويلهم إلى أداة تعمل في صالح العدو نفسه ، وهي أوضاع تختلف جذريا عما كانت عليه قبل التقدم العلمي الحديث ، بحيث أصبح التقيد المطلق بأخلاقيات الحرب القديمة يعنى التحالف مع الهزيمة ابتداء .
لقد تطورت الحرب الحديثة تحت لواء التقدم العلمي التكنولوجي الهائل الذي أحرزته الدول الكبرى ومن يليها إلى حرب ليست لا تبالي فقط بضرب الأبرياء من المدنيين بل هي تجعلهم هدفها الأول والرئيس ، تحت ستار ما أصبح يسمى - من باب التزييف أو النفاق - تدمير البنية التحتية للعدو في المواصلات والمياه والكهرباء والإعلام ووسائل المعيشة ، والروح المعنوية للشعب ، وقد بدأ هذا التطور منذ الحرب العالمية الأولى واستشرى بعد ذلك وما يزال يستشري ، وهي نتيجة حتمية لتطور وسائل القتال الحديثة ، ولقد ذهب – ربما إلى غير رجعة - أسلوب القتال في العصور القديمة والعصور الوسطى " المتخلفة " الذي كان يعتمد على المواجهة بين صفوف القتال في أرض المعركة ، فإذا انهزم الجيش انتهت الحرب ، أما في التطور الحديث فقد انقلب الترتيب وأصبحت المعركة تبدأ أو تتطور إلى ضرب المدنيين أصلا فإذا تحطمت المدينة انتهت الحرب .
ونحن ما نزال نذكر عدد القتلى في الحرب العالمية الثانية الذي بلغ أربعين مليونا – فهل كان هؤلاء من العسكريين ،؟ كما يزال كثير منا يذكر المعارك المؤثرة في مجريات الحرب العالمية الثانية بتدمير المدن الرئيسية الكبرى مثل لندن وبرلين وغيرها ، وما نزال نذكر كيف أن الضربة الحاسمة في انتصار الغرب الديموقراطي في الحرب العالمية الثانية كانت بتدمير مدينتين كبيرتين في اليابان هما هيروشيما ونجازاكي ، واليوم يضرب العدو المسلم مدنيا في كل مكان عله يركع أو ( يتبع ملتهم ) في الشيشان والبوسنة والهرسك وكوسوفو ، وأفغانستان وفلسطين والعراق إلخ
إننا نظلم الإسلام إذا وقفنا هنا لنتحدث عن المثل العليا ، دون أن نلتفت إلى ما يمارسه أعداؤه – في واقع الساحة الدولية بعامة – من نكسة حضارية بتدمير المدن ، وقتل مئات الآلاف من غير المحاربين في طلقة نووية واحدة ، تقتلهم عند الإطلاق ، كما تقتلهم بعد الإطلاق بعشرات السنين ، وضربهم باليورانيوم : في مخادعهم التي عليها ينامون ، وقتلهم بهوائهم الذي يتنفسون ، وتسميمهم بمائهم الذي يشربون ، ونشر الإشعاع القاتل في بيئتهم حتى خارج حدود إقليم الحرب ، وكما يجب أن نلتفت إلى ما يجري من جيش إسرائيل المسلح بأحدث الأسلحة الأمريكية ضد أطفال الانتفاضة الفلسطينيين وشبانهم الذين لا يملكون من الأسلحة غير الاستشهاد ، وما يقوم به العدو من حصار تجويعي ، واغتيالات للأفراد ، وتصفية دماء الجرحى ، والحيلولة بينهم وبين العلاج حتى الموت ، وضرب سيارات الإسعاف ، وقتل أطبائها وسائقيها ، وقتل متعمد للأطفال ، والنساء والشيوخ في مخادعهم ، والمرضى في أسرتهم ، وإغلاق المدارس ، وهدم المستشفيات ، وتجريف المزارع ، وتدمير البيوت والطرق ، وتخريب مصادر الماء والطاقة والإنتاج ..
( فرقة مقاتلة المدنيين!
خالد محمود
جريد الأسبوع بتاريخ 16\2\2004(/6)
من أفظع ما حملته الصحف من تقارير ما نشرته 'جينز دفنس ويكلي' في عددها الأخير من أن البنتاجون أفرد في خطته منذ ثلاثة أعوام في الحرب علي العراق بابا أساسيا بقوات وتشكيلات واستعدادات لقتال المدنيين في الأزقة والفناءات وغرف النوم.. قالت الدورية العسكرية المتخصصة: إن مؤسسة العسكرية الأمريكية 'المجردة من كل شرف' رتبت بعد تجربة الصومال وتحت إشراف مركز 'أدبو' وبالتعاون مع مؤسسة 'داند' مؤتمرا بهذا الخصوص انتهي عمليا ببناء قرية 'شوفارت جوردن' للتدريب علي العمليات العسكرية في الأراضي المدنية، ثم قرية 'زوسمان' في فورت نوكس في كنتاكي وفي أماكن أخري في بريطانيا وعدد من دول الناتو.
ويكشف التقرير عن ثلاث شركات متعددة الجنسيات دخلت حلبة الملعب مع البنتاجون لتطوير تقنيات غير مسبوقة لمحاربة المدنيين تعتمد علي آخر صيحة في العلوم الاتصالية والديجيتال هي شركة 'فاير ارمز تريننج سيستمز'، وشركة 'تاليس' الفرنسية، وشركة 'إيه آي اس'، كما يكشف عن تعاون شركة 'بارامونت' للإنتاج السينمائي مع هذه الشركات للوصول إلي أفضل النتائج للقضاء علي 'العدو المدني'.
يمضي التقرير المنشور علي مساحة ضخمة بقارئه إلي تفاصيل فنية متشابكة لكن يبقي القارئ العربي يغالب دهشته الأولية يسأل سؤالين: الأول هل أصبح قتال المدنيين في بيوتهم ومساجدهم وربما أرحام أمهاتهم هكذا بالمطلق أمرا شرعيا يدرس في كليات أركان الحرب عيانا بيانا دون أي جملة شرطية أو اعتراضية؟ والثاني إذا كان الأمر كذلك فإلي متي يظل العربي في عالمنا فيما يتعلق بالسياسة والعسكرية والعلم والاستراتيجيا والحياة في كل مرة آخر من يعلم؟ فيما يخص الأخيرة يتذكر المشاهد العربي خبراء البنادق الرش الذين وجعوا أدمغتنا وزغللوا أبصارنا أثناء الحرب وملأوا السبورات أمام شاشات الفضائيات أسهما ودوائر ومعادلات ونظريات وبرهنت الأيام أن معظم ما قالوه لا علاقة له من قريب أو بعيد بما كان يتم علي أرض الواقع وأن خيال معظمهم السياسي مع التفاؤل توقف عند معركة أحد. نفس الكارثة كانت هناك في الداخل العراقي.
ففكرة التصدي العراقي ارتكزت علي قيم قديمة ومفاهيم قديمة واتفاقات إنسانية قديمة جوهرها أن الجيوش تحارب جيوشا وأنه أيا كان التجاوز هنا أو هناك فالعدو لن يحارب شعبا ومدنا أو تداخل جيش وطني مع مقاومة شعبية. لم يدر بخلد المقاومين العراقيين ولا بخلدنا أن العدو قادم من منابع فكرية وأخلاقية غير مسبوقة السفالة، وأنه أقذر مما كنا نتوقع مليون مرة، وأنه ليس قادما لاطاحة شخص أو قلب نظام وإنما لتدمير جيش وتخريب وطن وتغيير معادلات سكان بالتأليب والفتن والحرق والإبادة الجماعية ونزف الثروات والتصحير الحضاري وهذا كله ما كان يمكن أن يتم إلا بفكرة لم ترد علي ذهن الشيطان أولها قصف وردم العراق علي من فيها دون تمييز وتسريح جيشها ودولتها وفكرتها والثاني إقامة دولة بوليس خارجية 'أي دعامتها من خارج العراق' تحت أيديها أحدث تقنيات الجيوش تحارب كتلا سكانية وأحزابا سياسية وقوي وطنية. فرقة مقاتلة المدنيين.. تعني إنهاء الدولة البوليسية الوطنية القديمة.. لإقامة دولة العولمة البوليسية، ترحموا علي دولة الاستبداد الشرقي ترحموا علي كولونياليات القرنين الثامن والتاسع عشر. انتظروا دولة العولمة البوليسية في طبعتها الإبداعية الجديدة الفاخرة الجامعة المانعة. اشتر واحدة تحصل علي الثانية مجانا.)
هذه الحقيقة بكل بشاعتها وسطوتها وديمومتها يجب أن توضع على مائدة البحث - بجوار الحقيقة الأولى التي تصور بحق أن حربا عالمية أعلنت على المسلمين في كل مكان - قبل الكلام عن تحريم أو عدم تحريم ضرب المدنيين الأبرياء من جانب واحد .
ولا يعني هذا أن أحكام الشريعة الإسلامية أصبحت عاجزة عن مواجهة الموقف الحديث والتشريع له وفقا لأصولها وثوابتها ، وإنما يعني أن الحكم المطلوب يجب أن ينظر في ضوء هذه التطورات الجذرية .
وأما المقدمة الثالثة
فتأتي متأخرة لننتقل فيها إلى النظر في استنباط الفقهاء للحكم الشرعي فيما يتعلق بسلامة الأبرياء من المدنيين أثناء القتال
أولا : يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في وصاياه لبعض جيوشه : ( اغزوا باسم الله ، في سبيل الله ، وقاتلوا من كفر بالله ، اغزوا ولا تغُلّوا ، ولا تغدروا ، ولا تمثلوا ، ولا تقتلوا وليدا ) رواه مسلم بسنده عن سليمان بن بريدة عن أبيه .
وفي رواية لأبي داود في سننه بسنده عن أنس بن مالك يأتي قوله صلى الله عليه وسلم : ( انطلقوا باسم الله وبالله ، وعلى ملة رسول الله ، ولا تقتلوا شيخا فانيا ، ولا طفلا ، ولا صغيرا ، ولا امرأة ، ولا تغُلّوا ، وضعوا غنائمكم ، وأصلحوا ، وأحسنوا ، فإن الله يحب المحسنين ).(/7)
ثانيا : ولا يمنع ذلك من المعاملة بالمثل إذا دعت الضرورة . والأصل في ذلك قوله تعالى : { وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبوا بِمِثْلِ ما عوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصّابِرينَ } 126 النحل ، و يقول تعالى : { ذَلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفورٌ } الحج 60
ولا بد من القول بأن من شرط ذلك ألا يكون لحظ النفس ، فمن ثم لا تصح المثلة إشباعا لحقد ، ولا تصح السرقة جمعا لمال ، ولا يصح الزنا تحقيقا لشهوة .
ثالثا : هنا نجد للمسألة ثلاثة جوانب عند الفقهاء : جانب المعاملة بالمثل من حيث أداة القتل والقتال كالسيف أو الخنجر أو الخنق أو التحريق أو التغريق أو التقطيع ، وجانب المعاملة بالمثل من حيث الموضوع الذي يقع عليه الدمار أوالقتل أو القتال كالجندي أو الرجل أو المرأة أو الشيخ أو الطفل أو الصناع ، أو الفلاحين ، أو الشجرة أو الدار أو المصنع أو السد أو الجسر أو المتحف ، أوالمستشفى إلخ ، وجانب سلطة التنفيذ أو الأمر به كولي الدم أو ولي الأمر .
وفي ساحة السادة الفقهاء نجدهم قد تعرضوا للجوانب الثلاثة بضرب الأمثلة ، ففي كتاب " روح المعاني في تفسير القرآن للألوسي " في تفسير قوله تعالى " والحرمات قصاص " جاء قوله : ( واستدل الشافعي على أن القاتل يقتل بمثل ما قتَل به من محدد أو خنق أو حرق أو تجويع أو تغريق ، حتى لو ألقاه في ماء عذب لم يلق في ماء ملح ) .
وفي فتح القدير للشوكاني : ( قيل وهذا كان في أول الإسلام ، ثم نسخ بالقتال . وقيل إنه ثابت بين أمة محمد صلى الله عليه وسلم لم ينسخ ، ويجوز لمن تعدي عليه في مال أو بدن أن يتعدى بمثل ما تعدي عليه ، وبهذا قال الشافعي وغيره ، وقال آخرون : إن أمور القصاص مقصورة على الحكام ، وهكذا الأموال ، لقوله صلى الله عليه وسلم " أد الأمانة لمن ائتمنك ولا تخن من خانك " أخرجه الدار قطني وغيره ، وبه قال أبو حنيفة وجمهور المالكية وعطاء الخراساني ، والقول الأول أرجح ، وبه قال ابن المنذر واختاره ابن العربي والقرطبي وحكاه الداودي عن مالك .. إلخ ) .
ومما يدل على رجحان أن ذلك لا يكون إلا بوضعه بيد السلطان ما جاء في الدر المنثور للسيوطي في مناسبة نزول قوله تعالى " والحرمات قصاص " وقوله تعالى " فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به " : ( قول ابن عباس رضي الله عنهما : نزل بمكة والمسلمون يومئذ قليل ، فليس لهم سلطان يقهر المشركين ، فكان المشركون يتعاطونهم بالشتم والأذى ، فأمر الله المسلمين من يتجازى منهم أن يتجازى بمثل ما أوتي إليه أو يصبر ويعفو ، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وأعز الله سلطانه أمر المسلمين أن ينتهوا في مظالمهم إلى سلطانه ، ولا يعدو بعضه على بعض ) .
وإذا كان ما تقدم يشير إلى حكم ما يحدث على مستوى النزاع بين الأفراد فللفقهاء اجتهاداتهم أيضا فيما يتعلق من ذلك بالقتال مع العدو على المستوى العام .
ففي كتاب المبسوط في الفقه الحنفي للإمام السرخسي : ( ولا بأس بأن يحرقوا حصونهم ويغرقوها ويخربوا البنيان ويقطعوا الأشجار . وكان الأوزاعي ـ رحمه الله تعالى ـ يكره ذلك كله لحديث أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ في وصية يزيد بن أبي سفيان ـ رضي الله عنه ـ " لا تقطعوا شجراً ، ولا تخربوا ، ولا تفسدوا ضرعاً " .
وتأويل هذا – والكلام للإمام السرخسي - ما ذكره محمد ـ رحمه الله تعالى ـ في السير الكبير أن أبا بكر ـ رضي الله عنه ـ كان أخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن الشام تفتح له فلما علم أن ذلك كله ميراث للمسلمين كره القطع والتخريب لهذا .
ثم الدليل على جوازه – والكلام للإمام السرخسي أيضا - ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم ، أمر بقطع نخيل بني النضير وأمر بقطع النخيل بخيبر ، حتى أتاه عمر ـ رضي الله عنه ـ فقال : أليس أن الله تعالى وعد لك خيبر ؟ فقال : نعم ، فقال : إذا تقطع نخيلك ونخيل أصحابك ، فأمر بالكف عن ذلك .
ولما حاصر ثقيفاً أمر بقطع النخيل والكروم حتى شق ذلك عليهم ، ولما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم من أوطاس يريد الطائف بدا له قصر عوف بن مالك النضري فأمر بأن يحرق ،
فهذه الآثار تدل على جواز ذلك كله.
وكان الحسن بن زياد ـ رحمه الله تعالى ـ يقول : هذا إذا علم أنه ليس في ذلك الحصن أسير مسلم ، فأما إذا لم يعلم ذلك فلا يحل التحريق والتغريق .. ولكنا نقول – والكلام للإمام السرخسي - : لو منعناهم من ذلك يتعذر عليهم قتال المشركين والظهور عليهم ، والحصون قل ما تخلو عن أسير … .
ثم لا يمتنع تحريق حصونهم بكون النساء والولدان فيها ، فكذلك لا يمتنع ذلك بكون الأسير فيها ، ولكنهم يقصدون المشركين بذلك ، لأنهم لو قدروا على التمييز فعلاً لزمهم ذلك ، فكذلك إذا قدروا على التمييز بالنية يلزمهم ذلك.) اهـ(/8)
ولأئمة المذاهب الأخرى اجتهادات واسعة في ذلك ، وقد أشبعها كبار الأئمة – على اختلاف مذاهبهم واتجاهاتهم – بحثا ، ولخصها بعضهم : مثل ابن رشد في بداية المجتهد ، والصنعاني الأمير في سبل السلام ، وابن حزم في المحلى
ففي بداية المجتهد لابن رشد: ( وأما النكاية التي تكون في النفوس فهي القتل ولا خلاف بين المسلمين أنه يجوز في الحرب قتل المشركين الذكران البالغين المقاتلين.
وأما القتل بعد الأسر ففيه الخلاف الذي ذكرنا .
وكذلك لا خلاف بينهم في أنه لا يجوز قتل صبيانهم ولا قتل نسائهم ما لم تقاتل المرأة والصبي ، فإذا قاتلت المرأة استبيح دمها ، وذلك لما ثبت «أنه عليه الصلاة والسلام نهى عن قتل النساء والولدان » وقال في امرأة مقتولة : «ما كانت هذه لتقاتل» .
واختلفوا في أهل الصوامع المنتزعين عن الناس والعميان والزَّمْنى والشيوخ الذين لا يقاتِلون والمعتوه والحراث والعسيف ، فقال مالك : لا يقتل الأعمى ولا المعتوه ولا أصحاب الصوامع ، ويترك لهم من أموالهم بقدر ما يعيشون به ، وكذلك لا يقتل الشيخ الفاني عنده ، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه . وقال الثوري والأوزاعي : لا تقتل الشيوخ فقط . وقال الأوزاعي : لا تقتل الحراث. وقال الشافعي في الأصح عنه : تقتل جميع هذه الأصناف.
وفي قتل الحراث والعسيف والمرأة ، وفي المثلة ، وفي رمي الحصون ، يذكر ابن رشد الأحاديث التي تمنع من ذلك
ثم يتحدث عن النكاية في الأموال فيقول : ( وأما النكاية التي تجوز في أموالهم وذلك في المباني والحيوان والنبات فإنهم اختلفوا في ذلك : فأجاز مالك قطع الشجر والثمار وتخريب العامر، ولم يجز قتل المواشي ولا تحريق النخل. وكره الأوزاعي قطع الشجر المثمر وتخريب العامر كنيسة كان أو غير ذلك . وقال الشافعي: تحرق البيوت والشجر إذا كانت لهم معاقل . وكره تخريب البيوت وقطع الشجر إذا لم يكن لهم معاقل ) ثم يقول ( والسبب في اختلافهم : مخالفة فعل أبي بكر في ذلك لفعله عليه الصلاة والسلام ) وقد سبق تفسير هذا الاختلاف فيما ذكرناه من كلام الإمام السرخسي .
والسبب في اختلافهم: - والكلام ما يزال للإمام ابن رشد - معارضة بعض الآثار بخصوصها لعموم الكتاب، وذلك في قوله تعالى: {فَإذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الحُرُمُ فَاقْتُلُوا المُشْرِكينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} ولعموم قوله عليه الصلاة والسلام الثابت: «أُمَرْتُ أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله» الحديث، يقتضي قتل كل مشرك راهباً كان أو غيره ).
وأما الآثار التي وردت باستبقاء هذه الأصناف ، فيذكر ابن رشد منها ما منع من قتل أصحاب الصوامع ، و ما منع من قتل الشيخ الفاني والطفل الصغير ، والمرأة .
ثم يرجع سبب الاختلاف إلى معارضة قوله تعالى: { وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ الله الَّذينَ يُقَاتِلُونَكُم وَلاَ تَعْتَدُوا، إنَّ الله لا يُحِبُّ المعْتَدِينَ } حيث تفيد هذه الآية اقتصار القتل على المقاتلين دون غيرهم ، لقوله تعالى: { فَإذَا انسَلَخَ الأشْهُرُ الحُرُمُ فاقْتُلُوا المشرِكينَ حَيْثُ وجدتموهم } الآية ، وهي لا تستثني قتلا من قتل
ثم يقول : ( وقد احتج الشافعي بحديث سمرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اقتلوا شيوخ المشركين واستحيوا شرخهم» وكأن العلة الموجبة للقتل عنده إنما هي للكفر، فوجب أن تطرد هذه العلة في جميع الكفار ) .
وأورد الإمام الصنعاني الأمير في (سبل السلام ) جواز قتل النساء والأطفال في رواية متفق عليها : )عن الصَّعْبِ بن جَثَّامةَ رضي الله عَنْهُ قال: سُئِلَ رسول اللّهِ صلى الله عليه وسلم عن الذراري من المشركين يُبَيّتُون فيُصيبُون منْ نسائهمْ وذراريهمْ ؟ فقالَ: «هُمْ منهُمْ» مُتّفقٌ عليه ) .
ثم يشرح الإمام الصنعاني الأمير معنى التببييت وأنه : الإغارة عليهم في الليل على غفلة مع اختلاطهم بصبيانهم ونسائهم فيصاب النساء والصبيان من غير قصد لقتلهم ابتداء.
ثم يذكر ما روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم من النهي عن ذلك فيما بعد في غزوة حنين فيما أخرجه ابن حبان من حديث الصعب وزاد فيه : «ثم نهى عنهم يوم حنين» وهي مدرجة في حديث الصعب ، وفيما أخرجه البخاري من قوله صلى الله عليه وسلم لأحدهم: «الحق خالداً فقل له: لا تقتل ذرّية ولا عسيفاً» وما أخرجه الطبراني في الأوسط من حديث عمر قال: لمّا دخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم مكة أتى بامرأة مقتولة فقال: «ما كانت هذه تقاتل» ونهى عن قتل النساء.
ثم يقول عن المذاهب ( وقد اختلف العلماء في هذا، فذهب الشافعي وأبو حنيفة والجمهور: إلى جواز قتل النساء والصبيان في البيات عملاً برواية الصحيحين. وقوله «هم منهم» أي في إباحة القتل تبعاً لا قصداً إذا لم يمكن انفصالهم عمن يستحق القتل.
وذهب مالك والأوزاعي: إلى أنه لا يجوز قتل النساء والصبيان بحال، حتى إذا تترس أهل الحرب بالنساء والصبيان أو تحصنوا بحصن أو سفينة هما فيهما لم يجز قتالهم ولا تحريقهم.(/9)
وإليه ذهب الهادوية إلا أنهم قالوا في التترس: يجوز قتل النساء والصبيان حيث جعلوا ترساً، ولا يجوز إذا تترسوا بمسلم إلا مع خشية استئصال المسلمين. ونقل ابن بطال وغيره اتفاق الجميع على عدم جواز القصد إلى قتل النساء والصبيان للنهي عن ذلك. )
وذهب الإمام ابن حزم في المحلى إلى أنه ( لا يحل قتل نسائهم ولا قتل من لم يبلغ منهم ، إلا أن يقاتل أحد ممن ذكرنا فلا يكون للمسلم منجاً منه إلا بقتله فله قتله حينئذ. … فإن أصيبوا في البيات أو في اختلاط الملحمة عن غير قصد فلا حرج في ذلك ) .
ثم يرى جواز : ( قتل كل من عدا هؤلاء من المشركين من مقاتل ، أو غير مقاتل ، أو تاجر، أو أجير وهو العسيف أو شيخ كبير : كان ذا رأي ، أو لم يكن ، أو فلاح، أو أسقف ، أو قسيس، أو راهب، أو أعمى، أو مقعد لا تحاش أحداً. وجائز استبقاؤهم أيضاً ) ثم يستشهد بقوله تعالى : { فَاقْتُلُواْ المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ} قائلا : ( فعمّ عز وجل كل مشرك بالقتل إلا أن يسلم ). ثم أخذ يفند ما ذهب إليه مخالفوه في ضوء صحة الحديث أو عدم صحته في مقال طويل .ثم رد عليهم فيها قائلا : ( هذا كل ما شغبوا به ، وكل ذلك لا يصح )
هذه المقدمات الثلاثة قد يخرج منها من هو أكثر فقها بآراء أكثر تطابقا بين الأصول والفروع والوقائع ، من غير إضرار – بالطبع - بشروط القتال ومسلماته الشرعية التي لم نتطرق إليها في هذا البحث لظهورها وعدم الاختلاف فيها ومنها أن يقع الاستثناء في ضوابط القتال الشرعية بشروط دقيقة أشرنا إلى بعضها في قوال الفقهاء ، وذلك بالإضافة إلى المسلمات الشرعية الأخرى : أن يكون القتال ضد أعداء الإسلام المعتدين قصدا على حرماته ، ولا يقصد به مسالم معاهد أو ذمي ، وأن يكون قرار القتال خاضعا لحسابات دقيقة ، محسوبا بالفائدة للمسلمين وفقا لأصول الفقه وقواعده : من دفع الضرر ، وسد الذرائع ، وجلب المصلحة ، وغيرها من الأصول ، وليس اندفاعا إلى الشهادة بغير حساب . وأن يكون مفتوحا لتقبل السلام بشروطه المعروفة شرعا ، وأن يخضع ذلك لقيادة مسئولة شرعا ، مع التتنسيق اللازم مع القيادات المعنية لكي نتجنب ضرر الفتنة الأشد .
وعلى كل حال فمن حق الباحث أن يجد فيما قدمناه من اختلاف الفقهاء ما يدل على سعة أفق المصلحة الذي يطل منه الفقه الإسلامي بحيث إنه لينطوي على إمكان الاستجابة لما يقتضيه ما ذكرناه عن التطور الجذري في وسائل القتال
ولما كنت لم أقصد هنا أن أتقدم بفتوى ، أتطاول بها في مقام الأئمة ، فإنه لمن المؤكد أني قصدت أن أبين أن الباحث في المسالة يجد فيها خلافا واسعا بين الفقهاء لا يصح إهماله ، وبخاصة عند ما نجد استناد كل منهم إلى القرآن الكريم والرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومصدر الخلاف بينهم يرجع إما إلى تضعيف كثير من الأحاديث المعارضة كما هو الحال عند ابن حزم ، أو إلى ما بين هذه الأدلة من عموم وخصوص ومجمل ومقيد : أيهما يرجع للآخر ؟ ، وهو خلاف لا يصح التغطية عليه بانتقاء ما يعتقد البعض أنه الأقرب إلى "روح العصر" أو ما يسمى "حقوق الإنسان " أوما يسمى " الحداثة" ! ، غافلين عن أن " روح العصر" – على العكس مما يتوهمون – أصبحت تتمثل في تطور حضاري – وهذا ما قصدت إليه بالذات – لم يعد يحفل في أعماقه بضرب المدنيين في حروبه وإنما الأمر على العكس من ذلك أصبحت الحرب شديدة التقدم – كمنتج حتمي من منتجات هذه الحضارة – هي تلك التي تبدأ أو تتطور سريعا إلى ضرب المدنيين ، مع قليل من تجمل العجوز ، من أجل عيون – أو رغم أنف – ما يسمى عندهم حقوق الإنسان واتقاقيات جنيف وما أشبه .
كما قصدت أن أبين أن لمشكلة المدنيين في حروب اليوم – وبخاصة ما يواجه المسلمين منها – جانبا أشد تعقيدا مما نتصور وأكثر خطرا مما يساق إلينا من منابر الدعاية ، أو منابر الفتوى ، وهو ثمرة التدهور الإنساني في معطيات الحضارة المعاصرة ، ولست أبالغ إذا قلت إن جوهر أية حضارة إنما يظهر في غضبتها وهي تمارس الحرب كما هو الشأن في الفرد عند الغضب . ولعل هذا البحث أن يكون ورقة متواضعة بين يدي حفل من النظار يدفعهم إلى استجلاء جوانب الموضوع والخروج منه بموقف عملي في ضوء التطورات المعاصرة.
والله أعلم(/10)
من مفاخر الحضارة الإنسانية الحديثة !!
قتل المدنيين في الحروب
" مقدمات للنظر
في وضع" المدنيين الأبرياء "
في ساحة القتال
ملاحظة هامة : نشرت فقرات كثيرة منه في مقالة " التحريض ضد الإسلام الذي نشر في 7\2004
من مفاخر الحضارة الإنسانية الحديثة !!
قتل المدنيين في الحروب
مقدمات للنظر
في وضع" المدنيين الأبرياء " أثناء القتال
بين حكم الإسلام وواقع الحضارة المعاصرة
يظهر حرص الإسلام على سلامة " المدنيين الأبرياء أثناء الحروب من شروطه الأخلاقية والتشريعية التي وضعها للسلام والقتال
وليس السلام في الإسلام حالة سلبية تتمثل في إلقاء السلاح ، ولكنه – إسلاميا- صفة إيجابية تتمثل في إنجاز السلام بمعناه الإسلامي . فإذا وقع القتال فمن شروطه تطبيق الشريعة والعدل ، والإحسان ، ومن ذلك النهي عن التدمير والتحريق والتغريق ، وقتل الأطفال والنساء والشيوخ ، والتمثيل بالجثث ، وقطع الأشجار .
ولكي نبدأ النظر في الموضوع نرى حتمية النظر أولا في مقدمات ضرورية قبل الخوض في الجزئيات والتفاصيل إذ لا بد من رؤية شاملة لأصول الموضوع .
وفي هذه الرؤية الشاملة نجد أنفسنا أمام ثلاث مقدمات :
المقدمة الأولى : أن المسلمين يجدون أنفسهم حاليا بإزاء حرب شاملة - تتخللها هدنة هنا وهدنة هناك - قامت بالفعل منذ بداية الاستعمار الحديث أعلنها الغرب من جهته عليهم في جميع الجبهات ، واشتدت وتيرتها في العقدين الأخيرين ، وهي حرب معلنة – أو خفية - مستمرة ولن تزال حتى تحقق أهدافها من وجهة نظر الذين أعلنوها ، أو تفشل كما يتمنى الذين وقعت ولا تزال تقع عليهم .
المقدمة الثانية وهي تتمثل في أن تقنيات هذه الحرب جديدة تماما تدور في ظل حضارة جديدة لها ثقافتها الجديدة أيضا ، وهي من ثم تحتاج من أجل المواجهة التشريعية إلى تقييم جديد .
المقدمة الثالثة : أن خلافا واسعا وقع بين الفقهاء في المسألة .
أما عن المقدمة الأولى : فتظهر في تصور العداء التاريخي الذي يكنه الغرب للإسلام والمسلمين ونحن لن نغوص هنا في التاريخ ولكن نكتفي بلفتة وراءنا لسنوات قليلة .
(1) وأضع أمام القارئ ما عرضته مجلة الشروق الصادرة في إمارة الشارقة عدد 152 \6 بتاريخ 12\ 3 \1995 وعنوان غلافها ( استراتيجيات ونظريات مجنونة في بلاد الغرب : الإسلام العدو رقم 1 ) وفيه يقول بشير البكر في رسالته إلى المجلة من باريس : ( تقاطعت مجموعة من الإشارات الدولية خلال النصف الأول من الشهر الماضي [ يناير 1995 ] تلتقي جميعها حول الأصولية الإسلامية ، لكنها تتجاوزها إلى موقف الغرب من الإسلام بصورة عامة ، ودول الجنوب بصفة خاصة ، وجاءت أولاها من طرف الأمين العام لحلف شمال الأطلسي ( الناتو ) ويلي كلايس ، عند ما اعتبر أن الأصولية الإسلامية باتت العدو رقم واحد للحلف ، بعد انهيار المعسكر الاشتراكي ونهاية الحرب الباردة ولذلك يتوجب محاربتها ) وقد كشف كلايس عن مبادرته في حديثين صحافيين قبل أن يطرحها في صورة رسمية أمام مجلس سفراء الحلف في اجتماعه الأخير ، وانتقلت مبادرة كلايس إلى قرار سياسي أصدره الحلف بفتح حوار حول الموضوع مع دول مثل مصر وإسرائيل )
وفي التحقيق الذي كتبه الأستاذ بشير في العدد المشار إليه جاء في حديث للسيد ماريانو آغوري أحد أبرز الخبراء الأوربيين ومدير مركز الدراسات والبحوث الاستراتيجية الأسباني قوله : ( نرى أن الفضاء الإسلامي هو المكان الذي تنطلق منه المخاطر والتهديدات والكوارث في أواخر هذا القرن . إن حالة الارتياب من الإسلام ليست جديدة ، وهي ناتجة اليوم عن عداء خفي يشير إلى أن الإسلام هو الخطر الأكبر الذي يهدد الغرب بصفة غير مباشرة … وأخيرا والآن بعد ما اختفى الاتحاد السوفيتي يتساءل الاستراتيجيون والمختصون في الشئون الجيوسياسية عن المخاطر التي يمكن أن تنتج عن إسلام يمتلك القنبلة الذرية حيال أوربا خلال القرن الحادي والعشرين ، من هنا جاءت موجة الإعداد لمواجهة هذا العدو الجديد )
ثم يتحدث السيد ماريانو عن مدى جدية الخطر الإسلامي فيقول ( وهنا سوف أقتطف فقرة من تقرير أصدرته " الأكاديمية الملكية للشئون الدولية " في لندن ، وقد جاء في هذا التقرير ما يلي : " بالنسبة إلى الأوربيين كان الإسلام مسألة تشغل بالهم دائما ، غير أن هذه المشكلة ليست ظاهرة بعيدة ، والآن أصبحت جزءا من الواقع الثقافي في الأحياء الأكثر فقرا في بعض المدن الأوربية ، إن العدو القديم تسلل من الباب الخلفي حاملا لافتات غرائبية وغير منطقية تكونت عبر العصور : " جهاد ضد الكافرين ، وتقبل سلبي للمصير ، وللعقيدة المتزمتة " ) وعندما سئل السيد ماريانو ( ألا تعتقدون بأن ذلك يذكر بتقاليد المواجهة التاريخية في جانبها الصليبي ؟ ) قال : ( إن تقليد المواجهة بين العالمين الإسلامي والمسيحي يعود إلى تاريخ قديم ، غير أنه خلال العقدين الماضيين تكون ما يمكن تسميته وعيا جديا مناهضا للإسلام ) .(/1)
والغريب أن السيد ماريانو وهو يعود بالوعي الأوربي الجديد في مناهضته للإسلام إلى أكذوبة الخوف من امتلاكه لأسلحة الدمار الشامل – وهو ما تحولت إليه الولايات المتحدة الأمريكية في حربها للإرهاب - لا يطرأ على ذهنه سؤال عن المخاطر التي تهدد الوطن الإسلامي ، والتي يمكن أن تنتج عن عدو – كالدولة الصهيونية - يمتلك أسلحة الدمار الشامل .
ولنا أن نتشكك في جدية أن يكون امتلاك أسلحة الدمار الشامل سببا كافيا في شن حرب شاملة على العالم الإسلامي ، وإلا فقد ظل الاتحاد السوفيتي عقودا يمتلكها وتم علاج الحال بغير أن تنشب هذه الحرب ، وانحصر الأمر فيما أطلق عليه الحرب الباردة ، واليوم يمتلكها الاتحاد الروسي بالفعل وما من تفكير في شن حرب ضده ، وكذلك امتلكتها إسرائيل والهند وباكستان ودول أخرى ولم يجر العمل على شن حرب ، وربما قيل : استعيض عن ذلك بما يسمى توازن الرعب ، وإذن فلم لا يكون الأمر كذلك في امتلاك الدول الإسلامية مثلا ؟ وتوازن الرعب ضدها يظل قويا متفوقا شديد التفوق ؟
وهنا يشير بعضهم إلى ( أن التهديدات النووية يمكنها أن تكون صادرة من بلدان العالم الثالث حيث رؤساء الدول لا يتمتعون بقدر كاف من العقلانية ، وليسوا واعين للعواقب التي ستترتب على عدم الانصياع للمنطق المفروض من قبل الولايات المتحدة وروسيا خلال الحرب الباردة )
وهنا تبدو عنصرية هذا الطرح الذي ينطلق من عقيدة الغرب في تفوق الرجل الأبيض عنصريا ، كما يبدو منطقه متهافتا إذ يعني أن الجنون حالة إسلامية .
وبما أننا نحن المسلمين نواجه في الواقع عدوا عاقلا جدا ، فإنه لابد من وجود تفسير أكثر عمقا وشمولا وعقلانية من مجرد الإشارة إلى أسلحة الدمار الشامل : إنها فكرة الصراع في الغرب ، نجدها جزءا من بنيتهم الثقافية قديما وحديثا ، فهناك " صراع الآلهة " فوق جبال الأولمب ، كما نجده في أساطير الإلياذة والأوذيسة وما جره هذا الصراع من صراع بين أسبرطة وأثينا ، ثم هناك صراع الدولة الرومانية مع الدولة الفارسية ، وصراعها مع الإسلام ، وصراع المسيحية مع الإسلام ، وزحف هذا الصراع إلى أمريكا في عملية إبادة الهنود الحمر ، وزحف الاستعمار الحديث على الشرق ، وصراع الغرب لإبادة المسلمين في حروب القرم والقوقاز ، والبلقان ، وتحتل فكرة الصراع موضع العقيدة في التكوين الثقافي للإنسان الغربي المعاصر ، فهو - أي هذا الإنسان - قد يشك في عقيدته المسيحية ، وقد يشك في عقيدته الرأسمالية ، أو غيرها ولكن تبقى لديه فكرة الصراع راسخة لا تمس ، بدءا بالصراع البيولوجي الذي أسسه دارون ، ومرورا بالصراع الاجتماعي عند هربرت سبنسر ، وانتهاء بصراع القوميات عند نيتشة ، وهو - أي هذا الإنسان - في ذلك كله ينظر إلى الصراع لا باعتباره شرا لابد منه ، ولكن باعتباره آلية التقدم في الطبيعة والإنسانية والحضارة .
(2) ومن هنا يصبح من العجيب أن يُفجأ بعضنا بنداءات الصراع الحضاري كما عبر عنها أخيرا هذا أو ذاك من المفكرين أو السياسيين ، وهذه الفجاءة مصدرها الغفلة عن طبيعة عدو يبحث عن العداوة قبل أن تفرض عليه ، ويراها لحمة الانتماء في مجتمعاته هشة البنيان ، وينشدها كأنها فيتامين الصحة والعافية ، فهل يفيدنا نحن المسلمين في شيء أن نخدر أنفسنا بالكلام عن إنسانية الحضارة الغربية ، وسلام الحوار الديني الذي نعرف أنه لقد كانت المخابرات الفرنسية من سدنته الكبار– ضمن تيارات أخرى – بقيادة مديرها الأكبر الكونت دي مارانش ، منذ أوائل السبعينات من القرن الماضي ، في حركته نحو احتواء الإسلام سياسيا واقتصاديا في صيغة سماها " الحوار الإسلامي المسيحي" ثم طورها من بعد إلى ما سماه " الحوار الديني " ، وفقا لوثائق الأستاذ محمد حسنين هيكل في مقاله بمجلة " الكتب :وجهات نظر " ( مايو 2001) التي تصدر بالقاهرة ؟ بينما الطرف الآخر ينظر إلينا وإلى الإسلام على وجه الخصوص على أنه ظاهرة عرضت في مسار التاريخ ، وهي في طريقها إلى الزوال بفضل خطتهم الطويلة في الصراع ؟(/2)
إنه الصراع الذي لا يكتفي بمقتضى ثقافتهم بغير إبادة الآخر ، مهما ارتفعت لديهم شعارات الديموقراطية وحقوق الإنسان والحوار والاعتراف بالآخر ، فهي شعارات سطحية يسمح بها طالما كانت الأمور " تحت السيطرة " لحساب التفوق العنصري الأبيض ، أما إذا اهتز هذا التفوق أو تحركت ضده نذر الخطر من بعيد على مرمى قارات ومرمى قرون فإن الإبادة للآخر تنكشف لتكون هي الأساس ، إبادة الآخر في الأندلس ، إبادة الآخر في القارة الأمريكية الجديدة ( الهنود الحمر ) ، إبادة الآخر المسلم في أوربا الشرقية والبلقان وآسيا الصغرى والقوقاز ، إبادة الآخر في الشرق الأوسط ، في الجزائر وفلسطين والعراق وإيران ، إبادة الآخر في تصنيفهم للعالم أخيرا إلى محورين : أحدهما للخير ، والآخر للشر . تلك هي مشكلتهم المستعصية التي يعالجونها بلا هوادة منذ ظهور الإسلام إلى اليوم ، وليس من بعد أحداث حالية .
أليس من الضروري إذن أن نحذر المسلمين اليوم من التناوم والغفلة عن ثأر أوربا ضد الإسلام الذي يتركز في منطقة الشرق الأوسط بالذات ، ولن يكتفي هذا الثأر حتى يقتات على لحومهم ودمائهم وعظامهم بغير استثناء ، ويتطاول إلى قدسين : تم له الإطباق على أحدهما وهو بيت المقدس ، ويخطو حاليا بخطوات ثابتة نحو الآخر .
وهاهو وزير السياحة الإسرائيلي المدعو بني آلون يصرح لصحيفة هأرتس في مطلع شهر ( مايو 2003 م ) قائلا : " من الواضح أن الإسلام في طريقه إلى الزوال ، فما نشاهده اليوم في العالم الإسلامي ليس انتفاضة إيمان قوية ، بل انطفاء جذوة الإسلام ، أما كيف سيزول فبكل بساطة بقيام حرب مسيحية صليبية ضد الإسلام في غضون بضع سنوات ، ستكون الحدث الأهم في هذه الألفية ، وطبعا سنواجه مشكلة كبرى حين لا يبقى في الساحة سوى الديانتين الكبيرتين : اليهودية !! والمسيحية ، غير أن ذلك ما زال متروكا للمستقبل البعيد "
و رجوعا إلى أصحاب المناقصة وفلسفة التنازل في تعاملهم مع الغرب : ألسنا نراهم في موقف من مواقف الكوميديا السوداء إذ يردون – على لسان شيخ أزهرهم – بما نسمعه اليوم من كلامهم عن السلام والتسامح والحوار ، ( إن الإسلام لا يعادي أحدا ، بل إن الإسلام دين السلام وليس دين العداوة ) ( إن الإسلام يمد يده بالسلام العادل وبالاطمئنان والأمان ) مجلة الشروق سالف الذكر ص 20 أو هكذا نواجه المدفع بالمؤتمرات ، ويقفل الملف وتسلم الحرمات ، أو هكذا نقرأ الآيات كأنما نتستر على عورات ؟ ، أو هكذا نقرأ " ولا تقربوا الصلاة " ؟؟!
وفقا لنفسية الهزيمة والاستسلام هذه فإن الدول العربية – كما جاء بافتتاحية جريدة الخليج الإماراتية بتاريخ 1\ 3\ 2002 أخذت - ولا تزال في خطة خريطة الطريق - : ( تغرق الكيان الصهيوني بالمبادرات والمشاريع والأفكار والنوايا الحسنة والتطبيع والهرولة ومد الأيدي و"التسول " ، ونبذ الإرهاب ونبذ العنف ، وصولا – ربما إذا استمر الوضع على ما هو عليه – إلى نبذ المقاومة والكفاح وحق الدفاع عن النفس ، والشروع في مصادرة ما نملك من " حجارة وسكاكين الدمار " الشامل !! إن سمحت الولايات المتحدة و"إسرائيلها " بأن يبقى للدول العربية ما تملكه ) إن السلام المطلوب منا هو في ( سلموا الحقوق ، سلموا الأرض ، سلموا المقدسات ، وسلموا كل مقاوم ، وسلموا كل من يرمي حجرا ، وسلموا كل من في قلبه نبض : تسلموا ، ويسمح لكم بالبقاء في المنطقة بالشروط المعروفة والتي يمكن معها الترحم على الاستعمار أيام زمان ) هكذا وبمباركة من مفتين يعرضون من الإسلام ما يخل فيه بالتوازن بين السلام والجهاد.
(3) وبقدر ما أنه من المناقصة على الإسلام – في باب الدعوة للقتال - أن يعرض الحمائم فيه " حوار السلام والرحمة والتسامح " في نفس الوقت الذي وصلت قعقعة السلاح ضده إلى عنان السماء ، كذلك فإنه من المزايدة الفارغة على الإسلام - في باب الدعوة للسلام – أن ينكر أعداؤه عليه فريضة الجهاد ، لأنهم إذ ينكرونها فإنما يدعون إلى حالة من الفوضى والضعف يصبح السلام معها أمرا مستحيلا ، إذ من المؤكد تاريخيا أن الضعف يمثل الإغراء الأقوى بالاعتداء وتدمير السلام ، ومن المؤكد استراتيجيا كما هو معروف أن نفوذ الأقوياء ليس حصيلة قوتهم فحسب ولكنه معادلة من طرفين : قوتهم الذاتية + ضعف العدو وحرص رجاله على الحياة ، وهم إذ ينكرون الجهاد على الإسلام لا ينكرون عليه فريضة دينية فحسب ، ولكنهم يرتكبون نفاقا مكشوفا : حيث يحرصون على أن يغرق الكيان الصهيوني فلسطين بالدماء والدمار بأحدث الأسلحة الأمريكية ، تاركا للدول العربية أن تحصي الشهداء ، الذين يسقطون والمنازل التي تدمر والأراضي التي تجرف أو تصادر ) وحيث يحرصون على أن تمتلئ ترساناتهم الحربية بما يكفي لتدمير الحياة الإنسانية على الأرض مرات ومرات بينما هم يعملون على تجريد المسلمين من كل سلاح بدعوى السلام ، في الوقت نفسه .(/3)
(4) وإنه لمن التجهيل المتعمد الذي يأتينا من أبواب الدعاية والتلاعب بالعقول وصناعة الرأي العام وفق استراتيجية العدو ما يشاع من أن موقف الغرب الذي أعلنه أخيرا من الإسلام باعتباره العدو ومحور الشر في العالم إنما هو ضد المسلمين المتطرفين ، ثم جددوا عبارتهم فصارت ضد المسلمين الإرهابيين ، ثم جددوا عبارتهم فصارت ضد الإسلامويين لا المسلمين !! وهي عبارات شديدة الإبهام والغموض … روجتها وسائل الإعلام عن " معهد القيم الأمريكية " وهو بيت خبرة مستقل ، صدرت باسم ستين من المثقفين الأمريكيين ضمن رسالة مفتوحة موجهة إلى الأمريكيين والمجتمع الدولي يشرحون فيه لماذا يعتقدون أن الحرب على الإرهاب ضرورية عادلة ، حيث يفرقون في البيان بين الإسلام المعتدل والإسلاموية الشريرة ، وحيث علق الأستاذ سعد محيو في عموده اليومي في اليوم السابق على نشر البيان مترجما بجريدة الخليج قائلا : إن ( التمييز بين الإسلام والإسلاموية صائب تماما ) أما في رأينا فهي تفرقة غير صائبة مع الاعتذار للأستاذ سعد محيو ، إذ قد تختلط – في ساحة الإسلام المعتدل !! - بالتفرقة بين رجل السياسة الذي قد يكون معتدلا ورجل الجيش الذي لابد من أن يكون عنيفا ؟ فهل يصح أن ينسب رجل الجيش إلى الشر عندئذ ؟ ، أم أن نسبة الشر إلى أحدهما مقصود بها التضليل بخلط الأوراق . وهكذا يبتلع مثقفونا الطُّعم ، أو يريدون لنا أن نبتلعه .( أنظر ما جاء بجريدة الخليج يوم 27\2\2002 )
ونحن بحاجة إلى قدر كبير من السذاجة لنصدق ما يشاع من أن هذا الموقف قد جاء نتيجة ما ارتكبه بعض الحمقى من اعتداءات على المدنيين الأبرياء ، ففضلا عن أن هذه الأحداث كان من الممكن حصر النظر إليها في نطاق القانون والأمن والمخابرات القديرة التي تصل ميزانياتها السنوية إلى مليارات الدولارات والتي صنعت بعض هؤلاء الحمقى من قبل ، إلا أنه من المؤكد أنها لم تكن هي التي صنعت كل هذه الكراهية الهائلة التي تتفجر في الغرب ضد كل ما هو عربي أو إسلامي ، إذ لهذه الكراهية أصل ثقافي من صنع التبشير والاستشراق والسيطرة والمعرفة المؤدلجة من أجل السلطة ، وله ماض تاريخي طويل عريض يبدأ من ظهور الإسلام إلى حروبه مع الإمبراطورية الرومانية في الشرق الأوسط في الشام ومصر ، وحوض البحر الأبيض المتوسط والحروب الصليبية وجنوب أوربا ، مرورا بأسبانيا وأوربا الشرقية وسقوط الدولة العثمانية وانتشار الاستعمار الغربي القديم والحديث طوال عمر الإسلام ؛ والاستيطان الصهيوني أخيرا ، وليرجع من يريد الاستزادة إلى كتاب إدوارد سعيد عن الاستشراق ليعرف كيف تتجذر هذه الكراهية طوال القرون في الفكر والأدب والسياسة والاجتماع -
ولا نريد أن نستطرد هنا في العرض التاريخي مراعاة لشعور الطابور الخامس الذي يسكن في ديارنا فلقد بلغ الأمر ببعض إخواننا وهو بصدد بيان ما ارتكبه الغرب من مظالم تجاه الشرق بدءا من الحروب الصليبية إلى الاستعمار ، إلى ما سماه " الإطلالة الأمريكية على المنطقة " !! بلغ الأمر به أن استذكر أن هذا ( بالطبع لا يعني أن الشرق – يعني المسلمين - كانوا دوما ملائكة ، ولا بد في لحظة ما أن يأتي الوقت كي يعترف هؤلاء بأخطائهم ، بما في ذلك الوجود في أسبانيا لأكثر من 500 عام ؟!، وتهديد أمن أوربا المسيحية لأكثر من 500 عام آخر ، وصولا إلى العصور الحديثة التي شهدت تراجعا ملحوظا في التسامح الإسلامي تجاه الأقليات ) وردا على هذه المزاعم وقياسا على سلسلة الاعتذارات هذه كان ينبغي على أصحابها أن يطالبوا باعتذار العرب عن وجودهم في الشرق الأوسط منذ ظهور الإسلام ، وأن يطالبوا الأنجلو سكسون ، واللاتينيين بالاعتذار عن وجودهم في أمريكا منذ أقل من أربعمائة عام ، بل وأن يطالبوا المسيحيين بالاعتذار عن وجودهم في أوربا منذ ألفي عام ، حيث إن المسيحية ظهرت أصلا في آسيا ؟؟ !
وفي كلامهم عن اعتذار الشرقيين عن وجودهم في الأندلس لمدة 500 عام قياسا على اعتذار متوهم من الغرب عن مظالمه للشرق لابد لنا هنا من الكشف عن الفرق الذي عميت عنه العيون بين فتح إسلامي جعله الإسلام لأصحاب العقيدة لا لخصوص الفاتحين ولتصبح أجناس من الأمم هم أصحاب الإسلام وأصحاب دولته حقا : من فرس وأكراد ومماليك وتتار وأتراك وهنود وأوربيين أيضا ، وصل اعتناقهم للإسلام إلى حد جرى فيه النقاش ومن ثم التشكيك حول ما إذا كان العرب أصحاب الفتوحات الأولى مثلهم أو أقل منهم في ميزان اختصاصهم بالإسلام دولة وشريعة وحضارة ؟ .. أقول : لا بد لنا هنا من الكشف عن الفرق بين هذا الفتح الإسلامي و غزو يوناني ، وروماني ، وصليبي ، واستعماري ،وصهيوني ، وأمريكي أخيرا؟ لسنا بحاجة في هذه العجالة لسرد جرائمه و جرائره في استعباد الشعوب وامتصاص دمائهم وتصديرها لحساب الرجل الأبيض .(/4)
إنه في سياق المقارنة الزائفة بين الحروب الصليبية باعتبارها خطأ ارتكبه الغرب المسيحي ضد المسلمين !! ، في مقابلة خطأ المسلمين الذي ارتكب ضد الغرب المسيحي في فتح الأندلس – ولنقل غزوها لا بأس – وفتح جنوب فرنسا الذي لم يستقر ، وفتح بلاد شاسعة من أوربا … عندما يحدث ذلك من بعض رجالات الصحافة المتأمركين عندنا فإنه لابد من التعقيب عليه بكشف قناع الزيف فيه ، لا بالذهاب إلى تفاصيل التاريخ التي تدمغ هذه المقارنة بالجهل فحسب ، ولكن لنتساءل أيضا : أكان خطأ المسلمين ضد الغرب المسيحي قاصرا – في تقديرهم - على أسبانيا وأوربا ؟ أو هو ينسحب على فتح مصر والشام وجنوب البحر الأبيض المتوسط ، الذي كان غارقا في مستنقع البطالمة والرومان وأذنابهم ؟ ثم ينسحب إلى أفريقيا وآسيا باعتبار عالمية المسيحية في تقدير الغرب المسيحي ؟ ، ثم ينسحب إلى الجزيرة العربية بأدق وأقدس أماكنها التي هي ملك لهم حسب صريح خطتهم في مؤتمراتهم التاريخية في التبشير ؟
ولم لا نكشف الأوراق بطريقة محترمة لنقول : إن عالمية الدعوة الإسلامية ، وعالمية الدعوة المسيحية – حسب اعتقاد الكنيسة الموقرة – تدعونا إلى استبعاد هذه المباراة الصبيانية بين اعتذار عن خطأ من هنا واعتذار عن خطأ من هناك .. لنعالج القضية في إطارها الحضاري الصحيح : أي لنقارن إنسانيا بين دخول الصليبيين القدس - عندما قتلوا من رجال المسلمين وأطفالهم ونسائهم سبعين ألفا في أيام وأطلقوا من دمائهم نافورات جعلت خيل الصليبين تتعثر فيها داخل المسجد حتى الركب _ وبين دخول الإسلام مكة الطلقاء ، أو دخوله أسبانيا – دخولا حرمت منه فرنسا لسوء حظها – بمقاييس الحرية والعلم والحضارة والإنسانية ؟
ولست بحاجة في هذا المقام لفتح كثير من الملفات ولكن تكفيني الإشارة إلى شهادة المنصفين من مؤرخي الغرب وليقرأ من يريد أن يقرأ كتاب ( شمس الإسلام تسطع على الغرب ) للمستشرقة الألمانية زيجفريد هونكة – وبالمناسبة فعنوان الكتاب في أصله باللغة الألمانية هو كما ذكرته ، بينما المترجم العربي قدس الله سره حرفه إلى شمس العرب – فليقرأ القارئون : ليسألوا بعد ذلك : أين شمس الغرب المسيحي في سماء الشرق ؟ أين شمسه التي أطلت من سماء الأندلس بعد طرد المسلمين ، هل كنا لنجدها في غير محاكم التفتيش ، أو في أحياء الموريسكيين ( المسلمين المتنصرين قسرا ) ؟ أين شمسه لكي يبحث عنها الباحثون في عصور الظلام في أوربا نفسها التي افتقدوا في سمائها أي شعاع ، وليدركوا أن أوربا إنما نهضت بالخروج على المسيحية عندما لبست ثوب العلمانية وعندما تابعت خطى الإسلام في موقفه من العلم ؟ أين شمسه في موجة النهب والاستعمار الأوربي ؟ ثم موجة الاستيطان الصهيوني ؟ هذا هو السؤال ، ونرجو ألا يكون الجواب من نوع الأخطاء التي يراد منا أن نعترف بها كفتح الأندلس !!.
هذه هي المقدمة الأولى التي يتضح منها أن المعركة إنما هي مع الإسلام بكل أشكاله وألوانه ومع أهله جميعا معتدلين ومتطرفين ، والغرب على يقين (!!) بأن المتطرفين إنما يخرجون من عباءة المعتدلين ، ومن ثم فإن المعتدلين – في نظرهم - هم الأكثر خطرا ، واسألوا رجال المخابرات الحاذقين ، إنها إذن المعركة المعلنة من جانب الغرب على الإسلام على مستوى خريطة العالم شرقا وغربا وشمالا وجنوبا .
(2\2)
تطور وسائل القتال كمقدمة
لازمة لنظر الفقهاء في سلامة " المدنيين الأبرياء "
أثناء القتال
وأما الحقيقة الثانية اللازمة كمقدمة للنظر في حكم سلامة المدنيين الأبرياء أثناء القتال فأعني بها التطور الجذري الشامل الذي طرأ على وسائل القتال وأدواته ، وبخاصة إذا لاحظنا أننا نتكلم عبر تطور قيمي وحضاري وتكنولوجي امتد لعشرات القرون ، انتقلت فيه الإنسانية من حضارة إلى حضارة أخرى ، واصطحبت معها تغيرا في الثقافة المساندة ، ومن المسلم به أن الحضارة إذ تتطور بسرعة أكبر من ثقافتها – بفعل القفزات التكنولوجية المفاجئة - يصبح من الخطأ إصدار بعض الأحكام القيمية لها أو عليها من خلال الثقافة التي تم انفصال الحضارة عنها:(/5)
ومن ثم فنحن نرى أن الفقه الاجتهادي في الإسلام يواجه اليوم بتحد بارز في هذه القضية ، نظرا لاستحالة تحقيق الشروط الأخلاقية الإسلامية في الحرب الحديثة في سياق الحضارة المعاصرة ، وهي حرب لم تعد أسلحتها تعتمد على الطابع الأخلاقي أصلا ، كالشجاعة والشرف والمواجهة والمروءة والرجولة والمهارات الجسدية والإنفاق الشخصي ، تلك الأسلحة التي كانت تتطابق مع تقنية ميدان المعركة نفسها ومنها تقسيم الجيش إلى صفوف تتواجه خارج التجمعات السكانية ، وإنما هي تعتمد اليوم على المستوى الأعلى من التقدم العلمي التكنولوجي ، في الاقتصاد والاتصالات والتنظيم والإدارة والخبرة والتجسس ، والهندسة ، والجندي المدرب على الآلة ، المعبأ نفسيا ضد عدو لا يعرفه ، والذي يضرب مالا يراه ولا يحس به ، كما تعتمد على الصواريخ التي يساوي واحد منها دخل مدينة ، و الطائرات التي تساوي واحدة منها دخل إمارة ، والقنابل التي تساوي واحدة منها دخل دولة ، وميزانيات الدولة للحروب التي تبلغ – في الولايات المتحدة – هذا العام أكثر من أربعمائة مليار دولار ، تم دعمها بمثلها ، كما تعتمد أساسا على أسلحة الدمار الشامل وتدمير المدن ومراكز الطاقة والمصانع والجسور وخطوط الاتصال والمواصلات والإنتاج والتوزيع والبورصة والنقد ، وتجميد الأموال لعشرات السنين ، – أو سرقتها على الأصح – ومصادرة أموال الجمعيات الخيرية ، وبث الذعر في صفوف الجماهير إلى حد يمكن فيه تحويلهم إلى أداة تعمل في صالح العدو نفسه ، وهي أوضاع تختلف جذريا عما كانت عليه قبل التقدم العلمي الحديث ، بحيث أصبح التقيد المطلق بأخلاقيات الحرب القديمة يعنى التحالف مع الهزيمة ابتداء .
لقد تطورت الحرب الحديثة تحت لواء التقدم العلمي التكنولوجي الهائل الذي أحرزته الدول الكبرى ومن يليها إلى حرب ليست لا تبالي فقط بضرب الأبرياء من المدنيين بل هي تجعلهم هدفها الأول والرئيس ، تحت ستار ما أصبح يسمى - من باب التزييف أو النفاق - تدمير البنية التحتية للعدو في المواصلات والمياه والكهرباء والإعلام ووسائل المعيشة ، والروح المعنوية للشعب ، وقد بدأ هذا التطور منذ الحرب العالمية الأولى واستشرى بعد ذلك وما يزال يستشري ، وهي نتيجة حتمية لتطور وسائل القتال الحديثة ، ولقد ذهب – ربما إلى غير رجعة - أسلوب القتال في العصور القديمة والعصور الوسطى " المتخلفة " الذي كان يعتمد على المواجهة بين صفوف القتال في أرض المعركة ، فإذا انهزم الجيش انتهت الحرب ، أما في التطور الحديث فقد انقلب الترتيب وأصبحت المعركة تبدأ أو تتطور إلى ضرب المدنيين أصلا فإذا تحطمت المدينة انتهت الحرب .
ونحن ما نزال نذكر عدد القتلى في الحرب العالمية الثانية الذي بلغ أربعين مليونا – فهل كان هؤلاء من العسكريين ،؟ كما يزال كثير منا يذكر المعارك المؤثرة في مجريات الحرب العالمية الثانية بتدمير المدن الرئيسية الكبرى مثل لندن وبرلين وغيرها ، وما نزال نذكر كيف أن الضربة الحاسمة في انتصار الغرب الديموقراطي في الحرب العالمية الثانية كانت بتدمير مدينتين كبيرتين في اليابان هما هيروشيما ونجازاكي ، واليوم يضرب العدو المسلم مدنيا في كل مكان عله يركع أو ( يتبع ملتهم ) في الشيشان والبوسنة والهرسك وكوسوفو ، وأفغانستان وفلسطين والعراق إلخ
إننا نظلم الإسلام إذا وقفنا هنا لنتحدث عن المثل العليا ، دون أن نلتفت إلى ما يمارسه أعداؤه – في واقع الساحة الدولية بعامة – من نكسة حضارية بتدمير المدن ، وقتل مئات الآلاف من غير المحاربين في طلقة نووية واحدة ، تقتلهم عند الإطلاق ، كما تقتلهم بعد الإطلاق بعشرات السنين ، وضربهم باليورانيوم : في مخادعهم التي عليها ينامون ، وقتلهم بهوائهم الذي يتنفسون ، وتسميمهم بمائهم الذي يشربون ، ونشر الإشعاع القاتل في بيئتهم حتى خارج حدود إقليم الحرب ، وكما يجب أن نلتفت إلى ما يجري من جيش إسرائيل المسلح بأحدث الأسلحة الأمريكية ضد أطفال الانتفاضة الفلسطينيين وشبانهم الذين لا يملكون من الأسلحة غير الاستشهاد ، وما يقوم به العدو من حصار تجويعي ، واغتيالات للأفراد ، وتصفية دماء الجرحى ، والحيلولة بينهم وبين العلاج حتى الموت ، وضرب سيارات الإسعاف ، وقتل أطبائها وسائقيها ، وقتل متعمد للأطفال ، والنساء والشيوخ في مخادعهم ، والمرضى في أسرتهم ، وإغلاق المدارس ، وهدم المستشفيات ، وتجريف المزارع ، وتدمير البيوت والطرق ، وتخريب مصادر الماء والطاقة والإنتاج ..
( فرقة مقاتلة المدنيين!
خالد محمود
جريد الأسبوع بتاريخ 16\2\2004(/6)
من أفظع ما حملته الصحف من تقارير ما نشرته 'جينز دفنس ويكلي' في عددها الأخير من أن البنتاجون أفرد في خطته منذ ثلاثة أعوام في الحرب علي العراق بابا أساسيا بقوات وتشكيلات واستعدادات لقتال المدنيين في الأزقة والفناءات وغرف النوم.. قالت الدورية العسكرية المتخصصة: إن مؤسسة العسكرية الأمريكية 'المجردة من كل شرف' رتبت بعد تجربة الصومال وتحت إشراف مركز 'أدبو' وبالتعاون مع مؤسسة 'داند' مؤتمرا بهذا الخصوص انتهي عمليا ببناء قرية 'شوفارت جوردن' للتدريب علي العمليات العسكرية في الأراضي المدنية، ثم قرية 'زوسمان' في فورت نوكس في كنتاكي وفي أماكن أخري في بريطانيا وعدد من دول الناتو.
ويكشف التقرير عن ثلاث شركات متعددة الجنسيات دخلت حلبة الملعب مع البنتاجون لتطوير تقنيات غير مسبوقة لمحاربة المدنيين تعتمد علي آخر صيحة في العلوم الاتصالية والديجيتال هي شركة 'فاير ارمز تريننج سيستمز'، وشركة 'تاليس' الفرنسية، وشركة 'إيه آي اس'، كما يكشف عن تعاون شركة 'بارامونت' للإنتاج السينمائي مع هذه الشركات للوصول إلي أفضل النتائج للقضاء علي 'العدو المدني'.
يمضي التقرير المنشور علي مساحة ضخمة بقارئه إلي تفاصيل فنية متشابكة لكن يبقي القارئ العربي يغالب دهشته الأولية يسأل سؤالين: الأول هل أصبح قتال المدنيين في بيوتهم ومساجدهم وربما أرحام أمهاتهم هكذا بالمطلق أمرا شرعيا يدرس في كليات أركان الحرب عيانا بيانا دون أي جملة شرطية أو اعتراضية؟ والثاني إذا كان الأمر كذلك فإلي متي يظل العربي في عالمنا فيما يتعلق بالسياسة والعسكرية والعلم والاستراتيجيا والحياة في كل مرة آخر من يعلم؟ فيما يخص الأخيرة يتذكر المشاهد العربي خبراء البنادق الرش الذين وجعوا أدمغتنا وزغللوا أبصارنا أثناء الحرب وملأوا السبورات أمام شاشات الفضائيات أسهما ودوائر ومعادلات ونظريات وبرهنت الأيام أن معظم ما قالوه لا علاقة له من قريب أو بعيد بما كان يتم علي أرض الواقع وأن خيال معظمهم السياسي مع التفاؤل توقف عند معركة أحد. نفس الكارثة كانت هناك في الداخل العراقي.
ففكرة التصدي العراقي ارتكزت علي قيم قديمة ومفاهيم قديمة واتفاقات إنسانية قديمة جوهرها أن الجيوش تحارب جيوشا وأنه أيا كان التجاوز هنا أو هناك فالعدو لن يحارب شعبا ومدنا أو تداخل جيش وطني مع مقاومة شعبية. لم يدر بخلد المقاومين العراقيين ولا بخلدنا أن العدو قادم من منابع فكرية وأخلاقية غير مسبوقة السفالة، وأنه أقذر مما كنا نتوقع مليون مرة، وأنه ليس قادما لاطاحة شخص أو قلب نظام وإنما لتدمير جيش وتخريب وطن وتغيير معادلات سكان بالتأليب والفتن والحرق والإبادة الجماعية ونزف الثروات والتصحير الحضاري وهذا كله ما كان يمكن أن يتم إلا بفكرة لم ترد علي ذهن الشيطان أولها قصف وردم العراق علي من فيها دون تمييز وتسريح جيشها ودولتها وفكرتها والثاني إقامة دولة بوليس خارجية 'أي دعامتها من خارج العراق' تحت أيديها أحدث تقنيات الجيوش تحارب كتلا سكانية وأحزابا سياسية وقوي وطنية. فرقة مقاتلة المدنيين.. تعني إنهاء الدولة البوليسية الوطنية القديمة.. لإقامة دولة العولمة البوليسية، ترحموا علي دولة الاستبداد الشرقي ترحموا علي كولونياليات القرنين الثامن والتاسع عشر. انتظروا دولة العولمة البوليسية في طبعتها الإبداعية الجديدة الفاخرة الجامعة المانعة. اشتر واحدة تحصل علي الثانية مجانا.)
هذه الحقيقة بكل بشاعتها وسطوتها وديمومتها يجب أن توضع على مائدة البحث - بجوار الحقيقة الأولى التي تصور بحق أن حربا عالمية أعلنت على المسلمين في كل مكان - قبل الكلام عن تحريم أو عدم تحريم ضرب المدنيين الأبرياء من جانب واحد .
ولا يعني هذا أن أحكام الشريعة الإسلامية أصبحت عاجزة عن مواجهة الموقف الحديث والتشريع له وفقا لأصولها وثوابتها ، وإنما يعني أن الحكم المطلوب يجب أن ينظر في ضوء هذه التطورات الجذرية .
وأما المقدمة الثالثة
فتأتي متأخرة لننتقل فيها إلى النظر في استنباط الفقهاء للحكم الشرعي فيما يتعلق بسلامة الأبرياء من المدنيين أثناء القتال
أولا : يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في وصاياه لبعض جيوشه : ( اغزوا باسم الله ، في سبيل الله ، وقاتلوا من كفر بالله ، اغزوا ولا تغُلّوا ، ولا تغدروا ، ولا تمثلوا ، ولا تقتلوا وليدا ) رواه مسلم بسنده عن سليمان بن بريدة عن أبيه .
وفي رواية لأبي داود في سننه بسنده عن أنس بن مالك يأتي قوله صلى الله عليه وسلم : ( انطلقوا باسم الله وبالله ، وعلى ملة رسول الله ، ولا تقتلوا شيخا فانيا ، ولا طفلا ، ولا صغيرا ، ولا امرأة ، ولا تغُلّوا ، وضعوا غنائمكم ، وأصلحوا ، وأحسنوا ، فإن الله يحب المحسنين ).(/7)
ثانيا : ولا يمنع ذلك من المعاملة بالمثل إذا دعت الضرورة . والأصل في ذلك قوله تعالى : { وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبوا بِمِثْلِ ما عوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصّابِرينَ } 126 النحل ، و يقول تعالى : { ذَلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفورٌ } الحج 60
ولا بد من القول بأن من شرط ذلك ألا يكون لحظ النفس ، فمن ثم لا تصح المثلة إشباعا لحقد ، ولا تصح السرقة جمعا لمال ، ولا يصح الزنا تحقيقا لشهوة .
ثالثا : هنا نجد للمسألة ثلاثة جوانب عند الفقهاء : جانب المعاملة بالمثل من حيث أداة القتل والقتال كالسيف أو الخنجر أو الخنق أو التحريق أو التغريق أو التقطيع ، وجانب المعاملة بالمثل من حيث الموضوع الذي يقع عليه الدمار أوالقتل أو القتال كالجندي أو الرجل أو المرأة أو الشيخ أو الطفل أو الصناع ، أو الفلاحين ، أو الشجرة أو الدار أو المصنع أو السد أو الجسر أو المتحف ، أوالمستشفى إلخ ، وجانب سلطة التنفيذ أو الأمر به كولي الدم أو ولي الأمر .
وفي ساحة السادة الفقهاء نجدهم قد تعرضوا للجوانب الثلاثة بضرب الأمثلة ، ففي كتاب " روح المعاني في تفسير القرآن للألوسي " في تفسير قوله تعالى " والحرمات قصاص " جاء قوله : ( واستدل الشافعي على أن القاتل يقتل بمثل ما قتَل به من محدد أو خنق أو حرق أو تجويع أو تغريق ، حتى لو ألقاه في ماء عذب لم يلق في ماء ملح ) .
وفي فتح القدير للشوكاني : ( قيل وهذا كان في أول الإسلام ، ثم نسخ بالقتال . وقيل إنه ثابت بين أمة محمد صلى الله عليه وسلم لم ينسخ ، ويجوز لمن تعدي عليه في مال أو بدن أن يتعدى بمثل ما تعدي عليه ، وبهذا قال الشافعي وغيره ، وقال آخرون : إن أمور القصاص مقصورة على الحكام ، وهكذا الأموال ، لقوله صلى الله عليه وسلم " أد الأمانة لمن ائتمنك ولا تخن من خانك " أخرجه الدار قطني وغيره ، وبه قال أبو حنيفة وجمهور المالكية وعطاء الخراساني ، والقول الأول أرجح ، وبه قال ابن المنذر واختاره ابن العربي والقرطبي وحكاه الداودي عن مالك .. إلخ ) .
ومما يدل على رجحان أن ذلك لا يكون إلا بوضعه بيد السلطان ما جاء في الدر المنثور للسيوطي في مناسبة نزول قوله تعالى " والحرمات قصاص " وقوله تعالى " فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به " : ( قول ابن عباس رضي الله عنهما : نزل بمكة والمسلمون يومئذ قليل ، فليس لهم سلطان يقهر المشركين ، فكان المشركون يتعاطونهم بالشتم والأذى ، فأمر الله المسلمين من يتجازى منهم أن يتجازى بمثل ما أوتي إليه أو يصبر ويعفو ، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وأعز الله سلطانه أمر المسلمين أن ينتهوا في مظالمهم إلى سلطانه ، ولا يعدو بعضه على بعض ) .
وإذا كان ما تقدم يشير إلى حكم ما يحدث على مستوى النزاع بين الأفراد فللفقهاء اجتهاداتهم أيضا فيما يتعلق من ذلك بالقتال مع العدو على المستوى العام .
ففي كتاب المبسوط في الفقه الحنفي للإمام السرخسي : ( ولا بأس بأن يحرقوا حصونهم ويغرقوها ويخربوا البنيان ويقطعوا الأشجار . وكان الأوزاعي ـ رحمه الله تعالى ـ يكره ذلك كله لحديث أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ في وصية يزيد بن أبي سفيان ـ رضي الله عنه ـ " لا تقطعوا شجراً ، ولا تخربوا ، ولا تفسدوا ضرعاً " .
وتأويل هذا – والكلام للإمام السرخسي - ما ذكره محمد ـ رحمه الله تعالى ـ في السير الكبير أن أبا بكر ـ رضي الله عنه ـ كان أخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن الشام تفتح له فلما علم أن ذلك كله ميراث للمسلمين كره القطع والتخريب لهذا .
ثم الدليل على جوازه – والكلام للإمام السرخسي أيضا - ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم ، أمر بقطع نخيل بني النضير وأمر بقطع النخيل بخيبر ، حتى أتاه عمر ـ رضي الله عنه ـ فقال : أليس أن الله تعالى وعد لك خيبر ؟ فقال : نعم ، فقال : إذا تقطع نخيلك ونخيل أصحابك ، فأمر بالكف عن ذلك .
ولما حاصر ثقيفاً أمر بقطع النخيل والكروم حتى شق ذلك عليهم ، ولما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم من أوطاس يريد الطائف بدا له قصر عوف بن مالك النضري فأمر بأن يحرق ،
فهذه الآثار تدل على جواز ذلك كله.
وكان الحسن بن زياد ـ رحمه الله تعالى ـ يقول : هذا إذا علم أنه ليس في ذلك الحصن أسير مسلم ، فأما إذا لم يعلم ذلك فلا يحل التحريق والتغريق .. ولكنا نقول – والكلام للإمام السرخسي - : لو منعناهم من ذلك يتعذر عليهم قتال المشركين والظهور عليهم ، والحصون قل ما تخلو عن أسير … .
ثم لا يمتنع تحريق حصونهم بكون النساء والولدان فيها ، فكذلك لا يمتنع ذلك بكون الأسير فيها ، ولكنهم يقصدون المشركين بذلك ، لأنهم لو قدروا على التمييز فعلاً لزمهم ذلك ، فكذلك إذا قدروا على التمييز بالنية يلزمهم ذلك.) اهـ(/8)
ولأئمة المذاهب الأخرى اجتهادات واسعة في ذلك ، وقد أشبعها كبار الأئمة – على اختلاف مذاهبهم واتجاهاتهم – بحثا ، ولخصها بعضهم : مثل ابن رشد في بداية المجتهد ، والصنعاني الأمير في سبل السلام ، وابن حزم في المحلى
ففي بداية المجتهد لابن رشد: ( وأما النكاية التي تكون في النفوس فهي القتل ولا خلاف بين المسلمين أنه يجوز في الحرب قتل المشركين الذكران البالغين المقاتلين.
وأما القتل بعد الأسر ففيه الخلاف الذي ذكرنا .
وكذلك لا خلاف بينهم في أنه لا يجوز قتل صبيانهم ولا قتل نسائهم ما لم تقاتل المرأة والصبي ، فإذا قاتلت المرأة استبيح دمها ، وذلك لما ثبت «أنه عليه الصلاة والسلام نهى عن قتل النساء والولدان » وقال في امرأة مقتولة : «ما كانت هذه لتقاتل» .
واختلفوا في أهل الصوامع المنتزعين عن الناس والعميان والزَّمْنى والشيوخ الذين لا يقاتِلون والمعتوه والحراث والعسيف ، فقال مالك : لا يقتل الأعمى ولا المعتوه ولا أصحاب الصوامع ، ويترك لهم من أموالهم بقدر ما يعيشون به ، وكذلك لا يقتل الشيخ الفاني عنده ، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه . وقال الثوري والأوزاعي : لا تقتل الشيوخ فقط . وقال الأوزاعي : لا تقتل الحراث. وقال الشافعي في الأصح عنه : تقتل جميع هذه الأصناف.
وفي قتل الحراث والعسيف والمرأة ، وفي المثلة ، وفي رمي الحصون ، يذكر ابن رشد الأحاديث التي تمنع من ذلك
ثم يتحدث عن النكاية في الأموال فيقول : ( وأما النكاية التي تجوز في أموالهم وذلك في المباني والحيوان والنبات فإنهم اختلفوا في ذلك : فأجاز مالك قطع الشجر والثمار وتخريب العامر، ولم يجز قتل المواشي ولا تحريق النخل. وكره الأوزاعي قطع الشجر المثمر وتخريب العامر كنيسة كان أو غير ذلك . وقال الشافعي: تحرق البيوت والشجر إذا كانت لهم معاقل . وكره تخريب البيوت وقطع الشجر إذا لم يكن لهم معاقل ) ثم يقول ( والسبب في اختلافهم : مخالفة فعل أبي بكر في ذلك لفعله عليه الصلاة والسلام ) وقد سبق تفسير هذا الاختلاف فيما ذكرناه من كلام الإمام السرخسي .
والسبب في اختلافهم: - والكلام ما يزال للإمام ابن رشد - معارضة بعض الآثار بخصوصها لعموم الكتاب، وذلك في قوله تعالى: {فَإذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الحُرُمُ فَاقْتُلُوا المُشْرِكينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} ولعموم قوله عليه الصلاة والسلام الثابت: «أُمَرْتُ أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله» الحديث، يقتضي قتل كل مشرك راهباً كان أو غيره ).
وأما الآثار التي وردت باستبقاء هذه الأصناف ، فيذكر ابن رشد منها ما منع من قتل أصحاب الصوامع ، و ما منع من قتل الشيخ الفاني والطفل الصغير ، والمرأة .
ثم يرجع سبب الاختلاف إلى معارضة قوله تعالى: { وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ الله الَّذينَ يُقَاتِلُونَكُم وَلاَ تَعْتَدُوا، إنَّ الله لا يُحِبُّ المعْتَدِينَ } حيث تفيد هذه الآية اقتصار القتل على المقاتلين دون غيرهم ، لقوله تعالى: { فَإذَا انسَلَخَ الأشْهُرُ الحُرُمُ فاقْتُلُوا المشرِكينَ حَيْثُ وجدتموهم } الآية ، وهي لا تستثني قتلا من قتل
ثم يقول : ( وقد احتج الشافعي بحديث سمرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اقتلوا شيوخ المشركين واستحيوا شرخهم» وكأن العلة الموجبة للقتل عنده إنما هي للكفر، فوجب أن تطرد هذه العلة في جميع الكفار ) .
وأورد الإمام الصنعاني الأمير في (سبل السلام ) جواز قتل النساء والأطفال في رواية متفق عليها : )عن الصَّعْبِ بن جَثَّامةَ رضي الله عَنْهُ قال: سُئِلَ رسول اللّهِ صلى الله عليه وسلم عن الذراري من المشركين يُبَيّتُون فيُصيبُون منْ نسائهمْ وذراريهمْ ؟ فقالَ: «هُمْ منهُمْ» مُتّفقٌ عليه ) .
ثم يشرح الإمام الصنعاني الأمير معنى التببييت وأنه : الإغارة عليهم في الليل على غفلة مع اختلاطهم بصبيانهم ونسائهم فيصاب النساء والصبيان من غير قصد لقتلهم ابتداء.
ثم يذكر ما روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم من النهي عن ذلك فيما بعد في غزوة حنين فيما أخرجه ابن حبان من حديث الصعب وزاد فيه : «ثم نهى عنهم يوم حنين» وهي مدرجة في حديث الصعب ، وفيما أخرجه البخاري من قوله صلى الله عليه وسلم لأحدهم: «الحق خالداً فقل له: لا تقتل ذرّية ولا عسيفاً» وما أخرجه الطبراني في الأوسط من حديث عمر قال: لمّا دخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم مكة أتى بامرأة مقتولة فقال: «ما كانت هذه تقاتل» ونهى عن قتل النساء.
ثم يقول عن المذاهب ( وقد اختلف العلماء في هذا، فذهب الشافعي وأبو حنيفة والجمهور: إلى جواز قتل النساء والصبيان في البيات عملاً برواية الصحيحين. وقوله «هم منهم» أي في إباحة القتل تبعاً لا قصداً إذا لم يمكن انفصالهم عمن يستحق القتل.
وذهب مالك والأوزاعي: إلى أنه لا يجوز قتل النساء والصبيان بحال، حتى إذا تترس أهل الحرب بالنساء والصبيان أو تحصنوا بحصن أو سفينة هما فيهما لم يجز قتالهم ولا تحريقهم.(/9)
وإليه ذهب الهادوية إلا أنهم قالوا في التترس: يجوز قتل النساء والصبيان حيث جعلوا ترساً، ولا يجوز إذا تترسوا بمسلم إلا مع خشية استئصال المسلمين. ونقل ابن بطال وغيره اتفاق الجميع على عدم جواز القصد إلى قتل النساء والصبيان للنهي عن ذلك. )
وذهب الإمام ابن حزم في المحلى إلى أنه ( لا يحل قتل نسائهم ولا قتل من لم يبلغ منهم ، إلا أن يقاتل أحد ممن ذكرنا فلا يكون للمسلم منجاً منه إلا بقتله فله قتله حينئذ. … فإن أصيبوا في البيات أو في اختلاط الملحمة عن غير قصد فلا حرج في ذلك ) .
ثم يرى جواز : ( قتل كل من عدا هؤلاء من المشركين من مقاتل ، أو غير مقاتل ، أو تاجر، أو أجير وهو العسيف أو شيخ كبير : كان ذا رأي ، أو لم يكن ، أو فلاح، أو أسقف ، أو قسيس، أو راهب، أو أعمى، أو مقعد لا تحاش أحداً. وجائز استبقاؤهم أيضاً ) ثم يستشهد بقوله تعالى : { فَاقْتُلُواْ المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ} قائلا : ( فعمّ عز وجل كل مشرك بالقتل إلا أن يسلم ). ثم أخذ يفند ما ذهب إليه مخالفوه في ضوء صحة الحديث أو عدم صحته في مقال طويل .ثم رد عليهم فيها قائلا : ( هذا كل ما شغبوا به ، وكل ذلك لا يصح )
هذه المقدمات الثلاثة قد يخرج منها من هو أكثر فقها بآراء أكثر تطابقا بين الأصول والفروع والوقائع ، من غير إضرار – بالطبع - بشروط القتال ومسلماته الشرعية التي لم نتطرق إليها في هذا البحث لظهورها وعدم الاختلاف فيها ومنها أن يقع الاستثناء في ضوابط القتال الشرعية بشروط دقيقة أشرنا إلى بعضها في قوال الفقهاء ، وذلك بالإضافة إلى المسلمات الشرعية الأخرى : أن يكون القتال ضد أعداء الإسلام المعتدين قصدا على حرماته ، ولا يقصد به مسالم معاهد أو ذمي ، وأن يكون قرار القتال خاضعا لحسابات دقيقة ، محسوبا بالفائدة للمسلمين وفقا لأصول الفقه وقواعده : من دفع الضرر ، وسد الذرائع ، وجلب المصلحة ، وغيرها من الأصول ، وليس اندفاعا إلى الشهادة بغير حساب . وأن يكون مفتوحا لتقبل السلام بشروطه المعروفة شرعا ، وأن يخضع ذلك لقيادة مسئولة شرعا ، مع التتنسيق اللازم مع القيادات المعنية لكي نتجنب ضرر الفتنة الأشد .
وعلى كل حال فمن حق الباحث أن يجد فيما قدمناه من اختلاف الفقهاء ما يدل على سعة أفق المصلحة الذي يطل منه الفقه الإسلامي بحيث إنه لينطوي على إمكان الاستجابة لما يقتضيه ما ذكرناه عن التطور الجذري في وسائل القتال
ولما كنت لم أقصد هنا أن أتقدم بفتوى ، أتطاول بها في مقام الأئمة ، فإنه لمن المؤكد أني قصدت أن أبين أن الباحث في المسالة يجد فيها خلافا واسعا بين الفقهاء لا يصح إهماله ، وبخاصة عند ما نجد استناد كل منهم إلى القرآن الكريم والرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومصدر الخلاف بينهم يرجع إما إلى تضعيف كثير من الأحاديث المعارضة كما هو الحال عند ابن حزم ، أو إلى ما بين هذه الأدلة من عموم وخصوص ومجمل ومقيد : أيهما يرجع للآخر ؟ ، وهو خلاف لا يصح التغطية عليه بانتقاء ما يعتقد البعض أنه الأقرب إلى "روح العصر" أو ما يسمى "حقوق الإنسان " أوما يسمى " الحداثة" ! ، غافلين عن أن " روح العصر" – على العكس مما يتوهمون – أصبحت تتمثل في تطور حضاري – وهذا ما قصدت إليه بالذات – لم يعد يحفل في أعماقه بضرب المدنيين في حروبه وإنما الأمر على العكس من ذلك أصبحت الحرب شديدة التقدم – كمنتج حتمي من منتجات هذه الحضارة – هي تلك التي تبدأ أو تتطور سريعا إلى ضرب المدنيين ، مع قليل من تجمل العجوز ، من أجل عيون – أو رغم أنف – ما يسمى عندهم حقوق الإنسان واتقاقيات جنيف وما أشبه .
كما قصدت أن أبين أن لمشكلة المدنيين في حروب اليوم – وبخاصة ما يواجه المسلمين منها – جانبا أشد تعقيدا مما نتصور وأكثر خطرا مما يساق إلينا من منابر الدعاية ، أو منابر الفتوى ، وهو ثمرة التدهور الإنساني في معطيات الحضارة المعاصرة ، ولست أبالغ إذا قلت إن جوهر أية حضارة إنما يظهر في غضبتها وهي تمارس الحرب كما هو الشأن في الفرد عند الغضب . ولعل هذا البحث أن يكون ورقة متواضعة بين يدي حفل من النظار يدفعهم إلى استجلاء جوانب الموضوع والخروج منه بموقف عملي في ضوء التطورات المعاصرة.
والله أعلم(/10)
من مفاسد الزنا
دار الوطن
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
فالزنا فساد كبير، وشر مستطير، له آثار كبيرة، وتنجم عنه أضرار كثيرة، سواء على مرتكبيه، أو على الأمة بعامة.
وبما أن الزنا يكثر وقوعه، وتكثر الدواعي إليه، فهذه نبذة عن آثاره ومفاسده، وآفاته وأضراره:
1ـ الزنا يجمع خلال الشر كلها من: قلة الدين، وذهاب الورع، وفساد المروءة، وقلة الغيرة، ووأد الفضيلة.
2ـ يقتل الحياء ويلبس وجه صاحبه رقعة من الصفاقة والوقاحة.
3ـ سواد الوجه وظلمته، وما يعلوه من الكآبة والمقت الذي يبدو للناظرين.
4ـ ظلمة القلب، وطمس نوره.
5ـ الفقر اللازم لمرتكبيه، وفي أثر يقول الله تعالى: { أما مهلك الطغاة، ومفقر الزناة }.
6ـ أنه يذهب حرمة فاعله، ويسقطه من عين ربه وأعين عباده، ويسلب صاحبه اسم البر، والعفيف، والعدل، ويعطيه اسم الفاجر، والفاسق، والزاني، والخائن.
7ـ الوحشة التي يضعها الله في قلب الزاني، وهي نظير الوحشة التي تعلو وجهه؛ فالعفيف على وجهه حلاوة، وفي قلبه أنس، ومن جالسه استأنس به، والزاني بالعكس من ذلك تماماً.
8ـ أن الناس ينظرون إلى الزاني بعين الريبة والخيانة، ولا يأمنه أحد على حرمته وأولاده.
9ـ ومن أضراره الرائحة التي تفوح من الزاني، يشمها كل ذي قلب سليم، تفوح من فيه، ومن جسده.
10ـ ضيقة الصدر وحرجه؛ فإن الزناة يعاملون بضد قصودهم؛ فإن من طلب لذة العيش وطيبه بمعصية الله عاقبه الله بنقيض قصده؛ فإن ما عند الله لا ينال إلا بطاعته، ولم يجعل الله معصيته سبباً إلى خير قط.
* ولو علم الفاجر ما في العفاف من اللذة والسرور، وانشراح الصدر، وطيب العيش؛ لرأى أن الذي فاته من اللذة أضعاف أضعاف ما حصل.
11ـ الزاني يعرض نفسه لفوات الاستمتاع بالحور العين في المساكن الطيبة في جنات عدن.
12ـ الزنا يجرئ على قطيعة الرحم وعقوق الوالدين، وكسب الحرام، وظلم الخلق، وإضاعة الأهل والعيال وربما قاد إلى سفك الدم الحرام، وربما استعان عليه بالسحر والشرك وهو يدري أو لا يدري؛ فهذه المعصية لا تتم إلا بأنواع من المعاصي قبلها ومعها، ويتولد عنها أنواع أخرى من المعاصي بعدها؛ فهي محفوفة بجند من المعاصي قبلها وجند من المعاصي بعدها، وهي أجلب شيء لشر الدنيا والآخرة، وأمنع شيء لخير الدنيا والآخرة.
13ـ الزنا يذهب بكرامة الفتاة ويكسوها عاراً لا يقف عندها، بل يتعداها إلى أسرتها؛ حيث تدخل العار على أهلها، وزوجها، وأقاربها، وتنكس به رؤوسهم بين الخلائق.
14ـ أن العار الذي يلحق من قذف بالزنا أعلق من العار الذي ينجر إلى من رمي بالكفر وأبقى؛ إلا إن التوبة من الكفر على صدق القاذف تذهب رجسه شرعاً، وتغسل عاره عادة، ولا تبقي له في قلوب الناس حطة تنزل به عن رتبة أمثاله ممن ولدوا في الإسلام، بخلاف الزنا؛ فإن التوبة من ارتكاب فاحشته ـ وإن طهرت صاحبها تطهيراً، ورفعت عنه المؤاخذة بها في الآخرة ـ يبقى لها أثر في النفوس، ينقص بقدره عن منزلة أمثاله ممن ثبت لهم العفاف من أول نشأتهم.
وانظر إلى المرأة ينسب إليها الزنا كيف يتجنب الأزواج نكاحها وإن ظهرت توبتها؛ مراعاة للوصمة التي أُلصقت بعرضها سالفاً، ويرغبون أن ينكحوا المشركة إذا أسلمت رغبتهم في نكاح الناشئة في الإسلام.
15ـ إذا حملت المرأة من الزنا، فقتلت ولدها جمعت بين الزنا والقتل، وإذا حملته على الزوج أدخلت على أهلها وأهله أجنبياً ليس منهم، فورثهم ورآهم وخلا بهم، وانتسب إليهم وهو ليس منهم إلى غير ذلك من مفاسد زناها.
16ـ أن الزنا جناية على الولد؛ فإن الزاني يبذر نطفته على وجه يجعل النسمة المخلقة منها مقطوعة عن النسب إلى الآباء، والنسب معدود من الروابط الداعية إلى التعاون والتعاضد؛ فكان الزنا سبباً لوجود الولد عارياً من العواطف التي تربطه بأدنى قربى يأخذون بساعده إذا زلت به فعله، ويتقوى به اعتصابهم عند الحاجة إليه.
كذلك فيه جناية عليه، وتعريض به؛ لأنه يعيش وضيعاً في الأمة، مدحوراً من كل جانب؛ فإن الناس يستخفون بولد الزنا، وتنكره طبائعهم، ولا يرون له من الهيئة الاجتماعية اعتباراً؛ فما ذنب هذا المسكين؟ وأي قلب يحتمل أن يتسبب في هذا المصير؟!
17ـ زنا الرجل فيه إفساد المرأة المصونة وتعريضها للفساد والتلف.
18ـ الزنا يهيج العداوات، ويزكي نار الانتقام بين أهل المرأة وبين الزاني، ذلك أن الغيرة التي طبع عليها الإنسان على محارمه تملأ صدره عند مزاحمته على موطوءته، فيكون ذلك مظنة لوقوع المقاتلات وانتشار المحاربات؛ لما يجلبه هتك الحرمة للزوج وذوي القرابة من العار والفضيحة الكبرى، ولو بلغ الرجل أن امرأته أو إحدى محارمه قتلت كان أسهل عليه من أن يبلغه أنها زنت.
قال سعد بن عبادة ـ ـ "لو رأيت رجلاً مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح".(/1)
فبلغ ذلك رسول الله فقال: { أتعجبون من غيرة سعد! والله لأنا أغير منه، والله أغير مني؛ ومن أجل غيرة الله حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن } [أخرجه البخاري ومسلم].
19ـ للزنا أثر على محارم الزاني، فشعور محارمه بتعاطيه هذه الفاحشة يسقط جانباً من مهابتهن ـ كما مر ـ ويسهل عليهن بذل أعراضهن ـ إن لم يكن ثوب عفافهن منسوجاً من تربية دينية صادقة.
بخلاف من ينكر الزنا ويتجنبه، ولا يرضاه لغيره؛ فإن هذه السيرة تكسبه مهابة في قلوب محارمه، وتساعده على أن يكون بيته طاهراً عفيفاً.
20ـ للزنا أضرار جسيمة على الصحة يصعب علاجها والسيطرة عليها، بل ربما أودت بحياة الزاني، كالإيدز، والهربس، والزهري، والسيلان، ونحوها.
21ـ الزنا سبب لدمار الأمة؛ فقد جرت سنة الله في خلقه أنه عند ظهور الزنا يغضب الله ـ عز وجل ـ ويشتد غضبه، فلا بد أن يؤثر غضبه في الأرض عقوبة.
قال ابن مسعود ـ رضي الله عنه: "ما ظهر الربا والزنا في قرية إلا أذن الله بإهلاكها".
ومما يدل على عظم شأن الزنا أن الله ـ سبحانه ـ خص حده من بين الحدود بخصائص، قال ابن القيم ـ رحمه الله: "وخص سبحانه حد الزنا من بين الحدود بثلاثة خصائص:
أحدها: القتل فيه بأشنع القتلات، وحيث خففه جمع فيه بين العقوبة على البدن بالجلد، وعلى القلب بتغريبه عن وطنه سنة.
الثاني: أنه نهي عباده أن تأخذهم بالزناة رأفة في دينه؛ بحيث تمنعهم من إقامة الحد عليهم، فإنه سبحانه من رأفته بهم شرع هذه العقوبة؛ فهو أرحم منكم بهم، ولم تمنعه رحمته من أمره بهذه العقوبة؛ فلا يمنعكم أنتم ما يقوم بقلوبكم من الرأفة من إقامة أمره.
وهذا وإن كان عاماً في سائر الحدود، ولكن ذكر في حد الزنا خاصة لشدة الحاجة إلى ذكره؛ فإن الناس لا يجدون في قلوبهم من الغلظة والقسوة على الزاني ما يجدونه على السارق والقاذف وشارب الخمر؛ فقلوبهم ترحم الزاني أكثر مما ترحم غيره من أرباب الجرائم، والواقع شاهد بذلك؛ فنهوا أن تأخذهم هذه الرأفة وتحملهم على تعطيل حد الله.
وسبب هذه الرحمة: أن هذا الذنب يقع من الأشراف والأوساط، والأرذال، ووفي النفوس أقوى الدواعي إليه، والمشارك فيه كثير، وأكثر أسبابه العشق، والقلوب مجبولة على رحمة العاشق، وكثير من الناس يعد مساعدته طاعة وقربة، وإن كانت الصورة المعشوقة محرمة عليه، ولا يستنكر هذا الأمر؛ فإنه مستقر عند من شاء الله من أشباه الأنعام.ولقد حكي لنا من ذلك شيء كثير عن ناقصي العقول كالخدم والنساء.
وأيضاً فإن هذا ذنب غالباً ما يقع مع التراضي من الجانبين؛ ولا يقع فيه من العدوان والظلم والاغتصاب ما تنفر النفوس منه، وفيها شهوة غالبة له، فيصور ذلك لها، فتقوم بها رحمة تمنع من إقامة الحد، وهذا كله من ضعف الإيمان.
وكمال الإيمان أن تقوم به قوة يقيم بها أمر الله، ورحمة يرحم لها المحدود؛ فيكون موافقاً لربه ـ تعالى ـ في أمره ورحمته.
الثالث: أنه سبحانه أمر أن يكون حدهما بمشهد من المؤمنين، فلا يكون في خلوة بحيث لا يراهما أحد، وذلك أبلغ في مصلحة الحد، وحكمة الزجر".
ومما يحسن التنبيه عليه في هذا الشأن: أن فاحشة الزنا تتفاوت بحسب مفاسدها؛ فالزاني والزانية مع كل أحد أشد من الزنا بواحدة أو مع واحد، والمجاهر بما يرتكب أشد من الكاتم له، والزنا بذات الزوج أشد ن الزنا بالتي لا زوج لها؛ لما فيه من الظلم، والعدوان عليه، وإفساد فراشه، وقد يكون هذا أشد من مجرد الزنا أو دونه.
والزنا بحليلة الجار أعظم من الزنا ببعيدة الدار، لما يقترن بذلك من أذى الجار، وعدم حفظ وصية الله ورسوله .
وكذلك الزنا بامرأة الغازي في سبيل الله أعظم إثماً عند الله من الزنا بغيرها، ولهذا يقال للغازي: خذ من حسنات الزاني ما شئت.
وكذلك الزنا بذوات المحارم أعظم جرماً، واشنع، وأفظع؛ فهو الهلك بعينه.
وكما تختلف درجات الزنا بحسب المزني بها، فكذلك تتفاوت درجاته بحسب الزمان والمكان، والأحوال؛ فالزنا في رمضان ليلاً أو نهاراً أعظم إثماً منه في غيره، وكذلك في البقاع الشريفة المفضلة هو أعظم منه فيما سواها.
وأما تفاوته بحسب الفاعل: فالزنا من المحصن أقبح من البكر، ومن الشيخ اقبح من الشاب، ومن العالم أقبح من الجاهل، ومن القادر على الاستغناء أقبح من الفقير العاجز.
وقد يقترن بالفاحشة من العشق الذي يوجب اشتغال القلب بالمعشوق، وتأليهه، وتعظيمه، والخضوع له، والذل له، وتقديم طاعته وما يأمر به على طاعة الله، ومعاداة من يعاديه، وموالاة من يواليه، ما قد يكون أعظم ضرراً من مجرد ركوب الفاحشة.
كيفية التوبة من الزنا
وبعد أن تبين عظم جرم الزنا، وآثاره المدمرة على الأفراد والأمة، فإنه يحسن التنبيه على وجوب التوبة من الزنا، فيجب على من وقع في الزنا، أو تسبب في ذلك أو أعان عليه أن يبادرإلى التوبة النصوح، وأن يندم على ما مضى، وألا يرجع إليه إذا تمكن من ذلك.(/2)
ولا يلزم من وقع في الزنا رجلاً كان أو امرأة أن يسلم نفسه، ويعترف بجرمه، بل يكفي في ذلك أن يتوب إلى ربه، وأن يستتر بستره ـ عز وجل ـ.
وإن كان عند الزاني صور لمن كان يفجر بها، أو تسجيل لصوتها أو لصورتها فليبادر إلى التخلص من ذلك، وإن كان قد أعطى تلك الصور أو ذلك التسجيل أحداً من الناس فليسترده نه، وليتخلص منه بأي طريقة.
وإن كانت المرأة قد وقع لها تسجيل أو تصوير وخافت أن ينتشر لأمرها، فعليها أن تبادر إلى التوبة، وألا يكون ذلك معوقاً لها عن الإقبال على ربها، بل يجب عليها أن تتوب، وألا تستسلم للتهديد والترهيب فإن الله كافيها ومتوليها، ولتعلم أن من يهددها جبان رعديد، وأنه سوف يفضح نفسه إن هو أقدم على نشر ما بيده.
ثم ماذا يكون إذا هو نفذ ما يهدد به؟ أيهما أسهل: فضيحة يسيرة في الدنيا ويعقبها توبة نصوح؟ أو فضيحة على رؤوس الأشهاد يوم القيامة ثم يعقبها دخول النار وبئس القرار؟
ومما ينفع في هذا الصدد إن هي خافت من نشر أمرها: أن تستعين برجل رشيد من محارمها؛ ليعينها على التخلص مما وقعت فيه؛ فربما كان ذلك الحل ناجعاً مفيداً.
وبالجملة فإن على من وقع في ذلك الجرم أن يبادر إلى التوبة النصوح، وأن يقبل على ربه بكليته، وأن يقطع علاقته بكل ما يذكره بتلك الفعلة، وأن ينكسر بين يديه مخبتاً منيباً، عسى أن يقبله، ويغفر سيئاته، ويبدلها حسنات، والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما، يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا، إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما [الفرقان: 68-70].
صلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(/3)
من مفسدات الصيام
دار القاسم
الحمد وكفى وصلى الله وسلم على عبده ونبيه محمد وآله وصحبه أجمعين، وبعد:
س 1: ما هي مفسدات الصوم؟
الجواب: مفسدات الصوم هي المفطرات وهي:
1- الجماع.
2- الأكل.
3- الشرب.
4- إنزال المني بشهوة.
5- ما كان بمعنى الأكل والشرب.
6- القيء عمدا.
7- خروج الدم بالحجامة.
8- خروج دم الحيض والنفاس.
أما الأكل والشرب والجماع فدليلها قوله تعالى: فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل [البقرة:187].
وأما إنزال المني بشهوة فدليله قوله تعالى في الحديث القدسي في الصائم: { يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي } [أخرجه ابن ماجه]، وإنزال المني شهوة لقول النبي : { في بضع أحدكم صدقة، قالوا يا رسول الله: أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في الحرام - أي كان عليه وزر- فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجراً } [أخرجه مسلم]. والذي يوضع إنما هو المني الدافق، ولهذا كان القول الراجح أن المذي لا يفسد الصوم حتى وإن كان بشهوة ومباشرة بغير جماع.
الخامس: ما بمعنى الأكل والشرب، مثل الإبر المغذية التي يستغني بها عن الأكل والشرب؛ لأن هذه وإن كانت ليست أكلا، ولا شراباً لكنها بمعنى الأكل والشرب، حيث يستغني بها عنهما، وما كان بمعنى الشيء فله حكمه، ولذلك يتوقف بقاء الجسم على تناول هذه الإبر بمعنى أن الجسم يبقى متغذياً على هذه الإبر، وإن كان لا يتغذى بغيرها، أما الإبر التي لا تغذي ولا تقوم مقام الأكل والشرب، فهذه لا تفطر، سواء تناولها الإنسان في الوريد، أو في العضلات، أو في أي مكان من بدنه.
السادس: القيء عمدا أي أن يتقياً الإنسان ما في بطنه حتى يخرج من فمه، لحديث أبي هريرة أن النبي : { من استقاء عمداً فليقض، ومن ذرعه القيء فلا قضاء عليه } [أخرجه أبو داود، والترمذي].
والحكمة في ذلك أنه إذا تقيأ فرغ بطنه من الطعام، واحتاج البدن إلى ما يرد عليه هذا الفراغ، ولهذا نقول: إذا كان الصوم فرضاً فإنه لا يجوز للإنسان أن يتقيأ؛ لأنه إذا تقيأ أفسد صومه الوا جب.
وأما السابع: وهو خروج الدم بالحجامة فلقول النبي : { أفطر الحاجم والمحجوم } [أخرجه ا لبخا ري، والترمذي].
وأما الثامن: وهو خروج دم الحيض، والنفاس، فلقول النبي في المرأة: { أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم } [أخرجه البخاري، ومسلم]، وقد أجمع أهل العلم على أن الصوم لا يصح من الحائض، ومثلها النفساء.
وهذه المفطرات وهي مفسدات الصوم لا تفسده إلا بشروط ثلاثة، وهي:
1- العلم.
2- التذكر.
3- القصد.
فالصائم لا يفسد صومه بهذه المفسدات إلا بهذه الشروط الثلاثة:
الأول: أن يكون عالماً بالحكم الشرعي، وعالماً بالحال أي بالوقت، فإن كان جاهلا بالحكم الشرعي، أو بالوقت فصيامه صحيح، لقول الله تعالى: ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا [القرة:286]، ولقوله تعالى: وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم [الأحزاب:5]. وهذان دليلان عامان.
ولثبوت السنة في ذلك في أدلة خاصة في الصوم، ففي الصحيح من حديث عدي بن حاتم أنه صام فجعل تحت وسادته عقالين- وهما الحبلان اللذان تشد بهما يد البعير إذا برك-، أحدهما أسود، والثاني أبيض، وجعل يأكل ويشرب، حتى تبين له الأبيض من الأسود، ثم أمسك، فلما أصبح غدا إلى رسول الله فأخبره بذلك، فبين له النبي أنه ليس المراد بالخيط الأبيض، والأسود في الآية الخيطين المعروفين، وإنما المراد بالخيط الأبيض، بياض النهار، وبالخيط الأسود الليل، ولم يأمره النبي بقضاء الصوم. [خرجه البخاري، ومسلم]؛ لأنه كان جاهلاً بالحكم، يظن أن هذا معنى الآية الكريمة.
وأما الجهل بالوقت ففي صحيح البخاري، عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: أفطرنا على عهد النبي في يوم غيم ثم طلعت الشمس [أخرجه البخاري]، ولم يأمرهم النبي بالقصاء، ولو كان القضاء واجباً لأمرهم به، ولو أمرهم به لنقل إلى الأمة، لقول الله تعالى: إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون [الحجر:9]. فلما لم ينقل مع توافر الدواعي على نقله علم أن النبي لم يأمرهم به، ولما لم يأمرهم به - أي بالقضاء - علم أنه ليس بواجب، ومثل هذا لو قام الإنسان من النوم يظن أنه في الليل فأكل أو شرب، ثم تبين له أن أكله وشربه كان بعد طلوع الفجر، فإنه ليس عليه قضاء؟ لأنه كان جاهلاً.
وأما الشرط الثاني: فهو أن يكون ذاكرا، وضد الذكر النسيان، فلو أكل أو شرب ناسياً، فإن صومه صحيح، ولا قضاء عليه، لقول الله تعالى: ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطانا [البقرة:286] فقال الله تعالى: { قد فعلت }، ولحديث أبي هريرة أن رسول الله قال: { من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه } [رواه مسلم].(/1)
الشرط الثالث: القصد وهو أن يكون الإنسان مختاراً لفعل هذا المفطر، فإن كان غير مختار فإن صومه صحيح، سواء كان مكرهاً أو غير مكره، لقول الله تعالى في المكره على الكفر: من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم [النحل:106]، فإذا كان حكم الكفر يغتفر بالإكراه فما دونه من باب أولى، وللحديث الذي روي عن النبي : { أن الله رفع عن أمتي الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه } [أخرجه ابن ماجه].
وعلى هذا فلو طار إلى أنف الصائم غبار، ووجد طعمه في حلقه، ونزل إلى معدته فإنه لا يفطر بذلك؟ لأنه لم يتقصده، وكذلك لو أكره على الفطر فأفطر دفعا للإكراه، فإن صومه صحيح؛ لأنه غير مختار، وكذلك لو احتلم فأنزل وهو نائم، فإن صومه صحيح، لأن النائم لا قصد له، وكذلك لو أكره الرجل زوجته وهي صائمة فجامعها، فإن صومها صحيح، لأنها غير مختارة.
وها هنا مسألة يجب التفطن لها: وهي أن الرجل إذا أفطر بالجماع في نهار رمضان والصوم واجب عليه فإنه يترتب على جماعه خمسة أمور:
الأول: الإثم. الثاني: وجوب إمساك بقية اليوم. الثالث: فساد صومه.
ا لرا بع: ا لقضاء. ا لخا س: الكفارة.
ولا فرق بين أن يكون عالما بما يجب عليه في هذا الجماع، أو جاهلا، يعني أن الرجل إذا جامع في صيام رمضان، والصوم واجب عليه، ولكنه لا يدري أن الكفارة تجب عليه، فإنه تترتب عليه أحكام الجماع السابقة؛ لأنه تعمد المفسد، وتعمده المفسد يستلزم ترتب الأحكام عليه، بل في حديث أبي هريرة { أن رجلا جاء إلى النبي فقال: يا رسول الله هلكت، قال: "ما أهلكك؟" قال: وقعت على امرأتي في رمضان وأنا صائم. } [أخرجه البخاري، ومسلم]، فأمره النبي صلى اله عليه وسلم بالكفارة، مع أن الرجل لا يعلم هل عليه كفارة أو لا، وفي قولنا: (والصوم واجب عليه) احترازا عما إذا جامع الصائم في رمضان وهو مسافر مثلا، فإنه لا تلزمه الكفارة، مثل أن يكون الرجل مسافرا بأهله في رمضان وهما صائمان، ثم يجامع أهله، فإنه ليس عليه كفارة، وذلك لأن المسافر إذا شرع في الصيام لا يلزمه إتمامه، إن شاء أتمه، وإن شاء أفطر وقضى.
والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين.(/2)
من مكارم الأخلاق (3)
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد :
فهذه توجيهات سلوكية في المجال الأخلاقي . فمن ذلك ما أخرجه الحافظ أبو عيسى الترمذي رحمه الله من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال : " جاء شيخ يريد النبي صلى الله عليه وسلم , فأبطأ القوم عنه أن يوسعوا له , فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا" ([1]) .
فقد نفى رسول الله صلى الله عليه وسلم شرف الانضمام والانتماء إلى المجتمع الإسلامي عن أهل الجفاء والقسوة الذين لا يرحمون الصغار ولا يحترمون الكبار , وهذا يعني أن من فعل ذلك قد ارتكب كبيرة لما قد ترتب على تلك المخالفة من براءة النبي صلى الله عليه وسلم ممن فعل ذلك .
وهذا يبين لنا أهمية الاهتمام بالصغار بالرحمة بهم , وبالكبار باحترامهم , وقد جمع بين الصغار في السن والكبار اشتراكهما في عامل الضعف , وأن كلا من الفريقين بحاجة إلى الراشدين في المجتمع الذين لم يبلغوا سن الشيخوخة .
وقد نفى رسول الله صلى الله عليه وسلم رحمة الله جل وعلا عن الذين لا يرحمون الناس , كما أخرج الحافظ أبو عبد الله البخاري رحمه الله من حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :"من لا يَرحم لا يُرحم" ([2]) .
وفي رواية أبي عيسى الترمذي رحمه الله توضيح لهذه الرواية حيث جاء فيها " من لا يرحم الناس لا يرحمه الله" ([3]) , وهذا بيان لفضيلة خلق الرحمة وأهميته في الإسلام , حيث رتب صلى الله عليه وسلم رحمة الله جل وعلا بالعباد على رحمتهم بالناس .
والرحمة خلق جليل يترتب عليه المعروف والإحسان والعدل , واجتناب الظلم وكف الأذى, فصاحب القلب الرحيم مجبول على فعل الخير واجتناب الشر .
وفي بيان جزاء الرحمة أخرج الشيخان رحمهما الله من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: جاءتني مسكينة تحمل ابنتين لها فأطعمتها ثلاث تمرات , فأعطت كل واحدة منهما تمرة , ورفعت إلى فيها تمرة لتأكلها , فاستطعمتها ابنتاها , فشقَّت التمرة التي كانت تريد أن تأكلها بينهما, فأعجبني شأنها فذكرت الذي صنعتْ لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " إن الله قد أوجب لها الجنة – أو قال- أعتقها من النار" ([4]) .
ففي هذا الحديث إشادة من النبي صلى الله عليه وسلم بتلك المرأة التي رحمت ابنتيها فآثرتهما على نفسها , فهل كانت تلك المرأة تتصور أنها بتنازلها عن تمرة واحدة ستدخل الجنة ؟ فما أهون الثمن وما أبلغ الجزاء!!
وأخرج الحافظ أبو عيسى الترمذي رحمه الله وحسَّنه من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : " صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر فنادى بصوت رفيع فقال : يا معشر من آمن بلسانه ولم يُفْضِ الإيمان إلى قلبه لا تؤذوا المسلمين ولا تعيِّروهم ولا تتَّبعوا عوراتهم , فإنه من تتبَّع عورة أخيه المسلم تتبَّع الله عورته ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله " .
قال : ونظر ابن عمر يوما إلى الكعبة فقال : ما أعظمك وأعظم حرمتك والمؤمن أعظم حرمة عند الله منك ([5]) .
فهذا الحديث يعالج أنواعا من السلوك السيء في معاملة المسلمين , وقد قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم للتحذير منها بمقدمة بليغة , حيث صعد المنبر ونادى بصوت رفيع , وحكم على من وقع في ذلك السلوك المنحرف بأنهم ممن لم يصل الإيمان إلى قلوبهم , والمراد بهذا الإيمان المنفي الإيمان المؤثر في السلوك , حيث لم يكن هناك إيمان حي مؤثر يردع أولئك عن ذلك السلوك المنحرف .
وقد حدد النبي صلى الله عليه وسلم ذلك السلوك المنحرف بأذية المسلمين , وذكر نوعين من هذه الأذية , هما تعيير المسلمين وتتبع عوراتهم , فأما تعيير المسلمين فإن من ذلك وصفهم بالأشياء التي تُعدُّ منقصة لهم كالتنابز بالألقاب , وذلك فيما إذا كان للإنسان لقب يَستاء منه فإنه لا يجوز للمسلم أن يناديه به , أو كان قد اشتهرت قبيلته أو أهل بلده بوصف يُعدُّ منقصة , فلا يجوز أن يعيَّر بذلك , وكذلك ما إذا كان به عاهة أو قد ابتُلي بفقر أو كان منصبه صغيرا , فلا يجوز لأخيه المسلم أن يعيره بذلك .
وأما تتبُّع عورات المسلمين فإنه يكون بالبحث والتنقيب عن عيوب المسلمين وما خفي من أمورهم مما يسوءهم علم الناس به .
وقد جاء في هذا الحديث الوعيد الشديد لمن فعل ذلك بأن الله تعالى يفضحه ويكشف سوءاته للعباد ولو كان في أخفى مكان عن الأنظار .
وأخرج الحافظ أبو داود السجستاني رحمه الله من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "من رأى عورة فسترها كان كمن أحيى موءودة" ([6]) .(/1)
فالستر على المسلمين أمر مهم , فالإنسان ضعيف بطبعه ومعرَّض للنقائص والعيوب , فإذا وُفِّق المسلم بإخوة له يسترون عيوبه ويغضُّون الطرف عن نقائصه فإن وقوعه في تلك النقائص والعيوب لا يؤثر كثيرا على نفسيته , وقد شبَّه النبي صلى الله عليه وسلم عمل هؤلاء بعمل من أحيى موءودة قد جهزها وليها للوأد تحت الأرض , فالذين يسترون على المسلمين قد قاموا بإحيائهم مرة أخرى , لأن الحياة ليست حياة الأجسام فقط وإنما هي حياة المشاعر والأحاسيس .
أما إذا ابتُلي من وقع في شيء من العيوب والنقائص بالكشافين الذين أُولعوا بتتبع النقائص وكشف العيوب فإنه تتحطم نفسيته وتنجرح مشاعره , ويموت نفسيا قبل أن يموت جسديا , فهؤلاء عملهم كعمل الوائدين الذين يدفنون بناتهم وهن حيات , وكان هذا عمل بعض العرب في الجاهلية .
------------------------------
([1] ) سنن الترمذي , رقم 1920 , كتاب البر , باب 15 (4/321 ) .
([2] ) صحيح البخاري , رقم 6013 , كتاب الأدب , (10/438) .
([3] ) سنن الترمذي , رقم 1922 , كتاب البر , باب 16 ( 3234) .
([4] ) صحيح مسلم , رقم 2630 , كتاب البر , باب 46 (2027) .
صحيح البخاري , رقم 5995 , كتاب الأدب , باب 18( 10/426) .
([5] ) سنن الترمذي , رقم 2032 , كتاب البر , باب 85 (4/378 ) .
([6] ) سنن أبي داود , رقم 4891 , كتاب الأدب , باب 45 (5/200) .(/2)
من مكارم الأخلاق (4)
الحمد له ، والصلاة والسلام على رسول الله ،،، وبعد :
فهذه توجيهات سلوكية في بعض مكارم الأخلاق , فمن ذلك ما أخرجه الحافظ أبو عيسى الترمذي رحمه الله وحسَّنه من حديث عبد الله بن سرجس المزني رضي الله عنه قال: "السَّمْت الحسن والتُّؤَدة والاقتصاد جزء من أربعة وعشرين جزءًا من النبوة" ([1]) .
فهذه ثلاثة أمور ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أنها جزء من أربعة وعشرين جزءًا من النبوة , وهذا يفيد بأن هذه أمور عظيمة لأن النبوة أمرها عظيم .
أولها : السمت الحسن , وهو الهيئة المعنوية الحسنة التي يكون عليها الإنسان .. من السكينة والوقار والتفكير المتَّزن والسير مع مقتضى الحكمة في القول والعمل .
والثاني : التؤدة وهي التأني في أمور الدنيا , ومن ذلك التريث في الحكم على الأمور وإصدار القرارات , والتأني في هذه الأمور يتيح الفرصة للتفكير المتزن والنظر إلى الأمور بحكمة .
والثالث : الاقتصاد وهو الاعتدال في الإنفاق , وذلك بأن تكون نفقة الإنسان وسطا بين التقتير والتبذير , كما قال الله تعالى:(والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتلوا وكان بين ذلك قواماً)الفرقان(67) ، ومما يشمله الاقتصاد التوسط في أمور الدين بين الغلو والتقصير .
ومما جاء في مكارم الأخلاق ما أخرجه الحافظ أبو عبد الله البخاري رحمه الله من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال : "قدم عبد الرحمن بن عوف المدينة , فآخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن الربيع الأنصاري , وكان سعد ذا غنى , فقال لعبد الرحمن : أقاسمك مالي نصفين وأزوجك , قال: بارك الله لك في أهلك ومالك , دلوني على السوق , فما رجع حتى استفضل أقطا وسمنا , فأتى به أهل منزله , فمكثنا يسيرا – أو ماشاء الله – فجاء وعليه وَضَر من صفرة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : مهْيَمْ ؟ قال: يارسول الله تزوجت امرأة من الأنصار , قال: ماسُقْتَ إليها؟ قال: نواة من ذهب – أو وزن نواة من ذهب – قال: أوْلِمْ ولو بشاة" ([2]) .
فهذا مثل جيد من الإيثار يقدمه سعد بن الربيع رضي الله عنه وهذا يبين لنا كيف أن الأنصار رضي الله عنهم بعدما هداهم الله تعالى للإسلام تجردوا من مصالحهم الذاتية , وتخلوا عن أعرافهم الجاهلية , وانصهروا تماما في بوتقة الإسلام , فسعدٌ في جاهليته لم يكن ليقَدِّم لأحد كائنا من كان نصف ماله , ولا ليتنازل له عن إحدى زوجتيه كما جاء في رواية أخرى للبخاري , ولكنه قدَّم ذلك بعدما أسلم سخيَّة به نفسه , وهذا يبين لنا عظمة الإسلام وقوة تأثيره على من آمن به حقا , حيث يصحح المفاهيم ويُجلِّي التصورات , ويدفع بالسلوك نحو القيَم العليا والأهداف السامية .
وبهذه الأخلاق العالية التي ربِّى عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه نجح الصحابة في فتح القلوب قبل فتح الممالك , وقضوا على كل مظاهر التخلف الخلقي من الظلم والتجبر والطبقية المقيتة التي نتج عنها تعطيل الطاقات , وإخماد المدارك الفكرية والتخلق بالأخلاق السيئة , كالغل والحسد من المظلومين , والكبر والخيلاء من الظالمين .
وفي هذا الخبر مثل من العفة والشهامة والاعتماد بعد الله تعالى على النفس في طلب الرزق, حيث لم يقبل عبد الرحمن بن عوف ما عرضه عليه سعد بن الربيع رضي الله عنهما , وفضَّل أن يُؤَمِّن احتياجاته بنفسه , وهو مثل من بذل الطاقة في الإسهام في عمارة الأرض وتكوين القوة المادية للمسلمين .
وأخرج أبو عيسى الترمذي رحمه الله من حديث المكي بن إبراهيم رحمه الله قال : كنا عند ابن جريج المكي فجاء سائل فسأله , فقال ابن جريج لخازنه : أعطه دينارا , فقال: ماعندي إلا دينار إن أعطيته جعت وعيالك , قال: فغضب وقال: أعطه , قال المكي : فنحن عند ابن جريج إذ جاءه رجل بكتاب وصرَّة وقد بعث إليه بعض إخوانه , وفي الكتاب : إني قد بعثت خمسين دينارًا , قال: فحلَّ ابن جريج الصرة فعدَّها فإذا هي أحد وخمسون دينارا , قال: فقال ابن جريج لخازنه : قد أعطيت واحد فرد الله عليك وزادك خمسين دينارًا ([3]) .
فهذا مثل من أمثلة سخاء العلماء الذي أصبح مضرب الأمثال , وصورةٌ من صور اليقين, حيث كان العالم الحافظ عبد الملك بن عبد العزيز ابن جريج رحمه الله واثقا فيما عند الله جل وعلا من رزق وخير .. ومثل من لطف الله تعالى بأوليائه حيث وصل إليه في الحال ذلك المبلغ من المال , وكأنه كان مكافأة على الإحسان والمعروف وتحريضا على الاستمرار على ذلك.
ومن مكارم الأخلاق ملاطفة الأطفال والرفع من شخصياتهم , ومما جاء في ذلك ما أخرجه الحافظ أبو عيسى الترمذي رحمه الله وحسَّنه من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخالطنا حتى إن كان ليقول لأخ لي صغير : يا أبا عمير مافعل النُّغير؟" ([4]).(/1)
فهذا مثل من تواضع النبي صلى الله عليه وسلم العظيم حيث يخاطب ذلك الطفل ويداعبه بسؤاله عن ذلك الطائر الذي يحبه . وهذا جانب من عظمة النبي صلى الله عليه وسلم , فبينما هو يدير أمور دولة الإسلام ويجابه الأهوال ويخطط للأمور الجسام ويقابل عظماء العرب إذا هو يداعب الأطفال ويلاطفهم ويرفع من معنوياتهم .
وفي حديث آخر نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم يمازح أحد الرجال , وذلك فيما أخرجه الحافظ أبو عيسى الترمذي وحسَّنه من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه : " أن رجلا استحمل رسول الله صلى الله عليه وسلم [أي طلب منه أن يحمله] فقال: إني حاملك على ولد الناقة , فقال: يارسول الله ما أصنع بولد الناقة ؟ [يعني أنه صغير لايحمل] فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وهل تلد الإبلَ إلا النوقُ؟" ([5]) وكذلك أخرجه أبو داود السجستاني من حديث أنس رضي الله عنه ([6]) .
يعني وإن كان كبيرا فهو ولد الناقة , وهذا المزاح المعتدل اللطيف له فوائد منها إزالة الكلفة والهيبة التي تستقر في النفوس للرجال العظماء , وهذه الهيبة قد تُحرج بعض الناس أو تمنعهم من كلامٍ يريدون أن يقولوه أو تصرُّف يريدون أن يفعلوه .
وكان صلى الله عليه وسلم معتدلا في مزحه وبقدر معين ومع أناس معينين , ولايقول إلا حقا , كما أخرج الحافظ أبو عيسى الترمذي رحمه الله وحسَّنه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قالوا : يارسول الله إنك تداعبنا , قال: إني لاأقول إلا حقا ([7]) .
ومن ماجاء في أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم العالية في معاملة أهله ما أخرجه أبو داود السجستاني رحمه الله من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه قال : "استأذن أبو بكر رحمة الله عليه على النبي صلى الله عليه وسلم , فسمع صوت عائشة عاليا , فلما دخل تناولها ليلطمها وقال : ألا أراك ترفعين صوتك على رسول الله صلى الله عليه وسلم ! فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يحجزه , وخرج أبو بكر مغضبا , فقال النبي صلى الله عليه وسلم حين خرج أبو بكر : كيف رأيتني أنقذتك من الرجل ؟ قال: فمكث أبو بكر أياما ثم استأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدهما قد اصطلحا , فقال لهما : أدخلاني في سلمكما كما أدخلتماني في حربكما , فقال النبي صلى الله عليه وسلم : قد فعلنا , قد فعلنا " ([8]) .
-----------------------------
([1] ) سنن الترمذي , رقم 2010 , كتاب البر , باب 66, (4/366 .
([2] ) صحيح البخاري , رقم 2049 , كتاب البيوع , باب 1 (4/288 ) .
([3] ) سنن الترمذي 2035 , كتاب البر , باب 87 ( 4/380 ) .
([4] ) سنن الترمذي , رقم 1989 , كتاب البر , باب 57 ( 4/357) .
([5] ) سنن الترمذي , رقم 1991 , كتاب البر , باب 57 (4/357) .
([6] ) سنن أبي داود , رقم 4998 , كتاب الأدب , باب 92 ( 5/270 ) .
([7] ) سنن الترمذي , رقم 1990 , كتاب البر , باب 57 (4/357 ) .
([8] ) سنن أبي داود , رقم 4999 , كتاب الأدب , باب 92 ( 5/271 ) .(/2)
من مكارم الأخلاق – (1)
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ..
وبعد : فهذه توجيهات في السلوك نحو مكارم الأخلاق . فمن ذلك ما أخرجه مسلم والترمذي من حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه قال : "سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البِرِّ والإثم, فقال : البر حسن الخلق , والإثم ماحاك في الصدر وكرهت أن يطَّلع عليه الناس منك" ([1]).
وهكذا سأل النواس بن سمعان رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمور الدين باسم البر والإثم, وذلك لأن البر يشمل جميع الطاعات , والإثم يشمل جميع المعاصي , فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم عن البر بأنه حسن الخلق , ومكارم الأخلاق من حيث هي , هي بعض البِرِّ , ولكنْ باعتبار النتائج والمقاصد فإن جميع التكاليف الشرعية من مقاصدها ونتائجها حسنُ الخلق .
وقد أجاب النبي صلى الله عليه وسلم عن الإثم بعلامة من علاماته , هذا من باب التركيز على ما اشتبه أمره, هل هو من المحرم أو من المباح , فإذا كان الإنسان يشعر بانقباض النفس من شيء ويكره أن يراه الناس وهو متلبس به فإنه يدخل في دائرة الممنوع وإن لم يتحقق المسلم تحريمه .
وهكذا أجاب النبي صلى الله عليه وسلم السائل عن البر والإثم ببعض محتوياتهما من باب الاهتمام بهذين الأمرين اللذين ذكرهما .
وأخرج أبو داود من حديث مطر بن عبد الرحمن الأعنق قال: حدثتني أم أبان بنت الوازع ابن زارع , عن جدها زارع – وكان في وفد عبد القيس – قال: وفدنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعلنا نتبادر من رواحلنا فنقبِّل يد رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجله , وانتظر المنذر الأشج حتى أتى عيْبته فلبس ثوبيه, ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم , فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن فيك خُلَّتين يحبهما الله : الحلم والأناة , فقال : يارسول الله أنا أتخلق بهما أم الله جبلني عليهما ؟ قال : بل الله جبلك عليهما, قال: الحمد لله الذي جبلني على خُلَّتين يحبهما الله ورسوله " ([2]) .
وأخرجه مسلم مختصرا ([3]) .
ففي هذا الحديث أشاد النبي صلى الله عليه وسلم بخلقَي الحلم والأناة , حيث بين أن الله تعالى يحبهما, وهما من الأخلاق الإسلامية العالية , فالحلم يقي صاحبه من الغضب السريع , ومايترتب عليه من السلوك السيء في القول والعمل , والتأني يقي صاحبه من مساوئ العجلة , وذلك في التصرفات التي لم يحكمها العقل السليم , ويعطي صاحبه فرصة للتأمل والتفكير حتى يَصدُرَ السلوك منه متوازنا محكما .
وأخرج الدارمي من خبر عكرمة قال قال العباس رضي الله عنه : "لأعلمن مابقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فينا , فقال : يارسول الله إني أراهم قد آذوك وآذاك غبارهم , فلو اتخذت عرشا تكلمهم منه, فقال : لا أزال بين أظهرهم يطؤون عقبي , وينازعوني ردائي , حتى يكون الله هو الذي يريحني منهم, قال: فعلمت أن بقاءه فينا قليلا" ([4]) .
فهذا مثل من تواضع النبي صلى الله عليه وسلم , وهو بذلك يَسُنُّ سنة للولاة والمربِّين من بعده , حيث تواضع لأفراد أمته فعاش معهم كواحد منهم , ولم يرض أن يتميز عليهم بشيء .
وإن التواضع لله أولا ثم للمخلوقين دليل على سمو الفكر وكمال العقل , ولذلك جاءت توجيهات النبي صلى الله عليه وسلم نحو التواضع .
وذلك لأن الشريعة الإسلامية شُرعَتْ من عند الله تعالى لترفع من مستوى العقل البشري , ولتميز أصحاب الأفكار السوية وتُوجهَهم نحو الإصلاح والقيادة التربوية .
--------------------
([1])صحيح مسلم , رقم 2553 , كتاب البر , باب تفسير البر والإثم , سنن الترمذي , رقم 2390, الزهد , باب البر والإثم .
([2]) سنن أبي داود , رقم 2525 , في الأدب , باب في قبلة الرجل .
([3])صحيح مسلم , كتاب الإيمان , باب رقم 17 .
([4])جمع الفوائد رقم 8418 .(/1)
من مكارم الأخلاق(2)
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ..
وبعد : فهذه أحاديث سلوكية في مجال مكارم الأخلاق , فمن ذلك ما أخرجه الإمام مالك رحمه الله من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه قال : "كان آخر ما أوصاني به النبي صلى الله عليه وسلم حين وضعت رجلي في الغرز أن قال : يامعاذ أحسن خلقك للناس" ([1]) .
فهذه وصية من رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ حينما بعثه إلى اليمن داعيا ومعلما , وإنما أوصاه بذلك لأن مكارم الأخلاق من الدعائم القوية في التأثير على الناس واجتذابهم إلى الهداية .
وأخرج الإمامان أحمد ومسلم رحمهما الله من حديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من يُحرمِ الرفق يحرم الخير " ([2]) .
يعني في مجال السلوك , وذلك لأن الرفق يعطي الميزان الصحيح والدقيق على جميع الأمور, فيقْدم الإنسان على العمل وهو على علم بمنافعه ومضاره .
وأخرج أبو عيسى الترمذي رحمه الله في هذا المعنى من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "الأناة من الله والعجلة من الشيطان" ([3]) .
فالأناة هي التريُّث في الحكم على الأمور وعدم الاستعجال في التصرف وإتاحة الفرصة للعقل كي يفكر ويتأمل بروَّية ونظر .
وكم من أمور أفسدتها العجلة !!
وكم من أمور أحكمتها الأناة !!
فلذلك كانت الأناة من الله تعالى لأن صاحبها يكون مسدَّدا بتوفيق من الله جل وعلا , والعجلةُ من الشيطان لأنه يَحضر ساعة ابتداء التفكير فيوسوس للإنسان ويضخم في فكره حظ النفس , ويُكبر في ناظريه التصرفات المرتجلة التي مآلها الإفساد ويحقِّر في نظره حظ الآخرين ويقلِّل في حسِّه جدوى التأمل وإعادة النظر الذي مآله الإصلاح .
وفي حديث آخر يبين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الأناة والتريث خير في أمور الدنيا , أما أمور الآخرة فإنها يُطلب فيها المسارعة لوضوحها واغتنامُ الوقت لتقديم أكبر قدر ممكن من الأعمال الصالحة, حيث يقول صلى الله عليه وسلم : " التؤدة في كل شيء إلا في عمل الآخرة" أخرجه أبو داود رحمه الله من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه ([4]) .
ومن مكارم الأخلاق السماحة في القول والعمل , وفي ذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم :"من كان سهلا هيِّنا ليِّنا حرَّمه الله على النار" أخرجه الحافظان الحاكم والبيهقي رحمهما الله من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ([5]) .
ففي هذا بيان فضل السماحة واللين واللطف في معاملة المسلمين والتخاطب معهم , وذلك بأن يأخذ المسلم من الأمور أيسرها مالم يكن إثما , وأن يتواضع لإخوانه المسلمين وأن يحسن الظن بهم وأن يكون باشًّا في مقابلتهم مبتسمًا في وجوههم , وأن يرفع الكلفة بينه وبينهم حتى لاتمنعهم هيبته من الدخول عليه ومصارحته بما يريدون .
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : "إنْ كان النبي صلى الله عليه وسلم ليخالطنا حتى يقول لأخ لي صغير: يا أبا عمير مافعل النُّغير ؟" أخرجه الإمام البخاري رحمه الله تعالى ([6]) .
فهذا مثل من حنان النبي صلى الله عليه وسلم ولطفه مع الصغار فقد كان أبو عمير يحمل طائرا معه ففقده النبي صلى الله عليه وسلم فسأل عنه أبا عمير من باب ملاطفته ومداعبته , وهذا تواضع منه صلى الله عليه وسلم حتى مع الصغار .
وعن أنس بن مالك أيضًا رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " عليك بحسن الخلق, وطول الصمت, فو الذي نفسي بيده ماتجمل الخلائق بمثلهما" ([7]) .
فهذا توجيه من النبي صلى الله عليه وسلم إلى نوعين من السلوك , هما حسن الخلق وطول الصمت, فأما حسن الخلق فهو السلعة الغالية التي تجعل صاحبها مألوفا عند الناس ومحبوبا لديهم , وأما طول الصمت فإنه حماية لصاحبه من الوقوع في الخطأ , وصيانةٌ له من العثرات, وإبقاء لمهابته في النفوس.
----------------------
([1] ) الموطأ , كتاب حسن الخلق , باب 1 رقم (902) .
([2] ) صحيح مسلم , رقم 2592 , كتاب البر , باب 23 (3003) , مسند أحمد 4/362 .
([3] ) سنن الترمذي , رقم 2012 , كتاب البر باب 66 (4/367 ) .
([4] ) سنن أبي داود , رقم 4810 , كتاب الأدب , باب 11 (5/157) .
([5] ) صحيح الجامع الصغير , رقم 6360 .
([6] ) صحيح البخاري , رقم 6129 , كتاب الأدب , باب 81 (10/526) .
([7] ) صحيح الجامع الصغير , رقم 3927 .(/1)
من منكرات الأفراح والأعراس
الحمد لله وكفى والصلاة والسلام على المصطفى وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
أخي الحبيب :
من المعلوم أن الزواج من سنن المرسلين، قال تعالى: (ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية) الرعد:38 وهو من نعم الله على عباده إذ يحصل به مصالح دينية ودنيوية، فردية واجتماعية، مما جعله من الأمور المطلوبة شرعا، قال الله تعالى:(وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم) النور:32 وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج).
ومن حق هذه النعمة الشكر، وألا تتخذ وسيلة للوقوع فيما حرم الله. ومما ينافي شكر هذه النعمة وقوع كثير من المخالفات والمنكرات التي تتعلق بها ابتداء من مبدأ النكاح نفسه، وانتهاء بوليمة العرس، غير أنها تختلف باختلاف الأزمان والأوطان. مما يحتم على كل مسلم التنبه لها والتنبيه عليها والقيام بما أمر الله تعالى به من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ونظرا لكثرتها فيكتفى في هذه العجالة بعرض نبذ منها والله المسؤول أن يقينا شرورها.
مخالفات تتعلق بمبدأ الزواج
أولاً : العزوف عن الزواج .
فمن المنكرات العزوف عن الزواج بدون عذر شرعي. سئل الشيخ محمد بن صالح العثيمين - حفظه الله - عمن ترفض الزواج بحجة الدراسة.
فأجاب حفظه الله بقوله: حكم ذلك أنه خلاف أمر النبي صلى الله عليه وسلم فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه) ، وقال صلى الله عليه وسلم (يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج) .
وفي الامتناع عن الزواج تفويت لمصالح الزواج. فالذي أنصح به إخواني المسلمين من أولياء النساء وأخواني المسلمات من النساء ألا يمتنعن عن الزواج من أجل تكميل الدراسة حتى تنتهي دراستها، وكذلك أن تبقى مدرسة لمدة سنة أو سنتين ما دامت غير مشغولة بأولادها وهذا لا بأس به.
على أن كون المرأة تترقى في العلوم مما ليس لنا به حاجة أمر محتاج إلى نظر، فالذي أراه أن المرأة إذا أنهت المرحلة الابتدائية وصارت تعرف القراءة والكتابة بحيث تنتفع بعلم هذا في قراءة كتاب الله وتفسيره وقراءة أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وشرحها، فإن ذلك كاف، اللهم إلا أن تترقى لعلوم لابد للناس منها كعلم الطب وما أشبهه، إذا لم يكن في دراستها شيء من محذور من اختلاط أو غيره.
ثانيا: تأخير تزويج البنات والأخوات:
وفي هذه القضية المهمة كتب سماحة المفتي – رحمه الله - قائلا: من عبدالعزيز بن عبدالله بن باز إلى من يبلغه هذا الكتاب من المسلمين، سلك الله بي وبهم صراطه المستقيم وجعلنا جميعا من حزبه المفلحين، آمين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:
فإن الله سبحانه وتعالى قد أوجب على المسلمين التعاون على البر والتقوى والتناصح في الله والتواصي بالحق والصبر عليه، ورتب على ذلك خير الدنيا والآخرة وصلاح الفرد والمجتمع والأمة، وقد بلغني أن كثيرا من الناس قد يؤخرون تزويج مولياتهم من البنات والأخوات وغيرهن لأغراض غير شرعية كخدمة أهلها في رعي أو غيره، وكذلك من يؤخر زواجها من أجل أن يأخذ بها زوجة له. وتأخير زواج المولية لهذه الأسباب ونحوها من الأمور المحرمة ومن الظلم للموليات من البنات وغيرهن، قال تعالى: (وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله) النور:32 والأيامى: جمع أيم، يقال ذلك للمرأة التي لا زوج لها وللرجل الذي لا زوجة له، يقال: امرأة أيم ورجل أيم .
قال ابن عباس: رغبهم الله في التزويج وأمر به الأحرار والعبيد، ووعدهم عليه الغنى فقال: (وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله)
وروى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض)، وروى الترمذي أيضا عن أبي حاتم المزني رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد. قالوا: يا رسول الله ! وإن كان فيه؟ قال: إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه، ثلاث مرات) .
وأسأل الله أن يوفقنا وإياكم وسائر المسلمين لما فيه رضاه وصلاح عباده، وأن يعيذنا جميعا من شر أنفسنا وسيئات أعمالنا، إنه جواد كريم . مجلة البحوث 2/267 العدد الأول 1400هـ .
مخالفات في الخطوبة والعقد:
أولا: عدم تمكين الخاطب من الرؤية الشرعية :(/1)
يقول الشيخ صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ: فالخاطب يستحب له أن يرى ما يظهر غالبا من المرأة كالوجه واليدين، ويتأمل فيها وفي ما يدعوه إلى نكاحها لقول النبي صلى الله عليه وسلم لمن عقد على امرأة أو أراد الزواج: (انظر إليها) رواه مسلم
ورى أحمد بإسناد صحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا خطب أحدكم امرأة فلا جناح عليه أن ينظر إليها إذا كان إنما ينظر إليها لخطبته، وإن كانت لا تعلم)
ولا يسوغ للرجل أن ينظر لمن لم يرد خطبتها، وكذلك لا ينظر إليها في خلوة أو مع ترك الحشمة، إنما يباح له النظر إليها مع عدم علمها أو مع علمها وأهلها إذ كانت رؤيته لهذا ممكنة، وأما عرض الأهل بناتهن بحجة الخطبة فهذا مما لا يسوغ ولا يفعله أهل الغيرة، وإنما يباح النظر لمن علم منه الصدق في الزواج، أو بعد الخطبة، والله أعلم. (المنظار إلى بيان كثير من الأخطاء الشائعة، ص141،142
ثانيا: الزيادة في المهور بما لا يطاق:
يقول الشيخ محمد بن صالح العثيمين: والمشروع في المهر أن يكون قليلا فكلما قل وتيسر فهو أفضل، اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم وتحصيلا للبركة، فإن أعظم النكاح بركة أيسره مؤونة، روى مسلم في صحيحه أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (إني تزوجت امرأة قال: كم أصدقتها؟ قال : أربع أواق (يعني مائة وستين درهما) فقال النبي صلى الله عليه وسلم: على أربع أواق؟ كأنما تنحتون الفضة من عرض هذا الجبل!! ما عندنا ما نعطيك، ولكن عسى أن نبعثك في بعث تصيب منه) وقال عمر رضي الله عنه: (ألا لا تغالوا في صدقات النساء، فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى في الآخرة وكان أولاكم بها النبي صلى الله عليه وسلم: وما أصدق النبي صلى الله عليه وسلم امرأة من نسائه ولا أصدقت امرأة من بناته أكثر من اثنتي عشرة أوقية) والأوقية: أربعون درهما .
ولقد كان تصاعد المهور في هذه السنين له أثره السيئ في منع كثير من الناس من النكاح رجالا ونساء، وصار الرجل يمضي السنوات الكثيرة قبل أن يحصل المهر، فنتج عن ذلك مفاسد منها:
تعطل كثير من الرجال والنساء عن النكاح.
أن أهل المرأة صاروا ينظرون إلى المهر قلة وكثرة، فالمهر عند كثير منهم: هو ما يستفيد ونه من الرجل لامرأتهم، فإذا كان كثيراً زوجوا ولن ينظروا للعواقب، وإن كان قليلا ردوا الزوج، وإن كان مرضيا في دينه وخلقه!
أنه إذا ساءت العلاقة بين الزوج والزوجة، وكان المهر بهذا القدر الباهظ فإنه لا تسمح نفسه غالبا بمفارقتها بإحسان، بل يؤذيها ويتعبها لعلها ترد شيئا مما دفع إليها، ولو كان المهر قليلا لهان عليه فراقها.
ولو أن الناس اقتصدوا في المهر، وتعاونوا في ذلك، وبدأ الأعيان بتنفيذ هذا الأمر - لحصل للمجتمع خير كثير، وراحة كبيرة، وتحصين كثير من الرجال والنساء، ولكن مع الأسف أن الناس صاروا يتبارون في السبق إلى تصاعد المهور وزيادتها، فكل سنة يضيفون أشياء لم تكن معروفة من قبل، ولا ندري إلى أي غاية ينتهون. الزواج، ص34،35
ثالثا: دبلة الخطوبة
يلبس الرجال تشبها بأعداء الله دبلة تسمى: دبلة الخطوبة، وكثير من الناس يعتقد أن العقد مرتبط بهذه الدبلة خاصة إذا كانت من الذهب. وقد حرم لبس الذهب على الرجال لأدلة كثيرة منها حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى خاتما من ذهب في يد رجل فنزعه وطرحه وقال: (يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيجعلها في يده! فقيل للرجل بعدما ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم خذ خاتمك وانتفع به، قال: لا والله لا آخذه أبدا وقد طرحه رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه مسلم
يقول الشيخ ناصر الدين الألباني حفظه الله تعالى في آداب الزفاف ص212 ما نصه: (فهذا مع ما فيه من تقليد الكفار أيضا لأن هذه العادة سرت إلى المسلمين من النصارى، ويرجع ذلك إلى عادة قديمة لهم عندما كان العريس يضع الخاتم على رأس إبهام العروس اليسرى ويقول: باسم الرب، ثم ينقله واضعا له على رأس السبابة ويقول: باسم الابن، ثم يضعه على رأس الوسطى ويقول: باسم روح القدس، وعندما يقول: آمين، يضعه أخيرا في البنصر حتى يستقر)
مخالفات في الأفراح والولائم
من منكرات الأفراح :
أولاً: التشريعة عند الزواج:
وهي أن تلبس المرأة ثوبا أبيضا كبيرا لا تستطيع المشي به حتى يحمله معها عدد من النساء أو الأولاد، وتلبس معه شرابا أبيض وقافزين أبيضين كذلك، ثم توضع في مكان فسيح وعلى ملأ من الناس، ثم يدخل عليها الزوج ويسلم عليها أمامهم ويعطيها التحف والهدايا ويتبادل معها أطراف الحديث، وربما شاركه في هذا أقرباؤه كما هو حاصل في بعض البلاد.
وفي هذا عدة محاذير منها:
أن ذلك ليس من عادات المسلمين بل هو من عادات بعض الكافرين
كما أن فيه إسرافا وبخا وفخفخة ورياء وسمعة، والله تعالى يقول: (وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين) الأعراف: 31
ثانيا : النصة :
وهو دخول العريس والعروس وجلوسهما في مكان عال بمرأى من جميع الحاضرين.(/2)
وفي هذا يقول الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله: ومن الأمور المنكرة التي استحدثها الناس في هذا الزمان وضع منصة للعروس بين النساء ويجلس إليها زوجها بحضرة النساء السافرات المتبرجات، وربما حضر معه غيره من أقاربه وأقاربها من الرجال، ولا يخفى على ذوي الفطرة السليمة والغيرة الدينية ما في هذا العمل من الفساد الكبير، وتمكن الرجال الأجانب من مشاهدة الفاتنات المتبرجات، وما يترتب على ذلك من العواقب الوخيمة. فالواجب منع ذلك والقضاء عليه حسما لأسباب الفتنة وصيانة للمجتمعات النسائية مما يخالف الشرع المطهر) الرسائل والأجوبة النسائية، ص44
ثالثا : خروج النساء متطيبات:
ومن منكرات الأفراح خروج النساء من بيوتهن متطيبات ، وهن في طريقهن إلى العرس يتعرضن للمرور على الرجال، وهذا بلا شك حرام. عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أيما امرأة استعطرت فمرت على قوم ليجدوا ريحها فهي زانية)
رابعا: الاختلاط :
يحدث الاختلاط عند دخول الزوج وأقاربه وأقارب الزوجة من الرجال عند وقت النصة، وهو كذلك منكر، قال صلى الله عليه وسلم: (إياكم والدخول على النساء فقال رجل: أفرأيت الحمو يا رسول الله؟ قال: الحمو الموت (رواه البخاري ومسلم. الحمو أخو الزوج.
يقول الشيخ محمد بن صالح العثيمين مبينا آثار هذا الاختلاط وما يجنيه فاعله من سلبيات: (أيها المؤمنون! تصوروا حال الزوج زوجته حينئذ أمام النساء المتجملات المتطيبات ينظرن إلى الزوجين ليشمتن فيهما - إن كانا قبيحين في نظرهن- ولتتحرك كوامن غرائزهن - إن كانا جميلين في نظرهن- تصوروا كيف تكون الحال والجمع الحاضر في غمرة الفرح بالعرس وفي نشوة النكاح؟ فبالله عليكم ماذا يكون من الفتنة؟ ستكون فتنة عظيمة، ستتحرك الغرائز، وستثور الشهوات.
أيها المسلمون: ثم تصوروا ثانية ماذا ستكون نظرة الزوج إلى زوجته الجديدة التي امتلأ قلبه فرحا بها إذا شاهد في هؤلاء النساء من تفوق زوجته جمالا وشبابا وهيئة؟ إن هذا الزوج الذي امتلأ قلبه فرحا سوف يمتلئ قلبه غما، وسوف يهبط شغفه بزوجته إلى حد بعيد فيكون ذلك صدمة وكارثة بينه وبين زوجته) من منكرات الأفراح، ص8.
خامسا: التصوير:
يقول الشيخ محمد بن صالح العثيمين: (فإني أضيف إلى ما سبق من المحاذير التي تقع ليلة الزفاف هذا المحذور العظيم:
لقد بلغنا: أن من النساء من تصطحب آلة التصوير لتلتقط صور هذا الحفل، ولا أدري ما الذي سوغ لهؤلاء النساء أن يلتقطن صور الحفل لتنشر بين الناس بقصد أو بغير قصد؟! أيظن أولئك الملتقطات للصور أن أحدا يرضى بفعلهن؟! إنني لا أظن أن أحدا يرضى بفعل هؤلاء، إنني لا أظن أن أحدا يرضى بفعل هؤلاء، إنني لا أظن أن أحداً يرضى أن تؤخذ صورة ابنته، أو صورة زوجته، لتكون بين أيدي أولئك المعتديات ليعرضنها على من شئن متى ما أردن!! هل يرضي أحد منكم أن تكون صور محارمه بين أيدي الناس، لتكون محلا للسخرية إن كانت قبيحة، ومثالا للفتنة إن كانت جميلة؟!
ولقد بلغنا: ما هو أفدح وأقبح : أن بعض المعتدين يحضرون آلة الفيديو ليلقطوا صورة الحفل حية متحركة، فيعرضونها على أنفسهم وعلى غيرهم كلما أرادوا التمتع بالنظر إلى هذا المشهد!!
ولقد بلغنا: أن بعض هؤلاء يكونون من الشباب الذكور في بعض البلاد يختلطون بالنساء أو يكونون منفردين، ولا يرتاب عاقل عارف بمصادر الشريعة ومواردها أن هذا أمر منكر ومحرم وأنه انحدار إلى الهاوية في تقاليد الكافرين المتشبهين بهم) من منكرات الأفراح،ص11
من منكرات الوليمة
أولا : دعوة الأغنياء وذوي الجاه، وترك الفقراء:
وهذا لا يجوز لقوله صلى الله عليه وسلم (شر الطعام الوليمة يدعى إليها الأغنياء ويمنعها المساكين، ومن لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله) رواه مسلم وقال صلى الله عليه وسلم (لا تصاحب إلا مؤمنا ولا يأكل طعامك إلا تقي) رواه أبو داود، وإسناده صحيح
ثانياً: الإسراف
ولقد ذم الله الإسراف في اثنتين وعشرين آية من القرآن، وعاب فاعله، قال تعالى: (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما) الفرقان: 67 وقال عز وجل: (يبني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين) الأعراف: 31
ثالثا : إحضار المغنيين والمغنيات والأشرطة التي فيها غناء وموسيقى واستخدام المكبرات:(/3)
يقول الشيخ محمد بن صالح العثيمين: (إن بعض الناس - ليلة الزفاف - يجمع المغنيات بأجور كثيرة ليغنين . والغناء ليلة الزفاف ليس بمنكر، وإنما المنكر الغناء الهابط المثير للشهوة، الموجب للفتنة. وقد كان بعض المغنيات يأخذن الأغاني المعروفة التي فيها إثارة للشهوات، وفيما إلهاب للغرام والمحبة والعشق، ثم إن هناك محذورا آخر يصحب هذا الغناء، وهو ظهور أصوات النساء عالية في المكبر. فيسمع الرجال أصواتهن ونغماتهن فيحصل بذلك الفتنة لا سيما في هذه المناسبة، وربما حصل في ذلك إزعاج للجيران لا سيما إن استمر ذلك إلى ساعة متأخرة من الليل.
وعلاج هذا المنكر أن يقتصر النساء على الضرب بالدف وهو المغطى بالجلد من جانب واحد، وعلى الأغاني التي تعبر عن الفرح والسرور دون استعمال مكبر الصوت، فإن الغناء في العرس والضرب عليه بالدف مما جاءت به السنة) من منكرات الأفراح،ص5
وأخيرا : تنبيه على عادتين جاهليتين:
الأولى : تهنئة الجاهلية :
فمن العادات المنكرة تهنئة العروسين بقولهم: (بالرفاء والبنين) يقول الدكتور صالح السدلان: (وهذه الضلالة الشائنة والعادة السيئة شاعت في عصر الجاهلية وهي تهنئة جاهلية… ولعل الحكمة في النهي عن استعمال هذا الأسلوب في الدعاء للمتزوج بالرفاء والبنين هي : مخالفة ما كان عليه أهل الجاهلية لأنهم كانوا يستعملون هذا الدعاء، ولما فيه من الدعاء للزوج بالبنين دون البنات، ولخلوه من الدعاء للمتزوجين، ولأنه ليس فيه ذكر اسم الله وحمده والثناء عليه).
وإنما الوارد في السنة أن يقال للعروسين : (بارك الله لك وبارك عليك وجمع بينكما في خير) الأحكام الفقهية للصداق ووليمة العرس، ص112 بتصرف
الثانية : شهر العسل :
شهر العسل من العادات المنكرة والظواهر السيئة، وهو أن يصحب الزوج زوجته ويسافر بها قبل أو بعد الدخول عليها إلى مدينة أو بلد آخر. وهو من عادات الكفار، ويزيد هذا السفر قبحا إذا كان إلى بلاد الكفار إذ يترتب عليه مفاسد كثيرة وأضرار تعود على الزوج والزوجة معا، إذ قد يتأثر الزوج بمظاهر الكفار من تبرج واختلاط وإباحية وشرب خمور وغيرها فيزهد في دينه وعاداته الطيبة، وتتأثر المرأة كذلك فتخلع تاج الحياء وتنجرف في تيار الفساد. وليس قليلا إذا قلنا إنه من التشبه بالكفار المنهي عنه شرعا.
نسأل الله تعالى أن يقي المسلمين شر هذه المنكرات، ويهدينا جميعا إلى سواء الصراط، وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
إعداد القسم العلمي بدار الوطن(/4)
من مواقف قريش المضادة للدعوة الإسلامية في مكة
رئيسي :السيرة :الخميس 13 شوال 1425هـ - 25نوفمبر 2004 م
مفكرة الإسلام : تحتاج الأمة، وهي تتلمس طريقها نحو النهضة إلى ما يسمى:' بالحس التاريخي' تعي فيه ذاتها وتحقق أصالتها، وأي أمة خلت من هذا الحس التاريخي؛ هي أمة تابعة مقلدة لاهثة، لا تعي ذاتها وبالتالي لا تملك ذاتها، ومصيرها يكون إلى زوال.
ودراسة الدعوة الإسلامية في مراحلها الأولى طريق إلى إيجاد الحس التاريخي في هذه الأمة، وإنعاشه وبلورته إلى عمل فعّال في استثارة كوامن الطاقات الإسلامية وتجميعها وتوجيهها نحو الخير والعطاء. وقد واجهت الدعوة الإسلامية من اللحظة الأولى لظهورها الوثنية وتزعمتها قريش، وبشكل خاص بعد أن اعتَنق الدعوة كثير من أهل الفضل منهم، ووقفوا في سبيلها بمختلف الوسائل، ومن هذه الوسائل:
1- اتهام الرسول صلى الله عليه وسلم بمختلف التهم ليبعدوا الناس عنه: فكانوا يقولون:'هذا أساطير الأولين', قال تعالى:{وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا[5]}[سورة الفرقان]. ونعتوا الرسول صلى الله عليه وسلم بالكاهن حيناً، والكاذب المفتري حيناً، والمتعلم المقتبس من غيره حيناً, وظلوا يكرّرون ذلك حتى آخر العهد المكي, قال تعالى:{وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ[4]}[سورة ص]. وقال سبحانه:{ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا[4]}[سورة الفرقان]. ووصفوا القرآن بالسحر، قال تعالى:{...وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ[43]}[سورة سبأ].
2- اتبعوا أسلوب الحِجاج، فكانوا يحاجّون الرسول صلى الله عليه وسلم: وهو أسلوب أهل الكتاب،
ومن قوله سبحانه وتعالى يبيّن أسلوبهم في الحجاج:{سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ[148]}[سورة الأنعام]. وقوله تعالى:{ وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ [24] وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ[25]}[سورة الجاثية].
3- مطالبة الرسول بالمعجزات وتحدّيه: فقد طالبوه بالمعجزات والآيات برهاناً على صدق دعواه، قال سبحانه:{وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا[90]أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا[91]أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا[92]أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا[92]}[سورة الإسراء].
4- محاولة استمالة الرسول صلى الله عليه وسلم، وإقناعه بالعدول عن الدعوة: فقد عرض عليه زعماء قريش الملك والمال والنساء، أرسلوا إليه عتبة بن ربيعة سيد قومه، فذهب إليه وهو يصلي في المسجد فقال له: 'يا ابن أخي، إنك منا حيث قد علمت، من خيارنا حسباً ونسباً، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم، وسفهت به أحلامهم، وعبت به آلهتهم ودينهم، وكفرت به من مضى من آبائهم، فاسمع مني أعرض عليك أمورا تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها: إن كنت تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت تريد شرفاً سوّدناك علينا حتى لا نقطع أمراً دونك، وإن كنت تريد ملكاً ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيًا من الجن لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطبيب, وبذلنا فيه أحوالنا حتى نبرئك منه...'إلخ القصة.
فهكذا كان زعماء قريش يحاولون إقناع محمد صلى الله عليه وسلم بالعدول عن الدعوة، أو التنازل عن شيء منها مقابل تنازلهم عن أشياء، فكان قوله تعالى:{وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ[9]}[سورة القلم]. فثبت الرسول أصحابه في الموقف الذي لا يحتمل مساومة، ولا تعدداً.(/1)
5- أسلوب التعذيب: لما رأى زعماء قريش إصرار الرسول صلى الله عليه وسلم، وانتشار الإسلام؛ توجهوا إلى مقاومة الإسلام عن طريق تعذيب العبيد والضعفاء من المسلمين؛ ليعودوا إلى الشرك، وليحولوا دون إسلام المزيد، فكان من صور هذا التعذيب: أن يعرّى صدر المسلم، ويطرح فوق الرمال المتوهجة من شدة حرارة الشمس، ويوضع على أجسادهم الصخور الثقيلة، ويمنع عنهم الماء والطعام، وتقيّد أيديهم وأرجلهم بقيود الحديد، ويجلدون بالسياط جلدًا شديدًا، فزهقت أرواح بعضهم.
ومن بين الذين تعرضوا لمثل هذا العذاب: ياسر وزوجته سمية، وابنهما عمار، وبلال بن رباح, وخباب بن الأرت، فكان المشركون يخرجون ياسراً وزوٍجة وابنه إلى الأبطح إذا حميت الرمضاء ويعذبونهم بحرّها، فيمر الرسول صلى الله عليه وسلم، فيقول: [صَبْرًا آَلَ يَاسِرٍ فَإنَّ مَوْعِدَكُمْ الجَنَّةُ] رواه الحاكم والطبراني في الكبير والأوسط والبيهقي في شعب الإيمان. وقد مات ياسر وهو يعذّب، وأما زوجه فقد طعنها أبو جهل بحربة فقتلها.
وقد ضرب المسلمون مثلاً خالدًا للتمسّك بالعقيدة، وتحمّل أنواع الأذى، والتضحية بالنفس، وكان بعضُ المسلمين الأغنياء -وخاصة أبا بكر- يشترون الأرقاء المضطهدين من مالكيهم، وينقذونهم.
ثم خطا المشركون خطوة أخرى في التعذيب: فأخذوا يعتدون على المسلمين جميعًا ودون تمييز حتى شمل الاعتداء ذوي الثراء والوجاهة والقوة: كأبي بكر، وعثمان، والزبير، وطلحة، وأبي عبيدة، وعثمان بن مظعون، فقد شدّ نوفل بن خويلد وكان يسمى [أسد قريش] أبا بكر وطلحة القرشيين بحبل واحد، فسميا القرينين, وعذب أبو أحيحة ابنه خالد بن سعيد بن العاص، فكان يضربه بقراعة في يده حتى يكسرها على رأسه، ثم يأمر بحبسه ويضيّق عليه، ويجيعه ويعطشه، حتى لقد مكث في حر ّمكة ثلاثاً ما ذاق ماءً.
ونتيجة لتعرض المسلمين جميعاً للعذاب أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه بالهجرة إلى الحبشة في السنة الخامسة من بعثته.
6- تهديد الرسول صلى الله عليه وسلم بالكف عن دعواه، والعدوان عليه: حين باءت أساليب مقاومة كفار قريش بالفشل؛ لجأوا إلى عمه أبي طالب، وقال زعماؤهم: 'يا أبا طالب إن ابن أخيك قد سبّ آلهتنا، وعاب ديننا، وسفّه أحلامنا، فإما أن تكفّه عنا، وإما أن تخلّي بيننا وبينه'. فردّهم أبو طالب ردّاً جميلاً دون أن يتوقف صلى الله عليه وسلم عن نشاطه، أو يتهاون في الدعوة.
فعاودوا الكرة، وخاطبوا أبا طالب بلهجة المتوعد المهدد، وأنهم لن يصبروا على هذا الحال، وخيرّوه بين أن يمنعه عمّا يقول، أو ينازلوه وإياه حتى يهلك أحد الطرفين، فعظم الأمر على أبي طالب فكلّم محمداً صلى الله عليه وسلم بما جاء به إليه قومه وقال له:
'يا ابن أخي، إن قومك جاءوني وقالوا لي كذا وكذا، فأبق عليّ وعلى نفسك ولا تحملني من الأمر مالا أطيق'. فكان ردّ المبلّغ الداعية إلى الحقّ الذي يحمل نفساً أبيّة لا تعرف الذل، ولا تنحني للوهن، ينظر إلى خصمه من علٍ؛ لأنه يستمد القوة من عزيز حكيم، ينظر إلى زخارف الدنيا وكأنها أوراق الخريف تتطاير في الهواء، ويحتقر أبهة المشرك وعظمته، يستعلي على الدنيا بإيمانه، فهو على الحق وان لقي العنت الشديد, قال صلى الله عليه وسلم: [مَا أَنَا بِأَقْدِرَ عَلَى أَنْ أَدَعَ لَكُمْ ذَلِكَ عَلَى أَنَ تُشْعِلُوا لِي مِنْهَا شُعْلَةً - يَعْنِي الشَّمْسَ- ] رواه أبويعلى وابن عساكر. فطمأنه أبو طالب ووعده الاستمرار في حمايته.
فعاد زعماء قريش إلى أبي طالب يعرضون عليه عمارة بن الوليد أوسم شباب قريش ليسلموه إليه على أن يسلمهم محمداً صلى الله عليه وسلم، فردهم ساخراً بقوله: 'بئس ما تسومونني، أتعطونني ابنكم أغذوه لكم، وأعطيكم ابني تقتلونه!!'. فاتجه بعضهم إلى إنزال الأذى بالرسول صلى الله عليه وسلم مباشرة، ومن الذين اشتدوا في إيذائه صلى الله عليه وسلم: أبو جهل، وأبو لهب عمه، وأم جميل زوجة أبي لهب، وعقبة بن أبي معيط، ولكنّ إسلام حمزة، ثم عمر بن الخطاب كفّ القرشيين عن بعض ما كانوا ينالون به الرسول صلى الله عليه وسلم من أذى خوفاً منهما. وفي أثناء ذلك استمر القرآن الكريم يردّد مشاهد الشدة والعنف مع المشركين يندّد بهم، وينذرهم بسوء المصير، ويصبّر الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين، ويعدهم بالنصر والتأييد، وحسن العاقبة.(/2)
7- أسلوب المقاطعة: إزداد حنق المشركين من قريش إزاء صبر الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين على الأذى والتعذيب وإصرارهم في المضي بالدعوة، وإزاء فشو الإسلام في القبائل، فاجتمعوا وائتمروا، وقرروا مقاطعة المسلمين وبني هاشم دون أبي لهب، فلا يتزوجون منهم ولا يزوّجونهم، ولا يبيعون لهم شيئاً، ولا يشترون منهم، وتعاهدوا وتواثقوا على ذلك، وعلقوا صحيفة المقاطعة بالكعبة. فاضطر بنو هاشم وبنو عبد المطلب إلى النزوح إلى شعب أبي طالب شرقي مكة، وقطعت عنهم قريش كل أنواع المؤن، ولم يكن يتاح لهم الاختلاط بغيرهم من الناس إلا في الأشهر الحرم حين يفد العرب إلى مكة لزيارة البيت الحرام, وبلغ بهم الجهد حدّاً لا يطاق، فذاقوا الجوع والحرمان حوالي ثلاث سنوات لا يصل إليهم القوت إلا خفية.
وأخيراً أخذت الحمية والرأفة نفراً من القرشيين منهم: هشام بن عمرو بن الحارث العامري, وزهير بن أمية بن المغيرة المخزومي, والمطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف, وأبو البختري ابن هشام, والأسود بن عبد المطلب بن أسد, وتعاهدوا على نقض الصحيفة رغم اعتراض أبي جهل, وخرجوا إلى بني هاشم، وبني عبد المطلب، وطلبوا منهم العودة إلى منازلهم وشقوا الصحيفة، فوجدوا الأرض قد أكلتها إلا ما كان من: 'باسمك اللهم, وهي فاتحة ما كانت تكتب قريش'.
8- القتل أو الحبس أو النفي:اجتمع مشركوا قريش في دار الندوة، فتشاوروا في أمر الدعوة الإسلامية، ففكروا في ثلاث وسائل، وهي: حبسه صلى الله عليه وسلم، أو اغتياله، أو نفيه، قال تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ[30]}[سورة الأنفال]. واتفق رأيهم أخيراً على قتله شريطة اشتراك شبان من مختلف بيوتات قريش؛ حتى يتوزع دمه فلا يستطيع آله المطالبة بدمه.
علم الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك فخرج من داره ليلاً بعد أن ترك عليًا ليقوم بتأدية الأمانات، وشق طريقه مع صاحبه أبي بكر- رضي الله عنه- إلى المدينة المنورة لتتشرف باستقبال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبدأ الدعوة مرحلة جديدة مليئة بالكفاح والنضال والجهاد.
من:'من مراحل الدعوة الإسلامية في مكة' للدكتور/ جميل عبد الله المصري(/3)
من نحن ومن الآخر؟!
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً قيما- وصلى الله وسلم- وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد الذي تركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.
أما بعد :
فإن القيام بالعبودية الحقة لله عز وجل لا يتم إلا بالإخلاص له سبحانه في عبادته، وأن تكون العبادة على بصيرة واتباع لما جاء به الرسول- صلى الله عليه وسلم-، وإن البصيرة في الدين لا تتحقق مادام الباطل ملتبسا بالحق، وبمعنى أخر، فإن البصيرة في الدين لا تحصل إلا بوضوح الحق وتنقيته من الباطل الملتبس به، قال تعالى: (( قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ)) ( البقرة: 256) .
وقال سبحانه: (( فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ)) (يونس: 32).
لذا كان لزاما على العبد أن يعرف الحق بدليله ما أمكن، وأن يزيل عنه الباطل الذي علق به، وذلك حتى يأتي بالعبادة على وجهها المقبول عند الله عز وجل، وإن من أعظم الفتن التي يفتن الشيطان بها العباد فتنة التزيين، ولبس الحق بالباطل، واتباع الهوى في ذلك، ولقد وقع في هذا الشَّرَك العظيم كثير من الناس بعضهم عن علم وبعضهم عن جهل، وقد كثر اللبس والتضليل في عصرنا الحاضر؛ حيث ظهرت وسائل ماكرة ومضللة لبست على الناس دينهم وخلطت الحق بالباطل، بل وصل الأمر لدرجة قلب الحقائق، وإظهار الحق في صورة الباطل، والباطل في صورة الحق، وتعاون شياطين الجن والإنس : (( يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا )) ( الأنعام: 112) .
في وضع هذا التلبيس في قوالب من الأقوال مزخرفة وألفاظ خادعة، وتسمية للأسماء بغير مسمياتها، فضلَّ بسبب ذلك كثير من الناس .
وإننا في زماننا هذا لنرى صوراً كثيرة من لبس الحق بالباطل، وصوراً من ليِّ أعناق النصوص، وصوراً كثيرة من المغالطات والخداع والحيل المحرمة المفتراة على دين الله عز وجل، فكان لزاما على الدعاة والعلماء أن يحذروا بأنفسهم من الوقوع في هذه المزالق وأن لا يسكتوا عليها بل يجب عليهم أن يكشفوها للناس ويحذروهم منها، وأن لا يدعوهم لأهل الأهواء يلبسون عليهم دينهم، ويحرّفون الكلم عن مواضعه وهذا ما أخذه الله عز وجل على أهل العلم بقوله: (( وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ )) (آل عمران: 187) .
وإن كل من لبس على الناس دينهم أو كتم الحق عنهم ففيه شبه ممن زجرهم الله عز وجل بقوله : (( وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ)) (البقرة: 42) .
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: عند هذه الآية ( نهى عن لبس الحق بالباطل وكتمانه ولبسه به: خلطه به حتى يلتبس أحدهما بالأخر، ومنه التلبيس: وهو التدليس والغش الذي يكونه باطنه خلاف ظاهره؛ فكذلك الحق إذا لبس بالباطل يكون فاعله قد أظهر الباطل في صورة الحق، وتكلم بلفظ له معنيان : معنى صحيح، ومعنى باطل، فيتوهم السامع أنه أراد المعنى الصحيح، ومراده الباطل، فهذا من الإجمال في اللفظ ]الصواعق المرسلة 3/926[.
ويقول في موطن آخر: (وكم من مسألة ظاهرها ظاهر جميل، وباطنها مكر وخداع وظلم ؟ فالغبي ينظر إلي ظاهرها ويقضي بجوازه، وذو البصيرة يتفقد مقصدها وباطنها، فالأول يروج عليه زغل المسائل كما يروج على الجاهل بالنقد زغل الدراهم ، والثاني يخرج زيفها كما يخرج الناقد زيف النقود، وكم من باطل يخرجه الرجل يحسن لفظه وتنميقه وإبرازه في صورة حق، وكم من حق يخرجه بتهجينه، وسوء تعبيره في صورة باطل؟ ومن له أدنى فطنة وخبره لا يخفى عليه ذلك) ]أعلام الموفقين 4/229[.َ
وإن ما يطرح اليوم في وسائل الأعلام وبعض الحوارات والندوات من تلاعب بالمصطلحات والمسميات لا يقف خطرها على الألفاظ فحسب بل تجاوزه إلى المضامين والأصول والثوابت، ومع ذلك لم يتصد لخطرها والرد عليها إلا أفراد قلائل لم تبلغ ردودهم حد الكفاية في الإعذار والإنذار، مع أن الأمر من الخطورة بحيث يجب التصدي له من قبل أهل العلم والدعوة وأن يبلغوه للمسلمين في الوسائل المتاحة ليدركوا خطره وليحذروا من الوقوع في زخرف الملبسين وتضليل المضللين وبخاصة أن الأمر يتعلق بأصول هذا الدين وثوابته وليس بفروعه وجزئياته.
وإن من المصطلحات التي تطرح اليوم طرحاً انهزامياً ًينم عن الشعور بالمهانة والذلة والحرج، من أصول هذا الدين ما يعمل له اليوم من حوارات ولقاءات صحفية ومؤتمرات تدور حول مصطلح (نحن والأخر).
فما هو المقصود بمصطلح (نحن والأخر) ؟
إن هذا المصطلح من المصطلحات الغامضة الحمالة لمعاني مختلفة، ولعل ذلك مقصود ممن هم وراء طرحه وإثارته، ولذلك لابد من تحرير هذا المصطلح، وكشف أبعاده ليتعرى الملبسون المضللون الذين يعنون ما يقولون، وليحذر الذين غرر بهم بتبني هذا المصطلح من بعض أهل العلم والدعوة.(/1)
ولتحرير هذا المصطلح والهدف من طرحه نستعرض المعاني المستعملة التي لا يخرج عنها تفسير هذا المصطلح.
الاستعمال الأول: وهو ما ذكره المجتمعون في اللقاء الوطني الخامس للحوار الفكري المنعقد في أبها في الفترة من 11ـ13/11/26هـ حيث جاء في بيانهم الختامي تعريفهم لهذا المصطلح بقولهم: (وقد أتجه المجتمعون إلى التعبير بأن المقصود بـ(نحن) أي: المواطنين السعوديين الذين يجمعهم دين واحد هو الإسلام، ووطن واحد هو المملكة العربية السعودية، وله أراء وتوجهات متنوعة، (والأخر) هو المجتمعات الإنسانية الأخرى بجميع أديانها وحضاراتها وأوطانها) ولا يخفى ما في هذا الكلام من أبعاد خطيرة تبينها المناقشات التالية.
أولاً: قولهم بأن المقصود بـ(نحن): المواطنين السعوديين ... الخ، و(الأخر):هو المجتمعات الإنسانية الأخرى ... الخ ) . إن في هذا القول مزلقاً عظيماً وتجاهلاً واضحاً لعقيدة الولاء والبراء في هذا الدين، فالله عز وجل يقول: (( قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ )) (الأنعام: 14) .
ويقول سبحانه عن نبيه نوح عليه السلام مع ابنه (( إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ)) (هود:46 ) .
ويقول سبحانه ((إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)) (الحجرات: 10) .
ويقول عز وجل ((وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ )) (التوبة: 71) .
وفي ضوء هذه الآيات وأمثالها من القرآن الكريم يتبين المزلق الكبير لتعريف ( نحن) و(الأخر) إذ كيف تحصر كلمة( نحن) في المواطنين السعوديين الذين يجمعهم دين واحد ووطن واحد ... الخ، إذن فأين محل إخواننا المسلمين في الأوطان الأخرى، ومن بينهم العلماء والعباد والمجاهدين والدعاة والمصلحين ؟ وهل هؤلاء يخرجون من دائرة (نحن)؟ أين الولاء والموالاة بين المؤمنين إذا ساويناهم بالأخر الكافر أو الملحد والمنافق ممن يعيشون خارج الوطن.
ثانياً: وقالوا في تعريف من (نحن)؛ بأنهم (الذين ينتسبون إلى الإسلام في الوطن الواحد وإن تنوعوا مذهبياً وفكريا وثقافياً واجتماعيا، فلا يجوز استخدامه لاختراق الوحدة الوطنية) ، إنه لا يخفى ما في ذلك من خرق لعقيدة الولاء والبراء في هذا الدين، فكم في الوطن الواحد من العقائد الباطلة الكفرية التي يخرج صاحبها من الإسلام؛ كمن يعبد غير الله عز وجل ويستغيث به ويدعي أن غير الله تعالى يعلم الغيب كغلاة الشيعة والصوفية، وكم في الوطن الواحد من يكفر أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ويعاديهم، ويقذف نساء النبي- صلى الله عليه وسلم- العفيفات الطاهرات، وكم في الوطن الواحد من المنافقين الذين يبطنون العداء للإسلام وأهله ويوالون الغرب وأهله، فهل هؤلاء هم منا ونحن منهم لأننا وإياهم نعيش في وطن واحد ؟ إننا بهذا الفهم نعود إلى صورة من صور الجاهلية الأولى التي جاء هذا الدين للقضاء عليها وجعل رابطة العقيدة والإيمان فوق كل رابطة يعادى من أجلها ويوالى من أجلها ويحب من أجلها ويبغض من أجلها.
قال صلى الله عليه وسلم: ((من تعزى بعزاء أهل الجاهلية فأعضوه هن أبيه ولا تكنوا)) .
فسمع أبي بن كعب رجلاً يقول: يا لفلان ! فقال: أعضض أير أبيك فقال: يا أبا المنذر! ما كنت فاحشاً، فقال بهذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه أحمد في مسنده (20728) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (269).
ويشرح شيخ الإسلام هذا الحديث فيقول: (ومعنى قوله: من تعزى بعزاء الجاهلية) يعني يتعزى بعزؤاهم، وهي الانتساب إليهم في الدعوة، مثل قوله: يا لقيس! يا ليمن! ويا لهلال! ويا لأسد، فمن تعصب لأهل بلدته، أو مذهبه، أو طريقته، أو قرابته، أو لأصدقائه دون غيرهم كانت فيه شعبة من الجاهلية، حتى يكون المؤمنون كما أمرهم الله تعالى معتصمين بحبله وكتابه وسنة رسوله) مجموع الفتاوى 28/422.
والآيات في كتاب الله عز وجل كثيرة تلك التي تركز على عقيدة الولاء والبراء، وأنها هي الأصل في رابطة الحب والبغض والاجتماع والافتراق، وأكتفي بقوله تعالى: (( قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ )) (الممتحنة: 4) .
هذه هي الملة الإبراهيمية وهذا هوا الدين المحمدي، فهل أصبحت الوحدة الوطنية هي صاحبة السيادة العليا التي يعقد عليها الولاء والبراء، إن مما تعلمناه من كتاب ربنا عز وجل وسيرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وأقوال سلفنا الصالح أن الأصل الذي يقوم عليه الولاء والوحدة والإتلاف هوا التوحيد والبراءة من الشرك وأهله.(/2)
وإلا فلا وحدة ولا اجتماع، بل المفاصلة والبراءة، إذاً فكيف يقول القوم هداهم الله عز وجل بأن التنوع المذهبي أو الفكري أو الثقافي لا يجوز استخدامه لاختراق الوحدة الوطنية) ؟ هل يعني هذا أن الوحدة الوطنية فوق عقيدة التوحيد، وعلى حساب عقيدة الولاء والبراء ؟ إن مصطلح التنوع المذهبي أو الفكري أو الثقافي من المصطلحات العائمة الغامضة، لكن اللبيب يعرف ما المقصود منها؛ إنها تعني أن أي مذهب عقدي شركي أو بدعي فما دام أنه داخل الوطن الواحد فينبغي الاعتراف به وعدم الافتراق معه ضماناً للوحدة الوطنية، وهذا مخالف لدين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وللملة الإبراهيمية، حيث لا ولاء ولا محبة لمشرك، وعليه فإن من يعبد علياً أو الحسين رضي الله عنهما) ويسب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بأخ لنا، وإن الصوفي الخرافي الذي يطوف بالقبور ويستغيث بأهلها ليس بأخ لنا، وأن الليبرالي المنافق الذي يبطن كره الإسلام وأحكامه، ويدعو إلى محاكاة الغرب الكافر وتشريعاته ليس بأخ لنا، إن الوحدة الوطنية يجب أن تخضع لعقيدة التوحيد وليس العكس الذي تكون فيه الوحدة الوطنية على حساب عقيدة التوحيد، وكما قال الله عز وجل عن نوح عليه السلام مع ابنه ((إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكََ)) (هود: 46).
فنحن نقول كذلك إن أعداء التوحيد ليسوا من أهلنا ولا من قبيلتنا ولا من وطننا، فإما أن يرجعوا إلى توحيد الله ويدخلوا في السلم كافه فيكونوا إخواننا، وتجمعنا بهم وحدة الدين، ويزيدها قوه وحدة الوطن وإلا فلا وحدة ولا وطنية معهم.
إن الولاء والبراء مع أنه مطلب شرعي عقدي إلا أنه أيضاً مطلب فطري وعقلي فلا نجد جنساً من الأجناس يرتبطون برابطه من الروابط إلا وتظهر عليهم هذه الصفة، حيث يوالون بني جنسهم ويعادون من يعاديهم حتى في عالم الحيوان والطير ، والكفار أنفسهم ينطلقون في ولائهم وبرائهم من هذا المنطلق، وقد أعلنها طاغوتهم بوش حينما قال: (من لم يكن معنا فهو ضدنا)، هذا هو ولاء الكفار وبرائهم، لكن المسلمين يتميزون عن جميع الأجناس بأن عقيدة الولاء والبراء تنطلق من كلمة التوحيد، فمن كان من أهلها فهو ممن يحبه الله تعالى، فنحب من يحبه الله عز وجل، ومن كفر بها أبغضه الله وأصبح عدواً لله فحينئذ نبغضه لأن الله يبغضه، أما بقية الأجناس الأخرى كالحيوان والكفار وأصحاب الروابط الجاهلية من بني آدم، فهم يوالون ويعادون على الماء والتراب والمرعى والمصالح الدنيوية، والمسلمون يوالون ويعادون في الله تعالى. وهذا هو ما يزعج الكفرة والمنافقين، حيث يريدونها روابط جاهليه عصبية عُمّية لا دخل للدين فيها.
ثالثاً: وهنا مسألة أخرى لا تقل خطراً عن سابقتيها ألا وهي النظر لمصطلح (نحن) والذين عبروا عنه بأبناء الوطن الواحد ممن ينتسب إلى الإسلام بنظرة التساوي والندية بين رؤوس الأطياف والمذاهب الفكرية المجتمعة، وأنهم شئ واحد، أي أنه في مثل هذه الحوارات الوطنية وما يطرح فيها يتساوي التوجه السني السلفي ـ الذي هو السواد الأعظم في هذا البلد، وهو مرجعية أهله ـ بالتوجه الرافضي الحاقد الذي يقوم فكره على الشرك بالله تعالى وسب الصحابة رضي الله عنهم، والذي يمثل أصحابه القلة القليلة في البلد ، كذلك يتساوى مع التوجه الليبرالي التحرري الذي هم أقل القليل، مع ما يحمل من أفكار تحررية تتحلل من أحكام الله تعالى، سواء في مجال السياسة أو المرأة أو الاقتصاد أو الدين بأسره، وهنا مكمن الخطر إذ كيف يتساوى رؤوس الضلال الذين هم قله ونكرات ونبتات غريبة في مجتمعنا مع التوجه السلفي الشرعي الذي هو طابع أهل البلد وسواده الأعظم ، إنهم والله لا يستوون، ولكن هذه المؤتمرات الحوارية الوطنية تسوي بينها وترفع من شأنها كماً وكيفاً سواء علم القائمون بذلك أم جهلوا، وهذا من المخاطر الجسيمة الكثيرة التي تنجم من جعل الوطن والوطنية والمواطنة هي التي يعقد عليها الولاء والبراء.
وإن مكمن الخطر في هذه المساواة تكون حينما يكون الرافضي والليبرالي اللذان لا يشكلان بعداً في المجتمع ولا قيما ًولا تأثيراً مساوياً لرأي علماء أهل السنة في سن ما يريد من مفاهيم على التربية والتعليم والحياة الاجتماعية والثقافية بحجة التسامح، وقبول الأخر والتعددية وغيرها من المفاهيم الضبابية، التي يراد من خلالها إذابة هوية الأمة وفتحا لأبواب التغريب داخل المجتمع، ومن ثم جعل هذا ( الأخر) واقعاً لامناص منه حتى لو كان في قمة الشطط الفكري، وحتى لو كان داعية إلى الرذيلة أو الإلحاد والكفر، وهذا يصطدم مع أبجديات المفاهيم الإسلامية التي تأمر بحفظ الدين وسياسة الدنيا به والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجعل المرجعية الحاكمة لكل شؤون الناس منطلقة من الشريعة الربانية الخالدة ، [انظر تساوي الرؤوس، موقع المختصر] .(/3)
الاستعمال الثاني: وهذا الاستعمال في تعريف مصطلح ( نحن) و(الأخر) هو المشهور عالمياً عند كل من يطرحه من المهزومين من المسلمين في حواراتهم وأعمدتهم الصحفية، وملتقياتهم ، ويفيد هذا المصطلح عندهم بأن (نحن) تعني المسلمين و(الأخر) من سواهم من غير المسلمين من الكفار والمنافقين، وفي هذا الطرح المنهزم من المؤاخذات العقدية ما يلي:
أولاً: العدول عن الأسماء والمصطلحات الشرعية التي جاءت في كتاب الله عز وجل وفي سنة نبيه صلى الله عليه وسلم إلى أسماء ومصطلحات بشريه غامضة، ونحاتات أفكار واهية أفرزتها عقول مهزومة فاستبدلت الذي هو أدنى بالذي هو خير، وتركت ما أسماه الله عز وجل من الأسماء المنطبقة على مسمياتها في كتابه سبحانه وتعالى، حيث قسم الناس إلى حزبين: حزب الله المؤمنين وحزب الشيطان الكافرين، قال الله عز وجل ((اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ )) (البقرة: 257) .
فليس هناك (نحن والأخر) وإنما هناك (المسلمون والكافرون)، قال تعالى (( هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ ُ)) (الحج: 78) .
وقال تعالى ((هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ )) (التغابن: 2) وقال تعالى: ((لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ)) (المائدة: 72) .
والآيات في ذكر الكفر والكافرين كثيرة جداً، جاء ذكرها في ما يزيد على 352 موضعاً، فلماذا التحرج من كلام الله عز وجل الذي هو أحسن الحديث وأصدقه وأفصحه (ومن أصدق من الله قيلا) (ومن أصدق من الله حديثاً) .
إن من يتحرج من كلام الله عز وجل وتسمياته، ويرتاح لكلام البشر ومصطلحاتهم ومسمياتهم يخشى عليه أن يكون تحت طائلة قوله تعالى: ((وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ)) (الزمر: 45) .
لقد نهى الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم وأتباعه من بعده من أن يكون في الصدور حرج من الصدع بكل ما جاء في القرآن من أسماء وأحكام، وعقائد وقصص وأخبار، بل الواجب اتباعه فقال تعالى: ((المص * كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ *اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ)) (الأعراف: 2) .
وعند هذه الآية يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: (والله تعالى رفع الحرج عن الصدور بكتابه، وكانت قبل إنزال الكتاب في أعظم الحرج والضيق، فلما أنزل كتابه؛ أرتفع به عنها ذلك الحرج، وبقي الحرج والضيق على من لم يؤمنوا به، كما قال تعالى: ((فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا )) (الأنعام: 125) (الصواعق المرسلة : 4/1518؟) .
ويقول أيضاً في موطن أخر: (ولا تجد مبتدعاً في دينه قط إلا وفي قلبه حرج من الآيات التي تخالف بدعته، كما أنك لا تجد ظالماَ فاجراَ إلا وفي صدره حرج من الآيات التي تحول بينه وبين إرادته، فتدبر هذا المعنى ثم أرض لنفسك بما تشاء) ا.هـ ]الفوائد ص90[.
فهل بعد هذه الآية وقول هذا الإمام الجليل فيها من عذر لمعتذر يجد في نفسه حرجاً أو ضيقاً أو حياءً من الصدع بالحق الذي في كتاب الله عز وجل، أو أن يستبدل به نحاتات الأفكار وزبالات الأذهان من كلام البشر ؟ .
وأسوق في هذا المقام رداً نفيساً لفضيلة الشيخ صالح الفوزان حفظه الله تعالى على الذين استبدلوا مصطلح (نحن والأخر) بما في كتاب الله عز وجل ( المسلم والكافر) :
يقول: وفقه الله تعالى (وقد وضع الله فوارق بين المؤمنين والكفار في الدنيا والآخرة، ونهى عن التسوية بين الفريقين، وجعل لكل فريق جزاء وأحكاماً في الدنيا والآخرة، ووضع لكل فريق اسماً مميزاً كالمؤمن والكافر، والبر والفاجر، والمشرك والموحد، والفاسق والمنافق، والمطيع والعاصي، ونهى عن التسوية بين المختلفين في هذه الأسماء والسلوكيات فقال سبحانه: )) أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ (( (الجاثية:21) .(/4)
وقال تعالى (( أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ )) (ص:28).
يعني لا نجعلهم سواء، لأن ذلك لا يليق بعدل الله، وأمر المؤمنين بالبراءة من الكفار والمشركين، ولو كانوا من أقاربهم، قال تعالى (( قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ )) (الممتحنة:4) .
ـ وهذا أصل من أصول الإيمان والدين متقرر في الكتاب والسنة وكتب العقيدة الصحيحة لا يماري فيه مسلم ـ .
ولكننا في هذه الأيام صرنا نقرأ في بعض الصحف نقلاً عما دار في مؤتمر الحوار الوطني محاولة واقتراحاً من بعض المشاركين ـ نرجو أن تكون تلك المحاولة والاقتراح صادرين عن جهل، وذلك كما نشر في بعض الصحف أن يترك لفظ الكافر ويستبدل بلفظ مسلم وغير مسلم، أو يقال المسلم والآخر، وهل معنى ذلك أن نترك ما ورد في القرآن والسنة وكتب العقيدة الإسلامية من لفظ الكفر والشرك، والكفار والمشركين، فيكون هذا استدراكاً على الكتاب والسنة، فيكون هذا من المحادة لله ولرسوله؟ ومن تغيير الحقائق الشرعية فنكون من الذين حرفوا كتاب ربهم وسنة نبيهم، ثم ما هو الدافع لذلك ؟، هل هو إرضاء الكفار، فالكفار لن يرضوا عنا حتى نترك ديننا، قال تعالى (( وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ)) (البقرة: 120) .
وقال تعالى: ((وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ)) (البقرة:217) .
(( وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء )) (النساء89:).
ثم إنه لا يجوز لنا إرضاء الكفار والتماس مودتهم لنا وهم أعداء لله ولرسوله. قال تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ)) (الممتحنة:1).
وإن كان مراد هؤلاء المنادين بتغيير هذه المسميات الشرعية التلطف مع الكفار، وحسن التعامل معهم، فهذا لا يكون على حساب تغيير المسميات الشرعية، بل يكون ذلك بما شرعه الله نحوهم [انتهى مختصراَ].
ثانياً: لو أن الأمر في استبدال ( الآخر) بالكافر توقف عند الاستبدال اللفظي لكان الأمر أهون مع مخالفته لكلام الله عز وجل كما تبين، ولكن الخطورة في هذا الاستبدال يتجاوز اللفظ إلى الهزيمة النفسية أمام الأخر الكافر، وذلك بالدعوة إلى عدم الكراهية له ، وإخفاء ظلمه، وعدوانه، وإرهابه، وكأنه مظلوم قد سلبت حقوقه !! ويشعر السامع من الذين يطرحون مصطلح (الآخر) بأنهم يعيشون تحت ظرف سياسي داخلي أو خارجي صور لهم الأخر، وكأنه مظلوم يريد من ينصره ممن ظلمه!!
واعتمدوا في ذلك على نصوص في الكتاب والسنة تدعوا إلى التسامح والبر والقسط مع الكفار، وحرفوها عن معانيها، وفصلوها عن مناسباتها التي نزلت فيها، ونسوا أو تناسوا الآيات التي فيها وجوب عداوة الكافر والبراءة منه، وجهاده حتى يكون الدين كله لله.
فمما ورد في البيان الختامي في اللقاء الوطني الخامس للحوار الفكري، قولهم في تفسيرهم لمعنى (البراء): بأنه ( الابتعاد عما يتناقض مع الإسلام وعدم التعاون مع أهله عليه، ولا يعني ذلك التعدي على حقوقهم أو عدم التعاون معهم في القضايا العادلة).
اللهم إنا نعوذ بك من الخذلان، أهذا هوا ما يريده الله عز وجل من معنى البراءة في القرآن؟ أهذا هوا الموقف الذي وقفه إمام الحنفاء إبراهيم- عليه الصلاة والسلام- مع أبيه وقومه حينما قال: (( إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ )) (الزخرف:27،26) .
وقوله سبحانه عن خليله: (( قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ )) (الممتحنة: 4) .(/5)
ما هذا التحريف في ثوابت الدين وأصوله، إن البراءة من الكافر في الإسلام تعني بغضه وبغض ما هو عليه من الكفر، وعداوته كما جاء ذلك في الآية السابقة، هذا إذا كان مسالماَ، أما إذا كان حربياً فإنه يضاف إلي المعاني السابقة جهاده وقتاله، ورد عدوانه وإزاحته من طريق الحق والتوحيد ليصل الحق إلي قلوب الناس، ويفرض سلطان الإسلام ودولته عليهم ، إن المسلم حينما يسمع مثل هذه التعاريف والمواقف المتخاذلة ليخرج بنتيجة واحدة مفادها المطالبة بعدم كراهية الكافر، وأن نحترمه ونحافظ على حقوقه، ونشفق عليه، وكأنه هو المظلوم المسلوب الحقوق!! فهلا يعلم قومنا ما فعله الكافر (الأخر) وبخاصة أهل الكتاب في المسلمين في القديم والحديث ليعلموا من هو المعتدي ومن هو المعتدى عليه ؟.
إن رفع شعار التسامح والصفح مع الكفار اليوم ليوضع في غير موضعه، لأن في ذلك خلط وتلبيس وتضليل، حيث تسمى الموالاة والمداهنة للكفار تسامحاً ومداراة، وفرق كبير بين المداراة والمداهنة التي فيها تصحيح مذاهب الكفار أو السكوت عليها، وإظهار المحبة لهم ونسيان عداوتهم وحربهم للمسلمين في القديم والحديث، (إن الذين كفروا من أهل الكتاب هم الذين ألبوا المشركين على الجماعة المسلمة في المدينة، وكانوا لهم درعاً وردءاً، وأهل الكتاب هؤلاء هم الذين شنوا الحروب الصليبية خلال مائتي عام، وهم الذين ارتكبوا فظائع الأندلس، وهم الذين شردوا المسلمين في فلسطين، وأحلوا اليهود محلهم متعاونين في هذا مع الإلحاد والمادية ، وأهل الكتاب هؤلاء هم الذين يشردون المسلمين في كل مكان، في الحبشة والصومال وأرتيريه، ويتعاونون في هذا التشريد مع الإلحاد والمادية والوثنية في يوغسلافيه والصين والتركستان والهند، وفي كل مكان، وهم الذين قتلوا أهلنا ونسائنا وأطفالنا في أفغانستان والعراق، ثم يظهر بيننا من يظن أنه يمكن أن يقوم بيننا وبين أهل الكتاب هؤلاء ولاء وتناصر ندفع به الإلحاد والإرهاب، إن هؤلاء لا يتدبرون القرآن الكريم، وإلا لما اختلطت عليهم دعوة السماحة التي هي طابع الإسلام بدعوة الولاء الذي يحذر منه القرآن.
إن الذين يحاولون تمييع هذه المفاصلة الحاسمة باسم التسامح والتقريب بين أهل الأديان السماوية يخطئون في فهم معنى الأديان، كما يخطئون في فهم معنى التسامح، فالدين هو الدين الأخير وحده عند الله، والتسامح يكون في المعاملات الشخصية، لا في التصور الاعتقادي، ولا في النظام الاجتماعي.
إنهم يحاولون تمييع اليقين الجازم في نفس المسلم، بأن الله لا يقبل دينا إلا الإسلام ، وبأن عليه أن يحقق منهج الله الممثل في الإسلام، ولا يقبل دونه بديلاًَ، ولا يقبل فيه تعديلاً –ولو طفيفاً- هذا اليقين الذي ينشئه القرآن الكريم، وهو يقرر ((إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ)) (آل عمران: 19) .
((وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ )) (آل عمران: 85)
(( وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ )) (المائدة: 49) ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ )) (المائدة: 51) .
وفي القرآن كلمة الفصل، ولا على المسلم من تميّع المتميعين، وتميعيهم لهذا اليقين ) ، ]طريق الدعوة : أحمد فايز ، بتصرف يسير.[
* ومما ورد في بيانهم الختامي أيضاً قولهم في تعريف الجهاد :( هو بذل الجهد في تحقيق الخير ودفع الشر، علماً أن الأصل في علاقة المسلمين بغيرهم هي السلم، والحرب حالة طارئة شرعها الإسلام لدفع ورفع الظلم والعدوان) .
أهذا هو تعريف الجهاد وبواعثه في الإسلام ؟
إن المتدبر لكتاب الله عز وجل وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ليتبين له وبوضوح أن الجهاد شعيرة عظيمة من شعائر هذا الدين، وهو إنما شرع رحمة بالبشرية الضالة بعامة، وبالمسلمين بخاصة، فالجهاد غايته كما قال الله تعالى (( وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه )) (الأنفال: 39) .(/6)
إن المتأمل لهذه الآية ليدرك أن الجهاد لم يشرع لدفع ورفع الظلم والعدوان فحسب، نعم هذا هو جهاد الدفع، وإنما شرع أيضا لإيصال الحق والتوحيد والهداية للناس في بقاع الأرض ليكون الدين كله لله؛ لأن سنن الله عز وجل اقتضت أن يكون الصراع بين الحق والباطل، وأن المسلمين وهم يبلغون دين الله تعالى للبشرية سيواجهون من يقف أمامهم للحيلولة بين الناس من ورائهم، وبين أن يصل إليهم هذا الدين، وحينئذ شرع الجهاد بالسيف لإزالة هذه الحواجز من طواغيت الأرض من طريق الحق، حتى يصل الحق الواضح البين إلي قلوب الناس، ويخضع الجميع لدولة الإسلام، وحينئذ لا إكراه في الدين لأنه قد تبين الرشد من الغي، وحين يكون الدين في البلاد المفتوحة من قبل المسلمين لله عز وجل، يختار أهل هذه البلاد إما الإسلام أو دفع الجزية والعيش بأمان في ظل الدولة المسلمة، وهذا هو جهاد الطلب الذي لولاه لما وصل إلينا الإسلام في بلادنا، ولما انتشر الإسلام في بقاع الأرض، وهذا ما أغفله المجتمعون في حوارهم الوطني وهم يعّرفون الجهاد .
فهلا سألوا أنفسهم ما لذي جعل المجاهدين الأوائل من الصحابة والتابعين يفتحون البلدان النائية كفارس والروم وخراسان وسمرقند والهند والسند. هل تعرض المسلمون لعدوان من أهل هذه البلاد ؟ أم أن المسلمين كانوا يرون أن من واجبهم إيصال هذا الدين إلي العالمين رحمة بهم، فإذا اعترض أحد يعيقهم عن نشر هذا الدين أزاحوه بالسيف إن لم يزح بغيره، حتى يكون الدين كله لله، ويخضع الجميع للدولة المسلمة .
وختاماً: أدعوا الذين أقرّوا هذا البيان الختامي للحوار الوطني، أن يتقوا الله عز وجل في أنفسهم وأمتهم، وأن يراجعوا ما دونوه من هذا الكلام الخطير في بيانهم، لأن فيه قدح لأصول هذا الدين وثوابته أو على الأقل فيه تلبيس وتدليس، وأخص من شارك في هذا الحوار من المنتسبين للدعوة والعلم والسنة، فإما أن يقولوا كلمة الحق ويواجهوا الباطل وأهله بها فتبرأ ذمتهم بذلك، وإما أن يفارقوا هذه المجالس ويعتزلوا أهلها وما يخوضون فيه، فهذا أعذر لهم عند الله عز وجل وعند الناس ، لأن الله تبارك وتعالى يقول: (( وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)) (الأنعام:68) .
اسأل الله عز وجل أن يهدينا لما اختلف فيه من الحق بإذنه، وأن يرزقنا الإخلاص له، والمتابعة لرسوله صلى الله عليه وسلم .
والحمد لله رب العالمين(/7)
من نداء الحق
فؤاد المنشاوي
من نداء الحق iiفينا
من دموع iiالحائرينا
* * ii*
إنه شرع iiلسادة
واعتقاد iiوعبادة
* * ii*
فيه شمعٌ فيه iiطاعهْ
وجهادٌ iiويراعة
* * ii*
فيه جندٌ iiوحراسهْ
من جميع العلم iiفيه
* * ii*
ذلك الإسلام ديني
قد أضاء الكونَ فينا ... من جراح iiالثائرينا
نفهم الإسلام iiدينا
* * ii*
ونظام iiوقياده
فيه هدي iiالسابقينا
* * ii*
وكتابٌ وقناعة
فيه عز iiالفاتحينا
* * ii*
فيه فنٌ iiوسياسهْ
فيه نور iiالعارفينا
* * ii*
وسلوكي iiويقيني
هديُ رب iiالعالمينا(/1)
من هؤلاء الثائرون؟
شعر: صلاح الدين عزيز
(1)
من هؤلاء الثائرون؟
من كلّ فجّ ينسلونْ
وبكل درب يظهرونْ
وفي مدى ما يقدرونْ
(2)
من هؤلاء المقبلون؟
صمّ الحجارةِ يحملونْ
وبها الصهاين يقذفونْ
فيجرحون ويقتلونْ
(3)
من هؤلاء الغاضبون؟
يا ويحهم لا يرهبونْ
مهما تحدتهم منونْ
هم في الشهادة راغبونْ
(4)
من هؤلاء الصامدون؟
وعلى البنادق يُقبلونْ
لم يأبهوا إذ يسقطونْ
أو ينكصوا إذ يُقتلونْ
(5)
من هؤلاء الصابرونْ؟
عجباً لهم لا يألمونْ
من مرِّ ما يتجرعونْ
أو قسوةِ الأشرِ الخؤونْ
(6)
من هؤلاء الساخطونْ؟
من حِقدِ أمريكا الدفينْ
وفتكِ صهيونِ اللعينْ
الشاربين دمَ الجنينْ
(7)
من هؤلاء المائرونْ؟
ملأوا الشوارع والسجونْ
بين السهول على الحزونْ
والمسجد الأقصى الحزينْ
(8)
ولجوا به يستعصمون؟
الشيخُ محفورُ الجبينْ
والشابُ ذو العضل المتينْ
والكاعب الطهرى المصونْ
(9)
الطفل ذو العزم المتينْ
في الصدر يُقتلُ والجبينْ
لم يثنهِ ريبُ المنونْ
عن قدسهِ الأقصى الرهينْ
(10)
من هؤلاء الثائرون؟
من هؤلاء الصادقون؟
الراكعون الساجدونْ
المؤمنون المسلمونْ
(11)
الشهر يمضي والسنونْ
وهم همُ يتكاثرونْ
ويعظمون ويفلحونْ
هم هؤلاء المسلمونْ
(12)
جاعوا وهم لا يفترونْ
نزفوا وهم لا يخمدونْ
سقطوا وهم لا يرضخونْ
يا ليت قومي ينصرونْ
(13)
أمرَ الأُباةِ الثائرينْ
الشاردين البائسينْ
في كلّ قطرٍ يهتفونْ
وعسى يفيقُ الغافلونْ
(14)
وبنو العروبة ينظرونْ
ماذا يصبُّ الظالمونْ
من كلِّ أنواعِ المنونْ
على الحماة الأعزلينْ
(15)
وذوو الغنى لا يملكونْ
إن يبذلوا ما يبذلونْ
أو يعلنوا ما يكتمونْ
أو يرفضوا الذل المهينْ
(16)
كأنّهم لا يقدرونْ
ولو أرادوا يفعلونْ
لو كان فيهم مؤمنونْ
إيمان صدق المسلمينْ
(17)
فما لهم لا ينهضونْ؟
وما لهم لا يثأرونْ
أم أنّهم يتجاهلونْ
ماذا يقاسي الضائعونْ
(18)
قل لي متى يستيقظون؟
ومتى تراهم يخجلونْ
خدامُ أمريكا الخؤونْ
ولندنِ الأم "الحنون"!!
(19)
كلا ولكن يجبنونْ
على الكراسي يحرصونْ
لابدّ يوماً يوقنونْ
عن الكراسي ينزلونْ
(20)
يا أيها المستعمرونْ
وأيها المستخذلونْ
عمّا قريبٍ تُطردونْ
وبما صنعتم تُسحقونْ
(21)
سيُنصرون المسلمونْ
ما دام قرآن مبينْ
وسنة الهادي الأمينْ
منهاج ربّ العالمينْ(/1)
من هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - في التعليم
(الشبكة الإسلامية)محمد بن عبد الله الدويش
هذه وقفات يسيرة مع هديه - صلى الله عليه وسلم - في التعليم ، ولا شك أن هذا الباب واسع ويحتاج لاستقصاء وجمع لا يتيسر لأمثالي ، لكن هذا غاية ما توصلت إليه في بحثي القاصر ، ورحم الله من أفادنا بملاحظة ، أو إضافة ، أو توجيه .
عنايته بتعليم المنهج العلمي
ففي تربيته العلمية لأصحابه ما كان يقتصر على تعليم أصحابه مسائل علمية فقط، بل ربى علماء ومجتهدين ، وحملة العلم للبشرية . ولقد ظهرت آثار هذه التربية على صحابته في مواقفهم بعد وفاته من حادثة الردة ، وجمع القرآن ، وشرب الخمر ، واتخاذ السجون ، والخراج وغير ذلك من المسائل التي اجتهد فيها صحابته -رضوان الله عليهم- ، فلم يقفوا مكتوفي الأيدي أمام النوازل التي واجهتهم ، واستطاعوا أن يتوصلوا فيها للحكم الشرعي ، كل ذلك كان نتاج التربية التعليمية التي رباهم عليها - صلى الله عليه وسلم - ومن معالم تعاليمه المنهج العلمي :
1- تعويدهم على معرفة العلة ومناط الحكم
فلما سئل عن بيع الرطب بالتمر ، قال : ["أينقص الرطب إذا جف ؟" ، قالوا نعم ، فنهى عن ذلك](رواه الخمسة) .. وحين نهاهم عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها قال لهم : ["أرأيت إن منع الله الثمرة بم تستحل مال أخيك؟"](البخاري ومسلم) . وحين قال : ["وفي بضع أحدكم صدقة" ، قالوا له : أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر ، قال : "أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر" ، قالوا نعم ، قال : "فكذلك إذا وضعها في حلال كان له أجراً"](مسلم) .
ففي هذه النصوص علم أصحابه علة الحكم ومناطه ، ولم يقتصر على الحكم وحده .
2- تعويدهم على منهج السؤال وأدبه
ففي موضع يقول : [إن أعظم المسلمين في المسلمين جرماً من سأل عن شيء لم يحرم على المسلمين فحرم من أجل مسألته]البخاري ومسلم) ، و : [إن الله كره لكم قيل وقال وكثرة السؤال ، وإضاعة المال](متفق عليه) . فها هنا يذم السؤال ، لكنه في موضع آخر يأمر بالسؤال ، أو يثني عليه : [ألا سألوا إذ لم يعلموا فإنما شفاء العي السؤال](أبو داود) ، [لقد ظننت يا أبا هريرة أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك لما رأيت من حرصك على الحديث]البخاري) .
3- الإجابة بالقواعد العامة
سأله رجل : إنا نركب البحر ومعنا القليل من الماء فإذا توضأنا به عطشنا ، أفنتوضأ بماء البحر ؟ فلم يقتصر - صلى الله عليه وسلم - في إجابته على قوله نعم ، وإلا كان الحكم قاصراً على الحالة موضع السؤال وحدها ، إنما أعطاه حكم ماء البحر وزاده فائدة أخرى يحتاج إليها حين قال :[هو الطهور ماؤه الحل ميتته](الترمذي وصححه) ، ويعني هذا أن ماء البحر له سائر أحكام الماء الطهور ، وليس فقط يجوز الوضوء به في هذه الحالة . وسئل : ما يلبس المحرم من الثياب ؟ ، فقال : [لا يلبس المحرم القميص ولا العمامة ولا السراويل ولا البرنس ولا ثوباً مسه ورس ولا زعفران ولا الخفين](الشيخان) ، فلم يعدد له ما يجوز للمحرم لبسه بل أعطاه قاعدة عامة فيما يحل وما لا يحل للمحرم لبسه .
4- تربيته لأصحابه على منهج التلقي
[عن العرباض بن سارية -رضي الله عنه- قال : وعظنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موعظة ذرفت منها العيون ، ووجلت منها القلوب ، فقلنا يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا ، فقال : "أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد ، وإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين ، عضوا عليها بالنواجد](الترمذي وقال حسن صحيح) ، وقال في وصف الطائفة الناجية : [من كانوا على ما مثل أنا عليه اليوم وأصحابي](أبو داود) . وحين رأى مع عمر صحيفة من التوراة غضب ، ونهاه عن ذلك ، وقال : [لو كان موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي](أحمد) .
5- تربيتهم على منهج التعامل مع النصوص
خرج على أصحابه وهم يتمارون في القدر ، هذا ينزع آية ، وهذا ينزع آية فغضب حتى كأنما فقىء في وجهه حب الرمان من الغضب . وقال : [بهذا أمرتم ، أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض ؟! ، انظروا إلى ما أمرتكم به فاتبعوه ، وما نهيتم عنه فاجتنبوه](أحمد) .
6- تعويدهم على الاستنباط
سأل أصحابه يوماً : "إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها ، وإنها مثل المسلم ، فحدثوني ما هي" . قال ابن عمر - راوي الحديث - فوقع الناس في شجر البوادي ، قال عبد الله ووقع في نفسي أنها النخلة فاستحييت . ثم قالوا : حدثنا ما هي يا رسول الله ؟ قال : "هي النخلة"(الشيخان) .
7ـ تربيتهم على القيام بواجب العلم(/1)
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار"(أحمد) . وقال - صلى الله عليه وسلم - : "بلغوا عني ولو آية"(البخاري) . وقال - صلى الله عليه وسلم - : "نضر الله امرءاً سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها فرب مبلغ أوعى من سامع". وقد روى هذا الحديث (24) من أصحابه مما يشعر أنه قاله - صلى الله عليه وسلم - في أكثر من مناسبة .
وانظر إلى أثر هذه التربية في قول أبي ذر -رضي الله عنه- : "لو وضعتم الصمصامة - السيف - على هذه - وأشار إلى رقبته - واستطعت أن أنفذ كلمة سمعتها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قبل أن تجهزوا علي لأنفذتها"(البخاري) .
8ـ ترغيبه أصحابه في العلم
ولا شك أن لذلك الترغيب دوراً كبيراً في إيجاد الحماسة لدى طالب العلم للتعلم ، والاستزادة من ينابيعه. فحين جاء ثلاثة نفر وهو جالس مع أصحابه فجلس أحدهم خلف الحلقة ، والآخر رأى فرجة فجلس فيها ، وأما الثالث فأعرض ، فقال - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك : "أما الأول فآوى فآواه الله ، وأما الثاني فاستحيا فاستحيا الله منه ، وأما الثالث فأعرض ، فأعرض الله عنه"(البخاري) .
9ـ تشجيع الطالب والثناء عليه
سأله أبو هريرة -رضي الله عنه- يوماً : من أسعد الناس بشفاعتك ؟ فقال - صلى الله عليه وسلم - : "لقد ظننت أن لا يسألني أحد عن هذا الحديث أول منك لما علمت من حرصك على الحديث"(البخاري) ،
فتخيل معي أخي القارئ موقف أبي هريرة ، وهو يسمع هذا الثناء وهذه الشهادة من أستاذ الأساتذة ، وشيخ المشايخ - صلى الله عليه وسلم - ، بحرصه على العلم بل وتفوقه على الكثير من أقرانه ، وتصور كيف يكون أثر هذا الشعور دافعاً لمزيد من الحرص أو الاجتهاد .
وحين سأل أبي بن كعب : "أبا المنذر أي آية في كتاب الله أعظم ؟" ، فقال أبي : "آية الكرسي" ، قال له : "ليهنك العلم أبا المنذر"(مسلم) .
10ـ الجمع بين التعليم الفردي والجماعي
في كثير من النصوص نقرأ : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - جالساً مع أصحابه ، بينما كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فهذا نموذج للتعليم الجماعي . وأما التعليم الفردي فنماذجه كثيرة ، قال ابن مسعود -رضي الله عنه- : "علمني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التشهد كفي بين كفيه"(متفق عليه) . ومن ذلك ما ورد من غير واحد من أصحابه : أوصاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . ومن ذلك حديث معاذ : "كنت رديف النبي - صلى الله عليه وسلم - على حمار فقال : يا معاذ ، أتدري ما حق الله على العباد ، وما حق العباد على الله.."(الشيخان) .
11ـ معرفة قدرات تلامذته وإدراكهم العقلي
فهو يقول لأبي هريرة حين سأله عن الشفاعة لقد ظننت أن لا يسألني أحد عن هذا الحديث أول منك لما أعلم من حرصك على الحديث(البخاري) .
12ـ التوجيه للتخصص المناسب
روى البخاري تعليقاً والترمذي عن زيد بن ثابت : أن قومه قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - : ها هنا غلام من بني النجار حفظ بضع عشرة سورة ، فاستقرأني فقرأت سورة ق ، فقال إني أكتب إلى قوم فأخاف أن يزيدوا علي أو ينقصوا ، فتعلم السريانية . فتعلمها - رضي الله عنه - في سبعة عشر يوماً .
13ـ العناية بتعليم المرأة
فحين صلى العيد - صلى الله عليه وسلم - اتجه إلى النساء فوعظهن وأمرهن بالصدقة(البخاري) ، بل تجاوز الأمر مجرد استغلال اللقاءات العابرة ، فعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن النساء قلن لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "غلبنا عليك الرجال ، فاجعل لنا يوماً من نفسك" ، فوعدهن يوماً لقيهن فيه فوعظهن وأمرهن فكان فيما قال لهن : "ما منكن امرأة تقدم ثلاثة من ولدها إلا كان لها حجاباً من النار" ، فقالت امرأة : واثنين ؟ فقال : "واثنين"(البخاري) .
14ـ استغلال المواقف في التعليم
قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - سبي ، فإذا امرأة من السبي تحلَّبَ ثديها تسقي ؛ إذ وجدت صبياً في السبي أخذته فألصقته ببطنها ، وأرضعته ، فقال : "أترون هذه طارحة ولدها في النار" ، قالوا : لا ، وهي تقدر على أن لا تطرحه ، قال : "لله أرحم بعباده من هذه بولدها"(متفق عليه) .
15ـ التشويق والتنويع في العرض
فهو أحياناً يطرح المسألة على أصحابه متسائلاً : "أتدرون ما الغيبة"(مسلم) ، "أتدرون من المفلس"(أحمد) ، "إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها وإنما مثلها مثل المسلم فأخبروني ما هي"(متفق عليه) . ولا شك أن السؤال مدعاة للتفكير وتنميته ، ومدعاة للاشتياق لمعرفة الجواب مما يكون أرسخ في الذهن .
وأحياناً يغير نبرات صوته : "كان إذا خطب احمرت عيناه وعلا صوته واشتد غضبه كأنه منذر جيش يقول صبحكم ومساكم"(مسلم) .
وأحياناً يغير جلسته كما في حديث أكبر الكبائر : "وكان متكئاً فجلس فقال ألا وقول الزور ، ألا وشهادة الزور"(الشيخان) .
16ـ استعمال الوسائل التعليمية(/2)
أ- فهو يشير تارة بقوله : "أنا وكافل اليتيم كهاتين وأشار بأصبعه السبابة والوسطى"(البخاري) ، وقوله : "الفتنة من هاهنا من حيث يطلع قرن الشيطان" وأشار بيده إلى المشرق. (متفق عليه) .
ب- وتارة يضرب المثل ، أو يفترض قصة : "مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فكان بعضهم أسفلها وكان بعضهم أعلاها ، وكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا : لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً فلم نؤذ من فوقنا ، فإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً ، وإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً"(البخاري) . وكما في قوله : "لله أفرح بتوبة عبده من أحدكم سقط على دابته وقد أضلها في أرض فلاة وعليها طعامه وشرابه فنام تحت شجرة ينتظر الموت ، فقام فإذا هي عند رأسه"(متفق عليه) .
جـ- وتارة يستعمل الرسم للتوضيح فقد خط خطاً مستقيماً وإلى جانبه خطوط ، وقال هذا الصراط وهذه السبل . ورسم مربعاً وقال هذه الإنسان..(البخاري) .
د- وأحياناً يحكي قصة واقعية من الأمم السابقة ، كما في قصة الثلاثة الذين آواهم المبيت إلى غار فدعوا الله بصالح أعمالهم(متفق عليه) . وقصة الذي قتل تسعة وتسعين نفسا.(متفق عليه) ، وأمثالها كثير .
17ـ مراعاة الفروق الفردية
كما ورد أنه كان - صلى الله عليه وسلم - يخطب فدخل رجل فقال : يا رسول الله رجل غريب يسأل عن دينه ، فترك خطبته ودعا بكرسي فجلس يعلمه ثم عاد لخطبته(متفق عليه) .
18ـ العناية بالتعليم
كما في الحديث السابق ، وكان - صلى الله عليه وسلم - يحدث أصحابه فجاء رجل فسأل عن الساعة فمضى في حديثه . فقال قوم : سمع ما قال فكره ما قال ، وقال قوم : لم يسمع . ثم سأل مرة أخرى : متى الساعة ؟ فمضى في حديثه ، فلما انتهى من حديثه قال : أين أراه السائل عن الساعة ، فقال : أنا ، فقال - صلى الله عليه وسلم - : إذا ضُيِّعت الأمانة فانتظر الساعة ، قال : وما إضاعتها ؟ قال : إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة(مسلم) ، فهو - صلى الله عليه وسلم - رغم أنه لم يقطع حديثه لم ينسَ هذا السائل ولم يهمله .
وحين خطب في حجة الوداع قال أبو شاه : اكتبوا لي : فقال : اكتبوا لأبي شاه.(البخاري) .
19ـ تأكيد ما يحتاج التأكيد
فقد حلف على مسائل كثيرة تزيد على الثمانين : "والله لا يؤمن.. والذي نفسي بيده.. وأيم الله.." وغيرها كثير .
20ـ مراجعة العلم والحفظ
فقد أوصى حفاظ القرآن بتعاهده والعناية به : "تعاهدوا القرآن فوالذي نفسي بيده لهو أشد تفلتا من الإبل في عقلها"(الشيخان) ، وكان جبريل يدارسه القرآن. (البخاري) .
وحين علم - صلى الله عليه وسلم - البراء دعاء النوم قال أعده علي فقال : وبرسولك -الذي أرسلت فقال - صلى الله عليه وسلم - بل وبنبيك الذي أرسلت](الشيخان) .(/3)
من هم أعداؤنا؟
لا يشك متأمل لتاريخ الأمة الإسلامية العريق أن الأمة اليوم تعاني أشد أحوالها، وتمر بأصعب أيامها، فإنه وإن كان قد نزلت بالأمة نكبات كبار، وحلت بها كوارث جسام، وأحدقت بها أزمات عظام، إلا أنها عبر تلك العصور لم تتزعزع ثقتها بدينها، ولم تفقد الثقة بربها، فهي لم تزل رغم شدة البلاء، وتنوع الأعداء معتزة بدينها، فخورة بإسلامها، راضية بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً؛ لذا فإنها سرعان ما وثبت من رقادها، وأفاقت من سكرتها، فتبددت همومها بمراجعة دينها والتوبة لربها. أما اليوم: فإن الأمة مغزوة من داخلها، ومحاربة من خارجها.
أما غزوها من داخلها: فبجحافل المنافقين المتربصين من العلمانيين وأشياعهم، الذين أضعفوا إيمان الأمة بربها، وتمسكها بدينها؛ بإثارة الشبهات وبثها، وبالترويج للشهوات وتزيينها وإشاعتها، فأصيب قطاع كبير من أبناء الأمة في دينهم، وإيمانهم فإنا لله وإنا إليه راجعون، وقد أجاد من قال:
وكل كسر فإن الله يجبره وما لكسر قناة الدين جبران
أما حربها من خارجها: فهذا التداعي العالمي لأمم الكفر والإلحاد من اليهود والنصارى، والوثنيين، والملحدين على أمة الإسلام كما أخبر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ يُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا] فَقَالَ قَائِلٌ: وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ قَالَ: [بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ وَلَيَنْزَعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمْ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ الْوَهْنَ] فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْوَهْنُ قَالَ: [حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ]رواه أبوداود وأحمد. وصدق الصادق المصدوق، فأعداد المسلمين اليوم كثيرة ولكنها لا تفرح صديقاً، ولا تخيف عدواً، فهم غثاء كغثاء السيل.
وأما أعداء الأمة، فقد تنادوا وتداعوا كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: فالوثنيون والملحدون ممثلين بالعالم الشرقي يسومون المسلمين سوء العذاب، ويسحقون من قدروا عليه منهم بالحديد والنار، يتربصون بكم الدوائر ويكيدون لكم المكايد، ولا يجدون فرصة ينفسون بها عن أحقادهم وضغائنهم إلا بادروا إليها، {...وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ...[118]} [سورة آل عمران]. وخير شاهد على صدق ما نقول: ما يعانيه إخوانكم المسلمون من إبادة وتنكيل على أيدي هؤلاء المجرمين في كشمير والهند وبورما والشيشان، وغيرها.
أما اليهود ممثلين بدولة إسرائيل: فحدث عن عدائهم ولا حرج، فهم سماسرة الكيد، وأرباب الخبث والكفر، زرعوا دولتهم في قلب العالم الإسلامي، وضربوا أفظع الصور في تشريد المسلمين وإذلالهم، والتسلط عليهم، والتلاعب بهم، وانتهاك حرماتهم ومقدساتهم، والهيمنة عليهم، وشاهد هذا ما يجري على المسلمين في أرض فلسطين وغيرها على أيدي هؤلاء الأنجاس الأرجاس.
أما النصارى الصليبيون ممثلين بالعالم الغربي والأوربي الكافر: فهم ورثة الأحقاد والضغائن على أمة الإسلام، فهم ضائقون بالإسلام منذ ظهوره، وقد خاضوا ضد أمة الإسلام حروباً مضنية طويلة، سالت من جرائها أنهار الدماء إلا إن تاريخ حروبنا معهم لم يشهد ضراوة في العداء، ولا خبثاً في الأداء، ولا إصراراً وتصميماً على تدمير الأمة وإفنائها كما يجري منهم اليوم.
فهاهم خبراؤهم، وكبراؤهم، وساستهم ورؤساؤهم يتنادون لحرب الإسلام، وإبادة أهله، والتنكيل بهم تارة باسم:' محاربة الإرهاب والتطرف'، وتارة باسم:'حماية حقوق الإنسان' وأخرى باسم:' الحفاظ على المصالح الحيوية' أو 'الأمن القومي' تعددت الأعذار والقصد واحد.
هؤلاء أعداء دينكم عملوا على إبادتكم ومحو دينكم بكل ما أوتوا من طاقة وجهد، وصلوا لذلك الليل بالنهار، طرقوا كل باب، وسلكوا كل سبيل، ورفعوا كل شعار؛ لإطفاء نور الله تعالى، فباؤوا بالفشل، وجنوا الخسار، فالله متم نوره ولو كره الكافرون قال الله تعالى: { يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ[8]}[سورة الصف].
ورغم ضراوة هذا العداء، وكثرة أهله، وتنوع راياته، واختلاف وتوالي خطوبه، وشدة بأسه؛ إلا أن دين الأمة محفوظ، ولا يزال فيها طائفة بأمر الله قائمة كما وعد الله تعالى حيث قال:{ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ[9]}[سورة الحجر]. وقد قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [لا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ] رواه البخاري ومسلم.(/1)
فالأمة الإسلامية محفوظة بحفظ رسالتها ودينها وكتابها، فهي باقية ما بقي الليل والنهار، ولا نشك في ذلك، ولا ينتابنا فيه أدنى ريب، ولو اجتمع على الأمة أهل الأرض جميعاً، وما ذاك بحولنا وقوتنا بل والله لولا الله حافظ دينه؛ لتهدمت منه قوى الأركان، فالحمد لله على نعمه الكثيرة والتي من أجلها وأعظمها حفظ الملة والدين.
فيا أيها المؤمنون إن أمتكم الإسلامية قد بليت على مدار تاريخها بمحن وحروب ونكسات أحدثها ما يمر بها إخوانكم في الملة والدين في أزمة كشر فيها الصليب والغرب الكافر عن أنيابه، كارثة أشاحت اللثام عن وجه الأمم الغربية الكافرة القبيح التي تتشدق برعاية حقوق الإنسان وحفظ كرامته، فاجعة تهاوت فيها كل الدعاوى الكاذبة والشعارات الفارغة كالشرعية الدولية التي طالما غروا بها عدداً غير قليل من أبناء أمة الإسلام، كارثة بدا فيها عُوار أمتنا، وضعف قوتنا، وتفرق كلمتنا، وتمزق صفنا، واستخفاف أعدائنا بنا، وهواننا على الناس، نازلة ليس فيها لأمة الإسلام لا ناقة ولا جمل كما قال الأول:
ويقضى الأمر حين تغيب تيم ولا يستأمرون وهم شهود
كارثة عقد فيها فئام من الأمة الآمال على جلاديهم وأعدائهم يرجون منهم الفرج، ويؤملون منهم النصر. تحت سمع ونظر أمة الإسلام، ولم نسمع إلا الشجب والاستنكار.
لمثل هذا يذوب القلب من كمد إن كان في القلب إسلام وإيمان
وإننا رغم قساوة هذه الفواجع، وفداحة تلك المآسي والنوازل نعلنها صريحة مدوية واضحة بينة لا غش فيها ولا لبس أن ما أصابنا إنما هو بسبب ذنوبنا وأعمالنا، فقد قال الله تعالى مخاطباً خير القرون، وأفضل الأجيال بعد أن هزموا في غزوة أحد:{ أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ[165]}[سورة آل عمران]. فما أصابنا من تسلط أعدائنا علينا إنما هو بسبب ذنوبنا، وإعراضنا عن دين ربنا، وما يعفو عنه الله تعالى أعظم وأكبر كما قال جل ذكره:{ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ[30]}[سورة الشورى].
إن ما يجري هو والله قضية كل من رضي بالله ربا،ً وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً، فقوموا بما تستطيعون من نصرة إخوانكم في الملة والدين، وذلك بتقديم الدعم المادي والمعنوي كل حسب طاقته وقدرته وإمكانياته، ولا تبخلوا من ذلك شيء.
فإن عدمتم ما تقدمونه لإخوانكم، فلن تعدموا دعاءً صادقاً، وتضرعاً لله منكسراً أن يرفع عن أمتنا الذل والصغار، وأن يعجل الفرج. فحثوا أنفسكم، وشيوخكم، وأطفالكم، وفقراءكم، ومساكينكم على الدعاء، فإن دعاء هؤلاء من الله بمكان؛ لذا قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ابْغُونِي الضُّعَفَاءَ فَإِنَّمَا تُرْزَقُونَ وَتُنْصَرُونَ بِضُعَفَائِكُمْ] رواه أبو داود والترمذي والنسائي وأحمد. وفي رواية: [إِنَّمَا يَنْصُرُ اللَّهُ هَذِهِ الاُمَّةَ بِضَعِيفِهَا بِدَعْوَتِهِمْ وَصَلَاتِهِمْ وَإِخْلَاصِهِمْ].
الشيخ خالد بن عبد الله المصلح(/2)
من هم الأحرار?
الكاتب: الشيخ أ.د.عبد الله قادري الأهدل
المحتلون ومن ظاهرهم ونال ثوابهم يدَّعون تحرير العراق، ولسان حالهم يقول:
{اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ} [الأنعام (128)] ونفذوا تمثيلية الانتخابات التي سجلت نسختها الأصلية في البيت الأبيض، ولندن، وتل أبيب، ومقر الحاكم "السفير الأمريكي" في بغداد، وشايعتها الدبابات والمدافع والرشاشات والصواريخ والطائرات.
وأعلن كل من المتظاهرين "أي الذين ظاهر بعضهم بعضا على الاحتلال والعدوان"
أن يوم الانتخابات يوم عرس وحرية وديمقراطية.
وهو من إعلانات العصر المعروفة عن السلع المستهلكة في المحطات الفضائية وغيرها من وسائل الإعلام، التي تخدع الجماهير المستهلكة.
وانبرى القضاة والشهود والمحامون "وكلهم من أسلم" يثبتون صحة شرعية التمثيلية الانتخابية.
أتدري من هم الذين انبروا لتصدق التمثيلية؟ إنهم أركانها من قادة أمريكا، وبريطانيا، واليهود، وأتباعهم، وبخاصة المستفيدين من التمثيلية.
وكي لا أدع القارئ يتحير في عبارة: "وكلهم من أسلم" أستأذنه في بيان معناها بإيجاز:
كانت قبيلتان يمنيتان متجاورتان في عهد أئمة آل حميد الدين في اليمن، متعاديتين متقاتلتين دائما لأتفه الأسباب، على قمم جبال تحد بينهما، هما قبيلة "أسلم" وقبيلة "بني حسن" وكان لقبيلة "أسلم" سوق أسبوعي يسمى "سوق الثلاثاء" يحضره المتسوقون من كلتا القبيلتين ومن غيرهما. لتبادل السلع وبيعها وشرائها.
وكان يحصل بين بعض أهل السوق تنازع، ومنهم بعض أفراد القبيلتين، فيرجعون إلى حاكم السوق، وهو من قبيلة "أسلم" فإذا حكم للخصم الأسلمي على خصمه الحسني، قال المحكوم عليه : "الخصم من أسلم، والقاضي من أسلم، والشهود من أسلم، فكيف أسلم؟!"
والشعب العراقي الذي قاطع الانتخابات [ومنهم: هيئة علماء المسلمين العراقي] هو ا"الحسني" المحكوم عليه هنا، والمحتل الأمريكي والبريطاني، هما الخصم "الأسلمي" والمحامي والقاضي– وهما أسلميان- هم الدول المظاهرة للمحتل، كأستراليا وغيرها ممن لهم جنود محتلة في العراق، والشهود هم الذين يتوقعون أنهم سيستفيدون من تمثيلية الانتخابات، والمعارضون العراقيون للاحتلال، هم "الحسنيون" الذين يقولون: "فكيف أسلم؟!"
ولكن يجب أن تطمئن هيئة علماء المسلمين، ومن وقف بجانبها من معارضي الاحتلال الأمريكي وتمثيليته، أنها صاحبة الحق الذي لا يشك فيه عاقل يمقت الاحتلال، وأنهم هم الأحرار الذين يضغط عليها الأقوياء ومن شايعهم، ليرضوا بالذل والهوان تحت المعتدي المحتل وسيادته، ويفقدوا بذلك استقلالهم وبقاء بلدهم العراق، وسكانه في دائرة عبودية الأمريكان، ليطمئن المقاومون أنهم هم الأحرار، وأن الذي يقبلون الاحتلال ونتائجه غير الشرعية، والذين يستظلون بمظلته ويعيشون تحت سلاحه وقواعده، هم الذين فقدوا وسيفقدون الحرية الحقة.
فليست الحرية هي حرية من ظاهره الْمُلك، الذي يعجب صاحبه ما يملكه من أموال، وما يتبعه من أنصار من قوات وخدم وغيرها، مهما كثرت تلك الأموال، وتعاظمت تلك القوات ورقص له الراقصون من الخدم، ما دام قلب صاحبه مستعبدا مستذلا لغيره من الشر، وبخاصة البشر المعتدي المحتل لبلاده.
وإنما الحر هو الذي يرفض الاستعباد، ولا يبيت على ضيم مهما قوي عدوه، ومهما أوذي هو وتوالت عليه الفتن.
وقد دل كتاب الله، و السنة النبوية وسيرة الخلفاء الراشدين، وواقع الحال على مدار التاريخ، أن الحر الحقيقي، هو الذي لا يتعلق قلبه إلا بالله، ويعبده ولا يعبد سواه.
فالذي يتعلق قلبه بغير الله، ويذل لسواه، إنما يذل ويستعبد لآلهة شتى، كل منها يأمره بما لا يقدر على تنفيذ أمره، لأن أوامرهم متضادة: إذا قال له هذا: اقعد قال له الآخر: قم, وإذا قال له ذلك، اذهب إلى البيت، قال له السيد الأخر: اذهب إلى السوق...فمتى يكون حرا من تَعَدَّدَتْ أسياده.
يقول الله تعالى في الحر الحقيقي، والمستعبد الذي قد يدعي الحرية، وهو يفقدها
{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر (29)]
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة، إن أعطي رضي وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة وإن كان في الساقة كان في الساقة، إن استأذن لم يؤذن له وإن شفع لم يشفع) [صحيح البخاري (3/1057)]
ويقول الخليفة الثاني عمر رضي الله عنه مؤنبا أميره على مصر، وقد اعتدى ابنه على ذي ذمة نصراني: "كيف تذلون الناس، وقد ولدتهم أمهاتهم أحرار؟!"
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله مقررا معنى الحرية الحقة والعبودية المذلة لغير الله:(/1)
".. فإن أسر القلب أعظم من أسر البدن، واستعباد القلب أعظم من استعباد البدن، فإن من استُعبِد بدنه واستُرِق، لا يبالي إذا كان قلبه مستريحا من ذلك مطمئنا بل يمكنه الاحتيال في الخلاص، وأما إذا كان القلب-الذي هو الملك-رقيقا مستعبدا لغير الله، فهذا هو الذل والأسر المحض.. فالحرية حرية القلب، والعبودية عبودية القلب.....-إلى أن قال-: وكذلك طالب الرئاسة والعلو في الأرض، قلبه رقيق لمن يعينه عليها، ولو كان في الظاهر مقدمهم والمطاع فيهم ... فهو في الظاهر رئيس مطاع، وفي الحقيقة عبد مطيع لهم.." [مجموع الفتاوى: (10/186-189)]
ولهذا نرى هؤلاء الأحرار "الحْسَنيون" يقفون على النهج الصحيح: وهو مقاومة المحتل، والإصرار على جدولة انسحابه، ليبقى بلدهم حرا، وأهله أحرارا، وإن تواطأ عليهم "الأسلميون" فقضى قاضيهم وادعى مدعو هم وشهد شهودهم بالباطل، ليثبتوا أن الاحتلال المستعبِد حق.
فهؤلاء سيختلفون ويتشاكسون على اقتسام ما يتوهمونه غنائم، وقد بدت معالم تشاكسهم تظهر، وآمالهم طويلة، وخسارتهم ستكون ثقيلة، فالعلمانيون يتجمعون ضد المتدينين، والمتدينون يستنجدون بالمراجع ومن يتعاون معهم من الجيران، وسيعرف الناس طال الوقت أو قصر من هم الأحرار أهم الذين يدعون أن المحتل حررهم أم هم المقاومون الذين هدمت منازلهم وقتل رجالهم ونساؤهم كبارا وصغارا بغير جرم ارتكبوه إلا ليقولوا للمعتدي: ارحل عن بلادنا!(/2)
من هم الأنبياء الذين أرسلهم الله تعالى ؟ وما هي الكتب التي أنزلها معهم ؟
حين أهبط الله آدم إلى الأرض وانتشرت ذريته لم يتركهم هملاً بل أوجد لهم الرزق وأنزل عليه وعلى أبنائه الوحي فمنهم من آمن ومنهم من كفر : (( ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا اللّه واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى اللّه ومنهم من حقت عليه الضلالة )) النحل/36 .
.
والكتب السماوية التي أنزلها اللّه أربعة وهي التوراة والإنجيل والزبور والقرآن : (( نزل عليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل )) آل عمران/3 .
وقال تعالى : (( وآتينا داود زبوراً )) الإسراء/55 .
والأنبياء والرسل كثيرون ولا يعلم عددهم إلا اللّه منهم من قص اللّه علينا ومنهم من لم يقصه علينا : (( ورسلاً قد قصصناهم عليك من قبل ورسلاً لم نقصصهم عليك )) النساء/164 .
و يجب الإيمان بجميع الكتب التي أنزلها اللّه وجميع الأنبياء والرسل الذين أرسلهم اللّه كما قال سبحانه : (( يا أيها الذين آمَنوا آمِنوا باللّه ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل ومن يكفر باللّه وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالاً بعيداً )) النساء/136 ...
والأنبياء والرسل كثيرون وقد ذكر اللّه منهم في القرآن خمسة وعشرين فيجب الإيمان بهم جميعاً وهم ، آدم ، إدريس ، نوح ، هود ، صالح ، إبراهيم ، لوط ، إسماعيل ، إسحاق ، يعقوب ، يوسف ، شعيب ، أيوب ، ذو الكفل ، موسى ، هارون ، داوود ، سليمان ، إلياس ، اليسع ، يونس ، زكريا ، يحيى ، عيسى ، محمد عليهم الصلاة والسلام أجمعين .
والقرآن الكريم أعظم الكتب السماوية وآخرها وهو ناسخ لما قبله من الكتب ومهيمن عليه فيجب العمل به , وترك ما سواه : (( وأنزلنا إليك الكتب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله )) المائدة/48 .
وقد اصطفى الله من بني آدم رسلاً وأنبياء وبعثهم في كل أمة , وأمرهم بالدعوة إلى عبادة الله وحده وبيان الشرائع التي فيها سعادة الدنيا والآخرة والبشرى بالجنة لمن آمن والإنذار بالنار لمن كفر : (( ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة )) النحل/36 .
وقد فضل الله بعض الأنبياء والرسل على بعض فأفضلهم أولوا العزم وهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد وأفضل أولي العزم محمد صلى الله عليه وسلم فقد كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة حتى بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة وهو آخر الأنبياء والرسل كما قال الله عنه : (( وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً ولكن أكثر الناس لا يعلمون )) سبأ/28 .
والأنبياء والرسل اصطفاهم الله وجعلهم قدوة لأممهم رباهم وأدبهم وكرمهم بالرسالة وعصمهم من الوقوع في المعاصي وأيدهم بالمعجزات فهم أكمل البشر خَلقاً وخُلقاً وأفضلهم علماً وأصدقهم قولاً وأعطرهم سيرة قال الله عنهم : (( وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين )) الأنبياء/73 .
ولما كان الأنبياء والرسل بهذه المنزلة العالية من الطاعة وحسن الخلق أمرنا الله بالاقتداء بهم فقال : (( أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده )) الأنعام/90 .
وقد اجتمعت في نبينا محمد صلى الله عليه وسلم جميع صفات الأنبياء والرسل وأكرمه الله بالأخلاق العظيمة لذا أمر الله بالاقتداء به في كل أحواله : (( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً )) الأحزاب/21 .
والإيمان بجميع الأنبياء والرسل من أركان العقيدة الإسلامية التي لا يتم إيمان المسلم إلا بها لأنهم يدعون إلى عقيدة واحدة هي الإيمان بالله قال تعالى : (( قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون )) البقرة/136 .
من كتاب أصول الدين الإسلامي للشيخ محمد بن إبراهيم التويجري .(/1)
من هم البهرة والإسماعيلية ؟
عبد الله بن محمد زُقَيْل
أضيفت بتاريخ : 08 - 05 - 2004 نقلا عن : خاص بإذاعة طريق الإسلام نسخة للطباعة القراء : 10939
بسم الله الرحمن الرحيم
طائفة البهرة
فتاى اللجنة الدائمة في " طائفة البهرة "
فتوى رقم 2289
س : كبير علماء بوهرة يصر على أنه يجب على أتباعه أن يقدموا له سجدة كلما يزورونه . فهل وجد هذا العمل في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو الخلفاء الراشدين ، وحديثا نشرت صورة لرجل بوهري يسجد لكبير علماء بوهرة في جريدة - من - الباكستانية المعروفة الصادرة في 6/10/1977 م ولاطلاعكم عليها نرفق لكم تلك الصورة ؟
جـ : السجود نوع من أنواع العبادة التي أمر الله بها لنفسه خاصة ، وقربة من القرب التي يجب أن يتوجه العبد بها إلى الله وحده ، لعموم قوله تعالى : { ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } [ النحل : 36 ] ، وقوله : { وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون } [ الأنبياء : 25 ] ، ولقوله تعالى : { ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون } [ فصلت : 37 ] ، فنهى سبحانه عباده عن السجود للشمس والقمر ، لكونهما آيتين مخلوقتين لله فلا يستحقان السجود ولا غيره من أنواع العبادات .
وأمر تعالى بإفراده بالسجود لكونه خالقا لهما ولغيرهما من سائر الموجودات ، فلا يصح أن يسجد لغيره تعالى من المخلوقات عامة ، ولقوله تعالى : { أفمن هذا الحديث تعجبون . وتضحكون ولا تبكون . وأنتم سامدون . فاسجدوا لله واعبدوا } [ النجم : 59 - 62 ] فأمر بالسجود له تعالى وحده ، ثم عم فأمر عباده أن يتوجهوا إليه وحده بسائر أنواع العبادة دون سواه من المخلوقات ، فإذا كان حال البوهرة كما ذكر في السؤال فسجودهم لكبيرهم عبادة وتأليه له ، واتخاذ له شريكا مع الله أو إلها من دون الله . وأمره إياهم بذلك أو رضاه به يجعله طاغوتا يدعو إلى عبادة نفسه فكلا الفريقين التابع والمتبوع كافر بالله خارج بذلك عن ملة الإسلام والعياذ بالله .
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو
عبد الله بن قعود
عضو
عبد الله بن غديان
نائب رئيس اللجنة
عبد الرزاق عفيفي
الرئيس
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
فتاوى اللجنة الدائمة (2/272 - 273)
فتاوى اللجنة الدائمة في " طائفة البهرة "
س 2 : جميع النساء يقبلن يده ورجله فهل يجوز في الإسلام لرجل غير محرم للنساء أن يلمسن أيدي كبير العلماء ، وهذا العمل ليس خاصا بكبير العلماء بل هو لكل فرد من أفراد أسرته ؟
جـ : أولا : ما ذكر من تقبيل نساء البوهرة يد كبيرهم ورجله وتقبيلهن يد كل فرد من أسرته ورجله لا يجوز ولم يعرف ذلك مع النبي صلى الله عليه وسلم ولا مع أحد من الخلفاء الراشدين ، وذلك لما فيه من الغلو في تعظيم المخلوق ، وهو ذريعة إلى الشرك .
ثانيا : لا يجوز للرجل أن يصافح امرأة أجنبية منه ولا أن يمس جسدها ، لما في ذلك من الفتنة ولأنه ذريعة إلى ما هو شر منه من الزنا ووسائله ، وقد ثبت عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمتحن من هاجرن إليه من المؤمنات بهذه الآية بقول الله : { يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك } إلى قوله : { غفور رحيم } [ الممتحنة : 12 ] قال عروة : قالت عائشة : " فمن أقر بهذا الشرط من المؤمنات قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : « قد بايعتك كلاما » ، ولا والله ما مست يده يد امرأة قط في المبايعة ، ما يبايعهن إلا بقوله : « قد بايعتك على ذلك » فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبايع النساء مصافحة بل بايعهن كلاما فقط مع وجود المقتضى للمصافحة ومع عصمته وأمن الفتنة بالنسبة له فغيره من أمته أولى بأنه يجتنب مصافحة النساء الأجنبيات منه بل يحرم عليه ذلك فضلا عن تقبيل يده ورجله وأيدي أفراد أسرته وأرجلهم وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « إني لا أصافح النساء » وقد قال الله عز وجل : { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة } [ الأحزاب : 21 ] .
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو
عبد الله بن قعود
عضو
عبد الله بن غديان
نائب رئيس اللجنة
عبد الرزاق عفيفي
الرئيس
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
فتاوى اللجنة الدائمة (2/273 - 274)
زعيم البهرة محمد برهان الدين
زعيم فرقة الإسماعلية البهرة ملاجي محمد برهان الدين هو الزعيم الثاني والخمسون ، وقد استلم زمام الزعامة بعد وفاة الزعيم الحادي والخمسين طاهر سيف الدين ، وهذا الزعيم يعد من أغنياء العالم بما يحلبه من أتباعه .
فكيف يجني محمد برهان الدين الملايين منهم ؟؟؟
مصادر الدخل عند داعي البهرة محمد برهان الدين :(/1)
يقول أحمد الحصين صاحب الكتاب الآنف (1/375) : " مصادر دخل داعي البهرة الدكتور محمد برهان الدين الذي أصبح الداعي رقم (52) في سلسلة الدعاة الإسماعلية الطيبية يبلغ دخله السنوي (120) مليون روبية في السنة . وكل فرد من أفراد عائلته يتقاضى (8000) روبية شهريا . وتتكون عائلته من (188) فردا غير السيارات والمساكن الحديثة المكيفة .
ولكن كيف يحصل على هذه المبالغ الطائلة وما هي مصادر دخله ؟
يقول عبد الله الراشد : " تسن الحكومة البهرية ضرائب إجبارية على أفراد الطائفة في حين أنها تدعي أنها تطوعية وقد اشترى عدة فنادق من هذه الضرائب التي يفرضها على أفراد طائفته ، واشترى أيضا مشروع المياه الغازية – الكوكا كولا – في بومباي .
وبجانب ذلك فإنه عندما تقوم العائلة المالكة بإنجاز مشروع أو أي عمل فالتبرعات تصبح واجبة على أفراد الطائفة ، فعندما اشترت العائلة الحاكمة فندق – سندز هاوس – في بومباي فرض الداعي على كل فرد من أتباعه صغيرا كان أم كبيرا أن يدفع 10 روبيات لتغطية النفقات .
ويتاجر مع أفراد عائلته بالذهب الذي يهربونه من أفريقيا وسيلان حيث استطاعوا تهريب ملايين المجوهرات والأحجار الكريمة .
وعندما ينمو الطفل ويكبر يفرض على أهله أن يذهبوا به إلى أحد أتباعه ممن يحملون لقب شيخ ليعمل له تعويذة – حجاب – ويعلمه كلمة الشهادتين مقابل ضريبة معلومة .
والذي يريد أن يحوز رضى الداعي عليه أن يدفع الكثير حتى كلمة " بسم الله الرحمن الرحيم " من الداعي تكلفهم ما بين 500 – 50000 روبية كل حسب طاقته . كل ألف روبية تساوي حوالي 35 دينارا كويتيا .
ومكتب ضريبة الدخل التابع للداعي متيقظ ويعرف بالضبط مكسب كل فرد طيلة أيام السنة حتى يستطيع جمع الضرائب منهم بدقة . ويجب على كل فرد من أفراد الطائفة أن يشتري تذكرة خاصة بصلاة العيد يصدرها مكتب الداعي وتختلف قيمتها في الصف الأول عن قيمتها في الصف الأخير ، فالتذكرة في الصف الأول خلف الملاجي الدكتور محمد برهان الدين تكلفه 1000 روبية ، و 800 روبية في الصف الثاني ، و 600 روبية في الصف الثالث . وكلما ابتعد عن الملا جي كلما خف الحمل عن جيبه ، وفي الصف الأخير يترواح ثمن التذكرة ما بين 5 بيزات إلى 100 روبية ، وجثة الميت منهم لا تدفن إلا بعد أن يدفع أقارب الميت ضريبة مقابل ذلك لمكتب الداعي ، وبعدها يصدر الداعي صك غفران يسمى روكو شيتي لذلك الميت ويدفن معه في القبر !!!
وهذه الصكوك ثلاثة أنواع :
فأقارب المتوفى الذين يدفعون أكثر من خمسين ألف روبية يحصلون على صك غفران أو شقة من الدرجة الأولى في الجنة ، أما من يدفع أقل من خمسين ألف روبية فيحصل على صك غفران أو شقة من الدرجة الثانية ، والذين يدفعون أقل من ألف روبية يأخذون صك غفران أو شقة من الدرجة الثالثة .
ولقب " الشيخ " يشترى بمبلغ 52 ألف روبية ، أما لقب " الملا " فيشترى بعشرة آلاف روبية فقط .
ومن الأمور الغريبة أن كل مولود يولد على ذويه أن يحملوه للداعي أو نائبه كي يباركه ويسميه ، بمعنى أن أي فرد من أفراد الطائفة لا يملك أن يتسمى بما يشاء من الأسماء بل الداعي هو الذي يختار له الاسم لا والديه ، وبالطبع لا بد من الدفع في مثل هذه الحالة .
ومن العجيب أنه باع كثيرا من المساجد التي ارتفعت أثمان الأرض بجوارها حتى المقابر لم تسلم من أذى الداعي فقد باع مقبرة كبيرة في بلدة " برهان يو " بأغلى الأثمان بعد أن قسمها إلى قسائم .
ولكن أين تذهب كل هذه الأموال ؟
إنه يدخر قسما منها في البنوك السويسرية . وينفق الآخر في بناء قبور أعوانه المقربين وقبور آل البيت ، في حين أن الأحياء من أبناء طائفته بحاجة ماسة للمساعدة .ا.هـ.
ولزعيم البهرة مراكز في دول الخليج وفي كل دولة ممثل بهري يمثل الداعي محمد برهان الدين ، ويجعل في كل بلد يعيش فيها جماعة البهرة رجل من رجال الدين بشرط أن يكون متخرجا من الجامعة " السيفية " ، ويطلقون عليه " عامل " ليقوم بجمع " الخمس " من كل فرد من أفراد طائفتهم ، ولو تأخر الدفع فإنه يطرد من الطائفة ، ويفرض عليه الحرمان .
القسوة في التعامل مع أتباع الطائفة :
زعيم البهرة محمد برهان الدين يعامل أفراد طائفته كما يعامل السيد عبيده ، قال أحمد الحصين في كتاب " ماذا تعرف عن : ... " (1/366) : " فما أن يبلغ أي فرد من أفراد الطائفة الرابعة عشرة من عمره حتى يصبح خادما طيعا للداعي ... ومع أن الحياة الاجتماعية والاقتصادية قد تطورت وتغيرت في كثير من البلدان خلال المئة عام المنصرمة ... إلا أن الداعي ما زال يمارس عملية ابتزاز بشعة لأفراد طائفته " .ا.هـ.
وقد حصلت قصة تبين مدى القسوة البالغة التي يعامل بها هذا الزعيم أتباعه .(/2)
قال الحصين في الكتاب الآنف (1/367) : " ففي تاريخ 11/10/1977م توفيت سيدة عمرها 65 عاما تدعى " سوجرابي " في مدينة جمناجر بولاية جوجارت ، ولم يسمح لأقاربها بدفنها ، لأن زوجها أكبر علي سليمان جي مكاتي والبالغ من العمر 73 عاما قد شارك في مؤتمر للمصلحين قبل خمسة وعشرين عاما ، مع أنه قدم الكثير من الاعتذارات إلا أن شبح " البارات " لا يزال يطارد باقي أفراد عائلته .
وبعد تدخل عضوي البرلمان المركزي في دلهي في الأمر وافق الداعي محمد برهان الدين على دفن الجثة بعد تفنها على ألا يحضر الجنازة كل من زوجها وأولادها ، أو أي فرد من أقارب المتوفاة ، وعلى أن تدفن دون أن تقام عليها صلاة الجنازة ، وأن تدفن من غير كفن ، ولم يستطع أي فرد أن يحتج أو يعارض أو يجادل في هذا الشأن " .ا.هـ.
ومن زندقته أنه يرغم أتباعه على السجود له ، جاء في نشرة بلغة الأردو تسمى " غلامانة روش " والصادرة بتاريخ 6/10/1977م : " ومما يؤيد إصراره على سجود طائفته له ، بالإضافة إلى الصورة المرفقة بالمقال تلك المرثية التي رثى بها والده طاهر سيف الدين حيث قال :
سجدت له دأبا وأسجد دائما ... ... لدى قبره مستمتعا للرغائب
لدى قبره أسجد ثم بلغ إلى أبي ... ... سلام ابن في زرئه أي ناصب
وكذلك يفرض على النساء أن يقبلن يديه ورجليه لدى مقابلته . ويعتبر نفسه أنه المالك المطلق لكل ممتلكات طائفته المادية والمعنوية ، وكل خارج على إرادته أو مناهض لأفكاره وشعائره فإنه يفرض عليه مقاطعة جماعية . وأي واحد من البهرة يخرج عن عقيدتهم يقتل ، ففي سنة 986 هـ قتل على يدهم جمال الدين محمد طاهر الصديقي الهندي الفتني حين تاب إلى الله ورجع عن عقائدهم الشيطانية .
الإسماعيلية
التعريف :
الإسماعيلية فرقة باطنية ، انتسبت إلى الإمام إسماعيل بن جعفر الصادق ، ظاهرها التشيع لآل البيت ، وحقيقتها هدم عقائد الإسلام ، تشعبت فرقها وامتدت عبر الزمان حتى وقتنا الحاضر ، وحقيقتها تخالف العقائد الإسلامية الصحيحة ، وقد مالت إلى الغلو الشديد لدرجة أن الشيعة الإثنى عشرية يكفرونها !!! .
أبرز الشخصيات :
أولا : الإسماعيلية القرامطية :
• كان ظهورهم في البحرين والشام بعد أن شقوا عصا الطاعة على الإمام الإسماعيلي نفسه ونهبوا أمواله ومتاعه فهرب من سلمية في سوريا إلى بلاد ما وراء النهر خوفا من بطشهم .
• ومن شخصياتهم :
- عبد الله بن ميمون القداح : ظهر في جنوبي فارس سنة 260ه .
- الفرج ين عثمان القاشاني (ذكرويه) : ظهر في العراق وأخذ يدعو للإمام المستور .
- حمدان قرمط بن الأشعث (278ه) : جهر بالدعوة قرب الكوفة .
- أحمد بن القاسم : الذي بطش بقوافل التجار والحجاج .
- الحسن بن بهرام (أبو سعيد الجنابي) : ظهر في البحرين ويعتبر مؤسس دولة القرامطة .
- ابنه سليمان بن الحسن بن بهرام (أبو طاهر) : حكم ثلاثين سنة ، وفي عهده حدث التوسع والسيطرة وقد هاجم الكعبة المشرفة سنة 319ه وسرق الحجر الأسود وأبقاه عنده لأكثر من عشرين سنة .
- الحسن الأعصم بن سليمان : استولى على دمشق سنة 360ه .
ثانيا : الإسماعيلية الفاطمية :
• وهي الحركة الإسماعيلية الأصلية وقد مرت بعدة أدوار :
- دور الستر : من موت إسماعيل سنة 143ه إلى ظهور عبيد الله المهدي ، وقد اختلف في أسماء أئمة هذه الفترة بسبب السرية التي انتهجوها .
- بداية الظهور : بدأ الظهور بالحسن بن حوشب الذي أسس دولة الإسماعيلية في اليمن سنة 266ه وامتد نشاطه إلى شمال أفريقيا واكتسب شيوخ كتامة ، يلي ذلك ظهور رفيقه علي بن فضل الذي ادعى النبوة وأعفى أنصاره من الصوم والصلاة .
- دور الظهور : يبدأ بظهور عبيد الله المهدي الذي كان مقيما في سلمية بسوريا ثم هرب إلى شمال أفريقيا وأعتمد علىأنصاره هناك من الكتاميين .
• قتل عبيد الله داعيته أبا عبد الله الشيعي الصنعاني وأخاه أبا العباس لشكهما في شخصيته وأنه غير الذي رأياه في سلمية .
• أسس عبيد الله أول دولة إسماعيلية فاطمية في المهدية بإفريقية (تونس) واستولى على رقادة سنة 297ه وتتابع بعده الفاطميون وهم :
- المنصور بالله (أبو طاهر إسماعيل ) .
- المعز لدين الله (أبو تميم معد) : وفي عهده فتحت مصر سنة 361ه وانتقل إليها المعز في رمضان سنة 362ه .
- العزيز بالله (أبو منصور نزار ) .
- الحاكم بأمر الله (أبو علي المنصور ) .
- الظاهر (أبو الحسن علي) .
- المستنصر بالله (أبو تميم ) .
• وبوفاته انقسمت الإسماعيلية الفاطمية إلى نزارية شرقية ومستعلية غربية والسبب في هذا الانقسام أن الإمام المستنصر قد نص على أن يليه ابنه نزار لأنه الابن الأكبر، لكن الوزير الأفضل بن بدر الجمالي نحى نزارا وأعلن إمامة المستعلي وهو الابن الأصغر كما أنه في نفس الوقت ابن أخت الوزير ، وقام بإلقاء القبض على نزار ووضعه في سجن وسد عليه الجدران حتى مات .(/3)
• استمرت الإسماعيلية الفاطمية المستعلية تحكم مصر والحجاز واليمن بمساعدة الصليحيين والأئمة هم :
- المستعلي (أبو القاسم أحمد) .
- الظافر (أبو المنصور إسماعيل) .
- الفائز (أبو القاسم عيسى ) .
- العاضد (أبو محمد عبد الله ) : من 555ه حتى زوال دولتهم على يدي صلاح الدين الأيوبي .
ثالثا : الإسماعيلية الحشاشون :
• وهم إسماعيلية نزارية انتشروا بالشام ، وبلاد فارس والشرق ، ومن أبرز شخصياتهم :
- الحسن بن الصباح : وهو فارسي الأصل وكان يدين بالولاء للإمام المستنصر قام بالدعوة في بلاد فارس للإمام المستور ثم استولى على قلعة الموت وأسس الدولة الإسماعيلية النزارية الشرقية – وهم الذين عرفوا بالحشاشين لإفراطهم في تدخين الحشيش، وقد أرسل بعض رجاله إلى مصر لقتل الإمام الآخر بن المستعلي فقتلوه مع ولديه عام 525ه، وتوفي الحسن بن الصباح عام 1135م .
- كيابزرك آميد .
- محمد كيابزرك آميد .
- الحسن الثاني بن محمد .
- محمد الثاني بن الحسن .
- الحسن الثالث بن محمد الثاني .
- ركن الدين خورشاه: من سنة 1255م إلى أن انتهت دولتهم وسقطت قلاعهم أمام جيش هولاكو المغولي الذي قتل ركن الدين فتفرقوا في البلاد وما يزال لهم اتباع إلى الآن .
رابعا : إسماعيلية الشام :
• وهم إسماعيلية نزارية، لقد أبقوا خلال هذه الفترة الطويلة عقيدتهم يجاهرون بها في قلاعهم وحصونهم غير أنهم ظلوا طائفة دينية ليست لهم دولة بالرغم من الدور الخطير الذي قاموا به ولا يزالون إلى الآن في منطقة سلمية بالذات وفي مناطق القدموس ومصياف وبانياس والخوابي والكهف .
- ومن شخصياتهم (راشد الدين سنان) الملقب بشيخ الجيل، وهو يشبه في تصرفاته الحسن بن الصباح، ولقد كون مذهب السنانية الذي يعتقد اتباعه بالتناسخ إضافة إلى عقائد الإسماعيلية الأخرى .
خامسا : الإسماعيلية البهرة :
• وهم إسماعيلية مستعلية، يعترفون بالإمام المستعلي ومن بعده الآمر ثم ابنه الطيب ولذا يسمون بالطيبية، وهم إسماعيلية الهند واليمن، تركوا السياسة وعملوا بالتجارة فوصلوا إلى الهند واختلط بهم الهندوس الذين أسلموا وعرفوا بالبهرة، والبهرة لفظ هندي قديم بمعنى التاجر .
• الإمام الطيب دخل الستر سنة 525ه والأئمة المستورون من نسله إلى الآن لا يعرف عنهم شيئا، حتى إن أسمائهم غير معروفة،وعلماء البهرة أنفسهم لا يعرفونهم .
انقسمت البهرة إلى فرقتين :
- البهرة الداوودية : نسبة إلى قطب شاه داود : وينتشرون في الهند وباكستان منذ القرن العاشر الهجري وداعيتهم يقيم في بومباي .
- البهرة السليمانية : نسبة إلى سليمان بن حسن وهؤلاء مركزهم في اليمن حتى اليوم .
سادسا : الإسماعيلية الأغاخانية :
• ظهرت هذه الفرقة في إيران في الثلث الأول من القرن التاسع عشر الميلادي، وترجع عقيدتهم إلى الإسماعيلية النزارية، ومن شخصياتهم :
- حسن علي شاه : وهو الأغاخان الأول : الذي استعمله الإنجليز لقيادة ثورة تكون ذريعة لتدخلهم فدعا إلى الإسماعيلية النزارية، ونفي إلى أفغانستان منها إلى بومباي وقد خلع عليه الإنجليز لقب آغاخان،مات سنة1881م .
- أغا علي شاه وهو الأغاخان الثاني .
- يليه ابنه محمد الحسيني : وهو الآغاخان الثالث : وكان يفضل الإقامة في اوروبا وقد رتع في ملاذ الدنيا وحينما مات أوصى بالخلافة من بعده لحفيده كريم مخالفا بذلك القواعد الإسماعيلية في تولية الابن الأكبر .
- كريم : وهو الآغاخان الرابع وما يزال حتى الآن،وقد درس في إحدى الجامعات الإمريكية .
سابعا : الإسماعيلية الواقفة :
• وهي فرقة إسماعيلية وقفت عند إمامة محمد بن إسماعيل وهو أول الأئمة المستورين وقالت برجعته بعد غيبته .
أهم العقائد :
• ضرورة وجود إمام معصوم منصوص عليه من نسل محمد بن إسماعيل على أن يكون الابن الأكبر وقد حدث خروج على هذه القاعدة عدة مرات .
• العصمة لديهم ليست في عدم ارتكاب المعاصي والأخطاء بل إنهم يؤولون المعاصي والأخطاء بما يناسب معتقداتهم .
• من مات ولم يعرف إمام زمانه ولم يكن في عنقه بيعة له مات ميتة جاهلية .
• يضفون على الإمام صفات ترفعه إلى ما يشبه الإله، ويخصونه بعلم الباطن ويدفعون له خمس ما يكسبون .
• يؤمنون بالتقية والسرية ويطبقونها في الفترات التي تشتد عليهم فيها الأحداث .
• الإمام هو محور الدعوة الإسماعيلية، ومحور العقيدة يدور حول شخصيته .
• الأرض لا تخلو من إمام ظاهر مكشوف أو باطن مستور فإن كان الأمام ظاهرا جاز أن يكون حجته مستورا، وإن كان الإمام مستورا فلا بد أن يكون حجته ودعاته ظاهرين .
• يقولون بالتناسخ، والإمام عندهم وارث الأنبياء جميعا ووارث كل من سبقه من الأئمة.(/4)
• ينكرون صفات الله تعالى أو يكادون لأن الله – في نظرهم – فوق متناول العقل، فهو لا موجود ولا غير موجود، ولا عالم ولا جاهل، ولا قادر ولا عاجز، ولا يقولون بالإثبات المطلق ولا بالنفي المطلق فهو إله المتقابلين وخالق المتخاصمين والحاكم بين المتضادين، ليس بالقديم وليس بالمحدث فالقديم أمره وكلمته والحديث خلقه وفطرته .
من عقائد البهرة :
• لا يقيمون الصلاة في مساجد عامة المسلمين .
• ظاهرهم في العقيدة يشبه عقائد سائر الفرق الإسلامية المعتدلة .
• باطنهم شيء آخر فهم يصلون ولكن صلاتهم للإمام الإسماعيلي المستور من نسل الطيب بن الآمر .
• يذهبون إلى مكة للحج كبقية المسلمين لكنهم يقولون : إن الكعبة هي رمز على الإمام .
• كان شعار الحشاشين ( لا حقيقة في الوجود وكل أمر مباح ) ووسيلتهم الإغتيال المنظم والامتناع بسلسلة من القلاع الحصينة .
• يقول الإمام الغزالي عنهم : ( المنقول عنهم الإباحة المطلقة ورفع الحجاب واستباحة المحظورات، وإنكار الشرائع، إلا أنهم بأجمعهم ينكرون ذلك إذا نسب إليهم ) .
• يعتقدون أن الله لم يخلق العالم خلقا مباشرا بل كان ذلك عن طريق العقل الكلي الذي هو محل لجميع الصفات الإلهية ويسمونه الحجاب، وقد حل العقل الكلي في إنسان هو النبي وفي الأئمة المستورين الذين يخلفونه فمحمد هو الناطق وعلي هو الأساس الذي يفسر .
الجذور العقائدية :
• لقد نشأ مذهبهم في العراق، ثم فروا إلى فارس وخراسان وما وراء النهر كالهند والتركستان فخالط مذهبهم آراء من عقائد الفرس القديمة والأفكار الهندية، وقام فيهم ذوو أهواء في انحرافهم بما انتحلوا من نحل .
• اتصلوا ببراهمة الهند والفلاسفة الإشراقيين والبوذيين وبقايا ما كان عند الكلدانيين والفرس من عقائد وأفكار حول الروحانيات والكواكب والنجوم واختلفوا في مقدار الأخذ من هذه الخرافات وقد ساعدتهم سريتهم على مزيد من الإنحراف .
• بعضهم اعتنق مذهب مزدك وزرادشت في الإباحية والشيوعية كالقرامطة مثلا .
• ليست عقائدهم مستمدة من الكتاب والسنة فقد داخلتهم فلسفات وعقائد كثيرة أثرت فيهم وجعلتهم خارجين عن الإسلام .
أماكن الإنتشار :
• لقد اختلفت الأرض التي سيطر عليها الإسماعليون مدا وجزرا بحسب تقلبات الظروف والأحوال خلال فترة طويلة من الزمن، وقد غطى نفوذهم العالم الإسلامي ولكن بتشكيلات متنوعة تختلف باختلاف الأزمان والأوقات :
- فالقرامطة سيطروا على الجزيرة وبلاد الشام والعراق وما وراء النهر .
- والفاطميون أسسوا دولة امتدت من المحيط الأطلسي وشمال أفريقيا، وامتلكوا مصر والشام، وقد اعتنق مذهبهم أهل العراق وخطب لهم على منابر بغداد سنة 540ه ولكن دولتهم زالت على يد صلاح الدين الأيوبي رحمه الله .
- والآغاخانية يسكنون نيروبي ودار السلام وزنجبار ومدغشقر والكنغو البلجيكي والهند وباكستان وسوريا ومركز القيادة لهم في مدينة كراتشي بباكستان .
- والبهرة استوطنوا اليمن والهند والسواحل القريبة المجاورة لهذين البلدين .
- وإسماعيلية الشام امتلكوا قلاعا وحصونا في طول البلاد وعرضها وما تزال لهم بقايا في مناطق سلمية والخوابي والقدموس ومصياف وبانياس والكهف .
- والحشاشون انتشروا في إيران واستولوا على قلعة آلموت جنوب بحر قزوين واتسع سلطانهم واستقلوا بإقليم كبير وسط الدولة العباسية السنية، كما امتلكوا القلاع والحصون ووصلوا بانياس وحلب والموصل، وولي أحدهم قضاء دمشق أيام الصليبين وقد اندحروا أمام هولاكو المغولي .
- المكارمة وهم الآن مستقرون في مدينة نجران في جنوب الجزيرة العربية .
الإسماعيلية المكارمة
ممدوح الحربي
http://www.islamway.com/bindex.php?section=lessons&lesson_id=28019&scholar_id=277
إسماعيلية العالم
ممدوح الحربي
http://www.islamway.com/bindex.php?section=lessons&lesson_id=16442&scholar_id=277
ماذا تعرف عن جحافل البهرة الزاحفة إلى دبي ؟(/5)
من هم الخوارج
[الكاتب: حامد العلي]
فضيلة الشيخ ؛
كثر هذه الايام إطلاق لقب الخوارج على كل من يقاتل الكفار أو الامريكان ، ويلاحظ توظيف هذا المصطلح سياسيا بما يخدم الاهداف و الاطماع الامريكية .
كما ثار جدل واسع حول قضية المعاهدات ومتى تكون شرعية ومتى لاتكون كذلك ؟
فنرجو بيان الجواب الشافي ، احسن الله إليكم .
الجواب :
الحمد لله ، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه .
وبعد :
المفارقة العجيبة هنا أن الذين يتهمون هذه الجماعات بأنها من الخوارج ، يتعامون عن أن الزعماء هم أحق بهذا الوصف ، فهؤلاء الزعماء السياسيون ـ أقول هذا من باب التسامح في عدم التقيد بالتعريف الفِرَقي ـ هم أحق بوصف الخوارج .
وكيف يُتعجب من هذا الأمر ، والحال أن الخوارج إن كانوا استحقوا هذا الوصف لانهم خرجوا عن السنة ، فالزعماء الذين عطلوا الشريعة خرجوا عن الشريعة كلها بل وحاربوها ، وليس عن السنة فقط .
وإذا كان الخوارج قد أخطأوا في فهم النصوص مع أنهم كانوا معظمين لها ، ولم يكونوا يعارضونها بغيرها بل هم يزعمون جهلا أنهم أحق بتطبيقها، فهؤلاء الزعماء الذين نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم ، وحكموا الجاهلية في بلاد الإسلام ، هم أحق بوصف الخروج قطعا .
وإذا كان الخوارج يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان ، فليت شعري ، ألم يقتل هؤلاء الزعماء الظلمة الآلاف من المسلمين ، ألم يذبحوا المسلمين دفاعا عن الصهاينة ، ألم يحموا الصهاينة بسحق المجاهدين ، ألم يُقتل الآلاف في أفغانستان بإعانة الصليبيين على قتل المسلمين ، ألم يذبح الآلاف في قلعة جانجي ذبحا ، ألم يهلك خيار أهل الارض من المجاهدين في أفغانستان جوعا وعطشا في الحاويات الامريكية ، اليس في العراق كل يوم دم مهراق ،ألم يشهد الشاهدون ، أن وظيفة جيوش هذه الانظمة ـ التي طالما كانت عونا للكافر على الاسلام ـ الأهم هي سحق شعوبها , وليس قتال الكفار من أعداء الإسلام !!
وإذا كان الخوارج يذرون الكفار ، ويقتلون أهل الإسلام ، فهؤلاء الزعماء ، يوالون الكفار ويقاتلون معهم أهل الإسلام ، فأي الفريق أحق بوصف الخوارج إن كنتم تعلمون .
والعجب العجاب أنه حتى أمريكا التي تفرح كثيرا بإطلاق لقب الخوارج على الرافضين الغاضبين من الأوضاع الدولية بقيادتها ، أوالخارجين عن هيمنتها كما أطلقت مصطلح ( الدول المارقة ) ـ مع أن الذين تفرح بإطلاق اسم الخوارج عليهم اليوم ، لم يكونوا كذلك لما احتاجتهم أمريكا لتحارب الاتحاد السوفيتي ، بل كانت تسميهم (مناضلوا الحرية ) !! آنذاك ــ أقول العجب العجاب أنه حتى أمريكا نفسها هي في الحقيقة خارجة عما يسمى النظام الدولي ، حتى إنهأ احتلت دولة جاثمة على ثاني اكبر احتياطي للنفط في العالم ، وهي العراق ، احتلتها أمريكا خروجا منها على النظام الدولي جهارا نهارا ، فهي إذاً أكبر خارجة ، وهي أصل كل خروج ومروق في العالم .
ذلك أنها عندما احتاجت أن تحتل العراق ولم يسعفها النظام الدولي ، خرجت عليه ، ضاربة به عرض الحائط ، وتبعها أولياؤها فخرجوا لخروجها ، فأعانوها سرا وجهرا ، فلو جاز لنا أن نعتد بالنظام الدولي ، فليس لاحد الحق أن يطلق على أي طائفة مقاتلة رافضة لقيادة أمريكا للنظام العالمي ، بعدما عبثت أمريكا بالنظام الدولي ، يطلق عليها أنها من الخوارج .
وأيضا فهؤلاء الزعماء خرجوا على حقوق شعوبهم ، وساموهم سوء العذاب ، وحرموهم حتى من العدل الذي هو أساس الحكم ، ولا يقوم العدل إلا بالحكم بالشريعة والشورى ، فكل ذلك عندهم مضروب به عرض الحائط ، فإذاً هؤلاء الحكام هم الخوارج حقا وصدقا ، الخوارج عن الحق والعدل .
هذا ولا ينقضي عجب المرء من تباكي هؤلاء الزعماء على دماء الأبرياء ، عندما تقع عمليات مثل التي وقعت الأسبوع الماضي ، بينما حالهم الذي لم يزل ، أن أيديهم ملطخة بدماء المظلومين ، وسجونهم مليئة بالمعذبين ، وسجلات دولهم مسودة بانتهاكات حقوق الإنسان ، ومازالت أمريكا ـ مع أنها أعظم منتهك لحقوق الإنسان ـ عندما تريد أن تزلزل عروشهم ، تهددهم بفضح سجلاتهم فيما فعلوه في الأبرياء من شعوبهم ، فيتضعضعون لها ، وترتعد فرائصهم ويخافون من انفضاح أمرهم ، وانكشاف جرائمهم في حق شعوبهم ، فيتنادون حينئذ لمنح الشعوب حقوقها كأنها منّة لهم على شعوبهم ، وليست حقا لها عليهم .(/1)
وإنه لمما يثير الأسى ، أن يتزاحم المتزاحمون أمام (كاميرات) الفضائيات هذه الأيام ، في حماسة بالغة ، ليطلقوا لقب الخوارج على من يشير إليهم الساسة بذلك ـ إذا خاف الساسة على أنظمتهم ، وليس على شعوبهم المسكينة الرازحة تحت ظلمهم ـ بينما كان أولئك العاشقون للكاميرات ، ولازالوا ، لا ينطقون ببنت شفة إزاء خروج أمريكا ومن والاها من الزعماء ، خروجهم جميعا عن الشرع والحق والعدل ، كانوا صامتين عن إنكار هذا الظلم المبين ، بدعوى أن من المصلحة الصمت عن إنكار الكفر والظلم والطغيان، فمابال المصلحة تخلفت هنا فسلطتم ألسنتكم على هذا الظلم الخاطف فحسب !!
ولعمري أين كان حماس هؤلاء عندما كان صولجان الظلم مسلطا على شعوب الأمة ، والبطش بهم ناموس الزعماء الأوحد ، وإهراق دماء الأبرياء دينهم ، وأكل أموال الشعوب بالباطل ديدنهم ، وإعانة الكفرة على غزو بلاد الإسلام نهجهم ، وتسليم أهل الإسلام للكفار ليحكموا فيهم بأحكام الطاغوت مذهبهم ، ترى أين كانت شجاعة وعاظنا !! ، ولماذا ظهرت فجأة اليوم؟!
وإنه لمما يحزن المرء ، أن يرى هذه الغفلة المستحكمة في بعض من ينتسب إلى القول على الله و شريعته العليّة ، فمن ذلك أن فاضلا من حملة العلم الشرعي ، قال لي : أرأيت هذه المقبرة الجماعية التي تحوي الآلاف فهي جريمة لصدام لم يعرف التاريخ لها مثيلا ؟
قلت له : أما إنه لمجرم ، ولكن فمتى فعلها ـ لو سلمنا بما تقول ؟
قال : في انتفاضة الجنوب عام 91 ميلادي .
قلت ومن كان يسيطر على الجنوب آنذاك إثر انتهاء الحرب .
قال : أمريكا .
قلت : ومن سمح له باستعمال الطيران ذي الأجنحة المتحركة بقرار مفاجئ إن كنت تذكر .
قال : بلى أذكر أمريكا سمحت له بذلك ، بعد أن انكفأت فجأة عن استمرار مسيرها إلى بغداد لقلب نظام الحكم .
قلت : فإذن فهي سلطته على هؤلاء الضحايا ، وكانت مجازره فيهم ، تحت إشرافها ودعمها ، وأيضا فلا بد أنها صورت كل شيء بالأقمار الصناعية ، وسكتت عن كل ماجرى طول هذه المدة ، ثم جاءت اليوم لتقول لكم إنها جرائم صدام وحده .
فأطرق هنيهة ، فقال ويحك والله لقد نبهتني على أمر كنت عنه من الغافلين .
قلت له وأزيدك : عندما كان صدام يستعمل أسلحة الدمار الشامل في حربه مع إيران ، وضد شعبه ، من كان يدعمه ، وبأموال من : قال دول الخليج ، قلت كم أعطوه ، قال لا ادري ، قلت : مالا يقل عن ثلاثين مليارا ، ليحكم قبضته على شعبه ، ويدمره ، ويسفك دماءه ـ من أن بعض ذلك كان بحق ـ هذا الشعب الذي يتباكون عليه الآن .
فهل نسينا أن الزعماء الذين يتباكون اليوم على الشعب العراقي كانوا شركاء صدام في جرائمه ، وأمريكا نفسها من وراءهم تحركهم ، ولهذا السبب سرقت كل الوثائق التي تثبت ذلك في عمليات النهب التي سمحت بها من اجل أن تضيع سرقة كل الوثائق التي تدينها، وسط الفوضى العارمة .
قلت : وأزيدك .. تُرى.. لماذا لاتهتم وسائل الإعلام إلا لِماما ، لقتل الصهاينة في أرض فلسطين أكثر من ثمانية آلاف في الانتفاضة الأخيرة فقط ، ولهدم مئات المنازل ، واعتقال عشرات الآلاف من الشباب ، يعيشون أسوء الأحوال ، ويتعرضون لابشع أنواع التعذيب .
لماذا لا أحد يذكر السجل المروّع لروسيا في انتهاك حقوق الإنسان في الشيشان مثلا ، والسجل المروّع لما يحصل للمسلمين في الهند ، لماذا تُهرق كلّ هذه الدماء بأبشع صورة ، ويمر ذلك كلُّه لا أقول مرور الكرام ، بل هو مرور أمام اللئام ، يمر ذلك كله كأن هذه الدماء لاقيمة لها ، بينما إذا هلك أمريكي ، يجب أن يتحدث الجميع بحرقة وخوف على الأمن الدولي ، ودماء البشر الأبرياء ، والخطر على العالم من الخوارج!!
فقال لي : والله إن هذا الإعلام لساحر ، سحرنا فلا نرى مجرما إلا ما يريد أعداؤنا أن نراه مجرما ، وأما جرائمهم فيتكتمون عليها حتى كأنها لم تقع قط.
ز-أما بالنسبة للجواب على سؤال السائل عن الخوارج ، فأقول : ينبغي أن نفرق بين ثلاثة أمور : ز!-
الخوارج ، والبغاة ، والأخطاء التي يقع فيه المجاهدون في القتال .
وعند الحديث على الخوارج ، يجب أن نفرق بين الخارجين على الحاكم الشرعي ، والخارجين النظام الكافر ، والخروج على النظام الدولي الذي هو طاغوت أصلا ، بل هو أصل الطواغيت ، وكبيرها ، وهو مع ذلك قانون مزيف ، حتى الدول الكبرى وضعته لتعبث به ، كما كان أهل الجاهلية يعبثون بالأشهر الحرم ، كما قال تعالى ( إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ) ، وكذلك الدول القوية مثل أمريكا ، يحلون القانون الدولي عاما ، ويحرمونه عاما ، ولا يقيمون له وزنا ، بينما يطالبون الدول الإسلامية فقط باحترامه ..عجبا !!
وكذلك البغاة ، يجب التفريق بين البغي على الإمام الواجب الطاعة ،والبغي على النظام الدولي الذي تريد أمريكا أن تتزعمه لتمرر مخططات الصهاينة ، وتطفئ نور الإسلام .(/2)
والواقع الذي لاخفاء فيه ، أن الصراع العالمي اليوم بين من يطلقون عليهم القاعدة ، وبين أمريكا ، هو صراع عالمي ، تدور رحاه حول النظام العالمي نفسه ، ولهذا تسمي أمريكا هذه الحرب ( الحرب الدولية على الإرهاب ) فالطرفان في حالة حرب عالمية ، محورها النظام العالمي ، وأمريكا تريد أن تستثمر تضخيم هذه الحرب ، وتستفيد من استمرارها لتكون غطاء لتمرير مخططاتها ، وتسهيل تقبل المنطقة وانصياع الشعوب لها .
ولكن يبدو أن الأمور جرت على غير ما كانت تخطط له أمريكا فاتسع الخرق على الراقع ، لاسيما والأوضاع في أفغانستان بدأت تميل تدريجا لصالح كفة طالبان ، وضد الاحتلال الأمريكي لها .
وسيأتي تفصيل وبيان للفرق بين الخوارج والبغاة والخطأ في القتال الذي يكون أصله مشروعا .
ز-وأما سؤالك عن المعاهدات الدولية وحكمها في الشريعة ، فلابد لمن يريد التكلم في باب المعاهدات الدولية في هذا الزمان أن يستصحب أربعة أمور مهمة : ز!-
الأول :
أن الأنظمة نظامان ، نظام الإسلام القائم على الاحتكام إلى الله ورسوله ، ونظام الجاهلية وهو كل ما سوى الأول ، وكل تحاكم إلى غير الله هو جاهلية ، كما قال تعالى ( أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون ) .
وكما قال ابن القيم رحمه الله في كتاب الفوائد : ( قال عمر بن الخطاب إنما تنقض عري الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهلية ، وهذا من كمال علم عمر رضي الله عنه ، فانه إذا لم يعرف الجاهلية ، وحكمها ، وهو كل ما خالف ما جاء به الرسول ، فانه من الجاهلية ، فإنها منسوبة إلى الجهل ، وكل ما خالف الرسول فهو من الجهل، فمن لم يعرف سبيل المجرمين ، ولم تستبن له ، أوشك أن يظن في بعض سبيلهم ، أنها من سبيل المؤمنين ، كما وقع فى هذه الأمة ، من أمور كثيرة في باب الاعتقاد ، والعلم ، والعمل هي من سبيل المجرمين والكفار وأعداء الرسل ، أدخلها من لم يعرف أنها من سبيلهم في سبيل المؤمنين ) .
والنظام الدولي الحالي نظام جاهلي ، وهو مع كونه جاهليا ، فقد وضع محكما ليؤدي إلى جعل السبيل للكافرين على المؤمنين ، لايشك في ذلك موحد تيقن توحيد الأنبياء والمرسلين.
وحينئذ فالاحتكام إليه واعتباره أصلا تبنى عليه المعاهدات ، احتكام إلى الجاهلية ، ولا نعني هنا حكم التعاهد مع أهل الجاهلية ، بل نعني جعل أصل التعاهد معهم مبنيا على نظام جاهلي ، وهو القانون الدولي المعتبر في النظام الدولي .
الأمر الثاني :
أن لا يجوز لعلماء الشريعة أن يفتوا بشرعية معاهدة عاهد بها حاكم مسلم ـ يتحاكم إلى الشريعة ويجعلها أصلا لكل أحكامه ـ عاهد بها هذا الحاكم أهل الكفر، إلا بعد أن أربع خطوات :
1ـ أن يشاهدوا المعاهدة كاملة بجميع شروطها وبنودها التي ستكون عند الطرفين الدولة المسلمة ، والكفار ، وإلا كانت شهادتهم على شرعية المعاهدة شهادة زور قطعا ، وكل من شهد بما يجهله فهو شاهد زور .
2ـ أن يتيقنوا أنها لاتتضمن بنودا سرية ، ولا يحل للحاكم أن يقول لهم ثمة بنود سرية لايمكن إطلاعكم عليها، لايحل هذا بحال ، لاحتمال أن تتضمن شروطا لا يقرها الشرع .
3ـ أن لا يجدوا فيها مخالفة لشريعة الله تعالى في صغير ولا كبير ، ومن ذلك أن تتضمن هدنة مؤبدة أو ما يقتضي ذلك ، فإن وجدت كذلك ، طلبوا تغييرها وعرضها مرة أخرى بعد التبديل لكل ما فيها مما يخالف الشريعة العلية.
4ـ أن يشترطوا عليه أنه إذا وجد في الواقع ما يخالف ما في هذه المعاهدة ، انه يحق لهم مساءلته ، ويُحفظ حقهم في مراقبة استمرار صحة هذه المعاهدة شرعا وفق الشروط الشرعية التي وضعوها ، كما يحفظ حقهم في إظهار النكير فيما لو حصل في واقع الحال خلاف ما عوهد عليه الكفار ، لإبراء ذمتهم أمام الله ثم المسلمين .
ويجب عليهم أن يظهروا له ، أنهم لن يفتوا بشرعية هذه المعاهدات ، إلا وفق هذه الخطوات ، وعليه إن أبى الانصياع لهذه الشروط ، أن يمضي في معاهداته ـ بسخط الله ـ عريّة عن حكم الشريعة ، بهذا تبرأ ذمة العلماء ، أن يقولوا على الله مالا يعلمون .
والعجب أن الكفار أنفسهم يطالبون ـ في الظاهر ـ اليوم أنظمتنا الحاكمة أن تسمح للشعوب بالمشاركة في الحكم ، وأن تراقب أداء الدولة ، وأن الدول الكافرة نفسها ، تعطي لشعوبها الحق في أن تراقب التزام حكامهم بمعاهداتهم ، وتعرضها بلا خفاء على مجالس (البرلمان) لديهم ، ويناقشون ما فيها من صغير وكبير ، ويتأكدون من موافقتها لقوانينهم ، وإذا حادت الدولة في التطبيق ردوها إلى الصواب، وقسروها عليه !!، بينما نحن لايتجرأ العلماء أن يطلبوا النظر إلى المعاهدات التي تعقدها الدولة مع الكفار.
فكأن واقع حالنا ، أن الزعيم هنا في بلادنا يقول : إنني قد أبرمت معاهدة مع الكفار ، فأفتوا بجوازها ولزوم احترامها على الرعيّة .(/3)
فيقول البعض : فهي إذن يا مولانا معاهدة شرعية ، واجبة الاتباع على كل الرعية ، ولا حاجة لنا أن نراها ، ولا حاجة لنا أن نسأل عن موافقة ما فيها من شروط للشريعة ، و لاحاجة أيضا أن نتأكد من عدم الحياد عن الشريعة في تطبيقها في الواقع ، بل هي معاهدة شرعية لان هذا ما يريده مولانا فله ما يريد !!! .
فهذه والله المصيبة العظمى ، والباقعة الكبرى ، أعني أن يصل الحال بعلماء الشريعة أن تهون عليهم أنفسهم ، وتهون عليهم شريعة ربهم إلى هذه الدرجة ، حتى تصبح كم يقال ( توقيع على بياض ) ، فإلى الله المشتكى مما آلت إليه حال هذه الشريعة العلية ، وعلماءها .
الثالث من الأمور التي يجب أن تستصحب قبل الكلام على المعاهدات الدولية :
أن الحاكم إذا لم يكن حاله أنه يجعل الشريعة الإسلامية أصلا يرجع إليه ، ويتحاكم إليه تحاكما مطلقا فيما يعاهد عليه الكفار ، وإنما يأتي بعدما يبرم المعاهدات مع الكفار على أهواءهم التي يراعون فيها قوانينهم ، ويحققون أطماعهم ، ويريد بعد ذلك من علماء الشريعة ، أن يضعوا توقيع رب السموات والأرض رب العالمين ، على أحكام الجاهلية ، وأهواء الكفار ، فإنه لا يوافقه على هذه الجريمة ، إلا من هو من أعظم المعينين على الظلم والفساد في الأرض ، الساعين إلى تمكين الكفار من استعلاءهم بجاهليتهم ، ومن فعل ذلك فهو ممن يشتري بآيات الله ثمنا قليلا ، فليس له عند الله من خلاق .
الرابع :
أن السياسة العالمية اليوم ، قائمة ـ كما هو معلوم في علوم السياسة المعاصرة ـ على أن العلاقات الدولية أساسها مبدأ واحد هو الصديق والعدو ، غير أن تفسيرها لديهم ليس كما يظن الظان من ظاهر هاذين اللفظين .
بل هو كما جاء في كتاب مدخل إلى العلوم السياسية : ( الأصل لدى كل مجتمع سياسي أن إطاره الجغرافي يمثل بالنسبة لاصحابة ( دار السلام ) وأن ما وراءه ( دار حرب ) ومن ثم فإن الأصل في الأجنبي أنه عدو مالم تقتض مصلحة المجتمع الوطني مهادنته ، وانطلاقا من هذا تعتبر العلاقات الدولية علاقات قوى قوامها العداء والارتياب والتشكك .)) .
قلت : وقد تستغرب من أن تقول كتب السياسة المعاصرة هذا القول ، الذي يشبه إلى حد كبير قول الفقهاء بتقسيم الدور إلى دار الإسلام ودار الحرب ، وأن الأصل في الكفار أنهم أهل حرب ، ولكن الأمر كذلك كما يذكر في كتب السياسة الدولية المعاصرة ، كما ذكرت ، وهو كذلك في واقع الحال ، من وراء ستار الشعارات الزائفة ولكن أكثر الناس لا يعلمون .
ثم جاء في كتاب مدخل إلى العلوم السياسية ( وهكذا فإن ارتباط مفهوم (العدو) ، بالسياسة حقيقة ثابتة ، فلا سياسة دولية من غير ( عدو ) ـ إن العداء ـ في العلاقات بين الدول هو الأصل ، وما السلام إلا مجرد مهادنة يقتضيها العداء ذاته .
وهنا يتعيّن التنبيه إلى أن للعداء في السياسة معيارا ، ليس هو معيار ( العداء ) في الأخلاق أو في الاقتصاد ، ذلك أن لعالم السياسة معاييره الخاصة به ، فليس من الضروري أن يكون ( العدو السياسي ) شريرا أو قبيحا على وفق المعايير الأخلاقية أو الجمالية ، أو أن يكون منافسا على مقتضى المعايير الاقتصادية .
وإنما العدو في عالم العلاقات الدولية هو ( الغير ) ، وهو ( الأجنبي ) ، إنه كل من ليس منا ، ومن ثم نخاف على وجودنا الذاتي منه ، وهو خوف يستدعي صراعنا الدائم معه ، إنه عداء دائم بدوام حرصنا على استمرار كياننا الذاتي ، ومن هنا ترتبط ذاتية المجتمع السياسي بقدرته الفعلية على تقرير علاقاته الخارجية عداء ومهادنة ، فالمجتمع الذي تفرض عليه العداوة والمداهنة من خارجه ليس مجتمعا مستقلا ) .
ثم قال ( وهكذا فإن العلاقات الدولية هي ـ بالضرورة على طول تاريخها ـ علاقات بين الأعداء ، اللهم إلا ما يقتضيه العداء ذاته من مهادنة ليست البتة من طبيعة هذه العلاقات ، وما فكرة المجتمع البشري العالمي المتخلص من أسباب التصادم ، ومن ثَمّ الذي ينعم بالسلام العالمي ، إلا من نسج الخيال البحت ، إن السلام ـ كالمحبة ـ قيمة أخلاقية جمالية لامكان لها في الواقع الدولي ) [مدخل إلى العلوم السياسية 317ـ 318، المؤلفان أ.د. محمد طه بدوي ، وأ. د. ليلى أمين مرسي ، الناشر منشأة المعارف بالإسكندرية].
ولعمري إن هذا كله حق وصواب ، ولهذا أمر الله تعالى المؤمنين بإعداد القوة ، لبقاء التحفز للعدو ، ولهذا أيضا حذّر من عداوة الكفار للمسلمين ، وأخبر أنها مستمرة ، كما قال تعالى : ( إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون ) ، وأطلق على عداوتهم في مواضع كثيرة في القرآن أنها كيد ، وفي ذلك إشارة واضحة إلى أنهم يسلكون سبلا خفية للمكر بهذا الدين ، وهو كما نرى هذه الأيام ، مزاعمهم عن السلام العالمي ، بينما هم يمكرون لهذا الدين . ولهذا امر الله تعالى بجهاد الطب ، وكان الذين أنكروه من المتفقهين المعاصرين جهلاء بواقع الامر في السياسة العالمية .(/4)
ولهذا أيضا صرح فقهاء الشريعة الإسلامية في باب الهدنة ، انه لا يصح للحاكم أن يهادن الكفار هدنة أبديّة ، وهذا حكم متفق عليه بين المذاهب ، لان الهدنة الأبدية تفضي إلى تعطيل الجهاد ، وأيضا فإنه حينئذ جهل بواقع السياسة الدولية ، لا يجوز أن يتصف به الحاكم المسلم .
والمقصود من هذا كله ، أنه إذا كان واقع السياسة الدولية ما ذكر، من أنه عداء مستمر في حقيقته وإن أظهر خلاف ذلك ، ومعلوم أن الدول الغربية المستعلية بجاهليتها في هذا العصر ، تريد تحقيق هدف الهيمنة على بلاد الإسلام ، وأنها تستغل المعاهدات ، ووجودها الفعلي بسبب هذه المعاهدات ، في بلاد الإسلام ، لتكون قريبة من أماكن أطماعها ، لتنفيذ مخططاتها الخبيثة .
إذا كان ذلك كذلك ، فيجب أن يعلم أن المعاهدات التي توقعها الدولة مع الكفار ، لن تكون شرعية بحال ، إن كانت الدولة الكافرة ، ماكرة بهذا الدين ،معادية لاهله ، مستغلة وجودها على أرض الدولة التي تعاهدها ، لخدمة مراكزها الاستخباراتيه ، جاعلة سفارتها ، ومؤسساتها التابعة لها ، وقواعدها في خدمة أنشطة التجسس التي تغذي استعلاءها بالقوة ، الذي هو استعلاء للكفار في الأرض ، وتمكين لهم من ظهور كفرهم واحكامهم الطاغوتية ، ومن يفتي بأن شريعة رب العالمين ، الآمرة بجهاد الكفار والمشركين ، لتكون كلمة الله هي العليا ، وكلمة الذين كفروا السفلى ، أن هذه الشريعة تقر هذا الكفر و الإفك المبين ، فذلك والله الذي لا إله إلا هو ، إعانة على هدم دين الإسلام من أصله .
إذا علم هذا ، فليعلم السائل أن الواقع السياسي للعالم الإسلامي اليوم ، إنما هو بقية آثار من تداعيات سبقت في القرن الماضي، عندما كانت البلاد الإسلامية تحت الاحتلال الصليبي السابق ، وقد فرض قبل رحيله أوضاعا تخدم مستقبل مصالحه في المنطقة كلها ، ومن ذلك تنحية الشريعة الإسلامية عن أن تكون مهيمنة بأحكامها على الدول ، خوفا من أن تكون المعاهدات بين تلك الدول والعدو الصليبي ، لاتخدم أطماعه فيما لو كانت المعاهدات مبنية على أحكام الشريعة الإسلامية وشروطها الصارمة لاسيما في اشتراط النظر لصالح الاسلام والمسلمين باعتبارهم أمة واحدة في الارض كلها.
ومن هنا فقد وقعت هذه الاشكالات التي نراها اليوم ، وفيها هذا التناقض الهائل بين واقع تصرف الكفار في بلاد الإسلام ، مع ادعاء الدول التي توقع مع الكفار هذه المعاهدات : من أن تصرف الكفار ، هو وفق معاهدات يجب احترامها ، وبين ما هو في كتب الفقه الإسلامي من شروط شرعية تعدها الشريعة أساسا لصحة المعاهدات الدولية ، فإن خلت منها هذه المعاهدات كانت باطلة غير ملزمة .
وحينئذ فإنه من الظلم المبين أن تُُضفى على هذا الوضع المعوج ، القائم في اصله على غير الأحكام الإلهية الشرعية المستقاة من الوحي ، الذي جاء فيه ( وأنتم الاعلون إن كنتم مؤمنين ) ، أن تُُضفى عليه الصبغة الشرعية ، من قبل من لاعلم له بواقع الحال، وإنما طلب منه أن يضع توقيع الشريعة على ما يجهله ، فبادر إلى ذلك راغبا أو راهبا ، فجنى على شريعة رب العالمين ، وسيحكم فيه رب العالمين ، ملك يوم الدين ، يوم يجمع العالمين .
فهذه مقدمة رأيت أنه من المناسب ذكرها .
ز-وأذكر فما يلي ، جوابين سابقين عن ضابط الحكم على الشخص بأنه من الخوارج ، وحكم المعاهدة مع الكفار وبهما يتم الجواب إن شاء الله :ز!-
ثمة فرق بين الخوارج ، والبغاة على الإمام الشرعي بغير تأويل ، والبغاة عليه بتأويل ، والخارجين على من لاإمامة له . فهذه أربعة أصناف :
الخوارج :
وهم فرقة عقدية ، لها اعتقادات ضالة ترجع إليها .
قال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله : ( وإذا عرف أصل البدع فأصل قول الخوارج أنهم يكفرون بالذنب , ويعتقدون ذنبا ما ليس بذنب , ويرون اتباع الكتاب دون السنة التي تخالف ظاهر الكتاب - وإن كانت متواترة - ويكفرون من خالفهم ويستحلون منه لارتداده عندهم ما لا يستحلونه من الكافر الأصلي كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيهم { يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان } ولهذا كفروا عثمان وعليا وشيعتهما ; وكفروا أهل صفين - الطائفتين - في نحو ذلك من المقالات الخبيثة ) انتهى .
فمن اعتقد ما يعتقدون كان خارجيا ، ومن كانت فيه شعبة من عقيدتهم ، يقال : وافقهم في بعض قولهم ، والناس مولعون هذه الأيام بنسبة المخالفين إلى الفرق الضالة ، إمعانا في التنفير منهم ، اتباعا لاهواء التحزبات والتعصبات للجماعات والشيوخ ، فكل طائفة تريد أن تظهر فضلها على غيرها ، فيحملها ذلك إلى البغي والعدوان والظلم على الطائفة الأخرى بنسبتها إلى الفرق الضالة بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير .
القسم الثاني :
وهم البغاة بتأويل ، مثل ما حدث في صفين .(/5)
قال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله : ( وأما جمهور أهل العلم فيفرقون بين " الخوارج المارقين " وبين " أهل الجمل وصفين " وغير أهل الجمل وصفين . ممن يعد من البغاة المتأولين . وهذا هو المعروف عن الصحابة وعليه عامة أهل الحديث والفقهاء والمتكلمين وعليه نصوص أكثر الأئمة وأتباعهم : من أصحاب مالك وأحمد والشافعي وغيرهم . وذلك أنه قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين تقتلهم أولى الطائفتين بالحق } وهذا الحديث يتضمن ذكر الطوائف الثلاثة ويبين أن المارقين نوع ثالث ليسوا من جنس أولئك ; فإن طائفة علي أولى بالحق من طائفة معاوية ) . انتهى
ومعلوم أنه قد صح الحديث ( ويح عمار تقتله الفئة الباغية ) رواه البخاري من حديث أبي سعيد ، وتلك كانت فئة معاوية رضي الله عنه وأرضاه ،ولكن قد مضى الإجماع على عدالة الصحابة رضي الله عنهم ، فإذن هو بغي بتأويل .
ومثل الذين يخرجون على الإمام الشرعي لشبه قامت لديهم ، ولهذا قال الفقهاء لا يجوز أن يقاتلهم الإمام إلا بعد أن يراسلهم فإن ذكروا شبهة أوضحها ، أو منكرا نقموه أزاله ، فإن أبوا الدخول في الطاعة قاتلهم.
كما قال الإمام ابن قدامه في المغني : ( الخارجون عن قبضة الإمام أصناف ، أحدها : قوم امتنعوا وخرجوا عن طاعته وخرجوا عن قبضته بغير تأويل فهؤلاء قطاع طريق ساعون في الأرض بالفساد يأتي حكمهم في باب مفرد ، ثم ذكر الخوارج وقال : الذين يكفرون بالذنب ويكفرون عثمان وعليا وطلحة والزبير وكثيرا من الصحابة ويستحلون دماء المسلمين وأموالهم إلا من خرج معهم ، ثم ذكر اختلاف الفقهاء هل هم كفار ويقاتلون قتال الكفار لهم أحكامهم ، أم يقاتلون قتال البغاة ولهم أحكام قتال البغاة ، ثم ذكر نوعا آخر ، فقال : قوم من أهل الحق يخرجون عن قبضة الإمام ويرومون خلعه لتأويل سائغ وفيهم منعة يحتاج في كفهم إلى جمع الجيوش فهؤلاء الذين نذكر في هذا الباب حكمهم ثم ذكر جملة أحكامهم وقال : ولا يجوز قتالهم حتى يبعث إليهم من يسألهم ويكشف لهم الصواب ، إلا أن يخاف كلبهم - يعني عدوانهم - فلايمكن ذلك في حقهم ، فأما إن أمكن تعريفهم عرفهم ذلك ، وأزال ما يذكرونه من المظالم وأزال حججهم ، فإن لجّوا قاتلهم حينئذ لان الله تعالى بدأ بالأمر بالإصلاح قبل القتال ) انتهى .
ثم ذكر اتفاق العلماء على انهم لا يتبع لهم مدبر ، ولا يجهز على جريح ، ولا يقتل لهم أسير ، ولا يغنم لهم مال ، ولا تسبى لهم ذرية ، وأن من قتل منهم غسل وكفن وصلي عليه ، وذكر شيخ الإسلام أن عدالتهم لاتسقط إن كان بغيهم بتأويل .
والمقصود أن الفرق بين الخوارج والبغاة على الإمام الواجب الطاعة ، فرق كبير جدا ، وإن كان يخلط بينهما من يخلط لجهله أو طمعا في موافقة السلطان في هواه بالظلم والطغيان والخروج على أحكام الشرعية نسأل الله تعالى أن يعافينا من الأهواء .
والقسم الثالث البغاة بغير تأويل .
أما القسم الرابع :
فهم الذين يخرجون على من لا إمامة له لظهور الكفر البواح منه ، فهؤلاء قد يصيبون من جهة اجتهادهم في القدرة والوقت المناسب لإزاحة من لا تحل إمامته على المسلمين ، فينصرون ، ويكون لهم بذلك أجر عظيم ، إذ كانت إزالة الكفر البواح من أعظم الجهاد ، ومن إنكار المنكر ، وقمع الفساد في الأرض .
وقد يخطئون فيحبس عنهم النصر وتدور الدائرة عليهم ، فإن أخطأوا فهم من جنس من يخطئ من المجاهدين ، إن علم الله منهم اتباع الهوى ، وطلب الملك ، والجنوح إلى الانتقام لأنفسهم ، فعليهم من الله تعالى ما يستحقه أمثالهم ممن يطلب الدنيا بالدين من أهل الأهواء .
وإن علم الله منهم أنهم اجتهدوا يبتغون وجه الله ، فالله تعالى يغفر لهم خطأهم، ويثيب على حسن قصدهم ، وما بذلوه في نصر الدين ، والله يعلم المفسد من المصلح .
أما من يقاتل الكفار ، ثم قد يتجاوز حدود الشريعة ، أو يعتدي في القتل ، أو يصيب من لا يحل قتله ، فهذا من جنس العدوان في القتال ، كما قال تعالى { يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير } ، وكما حصل لخالد بن الوليد رضي الله عنه ، فقد أصاب دماء محرمة في فتح مكة ، وتبرأ النبي صلى الله عليه وسلم من فعله ، مع أنه سماه سيفا من سيوف الله تعالى . وبسبب أن القتال الذي يحدوه الغضب ، ويجلله العنف البالغ، هو مظنة الوقوع في العدوان ، قال تعالى { وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين } .
والواجب على المجاهد ، أن يغلّب النظر الشرعي على غضبه ، ويراعي حدود الشريعة في قتاله ، وينضبط بدلالة النصوص ، ولا يحمله حنقه على عدوه ، ورغبته في الانتقام منه ، في التساهل في اختيار مواضع القتال المشروع ، وتميزها عن غيرها .(/6)
وإلاّ يفعل ذلك فقد تقع فتنة وفساد ، وقد يرتد عليه ضرر القتال ، أو على المسلمين ، أكثر مما ينكى في عدوه ، ومعلوم أن كثيرا من خيار المجاهدين في تاريخ الإسلام ، خسروا في معارك كثيرة ، وأصاب المسلمين من ذلك شر ، بسبب سوء تقديرهم للمواقف ، أو استعجالهم الورود بالجند في مواضع لا تصلح ، أو إلى عدو لاطاقة لهم به ونحو ذلك والله أعلم .
وهذه هي الفتوى الثانية :
الحمد لله ، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه .
وبعد :
قال الإمام ابن قدامة في المغني : ( إذا ثبت هذا فإنه لاتجوز المهادنة مطلقا من غير تقدير مدة ، لانه يفضي إلى ترك الجهاد بالكلية ) [8/469] .
وقال : ( لانه قد يكون بالمسلمين ضعف فيهادنهم حتى يقوى المسلمون ، ولا يجوز ذلك إلا للنظر للمسلمين ، إما أن يكون بهم ضعف عن قتالهم ، وإما أن يطمع في إسلامهم بهدنتهم ، أو في أدائهم الجزية والتزامهم أحكام الملة أو غير ذلك من المصالح ) [المصدر نفسه] .
وقد اتفق العلماء على أنه لا يجوز مهادنة الكفار أبدا ، أي وضع القتال معهم أبدا ، لان ذلك يقتضي تعطيل الجهاد ، وهو ذروة سنام الإسلام ، وفي تعطيله إعانة على هدم الدين ، وإذلال المسلمين .
كما اتفقوا على أن العهد المعتبر شرعا هو الذي يكون مبنيا على النظر للمسلمين ، أما إن كان مبنيا على النظر للكافرين ، أو تحقيق أطماعهم وأهدافهم ، فلا يصح ولا يعتبر ، وهو باطل شرعا ، إذ كيف تكون أحكام الشريعة منوطة بتحقيق أهداف الكفار في بلاد المسلمين ، وهي في الحقيقة أهداف الطاغوت الذي أمرنا بالكفر به ومجاهدته ، سبحانك اللهم هذا بهتان عظيم .
وينبغي أن يعلم أن العهد مع الكفار إنما يعتبر شرعا إن وافق أحكام الشريعة وانطلق منها ، ولم يتضمن شروطا تبطل العقد ، وقد قسم العلماء شروط عقد الهدنة إلى قسمين : صحيح مثل أن يشترط عليهم مالا ، أو معونة المسلمين عند الحاجة إليهم ، والثاني شرط فاسد قال ابن قدامة : (مثل أن يشترط رد سلاحهم أو إعطائهم شيئا من سلاحنا ، أو من آلات الحرب ، أو يشترط لهم مالا في موضع لا يجوز بذله ) .
وبهذا يعلم أن العهد إن كان مبنيا على غير أحكام الشريعة ، أولم ينظر فيه إلى مصالح المسلمين ، بل وضعه الكفار بحيث يحقق أطماعهم ، وتضمن اشتراط الكفار إعانة المسلمين لهم على قتال مسلمين ، أو تمكينهم في أرض المسلمين ، أو حماية أعداء الإسلام من بأس المسلمين ، أو تعطيل الجهاد ، أو ملاحقة وقتل المجاهدين ، أو إقرار الولاء للكافرين ، أو السماح للكافرين أن يفعلوا ما شاءوا في بلاد المسلمين ، ظاهرين بأمرهم ، ينتهكون ما حرم الله ، ويجاهرون بالكفر والمنكرات، أنه لايفتي باعتبار هذا العهد ـ حتى لو كان الذي عقده مع الكفار عقده على أساس الشريعة فكيف لو لم يكن مقرا بوجوب التحاكم إليها في كل شيء أصلا ـ ألا من هو جاهل بشريعة الله القائل { وقاتلوهم حتى لاتكون فتنة ويكون الدين كله لله ... الآية } ، والقائل سبحانه { ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا } .(/7)
من هو الحر؟ وما حقيقة الحرية ؟
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وآله وصحبه أجمعين، وبعد.
فإنَّ كثيرًا من الألفاظ والمصطلحات التي يتناولها كثيرٌ من الناس اليوم، تحتاجُ إلى تحريرٍ وتدقيق، وإلى أن تعرض على موازين الشرع، وتضبط بضوابطه، وبدون ذلك تختلط المفاهيم، وتنحرف القيم، وتختل النظرات والموازين، وتسمى الأشياء بغير أسمائها وحقيقتها، مما ينشأ عنه الخلل في التصورات والانحراف، في الأخلاق والقيم.
ومن بين هذه الألفاظ والمصطلحات التي تحتاج إلى تحريرٍ وضبط، ووزنٍ لها بالميزان الشرعي، الذي ينطلق من عقيدة التوحيد: مصطلح التحرر والحرية، فما هو الميزان الشرعي لهما؟ ومن هو الحرُّ الحقيقي في ميزان الشرع العظيم؟
إنَّ الحريةَ الحقيقية في ميزان الشرع، هي حرية القلب.
والعبودية الحقيقية، هي عبودية القلب، فمن أخلص عبوديته لله عز وجل، وخلص من عبودية الخلق، فهذا هو الحر حقيقة، وذلك لتحرر القلب من عبودية الخلق، والعكس من ذلك، من ترك عبادة الله عز وجل أو قصر فيها، فلا بد أن تسترقَ القلب عبودية المخلوق، حسب ما تعلق به القلب من العبوديات لما سوى الله عز وجل، أمَّا عبودية البدن أو حريته، فليست هي الميزان الحقيقي للعبودية والحرية، إذ قد يكونُ الإنسان مملوكًا لإنسانٍ آخر، لكنه أخلصَ عبوديتهُ لله عز وجل، فصار بذلك حُرًّا من عبوديةِ ما سوى الله عز وجل، وقد يكونُ الإنسان سيدًا وملكًا لكنهُ في الحقيقة مسترقُ القلب، عبدًا لشهوتهِ أو هواهُ أو زوجته، أو منصبه أو جنودهِ وأتباعه.
إذن فالمقصودُ بالحرية والعبودية هنا حرية القلب وعبوديته، لا حريةَ البدن وعبوديته.
يقولُ شيخ الإسلام- رحمه الله تعالى- : (( إذ الرق والعبودية في الحقيقة: هو رقُّ القلب وعبوديته، فما استرق القلب واستعبده، فالقلبُ عبده، ولهذا يقال: العبدُ حُرٌ ما قنع، والحرُ عبدٌ ما طمع، وكلما قوي طمعُ العبد في فضل الله ورحمته ورجائهِ، لقضاءِ حاجتهِ، ودفعِ ضرورته، قويت عبوديته وحريته عمَّا سواه، فكما أن طمعه في المخلوق يوجبُ عبوديته له، فيأسهُ منه يوجب غنى قلبه عنه، فإنَّ أسرَ القلب أعظم من أسر البدن، واستعباد القلب أعظم من استعباد البدن، فإنَّ من استعبد بدنهُ واسترق وأسر، لا يبالي ما دام قلبهُ مستريحًا من ذلك مطمئنًا، بل يمكنهُ الاحتيال في الخلاص، وأما إذا كان القلب الذي هو ملك الجسم رقيقًا مستعبدًا، متيمًا لغير الله، فهذا هو الذلُ والأسر المحض، والعبودية الذليلة لما استعبد القلب، فالحرية حريةُ القلب، والعبودية عبودية القلب، كما أن الغنى غنى النفس، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - :(( ليس الغنى عن كثرة العرض وإنما الغنى غنى النفس )) ([1]) ([2])
ويقول في موطنٍ آخر : (( وكل من علق قلبه بالمخلوقين أن ينصروه أو يرزقوه أو يهدوه، خضع قلبه لهم وصار فيه من العبودية لهم بقدر ذلك، وإن كان في الظاهر أميرًا لهم متصرفًا بهم، فالناظرُ ينظرُ إلى الحقائق لا إلى الظواهر، فالرجلُ إذا تعلق قلبه بامرأة ولو كانت مباحة له، يبقى قلبه أسيرًا لها، تحكمُ فيه وتتصرف بما تريد، وهو في الظاهر سيدها لأنَّهُ زوجها، وفي الحقيقة هو أسيرها ومملوكها، لا سيما إذا درت بفقرهِ إليها وعشقه لها، وأنَّهُ لا يعتاض عنها بغيرها، فإنَّها تحكم فيه حينئذٍ حكم السيد القاهر، الظالم في عبده المقهور الذي لا يستطيع الخلاص منه..«([3]).
ويقولُ في موطنٍ ثالث: عن مستعبد القلب لغير الله تعالى : (فتارةً تجذبه الصور المحرمة وغير المحرمة، فيبقى أسيرًا عابدًا لمن لو اتخذه هو عبدًا له لكان ذلك نقصًا وعيبًا وذمًّا.
وتارةً يجذبه الشرفُ والرئاسة، فترضيهِ الكلمة وتغضبه الكلمة، ويستعبدهُ من يثني عليه ولو بالباطل، ويعادي من يذمه ولو بالحق.
وتارةً يستعبدهُ الدرهم والدينار، وأمثال ذلك من الأمور التي تستعبد القلوب، والقلوب تهواها، فيتخذ إلهه هواه، ويتبعُ هواه بغير هدىً من الله.
ومن لم يكن مخلصًا لله عبدًا له، قد صار قلبه مستعبدًا لربه وحده لا شريك له، بحيث يكون هو أحب إليه مما سواه، ويكون ذليلاً خاضعًا له، وإلا استعبدته الكائنات، واستولت على قلبه الشياطين، وكان من الغاوين إخوان الشياطين) [4].
ويقولُ سيد قطب- رحمه الله تعالى- : (( إنَّ الدينونة لله تعالى تحرر البشر من الدينونة لغيره، وتخرجُ الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، وبذلك تحقق للإنسان كرامته الحقيقية وحريته الحقيقية، هذه الحرية وتلك الكرامة اللتان يستحيل ضمانهما في ظل أي نظامٍ آخر غير النظام الإسلامي، والذين لا يدينون لله وحده يقعونَ من فورهم في شر ألوان العبودية لغير الله، في كل جانب من جوانب الحياة، إنَّهم يقعون فرائسَ لأهوائهم وشهواتهم بلا حد ولا ضابط«([5]) .(/1)
ويقول الشيخ عبد الرحمن الدوسري- رحمه الله تعالى- في تفسير: (( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ )) (الفاتحة:5) .
((بتحقيق العلم بمدلول: (( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ )) ينجو الإنسان ويسلم من الرق المعنوي، الذي هو أفظعُ وأنكى من كلِّ رقٍ حسي؛ لأنَّ الرق الحسي يشعر به صاحبه، فيتمنى انتهاءه، ويسعى لإزالته والتخلص منه حسب مجهوده، ولكن الرق المعنوي لا يشعر به صاحبه، بل على العكس ينقلبُ تصوره له تحررًا وتقدمًا، فيتمادى باستحسان حاله، دون أن يخالجه أدنى شيءٍ من الامتعاض والإحساس، والمسلم المؤمن الصادق لا يرتبط في جميع أحوال سيره بعجلة أحد ولا تبعية أحد، لسلامته من الرق المعنوي بإخلاص مقاصده لله، وكونه مستعينًا به فقط، فلا يخشى من أي قوة، ولا يستعينُ بكتلة على كتلة أخرى؛ حتى لا يصغي إلى ما تمليه.
وأصحاب الرق المعنوي يعادون الحر الذي على هذه الشاكلة، بدافع من طبيعتهم السافلة، أو بإملاءٍ من أسيادهم الذين يركنون إليهم، ولا سبيل لتطهير قلوبهم من ذلك إلاَّ بما يحرر أرواحهم من القيام بتحقيق مدلول : (( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ )) ([6]) أهـ .
مما سبق من النقولات النفيسة حول حقيقة الحر والحرية، يتضحُ لنا ما يلي:
1- أنَّ الإنسان لا يبلغ الكمال في العزة والشرف والحرية، حتى يتخلصَ من عبودية البشر، ويخلص عبادته لله وحده لا شريك له بكل ما تعني العبادة من معانيها الشاملة، وقد وصل إلى هذا الكمال أنبياء الله عز وجل ورسله- عليهم الصلاة والسلام- وعلى رأسهم إمامهم نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - ، حيث خاطبهُ ربه سبحانه في أعلى مقاماته التي وصل إليها: مقام تلقي الوحي، ومقام الإسراء بوصف العبودية، باعتبارها أرقى وأعظم وأشرف منزلةً يرقى إليها الإنسان.
قال تعالى : (( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا)) (الكهف:1).
وقال عز وجل: (( سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً ))(الإسراء: 1).
2- أن من علق قلبه بمخلوقٍ وأحبه، وذل له وعلق عليه نفعه وضره، فقد سقط في ربقة الرق والعبودية له، وأصبح أسيرَ القلب لمن تعلق به ذليلاً له، وهذه حقيقة الرق والأسر والذل، ولو كان فيما يظهر للناس سيدًا حرًّا طليقًا، إذ المأسور حقيقةً من أُسر قلبه عن ربه، والمحبوسُ من حُبس قلبه عن عبادة ربه، وأسرُ القلب أعظم من أسر البدن.
والحرُّ حقيقةً هو من أخلص عبوديته لله عز وجل ورفض عبودية من سواه، ولو كان مملوكًا أو مأسورًا أو مسجونًا، أو تحت القهر والتعذيب، لأنَّ غاية ما يملكه المالك أو الآسر والقاهر هو جسد المملوك أو المأسور، أمَّا قلبه فلا يستطيعون عليه صرفًا ولا تحويلا، لأنَّ فيه قوةُ رفضٍ لا يملكون التصرف فيها، وذلك بما فيه من العبودية الخالصة لله عز وجل، والتي أورثت صاحبها الحرية والعزة والشرف والاطمئنان، وهذا هو الذي يفسر لنا ذلك الثبات العظيم لأنبياء الله عز وجل، ودعاته الصالحين، وهم يتعرضون لصنوف الأذى والسجن والتعذيب.
3- إن الذين يتشدقون وينادون بالحرية، ويطالبون بتحقيقها في المجتمعات، ثم هم ينشدونها في نظم جاهليةٍ بعيدةٍ عن المصدر الحقيقي للحرية، وهو عبادة الله عز وجل وحده لا شريك له، إنَّما هم ضالون مضلون، صادون عن سبيل الله عز وجل، إذ لا حرية حقيقية إلاَّ في نقل الناسِ من عبادة غير الله عز وجل إلى عبادة الله وحده، وبدون ذلك فهو الرق والاستعباد، والذلة والشقاء، مهما تشدق أصحاب هذه المطالب باسم حقوق الإنسان أو غيرها.
والواقعُ المرير الذي تعيشه البشرية اليوم أكبر شاهد على ذلك، حيثُ تحولت البشرية اليوم إلى استعباد القوي للضعيف والكبير للصغير، وذلك على مستوى الأفراد والطوائف والدول، ثم إذا نظرنا إلى الحرية التي يطالبون بها، وجدنا معناها عندهم التحرر من عبادة الله عز وجل وأوامره ونواهيه، وانطلاق الناس في حياتهم كالبهائم بل أضل، وهم بذلك قد ركسوا في الرق الحقيقي والعبودية الدنسة، حيث أصبحوا عبيدًا لشهواتهم وكبرائهم ومناصبهم ونسائهم، فاستبدلوا بعبادة الله عز وجل التي فيها العزة والكرامة والحرية، عبادة بعضهم لبعض، وعبادة الأهواء، حيث الذلة والمهانة والرق الحقيقي.
4- ويحسن بهذه المناسبة التعريج على ما يسمى ( بتحرير المرأة )، هذا المصطلح الخبيث الذي يرفعهُ اليوم المتبعون للشهوا ت، ويريدون أن يميلوا بالناس ميلاً عظيمًا، فماذا يقصدون بتحرير المرأة ؟
إنَّ الجواب أحسبهُ قد صار واضحًا في ضوء ما سبق تقريرهُ حول التحرر والحرية.(/2)
إنَّهم يقصدون بتحريرها هنا ذلك المفهوم الجاهلي الدنس، الذي يرمي إلى أن تتفلت المرأة من عبادة ربها عز وجل ومن كل فضيلة وعفة وحياء، لتصبح مستعبدة رقيقة لشهوات الشياطين، وبيوت الأزياء وصيحات الموضات، التي تخلع عن المرأة أجمل شيءٍ ركبه الله عز وجل فيها وهو حياؤها وعفتها، فهل هذا هو تحرير المرأة، أو هو إذلالها واستعبادها واسترقاقها؟
إنَّ التحرر الحقيقي للمرأة ولغيرها، لا يكون إلاَّ في هذا الدين الذي جاءَ لتحرير الإنسان من عبودية الأشخاص والأصنام والأهواء إلى عبودية الله عز وجل الواحد القهار، والتي فيها وحدها العزة والكرامة والحرية والتحرير.
يتحدثُ سيد قطب- رحمه الله تعالى- واصفًا بعض ما تتعرض لهُ المرأة المعاصرة من الذلة والعبودية والاسترقاق فيقول: (هذه الأزياء والمراسم التي تفرض نفسها على الناس فرضًا، وتكلفهم أحيانًا ما لا يطيقون من النفقة، وتأكل حياتهم واهتماماتهم، ثم تفسدُ أخلاقهم وحياتهم.
ومع ذلك لا يملكون إلاَّ الخضوع لها، أزياء الصباح، وأزياء بعد الظهر، وأزياء المساء، والأزياء القصيرة، والأزياء الضيقة، والأزياء المضحكة !وأنواع الزينة والتجميل والتصفيف، إلى آخر هذا الاسترقاق المذلّ، من الذي يصنعه؟ ومن الذي يقف وراءه ؟ تقف وراءه بيوت الأزياء، وتقف وراءهُ شركات الإنتاج! ويقفُ وراءهُ المرابون في بيوت المالِ والبنوك ) ([7]).
عليهم من الله ما يستحقون.
________________________________________
[1] البخاري ( 6446 ) ، ومسلم ( 1051 ) .
[2] العبودية ( 32 ـ 38 ) باختصار .
[3] المصدر السابق .
[4] المصدر السابق .
[5] في ظلال القرآن 3 / 1939 ، 1940 .
[6] صفوة الآثار والمفاهيم 1 / 231 باختصار .
[7] في ظلال القرآن 3 / 1219 .(/3)
من وحي الهزيمة
بدوي الجبل
رمل سيناء قبرنا المحفور وعلى القبر منكر ونكير
كبرياء الصحراء مرغها الذل فغاب الضحى وغار الزئير
لا شهيد يرضي الصحارى، وجلى هارب في رمالها وأسير
أيها المستعير ألف عتاد لأَعاديك كل ما تستعير
هدك الذعر لا الحديد ولا النار وعبء على الوغى المذعور
أغرور على الفرار؟! لقد ذاب حياء من الغرور الغرور
القلاع المحصنات ـ إذا الجبن حماها ـ خورنق وسدير !
لم يعان الوغى (لواء) ولا عانى (فريق) أهوالها و (مشير)
رتب صنعة الدواوين.. ما شارك فيها قرُّ الوغى والهجير
وتطير النسور في زحمة النجم، وفي عشه البغاث يطير
جَبُنَ القادة الكبار وفروا وبكى للفرار جيش جسور
تركوه فوضى إلى الدور، فيحاء، لقد ضمت النساء الخدورُ !
هُزِم الحاكمون، والشعب في الأصفاد، فالحُكْمُ وحده المكسور
هُزِم الحاكمون، لم يحزن الشعب عليهم، ولا انتخى الجمهور
يستجيرون ! والكريم لدى الغمرة يلقى الردى ولا يستجير !
لا تسل عن نميرها غوطةَ الشام ألح الصدى وغاض النمير
وانس عطر الشآم، حيث يقيم الظلم تنأى.. ولا تقيم العطور
أطبقوا.. لا ترى الضياء جفوني فجفوني عن الضياء ستور
بعض حريتي السماوات والأنجم والشمس و الضحى و البدور
بعض حريتي الملائك والجنة والراح و الشذا و الحبور
بعض حريتي الجمال الإلهي ومنه المكشوف و المستور
بعض حريتي ويكتحل العقل بنور الإلهام، و التفكير
بعض حريتي، ونحن القرابين لمحرابها، ونحن النذور
بعض حريتي، من الصبح أطياب ومن رقة النسيم حرير
ثم أملى الطغاة أن يبغض النور علينا ويعشق الديجور
نحن أسرى، ولو شَمَسْنا على القيد لما نالنا العدو المغير
لاقتحمنا على الغزاة لهيباً وعبرنا وما استحال العبور
سألوني عن الغزاة فجاوبت: رياح هبت ونحن ثبير
سألوني عن الغزاة فجاوبت: رمال تسفى ونحن الصخور
سألوني عن الغزاة فجاوبت: ليال تمضي ونحن الدهور !
هل درت عدن أن مسجدها الأقصى مكان من أهله مهجور
أين مسرى البراق، والقدس والمهد وبيت مقدس معمور؟
لم يرتل قرآن أحمد فيه ويزار المبكى ويتلى الزبور
طوي المصحف الكريم، وراحت تتشاكى آياته والسطور
تستبى المدن والقرى هاتفات أين... أين الرشيد والمنصور !
يا لذل الإسلام. إرث أبي حفص بديد مضيع مغمور
يا لذل الإسلام: لا الجمعة الزهراء نعمى، ولا الأذان جهير
كل دنيا للمسلمين مناحات وويل لأهلها وثبور
لبست مكة السواد، وابكت مشهد المرتضى ودك الطور
هل درى جعفر؟ فرف جناحاه إلى المسجد الحزين يطير
ناجت المسجد الطهور وحنت سدرة المنتهى وظل طهور
أين قبر الحسين ؟(1) قبر غريب! من يضم الغريب أو من يزور
أين آي القرآن تتلى على الجمع وأين التهليل والتكبير ؟
أين آي الإنجيل ؟ فاح من الإنجيل عطر وضوأ الكون نور
أين روما ؟ وجَلَّ حَبْرٌ بروما مهد عيسى يشكو ويشكو البخور
النصارى و المسلمون أسارى وحبيب إلى الأسير الأسير
صلب الروح مرتين الطواغيتُ! جراح كما يضوع العبير
يا لذل الإسلام والقدس نهب هتكت أرضه فأين الغَيور
قد تطول الأعمار لا مجد فيها ويضم الأمجاد يوم قصير
من عذولي على الدموع؟ وفي المروة والركن والصفا لي عذير
وحرامٌ علي أن ينزل البشر بقلبي وأن يلم الحُبور
كحلت بالثرى الخضيب جفون وهفت للثرى الحبيب ثغور
لا تشق الجيوب في محنة القدس ولكنها تشق الصدور
حبست أدمع الأباة من الخوف ويبكي الشذا وتبكي الطيور
أنا حزن شخص يروح ويغدو ومسائي مع الأسى والبكور
أنا حزن يمر في كل باب سائل مثقل الخطى مقهور
طردتني الأكواخ، والبؤس قربى وتعالت على شقائي القصور
يحتويني الهجير حيناً، ولا يرحم أسمال فقري الزمهرير
وعلى الجوع والضنى والرزايا في دروبي أسير ثم أسير
نقلتني الصحراء حيناً.. وحيناً نقلتني إلى الشعوب البحور
حاملاً محنتي أجرر أقدامي ويومي سَمْحُ الغَمام مطير
حاملاً محنتي أوزعها في كل دنيا وشرها مستطير
محنتي الغيث إن أرادوا وإلا فهدير البركان والتدمير
حاملاً محنة الخيام، فَتَزْوَرُّ وجوه عني وتغلق دور !
الخيام الممزقات.. وأمّ في الزوايا وكسرة وحصير
وفتاة أذلها العري والجوع ويلهو بالرمل طفل صغير
كلما أن في الخيام شريد خجل القصر والفراش الوثير
خجل الحاكمون شرقاً وغرباً ورئيس مسيطر و وزير
هيئة(2) للشعوب تمعن في الذنب ولا توبةٌ ولا تكفير
شارك القوم كلهم في أذانا ومن القوم غُيَّبٌ و حضور
من قوانينها المداراة للظلم ومنها التغريب والتهجير
ويقام الدستور، أضحوكة الساخر منا ويوأد الدستور
كل علم يغزو النجوم ويغزو بالمنايا الشعوب علم حقير
والحضارات بعضهن بشير يتهادى وبعضهم نذير
نعميات الشعوب شتى، فنعمى حمدت ربها ونعمى كفور
لن يعيش الغازي وفي الأنفس الحقد عليه، وفي النفوس السعير
يحرق المدن، والعذارى سبايا وصغير لذبحه وكبير
دينه الحرق والإبادة والحقد وشتم الأعراض و التشهير
صورته التوراة بالفتك والتدمير حتى ليفزع التصوير
من طباع الحروب كرٌّ وفرٌّ والمجلّي هو الشجاع الصبور(/1)
ليس يبنى الفجاءات فتح علمي في غد هو المنشور
تنتخي للوغى سيوف معد ويقوم الموتى وتمشي القبور
عربي فلا حماي مباح ـ عند حقدي ـ ولا دمي مهدور
نحن أسرى، وحين ضيمَ حمانا كاد يقضي من حزنه المأسور
كل فرد من الرعة عبد و من الحكم كل فرد أمير
ومع الأسر نحن نستشرف الأفلاك والدائرات كيف تدور
نحن موتى! وشر ما ابتدع الطغيان موتى على الدروب تسير
نحن موتى ! وإن غدونا ورحنا والبيوت المزوَّقات قبور
نحن موتى ! يسر جار لجارٍ مستريباً: متى يكون النشور
بقيت سبة الزمان على الطاغي ويبقى لنا العُلى و الضمير
سألوا عن ضناي، محض تشف هل يَصِحُّ المعذب الموتور
أمن العدل أيها الشاتم التاريخ أن تلعن العصور العصور ؟
أمن النبل أيها الشاتم الآباء أن يشتم الكبير الصغير
وإذا رفت الغصون اخضراراً فالذي أبدع الغصون الجذور
اشتراكية ؟! وكنز من الدر وزهو ومنبر وسرير
اشتراكية تعاليمها: الإثراء والظلم والخنا و الفجور
اشتراكية ! فإن مرّ طاغ صف جند له ودَوّى نفير
كل وغد مصعر الخد لا سابور في زهوه ولا أزدشير
يغضب القاهر المسلح بالنار إذا أنَّ أو شكا المقهور
ينكر الطبع فلسفات عقول شأنهن التعقيد والتعسير
كل شيء متمم لسواه ليس فينا مستأجر و أجير
بارك الله في الحنيفية السمحاء فيها التسهيل و التيسير
ورقيب على الخيال.. فهل يسلم منه المسموع والمنظور
عازف عن حقائق الأمر لؤماً وكفى أن يلفق التقرير
فيجافي أخ أخا ويشقى بالجواسيس زائر ومزور
لصغار النفوس كانت صغيرات الأماني وللخطير الخطير
يندُرُ المجد، والدروب إلى المجد صعاب، ويكثر التزوير
علموا أنه عسير فهابوه ولا بدع فالنفيس عسير
محنة الحاكمين جهل ودعوى جبن فاضح و مجد عَثور
نهبوا الشعب، واستباح حمى المال جنون النعيم والتبذير
كيف يغشى الوغى ويظفر فيها حاكم مترف وشعب فقير
مزقوه، ولن يمزق الشعب، فالشعب عليم با أرادوا خبير
حكموه بالنار فالسيف مصقول على الشعب حده مشهور
محنة العُرْبِ أُمَّةٌ لم تهادن فاتحيها وحاكم مأجور
هتكوا حرمة المساجد لا جنكير باراهم و لا تيمور
قحموها على المصلين بالنار فشِلْوٌ يعلو وشِلْوٌ يغور
أمعنوا في مصاحف الله تمزيقاً ويبدو على الوجوه السرور
فقئت أعين المصلين تعذيباً وديست مناكب و صدور
ثم سيقوا إلى السجون، ولا تسأل، فسجانها عنيف مرير
يشبع السوط من لحوم الضحايا وتأبى دموعهم و الزفير
مؤمن بين آلتين من الفولاذ دام، ممزق، معصور
هتفوا باسم أحمد فعلى الأصوات عطر وفي الأسارير نور
هتفوا باسم أحمد فالسياط الحمر نعمى وجنة و حرير
طرف أتباع أحمد في السماوات وطرف الطاغي كليل حسير
عبرة للطغاة مصرع طاغ وانتقام من عادل لا يجور
المصلون في حمى الله يُرديهم مُدِل بجنده مخمور
جامع شاده على النور فحل أموي مُعَرِّقٌ منصور
لم ترع فيه قبل حكـ الطواغيت طيور ولا استبيحت وكور
مطلق النار فيه، في الجمعة الزهراء شِلْوٌ دام وعظم كسير
والذي عذب الأباة رأى التعذيب حتى استجار من لا يجير(3)
قدماه لم تحملاه إلى الموت فزحف على الثرى لا مسير
وخزته الحراب وهو مسوق لرداه، محطم مجرور
ويجيل العينين في إخوة الحكم وأين الحاني وأين النصير؟
كل فرد منهم لقتل أخيه يصدر الرأيُ منه والتدبير
وغداً يذبح الرفيقَ رفيقٌ منهم والعشيرَ فيهم عشيرُ
يأكل الذئب، حين يردى، أخوه ويعض العقورَ كلب عقورٌ
ارجعوا للشعوب يا حاكميها لن يفيد التهويل والتغرير
صارحوها.. فقد تبدلت الدنيا وجدت بعد الأمور أمور
لا يقود الشعوب ظلم وفقر وسباب مكرر مسعور
والإذاعات! هل تخلعت العاهر؟ أم هل تقيأ السكير؟!
صارحوها.. ولا يُغَطِّ على الصدق ضجيج مزور و هدير
واتقوا ساعة الحساب إذا دقت فيوم الحساب يوم عسير
يقف المتهمان وجهاً لوجه حاكم ظالم وشعب صبور
كل حُكْم له ـ وإن طالت الأيام ـ يومان: أول و أخير
كل طاغ ـ مهما استبدـ ضعيف كل شعب ـ مهما استكان ـ قدير
وهب الله بعض أسمائه للشعب، فهو القدير وهو الغفور
يبغض الظلم ناصحيه، وإني لملوم في نصحكم معذور!
يشهد الله ما بقلبي حقد شفَّ قلبي كما يشف الغدير
وجراحي ينطفن شهداً وعطراً أدمعي رحمة وشعري شعور
يرشف النور من بياني فإن غنيت فهو المدله المخمور
وطباعي ـ على ازدحام الزرايا ـ لم ينلها التبديل والتغيير
مسلم.. كلما سجدت لربي فاح من سجدتي الهدى و العبير
ومع الشيب والكهولة قلبي ـ كعهود الصبا ـ بريء غرير
لي حريتي وإيماني السمح فحلمي هان وجفني قرير!
لم أهادن ظلماً وتدري الليالي في غد أينا هو المدحور!
---
(1) الحسين بن علي زعيم الثورة العربية مدفون في جوار الأقصى.
(2) هيئة الأمم المتحدة المسؤولة عن نكبة فلسطين.
(3) الطاغية الذي يقترف الآثام انتهى به الأمر إلى أن يحاكم ويقتل.(/2)
من وسائل الدعوة
رئيسي :الدعوة :لثلاثاء 24 جمادى الآخرة 1425هـ - 10 أغسطس 2004
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وآله وصحبه أجمعين، أما بعد،،،
فإن الوسائل الدعوية من الأحوال التي لا يمكن الاستغناء عنها البتة إذ لا يتصور عند العقلاء الوصول إلى هدف دون استخدام الوسائل الموصلة إليه، وقد استخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وسائل متاحة في وقته: فصدع بالحق على الصفا، وصرخ بقريش: [ يَا صَبَاحَاهْ] رواه البخاري ومسلم. وكان يعرض دعوته في ملتقيات الناس وأسواقهم، كما كان يطوف بمشاعر الحج ويلقى القبائل، ويبلغ الرسالة، ويستنصر للدين .
و إن من اللوازم المتعينة على الداعية تحديد ما يدعو إليه وكذا استخدامه الوسيلة التي يوصل من خلالها إلى المدعو دعوته؛ إذ لا يتصور البتة الدعوة بدون وسيلة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية:' إن الداعي الذي يدعو غيره إلى أمر، لابد فيما يدعو إليه من أمرين:
أحدهما: المقصود والمراد.
والثاني:الوسيلة والطريق الموصل إلى المقصود:
فلهذا يذكر الدعوة تارة إلى الله، وتارة إلى سبيله، فإنه سبحانه هو المعبود المراد المقصود بالدعوة '[ الفتاوى 15/162].
والداعية إلى الله مطالب عقلاً وشرعاً باستخدام الوسيلة الشرعية المناسبة التي يوصل دعوته إلى المدعوين عن طريقها؛ وبخاصة إذا علم الداعية أن الدين قسمان:
1-عبادات يصلح بها أمر الآخرة: والأصل فيها التوقيف: في جنسها، وصفتها، وعددها وسببها ووقتها ... ودليلها قوله تعالى:{أَمْ لَهُمْ شُرَكاَءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ[21]}[سورة الشورى].
2-عادات، أو معاملات يصلح بها أمر الدنيا: والأصل فيها الحل والإذن مثل العقود، والشروط، والوسائل.. ودليلها قوله تعالى:{قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنْزَلَ اللهُ لَكُم مِّن ْرِزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَاما ًوَحَلاَلاً قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ [59]}[سورة يونس]. وبناء على هذا فمن ادعى عبادة فعليه الدليل، ومن منع عادة أو معاملة فعليه الدليل أيضاً.
' والخلاصة أن مقصود الدعوة الإسلامية هداية الناس، وتحقيق المصالح لهم، فكل وسيلة عادية تؤدي إلى هذا المقصود، وتحققه دون أن يعارضها نهي شرعي؛ فإنها تكون في دائرة المشروعية والاعتبار...'[ قواعد الوسائل في الشريعة الإسلامية للدكتور مصطفى بن كرامة الله مخدوم . ص 343].
المعنى العام والخاص للوسائل:
فإذا كان المعنى العام للوسائل هو ما يتحصل به المقصود خيراً كان، أو شراً فإن، المعنى الخاص – وهو ما نعنيه في هذا المقام – هو: ما يتوصل به الداعية إلى الله إلى دعوة المدعوين، ومن هنا جاءت الأهمية إذ الوسائل ليست حكراً على أحد دون أحد فالأمر في هذا مشاع.
اختيار الوسيلة المناسبة سبب في تحقيق المقصود:
ولذلك يلحظ أن من الأفكار ما كتب لها الانتشار بسبب الوسائل المستخدمة لنشرها، ولو كانت في حقيقتها باطلة، وبينما نجد أن هناك دعاة في بعض الأماكن قد يصيب دعوتهم فتور، أو ضعف مع قابلية الإسلام للانتشار لموافقته للزمان، والمكان، والفطر التي فطر الله الناس عليها، إلا أن الانتشار في ذلك يكون قليلاً، ولو أرجعت السبب لوجدت أن سوء استخدام الوسائل له دور في ذلك.
ضوابط الوسائل التي تصونها مع مستخدمها من الخلل والاضطراب:
وانطلاقاً من القاعدة الشرعية: الوسائل لها أحكام المقاصد ، فهاهنا ضابطان لا بد من مراعاتهما وهما:
أولاً: الإذن: بمعنى أن تكون مأذوناً بها سواء إذن تنصيص أي جاءت منصوصاً عليها، أو بدخولها تحت قاعدة عامة كالمباح- وهو أحد الأحكام الخمسة التكليفية الشرعية-، ولا يكون المباح حراماً بمجرد أن ينوي به الإنسان النية الصالحة مع التفريق بين النية الصالحة العامة، ونية التقرب، والتعبد المحضة.
ثانياً: المصلحة: ويشمل ذلك مناسبة المقام، واختيار الوسيلة، ورجحان المصلحة على المفسدة، مما يحتاج معه على إمعان نظر وسلامة قلب.
من الوسائل الدعوية:
هذه الوسائل منها ما يكون صالحاً في هذا العصر، وقد لا يكون صالحاً فيما يستقبل من الأيام، وقد يهم الإنسان أن يعرف قدرات نفسه، فلا بد للإنسان أن يعرف ما الشيء الذي يستطيع أن يقدم فيه خيراً لنفسه وللأمة، فلا يكن أحدنا كالمُنْبَتّ لا ظهراً أبقى، ولا أرضاً قطع؛ ولذا لا بد ونحن نتكلم عن الوسائل أن نشير إلى أنه يجب أن يتعامل معها الإنسان بحسب المؤهلات العلمية، ولا أقصد بذلك المؤهلات العليمة النظامية لكن قدراته العلمية، وما حصّل من علم؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه، فلا بد من المؤهلات العلمية، وكذا القدرات الذهنية في هذا المقام، وأيضاً القدرات البدنية وهذا المطالب لا شك أن كل وسيلة تحتاج إليها بحسب الحال، والمقام .
والوسائل الدعوية كثيرة، متنوعة، متجددة كما سبق، ومنها:
أولاً : وسائل مقروءة:
والوسائل المقروءة متنوعة ومن ذلك:(/1)
1- التأليف: ويجب أن لا يكون الهدف هو ذات التأليف، أو لمجرد المزاحمة، بل يجب أن تكون الحاجة للمؤلَّف هي الداعية للتأليف، والحاجة قال عنها حاجي خليفة:'ثم إن التأليف على سبعة أقسام لا يؤلِف عالم عاقل إلا فيها وهي: إما شيء لم يسبق إليه فيخترعه، أو شيء ناقص يتممه، أو شيء مغلق يشرحه، أو شيء طويل يختصره دون أن يخل بشيء من معانيه، أو شيء متفرق يجمعه، أو شيء مختلط يرتبه، أو شيء أخطأ فيه مصنف فيصلحه . وينبغي لكل مؤلف كتاب في فن قد سبق إليه أن لا يخلو كتابه من خمس فوائد: استنباط شيء كان معضلًا، أو جمعه إن كان مفرقاً، أو شرحه إن كان غامضاً، أو حسن نظم وتأليف، أو إسقاط حشو وتطويل'[ كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون 1/36ن 35].
فالعمل الدعوي تجارة مع الله ليست تجارة مادية بالدرهم والدينار، فالتجارة المادية الحرة مبناها على المنافسة فالبقاء للأقوى . أما العمل الدعوي فإنه يختلف، فإذا رأى الداعية أن غيره قد قام بما يرى أنه يريد القيام به؛ فليحمد الله على أن قد قام بالمهمة عنه غيره، والمجال واسع فليبحث عن مجال آخر، بمعنى أنه ليس من أهداف الدعاة تحطيم الذوات والتقليل من الشأن بل يشد بعضهم بعضاً، فيؤيدون، ويناصرون، ويسددون، ويقاربون، ويوجهون، وينصحون، ولا يفضحون.
2-الرسائل:والرسائل فيما يظهر تنقسم إلى قسمين:
النوع الأول: رسائل خاصة على غرار ما تقوم به بعض المؤسسات الدعوية، وقد يقوم به بعض الأفراد بمراسلة هواة المراسلة الذين يشيرون إلى هذه الهواية ببعض الصحف والمجلات، أو الرسالة إلى صديق داعيها المحبة والإخاء .
النوع الثاني: الرسائل الخاصة في مسائل متفرقة في العقيدة، أو الفقه، أو الأخلاق والآداب، أو غير ذلك.
وهذا الرسائل الخاصة هي الأكثر اليوم، وهي من جانب ظاهرة صحية، ومن جانب آخر قد يكون فيها على البعض ضرر، وبخاصة إذا كان القارئ أو المطلع من أهل القراءة فقد يقتصر على قراءة هذه الرسائل، ويترك الأمهات والكبار من المؤلفات التي أخذت منها هذه الرسائل إما نصاً، أو مقاربة. ومن الرسائل الطريفة الجديدة رسائل الجوال إن أحسن استخدامها واستغلالها؛ فإن لها أثراً عظيماً.
3- المقدمات لمؤلفات الآخرين:وهي تطلب عادة من إنسان له مكانة علمية أو اجتماعية على حسب المؤلّف، فيجمل بمن يُقدِّم لكتاب خاصة إذا كان كتاباً في علم الشريعة بصفة عامة أن يضمنه دعوة إلى الله مع البعد عن الثناء على المؤلّف إلا بمقدار يسير يحفظ الحق والود بينهما.
4-الصحف والمجلات:وهذه تنقسم إلى قسمين:
1- صحف ومجلات متخصصة بالعلوم الشرعية: وهذه قد تكون المشاركة فيها مما لا إشكال فيه.
2-وأخرى عامة، مواضيعها متنوعة . والمشاركة فيها أمر يُستحسن ومطلوب، إلا أنه ينبغي أن يكون للمشارك – سيماً إذا كان مؤثراً مشهوراً – دور في تحديد أمور منها:
- تحديد مكان نشر المشاركة: فكما هو معلوم الصحف المتنوعة متنوعة صفحاتها، فما دام أنه يريد أن يشارك فيها فلا بد أن يضع شروطاً يشترطها لتحدد مكان نشر المشاركة الذي يبعدها عما لا يناسبها من وجوه متعددة.
- اشتراط عدم التدخل الذي يغير المعنى، وبالتالي يتغير الموضوع الذي يكتب فيه.
وعلى الكاتب الذي يدعو إلى الله من خلال مشاركته أن تكون كتابته حيَّة، فإن الملاحظ أن كتابة بعضهم فيها شيء من الضعف مع أنها قد تكون مدعمة بالدليل من الكتاب والسنة، لكن قوة النص من الكتاب والسنة يحتاج لأن يكون الاستدلال بهما قوياً بحيث يكون وجه الاستدلال بيناً واضحاً؛ إذ الفرق كبير بين الدليل والمدلول، فالقراء يعرفون الكتاب ويعرفون السنة غالباً فبين أيدهم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لكن كيف يُفتّح الكاتب أذهانهم على النصوص.
- أن لا ينشر ما يكتب في وقت ميت إما لكون القراء عامة يعيشون انشغالاً عاماً ، أو أحداثاً مستجدة تنصب اهتماماتهم على قراءة أخبارها، أو أسبابها، وتداعياتها، وغير ذلك.
5- الإنترنت:وإن من الوسائل العصرية وهي مع كونها مسموعة إلا أن القراءة فيها أكثر من السماع، وسيلة الإنترنت فـ 'لم يعد من الممكن تجاوز[إنترنت] وتجاهلها أو اعتبارها شيئاً شريراً اخترعه الغرب لإفساد المسلمين وإغوائهم..لماذا؟!لسبب بسيط هو أن التجارب العملية أثبتت أن [إنترنت] كائن يمكن السيطرة عليه وتطويعه حسب ما نشاء'[ الإنترنت في خدمة الإسلام لعبد المنعم حسن النهدي ص 10].
فعلى هذا يكون العزوف عنه في هذا الوقت تضييع لأفضل الفرص في مجال الدعوة إلى الله سبحانه، والمشارك فيها يجمل به أن يكون على قدر من العلم الشرعي، وكذا عنده قدرة على الحوار والإقناع، ومجالاته واسعة من كتابات مطولة، وحوارات جادة، وأحاديث خفيفة، أو ما يسمى [ بالدردشة] وما على الداعية إلا أن يستعين بالله، ويساهم بهذه الوسيلة بما يحقق الاستغلال الأمثل، والمساهمة الفاعلة.(/2)
ثانياً:وسائل مسموعة: وهذه منها المشاهد ومنها غير المشاهد، وكلٌ منهما له تأثير على المستمع، بحسب قوة المادة، وجودة الإلقاء والعرض زماناً ومناسبة، والوسائل المسموعة أنواع منها:
1- التعليم بأنواعه: سواء في الدراسة النظامية، أو حلقات القرآن، أو الدروس العلمية الأخرى في المساجد.
والمعلم أياً كان طلابه، فإنه إن راعى الحال والمقام وخاطبهم بما يعرفون؛ كان لخطابه الدعوي أثر عليهم تربية واجتهاداً حتى ولو كانوا طلاب صفوف أولية، قال عمرو بن العاص لحلقة قد جلسوا إلى جانب الكعبة، بعد أن قضى طوافه وجلس إليهم وقد نحّوا الفتيان عن مجلسهم:' لا تفعلوا ! أوسعوا لهم، وأدنوهم وألهموهم، فإنهم اليوم صغار قوم يوشك أن يكونوا كبار قوم آخرين، قد كنا صغار قومٍ أصبحنا كبارَ آخرين '. وقد علق ابن مُفلح رحمه الله على هذه العبارة قائلاً:'وهذا صحيح لا شك فيه، والعلم في الصغر أثبت، فينبغي الاعتناء بصغار الطلبة لاسيما الأذكياء المتيقظين الحريصين على أخذ العلم، فلا ينبغي أن يجعل على ذلك صغرهم، أو فقرهم وضعفهم مانعاً من مراعاتهم والاعتناء بهم'[ الآداب الشرعية والمنح المرعية 1/ 244].
والمعلم الناجح هو الذي يسعى لفتح أذهان الطلاب وربطهم بخالقهم عن طريق أي مناسبة تعرضُ له في شرحه وتقريره أيا كانت مادته، وهذا من أساسيات التعليم وأهدافه كما أن هذا من بركة الرجل- إن وفق إليه- قال ابن القيم رحمه الله:'... فإن بركة الرجل تعليمه للخير حيث حل، ونصحه لكل من اجتمع به، قال تعالى إخباراً عن المسيح عليه السلام:{وَجَعَلَنِي مُباَرَكاً أَيْنَ ماَ كُنتُ...[31]}[سورة مريم]. أي معلماً للخير، داعياً إلى الله، مذكراً به، مرغباً في طاعته، فهذا من بركة الرجل، ومن خلا من هذا؛ فقد خلا من البركة، وسحقت بركة لقائه، والاجتماع به ...].
2- الخطبة:الخطب قديمة قدم الزمان، وجاء الإسلام فزاد الخطب قوة وأهمية، فأما القوة: فجمال الأسلوب، وانتقاء العبارات، وتحليتها بالآيات والأحاديث، وشيء من أخبار العرب وأشعارهم، فتأثر الخطباء بالقرآن وبكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما الأهمية: فلجعلها عبادة، أداء واستماعاً، كما في الحديث: [...وَمَنْ مَسَّ الْحَصَى فَقَدْ لَغَا]رواه مسلم. ولهذا فإن من حق المستمعين على الخطيب أن يراعي حقهم، وقد ألزموا بالاستماع إليه فلا بد من الاعتناء بالموضوع، والتوقيت، والطول، والقصر، ومراعاة الحال، ومواكبة الظروف والأحوال بياناً وتوجيهاً.
3- الموعظة:وهذه وسيلة كلامية يسعى الواعظ من خلالها إلى التأثير في المدعوين بالأسلوب المناسب للحال والمقام، وكم وعظ رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بمواعظ متناسبة مع الحال والزمان ومنها ما رواه الْعِرْبَاضُ بْنُ سَارِيَةَ قَالَ:'وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا بَعْدَ صَلَاةِ الْغَدَاةِ مَوْعِظَةً بَلِيغَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ فَقَالَ رَجُلٌ إِنَّ هَذِهِ مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا...'الحديث.رواه الترمذي وابن ماجة والدارمي وأحمد.
والموعظة عادة ما يكون الناس على غير استعداد لها سواء كانت بعد صلاة مفروضة، أو في مناسبة اجتماعية، فلا بد من مراعاة أحوال الناس، وعدم إملالهم.
4- المحاضرة:وهذه تختلف عن الموعظة، لأن الناس جاءوا مستعدين، وكذلك تبنى على حقائق علمية مع طول وقتها، وإشباع موضوعها، وما قد يصاحبها من مداخلات وأسئلة تطرح في آخرها مما يتطلب من المحاضر استعداداً علمياً، وذهنياً، ونفسياً، يجعله يجيب بما يحضره ويعتذر عما غاب عن ذهنه، أو يجهله.
5- الندوة:وهذه تمتاز بأن المشارك فهي أكثر من واحد، مع ما فيها من إبعادٍ للسآمة والملل بسبب نقل الحديث من مشارك لآخر مع تنوع محاوروها التي يتناولوها.
6- الإذاعة:وهذه يقال فيها ما يقال في الصحف والمجلات من جهة التقسيم فمتى ما رأى الداعية أهمية المشاركة في البرنامج العام للإذاعة، فإن عليه أن يلتمس الإصلاح والمحقق للتأثير الأكبر على المستمعين، وكل داعية بحسبه والأمور نسبية.
7- التلفزيون والقنوات الفضائية:لم تعد المشاركة الدعوية في هذه الوسيلة المسموعة المرئية شراً محضاً، فوصول صوت الداعية إلى ملايين البشر يتطلب من الدعاة القادرين دراسة جادة تصل إلى الكيفية المناسبة لاستخدام هذه الوسيلة بما يحقق الخير، أو بعضه، ويدفع الشر، أو بعضه.
8- الشريط الإسلامي: مع تنوع مادته ما بين مادة عملية، وكلمات وعظية، وإنشاد حسن، وأخبار ماضية تربط الجيل الحضر بماضيه، كل هذه الأشياء تجعل من الشريط وسيلةً دعوية يسهل الاستماع إليها وتداولها، فما على المهتمين بذلك من أصحاب المؤسسات إلا الحرص الجاد بالمتابعة للجديد الحسن، وتيسير نشره واقتنائه.(/3)
ثالثاً : وسيلة المؤسسات العلمية والدعوية: يمتاز العمل المؤسسي بجماعيته، حيث العدد الأكبر المساهم في ذلك العمل، فتكثر الآراء والأفكار الخادمة، مع توظيف طاقة كل عضو فيما يناسبها من أجل النهوض بالعمل واستمراره حيث الاستثمار الأفضل لعقول الرجال، ويضاف إلى هذا عدم ارتباط هذا العمل بشخص واحد ينتهي بتغير رغبته، أو موته.
كما أن مثل هذا العمل يمتاز بالتنظيم والدقة والبعد به عن الارتجالية، حيث النظم المتفق عليها، والتي يسير العمل من خلالها، ومعرفة كل عضو ماله وما عليه داخل هذا الصرح، وكذا وجود مجلس تصدر القرارات من خلاله لا تسمح لكل أحد بأن يصدر القرار لوحده، كل هذا وغيره يجعل أعمال هذه المؤسسات أقل خطأً، وأكثر صواباً ونفعاً .
ومما يلحق بهذه ؛ المراكز الصيفية، والأنشطة المدرسية التي تحفظ على الشاب وقته مع ما فيه من تدريب على الإلقاء والمخاطبة، وما يستفيده من خبرات علمية، وعملية تساعده على بناء شخصيته ومستقبله، وتنير له طريقه للمشاركة المثلى في خدمة مجتمعه وأمته.
رابعاً: وسائل أخرى:وهذه في عمومها طابعها الاتصال المباشر بالمدعو ومن ذلك:
1 -الذهاب إلى أماكن المدعوين: فالداعية الحريص على إيصال الحق إلى الخلق مطالب باستخدام هذه الوسيلة، فنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ذهب إلى عكاظ، وذي المجاز، وغيرهما، وغشى أندية قريش واجتماعاتهم، ولكن لا بد للذاهب أن يكون متسلحاً بالعلم، وقوة الإيمان، والأسلوب الأمثل للمدعوين زماناً، ومكاناً، وتأهيلاً.
2-إجابة الدعوة: إجابة الدعوة من حق المسلم على أخيه، وبخاصة مع خلوها من المنكرات التي لا يمكنه تغييرها، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ خَمْسٌ تَجِبُ لِلْمُسْلِمِ عَلَى أَخِيهِ رَدُّ السَّلَامِ وَتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ وَإِجَابَةُ الدَّعْوَةِ وَعِيَادَةُ الْمَرِيضِ وَاتِّبَاعُ الْجَنَائِزِ] رواه البخاري ومسلم-واللفظ له-. ولكن على الداعية عدم الاستئثار بالحديث، وقطع الناس بعدم التحدث مع بعضهم البعض، فإن الأصل في إقامة المناسبات الاجتماعية التلاقي بعد طول فراق والمؤانسة بين الأقارب والأصحاب، والاستئثار من الداعية يوجد عند بعض المدعوين عدم رغبة بتحدثه للسبب المذكور. وحتى يكون للداعية ذلك الأثر الفاعل بالمدعوين: فلا بد أن يكون الاتصال بينهم وبينه ميسوراً.
كما أن المدعو يعرض له مشكلات يحتاج معها إلى قادر يساعده على تجاوزها، وهل أولى من الدعاة القيام بهذه المهمة، فهم أطباء القلوب، ولكن يبقى دور الداعية في تربية المدعوين على احترام المواعيد والاعتناء بها، مع عذره لجاهل، أو غريب جاء لساعات يلقى فيها الداعية، ثم يعود إلى بلده.
3- السعي في مصالحهم والإصلاح بينهم: السعي في مصالح المدعوين خلق نبيل، ودلالة أكيدة على البعد عن الأثرة وحب الذات مع ما فيه أيضاً من حب الخير للآخرين.
واتجاه الناس إلى الداعية تلمساً منهم بقضاء حوائجهم وسيلة يمتلك بها الداعية قلوبهم؛ إذ الإحسان يؤثر في الإنسان، فيزيد القلوب له محبة، وقد يقلبها من البغض إلى المحبة، وهذا أمر من وفق إياه؛ فقد أوتي خيراً كثيراً، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ...]رواه مسلم.
والمدعو لو لم يجد عند الداعية إلاّ طلاقة الوجه؛ لتأثر بذلك أثراً إيجابياً، فكيف إذا رأى منه تفاعلاً وحرصاً على القيام بخدمته، فلا بد من بذل النفس، وإشعار الآخر أن الداعية يحمل همّه، عنده مشكلة في البيت يتفاعل معه، مشكلة في الدراسة، وغير ذلك، فلا يقنطه، ولا يجعله مطلق التفاؤل في حل الأمور.
وكما هي الحال في السعي في مصالحهم؛ يحسن بالداعية أن يسعى في الإصلاح بين إخوانه المسلمين، وهو من الخير الذي قال الله عنه:{لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفِ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَّفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضاَتِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً[114]}[سورة النساء].(/4)
فبعض الأسر تعاني من مشكلات وتنافر بين بعض أفرادها، وكذا بعض الأقران، وأصحاب المهن والاهتمامات المتقاربة، هؤلاء قد يوجد بين بعضهم ما يتطلب من الداعية أن ينزل إليهم، ويصلح بينهم، وبخاصة إذا طُلب منه ذلك فالحذر من التهرب مع القدرة، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ قَالَ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ:' هَلْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي وَهُوَ قَاعِدٌ قَالَتْ:' نَعَمْ بَعْدَ مَا حَطَمَهُ النَّاسُ'رواه مسلم . قال النووي رحمه الله ' قَوْلهَا:'قَعَدَ بَعْد مَا حَطَمَهُ النَّاس' قَالَ الرَّاوِي : فِي تَفْسِيره يُقَال: حَطَمَ فُلَانًا أَهْله إِذَا كَبُرَ فِيهِمْ , كَأَنَّهُ لِمَا حَمَلَهُ مِنْ أُمُورهمْ وَأَثْقَالهمْ وَالِاعْتِنَاء بِمَصَالِحِهِمْ صَيَّرُوهُ شَيْخًا مَحْطُومًا , وَالْحَطْم الشَّيْء الْيَابِس.'. وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو القدوة، وصاحب الكمال المطلق من الخلق عليه الصلاة والسلام، وللجميع فيه أسوة.
4- الراحلة:الداعية إلى الله وهو راكب راحلته مع إخوانه أفراداً أو مجموعات- سواء كانت الراحلة دابة أو من المخترعات العصرية – عليه أن يستثمر هذه الوسيلة في الدعوة إلى الله سبحانه حيث استغلال اللحظة بما يفيد وقد كان هذا من سيرة رسول الله مع أصحابه فعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: بَيْنَا أَنَا رَدِيفُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ إِلَّا أَخِرَةُ الرَّحْلِ فَقَالَ يَا مُعَاذُ بْنَ جَبَلٍ قُلْتُ لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ...' رواه البخاري ومسلم.
فهذا المنهج من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقطع الطريق على المتعذرين بضيق الوقت وقصره، وأنه لا يتمكن من تقديم شيء للمدعو.
وختاماً:
كم هي الوسائل الممكنة التطبيق، اليسيرة التكاليف البدنية والمالية، وهنا يقف القلم عن المداد ولا يعني أن الوسائل قد استهلكت وأحيط بها علماً، ولكن هذا ما أمكن عرضه، فما كان فيه من صواب؛ فمن الله، وما كان فيه من خطأ؛ فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله.
من محاضرة:'من وسائل الدعوة' د.محمد بن عبد العزيز الثويني(/5)
من وسائل العولمة الإعلامية
9/11/1424
أ. د .ناصر بن سليمان العمر
ثالثاً العولمة الإعلامية
إن العولمة منظومة متكاملة يرتبط فيها الجانب السياسيُّ بالجانب الاِقتصادي، والجانبان معاً يتكاملان مع الجانب الاجتماعي والثقافي، ولا يكاد يستقل جانبٌ بذاته، ولكن آلة ذلك كله التي لاتنفصل البتة عن أي شكل من أشكال العولمة هو الإعلام بوسائله المتعدد، فمهما رأيت صوراً لعولمة ثقافية أو اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية، فاقطع بأنها جاءت محمولة عبر آلية إعلامية.
فنجاح مروجي ثقافاتهم واقتصادياتهم وسياساتهم بل وحروبهم، كان من أعظم أسبابه نجاحهم في عولمة إعلامهم.
وإذا كان حافظ إبراهيم قال منذ عشرات السنين:
لكل زمان مضى آية وآية هذا الزمان الصحف
فاليوم لم تعد الصحف هي الوسيلة الإعلامية الوحيدة، بل تعددت قنوات ووسائل الاتصال حتى حار الإنسان فيها، واتخذت أشكالاً عدة أبرزها ما يلي:
1- الإذاعات: وهي أوسع القنوات الإعلامية انتشاراً للأسباب التالية:
(أ) أنه يشترك فيها المتعلم، والعامي، والصغير والكبير، والرجل والمرأة.
(ب) قلة تكلفتها المادية، بخلاف كثير من وسائل الإعلام الأخرى، فما على المرء إلا أن يشتري جهاز راديو حسب إمكاناته المادية، حتى لو لم يملك إلا دريهمات معدودة، فسيجد ما يلائمه منها، مما يحوي عدة موجات.
(جـ) سهولة الاستعمال، فيستطيع الإنسان أن يستمع إلى الراديو في أي مكان كان ما لم يوجد حاجز طبيعي.
(د) طول مدة الإرسال، وكثرة الإذاعات؛ فالإرسال الإذاعي يستمر ساعات طويلة في أغلب الإذاعات، وهناك إذاعات يستمر إرسالها (24) ساعة متصلة.
(هـ) عدم وجود رقابة على الإذاعات، ويستطيع المستمع أن ينتقل من إذاعة إلى أخرى دون حسيب أو رقيب من البشر.
ولهذا فقد لعبت الإذاعات دوراً مهماً في حياة الناس، ولا تزال مع التقدم الهائل في الوسائل الإعلامية الأخرى تحتل مكانة بارزة، وتؤثر تأثيراً واضحاً.
ويكفي أن أشير إلى أن هناك عدداً من الإذاعات العالمية استحوذت على أغلب المستمعين، وعلى رأسها ثلاث إذاعات، وهي:
1- إذاعة لندن.
2- صوت أمريكا.
3- مونت كارلو.
وقد كشفت الأحداث المختلفة تأثير تلك الإذاعات، وتسابق الناس للاستماع إليها، ومازالت الدول المصدرة للثقافة تطلق إذاعاتها الموجهة للعالم العربي، وقد أطلقت الولايات المتحدة قبل أشهر محطة إذاعة جديدة باللغة العربية باسم [إذاعة سوا]، تشرف عليها [صوت أمريكا] موجهة للعالم العربي، وذكر مسؤولون أمريكيون أنهم بصدد مغازلة الشباب العربي الغاضب والقلق والشباب المسلم بشكل عام، وتبث على مدار 24 الساعة، وقد كانت الحكومة الأمريكية قد بدأت التخطيط للمحطة منذ ستة أشهر، حيث أطلق عليها اسم الشيفرة [مبادرة 911]، وتم رصد 30 مليون دولار كنفقات لمدة ستة أشهر لشبكة إذاعية جديدة تستهدف الشباب العربي، وفي الوقت نفسه بذلت لجنة العلاقات الدولية في مجلس النواب الأمريكي جهوداً مكثفة لمضاعفة نفقات البث الإذاعي الأمريكي؛ التي تبلغ 479 مليون دولار لتغطية كل العالم الإسلامي من نيجيريا إلى إندونيسيا، وفي هذا الإطار دفعت لجنة المخصصات في مجلس النواب الأمريكي الأموال الطائلة بزيادة قدرها 19 مليون دولار؛ لإحياء محطات إذاعية منفصلة خاصة بأفغانستان(1).
2- الصحف، والمجلات، والدوريات، والنشرات:
وقد تربعت الصحافة على عرش التأثير زمناً طويلاً، حتى أصبحت في وقت من الأوقات تسمى السلطة الرابعة.
واليوم تبوأت الصحافة مكانة أسمى، وتأثيراً أقوى، حتى أصبح الملوك والرؤساء يخطبون ود رؤساء التحرير، ويتقربون منهم، ويغدقون عليهم العطايا، والهبات رجاء وخوفاً، بل تعدى الأمر إلى صغار المحررين، والمبتدئين من المراسلين، وأصبح كثير من الناس لا يستطيع أن يستغني عن مطالعة الصحف، والمجلات يومياً، بل الكثير منهم لا يتناول فطوره إلا بعد الاطلاع على صحف اليوم.
3- التلفزيون والفيديو:
على الرغم مما تقوم به الوسائل الإعلامية الأخرى، فإن تأثيرها -رغم قوته- لا يتعدى 30% من قوة تأثير التلفزيون والفيديو، وقد أثبتت الدراسات، والبحوث العلمية التي أجريت حول مدى تأثير التلفزيون والفيديو أن تأثيرهما لا تقاربه أي وسيلة أخرى، وستتضح هذه الحقيقة من خلال هذا الكتاب، وذلك للأسباب التالية:
(أ) انتشار هذا الجهاز حتى أنه قل أن يخلو منه بيت،أو يسلم من مشاهدته إنسان.
(ب) عدد الساعات التي يقضيها المرء عند التلفزيون والفيديو، فقد ذكر الدكتور حمود البدر(2) أن الدراسات، والأبحاث أثبتت أن بعض الطلاب عندما يتخرج من المرحلة الثانوية يكون قد أمضى أمام جهاز التلفزيون قرابة (15) ألف ساعة، بينما لا يكون أمضى في حجرات الدراسة أكثر من (10800) ساعة على أقصى تقدير(3) أي في حالة كونه مواظباً على الدراسة محدود الغياب.
ومعدل حضور بعض الطلاب في الجامعة (600) ساعة سنويا، بينما متوسط جلوسه عند التلفزيون (1000) ساعة سنويا.(/1)
(جـ) طول مدة البث يومياً، واستمراره جميع أيام الأسبوع دون عطلة، أو إجازة.
(د) الحالة النفسية للمتلقي، حيث إن المشاهد للتلفزيون، أو الفيديو يكون في حالة نفسية جيدة راغباً للمشاهدة مستعداً للتلقي، متلذذاً بما يرى، بخلاف الطالب في المدرسة، ومهما كانت حالة الطالب من الارتياح لأستاذ من الأساتذة، أو مادة من المواد، فإنها لا تصل إلى حالة مشاهد يرى فيلماً غريزياً، أو حلقة من حلقات المصارعة، أو مبارة من مباريات كرة القدم.
(د) إن أسلوب عرض البرامج، والتمثليات بلغ الذروة في الإخراج،واستخدام التقنية مع التشويق، والإغراء وحسن العرض مما يجعل المشاهد أسيراً لها مع قوة التأثير.
(هـ) إن الراديو يدرك بحاسة السمع، والصحافة تدرك بحاسة البصر، أما التلفزيون فتشترك فيه حاستان هما السمع والبصر، مما يجعل تأثيره أكثر، ولقد تطور التلفزيون تطوراً مذهلاً، ووصل إلى تقنية عالية الجودة.
ولقد كان المشاهد أسير قناة واحدة، أو قناتين، وعلى كل الأحول لا تتعدى القنوات التي تبث من بلده، أو من الدول المجاورة إن كان بثها قويا خمس قنوات.
ثم جاء الفيديو، وأتاح للمشاهد فرصة الاستمرار في مشاهدة ما يرغب من أفلام دون أن يكون أسير ما يبث في التلفاز ضمن إطار ضيق.
أما الآن فقد بدأ البث التلفزيوني العالمي، مما يفتح الباب على مصراعيه، ويجعل تأثير التلفزيون فيما مضى محدوداً إذا قورن بالمرحلة المقبلة والانفتاح المذهل.
--------------------------------------------------------------------------------
1المجتمع، العدد 1495، 23-29 محرم 1423هـ، الموافق 6-12 أبريل 2002م.
2وكيل جامعة الملك سعود سابقاً، وأمين مجلس الشورى السعودي حالياً.
3الحاجة إلى تنسيق وتكامل إعلامي ص 13.(/2)
من وصايا يعقوب الأمر بفعل الأسباب
23/6/1425
أ. د .ناصر بن سليمان العمر
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد، إن من المواضيع التي تشير إليها سورة يوسف، ومن القضايا المتكررة التي تشتمل عليها آياتها قضية الأخذ بالأسباب، فهذه السورة العظيمة تربي الأمة على قضية الأخذ بالأسباب، وأن ذلك مع أنه مسألة إيمانية عقدية هو من وسائل النجاة .
ولذلك رأينا هذا التركيز في هذه السورة على هذه القضية كما هو موجود في كثير من سور القرآن، ونذكر بعض الأمثلة التي وردت في هذه السورة من باب الأخذ بالأسباب،حيث إن يعقوب _عليه السلام_ لما قص عليه ابنه يوسف _عليه السلام_ هذه الرؤيا العظيمة وعرف أبوه تأويلها وما قد يلاقيه ابنه من شدة ومحن وبلاء ما كان منه إلا أن يوصيه، ويقول له: "قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ" (يوسف:5)، لا تكن سبباً في جلب الكيد إلى نفسك، فعندما تقص هذه الرؤيا على إخوانك، وهي رؤيا عظيمة، وقد يفقهون تأويلها كما فقهها أبوهم فيأتي الحسد فيجر عليك وعليهم مايجر .
وهذا يشير إلى أن من رأى رؤيا صالحة أوصى النبي – صلى الله عليه وسلم – ألا يقصها إلا على من يحب خوفاً من نشوء الحسد بسبب هذه النعمة وهذه الرؤيا، وكل صاحب نعمة محسود، فلم يكن من يعقوب _عليه السلام_ إلا أن يدله على سبب، لعله يكون فيه نجاته، وكما قال فيما بعد لإخوانه: "وَقَالَ يَا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ "(يوسف: من الآية67) أي: أن يعقوب عندما يقول لابنه هنا "لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلَى إِخْوَتِكَ"، ويقول لأبنائه فيما بعد: " لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ" هو لا يمنع وقوع القدر "وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْء" (يوسف: من الآية67)، ولكنه يأخذ بالسبب الشرعي الذي قد يكون سبباً لنجاة ابنه هنا وأبنائه هناك.
ومن أمثلة الأخذ بالأسباب أن يوسف _عليه السلام_ لما راودته امرأة العزيز وأصرت في مراودتها وهمت به وهي تملك السلطة والقوة أخذ بالسبب، بل أخذ بعدة أسباب وأعظم الأسباب أنه اعتصم بالله _جل وعلا_" فاستعصم" استعصم بالله ولجأ إلى الله وتضرع إليه فكفاه الله _جل وعلا_ شر هذه المرأة "إنه من عبادنا المخلصين"، ثم أيضاً هرب منها وهذا من الأخذ بالأسباب .
ولذلك من الأخذ بالأسباب الهروب من مواطن الفتن ، وكذلك من الأخذ بالأسباب أن أبناء يعقوب _عليهم السلام_ لما طلبوا من أبيهم أن يرسل معهم أخاهم بنيامين قال لهم: "قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ" (يوسف:66) بسبب ما فرطوا بيوسف _عليه السلام_، فاحتاط هذه المرة، فقال: "لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ" فأعطوه الموثق، وحدث ما حدث لأخيهم لكن لم يكن بسببهم.
وكذلك قال لهم:"لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ " (يوسف: من الآية67)، فهذا أيضاً من الأخذ بالأسباب، ولذلك قال لهم وبين لهم أنه لن يغني عنهم من الله شيء، إنما هي حاجة في نفس يعقوب قضاها _عليه السلام_ خاف عليهم من الحسد أو من العين عندما يجتمعون زمرةً واحدة، فطلب منهم التفرق وهذا من الأخذ بالأسباب
ومن أعظم ماورد في هذه السورة من الأخذ بالأسباب قول يعقوب في آخر المطاف:"يَابَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ" (يوسف:87)
ومن الحكمة أن الإنسان إذا سلك طريقاً محفوفاً بالمخاطر كركوب البحر مثلاً، من الحكمة ألا يركبه هو وأبناؤه جميعاً خوفاً من أن يغرق المركب فيغرقوا جميعاً أو إذا كان على جانب البحر مثلاً هو وزوجته وطلب أبناؤه منه أن يركبوا بالبحر وكان عددهم مباركاً أي كثيراً كما كان عدد أولاد يعقوب _عليه السلام_ من الحكمة ومن الأخذ بالأسباب ألا يركبوا في مركبٍ واحد؛ لأنهم إذا وقع الأمر قد يؤثر في نفسه وقد يبدأ باللوم ولو فعلت ولو فعلت فالأولى له أن يركب بعضهم في مركب ثم يركب الآخرون في مركبٍ آخر إلى غير ذلك فيما يخاف منه الإنسان، فلما خاف يعقوب _عليه السلام_ حيث إنهم سيذهبون من بلاد كنعان إلى مصر وبلاد غريبة ويخشى عليهم من العدو قال:" لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ "(يوسف: من الآية67) فهذا من الأخذ بالأسباب.(/1)
ومن الأخذ بالأسباب عندما قال يوسف لفتيانه:" وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ" (يوسف:62) هذه من الأخذ بالأسباب، لما طلب منهم أن يأتوا بأخيهم ما اكتفى بالطلب فقط "وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا"، وكان وجود هذه البضاعة سبباً من أسباب مجيء أخيهم؛ لأن أباهم قد اقتنع بذلك _عليه السلام_ في المرة الأولى رفض "قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ" (يوسف:64) لكن لما فتحوا متاعهم ووجدوا بضاعتهم ردت إليهم وافق،"قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا"(يوسف: من الآية65) فلاحظوا الدقة في اتخاذ الأسباب في مواضعها.
ومن أعظم ما ورد في هذه السورة من الأخذ بالأسباب قول يعقوب في آخر المطاف: "يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ" (يوسف:87) وفعلاً ذهبوا بعد أن كانوا يأسوا "قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ" (يوسف:85)، ولما أخذوا بهذا السبب مباشرة "فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ" (يوسف:88) "قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ" (يوسف:89) لما أخذوا بهذا السبب فإذا هم يجدون النتيجة.
وهنا نلحظ أن بعض هذه الأسباب أثّرت في النتيجة، أي أن يوسف لما استبق الباب نفعه استباقه الباب، أي: ذهابه إلى الباب، فوجد زوج المرأة فتخلص من المشكلة الأولى، ولما طلب وضع المتاع "وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ"(يوسف: من الآية62) نفع هذا أي بعد أن اعترض أبوهم ورفض أن يرسله معهم نجد أنه وافق بعد أن وجد المتاع، و لما أوصاهم والدهم ألا يدخلوا من باب واحد وإنما يدخلون من أبواب متفرقة نفعهم ذلك فلم يأتهم مكروه، ولما قال لأبنائه: اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه نفعهم ذلك فوجدوا أخاهم
من الحكمة أن الإنسان إذا سلك طريقاً محفوفاً بالمخاطر كركوب البحر مثلاً، من الحكمة ألايركبه هو وأبناؤه جميعاً خوفاً من أن يغرق المركب فيغرقوا جميعاً
وقد يقول قائل: إنه لما قال له أبوه:"لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلَى إِخْوَتِكَ"(يوسف: من الآية5) فلم يقصص رؤياه على إخوته ومع ذلك حدث ما حدث، والجواب أن المطلوب من المؤمن أن يعمل السبب أما النتيجة وأما الأثر فليس له.
لو لم يأتِ في فعل السبب إلا أنك تأخذ بقضية شرعية، وهي الأخذ بالأسباب لكفى أما النتائج فليست لك، مثال ذلك الدعوة إلى الله _جل وعلا_ الإنسان يدعو إلى الله ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر إن استجاب له الناس فهذا خير وإن لم يستجيبوا له فليس عليه، المهم أنه أمر ونهى، لا يقل أنا لن أدعو الناس؛ لأنهم لن يستجيبوا "وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ" (لأعراف:164) .
ففعلك السبب يسقط عنك الإثم قيامك بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله يسقط عنك الإثم، أما إسلامهم فأمره إلى الله، والهداية بيد الله _جل وعلا_ وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين، "إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ" (القصص:56).
إذن نحن مطالبون بأن نعمل السبب أما النتائج فليست لنا، وهنا مسألة مهمة في هذا الجانب، وهي أننا في فعل الأسباب نعالج القدر الكوني بالقدر الشرعي، نعالج القدر الكوني، أي: قدر الله _جل وعلا_ الذي قدره نتعامل معه بالقدر الشرعي فنجد مثلاً لما وقع الطاعون في الشام هذا قدر كوني وحدث ما حدث من استشارة عمر _رضي الله عنه_ للصحابة هل يدخل الشام أو لا يدخل واختلفوا في ذلك، ثم اتخذ قراره بعدم الدخول قبل أن يبلغه حديث النبي – صلى الله عليه وسلم – الذي رواه عبدالرحمن بن عوف قال له أبو عبيدة لما قرر عمر أن يرجع إلى المدينة ولا يدخل الشام أتفر من قدر الله يا عمر، قال له: "لو أن غيرك قالها يا أبا عبيدة، نفر من قدر الله إلى قدر الله" أي: نفر من القدر الكوني إلى القدر الشرعي، نحن أمرنا بالأخذ بالأسباب، هذه مسألة مهمة فنحن مطالبون بذلك.(/2)
وأخيراً أختم قضية الأخذ بالأسباب بأن أبين أن الناس في قضية الأخذ بالأسباب على ثلاثة أقسام :
منهم من قال: إن الأسباب تفعل بذاتها،
ومنهم من قال: إنه لا تأثير للأسباب، وإنما الله يفعل عندها، وهذان منهجان خاطئان،
والمنهج الصحيح أن الله _جل وعلا_ جعل في الأسباب قوة مؤثرة وإذا شاء سلبها منها كما سلب من النار قوة الإحراق في قصة إبراهيم _عليه السلام_ " قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ" (الانبياء:69).
الذين يقولون: إن الأسباب تفعل بذاتها هؤلاء مخطئون،
الذين يقولون: إن الأسباب لا تفعل شيء إنما الله يفعل عندها هؤلاء مخطئون،
الصحيح أن الله جعل في الأسباب قوة مؤثرة فإذا شاء سلبها منها كما جعل في العلاج قوة مؤثرة في الشفاء ولو شاء لسلبها _سبحانه وتعالى_،وجعل في النار قوة الإحراق ولما شاء سلبها كما في قصة إبراهيم
وأنبه إلى قاعدة ذكرها العلماء، فقالوا: من اتخذ شيئاً سبباً لم يجعله الله سبباً فقد أشرك، أي: لو أن إنساناً اتخذ شيئاً من الأشياء سبباً ولم يجعله الله _سبحانه وتعالى_ سبباً اعتقاداً منه أنه مؤثر فقد أشرك؛ لأنه جعل لشيء من المادة قوة مؤثرة لم يجعله الله _جل وعلا_.
ثانياً: الاعتماد على الأسباب فقط قدحٌ في التوحيد، وإهمال الأسباب قدحٌ في العقل، والمنهج الصحيح هو الأخذ بالأسباب مع الاعتماد على الله _جل وعلا_ " اعقلها وتوكل"، لما تأخذ العلاج تأخذه لأن الله جعل فيه الشفاء، ولكنك تعلم أن الله هو الشافي فإن شاء شفاك _سبحانه وتعالى_ وإن شاء لم يشفك.
فتجد رجلين كلاهما يستخدمان علاجاً واحداً؛ أحدهما يفيده والآخر لايفيده لأسباب كثيرة، ولهذا ربط يعقوب _عليه السلام_ فعل السبب بمسببه "اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ" (يوسف: من الآية87) الاعتماد على الله _جل وعلا_ هو الذي يدلكم، وهو الذي يهديكم لأخيكم وهكذا كان .
وهذا منهجٌ يجب أن ننتبه له في قضية الأخذ بالأسباب وأن نعتدل في هذا المنهج العظيم فهذه السورة وضحت وبينت أهمية هذا الجانب كما في قوله: "اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ"(يوسف: من الآية42)، وفي هذا أخذ بالأسباب، نسأل الله أن يوفق أهل الإسلام للأخذ بأسباب العز في الدارين، وتجنب أسباب الردى، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين(/3)
•من وصية الإمام الشافعي رضي الله عنه
أ.د/محمد أديب الصالح
رئيس تحرير مجلة حضارة الإسلام
ـ 1 ـ
إن من الرجال رجالاً حملوا علوم الإسلام بأمانة ، وبلغوها بصدق ، وساروا بها في الناس لا يبغون عن مرضاة الله حولاً ، ولا يرضون بالزلفى إليه بدلاً ... فكان أن كتب الله لكلامهم القبول في الأرض ، لما أنه ـ مع الحجة والدليل عند الاستنباط ـ مضمخ بندى الإخلاص ـ محمول على أكف الملائكة جمعوا فيه بين العلم والعمل ، ولم يألوا جهداً في أن يحملوا آلامه على مورد الهداية ... ويقفوها على النبع السلسبيل من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم ... أولئك هم أئمة الهدى الذين أشرقت بهم الدنيا ، وصلح بعلمهم وعملهم أمر المسلمين ، وكانوا بحق منارات الضياء للعقول والقلوب على طريقنا الثقافي الأصيل وحضارتنا الإنسانية المثلى . ومن عيون هؤلاء الأئمة رضوان الله عليهم الإمام محمد بن إدريس الشافعي الذي كان كما قال الإمام أحمد بن حنبل كالشمس للدنيا والعافية للأبدان . وإني مثبت هنا جملة من وصيته رحمه الله التي نبصر من خلالها لمحة من التزام المنهج الرباني ، وصورة صادقة عن المسلك الذي كان يسلكه هؤلاء الربانيون . والوصية نقلها إلى الناس الربيع بن سليمان وقد رويت بالسند المتصل إليه .
(حدث أبو العباس محمد بن يعقوب قال : أخبرنا الربيع بن سليمان قال : قرئ على محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله وأنا حاضر هذا الكتاب ، كتبه محمد بن إدريس ابن العباس الشافعي ، في شعبان سنة ثلاث ومائتين ، وأشهد الله عالم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وكفى به جل ثناؤه شهيداً ، ثم من سمعه : أنه يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم ، لم يزل يدين بذلك ، وبه يدين حتى يتوفاه الله تعالى ويبعثه عليه إن شاء الله تعالى ، وأنه يوصي نفسه وجماعة من سمع وصيته : بإحلال ما أحل الله تبارك وتعالى في كتابه ثم على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم ، وتحريم ما حرم الله في الكتاب ثم في السنة ، ولا يجاوزون من ذلك إلى غيره ، فإن مجاوزته ترك فرض الله ، وترك ما خالف الكتاب والسنة وهما من المحدثات ، والمحافظة على أداء فرائض الله في القول والعمل ، والكف عن محارمه خوفاً لله عز وجل ، وكثرة ذكر الوقوف بين يدي ربه [يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً].
وأن ينزل الدنيا حيث أنزلها الله عز وجل ، فإنه لم يجعلها دار مقام إلا مقام مدة عاجلة الانقطاع ، وإنما جعلها دار عمل ، وجعل الآخرة دار قرار وجزاء بما عمل في الدنيا من خير أو شر، إن لم يعف جل ثناؤه .
وأن يخالَّ أحداً إلا أحداً خالَّه الله ممن يعقل الخلة لله تبارك وتعالى ، ويرجى منه إفادة علم في دين، وحسن أدب في دنيا .
وأن يعرف المرء زمانه ، ويرغب إلى الله في الخلاص من شر نفسه فيه ، ويمسك عن الإسراف بقول أو فعل في أمر لا يلزمه ، وأن يخلص النية لله فيما قال وعمل ، فإن الله يكفي مما سواه ، ولا يكفي منه شيء غيره . وأوصى متى حدث به حدث الموت الذي كتب الله عز وجل على خلقه ، الذي أسأل الله العون عليه وعلى ما بعده ، وكفاية كل هول دون الجنة برحمته).
وبعد أن ذكر الوصية في أمور أولاده وصدقته قال رحمه الله :
(ومحمد بن إدريس يسأل الله القادر على ما يشاء ، أن يصلي على محمد عبده ورسوله ، وأن يرحمه فإنه فقير إلى رحمته ، وأن يجيره من النار، فإنه غني عن عذابه ، وأن يخلفه في جميع ما خلف ، بأفضل ما خلف به أحداً من المؤمنين ، وان يكفيهم فقده ، ويجبر مصيبتهم من بعده ، وأن يقيهم معاصيه ، وإتيان ما يقبح بهم ، والحاجة إلى أحد من خلقه بقدرته).
رحم الله الإمام المطلبي ناصر السنة ، بما قدم للأمة من علم في شريعتها ولغتها ، وبما مهد لفهم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من طريق ومنهج .. وأعلى مقامه في الآخرين بما كان من تطلعه إلى الآخرة وخشيته لله عز وجل ، وسيره الدائب إلى الله فقهاً في الدين وتفقيهاً للناس ، وسلوكاً في مدارج التقوى بلغ به ـ إن شاء الله ـ مراتب السابقين المقربين .
ـ 2 ـ(/1)
عرضنا في العدد الأخير من السنة الماضية لوصية الشافعي رضي الله عنه ، واستبان لنا ما هي ناطقة به من صدق هذا الإمام ، وخشية من الله وهو في آخر مرحلة من مراحل الدنيا ، واستقباله للموت الذي هو نهاية كل حي .. لقد عرضنا لهذه الوصية ورأينا من خلالها سمة من سمات الربانيين . وفي هذا العدد نعيش مع بعض من كلماته التي تنم عن مشاعره وهو في مرضه العضال لندرك أي سر إلهي وراء ما كان من القبول لكلام أئمة الهدى في هذه الأرض ، وأن الأمر ليس أمر علم وكفى ، ولكنه أمر العمل مع العلم ، والتقوى مع المعرفة ، والصلة الدائمة بالله مع الذكر والألقاب والتكريم في دنيا الناس ، بحيث لم يشغلهم عن الله شاغل ، ولا صرف قلوبهم صارف ، وكانوا الأئمة العاملين المتقين ، كما كانوا الأئمة العالمين المجتهدين .
وهل مثل الصبر على البلاء والرضى عن الله تمام الرضى دليل على صدق العبد ، وتمثله لسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم وسنة أصحابه من بعده في هذا الباب ؟ حدث يونس بن عبد الأعلى قال : ما رأيت أحداً لقي من السقم ما لقي الشافعي ، دخلت عليه يوماً فقال لي : يا أبا موسى ، اقرأ عليّ ما بعد العشرين والمائة من آل عمران . وأخف القراءة ولا تثقل ، فقرأت عليه ، فلما أردت القيام ، قال لا تفعل فإني مكروب . قال يونس : عنى الشافعي رضي الله عنه بقراءتي ما بعد العشرين والمائة ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أو نحوه .
وعلى ذلك السنن من المراقبة والصبر إبان شدة البلاء والسقم كان من حاله ما روى المزني رحمه الله أنه دخل على الشافعي في مرضه الذي مات فيه فقال : كيف أصبحت يا أبا عبد الله .
فقال : أصبحت من الدنيا راحلاً ، ولإخواني مفارقاً ، ولكأس المنية شارباَ ، وعلى الله وارداً ، ولسوء أعمالي ملاقياً ، فلا أدري نفسي إلى الجنة تصير فأهنيها أو إلى النار فأعزيها .
وهنا تتجلى لنا قدرة المزني على اقتناص الفائدة في وقتها المناسب ، فقد شرب من علم الشافعي ما يروي غليل الراغب الصادق ، والآن يريد لروحه وقلبه وإمامه على فراش الموت .
قال المزني : فقلت : يا أبا عبد الله رحمك الله فعظني .
فقال لي : اتق الله ، ومثل الآخرة في قلبك ، واجعل الموت نصب عينيك : ولا تنس موقفك بين يدي الله عز وجل ، واجتنب محارمه ، وأد فرائضه ، وكن مع الحق حيث كان ، ولا تستصغرنّ نعم الله عليك ، وإن قلت ، وقابلها بالشكر. وليكن صمتك تفكراً ، وكلامك ذكراً ، ونظرك عبرة ، واعف عمن ظلمك ، وصل من قطعك ، وأحسن إلى من أساء إليك ، واصبر على النائبات ، واستعذ بالله من النار بالتقوى .
فقلت : زدني رحمك الله ، يا أبا عبد الله .
فقال : ليكن الصدق لسانك ، والوفاء عمادك ، والرحمة ثمرتك ، والشكر طهارتك ، والحق تجارتك ، والتودد زينتك ، والكتاب فطنتك ، والطاعة معيشتك ، والرضا أمانتك ، والفهم بصيرتك ، والرجاء اصطبارك ، والخوف جلبابك ، والصدقة حرزك ، والزكاة حصنك ، والحياء أميرك ، والحلم وزيرك ، والتوكل درعك ، وتكون الدنيا سجنك ، والفقر ضجيعك ، والحق قائدك ، والحج والجهاد بغيتك ، والقرآن محدثك ، والله مؤنسك . فمن كانت هذه صفته كانت الجنة منزلته .
أجزل الله مثوبة إمامنا المطلبي ، وبوأه في الآخرة نزل العلماء العاملين ، الذائدين عن شريعة الله وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام .
وتبارك اسم ربنا الذي جعل من العلماء العاملين ورثة للأنبياء ينفون عن الدين كيد المبطلين والجاهلين ، ويبصرون الأمة بحقائقه ويفقهونها فيه سبحانه جعل منهم منارات ضياء وهدى يسعد السالك على هداها في الدارين .
الهوامش :
•" حضارة الإسلام " السنة 17 العدد 10 ذو الحجة 1396 هـ تشرين الثاني 1976 م .(/2)
من يبلغ عني هذه الكلمات للأبطال في سجن غوانتانامو
حامد عبد الله العلي
*** يمضى عليهم الليل والنهار ، لا يفرقون بينهما ، والفضاء المترامي الأرجاء ، قد ضاق عليهم فصار كسم الخياط ، جاثمون على ركبهم في زنزانة سوداء الجدران ملؤها الكآبة ، ليس فيها إلا مصباح ضئيل يجاهد لتمزيق الظلام فلا يفلح إلا قليلا ، قد ذبلت أجسامهم ، فصارت كأفراخ ضم الجوع والبؤس بين ضلوعها ، فهي تعانق الحزن والأسى صباح مساء .
*** شاحبة وجوههم ، شاخصة أبصارهم ، مرتعشة أيديهم ، محزونة قلوبهم على مصاب الإسلام في كل بقاع الأرض ، يسمعون هدير أمواج جزيرة (غوانتناموا ) ، وزمجرة رعودها ، وزفيف رياحها ، وقعقعة سلاسل الحديد بين أرجلهم وأيديهم ، فيحسبون أنها نذر شؤم ، تأتيهم من مستقبل مجهول ، في عالم مجهول ، أو أنها أجراس الموت تعج عجيجا ، وتلج لجيجا ، فتبعث في الكبد لهيجا .
*** يقاسون الآلام الشداد ، قد غدت قلوبهم نهبا مقسما في يد الهموم والأفكار ، بعضها مما يحاك بالعالم الإسلامي من المكر الكبار ، و بعضها مما هم فيه من البلاء ، وبعضها من ذكرى الآباء والأمهات الذين يعالجون كل يوم أنين الوالهين ، وينفثون زفرات المكروبين ، والأولاد الصغار الذين خلفوهم ، فهم يلحفون في السؤال للام المفجوعة :
*** أين أبي يا أماه ، ما فعل أبونا حتى يذهبوا به ، فيلقوه هناك ، بعيدا عنا في تلك الجزيرة الموحشة ، وحيدا طريدا ، لماذا يلبسونه هذا اللباس ، لماذا يكبلونه بهذا الحديد ، ما ذنبه يا أماه ، ولماذا لا يأخذون الذين يقتلون المسلمين في فلسطين؟ ويأخذون آباءنا بدلا منهم ؟
*** فتفيض الدموع من مقلتيها ، وتمسك بيد الصغير ، وتجيب بصوت متقطع لا يكاد يبين: أي بني ، ليس لأبيك ذنب ، أبوك البطل ، قد نذر نفسه لامر عظيم جلل ، قد نذر نفسه لينصر الإسلام ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون .
*** وسيرجع إليك ليأخذ بيدك الصغيرة هذه ، ويذهب معك إلى حيث كنتما تذهبان وتلعبان ، أو يختاره الله شهيدا ، فتحيى بموته أمته من بعده ، وحسبت الأم أن هذه الكلمات كبيرة على عقل ولدها الصغير ، ولكنها أرادت أن تبقى في ذهنه حتى إذا كبر استرجعها ، فغدت له نبراسا يعلي همته ، فيغدو بطلا مجاهدا كأبيه .
*** وبينما أولئك الليوث القابعة وراء تلك القضبان ، على هذا الحال ، وبين هذه الهموم ، إذا جاءهم صدق يقينهم بالله ، فقذف في صدورهم الانشراح ، وتنزلت عليهم قوة توكلهم على الله فأرسلت على قلوبهم أعطر الرياح ، وتذكرت قلوبهم احتساب ثواب الآخرة فعادت إلى أرواحهم الأفراح .
*** إن الأبطال الذين في غوانتناموا ـ مهما حاول الإعلام الغربي زخرفة جريمة أسرهم ـ ليسوا سوى ضحية إرهاب القوى العظمى ، التي في سبيل بلوغها أوج الاستكبار تعبث بكل الفضائل الإنسانية، وتعمى عن كل القيم البشرية، وتستخف بكل حق ، وتتلاعب بكل نظام ، بروح طاغية في الاستبداد ، وسادرة في العلو في الأرض والفساد .
*** وهاهم الأمريكيون الذين نصبوا تمثال الحرية على مدخل إمبراطوريتهم الصهيونية ، ينتهكون كل حقوق الإنسان في حق هؤلاء الأسرى ، لتسقط عنهم أقنعة الزيف التي طالما تبجحوا بها .
*** ولقد صدق الكاتب الساخر ( برناندشو ) إذ قال ذات مرة ( يقولون إنني كاتب ساخر ،ولكن لم تبلغ بي السخرية أن أذهب إلى أمريكا وأرى تمثال الحرية على مدخلها ).
*** ويا أيها المتفاخرون بجبروتهم ، القائلون : من أشد منا قوة ، تربصوا ، فستمضي عليكم سنة الله في المستكبرين ( استكبارا في الأرض ومكر السيء ، ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله ، فهل ينظرون إلا سنة الأولين ، فلن تجد لسنة الله تبديلا ، ولن تجد لسنة الله تحويلا ، أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم وكانوا أشد منهم قوة ، وما كان الله ليعجزه من شيء في السموات ولا في الأرض إنه كان عليما قديرا ) .
فيارب لا تبعث إلي منيتي **** إلى أن أرى الوعد المؤمل والنصرا
في نهضة بكرية عمرية **** تعيد إلينا مجدنا تارة أخرى(/1)
من يحمل الأمانة
المحتويات
مقدمة
ثانياً : شواهد من قصص الأنبياء
ثالثاً : ثمرة الانتماء للدين
رابعاً : عموم العقوبة للساكتين
خامساً: المجتمع كركاب السفينة
سادساً: وفي قصص السابقين عبرة
سابعاً: ماذا ستقول عنا الأجيال؟
ثامناً :
من صور حمل الأمانة
أولا: المحافظة على المجتمع
ثانياً : نشر العلم والدعوة للدين
ثالثاً: بيان الحق والدين
رابعاً: دعوة سائر الناس إلى الإسلام
مقدمة
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد:-
فلقد كرم الله سبحانه بني آدم فخلق آدم بيده عز وجل وأسجد له ملائكته وعلَّمه الأسماء كلها، واختص سبحانه وتعالى بني آدم دون سائر المخلوقات بتكريم ومنزلة ومزايا خاصة لهم دون غيرهم، لكن أعظم تكريم وتشريف هو أنْ حمَّلهم سبحانه وتعالى هذا الدين، وأنْ جعلهم سبحانه وتعالى عباداً له فشرفهم بالانتساب إليه والتعبد له عز وجل، فصار شرف الإنسان وعزه عندما يذل بين يديه مولاه، وكماله هو في فقره لله عز وجل واستغنائه عمن سواه، بل هذا هو ما خُلِقَ بنو آدم من أجله ] وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون [ .
ومن تمام هذه العبودية وكمالها تشريف آخر، وذلك بأن جعله تعالى حاملاً لمشعل الهداية ودعوة الخير للناس جميعاً، فهو الذي يبلغ كلام الله عز وجل ودينه سبحانه للناس كافة، وحين يعرض هذا الإنسان ويتنكب الطريق فالبديل هو غيره ممن يقوم بهذه الأمانة، فالقضية إنما تدور حول الإنسان ] يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم [ ]وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم[. ] يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم [.
أي تشريف وتعظيم ورفع منزلة للإنسان أعظم من أن يكون داعياً للناس لعبودية الله وتوحيده؟ وأن يوظف وقته وجهده لتحقيق هذه الغاية وأداء هذه الرسالة، بل يحمل روحه في سبيل الله قد هانت عليه نفسه امتثالاً لقوله تعالى :] وقاتلوهم في سبيل الله [ ،] وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله[.
ومما يزيد الأمر وضوحاً ويزيد القضية برهاناً أن الله اختص بهذه المهمة وهذه الوظيفة خيرة خلقه، وهم أنبياؤه ورسله صلوات الله وسلامه عليهم، فكلهم قد أُرسلوا بكلمة واحدة ]اعبدوا الله ما لكم من إله غيره[ ،]اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت[، فمن يختر هذا الطريق ويَسِرْ فيه فهو يختار أن يسير على خطى الأنبياء ويقتفي آثارهم، ويختار لنفسه المهمة التي اختارها الله لصفوة خلقه عليهم الصلاة والسلام.
إن كل مسلم يعتقد أنه مخاطب بالقرآن الكريم، فهم مخاطب بهذه النصوص التي تأمر الناس أن ينصروا الله عز وجل ، أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر، أن يدعوا إلى الخير ]ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر[ ،] يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم[،]و إن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم[، ]فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين ، يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم[.
وهو مخاطب بالنصوص المتضافرة في سنة النبي صلى الله عليه وسلم "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل".
بل إن الله سبحانه يصف هذه الأمة وصفاً عاماً بقوله : ]كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله[ ،ومَنْ مِنْ المسلمين يرضى بأن يوصف بخروجه عن أمة الإسلام، أو يرضى أن يشكك أحد في انتمائه لهذه الأمة خير أمة أخرجت للناس؟ ما وظيفة هذه الأمة ؟ ما مهمة هذه الأمة؟ إنها القيام بهذا الدين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فمن الذي يحمل هذا الدين؟ من الذي يحمل هذه الأمانة ؟ أهي طائفة خاصة من هذه الأمة، أهو خطاب للنخبة ؟ أم هو خطاب للأمة أجمع ؟ لكل لمن يعقل كلام الله جل وعلا وكلام رسولهصلى الله عليه وسلم رجلاً كان أم امرأة، شاباً كان أم شيخاً، أيًّا كان موقعه الاجتماعي بين الناس ، وأيًّا كان علمه ودرجته فهو ما دام يرى أنه من هذه الأمة فهو مخاطب بهذه الصفة، فالأمة أجمع إنما اكتسبت هذه الخيرية لأنها تقوم بدين الله وتأمر بالمعروف، والمعروف اسم جامع يشمل كل ما أمر الله به من اعتقاد أو عمل أو سلوك أو خلق، ولئن كان هذا المعروف لايعجب فئة من الناس أو لايتفق مع أهوائهم فهذا لا يخرجه عن كونه معروفاً.(/1)
والمنكر كلمة جامعة لكل ما يخالف شرع الله في الاعتقاد والتعبد والعمل والسلوك، فالأمة مخاطبة أن تسعى لتغير هذا المنكر أياً كان، سخط من سخط ورضي من رضي، ما دام منكراً بعرف الشرع وخطاب الشرع، إن المناط في تحديد المعروف والمنكر يؤخذ من كلام مَنْ أمرنا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبحانه وتعالى.
وأخبر الله سبحانه أن هذه الأمة أمةٌ وسطٌ وشهيدة على الناس ] وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس [ ، أليس هذا للأمة أجمع؟ أليست الأمة أجمع موصوفة بأنها شهيدة على الناس في الدنيا والآخرة؟ إذا فلماذا نتأخر ولماذا نتقهقر؟ ولماذا نختزل هذه النصوص ونحصرها في زاوية ضيقة، ونقول إنها تعني النخبة وتعني فئة خاصة من الناس ؟ أمَّا نحن فدورنا كدور الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداءً ، دورنا أن نسير وراء القطيع، أمَّا مهمة إبلاغ هذا الدين وحماية مجتمعات المسلمين والقيام بأمر الله عز وجل فهي مهمة النخبة.
كيف يصل بهذه الأمة هذا الفهم وتلقي عن نفسها هذا اللباس، وهذا العز والتكريم والتشريف؟
إذاً فمن منطلق عموم النصوص في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ندرك أن الجميع مخاطبون بحمل الأمانة ، ما داموا ضمن إطار هذه الأمة ما داموا منها فهم جميعاً يجب أن يكونوا شركاء في الأمانة.
ثانياً : شواهد من قصص الأنبياء
حين نقف عند قصص أنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم نلمس هذا الأمر واضحاً جلياً. يقول سبحانه مخاطباً أصحاب الرسول r داعياً إياهم إلى التأسي بأولئك السلف الذين سبقوهم ]وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين . وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين[ ، لقد كان هؤلاء الربيون يشعرون أن الأمانة لا تخص هذا النبي وحده، بل لا بد أن يقوموا معه ويقاتلوا معه ويتحملوا الشدائد في سبيل الله، فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين ، وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين.
وسمع رجل من آحاد الناس أن هناك مؤامرة تحاك في الظلام ضد أحد أولياء الله، وهو نبي الله موسى، سمع أن الملأ يأتمرون به ليقتلوه، فشعر أن من واجبه أن يقوم بإبلاغ هذه الكلمة إلى موسى لعل الله أن ينجيه بسبب ذلك ]وجاء رجل من أقصا المدينة يسعى قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين[.
ورجل آخر يسمع بأنبياء الله وقد واجههم ما واجههم من قومهم فيحتمل التعب واللأواء لأجل نصرتهم ]واضرب لهم مثلاً أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون . إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث فقالوا إنا إليكم مرسلون [ ، ثم جاء هذا الرجل من مكان بعيد ]وجاء من أقصا المدينة رجل يسعى قال يا قوم اتبعوا المرسلين . اتبعوا من لا يسألكم أجراً وهم مهتدون . وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون ، أأتخذ من دونه آلة إن يردن الرحمن بضر لا تغني عنهم شفاعتهم شيئاً ولا ينقذون .إني إذاً لفي ضلال مبين . إني آمنت بربكم فاسمعون [ ، لقد أدرك هذا الرجل أن القضية ليست قضية الأنبياء وحدهم، فحين يُكذَّبون وحين لا يسمع لهم أقوامهم فليست مهمة قاصرة على أن يسترجع ويحوقل ويندب ويبكي على هذا الدين، بل عليه أن يقوم بمهمته فيأتي من أقصى المدينة يسعى ويمشي، يأتي ليقول كلمة واحدة: إن ما يدعوكم إليه هؤلاء حق وصدق، فاتبعوهم، فقتل ودخل الجنة ولايزال هم قومه يختلج في صدره قال ]ياليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين[ ، إن هذه المشاعر المستقرة في قلب هذا الرجل لم يكن يقتلعها الطغيان أو الإيذاء أو القتل، حتى بعد أن أراقوا دمه لا زال يختلج في صدره هذا الأمر، ولا زال يبكي على حال قومه ويتمنى أن يعلموا ما صار إليه علهم أن يلحقوا به، وأن يغفر الله لهم.
ونعود مرة أخرى إلى موسى فحين جاء موسى وواجه قومه بدعوته قام رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه، قام مناصراً لموسى منافحاً عنه فقال ]أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله وقد كانت لكم بينات من ربكم وإن يك كاذباً فعليه كذبه وإن يك صادقاً يصبكم بعض الذي يعدكم[ ، ثم يعيش في جبل مع قومه وهو لايزال يكتم إيمانه، حتى إذا رأى أمراً لم يجد فيه مجالاً للمداراة مع هؤلاء أعلنها صريحة لهم وقال ]يا قوم اتبعوني أهدكم سبيل الرشاد . يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار[.(/2)
وحين تجرأ المشركون على رسول الله r قام أبو بكر –رضي الله عنه- وقال لهم :"أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله"؟ أخرج البزار من رواية محمد بن علي عن أبيه أنه خطب فقال: " من أشجع الناس ؟ فقالوا : أنت، قال : أما أني ما بارزني أحد إلا أنصفت منه , ولكنه أبو بكر , لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذته قريش فهذا يجؤه وهذا يتلقاه ويقولون له أنت تجعل الآلهة إلها واحدا , فو الله ما دنا منا أحد إلا أبو بكر يضرب هذا ويدفع هذا ويقول : ويلكم أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله ؟ , ثم بكى علي ثم قال : أنشدكم الله أمؤمن آل فرعون أفضل أم أبو بكر ؟ فسكت القوم , فقال علي : والله لساعة من أبي بكر خير منه , ذاك رجل يكتم إيمانه , وهذا يعلن بإيمانه ".
ومع موسى مرة أخرى وقد وعد الله قومه أن يدخلوا الأرض المقدسة، فيُذَكِّر موسى قومَه بوعد الله ويعدهم بأن يتحقق لهم النصر، فيمتنع القوم ويستكبرون عن الدخول، حينها لم تُجْد هذه المحاولات مع أولئك المعاندين، فيقوم رجلان مؤيدان ومناصران لموسى]قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين[.
ثالثاً : ثمرة الانتماء للدين
إن المسلمين جميعاً يشعرون أنهم ينتمون لهذا الدين، ويتشرفون بالانتساب إليه، ولو سألت أحدهم في مقام الإنكار عليه والجدل والخصومة قائلا له: ألست بمسلم؟ لتضايق من هذا السؤال، ولكن مَن مِن المسلمين يسأل نفسه هذا السؤال بجد وصدق: ماذا يعني انتمائي لهذا الدين؟ ماذا يعني انتمائي لهذه الأمة؟ ألم يفرض علي الولاء لهذا الدين؟ ألم يفرض علي القيام بنصرة هذا الدين والذب عن حياضه والدعوة إليه؟
أرأيتم أصحاب الطوائف الضالة المنحرفة ألا يشعرون أن لانتمائهم لهذه الطائفة أو تلك ثمناً لا بد أن يدفعوه؛ فيتعصب لطائفته ويدعو إلى معتقدهم، ويسعى إلى نشره بكل غال ورخيص.
ومثلهم أولئك الذين سيطرت عليهم اللغة الوطنية فصار لا يشعر إلا بالانتماء إلى التراب والوطن، إنه يشعر أن ذلك يفرض عليه أن يعمق ولاءه وانتماءه لوطنه، وأن يذب عنه ويتعصب له بالحق والباطل، فما بالنا وقد كرمنا الله بأعظم انتماء لهذا الدين، ما بالنا لا ندرك ماذا يفرض علينا انتماؤنا وماذا يعني كوننا مسلمين مؤمنين؟
رابعاً : عموم العقوبة للساكتين
لقد بين الله أن الناس حين يُعرِضون عن شرع الله ويرتكبون ما يخالف أمره يعمهم بالعقوبة ]واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة[ ،]فلما آسفونا انتقمنا منهم[ ،] مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد[ . ]أو لم يهد للذين يرثون الأرض بعد أهلها أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم[ ، فمن سنة الله أن يعاقب الناس ويهلكهم وتعمهم العقوبة حين يتنكبون شرع الله، هذه العقوبة ليست لفئة خاصة من الناس، بل هي عقوبة للمجتمع كله، تبيد خضراءه فتهلك الأخضر واليابس.
فهل نعي أن مجتمعات المسلمين حين تعرض عن شرع الله عز وجل ويظهر فيها الخبث ويعلو فيها الفساد فهي مهددة بعقاب من الله سبحانه وتعالى ووعيد بعذابه؟
وما دامت العقوبة تعم الجميع فالمسؤولية والأمانة يجب أن يحملها الجميع سعياً في دفع عقوبة الله وغضبه.
خامساً: المجتمع كركاب السفينة
يضرب - صلى الله عليه وسلم – مثلاً بليغاً فيقول :"مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها؛ فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا".
إننا جميعاً ركاب في هذه السفينة، ومطلوب منا أن نأخذ على أيدي الذين يريدون الفساد وإثارة الفتنة، والفتنة كل الفتنة هي الصد عن سبيل الله، فلا يسوغ لأحد منا وهو يشعر أنه يركب هذه السفينة وأن الخطر يعم الجميع أن يتخلى عن حمل الأمانة.
سادساً: وفي قصص السابقين عبرة
يعرض الله علينا في كتابه الكريم صوراً من أولئك الذين يتخلون عن حمل الأمانة، وكيف أن العقاب حل بهم، ومنهم أولئك الذين قال الله سبحانه عنهم :]واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعاً ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون. وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوماً الله مهلكهم أو معذبهم عذاباً شديداً قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون. فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون[ : ويخبر الله سبحانه وتعالى أن بني إسرائيل قد حققت عليهم اللعنة لأنهم تخلوا عن حمل الأمانة ]لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون . كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه….[ .(/3)
إذاً هاهي نماذج تورد في مساق القدوة السيئة التي يراد بهذه الأمة أن تتجنبها وألا تسير على طريقها، فما بالنا نقول بلسان حالنا ]لم تعظون قوماً الله مهلكهم أو معذبهم عذاباً شديداً[ ولماذا نفترض أن القضية تعني فلان وغيره، وإن لم يكن اسمه موسى وهارون، فالمنطق هو المنطق، والسبيل هو السبيل، إنه سبيل أولئك الجبناء الذين كتب الله لهم الأرض المقدسة فاختاروا التيه والضلال فتاهوا أربعين سنة عقوبة لهم على تخليهم عن هذه الأمانة .
سابعاً: ماذا ستقول عنا الأجيال؟
إننا جميعاً نتفق على انتقاد ذاك الجيل الذي كان على يده إضاعة بلاد الأندلس، ولا يزال الصغار والكبار يقرؤون في التاريخ بأن أولئك خانوا المسلمين وخانوا الأمة أجمع فتحولت تلك البلاد إلى بلاد نصرانية، والمساجد قد صارت كنائس ما فيهن إلا نواقيس وصلبان، فماذا نقول عن أولئك؟
وماذا نقول عن أولئك الذين ضاعت على أيديهم تلك البلاد التي فتحها أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم - . يقول ابن عمر: ارتج علينا الثلج ونحن بأذربيجان، فقد جاب أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – كل البقاع، ماذا نقول عن أولئك الذين أضاعوا ذلك المجد؟
وماذا نقول عن أولئك الذين ساهموا بقصد أو بغير قصد في حياكة ونسج أكفان الخلافة الإسلامية حتى تفرقت الأمة الإسلامية شذر مذر وتفرقت إلى أحزاب يلعن بعضها بعضاً ويقتل بعضها بعضاً؟
ماذا نقول عن أولئك الذين أضاعوا أولى القبلتين وثالث المساجد التي لا تشد الرحال إلا إليها؟
ما دمنا نعيب أولئك، ومادمنا نرى أنهم تخلوا عن تحمل تلك المسؤولية، فماذا سيقول الجيل الذي سيلينا عنا؟ ألا يحق لهم أن يتحدثوا عنا باللغة نفسها؟ ألا يحق لهم أن يصفونا بما نصف به أولئك وما الذي يميزنا عن غيرنا؟
ثامناً :
إننا نرى أن ثمة مجالات عدة في حياة المسلمين يمكن أن تسهم في خدمة الأمة ونصر هذا الدين والذب عنه، فالأمة تحتاج إلى كل التخصصات والأدوار، وما من أحد يجيد فنًّا من فنون هذه الدنيا أو علماً من علومها، أو ينبغ في ميدان من ميادينها، إلا ويرى أنه سيجد مكاناً في ساحة الأمة الواسعة الفسيحة، يمكن أن يؤدي من خلاله دوراً، ويمكن أن يسهم من خلاله في أداء الأمانة وحملها، فما دام الأمر كذلك فلماذا يخص الأمر نخبة خاصة من الناس؟ فالأمة تحتاج إلى كل الطاقات وكل التخصصات.
والأمراض التي حلت بهذه الأمة أوسع وأشمل من أن يحيط بها فئة محدودة من الناس أو نوع من الناس من أصحاب القدرات الخاصة، ما دام ذلك كذلك إذاً فالأمانة ينبغي أن يحملها الجميع.
إن هذه المقدمات الثمان توصلنا إلى النتيجة التي نريد الوصول إليها التي توصلنا للإجابة على هذا السؤال الذي طرحناه أول الحديث من يحمل الأمانة؟
ننتقل بعد ذلك للإشارة إلى صورة من صور الأمانة التي يجب على الأمة أن تحملها وأن تتواصى بالقيام بها وأدائها وهي صور على سبيل المثال لا الحصر.
من صور حمل الأمانة
إن الوقت لا يتسع للإفاضة، والمقام يدعوننا إلى الإشارة والحر تكفيه الإشارة، ومن صور حمل الأمانة:
أولا: المحافظة على المجتمع
من الأمانات المهمة التي ينبغي أن يتحملها المجتمع أجمع المحافظة على المجتمع وحمايته من الفساد، فلم يعد أحد من المسلمين اليوم يشك في أن مجتمعات المسلمين مستهدفة، وأنه يراد لهذه المجتمعات أن تغوص في أوحال الرذيلة والفساد، وأن تتخلى عن دينها، كيف لا نشك في ذلك ونحن نقرأ قول الله تعالى :] ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم [. وقوله :]ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا[ ،وقوله عز وجل: ]يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالاً ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون[ .
فما دام هناك يهود ونصارى فلن يرضوا عن هذه الأمة حتى تتبع ملتهم، وارتماء الأمة في أوحال الفساد والرذيلة، وتخليها عن دينها واختيارها للشعارات الأرضية الباطلة، لن يكون كافيا لديهم، فلا بد أن يسوقوا الأمة إلى أن تتنصر أو تتهود، وها نحن نرى صور الفساد وتيارات الهدم والفتن تتوارث على مجتمعات المسلمين، ولستم بحاجة إلى أن أثير أشجانكم بذكر الأمثلة والصور والتناقضات، ويكفي أحدنا دلالة على ذلك أن يخرج إلى شارع من شوارع المسلمين، أو سوق من أسواقهم، ليرى نتائج هذا الغزو ونتاج هذا التدمير الذي يراد لهذه الأمة، فما دامت هذه المجتمعات مستهدفة يراد لها أن تتنكب الطريق، فمن المسؤول عن الحفاظ على المجتمع؟ ومن المسؤول عن الدفاع عنه؟ ومن الذي ينبغي عليه أن يقف في خندق الدفاع عن هذا المجتمع: عن عقيدته ودينه وخلقه وسلوكه؟ أليس أبناء المجتمع أجمع ؟ أليس المسلمون أجمع كلهم ينبغي أن يقفوا صفاً واحداً في الميدان ؟
فالواجب علينا جميعاً أن نقف في خندق الحماية والدفاع عن حرمات هذا المجتمع ودينه وعقائده، أن نقف في وجه هذه الحملة.(/4)
ولو أن المسلمين أدركوا الأمانة والمسؤولية لما استطاع الأعداء أن يصنعوا شيئاً، ولارتدت سهام أولئك في نحورهم.
ثانياً : نشر العلم والدعوة للدين
لئن كانت مسؤولية نشر العلم والدعوة للدين تعني أهل العلم بصفة أخص، فهذا لايعني أننا نُعفى من المسؤولية، فبعضنا لا يملك علماً لكنه يملك المال الذي يستطيع من خلاله أن يُوظَّف من يعمل على نشر هذا الدين، ويملك الخدمات التي يمكن أن يقدمها لأولئك الذين ينشرون العلم ويقدمونه للناس جميعاً.
إننا بحاجة إلى أن نعلم الناس عقائدهم وأحكام دينهم، أن نعلم الناس أن يعتقدوا أن الله واحد لا شريك له، أن يعتقدوا أن الله متصف بالأسماء الحسنى والصفات العلا ، وأن يعتقدوا أن أنبياء الله ورسله هم أفضل الناس وأبر الناس وأصدق الناس ، أن يعتقدوا أن أبر الناس بعد رسله هم أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم – ، وإلى أن نعلم الناس أحكام العبادة والطهارة، وإلى أن نعلم الناس ما يحل وما يحرم عليهم في معاملاتهم وفي بيعهم وشرائهم ، وفي حديثهم ومنطقهم وفي سلوكهم.
وهي مهمة يمكن أن يقوم بها الجميع من خلال عقد حلق العلم، من خلال المساهمة بالمادة وبالرأي، والمساهمة بالتشجيع والتأييد.
ثالثاً: بيان الحق والدين
إن من حق الأمة أن تسمع كلمة الحق واضحة، وقد أخذ الله ميثاق الذين أوتوا العلم بأن يبينوه للناس ]وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولاتكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلاً فبئس ما يشترون [ ، لقد عاب الله عز وجل على أولئك الذين يكتمون ما أنزل الله فقال:]إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا[، فلا تقبل توبتهم إلا إذا بينوا، والذين يسكتون عن بيان الحق مقابل نصيب عاجل من الدنيا لن يكون لهم نصيب يوم التغابن ]إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمناً قليلاً أولئك لا خلاق له في الآخرة[ ، إذاً مع هذا الوعيد الشديد على كتمان ما أنزل، مع هذا الذم لأولئك الذين أخذ عليهم الميثاق أن يبينوا للناس دين الله، لا يبقى لأحد من هذه الأمة عذراً أن يعلم أمراً مما أنزله الله فيكتمه.
لماذا أنزل الله عز وجل هذا الدين؟ لماذا أنزل هذه النصوص التي تأمر الناس بالخضوع لله دون سواه؟ أليس من حق الناس أن يعلموا ما أنزل الله عليهم؟ أن يعلموا لماذا أنزل الله هذه النصوص التي تأمر بالإحتكام إلى شرع الله سبحانه ونبذ التحاكم إلى ما سواه؟ أليس من حق الناس أن يعلموا أن المؤمن يجب عليه أن يبرأ من كل كافر؟ أليس مما أنزل الله على الناس النهي عن أن يأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة؟ أليس من واجب من أتاه الله علماً أن يبلغ الناس؟ أليس مما أنزل الله أن تحتشم المرأة وتتحجب وأن تبتعد عن مجالس الرجال؟ أليس من واجب من أتاه الله علماً أن يبلغ ما آتاه الله؟
إذاً فكل ما جاء عن الله في كتابه وسنة رسوله فهو بحق يجب أن يعلمه الناس ، ولولا ذلك لما أنزل الله آيات تتلى إلى يوم القيامة، وحين يُكتم عن الناس هذا الأمر فإننا نستوجب على أنفسنا لعنة الله و الملائكة والناس أجمعين، أيحق بعد ذلك لأحد من هذه الأمة أن يكتم شيئاً مما أنزل الله؟
رابعاً: دعوة سائر الناس إلى الإسلام
ومن صور الأمانة التي تتحملها الأمة أجمع نقل هذا الدين إلى سائر المجتمعات، كم يموت كل يوم على الشرك والكفر؟ كم يموت ممن لا يعلم شيئاً عن دين الله؟ كم يموت من أولئك الذين يعتقدون أن نبيهم هو الميرزا غلام أحمد؟ أو الذين يمرغون جباههم عند قبر الحسين؟ وكم يموت من أولئك الذين يطوفون حول قبور من يزعمون أنهم من أولياء الله؟ كم يموت على النصرانية والبوذية وعلى الإلحاد في العالم بأسره ممن لم يسمع كلمة الحق واضحة؟
وواقع هؤلاء مسؤولية من؟ واجب من؟ فهل دعوة هؤلاء واجب فئة أو طائفة خاصة؟ أم هو واجب أمة أجمع؟
في هذا العصر الذي يمتاز بأنه عصر الانفجار الهائل في وسائل الاتصال ونقل المعلومات والذي أصبح العالم فيه قرية واحدة كما يقال، مع ذلك يتخلى المسلمون لتبقى قنوات الفضاء ووسائل الاتصال والأجهزة الحديثة وقفاً على دعاة الفاحشة والرذيلة؟ أو على دعاة الضلال؟ أما أهل المنهج الحق الذين حملهم الله تبليغ هذا الدين للأمة أجمع كما أخبر قائلهم وقد وقف بفرسه على المحيط: يا رب والله أعلم خلف هذا البحر قوماً لخضته لأدعوهم لدين الله.
مسؤولية من وأمانة من دعوة هذا العالم بأسره إلى عبادة الله؟ أليست مسؤولية المسلمين ؟ أليست أمانة المسلمين أجمع صغيرهم وكبيرهم؟
أسأل الله أن يعلي كلمته، وينصر دينه؛ إنه سميع مجيب، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه،،(/5)
من يسمع النداء
الحمد لله الذي هدانا للإسلام وجعلنا من خير أمة أخرجت للناس ، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين .
أخي رعاك الله ... أختي حفظك الله .
هذه رسالة من أخ مشفق يريد الخير والصلاح لكم ويرجو من الله أن تجد هذه الكلمات طريقاً إلى قلوبكم فيكون لها أثر بعد توفيق الله لكي ينظر كل واحد منكم إلى نفسه ويسألها ويحاسبها عن كل عمل تعمله وبماذا سوف تلاقي ربها ، أتلاقيه بالبر والخير والطاعة ،أم تلاقيه بسماع الغناء ومشاهدة الأفلام الخليعة والنظر إلى الصور الفاتنة ألم تفكروا يوماً لم خلقنا الله ،هل خلقنا للهو واللعب أم خلقنا لعبادته وطاعته وحده قال تعالى : {أفحسبتم أنما خلفناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون}
ألم تتفكروا باليوم الآخر وأهواله وحيث مصير الناس إما إلى جنة عرضها السماوات والأرض وإما إلى نار تفور وتزفر على العصاة ، والسعيد من إذا ذكر تذكر وإذا وعظ اتعظ .
أخي في الله ... أختي الكريمة ... إن الصحة تزول والمال يذهب والشباب ينقضي والأصحاب يفترقون ولا يبقى إلا الأعمال الصالحات تكون ذكراً طيبا في الدنيا ومؤنساً في القبر ونجاةً بإذن الله من نار جهنم .
لا يغرنكم الشباب والصحة والجمال والقوة والمال فكم من شاب أو شابة جاءهم الموت فجأة فاختطفهم من بين أهلهم وأحبابهم وأقربائهم ، أين هم الآن ؟؟ إنهم تحت التراب كل منهم رهين عمله يتمنى أحدهم أن يرجع إلى الدنيا لكي يتوب ويندم ويصلي ويصوم ويذكر الله ويتبرأ من أصحاب السوء الذين سلكوا به مسلك الغواية فأضلوه عن سبيل الهداية ، كان إذا أراد أن يتوب أخذوا يمنونه بطول العمر ويسخرون من أهل الخير والصلاح قال الله عز وجل : { فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون } يعني في الجنة .
أخي المسلم .. أختي المسلمة ...ألم تتفكروا يوماً في أحوال المسلمين شرقاً وغرباً وهم يعيشون الخوف والجوع ، دماء تسفك وأرض تغتصب وأموال تنهب وأعراض تنتهك ، وأطفال أيتام ونساء أرامل . ألم تشعروا بهم ألم تبكوا لهم ، ألم تقدموا لهم شيئاً . ماذا ستقولون لربكم يوم القيامة عندما يسألكم عن إخوانكم وهو القائل :{ إنما المؤمنون إخوة } ، ورسولنا صلى الله عليه وسلم يقول (( المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا )) ..
قال الشاعر :-
وننسى أخوة في الله ذرت ........ بهم كف الزمان على الرمال
تمزقهم نيوب الجوع حتى ........ يكاد الشيخ يعثر بالعيال
يشدون البطون على خواء ........ ويقتسمون أرغفة الخيال
وتضربهم رياح الموت هوجاً ........ وفي أحداقهم نزف الليالي
وناموا بالعراء بلا غطاء ........ وساروا في العراء بلا نعال
لماذا كل طائفة أغاثت ........ بنيها غيركم أهل الهلال(/1)
من يشتري لسان طاعن؟
متعب بن فرحان القحطاني
</TD
إنها سطورُ مكاشفةٍ ومصارحة.
إنها عملية ترميمٍ لما تصدّع من بنيان التربية.
إن شئتَ قُلْ إنها همساتٌ أخويّة تداوي قلوباً مريضة.
وإن شئتَ فقُلْ إنها كلماتٌ جريئة في فضح الأدعياء.
كتبتها حين سمعت أصواتاً نشازاً تؤذي مسامع الدعاة العاملين المرهفة.
تقيّد إقدامهم بهمزٍ ولمزٍ فاضح، وتطعن همَّتَهم بخنجرٍ مسمومٍ من القول الجارح.
تلك الأصوات لم تكن لعدوٍ ظاهر أو منافقٍ معلومِ النفاق.
بل لأقوامٍ يزاحمون أهل الصلاح والالتزام بمناكبهم، ويقفون معهم لخدمة دين الله في خندقٍ واحد.
ولكنهم بغوا على إخوانهم، وأصابوهم بطائش سهامهم.
ادّعَوا أن الصوابَ رداؤهم والحقَ تحت عمائمهم، فحجّروا واسعاً.
تقرّبوا إلى الله ـ جهلاً ـ بإيذاء إخوانٍ لهم، يظنون أن ذلك يقرّبهم إلى الله زُلفى؛ وما بلغهم قول الهادي -صلى الله عليه وسلم-: «لا يقبل اللهُ إلا الطيّب» (1).
* مَن يشتري لسانَ طاعنٍ أو يشدّه بنِسْعَةٍ(2)؟!
«كانت العرب في جاهليتها تعاقب الشاعر الهجّاء بشدِّ لسانه بنِسعةٍ، أو تشتري منه لسانه بمعروفٍ يصنعونه له فيمسكه عنهم، فكأنما ربطوا لسانه».
ولما جاءت رسالة الإسلام أقرَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذه العادة حين أمر في غزوة حنينٍ يوم توزيع الغنائم، فقال: «اقطعوا عني لسانه» أي أسكِتوه بالعطاء.
وأمضى الفاروق عمر ـ رضي الله عنه ـ هذه السُّنة في الحُطيئة(3) لما أكثر من هجاء الزبرقان بن بدر التميمي ـ رضي الله عنه ـ وقال فيه ذمّاً مقذعاً، ظنَّه عمرُ مدحاً حتى سأل حسان بن ثابت عنه أهو هجاء؟ فقال: يا أمير المؤمنين! ما هجاه، ولكن سلح عليه بقوله:
دعِ المكارمَ لا ترحلْ لبغيتها *** واقعدْ فإنكَ أنتَ الطاعمُ الكاسي(4)
فسجنه عمرُ في المدينة، فاستعطفه الحطيئة بأبياته المشهورة:
ماذا تقولُ لأفْراخٍ بذي مرخٍ *** زُغْبِ الحواصل لا ماءٌ ولا شجرُ
ألقيتَ كاسبَهم في قَعرِ مُظلمة *** فاغفرْ عليك سَلامُ الله يا عمرُ (5)
فأخرجه ونهاه عن هجاء الناس، فقال الحطيئة: إذاً تموت عيالي جوعاً؛ فاشترى عمر ـ رضي الله عنه ـ منه أعراض المسلمين بثلاثة آلاف درهم»(6) وأخذ منه العهد على ذلك، ولكنه نكث وأوغل في الهجاء بعد موت الفاروق.
فيا ليت شعري مَن يشتري أعراضَ العلماء والدعاة اليوم من هجَّاءٍ قد تخلف «في كهوف القَعَدَة الذين صرفوا وجوههم عن آلام أمتهم، وقالوا: هذا مغتسلٌ باردٌ وشراب» و «كلما مرَّ على ملأ من الدعاة اختار منهم ذبيحاً فرماه بقذيفة من هذه الألقاب المُرّة، تمرق من فمه مروق السهم من الرَّميّة، ثم يرميه في الطريق، ويقول: أميطوا الأذى عن الطريق؛ فإن ذلك من شُعَب الإيمان»(7).
* بين ستر العُصاة.. وفَضح الدّعاة:
إنَّ القلب ليحزن، وإن النفس لتضيق من التزامٍ صوريٍّ يعيشُ صاحبُه ضمن دائرةٍ ضيقة من معاني الإسلام الظاهرة، فيدور في فلكها دون أن يخالط الإيمانُ شغافَ قلبه لينعكس خُلقاً كريماً وسلوكاً رفيعاً.. وإلى مثل هؤلاء وجَّه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خطابه فقال: «يا معشر مَن آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتَّبِعوا عوراتِهم»(8).
وإنك لتعجب من أبي بكرٍ الصّديق حين يقول فيما أخرجه عبد الرزاق في مصنفه: «لو لم أجد للسارق والزاني وشارب الخمر إلا ثوبي لأحببت أن أستره عليه»، ولعلَّ ابن هبيرة قد فقِهَ قول الصِّديق فأسرَّها إليك أن «اجتهد أن تستر العصاة؛ فإن ظهور معاصيهم عيبٌ في أهل الإسلام، وأوْلى الأمور ستر العيوب»(9).
إن قلباً كبيراً رحيماً كقلب الصدّيق - رضي الله عنه - قد وسع العصاة المجرمين ليسترهم، وأولئك ضاقت نفوسهم عن نجاحات إخوانهم؛ فأبت إلا أن تتتبَّعَ عوراتهم لتفضحهم؛ فيا لله العجب!
وكان سفيان بن الحصين جالساً عند إياس بن معاوية، فمرّ رجلٌ فنال منه سفيان، فقال إياس: اسكت! هل غزوتَ الروم؟ فرد سفيان أن لا، فسأله إياس ثانية: أغزوتَ الترك؟ فقال سفيان: لا؛ فعلَّمه إياسٌ درساً لم ينسه سفيان أبداً، حين صاح فيه: سلم منك الروم، وسَلِم منك الترك، ولم يسلم منك أخوك المسلم؟!(10).
وهذا الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق ـ حفظه الله ـ يعرّي دعاوى زائفة طالما تشدق بها أشباه المتدينين لاستباحة أعراض إخوانهم الدعاة والعاملين في قوله: «إنه ما زال المسلمون إلى يومنا هذا يطلع عليهم بين الحين والآخر مَن يزعم نصرَ الدِّين وقول كلمة الحق، فيترك أهل الأوثان والشرك والإباحية والكفر، ويُعمِل قلمه ولسانه في المسلمين، بل وجدنا منهم مَن لا همَّ له إلا مشاغلة الدعاة إلى الله والتعرض لهم بالسبِّ والتشهير... ولمثل هذه الأمور - التي يرونها مخالفاتٍ وما هي بمخالفات ـ يستحلّون أعراضهم، وينتهكون حرماتهم، ويفتّشون على أسرارهم، ولا يجدون لهم ديناً في الأرض إلا تفريق جماعتهم، وتمزيق وحدتهم وملء صدور الناس بكراهيتهم ومحاولة فضِّ الناس عنهم»(11).(/1)
* «أَلِلَّهِ» تُستباحُ الحُرمات؟!
إن ظاهرة القتل بنيران صديقة ليست وليدة اليوم، بل تمتد جذورها إلى قرونٍ مضت حين اكتشفها مُحدّث الأمة أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ فوقف ناصحاً واعظاً أولئك الذين سلّطوا عدساتهم المكبرة للتفتيش عن صغائر إخوانهم، فقال: «يُبصرُ أحدُكم القذاةَ في عين أخيه، وينسى الجِذْلَ ـ أو الجذْعَ ـ في عين نفسه؟» قال أبو عبيد: الجذل الخشبة العالية الكبيرة(12).
وهذا ابن القيم ـ رحمه الله ـ يلفّه استغرابٌ من مدّعي التديّن والوَرَع الذين سَلّوا سيوفَ الكلمة لتقطّعَ لحوم إخوانهم، ولم يُراعُوا لميِّتٍ حُرمة، فيقول: «وكم ترى من رجلٍ متورّعٍ عن الفواحش والظلم ولسانه يفري في أعراض الأحياء والأموات، ولا يبالي ما يقول!!»(13).
وفيما روى ابن الأثير في «كامله» من أحداث مقتل الخليفة الراشد عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ: «.. وأما عمرو بن الحمق فوثب على صدره ـ رضي الله عنه ـ وبه رمقٌ، فطعنه تسع طعنات، قال: فأما ثلاثٌ منها فإني طعنتهن إياه لله تعالى، وأما ستٌّ فلما كان في صدري عليه، وأرادوا قطع رأسه، فوقعت نائلةٌ عليه وأمُّ البنين، فصاحتا وضربتا الوجوه، فقال ابن عديس: اتركوه! وأقبل عمير بن ضابئ، فوثب عليه، فكسر ضلعاً من أضلاعه...».
ويقول الشيخ محمد أحمد الراشد ـ حفظه الله ـ معلِّقاً: «هكذا أعداء الإسلام دوماً يريدون قطع رأس الجماعة، وكسر أضلاع تنظيماتها، والمسوغ «لله»، كما قالها ابن الحمق! وبصيحة «لله» هذه ضاع ألوفٌ من شباب الدعوة بالأمس القريب، وثُبّطت جموعٌ، وكُشِفت أسرارٌ، ومُلئت سجون. ولو صدقوا لقالوا مثل ما قال ابن الحمق مستدركاً: ستٌّ لِمَا في الصدر»(14).
وما ذلك من ممارساتِ بعضِ مَن يُحسبون على تيار الصحوة اليوم ببعيد!!
ويبقى السؤال: أحقاً كان ذلك «لله»؟!
* ولا تنسوا الفضل بينكم :
إن أمراضاً خفيةً من هوى وحسد مع قلّةِ رصيدٍ من تربية، وبضاعة مزجاة من علم قد تُنسي لاحقاً فضلاً لسابقٍ في دعوة لله، وأمرٍ بمعروف، ونهي عن منكر، أو سجنٍ عند طاغيةٍ مستبدٍ، أو كلمةٍ أوْدَعها نُصحاً في أذُن عاصٍ ضاقت به السبُل، أو كتاباً نشر فيه علماً نافعاً، أو حتى حضوراً لمجالس الخير كثّر به سواداً للمسلمين.
وإن مما تستوحش منه قلوب المؤمنين النقية، وتشمئز منه نفوسهم السويّة ما تراه اليوم من تصرفات رعناء لأدعياء العلم والفضل حين يخطئ عَلَمٌ أو رمزٌ مُوثّق أو داعيةُ خيرٍ كانت له في الإسلام سابقةٌ؛ فيستبيحون عرضه، ويهتكون أستاره، وينسون فضله، ولمّا يشتدّ عودُهم أو ينضج فكرُهم، أو يبلغوا سنّ الحُلُم بَعْد.
وكم رأينا من أقزامٍ تطاولوا ظلماً وعدواناً، وافتروا زوراً وبهتاناً على أعلامٍ للدعوة ورموزٍ للفكر النيّر، قد بذلوا لله الغالي والنفيس من أوقاتهم وأموالهم ودمائهم، وهجروا الفُرُشَ والملذات حين كان أولئك الناقدون الناقمون يتسابقون على الدنيا وحطامها، ويسيرون وراء سراب أهوائهم لا يلوون على شيء.
أقلّوا عليهم لا أبا لأبيكم *** من اللوم أو سدّوا المكان الذي سدّوا(15)
أصاغر ما حفظوا من كتاب الله إلا قصار السُّور، نصيبهم من العلم قليل ومن الفقه العَدَم، ما عرفوا الله إلا قريباً، وظنوا جهلاً أنهم مع أشياخ الدعوة وعلمائها في الفضل سواء، وما دَرَوا أنه {لا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا} [الحديد: 10] .
ولسيدٍ قطب ـ رحمه الله ـ كلامٌ جميل حول هذا المقطع من الآية: «إنَّ الذي ينفق ويقاتل والعقيدة مطارَدة والأنصار قلّة، وليس في الأفق ظِلُّ منفعةٍ ولا سلطان ولا رخاء غير الذي ينفق ويقاتل والعقيدة آمنة والأنصار كثرة والنصر والغلبة والفوز قريبة المنال»(16).
* منهجٌ سَلفي ولا قلبٌ يَعي:
أين أدعياء الغيرة ـ ممن يستبشرون بأخطاء الدعاة، ويتصيّدون هناتهم، ويبحثون عن زلاتهم ـ من كلامٍ نفيس لابن القيم ـ رحمه الله ـ يشرح فيه منهجاً لميزان الرجال؛ حيث يقول: «من قواعد الشرع والحكمة أيضاً أن مَن كثُرت حسناته وعظُمَت، وكان له في الإسلام تأثيرٌ ظاهر فإنه يُحتمل منه ما لا يحتمل لغيره، ويُعفى عنه ما لا يعفى عن غيره؛ فإن المعصية خبث، والماء إذا بلغ قلتين لم يحمل الخبث، بخلاف الماء القليل فإنه لا يحتمل أدنى خبث»؟
ومن هذا قول النبي -صلى الله عليه وسلم- لعُمر: «وما يدريك لعلَّ الله اطّلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم؛ فقد غفرت لكم»(17).
وهذا هو المانع له -صلى الله عليه وسلم- من قتل مَنْ جسَّ عليه وعلى المسلمين، وارتكب مثل ذلك الذنب العظيم؛ فأخبر -صلى الله عليه وسلم- أنه شهد بدراً، فدلَّ على أن مقتضى عقوبته قائمٌ، لكن مَنعَ مِن ترتُّب أثره عليه ما له من المشهد العظيم، فوقعت تلك السقطة العظيمة مغتفرة في جنب ما له من الحسنات»(18).(/2)
وحول نفس المعنى له أيضاً كلماتٌ تُكتب بماء الذهب أوردها في كتابه إعلام الموقعين؛ حيث قال: «.. ومن له علمٌ بالشرع والواقع يعلم قطعاً أنّ الرجل الجليل الذي له في الإسلام قَدمٌ صالح وآثارٌ حسنة، وهو من الإسلام وأهله بمكان قد تكون منه الهفوة والزلّة هو فيها معذورٌ، بل مأجورٌ لاجتهاده، فلا يجوز أن يُتّبع فيها، ولا يجوز أن تُهدر مكانته وإمامته في قلوب المسلمين»(19).
ولقد سبقه سعيد بن المسيب ـ رحمه الله ـ في بيان ذلك المنحى السلفي في احترام أولي الفضل والسابقة حين قال: «ليس من شريفٍ ولا عالمٍ ولا ذي فضلٍ إلا وفيه عيبٌ، ولكن من الناس من لا ينبغي أن تُذكرَ عيوبُه؛ فمن كان فضله أكثر من نقصه: وُهِبَ نقصُه لفضله»(20).
وكأني بمحمد بن سيرين يأخذك في زاوية من المسجد يناجيك ويرشدك، فيقول لك واعظاً: «ظلمٌ لأخيك أن تذكرَ منه أسوأ ما تعلم منه، وتكتُم خيرَه»(21) ثم يتلو عليك {وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} [الشعراء: 183].
ولعلَّ الشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - قد عانى من مثل هؤلاء أعداء النجاحات ومتتبعي الزلات، فقال لهم بصريح العبارة: «.. فإذا تحققتم الخطأ بينتموه، ولم تهدروا جميع المحاسن لأجل مسألة أو مائة أو مائتين أخطأت فيهن، فإني لا أدّعي العصمة»(22).
وكم يكدّر صفوك الرائق وقاحةُ قولٍ في تبيين الحق وإنكار المنكر وردِّ الخطأ! ولا أدري أين أصحاب تلك الإسفافات من «قول الإمام الشافعي لصاحبه المزني حين سمعه يقول: فلانٌ كذّاب، فقال له: يا إبراهيم! اكسُ ألفاظَك! أحْسِنها، لا تقل: كذّاب، ولكن قل: حديثه ليس بشيء»(23).
وليت الإمام الشافعي يأتي ليؤدب أولئك المتبجحين الذين امتهنوا عيبَ الأعلامِ، وانتقاصَ إخوانهم الدعاة صَنْعةً يتفاخرون بها في مجالس النجوى والوقيعة.
* لا تُُعِنْ على سَفكِ دمِ الدَّعوة:
كم من مقالةِ حقٍ أُريد بها باطلٌ صدّتْ العشرات، بل المئات عن سماع الحقِّ من فلان!
وكم من مقالة سوء نفّرَت الناسَ من كتب أعلامٍ - تَشْرُفُ بهم الكلمةُ - فحُرِموا خيراً كثيراً!
وكم مرة أُغْلِقَ بابٌ للخير بسبب همزٍ ولمزٍ وأمورٍ بُيِّتتْ بليل!
وكم من مشروعٍ دعويٍ ضخم أجهضته كلمةُ انتقاصٍ طائشة أطلقها مراهقٌ في حق القائمين عليه!
وكم من يدٍ بالسوء امتدت فوَأدَت منشطاً إسلامياً في مهده!
وكم فُرضتْ قيودٌ وعراقيلٌ بجرّة قلمٍ ما كانت لله!
واستمع إلى التابعي المخضرم الثقة أبي معبد الجهني ـ رحمه الله ـ لتعي ما أقول:
«ففي حلقةٍ دراسية انعقدت في المدينة لتدريب وتفقيه الجيل الجديد من رجال دولة الإسلام، المكلّف باستدراك ما صنعته الفتنة، حاضرَ عبد الله بن عكيم، وطفق يلخّص لهم تجارب المخلصين، فقال:
(لا أُعينُ على دم خليفة أبداً بعد عثمان).
وكانت كلمة مثيرة منه حقاً.. وتأخذُ الجميعَ إطراقةٌ؛ فما ثَمَّ إلا عيونٌ تتبادل النظر مستغربةً ما يقوله الرجلُ الصالح. ما لهذا الشيخ البريء المؤمن الذي لم يرفع في وجه عثمان سيفاً أبداً يتّهم نفسه ويلومها على ما لم تفعل؟
وينبري جريءٌ لسؤاله:
(يا أبا معبد: أوَأعنتَ على دمه؟).
فيقول: (إني أرى ذكرَ مساوئ الرجل عوناً على دمه؟).
فهو يتهم نفسه بجزء من دم عثمان؛ لأنه رأى بأم عينه كيف أن ما ظنَّه، وقام في نفسه من أنه الحق قد أدّى إلى استغلال الرُّعاع له حين تكلم به، وكيف طوّروه حتى قتلوا عثمان رضي الله عنه»(24).
أظنك وعيتَ الوصية؛ فلا تُعِنْ على سفك دم الدعوة.
لا تُعِنْ على سفك دم الدعوة بكلامِ سوءٍ وقدحٍ في إخوانك همْ منه بَراء.
لا تُعِنْ على سفك دم الدعوة بتتبع زلات الدعاة لفضحهم، وهتك أستارهم لمجرد الاختلاف معهم.
لا تُعِنْ على سفك دم الدعوة بغيبةٍ أو بُهتانٍ لرموزها وأشياخها.
لا تُعِنْ على سفك دم الدعوة بإعطاء المتربصين فرصةَ انقضاضٍ لفُرقةٍ في الصَّف.
لا تُعِنْ على سفك دم الدعوة بوشاية عن أخيك عند ظالمٍ جائر أو مخاصمٍ فاجر.
+ وختاماً أيها الأخ الكريم!
إن كنت ممَن استزلّه الشيطان يوماً فوقع في أعراض بعض العلماء الربانيين أو الدعاة العاملين فَأْرِزْ إلى ناحيةٍ من مسجدٍ عتيق تجدُ فيه قلبك، وابكِ على خطيئتك، وأعلنها توبة نصوحاً لا نكوص بعدها، وردد بإخباتٍ وانكسارٍ: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } [الحشر: 10].
وإن كنت ممن قد تناوشه باغٍ بأباطيل زائفة وأكاذيب مرجفة فلا تقف ولو للحظة واحدة تلتفتُ فيها إليه، فدَعْوتك إلى تلك اللحظةِ أحْوَج، وردد بصوتٍ يَسْمعُه وأنت ماضٍ عنه: {لَئِن بَسَطتَ إلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [المائدة: 28].(/3)
وما أروع ما رواه الإمام الذهبي عن يونس الصدفي حين قال: «ما رأيتُ أعقل من الشافعي: ناظرته يوماً في مسألة، ثم افترقنا، ولقيني فأخذ بيدي، ثم قال: يا أبا موسى! ألا يستقيم أن نكون إخواناً، وإن لم نتفق في مسألة؟!»(25).
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.
------------------------------------------
(1) مقطع من حديث رواه أحمد في مسنده والبخاري ومسلم في صحيحيهما. انظر صحيح الجامع الصغير وزيادته، ح 6152 ـ 2044.
(2) النسعة: سَيرٌ من جِلدٍ مَفتول.
(3) جرول بن أوس العبسي المتوفى سنة 45هـ، الملقب بالحطيئة لقصره، كان كثير الهجاء، حتى يقال إنه هجا أمه وأباه وعمه وخاله ونفسه. انظر البداية والنهاية لابن كثير، 8/100.
(4) المصدر السابق: 8/101.
(5) جواهر الأدب لأحمد الهاشمي، ص 395.
(6) بتصرف من كتاب «تصنيف الناس بين الظن واليقين» للشيخ الدكتور بكر أبو زيد، ص 47.
(7) المصدر السابق، ص 22.
(8) رواه أحمد وأبو داود وصححه الألباني. انظر صحيح الجامع الصغير وزيادته، ح 7984 ـ 3078.
(9) قول أبي بكر وابن هبيرة منقول من «منهج أهل السنة والجماعة في تقويم الرجال ومؤلفاتهم» للشيخ أحمد بن عبد الرحمن الصويان، ص 41.
(10) منهج أهل السنة والجماعة في النقد والحكم على الآخرين، هشام بن إسماعيل الصيني، ص 59.
(11) القدوات الكبار بين التحطيم والانبهار، د. محمد موسى الشريف، ص 66.
(12) قال الألباني ـ رحمه الله ـ: صحيحٌ موقوفاً، انظر صحيح الأدب المفرد، ح 460/ 592.
(13) الجواب الكافي، لابن قيم الجوزية، ص 120.
(14) العوائق، ص 268، للأستاذ محمد الراشد الداعية العراقي المعروف.
(15) من نوادر شعر المدح للحطيئة، البداية والنهاية، 8/102.
(16) في ظلال القرآن، 6/3484.
(17) مسلم فضائل الصحابه رقم 4550، والبخاري الجهاد والسير رقم 2785.
(18) العوائق، للشيخ محمد أحمد الراشد، ص 139.
(19) قواعد في التعامل مع العلماء للشيخ عبد الرحمن اللويحق، ص 133.
(20) المصدر نفسه، ص 132 نقلاً عن جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر، وذكره ابن كثير في البداية والنهاية، 9/106.
(21) إنصاف أهل السنة والجماعة ومعاملتهم لمخالفيهم، للشيخ محمد بن صالح العلي، ص 89.
(22) المصدر نفسه، ص 90.
(23) منهج أهل السنة والجماعة في تقويم الرجال ومؤلفاتهم، للشيخ أحمد الصويان، ص 40.
(24) العوائق، ص 156.
(25) نزهة الفضلاء، د. محمد موسى الشريف، 2/734.
المصدر : مجلة البيان(/4)
من يشتري لسان طاعن؟
متعب بن فرحان القحطاني
إنها سطورُ مكاشفةٍ ومصارحة.
إنها عملية ترميمٍ لما تصدّع من بنيان التربية.
إن شئتَ قُلْ إنها همساتٌ أخويّة تداوي قلوباً مريضة.
وإن شئتَ فقُلْ إنها كلماتٌ جريئة في فضح الأدعياء.
كتبتها حين سمعت أصواتاً نشازاً تؤذي مسامع الدعاة العاملين المرهفة.
تقيّد إقدامهم بهمزٍ ولمزٍ فاضح، وتطعن همَّتَهم بخنجرٍ مسمومٍ من القول الجارح.
تلك الأصوات لم تكن لعدوٍ ظاهر أو منافقٍ معلومِ النفاق.
بل لأقوامٍ يزاحمون أهل الصلاح والالتزام بمناكبهم، ويقفون معهم لخدمة دين الله في خندقٍ واحد.
ولكنهم بغوا على إخوانهم، وأصابوهم بطائش سهامهم.
ادّعَوا أن الصوابَ رداؤهم والحقَ تحت عمائمهم، فحجّروا واسعاً.
تقرّبوا إلى الله ـ جهلاً ـ بإيذاء إخوانٍ لهم، يظنون أن ذلك يقرّبهم إلى الله زُلفى؛ وما بلغهم قول الهادي -صلى الله عليه وسلم-: «لا يقبل اللهُ إلا الطيّب» (1).
* مَن يشتري لسانَ طاعنٍ أو يشدّه بنِسْعَةٍ(2)؟!
«كانت العرب في جاهليتها تعاقب الشاعر الهجّاء بشدِّ لسانه بنِسعةٍ، أو تشتري منه لسانه بمعروفٍ يصنعونه له فيمسكه عنهم، فكأنما ربطوا لسانه».
ولما جاءت رسالة الإسلام أقرَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذه العادة حين أمر في غزوة حنينٍ يوم توزيع الغنائم، فقال: «اقطعوا عني لسانه» أي أسكِتوه بالعطاء.
وأمضى الفاروق عمر ـ رضي الله عنه ـ هذه السُّنة في الحُطيئة(3) لما أكثر من هجاء الزبرقان بن بدر التميمي ـ رضي الله عنه ـ وقال فيه ذمّاً مقذعاً، ظنَّه عمرُ مدحاً حتى سأل حسان بن ثابت عنه أهو هجاء؟ فقال: يا أمير المؤمنين! ما هجاه، ولكن سلح عليه بقوله:
دعِ المكارمَ لا ترحلْ لبغيتها *** واقعدْ فإنكَ أنتَ الطاعمُ الكاسي(4)
فسجنه عمرُ في المدينة، فاستعطفه الحطيئة بأبياته المشهورة:
ماذا تقولُ لأفْراخٍ بذي مرخٍ *** زُغْبِ الحواصل لا ماءٌ ولا شجرُ
ألقيتَ كاسبَهم في قَعرِ مُظلمة *** فاغفرْ عليك سَلامُ الله يا عمرُ (5)
فأخرجه ونهاه عن هجاء الناس، فقال الحطيئة: إذاً تموت عيالي جوعاً؛ فاشترى عمر ـ رضي الله عنه ـ منه أعراض المسلمين بثلاثة آلاف درهم»(6) وأخذ منه العهد على ذلك، ولكنه نكث وأوغل في الهجاء بعد موت الفاروق.
فيا ليت شعري مَن يشتري أعراضَ العلماء والدعاة اليوم من هجَّاءٍ قد تخلف «في كهوف القَعَدَة الذين صرفوا وجوههم عن آلام أمتهم، وقالوا: هذا مغتسلٌ باردٌ وشراب» و «كلما مرَّ على ملأ من الدعاة اختار منهم ذبيحاً فرماه بقذيفة من هذه الألقاب المُرّة، تمرق من فمه مروق السهم من الرَّميّة، ثم يرميه في الطريق، ويقول: أميطوا الأذى عن الطريق؛ فإن ذلك من شُعَب الإيمان»(7).
* بين ستر العُصاة.. وفَضح الدّعاة:
إنَّ القلب ليحزن، وإن النفس لتضيق من التزامٍ صوريٍّ يعيشُ صاحبُه ضمن دائرةٍ ضيقة من معاني الإسلام الظاهرة، فيدور في فلكها دون أن يخالط الإيمانُ شغافَ قلبه لينعكس خُلقاً كريماً وسلوكاً رفيعاً.. وإلى مثل هؤلاء وجَّه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خطابه فقال: «يا معشر مَن آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتَّبِعوا عوراتِهم»(8).
وإنك لتعجب من أبي بكرٍ الصّديق حين يقول فيما أخرجه عبد الرزاق في مصنفه: «لو لم أجد للسارق والزاني وشارب الخمر إلا ثوبي لأحببت أن أستره عليه»، ولعلَّ ابن هبيرة قد فقِهَ قول الصِّديق فأسرَّها إليك أن «اجتهد أن تستر العصاة؛ فإن ظهور معاصيهم عيبٌ في أهل الإسلام، وأوْلى الأمور ستر العيوب»(9).
إن قلباً كبيراً رحيماً كقلب الصدّيق - رضي الله عنه - قد وسع العصاة المجرمين ليسترهم، وأولئك ضاقت نفوسهم عن نجاحات إخوانهم؛ فأبت إلا أن تتتبَّعَ عوراتهم لتفضحهم؛ فيا لله العجب!
وكان سفيان بن الحصين جالساً عند إياس بن معاوية، فمرّ رجلٌ فنال منه سفيان، فقال إياس: اسكت! هل غزوتَ الروم؟ فرد سفيان أن لا، فسأله إياس ثانية: أغزوتَ الترك؟ فقال سفيان: لا؛ فعلَّمه إياسٌ درساً لم ينسه سفيان أبداً، حين صاح فيه: سلم منك الروم، وسَلِم منك الترك، ولم يسلم منك أخوك المسلم؟!(10).
وهذا الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق ـ حفظه الله ـ يعرّي دعاوى زائفة طالما تشدق بها أشباه المتدينين لاستباحة أعراض إخوانهم الدعاة والعاملين في قوله: «إنه ما زال المسلمون إلى يومنا هذا يطلع عليهم بين الحين والآخر مَن يزعم نصرَ الدِّين وقول كلمة الحق، فيترك أهل الأوثان والشرك والإباحية والكفر، ويُعمِل قلمه ولسانه في المسلمين، بل وجدنا منهم مَن لا همَّ له إلا مشاغلة الدعاة إلى الله والتعرض لهم بالسبِّ والتشهير... ولمثل هذه الأمور - التي يرونها مخالفاتٍ وما هي بمخالفات ـ يستحلّون أعراضهم، وينتهكون حرماتهم، ويفتّشون على أسرارهم، ولا يجدون لهم ديناً في الأرض إلا تفريق جماعتهم، وتمزيق وحدتهم وملء صدور الناس بكراهيتهم ومحاولة فضِّ الناس عنهم»(11).(/1)
* «أَلِلَّهِ» تُستباحُ الحُرمات؟!
إن ظاهرة القتل بنيران صديقة ليست وليدة اليوم، بل تمتد جذورها إلى قرونٍ مضت حين اكتشفها مُحدّث الأمة أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ فوقف ناصحاً واعظاً أولئك الذين سلّطوا عدساتهم المكبرة للتفتيش عن صغائر إخوانهم، فقال: «يُبصرُ أحدُكم القذاةَ في عين أخيه، وينسى الجِذْلَ ـ أو الجذْعَ ـ في عين نفسه؟» قال أبو عبيد: الجذل الخشبة العالية الكبيرة(12).
وهذا ابن القيم ـ رحمه الله ـ يلفّه استغرابٌ من مدّعي التديّن والوَرَع الذين سَلّوا سيوفَ الكلمة لتقطّعَ لحوم إخوانهم، ولم يُراعُوا لميِّتٍ حُرمة، فيقول: «وكم ترى من رجلٍ متورّعٍ عن الفواحش والظلم ولسانه يفري في أعراض الأحياء والأموات، ولا يبالي ما يقول!!»(13).
وفيما روى ابن الأثير في «كامله» من أحداث مقتل الخليفة الراشد عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ: «.. وأما عمرو بن الحمق فوثب على صدره ـ رضي الله عنه ـ وبه رمقٌ، فطعنه تسع طعنات، قال: فأما ثلاثٌ منها فإني طعنتهن إياه لله تعالى، وأما ستٌّ فلما كان في صدري عليه، وأرادوا قطع رأسه، فوقعت نائلةٌ عليه وأمُّ البنين، فصاحتا وضربتا الوجوه، فقال ابن عديس: اتركوه! وأقبل عمير بن ضابئ، فوثب عليه، فكسر ضلعاً من أضلاعه...».
ويقول الشيخ محمد أحمد الراشد ـ حفظه الله ـ معلِّقاً: «هكذا أعداء الإسلام دوماً يريدون قطع رأس الجماعة، وكسر أضلاع تنظيماتها، والمسوغ «لله»، كما قالها ابن الحمق! وبصيحة «لله» هذه ضاع ألوفٌ من شباب الدعوة بالأمس القريب، وثُبّطت جموعٌ، وكُشِفت أسرارٌ، ومُلئت سجون. ولو صدقوا لقالوا مثل ما قال ابن الحمق مستدركاً: ستٌّ لِمَا في الصدر»(14).
وما ذلك من ممارساتِ بعضِ مَن يُحسبون على تيار الصحوة اليوم ببعيد!!
ويبقى السؤال: أحقاً كان ذلك «لله»؟!
* ولا تنسوا الفضل بينكم :
إن أمراضاً خفيةً من هوى وحسد مع قلّةِ رصيدٍ من تربية، وبضاعة مزجاة من علم قد تُنسي لاحقاً فضلاً لسابقٍ في دعوة لله، وأمرٍ بمعروف، ونهي عن منكر، أو سجنٍ عند طاغيةٍ مستبدٍ، أو كلمةٍ أوْدَعها نُصحاً في أذُن عاصٍ ضاقت به السبُل، أو كتاباً نشر فيه علماً نافعاً، أو حتى حضوراً لمجالس الخير كثّر به سواداً للمسلمين.
وإن مما تستوحش منه قلوب المؤمنين النقية، وتشمئز منه نفوسهم السويّة ما تراه اليوم من تصرفات رعناء لأدعياء العلم والفضل حين يخطئ عَلَمٌ أو رمزٌ مُوثّق أو داعيةُ خيرٍ كانت له في الإسلام سابقةٌ؛ فيستبيحون عرضه، ويهتكون أستاره، وينسون فضله، ولمّا يشتدّ عودُهم أو ينضج فكرُهم، أو يبلغوا سنّ الحُلُم بَعْد.
وكم رأينا من أقزامٍ تطاولوا ظلماً وعدواناً، وافتروا زوراً وبهتاناً على أعلامٍ للدعوة ورموزٍ للفكر النيّر، قد بذلوا لله الغالي والنفيس من أوقاتهم وأموالهم ودمائهم، وهجروا الفُرُشَ والملذات حين كان أولئك الناقدون الناقمون يتسابقون على الدنيا وحطامها، ويسيرون وراء سراب أهوائهم لا يلوون على شيء.
أقلّوا عليهم لا أبا لأبيكم *** من اللوم أو سدّوا المكان الذي سدّوا(15)
أصاغر ما حفظوا من كتاب الله إلا قصار السُّور، نصيبهم من العلم قليل ومن الفقه العَدَم، ما عرفوا الله إلا قريباً، وظنوا جهلاً أنهم مع أشياخ الدعوة وعلمائها في الفضل سواء، وما دَرَوا أنه {لا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا} [الحديد: 10] .
ولسيدٍ قطب ـ رحمه الله ـ كلامٌ جميل حول هذا المقطع من الآية: «إنَّ الذي ينفق ويقاتل والعقيدة مطارَدة والأنصار قلّة، وليس في الأفق ظِلُّ منفعةٍ ولا سلطان ولا رخاء غير الذي ينفق ويقاتل والعقيدة آمنة والأنصار كثرة والنصر والغلبة والفوز قريبة المنال»(16).
* منهجٌ سَلفي ولا قلبٌ يَعي:
أين أدعياء الغيرة ـ ممن يستبشرون بأخطاء الدعاة، ويتصيّدون هناتهم، ويبحثون عن زلاتهم ـ من كلامٍ نفيس لابن القيم ـ رحمه الله ـ يشرح فيه منهجاً لميزان الرجال؛ حيث يقول: «من قواعد الشرع والحكمة أيضاً أن مَن كثُرت حسناته وعظُمَت، وكان له في الإسلام تأثيرٌ ظاهر فإنه يُحتمل منه ما لا يحتمل لغيره، ويُعفى عنه ما لا يعفى عن غيره؛ فإن المعصية خبث، والماء إذا بلغ قلتين لم يحمل الخبث، بخلاف الماء القليل فإنه لا يحتمل أدنى خبث»؟
ومن هذا قول النبي -صلى الله عليه وسلم- لعُمر: «وما يدريك لعلَّ الله اطّلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم؛ فقد غفرت لكم»(17).
وهذا هو المانع له -صلى الله عليه وسلم- من قتل مَنْ جسَّ عليه وعلى المسلمين، وارتكب مثل ذلك الذنب العظيم؛ فأخبر -صلى الله عليه وسلم- أنه شهد بدراً، فدلَّ على أن مقتضى عقوبته قائمٌ، لكن مَنعَ مِن ترتُّب أثره عليه ما له من المشهد العظيم، فوقعت تلك السقطة العظيمة مغتفرة في جنب ما له من الحسنات»(18).(/2)
وحول نفس المعنى له أيضاً كلماتٌ تُكتب بماء الذهب أوردها في كتابه إعلام الموقعين؛ حيث قال: «.. ومن له علمٌ بالشرع والواقع يعلم قطعاً أنّ الرجل الجليل الذي له في الإسلام قَدمٌ صالح وآثارٌ حسنة، وهو من الإسلام وأهله بمكان قد تكون منه الهفوة والزلّة هو فيها معذورٌ، بل مأجورٌ لاجتهاده، فلا يجوز أن يُتّبع فيها، ولا يجوز أن تُهدر مكانته وإمامته في قلوب المسلمين»(19).
ولقد سبقه سعيد بن المسيب ـ رحمه الله ـ في بيان ذلك المنحى السلفي في احترام أولي الفضل والسابقة حين قال: «ليس من شريفٍ ولا عالمٍ ولا ذي فضلٍ إلا وفيه عيبٌ، ولكن من الناس من لا ينبغي أن تُذكرَ عيوبُه؛ فمن كان فضله أكثر من نقصه: وُهِبَ نقصُه لفضله»(20).
وكأني بمحمد بن سيرين يأخذك في زاوية من المسجد يناجيك ويرشدك، فيقول لك واعظاً: «ظلمٌ لأخيك أن تذكرَ منه أسوأ ما تعلم منه، وتكتُم خيرَه»(21) ثم يتلو عليك {وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} [الشعراء: 183].
ولعلَّ الشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - قد عانى من مثل هؤلاء أعداء النجاحات ومتتبعي الزلات، فقال لهم بصريح العبارة: «.. فإذا تحققتم الخطأ بينتموه، ولم تهدروا جميع المحاسن لأجل مسألة أو مائة أو مائتين أخطأت فيهن، فإني لا أدّعي العصمة»(22).
وكم يكدّر صفوك الرائق وقاحةُ قولٍ في تبيين الحق وإنكار المنكر وردِّ الخطأ! ولا أدري أين أصحاب تلك الإسفافات من «قول الإمام الشافعي لصاحبه المزني حين سمعه يقول: فلانٌ كذّاب، فقال له: يا إبراهيم! اكسُ ألفاظَك! أحْسِنها، لا تقل: كذّاب، ولكن قل: حديثه ليس بشيء»(23).
وليت الإمام الشافعي يأتي ليؤدب أولئك المتبجحين الذين امتهنوا عيبَ الأعلامِ، وانتقاصَ إخوانهم الدعاة صَنْعةً يتفاخرون بها في مجالس النجوى والوقيعة.
* لا تُُعِنْ على سَفكِ دمِ الدَّعوة:
كم من مقالةِ حقٍ أُريد بها باطلٌ صدّتْ العشرات، بل المئات عن سماع الحقِّ من فلان!
وكم من مقالة سوء نفّرَت الناسَ من كتب أعلامٍ - تَشْرُفُ بهم الكلمةُ - فحُرِموا خيراً كثيراً!
وكم مرة أُغْلِقَ بابٌ للخير بسبب همزٍ ولمزٍ وأمورٍ بُيِّتتْ بليل!
وكم من مشروعٍ دعويٍ ضخم أجهضته كلمةُ انتقاصٍ طائشة أطلقها مراهقٌ في حق القائمين عليه!
وكم من يدٍ بالسوء امتدت فوَأدَت منشطاً إسلامياً في مهده!
وكم فُرضتْ قيودٌ وعراقيلٌ بجرّة قلمٍ ما كانت لله!
واستمع إلى التابعي المخضرم الثقة أبي معبد الجهني ـ رحمه الله ـ لتعي ما أقول:
«ففي حلقةٍ دراسية انعقدت في المدينة لتدريب وتفقيه الجيل الجديد من رجال دولة الإسلام، المكلّف باستدراك ما صنعته الفتنة، حاضرَ عبد الله بن عكيم، وطفق يلخّص لهم تجارب المخلصين، فقال:
(لا أُعينُ على دم خليفة أبداً بعد عثمان).
وكانت كلمة مثيرة منه حقاً.. وتأخذُ الجميعَ إطراقةٌ؛ فما ثَمَّ إلا عيونٌ تتبادل النظر مستغربةً ما يقوله الرجلُ الصالح. ما لهذا الشيخ البريء المؤمن الذي لم يرفع في وجه عثمان سيفاً أبداً يتّهم نفسه ويلومها على ما لم تفعل؟
وينبري جريءٌ لسؤاله:
(يا أبا معبد: أوَأعنتَ على دمه؟).
فيقول: (إني أرى ذكرَ مساوئ الرجل عوناً على دمه؟).
فهو يتهم نفسه بجزء من دم عثمان؛ لأنه رأى بأم عينه كيف أن ما ظنَّه، وقام في نفسه من أنه الحق قد أدّى إلى استغلال الرُّعاع له حين تكلم به، وكيف طوّروه حتى قتلوا عثمان رضي الله عنه»(24).
أظنك وعيتَ الوصية؛ فلا تُعِنْ على سفك دم الدعوة.
لا تُعِنْ على سفك دم الدعوة بكلامِ سوءٍ وقدحٍ في إخوانك همْ منه بَراء.
لا تُعِنْ على سفك دم الدعوة بتتبع زلات الدعاة لفضحهم، وهتك أستارهم لمجرد الاختلاف معهم.
لا تُعِنْ على سفك دم الدعوة بغيبةٍ أو بُهتانٍ لرموزها وأشياخها.
لا تُعِنْ على سفك دم الدعوة بإعطاء المتربصين فرصةَ انقضاضٍ لفُرقةٍ في الصَّف.
لا تُعِنْ على سفك دم الدعوة بوشاية عن أخيك عند ظالمٍ جائر أو مخاصمٍ فاجر.
+ وختاماً أيها الأخ الكريم!
إن كنت ممَن استزلّه الشيطان يوماً فوقع في أعراض بعض العلماء الربانيين أو الدعاة العاملين فَأْرِزْ إلى ناحيةٍ من مسجدٍ عتيق تجدُ فيه قلبك، وابكِ على خطيئتك، وأعلنها توبة نصوحاً لا نكوص بعدها، وردد بإخباتٍ وانكسارٍ: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } [الحشر: 10].
وإن كنت ممن قد تناوشه باغٍ بأباطيل زائفة وأكاذيب مرجفة فلا تقف ولو للحظة واحدة تلتفتُ فيها إليه، فدَعْوتك إلى تلك اللحظةِ أحْوَج، وردد بصوتٍ يَسْمعُه وأنت ماضٍ عنه: {لَئِن بَسَطتَ إلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [المائدة: 28].(/3)
وما أروع ما رواه الإمام الذهبي عن يونس الصدفي حين قال: «ما رأيتُ أعقل من الشافعي: ناظرته يوماً في مسألة، ثم افترقنا، ولقيني فأخذ بيدي، ثم قال: يا أبا موسى! ألا يستقيم أن نكون إخواناً، وإن لم نتفق في مسألة؟!»(25).
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.
------------------------------------------
(1) مقطع من حديث رواه أحمد في مسنده والبخاري ومسلم في صحيحيهما. انظر صحيح الجامع الصغير وزيادته، ح 6152 ـ 2044.
(2) النسعة: سَيرٌ من جِلدٍ مَفتول.
(3) جرول بن أوس العبسي المتوفى سنة 45هـ، الملقب بالحطيئة لقصره، كان كثير الهجاء، حتى يقال إنه هجا أمه وأباه وعمه وخاله ونفسه. انظر البداية والنهاية لابن كثير، 8/100.
(4) المصدر السابق: 8/101.
(5) جواهر الأدب لأحمد الهاشمي، ص 395.
(6) بتصرف من كتاب «تصنيف الناس بين الظن واليقين» للشيخ الدكتور بكر أبو زيد، ص 47.
(7) المصدر السابق، ص 22.
(8) رواه أحمد وأبو داود وصححه الألباني. انظر صحيح الجامع الصغير وزيادته، ح 7984 ـ 3078.
(9) قول أبي بكر وابن هبيرة منقول من «منهج أهل السنة والجماعة في تقويم الرجال ومؤلفاتهم» للشيخ أحمد بن عبد الرحمن الصويان، ص 41.
(10) منهج أهل السنة والجماعة في النقد والحكم على الآخرين، هشام بن إسماعيل الصيني، ص 59.
(11) القدوات الكبار بين التحطيم والانبهار، د. محمد موسى الشريف، ص 66.
(12) قال الألباني ـ رحمه الله ـ: صحيحٌ موقوفاً، انظر صحيح الأدب المفرد، ح 460/ 592.
(13) الجواب الكافي، لابن قيم الجوزية، ص 120.
(14) العوائق، ص 268، للأستاذ محمد الراشد الداعية العراقي المعروف.
(15) من نوادر شعر المدح للحطيئة، البداية والنهاية، 8/102.
(16) في ظلال القرآن، 6/3484.
(17) مسلم فضائل الصحابه رقم 4550، والبخاري الجهاد والسير رقم 2785.
(18) العوائق، للشيخ محمد أحمد الراشد، ص 139.
(19) قواعد في التعامل مع العلماء للشيخ عبد الرحمن اللويحق، ص 133.
(20) المصدر نفسه، ص 132 نقلاً عن جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر، وذكره ابن كثير في البداية والنهاية، 9/106.
(21) إنصاف أهل السنة والجماعة ومعاملتهم لمخالفيهم، للشيخ محمد بن صالح العلي، ص 89.
(22) المصدر نفسه، ص 90.
(23) منهج أهل السنة والجماعة في تقويم الرجال ومؤلفاتهم، للشيخ أحمد الصويان، ص 40.
(24) العوائق، ص 156.
(25) نزهة الفضلاء، د. محمد موسى الشريف، 2/734.
المصدر : مجلة البيان(/4)
من يعبد المسلمون ؟
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله ومن والاه وبعد :
فإن هذا السؤال العظيم : من يعبد المسلمون ؟ الجواب عليه من القرآن الكريم وهو كتاب الإسلام ومن كلام نبي الإسلام محمد عليه السلام الموحى إليه من ربه .
.
قال الله تعالى : (( بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ )) سورة الفاتحة
وقال تعالى : (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ )) سورة البقرة
وقال : (( ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ )) سورة الأنعام
وقال تعالى : (( وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلا كَرِيمًا )) سورة الإسراء
المسلمون يعبدون الله الذي عبده جميع الأنبياء : قال تعالى : (( أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ ءابَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ )) سورة البقرة
المسلمون يعبدون الله ويدعون غيرهم من أصحاب الأديان إلى عبادة الله وحده كما قال عزّ وجلّ : (( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ )) سورة آل عمران
الله وحده الذي دعا نوح عليه السلام قومه إلى عبادته ، قال تعالى : (( لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ )) سورة الأعراف
الله وحده الذي نادى المسيح عليه السلام إلى عبادته كما قال تعالى : (( لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ )) سورة المائدة
وقال تعالى : (( وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ءأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ )) سورة المائدة
ولما كلّم الله نبيه موسى عليه السلام قال له : (( إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي )) سورة طه
وأمر الله سبحانه تعالى نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بما يلي : (( قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ )) سورة يونس
وهو وحده لا شريك له تعبده الملائكة ولا تعبد معه غيره كما قال تعالى : (( وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ )) سورة الأنبياء
وكل معبود من دون الله فلا يضر ولا ينفع ولا يخلق ولا يرزق ، قال الله تعالى : (( قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ )) سورة المائدة وقال تعالى : (( إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ )) سورة العنكبوت(/1)
وبعد هذا الجواب نريد إكمال الموضوع بالسؤال التالي لماذا نعبد الله وحده لا شريك له والجواب :
لأنه لا يستحق العبادة في الكون أحد غيره لأنه هو الخالق الرازق الموجد من العدم الذي أمدنا بالنعم ، قال تعالى : (( فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (19) وَمِنْ ءايَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ ءايَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) وَمِنْ ءايَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22) وَمِنْ ءايَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23) وَمِنْ ءايَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) وَمِنْ ءايَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25) وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (26) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) سورة الروم
وقال تعالى : (( أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (61) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ (62) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (64) قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65) سورة النمل
فهل هناك أحد غير الله يستحقّ العبادة ؟
وبعد هذا لا نقول إلا كما قال الله تعالى ( مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ..) سورة الإسراء
المصدر: المسيحية في الميزان http://alhakekah.com/i(/2)
من يقود السفينة
الحمد لله والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد..
فلا شك أن كل سفينة تخوض في غمار البحار وتعبر المحيطات والأنهار، لا بد لها من قائد يقودها ويوجه مقودها حيث أراد وحيث كانت وجهته، وهو الذي يضبطها حيث تلعب بها الريح وتلاطمها الأمواج. وبدون هذا القائد هل يمكن أن تسير السفينة؟! نعم يمكن! تسير لو فك قيدها ولكن كيف سيكون سيرها؟ وأين ستكون وجهتها؟ بل كيف ستصل إلى هدفها؟ وإذا وصلت، هل ستصل بأمان؟ وهل ستحمي نفسها من المخاطر التي تواجهها وسط البحر المتلاطم؟
هكذا هو حال الأمة الإسلامية اليوم حيث تسير سفينتها بلا قائد يقودها إلى بحر التقدم، ولا موجه يوجها الوجهة الصحيحة التي أرادها الخالق جل وعل،ا ولا مرشد يدلها إلى بر الأمان ويسير بها إلى طريق العزة والنهوظ، ولا مرجع يمكن أن تسند إليه قضيا الأمة الكبرى للنظر فيها وإيجاد الحلول الرشيدة والسديدة لها.
وحين فقد كل هذا، أصبحت السفينة حائرة في بحر مظلم تلاطمها أمواج الفتن وتعصف بها رياح الشبهات وتغرقها أثقال الشهوات والتعلق بالملذات وتخرقها أظفار الشركيات والبدع، كما تحاول الأيادي الخبيثة من بعض أبناءها أعاقتها عن سيرها والتلاعب بمقودها لتلحق بركب المغضوب عليهم أو الضالين. هذا فضلاً عن اللصوص المتربصون بها وبخيراتها والحاقدون على أهلها وما يكيدون بهم ليل نهار ليذلوهم ويستعبدوهم من الكفرة والملحدين.
بل العجب أن يمسك بالمقود يدان مختلفتان متناقضتان !
يد تقودها إلى بر الأمن والإيمان .... ويد تهوي بها في دروب العصيان.....
يد تقودها إلى النور والسلام ... ويد تخوض بها في ظلمات وهوان....
يد تبني ... وأيادي تهدم. يد تعطي... وأيادٍ تسلب وتغصب. يد تصلح ... وأيادٍ تخرب.
فكيف يصلح لهذه السفينة حال؟ وكيف يكون بها المآل؟!
ومع هذا الحال العصيب الذي تعيشه الأمة بلا قائد يقودها إلى بر الأمان، ولا موجه يوجهها إلى طريق الله الواحد الديان، ولا مرشد يرشدها إلى التماسك والتعاون والبذل والإنتاج وفق هدي القرآن، حتى تحقق أهدافها وتنجو بإذن الله من الطوفان. مع هذا كله فهي بفضل الله تعالى لا تزال تبحر وتخوض المحيطات وتواجه أعاصير الكفر مجتمعة لإغراقها وهي ثابتة راسخة لا يضرها من خذلها ولا من خالفها إلى قيام الساعة.
إن السفينة لا بد لها من أن يكون لها من قائد أو قادة مهرة متمكنين يعرفون الهدف الذي تسير من أجله هذه السفينة والوجهة التي تريدها والطريق الآمن والأمثل لسيرها.
إنهم قادة يخافون الله في السر والعلن. قادة على دراية وبصيرة بشرع الله صغيره وكبيره، في العبادات والمعاملات في السلم والحرب، ويطبقون ذلك في حياتهم ومع الناس.
إنهم أصحاب عقول راسخة وقلوب بصيرة ونفوس منشرحة وأخلاق سمحة وقوة في الرأي وأصحاب حجة قوية ونظرة شمولية أفقية.
إن الأمة الآن في أمس الحاجة لمن يمسك بزمام أمرها ولمن يدلها على طريق النصرة والعزة والتقدم والنهوظ.
إنها في حاجة لمن يرشدها لإصلاح أوضاعها الفاسدة، ولمن ينصح ولاة الأمر فيها لما فيه صلاحهم والخير لشعوبهم والنهظة لأمتهم.
إنها في حاجة لمن يضبط حماس المتحمسين من أبناءها وبناتها، ولمن يقودها وقت الفتن والمحن إلى التريث والسلامة والتعامل مع الأزمات بحكمة وعقلانية.
إنها في حاجة لمن يفقهها في كلام الله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم. ويرسخ في قلوب أصحابها العقيدة الإسلامية الصحيحة بعمق. إنها في حاجة إلى مرجعية واضحة صادقة تكون ملاذاً للصغير فيها و الكبير، وحكماً عادلاً للوزير وللحقير أو الفقير.
ولا يكون ذلك إلا بلجنة أو منظمة أو هيئة إسلامية عالمية تضم نخبة من جهابذة الأمة وفطاحلة العلم والفقه والفكر فيها في جميع المجلات السياسية والاقتصادية والدينية والاجتماعية والعلمية والتقنية والإبداعية والتطويرية وغيرها من المجالات الحيوية المهمة.
وتكون لها سلطة قضائية وتنفيذية مستقلة بعضوية جميع الدول الإسلامية إضافة إلى الأقليات المسلمة في الدول الغير المسلمة. يقول الله تعالى: ( إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون) الأنبياء:92.
عندها سيكون بإذن الله تعالى حال الأمة أحسن بكثير مما هي عليه الآن من تطور واستقلال في الرأي ونصرة في الأرض وعزة وتمكين بعد عون الله تعالى وتوفيقه.
( ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون) المنافقون: 8.
فالحكم يجب أن يكون حكم الله تعالى، وبما أنزل الله، وبما يرضي الله، كما جاء عن الله تعالى: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) المائدة:44.
تفكر معي هذه الآية الكريمة وهي تأصل المنهج الرباني الحق في التحكيم والولاية: ( يأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً) النساء:59.(/1)
وهذه آية عظيمة تحكي حال المنافقين مع المؤمنين: ( وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلاً) النساء: 83.
أسأل الله تعالى أن يصلح حال أمتنا وأن يوفق كل والٍ فيها لكل خير وأن يجمع شتاتها وأن يوحد صفها.. آمين.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
عمر بن عبد العزيز الحمد(/2)
من يملك مفتاح الوعي؟
د.مسفر بن علي القحطاني 4/7/1426
09/08/2005
يقرّر علماء النفس أن الطفل في بداية حياته يقوم بتصرفات كثيرة جداً؛ فمن أجل التعبير عن ظمئه –مثلاً- يطلق عشرات الأنواع من الأصوات، ويحاول عشرات المحاولات اليائسة, وفي كل مرة يقلّل من عدد حركاته وأصواته، ويفهم بالتدريج عبثها، ولا يكرّرها ثانية حتى يصل إلى مرحلة يختار فيها حركة واحدة أو صوتاً واحداً لبلوغ هدفه كالبكاء أو الضرب بقدمه على الأرض, ثم تقل الأصوات تدريجياً حتى ينطق بكلمة واحدة "ماء".
فهذه الحقيقة أقرب إلى مسيرة عقل الإنسان ومراحل نموه نحو النضج الذهني والوعي الفكري, فكم من المحاولات الخاطئة لفهم الواقع والمجتمع يعيشها الإنسان في بدايات نضجه؟! وكم من التشنّجات الانفعالية التي تصحب تلك الفهوم والآراء، وقد تحمل هذه البدايات المتعثرة حتميات قطعية لا تقبل النقاش أو الجدال ثم تُثبِت الوقائع والتجارب فضلاً عن الاستزادة من العلوم والمعارف خطأ هذا النظر أو شناعته أحياناً؟! .. وبالتالي تقل تلك القطعيّات، وتزداد النسبية في عالم متغيّر كثير التقعيد يحتاج إلى تلك الخطوة الأولى نحو النضج في البصيرة والعمق في النظر.
إن فرض الحلول السريعة الجزئية لمشكلاتنا الراهنة بكل تعقيداتها سيدفع بنا نحو مزيد من الوهن والتأخر، ويكرّس في أعماقنا مشاعر اليأس والإحباط من كل محاولات الإصلاح ودعواتها الراهنة. وكأن قدرنا أن نبقى نراوح في مهد الطفولة الفكرية حتى لو شابت رؤوسنا ورقّت عظامنا. لذلك ينبغي أن نقدر أن مجتمعنا فيه ما يكفي ويشفي من أهل العقل الواعي والفكر الناضج ما يؤهلهم أن يعيدوا النظر في كل مشكلاتنا المزمنة والقادمة بشروط عدة، يجب التزام المجتمع بكل قياداته بها, وأهمها في نظري أن يمنحوا الثقة لأبنائهم المفكرين المخلصين في البحث عن مخارج لكل أزماتنا الراهنة, فهم أحرص من الخبير الأجنبي على بلادهم، وأقدر على فهم مشكلاتهم، وأعرف بثقافة المجتمع ودينه وأعرافه من القادم من وراء البحار.
لهذا قال الله –عزوجل- في معيار من معايير نجاح دعوات الأنبياء أنهم كانوا منهم، ومن جِلدتهم (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم) وقوله :(ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه) (وإلى عاد أخاهم هوداً) (وإلى ثمود أخاهم صالحاً) (وإلى مدين أخاهم شعيباً) .. .
كما أن أصحاب الاختصاص وأولي الذكر والعلم الدقيق أولى من غيرهم فيما يتعلق بفنهم وتخصصهم, وكم هو مؤسف أن ترى صاحب قرار يجازف برأيه في أمور دقيقة أو عظيمة لا حظ له فيها بعلم أو تجربة، ويهمّش من لو أدلى برأيه فيها لأصاب كبد الحقيقة، وهو متكئ على أريكته، كما لا يكفي اجتماع المختصين ما لم يعطوا ما يكفيهم من الوقت والمال والدعم المعنوي لإنجاز دراستهم و إعداد بحوثهم مهما كانت النتائج مريرة والتوصيات قاسية. كالطبيب المداوي عندما يؤلم مرضاه من أجل علاجهم لا يستوجب كرهه بل يستوجب مزيد ثقة وإقبال عليه، وفي قول الحق سبحانه :(ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب) دروس وعبر.
إن مراكز البحث والدراسة في مجتمعنا لا ينبغي أن تؤطّر في مجلس واحد كالشورى مثلاً. بل ينبغي أن يكون هذا ممتداً لكل مجال يحتاج أهله لمن يستمع شكواهم وينظر في مشكلاتهم, والقطاعات التعليمية والتربوية والأجهزة الحكومية والمؤسسات التجارية أحوج لتلك المطابخ الواعية المفكرة بدلاً من الحلول المعلبة المكررة, بل لا أكون مبالغاً إذا قلت: إن القضايا الفقهية والفتاوى المستجدة لا ينبغي أن تخرج عن هذا المسار من النظر والتدقيق والتمحيص في أهليتها وسلامة نهجها. فكم هو مؤلم حقاً تلك الهوة السحيقة بين مسؤول يعاني تراكم مشكلاته وأزماته ومفكر أو عالم قد غطته دراساته وحلوله العلمية، ولا يجد من يسمعه أو يستفيد من تجاربه وخبراته، وربما لا يفرق بينهما بضعة أميال؟! وأذكر من الواقع أني حضرت اجتماع خبراء حول إشكالية تعليمية لم يكن فينا أهل اختصاص إلا القليل، بينما هناك رسائل جامعية قد بحثت ذات الموضوع، وأرهقت أصحابها جهداً ومالاً لم يُلتفت إليها أو يُدرى عنها! فهل بلغ مجتمعنا مرحلة يمسك بها خيط التقدم والإبداع عندما يعتمد على مفكريه ويستنبت الحل من أرضه ويرعاه بيديه؟! أعتقد حينها أن الثروة التي سننتجها ليست في قيمة الثمرة بقدر ما هي في وعي الزارع وفكر المستفيد.(/1)
من يوقف نزيف الغفلة ؟؟
الصفحة 2 لـ 2
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله .. أما بعد ..
لقد قرأنا في المقالة الماضية عن المخطط الماكر والعداء المستميت ، والحديث عن الهجمة الصليبية التي تُحاك خيوطها ، ويُستكمل كيدها ، والتي قد طبقت بعض حلقاتها وهي في طريقها إلى تطبيق الباقي ، وسمعنا على وجه الخصوص مكائد هذه الحملة الصليبية على بلاد الحرمين ، وما هي مساعيهم ومطالبهم . وبينا أن هذا ليس بغريب على أمة الصليب وحماة الصليب ، لكن الأشد من ذلك كله هو مواكبة هذه الهجمة لغفلة تامة من المسلمين إلا من رحم الله ، وبردة قلب وانعدام الغيرة على هذا الدين أن يطال بأذى ، أو يُمس جنابة بسوء ..
وحتى لا أكون أيها الإخوة ممن يلقي الكلام على عواهله دون إثبات أو دليل .. دعونا نستعرض حال المسلمين الآن مع هذه الهجمة الشرسة ، وهل أفاق المسلمون فعلا أو أحسوا بعظم الخطر أم لا ؟ لأبين لكم أن ما دمنا على هذا الحال فسيحقق العدو أحلامه وأهدافه وذلك عبر أمور ..
فمن مظاهر الغفلة عند المسلمين :
لقد هام أكثر المسلمين تطبيقاً لما بثه الأعداء من اليهود والنصارى لتخدير الشعوب المسلمة ، وإشغالها بما لا يحقق لها هدفاً ، أو يجلب لها انتصاراً ، أو يحقق لها رقياً بين الأمم ، فاشغلوا الأمة بتوافه الأمور ، كإقامة المسابقات والمباريات ، وإغراق السوق بالكم الهائل من المسلسلات والأفلام ، وانتشار القنوات الفضائية بكل ما تحمله من سقوط القيم والمبادئ ، والمتاجرة بالأجساد ، وغير ذلك من صور إلهاء الشعوب المسلمة عن قضاياها المهمة ..
وليس العجيب أيها الإخوة أن يبث الأعداء لنا ذلك ، لكن الأدهى والأمر أن يطبق هذا كله أكثر المسلمين دون وعي أو انتباه ، ولئن كان الاشتغال بهذه الأمور مقبولاً أو مستساغاً في حين وأن كان لا يستساغ فإنه في هذه الفترة الحرجة التي تمر بها الأمة لا يستساغ أبداً ..
ومن مظاهر الغفلة عند المسلمين : فشو المنكرات والمحرمات في أوساط المسلمين إلا من رحم الله ، والتهاون بالمعاصي ، والتساهل بما حرم الله سبحانه وتعالى ، ومن أعظم المحرمات والمنكرات الشرك ومظاهره ، والكفر بأنواعه ، مما تغص بها بلاد المسلمين إلا من رحم الله منهم .. فأضرحة وقبور ، ومقامات وزيارات بدعية ، واحتفالات صوفية ، إلى التعلق بالكافرين ، ومحبتهم ونصرتهم ، والمسارعة في إرضاءهم ، فكيف تتوقع النصر أمة هذا ديدنها ، وتعاملها مع ربها ، ناهيك عن تضييع الصلاة عن وقتها .. انظر لشوارع المسلمين وطرقاتهم إذا نادى المنادي إلى الصلاة لتراها على اكتظاظها وزحامها ولا كأن منادي الصلاة يناديهم ، ولكن انظر إليها مرة أخرى لو أقيمت مباريات أو مسابقات ، أو عرض مسلسل هنا أو هناك ، لتراها عكس ذلك تماماً ، ناهيك عن الذين في بيوتهم ويسمعون النداء بالصلاة ومع ذلك يبقون في بيوتهم ، لا يحركهم النداء إلى الصلاة . ففي كل حي عشرات من الناس الذين لا يشهدون الصلاة مع المسلمين ، كيف سينصرون الله ونحن لم ننتصر على أنفسنا في أمور يسيرة كهذه ، ناهيك عن الليالي الحمراء ، والتي تدار فيها المحرمات والمسكرات ، والأغاني والقينات ، التي هام في لياليها أكثر شباب المسلمين ، كيف تنتصر الأمة وهي تفجع بحماتها ، بقلبها النابض ، بشبابها الذين هم أولى أن يعيشوا لدينهم ، وينافحوا عن عقيدتهم ، وأن يحموا الديار ، ووالله لو علمت دولة الصليب وهي تهجم على بلاد المسلمين أن ستجد شباباً قاموا بحق الله ، ولم يستسلموا للشيطان ، وعاشوا هم هذا الدين ، والدفاع عن حماه ، فلا والله لن تتجرأ أبدا أن تخوض حرباً مع المسلمين ..
ومن طريف ما يذكر .. أن ملك الروم أراد الهجوم على بلاد الأندلس (ردها الله) فأرسل رجلاً لينظر ما هي اهتمامات شباب المسلمين وطموحاتهم هناك ، فلما جاء هذا الرجل وجد فتى يبكي ..
قال : له ما يبكيك ؟
قال : أبكي لأني لم أصب الهدف ، وكان يتدرب على الرماية ..
فقال له : وما يضرك ؟ ارمِ مرة أخرى تصيب الهدف ..
قال : ولكن عدو الله لا يمهلني ، فإذا لم أصبه لأول مرة فإنه سيقدر على قتلي ..
فرجع الرجل إلى ملك الروم فقال : لا أرى أن تدخل الآن ..
فمضى زمن ثم عاد الرجل ليرى فتى آخر يبكي .. فسأله : ما يبكيك ؟ وظنه كسابقه ..
فقال : لقد وعدت صديقتي هاهنا ولم تأتي ، فأنا حزين على تركها لي ..
فقال لملك الروم الآن الآن .. وفعلاً بسطوا نفوذهم على بلاد الأندلس أندلس الإسلام ..
وهكذا دائماً أيها الإخوة .. فمتى ما استطاع الأعداء إضاعة شباب الأمة ، فقد استطاعوا ولا شك بسط نفوذهم ، واستيلاءهم على بلاد المسلمين ..(/1)
وانظروا مرة أخرى لأسواق المسلمين ، ولأوساط النساء بالذات ، لترى ما يندى له الجبين ، وتتقطع لأجله الأفئدة ، فمظاهر التبرج والسفور الذي بدأ يظهر في مجتمعنا بعد أن لم يكن ، ومظاهر إظهار الزينة ، والخضوع في القول ، إلى البروز في طرقات المسلمين بلباس ملفت ، بحجة الرياضة ، وتحريك البدن ، ونحن نعلم يقيناً أن هذا بداية الهاوية ، لأن المرأة هي صمام الأمان في هذه الأمة ، متى فسدت فسد المجتمع وضاع ، وصدق الصادق المصدوق إذ يقول : ( إياكم والنساء ، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء ) .
أين نساء المسلمين اللاتي كن يربين أبناءهن على الجهاد في سبيل الله ، وإرخاص النفس لإعلاء كلمة الله ، أين أمثال الخنساء التي قدمت أربعة من أولادها في سبيل الله في معركة القادسية ، وقبل بدء المعركة قالت لهم : ( إنكم أسلمتم طائعين ، وهاجرتم مختارين ، اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون ، فإذا رأيتم الحرب قد شمرت عن ساقها وجللتم ناراً على أرواقها ، فيحموا وطيسها ، وجالدوا رسيسها تظفروا بالغنم والكرامة في دار الخلد والمقامة ) .
فلما كشرت الحرب عن نابها ، تدافعوا إليها وتواقعوا إليها حتى تساقطوا واحداً تلو الآخر .. فلما أُخبرت بعد المعركة بمقتلهم قالت : الحمد لله الذي شرفني بقتلهم ، وأرجو من الله أن يجمعني بهم في مستقر الرحمة ..
أين نساء اليوم من أسماء أم عبد الله بن الزبير ، التي قالت لولدها عبد الله بن الزبير حينما أراد الجهاد ، فلمست صدره ، فوجدت درعاُ ، قالت : ما هذا يا عبد الله ؟ قال : هذا درع يا أماه .. قالت : ما هذا بلباس رجل يريد الشهادة في سبيل الله !!
نعم بهذه المعاني كن يربين أبنائهن ، فكيف تنصر الأمة ونساؤها ذبن تقليداً للشرق والغرب ؟ كيف تنصر الأمة ونساؤها بهذه الصورة من لبس ما حرم الله ؟
دعونا نكون صرحاء مع أنفسنا أكثر ، ولست أقول هلك الناس ، ولكن هو واقع ومن الخطأ تجاهله ، والناصح الذي يضع اليد على الجرح خير من الذي يؤمل الأمة بآمال ، ويعلقها بخيالات هي منها بعيدة ، إنها سنة في كتاب الله لن تتغير ولن تتبدل أبدا ..
أيها الإخوة .. (( إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ )) إن هذا التسلط الكافر ، والتهديد المستمر على بلاد المسلمين ، ووجود العدو جاثماً على أراضي المسلمين ، لن يزيله إلا بالعودة إلى الدين ، العودة إلى الله ، وإني أدعوا بدعوة عامة إلى كل من يبلغه كلامي ، من حاكم ومحكوم ، ورئيس ومرؤوس ، وصغير وكبير ، وذكر وأنثى ، أدعوهم ونفسي إلى تجديد التوبة ، وأدعوهم إلى تقوى الله ، والتعلق بالله ، وترك الذنوب والمعاصي ، فهي السبب في كل ما جرى وسيجري ، أدعوهم إلى سنة التضرع التي لن تظهر في أوساط الناس مع هذا البلاء المتتابع .. قال تعالى : (( فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ . فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ )) .
أدعوهم بتحقيق العبودية لله رب العالمين ، أدعوهم بأن الناصر هو الله وحده ، وإذا لم ننصر الله فلن ينصرنا أحد ، وستبقى تتخبطنا شياطين الإنس من اليهود والنصارى ، ويسبوننا في كل جانب .
متى تفيقي يا أمتي ؟
إلى متى هذه الغفلة ؟
إلى متى موت الغيرة وبرودة القلب على أهله ؟
إلى متى ولا هم لأحدنا إلا خاصة نفسه ، ولا عليه بعد ذلك أنُصر الدين أم هُزم ما دامت دنياه صحيحة ، وحياته مريحة ، وما علم المسكين أن السنة التي حاقت بهؤلاء ستحيق به إن لم يسارع لنصرة هذا الدين ، ويذود عن حماه ؟
إلى متى يا أمتي وهذا التقحم في معاصي الله ، وفي ما يغضب الله جل جلاله ؟
إلى متى هذا الضياع يا شباب الإسلام ؟
إلى متى هذا السفور يا أمة الله ؟
إلى متى ينشغل المسلمون بما يضيع عليهم دينهم ودنياهم ؟
انزعي ثوب الغفلة يا أمتي ، وأوقفي هذا النزيف ، وأزيلي عنك دثار الذل والخنوع ، وتقنعي بثوب الحق ، فإن الأمور ستقدم على أمور مهولة ، وإننا لنرى والله تعالى أعلم على الأبواب ، وأما الصغرى فقد انتهت منذ زمن وما زلنا في بعضها نسير ..(/2)
قال مرعي الحنبلي المتوفى سنة 1730هـ في كتابه أشراط الساعة : وأما العلامات الصغرى فقد انتهت منذ زمن ، ونحن في انتظار كبارها ، فالله المستعان إذا كان رحمه الله يقول ذلك وقد توفي في القرن الحادي عشر ، فكيف بعهدنا هذا الذي نراه والله أعلم يقترب من علامات الساعة الكبرى شيئاً فشيئاً ، فإلى الثبات يا أمة الإسلام ، فإن العلامات الكبرى إذا وقعت فهي كالخرزة انقطع سلكها فتتابع ، فإن المرء لا يدري ربما يفتن في تلك العلامات ، ويضل عن دينه مع ظهور هذه الفتن ، فإن الثابت على دينه ذلك الزمن لقليل .. فقد ثبت عن المسيح الدجال أنه يتبعه كثير ويتأثر بدعوته ويفتن به كثير ، فقد جاء في مسند الإمام أحمد بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( ينزل الدجال في هذه السبخة بمر قناة (وادي قرب المدينة) فيكون أكثر من يخرج إليه النساء ، حتى أن الرجل يرجع إلى حميمة وإلى أمه وابنته وأخته وعمته فيوثقها رباطاً مخافة أن تخرج إليه ) ، وثبت من عظم هذه الفتنة أن الشخص لا يأمن على نفسه ، فقد روى الإمام أحمد وأبو داوود وصححه الحاكم في المستدرك عن عمران بن حصين قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من سمع بالدجال فلينأ عنه ، فو الله أن الرجل ليأتيه وهو يحسب أنه مؤمن فيتبعه مما يبعث به من الشبهات) فالذي لم يثبت أمام هذه الفتن الصغيرة فكيف سيثبت أمام هذه الفتن القادمة العظيمة ، واعلم أن الناجين المنصورين هم الذين جاهدوا وصبروا على طاعة الله ، وصدق الله إذ يقول : (( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ )) .
أما كيف نتصدى لهذا الهجوم الظالم على الإسلام والمسلمين ، فإن أحداً من المسلمين لن تعجزه الطريقة المشروعة لنصرة هذا الدين ، وحماية أرضه ، ولكني أقترح وأذكر ببعض الأمور على سبيل الإجمال ، وذلك بعد تحقيق التوبة العامة والخاصة ، وعلى مستوى الأفراد والشعوب ، واستمداد النصر من الله العلي القدير ، والسعي الحثيث لإقامة دينه ، وتحكيم شرعه في أرضه وتحت سماءه ..
أول هذه الأمور :
بذل الوسع والجهد كل بحسبه لنصرة هذا الدين ، فالإعلامي مطالب أن ينافح عن هذا الدين من خلال منبره الإعلامي ، والطبيب هو الآخر مطالب أن يدافع عن هذا الدين وينصره ما استطاع ، وكذلك المهندس والرياضي والتاجر إلى غير ذلك من أبناء هذه الأمة ، الكل يسعى لنصرة هذا الدين ، إن أمريكا ما خاضت هذه الحروب إلا بعد إعداد تام ، وتأهب مستمر ، وبعد أن بثت أقمارها الصناعية على العالم كله ، وقوت ترسانتها العسكرية ، وبعد أن أوجدت لها أنصاراً هنا وهناك ، وبعد هذا الإعداد الطويل تقدمت لتحقيق أهدافها ، نحن نريد الأمة أن تتحد جهودها ، وتجمع كوادرها ، ويتحد مفكروها وعلماؤها لانتشالها من هذا الحضيض ، واذا لم تتلاقح الأفكار ، وتجمع العقول ، لانتشال هذه الأمة فستبقى مهددة في كل حين وحين .
ثانياً : يجب أن نشارك جميعاً على توعية الأمة ، يجب على العلماء والدعاة والمصلحين والأئمة والخطباء والمربين أن ينشروا الوعي لدي المسلمين ، فيوقظوا في الأمة حسها الديني ، ويحركوا حميتها الإسلامية ، ويوقظوا هذه الأمة من سباتها العميق ، لتقف أمام هذا المارد الذي لا يرحم .
ثالثاً : دعوة للمربين والمصلحين والمعلمين وللآباء خاصة أن يربوا الشباب والناشئة على معالي الأمور ، وعلى الغيرة على هذا الدين ، والذود عن حماه ، فإن الجيل القادم والله أعلم إن يكن هذا الجيل ، سيعيش أحداثاً عظيمة ، فيجب أن يعد لمثل هذا ..
رابعاً : فضح المنافقين ، ودعاوي المبطلين ، وهتك أستار أفراخ الاستعمار ، وبيان خبثهم ، وأنهم امتداد لأولئك الذين قال الله عنهم : (( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ )) فإن هذا نوع من الجهاد عظيم ، جهاد مراغمة الشيطان وحزبه من أعظم الجهاد في سبيل الله ولإعلاء كلمة الله .
خامساً : إقامة شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فهي صمام الأمان ، كيف لا وقد أخبر الله سبحانه أن الأمة الصالحة المصلحة لا تهلك ، فقال عز من قائل : (( فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ )) .
سادساً : دعم قضايا المسلمين ، ورفع الضراء عنهم ، ونصرتهم بما نستطيع ، ومن ذلك إعانتهم بالمال ، ودعم أنشطة الخير هنا وهماك ، وتفعيل دور الدعاة ، ودعم نشاطاتهم ليستمر العمل ، ودعم المسلمين في كل مكان وزمان ، وخاصة المجاهدين على الثغور .(/3)
سابعاً : استمرار الدعاء والتضرع إلى الله أن يكشف هذه البلوى ، وأن يظهر هذا الدين أهله ، وأن يرد كيد الأعداء في نحورهم ، لنستمر في الدعاء ، ولنؤمل من الكريم الإجابة ، فإن الله لا مكره له .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ،،،(/4)
مناجاة في أرض الحرم
بقلم: مصطفى محمد الطحان
soutahhan@hotmail.com
في الطريق إلى مكة لأداء فريضة الحج أو سنة العمرة.. يمرّ المعتمر بأرض قفراء وجبال سوداء.. وهو يردد: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك).. وما أن يردد هذه التلبية الخاشعة العظيمة حتى تنزاح عن خاطره جميع الأفكار والرؤى الدنيوية.. وينتقل مباشرة إلى مشهد آخر.. مشهد سيدنا إبراهيم عليه السلام وهو يستجيب لأمر ربه.. فيترك زوجه هاجر وابنها إسماعيل، في أرض مكة الموحشة، الخالية من الناس والزرع والماء، ويترك معها جراباً فيه قليل من التمر، وسقاء فيه قليل من الماء، ثم يقفل راجعاً إلى أرض فلسطين.
كيف يتركهم إبراهيم في مثل هذه الأرض الخلاء.. الموحشة..؟
من أين يأكلون أو يشربون..؟!
كيف يعيش الطفل وهو ما زال يحبو، في مثل هذه الظروف الصعبة..؟
ولكن الأنبياء العظماء لا يفكرون بمثل هذه الطريقة.. فهم يأوون إلى ركن شديد.
وتسأله هاجر وقد تعلقت به ترجوه أن لا يتركهم: آلله أمرك بذلك؟
قال: نعم. قالت: إذن فلن يتخلى عنا، ولن يضيعنا أبداً..
وانكفأت راجعة إلى صغيرها..
وينطلق إبراهيم.. وهو يخشى أن ينظر إليهما فيضعف أمام هذا المشهد الصعب.. حتى إذا وصل إلى منعطف بحيث لا يراهم ولا يرونه.. رفع يديه إلى السماء.. وهتف يدعو الله قائلاً: { رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ } (1).
بهذا النداء الدامع.. وبهذه الصلة الخاشعة مع رب العالمين.. أكمل إبراهيم طريقه وهو مطمئن إلى رعاية الله لطفله وزوجته..!
وكذلك فعلت الأم العظيمة هاجر.. اطمأنت إلى قدر الله وأيقنت أن الله لن يضيعهم.. ولكن الطفل يبكي يريد الطعام.. ويريد الشراب.. ومن أين ذلك وهم بواد غير ذي زرع..؟!
وتنظر هاجر إلى جراب التمر.. وإلى سقاء الماء وهو يتناقص قليلاً قليلاً حتى نفذ.. وأصبحت ولا طعام عندها ولا شراب. ولم تجزع الأم العظيمة ولم تيأس.. وظلت صابرة على الجوع والعطش وهي في كل لحظة تنتظر فرج الله ورحمته..
وطال بها الانتظار، وتمادى بها الصبر، واشتد بها الجوع والظمأ.. وبدأ الطفل يتلوى من الألم، ويئنُّ أنيناً يفظّر القلب، وأمه تنظر إليه حائرة، لا تدري ماذا تفعل..
وانطلقت الأم تبحث عن أي شيء يسعف الطفل.. هي تعرف أنها بأرض خلاء قفراء.. لا ماء فيها ولا كلأ.. ومع ذلك فهي تصعد إلى الصفا، وكان أقرب جبل لها، تنظر حولها فلم ترَ أحداً.. ثم تهرول إلى بطن الوادي.. ثم إلى المروة.. هكذا سبع أشواط.. وهي تجري مكروبة ملهوفة.
وفي نهاية الشوط السابع.. عند المروة.. خارت قواها.. وهي تنظر تارة حولها لعلها تجد أحداً يسعفها.. وتنظر تارة إلى طفلها فتجده يفحص برجله من الجوع والعطش..
وجاءها الفرج الذي كانت متأكدة أنه سيأتي، وإذا بجبريل يناديها: من أنت؟ قالت: أنا هاجر أم ولد إبراهيم، قال: فإلى من وكلكما في هذا المكان القفر؟ قالت: وكلنا إلى الله. قال: وكلكما – إذن – إلى الرؤوف الرحيم.
ونظرت هاجر إلى الطفل.. فإذا الماء ينبثق من بين أصابعه متدفقاً فواراً. فكبرت هاجر، وانكبت على الماء تحوشه بيدها وهي تقول: (زم. زم) وجعلت تغرف منه في سقائها.. وهو يفور ويفور.
وهكذا سقت هاجر رضيعها، وأروت ظمأها، وسجدت لله شكراً على ما أدركها به من الغوث والرحمة.
وهكذا هو الإنسان.. إذا وصل إلى هدفه.. يتطلع إلى هدف آخر.. لقد انبثق الماء بين يدي الغلام.. ولكن هل بالماء وحده يحيا الإنسان.. إنها تتطلع إلى الأنس.. إلى جماعة من الناس يزيلون عنها وحشة العزلة والانفراد..
ولم يطل حزنها هذه المرة فهي تعلم أنها بكنف رب رؤوف رحيم.. يعرف ما يجول بنفسها وما تتطلع إليه..
في ذلك الوقت كانت قبيلة من قبائل العرب، تسمى قبيلة جرهم تسير عبر الصحراء، متجهة إلى الشمال، فرأوا طائراً يحلق فوق زمزم، فقال قائلهم: لا شك أن هاهنا ماءً قريباً، فإن الطيور لا تحلق إلا حيث يكون الماء.. فأرسلوا واردهم يبحث عن ذلك الماء، حتى اهتدى إلى مكان النبع.. فانقلب إلى أصحابه يبشرهم.. فأقبلوا مسرعين، فلما رأوا هاجر.. استأذنوها في النزول عند مائها، فأذنت لهم، فنزلوا.
وهكذا نزلت قبيلة جرهم عند ماء زمزم، وأنست بهم هاجر وأنسوا بها، وشبّ إسماعيل بينهم، وتعلم منهم لغة العرب.. وعندما كبر تزوج إحدى بناتهم.. ومن هذا النسل المبارك كان سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم -..(/1)
ويصل المعتمر إلى مكة المكرمة.. ويتوجه من فوره إلى المسجد الحرام ونفسه تهفو إلى الكعبة.. الآلاف المؤلفة هنا في المسجد.. يصلون.. أو يقرأون القرآن.. أو يطوفون بالبيت.. ويدعو الزائر بالدعاء الذي علّمه لنا النبي - صلى الله عليه وسلم -: (اللهم زد هذا البيت تشريفاً، وتعظيماً، وتكريماً، ومهابة، وزد من شرفه وكرمه ممن حجه أو اعتمره، تشريفاً وتكريماً وتعظيماً، وبراً)(2).
ويصل المعتمر وهو يطوف بالبيت، إلى محاذاة الحجر الأسود فيقول: (بسم الله، والله أكبر، اللهم إيماناً بك، وتصديقاً بكتابك، ووفاء بعهدك، واتباعاً لسنة نبيك محمد - صلى الله عليه وسلم -).
وفي الطواف.. يصادفك مقام إبراهيم وحجر إسماعيل.. فيتغير المشهد أمامك.. ها هو إبراهيم عليه السلام يتلقى أمر ربه أن يبني بيتاً لله عند ماء زمزم { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ . فِيهِ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آَمِنًا } (3). ويشد إبراهيم الرحال إلى مكة.. ويلقى إسماعيل فيخبره أن الله عهد إلينا أن نبني له بيتاً في هذا المكان، { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } (4).
فلما ارتفع البناء عن قامة سيدنا إبراهيم، وصار أعلى من أن تناله يده، جاء إسماعيل بحجر كبير، فجعله مقاماً لأبيه، فوقف عليه إبراهيم، وجعل يبني ويدور به حول الجدار، حتى أتم بناء البيت.
عندئذ، توجه إبراهيم وإسماعيل إلى الله يدعوان: { رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ . رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ . رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } (5).
وأوحى الله إلى إبراهيم أن يؤذّن في الناس بالحج. قال إبراهيم: وما عسى أن يبلغ صوتي إذا أنا أذنت يا رب؟ فقال له ربه: إنما عليك الأذان وعلينا البلاغ. فارتقى إبراهيم جبلاً عالياً‘ وجعل ينادي بأعلى صوته: (يا أيها الناس، إن الله كتب عليكم الحج إلى بيته فحجّوا).. فجعل صوته يدوّي في الآفاق، فيسمعه كل من أراد الله له الحج، فيقول: (لبيك اللهم لبيك).
ويريد سيدنا إبراهيم أن يطمئن على مستقبل الدعوة عند بيت الله الحرام.. فيدعو ربه: { رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آَمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ } (6).. ويستجيب رب العالمين دعوة إبراهيم.. فيجعل مكة بلداً حراماً، لا يحل فيها القتال، ولا يصاد طيرها ولا حيوانها، ولا يقطع شجرها ولا يختلى خلاها، وجعل أشهر الحج أشهراً حرماً، لا رفث فيها ولا فسوق، ولا خصام ولا جدال، وأرسل الله إلى إبراهيم ملكاً من السماء، فعلّمه مناسك الحج، فجعل إبراهيم يعلمها للناس.
من أجل ذلك صار هذا البيت مهوى الأفئدة، وقبلة الأنظار، يتوجه إليه كل مسلم في أي مكان كان من أنحاء الدنيا.. عندما يتعبد ويصلي.. { وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ } (7).
ولا يستطيع المعتمر أن يدرك عظمة هذه المناسك، ما لم يعش قصة أمنا هاجر وسيدنا إسماعيل، ومعاناة الأم من أجل وليدها، وقصة سيدنا إبراهيم وهو يترك ابنه وزوجه في أرض بعيدة لا ماء فيها ولا شجر ولا طعام..
وقصة بناء البيت.. والحج.. ومقام إبراهيم.. وحجر إسماعيل.. وزمزم قصة خالدة.. خلّدها الله فجعلها عبادة للمؤمنين.
الهوامش:
(1) إبراهيم- 37.
(2) رواه الشافعي مرفوعاً إلى النبي r.
(3) آل عمران- (96-97).
(4) البقرة- (127).
(5) البقرة- (127-129).
(6) البقرة- 126.
(7) البقرة- 144.(/2)
مناجاة
شعر : محمد المجذوب
تبارك ربي.. لو درى الناسُ iiفضله
فما قيمةُ النعمى إذا لم يطف iiبها
ومنذا يصون النفس من جارف iiالهوى
تطيش حلوم الخلق حتى iiتردهم
ولولا قبيحُ الجدبِ يفتك بالثرى
فيا ربِّ ألهمني لك الشكر iiخالصاً
فما خيرُ قلبٍ لا يذيب iiشغافه
وشلَّ لسان ليس يصفيك iiشكره
فكل رجاء في سواك ضلالة
ولولا فيوض من حنانك في iiالورى
هُديتُ لهذا بعد شيبي iiفليتني ... بما يبتليهم أولعوا iiبالمصائب
من البؤس في الأحيان بعضُ المصائب!
إذا لم تَذُقْ حرمانَ بعض iiالرغائب!
إلى الله.. بعد الكفر – أيدي iiالنوائب
لما أبصرت عينٌ جمال السحائب
وهب لي جميل الصبر في كل iiنائب
هواك فينسى فيك كل الحبائب!
على كل حال بين راجٍ iiوهائب!
وراجيك ربي وحده غير خائب
لأصبح هذا الكون بعض الخرائب
أبهتُ لشأني قبل فقد الشبائب(/1)
مناسك الحج إنجاز في العمل وضبط للمواعيد
أ.د/ناصر بن سليمان العمر 7/12/1423
08/02/2003
عجيب أمر هذا الدين، إنه دين عملي واقعي، بعيد عن المثاليات والتنظير، مع العظمة والسمو والكمال، تنزيل من حكيم حميد.
لقد بعث الله محمداً –صلى الله عليه وسلم- في أمة كانت تعيش قمة الفوضى والجهالة، وقلة الإنتاج، عالة على غيرها؛ اعتداء، أو استجداء، أو تكسباً، ليس لديها ما تقدمه للآخرين سوى وجود بيت رب العالمين في أرضها، وهذا لا فضل فيه ولا منة، بل هو تقدير واختيار الحكيم العليم.
وما هي إلا سنوات معدودة، من بعثة النبي الكريم –صلى الله عليه وسلم-، فإذا أولئك القوم يصبحون مضرب المثل في القدوة والجهاد والإحسان للآخرين، وبذلك استحقت أن تكون:" خير أمة أخرجت للناس".
ما سرُّ ذلك؟ وأين تكمن الحقيقة؟ وكيف الوصول إلى هذه القمة الشمّاء؟ إنه بكلمة واحدة: الالتزام العملي بالكتاب والسنة، وتحويل (نصوصهما) إلى واقع حي يمشي على الأرض.
دعونا نقرب المسألة أكثر فنقول: لو أن رجلاً ذهب إلى أبرع المهندسين، وأقواهم رؤية وتخطيطاً، ثم صمّم له بيتاً؛ يحسده من نظر إليه؛ لجماله وحسن مرآه، ولكن ذلك الرجل اكتفى بهذا المخطط، ولم يضع منه لَبِنَةً على الأرض، هل يقيه ذلك من الحر أو البرد؟ أو يحميه من العدو وهوام الأرض؟.
وهب أنه نفّذه تنفيذاً قاصراً، بخلاف ما رسمه له مصممه، كيف سيكون شكله؟ وهل سيتحقق الغرض من بنائه؟ بل قد يخرّ عليه السقف من فوقه فيكون فيه هلاكه وذهاب حياته، وسيقول له الناس: على نفسها جنت براقش، ويداك أوكتا وفوك نفخ، وهذه حال كثير من الناس –اليوم-، فمنهم المسلم بالاسم، ويصدق عليهم ما صدق على الأعراب من قبل:" قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا"، وآخرون "خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً عسى الله أن يتوب عليهم"، وفئة اقتفت الأثر، وسارت على الطريق وقليل ما هم، " وقليل من عبادي الشكور".
وبالجملة "فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير". وأمتنا –اليوم- أحوج ما تكون إلى القوة، والانضباط، والاستغناء عن الآخرين، وبالأخص عن أعدائها؛ استعداداً للمعركة الفاصلة، مع هذا العدو الشرس الذي كشّر عن أنيابه، وأعلن عن أهدافه، فلم يعدِ الأمرُ سرّاً، ولا يحتاج إلى فراسة أو تنبّؤ، "قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر"، وتكافؤ المعركة يُوجب:" وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل تُرهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم".
إن هذا الدين سهلٌ ممتنع، يسير وعظيم، إنه مدرسة كبرى تتربى فيها الأجيال، ويعدّ فيها عظماء الرجال، تلك المدرسة التي خرّجت أبا بكر، وعمر، وعثمان، وعلياً، وسعداًَ، وخالداً، والمثنى، وأبا عبيدة، وأفذاذ الرجال من الصحابة والتابعين وخير القرون المفضلة –رضي الله عنهم أجمعين-.
إننا ونحن نعيش هذه الأيام –هذا الموسم العظيم- موسم الحج؛ الذي قال الله فيه:" ليشهدوا منافع لهم" بأمسّ الحاجة لتدارسه، واستخراج ما فيه من كنوز ودرر حتى لا يكون مروره كضيف عابر؛ مرّ مرور الكرام مر في أعوام خلت، وأزمان مضت.
ولأن هذه المساحة لا تتسع لبيان ما فيه من منافع تربو على الحصر، وبخاصة أن غيري قد يتناول منها ما يفتح الطريق، ويدل الناس إلى سواء السبيل.
لذا فسأكتفي بالإشارة -التي تناسب المقام- إلى أمر عظيم من تلك المنافع الكبرى، وهو ما يتعلق بالإنجاز، وضبط المواعيد؛ وذلك لسببين:
الأول: أن الأمة الإسلامية تعيش -منذ سنوات طويلة- في فوضى وبطالة وقلة إنتاج مع ما حباها الله من إمكانات هائلة؛ مادية ومعنوية، دينية ودنيوية، لا توجد عند غيرها من الأمم، ولذلك فهي اليوم عالة على غيرها، وبالأخص على عدوها، في أهم شؤونها، من مأكلها ومشربها وصنائعها وثقافتها، بل وعدّة جهادها، حتى أصبحت تلك الأمم قدوتها، وملاذها ومطلب الحماية منها –إلا من رحم ربي- وبالله عليكم كيف نرجو النجاة:(إن يكن الذئب راعي الغنم)؟؟.(/1)
الثاني: بروز هذا الأمر -إنجاز العمل العظيم الكثير، في وقت قصير وظروف صعبة- وضبط المواعيد، وأداء الأعمال في أوقاتها، بدقة متناهية، تصل في بعضها إلى أن الدقائق مؤثرة في صحة العمل وسلامته، أو في فضله وكماله، قال جابر:" فلم يزل واقفاً –أي عند المشعر الحرام- حتى أسفر جداً فدفع قبل أن تطلع الشمس". ومع بيان هذا الجانب ووضوحه في جميع أركان الإسلام، وبخاصة الصلاة، إلا أنه في الحج أكثر بروزاً وأثراً وجلاء، وستكون تلك الوقفات مختصرة، تناسب المقام وتدل على المقصود، والحر تكفيه الإشارة، وسأكتفي من القلادة ما أحاط بالعنق، فليس المراد هو الحصر والاستقصاء، وإنما المهم هو التذكير والاعتبار، ومراجعة النفس، واستثمار هذه الفرص العظيمة، والمواسم الجليلة، وتحويلها من نصوص، وعادات وأشكال إلى عبادة خالصة وواقع علمي، وأثر تربوي، وكائن يمشي على الأرض، فـ:"إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" وإليكموها، -بارك الله فيكم-، وتقبّل منا ومنكم:
1)بادئ ذي بدء فـ"الحج أشهر معلومات" ليس في كل وقت وحين، كالعمرة وكثير من العبادات، بل حددت بدايته ونهايته، ورسم لكل نسك وقت يناسبه، ويكون فيه أداؤه، لا يصح قبله ولا بعده، وهو على أنواع، فمن تلك المناسك ما هو واسع الوقت، يصح تقديمه أو تأخيره، ولكنه ضمن دائرة التحديد، لا يتجاوز أشهر الحج وأيامه، كسعْي الحج للقارن والمفرد، ومنه ما هو مضيق الوقت محدد الساعات، لا يصح أداؤه في غير تلك الساعات المحددة له، وقد يترتب على ذلك فوات الحج أو نقصانه "الحج عرفة"، "وقفت ههنا وجمع كلها موقف"، وفي حديث عروة بن مضرس، قال-صلى الله عليه وسلم-:"من شهد صلاتنا هذه –يعني بالمزدلفة- فوقف معنا حتى دفع وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهاراً فقد تم حجه وقضى تفثه". وبينهما واجبات وأركان تتفاوت مددهما، ووقت أدائهما؛ كطواف الإفاضة ونحر الهدْي...وهلمّ جرّاً.
2)تأمل معي-بارك الله فيك- أيام الحج الخاصة، ابتداء من يوم الثامن –يوم التروية- إلى اليوم الثالث عشر آخر أيام التشريق، ستة أيام فقط إذا أردنا مراعاة الأفضل والأكمل، وإلا فهي ثلاثة أيام بلياليها، بل أقل من ذلك حيث لا تزيد على (60) ساعة؛ لمن أراد الاقتصار على الواجب دون سواه، ومع ذلك كم يُنجز في هذه الأيام، أو بالأصح في هذه الساعات من أعمال عظيمة، لو ترك الأمر لاختيار المسلم وظروفه لربما بقي عشرات الأيام لم ينجزها، إن لم تكن شهوراً أو أعواماً؛ ممن طبيعتهم التسويف والتأجيل، وتأخير عمل اليوم إلى الغد، وقد تأتيه منيّته قبل أن يجيء غده.
وأشير إلى أهم تلك الأعمال؛ ابتداء من الإحرام يوم التروية، ثم الانتقال إلى منى والمبيت، ثم الذهاب إلى عرفة وما فيها من أعمال عظيمة ترتبط بعاجل المسلم وآجله، ويأتي الذهاب إلى مزدلفة والمبيت فيها، ومن ثم الوقوف عند المشعر الحرام وما فيه من دعاء وابتهال، ثم الانصراف إلى منى والبدء في رمي الجمرة، ثم النحر والحلق والإفاضة، كل ذلك قد يكون في ساعات معدودة، وبقية أيام التشريق لها أعمال معروفة، ومع ضيق الوقت وقصره، فهو ليس بالعمل الهيّن ولا اليسير نظراً لا جتماع الناس وازدحامهم.
وبعد أن تنتهي أيام التشريق يتعجب المرءُ من نفسه!
هل حقيقة أدى تلك الأعمال الكثيرة العظيمة في تلك الأيام القصيرة؟ بل يجد لديه في أيام العيد والتشريق من الوقت والفراغ ما يستثمره في كثير من العبادات وطلب العلم وزيارة الحجّاج، مما ليس مفروضاً عليه، حيث تكون البركة، والحسنات بعضها يأخذ برقاب بعض، بل هناك من يمارس التجارة والتكسب مع قيامه بمناسك الحج أخذاً بقوله –تعالى-:" ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم".
ومن هنا فإن العبرة ليست بطول الوقت وقصره، وإنما بما يجعله الله فيه من بركة ونفع، ولذلك أسباب كثيرة كالإخلاص، والترتيب، والأخذ بالعزيمة والحزم، ولو فعلنا ذلك في كل أيامنا وليالينا لتغيرت أحوالنا:
نعيب زماننا والعيب فينا ... ...
وما لزماننا عيبٌ سوانا
ونهجو ذا الزمان بغير حق ... ...
ولو نطق الزمان بنا هجانا
3) ولننظر إلى هذه الدقة المتناهية في الالتزام بالوقت، وتأثير ذلك على العبادة؛ إما صحة أو كمالاً، فرسول الله –صلى الله عليه وسلم- يقف في عرفة ولا ينصرف حتى تغيب الشمس ويختفي القرص، مع حاجته الماسة، وحاجة الناس إلى أن يسيروا إلى مزدلفة في النهار، وما خيّر رسول الله –صلى الله عليه وسلم- بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً، وهو الذي قال:" خذوا عني مناسككم"، ولذلك فالقول الراجح: أن من انصرف قبل مغيب الشمس بدون عذر، ولم يرجع فقد أَثِمَ وعليه دم.
وفي مزدلفة يكون الانصراف –إن تيسر-بعد الإسفار جداً وقبل طلوع الشمس، وهو زمن يسير لا يتعدى دقائق معدودة؛ كما فعل رسول الله –صلى الله عليه وسلم-.(/2)
ورمي الجمار أيام التشريق يكون بعد الزوال ولا يكون قبله، فمن رمى الجمار قبل الزوال فعليه إعادة الرمي على القول الصحيح، إلا أصحاب الأعذار يوم الثاني عشر، فيجوز لهم التقديم، على القول الراجح.
ومن غابت عليه الشمس يوم الثاني عشر وتأخر في الخروج من منى بضع دقائق دون عذر؛لزمه المبيت ورمى الثالث عشر.
إنها تربية للمسلم على أداء الأعمال في أوقاتها وتعويد له على الدقة في الالتزام، وسرعة الإنجاز، وضبط المواعيد، "واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولاً نبيا"، وبعد:
إن من مقتضيات المرحلة المقبلة، والمواجهة المحتملة؛ الإعداد المتكامل، والتربية الشاملة، وبناء المجتمع على أصول أصيلة، وقواعد متينة، تحقيقاً لقوله –تعالى-:" وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة"، فمن الخطأ تغليب جانب على جانب، أو العناية بركن دون آخر، ومن أهم الميادين التي تتربى فيها الأمة تربية متكاملة متوازنة؛ أداء أركان الإسلام وواجباته كما شرع الله، " وما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضته عليه"، وهذه الشعائر والأركان ليست عبادات مجردة؛ لا علاقة لها بأمور دنياه، بل إن آثارها الدنيوية ظاهرة جلية، ولذلك قال –سبحانه-:" واستعينوا بالصبر والصلاة"، وقال:" إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر"، وقال:" ألا بذكر الله تطمئن القلوب".
وقال –صلى الله عليه وسلم-:" يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج –إلى أن قال- ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه لو وجاء".
فالارتباط وثيق بين أمور الدنيا والآخرة، بعضها آخذ برقاب بعض، والحج من أعظم تلك الميادين التي جمعت بين أمور الدين والدنيا، وتكاملت فيها العبادات القلبية، والبدنية، والمالية، بل هو نوع من أنواع الجهاد؛ كما ثبت عن المصطفى –صلى الله عليه وسلم- في حديث عائشة "جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة"، وبذلك نحقق أمر الله لأبينا إبراهيم –عليه السلام-:"وأذّن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق* ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام".
ومن أجل أن يكون الحج مقبولاً، ويؤتي ثماره في العاجل والآجل؛ لابد من التزام المنهج الصحيح، والحج كما حج رسول الله –صلى الله عليه وسلم- حيث قال:" خذوا عني مناسككم"، مع البعد عن تعقيد مناسك الحج والإتيان بتفصيلات لم ترد في السنة، والأحاديث الواردة في مناسك الحج محدودة، ومن أعظمها حديث جابر الصحيح، وكثير من كتب المناسك المتداولة، جعلت الحج شاقاً وعسيراً، بينما كان هدي النبي –صلى الله عليه وسلم-التيسير ودفع المشقة، "فما سئل –يومئذ- عن شيء عما يقدم أو يؤخر إلا قال افعل ولا حرج"، بل قال سبحانه":وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم".
وأنصح الشباب بالبعد عن الخلاف في المسائل الفرعية، فقد قال ابن مسعود –رضي الله عنه-:" الخلاف شر"، وكان ذلك في الحج في قضية إتمام الصلاة في منى أيام الحج.
تقبّل الله منا ومنكم، وجعلنا ممّن وصفهم بقوله –في آيات الحج-:" ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار* أولئك لهم نصيب مما كسبوا والله سريع الحساب".
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،،،،
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(/3)
مناسك الحج؛ إنجاز وضبط
7/12/1423
أ.د.ناصر بن سليمان العمر- المشرف العام على موقع المسلم
*عجيب أمر هذا الدين، إنه دين عملي واقعي، بعيد عن المثاليات والتنظير، مع العظمة والسمو والكمال، تنزيل من حكيم حميد.
لقد بعث الله محمداً - صلى الله عليه وسلم - في أمة كانت تعيش قمة الفوضى والجهالة، وقلة الإنتاج، عالة على غيرها؛ اعتداء، أو استجداء، أو تكسباً، ليس لديها ما تقدمه للآخرين سوى وجود بيت رب العالمين في أرضها، وهذا لا فضل فيه ولا منة، بل هو تقدير واختيار الحكيم العليم، وما هي إلا سنوات معدودة، من بعثة النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم -، فإذا أولئك القوم يصبحون مضرب المثل في القدوة والجهاد والإحسان للآخرين، وبذلك استحقت أن تكون:"خير أمة أخرجت للناس".
ما سرُّ ذلك؟ وأين تكمن الحقيقة؟ وكيف الوصول إلى هذه القمة الشمّاء؟ إنه بكلمة واحدة: الالتزام العملي بالكتاب والسنة، وتحويل (نصوصهما) إلى واقع حي يمشي على الأرض.
دعونا نقرب المسألة أكثر فنقول: لو أن رجلاً ذهب إلى أبرع المهندسين، وأقواهم رؤية وتخطيطاً، ثم صمّم له بيتاً يحسده من نظر إليه؛ لجماله وحسن مرآه، ولكن ذلك الرجل اكتفى بهذا المخطط، ولم يضع منه لَبِنَةً على الأرض، هل يقيه ذلك من الحر أو البرد؟ أو يحميه من العدو وهوام الأرض؟
وهب أنه نفذه تنفيذاً قاصراً، بخلاف ما رسمه له مصممه، كيف سيكون شكله؟ وهل سيتحقق الغرض من بنائه؟ بل قد يخرّ عليه السقف من فوقه فيكون فيه هلاكه وذهاب حياته، وسيقول له الناس: على نفسها جنت براقش، ويداك أوكتا وفوك نفخ، وهذه حال كثير من الناس –اليوم-، فمنهم المسلم بالاسم، ويصدق عليهم ما صدق على الأعراب من قبل:" قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا"، وآخرون "خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً عسى الله أن يتوب عليهم"، وفئة اقتفت الأثر، وسارت على الطريق وقليل ما هم، " وقليل من عبادي الشكور".
وبالجملة "فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير"، وأمتنا –اليوم- أحوج ما تكون إلى القوة والانضباط والاستغناء عن الآخرين، وبالأخص عن أعدائها؛ استعداداً للمعركة الفاصلة، مع هذا العدو الشرس الذي كشّر عن أنيابه، وأعلن عن أهدافه، فلم يعدِ الأمرُ سرّاً، ولا يحتاج إلى فراسة أو تنبّؤ، "قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر"، وتكافؤ المعركة يُوجب" وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل تُرهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم".
إن هذا الدين سهلٌ ممتنع، يسير وعظيم، إنه مدرسة كبرى تتربى فيها الأجيال، ويعدّ فيها عظماء الرجال، تلك المدرسة التي خرّجت أبا بكر، وعمر، وعثمان، وعلياً، وسعداًَ، وخالداً، والمثنى، وأبا عبيدة، وأفذاذ الرجال من الصحابة والتابعين وخير القرون المفضلة –رضي الله عنهم أجمعين-.
إننا ونحن نعيش هذه الأيام –هذا الموسم العظيم- موسم الحج؛ الذي قال الله فيه:" ليشهدوا منافع لهم" بأمسّ الحاجة لتدارسه، واستخراج ما فيه من كنوز ودرر حتى لا يكون مروره كضيف عابر مرّ مرور الكرام مر في أعوام خلت، وأزمان مضت.
ولأن هذه المساحة لا تتسع لبيان ما فيه من منافع تربو على الحصر، وبخاصة أن غيري قد يتناول منها ما يفتح الطريق، ويدل الناس إلى سواء السبيل.
لذا فسأكتفي بالإشارة -التي تناسب المقام- إلى أمر عظيم من تلك المنافع الكبرى، وهو ما يتعلق بالإنجاز، وضبط المواعيد، وذلك لسببين:
الأول: أن الأمة الإسلامية تعيش -منذ سنوات طويلة- في فوضى وبطالة وقلة إنتاج مع ما حباها الله من إمكانات هائلة؛ مادية ومعنوية، دينية ودنيوية، لا توجد عند غيرها من الأمم، ولذلك فهي اليوم عالة على غيرها، وبالأخص على عدوها، في أهم شؤونها، من مأكلها ومشربها وصنائعها وثقافتها، بل وعدّة جهادها، حتى أصبحت تلك الأمم قدوتها، وملاذها ومطلب الحماية منها –إلا من رحم ربي- وبالله عليكم كيف نرجو النجاة "إن يكن الذئب راعي الغنم" ؟؟
إن هذا الدين سهلٌ ممتنع، يسير وعظيم، إنه مدرسة كبرى تتربى فيها الأجيال، ويعدّ فيها عظماء الرجال(/1)
الثاني: بروز هذا الأمر -إنجاز العمل العظيم الكثير، في وقت قصير وظروف صعبة، وضبط المواعيد، وأداء الأعمال في أوقاتها، بدقة متناهية، تصل في بعضها إلى أن الدقائق مؤثرة في صحة العمل وسلامته، أو في فضله وكماله، قال جابر:" فلم يزل واقفاً –أي: عند المشعر الحرام- حتى أسفر جداً فدفع قبل أن تطلع الشمس" ، ومع بيان هذا الجانب ووضوحه في جميع أركان الإسلام، وبخاصة الصلاة، إلا أنه في الحج أكثر بروزاً وأثراً وجلاء، وستكون تلك الوقفات مختصرة، تناسب المقام وتدل على المقصود، والحر تكفيه الإشارة، وسأكتفي من القلادة ما أحاط بالعنق، فليس المراد هو الحصر والاستقصاء، وإنما المهم هو التذكير والاعتبار، ومراجعة النفس، واستثمار هذه الفرص العظيمة، والمواسم الجليلة، وتحويلها من نصوص، وعادات وأشكال إلى عبادة خالصة وواقع علمي، وأثر تربوي، وكائن يمشي على الأرض، فـ:"إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" وإليكموها، -بارك الله فيكم، وتقبّل منا ومنكم-:
(1) بادئ ذي بدء فـ"الحج أشهر معلومات" ليس في كل وقت وحين، كالعمرة وكثير من العبادات، بل حددت بدايته ونهايته، ورسم لكل نسك وقت يناسبه، ويكون فيه أداؤه، لا يصح قبله ولا بعده، وهو على أنواع، فمن تلك المناسك ما هو واسع الوقت، يصح تقديمه أو تأخيره، ولكنه ضمن دائرة التحديد، لا يتجاوز أشهر الحج وأيامه، كسعْي الحج للقارن والمفرد، ومنه ما هو مضيق الوقت محدد الساعات، لا يصح أداؤه في غير تلك الساعات المحددة له، وقد يترتب على ذلك فوات الحج أو نقصانه "الحج عرفة"، "وقفت ههنا وجمع كلها موقف"، وفي حديث عروة بن مضرس، قال-صلى الله عليه وسلم-:"من شهد صلاتنا هذه –يعني بالمزدلفة- فوقف معنا حتى دفع وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهاراً فقد تم حجه وقضى تفثه". وبينهما واجبات وأركان تتفاوت مددهما، ووقت أدائهما؛ كطواف الإفاضة ونحر الهدْي... وهلمّ جرّاً.
(2) تأمل معي-بارك الله فيك- أيام الحج الخاصة، ابتداء من يوم الثامن –يوم التروية- إلى اليوم الثالث عشر آخر أيام التشريق، ستة أيام فقط إذا أردنا مراعاة الأفضل والأكمل، وإلا فهي ثلاثة أيام بلياليها، بل أقل من ذلك حيث لا تزيد على (60) ساعة؛ لمن أراد الاقتصار على الواجب دون سواه، ومع ذلك كم يُنجز في هذه الأيام، أو بالأصح في هذه الساعات من أعمال عظيمة، لو ترك الأمر لاختيار المسلم وظروفه لربما بقي عشرات الأيام لم ينجزها، إن لم تكن شهوراً أو أعواماً؛ ممن طبيعتهم التسويف والتأجيل، وتأخير عمل اليوم إلى الغد، وقد تأتيه منيّته قبل أن يجيء غده.
إنها تربية للمسلم على أداء الأعمال في أوقاتها وتعويد له على الدقة في الالتزام، وسرعة الإنجاز، وضبط المواعيد، "واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولاً نبيا"
وأشير إلى أهم تلك الأعمال؛ ابتداء من الإحرام يوم التروية، ثم الانتقال إلى منى والمبيت، ثم الذهاب إلى عرفة وما فيها من أعمال عظيمة ترتبط بعاجل المسلم وآجله، ويأتي الذهاب إلى مزدلفة والمبيت فيها، ومن ثم الوقوف عند المشعر الحرام وما فيه من دعاء وابتهال، ثم الانصراف إلى منى والبدء في رمي الجمرة، ثم النحر والحلق والإفاضة، كل ذلك قد يكون في ساعات معدودة، وبقية أيام التشريق لها أعمال معروفة، ومع ضيق الوقت وقصره، فهو ليس بالعمل الهيّن ولا اليسير نظراً لاجتماع الناس وازدحامهم.
وبعد أن تنتهي أيام التشريق يتعجب المرءُ من نفسه! هل حقيقة أدى تلك الأعمال الكثيرة العظيمة في تلك الأيام القصيرة؟ بل يجد لديه في أيام العيد والتشريق من الوقت والفراغ ما يستثمره في كثير من العبادات وطلب العلم وزيارة الحجّاج، مما ليس مفروضاً عليه، حيث تكون البركة، والحسنات بعضها يأخذ برقاب بعض، بل هناك من يمارس التجارة والتكسب مع قيامه بمناسك الحج أخذاً بقوله -تعالى-:" ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم".
ومن هنا فإن العبرة ليست بطول الوقت وقصره، وإنما بما يجعله الله فيه من بركة ونفع، ولذلك أسباب كثيرة كالإخلاص، والترتيب، والأخذ بالعزيمة والحزم، ولو فعلنا ذلك في كل أيامنا وليالينا لتغيرت أحوالنا:
نعيب زماننا والعيب فينا وما لزماننا عيبٌ سوانا
ونهجو ذا الزمان بغير حق ولو نطق الزمان بنا هجانا
ولننظر إلى هذه الدقة المتناهية في الالتزام بالوقت، وتأثير ذلك على العبادة؛ إما صحة أو كمالاً، فرسول الله – صلى الله عليه وسلم- يقف في عرفة ولا ينصرف حتى تغيب الشمس ويختفي القرص، مع حاجته الماسة، وحاجة الناس إلى أن يسيروا إلى مزدلفة في النهار، وما خيّر رسول الله - صلى الله عليه وسلم- بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً، وهو الذي قال:" خذوا عني مناسككم"، ولذلك فالقول الراجح: أن من انصرف قبل مغيب الشمس بدون عذر، ولم يرجع فقد أَثِمَ وعليه دم.(/2)
وفي مزدلفة يكون الانصراف -إن تيسر- بعد الإسفار جداً وقبل طلوع الشمس، وهو زمن يسير لا يتعدى دقائق معدودة؛ كما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
ورمي الجمار أيام التشريق يكون بعد الزوال ولا يكون قبله، فمن رمى الجمار قبل الزوال فعليه إعادة الرمي على القول الصحيح، إلا أصحاب الأعذار يوم الثاني عشر، فيجوز لهم التقديم، على القول الراجح.
ومن غابت عليه الشمس يوم الثاني عشر وتأخر في الخروج من منى بضع دقائق دون عذرلزمه المبيت ورمى الثالث عشر.
إنها تربية للمسلم على أداء الأعمال في أوقاتها وتعويد له على الدقة في الالتزام، وسرعة الإنجاز، وضبط المواعيد، "واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولاً نبياً"، وبعد:
إن من مقتضيات المرحلة المقبلة، والمواجهة المحتملة الإعداد المتكامل، والتربية الشاملة، وبناء المجتمع على أصول أصيلة، وقواعد متينة، تحقيقاً لقوله - تعالى-:" وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة"، فمن الخطأ تغليب جانب على جانب، أو العناية بركن دون آخر، ومن أهم الميادين التي تتربى فيها الأمة تربية متكاملة متوازنة؛ أداء أركان الإسلام وواجباته كما شرع الله ، " وما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضته عليه"، وهذه الشعائر والأركان ليست عبادات مجردة لا علاقة لها بأمور دنياه، بل إن آثارها الدنيوية ظاهرة جلية، ولذلك قال –سبحانه-:" وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ" (البقرة: من الآية 45)، وقال: "إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ" (العنكبوت: من الآية45)، وقال: "أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ" (الرعد: من الآية28)
وقال – صلى الله عليه وسلم -:"يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج" إلى أن قال: " ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه لو وجاء".
فالارتباط وثيق بين أمور الدنيا والآخرة، بعضها آخذ برقاب بعض، والحج من أعظم تلك الميادين التي جمعت بين أمور الدين والدنيا، وتكاملت فيها العبادات القلبية، والبدنية، والمالية، بل هو نوع من أنواع الجهاد كما ثبت عن المصطفى – صلى الله عليه وسلم- في حديث عائشة "جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة"، وبذلك نحقق أمر الله لأبينا إبراهيم –عليه السلام-:"وأذّن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق* ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام".
ومن أجل أن يكون الحج مقبولاً، ويؤتي ثماره في العاجل والآجل لابد من التزام المنهج الصحيح، والحج كما حج رسول الله – صلى الله عليه وسلم- حيث قال:" خذوا عني مناسككم"، مع البعد عن تعقيد مناسك الحج والإتيان بتفصيلات لم ترد في السنة، والأحاديث الواردة في مناسك الحج محدودة، ومن أعظمها حديث جابر الصحيح، وكثير من كتب المناسك المتداولة، جعلت الحج شاقاً وعسيراً، بينما كان هدي النبي – صلى الله عليه وسلم- التيسير ودفع المشقة، "فما سئل – يومئذ - عن شيء عما يقدم أو يؤخر إلا قال: افعل ولا حرج"، بل قال – سبحانه-:"وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ" (الحج: من الآية78)
وأنصح الشباب بالبعد عن الخلاف في المسائل الفرعية، فقد قال ابن مسعود –رضي الله عنه-:"الخلاف شر"، وكان ذلك في الحج في قضية إتمام الصلاة في منى أيام الحج.
تقبّل الله منا ومنكم، وجعلنا ممّن وصفهم بقوله –في آيات الحج-:" ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار* أولئك لهم نصيب مما كسبوا والله سريع الحساب".
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،،،،
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
--------------------------------------------------------------------------------
* نشر في موقع (الإسلام اليوم) بتاريخ 7/12/1423.(/3)
مناقشة الأحمدية في رسالة بريدية
(رد على رسالة من مصطفى ثابت لمحمود القاعود)
فؤاد العطار
Anti_ahmadiyya@yahoo.com
رسالة مصطفى ثابت لمحمود القاعود :
سيدي الفاضل الكريم الأستاذ محمود القاعود المحترم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
وبعد
.
بخصوص أمنيتك أن أبتعد عن الأحمدية، فاعذرني يا سيدي الكريم إن لم أشاركك فيها الرأي، ولكني في نفس الوقت أشكر لك تمنيك ما تظنه خيرا لي، وأدعوه سبحانه أن يحقق لي ولك ما فيه خيرا لنا في الدنيا والدين. ولعلك في هذا الخصوص قد تأخذ بنصيحة ذلك المصري الكريم الذي سجل الله تعالى رأيه السديد وحفظه لجميع الأجيال القادمة لتنتفع به، فقال في القرآن الكريم:
]وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً يَقُولُ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جَآءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ[ (غافر:28)
إن الله تعالى يبعث النبيين مبشرين ومنذرين، وفي أول الأمر لا يؤمن بهم إلا القلة الضعيفة المستضعفة، ولكن تتحقق فيهم البشارات التي يحملها لهم النبي، كما تتحقق أيضا في قومه الإنذارات التي يحملها لهم النبي. ولك أن ترى يا سيدي ما يتحقق في الأمة من الإنذارات التي حذر منها مؤسس الجماعة، وما يحل بها من بلاء، كما لك أن ترى أيضا ما أنعم الله به على هذه الجماعة القليلة من أفضال ونعم لا تدل أبدا على أنهم من أتباع ]مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كّذَّابٌ[.
لقد تآمر أعداء الإسلام والمسلمين لاجتياح الإسلام والقضاء عليه، وأوحوا إلى عملائهم بخبث ومكر، وربما بغير علم من جانبهم، أن يفتوا بخروج هذه الجماعة من الإسلام، ووقع هؤلاء في الفخ الذي نصبه لهم أعداء الدين، فماذا كانت النتيجة؟ لو لم تكن هذه الجماعة من الله تعالى لاجتُثّت من فوق الأرض، ولما بقي لها من أثر ولا قرار. ولكننا نرى أن الجماعة بخالص فضل الله وإحسانه تتقدم كل يوم وتزداد انتشارا، حتى إن أفرادها يقيمون في 182 دولة من دول العالم في هذا العام 2006. فهل ترى نظير ذلك في الجماعات الإسلامية الأخرى؟ هذه الجماعة كانت الأولى في العالم الإسلامي التي كان لها قناة فضائية مخصصة للشؤون الدينية منذ عام 1994 من قبل أن تبدأ قنوات art فهل ترى نظير ذلك في الجماعات الإسلامية الأخرى؟ هذه الجماعة كانت أول من أنشأ مسجدا في بريطانيا في أوائل العشرينيات من القرن الماضي، وكانت أول من أنشأ مسجدا في برلين قبل الحرب العالمية الثانية، وأول من أنشأ مسجدا في فرانكفورت وهامبورج بعد الحرب، وأول من أنشأ مسجدا في هولندا، وأول من أنشأ مسجدا في كوبنهاجن عاصمة الدانمرك، وأول من أنشأ مسجدا في جوتنبرج بالسويد، وأول من أنشأ مسجدا في أسلو العاصمة النرويجية، وأول من أنشأ مسجدا في ضواحي قرطبة بأسبانيا بعد 500 سنة من خروج المسلمين منها. فهل ترى نظير ذلك في الجماعات الإسلامية الأخرى؟ هذه الجماعة هي التي تصدّت للتبشير المسيحي في أفريقيا، وأقامت المدارس والمستشفيات في العديد من الدول الأفريقية، فهل ترى نظير ذلك في الجماعات الإسلامية الأخرى؟ هذه الجماعة كانت أول من ترجم معاني القرآن الكريم إلى اللغات الأجنبية، حتى بلغ عدد ما تم نشره من هذه الترجمات هذا العام 62 ترجمة كاملة، وما تم نشره من مختارات من القرآن الكريم ومختارات من الحديث الشريف حوالي 100 ترجمة، فهل ترى نظير ذلك في الجماعات الإسلامية الأخرى؟ لقد ضاعت الخلافة من المسلمين، ورغم أنها من أعز المطامح لدى المسلمين إلا أن الله تعالى نزعها من أيديهم وأنعم بها على الجماعة الإسلامية الأحمدية، وبعد عامين فقط، أي في عام 2008، سوف تحتفل الجماعة بمرور قرن من الزمان على إعادة تأسيس الخلافة على منهاج النبوة، بعد أن رفعها الله تعالى بعد مقتل الخليفة الثالث والرابع (عثمان وعليّ رضي الله عنهما) بأيدي المسلمين، فهل ترى نظير ذلك في الجماعات الإسلامية الأخرى؟
لو أن من أنشأ هذه الجماعة كان من الكذابين المفترين على الله تعالى لخسف الله به وبها الأرض، ولجعل جماعته هباء مثبورا. وقد ذكرت أنت بنفسك أولئك الذين ادعوا النبوة كذبا بعد رسول الله r، فماذا كان مآلهم سوى القتل والهلاك؟ وماذا كان مآل جماعاتهم سوى التشتت والانزواء والزوال؟(/1)
ويزعم بعض الجهلاء أن هذه الجماعة تلقى تأييدا من هذه الدولة أو من تلك، فأحيانا يقولون إن أفرادها عملاء للإنجليز، وأحيانا يقولون إنهم عملاء لإسرائيل، وتارة يقولون إن أمريكا تقف وراءها، وتارة أخرى يزعمون أن أوربا تقوم بتمويلها. ولو كان هذا حقا لكانت هذه الجماعة تلقى التأييد والتكريم من عملاء هذه الدول من بين الدول الإسلامية، ولما دعت السعودية وباكستان ومصر إلى عقد ذلك المؤتمر في مكة المكرّمة عام 1974 لإعلان أن الجماعة الإسلامية الأحمدية كافرة وخارجة عن الإسلام، تحقيقا لأوامر نفس هذه الدول التي يزعمون تأييدها للجماعة الإسلامية الأحمدية. بل إن هؤلاء الجهلاء الذين يتخرّصون بهذه الأقوال لم يقدروا الله حق قدره، فهل كان الله تعالى يريد أن يقضي على هذه الجماعة تحقيقا لوعيده بأن يسحق المفترين بعذاب ويخيب المفترين، ولكنه.. حاشا لله.. لم يستطع لأن بريطانيا وأمريكا وإسرائيل وأوربا منعته من ذلك؟ انظر يا سيدي إلى مآل جماعة مسيلمة الكذاب والأسود العنسي وسجاح الكاهنة في الماضي، وفي الزمن الحاضر انظر إلى مآل جماعة علي محمد الشيرازي المهدي الإيراني (1844-1850) ومحمد أحمد المهدي السوداني (1879-1885) ومهدي الحرم المكي (1979) على رأس القرن الخامس عشر الهجري، والدكتور رشاد خليفة الذي زعم أنه رسول وليس نبي، فهل أراد الله تعالى للجماعة الإسلامية الأحمدية أن تؤول إلى ما آلت إليه هذه الجماعات التي أنشأها هؤلاء الكذابين المفترين على الله، ولكن بريطانيا وأمريكا وإسرائيل وأوربا كانت هي الدرع الواقي الذي حماها من غضب الله ومنع تنفيذ إرادته؟ تعالى الله عما يصفون!
وتقول يا سيدي الفاضل إنك زرت موقع الجماعة وأذهلتك "طريقة التفكير والتفسير التعسفي لآيات القرآن الكريم من أجل أهواء وأغراض غير منظورة". فهل تتفضل بأن تلفت نظري إلى ما أذهلك من تفسير تعسفي؟ وهل ترغب يا سيدي أن نتدارس سويا ما يحيك في صدرك من اعتراضات ونناقشها بهدوء وبدون تعصب ولا تشنج لنصل سويا إلى الحق بإذن الله، وستجدني إن شاء الله من الصابرين؟ وكل ما أطلبه منك يا سيدي العزيز أن لا نستخدم الألفاظ غير اللائقة في الكلام عن مؤسسس الجماعة الذي أعتبره أنا من الأنبياء ولا تعتبره أنت كذلك، ولكننا نتفق على أنه مؤسس الجماعة، وعلى هذا يمكن أن نتحدث عنه بهذه الصفة ونقول "مؤسس الجماعة"، وذلك حتى لا تضطر إلى استعمال الألفاظ التي قد يكون فيها إساءة إلى شخص لا تعرفه حق المعرفة.
لقد نشرت لي الجماعة هذا العام كتابا عن سيرة مؤسس الجماعة باسم "السيرة المطهرة"، ولا أعلم إذا كان قد نزل في موقع الجماعة أم لا، فإذا أردت.. يمكن أن أرسله إليك على دفعات من خلال الإنترنت، أو على الأقل أرسل إليك ببعض الصفحات التي تتناول بعض موضوعات الخلاف مثل معنى "خاتم النبيين" وصدق مؤسس الجماعة، لأن الكتاب كبير الحجم ويبلغ أكثر من 700 صفحة. وهناك كتاب آخر لا يزال تحت الإعداد، وهو صغير الحجم نسبيا واسمه "دلائل صدق الأنبياء"، وفيه الأدلة على صدق سيدنا المصطفى r، ثم تطبيق نفس هذه الأدلة على مؤسس الجماعة.(/2)
تتساءل يا سيدي الفاضل ما هو الشيء الذي فعله مؤسس الجماعة، والجواب أنه فعل كل ما يفعله الأنبياء، فأنشأ جماعة من المؤمنين تؤمن بالله الحي الذي يستجيب لعباده المؤمنين، ويستجيبون هم له، فيؤلف بين قلوبهم بالمحبة والوفاء، وتتوحّد كلمتهم تحت قيادة واحدة، وتحت راية واحدة، وهذا ما يفتقد إليه العالم الإسلامي في المقام الأول، حيث حذر الله تعالى بقوله: ]وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ[. فإذا كنت ترى للعالم الإسلامي، والعالم بشكل عام، حلا غير هذا يخرجه من المشاكل التي تحيق به فاخبرني عنه. أما موضوع قتل الدجال ومبايعة الناس بالخلافة والظهور من دمشق وفتح روما فهذه كلها أمور يمكن مناقشتها، خاصة وأنت تعلم أن كل هذه الأمور تختص بالغيب الذي قد يختلف في تحققه عن توقعات الناس. ولا تنس أيضا أن الله تعالى قد أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، ومع ذلك فقد توفي رسول الله ولم يخرج دين الحق من نطاق الجزيرة العربية. صحيح أن الإسلام انتشر في خلال ثلاثمائة عام من الصين شرقا إلى المحيط الأطلنطي في الغرب، ولكن الإسلام لم يأت فقط إلى العرب وإنما جاء إلى أوربا وأمريكا وأستراليا، وإلى أهل الصين واليابان والهنود الحمر، ولا يزال حتى اليوم بعد مرور 14 قرن منحصرا في 20% من سكان هذا الكوكب، وياليتهم كانوا يستطيعون أن يساهموا بشيء من التقدم والحضارة في هذا العالم، وإنما بكل أسف وأسى صاروا تماما كما وصفهم سيدنا رسول الله "غثاء كغثاء السيل". فهل يحق لغير المسلمين أن يكذّبوا بنبوة الرسول الأكرم r لأن ظهور الإسلام على الدين كله لم يتحقق حتى الآن؟ ثم هناك قول للرسول r يقول: "تفتحون مدينة يقال لها قسطنطينية"، ولم يتحقق هذا القول إلا في القرن التاسع بعد الهجرة، فهل يحق لأحد عاش بعد مائة عام من الهجرة أن ينتظر إلى أن يتحقق فتح مدينة القسطنطينية لكي يؤمن بصدق الرسول r، كما تتساءل يا سيدي الكريم عن فتح روما؟ إن الأنباء الغيبية يا سيدي سوف تتحقق حتما، ولكنها قد لا تتحقق بحسب الصورة التي يتوقع الناس لها أن تتحقق، وهذا هو الخطأ الأكبر الذي يقع فيه الناس حينما يجعلون مدار تصديق الأنبياء هو تحقق الأنباء الغيبية بالصورة التي يتخيلون أنها لا بد أن تتحقق بها. لقد وقع اليهود في هذا الخطأ ولم يؤمنوا بالمسيح عليه السلام، ووقع اليهود والنصارى في نفس هذا الخطأ ولم يؤمنوا بسيد الأنبياء r. إن سوء تفسير وعود الله تعالى أمر وارد، وقد يقع فيه الأنبياء أنفسهم، كما فهم نوح عليه السلام وعد الله بنجاة أهله فظن أن ابنه من الناجين، وكما فهم سيدنا رسول الله من دخول المسجد الحرام، فذهب على رأس كوكبة لدخول المسجد الحرام فلم يدخله. إن تحقق الأنباء الغيبية يا سيدي العزيز ليس هو الدليل الوحيد على صدق الأنبياء.
أعتذر عن الإطالة في الكتابة إليك، ولكن كان لا بد من توضيح بعض الأمور الضرورية. وأنا أتفق معك تماما على أن اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية بين العقلاء من الناس، ولكنه يفسد كل القضايا بين الجهلاء منهم. والحمد لله أنك قد أثبت برسالتك الطيبة أني كنت على حق حين قلت إنك إنسان كريم ومهذب وتنتمي إلى عائلة طيبة وعريقة، ولذلك فإني أضم صوتي إلى صوتك وأدعو الله تعالى أن يهديني وإياك الطريق المستقيم لمعرفة الحق.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
المخلص: مصطفى ثابت
الرد على رسالة مصطفى ثابت
إن رسائل الأحمديين كلها تبدو لي منسوخة من بعضها البعض، فترديدهم لنفس الأفكار المتهافتة عقلياً هو دليل آخر على أن هؤلاء القوم عبيد لشهواتهم معطلين لعقولهم التي أعطاها الله سبحانه لهم. و لي هنا تعليق بسيط على بعض ما قاله مصطفى ثابت.
يقول مصطفى ثابت ((لو لم تكن هذه الجماعة من الله تعالى لاجتُثّت من فوق الأرض، ولما بقي لها من أثر ولا قرار)).
قلت : هذا دليل ناصع على جهل الأحمديين بالقرآن و بالتاريخ و بالواقع. يقول الله تعالى (( قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ)).
و المفترون على الله الكذب يتساوون مع من كذب بآيات الله في كونهم لا يفلحون. قال تعالى ((فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ)).
فعرفنا من هذه الآيات البينات أن عدم فلاح النبي الكاذب هو من جنس عدم فلاح المكذبين الكافرين بمختلف مللهم و طرقهم. فلا فرق بين عدم فلاح البهائية و عدم فلاح القاديانية و عدم فلاح المجوسية و عدم فلاح الشيوعية و غيرها من سبل المجرمين.(/3)
و هل قتلت سجاح شر قتلة أو قطع الله وتينها عندما قالت بأن شعرها هو وحي من رب العالمين ؟!! واضح لكل عاقل بأن الكلام في الآية ((و لو تقوّل علينا بعض الأقاويل * لأخذنا منه باليمين)) هو عن رسول حقيقي من الله بدليل أن المشار إليه فيها هو محمد صلى الله عليه و سلم. و بأن القتل فوري و يكون بقطع الوتين. فالآية تطمئن المؤمنين و تؤكد للكافرين بأن كل ما يجيء النبي به فهو من عند الله. فليس له أن ينقص أو يضيف شيئاً من عنده، و إلا لما عاش (لحظة واحدة) و هو يكذب في نقله عن الله الذي أمده بالبينات. و العقل و الشرع و الواقع هو خير دليل على هذا:
(1) فلا يمكن أن يكون القتل الوارد في الآية هو على سبيل التراخي. فالآية واضحة بأن الله سبحانه توعد بقتل النبي المرسل منه إذا افترى (فوراً) دون تأخير بقوله (ولو تقول ... لأخذنا ..). فلا يمكن أن يمهل الله سبحانه نبياً مؤيداً بالبينات أن يكذب باسم الله سبحانه أياماً أو أشهراًً أو سنيناً.
(2) لو كان من الممكن أن يقتل النبي الحقيقي المفتري بعد أشهر أو سنين لكان من غير الممكن التفريق بين النبي الحقيقي المقتول و النبي الكاذب المقتول. فلقد قتل بنوا إسرائيل بعض أنبيائهم. هل كان أولئك الأنبياء مفترون ؟ حاشاهم.
أما النبي الحقيقي إن افترى فستكون آية مقتله بقطع الله وتينه فوراً دون أن يستطيع أحد منع ذلك. و بهذا لا يصلُ الناسَ عن طريق النبي إلا ما رضيه الله من كلام عنه. و حاشا لنبي حقيقي أن يفتري، إنما هذا طمأنة للسامعين بأن كلام الأنبياء عن الله سبحانه لا يدخل فيه أي زيادة من عند أنفسهم.
أما الكذابون المفترون فقد يمهل الله سبحانه بعضهم في الدنيا و يمدهم بالمال و البنين استدراجاً لهم، فهذه هي سنة الله في خلقه. فقد يعيش المفتري شهراً أو سنة أو مائة سنة. ألم يستمر ابن طريف بادعائه النبوة 47 سنة ؟ و قد يُقتل بعض المفترين عن طريق المؤمنين أو عن طريق أتباعه بطرق شتى من غير قطع الوتين. أما النبي الحقيقي فلن يمهله الله سبحانه لحظة واحدة ليكذب على الناس باسم الله بعد أن أيده الله بآياته و بالبينات.
و يلزم من قال بأن الله سبحانه قد يقتل النبي الحقيقي المفتري عليه بيد الناس بعد أشهر أو سنوات – يلزمه اتهام الأنبياء الذين قتلهم بنو إسرائيل بأنهم مفترون و العياذ بالله. و يلزمه تأييد بني إسرائيل في محاولتهم قتل الأنبياء. فالنبي الصادق – على حد زعم القاديانيين – هو فقط من لا يمكن الله الناس من قتله (بأية طريقة) !!
أما استمرار الغلام بالكذب لعشرات السنين فلا يختلف عن استمرار أهل الكتاب بالإفتراء على الله سبحانه آلاف السنين. قال تعالى ((قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ)) فلم يفرق سبحانه بين مفتر و آخر.
و قد ظن هؤلاء المفترون بأن الله سبحانه لن يعذبهم بكذبهم و بأنه لن يقدر عليهم. لكن هيهات هيهات. فإن جهنم لمحيطة بالكافرين. و قد أخزاهم الله سبحانه في الدنيا و كشف سوأة سبيلهم الضال.
و قد قال تعالى ((وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ)).
و قال تعالى ((وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُواْ إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ))
و قال تعالى ((وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ))
و قال تعالى ((وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ))
ثم ألم يمحق الله سبحانه باطل غلام قاديان و يحق الحق بكلماته فكشف الله سبحانه كذب الغلام و أخزاه حتى صار الأطفال الذين يعرفونه يتندرون بكذب نبوءاته و هلوساته ؟ ألم يفضح الله سبحانه نفاق خلفائه و عمالتهم لأسيادهم الصليبيين ؟ ألم يعلم كل صغير و كبير ممن عرف الغلام أنه لم يكسر الصليب بل أمد أهله بالنصرة و الولاء و الطاعة، و لم يقتل الخنزير بل عاقر الخمر ليداوي علات دماغه ؟ و لم يضع الجزية بل دفع جزية الولاء و الذل لأسياده الذين استحلوا حرمات الله و قتلوا المستضعفين من النساء و الشيوخ و الأطفال ؟ أبعد هذا يدعي مدع بأن الله نصر الغلام و أمده بالعون ؟ أي ذل و أي صغار تريد يا مصطفى ثابت أكثر من هذا للغلام و أتباعه؟(/4)
و ادعاء القاديانيين بأن النبي الكاذب لا يموت إلا مقتولاً على أيدي الناس هو أيضاً دليل على جهل هؤلاء أو تجاهلهم لما كتبه نبيهم المزعوم نفسه، ففي كتابه (حقيقة الوحي) ادعى الميرزا بأن النصراني المدعو "دوئي" قد ادعى النبوة و الرسالة، و بأن دوئي قد مات بمرض الفالج. إذاً أيها القاديانيون فهذا نبيكم المزعوم نفسه يزعم أن مدع للنبوة لم يمت مقتولاً بل مات بمرض عضال. و نحن نقول لكم بأنه إن كان دوئي قد مات بالفالج فإن غلامكم قد أهلكه الله بالإسهال و الكوليرا، حتى أنه لم يتمكن قبل موته من الذهاب إلى الحمام فاضطرت زوجته للترتيب له حتى يقضي حاجته بجانب السرير، فهل بعد هذه الميتة المخزية من ميتة ! و هل تقل هذه الميتة عن ميتة دوئي الذي استهزأ به الميرزا؟ إقرأ إن شئت مقالتي (هل مات الميرزا بالكوليرا) لتطلع على شهادات أقرب أقرباء الميرزا حول آخر لحظات حياته.
يقول مصطفى ثابت ((ولكننا نرى أن الجماعة بخالص فضل الله وإحسانه تتقدم كل يوم وتزداد انتشارا، حتى إن أفرادها يقيمون في 182 دولة من دول العالم في هذا العام 2006)).
قلت: إن ادعاء مصطفى ثايت بأن الله سبحانه قد أعان الميرزا في دعوته قد يصلح كفكاهة سخيفة، فلا يمكن لعاقل أن يدعي بأن الميرزا قد وفق في دعوته، فالميرزا ادعى بأنه جاء ليكسر الصليب (التثليث) فلا يعبد بعده أبداً و يقتل الخنزير (الفساد الغربي) فلا يحيى بعده أبداً. فهل يمكن لعاقل أن يدعي بأن التثليث اندثر بعد الميرزا أو أن الغربيين تركوا عاداتهم الخبيثة بعد ظهور الميرزا؟! إن من يدعي ذلك هو كذاب أشر، فالنصرانية في الهند مثلاً تضاعفت أضعافاً كثيرة مع ظهور الإستعمار البريطاني الذي كان يدعمه الميرزا، و لا تزال النصرانية تنتشر في عقر دار الميرزا (الهند) حتى يومنا هذا. أما فساد النصارى و عاداتهم الخنزيرية ففي ازدياد إلى يومنا هذا.
أما الإدعاء بأن دعوة الميرزا قد انتشرت إلى أقصى الأرض فهو ادعاء سخيف أيضاً، و لو صح لما كان فيه دليل على صدق الميرزا أصلاً. فدعوة البهائية و دعوة المورمون و غيرهم انتشرت في الأرض مع أن مؤسسي هذه الفرق الضالة دجالون خبيثون. بل إن المورمن هم من أكثر الطوائف نمواً في أمريكا اليوم.
ثم لنتوقف قليلاً عند ادعاء القاديانيين بأن دعوتهم انتشرت في الأرض، هل يظن هؤلاء بأن بث فضائيتهم السخيفة يعني انتشار دعوتهم و قبولها؟ إن جهل معظم الناس بوجود الأحمدية و الأحمديين هو دليل سافر على أن ادعاء القاديانيين متهافت سخيف.
للأسف فإني وجدت أن طائفة المورمون أصدق من الأحمديين في تحديد أعداد أتباعهم. و لعل المورمون يعلمون بأن العدد الكبير يجب أن يحدث تغييراً على الأرض. أما القاديانيون فلم يأبهوا بأن يكون عددهم 200 مليون شخص دون أن يعرف معظم أهل الأرض بوجود ملتهم أو باسم نبيهم المزعوم. و لعل القاديانيين اعتبروا من تصله موجات محطتهم الفضائية قاديانياً !! و قد يكون السبب هو تطبيقهم لقاعدة (السكوت في معرض البيان بيان) على المشاهدين.
فادعاء القاديانيين بأن أعداد من آمن بالميرزا لا يصعب حصرهم هو ادعاء مضحك، فالقاديانيون يدعون بأن عددهم اليوم في العالم يزيد على 200 مليون شخصاً، و هذا الإدعاء إن دل على شيء فإنما يدل على سفاهة أحلام القاديانيين و على انتمائهم إلى كوكب آخر غير كوكب الأرض، فليس هناك في العالم ما يمكن أن يدل على أن عدد القاديانيين في العالم يصل إلى المليون الواحد فكيف تجرأ هؤلاء على ادعاء رقم 200 مليون؟! إن للكذب حدوداً و لكن هذا لا ينطبق على القاديانيين.
و القاديانيون في ادعائهم حول كثرة عددهم إنما يقلدون ادعاءات زعيمهم الكذاب حول أعداد أتباعه في عصره. فمثلاً يقول ميرزا غلام أحمد القادياني :
((زادت جماعتي إلى حد لا يعرف عددهم على وجه الكمال إلا عالم الغيب و الشهادة، و انتشروا في هذه البلاد و بلاد أخرى كصيّب يعمّ أقطار البلدة، و قد أيد كلامي هذا المكتوب الذي بلغني اليوم في آخر يناير 1907م من أرض مصر جاء فيه "إلى ..المسيح الموعود ميرزا غلام أحمد القادياني، بعد التحية، لقد كثرت أتباعكم في هذه البلاد و صارت عدد الرمل و الحصى، و لم يبق أحد إلا عمل برأيكم و اتبع أنصاركم)) – خزائن روحانية ج 22 ص653
و كما قلت في مقالات سابقة فإن حفنة من الرمل و الحصى في مصراليوم كافية لإثبات كذب ادعاء الميرزا و أتباعه.
إنه لمن المثير للسخرية ترديد القاديانيين لادعاء خليفتهم الرابع الهالك بأن عددهم في العالم قد تجاوز 200 مليون شخص. فقد يظن القاريء للوهلة الأولى عند قراءته للرقم في موقع القاديانية الرسمي بأن القاديانيين يؤمنون بالحياة على المريخ !!(/5)
فقد أضحكتني حقاً ادعاءات الخليفة السابق (الرابع) بشأن أعداد القاديانيين، فبينما كان عدد القاديانيين لا يتجاوز 10 ملايين على حد زعمه في نهاية الثمانينيات من القرن الماضي ارتفع عدد هؤلاء إلى 200 مليوناً خلال بضع سنين. بل دخل في دين القاديانية على حد زعمه عام 2000 ما مقداره 81 مليون شخص في سنة واحدة. أي حوالي 2.6 أشخاص في الثانية الواحدة لمدة عام كامل!!! أما العام الذي قبله فكان معدل دخول الناس في القاديانية هو حوالي 1.2 شخصاً في الثانية الواحدة فقط !!! هذا مع أن القاديانيين يكفرون بالمعجزات الإلجائية للأنبياء فكيف بها للخلفاء ؟!!
و قد لاحظت أثناء سفري بأن الناس يجهلون كل شيء عن الأحمدية. لكن بعضهم قد يتذكر مخازي غلام قاديان فقط. و لعل هذا ما كان يخشاه الغلام عندما كتب في وحيه (و لا نبقي لك من المخزيات ذكراً !!!). لكن الله سبحانه كذبه فلم يبق له ذكراً إلا المخزيات التي أشار إليها الغلام في وحيه المدعى.
يقول مصطفى ثابت ((وبعد عامين فقط، أي في عام 2008، سوف تحتفل الجماعة بمرور قرن من الزمان على إعادة تأسيس الخلافة على منهاج النبوة))
قلت: نعم يا عزيزي ستحتفلون، و قد قرأت الإعلان الذي نشرته جماعتكم عن سعيها لجمع مبلغ مليون جنيه استرليني لتقديمه كهدية للميرزا مسرور أفندي ليتصرف بها كيف يشاء. هذا يا عزيزي دليل على أن جماعتكم هي عصابة نصب و احتيال باسم الدين. و لا ننسى طبعاً صكوك بيع الجنة التي تسمونها بالوصية للدفن في مقبرة الجنة في قاديان.
أما (الخلافة القاديانية) التي نراك فرحاناً بها فأخبرنا بالله عليك عن الفرق بينها و بين زعامة أية عصابة نصب و احتيال. أخبرنا عن التمكين في الأرض و إقامة حكم الله. أخبرنا عن الإنتصارات العظيمة التي حققتها خلافتكم المزعومة. نعم هذه هنا بعض الإنتصارات العظيمة التي حققها الغلام و خلفاؤه:
1- حرر الغلام و خلفاؤه بلاد المسلمين من نير الإستعمار، فعاش المسلمون و المستضعفون وقتهم في عز و منعة و لا يزالون.
2- كسر الغلام و خلفاؤه الصليب فلم يعد يعبد أبداً. و انكسرت النصرانية و انكمش التبشير حتى تلاشى.
3- قتل الغلام و خلفاؤه الخنزير، فلم تعد المحرمات منتشرة بين النصارى و لا بين المسلمين.
4- رفع الغلام و خلفاؤه الجزية، فلا حاجة لأحد بالأموال التي فاضت بين يدي المسلمين.
5- نشر الغلام و خلفاؤه العقيدة الحقة، فلا تشبيه لله بخلقه و لا ربوبية لأحد من البشر بعد الآن.
6- خلف الغلام أتباعاً مجاهدين مرغوا أنوف أعداء الإسلام في التراب.
7- حقق الغلام و خلفاؤه الوحدة بين المسلمين و حلوا كل الخلافات السابقة بينهم و بينوا الحق فيها. فهم في وفاق و اتفاق إلى الآن.
أهذه هي حقا انتصارات الغلام و خلفائه؟؟. سحقاً سحقاً . بل هذه هنا بعض من الحقيقة المرة:
1- أعان الغلام و خلفاؤه المستعمر بالغالي و النفيس حتى يتمكن من أن يستعبد الناس و ينهبهم و يذلهم و يثأر لهزائمه السابقة.
2- انتشرت النصرانية في الهند - بلاد الغلام و خلفائه - و في غيرها من بقاع العالم انتشار النار في الهشيم عن طريق الحملات التيشيرية. و لا تزال.
3- ظهر الفساد في البر و البحر. فانتهكت المحرمات من زنى و خمر و خنزير و ميسر بين المسلمين أنفسهم. و لا تزال.
4- دفع المسلمون الجزية لمستعمريهم. و صارت خيراتهم في أرضهم ملكاً لغيرهم.
5- نشر الغلام و خلفاؤه عقائد الباطنية و آراء غلاة الصوفية في الدين.
6- خلف الغلام أتباعاً جعلوا التشنيع على المسلمين السابقين و اللاحقين غايتهم. و هزيمة المجاهدين أسمى أمانيهم. و علو دين دولة الكفر و شريعة الغاب حلمهم الذي ينادون لتحقيقه.
7- انتشرت خلافات جديدة بموت الغلام. فانقسم أتباعه و عبيده إلى فسطاطين. كل حزب بما لديهم فرحون.
يقول مصطفى ثابت ((لو أن من أنشأ هذه الجماعة كان من الكذابين المفترين على الله تعالى لخسف الله به وبها الأرض، ولجعل جماعته هباء مثبورا)).
قلت: من كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى، هل خسف الله سبحانه الأرض بالبهائيين أو المورمن؟ إن أعداد هؤلاء المفترين تزيد بكثير عن أعداد القاديانيين، و قد تأسست هاتان الجماعتان قبل ظهور الميرزا بسنين و لا تزالان في نمو مطرد إلى اليوم. فالبهاء ادعى بأن الله أرسله لينسخ الأديان فأسس البهائية، و جوزيف سميث ادعى أن الله أرسله بكتاب رباني جديد و برسالة إصلاحية فأنشأ كنيسة المورمن.
إن استمرار القاديانية حوالي مائة سنة في الدعوة إلى طاعة الكفار ليست دليلاً على نبوة الغلام !!. بل تصلح دليلاً على عمالته فقط.(/6)
أما إن كان مصطفى ثابت يقصد استمرار أتباع الميرزا في الدعوة إليه كمسيح منتظر فإن هذا لا يميزهم كثيراً عن الدعاة الحمقى إلى غيره ممن ادعى نفس الإدعاء مثل أتباع البهاء و أتباع ديفيد كورش و أتباع جيم جونز و أتباع شارلز مانسون. فهؤلاء لا يزالون إلى الآن يرددون نفس الترهات. و يقولون بأن صاحبهم هم هو المسيح المنتظر.
و الله سبحانه لم يمد الميرزا بأي تأييد أو عون. هل أيده الله سبحانه عندما أظهر كذبه و تناقضه ؟
هل أيده الله سبحانه عندما لم يحقق تنبؤاته ؟
هل أيده الله سبحانه عندما أجرى على لسانه كلاماً سماه وحياً هو أشبه بالهلوسة ؟
هل أيده الله سبحانه عندما أماته بالكوليرا بين روثه و بوله ؟
هل أيده الله سبحانه عندما سلط عليه الأمراض الفتاكة ؟
يقول مصطفى ثابت ((وفي الزمن الحاضر انظر إلى مآل جماعة علي محمد الشيرازي المهدي الإيراني )).
قلت: نعم يا عزيزي أنظر إلى جماعة الباب الذي قدّم للبهائية، فأتباعه اليوم هم البهائيون الذين يعيثون في الأرض. إن جهلك بمآلهم دليل على انتماء القاديانيين لكوكب آخر.
يقول مصطفى ثابت ((لقد نشرت لي الجماعة هذا العام كتابا عن سيرة مؤسس الجماعة باسم "السيرة المطهرة"))
قلت: الأفضل يا عزيزي أن تنشروا سيرة نبيكم المزعوم كما كتبها ابنه، فليس عجيباً خجلكم من نشر تلك السيرة المخزية التي لا تليق بمسلم عاص فكيف بها لمن يدعي النبوة و الرسالة. إقرأ إن شئت الرواية رقم 49 من كتاب (سيرة المهدي) الجزء الأول ص 43:
((قالت لي والدتي الموقرة –يعني زوجة الميرزا -: عندما كان حضرة المسيح الموعود (ميرزا غلام ) عليه السلام شاباً ذهب لاستلام الراتب التقاعدي لجدك (والد الميرزا غلام). و قد رافقه في مشواره ميرزا إمام الدين (قريب الميرزا غلام). و عندما استلم الميرزا غلام راتب والده التقاعدي قام إمام الدين بالتملق له و أخذه في مشوار إلى مكان آخر بدلاً من العودة إلى قاديان، و ظلا يتنقلان من مكان إلى مكان حتى بذر إمام الدين كل النقود فترك الميرزا غلام و ذهب إلى مكان آخر. و بسبب هذا العمل المحرج فإن المسيح الموعود (ميرزا غلام) لم يرجع إلى البيت. و لأن جدك (والد ميرزا غلام) كان يرغب في توظيف الميرزا غلام في مكان ما فإنه (الميرزا غلام) قرر أن يتوظف في بلدة سيالكوت في مكتب نائب المفوض براتب ضئيل )).
و قد وقعت هذه الحادثة في عام 1864م حيث عمل الميرزا بعدها موظفاً في مكتب نائب المفوض حتى عام 1868م. و كان عمره وقت الحادثة حوالي 25 عاماً. فانظر هداك الله إلى سيرة من ادعى لاحقاً أنه مهدي الأمة و أنه الظهور الثاني للنبي محمد صلى الله عليه و سلم.
و في كتاب (سيرة المهدي) أيضاً الجزء 3 ص 119 الرواية رقم 672 كتب القادياني ميرزا بشير أحمد ابن الميرزا غلام أحمد القادياني الرواية التالية:
(( أخبرني الدكتور مير محمد إسماعيل أن المسيح الموعود – ميرزا غلام أحمد – لم يقم بتأدية فريضة الحج أبداً، و لم يقم بتأدية سنّة الإعتكاف أبداً، و لم يدفع الزكاة أبداً، و لم يكن يحتفظ بأية مسبحة للتسبيح، كما أنه لم يأكل يوماً من صدقة و لم يأكل يوماً من زكاة، لكنه كان يقبل الهدايا. و لم يكن يتخذ أي مصلى مثل السادة الصوفيين. كما أنه لم يكن يقرأ الأوراد المشهورة من التسبيح أو التحميد أو الصلاة على الرسول إلخ..
و السبب في عدم تأديته لفريضة الحج هو أنه لم يكن يملك في البداية المال الكافي حيث كانت الأملاك مسجلة باسم جده، ثم تم تسجيلها بعد ذلك باسم عمه. أما لاحقاً فكان مشغولاً بأعمال الجهاد بالقلم و لم يكن عنده الوقت الكافي، فالجهاد كانت له الأولوية الأكبر فوق أي شيء آخر.
أما بالنسبة للزكاة فإنه لم يكن لديه النصاب الكافي للزكاة، لكن أمي الموقرة كانت تدفع الزكاة عن مجوهراتها)).
فانظرهداك الله إلى سيرة نبي القاديانية المزعوم. فهل كان الميرزا أكثر انشغالاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان كثير الإعتكاف و التسبيح و الصدقة؟ و هل الجهاد بالقلم للدفاع عن المستعمر البريطاني عذر مقبول للتخلف عن أداء فريضة الحج؟ و هل كان الميرزا فقيراً حقاً إلى درجة الإعفاء من الزكاة؟
لقد اعترف الميرزا بلسانه بأنه و بعد أن ادعى النبوة تبدلت حاله من فقر إلى غنى فامتلأ بيته بالهدايا و الأموال و التحف من أتباعه، فلماذا امتنع عن الصدقة و الزكاة يا ترى ؟! أنظر إلى ما كتبه الميرزا عن نفسه في كتابه (ضميمة حقيقة الوحي) ص 625:
((ثم بعد ذلك أيد الله هذا العبد كما كان وعده بأنواع الآلاء و ألوان النعماء، فرجع إليه فوج من الطلباء بأموال و تحايف و ما يسرّ من الأشياء، حتى ضاق عليها المكان)).(/7)
كما أن الميرزا و أفراد عائلته كلهم معفيين من أداء الضريبة القاديانية التي فرضها الميرزا على أتباعه الراغبين في أن يدفنوا في مقبرة الجنة التي استثمرها الميرزا في قاديان و التي لا يتخلف عن الإشتراك فيها إلا المنافقين من أتباعه على حد وصف الميرزا، مع أن عدد الموصين القاديانيين لا يتجاوز 35 ألفاً إلى اليوم . يقول الميرزا في كتابه (الوصية) ما يلي:
((لا يخطر على بال أحمق أن يعتبر هذه المقبرة ونظامها بدعة. لأن هذا النظام هو بإرشاد من الوحي الرباني. ولا دخل للإنسان فيه .... و لكن الله عز وجل استثناني و أهلي وعيالي من دون الناس والواجب على غيرنا أن يتقيد بهذه الشروط بأجمعها رجلا كان أو امرأة . و إن من يشكو فهو منافق ))
ثم يضيف قائلاً : ((و قد أراد الله بهذا النظام أن يميز المنافقين من المؤمنين فكل من يسعى إلى تقديم عُشر أملاكه و يبدي حماساً أكبر من هذا إنما يبرهن بنفسه على صدق إيمانه))
ثم يقول ((لا شك أن هذا النظام سيثقل كثيرا على المنافقين و بذلك يكشفهم فلا يدفن منهم أحد بعد موته في هذه المقبرة رجلا او امرأة .. لكن السابقين في هذا العمل يدخلون في الصديقين و تتنزل عليهم رحمة ربهم الى أبد الآبدين))
يقول مصطفى ثابت ((تتساءل يا سيدي الفاضل ما هو الشيء الذي فعله مؤسس الجماعة، والجواب أنه فعل كل ما يفعله الأنبياء))
قلت: و هل أتى الأنبياء ليأمروا أقوامهم بطاعة المستعمر و إخلاص الولاء له كما فعل الميرزا؟ فالميرزا أمركم بطاعة الملكة فكتوريا و طاعة حفدتها. و هل قام الأنبياء حاشاهم بنشر الشركيات كما فعل الميرزا؟ لقد ادعى الميرزا بأنه بمنزلة توحيد الله سبحانه و تفريده، و ادعى بأنه بمنزلة روح الله سبحانه، و أنه بمنزلة عرش الرحمن، و أن الله خلق السماوات و الأرض من أجل الميرزا القادياني، و بأن سورة الفاتحة تبشر بظهور الميرزا و بأنها تشير إلى الشخص الذي اتصف بصفات الله سبحانه، و بأن كيفية نزول الملائكة هي نفسها كيفة نزول الله سبحانه، و بأن الله سبحانه يظهر للناس في الكشف على شكل إنساني، و بأن الميرزا رأى نفسه يوماً أنه هو نفسه الله سبحانه، و بأن الله سبحانه خاطبه فقال (إنما أمرك إذا أردت لشيء أن تقول له كن فيكون)، و غيرها من الفظائع التي ادعاها الميرزا على الله سبحانه. و مع ذلك بلغت الوقاحة بالقاديانيين أن يدعوا بأن الميرزا أحيى التصوف الحقيقي ! أف لهم و لإمامهم الدجال.
و آخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(/8)
بسم الله الرحمن الرحيم
مناقشة رسالة دكتوراه
تعلن كليّة أصول الدين بجامعة أم درمان الإسلاميّة أنّه تقرّر مناقشة الرسالة المقدّمة إلى قسم السنّة و علوم الحديث لنيل درجة الدكتوراه بعنوان :
السنَّة النبويَّة
مكانتها و أثرها في حياة مسلمي البوسنة و الهرسك
من إعداد الطالب : أحمد عبد الكريم نجيب
و بإشراف الأستاذ الدكتور : مصطفى ديب البغا
و ذلك في تمام الساعة السابعة و النصف ( عقب صلاة المغرب مباشرةً ) يوم الأربعاء 22 صفر 1422هـ الموافق 16/5/2001م في قاعة الشهداء بأم درمان أمام لجنة المناقشة المكوّنة من أصحاب الفضيلة :
الأستاذ الدكتور : بابكر حمد الترابي رئيساً
الدكتور : الفاتح الحبر عمر أحمد مناقشاً داخليّاً
الدكتور : علي عيسى حمد الحكيم مناقشاً خارجيّاً
و الدعوة عامّة(/1)
مناقشة علمية هادئة للقول بجواز الاكتتاب في ينساب
د. يوسف بن عبد الله الأحمد 26/11/1426
28/12/2005
الحمد لله ، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين . أما بعد :
فقد أخرجت قبل أسبوع رسالة بعنوان " ثلاث رسائل عاجلة حول الاكتتاب في شركة ينساب " ثم اطلعت على بعض المناقشات العلمية المكتوبة والشفوية عبر القنوات الفضائية من بعض المشايخ الفضلاء الذين أفتوا بالجواز ، وقد لحظت تضمنها بعض الأخطاء في النقل وقراءة نشرة الإصدار ، فحاولت بعدها الاتصال ببعضهم مراراً فلم يتيسر .
ونظراً لاستشكال كثير من الناس حولها ، رأيت إخراج هذه المناقشة العلمية على ألا ينفك قارئها عن الرسائل الثلاث التي سبق نشرها في موقع نور الإسلام بتاريخ 16/11/1426هـ ، وفق النقاط الآتية :
أولاً : نُسب القول بجواز الاكتتاب في الشركات المختلطة بالربا إلى فضيلة الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله تعالى .
والأقرب أنه رجع عن فتواه ؛ فقد أفتى أولاً بالجواز مع النصح والتأكيد على تركها ، في فتوى بخط يده بتاريخ 21/4/1412هـ ، ثم أفتى بتحريمها في فتواه المنشورة في مجلة الدعوة بتاريخ 1/5/1412هـ والتي بين فضيلته حرمة الاكتتاب فيها ، وأن من اكتتب فيها جاهلاً فإنه يسعى في فك الاشتراك ، فإذا لم يتمكن أخرج النسبة المحرمة ، وهذا نص السؤال والجواب :
السؤال : ما الحكم الشرعي في أسهم الشركات المتداولة في الأسواق ، هل تجوز المتاجرة فيها ؟
الجواب : لا أستطيع أن أجيب على هذا السؤال ؛ لأن الشركات الموجودة في الأسواق تختلف في معاملاتها بالربا ، وإذا علمت أن هذه الشركة تتعامل بالربا وتوزع أرباح الربا على المشتركين ، فإنه لا يجوز أن تشترك فيها ، وإن كنت قد اشتركت ثم عرفت بعد ذلك أنها تتعامل بالربا ، فإنك تذهب إلى الإدارة وتطلب فك اشتراكك ، فإن لم تتمكن ، فإنك تبقى على الشركة ، ثم إذا قُدمت الأرباح وكان الكشف قد بين فيه موارد تلك الأرباح فإنك تأخذ الأرباح الحلال ، وتتصدق بالأرباح الحرام تخلصاً منها ، فإن كنت لا تعلم بذلك فإن الاحتياط أن تتصدق بنصف الربح تخلصاً منه ، والباقي لك ؛ لأن هذا ما في استطاعتك ، وقد قال الله تعالى :" فاتقوا الله ما استطعتم". انتهت الفتوى .
وللشيخ رحمه الله فتوى أخرى بالمنع مطلقاً ، وهي غير مؤرخة ، وهذا نص السؤال والجواب :
السؤال : لقد انتشرت في زماننا هذا الشركات التجارية بأنواعها المختلفة وكثر المساهمون فيها بأموالهم بحثاً عن الربح ولكن الذي يحدث أنّ بعض المساهمين يحصل على ربح ليس من عمل تلك الشركة ولكنه من المتاجرة بسندات الأسهم التي ساهم بها فيبيع السند الذي قيمته مثلاً 100ريال يبيعه بـ200ريال أو أكثر حسب قيمة تلك السندات في ذلك الوقت ، فهل هذا التعامل بهذه الطريقة صحيح أم لا ؟
الجواب : التعامل صحيح إذا كانت الشركة التي ساهم فيها خالية من الربا ، فإن بيع الإنسان نصيبه من الشركة بربح جائز ولا حرج فيه ، لكن بشرط أن يكون معلوماً لدى البائع والمشتري ، فيعرف أن له مثلاً 10 أسهم أو 15 سهماً من كذا وكذا حتى لا يبقى الأمر مشكلاً فإذا كان معلوماً فإنه لا بأس به سواء كان ذلك في الشركات أو في مساهمات عقارية كذلك " اهـ . ( فتاوى للتجار ورجال الأعمال ص 47 - 48 ) .
ولو وجد فتاوى غير مؤرخة أو احتمل الأمر عدم معرفة التاريخ ، فإن الأقرب لفتاوى الشيخ هو التحريم ، لما علم عنه من شدة تحرزه من أخذ الربا ، وتحريمه تأجير المحلات على صوالين الحلاقة التي تحلق اللحى ، وعلى التموينات التي تبيع الدخان ، إضافة إلى تحريمه للعمل في البنوك الربوية حارساً أو سائقاً ، أو الإيداع فيها في الحساب الجاري ؛ لأنه من التعاون على الإثم والعدوان . وما نحن فيه أولى بالمنع .
ثم لو فرضنا أن الأمر لا يزال مشتبهاً ، أو ثبت أن القول الأخير للشيخ هو الجواز ، فإن العبرة في معرفة الحق هو الدليل ، وليس من الصواب دفع الناس بفتوى الشيخ ابن عثيمين رحمه الله إلى الاكتتاب في شركة ينساب التي أعلنت الربا الصراح نظاماً لها في المعاملات المالية.
ثانياً : أكد بعض المشايخ أن الشركة إنما وضعت الودائع الربوية من أموال المكتتبين المؤسسين فقط دون اكتتاب المواطنين .(/1)
وهذا غير صحيح ، فإن الشركة قد نصت على أنها ستدخل مجموع أموال المكتتبين المؤسسين ، وكذلك الاكتتاب العام في حساب الفوائد ، وقد نصت الشركة على ذلك ، وأورد هنا نص ما جاء في نشرة الإصدار ( ص60 ) : " حقوق المساهمين : رأس المال المدفوع من قبل المؤسسين – بالريالات- (3.656.250.000) ورأس المال المتوقع من الاكتتاب العام (1.968.750.000)" ثم جاء في ( ص 61 ) ما نصه : " الأرصدة لدى البنوك : وديعة لآجل (5.566.657.000) .. الوديعة لآجل ، والحساب الجاري محتفظ بهما لدى بنك محلي ، وتحقق الوديعة لأجل عمولة سنوية – أي فوائد ربوية – بنسبة 4.85%تقريباً "اهـ. وبهذا يتضح دخول أموال الاكتتاب العام من الجمهور فيها .
ثالثاً : ذكر بعض المشايخ أن الشركة ستأخذ تمويلاً من بعض البنوك ؛ إما بقروض تجارية ، وإما بمرابحات إسلامية .
وهذا غير صحيح ، فمن تأمل نص ما جاء في نشرة الإصدار يجد أن البنك الذي وعد بالتمويل ABN AMRO يقوم الآن بالتفاوض مع المصارف الدولية والإقليمية والمحلية لتقديم قروض تجارية وإسلامية عادية للمشروع . أي أن انهم وعدوا بالاقتراض الربوي وغير الربوي ، وليس الأمر على سبيل التردد ، هذا أولاً .
وثانياً : أن البنك المتعهد بالتمويل سيقدم مجموع ما تحصل له من هذه البنوك لشركة ينساب ، فهل سيكون وسيطاً بأجرة ، أو مقرضاً بفائدة فيكون القرض حينئذ كله بالربا؟! .
وهذا نص ما جاء في نشرة الإصدار : (ص29) : " تمويل المشروع : حصلت سابك لصالح ينساب ، على التزام خطي مبدئي من بنك إيه.بي.إن.أمرو ABN AMRO بموجب خطاب التزام مؤرخ في 30 نوفمبر 2005 تعهد بموجبه بتغطية تسهيلات تمويلية بدون حق الرجوع على المساهم الرئيس بقيمة 13.125 مليون ريال سعودي - أي 13 مليارا ومائة وخمسا وعشرين مليون ريال سعودي – "اهـ . وجاء أيضاً في نفس الصفحة تحت عنوان : القروض ورأس المال العامل الابتدائي : "يقوم بنك إيه.بي.إن.أمرو حالياً بالتفاوض مع المصارف الدولية والإقليمية والمحلية وبعض الجهات الشبه حكومية لتقديم قروض تجارية وإسلامية عادية للمشروع ..إضافة لتسهيلات القروض المذكورة أعلاه ، سيطلب قرض لتمويل رأس المال العامل الابتدائي بقيمة 833 مليون ريال سعودي، ويتم ترتيبه كجزء من القروض"اهـ .
رابعاً : هوَّن من خطورة الربا على كثير من الناس ، بل حتى على كثير من طلبة العلم ما ذكر من أن نسبة الجزء المحرم في الشركة لا يتجاوز الواحد في الألف ، وأن هذه نسبة قليلة جداً .
وهذا الإطلاق غير صحيح أيضاً . ويزول اللبس بالتوضيح الآتي : أودعت ينساب ما تحصل لها من أموال المكتتبين المؤسسين في وقت قصير فحصلت عوائد ربوية مقدارها (4.375.000ريالاً) فالحقيقة إذاً أن الشركة قامت بتوظيف أموال المكتتبين المؤسسين في الحرام وهو الربا ، ووعدت بإجراء ذلك في أموال الاكتتاب العام كما سبق بيانه .
ومما يؤكد تهاون الناس بجريمة الربا أن الناس لو قيل لهم بأن الشركة ستقوم بتشغيل أموال المكتتبين مدة شهر واحد فقط في المتاجرة في المخدرات أو الخمور أو دور البغاء ، وأن العائد منها سيكون واحداً في المليون : لنفر المؤمنون الناس من ذلك بالفطرة ، ولم تكن كلمة (واحد في المليون) سبباً في تساهلهم بالاكتتاب ، فكيف بأخذ الربا الذي هو أعظم منها ؟!.
خامساً : العبرة في معرفة نظام الشركة هو نشرة الإصدار الرسمية . وينبني عليه أمران :
الأول : أنه لا عبرة بالكلام الشفوي ، لأن الشركات الكبرى لا تعمل إلا وفق نظام رسمي ، ومجالس إدارية ، ورقابة صارمة بمطابقة مافي نشرة الإصدار .
الثاني : أن ما وعدت به الشركة من القروض الربوية ، قد وقع عليه المكتتب . فلا يقال فيه نشارك ؛ لأنه قد يتغير ، أو أن الأمر محتمل ، ونحو ذلك مما تنفيه نشرة الإصدار الرسمية للشركة . وأدعو الجميع إلى تأمل نص ما جاء في نشرة الإصدار (صفحة أ ) تحت عنوان ( إشعار هام ) : " وتتحمل سابك كامل المسؤولية عن دقة المعلومات الواردة في هذه النشرة ، وتؤكد حسب علمها واعتقادها بعد إجراء الدراسات الممكنة وإلى الحد المعقول : أنه لا توجد أية وقائع أخرى يمكن أن يؤدي عدم تضمينها في هذه النشرة إلى جعل أية إفادة واردة هنا مضللة .. ويتحمل كل مستلم لنشرة الإصدار قبل اتخاذ قرار الاستثمار مسؤولية الحصول على استشارة مهنية مستقلة بخصوص الاكتتاب .. " اهـ .
وأخيراً : إن سبب حرصي وكتابتي في هذا الموضوع أن الأمر أوسع من أن يكون بحثاً فقهيا اجتهادياً ، ؛ لأن الفتيا بالجواز سبب أساس في بقاء الربا في الشركات القائمة والقادمة ؛ لأن إقبال الناس على الاكتتاب وارتفاع الأسهم مبني في أكثره على الفتيا بالجواز ، ولو لم يفت بالجواز لما أقبل الناس ، ولخضعت الشركة وأمثالها حينئذ إلى مطالب العلماء - بإذن الله تعالى - وقبلوا باشتراط وجود اللجنة الشرعية التي ترشحها جهة علمية مستقلة .(/2)
وعليه فإن هذه المناقشة إنما هي حسبة على منكر الربا في الشركات ، والهجر من أقوى وسائل إنكاره ، وأرها متعينة في هذه المرحلة . راجياً أن يطلع من قرأ هذه المناقشة على الرسائل الثلاث السابقة . وبهذا تنتهي المناقشة والحمد لله رب العالمين(/3)
مناقشة فتوى صيام يوم لنصرة فلسطين
د.رياض بن محمد المسيميري 24/2/1423
07/05/2002
لقد نشرت فتوى الدكتور/ رياض بن محمد المسيميري والتي كانت تحت عنوان: (تخصيص صيام يوم وقيامه لنصرة فلسطين) بين أصحابي
وكان رد أحدهم كما يلي، وأرجو من المشايخ الأفاضل توضيح هذه النقطة ولكم جزيل الشكر، إخواني وأخواتي في الله، عندما ينادى بنا لتخصيص يوم للقيام بعبادة معينة جماعيا بنية الدعاء لإخواننا المستضعفين في أرض الله المقدسة لا يدرج تحت بند البدعة؛ لأنه -والله أعلم بالنيات- النية التوجه لله وحده لا شريك له ، على عكس كثير من أعمالنا اليوم نعتمد على المخلوق أولاً -والعياذ بالله- ثم الخالق، إذا كنا إخواني لم نتجمع على كلمة واحدة في الدنيا فاتركونا نتجمع ولو لفترات قصيرة على كلمة و رأي واحد مقصده ابتغاء مرضاة الله عنا؛ لأنه يا إخواني لن تنزل بنا نصرة الله ونحن لم ننل مرضاته عنا. أخيراً أحب أن أشارككم حكمة سمعتها " من وجد الله فماذا فقد؟ ومن فقد الله فماذا وجد؟" تأملوا معناها، و هيا نجد الله في كل أعمالنا، وحتى لا نغضب أصحاب الرأي الموافق لهذه الفتوى فإن وجدنا الله حقاً فلِمَ تمنعني من تخصيص أيام للعبادات دون غيرها؛ لأنه والله عندما يرضى الله عنا ستكون جميع أعمالنا عبادة.
في حديث قدسي قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، -معنى الحديث-: "مازال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى صرت بصره الذي يبصر به، و سمعه الذي يسمع به، ويده التي يبطش بها ... " إلى آخر الحديث ،فطوبى لمن نال هذا الشرف والتقدير العظيم، وبالتأكيد لن يكون حال المسلمين كما هو عليه اليوم إن نلنا هذه المنزلة، ووالله العملية ليست بصعبة، فقط أردت الرد على هذه النقطة المطروحة في رد الشيخ على الفتوى، واستناده بالتالي:" وقد ثبت عنه –عليه الصلاة والسلام- النهي عن تخصيص ليلة الجمعة بقيام أو يومها بصيام، فقال: "لا تختصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي، ولا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم" أخرجه مسلم ، من حديث أبي هريرة –رضي الله عنه-، ومن هنا يتبين أن أصل التطوع بالصيام والقيام مشروع، لكن التخصيص بأيام أو ليال معينة لا يجوز إلا في حدود المنصوص عليه والوارد شرعاً، وبناءً عليه فإن تخصيص يوم الاثنين الموافق السابع والعشرين من شهر الله المحرم بالصيام، وليلة الأحد بالقيام لنصرة فلسطين أمر محدث لا يجوز بالكيفية التي قصدت، حديث الرسول واضح وصريح و الكلام عن يوم الجمعة بالذات و لا تلميح فيه أنه يطبق على أي يوم. فلا يكفي لعدم إجازة موضوع الفتوى المطروح. هذا والله أعلم.
أجاب عن السؤال الشيخ/ د.رياض بن محمد المسيميري (عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام)
الجواب:
إنني أشكر الأخ صاحب التعقيب على أدبه الجمّ، ورغبته الشجاعة في التوصل إلى حقيقة الأمر في القضية محل البحث والمناقشة، أعني: تخصيص يوم للصيام وليلة للقيام نصرة لفلسطين العزيزة.
وملخص ما أود الإعراب عنه ما يلي:
1-أن الله –تعالى- تولى بعدله وحكمته تشريع ما يحتاجه العباد وما تقتضيه الحكمة، دون أن يخوّل لأحد من البشر التقدم بين يديه –سبحانه- أو بين يدي رسوله –عليه السلام-.
قال –جل وعز-: "أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله"، (الشورى).
2-أن الله –تعالى- أعلن كمال الدين، وتمام النعمة بقوله الكريم: "اليوم أكملت لكم دينكم، وأتممت عليكم نعمتي، ورضيت لكم الإسلام دينا"، فليس لأحد أن يجيء بجديد أو يبتدع من عند نفسه عبادة لا أصل لها مهما حسنت نيته، وسما قصده، وعلت همته.
3-أن العبادات مبنية على التوقيف أي:على الشارع الحكيم –سبحانه- فلا تخضع للأذواق، ولا تنطلق من الأهواء، ولا يمليها العقل البشري.
أرأيت صلاة الظهر والعصر، ما بال ركعاتهن أربع فأربع؟ ولمَ لم تكن خمساً؟ إن العقل يعجز عن تفسير أمر كهذا فما عليه إلا أن يذعن للإرادة الإلهية، ويرضخ للحكمة الربانية الباهرة.
4-أننا لو أخضعنا عباداتنا للمقاييس العقلية، والمعايير الحسابية والأذواق الشخصية لوقعنا في دوامة من الحيرة والقلق، ولوجدنا أنفسنا ندور في حلقة مفرغة، بل نتخبط في متاهة مهلكة من الفتاوى المتضاربة، والانتقادات التعبدية المتصادمة، والأحكام الفقهية المتناقضة دون أن نجد مرجعية يتفق عليها الجميع لحل النزاعات المستشرية تلك، فلا مناص إذاً من ردّ النزاع في كل مسألة من المسائل أو قضية من القضايا إلى الله ورسوله –عليه السلام- امتثالاً لقوله –سبحانه-: "فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله وإلى الرسول"، (النساء).
وإذا رددنا المسألة هذه إلى الله ورسوله –عليه السلام- وجدنا نبينا قد نهى عن محدثات الأمور ووصفها بأنها ضلالات، ومن ذلك تخصيص أيام وليال للتعبد خلاف ما شرع وسنّ –عليه الصلاة والسلام-.(/1)
أما ما ذكر السائل الكريم من قوله –عليه السلام-: "مثل المؤمنين في توادهم..." الحديث فهو حديث صحيح لا مطعن فيه خرجه مسلم وغيره، ولكن لا وجه للاستشهاد به في مسألتنا هذه فنحن نمنع إحداث عبادات بلا دليل ولا نمنع أن يتواد المؤمنون ويتراحموا ويعطف بعضهم على بعض، بل شيوع المودة والمرحمة والمحبة بينهم هو غاية المنى، وبهجة الصدور ويمكن أن نحقق شيئاً من هذا المطلب بدوام الدعاء لبعضنا البعض، ووقوف بعضنا مع بعض في السراء والضراء، وهكذا.
وأما دعوة وأمنية السائل بأن نجتمع ونتوحد فهذا مطلب لكل مسلم غيور، وينبغي أن يسعى إليه الجميع لكن لا سبيل للاجتماع إلا بذات الأسلوب والمنهج والركيزة التي اجتمع عليها سلفنا الصالح من التسليم المطلق إلى حكم الله ورسوله، ونبذ الأهواء المضلة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه.
وأما الحكمة التي أعجبت السائل: (من وجد الله فماذا فقد...إلخ)، فأحسن وأبلغ منها قوله –تعالى-: "قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم"، فمن ادّعى محبة الله فليثبت صدق محبته بمتابعة النبي –صلى الله عليه وسلم- في كل صغيرة وكبيرة من أمور شريعته، ولذا سمّى العلماء هذه الآية آية المحنة؛ لأن فيها امتحان لصدق الناس من كذبهم في مسألة المحبة.
وأما الحديث القدسي الذي استدل به الأخ الكريم فهو حديث صحيح كذلك، لكن نيل محبة الله بأداء الفرائض والنوافل لا تتحقق إلا إذا كانت الفرائض والنوافل تؤدى بإخلاص لله –تعالى- وبمتابعة للرسول –صلى الله عليه وسلم- ثانياً أي: حسب السنة، وعلى سبيل المثال لو أراد أحد أن يصلي نافلة بعد العصر، فهل يؤجر عليها؟ الجواب: لا طبعاً مهما كان مخلصاً محتسباً، وذلك لأن النبي –عليه السلام- جعل هذا الوقت من أوقات النهي الثلاثة، فلا تجوز مخالفته أليس كذلك؟ وعلى هذا قس، والله يرعاك والسل(/2)
مناهج التعليم ودورها في البناء والهدم
يقول الله تعالى:? َلقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ?[آل عمران:164].
وقال الله عز وجل: ?وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ? الأعراف :52].
وقال أيضا: ً?قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ?[ المائدة: 15، 16].
وقال عز وجل :?إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً?[الإسراء: 9].
ـ كان المسلمون يتلقون علوم الإسلام في سهولة ويسر، وكانت منابع الإسلام الأصيلة ما تزال محفوظة في أساليب بيانها وإيضاحها من الأساليب الدخيلة عليها، والتي لم تشب بأساليب اليونان، من الفلسفة، ولا بالجدل العقيم الذي كان أسلوب المتكلمين في الأعصرة المتأخرة.
ـ أهمية تلقي العلم في المساجد وبركة المساجد وما ينطوي عليه طلب العلم في المسجد من إخلاص النية، وحسن العلاقة بين العالم والمتعلم.
ـ إن الأعداء في صياغتهم للمواد العلمية البحتة لم يعرضوها عرضاً قاصراً على المادة نفسها، ولكنهم يدسون فيها ما لا علاقة لها به البتة.
فمثل: الكيمياء، والفيزياء، وغيرهما قد حشيت بأفكار إلحادية وطبيعة مادية، من تلك المذاهب التي عاصرت نشأة هذه العلوم والتي ألَّهت الطبيعة لذلك لابد للمسلمين من أن يعيدوا صياغة هذه العلوم على الشكل الذي يعطي الثمار المطلوبة منها فقد أصبحت دراستها من الأمور الضرورية –وفي نفس الوقت لا يكون لدراستها عواقب سيئة، من حيث سلامتها من الأفكار الدخيلة المدسوسة فيها.
ـ لقد نشأت العلوم الإنسانية: الفلسفة، والاجتماع، وغيرهما، وكذلك العلوم الكونية: كالفيزياء والكيمياء.. وغيرهما في أوروبا في الوقت الذي كانت تطغى فيه هذه المذاهب الإلحادية، فمزجت هذه الثقافة المختلفة، بهذه المذاهب الإلحادية، ثم نقلت إلى العالم الإسلامي كما هي، ولذلك ترى كثيراً من النظريات اليهودية والإلحادية تدرس في مدارس وجامعات البلاد الإسلامية كنظرية داروين، وفرويد، وديكارت، وغيرهم، ولذلك لابد من تحرير هذه العلوم مما علق بها لتصبح إسلامية خالصة.
فالأسس التي أقام عليها الأعداء مناهجهم مبنية على مفهومات وتصورات، تتناسب مع ما هم عليه من تصورات ومعتقدات، كلها مناهضة للإسلام، لأنها قائمة على رفض الدين، واستبداله بالوثنية، وتفسير كل شيء من حول الإنسان تفسيراً مادياً شهوانياً، فلماذا نسير نحن المسلمين وراءهم بالتقليد الأعمى، ونتعامى عن عقيدتنا وعن تصوراتنا ومفهوماتنا الخاصة بنا والمميزة لنا عن غيرنا من الأمم الكافرة، والمذاهب الأخرى المعادية للإسلام والتي عاصرت نشأة هذه العلوم، والتي تتمثل في:
أ - الطبيعة: (المذهب الطبيعي).
ب - المادة: (المادة الجدلية، والماركسية).
ت - العقل: (المذاهب العقلية).
ث - الغرائز: (الوجودية).
ج - القومية: (النزعة القومية المغالية التي تتخذ من القومية عقيدة...).
ـ إن الثقافة عندما تكون مقتبسة من بلاد تختلف عن عقائدنا، وأفكارنا وعاداتنا، ونظام حياتنا، فإنها سوف تنشيء في أبنائنا عقلية مشابهة للعقلية التي صيغت لها تلك الثقافة، وحينئذ لا قيمة لما يمارسه الطالب من بعض المظاهر الإسلامية أو الشعائر الدينية، التي يحرص البعض على المحافظة عليها، لأن الأساس الفكري ليس أساساً إسلامياً سليماً، ولا يولد تفكيراً ولا سلوكاً إسلامياً في الحياة الفردية ولا الاجتماعية.
ـ إن من الأساليب المتبعة اليوم والتي تؤدي إلى تخرج طوابير من الجهلة بالدين الإسلامي طرائق التدريس القائمة اليوم فهي لا تربط الطالب بمصطلحات أسلافنا، حتى يصبحوا قادرين على استيعاب التراث والاستفادة منه ونشره كما أن المناهج ليست من القوة بحيث تكون بديلاً عن تراث السلف وحينئذ يصبح الطالب في حالة من الجهل الذي لا يخوله الاستفادة من الماضي، ولا يخرج منها بالعلوم الكافية، وهذه ظاهرة خطيرة قد تؤدي بالأمة إلى الجهل المطبق وإلى ضياع العلوم الشرعية.
ومن هذه الأساليب: اختيار المدرس الذي يفقد القدرة على العطاء، والذي لا يؤمن بما أسند إليه من مواد إسلامية، والذي لا يعطي من نفسه القدوة الصالحة، بل يمسخ بأفكاره الضالة ما أسند إليه، أو يكون على حالة يحمل طلابه على السخرية والاستهزاء منه، وبالتالي احتقار المادة التي يقوم بتدريسها وعدم المبالاة أو الاهتمام بها.
ومن صور الإفساد في التعليم:(/1)
ـ تعمد إنجاح الطلاب في المواد الإسلامية، في الغالب تحت شعار "الدين يسر" والتشديد في المواد الأخرى، حتى يشعر الطالب بأنه لا حاجة لبذل الجهد في هذه المواد الإسلامية، وإن الأولى به أن يبذل جهده لما يتوقع الرسوب فيه، وبالتالي يصبح الطالب ضعيفاً في المواد الإسلامية لا يعرف منها إلا النزر القليل، متمكنا في غيرها من المواد الأخرى.
ـ وهناك من يطلق كلمة الازدواجية على من يتعلم الدين بكثافة.
إن الازدواجية إنما تتمثل في وجود مدارس دينية بحتة في مناهجها، وأخرى علمانية لا تعرف رائحة الدين، فتنشأ من خلالهما فئتان متباينتان في ثقافتهما وتفكيرهما وعقليتهما، وليس العيب في اتجاه من اتجه لدراسة الدين، فتلك هي القاعدة الأصلية في أمة تدين الدارسين لها بالعلوم الإسلامية.
سلبيات من العصور المتأخرة:
لا ننسى أن نلفت النظر إلى ما وصلت إليه ثقافة المسلمين في العصور المتأخرة من التعقيد في الأسلوب، والتفريعات التي لا طائل تحتها في بعض العلوم، والانشغال بالمناظرات وأساليب الجدل العقيم، مما جعل العلوم يطغى عليها العقم والتعقيد بسبب إقبال كثير من العلماء على الانشغال بعلم الكلام، والفلسفة والتصوف، والمبالغة في التوسع المفرط في مجال الفقه الإسلامي، إضافة إلى ما حدث من اختلاف في المذاهب والآراء والمنازعة، وقد كانت الأصول الشرعية: الكتاب والسنة، تعرضان في العصور السابقة بأسلوب سهل ميسر، متناسب مع سنة الله سبحانه في التيسير? وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ?[القمر:17].
ـ إن الاعتكاف على نوع واحد من أنواع الثقافة الإسلامية الموروثة يخلف طوائف مثل: الفقهاء والصوفية والسلفية..
وكل طائفة تظن أنها هي الوحيدة التي تمثل الإسلام، وأن انتصارها هو انتصار للإسلام، والأصل أن كل هذه العلوم التي عكفت عليها كل طائفة تخدم الإسلام، وإنه لا صراع ولا تباين بين هذه العلوم إلا ما صادم منها نصاً شرعاً، أو قاعدة شرعية، والحكم في كل ذلك كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والإسلام لا يقر الاختلاف والتنازع والصراع والتباين والتعصب الممقوت، وليس كل ما في الثقافة القديمة واجب الالتزام، كما أن عناصره ليست كلها إسلامية، وكذلك الثقافة الحديثة ليست كلها عدوة للإسلام مناهضة له، حتى يعتبر الخوض فيها إثماً، أو توضع موضع الخصومة، فالإسلام يدعو إلى كل علم نافع ولا يحجر على العقل البشري الخوض في أي علم ما دام أنه يراعي حق الله تعالى في خطواته وتفكيره ومناهجه ونتائجه وثمراته، وحينئذ فلا ازدواج في نظرة الإسلام ومنهجه ونظامه.
صور من أساليب معالجة الأوضاع القائمة للمناهج ونظم التعليم:
لا شك أن كل أمة ذات عقيدة تعتز بعقيدتها وتدافع عنها مع قطع النظر عن كونها عقيدة حق أو باطل من شأنها أن تجعل كل شيء في الحياة يخدم هذه العقيدة، وينميها، ويثبتها وذلك عن طريق التعليم ، أو الإعلام ، أو الاقتصاد أو السياسة، أو الاجتماع، أو الأدب ، أو علوم الكون ، أو المظاهر العامة أو القوانين ... أو غير ذلك .
- وعقيدة كل أمة هي الصورة الحقيقية لحضارتها، وحضارة الأمة المسلمة تتمثل في عقيدتها الربانية ذات القيم الرفيعة ، والخلق السامي فليست الحضارة في بريق المادة، ولكنها في الأسس الأخلاقية التي تقوم عليها ..
- أن التعليم في الأمة المسلمة يقوم على أسس ثلاثة :
أ ـ المنهج الرباني .
ب ـ المدرس صاحب القدوة الحسنة والكفاءة العلمية .
ج ـ طرائق التأليف والتدريس الملائمة لكل مرحلة .
- أنه يجب أن يراعي في تدريس مادة التاريخ، أن يكون تفسير الحوادث وتعليلها والحكم لها أو عليها قائماً أيضاً على النظرة الإسلامية وأن يُهتم بتدريس العالم الإسلامي، حتى يقوى الشعور بالانتماء إلى العالم الإسلامي ، ودراسة أحوال العالم الإسلامي ومشكلاته، وهذا من مقتضيات الأخوة الإيمانية ، والوحدة التي يدعو إليها الإسلام .
- ويراعى في علوم الفلسفة والاجتماع وعلم النفس، النظرة القرآنية إلى الإنسان والكون والوجود ، فتفسر الظواهر كلها تفسيراً إسلامياً، وحينئذ لابد من عرض المذاهب الفكرية الأخرى المصادقة للإسلام عرضاً نقدياً لتفنيدها وكشف عوراتها وسقوطها ووضعها في مكانها اللائق بها ، حتى لا يفتن بها الطالب، أو تلقي في روعه شيئاً من الشبهات والشكوك .(/2)
- إننا نلاحظ كما قلنا أن كل أمة تبنت عقيدة معينة تخضع كل العلوم لخدمة عقيدتها، وتفسرها تفسيراً يتناسب مع عقيدتها، ولو بالتعسف والتحامل ، فالعلوم الكونية مثلاً تفسرها الشيوعية تفسيراً مادياً جدلياً ، والإسلام أولى أن تربط به هذه العلوم ولذلك يجب أن تكون عند الأمة الإسلامية خادمة لعقيدتها الربانية فتجعل هذه العلوم مظهراً من مظاهر قدرة الله عز وجل وبديع صنعه وإحكامه، وتلك هي النظرة التي جاء بها القرآن الكريم المنزل من عند الله تعالى فعقيدة الإسلام هي التي تنسجم مع الكون كله، بينما العقائد الأخرى مبتورة الصلة به ، لأنها لا صلة لها بوحي الله سبحانه .
- إن من الخطأ أن نترك العلوم الإنسانية الكونية على حالها، وأن نجعل العلوم الإسلامية مادة مضافة إليها منفصلة عنها ، حتى تصبح العلوم الإسلامية شيئاً، والعلوم الأخرى شيئاً مستقلاً منفصلاً عن الدين لا علاقة لها به ، حتى يولد ذلك عند الطالب نظرة خاصة إلى العلوم الإسلامية هي نظرة الاحتقار والازدراء، حين يرى الإسلام في جانب والعلوم الأخرى في جانب آخر .
يجب أن يُراعى في تدريس المواد الإسلامية : الكم والكيف :
أ ـ أما الكم ، فيجب أن تكون نسبة ما يدرس للطلاب بالكمية التي تتناسب مع أهدافنا في الارتقاء بطلابنا في الناحية الإسلامية: من حيث إبراز عقيدة الإسلام على حقيقتها في نفوس أبنائنا، والارتقاء بهم في المستوى العلمي، وتحصينهم من كل الدعوات الهدامة الواردة عليهم من كل صوب ، وتسليحهم بالعلم الذي يقدرون به على دفع كل شبهة .
ب ـ وأما الكيف : فأعني به ما يجب مراعاته عند تأليف الكتاب الإسلامي من حيث :
مراعاة المستوى للطلاب من الناحية العقلية ، ومن حيث حسن التعبير وجمال التأليف بحيث يكون سهلاً مشوقاً ، ويستخدم في ذلك أحدث الطرق والأساليب التي تراعى في غيره من العلوم ، وهذه الغاية يجب أن يبذل لها الجهد ، وتجند لها الطاقة حتى تؤتي ثمارها .
- إننا في حاجة إلى أن نحسن اختيار المتفوقين من طلابنا، ونرتقي بهم في سلم العلم، حتى يصلوا إلى مرتبة الاستيعاب للعلوم الشرعية الضرورية ، والوعي لما يدور من حولهم ، ومعرفة العلوم الأخرى المعاصرة ، والثقافة المعاصرة حتى يصبحوا في مستوى القدرة على صياغة ما يسند إليهم من الكتب المنهجية على اختلاف علومها ومستوياتها، وحتى لا نعيش دائماً عالة على غيرنا حتى في الأفكار والثقافة، وبناء العقلية الإسلامية المتكاملة .
- لابد لكل طالب في أرض الإسلام مهما كان تخصصه أن يلم بقدر كاف في علوم الإسلام، ثم ينتقل بعد ذلك إلى مجال التخصص، ليكون الجميع خادمين للعلم بكل تخصصاتهم المتنوعة حتى لا يحدث في الأمة الازدواجية في التعليم، وهذا ما كان عليه أسلافنا في العصور السابقة قبل ظهور الحضارة الغربية ، فقد برز في كل عصر أصحاب التخصصات المختلفة ولم تشكل ازدواجاً ولا تبايناً ولا انفصاماً، ونحن نرى أقطاباً في أنواع العلوم التي برزوا فيها أمثال: أئمة التفسير، وأئمة الحديث ، وأئمة الفقه ، وحفاظ القرآن، وأئمة النحو وأئمة اللغة والأدب وكذلك الذين فاقوا غيرهم في: التاريخ ، والشعر ، وغيرهما من العلوم الأخرى، وبهذا حفظ العلم والدين، حين وجد في الأمة من يرجع إليه في كل فن .
ما ينبغي أن تكون عليه المناهج :
إن النظرة الصحيحة للمناهج في الأمة المسلمة:
هي أن يراعى فيها إيجاد الاختصاصات في كل فن من فنون العلوم المختلفة ، لا إيجاد العقليات المختلفة ، القائمة على اختلاف المصادر المصادقة للإسلام، وهذا يعني أنه لابد من أن يعتني بالعلوم الإسلامية في كل مدرسة وفي كل معهد ، وفي كل كلية من كليات الجامعات، فينشأ الجميع بالعقلية الإسلامية الواحدة التي لا تباين فيها ، وتسخر كل الطاقات والتخصصات لخدمة الإسلام وهذا لا يتم إلا عندما تكون جميع العلوم مصبوغة بالصبغة الإسلامية .
كما أنه لابد من إيجاد المعاهد الدينية على مستوى رفيع شريطة أن تكون موصولة بالعلوم الحديثة أيضاً؛ حتى تنشأ العقلية من هذه المعاهد معايشة للحياة الجديدة، قادرة على حل مشكلاتها مستفيدة من تجارب البشر ، وتطور العلوم، ذلك أن دين الله عز وجل هو الدين الخالد الصالح لكل زمان ومكان، والذي لا يتصادم مع أي علم ، ولا مع أي حقيقة علمية .
وحينئذ نكون قد ضمنا إيجاد التخصصات سواء في العلوم الإسلامية أو في سائر العلوم الكونية والإنسانية مع مراعاة أن يكون الإسلام مخدوماً بكل هذه العلوم وأن تكون الأجيال كلها تحمل فكراً واحداً هو الإسلام فلا ازدواجية، ولا تصادم.
وخلاصة القول:
لا بد من:
أ ـ إحداث وعي إسلامي عام في كل مستويات التعليم .
ب ـ لابد من وصل ما بين الدين والحياة، والاستفادة من كل جديد .
ج ـ لابد من الأخذ بالأساليب الحديثة الصالحة في عرض العلوم الإسلامية، حتى تؤدي إلى حسن قبولها وفهمها.
ولابد في النظام التعليمي من:
أ ـ انبثاقه عن الفكر الإسلامي .(/3)
ب ـ وتلبيته لحاجات المجتمع الحديث .
ج ـ وقدرته على الوقوف بقوة أمام الأنظمة الثقافية المعادية ، لتحصين الشباب، ودفع الباطل والدفاع عن الحق، وتجلية حقائقه .
ماذا يحدث اليوم :
1- استقدام النصارى وغيرهم .
2- محاولة تعميم الموسيقى .
3- التقليل من حصص القرآن .
4- محاربة المدرسين الصالحين .
5- توحيد زي البنات .
6- الدس في بعض الكتب .
7- إلغاء بعض الكتب التي تحصن الشباب من الفكر الشيوعي .
8- إسناد تدريس العلوم الإنسانية إلى معادين للإسلام .
9- تصيد السقطات التاريخية ، والانحرافات الصوفية ، وجعلها قواعد ملصقة بالدين، بقصد التحريف والدس في الإسلام .
10- تبني الدعوات التي انحرفت عن الإسلام، للنفوذ من خلالها في طعن الإسلام من الخلف، وذلك كالدعوات : الباطنية ، وكالقرمطية ، وغيرها..
11- الإشادة بأشخاص كان لهم دور في محاربة الإسلام أو الدس عليه، أو تحريفه ، أمثال : الأسود العنسي ، وعلي بن الفضل ، والحلاج ، وابن عربي...
12- إفساد الخلق ، وإفشاء الجهل عن طريق الاختلاط والتبرج .
13- محاربة إنشاء كليات شرعية مستقلة تخرج المتخصصين في العلوم الشرعية كما تخرج الكليات الأخرى المتخصصين في سائر العلوم .
14- الاهتمام بالقوانين الوضعية أكثر من الاهتمام بالعلوم الشرعية.
راجعه: عبد الحميد أحمد مرشد.(/4)
مناهج التعليم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله . ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ?[ آل عمران : 102] ?يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًاً? [النساء : 1] والصلاة والسلام على سيدنا محمد أشرف الأنبياء والمرسلين ، الذي بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته . وبعد :
تفتح المدارس والجامعات والمعاهد في كل يوم أبوابها في مختلف أنحاء العالم ويدلف إليها ملايين الطلاب ، ذكوراً وإناثاً ومع انتشار العلم وأدواته وكثرة وسائله ، إلا أنه مقطوع الصلة بخالقه، بعيد عن الله تبارك وتعالى الذي خلق هذا الإنسان وزوده بأدوات العلم والمعرفة ومنحه القدرة على التمييز، وعلمه النطق والتعبير والبيان، كما قال جل وعلا: ? الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ? [الرحمن:1-4]، وقال: ? وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ?[النحل:78 ].
إن العلم لا يفضل ولا يشرف ولا ينفع إلا إذا كان مصدره من الخالق سبحانه، العلم النافع الذي يعرف العبد بربه، ويعرف بوظيفته في هذا الكون وعلاقته به ، العلم الذي ينير للإنسان دروبه وحياته كلها ، هو ما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - من ربه تبارك وتعالى، وهو المتمثل في كتاب الله عز وجل وسنة نبيه الذي به تحصل الحياة والنور والهداية، كما قال سبحانه: ? وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا ... ?[الشورى:52].
إن العلم الذي برع فيه الكافرون ، قاصر على هذه الحياة الفانية .. لكنهم لا يعلمون شيئاً عن خالقهم ومدبر أمورهم ولا يعلمون كذلك لماذا جيء بهم، وما الحكمة من خلقهم ثم ماذا سيحدث لهم بعد هذه الحياة القصيرة كل ذلك لا يعرفونه ولا يعلمونه وصدق الله القائل عن الكافرين: ? يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ?[الروم:7].
هذا العلم المقطوع عن الله عز وجل القاصر على المادة الظاهرة .. هو الذي يدرس في المدارس والجامعات والمعاهد والكليات، علم آلي مادي صرف .. وهذا المنهج هو الذي يفرض على بلدان المسلمين من قبل أعدائهم ولذا حرصوا منذ بداية احتلالهم للبلاد الإسلامية على السيطرة على مناهج التربية والتعليم ورسم السياسات التعليمية التي استطاعوا من خلالها أن يصوغوا عقول الناشئة ويبعدوهم عن دينهم وعن أمتهم فخرجوا أجيالاً ، لا هم فلحوا في الدنيا وأتقنوا العلم المادي، ولا هم عرفوا ربهم ودينهم وأخلصوا لأمتهم لكنهم تنكروا لذلك كله ، إلا من شاء الله ممن هداه ووفقه.
لقد نظر أعداء الإسلام ومنذ فترة طويلة في مناهج المسلمين التعليمية فوجدوها إسلامية مرتبطة بالدين وبالقرآن والسنة، فكبر عليهم وهم الأعداء أن يتركوا للمسلمين دينهم بعد أن جاهدهم المسلمون وأخرجوهم من بلاد الإسلام. فوضعوا لنا مناهج تعليمية تجهلنا بديننا ولا تسمح لنا بإتقان دنيانا لكي ننتج ونصنع. فكنا كما قيل :
نرقع دنيانا بتمزيق ديننا فلا ديننا باق ولا ما ترقع
لقد جهلنا ديننا الذي هو مصدر قوتنا وعزتنا ، وجهلنا دنيانا .. لقد تفشت الأمية في العالم الإسلامي حتى في صفوف المتعلمين والدارسين فكثير منهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني.
تقول الإحصائيات بأن الأمية في أوساط الشباب فوق خمسة عشر عاماً تتراوح نسبتها بين 50 % – 80 % ، بينما النسبة لدى الدول المتطورة 2% ولا تتعدى هذه النسبة 45% في المتوسط في دول العالم الثالث بصفة عامة. وهذا يعني بوضوح أن أعلى نسبة للأمية بين البالغين في العالم هي في الدول الإسلامية.
في بلادنا يقولون بأن الأميين الرسميين يفوقون سبعة ملايين من البشر، ويبدوا أن هذا الرقم بعد التخفيض وإلا فإن النسبة أكبر وأفضع والمأساة في التعليم العام مفجعة ومخيفة للمطلعين على الواقع السيئ.(/1)
كيف يسود الجهل ويستوطن بين ظهرانينا على الرغم من أن أول آية نزلت في القرآن على الرسول - صلى الله عليه وسلم - كانت أمراً بالقراءة والكتابة وتعظيماً لأدواتها، كما قال سبحانه: ? اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ?[العلق:1-5].
ويرفع الله شأن العلم والعلماء في آيات كثيرة كقوله: ? ... قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ?[الزمر:9]، وقال: ? يرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ... ?[المجادلة:11]. وأحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأفعاله تحث على العلم وتحصيله ونشره فقال - صلى الله عليه وسلم - : "من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له طريقاً إلى الجنة"، وقال: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له"، وقال: "إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرض حتى النملة في حجرها وحتى الحوت ليصلون على معلمي الناس الخير". وكان - صلى الله عليه وسلم - يفدي الأسير من أسرى بدر بتعليمه عشرة من المسلمين القراءة والكتابة.
ولقد نهض المسلمون بالعلم والتعليم وأقاموا صروحه منذ بعث الله محمداً - صلى الله عليه وسلم - وسار على ذلك، فلم يأتِِ القرن التالي إلا وقد انتشر العلم في جميع أجزاء الدولة الإسلامية المترامية الأطراف والممتدة من بخارى وسمرقند شرقاً إلى الأندلس غرباً، ولقد أقاموا نظاماً علمياً وتربوياً فريداً ابتداءً من الكتاتيب ثم المساجد والمدارس ، إلى حلقات العلم ودوره وبيوت الحكمة والمكتبات والجامعات التي كانت مرتبطة بحرم المسجد مثل جامع الزيتونة والقيروان والأزهر وغيرها وهي أول نماذج للجامعات عرفتها البشرية.
ولقد بلغ اهتمام المسلمين بالعلم والعلماء أنهم كانوا يوقفون الأوقاف الضخمة من الضياع والعقارات وغيرها لصرف ريعها على أهل العلم وطلابه وهم بذلك يتقربون إلى الله ويتعبدون بنشر العلم وتكريم أهله.
وعلى الرغم من هذا التاريخ الإسلامي المجيد في محاربة الجهل والقضاء على الأمية بنوعيها، أمية القراءة والكتابة وأمية الإيمان والعقيدة والدين، فإننا نجد أحفاد المسلمين العظام اليوم يتراجعون عن دورهم القيادي في الحياة هداة مهتدين ويتوارون عن مسؤولياتهم الكبيرة في حمل رسالة الإسلام إلى البشرية كافة ، ويتهاوون في ظلمات الجهل وإهمال التعلم حتى وصلت بهم نسبة الأمية إلى هذا الحد المخيف الذي نراه ونشاهده. هذا الواقع المحزن للعالم الإسلامي لابد من العمل على تغييره وإصلاح أوضاعه ، وتقع مسؤولية ذلك على القيادات السياسية والفكرية في العالم الإسلامي وفي مقدمتهم أهل العلم والفكر فعليهم جميعاً أن يبادروا بوضع الخطط والبرامج وبذل الجهود في تنفيذها من أجل القضاء على الأمية بشقيها وبذلك يستطيعون أن يعالجوا قضية الجهل والتخلف الذي يعيشه العالم الإسلامي إذ من المستحيل قيام أي تقدم علمي وتقني في ظل الواقع الحالي الذي يتميز بالظلم والاستبداد السياسي فإن ذلك من أبرز أسباب جهل الأمة وتخلفها في كل المجالات . إن إصلاح أوضاع التعليم وإتقانه ودعمه بالكفاءات المؤهلة والمدربة والتي تتمتع بالقوة والدين والأمانة هو مفتاح التغيير، وتنشئة الأجيال على الدين والعلم والإيمان ينعقد الأمل بعد الله في نهضة الأمة ورفعتها وتقدمها، هذا هو الطريق الذي ينبغي أن تسلكه الأمة وتناضل وتكافح من أجله بكل فئاتها وقواها، وأن تتحد في سبيل القيام بذلك وتسير عليه تحقيقاً لقوله عز وجل: ? وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ?[الأنعام:153].(/2)
اجتمع زعماء العالم في أمريكا وتحدثوا وخطبوا وتحاوروا ولكنهم عادوا من اجتماعهم وانفضوا منه على غير شيء ، إنهم أصلوا للسياسات القائمة، والمتمثلة في هيمنة الأقوياء على الضعفاء. وتحكم الأغنياء في ثروات الفقراء. إنهم لم يصنعوا شيئاً للبشرية المعذبة التي تعيش في قلق واضطراب وتعيش في ظلم واضطهاد . إن مليارات من البشر يهيمنون على وجوههم في هذه الحياة لا هدف لهم ولا إيمان عندهم، جميعهم يبحثون عن مخارج وطرق ومسالك تنقذهم مما هم فيه .. والبشرية كلها مفلسة خاسرة لا تملك لهم شفاء ولا علاجاً فليس عندها هدف ولا نور. إن الذي يملك الحل والعلاج هم المسلمون بما أكرمهم الله به من الإسلام وبما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - من ربه من البينات والهدى ، قال تعالى: ? ... قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ? [المائدة:15-16]. وقال: ? ... فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى?[طه:123].
فهل يتقدم المسلمون بدعوة العالم إلى هذا الدين وبيان ما فيه من الخير والهدى والشفاء لأمراض البشرية السياسية والاقتصادية والروحية والفكرية ومن المؤسف أن أمراض الكفار قد أصيب بها جل المسلمين، فكيف يداوي الناس من هو سقيم.
إن الأزمات والمشكلات والأمراض القائمة لا تستعصي على العلاج ولدينا الوصفة التي إن أخذنا بها شفينا بإذن الله، إن الوصفة الكاملة موجودة في القرآن الكريم والسنة المطهرة. ولكن لابد من استخدام العلاج والأخذ به، فمجرد المعرفة وحدها بأن هذا العلاج صحيح مفيد دون استخدامه والأخذ به لا ينفع ولا يفيد شيئاً.
إن القرآن الكريم يجعل الإيمان والعلم الصالح هو العلاج الناجح والوحيد لإنقاذ الإنسان من الضياع والخسران فيقول الله تعالى: ? وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ... ?[العصر:1-3] ويقول: ? ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ... ?[التين:5-6]، فهل تقدمنا بدعوة الإيمان إلى الآخرين.
ويخبرنا الله بأن أعظم الأمراض وأخطرها هو في الإعراض عن دينه وشرعه، والكفر بشرائع الإيمان والإسلام، قال سبحانه: ? وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى?[طه:124]، وقال: ?... وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ?[المائدة:5]. فإذا اجتنبنا الداء وأخذنا الدواء شفينا بإذن الله .. وإذا لم نقلع عن الداء ولم نأخذ الدواء بقينا بأمراضنا وأدوائنا.
إن مثلنا نخن المسلمون كمثل المرضى الذين شخصت أمراضهم وحددت وكتب لهم الطبيب العلاج وأمرهم بأخذه واستخدامه ، ثم أخذوا يقرؤون الوصفة صباح مساء دون استخدام العلاج. فلا شك أن المرض يزداد وأن النتيجة معروفة.
ومثل آخر يبين حالتنا ، إن مثلنا كمثل قوم يعيشون في الظلام لا يبصرون ولا يهتدون وهم يعلمون بوجود مصباح يضيء لهم ويعلمون مفتاحه وكيفية إضاءته ثم لا يتحركون ولا يقومون بإشعال المصابيح وإيقادها ، إنهم سيعيشون في الظلام إلى الأبد ، قال تعالى: ? يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَاعْتَصَمُواْ بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً?[النساء:174-175]. وقال: ? يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ?[يونس:57-58].
فاللهم نور بالعلم قلوبنا وخلص من الفتن صدورنا وهب لنا من لدنك رحمة تغنينا بها عمن سواك ، اجعلنا هداة مهتدين ، سلماً لأوليائك حرباً على أعدائك نحب بحبك من أحبك، ونبغض ونخلع من يفجرك ولا يعبدك .. اشف مرضانا وارحم مبتلانا واغن فقراءنا، اللهم ارحم ضعفنا واجبر كسرنا وتولى أمرنا وانصرنا على عدوك وعدونا .. وصلي وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه.
راجعه/ عبد الحميد أحمد مرشد .
ـ صحيح مسلم. ج4 باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن، وعلى الذكر. الحديث رقم: 2699
ـ صحيح مسلم ج3 كتاب الوصية. باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته. الحديث رقم: 1631
ـ المعجم الكبير 8/ 234، حديث رقم: 7912 ، وصححه الألباني في الجامع الصغير وزيادته 1/ 272، حديث رقم: 2719 .(/3)
مِنَّةُ الرَّحْمَنِ
فِي نَصِيحَةِ الإِخْوَانِ
(نصيحة في العقيدة والعمل والسلوك)
تأليف فضيلة الشيخ الدكتور:
ياسِر بُرهامِيّ
غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
إن الحمد لله تعالى نحمده ونستعينه ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم:
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } [آل عمران:102].
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً } [النساء:1].
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً } [الأحزاب:70، 71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله , وأحسن الهدي هدي محمد- صلى الله عليه وسلم -, وشر الأمور محدثاتها وكل محدثةٍ بدعة, وكل بدعةٍ ضلالة وكل ضلالةٍ في النار.
أما بعد، فقد قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: "الدين النصيحة", قلنا: لمن؟، قال : "لله ولكتابه, ولرسوله, ولأئمة المسلمين وعامتهم"(1).
والنصيحة في أمر الآخرة تشمل أنواع النصيحة كلها, فهي نصيحة لله ببيان توحيده, ومعرفته, ومحبته، وحقوقه على عباده. ونصيحة لكتابه: بتصديقه، وتعظيمه، والأمر بتحليل حلاله, وتحريم حرامه. ونصيحة لرسوله- صلى الله عليه وسلم - بتوضيح معاني اتباعه ولوازمها, ونصيحة لأئمة المسلمين وعامتهم ببيان أسباب سعادتهم في الدنيا والآخرة, فإن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - بُعث بصلاح الدين وصلاح الدنيا, والتزام المنهج الإسلامي الصحيح هو طريق النجاة للفرد, وصلاح الأمة, وهو سبب التمكين في الأرض والنصر على الأعداء.
{ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً } [النور: من الآية55].
كما أنه هو الطريق لوحدة الدعاة ومن ثم وحدة المسلمين التي ينشدها كل مخلص, فإنما اجتمع سلفنا الصالح من الصحابة فمن بعدهم عليه, ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.
ولما كثر -بحمد الله- من ينتسب للإسلام ويرغب في الالتزام به, ولكن قل -ولا حول ولا قوة إلا بالله- من يعرف أصول المنهج الإسلامي الصافي النقي, منهج أهل السنة والجماعة في العقيدة والعمل والسلوك والدعوة, فضلاً عمن يعمل به بعد معرفته - أحببت أن أنال نصيباً من هذا الأمر العظيم, أمر النصيحة, الذي جعله الرسول- صلى الله عليه وسلم - هو الدين, بأن أجمع ما تفرق في كتب أهل العلم في صورة مختصرة مع الدليل من الكتاب والسنة والإجماع لتكون تذكرة لنفسي, ثم لإخواني الأحباء, لنبصر بذلك طريقنا وسط المتناقضات والتصورات المختلفة والحروب الشعواء ضد الالتزام بمنهج الإسلام ولنعرف ما يميز المسلم الصادق -في الالتزام بالإسلام الصحيح- عن أهل البدع والجهل في أمر التوحيد وأصول الإيمان الذي هو أصل كل الأمور , وفي اتباع رسول الله- صلى الله عليه وسلم -, وفي العمل الصالح وتزكية النفس والسلوك الحسن مع الناس.
وأرجو من الله أن يجعل ذلك خالصاً لوجهه الكريم نافعاً لعباده المسلمين, حجة لنا عند لقاء رب العالمين.
أولاً: التوحيد وأصول الإيمان:
وهو يشمل:
الإيمان بالأسماء والصفات.
توحيد الربوبية والألوهية.
توحيد الله بالحكم والتشريع.
الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين والبراء من الشرك وأهله.
الإيمان بالملائكة والكتب والرسل.
الإيمان باليوم الآخر.
الإيمان بالقضاء والقدر.
قضية الإيمان والكفر.
عقيدتنا في صحابة رسول الله- صلى الله عليه وسلم - - رضي الله عنهم -، وخلفائه, ومسألة الإمامة والولاية.
ثانياً: في الاتباع ومناهج الاستدلال.
ثالثاً: التزكية والعمل الصالح.
أولاً: التوحيد وأصول الإيمان
1. الإيمان بالأسماء والصفات
(أ) أهمية الإيمان بالأسماء والصفات:
__________
(1) رواه مسلم (55/2/48) الإيمان، وأبو داود (4944/3/213) الأدب، والنسائي (4211/3/133) البيعة، والإرواء (1/126)، والإحسان بترتيب صحيح ابن حبان (4555/7/41)، وأحمد (4/102).(/1)
معرفة الله أصل الدين, وركن التوحيد و أول الواجبات, لما بعث النبي- صلى الله عليه وسلم - معاذاً إلى نحو أهل اليمن قال له: "فليكن أول ما تدعوهم إلى أن يوحدوا الله تعالى فإذا عرفوا ذلك فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات"(1)، الحديث صدر به البخاري كتاب التوحيد من صحيحه, وآيات الصفات لها فضل خاص كما في صحيح مسلم أن أعظم آية في كتاب الله آية الكرسي وكلها أسماء وصفات, وحب الآيات والسور المتضمنة لها سبب لدخول الجنة كما في حديث البخاري في الصحابي الذي كان في سرية وكان يقرأ لأصحابه في صلاة فيختم بـ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } [الإخلاص:1]، فلما أتاهم النبي- صلى الله عليه وسلم - أخبروه الخبر, فقال: "يا فلان، ما يمنعك أن تفعل ما يأمرك به أصحابك, وما يحملك على لزوم هذه السورة في كل ركعة؟"، فقال: أني أُحبها، فقال: "حُبُّك إياها أدخلك الجنة"(2).
ولقد أمرنا الله بدعائه بأسمائه وصفاته فقال: { وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [الأعراف:180].
وقال النبي- صلى الله عليه وسلم -: "إن لله تسعةً وتسعين اسماً مائةً إلا واحداً من أحصاها دخل الجنة"(3)، (أحصاها: حفظها, أطاقها: تعبد لله بها).
والفرق بين المسلمين وبين اليهود هو في الأسماء والصفات إذ نسبوا إليه الفقر والتعب وغل اليدين والعجز -نعوذ بالله من ذلك-.
والفرق بين المسلمين وبين النصارى هو في الأسماء والصفات إذ نسبوا إليه الصاحبة والولد والموت والبكاء وسائر صفات المخلوقين حين قالوا: { إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ } [المائدة: من الآية17].
وظن الجاهلية في صفات الله مهلك والعياذ بالله, فقد قال فيمن شك في صفة السمع والعلم لله تعالى: { وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ، وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ } [فصلت:22، 23].
ومعرفة الله بأسمائه وصفاته ومحبته ودعاؤه بها والتعبد له بمقتضاها هي جنة الدنيا التي من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة, وأجمع المسلمون على فضل هذا العلم وشرفه, فمن قلل من شأنه أو قال عنه: إنه (ترف عقلي) أو (إنه انشغال بما غيره أولى منه) فهو ضال مبتدع.
(ب) العقيدة الصحيحة – عقيدة السلف :
(نؤمن بكل ما وصف الله به نفسه, وبما وصفه به رسوله- صلى الله عليه وسلم -, من غير تعطيل(4) ولا تحريف، ومن غير تكييف ولا تمثيل).
__________
(1) قال الإمام البخاري: وحدثني عبد الله بن أبي الأسود، حدثنا الفضل بن العلاء، حدثنا إسماعيل بن أمية، عن يحي بن عبد الله بن صيفي أنه سمع أبا معبد مولى ابن عباس يقول: سمعت ابن عباس يقول: لما بعث النبي- صلى الله عليه وسلم - معاذاً إلى نحو أهل اليمن قال له: "إنك تقدم على قوم من أهل الكتاب فليكن أول ما تدعوهم إلى أن يوحدوا الله تعالى فإذا عرفوا ذلك فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم، فإذا صلوا فأخبرهم أن الله افترض عليهم زكاة في أموالهم تؤخذ من غنيهم فترد في فقيرهم فإذا أقروا بذلك فخذ منهم وتوقَّ كرائم أموالهم" رواه البخاري (7372/12/359) التوحيد.
(2) رواه البخاري تعليقاً (774/2/298) الآذان، والترمذي (2901/3/160) ثواب القرآن، والتعليق الرغيب (2/244)، وصفة الصلاة (85).
(3) رواه البخاري (6410/11/218) الدعوات، ومسلم (2677/17/8) الذكر والدعاء.
(4) التعطيل هو النفي، مثل نفي الجهمية لصفات الله كقولهم: "لم يستو على العرش"، "لم يكلم موسى تكليماً"، "لم يتخذ إبراهيم خليلاً".
أما التحريف فمنه:
أ. التحريف اللفظي: كقول بعض المعتزلة "وكلم اللهَ موسى تكليماً" لينفي صفة الكلام عن الله ويجعله من فعل موسى- صلى الله عليه وسلم -، وإن كان يعجز عن ذلك في قوله: { وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ } [ الأعراف: من الآية 143] بخاصة، فلا يحتمل ذلك.
ب. التحريف المعنوي: أي تحريف المعنى مع بقاء صورة النظر كقول من قال: "الرحمن على العرش استوى: أي استولى"، ومن قال: "اليد: القدرة"، وكذا في قول النبي- صلى الله عليه وسلم -: "ينزل ربنا إلى السماء الدنيا" بقول أمره أو ملائكته لبعض صفات الرب سبحانه.
والتكييف: اعتقاد كيفية معينة لصفات الله سبحانه وقد قال تعالى: { ولا يحيطون به علماً } [طه: من الآية 110]، والمنفي هنا هو إدراك الكيفية فالكيف مجهول، أي: هناك كيفية وحقيقة لصفات الله لكن نحن لا نعلمها، والتكييف أعم من التمثيل الذي هو التشبيه وهو أن يعتقد أن الله يشبه خلقه في صفاته، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.(/2)
لم يختلف الصحابة ولا الذين يلونهم ولا الذين يلونهم في هذا الاعتقاد أبداً, وإجماعهم حجة على من بعدهم فيجب الإيمان (بكل) ما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله- صلى الله عليه وسلم -.
فليس هناك فرق بين بعض الصفات وبعضها, وليست صفات الله مقتصرة على سبع كما يعتقد الأشاعرة أو غيرها, بل كل ما ورد في الكتاب والسنة يجب الإيمان به, كالحياة, والسمع, والبصر, والقدرة, والإرادة, والعلم, والكلام, والرحمة, والمحبة, والرضا على المؤمنين, والسخط على الكافرين, والفرح بتوبة العبد حين يتوب إليه, والضحك لرجلين يقتل أحدهما الآخر فيدخلان الجنة, واليدين والقَدَم, كل ذلك على ما يليق بعظمة الله وجلاله.
والسنة أصل في ذلك, فالحديث الصحيح حجة بنفسه في العقائد, ومنها إثبات صفات الله تعالى.
ويدخل في التحريف: التأويل المذموم, الذي ابتدعه بعض الخلف لشبهات عقلية فاسدة كمن يؤول الاستواء بالاستيلاء, ومن يؤول اليدين بالقدرة، والحب والرضا والغضب بالإرادة مع نفي هذه الصفات واعتقاد أن ظاهرها لا يليق بالله, وقد أجمع السلف على الكف عن هذا التأويل, ولم يفسروا آيات القرآن ولا أحاديث الرسول- صلى الله عليه وسلم - بهذه التأويلات البعيدة بل قالوا : (أمرُّوها كما جاءت) أي دالة على معانيها اللائقة بجلال الله, والإقرار بجهل الكيف, وعدم قدرة المخلوقين على الإحاطة به والحذر كل الحذر من التشبيه.
{ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ } [الإخلاص:1-4].
{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } [الشورى: من الآية 11].
وكما قالت أم سلمة والإمام مالك : (الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة).
ولذا فقد اتفق السلف على ذم الفلسفة وعلم الكلام, و أنه ليس مصدراً لمعرفة العقيدة ولذا كانت بدعة الجهمية في نفي الأسماء والصفات وتعطيلها وبدعة المعتزلة في نفي الصفات من شر البدع.
(جـ) هل آيات الصفات وأحاديثها من المتشابه؟:
قال ابن عباس رضي الله عنهما لمن أنكر شيئاً من أحاديث الصفات: (ما فرق هؤلاء يجدون رقة عند محكمه ويهلكون عند متشابهه)، فهي تشتبه على أهل الزيغ والضلال, وأما أهل العلم فهم الذين آمنوا بالكتاب كله, فردوا المتشابه إلى المحكم, فاتسق الكتاب كله, وعلموا الحق من الإيمان بصفات الله, بمعرفة معناها وجهل كيفيتها, فالتشابه الذي لا يعلمه إلا الله من ذلك هو حقيقة الصفات وكيفيتها, وأما المعنى فهو مما قال الله فيه: { كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ } [ص:29]،لم يستثن متشابهاً ولا غيره.
فتفويض السلف تفويض كيف لا تفويض معنى، ومن نسب إليه أنهم يعتقدون نفي معاني الصفات وأنها حروف لا تؤدي معنى كالكلام الأعجمي, أو الحروف المقطعة في أوائل السور فقد جمع بين التعطيل وبين الجهل بعقيدة السلف والكذب عليهم, (التفويض هنا معناه رد العلم إلى الله والإقرار بجهل العباد في هذا الأمر).
(د) التعبد بالأسماء والصفات حقيقة التوحيد:
وذلك بأن يمتلئ القلب بأجلِّ المعارف باستحضار معاني الأسماء الحسنى والصفات العلى, ويتأثر القلب بآثارها ومقتضياتها ويدعو الله بها, فمثلاً:
أسماء (العظيم) و(الكبير) و(المتعال) و(المجيد) و(الجليل) تملأ القلب تعظيماً لله وإجلالاً له.
وأسماء (البر) و(الكريم) و(الجواد) و(المنان) و(الرحيم) و(الجميل) و(الودود) تملأ القلب حباً له وشوقاً إليه وحمداً له وشكراً.
وأسماء (العزيز) و(شديد العقاب) و(الجبار) و(القدير) تملأ القلب خضوعاً وانكساراً وذلاً وخوفاً ورهبةً منه سبحانه.
و أسماء (العليم) و(الخبير) و(السميع) و(البصير) و(الشهيد) و(الرقيب) و(الحسيب) تملأ القلب مراقبةً لله في الحركات والسكنات، وتؤدي بالعبد إلى أن يعبد الله كأنه يراه فإن لم يكن يراه فإنه يراه.
وأسماء (الغني) و(الغفور) و(التواب) و(المجيب) و(اللطيف) تملأ القلب افتقاراً إلى فضله ورجاءً لرحمته ورغبةً في منته.
نسأل الله أن يفتح لنا وللمسلمين أبواب هذا الخير الذي لا يوصف والسعادة التي لا تقارن, فإن ذلك لا يُنال إلا بفضله ورحمته.
2. توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية
الإيمان بالله رباً يعني اعتقاد انفراده سبحانه:
(أ) بالخلق، والرزق، والتدبير، والإحياء، والإماتة، والضر، والنفع, قال تعالى:
{ قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ، فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ } [يونس:31، 32].(/3)
(ب) وبالمِلك والمُلك التام: { قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ } [المؤمنون:88، 89].
{ تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [الملك:1].
{ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ } [فاطر: من الآية13].
(جـ) وبالأمر، والنهي، والتشريع، والسيادة: { أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } [الأعراف: من الآية54].
{ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ } [التوبة: من الآية31]
{ أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ } [الشورى: من الآية21].
ومن مظاهر الشرك في الربوبية أن يعتقد مع الله أو من دونه سبحانه رازقاً أو ضاراً نافعاً كالاعتقاد في أصحاب القبور أنهم يقضون الحاجات ويسمعون الدعوات.
ومن مظاهره كذلك اعتقاد أن الإنسان يملك نفسه فهو حر مع أوامر ربه إن شاء قبلها وإن شاء ردها حتى جعلوا حرية الكفر والطعن في الدين من أساسيات حقوق الإنسان بزعمهم.
والإيمان بالله إلهاً لا إله إلا هو لا شريك له في ألوهيته:
يعني توجه العبد بكل عبادته وأفعاله الظاهرة والباطنة لله وحده, والكفر بكل ما يُعبد من دونه من الطواغيت, فالإله هو المعبود والمطاع, والذي تميل إليه القلوب وتشتاق إليه: { فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى } [البقرة: من الآية256].
{ قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ } [الأنعام:162، 163].
والشرك الأكبر الذي لا يغفره الله هو:
صرف أي عبادة من العبادات لغير الله: سواء كان ملكاً أو رسولاً أو ولياً فضلاً عما دون ذلك من الأحجار والأشجار والقبور حتى ولو على سبيل التوسل.
ومن ذلك الدعاء والاستغاثة وطلب المدد من الأموات والغائبين:
{ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ، وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ } [الأحقاف:5، 6].
{ وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ، وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ } [يونس:106، 107]
ومن ذلك الذبح لغير الله، قال تعالى: { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } [الكوثر:2].
وقال النبي- صلى الله عليه وسلم -: "لعن الله من ذبح لغير الله"(1).
ومن ذلك النذر للقبور والصالحين: { وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ } [البقرة:270]، فالنذر عبادة و صرفها لغير الله شرك.
ومن ذلك نسبة علم مفاتح الغيب إلي الأنبياء أو الأولياء أو الكهان أو العرافين أو المنجمين، واعتقاد أنهم يُصَرِّفون الكون, قال تعالى: { وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ } [الأنعام: من الآية59].
{ إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } [لقمان:34].
وهذا شرك في الربوبية, وإذا أضاف إليه اللجوء إليهم ودعاءهم ليضروا أو ينفعوا فقد زاد فيه شركاً في الألوهية, كمن يأتي السحرة والكهان ليسحروا له ويخبروه عن مستقبله, قال تعالى: { وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ } ، إلي قوله تعالى: { فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ } [البقرة: من الآية102].
__________
(1) رواه مسلم (1978/13/206) الأضاحي، وأحمد (1/108، 118، 152)، والحاكم (4/153) عن علي بن أبي طالب.(/4)
وسبب البلاء: الغلو في الصالحين, وبناء المشاهد والقباب والمساجد على قبورهم, والتمسح بها, والطواف حولها, وقد سد النبي- صلى الله عليه وسلم - هذا الباب بقوله: "ألا فلا تتخذوا القبور مساجد إني أنهاكم عن ذلك"(1)، وقال: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" يحذر ما صنعوا(2), وأمر بهدم كل قبر مشرف (مرتفع)، فالمسلم الحريص على التوحيد يتجنب الصلاة في المساجد التي بنيت على القبور سداً لذريعة الشرك.
والشرك الأصغر هو:
كل ذريعة وسبب يؤدي إلي الشرك الأكبر: كتعليق الخيوط، والحلق، وحدوة الحصان، والخرز، والودع، والتمائم، والأحجبة علي أنها أسباب لدفع العين والحسد والشر, أما لو اعتقد أنها بذاتها تنفع أو تضر فهذا شرك أكبر في الربوبية.
قال النبي- صلى الله عليه وسلم -: "ومن تعلَّق تميمة فلا أتم له، ومن تعلق ودعة فلا ودع له الله".
وحديث: "من تعلَّق تميمة فقد أشرك"(3).
ومن ذلك التطير (التشاؤم والتفاؤل بالطيور أو غيرها) لقول النبي- صلى الله عليه وسلم -: "الطيرة شرك"(4).
ومنه التوسل البدعي: بأن يقول للميت: (ادع الله لي) أو (استغفر لي)، أما لو قال له: (أغثني) أو (اغفر لي) فهو شرك أكبر وهو توسل شركي.
3. الحكم بما أنزل الله
من خصائص الربوبية اعتقاد انفراد الله بحق الحكم والتشريع:
{ أَلا لَهُ الْحُكْمُ } [الأنعام: من الآية62].
{ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ } [يوسف: من الآية4].
وقال: { وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً } [الكهف: من الآية26].
ومن العبادة التي يجب صرفها لله دون من سواه: التحاكم إلي شرعه, وقبول حكمه, والرضا به: { إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } [النور: من الآية51].
{ فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً } [النساء:65].
ومن مظاهر الشرك التحاكم إلى الطاغوت:
و هو كل من يحكم بغير ما أنزل الله { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً } [النساء:60].
والحكم بغير ما أنزل الله من أصول الكفر :
قال تعالى: { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } [المائدة: من الآية44].
و هو ينقسم إلى كفر أكبر وكفر أصغر:
والكفر الأكبر أنواع:
__________
(1) عن جندب بن عبد الله البجلي أنه سمع النبي- صلى الله عليه وسلم - قبل أن يموت بخمس وهو يقول: "قد كان لي فيكم أخوة وأصدقاء وإني أبرأ إلى الله أن يكون لي فيكم خليل، وإن الله عز وجل قد اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً، ولو كنت متخذاً من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك".
رواه مسلم (2/67، 68)، وأبو عوانة (1/401) والسياق له، والطبراني في الكبير (1/84/2)، ورواه ابن سعد (2/241) مختصراً دون ذكر الآخرة واتخاذ الخليل، وله عنده (2/241) شاهد من حديث أبي أمامة وله شاهد ثان أخرجه الطبراني عن كعب بن مالك بسند لا بأس به كما قال ابن حجر الهيثمي في الزواجر (1/120)، وضعفه الحافظ نور الدين الهيثمي في مجمع الزوائد (9/45).
(2) عن أسامة بن زيد أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - قال في مرضه الذي مات فيه: "أدخلوا عليَّ أصحابي"، فدخلوا عليه وهو متقنع ببرد، فكشف القناع فقال: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد".
رواه الطيالسي في مسنده (2/113 من ترتيبه)، وأحمد (5/204)، والطبراني في الكبير (ج1 ق22/1)، وسنده حسن في الشواهد، وقال شوكاني في نيل الأوطار (2/114): وسنده جيد، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (2/27): ورجاله موثقون، وصحيح النسائي (702/1/233) المساجد، والإحسان بترتيب ابن حبان (6585/8/212) التاريخ.
(3) رواه أبو داود (3883/2/467) الطب، والإحسان بترتيب صحيح ابن حبان (6058/7/630) الرقاء والتمائم، والصحيحة (492/1/889).
(4) رواه أبو داود (3910/2/474) الطب، والترمذي (1614/2/216) السير، وابن ماجه (3064/3/152) الطب، والإحسان بترتيب ابن حبان (6089/7/642) العدوى والطيرة والفأل، والبخاري في صحيح الأدب المفرد (909/337)، والصحيحة (429/1/790).(/5)
1. أن يجحد شريعة الله المعلومة من الدين بالضرورة، كمن يقول: "أنه لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين"، ويعتقد أن الدين شعائر فقط، وينكر أحكام الله في الحدود، والمعاملات، والأموال، والدماء وغيرها، مثل إنكار قطع يد السارق، وجلد الزاني، وحرمة الربا، والقول بأن هذه الأمور ليست من الدين، وهذا كله كفر بالإجماع.
قال تعالى: { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ } [الأنعام: من الآية21].
فإنكار المعلوم من الدين بالضرورة تكذيب لله- عز وجل -، وتكذيب لرسله وكتبه.
2. أن يعتقد ثبوت الشرع في ذلك لكنه يقول: إن القوانين الوضعية أفضل وأكثر مناسبة لزماننا من شرائع مضى عليها أربعة عشر قرناً ونحو ذلك، وهذا بالإجماع كفر أكبر؛ إذ يفضل حكم المخلوق على الخالق: { أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } [المائدة:50].
3. أن يعتقد أن القوانين الوضعية مساوية لحكم الله: فهو ممن يصرخ في النار يوم القيامة: { تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ، إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ } [الشعراء:97، 98].
4. أن يعتقد أن شريعة الله أفضل ولكنها غير واجبة, بل ويجوز مخالفتها وتركها إلى ما يراه هو عدلاً ومصلحة, نقل الإجماع على كفره شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره؛ إذ من المعلوم من الدين بالضرورة وجوب تنفيذ أحكام الله.
5. وهذا من أعظمها وأشملها وأظهرها معاندة للشرع ومكابرة لأحكامه ومشاقة لله ولرسوله, وذلك بإلزام الناس في التشريع العام بأحكام وقوانين تخالف الشرع وذلك بمضاهاة القوانين الوضعية بالمحاكم الشرعية, فكما أن للمحاكم الشرعية مراجع ومستندات مرجعها كلها إلى كتاب الله وسنة رسوله- صلى الله عليه وسلم -, فلهذه المحاكم مراجع هي القانون الملفق من شرائع شتى وقوانين كثيرة كالفرنسي والأمريكي والروماني وغيرها, مع تأصيل أن الحكم ليس بالشرع وإنما بهذه القوانين وإلزام الناس بذلك وتحتيمه عليهم (أهـ) بتصرف من فتوى الشيخ محمد بن إبراهيم [تحكيم القوانين], وانظر تعليق الشيخ أحمد شاكر على نقل ابن كثير الإجماع على كفر من تحاكم إلى الياسق(1) من التتار في [عمدة التفاسير], وكلام الشيخ الشنقيطي في [أضواء البيان] عن قوله: { وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً } [الكهف: من الآية26]، وغير ذلك كثير.
6. ما يحكم به كثير من رؤساء العشائر والقبائل من البوادي, وغيرهم من حكايات تلقوها عن آبائهم وأجدادهم يعلمون مخالفتها للشرع ويقدمونها في الحكم على شرع الله إعراضاً عن حكم الله(2).
ملاحظة: هذا بالنسبة للحكم العام، وأما الفتوى بكفر شخص معين أو ردته فإنه اجتهاد لأهل العلم تبعاً لثبوت شرائط التكفير أو انتفائها.
وأما القسم الثاني وهو الكفر الأصغر:
وهو الذي لا يخرج من الملة, وهو الذي وصف ابن عباس رضي الله عنهما وغيره من التابعين حال حكم حكام زمانهم به، وذلك أن تحمله شهوته أو هواه أو الرشوة أو غيرها على الحكم في قضية، أو قضايا ولو كثرت، بغير ما أنزل الله مع إقراره واعتقاده أن حكم الله ورسوله هو الحق، وأنه الأصل الذي يحكم به، ويعترف على نفسه بالخطأ والظلم، فهذا كفر دون كفر(3).
والواجب على كل مسلم:
__________
(1) الياسق: هو كتاب أحكام صار شريعة ملزمة عند التتار.
(2) والفرق بين هذا والذي قبله: أن هذه أعراف محفوظة وتلك قوانين مكتوبة والحقيقة في الحكم واحدة.
وشروط التكفير منها: العقل والبلوغ وبلوغ الحجة التي يكفر منكرها والقصد المنافي للخطأ والتذكر المنافي للنسيان والاختيار وعدم الإكراه وعدم التأويل المحتمل، ومن موانع التكفير: الجنون والصغر وعدم بلوغ الحجة والخطأ والنسيان والإكراه والتأويل.
(3) وللتمثيل للفرق بين هذا النوع وبين الكفر الأكبر نقول:
مثال الكفر الأصغر:
قاضي يقول: "إن الأمر الملزم له في الحكم أن الزنا حرام وأن الزاني يجلد إذا كان غير محصن ويرجم إذا كان محصناً وكذا الزانية"، ولكن يأتيه من يدفع له رشوة أو يكون قريباً له أو صديقاً فيحكم عليه بخلاف الشرع زاعماً مثلاً كذب الشهود وهو يعلم صدقهم، فيحكم عليه بخلاف الشرع أو عدم اكتمال البينة وهو يعلم اكتمالها، ونحو ذلك.
أما الكفر الأكبر:
فهو الذي يؤصل أن القانون الملزم به في الحكم أن الزنا حرية شخصية طالما كان برضا الأطراف المعتبرة، أو أنه إذا ثبت يلزم قيده بعقوبة تخالف الشرع كالحبس شهوراً ويجعله موقوفاً على طلب الزوج ونحو ذلك.(/6)
في أي نزاع أن يطلب من خصمه التحاكم إلى من يحكم بينهما بالشرع من أهل العلم، ولا يحل له أبداً أن يطلب التحاكم إلى المحاكم الوضعية التي تحكم بالقوانين التي وضعها الرجال بآرائهم، وإن اضطر إلى الوقوف أمامها لنيل الحق، فلا يطال إلا بما يعطيه له الشرع، ويأمرهم بأن يعطوه حقه بشرع الله حتى لو كان شرعهم يُعطيه أكثر أو أقل، وهذا عند الاضطرار، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
4. الولاء والبراء
قال تعالى: { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ، وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ } [المائدة:55، 56].
وقال: { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ } [الممتحنة: من الآية4].
(أ) معاني الولاء:
الحب, والرضا, والنصرة, والطاعة, والمتابعة, والمعاونة والقيام بالأمر, والصداقة, ولوازم هذه الأمور كالتشبه والركون إليهم وإظهار مودتهم.
وهذه المعاني يجب صرفها لله ولرسوله وللمؤمنين, فيحب الله ورسوله- صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين, ويرضى بطريقتهم, وينصر دين الله بكل ممكن ومستطاع، وينصر السنة، وينصر كل مؤمن ظالم -بأن يمنعه من الظلم- أو مظلوم, ويطيع الله ورسوله وأولي الأمر من المؤمنين (العلماء والأمراء الذين يقودون الناس بكتاب الله)، ويتابع طريقة المؤمنين، ويتشبه بهم، ويهتم بشأنهم، ويعاونهم على البر والتقوى, ويتخذ منهم دون غيرهم الأصدقاء والأخلاء.
(ب) أما من أحب الكافرين:
على ما هم عليه من الكفر, ورضي بملتهم وطريقتهم, ورأى أنها حق كما أن الإسلام حق وكله سواء فهو كافر مثلهم: { لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ } [المجادلة: من الآية22].
(جـ) ومن نصر الكفار:
بأن خرج في صفوفهم ضد المسلمين مع الكفار فهو مثلهم، قال الله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً } [النساء:97].
نزلت فيمن خرج مع المشركين ببدر إرضاءً لآبائهم, ومثلها قول الله: { فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا } [النساء: من الآية88].
(د) ومن أطاع الكافرين في كفرهم:
واتبعهم عليه ودخل في طاعتهم فهو مثلهم: { فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً } [الإنسان:24].
{ وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً } [النساء:115].
{ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ } [محمد: من الآية26].
وأما من أطاعهم في المعاصي وهو يقر بمعصيته، أو تشبه بهم مع علمه بخطئه فله نصيب من الشرك الأصغر، إذ قال النبي- صلى الله عليه وسلم -: "من تشبه بقوم فهو منهم"(1).
(هـ) ومن اتخذهم أصدقاء وأخلاء:
فهو يقول يوم القيامة: { يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً، لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً } [الفرقان:28، 29].
وكذا من نصح لهم وعاونهم على باطلهم ومنكرهم قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } [المائدة:51].
ومن هذا مشاركتهم في أعيادهم وتهنئتهم بها أو بمظاهر الشرك التي يفعلونها, ولقد ثبت نهي النبي- صلى الله عليه وسلم - للأنصار عن اللعب في يومين من أعياد الجاهلية, وقال: "إن الله قد أبدلكم بهما خيراً منهما, الأضحى ويوم الفطر"(2).
(و) وليس من الموالاة:
__________
(1) رواه أبو داود (4031/3/503) اللباس، والإرواء (1269).
(2) رواه أبو داود (1134/1/311) الصلاة، وأحمد (3/245) من حديث أنس، وصححه الألباني رحمه الله في صحيح الجامع (4381).(/7)
البيع والشراء والإجارة مع الكفار فيما يحل مثله بين المسلمين, من غير مهانة للمسلم, وكذلك البر والإقساط لمن لم يقاتلنا في الدين, وهناك فرق بين البر والصلة والعدل معهم بشرع الله وبين المحبة والموالاة التي هي من أعمال القلب أصلاً, ومن هذا أيضاً قبول الهبة منهم وإهداؤهم تأليفاً لهم أو دفعاً لمفسدتهم أو لمصلحة أخرى راجحة, ومثله عيادة مريضهم لدعوته إلى الإسلام وزواج الكتابية مع بغضها على دينها, وكذا الاستعانة بهم في مصالح المسلمين دون أن يكون لهم سلطان على المسلمين, فكل ذلك قد فعله النبي- صلى الله عليه وسلم - وصحابته- رضي الله عنهم -.
5. الإيمان بالملائكة والكتب والرسل
(1) الملائكة عباد لله مخلوقون ليسوا آلهة:
كما يعتقد النصارى في الروح القدس, ولا بنات الله كما كان يعتقد مشركو العرب, قال تعالى: { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ، لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ، يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ } [الأنبياء:26- 28].
(2) قد خلقهم الله من نور:
قال النبي- صلى الله عليه وسلم -: "خُلقت الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار، وخُلق آدم مما وصف لكم"(1).
(3) وهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون:
منهم: جبريل الموكل بالوحي, وميكائيل الموكل بالقطر, وإسرافيل الموكل بالنفخ في الصور, ومنهم ملك الموت وأعوانه, ومنكر نكير الموكلين بسؤال القبر وعذابه, ومالك خازن النار, ورضوان خازن الجنة, والكرام الكاتبين الذين يحصون على العباد أعمالهم وغيرهم كثير: { وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ } [المدثر: من الآية31].
(4) والرسل بشر من البشر:
جعلهم الله واسطة بينه وبين خلقه في إبلاغ شرعه, عباد الله لا يُعبدون, وهم معصومون من ارتكاب المعاصي, قال النبي- صلى الله عليه وسلم -: "فمن يطع الله إن عصيتُه"(2)، ولذا جعلهم الله قدوة لعباده: { أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ } [الأنعام: من الآية90].
يجب الإيمان بهم جميعاً، ومن كفر بواحد منهم فقد كفر بهم جميعاً وكفر بالذي أرسلهم: { إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً، أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً } [النساء:150، 151].
ومعنى عدم التفريق بين أحد من رسله هو الإيمان بهم جميعاً وإن كان بعضهم أفضل من بعض: { تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ } [البقرة: من الآية253].
وأفضلهم على الإطلاق محمد- صلى الله عليه وسلم - ثم إبراهيم- عليه السلام -, قال النبي- صلى الله عليه وسلم -: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة"(3)، وقال عن إبراهيم- عليه السلام -: "إنه خير البرية"(4).
(5) ويجب الإيمان بالخمسة وعشرين نبياً المذكورين بأسمائهم في القرآن:
أولهم آدم, ونوح, وإبراهيم, وموسى, وعيسى (وهؤلاء الأربعة مع محمد- صلى الله عليه وسلم - هم أولو العزم من الرسل), وإسحاق, ويعقوب, وداود, وسليمان, وأيوب, ويوسف, وهارون, وزكريا, ويحيى, وإلياس, وإسماعيل, واليسع, ويونس, ولوط, وهود, وصالح, وشعيب, وذو الكفل, وإدريس صلى الله عليهم وسلم أجمعين, وهناك رسل غيرهم لم يذكرهم القرآن بأسمائهم: { وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ } [النساء: من الآية164].
(6) واتباع محمد- صلى الله عليه وسلم - فرض:
على كل مكلف من الإنس والجن إلى يوم القيامة إذا بلغته رسالته، لا يقبل الله من أحد صرفاً ولا عدلاً إلا بالإيمان به قال تعالى: { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً } [الأعراف: من الآية158].
وقال النبي- صلى الله عليه وسلم -: "والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني, ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار"(5).
(7) والمسلمون هم أتباع كل الأنبياء:
__________
(1) رواه مسلم (2996/18/167) الزهد والرقائق، والإحسان بترتيب صحيح ابن حبان (6122/8/9) التاريخ.
(2) رواه البخاري (3344/6/433) أحاديث الأنبياء، ومسلم (1064/7/226) الزكاة.
(3) رواه مسلم (2278/15/54) الفضائل، وابن ماجه (4384/3/102) الزهد، والترمذي (3148/3/272) تفسير القرآن، والصحيحة (1571/4/99)، والإحسان بترتيب ابن حبان (6431/8/129) التاريخ.
(4) رواه مسلم (2369/15/177) الفضائل.
(5) رواه مسلم (153/2/245) الإيمان، وأحمد (2/117،350) من حديث أبي هريرة.(/8)
لأن دين الأنبياء واحد وهو الإسلام والدعوة إلى التوحيد { إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ } [آل عمران: من الآية19]، { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } [النحل: من الآية36].
(8) ومن اعتقد أنه يسوغ لأحد أن يكون مع محمد- صلى الله عليه وسلم -:
كما كان الخضر مع موسى لا يلتزم بشريعته لأن له شريعة أخرى فهو كافر بالإجماع, فقد قال النبي- صلى الله عليه وسلم -: "لو كان موسى بن عمران حياً لما وسعه إلا اتباعي"(1).
(9) وكل من ادعى النبوة بعد النبي- صلى الله عليه وسلم - فهو كافر ومن صدقه فهو كافر:
لقوله تعالى: { مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ } [الأحزاب: من الآية40].
وقال- صلى الله عليه وسلم -: "لا نبي بعدي"(2)، فطوائف البابية والبهائية والقاديانية وما شابهها كلها خارجة عن ملة الإسلام تجري عليهم أحكام المرتدين.
(10) والله قد أنزل كتباً على رسله ضمنها كلامه:
ذكر منها في القرآن التوراة على موسى- عليه السلام -، والإنجيل على عيسى- عليه السلام -، والقرآن على محمد- صلى الله عليه وسلم -، والزبور على داود, وصحف إبراهيم وموسى عليهم السلام, وهذه الكتب التي أنزلها الله هي كلامه, وفيها شرعه, حفظ الله منها القرآن: { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [الحجر:9]، وجعله مهيمناً على ما قبله مصدقاً لما فيها من الحق شاهداً على ما زاده أهل الملل السابقة عليها مما ليس منها, وعلى ما نقصوه وبدلوه وحرفوه.
(11) وما بأيدي أهل الكتاب اليوم من كتب هي مما وقع فيه التحريف بنص القرآن، وهو أنواع:
أ. تحريف كتاب: قال تعالى: { فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ } [البقرة:79].
ب. وتحريف لسان: { وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } [آل عمران:78].
جـ. تحريف معاني: { يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ } [المائدة: من الآية41].
(12) وما في هذه الكتب من الشرائع مما يخالف شريعة القرآن فهو منسوخ , لا يجوز العمل به.
(13) والقرآن كلام الله حقيقة حروفه ومعانيه, غير مخلوق, منه بدأ وإليه يعود قبل يوم القيامة.
6. الإيمان باليوم الآخر
(1) يجب الإيمان بوجود الجنة والنار:
وأنهما مخلوقتان الآن, وأنهما لا تفنيان أبداً(3)، والدليل قوله تعالى عن الجنة: { أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ } [آل عمران: من الآية133].
وعن النار: { أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } [البقرة: من الآية24].
وقال عن النار: { كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً } [الإسراء: من الآية97].
وقال عن أهلها: { إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً، خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً } [الأحزاب: 64، 65].
وقال عن الجنة وأهلها: { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً } [النساء:57].
(2) ومن الإيمان بالجنة والنار:
الإيمان بأنواع النعيم في الجنة: الحسي والمعنوي, وبأنواع العذاب في النار: الحسي والمعنوي, قال سعد بن أبي وقاص- رضي الله عنه -: "أما النصارى فكفروا بالجنة، فقالوا ليس فيها طعام ولا شراب"، وقد أخبر الله بتفاصيل كل ذلك في كتابه: { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً } [النساء: من الآية122].
وإن كانت كيفية النعيم والعذاب من الغيب الذي لا تقدر عقول البشر على علمه والإحاطة به.
وأعظم نعيم أهل الجنة النظر بأبصارهم إلى وجه الله الكريم: { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } [القيامة:22، 23].
(3) ويجب الإيمان بالحوض, والصراط, والميزان, والكتب, والشفاعة مما استفاضت به الأحاديث.
(4) ومن الإيمان باليوم الآخر:
__________
(1) حسن، رواه أحمد (3/387)، والدارمي (441)، والبزار في كشف الأستار (124)، وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (ص295) وحسنه الألباني في الإرواء (1589).
(2) رواه ابن أبي عاصم في السنة (1061)، وقال الألباني: إسناده صحيح.
(3) القول بفناء النار التي أعدت للكافرين الذي ذكره ابن القيم في حادي الأرواح زلة من الزلات وقول باطل مخالف لإجماع أهل السنة.(/9)
الإيمان بعذاب القبر ونعيمه بعد سؤال الملكين, وقد استفاضت الأحاديث بذلك, ومنها أمر النبي- صلى الله عليه وسلم - أصحابه: "تعوذوا بالله من عذاب القبر"(1)، ومن شك في ذلك، أو جعله مما لا فائدة فيه، أو أن الكلام فيه لا ينبغي فهو ضال.
(5) ومن الإيمان باليوم الآخر: الإيمان بأشراط الساعة ومنها:
ظهور المهدي, وظهور المسيح الدجال, ونزول عيسى بن مريم عليه السلام ليقتله, ويكسر الصليب, ويقتل الخنزير, ويضع الجزية (أي: لا يقبلها، بل لا يقبل إلا الإسلام)، وخروج يأجوج ومأجوج, والخسف, والدخان, والدابة, وطلوع الشمس من مغربها, وغيرها وكل هذا قد تواترت به الأحاديث.
والتكذيب بشيء منها ضلال وبدعة, ولا خلاف عند أهل السنة في ذلك.
(6) ولا يعلم وقت الساعة ملك مقرب ولا نبي مرسل:
لا يعلمها إلا الله وحده { إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ } [لقمان: من الآية34].
7. الإيمان بالقضاء والقدر
الركن السادس من أركان الإيمان, قال ابن عمر رضي الله عنهما: "والذي نفسي بيده لو أن لأحدهم مثل أحد ذهباً فأنفقه, ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر"(2).
والإيمان به على أربع مراتب:
(1) الإيمان بعلم الله تعالى:
فالله قد علم بعلمه القديم الموصوف به أزلاً ما الخلق عاملون قبل أن يخلقهم, قال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً } [النساء: من الآية32].
وقال: { وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } [الأنعام:59].
وقال: { وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً } [الطلاق: من الآية12].
والله علم ما كان وما سيكون وما لم يكن لو كان كيف يكون, قال تعالى عن الكفار: { وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ } [الأنعام: من الآية28].
فالكفار لا يُردون إلى الدنيا بعد دخولهم النار, والله علم أنهم لو رجعوا إلى الدنيا لعادوا إلى التكذيب, وهذا أمر لم يكن ولكن علم الله قد أحاط به.
وهذا العلم السابق لا يحاسب الله العباد عليه بل يحاسبهم على علمه بما وقع منهم من أفعالهم التي فعلوها باختيارهم كما قال تعالى: { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ } [محمد: من الآية31]، وقال أهل العلم بالتفسير: يعلم علماً يحاسبهم عليه.
(2) الإيمان بكتابة المقادير في اللوح المحفوظ:
قال تعالى: { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا } [الحديد: من الآية22]، أي: نخلقها, والهاء تعود على المصيبة أو الأرض أو النفوس أو الخليقة كلها.
وفي حديث البخاري مرفوعاً: "إن أول ما خلق الله القلم, فقال له: اكتب، فقال: ما أكتب؟، قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة"(3)، وفي صحيح مسلم: "كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة"(4)، وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما في السنن: "رفعت الأقلام وجفت الصحف"(5)، قال الله تعالى: { يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ } [الرعد:39].
واللوح المحفوظ هو أم الكتاب, قال ابن عباس: "الكتاب كتابان: كتاب يمحو الله منه ما يشاء ويثبت، وعنده أم الكتاب"(6).
ويتبع هذه الكتابة كتابات وتقديرات أخرى:
أ. فمنها التقدير يوم القبضتين:
__________
(1) رواه مسلم (2867/17/294) الجنة وصفة نعيمها، وأحمد (5/190)، وابن حبان (موارد 785).
(2) رواه مسلم (8/1/213) الإيمان، وأبو داود (4695/3/145) السنة، والترمذي (2610/3/37) الإيمان، وابن ماجه (76/1/42).
(3) رواه أبو داود (4700/3/148) السنة، والطحاوية (232)، والمشكاة (94/1/34)، والظلال (102،107)، وأحمد (5/317) الإيمان.
(4) رواه مسلم (2653/16/310) القدر، والترمذي (2156/2/450) القدر.
(5) رواه الترمذي (2156/2/609) صفة القيامة، والمشكاة (5302/3/1459) الرقاق، وظلال الجنة (316،318)، ورواه ابن أبي عاصم في السنة (216، 217، 218) وأحمد (1/293، 303، 307)، والطبراني في الأوسط (5417)، والحاكم (3/541، 542)، وأبو نعيم في الحلية (1/314) وصححه الألباني رحمه الله.
(6) رواه أبو داود (4703/3/149) السنة، والترمذي (2141/2/444) القدر، والمشكاة (96/1/35) القدر، وفي الصحيحة (848/2/503)، والظلال (348).(/10)
"إذ قبض الله قبضة من ظهر آدم بيمينه، وقال: هؤلاء في الجنة ولا أبالي، وقبض قبضة بشماله، وقال: هؤلاء في النار ولا أبالي"، فقال الناس: فعلام العمل يا رسول الله ؟، قال: "على مواقع القدر"(1).
ب. ومنها الكتابة والإنسان جنين في بطن أمه:
كما في حديث حذيفة بن أسيد- رضي الله عنه - مرفوعاً: "إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة, بعث الله إليها ملكاً، فصورها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها، ثم قال: يا رب أذكر أم أنثى؟، فيقضي ربك ما شاء، ويكتب الملك، ثم يقول: يا رب أجله؟، فيقول ربك ما شاء، ويكتب الملك، ثم يقول: يا رب رزقه؟، فيقضي ربك ما شاء، ويكتب الملك"(2) فهذه كتابة عند الأربعين.
وهناك كتابة أخرى عند نفخ الروح كما في حديث ابن مسعود- رضي الله عنه - مرفوعاً: "إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك، ثم يكون في ذلك مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه, وأجله, وعمله, وشقي أو سعيد، فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها"(3).
جـ. ومنه التقدير السنوي في ليلة القدر:
{ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ } [الدخان:4].
د. ومنها التقدير اليومي:
{ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ } [الرحمن: من الآية29].
يغفر ذنباً, يفرج كرباً, ويميت ويحيي, ويسعد ويشقي، ويفعل ما يشاء سبحانه.
والعباد يحاسَبون على ما كتبته الملائكة من أعمالهم، فكتاب الأعمال الذي يوضع في موازينهم -وإن كان نسخة من الكتاب الأول- إلا أنهم هم الذين أملوه بأعمالهم, وإنما يحاسبون على هذه الأعمال: { وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً، اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً } [الإسراء:13، 14].
أما منكرو هاتين الدرجتين (العلم والكتابة) فهم غلاة القدرية كفرهم الصحابة رضوان الله عليهم.
(3) الإيمان بمشيئة الله النافذة وقدرته الشاملة:
فما في الكون حركة ولا سكون ولا خير ولا شر ولا أفعال اضطرارية(4) ولا اختيارية(5) للمخلوقين إلا بمشيئة الله وقدرته وإرادته, فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن, قال تعالى: { مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [الأنعام: من الآية39].
وقال: { فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ } [الأنعام: من الآية125].
{ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ } [يونس:99].
{ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ } [يونس: من الآية100].
{ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ } [البقرة: من الآية253].
{ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [البقرة: من الآية284].
{ وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى، وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا } [النجم:43، 44].
والإرادة نوعان:
أ. إرادة كونية:
أي بها تكون الأشياء { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [يس:82].
__________
(1) رواه أحمد (4/184)، وابن سعد في الطبقات (1/30)، (7/417)، وصححه ابن حبان (338) الإحسان، والحاكم (1/31) ووافقه الذهبي، وقال الهيثمي في المجمع (7/186) رجاله ثقات، وصححه الألباني في صحيح الجامع (1758)، والصحيحة (50).
(2) رواه مسلم (2645/16/297) القدر واللفظ له ، وأحمد (4/6)، وابن أبي عاصم في السنة (177، 179، 180).
(3) رواه البخاري (6594/11/486) القدر، ومسلم (2643/16/292) القدر، والترمذي (2137/2/441) القدر.
وهذا الحديث متفق على صحته وتلقته الأمة بالقبول، رواه الأعمش عن زيد بن وهب عن ابن مسعود، ومن طريقه خرجه الشيخان في صحيحيهما.
(4) والأفعال الاضطرارية كدق القلب وجريان الدم في العروق وحركة المعدة والأمعاء ونحو ذلك وكذلك ولادة الإنسان وموته ومرضه فهي تسمى أفعالاً مجازاً.
(5) أما الأفعال الإختيارية: الصلاة والصيام والطاعة والمعصية والزنا وشرب الخمر والقتل وسائر الحركات الإرادية, وأنت تلحظ من هذا أن مشيئة الله شاملة للنوعين، فالإجابة على سؤال أن الإنسان مسير أم مخير؟ بأنه مسير في الأمور الاضطرارية, ومخير في الاختيارية إجابة باطلة, لأن السؤال لم يكن على الاضطرارية أصلاً، إذ لا ينازع فيها عاقل وإنما على الأمور الاختيارية, فالإجابة بأنه مخير ينفى شمول إرادة الله لأفعاله الاختيارية.(/11)
وهذه تشمل كل الموجودات, خيرها وشرها, ما أحب الله منها وما أبغضه, ما مدحه وما ذمه, فهو الذي أراد وجود إبليس, وأبي لهب, وفرعون، ووجود الشر, وهو يبغض كل ذلك, كما أنه الذي أراد وجود الملائكة, والأنبياء, والمؤمنين, وكل الخير, وهو يحب ذلك, وخلق كلاً لحكمة يعلمها، وقد يُطلع بعض خلقه على بعضها, كما قال: { وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ } [آل عمران: من الآية140].
وقال النبي- صلى الله عليه وسلم -: "والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم, ولجاء بقوم يذنبون, فيستغفرون الله فيَغفر لهم"(1).
ب. إرادة شرعية:
أي ما يأمر الله به من الطاعات, وما ينهى عنه من المعاصي: { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ } [البقرة: من الآية185].
{ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ } [النساء: من الآية27].
وهذه تشمل كل ما يحبه الله ويرضاه سواء وجد أو لم يوجد, والحساب, والثواب, والمدح, والذم, والحب، والبغض.
ودخول الجنة والنار بناء على هذه الإرادة، فمن وافقها وعمل بشرع الله كان من أهل الجنة ومن خالفها فهو من أهل النار.
والإرادة الشرعية والكونية يجتمعان في إيمان المؤمن: فهو مؤمن بتوفيق الله له ومشيئته له الإيمان، وهو يعمل بطاعة الله وما أراد الله منه.
ويفترقان في كفر الكافر: فهو كافر بمشيئة الله ليس قهراً على الله, وهو مخالف لما أراد الله منه (الإرادة الشرعية).
(4) الإيمان بخلق أفعال العباد ولقدرتهم ومشيئتهم خيرها وشرها:
قال تعالى: { وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ } [الصافات:96].
وقال: { اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ } [الرعد: من الآية16].
وقال: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا } [الأنعام: من الآية123].
وقال: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ } [الأنعام: من الآية112]، فهو جعلهم وخلقهم كذلك.
قال: { وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا } [الأنبياء: من الآية73].
وقال النبي- صلى الله عليه وسلم -: "ما من قلب إلا بين إصبعين من أصابع الرحمن, إن شاء أن يقيمه أقامه, وإن شاء أن يزيغه أزاغه"(2)، وقال- صلى الله عليه وسلم -: "اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك"(3).
وللعباد قدرة ومشيئة بها تقع أفعالهم: { اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [فصلت: من الآية40].
والله خالقهم وخالق مشيئتهم, وهم لا يشاءون إلا أن يشاء الله.
وخلق أفعال العباد ومشيئتهم لا يعني إلغاء هذه المشيئة بل هي موجودة مخلوقة ولكن مشيئة الله فوق ذلك, ومشيئته سبحانه تنفذ فيهم من خلال ما يفعلون بأنفسهم ومشيئتهم.
ومشيئة العباد لها أثر في أفعالهم, بها تقع تلك الأفعال وهذا هو الكسب: { لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ } [البقرة: من الآية286].
وليس الكسب اقتران الإرادة البشرية بالفعل من غير أثر كما يقول الأشاعرة(4)
__________
(1) رواه مسلم (2749/17/102) التوبة، وصحيح الترغيب (3149/3/220) الترغيب في التوبة، والترمذي (3539/3/454) الدعوات، وفي الصحيحة من ترك كثيره (967،970)، (1963/967،970/2/655)، (1963/4/604).
(2) رواه مسلم (2645/16/311) القدر، والترمذي (2140/2/443) القدر، وابن ماجه (7902/3/254) الدعاء.
(3) سبق تخريجه.
(4) ويمكن أن نمثل لأثر إرادة الإنسان وقدرته في فعله عند أهل السنة بمثال الأب والولد، فالأب والأم سبب لوجود الولد ولهما أثر في إيجاده وليسا خالقين له بل الله خالق الثلاثة، ولكنه خلق الولد من أبويه، فكذلك القدرة الإنسانية والإرداة الإنسانية سبب لوجود الفعل، وليستا بخالقتين له، بل الله خالق الثلاثة ولا يمكن لعاقل أن يُنكر أثر القدرة والإرادة في وجود الفعل، كما لا ينكر أثر الوالدين في وجود الولد.
وأما عند الأشاعرة:
فهم يجعلون القدرة والإرداة الإنسانية مع الفعل كالأخ مع أخيه، اقترن وجودهما من غير أن يكون أحدهما سبباً في وجود الآخر.
وأما المعتزلة فهم يقولون:
إن الإنسان يخلق فعله ومشيئته دون إرادة من الله ولا قدرة له –سبحانه عما يقولون- على أفعال العباد الاختيارية، ومثلوا لذلك بمثال المدرس الذي يعرف مستوى تلامذته وعقد لهم امتحاناً وكتب قبل الامتحان الدرجات التي يتوقع أن يحصلوا عليها، ثم لما امتحنهم كانت درجاتهم موافقة لما كتبه قبل ذلك، وهو مثال باطل ينفي تعلق القدرة الإلهية بأفعال العباد، فالمدرس لا قدرة له على عقول التلاميذ، ولا على توجيه إجاباتهم، وكذلك فهو ينفي الإرداة الكونية لله سبحانه في وجود الخير والشر، فالمدرس لا يريد إلا أن يُجيب الجميع الإجابة الصحيحة الكاملة، ولا يريد أن يجيب الجميع الإجابة الصحيحة الكاملة، ولا يريد لبعضهم التوفيق ولبعضهم الخذلان، والله سبحانه هو الذي أراد أن يوجد الخير والشر، والطاعة والمعصية لحكمة بالغة يستحق عليها الحمد في الأولى= =والآخرة، وهو سبحانه الذي أقدر العباد وجعلهم يشاءون وخلق قدرتهم وأفعالهم ومشيئتهم، وهو يُعذب من يعذب منهم وهو غير ظالم لهم، لأنه أعطاهم القدرة والإرداة وأرس الرسل وأنزل عليهم كتبه، وأقام عليهم الحجة بالشرع، وهم كانوا سبباً في وجود أعمالهم، فلو أن الأب والام ألقوا بابنهم الرضيع في الطريق وقالوا: من خلقه فهو يرزقه، لكانوا -بإجماع العقلاء- مقصرين في عدم تحملهم المسئولية عمن كانوا سبباً في وجوده، مع اليقين بأنهم فعلاً لم يخلقوه ولا يرزقونه، ولكنهم مع ذلك مسئولون عنه، فكذلك الإنسان مسئول عن عمله، وإن كان لم يكن خلقه.(/12)
.
والإنسان ميسر لما خلق له, ليس مسيراً بمعنى لا إرادة له ولا اختيار, وليس بمخير بمعنى مطلق الاختيار لا سلطان لله على قلبه ومشيئته, بل كلاً من الجبر والاختيار المطلق باطل.
فالجبر طعن في التشريع, ونفي مشيئة الله طعن في التوحيد: "واعملوا، فكل ميسر لما خلق له"(1).
والأخذ بالأسباب واجب والاعتقاد فيها شرك: "احرص على ما ينفعك واستعن بالله".
والعبد فاعل ومنفعل أي: هو يفعل فعله, ويخلق الله فيها ما أراد, فمثلاً العبد مهتد والله هداه, والعبد مصلي وصائم والله أقامه بين يديه ووفقه للصوم طاعة له, وفرعون خرج في طلب موسى عليه السلام وبني إسرائيل, والله أخرجه كما قال: { فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ } [الشعراء:57].
والله لا يظلم عباده أبداً, بل لا يحاسبهم إلا على ما صدر منهم, ولا يهلكون إلا بذنوبهم, ولو عذب أهل سماواته وأرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم, ولو رحمهم لكانت رحمته خيراً لهم من أعمالهم: { وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ } [القصص: من الآية59].
{ وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً } [الإسراء:16].
{ إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } [النساء: من الآية40].
والله من أسمائه الحكم والعدل.
والقدر يحتج به في المصائب لا في المعائب والذنوب, والذنب بعد التوبة النصوح كالمصائب, إذ لا طاقة للعبد على رده بعد وقوعه إلا بالتوبة وقد فعلها, كما في حديث احتجاج آدم وموسى عليهما السلام في الصحيحين: "قال آدم: فبكم وجدت الله كتب التوراة قبل أن يخلقني, قال: بأربعين سنة, قال: فهل وجدت فيها (وعصى آدم ربه فغوى؟) قال: نعم، قال: كيف تلومني على أمر كتبه الله عليّ قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟!"، قال النبي- صلى الله عليه وسلم -: "فحج آدم موسى –أي غلبه في الحجة-" ثلاثاً(2)، وموسى- عليه السلام - قد لامه على الذنب والمصيبة معاً وهي الإخراج من الجنة، والذنب تاب منه, والمصيبة لا قدرة له عليها, فصح احتجاجه بالقدر, أما من يحتج به قبل التوبة ويرفض التزام الشرع هي كلمة حق يراد بها باطل وهو تابع لإبليس إذ قال: { فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي } [الأعراف: من الآية16]، وللمشركين القائلين: { لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا } [الأنعام: من الآية148]، والله أبطل حجتهم ولم يقبلها في الدنيا ولا في الآخرة.
والخوض في القدر بالعقل دون الشرع منهي عنه مذموم, والواجب بيان العقيدة.
والله { لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ } [الأنبياء:23]، إذ لا يفعل شيئاً إلا بحكمة, وعلم, وقدرة, ومشيئته سبحانه وتعالى.
8. مسائل الإيمان والكفر
1. الإيمان قول وعمل يزيد وينقص:
قول القلب: وهو اعتقاده، وتصديقه، ومعرفته بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله واليوم الآخر، والقدر خيره وشره.
وقول اللسان: وهو النطق بالشهادتين.
وعمل القلب: وهو الإخلاص، والحب، والخوف، والرجاء، والذل، والانقياد والتوكل، والشكر، والصبر، والشوق، ونحو ذلك.
وعمل اللسان والجوارح: من صلاة، وزكاة، وصيام، وحج، وجهاد، وبر وصلة، وإحسان إلى الخلق، وأمر بالمعروف، ونهي عن المنكر.
وزيادة قول القلب: بالكمية كلما علم الإنسان شيئاً من الشرع فصدق بما لم يكن يعلمه ولا يصدق به، وبالكيفية بزيادة اليقين بتظاهر الأدلة، قال تعالى: { قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } [البقرة: من الآية260].
وزيادة قول اللسان: في الشهادتين في حق من بلغه خبر الرسول صلى الله عليه وسلم، فشهد له بالرسالة بلسانه فهو أكمل إيماناً ممن لم يبلغه خبره فنطق بلا إله إلا الله فقط وكذا في كل تفصيل يبلغ العبد من الشرع فيقر به لسانه يزداد به إيماناً، قال تعالى: { قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُون } [البقرة:136].
أما تفاوت أعمال القلوب من الحب، والإخلاص، والشكر، والخوف، والرجاء وغيرها فظاهر جداً، قال تعالى: { وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ } [البقرة: من الآية165]، وكذا أعمال اللسان والجوارح.
والدليل على تسمية أعمال الجوارح إيماناً قوله تعالى: { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } [البقرة: من الآية143]، أي صلاتكم إلى بيت المقدس, فسمى الصلاة إيماناً.
__________
(1) رواه البخاري (6596/11/499) القدر، ومسلم (2647/16/302) القدر، والترمذي (2136/2/441) القدر، وابن ماجه (77/1/44) المقدمة.
(2) رواه البخاري (6614/11/513) القدر، ومسلم (2655/16/306) القدر.(/13)
وقال النبي- صلى الله عليه وسلم - لوفد بني عبد قيس: "آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأن تؤدوا خمس ما غنمتم"(1).
وقال- صلى الله عليه وسلم -: "الإيمان بضع وستون شعبة فأفضلها لا إله إلا الله, وأدناها إماطة الأذى عن الطريق"(2).
وقال تعالى: { لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ } [الفتح: من الآية4].
وأصل عمل القلب شرط في أصل الإيمان, كأصل اليقين والانقياد القلبي, والمحبة ولو ضعفت.
2. من مات على التوحيد دخل الجنة يوماً من الدهر أصابه قبل هذا اليوم ما أصابه:
قال النبي- صلى الله عليه وسلم -: "يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه مثقال ذرة من إيمان"، وفي رواية أخرى: "ولم يعمل خيراً قط" وفي حديث آخر: "على ما كان من العمل"، وكلها في الصحيح(3).
3. من مات على الشرك بعد بلوغ الرسالة فهو مخلد فى النار أبداً:
قال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاء } [النساء: من الآية48].
وفي أحاديث الشفاعة: "لا يبقى في النار إلا من حبسه القرآن"(4) أي وجب عليه الخلود.
وأما من لم تبلغهم الرسالة فهم من أهل الامتحان في عرصات القيامة, كما ثبت في الحديث عن النبي- صلى الله عليه وسلم -: "أربعة يحتجون يوم القيامة: رجل أصم لا يسمع شيئاً, ورجل أحمق, ورجل هرم, ورجل مات في الفترة, فأما الأصم فيقول: رب لقد جاء الإسلام وما أسمع شيئاً, وأما الأحمق فيقول: رب لقد جاء الإسلام ولم أعقل شيئاً والصبيان يقذفونني بالبعر, وأما الهرم فيقول: رب لقد جاءني الإسلام وما أعقل شيئاً, وأما الذي مات في الفترة فيقول: رب ما أتاني لك من رسول، فيأخذ مواثيقهم ليطيعنَّه, فيُرسل إليهم أن ادخلوا النار, فمن دخلها كانت عليه برداً وسلاماً, ومن لم يدخلها سحب إليها"(5).
4. والمسلم الذي يرتكب الكبائر ويصر عليها:
(أي: لا يتوب منها) لا يكفر بفعلها, ولا يخلد في النار لو دخلها في الآخرة ما لم يستحلها, لقوله تعالى: { وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاء } [النساء: من الآية48].
وهذه الآية في غير التائب لأن التائب من الشرك مغفور له, وقد قال تعالى في هذه الآية: { إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ } [النساء: من الآية48].
فهي إذن في من مات على ذلك, ولقول النبي- صلى الله عليه وسلم -: "ما من عبد قال: لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة، وإن زنى وإن سرق"(6).
ولكن ينقص إيمانه بمعصيته وفسقه: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن"(7) والنفي هنا ليس لأصل الإيمان، ولكن لكماله الواجب.
ومن رجحت حسناته عن سيئاته بواحدة دخل الجنة لأول وهلة:
ومن تساوت حسناته وسيئاته، فهو من أصحاب الأعراف مآلهم إلى الجنة, ومن رجحت سيئاته على حسناته استحق دخول النار.
من استحق دخول النار من عصاة الموحدين في مشيئة الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له:
كما في أحاديث الشفاعة على الصراط: "ودعوى الرسل يومئذ: اللهم سلم سلم"، فمن الناس من يستحق الوقوع فلا يقع، كما دل عليه هذا الحديث وكذا حديث: "ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب في الدنيا فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئاً ثم ستره الله فهو إلى الله: إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه"(8) ومنهم من يدخل النار بلا شك ولكنه لا يخلد فيها كما دلت عليه أحاديث الشفاعة المتواترة.
لا يختلف أهل السنة في أن تارك النطق بالشهادتين مع القدرة عليها كافر مخلد في النار:
__________
(1) رواه البخاري (53/1/157) الإيمان. أطرافه (87، 523، 1398، 3095، 3510، 4368، 4269، 6176، 7266، 7556)، ومسلم (17/1/251) الإيمان.
(2) رواه البخاري (9/1/67) الإيمان، ومسلم (35/2/8) الإيمان واللفظ له، والترمذي (2611/3/39) الإيمان، وأبو داود (3692/2/422) الأشربة.
(3) رواه البخاري (7410/13/403) التوحيد، ومسلم (193/3/72) الإيمان، وابن ماجه (4388/3/403) الزهد، وظلال الجنة (804-810، 849)، وأحمد (3/116) بلفظ: "يجمع الله الناس يوم القيامة".
(4) رواه مسلم (324/3/72) الإيمان.
(5) الإحسان بصحيح ابن حبان (7313/9/225)، وصححه الشيخ الألباني رحمه الله في الصحيحة (1434/ 3/418)، ورواه الطبراني (79/2) بسند صحيح عن قتادة عن الأحنف بن قيس عن الأسود بن سريع مرفوعاً، ومن طريقه وطريق أحمد رواه الضياء في المختارة (1/463)، وهو في المسند (4/24)، وأخرجه البغوي في حديث ابن الجعد (ق،9/1)، وأخرجه الديلمي (1/1/171).
(6) رواه البخاري (5827/10/294) اللباس، ومسلم (94/2/125) الإيمان، وأحمد (5/166).
(7) رواه مسلم (57/2/54) الإيمان، والنسائي (4885/3/315) قطع السارق، وابن ماجه (4007/3/289) الفتن، وأخرجه الدرامي (2/115)، والروض النضير (716)، والصحيحة (3000/6/1269).
(8) رواه البخاري (18/1/81) الإيمان.(/14)
حتى لو اعتقد صحتها بقلبه دون نطق، لقول النبي- صلى الله عليه وسلم -: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوا: لا إله إلا الله، عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله"(1)، وقوله- صلى الله عليه وسلم -: "يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله"(2).
والخلاف فيمن ترك الأركان الأربعة متكاسلاً لا جحوداً وهي: الصلاة والصوم والزكاة والحج:
من مسائل الاجتهاد عند أهل السنة لا يبدع المخالف فيها، ولا يُفَسَّق، وليست كمسألة مرتكب الكبيرة, فمن كفَّر مرتكب الكبيرة كالزنا، والسرقة، أو حكم بخلوده في النار -كالخوارج والمعتزلة- فهو مبتدع, وأما من كفر تارك الصلاة -وهى أشهرها- فهو مجتهد مأجور على أية حال, وكذا من لم يكفره كفراً ينقل عن الملة فهو مجتهد, وهذه المسألة مما يسوغ فيها الخلاف عند أهل السنة، وإن كان جمهور فقهائهم يقولون عنه: كفر دون كفر.
أما تاركها جحوداً فكفره معلوم من الدين بالضرورة.
ومثله الخلاف في تكفير بعض طوائف أهل البدع مما ليس فيه إجماع عند أهل السنة:
بل هو من مسائل الاجتهاد كالخوارج، ومتأخري القدرية، والمعتزلة والروافض, والجمهور على عدم تكفيرهم بالعموم، بل يكفر من قال ببعض أقوال الكفر.
لا يكفر مسلم معين ثبت له حكم الإسلام إلا بعد بلوغ الحجة التي يكفر المخالف لها:
نقل الإجماع عليه ابن حزم، وأقره شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- في منهاج السنة، سواء كان خلافه في الأصول أو في الفروع.
يثبت حكم الإسلام ظاهراً بالنطق بالشهادتين:
كما في حديث أسامة- رضي الله عنه -: "أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله؟"(3)، والإجماع نقله ابن رجب في جامع العلوم والحكم, بل قال: معلوم بالضرورة, وكذا بالولادة لأبوين أحدهما مسلم(4)، لحديث: "كل مولود يولد على الفطرة"(5) ومن توقف في الحكم بالإسلام لمن نطق الشهادتين، أو وُلد مسلماً ولم يعلم عنه شرك ولا ردة, فهو مبتدع(6)، لخلافه إجماع السلف الصالح على ذلك ولا يستثنى من ذلك إلا من يقولها حال كفره؛ فلابد من نطقها على البراءة من الكفر.
استمرار العصمة لمن دخل في الإسلام متوقف على التزامه الصلاة والزكاة وسائر حق الإسلام:
كما في الحديث: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويُؤتوا الزكاة"(7).
يجب الحذر في الجملة من تكفير من قد علم إسلامه إلا بيقين جازم:
لقول النبي- صلى الله عليه وسلم -: "أيما امرئ قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما إن كان كما قال وإلا رجعت إليه"، وقال- صلى الله عليه وسلم -: "لعن المؤمن كقتله"(8).
9. العقيدة في الصحابة والخلافة والإمامة
1. قال تعالى:
{ وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ } [التوبة: من الآية100].
__________
(1) رواه مسلم (22/1/291) الإيمان، وأبو داود (2640/2/133) الجهاد.
(2) سبق تخريجه.
(3) قال الإمام البخاري: حدثني عمرو بن محمد، حدثنا هشيم، أخبرنا حُصين، أخبرنا أبو ظبيان قال: سمعت أسامة بن زيد رضي الله عنهما يقول: بعثنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم - إلى الحرقة, فصبَّحنا القوم فهزمناهم, ولحقتُ أنا ورجل من الأنصار رجلاً منهم، فلما غشيناه قال: لا إله إلا الله، فكفَّ عنه الأنصاري, فطعنته برمحي حتى قتلته، فلما قدمنا بلغ النبي- صلى الله عليه وسلم - فقال لي: "يا أسامة أقتلته بعدما قال: لا إله إلا الله؟"، قلت: كان متعوذاً، فما زال يكررها على حتى تمنيتُ أني لم أكن أسلمتُ قبل ذلك اليوم. رواه البخاري (4269/7/590) المغازي, ومسلم (96/2/132) الإيمان, وأبو داود (2643/2/134) الجهاد.
قال الحافظ: قال ابن التين: في هذا اللوم تعليم وإبلاغ في الموعظة حتى لا يقدم أحد على قتل من تلفظ بالتوحيد.
(4) وكذا إسلام أحد الأبوين والولد دون سن البلوغ، أو أسرُ الصبي أو الصبية دون البلوغ بعيداً عن أبويهم، فيحكم بإسلامهم بإسلام سابيهم من المسلمين، وكذلك اللقيط في بلد أهلها مسلمون.
(5) رواه البخاري (6599/11/502) القدر، ومسلم (2658/16/317) القدر.
(6) ومن هذه البدعة بدعة تقسيم الناس إلا ثلاثة أقسام: مسلمون بلا شبهة، وكفار بلا شبهة، وطبقة متميعة لا ينبغي الانشغال بالحكم عليهم كما قاله بعض المعاصرين، أو أنهم مجهولي الحكم تقليداً لأصحاب الفكر القطبي.
(7) سبق تخريجه.
(8) رواه البخاري (6103/10/531) الأدب، ومسلم (60/2/65) الإيمان.(/15)
وقال النبي- صلى الله عليه وسلم -: "خير الناس قرني, ثم الذين يلونهم, ثم الذين يلونهم"(1), وقال- صلى الله عليه وسلم -: "لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً, ما أدرك مُد أحدهم ولا نصيفه"(2).
فالواجب على كل مسلم حب الصحابة- رضي الله عنهم - وتوليهم ومعرفة فضلهم, وخصوصاً أفضلهم أبا بكر, ثم عمر, ثم عثمان, ثم علي, ثم باقي العشرة المبشرين بالجنة, وأهل بدر, وأهل بيعة الرضوان, ومن أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا, وكلاً وعد الله الحسنى, وكذا أزواجه- صلى الله عليه وسلم -, والإيمان بأنهن أزواجه في الجنة, وحب أهل بيته كما أوصانا النبي- صلى الله عليه وسلم -.
2. والخلفاء بعد الرسول- صلى الله عليه وسلم -:
أبو بكر, ثم عمر, ثم عثمان, ثم علي- رضي الله عنهم - لإجماع الصحابة على ذلك، وإجماعهم حجة ملزمة, ومن طعن في خلافة واحد منهم فهو أضل من حمار أهله.
3. ومن قدم علياً على أبي بكر وعمر في الفضل أو الخلافة فهو ضال مبتدع:
كما ثبت عن علي- رضي الله عنه - لما سأله ابنه محمد بن الحنفية: "قلت لأبي: أي الناس خير بعد رسول الله- صلى الله عليه وسلم -؟، قال: أبو بكر، قلت: ثم من؟، قال: ثم عمر"(3).
4. ومن قدم علياً على عثمان في الفضل لا في الخلافة فهو مخطئ:
ولكن لا يفسق ولا يبدع وهي مسألة يعذر فيها المخالف, وكان من أهل السنة من يقولها قديماً ثم انعقد الإجماع على تقديم عثمان- رضي الله عنه - في الفضل والخلافة معاً لحديث ابن عمر رضي الله عنهما: "كنا في زمن النبي- صلى الله عليه وسلم - لا نعدل بأبي بكر أحداً, ثم عمر, ثم عثمان, ثم نترك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا نفاضل بينهم"(4).
5. يجب الإمساك عما شجر بين الصحابة بعد قتل عثمان من خلاف وقتال:
لأنه زيد فيه ونقص منه وغير عن وجهه، وكثير مما يروى كذب وزور عليهم, وأكثر أهل السنة على أن المجتهد المصيب علي- رضي الله عنه - والمخطئ من خالفه, وكلاهما مجتهد مأجور, والمخطئ مرفوع عنه الإثم معذور في خطئه لقول النبي- صلى الله عليه وسلم -: "تقتل عماراً الفئة الباغية"(5)، وقوله عن الخوارج: "يقتلها أولى الطائفتين بالحق"(6) وقد قاتلهم علي- رضي الله عنه -.
وسب الصحابة من عظائم الذنوب: سواء علي ومن معه أو طلحة أو الزبير أو معاوية ومن معهم- رضي الله عنهم -، بل هم جميعاً ممن قال الله فيهم: { وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ } [الحجر:47].
6. ولا عصمة لأحد بعد النبي- صلى الله عليه وسلم -:
لا لصحابي ولا إمام ولا ولي، بل الجميع يجوز عليهم الكبائر والصغائر, لكن للصحابة- رضي الله عنهم - مزية على من بعدهم للسبق للإسلام والصحبة والجهاد في سبيل الله.
7. وأولياء الله هم المؤمنون المتقون:
في كل زمان ومكان من أهل السنة والجماعة, لهم الكرامات والفضائل في الدنيا والآخرة ما يوجب حبهم وتوليهم, ولكن يجب الحذر من الغلو فيهم أو عبادتهم من دون الله.
8. ومن اعتقد في أحد منهم أو من غيرهم الألوهية:
(كالنصيرية العلويين في علي- رضي الله عنه -, والدروز في الحاكم بأمر الله, والباطنية في إمامهم), أو النبوة (كطوائف الشيعة والبهائية)، أو اعتقد أنهم أفضل من الأنبياء (كطوائف من الروافض)، أو اعتقد تحريف القرآن أو خطأ الوحي فهو كافر بلا خلاف عند أهل السنة, ولا يختلف أهل السنة في عدم تكفير الشيعة المفضلة (الزيدية)(7).
__________
(1) رواه البخاري (3650/7/5) فضائل الصحابة، ومسلم (2533/16/127) فضائل الصحابة.
(2) رواه البخاري (3673/7/25) فضائل الصحابة، ومسلم (2540/16/138) فضائل الصحابة، وابن ماجه (160/1/70) المقدمة.
(3) رواه البخاري (3671/7/24) فضائل الصحابة.
(4) رواه البخاري (3697/7/66) فضائل الصحابة، والترمذي (3707/3/519) المناقب.
(5) ترتيب أحاديث صحيح الجامع الصغير وزيادته على الأبواب الفقهية (4/146) الملاحم والفتن، والإحسان بترتيب ابن حبان (7036/9/105) مناقب الصحابة.
(6) رواه مسلم (1064/7/235) الزكاة.
(7) فخلاصة الكلام في الموقف من الشيعة أنهم ثلاث طوائف:
الأولى: غلاة الرافضة المعتقدين الألوهية في الأئمة أو النبوة أو تحريف القرآن فهم كفار نوعاً وعيناً، منهم: العلويين النصيرية والباطنية، ومنهم: الإسماعيلية والدروز والبهرة والقرامطة والعبيديين المسمين بالفاطميين.
الثانية: الرافضة وهم الشيعة الإمامية إلى مقربة الاثنا عشرية الذين يسبون الصحابة وربما كفّروهم ويعتقدون بأن الإمامة منصوص عليها لعلي- رضي الله عنه - ثم بقية الاثنى عشر إماماً بزعمهم، وهؤلاء عقائدهم منها ما هو كفر، لكن لا يُكفر العين منهم قبل إقامة الحجة.
الثالثة: الشيعة المفضلة وهم الزيدية وهم لا يكفرون بلا خلاف في هذه المسألة، أعني: مسألة تفضيل عليّ على أبي بكر وعمر- رضي الله عنهم -.(/16)
9. وإقامة الخلافة التي بها تجتمع كلمة المسلمين فرض وواجب على المسلمين:
وعودتها على منهاج النبوة مما بشر به النبي- صلى الله عليه وسلم -.
ثانياً : في الاتباع ومناهج الاستدلال
قال تعالى: { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } [الحشر: من الآية7].
وقال: { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً } [الأحزاب:36].
وقال: { النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ } [الأحزاب: من الآية6].
وقال: { وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا } [النور: من الآية54].
فحب رسول الله- صلى الله عليه وسلم - وتوقيره واتباعه من أعظم واجبات الدين بعد التوحيد, بل لا يصح التوحيد أصلاً إلا باتباعه والإيمان به ومحبته, ومحبته واجبة فوق محبة الأهل والمال والولد والنفس, "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين"(1).
ويجب تقديم قول النبي- صلى الله عليه وسلم - على قول كل أحد, وهديه على هدي كل أحد, قال ابن عباس رضي الله عنهما لعروة: "يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء, أقول لكم قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم - وتقولون: قال أبو بكر وعمر؟!".
واتباع السنة واجب في الأصول والفروع, وفي العقيدة والعمل, وفي الظاهر والباطن لعموم الأدلة وإجماع الأمة, قال الشافعي: "أجمع العلماء على أن من استبانت له السنة لم يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس" ومن فرق الدين فجعل بعض مسائله يرجع فيها للسنة وبعضها لا يلزم, أو زادت جرأته حتى قال عنها: تافهة, فقد ضل وخالف الإجماع.
ومن مقتضى هذه الأدلة في طاعة الرسول- صلى الله عليه وسلم - يجب تقديم الحديث الصحيح على العقل إذا خالفه, ونعني بـ (تقديم النقل على العقل) تقديم النقل الصحيح على العقل المخطئ, فالعقل يخطئ ويصيب, والشرع لا يأتي بما يناقض العقول, ولكن بما لا تعلمه العقول, والعقل الصريح يوافق النقل الصحيح.
ويجب تقديم الحديث على الرأي, والقياس, والعرف, والمصلحة المرسلة, وأقوال العلماء, وإمام المذهب, وعمل بعض الأئمة.
وأهل السنة لا يختلفون في ذلك كأصل وإنما يقع خلافهم في تطبيقه كثبوت الحديث صحة وضعفاً, وعمومه أو خصوصه, وإطلاقه أو تقييده, لكن لا يقدم عند أحد منهم قول أحد على قول النبي- صلى الله عليه وسلم - وكلهم قال: "إن صح الحديث فهو مذهبي" أو نحوها.
والتعصب المذهبي مذموم لم يعرف عن القرون الثلاثة الأولى، ونعني به: أن يتمسك بالمذهب بعد وضوح السنة في خلافه, وأما التعلم من كتب المذاهب مع الالتزام بأصل الاتباع, فعليه جرى عمل الأئمة والعلماء فالمذهب جائز وليس بلازم وجوازه مشروط بعدم التعصب.
والسنة وحي من عند الله, قال تعالى: { وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً } [النساء: من الآية113].
ولذا لا يجوز الاستغناء عنها بزعم الاكتفاء بالقرآن، بل من علم القرآن وجد فيه السنة: { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } [الحشر: من الآية7]، وهي تبين القرآن: { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } [النحل: من الآية44].
ويستحيل تعارض القرآن مع السنة الصحيحة كما لا تتعارض السنة مع السنة بغير إمكان الجمع بتخصيص أو تقييد أو نسخ أو غير ذلك.
والكتاب والسنة بمنزلة واحدة من جهة التشريع، وإن كان القرآن يقدم تشريفاً وتعظيماً وفضلاً, فهو كلام الله.
وتفسير القرآن: بالقرآن, ثم بالسنة, ثم بأقوال الصحابة- رضي الله عنهم -, ثم بأقوال التابعين, ثم بعد ذلك بما تحتمله اللغة العربية مع رد التأويلات الكلامية, وبهذا يتحقق فهم الكتاب والسنة بفهم أعلم الناس بالكتاب والسنة (السلف الصالح).
ومصادر أدلة الأحكام: الكتاب والسنة والإجماع والقياس, وهذه متفق عليها عند أهل السنة, وما سوى ذلك فمحل اجتهاد بينهم, مثل: قول الصحابي, والمصالح المرسلة, والاستصحاب وغيرها.
والبدع كلها مذمومة يجب حربها, إذ هي سبب تفرق الأمة: "وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة"(2).
وسواء كانت هذه البدع في العقيدة, كبدع الجهمية، والمعتزلة, والخوارج, والشيعة, والمرجئة, والجبرية, والقدرية, أو في العبادات: كالأذكار المبتدعة, والصلوات المبتدعة, أو في المعاملات: كتأسيس القواعد المخالفة للسنة: "ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل"(3).
__________
(1) رواه البخاري (15/1/75) الإيمان، ومسلم (44/2/20) الإيمان.
(2) رواه مسلم (867/6/219) الجمعة.
(3) رواه البخاري (2168/4/440) البيوع.(/17)
وسواء كانت بدعة حقيقية: وهي ما ليس له أصل في الدين, أو إضافية: وهي ما له أصل في الدين, والبدع كلها مذمومة الحقيقية منها والإضافية, فكل ذلك داخل في عموم قوله صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو رد"(1)، وإن كان بعضه أشد خطراً من بعض.
وما كان من خلاف بين أهل العلم في هذا الباب فكسائر مسائل الخلاف يجب رد النزاع إلى الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة.
ثالثاً: التزكية والعمل الصالح
قال تعالى: { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ } [الجمعة:2].
وقال النبي- صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربه عز وجل: "من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه, وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه, فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به, وبصره الذي يبصر به, ويده التي يبطش بها, ورجله التي يمشي بها, وإن سألني لأعطينه، وإن استعاذني لأعيذنه"(2).
وقال النبي- صلى الله عليه وسلم - عن أكثر ما يُدخل الناس الجنة: "تقوى الله, وحسن الخلق"(3).
وقال- صلى الله عليه وسلم -: "اتق الله حيثما كنت, وأتبع السيئة الحسنة تمحها, وخالق الناس بخلق حسن"(4).
فأصل تزكية النفس وتطهيرها يحصل بأداء الفرائض ثم النوافل ومعاملة الخلق بالأخلاق الفاضلة، وأما تعذيب النفس والفناء والمقامات التي آخرها وحدة الوجود فهي طريقة أهل البدع والزندقة نعوذ بالله منها.
وإليك أخي بعض الأمور من الفرائض والنوافل -لم أقصد ترتيبها- تعينك على تحصيل التزكية, مع التضرع إلى الله بما تضرع به النبي- صلى الله عليه وسلم -: "اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها"(5).
1. المحافظة على الصلوات الخمس في أوقاتها:
في المسجد جماعة خاصة الفجر, والحرص على الخشوع فيها, قال تعالى: { وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ } [هود:114].
وقال: { وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً } [الإسراء: من الآية78].
وقال النبي- صلى الله عليه وسلم -: "صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة"(6).
2. الحرص على إدراك تكبيرة الإحرام:
قال النبي- صلى الله عليه وسلم -: "من صلى لله أربعين يوماً في جماعة يدرك التكبيرة الأولى, كُتبت له براءتان: براءة من النار وبراءة من النفاق"(7).
3. التبكير إلى الجمعة, وإلى الصلوات كلها بعد الاغتسال أو التطهر في المنزل, والإنصات إلى الإمام, والذهاب ماشياً:
قال النبي- صلى الله عليه وسلم -: "من بكر وابتكر, وغسل واغتسل, ومشي ولم يركب, ودنا من الإمام فاستمع ولم يلغُ كانت له بكل خطوة أجر سنة صيامها وقيامها"(8).
4. المداومة على التسبيح والأذكار قبل طلوع الشمس وقبل غروبها, والمكث في المصلى إلى الضحى:
قال تعالى: { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا } [طه: من الآية130].
والمحافظة على ذكر الله مطلقاً، وقال النبي- صلى الله عليه وسلم -: "من قال حين يصبح وحين يمسي: سبحان الله وبحمده, مائة مرة, لم يأت أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء به، إلا أحد قال مثل ما قال أو زاد عليه"(9).
__________
(1) رواه البخاري (2697/5/355) الصلح، ومسلم (8/17)، وأبو داود (4606/3/118) السنة، وابن ماجه (14/1/22) المقدمة، وأحمد (6/73، 240، 270)، والطيالسي (1422)، وابن أبي عاصم في السنة (52، 53)، والبيهقي (10/119)، وفي الإرواء (88/1/89).
(2) ترتيب أحاديث صحيح الجامع الصغير وزيادته على الأبواب الفقهية (2/174) المناقب.
(3) رواه البخاري في الأدب المفرد (289/123)، والترمذي (2004/2/379) الأشربة، وابن ماجه (4322/3/382) الزهد، وأحمد (2/291، 392، 442)، وفي الصحيحة (977/2/669).
(4) حديث صحيح: روى حديث معاذ الترمذي (1987/2/373) البر، وأحمد (5/236)، ووكيع في الزهد (94)، والطبراني في الأوسط (3779)، وأبو نعيم في الحلية (4/376).
(5) رواه مسلم (2722/17/63) الذكر والدعاء.
(6) رواه البخاري (645/2/154) الأذان، ومسلم (650/5/213) المساجد.
(7) رواه الترمذي (241/1/148) الصلاة، والصحيحة (2652/6/314).
(8) رواه أبو داود (345/1/103) الطهارة، وابن ماجه (1096/1/322) الصلاة، والمشكاة (1388/1/437) الصلاة، (والترمذي (496/1/281) الصلاة، والنسائي (1380/1/445) الجمعة.
(9) رواه مسلم (2692/17/29) الذكر والدعاء، والترمذي (3466/3/430) الدعوات.(/18)
وقال: "من صلى الغداة في جماعة, ثم قعد يذكر الله حتى تطلع الشمس ثم صلى ركعتين, كانت له كأجر حجة وعمرة تامة تامة تامة"(1).
5. المداومة على حزب يومي من القرآن:
قال النبي- صلى الله عليه وسلم - لعبد الله بن عمرو: "اقرأ القرآن في كل شهر".
6. المحافظة على اثنتي عشرة ركعة من النوافل الراتبة كل يوم:
قال النبي- صلى الله عليه وسلم -: "ما من مسلم يصلي لله كل يوم ثنتي عشرة ركعة تطوعاً غير فريضة إلا بنى الله له بيتاً في الجنة"(2)، وفي رواية الترمذي: "أربعاً قبل الظهر وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل الغداة".
7. حضور مجالس العلم والذكر والحذر من الإعراض عنها:
قال النبي- صلى الله عليه وسلم -: "ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله تعالى ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة, وغشيتهم الرحمة, وحفتهم الملائكة, وذكرهم الله فيمن عنده"(3).
وقال عمن ترك مجلس العلم: "وأما الثالث فأعرض فأعرض الله عنه".
8. محاسبة النفس كل يوم وليلة قبل النوم أو في أي وقت آخر:
ومراجعة النية والإخلاص, والحذر من أمراض القلب ومن أخطرها:
الرياء, وطلب المدح من الناس, والكبر, والإعجاب بالنفس, والغفلة, والانشغال بالأسباب عن التوكل, وطلب الجاه والرياسة, وحب الدنيا وتقديمها على الآخرة, والحسد, والشحناء، قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } [الحشر:18].
وقال النبي- صلى الله عليه وسلم -: "إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم", وفي رواية: "وأعمالكم"(4).
9. الانتباه إلى تعاقب الليل والنهار, ومرور الوقت وتقصير الأمل والحذر من الكسل:
قال النبي- صلى الله عليه وسلم -: "نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ"(5).
10. النظر في خلق السماوات والأرض مع التفكر والاهتمام بالعبادات القلبية:
كحب الله, والخوف منه, ورجاء رحمته, والشوق إليه, والتفكر في آثار أسمائه وصفاته, وحسن التوكل عليه, والتضرع والذل والانكسار بين يديه.
قال تعالى: { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ، الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } [آل عمران:190، 191].
11. بر الوالدين وصلة الأرحام والإحسان إلى الجيران:
قال النبي- صلى الله عليه وسلم - لما سئل أي الأعمال أفضل؟، قال: "الصلاة على وقتها", قيل: ثم أي؟، قال: "بر الوالدين", قيل: ثم أي؟، قال: "الجهاد في سبيل الله"(6).
وقال تعالى: { فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ } [محمد:22].
وقال النبي- صلى الله عليه وسلم -: "مازال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننتُ أنه سيورثه"(7).
12. غض البصر, وحفظ الفرج, وستر العورة, والحذر من الاختلاط ولمس الأجنبيات, والحديث معهن فيما لا حاجة فيه:
قال تعالى: { قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ } [النور: من الآية30].
وقال النبي- صلى الله عليه وسلم -: "احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك"(8).
وقال- صلى الله عليه وسلم -: "لئن يطعن في رأس أحدكم بمخيط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل له"(9).
وقال- صلى الله عليه وسلم -: "لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم"(10).
وقال- صلى الله عليه وسلم -: "فزنى العينين النظر, وزنى اللسان النطق, والنفس تتمنى وتشتهي, والفرج يصدق ذلك أو يكذبه"(11).
13. زيارة القبور واتباع الجنائز:
__________
(1) رواه الترمذي (586/1/324) الجمعة، والتعليق الرغيب (1/164، 165)، والمشكاة (971/1/306).
(2) رواه مسلم (728/6/13) صلاة المسافر، وأبو داود (1250/1/343) الصلاة، والنسائي (1797/1/570) قيام الليل.
(3) رواه مسلم (2689/17/24) الذكر والدعاء، وأبو داود (1455/1/400) الصلاة.
(4) رواه ابن ماجه (4218/3/356) الزهد، وفي الصحيحة (2656/6/328).
(5) رواه البخاري (6412/11/233) الرقاق، وابن ماجه (4245/3/364) الزهد.
(6) رواه البخاري (26/1/97) الإيمان، ومسلم (83/2/95) الإيمان.
(7) رواه البخاري (6014/10/455) الأدب، ومسلم (47/2/23) الإيمان.
(8) رواه ابن ماجه (1947/2/141) النكاح، والمشكاة (3117/2/934) النكاح.
(9) السلسلة الصحيحة (226/1/447).
(10) رواه مسلم (1341/9/155) الحج.
(11) رواه البخاري (6612،11/511) القدر، ومسلم (2657/6/315) القدر.(/19)
قال النبي- صلى الله عليه وسلم -: "إني كنت نهيتكم عن زيارة القبور, فزوروها فإنها تذكر الآخرة"، وقال- صلى الله عليه وسلم -: "زوروا القبور فإنها تذكر الموت"(1).
14. أداء الزكاة المفروضة بحسابها الشرعي, والإكثار من الصدقة:
قال النبي- صلى الله عليه وسلم -: "والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار"(2).
15. صوم رمضان إيماناً واحتساباً:
والمداومة على صيام ثلاثة أيام تطوعاً من كل شهر, أو صوم الإثنين والخميس, أو صوم يوم وإفطار يوم, قال أبو هريرة- رضي الله عنه -: "أوصاني خليلي- صلى الله عليه وسلم - بثلاث لا أدعهن في سفر ولا حضر: ركعتي الضحى, وصوم ثلاثة أيام من الشهر, وأن لا أنام إلا على وتر"(3).
16. قلة الكلام إلا في الخير:
والحذر من كثير الضحك والمزاح, والحذر من آفات اللسان, قال النبي- صلى الله عليه وسلم -: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت"(4).
17. الاعتزال عن الشر وقرناء السوء والخلوة مع النفس بين حين وآخر:
قال تعالى عن إبراهيم- عليه السلام -: { وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيّاً } [مريم:48].
18. المحافظة على قيام الليل خصوصاً الوتر:
قال النبي- صلى الله عليه وسلم - لمعاذ- رضي الله عنه -: "ألا أدلك على أبواب الخير؟ الصوم جنة, والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار, وصلاة الرجل في جوف الليل"، ثم تلا قوله: { تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ، فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [السجدة:16، 17].
19. كثرة الدعاء والإلحاح فيه مع اليقين بالإجابة, وعدم الاستعجال:
قال النبي- صلى الله عليه وسلم -: "الدعاء هو العبادة"(5)، قال الله تعالى: { ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } [غافر: من الآية60].
20. المداومة على الاستغفار خاصة في السحر:
قال تعالى: { وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ } [آل عمران: من الآية17].
وقال النبي- صلى الله عليه وسلم -: "يا أيها الناس توبوا إلى الله فإني أتوب في اليوم مائة مرة"(6).
21. الوضوء قبل النوم, والمحافظة على أذكار النوم وآدابه والذكر والدعاء عند الاستيقاظ.
22. التعاون على الطاعة والاجتماع عليها:
قال تعالى: { وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ } [المائدة: من الآية2].
23. حفظ القرآن وتعاهده والحذر من تعريضه للنسيان:
قال النبي- صلى الله عليه وسلم -: "إن الذي ليس في جوفه شيء من القرآن كالبيت الخرب"(7).
24. قراءة كتب العلم:
خاصة: الحديث, والتفسير, والفقه, والرقائق, والتوحيد: "طلب العلم فريضة على كل مسلم"(8).
25. التعجيل بالحج والمتابعة بينه وبين العمرة:
قال النبي- صلى الله عليه وسلم -: "العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة"(9).
26. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
خاصة ما ظهر منه بحسب القواعد الشرعية من العلم, والبدء بالرفق ما أمكن, والصبر واحتمال الأذى ومراعاة المصلحة والمفسدة بالضوابط الشرعية، ومراعاة القدرة والاستطاعة: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان"(10).
27. السعي في الكسب الحلال والعمل الحلال وإطابة المطعم:
قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } [البقرة: من الآية172].
وترك الحرام كالربا والرشوة والغش والغصب والسرقة وغيرها.
وأما الخلق الحسن:
__________
(1) رواه مسلم (977/7/65) الجنائز، والترمذي (1054/1/537) الجنائز، والنسائي (2031/2/66) الجنائز، وابن ماجه (1591/2/36) الجنائز.
(2) رواه البخاري (1435/3/353) الزكاة، بلفظ: "فتنة الرجل في أهله وولده وجاره تكفرها الصلاة والصدقة والمعروف".
(3) رواه أبو داود (1433/1/394) الصلاة.
(4) رواه البخاري (6018/10/460) الأدب.
(5) رواه الترمذي (2969/3/190) تفسير القرآن، وأبو داود (1479/1/407) الصلاة.
(6) رواه مسلم (2702/17/39) الذكر والدعاء، وابن ماجه (3883/3/248) الأدب.
(7) الترغيب والترهيب (1444/2/2/173) قراءة القرآن، رواه الحاكم موقوفاً وقال: رفعه بعضهم.
(8) رواه ابن ماجه (223/1/92) المقدمة.
(9) رواه البخاري (1373/3/698) العمرة، ومسلم (1349/9/167) الحج.
(10) رواه مسلم (49/2/27) الإيمان، وأبو داود (1140/1/312) الصلاة، والترمذي (2172/2/460) الفتن، وابن ماجه (1291/1/383) الأذان والسنة فيه.(/20)
فهو يتحقق بالقيام بحقوق الأخوة الإيمانية التي تربط المسلم بجميع إخوانه المسلمين فعلاً وتركاً وهي تبلغ أكثر من سبعين حقاً، فتأملها أخي الكريم وزن نفسك بها لترى هل سلوكك يتفق مع السلوك الذي أراده الشرع منا, والذي طبقه الصحابة ومن بعدهم من السلف- رضي الله عنهم -.
الحقوق الفعلية:
منها الواجب ومنها المستحب:
1. النصيحة, ومنها تعليم الجاهل, وإرشاد الزائغ, وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر.
2. الرحمة والتعاطف والتواد والتماسك.
3. الرفق معهم والسماحة في البيع والشراء والقضاء.
4. الإصلاح بينهم.
5. إفشاء السلام.
6. تشميت العاطس.
7. عيادة المريض.
8. تشييع الميت.
9. إبرار المقسم.
10. إجابة الدعوة.
11. المصافحة عند اللقاء.
12. المعانقة عند القدوم من سفر أو طول غياب.
13. الزيارة في الله.
14. تفقد الغائب وتفقد أحوال المسلمين والسؤال عنها.
15. إغاثة الملهوف.
16. التبشير بما يسر.
17. التهنئة عند الفرح, مع الفرح لفرحهم.
18. الحزن لحزنهم والتعزية عند المصيبة.
19. الشفاعة فيهم عند ذي السلطان لقضاء حوائجهم المباحة.
20. تفريج المكروب والتنفيس عنه, وإقراضه إذا طلب.
21. الوضع عن المعسر أو إنظاره، والتيسير على الموسر.
22. السلامة من لسانك ويدك.
23. ستر عوراتهم الظاهرة والباطنة.
24. بذل الفضل لهم.
25. الدعاء له بظهر الغيب.
26. المجالسة في الله, والصحبة فيه والتباذل فيه.
27. طلاقة الوجه عند اللقاء والتبسم في وجه أخيك.
28. إزالة الأذى من طريق المسلمين.
29. حفظ من غاب منهم في أهله وماله.
30. إذا أحب أحداً من إخوانه فليخبره أنه يحبه.
31. قضاء حاجة إخوانه.
32. الإيثار على النفس ولو مع الخصاصة.
33. إنشاد الضالة حتى يجدها صاحبها أو يمر حول تعريفها.
34. نصر الأخ ظالماً (بمنعه من ظلمه)، أو مظلوماً (برفع الظلم عنه).
35. العفو عنهم والصفح عن زلاتهم وقبول معذرتهم.
36. مهادتهم وقبول هديتهم.
37. التواضع وخفض الجناح والذلة على المؤمنين.
38. رد الغيبة وعدم تصديق النميمة.
39. مداعبة صبيانه وبناته الصغار والمزاح معهم بغير تفريط أو كذب.
40. رحمة الصغير وتوقير الكبير واحترام العالم.
41. مراعاة راحته في بيته بالتأدب بآداب الاستئذان والجلوس والزيارة والضيافة.
ما يشرع تركه ويحرم فعله أو يكره:
42. التباغض.
43. التحاسد.
44. الشحناء والغل.
45. الهجر وترك إلقاء السلام.
46. التدابر والتقاطع.
47. البيع على بيع المسلم والسوم على سومه.
48. الخطبة على خطبته.
49. الإشارة إليه بالسلاح ولو مازحاً.
50. أخذ متاعه ولو لاعباً.
51. ظلمه وإيذائه باليد أو باللسان أو بالظن في دمه أو عرضه أو ماله.
52. الاحتقار والازدراء والتكبر عليهم.
53. إظهار الشماتة في مسلم أو إضمارها.
54. الغدر والخيانة.
55. الغش والخداع.
56. التقاتل على الدنيا وسفك الدماء.
57. الكذب عليه.
58. الغيبة وسماعها.
59. النميمة وتصديقها.
60. التجسس والتحسس (لنفسك أو لغيرك) وكشف عوراته.
61. إفشاء السر وتضييع الأمانة.
62. التنافس على أمور الدنيا.
63. السب واللعن والبذاءة.
64. المن بالعطية والهبة.
65. الرجوع في الهبة أو الصدقة بعد إمضائها.
66. البغي والاعتداء.
67. الضرب بغير حق, والضرب على الوجه خصوصاً.
68. الافتخار عليه وتناجي اثنين دون الثالث.
69. الطعن في نسبه أو عرضه أو قذفه أو قذف أهله.
70. ترويع المسلم وإخافته.
71. تسليمه لأعدائه وخذلانه.
فهذه جملة من الحقوق يستحقها كل مسلم على أخيه المسلم, فعلاً وتركاً.
نسأل الله أن يوفقنا للقيام بحقوق إخواننا ومراعاة حرمتهم, آمين.
خاتمة
وبعد فهذه جملة ما أردنا بيانه للأخوة الأحباب في طريق النجاة, أدعو الله أن ينفعني وأهلي وإخوتي بسلوكه, والعمل به, وأن يجمعنا وأهلينا وإخواننا المسلمين في جنته.
وإني سائل أخاً كريماً انتفع بشيء مما قرأ أن يدعو لمن جمعها بالقبول والمغفرة والرحمة وأن يجعلنا من رفقاء نبيه صلى الله عليه وسلم: { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً، ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيماً } [النساء:69، 70].
وكتبه
ياسر برهامي
الإعداد والتنسيق:
منتدى البراحة www.albraha.com
براحة الصالحين
براحة الدورات الشرعية والبحوث العلمية
تحت إشراف: مراقب القسم الإسلامي بالمنتدى
أبو الفرج المصري
Abou_elfarag@yahoo.com
[نرجو تنبيهنا على أية أخطاء مطبعية في الكتاب بمراسلة مراقب القسم الإسلامي
على البريد الإلكتروني السابق، ليتم تصحيحها](/21)
منتدى جدة الاقتصادي .. والمحرَّم
د. علي بن عمر بادحدح
</TD
العاشر من شهر الله المحرّم كان افتتاح » منتدى جدة الاقتصادي «، وهذا اليوم هو الذي سنّ المصطفى صلى الله عليه وسلم صيامه ونوّه بفضله كما روى ابن عباس رضي الله عنه قال: ( ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتحرى صيام يوم فضله على غيره إلا هذا اليوم يوم عاشوراء وهذا الشهر يعني شهر رمضان ) [ رواه البخاري ] ، كما أضاف صلى الله عليه وسلم تعليلات وحِكَماً لصومه فيما رواه ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة وجدهم يصومون يوما يعني عاشوراء فقالوا هذا يوم عظيم وهو يوم نجى الله فيه موسى وأغرق آل فرعون فصام موسى شكرا لله فقال: ( أنا أولى بموسى منهم فصامه وأمر بصيامه ) [ متفق عليه ]، وقال صلى الله عليه وسلم أيضاً : ( لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع ) [ رواه مسلم ]، وقال ابن حجر : " مَا هَمَّ بِهِ مِنْ صَوْم التَّاسِعِ يَحْتَمِلُ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يَقْتَصِرُ عَلَيْهِ بَلْ يُضِيفُهُ إِلَى الْيَوْمِ الْعَاشِرِ إِمَّا اِحْتِيَاطًا لَهُ وَإِمَّا مُخَالَفَةً لِلْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَهُوَ الْأَرْجَحُ , وَبِهِ يُشْعِرُ بَعْضُ رِوَايَاتِ مُسْلِمٍ , وَلِأَحْمَدَ مِنْ وَجْه آخَر عَنْ اِبْن عَبَّاس مَرْفُوعًا صُومُوا يَوْم عَاشُورَاء وَخَالِفُوا الْيَهُود , صُومُوا يَوْمًا قَبْلَهُ أَوْ يَوْمًا بَعْدَهُ , وَهَذَا كَانَ فِي آخِر الْأَمْرِ , وَقَدْ كَانَ صلى الله عليه وسلم يُحِبُّ مُوَافَقَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِيمَا لَمْ يُؤْمَرْ فِيهِ بِشَيْءِ وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ فِيمَا يُخَالِف فِيهِ أَهْل الْأَوْثَان , فَلَمَّا فُتِحَتْ مَكَّة وَاشْتُهِرَ أَمْر الْإِسْلَام أَحَبَّ مُخَالَفَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ أَيْضًا كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ , فَهَذَا مِنْ ذَلِكَ , فَوَافَقَهُمْ أَوَّلًا وَقَالَ : نَحْنُ أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ , ثُمَّ أَحَبَّ مُخَالَفَتهمْ فَأَمَرَ بِأَنْ يُضَافَ إِلَيْهِ يَوْمٌ قَبْله وَيَوْمٌ بَعْدَهُ خِلَافًا لَهُمْ " .
والمسلمون يستنبطون - من كل ما سبق - عِبراً كثيرة منها ما يلي :
1- الحرص والجد في شكر النعم بالطاعات والتقرب إلى الله عز وجل، والله يقول: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [ إبراهيم:7] .
2- العمل على اجتناب سخط الله بشكر نعمه واستقامة على أمره، والله جل وعلا يقول: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً } [ النساء:147]، ذكر السعدي أن الله : " يريد منكم التوبة والإنابة والرجوع إليه، فإذا أنبتم إليه فأي شيء يفعل بعذابكم ؟ فإنه لا يتشفى بعذابكم، ولا ينتفع بعقابكم، بل العاصي لا يضر إلا نفسه، كما أن عمل المطيع لنفسه، والشكر هو خضوع القلب، واعترافه بنعمة الله، وثناء اللسان على المشكور، وعمل الجوارح بطاعته، وأن لا يستعين بنعمه على معاصيه ".
3- الإدراك العميق لفضل أمة الإسلام، والحرص الأكيد على تميزها، والله جل وعلا يقول: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } [ آل عمران:110]، ويقول: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [ البقرة:143]، والمصطفى صلى الله عليه وسلم يقول: ( نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا ثم هذا يومهم الذي فرض عليهم فاختلفوا فيه فهدانا الله فالناس لنا فيه تبع اليهود غدا والنصارى بعد غد ) [ رواه البخاري ].
4- متابعة سنة النبي صلى الله عليه وسلم ، والتزام سنته، واقتفاء أثره في الصيام، وتميز المسلم عن غير المسلمين، وطلب الأجر والمثوبة، كما ورد في حديث عن أبي قتادة الأنصاري صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن صوم يوم عاشوراء فقال : ( يكفّر السنة الماضية ) [ رواه مسلم ].(/1)
عذراً لقد نسيت أنني أتكلم عن » منتدى جدة الاقتصادي «، وأنتم تعرفون سيرته الماضية، وما أُعلِن من تفصيل برامجه لهذا العام ، وموافقة افتتاحه لهذا اليوم الأغر جعلتني في حيرة من جهة، وحزن من جهة أخرى، حيث إن المنتدى – بحسب فهمي المحدود – لا يعدُّ برنامجه من باب الشكر اعترافاً بنعم الله، وثناء عليه بها، وعملاً بالطاعات لأجلها،كما لا أراه مندرجاً في باب اجتناب سخط الله بشكر نعمه، وأما التميز لأمة الإسلام ومخالفتها لغيرها بالسبق إلى مزيد الفضل، والاعتزاز بالانتماء إلى هذا الدين العظيم، والإتباع للرسول الكريم فإن ذلك كله بعيد كل البعد عن أجواء وبرامج هذا المنتدى الذي أراه - من وجهة نظري القاصرة - يمثل صورة ظاهرة لتعظيم الآخر، والانبهار به، والتقديم له، والظهور بمظهر لا ينمّ عن ثقة واعتزاز، ولا يدل على ندية ومساواة، فضلاً أن يكون هناك تميز وسبق حتى في مجال المعتقد والفكر والثقافة ونمط الحياة، وبعيداً عن أقاويل كثيرة حول المنتدى فإنني أتساءل بحرقة وحزن عن صلة » منتدى جدة الاقتصادي « والمحرّم .. أعني كلا الأمرين : شهر الله المحرم، وصيام عاشوراء من جهة، والمحرّم بمعنى الحرام في دين الله اعتقاداً وعملاً، وأترك إجابة التساؤل للقرّاء عموماً، ولإدارة وسدنة ورعاة المنتدى خصوصاً، واللبيب بالإشارة يفهم، والله من وراء القصد، وهو الهادي إلى سواء السبيل .
11/1/1426هـ
مفتي السعودية يستنكر ما حدث من سفور واختلاط بجدة
منكرات منتدى جدة الاقتصادي واختلاط النساء بالرجال
وقفة مع مؤتمر جدة الاقتصادي(/2)
منجم الكنوز الثمينة
الكاتب: الشيخ د.علي بن عمر بادحدح
الحمد لله ما تَرطَّبتْ الألسن بذكره، وما عَملَتْ الجوارح بشكره، وما خَفقَتْ القلوب بحبه، وما سجدت الجباه لعظمته، وما رُفعَتْ الأيدي لمسألته، وما سارت الأقدام لطاعته، والصلاة والسلام على معلم البشرية، ومنقذ الإنسانية، منار الهدى، وعلم التُّقى، النبي المصطفى، والرسول المجتبى، وعلى آله وصحبه ومن بهم اقتدى، وبعد :
المنجم يرتبط في الأذهان باستخراج بعض خيرات الأرض وحصول النعمة والثراء، والغالب أن يكون المنجم مختصاً بنوع واحد من تلك الخيرات، فكيف إذا احتوى أكثر من نوع، وكلُّها غالية الثمن نفيسة القيمة عظيمة النفع؟! وكيف إذا كان استخراج تلك الكنوز سهلاً ميسوراً لكل أحدِ دون حاجة لتخصص دقيق، ولا جهد كبير !!
لا شك أن الجميع سيكونون حريصين على أن يكون لهم النصيب الأعظم من كنوز المنجم الثمينة .
المنجم أمام عينيك، وتحت قدميك، وبين يديك، وهو طوع أمرك، ورهن إشارتك، ألست تراه؟، ألا تبدو لك كنوزه المتنوعة؟، ألا تغريك ثروته الغالية؟، انتبه... ما لك؟! ألا تُبصر الجموع الغفيرة تُقبل عليه وتأخذ منه؟، ألم يتكرر هذا المشهد أمامك كثيراً؟!، إنه منجمُ...لا لن أسميه لك بل سأنتقل إلى عرض بعض كنوزه فذلك أولى وأجدى.
كنز الفضائل والخصائص :
- مغفرة : (من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ) [ متفق عليه ] .
- تكفير : ( فتنة الرجل في أهله وماله وجاره تكفرها الصلاة والصيام والصدق ) [ متفق عليه ] .
- وقاية : ( الصيام جنة وحصن حصين من النار ) [ رواه أحمد ] .
- مثوبة : ( الصيام لي وأنا أجزي به، والحسنة بعشر أمثالها ) [ رواه البخاري ] .
- خصوصية : ( إن في الجنة باباً يقال له الريان، يدخل منه الصائمون يوم القيامة، لا يدخل منه أحد غيرهم ) [ متفق عليه ] .
- شفاعة : ( الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة ) [ رواه أحمد ] .
- فرحة : ( للصائم فرحتان فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه ) [ رواه مسلم ] .
- تفرد : ( عليك بالصوم فإنه لا مثل له ) [ رواه النسائي ] .
كنز القرآن والتلاوة :
{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ } [ البقرة:185] ،عن عبدالله بن عمرو، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب إني منعته الطعام والشهوة، فشفعني فيه، ويقول القرآن: أي رب منعته النوم بالليل، فشفعني فيه، قال: فيشفعا ) [ رواه أحمد ] .
كنز الصلاة والقيام :
{ وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً } [ الإسراء:79 ]، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ) [ متفق عليه ] .
كنز الذكر والدعاء :
{ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ } [ البقرة:186] ، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( ثلاثة لا ترد دعوتهم: الصائم حين يفطر، والإمام العادل، ودعوة المظلوم ) [ رواه الترمذي ] .
كنز الجود والإنفاق :
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : ( كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل وكان جبريل عليه السلام يلقاه كل ليلة في رمضان حتى ينسلخ يعرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم القرآن فإذا لقيه جبريل عليه السلام كان أجود بالخير من الريح المرسلة ) [ متفق عليه ] .
كنز الإرادة والصبر :
« من حكم الصيام وفوائده العظيمة تقوية الإرادة في النفوس تلك الركيزة العظيمة التي عمل رجال الاجتماع وأصحاب التنظيم العسكري على تقويتها في المجتمع هذا الزمان، وقد سبقهم الدين الإسلامي على ذلك منذ أربعة عشر قريناً تقريباً، وما أحوج المسلم إلى أن يكون قوي الإرادة صادق العزيمة » (1)
« الصوم تقوية للإرادة، وتربية على الصبر، فالصائم يجوع وأمامه شهي الغذاء، ويعطش وبين يديه بارد الماء، ويعفُّ وبجانبه زوجته، لا رقيب عليه في ذلك إلا ربه، ولا سلطان إلا ضميره، ولا يسنده إلا إرادته القوية الواعية، يتكرر ذلك نحو خمس عشرة ساعة أو أكثر في كل يوم، وتسعة وعشرين يوماً أو ثلاثين في كل عام، فأي مدرسة تقوم بتربية الإرادة الإنسانية وتعليم الصبر الجميل، كمدرسة الصيام التي يفتحها الإسلام إجبارياً للمسلمين في رمضان، وتطوعاً في غير رمضان ؟! » . (2)
كنز القوة والحرية :(/1)
« صوم رمضان من هذا الوجه إن هو إلا منهاج يتدرب به المرء على تحرير نفسه والانسحاب بها من أَسْر المادة وظلمة الشهوة، ليحيا ما شاء الله في ملكوت الحياة الحق ويكون له ما شاء الله من خصائص الخير والفضيلة، فالحرية الصحيحة لا يذوقها ولا يقدرها إلا من حيي هذه الحياة » (3)
« فرض الله الصيام ليتحرر الإنسان من سلطان غرائزه، وينطلق من سجن جسده، وتغلب على نزعات شهوته، ويتحكم في مظاهر حيوانيته، ويتشبه بالملائكة » (4)
كنز الرحمة والمساواة :
« رمضان الذي تتحقق فيه معاني الإنسانية، وتكون المساواة بين الناس، فلا يجوع واحد ويتخم الآخر، بل يشترك الناس كلهم في الجوع وفي الشبع، غنيهم وفقيرهم، فيحس الغني بألم الجوع ليذكره من بعد إذا جاءه من يقول له: أنا جوعان، ويعرف الفقير نعمة الله عليه، حين يعلم أن الغني يشتهي - على غناه - رغيفاً من الخبز أو كأساً من الماء » (5)
« فقرٌ إجباريٌ يراد به إشعار الإنسانية بطريقة عملية واضحة كلَّ الوضوح، أن الحياة الصحيحة وراء الحياة لا فيها، وأنها إنما تكون على أتمها حين يتساوى الناس في الشعور لا حين يختلفون، وحين يَتعاطَفُون بإحساس الألم الواحد، لا حين يتنازعون بإحساس الأهواء المتعددة » ، « ويجعل الناس فيه سواءً : ليس لجميعهم إلا شعور واحد وحس واحد وطبيعة واحدة ويُحكِم الأمر فيحول بين هذا البطن وبين المادة » (6)
كنز الخلق والسلوك :
« المقصود منه السمو بالنفس إلى المستوى الملائكي، وصون الحواس عن الشرور والآثام، فالكف عن الطعام والشراب ما هو إلا وسيلة إلى كف اللسان عن السب والشتم والصخب، وإلى كف اليد عن الأذى، وإلى كف البصر عن النظرة الخائنة، وإلى كف السمع عن الإصغاء للغيبة والنميمة والقول المنكر » (7)
« فألزمه سبحانه الصوم حتى إذا جاع وظمئ ذلّت نفسه، وانصدع كبره وفخره، وأحس أنه - مهما أوتي - فهو مسكين تُقعده اللقمة إذا فُقدت، وتُضعفه جرعة الماء إذا مُنعت، هنالك يُطامن من غروره، ويعترف بفضل الله عليه حتى في كسرة الخبز ورشفة البحر، ومتى عرف الله خافه، ومتى خافه استقام على الطريقة، وسار على الجادة، وترك ما كان فيه من بغي واستطالة وعلو في الأرض بغير الحق، وآثر رضوان الله على ترضية نفسه وصار رسول رحمة وسلام لكل من حوله من أبناء الإنسانية » (8)
وخذ أخيراً هذه الكلمات الجامعة: « للصوم فوائد: رفع الدرجات، وتكفير الخطيئات، وكسر الشهوات، وتكثير الصدقات، وتوفير الطاعات، وشكر عالم الخفيات، والانزجار عن خواطر المعاصي والمخالفات » (9)
ثم ماذا أيها الأخ الحبيب ؟ دونك الكنوز تتلألأ، والثروة تتهيأ، فماذا أنت فاعل؟!
إليك هذه الومضات :
- أخلص نيتك، واستحضر عزيمتك، وزكِّ نفسك، وطهر قلبك، وأجج أشواقك، وأعلن أفراحك .
- بادر بالتوبة، وأكثر من الاستغفار، وتحلَّ بالإنابة، واذرف دموع الندامة، واستعد لموسم النقاء بغسل الذنوب .
- احرص في الصلوات على التبكير وإدراك التكبير، والمواظبة على الرواتب، والاستكثار من الرغائب .
- خذ حظك من قيام الليل، ودعاء القنوت، وطول القيام والسجود، وارفع دعاء الأسحار، واملأ الثلث الأخير بالاستغفار .
- أدمن التلاوة، ورطب لسانك بالقرآن، وانهل من مائدة الرحمن، ونوِّر الليالي بالتجويد، وعطَّر الأيام بالترتيل .
- صل رحمك، وزر أقاربك، واعف عمن أخطأ، وتجاوز عمن هفا، واجمع أهل حي، وتقرب من جيرانك، وكرر اللقاء بإخوانك، وخص بمزيد من الود والحب والوصل أهلك وزوجك وأبناءك .
- اجعل لنفسك مع أهل بيتك برنامجاً إيمانياً لاغتنام الكنوز الثمينة، فجلسة للتلاوة، ولقاء للتاريخ، ورحلة للعمرة، ووقت للقيام، وحلقة للذكر، وفرصة للدرس، ولا تنس أن في الوقت بركة .
- احسب زكاتك، واجمع من زكاة أهلك وأقاربك، واستعن بإخوانك على وضعها في مصارفها، وتوصيلها لمستحقيها، واحرص على أن تُبادر وتُنافس في الإنفاق فهذا ميدان السباق .
- تذكر إخوانك المسلمين المضطهدين والمشردين والمظلومين في العراق وفلسطين وغيرهما، لا تنسهم من دعواتك وزكواتك، وعرِّف بأحوالهم وبين مكر وجرم أعدائهم، واكشف زيف الدعاوى المتعلقة بقضاياهم .
----------
المراجع :
(1) مقالات الإسلاميين في شهر رمضان ، 402-مقال: من حكم الصوم، لعبد الرحمن الدوسري .
(2) العبادة في الإسلام د. يوسف القرضاوي ص 265
(3) مقالات الإسلاميين في شهر رمضان ، ص393-مقال: بين يدي رمضان، لحسن الهضيبي .
(4) العبادة في الإسلام د. يوسف القرضاوي ص 264
(5) مع الناس، لعلي الطنطاوي .
(6) وحي القلم للرافعي، 2/67
(7) مقالات الإسلاميين في شهر رمضان ، ص238-مقال:خلق الصائم، لعبدالوهاب خلاف .
(8) مقالات الإسلاميين في شهر رمضان ص243 – مقال: رمضان والصيام، لمحمد الزرقاني .
(9) مقاصد الصوم للعز بن عبد السلام، ص10(/2)
منح الدرجات للطلاب لتبرعهم للمدرسة
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ... الفهرسة/ المعاملات/الرشوة والغش والتدليس
التاريخ ... 28/11/1422
السؤال
أعمل مدرساً بإحدى المدارس الثانوية ، وسؤالي هو : إذا طلب معلم المادة من طلابه عملاً يعود بالنفع على المدرسة وطلابها مثال: طلب مدرس الحاسب من الطلاب أدوات الحاسب الآلي من دسكات، وفلاتر شاشات، وماسحات ضوئية، وقارئات أقراص، وغيرها، مع التزامه بزيادة الدرجات لهم ( درجات أعمال الفصل )، فهل في ذلك من حرج شرعي ؟ وهل له أن يأخذ منها شيئاً بعد استئذان الطلاب الذين أحضروها وموافقتهم ؟
الجواب
الذي يظهر لي أنه لا يجوز أن يعطي المدرس درجات في أعمال السنة لمن يأتي ببعض اللوازم للمادة العلمية من الطلاب؛ لأن درجات أعمال السنة تضاف في الامتحان الفصلي إلى درجة الامتحان الفعلي، ولو قيل بجوازها لأصبح نوعاً من الغش المحرم، إضافة إلى أنه ليس كل الطلاب قادرين على أن يأتوا بهذه الطلبات، ولو فرض أن جاؤوا كلهم بطلبات لصالح المادة العلمية فما جاؤوا به يتفاوت قيمةً وأجراً فلا يجوز حينئذٍ إعطاؤهم درجات من أعمال السنة فيحصلوا على تقدير فيه تزويد، ولا يجوز للأستاذ أن يأخذ مما جاؤوا به ولو استأذنهم وأذنوا؛ لأن ما جاؤوا به هو تبرع وهبة للمدرسة، ولا يجوز الرجوع في تبرع الهبة، فتبقى هذه الأشياء التي جاء بها الطلاب ملكاً للمدرسة ، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد .(/1)
________________________________________
منزلة الحكم بما أنزل الله من الدين
رئيسي :المنهج :السبت27 صفر 1425هـ - 17 أبريل 2004م
لا شك أن تنحية شرع الله تعالى، وعدم التحاكم إليه في شئون
الحياة من أخطر وأبرز مظاهر الانحراف في مجتمعات المسلمين، ولقد كانت عواقب الحكم بغير ما أنزل الله في بلاد المسلمين ما حل بهم من أنواع الفساد، وصنوف الظلم، والذل والمحق. ونظرًا لأهمية وخطورة هذه المسألة من جانب، وكثرة اللبس فيها من جانب آخر، فسوف نتناول منزلة الحكم بما أنزل الله من الدين، وضرورة التحاكم إلى شرع الله.
منزلة الحكم بما أنزل الله من الدين، وضرورة التحاكم إلى شرع الله:
1- فرض الله تعالى الحكم بشريعته، وأوجب ذلك على عباده، وجعله الغاية من تنزيل الكتاب: قال تعالى:{ إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ...[105]} [سورة النساء].
2- اختصاصه سبحانه وتفرده بالحكم: قال تعالى:{ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ...[40]} [سورة يوسف]، وقال عز وجل:{ وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ[70]} [سورة القصص]، وقال سبحانه:{ وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ[10]} [سورة الشورى].
3- التأكيد على أن الحكم بما أنزل الله من صفات المؤمنين، وأن التحاكم إلى غير ما أنزل الله -وهو حكم الطاغوت والجاهلية- من صفات المنافقين: قال سبحانه:{ وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ[47]وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ[48]وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُالْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ[49]أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ[50] إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ[51]} [سورة النور].
وقال تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا[59]أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا[60] وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا[61]فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا[62]} [سورة النساء].
يقول ابن تيمية عن هذه الآيات:'ذم الله عز وجل المدعين الإيمان بالكتب كلها وهم يتركون التحاكم إلى الكتاب والسنة، ويتحاكمون إلى بعض الطواغيت المعظمة من دون الله، كما يصيب ذلك كثيرًا ممن يدعي الإسلام وينتحله في تحاكمهم إلى مقالات الصابئة الفلاسفة أو غيرهم، أو إلى سياسة بعض الملوك الخارجين عن شريعة الإسلام من ملوك الترك- يقصد رحمه الله التتر- وغيرهم، وإذا قيل لهم تعالوا إلى كتاب الله وسنة رسوله أعرضوا عن ذلك إعراضًا، وإذا أصابتهم مصيبة في عقولهم ودينهم ودنياهم بالشبهات والشهوات، أو في نفوسهم وأموالهم عقوبة على نفاقهم، قالوا إنما أردنا أن نحسن بتحقيق العلم بالذوق، ونوفق بين الدلائل الشرعية والقواطع العقلية التي هي في الحقيقة ظنون وشبهات'[الفتاوى 12/339-340، بتصرف يسير].
ويقول أيضا:'ومعلوم باتفاق المسلمين أنه يجب تحكيم الرسول في كل ما شجر بين الناس في أمر دينهم ودنياهم في أصول دينهم وفروعه، وعليهم كلهم إذا حكم بشيء أن لا يجدوا في أنفسهم حرجًا مما حكم ويسلموا تسليمًا'[الفتاوى 7/37-38].
أهمية إفراد الله تعالى بالحكم، وبيان منزلة الحكم بما أنزل الله:(/1)
1- منزلته من توحيد العبادة: إن الحكم بما أنزل الله وحده هو إفراد الله بالطاعة، والطاعة نوع من أنواع العبادة، فلا تصرف إلا لله وحده لا شريك له، قال تعالى:{ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ...[40]} [سورة يوسف]، فعبادة الله تقتضي إفراده بالتحليل والتحريم، حيث قال سبحانه:{ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ[31]} [سورة التوبة].
وتحقيق هذه الطاعة، وإفراد الله تعالى بالحكم والانقياد لشرعه هو حقيقة الإسلام، وكما قال ابن تيمية:'فالإسلام يتضمن الاستسلام لله وحده، فمن استسلم له ولغيره كان مشركا، ومن لم يستسلم له كان مستكبرا عن عبادته، والمشرك به والمستكبر عن عبادته كافر، والاستسلام له وحده يتضمن عبادته وحده، وطاعته دونه' [الفتاوى 3/ 91، وانظر النبوات ص 69- 70].
ويقول ابن القيم:'وأما الرضا بدينه، فإذا قال أو حكم أو أمر أو نهى، رضي كل الرضا، ولم يبق في قلبه حرج من حكمه، وسلم له تسليما، ولو كان مخالفا لمراد نفسه، أو هواه، أو قول مقلده وشيخه وطائفته' [مدارج السالكين 2/118].
وفي المقابل فإن من أشرك مع الله في حكمه، فهو كالمشرك في عبادته، لا فرق بينهما، كما قال الشنقيطي رحمه الله:'الإشراك بالله في حكمه، والإشراك في عبادته كلها بمعنى واحد، لا فرق بينهما البتة، فالذي يتبع نظامًا غير نظام الله، وتشريعًا غير تشريع الله، كالذي يعبد الصنم ويسجد للوثن، لا فرق بينهما البتة بوجه من الوجوه، فهما واحد، وكلاهما مشرك بالله' [الحاكمية في تفسير أضواء البيان، لعبد الرحمن السديس، وانظر أضواء البيان للشنقيطي 7/162].
ويقول أيضًا:'ويفهم من هذه الآية:{...وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا[26]}[سورة الكهف] . أن متبعي أحكام المشرعين غير ما شرعه الله أنهم مشركون بالله، وهذا المفهوم جاء مبينًا في آيات أخر، كقوله فيمن اتبع تشريع الشيطان في إباحة الميتة بدعوى أنها ذبيحة الله:{ وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ[121]}[سورة الأنعام].
فصرح بأنهم مشركون بطاعتهم، وهذا الإشراك في الطاعة، واتباع التشريع المخالف لما شرعه الله تعالى، هو المراد بعبادة الشيطان في قوله تعالى:{ أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ[60]وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ[61]}[سورة يس]. وقوله تعالى عن نبيه إبراهيم:{ يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا[44]}[سورة مريم]'[ أضواء البيان 4/83 و 3/440].
ولتحقيق نفي الإلهية عما سوى الله، وإثباتها لله وحده؛ فإنه يجب الكفر بالطاغوت، كما قال تعالى: {...فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ[256]} [سورة البقرة] .
وقد سمى الله تعالى الحكم بغير شرعه طاغوتًا، حيث قال تعالى:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا[60]} [سورة النساء]. والطاغوت عام، فكل ما عبد من دون الله ورضي بالعبادة من معبود، أو متبوع، أو مطاع في غير طاعة الله ورسوله، فهو طاغوت [انظر أعلام الموقعين 1/49 - 50، وانظر رسالة معنى الطاغوت لمحمد بن عبد الوهاب 'مجموعة التوحيد' ص 260].
2- منزلته من التوحيد العلمي الخبري:الحكم بما أنزل الله تعالى من توحيد الربوبية ؛ لأنه تنفيذ لحكم الله الذي هو مقتضى ربوبيته، وكمال ملكه وتصرفه، ولهذا سمى الله المتبوعين في غير ما أنزل الله أربابًا لمتبعيهم، فقال سبحانه:{ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ[31]} [سورة التوبة][ انظر المجموع الثمين من فتاوى ابن عثيمين 1/33].(/2)
ويقول ابن حزم - عن قوله تعالى:{ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا...} -:'لما كان اليهود والنصارى يحرمون ما حرم أحبارهم ورهبانهم، ويحلون ما أحلوا، كانت هذه ربوبية صحيحة، وعبادة صحيحة، قد دانوا بها، وسمى الله تعالى هذا العمل اتخاذ أرباب من دون الله وعبادة، وهذا هو الشرك بلا خلاف' [الفِصَل 3/266].
ويقول ابن تيمية - في هذا الشأن -:'قد قال تعالى:{ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا...}. وفي حديث عدي بن حاتم -وهو حديث حسن- وكان قد قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو نصراني، فسمعه يقرأ هذه الآية... بين النبي صلى الله عليه وسلم أن عبادتهم إياهم كانت في تحليل الحرام، وتحريم الحلال، لا أنهم صلوا لهم، وصاموا لهم، ودعوهم من دون الله، فهذه عبادة الرجال، وقد ذكر الله أن ذلك شرك بقوله:{لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الفتاوى 7 / 67].
إضافة إلى ذلك: فإن ' الحَكَم ' من أسماء الله تعالى الحسنى، فقد قال صلى الله عليه وسلم: [...إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَكَمُ وَإِلَيْهِ الْحُكْمُ...]رواه أبوداود والنسائي. وقال تعالى:{ أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا...[114]} [سورة الأنعام]. والإيمان بهذا الاسم يوجب التحاكم إلى شرع الله وحده لا شريك له، كما قال تعالى: {...وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا[26]}[سورة الكهف] .
وقد بين الله تعالى صفات من يستحق أن يكون الحكم له: قال الشنقيطي رحمه الله مبينًا ذلك:'فمن الآيات القرآنية التي أوضح بها تعالى صفات من له الحكم والتشريع، قوله تعالى:{ وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ...}، ثم قال مبينًا صفات من له الحكم:{ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ[10]فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ[11]لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ[12]} [سورة الشورى].
فهل في الكفرة الفجرة المشرعين للنظم الشيطانية، من يستحق أن يوصف بأنه الرب الذي تفوض إليه الأمور، ويتوكل عليه، وأنه فاطر السموات والأرض أي خالقهما ومخترعهما، على غير مثال سابق، وأنه هو الذي خلق للبشر أزواجا..؟ فعليكم أيها المسلمون أن تتفهموا صفات من يستحق أن يشرع ويحلل ويحرم، ولا تقبلوا تشريعًا من كافر خسيس حقير جاهل.
ومن الآيات الدالة على ذلك: قوله تعالى:{...لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا[26]} [الكهف:26]، فهل في الكفرة الفجرة المشرعين من يستحق أن يوصف بأنه الإله الواحد؟ وأن كل شيء هالك إلا وجهه؟ وأن الخلائق يرجعون إليه؟ تبارك ربنا وتعاظم وتقدس أن يوصف أخس خلقه بصفاته.
ومنها قوله تعالى:{...إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ[57]}[سورة الأنعام]، فهل فيهم من يستحق أن يوصف بأنه يقص الحق، وأنه خير الفاصلين؟
ومنها قوله تعالى:{ قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ[59]} [يونس:59]، فهل في أولئك المذكورين من يستحق أن يوصف بأنه هو الذي ينزل الرزق للخلائق، وأنه لا يمكن أن يكون تحليل ولا تحريم إلا بإذنه؛ لأن من الضروري أن من خلق الرزق وأنزله هو الذي له التصرف فيه بالتحليل والتحريم؟ سبحانه جل وعلا أن يكون له شريك في التحليل والتحريم] [أضواء البيان 7/173 -168، باختصار].
3 - منزلته من توحيد الاتباع: والمقصود بتوحيد الاتباع: تحقيق المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتوحيد الاتباع هو توحيد الرسول بالتحكيم والتسليم والانقياد والإذعان [انظر شرح العقيدة الطحاوية 1/228]، وإذا كان الأمر كذلك، فلا شك أن الحكم بما أنزل الله هو توحيد الاتباع.
قال الله تعالى:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[65]} [سورة النساء]. يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية:'يقسم تعالى بنفسه الكريمة المقدسة أنه لا يؤمن أحد حتى يحكم الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع الأمور، فما حكم به فهو الحق الذي يجب الانقياد له ظاهرًا وباطنًا'.(/3)
ويقول ابن القيم عن هذه الآية:'أقسم سبحانه بنفسه المقدسة قسمًا مؤكدًا بالنفي قبله على عدم إيمان الخلق حتى يحكموا رسوله في كل ما شجر بينهم من الأصول والفروع، وأحكام الشرع وأحكام المعاد، ولم يثبت لهم الإيمان بمجرد هذا التحكيم حتى ينتفي عنهم الحرج وهو ضيق الصدر، وتنشرح صدورهم لحكمه كل الانشراح، وتقبله كل القبول، ولم يثبت لهم الإيمان بذلك أيضا حتى ينضاف إليه مقابلة حكمه بالرضى والتسليم وعدم المنازعة وانتفاء المعارضة والاعتراض...' [البيان في أقسام القرآن ص 270].
كما أن الحكم بما أنزل الله هو تحقيق للرضى بمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا ونبيًا: ولذا يقول ابن القيم:'وأما الرضى بنبيه رسولا: فيتضمن كمال الانقياد له، والتسليم المطلق إليه، بحيث يكون أولى به من نفسه، فلا يتلقى الهدى إلا من مواقع كلماته ولا يحاكم إلا إليه، ولا يحكم عليه غيره، ولا يرضى بحكم غيره البتة، لا في شيء من أسماء الرب وصفاته وأفعاله، ولا في شيء من أذواق حقائق الإيمان ومقاماته، ولا في شيء من أحكام ظاهره وباطنه، ولا يرضى في ذلك بحكم غيره، ولا يرضى إلا بحكمه' [مدارج السالكين 2/172-173].
بل إن الحكم بما أنزل الله تعالى هو معنى شهادة أن محمدًا رسول الله: وكما قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب:'ومعنى شهادة أن محمدًا رسول الله طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما نهى وزجر، وأن لا يعبد إلا بما شرع' [مجموعة مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب 1/190، وانظر تيسير العزيز الحميد لسليمان بن عبد الله ص 554-555].
ولذا يقرر الشيخ محمد بن إبراهيم أن تحكيم شرع الله تعالى وحده هو معنى شهادة أن محمدًا رسول الله بقوله:'وتحكيم الشرع وحده دون كل ما سواه شقيق عبادة الله وحده دون ما سواه، إذ مضمون الشهادتين أن يكون الله هو المعبود وحده لا شريك له، وأن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الْمُتَّبَعَ الْمُحَكَّمَ ما جاء به فقط، ولا جردت سيوف الجهاد إلا من أجل ذلك والقيام به فعلًا وتركًا وتحكيمًا عند النزاع' [فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم 12/251، 'رسالة تحكيم القوانين'].
4- منزلته من الإيمان: يقول الله تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا[59]} [سورة النساء]. فعد الشارع هذا التحكيم إيمانًا، يقول ابن حزم:'فسمى الله تعالى تحكيم النبي صلى الله عليه وسلم إيمانًا، وأخبر الله تعالى أنه لا إيمان إلا ذلك، مع أنه لا يوجد في الصدر حرج مما قضى، فصح يقينًا أن الإيمان عمل وعقد وقول ؛ لأن التحكيم عمل، ولا يكون إلا مع القول، ومع عدم الحرج في الصدر وهو عقد' [الدرة ص 238].
ويقول ابن تيمية:'فكل من خرج عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وشريعته، فقد أقسم الله بنفسه المقدسة، أنه لا يؤمن حتى يرضى بحكم رسول الله في جميع ما شجر بينهم من أمور الدين، أو الدنيا، وحتى لا يبقى في قلوبهم حرج من حكمه' [الفتاوى 28/471، و35/336،407].
وتحكيم شرع الله، ورد النزاع إلى نصوص الوحيين شرط في الإيمان: كما قال الله تعالى:{...فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا[59]} [سورة النساء].
ولذا يقول ابن القيم: 'إن قوله:{...فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ...} نكرة في سياق الشرط تعم كل ما تنازع فيه المؤمنون من مسائل الدين: دقه وجله، جليه وخفيه، ولو لم يكن في كتاب الله ورسوله وبيان حكم ما تنازعوا فيه، ولم يكن كافيًا لم يأمر بالرد إليه؛ إذ من الممتنع أن يأمر تعالى بالرد عند النزاع إلى من لا يوجد عنده فصل النزاع. ومنها أن جعل هذا الرد من موجبات الإيمان ولوازمه، فإذا انتفى هذا الرد انتفى الإيمان، ضرورة انتفاء الملزوم لانتفاء لازمه، ولا سميا التلازم بين هذين الأمرين فإنه من الطرفين، وكل منهما ينتفي بانتفاء الآخر، ثم أخبرهم أن هذا الرد خير لهم، وأن عاقبته أحسن عاقبة' [أعلام الموقعين 1/49-50].
ويقول ابن كثير:'فما حكم به كتاب الله وسنة رسوله، وشهدا له بالصحة فهو الحق، وماذا بعد الحق إلا الضلال، ولهذا قال تعالى:{ إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر } أي ردوا الخصومات والجهالات إلى كتاب الله وسنة رسوله، فتحاكموا إليهما فيما شجر بينكم، فدل على أن من لم يتحاكم في محل النزاع إلى الكتاب والسنة ولا يرجع إليهما في ذلك، فليس مؤمنًا بالله ولا باليوم الآخر' [تفسير ابن كثير 3/209].(/4)
فالتحاكم إلى غير الشرع - وهو حكم الطاغوت والجاهلية - ينافي الإيمان، وهو من علامات النفاق : يقول الشيخ السعدي في هذا الصدد:'الرد إلى الكتاب والسنة شرط في الإيمان. فدل ذلك على أن من لم يرد إليهما مسائل النزاع فليس بمؤمن حقيقة، بل مؤمن بالطاغوت كما جاء في الآية:{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا...[60]}[سورة النساء]. فإن الإيمان يقتضي الانقياد لشرع الله وتحكيمه، في كل أمر من الأمور، فمن زعم أنه مؤمن، واختار حكم الطاغوت على حكم الله، فهو كاذب في ذلك...' [تفسير السعدي 2/90، باختصار].
ومما كتبه الشيخ محمد بن إبراهيم في هذا المقام قوله: [إن قوله تعالى :{...يَزْعُمُونَ...[60]}[سورة النساء]. تكذيب لهم فيما ادعوه من الإيمان، فإنه لا يجتمع التحاكم إلى غير ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم مع الإيمان في قلب عبد أصلًا، بل أحدهما ينافي الآخر، والطاغوت مشتق من الطغيان وهو مجاوزة الحد، فكل من حكم بغير ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فقد حكم بالطاغوت وحاكم إليه] [رسالة تحكيم القوانين].
ولا شك أن تحكيم الشريعة انقياد وخضوع لدين الله تعالى، وإذا كان كذلك فإن عدم تحكيم هذه الشريعة كفر إباء ورد امتناع، وإن كان مصدقا بها، فالكفر لا يختص بالتكذيب فحسب كما زعمت المرجئة:
يقول ابن تيمية:'فمن الممتنع أن يكون الرجل مؤمنًا إيمانًا ثابتًا في قلبه، بأن الله فرض عليه الصلاة والزكاة، والصيام، والحج، ويعيش دهره لا يسجد لله سجدة، ولا يصوم من رمضان، ولا يؤدي لله زكاة، ولا يحج إلى بيته، فهذا ممتنع، ولا يصدر هذا إلا مع نفاق في القلب وزندقة، لا مع إيمان صحيح، ولهذا إنما يصف سبحانه بالامتناع من السجود الكفار، كقوله تعالى:{ يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ[42]خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ[43]} [سورة القلم] ' [الفتاوى 7/611، وانظر كتاب الصلاة لابن القيم ص 54].
ويقول ابن عبد البر:'قد أجمع العلماء أن من دفع شيئا أنزله الله وهو مع ذلك مقر بما أنزل الله أنه كافر] [التمهيد 4 /226].
تحكيم الشريعة استجابة لله تعالى، ولرسوله صلى الله عليه وسلم فيه الحياة والصلاح: كما قال تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ...[24]} [سورة الأنفال].
ورفض هذه الشريعة وعدم الاستجابة لها اتباع للهوى، فهو ضلال في الدنيا، وعذاب في الأخرى: ويقول تعالى:{ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ...[50]} [سورة القصص].
ويحكي ابن القيم شيئا من عواقب تنحية حكم الله تعالى فقال:'لما أعرض الناس عن تحكيم الكتاب والسنة والمحاكمة إليها، واعتقدوا عدم الاكتفاء بهما، وعدلوا إلى الآراء والقياس والاستحسان، وأقوال الشيوخ، عرض لهم من ذلك فساد في فطرهم وظلمة في قلوبهم، وكدر في أفهامهم، ومحق في عقولهم، وعمتهم هذه الأمور وغلبت عليهم حتى ربي فيها الصغير، وهرم عليها الكبير...' [الفوائد ص 42 -43].
وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: [ يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ خِصَالٌ خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ-وذكر منها:- وَمَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ إَلَّا جَعَلَ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ] [رواه البيهقي وصححه الألباني، انظر صحيح الترغيب والترهيب 1/321]، وفي رواية: [وَمَا حَكَمُوا بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ الله إَلَّا فَشَا فِيهُمُ الْفَقْرُ] [رواه الطبراني فى الكبير وحسنه الألباني، انظر صحيح الترغيب والترهيب 1/321].
وصدق الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، فإن الناظر إلى واقع بلاد المسلمين - الآن - يرى ما وقع في تلك البلاد من المصائب، وأنواع الفرقة والعداوة بينهم، وكذا التقاتل والتناحر، كما ظهر الفقر والتدهور الاقتصادي، مع أن في بلاد المسلمين - كما هو معلوم - أعظم الثروات وبمختلف الأنواع، وأعظم سبب في ذلك هو تنحية شرع الله، والتحاكم إلى الطاغوت والله المستعان.
من:' منزلة الحكم بما أنزل الله من الدين' للشيخ/عبد العزيز العبد اللطيف(/5)
منزلة الشكر ...
الحمد لله المتوحد بالجلال بكمال الجمال تعظيماً وتكبيراً ، المتفرد بتصريف الأحوال على التفصيل والإجمال تقديراً وتدبيراً ، المتعالي بعظمته ومجده الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراُ ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ،ومن يضلل فلا هادي له ،وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، أما بعد :
فإن شكر نعمة الله سبحانه واجبة على كل مسلم ، لذا جعلها الله سبحانه شرطاً للعبادة الصحيحة إذ قال سبحانه : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُون ) .َ (172) . –البقرة
بل جعل الله سبحانه عدم شكره على ما أنعم على عباده كفراً إذ قال : (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ) . ( (152 . البقرة
فكل من لا يشكر النعمة يكون كافراً بها لم يرق بعد إلى درجة الإيمان الواجبة كما جاء في الحديث عن جابر رضي الله عنه مرفوعاً : ( من صنع إليه معروف فليجز به ، فإن لم يجد ما يجزي به فليثن ، فإنه إذا أثنى عليه فقد شكره وإن كتمه فقد كفره ، ومن تحلى بما لم يعط كان كلابس ثوبي زور ) .رواه البخاري في الأدب المفرد ، والترمذي وأبو داود .
وشكر الله واجب على كل نعمة صغيرة وكبيرة ، لأنه من لم يشكر القليل لم يشكر الكثير ، ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله سبحانه كما في حديث النعمان بن بشير مرفوعاً : (من لم يشكر القليل لم يشكر الكثير ، ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله ، والتحدث بنعمة الله شكر ، وتركه كفر ، والجماعة رحمة والفرقة عذاب ) . رواه أحمد في مسنده ، والبيهقي في شعب الإيمان وهو حديث حسن .
والشكر منزلة عظيمة من منازل الإيمان ، بل هو من أعلى المنازل إذ جاء في الأثر أن الإيمان نصفه شكر ، ونصفه صبر ، ومن لم يشكر الله على نعمه لم يصبر على ابتلائه لذا كان أكثر الناس شكراً لله سبحانه الأنبياء عليهم السلام ، فقد قال الله سبحانه عن عبده نوح : (إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً) . (3) الإسراء وقال عن إبراهيم : (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِين ) . النحل – 121 – وقال لمحمد صلى الله عليه وسلم : (بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنْ الشَّاكِرِينَ ) . (66) .الزمر
وكان صلى الله عليه وسلم إماماً للشاكرين فقد جاء في الحديث الصحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم : ( كان يقوم الليل حتى تورمت قدماه ، فقيل له يا رسول الله أما غفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ، فقال صلى الله عليه وسلم : أفلا أكون عبداً شكوراً ) .
ولما كان الشكر منزلة عظيمة ودليلاً واضحاً على صدق الإيمان ، كان أهله قلة كما في قوله تعالى : (وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ) . (13) . سبأ
وهذه حقيقة أهل الإيمان أنهم قلة كما في قوله تعالى : (ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِّنَ الْآخِرِينَ) . الواقعة –13-14 - وقال سبحانه : (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) . يوسف –103 – وقال تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ) . ص –24-
ولذلك عرف إبليس أهمية الشكر وأنه طريق لتسخير القلوب فقال في علو واستكبار : (ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِين) . الأعراف –17- وهذا دليل آخر على أن الشاكرين للشيطان كثر ، وأن الشاكرين للرحمن قلة وقد أقر الله سبحانه إبليس على قوله إذ قال : (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ ) . سبأ (20)
الناس قسمان
ورغم أن الشاكرين لله قلة جعل الله سبحانه الناس قسمين إما شاكراً وإما كفوراً قال تعالى :( إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً ) . (3)الإنسان
وقد دل على ذلك أيضاً الحديث الآنف الذكر : ( من لم يشكر القليل لم يشكر الكثير ، ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله ، والتحدث بنعمة الله شكر ، وتركها كفر ) .
علامات الشكر(/1)
لذا فإن من علامات أهل الشكر أنهم يتحدثون بنعم الله سبحانه عليهم إذ قال سبحانه : (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُون ) .ِ (152)البقرة – وقال سبحانه : (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) . (11)) . الضحى وفي الحديث : ( كلوا واشربوا وتصدقوا في غير مخيلة ولا سرف ، فإن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده ) . وفي رواية ثانية عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا أنعم الله على عبد نعمة فإنه يحب أن يرى أثر نعمته على عبده ) . فالتحدث بنعمة الله شكر ، لذا أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يتحدث بنعمته عليه فقال : (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ) . (11) .الضحى .وهذه قضية غائبة عن كثير من الناس إذ يتحدثون بالمصائب ولا يظهرون النعم وقلما تجد إنساناً وتسأله عن حاله فيقول لك: الحمد لله الذي أنعم علي بنعم كثيرة بل يقول الحمد لله على كل حال بلسان الشاكي الباكي لا بلسان الشاكر المثني ويصدق عليه قول الشاعر.
يا أيها الظالم في فعله والظلم مردود على من ظلم
إلى متى أنت وحتى متى تشكو المصيبات وتنسى الّنعم
ولا يتعارض ذلك مع ما جاء في الحديث الصحيح : (استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان فإن كل ذي نعمة محسود ) . والتوفيق بين إظهار النعمة وكتمانها على وجهين
الأول : أن يكون ذلك قبل قضائها خوفاً من عرقلتها قبل إتمامها .
والثاني : أن هذا الكتمان يكون خاصاً بمن علم فيه الحسد ، والحسد أمر واقع كما قال تعالى : (وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ ) . (5)الفلق وقد جاء في تفسير قوله تعالى : (وَقَالَ يَا بَنِيَّ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللّهِ مِن شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُون ) .َ (67) يوسف .أن أباهم أمرهم بذلك خوفاً من الحسد . أما من قضى حاجته وأتمها ، أو كان الأمر متعلقاً بمن لم يعرف عنه الحسد، فالأصل إظهار النعمة عملاً بالنصوص الصريحة .
طريق الشكر
ومن نعم الله سبحانه علينا أن أرشدنا إلى الطرق التي يتم لنا بها شكر النعمة ومنها :
أولاً :التقوى قال تعالى : (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) . (123)آل عمران فتقوى الله سبحانه طريق لشكره ، والتقوى هي الإتيان بالمأمور واجتناب المحظور . بل لا يقبل الله سبحانه من أي عامل عملاً إلا بالتقوى لقوله تعالى : (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) . (27)المائدة .
ثانياً : العبادة والتضحية ، قال تعالى : (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون ) .َ (185). البقرة فهذه الآية وغيرها تدل دلالة واضحة على أن حسن العبادة سبيل لشكر الله سبحانه .
ثالثاً : السؤال والتضرع ، ولا يخفى على ذوي الألباب أنه من أعظم الطرق التي توصل العبد إلى شكر الله ،هو التضرع والتوسل له سبحانه فقد جاء في الحديث عن شداد بن أوس رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم انه كان يقول في صلاته : ( اللهم إني أسألك الثبات في الأمر ، والعزيمة على الرشد ، وأسألك شكر نعمتك وحسن عبادتك ، وأسألك قلباً سليماً ، ولساناً صادقاً ، وأسألك من خير ما تعلم ، وأعوذ بك من شر ما تعلم ، واستغفرك لما تعلم ) . رواه أبو داود والترمذي وأحمد وهو حديث صحيح .
وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يا معاذ إني أحبك فلا تدع دبر كل صلاة أن تقول : اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ) . وهو حديث صحيح
فسؤال الله سبحانه أن يرزقنا الشكر من أقرب الطرق التي توصلنا إلى شكر الله بحيث نكون من عباد الله الشاكرين قال تعالى : ( وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ) . (186) البقرة فهل توجهنا إلى الله سبحانه بقلوب مؤمنة يعتصرها الخوف منه، ويغمرها حبه سبحانه حتى يرزقنا شكر نعمته ويزيدنا من فضله ؟(/2)
فشكر الله واجب على كل نعمة صغيرة وكبيرة ، بل إن الله ينعم على عباده ليختبرهم هل يشكرون أو يكفرون قال تعالى : (قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ) . (40) النمل
أجل من شكر فإنما يشكر لنفسه فالله سبحانه غني عنا ونحن الفقراء إليه ، الله القوي ونحن الضعفاء ، الله المعطي ونحن السائلون ، لذا كان التواصي بشكر الله سبحانه من شيم الصالحين ، قال تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ) . (12)لقمان
فالحكمة التي آتاها الله سبحانه لقمان هي الشكر لله على نعمه لأن الشاكرين لله على نعمه هم عباده المخلصون الذين يرضى عنهم قال سبحانه : (إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُور ) .ِ (7)الزمر
لذا عظم الله سبحانه أجر الشاكرين فقال : (وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً ) . (19 الإسراء وقال أيضاً: (إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاء وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً ) . (22) الانسان
بل إن ما أنعم الله علينا من نعم إنما أنعمها علينا لنشكره ولا نكفره قال تعالى : (وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) . (78)النحل فكل هذه النعم التي أنعمها الله على عباده تدخل تحت هذا الأمر ،إلا أن كثيراً من الناس كانوا على خلاف ذلك قال تعالى : (اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ ) . (61)غافر وقد مر أنه قليل من عباد الله الشكور .
وقد حرص أفضل الخلق وهم رسل الله سبحانه على تحقيق شكر الله في ذريتهم إذ قال الله عن إبراهيم عليه السلام : (رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ) . (37) إبراهيم . وكيف لا نشكر لله والله يقول : (وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ).البقرة (152) فكيف لا نشكر الله وما بنا من نعمة فمنه ، ونشكر في الوقت نفسه فيه غيره، ونوالي أعداءه وهم الذين يبذلون كل جهد مستطاع لصرفنا عن ديننا قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ ) . (36)الأنفال
نركن إلى الدنيا وإلى الظالمين ولا نشكر الله رب العالمين ، وشكر الله دليل على إيماننا .
فنعم الله سبحانه واجبة الشكر ، والنعم درجات أعظمها نعمة الإيمان قال تعالى عن يوسف عليه السلام : (وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللّهِ مِن شَيْءٍ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ ) . (38)يوسف وقال سبحانه : (وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) . (43) الأعراف(/3)
فنعمة الإيمان من أعظم النعم التي لا بد أن نشكر الله سبحانه عليها ، إنها نعمة الإيمان التي لا توازيها نعمة ، ولا تعلوها نعمة ، نعمة الإيمان التي تقود إلى الاستقامة والكفر بالطاغوت قال تعالى : (وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) . (8) الحجرات . فأي نعمة فوق نعمة الإيمان ، أي نعمة أعظم من أن يعرف الإنسان ربه ، أي نعمة من أن يستشعر الإنسان بحقيقة وجوده ، ينعم الله علينا بنعم عظيمة ، نعم كثيرة جسيمة فنكفرها ولا نشكرها ،وكيف لنا أن لا نشكرها وجحدها كفر .
كيف لا نشكر الله ونحن راجعون إليه ، واقفون بين يديه ، سائلنا عن عبادته وشكره فهو القائل : (وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) . (17)العنكبوت فالشاكرون هم عباد الله المخلصون ،وهم الذين يكرمهم الله بكرامات عديدة منها:
أولاً : أن الله سبحانه يجزي الشاكرين فقال سبحانه : (وسنجزي الشاكرين ) .
وقد أبهم الله سبحانه حقيقة الجزاء ليتشوق الشاكرون إلى معرفته ، جزاء منه سبحانه فهو القائل : (لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ ) . (30) .فاطر
ثانياً : أن الله سبحانه يزيد الشاكرين من فضله ، ويبقي عليهم نعمه إذ قال : (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ) . (167) الأعراف فالله سبحانه يزيد الشاكرين من فضله ويبارك لهم في أرزاقهم وينميها لهم ، فلا يخافون فواتها لآن الله سبحانه تكفل بحفظها وزيادتها .
ثالثاً : أن الله سبحانه أمّن الشاكرين من عذابه الأليم إذ قال سبحانه : (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ) . (7)إبراهيم . فالله سبحانه لا يعذب الشاكرين لا في الدنيا ولا في الآخرة ، بل يرضى عنهم ويحبهم ويرحمهم برحمته .
رابعاً : أن الشاكر نعمة الله سبحانه كالصابر على طاعته ، إذ جاء في الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : ( للطاعم الشاكر من الأجر من الأجر مثل للصائم الصابر ) . أخرجه الترمذي وحسنه ، وابن ماجه والبيهقي .
وهذا دليل على أنه لا فرق بين الشاكر والصابر فهم في الأجر سيان ، وتفضيل أحدهم على الآخر مخالف لهذا الحديث الصحيح .
خامساً : أن الله سبحانه وصفهم بأنهم أهل العقول والبصائر والتدبر قال سبحانه : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُم مِّنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُور ) .ٍ (31)لقمان وقال سبحانه : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ) . (5) الرعد فهذه بعض الصفات التي أختص بها الله سبحانه الشاكرين عن غيرهم من الناس وذلك من فضله عليهم ورحمته بهم.
وقد أرشدنا الرسول صلى الله عليه وسلم إلى بعض ما يجعلنا من الشاكرين لله فعن ابن غنام رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من قال حين يصبح : اللهم ما أصبح بي من نعمة أو بأحد من خلقك فمنك وحدك لا شريك لك فلك الحمد ولك الشكر ، فقد أدى شكر يومه ، ومن قال مثل ذلك حين يمسي فقد أدى شكر ليلته ) . أخرجه النسائي وأبو داود وابن حبان .
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( خصلتان من كانتا فيه كتبه الله شاكراً صابراً ، ومن لم تكونا فيه لم يكتبه الله شاكراً ولا صابراً من نظر في دينه إلى من هو فوقه فاقتدى به ، ومن نظر في دنياه إلى من هو دونه فحمد الله على ما فضله به ، كتبه الله شاكراً صابراً ، ومن نظر في دينه إلى من هو دونه ، ونظر في دنياه إلى من هو فوقه فأسف على ما فاته منه ، لم يكتبه الله شاكراً ولا صابراً ) .رواه الترمذي وقال حسن غريب
أخوة الإيمان : إن كان الله قد أوجب علينا الشكر وقرنه بالعبادة إذ قال : (وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) . ومدح الشاكرين وأجزل عليهم نعمه ظاهرة وباطنة ، ووعدهم بكل خير وأجر ، فقد عظم إثم الكافرين الذين لا يشكرون الله على نعمه ، وأعد لهم عذاباً أليما في الدنيا والآخرة .قال تعالى : ( وضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون ).(/4)
وقال تعالى : (إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنَادَوا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ (22) فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) أَن لَّا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُم مِّسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (30) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31) عَسَى رَبُّنَا أَن يُبْدِلَنَا خَيْراً مِّنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32) كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ) .( (33القلم وهذه الآيات نزلت في أصحاب بستان عظيم فيه من كل الثمار وكانوا أبناء لرجل صالح يجعل للفقراء نصيباً من ماله ، وكانت عادته أنه قبل أن يأخذ الثمار يخرج منها نصيباً للفقراء ، وكان الفقراء يعرفون موعد قطفه للثمار ، فكانوا يأتون إليه يوم الحصاد حتى يأخذوا ما يجعله لهم ، فلما مات الأب وورثه أبناؤه كرهوا صنع أبيهم وبخلوا على أنفسهم وأصروا أن لا يعطوا الفقراء من ثمارهم شيئاً ، فلما جاء وقت الحصاد تسروا الخروج ليلاً حتى يقطفوا الثمار ويأخذوها قبل أن ينتبه إليهم الفقراء ، وهكذا خرجوا في الصباح مبكرين يريدون الاستعجال في قطف الثمار وأخذها قبل مجيء الفقراء فلما وصلوا بستانهم وجدوه قد احترق كله وأصبح بقعة سوداء قد أتت النار عليها ، وهذا جزاء الكافرين الذي لا يشكرون الله على نعمه .
وقصة ثالثة ذكرها الله سبحانه في سورة الكهف :( أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْراً فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً (41) وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً (42) وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِراً (43) هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً وَخَيْرٌ عُقْباً) ..
فهذا هو جزاء كفر النعمة وأن الله سبحانه يرفعها من بين أيدي الكافرين فلا ينتفعون بها .
فأحذر أخي أن تكون من الكافرين واحرص على أن تكون من الشاكرين فإن الله سبحانه يحب الشاكرين ، هذا وبالله التوفيق أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم
والحمد لله رب العالمين
23 ذي الحجة 1423
الموافق 24 شباط 2003
وكتب :إبراهيم بن عبد العزيز بركات
رئيس قسم الدعوة والإرشاد بجمعية أهل السنة الخيري(/5)
منزلة حامل القرآن ... ... ...
القرآن الكريم هو هدية السماء إلى أهل الأرض. هو الوحي المتجدد الذي لا يبلى على الدهر. وهو الهدى والنور، والشفاء لما في الصدور. فمن اعتقد أنه أوتي نعمة خيرًا من القرآن فقد استهان بما عظم الله.
قال سفيان بن عيينة: من أعطي القرآن فمد عينيه إلى شيء مما صغر القرآن، فقد خالف القرآن، ألم تسمع قوله سبحانه وتعالى: ((ولقد ءاتيناك سبعًا من المثاني والقرءان العظيم. لا تمدن عينيك إلى ما متعنابه أزواجًا منهم ولا تحزن عليهم واخفض جناحك للمؤمنين. وقل إني أنا النذير المبين)) سورة الحجر: الآيات 87، 88، 89، أي ما رزقك الله من القرآن خير وأبقى مما رزقهم من الدنيا.
ومن هنا كان حقًا على حامل القرآن الكريم أن يعلم أنه حامل راية الإسلام وأن ما يحفظه بين جوانح أغلى من كنوز الدنيا كلها وزخارفها الزائلة. فلا يرخص نفسه ولا يرخص ما يحمل في قلبه من هدى وضياء وذكر للعالمين شاكرًا لربه مؤديًا لحقه، محاذرًا أن يتخذه مرقاة لنيل المناصب وحساب الرواتب، ((فلا يجتمع فهم القرآن والاشتغال بالحطام في قلب مؤمن أبدًا)) قاله سفيان الثوري. بل يجعل همه الآخرة والرغبة فيما عند الله، مجانبًا للذنب، محاسبًا للنفس، ذا سكينة ووقار يعرف القرآن في سمته وخلقه.
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: ((ينبغي لحامل القرآن أن يعرف بليله إذا الناس نائمون، وبنهاره إذا الناس يفطرون، وبورعه إذا الناس يخلطون، وبتواضعه إذا الناس يختالون، وبحزنه إذا الناس يفرحون، وببكائه إذا الناس يضحكون، وبصمته إذا الناس يخوضون)).
إن حامل كتاب الله مسلم رباني ووارث محمدي عليه مسحة من نبوة. فقد أخرج الحاكم وغيره من حديث عبد الله بن عمرو: (من قرأ القرآن فقد استدرج النبوة بين جنبيه غير أنه لا يوحى إليه).
وهو من عرفاء أهل الجنة في الجنة. أخرج الطبراني من حديث أنس رضي الله عنه: (حملة القرآن عرفاء أهل الجنة).
ومن أهل الله وخاصته، كما أخرج النسائي وابن ماجه والحاكم من حديث أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن لله عز وجل أهلين من الناس) قالوا: من هم يا رسول الله؟ قال: (أهل القرآن: أهل الله وخاصته). رواه أحمد.
كما أنه من أهل الحظوة والجدارة والجاه: فعن عامر بن واثلة أن نافع بن عبد الحارث لقي عمر بعسفان، وكان عمر استعمله على مكة، فقال: من استعملت على أهل الوادي؟ قال: ابن ابزي، قال: ومن ابن أبزي؟ قال: مولى من موالينا، قال: فاستخلفت عليهم مولى؟ قال: إنه قاريء لكتاب الله وعالم بالفرائض، قال عمر: أما إن نبيكم صلى الله عليه وسلم قد قال: (إن الله يرفع بهذا الكتاب أقوامًا ويضع به آخرين). أخرجه مسلم.
وصاحب القرآن في الدرجات العلا عند الله : فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه: (يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارق ورتل كما كنت ترتل في دار الدنيا فإن منزلتك عند آخر آية تقرأ بها). أخرجه أبو داود والترمذي.
وإن من إجلال الله إجلال حامل القرآن: روي البيهقي عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن من إجلال الله عز وجل إكرام ذي الشيبة المسلم وحامل القرآن غير الغالي فيه ولا الجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المقسط) رواه أبو داود في سننه وابن أبي شيبة في مصنفه.
كاتب المقال: الدكتور/ عبد الله توفيق الصباغ
المصدر: الهيئة العالمية للمسلمين الجدد(/1)
منزلة من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر
- أخرج الطبراني عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «يا ابن مسعود» فقلت: لبيك يا رسول الله – قالها ثلاثاً- قال: «أتدري أي الناس أفضل؟» قلت: الله ورسوله أعلم، قال: «فإن أفضل الناس أفضلهم عملاً إذا فقهوا في دينهم». ثم قال: «يا ابن مسعود» قلت: لبيك يا رسول الله، قال: «تدري أي الناس أعلم؟» قلت: الله ورسوله أعلم، قال: «إن أعلم الناس أبصرهم بالحق إذا اختلف الناس، وإن كان مقصراً في العمل، وإن كان يمشي على إسته زحفاً. واختلف من كان قبلي على ثنتين وسبعين فرقة، نجا منها ثلاثة وهلك سائرهن: فرقة وازت (واجهت) الملوك، وقاتلوهم على دينهم ودين عيسى بن مريم، وأخذوهم، وقتلوهم، وقطعوهم بالمناشير، وفرقة لم يكن لها طاقة بموازاة الملوك ولا أن يقيموا بظهرانيهم، فيدعوهم إلى الله ودين عيسى بن مريم، فساحوا في البلاد وترهبوا، قال: وهم الذين قال الله عز وجل: { وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاء رِضْوَانِ اللَّهِ } - الآية -، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من آمن بي، وصدقني، واتبعني، فقد رعاها حق رعايتها، ومن لم يتبعني فأولئك هم الهالكون».
- أخرج البزار عن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنكم على بينة من ربكم ما لم تظهر فيكم سكرتان: سكرة الجهل، وسكرة حب العيش، وأنتم تأمرون بالمعروف، وتنهون عن المنكر، وتجاهدون في سبيل الله. فإذا ظهر فيكم حب الدنيا، فلا تأمرون بالمعروف، ولا تنهون عن المنكر، ولا تجاهدون في سبيل الله. القائلون يومئذٍ بالكتاب والسنة كالسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار».
- وأخرج البيهقي والنقاش في معجمه عن أنس - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ألا أخبركم بأقوام ليسوا بأنبياء، ولا شهداء، يغبطهم يوم القيامة الأنبياء والشهداء بمنازلهم من الله، على منابر من نور يعرفون، قالوا: من هم يا رسول الله؟ قال: الذين يحببون عباد الله إلى الله، ويحببون الله إلى عباده، ويمشون على الأرض نصحاً» فقلت: هذا يحبب الله إلى عباده، فكيف يحببون عباد الله إلى الله؟ قال: «يأمرونهم بما يحب الله، وينهونهم عما يكره الله، فإذا أطاعوهم أحبهم الله عز وجل».
- أخرج الطبراني في الأوسط عن حذيفة - رضي الله عنه - قال: قلت للنبي - صلى الله عليه وسلم -: يا رسول الله، متى يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهما سيدا أعمال أهل البر؟ قال: «إذا أصاب ما أصاب بني إسرائيل» قلت: يا رسول الله، وما أصاب بني إسرائيل؟ قال: «إذا داهن خياركم فجاركم، وصار الفقه في شراركم، وصار الملك في صغاركم، فعند ذلك تلبسكم فتنة تكرون ويكر عليكم» قرآن كريم(/1)
منطق الإبادة أو الخروج على الفطرة (موازنة بين الهولوكست اليهودي وإبادة المسلمين)
27-6-2006
بقلم التجاني بولعوالي
"...جدير بنا أن نذكر أن شعوبنا تعرضت لأضعاف مضاعفة مما أصاب اليهود في ألمانيا، وثمة معطيات تاريخية تقدر بالأرقام ضحايا الإبادات و(الهولوكسات) التي تعرض إليها المسلمون عبر مختلف مراحل التاريخ، لكن لم يعرفوا كيف يوظفونها..."
الخروج على الفطرة الأصلية من سنن الله تعالى أنه جعل الخلق ينبني على ثنائيات مختلفة ومتضادة، تهب الوجود سر الحياة والاستمرار والديمومة، وكأنما عن الاختلاف يتولد الائتلاف، ومن التضاد تنبثق لحمة التناسق، دون أن نشعر في واقع حياتنا بالفوارق الطبيعية البارزة، التي تنشأ بين تلك المتضادات، في أعيننا وأذهاننا، فنتأقلم، بلا وعي منا، مع هذا الوجود الذي يتركب، أصلا، من أزواج مختلفة، وأضداد متباينة، وكأن الزوج أو الضد لم يوجد إلا ليكمل ضده أو زوجه الآخر، ولو أنه يختلف عنه اختلافا كبيرا .
إذا كانت سنة الله تعالى تسري بشكل عفوي في الوجود، وهي منزهة عن التكلف أو الاصطناع، فإن تجلي هذه السنة في الخلق، من خلال سلوكات الإنسان، هو الذي يفرغها من معانيها الحقيقية، ويبعدها عن حقائقها الأصلية، وهو يمارس بذلك نوعا من التمرد عن القانون الإلهي، والانحراف عن الأصل الفطري، وهكذا ينشأ التضاد السلبي على أنقاض التضاد الإيجابي في الطبيعة والوجود والحياة، وهو تضاد محكوم بالنفس البشرية المنزاحة نحو المحظور، دون مراعاة لتعاليم السماء، وأعراف الناس، مما يترتب عن ذلك منزلقات خطيرة في عالم الإنسان، ترجح كفة الشر عن كفة الخير، وهي مأخوذة بحب الذات وكره الغير، إلى درجة أن أغلب أحداث التاريخ الإنساني ناجمة عن هذا التنكر الصريح للفطرة الأولى، التي يبدو فيها الإنسان بريئا خاضعا خضوعا تاما لما يمليه عليه اعتقاده، وهو تنكر سببه الإغراق الطائش في هوى النفس الأمارة بالسوء، وهي تتوكأ على عكاز الشيطان، وبمجرد ما تسلب هذا العكاز تسقط سقوطا مشينا لا مخرج منه !
وهذا السقوط المشين هو ما آلت إليه البشرية، وهي تزعم أنه تقدم وتحرر ونماء، لكنه على المستوى العميق تقدم مادي مبني على تخلف أخلاقي، وتحرر من الفطرة النقية، ونماء محاصر بتحديات أكبر مما حققته الإنسانية من تنمية، حتى أنك لو أنفقت كل ما توصل إليه الإنسان من مكتسبات فكرية ومادية واقتصادية وتكنولوجية ... في ما يتخبط فيه العالم من مخاطر تهدد الطبيعة والإنسان، فإنك لن تتمكن من حل ولو جزء بسيط منها، فأي تقدم هذا، وأي تحرر، وأي نماء !
إن الإنسان الذي وضع في مذكرة مشاريعه الكبرى فكرة التحكم في الطبيعة وتسخيرها، صار محكوما بالطبيعة، سواء من خلال مواردها المتنوعة التي دون توفرها، قد تصبح حياة البشر مهددة بالانقضاء والانقراض، لذلك نرى أن خوف الإنسان من نفاد هذه الموارد واستنزافها، يزيد يوما بعد يوم، مما يصعد لديه شعور السطو على منابع موارد الطبيعة الأساسية، التي هي ضرورية للمجتمع الإنساني، أو من خلال مناخاتها المتقلبة التي تجعل حياة الإنسان محكومة بمناخ البيئة التي يعيش فيها، رغم التقدم الهائل الذي شهدته البشرية عبر مراحل التاريخ الحديث والمعاصر، مما يثبت أنه مهما حاول الإنسان التحكم في الطبيعة ومواردها وأحوالها، فإنه يكتشف مدى نسبية المكتسبات والابتكارات العلمية والصناعية والتكنولوجية التي يتم التوصل إليها .
ومع ذلك، نلمح أن الإنسان مسكون بنزوة التحدي والكبرياء وادعاء القوة، لا يعترف، إلا نادرا، أو إلا لدى بعض المؤمنين، بضعفه الجلي أمام قوى الطبيعة ومخاطرها بصفة خاصة، وفي سائر أطوار حياته بصفة عامة، {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} الروم آية 54 .
ولو أن الخالق تبارك وتعالى سخر له هذه الطبيعة، كما ورد في بعض آي القرآن الكريم {وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَار/وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارََ} إبراهيم آية 32/33، {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} النحل آية 12، {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} النحل 14 .(/1)
وغير ذلك من الآيات القرآنية المعبرة عن تسخير الله تعالى مصادر الطبيعة ونعمها للإنسان، لكن لاستخدامها استخداما سليما خلوا من التعدي والتجاوز، والاستنفاع بها استنفاعا معتدلا خلوا من التبذير والإسراف، وإلا انقلبت هذه الطبيعة عليه، كما ينقلب السحر على صاحبه، خصوصا إذا ما استخدمها استخداما منحرفا، محفوفا بالضرر والاستنزاف والاستهلاك العشوائي، الذي يهدر موارد الطبيعة التي لا تتجدد أو أنها تتجدد بعد أمد طويل، مما يخل بالتوازن الطبيعي، فتترتب عن ذلك شتى المعضلات المستعصية والكوارث القاتلة والظواهر المبهمة والأوباء الغريبة، من مثل ثقب الأوزون، وارتفاع درجة حرارة الكرة الأرضية، والبراكين والزلازل وغير ذلك، وكأن الطبيعة تعبر بهذه الظواهر المشاهدة عن تألمها العميق وغضبها الدفين مما يلحق بها من إهدار وإهلاك.
بين الهولوكست اليهودي وإبادة المسلمين ومادام الإنسان يعتبر محور قصة الحياة التي تجري فصولها على خشبة الطبيعة، فإننا ارتأينا أن نتطرق في هذه الورقة إلى الإبادة التي تعرض إليها المسلمون عبر مراحل التاريخ، ونحن نستحضر أحداث المحرقات الألمانية التي تم أثناءها التنكيل باليهود، وهي معروفة بالهولوكست (Holocausts)، فعرف الصهاينة كيف يوظفون عبر التاريخ المعاصر تلك الأحداث لصالحهم، فينجحون في استقطاب العطف العالمي، بمختلف وسائل السياسة والدعاية، التي جعلت مما أصابهم على يد النازية في أواخر النصف الأول من القرن الماضي، يرقى إلى أن يكون أسطورة يهودية جديدة، تنضاف إلى أساطيرهم القديمة !
وهذا لا يعني أننا نشكك فيما تعرض إليه اليهود من تحريق وتقتيل ومحق من قبل هتلر، وإنما نشكك في جملة من المعلومات والأرقام التي دعموا بها هذا الحدث التاريخي، وذلك استنادا إلى معطيات وتفسيرات أكثر من مؤرخ ومفكر غربي، ففيما يتعلق بالأعداد التي تم قتلها وتحريقها، التي يدعي اليهود أنها تقدر بحوالي ستة ملايين، وهو رقم جد مبالغ فيه، خصوصا وأن العدد الإجمالي لليهود الذين كانوا آنذاك يستوطنون ألمانيا والدول الأوروبية التي احتلتها، كان يربو بقليل على ثلاثة ملايين، وهذا المعطى ورد في الكتاب اليهودي السنوي: (572)؛ فمن أين جاء الرقم ستة ؟!
ثم إن هناك أكثر من مصدر غربي يشير إلى أن عدد اليهود الذين تمت تصفيتهم في المحرقات الألمانية يحدد في المليون وربع مليون قتيل، كما جاء في كتاب (القضاء على يهود أوروبا) لكاتبه رؤول هلبرج، أو في أقل من المليون كما ذكر معهد التاريخ بباريس .
ثم إن هذا العدد من الضحايا المتراوح بين ما يقل عن المليون أو يزيد عليه، لا يشكل إلا نسبة جد ضئيلة (5%) بالنظر إلى ضخامة ضحايا الحرب العالمية، الذين يقدرون بالخمسين مليون قتيل، كما أن ثمة نسبة لا يستهان بها من ضحايا اليهود، كانت نتيجة المجاعة التي عمت، في العشرية الثالثة من القرن الماضي أغلب بقاع العالم، غير أن اليهود استطاعوا، بخداعهم المعروف، ودهائهم الخبيث، أن يوظفوا تلك الأحداث لصالح أغراضهم السياسية والأيديولوجية، فيتمكنوا بعد مدة وجيزة من تاريخ تلك المحرقات من أن ينالوا وطنا، بمباركة من الغرب الاستعماري، ومعاضدة من مختلف الدول الغربية، كمكافأة سمينة على ما ألحقه بهم هتلر من محق وإبادة!
كذلك لم نستحضر هذه اللمحات التاريخية المتداولة في أدبيات التاريخ اليهودي المعاصر، إلا لنؤكد أن اليهود عرفوا كيف يضخمون حدثا تاريخيا عاديا، نقول إنه عادي، لأن ذلك كان متزامنا مع استعمار مئات الشعوب، ومنها الشعوب العربية والإسلامية، التي كانت تقتل بالملايين، فوظفوه بأسلوب ذكي، في حين سكتت الشعوب الأخرى وهي راضية بالاستقلال النسبي والمشروط !
وفيما يرتبط بالحالة العربية والإسلامية، جدير بنا أن نذكر أن شعوبنا تعرضت لأضعاف مضاعفة مما أصاب اليهود في ألمانيا، وثمة معطيات تاريخية تقدر بالأرقام ضحايا الإبادات و(الهولوكسات) التي تعرض إليها المسلمون عبر مختلف مراحل التاريخ، لكن لم يعرفوا كيف يوظفونها، ليس بالتسول لدى المحافل الدولية والاستعطاف وطلب الشفقة، وإنما بوضع الغرب المتغطرس أمام أخطائه الرهيبة التي لا تغتفر، والتي يتحتم عليه أن يكفر عنها، بالتعويض المادي والمعنوي، أو بالقوة والعقاب .
وهذه بعض التقديرات المنشورة في عدد من المصادر الرقمية، حول ضحايا المسلمين أثناء مختلف الأحداث التاريخية :
- إبادة أكثر من نصف مليون مسلم على يد المسيحيين أثناء مختلف الحملات الصليبية، التي امتدت بين القرن 11 الميلادي والقرن 15.
- مقتل أكثر من مليون مسلم على يد المغول، الذين سيطروا على بغداد سنة 656هـ، ونكلوا بالمسلمين شر تنكيل، حتى تلونت مياه دجلة والفرات بلون الدم، كما يذكر المؤرخون.
- مئات الآلاف من المسلمين منهم من تمت تصفيته، ومنهم من أجبر على تغيير ديانته، ومنهم من تم استصدار ممتلكاته ونفيه، وذلك أثناء سقوط الأندلس، بسقوط غرناطة سنة 897 هـ .(/2)
- قتل واستبعاد وتشريد أكثر من مليون مسلم أثناء قيام التمرد والثورة ضد الدولة العثمانية، التي كانت نهايتها سنة 1918م .
- إبادة وتشريد أكثر من ثلاثة ملايين مسلم أثناء وبعد الاستعمار الأوروبي للعالم العربي والإسلامي، عقب الحربين العالمية الأولى والثانية.
- قتل وتشريد أكثر من خمسة ملايين مسلم من قبل الحملات التي قام بها القيصر الروسي على مختلف المناطق الإسلامية المجاورة لروسيا.
- التنكيل بأكثر من مليون مسلم بسبب المد الاشتركي الذي مارسه السوفيات على ما كان يعرف سابقا بالجمهوريات الروسية .
- إبادة أكثر من المليون ونصف مليون مسلم في الصين والفيتنام وكمبوديا ومختلف بقاع الشرق الأقصى، وذلك منذ الحرب العالمية الثانية .
- قتل وتشريد أكثر من نصف مليون مسلم في بورما منذ الحرب العالمية الثانية .
- إبادة أكثر من نصف مليون مسلم في الهند وكاشمير، منذ سنة 1947م .
- إبادة أكثر من نصف مليون مسلم في البوسنة والهرسك من قبل الصرب والكروات، وذلك في بداية العشرية التاسعة من القرن المنصرم.
- قتل أكثر من مائة ألف مسلم في كوسوفو وألبانيا، خلال منتصف العشرية التاسعة من القرن الماضي. - إبادة وتشريد ونفي أكثر من خمسة ملايين فلسطيني، من قبل الصهاينة، وذلك منذ احتلالهم لفلسطين سنة 1948م.
- التنكيل بأكثر من خمسة ملايين مسلم أثناء الغزو الروسي لأفغانستان.
- مقتل أكثر من مليون طفل عراقي أثناء العشرية التاسعة من القرن الماضي، من جراء الحصار الذي مارسته أمريكا والأمم المتحدة على العراق.
- بالإضافة إلى تصفية عشرات الآلاف من المعتقلين في سجون الدول العربية والإسلامية، المدعمة من الغرب، ومقتل آلاف العراقيين المدنيين أثناء حرب الخليج الأولى والثانية على العراق .
بناء على هذه المعطيات التقريبية التي تقدر عدد ضحايا المسلمين، الذين تعرضوا إلى شتى أصناف التقتيل والتنكيل والتصفية والنفي والتشريد والاستبعاد وغير ذلك، يتبين مدى ضراوة الإبادة التي مورست على المسلمين عبر التاريخ، من مختلف الجهات الأجنبية، سواء بهاجس التوسع السياسي الاستراتيجي، أو الطمع في ثروات العالم الإسلامي، أو الصراع الديني الذي حاولت من خلاله الحركة الصليبية عرقلة الامتداد الإسلامي، وهذا معروف ومدون لدى الغرب، الذي لم يفكر بتاتا في إنصاف أهل الإسلام، ولو بالكلمة الصادقة في حق هذا الدين العظيم، أو الاعتراف الجميل بفضل الحضارة الإسلامية على الحضارة الغربية، لكن كيف له أن يصنع ذلك، مادام يعتبر طرفا مهما في معادلة تلك الإبادة التي مست المسلمين .
ثم إن الهلوكست الذي مارسه هتلر على الشعب اليهودي، فكانت ضحيته المليون قتيل، ليس إلا قطرة من يم الإبادات التي تعرض إليها المسلمون، غير أن اليهود تمكنوا من أن يستغلوا ذلك، استغلالا إعلاميا وسياسيا وأيديولوجيا وثقافيا، وفي بضعة عقود تأتى لهم ما كانوا يفتقدونه قبل حدث المحرقة، من وطن وعطف دولي وتعويضات مادية خيالية وغير ذلك، في حين زاد مفعول إبادة المسلمين، التي تم شرعنتها في المحافل الدولية، وبمباركة من بعض المحسوبين على الإسلام، فصار كل من يرفض الغرب يباد باسم الحرب على الإرهاب، وكل من يدافع عن وطنه يمحق باسم الحرب على الإرهاب، وهكذا دواليك .
عود على بدء، إن سعي الإنسان إلى إبادة أخيه الإنسان قصد الانفراد وحده بسلطة العالم، يندرج في إطار الانحراف عن الفطرة الأصلية التي خلق عليها، وهكذا ينشأ التضاد السلبي على أنقاض التضاد الإيجابي في الطبيعة والوجود والحياة، وهو تضاد محكوم، كما سبقت الإشارة، بأهواء النفس ورغبتها في التملك والسطو والاستحواذ، مما سبب شتى الويلات للإنسانية والطبيعة، وهي ويلات تظل مستمرة رغم التقدم الباهر الذي يحققه الإنسان، بل وتشتد كلما اشتد تطور الإنسان، وكأن الله تعالى يُعجز الإنسان بهذه الإشكالات والتحديات التي يبدو أمامها جهولا ويائسا وحقيرا، رغم ضخامة المشاريع الصناعية والتكنولوجية والعلمية التي تمكن من تحقيقها، لأنه اختار أن ينحرف عن الطريق المستقيم مندفعا خلف هوى النفس وحب السلطة والانقياد للشيطان !
وبمجرد ما يعود الإنسان إلى رشده، ويؤؤب إلى فطرته الأصلية، تنكشف الظلمة، وتتبدد العتمة، فلا نسمع عن إنسان يقتل إنسانا، من أجل برميل نفط، أو شبر أرض، أو لأنه يعبد الله(/3)
منطلقات شرعية في نصرة خير البرية
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين أما بعد:
فإن ما يشهده العالم الإسلامي هذه الأيام من غضبة عارمة، وحملة مباركة لنصرة سيد البشر نبينا صلى الله عليه وسلم، والدفاع عن عرضه الشريف أمام الهجمة الشرسة القذرة التي يشنها الغرب الصليبي الكافر على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وتتولى كبرها بلاد الدنمارك الحاقدة، إن في هذه القومة المباركة لنصرة نبينا صلى الله عليه وسلم ما يثلج الصدر، ويسر الخاطر، ويبث الأمل في النفوس، ويؤكد أن أمة الإسلام أمة مباركة ومرحومة ولازال فيها الخير والرصيد العظيم في مقاومة أعدائها والنكاية فيهم، حتى ولو كانت ذليلة مستضعفه؛ فكيف لو كانت قوية ومتمكنة.
ولقد ظهر في هذه الحملة قدرة الأمة على النهوض والتكاتف والتعاون على إلحاق الأذى الشديد بالعدو المتربص، وقد ظهر ذلك في هذه القومة الشاملة لمختلف شرائح الأمة رجالاً ونساءً, صغاراً وكباراً, أغنياء وفقراء, وعوام ومثقفون، وذلك في الكتابات الكثيرة المتنوعة لنصرة النبي صلى الله عليه وسلم , وكذلك في المقاطعة المباركة التي آتت أكلها وثمارها في إنهاك اقتصاد المعتدين.
أسأل الله عز وجل أن يبارك في جهود القائمين بهذه النصرة، سواءً من كتب أو خطب أو مقاطعة وهجر منتجات القوم، وليس هذا بكثير في نصرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم الذي أخرجنا الله به من الظلمات إلى النور، والذي هو أولى بنا من أنفسنا، والذي قال لنا ربنا سبحانه عنه (( لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ)) ( التوبة: 128) .
والذي بلغ الكمال الإنساني في الشمائل والأخلاق وفي عبادة ربه سبحانه وتعالى، وكل هذا يفرض علينا أن يكون أحب إلينا من أنفسنا وأهلنا وأولادنا وأموالنا، وأن نفديه بالنفوس والمهج والأولاد والأموال.
وبما أن الحديث عن نصرة النبي- صلى الله عليه وسلم- وعن حقوقه، وحقيقة أعدائه وحقدهم قد قام به المسلمون في شتى بلدان المسلمين بأقوالهم ورسائلهم وكتاباتهم ومقاطعتهم، فلن أكرر ما كتب وقيل، ففيه إن شاء الله الكفاية، غير أن هناك بعض الوصايا التي أنصح بها نفسي وإخواني المسلمين في ضوء هذا الحدث الجلل أرى أنها من حقوق المصطفى عليه الصلاة والسلام، وهي من لوازم نصرته وموجبات محبته، ولكن قد تغيب عن بعضنا وتنسى في زحمة الردود واشتعال المشاعر والعواطف.
الوصية الأولى:
قال الرسول- صلى الله عليه وسلم-: (( إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى؛ فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه)) (البخاري) .
وعندما سئل النبي- صلى الله عليه وسلم- (( عن الرجل يقاتل شجاعة, ويقاتل حمية, ويقاتل رياء، أي ذلك في سبيل الله ؟) فقال:(من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله)) البخاري (2810),مسلم(1904).
والمقصود من إيراد هذين الحديثين الشريفين أن يحاسب كل منا نفسه، وهو يشارك في هذه الحملة المباركة للدفاع عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ويتفقد نيته في قومته هذه، هل هي خالصة لله تعالى؟ أم أن هناك شائبة من شوائب الدنيا قد خالطت نيته، كأن يظهر للناس غيرته وحرصه على الدين وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو تكون مجرد حمية وعصبية ومفاخرة، أو إرادة دنياً ومكانة بين الناس، أو غير ذلك من الأغراض، وهذا عمل قلبي لا يعلمه إلا الله عز وجل، ومع إحسان الظن بالقائمين بهذه النصرة وأنهم إن شاء الله تعالى إنما قاموا بذلك حباً لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم، إلا أن محاسبة النفس في هذا الشأن وغيره من العبادات أمر واجب على كل مسلم حتى يبارك الله عز وجل في الأعمال، ويحصل منها الأجر والثواب، وإلا ذهبت هباءً منثوراً؛ إن لم يأثم صاحبها ويعاقب على ذلك.
الوصية الثانية:
قال الله تعالى: (( قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ )) ( آل عمران: 31).
ويقول الرسول- صلى الله عليه وسلم-: (( لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به)) .
[يقول الأمام أبن كثير- رحمه الله تعالى- عند آية آل عمران، هذه الآية الكريمة حاكمة على كل من ادعى محبة الله وليس هو على الطريقة المحمدية، فإنه كاذب في دعواه في نفس الأمر حتى يتبع الشرع المحمدي، والدين النبوي في جميع أقواله وأفعاله وأحواله كما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد )) .
ولهذا قال:((قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ)) (عمران:31).(/1)
أي: يحصل لكم فوق ما طلبتم من محبتكم إياه, وهو محبته إياكم؛ وهو أعظم من الأول, كما قال بعض الحكماء العلماء؛ ليس الشأن أن تُحِبَّ, إنما الشأن أن تُحَبَّ.
وقال الحسن البصري وغيره من السلف: زعم قوم أنهم يحبون الله فابتلاهم الله بهذه الآية: (( قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ)) (آل عمران: 31) .
ويقول الأمام أبن القيم- رحمه الله تعالى-: ( لما كثر المدعون للمحبة طولبوا بإقامة البينة على صحة الدعوى؛ فلو يعطى الناس بدعواهم لادعي الخلي حرقة الشجي، فتنوع المدعون في الشهود، فقيل لا تٌقبل الدعوى إلا ببينة:(( قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ ))(آل عمران: 31) .
( فتأخر الخلق كلهم, وثبت أتباع الحبيب في أفعاله وأخلاقه)] من مدارج السالكين 3/9[.
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله تعالى-: (فكل من ادعى أنه يحب الله ولم يتبع الرسول فقد كذب, ليست محبته لله وحده, بل إن كان يحبه فهي محبة شرك, فإنما يتبع ما يهواه كدعوى اليهود والنصارى محبة الله, فإنهم لو أخلصوا له المحبة لم يحبوا إلا ما أحب, فكانوا يتبعون الرسول, فلما أحبوا ما أبغض الله مع دعواهم حبه كانت محبتهم من جنس محبة المشركين, وهكذا أهل البدع، فمن قال إنه من المريدين لله المحبين له، وهو لا يقصد اتباع الرسول والعمل بما أمر به وترك ما نهى عنه, فمحبته فيها شوب من محبة المشركين واليهود والنصارى, بحسب ما فيه من البدعة، فإن البدع التي ليست مشروعة، وليست مما دعا إليه الرسول لا يحبها الله، فإن الرسول دعا إلي كل ما يحبه الله . فأمر بكل معروف ونهى عن كل منكر)] الفتاوى 8/361,360[.
والمقصود من إيراد ألآية التي في سورة آل عمران، وكلام أهل العلم عندها, وكذلك الحديث، التنبيه في هذه الحملة المباركة إلى أن يراجع كل منا نفسه، ويختبر صدق محبته لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم في قومته ونصرته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ أن علامة حبنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وصدقنا في نصرته أن نكون متبعين لشرعه وسنته، وأن لا يكون في حياتنا أمور تسيء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وتؤذيه، فنقع في التناقض بين ما نقوم به من النصرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أحوالنا، فيقع الفصام النكد بين القول والعمل: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ )) (الصف: 2،3 ) .
* فيا أيها الذي تعبد الله تعالى بغير ما شرع الرسول صلى الله عليه وسلم، وقام لنصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم: زادك الله غيرة وغضباً لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ولكن اعلم أن الذي قمت لنصرته هو القائل: (( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد )) (البخاري:2697) .
وعليه فإن أي ابتداع في الدين سواء كان ذلك في الأقوال أو الأعمال مما يؤذي نبينا محمداً- صلى الله عليه وسلم- ويسيء إليه، فاحذر أن تكون ممن يدعي محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في نفس الوقت يؤذيه ويعصيه؛ فإن هذا يقدح في صدق المحبة والإتباع, ويتناقض مع نصرته ونصرة سنته، وأشنع من هذا من يدعي محبة الرسول صلى الله عليه وسلم ونصرته ثم هو يقع في الشرك الأكبر ويدعوه أو يدعو علياً والحسين وغيرهم من الأولياء من دون الله ، أو يؤذي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بسب أزواجه أو أصحابه، فإن كل ذلك يدل على كذب أولائك المدعين .
* ويا أرباب البيوت والأسر الذين قمتم لنصرة الرسول صلى الله عليه وسلم، إن هذا منكم لعمل طيب مشكور؛ ولكن تفقدوا أنفسكم فلعل عندكم وفي بيوتكم وبين أهليكم ما يغضب الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم من آلات اللهو، وقنوات الإفساد، ومجلات اللهو والمجون، فإن كان كذلك فاعلموا أن إصراركم عليها واستمراءكم لها لمما يسيء إلى الرسول ويؤذيه، ويتناقض مع صدق محبته، إذ أن صدق المحبة له تقتضي طاعته واتباعه، لأن المحب لمن يحب مطيع.
* ويا أيها التاجر الذي أنعم الله تعالى عليه بالمال والتجارة، إنه لعمل شريف، وكرم نبيل أن تهب لنصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتهجر وتقاطع منتجات القوم، الكفرة الذين أساءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وآذوه، ولكن تفقد نفسك ومالك عسى أن لا تكون ممن يستمرئ الربا في تنمية أمواله، أو ممن يقع في البيوع المحرمة، أو يبيع السلع المحرمة التي تضر بأخلاق المسلمين وأعراضهم وعقولهم، فإن كنت كذلك فحاسب نفسك وراجع صدق محبتك للرسول صلى الله عليه وسلم الذي قمت لنصرته، ألا تعلم أنك بأكلك الربا تعد محارباً لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وصدق القيام لنصرته، قال الله تعالى:(/2)
(( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ )) (البقرة: 278, 279) .
ألا تعلم أن الأولى بالمقاطعة والهجر هو هجر ما حرم الله عز وجل من الربا والبيوع المحرمة, والسلع المحرمة التي قد استمرأها الكثير من التجار؟ قال الرسول- صلى الله عليه وسلم-: (( المهاجر من هجر ما نهى الله عنه)) (البخاري :10) .
ولا يعني هذا التهوين من مقاطعة منتجات القوم بل أرى الصمود في ذلك، ولكن أردت التنبيه إلى ضرورة تخليص حياتنا من هذه الازدواجية وعدم المصداقية.
* ويا أيها القائمون على المؤسسات الإعلامية من صحافة وإذاعات، وقنوات فضائيه في بلدان المسلمين، إنه لعمل مشكور هذا الذي تشاركون به في حملة الانتصار لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن ألا يعلم بعضكم أنه يعيش حالة من التناقض، إن لم يكن ضرباً من النفاق، وذلك عندما يدعي محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ونصرته ممن أساء إليه من الكفرة، ثم هو في نفس الوقت يبث في صحيفته أو إذاعته، أو تلفازه أو قناته الفضائية ما يسيء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويؤذيه، وذلك مما حرم الله عز وجل وحرمه رسوله صلى الله عليه وسلم من إشاعة الفاحشة، وتحسين الرذيلة، وبث الشبهات والشهوات، والنيل من أولياء الله عز وجل وأولياء رسوله صلى الله عليه وسلم، والاستهزاء بهم وبسمتهم وهديهم وعقيدتهم، والله عز وجل يقول: (( من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب)) ( البخاري:11/292) .
فكيف تعرضون أنفسكم لحرب الله عز وجل وأنتم تدعون نصرة نبيه صلى الله عليه وسلم والذب عنه، إن الذب عن نبينا صلى الله عليه وسلم إنما تكون بالتزام سنته والذب عنها، والتوبة من كل ما يقدح فيها، والتزام طاعته صلى الله عليه وسلم والصدق في محبته, وإلا كان هذا الانتصار مجرد ادعاء، ومفاخرة ونفاق نعوذ بالله من ذلك.
* ويا أصحاب الحل والعقد في بدان المسلمين، إن أمانتكم لثقيلة، فالحكم والتحاكم بأيديكم, والإعلام والاقتصاد بأيديكم، والتربية والتعليم بأيديكم، وحماية أمن المجتمع، وحماية الثغور بأيديكم، فما أعظم أمانتكم ومسؤوليتكم أمام ربكم عز وجل، وأمام أمتكم, فهل تعلمون أن من رفض منكم الحكم بما أنزل الله عز وجل وأستحل ما حرم الله عز وجل إنما هو من أعظم المسيئين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمناوئين له؟ وأن من أقام اقتصاده على الربا والمعاملات المصرفية المحرمة إنما هو من المؤذين والمحاربين لله عز وجل، ولرسوله صلى الله عليه وسلم ؟ وأن من مكن لأهل الشر والإفساد والشبهات والشهوات في إعلام الأمة ليفسدوا عقائد الناس وعقولهم وأعراضهم، إنما هو من أشد المؤذين والمبغضين لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن من تولى الكفرة ووادهم وقربهم من دون المؤمنين فهو من المحادين لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم ؟ إذا علمنا جميعاً هذه المسلمات , وعلمنا أن هذه الممارسات المسيئة لرسول الله صلى الله عليه وسلم موجودة في أكثر بلدان المسلمين اليوم، فما قيمة أن يقوم بعض حكام هذه البلدان بإظهار الشجب والغضب لمن أساء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أعلام الغرب الكافر، وهم من أعظم المسيئين إليه عليه الصلاة والسلام، برفض شرعه وموادة أعدائه؟ إن هذا لعمر الله لهوا التناقض والنفاق والتدليس والتلبيس, إذ أن من كان صادقاً في حبه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وصادقاً في غضبه وانتصاره ممن أساء إليه يكون من أول المتبعين لسنته صلى الله عليه وسلم وشريعته، لا من الرافضين والمناوئين لها !!
وفي ختام هذه الوصية أرجو أن لا يفهم من كلامي أني أهون من هذه الحملة القوية لنصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم والدفاع عن عرضه الشريف، أو أني أدعو إلى تأجيلها حتى تصلح أحوالنا حكاماً ومحكومين، كلا بل إني أدعو إلى مزيد من هذا الانتصار والمقاطعة والتعاون في ذلك، كما هو الحاصل الآن والحمد لله رب العالمين، ولكنني أردت أيضاً الالتفات إلى أحوالنا وتفقد إيماننا، وصدقنا في محبتنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والانتصار له، بأن نبرهن على ذلك بطاعته عليه الصلاة والسلام، واتباعنا لشريعته والذب عنها، والاستسلام لها باطناً وظاهراً، قال الله تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ )) ( البقرة: 208) .
وقال تعالى: (( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا)) ( الأحزاب: 36).(/3)
وقال تعالى: (( فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا)) (النساء: 6) .
الوصية الثالثة:
إن ما حصل من إساءة إلى الرسول- صلى الله عليه وسلم- في الأعلام الدنماركي والنرويجي، جرم عظيم ينم عن حقد متأصل في قلوب القوم، ولكن ينبغي أن لا تنسينا مدافعة هؤلاء القوم من هو أشد منهم خبثاً وحقداً وضرراً على المسلمين، ألا وهي طاغية العصر أمريكا حيث جمعت الشر كله، فوقعت فيما وقع فيه هؤلاء من الإساءة إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وإهانة كتاب ربنا سبحانه وتنجيسه وتمزيقه على مرأى من العالم، وزادت على القوم بقتل أهلنا ونسائنا وأطفالنا في أفغانستان والعراق وفلسطين، وسامت الدعاة والمجاهدين سوء العذاب في أبي غريب وأفغانستان، وسجونها السرية في الغرب والشرق، فيجب أن يكون لها الحظ الأكبر من البراءة والانتصار منها لربنا عز وجل ولكتابه سبحانه ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وأن ننبه الناس في هذه الحملة الميمونة إلى هذا العدو الأكبر، وأنه يجب أن يكون في حقه من إظهار العداوة له، والبراءة منه، ومقطاعته كما كان في حق الدنمارك بل أكثر وأشد .
وأتوجه بهذه المناسبة إلى المنادين بمصطلح (نحن والآخر)، والمطالبين بالتسامح مع الآخر الكافر وعدم إظهار الكراهية له، لأقول لهم: هذا هو الأخر الذي تطلبون وده، وتتحرجون من تسميته بالكافر، إنه يرفض ودكم، ويعلن كراهيته لديننا ونبينا، وكتاب ربنا سبحانه، فماذا أنتم قائلون؟! وهذا من عدونا غيض من فيض، وصدق ربنا سبحانه إذ يقول في وصفهم: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ)) ( آل عمران: 118).
الوصية الرابعة:
إن من علامة صدق النصرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا نفرق في بغضنا وغضبتنا بين جنس وأخر ممن آذى نبينا عليه الصلاة والسلام، وأساء إليه أو إلى دين الإسلام؛ بل يجب أن تكون غضبتنا لله تعالى، وتكون عداوتنا لكل من أساء إلى ربنا أو ديننا أو نبينا صلى الله عليه وسلم، من أي جنس كان، ولو كان من بني جلدتنا ويتكلم بألسنتنا. كما هو الحاصل من بعض كتاب الصحافة والرواية، وشعراء الحداثة، والذين يلمحون تارة، ويصرحون تارة أخرى بالنيل من أحكام ديننا وعقيدتنا، وإيذاء نبينا صلى الله عليه وسلم، بل وصل أذاهم وسبهم للذات الإلهية العلية، تعالى الله عما يقولون علواً كبيرا، فأين غضبتنا على هؤلاء، وأين الذين ينتصرون لله تعالى ودينه، ورسوله صلى الله عليه وسلم من فضح هؤلاء والمطالبة بإقامة حكم الله فيهم، ليكونوا عبرة لغيرهم ؟ إن الانتصار من هؤلاء لا يقل شأناً من الانتصار ممن سب ديننا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم في دول الغرب الكافر، يقول الله عز وجل: (( لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)) (المجادلة: 22).
الوصية الخامسة:
يقول الله عز وجل: (( وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً )) ( الإسراء: 36 ).
يقول الإمام أبن كثير- رحمه الله تعالى-: عند هذه الآية بعد أن ذكر أقوال أهل العلم، (ومضمون ما ذكروه أن الله تعالى نهى عن القول بلا علم، بل بالظن الذي هو التوهم والخيال، كما قال تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ )) (الحجرات: 12).
وفي الحديث: (( إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث)).
وفي سنن أبي داوود (( بئس مطية الرجل زعموا )).
وقوله (( كل أولئك )) أي هذه الصفات من السمع والبصر والفؤاد (كان عنه مسؤولا) : أي سيسأل العبد عنها يوم القيامة، وتسأل عنه وعما عمل فيها ) أ.هـ .(/4)
وفي ضوء هذه الآية الكريمة وما ورد في معناها نخرج بمنهج عادل وقويم في التعامل مع الأحداث، والمواقف ينصحنا الله عز وجل به، حتى لا تزل الأقدام، وتضل الأفهام، وحتى لا يقع المسلم في عاقبة تهوره وعجلته، وذلك بأن لا ينساق وراء عاطفته وحماسته الثائرة دون علم وتثبت مما رأى أو سمع، فيقول بلا علم، أو يتخذ موقفاً دون تثبت وتروي.
إن المسلم المستسلم لشريعة ربه سبحانه محكوم في جميع أقواله ومواقفه وحبه وبغضه، ورضاه وسخطه بما جاء في الكتاب والسنة من الميزان العدل، والقسطاس المستقيم، فإن لم يضبط المسلم عاطفته وحماسه بالعلم الشرعي، والعقل والتروي، فإن حماسته هذه قد تجره إلى أمور قد يندم على عجلته فيها.
والمقصود هنا التحذير من العجلة، والجور في الأحكام، والمواقف خاصة عندما تكثر الشائعات، ويخوض فيها الخائضون بلا علم أو عدل، بل لابد من التثبت ومشاورة أهل العلم والشرع، وأهل الفهم بالواقع.
ومن أمثلة هذه المواقف المتسرعة في هذا الحدث، مما تناقلته بعض المطويات ورسائل الجوال من وجوب المقاطعة لبضائع كثيرة بعضها ليست من منتجات القوم المقصودين بالمقاطعة, ومن ذلك التسرع في الحكم على من لم يقاطع بأنه آثم لا يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكما جاء في قول القائل: ( قاطع من لم يقاطع )، ومن ذلك الإكثار من الرؤى و المنامات, والاستناد عليها في تصحيح موقف ما أو تخطئته.
وبعد: فهذا ما يسره الله عز وجل من هذه الوصايا التي أخص بها نفسي وإخواني المسلمين في كل مكان؛ مع التأكيد على ضرورة الصمود والمصابرة في البراءة من القوم، ومقاطعة منتجاتهم، فما كان في هذه الوصايا من صواب فمن الله عز وجل، فهو الأمان بذلكـ وما كان فيها من خطأ فمن نفسي والشيطانـ وأستغفر الله عز وجل وأتوب إليه، والحمد لله رب العالمين.(/5)
منطلقات شرعيّة في نصرة خير البريّة
عبدالعزيز الجليل 14/3/1427
12/04/2006
إنّ ما يشهده العالم الإسلامي هذه الأيام من غضبة عارمة، وحملة مباركة لنصرة سيد البشر نبينا -صلى الله عليه وسلم- والدفاع عن عرضه الشريف أمام الهجمة الشرسة القذرة التي يشنها الغرب الصليبيّ الكافر على نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- وتتولى كِبرها بلاد الدنمرك الحاقدة، إن في هذه القوْمة المباركة لنصرة نبينا -صلى الله عليه وسلم- ما يثلج الصدر، ويسرّ الخاطر، ويبثّ الأمل في النفوس، ويؤكّد أن أمة الإسلام أمّة مباركة ومرحومة، ولايزال فيها الخير والرصيد العظيم في مقاومة أعدائها والنّكاية بهم، حتى ولو كانت ذليلة مستضعفة؛ فكيف لو كانت قويّة ومتمكّنة.
ولقد ظهر في هذه الحملة قدرة الأمة على النهوض والتكاتف والتعاون على إلحاق الأذى الشديد بالعدو المتربص، وقد ظهر ذلك في هذه القوْمة الشاملة لمختلف شرائح الأمة رجالاً ونساءً, صغاراً وكباراً, أغنياء وفقراء, وعوام ومثقفين، وذلك في الكتابات الكثيرة المتنوعة لنصرة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وكذلك في المقاطعة المباركة التي آتت أُكُلَها وثمارها في إنهاك اقتصاد المعتدين.
أسأل الله -عز وجل- أن يبارك في جهود القائمين بهذه النصرة، سواء من كتب أو خطب، أو قاطع وهجر منتجات القوم، وليس هذا بكثير في نصرة نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- الذي أخرجنا الله به من الظلمات إلى النور، والذي هو أولى بنا من أنفسنا، والذي قال لنا ربنا سبحانه عنه: (لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) [التوبة: 128].
والذي بلغ الكمال الإنساني في الشمائل والأخلاق وفي عبادة ربه سبحانه وتعالى، وكل هذا يفرض علينا أن يكون أحب إلينا من أنفسنا وأهلنا وأولادنا وأموالنا، وأن نفديه بالنفوس والمهج والأولاد والأموال.
وبما أن الحديث عن نصرة النبي- صلى الله عليه وسلم- وعن حقوقه، وحقيقة أعدائه وحقدهم قد قام به المسلمون في شتى بلدان المسلمين بأقوالهم ورسائلهم وكتاباتهم ومقاطعتهم، فلن أكرّر ما كُتب وقيل؛ ففيه إن شاء الله الكفاية، غير أن هناك بعض الوصايا التي أنصح بها نفسي وإخواني المسلمين في ضوء هذا الحدث الجلل أرى أنها من حقوق المصطفى عليه الصلاة والسلام، وهي من لوازم نصرته وموجبات محبته، ولكن قد تغيب عن بعضنا، وتُنسى في زحمة الردود واشتعال المشاعر والعواطف.
الوصية الأولى:
قال الرسول- صلى الله عليه وسلم-: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى؛ فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه" (البخاري) .
وعندما سُئل النبي- صلى الله عليه وسلم- "عن الرجل يقاتل شجاعة, ويقاتل حميّة, ويقاتل رياء، أيّ ذلك في سبيل الله؟" فقال:"من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله". البخاري (2810), مسلم(1904).
والمقصود من إيراد هذين الحديثين الشريفين أن يحاسب كل منا نفسه، وهو يشارك في هذه الحملة المباركة للدفاع عن الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ويتفقّد نيّته في قوْمته هذه، هل هي خالصة لله تعالى؟ أم أن هناك شائبة من شوائب الدنيا قد خالطت نيّته، كأن يُظهِر للناس غيرته وحرصه على الدين وعلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أو تكون مجرد حميّة وعصبيّة ومفاخرة، أو إرادة دنيا ومكانة بين الناس، أو غير ذلك من الأغراض، وهذا عمل قلبي لا يعلمه إلا الله -عز وجل-، ومع إحسان الظنّ بالقائمين بهذه النصرة، وأنهم -إن شاء الله تعالى- إنما قاموا بذلك حباً لله –تعالى- ولرسوله -صلى الله عليه وسلم- إلاّ أن محاسبة النفس في هذا الشأن وغيره من العبادات أمر واجب على كل مسلم حتى يبارك الله -عز وجل- في الأعمال، ويحصل منها الأجر والثواب، وإلا ذهبت هباءً منثوراً؛ إن لم يأثم صاحبها ويُعاقب على ذلك.
الوصية الثانية:
قال الله تعالى: (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ). [آل عمران:31].
ويقول الرسول- صلى الله عليه وسلم-: "لا يؤمنُ أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به".
[يقول الإمام ابن كثير- رحمه الله تعالى- عند آية آل عمران، هذه الآية الكريمة حاكمة على كل من ادّعى محبة الله وليس هو على الطريقة المحمديّة، فإنّه كاذب في دعواه في نفس الأمر حتى يتبع الشرع المحمديّ، والدين النبويّ في جميع أقواله وأفعاله وأحواله، كما ثبت في الصحيح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "من عمل عملاً ليس عليه أمرُنا فهو ردّ".
ولهذا قال: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) .[آل عمران: من الآية31].(/1)
أي: يحصل لكم فوق ما طلبتم من محبتكم إياه, وهو محبته إياكم؛ وهو أعظم من الأول, كما قال بعض الحكماء العلماء؛ ليس الشأن أن تُحِبَّ, إنما الشأن أن تُحَبَّ.
وقال الحسن البصري وغيره من السلف: زعم قوم أنهم يحبون الله فابتلاهم الله بهذه الآية: (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ) . [آل عمران: 31] .
ويقول الإمام ابن القيم- رحمه الله تعالى-: "لما كثر المدّعون للمحبة طولبوا بإقامة البيّنة على صحة الدعوى؛ فلو يُعطى الناس بدعواهم لادّعى الخليّ حرقة الشجيّ، فتنوّع المدّعون في الشهود، فقيل: لا تُقبل الدعوى إلا ببيّنة: (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ) . [آل عمران: 31].
"فتأخر الخلق كلهم, وثبت أتباع الحبيب في أفعاله وأخلاقه.[من مدارج السالكين 3/9[.
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله تعالى-: "فكل من ادّعى أنه يحب الله ولم يتبع الرسول فقد كذب, ليست محبته لله وحده, بل إن كان يحبه فهي محبة شرك, فإنما يتبع ما يهواه كدعوى اليهود والنصارى محبة الله, فإنهم لو أخلصوا له المحبة لم يحبوا إلا ما أحب, فكانوا يتبعون الرسول, فلما أحبوا ما أبغض الله مع دعواهم حبه كانت محبتهم من جنس محبة المشركين, وهكذا أهل البدع، فمن قال؛ إنه من المريدين لله المحبين له، وهو لا يقصد اتباع الرسول والعمل بما أمر به وترك ما نهى عنه, فمحبته فيها شوب من محبة المشركين واليهود والنصارى, بحسب ما فيه من البدعة، فإن البدع التي ليست مشروعة، وليست مما دعا إليه الرسول لا يحبها الله، فإن الرسول دعا إلى كل ما يحبه الله. فأمر بكل معروف ونهى عن كل منكر".] الفتاوى 8/361,360[.
والمقصود من إيراد الآية التي في سورة آل عمران، وكلام أهل العلم عندها, وكذلك الحديث، التنبيه في هذه الحملة المباركة إلى أن يراجع كل منا نفسه، ويختبر صدق محبته لله –تعالى- ولرسوله -صلى الله عليه وسلم- في قوْمته ونصرته لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ إذ إن علامة حبنا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وصدقنا في نصرته أن نكون متّبعين لشرعه وسنته، وألاّ يكون في حياتنا أمور تسيء إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- وتؤذيه، فنقع في التناقض بين ما نقوم به من النصرة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وبين أحوالنا، فيقع الفصام النكد بين القول والعمل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ) [الصف: 2-3].
* فيا أيها الذي تعبد الله تعالى بغير ما شرع الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وقام لنصرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: زادك الله غيرة وغضباً لله –تعالى- ولرسوله -صلى الله عليه وسلم-، ولكن اعلم أن الذي قمت لنصرته هو القائل: "من عمل عملاً ليس عليه أمرُنا فهو ردّ". (البخاري:2697).
وعليه فإن أي ابتداع في الدين سواء كان ذلك في الأقوال أو الأعمال مما يؤذي نبينا محمداً- صلى الله عليه وسلم- ويسيء إليه، فاحذرْ أن تكون ممن يدّعي محبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهو في نفس الوقت يؤذيه ويعصيه؛ فإن هذا يقدح في صدق المحبة والاتّباع, ويتناقض مع نصرته ونصرة سنته، وأشنع من هذا من يدّعي محبة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ونصرته ثم هو يقع في الشرك الأكبر، ويدعوه أو يدعو علياً والحسين وغيرهم من الأولياء من دون الله، أو يؤذي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بسبّ أزواجه أو أصحابه، فإن كل ذلك يدل على كذب أولئك المدّعين.
* ويا أرباب البيوت والأسر الذين قمتم لنصرة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، إن هذا منكم لعمل طيب مشكور؛ ولكن تفقّدوا أنفسكم فلعل عندكم، وفي بيوتكم، وبين أهليكم ما يغضب الله -عز وجل- ورسوله -صلى الله عليه وسلم- من آلات اللهو، وقنوات الإفساد، ومجلات اللهو والمجون، فإن كان كذلك فاعلموا أن إصراركم عليها واستمراءكم لها لممّا يسيء إلى الرسول ويؤذيه، ويتناقض مع صدق محبته؛ إذ إن صدق المحبة له تقتضي طاعته واتّباعه؛ لأنّ المحبّ لمن يحب مطيع.(/2)
* ويا أيها التاجر الذي أنعم الله تعالى عليه بالمال والتجارة، إنه لعمل شريف، وكرم نبيل أن تهب لنصرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وتهجر وتقاطع منتجات القوم، الكفرة الذين أساؤوا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وآذوه، ولكن تفقّد نفسك ومالك عسى ألاّ تكون ممن يستمرئ الربا في تنمية أمواله، أو ممن يقع في البيوع المحرمة، أو يبيع السلع المحرمة التي تضر بأخلاق المسلمين وأعراضهم وعقولهم، فإن كنت كذلك فحاسبْ نفسك وراجعْ صدق محبتك للرسول -صلى الله عليه وسلم- الذي قمت لنصرته، ألا تعلم أنك بأكلك الربا تُعدّ محارباً لله –تعالى- ولرسوله -صلى الله عليه وسلم-، وصِدْق القيام لنصرته، قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ) [البقرة: 278- 279].
ألا تعلم أنّ الأولى بالمقاطعة والهجْر هو هجْر ما حرم الله -عز وجل- من الربا والبيوع المحرّمة, والسلع المحرّمة التي قد استمرأها الكثير من التجار؟ قال الرسول- صلى الله عليه وسلم-: "المهاجر من هجر ما نهى الله عنه". (البخاري :10) .
ولا يعني هذا التهوين من مقاطعة منتجات القوم بل أرى الصمود في ذلك، ولكن أردت التنبيه إلى ضرورة تخليص حياتنا من هذه الازدواجية وعدم المصداقية.
* ويا أيها القائمون على المؤسسات الإعلامية من صحافة وإذاعات، وقنوات فضائية في بلدان المسلمين، إنه لعمل مشكور هذا الذي تشاركون به في حملة الانتصار لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولكن ألا يعلم بعضكم أنه يعيش حالة من التناقض، إن لم يكن ضرباً من النفاق، وذلك عندما يدّعي محبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونصرته ممن أساء إليه من الكَفَرة، ثم هو في نفس الوقت يبث في صحيفته أو إذاعته، أو تلفازه أو قناته الفضائية ما يسيء إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويؤذيه، وذلك مما حرّم الله -عز وجل- وحرّمه رسوله -صلى الله عليه وسلم- من إشاعة الفاحشة، وتحسين الرذيلة، وبثّ الشبهات والشهوات، والنّيْل من أولياء الله -عز وجل- وأولياء رسوله -صلى الله عليه وسلم-، والاستهزاء بهم وبسمْتهم وهدْيهم وعقيدتهم، والله -عز وجل- يقول: "مَن عادى لي وليًّا فقد آذنته بالحرب". (البخاري:11/292).
فكيف تعرضون أنفسكم لحرب الله -عز وجل-، وأنتم تدّعون نصرة نبيه -صلى الله عليه وسلم- والذبّ عنه، إن الذبّ عن نبينا -صلى الله عليه وسلم- إنما يكون بالتزام سنته والذبّ عنها، والتوبة من كل ما يقدح فيها، والتزام طاعته صلى الله عليه وسلم، والصدق في محبته, وإلاّ كان هذا الانتصار مجرّد ادّعاء، ومفاخرة ونفاق نعوذ بالله من ذلك.
* ويا أصحاب الحلّ والعقد في بلدان المسلمين، إن أمانتكم لثقيلة، فالحكم والتحاكم بأيديكم, والإعلام والاقتصاد بأيديكم، والتربية والتعليم بأيديكم، وحماية أمن المجتمع، وحماية الثغور بأيديكم، فما أعظم أمانتكم ومسؤوليتكم أمام ربكم -عز وجل-، وأمام أمتكم! فهل تعلمون أن من رفض منكم الحكم بما أنزل الله -عز وجل-، واستحلّ ما حرّم الله -عز وجل- إنما هو من أعظم المسيئين إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والمناوئين له؟ وأنّ مَن أقام اقتصاده على الربا والمعاملات المصرفية المحرمة إنما هو من المؤذين والمحاربين لله -عز وجل-، ولرسوله صلى الله عليه وسلم؟ وأن مَن مكّن لأهل الشر والإفساد والشبهات والشهوات في إعلام الأمة ليفسدوا عقائد الناس وعقولهم وأعراضهم، إنما هو من أشد المؤذين والمبغضين لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأن من تولى الكفرة ووادّهم وقرّبهم من دون المؤمنين فهو من المحادّين لله –تعالى- ولرسوله صلى الله عليه وسلم؟ إذا علمنا جميعاً هذه المُسلّمات, وعلمنا أن هذه الممارسات المسيئة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- موجودة في أكثر بلدان المسلمين اليوم، فما قيمة أن يقوم بعض حكام هذه البلدان بإظهار الشجب والغضب لمن أساء إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في إعلام الغرب الكافر، وهم من أعظم المسيئين إليه عليه الصلاة والسلام، برفْض شرعه وموادّة أعدائه؟ إن هذا -لعمر الله- لهو التناقض والنفاق والتدليس والتلبيس؛ إذ إنّ مَن كان صادقاً في حبه لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وصادقاً في غضبه وانتصاره ممن أساء إليه يكون من أول المتّبعين لسنته صلى الله عليه وسلم وشريعته، لا من الرافضين والمناوئين لها!!(/3)
وفي ختام هذه الوصية أرجو ألاّ يُفهم من كلامي أني أهوّن من هذه الحملة القوية لنصرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والدفاع عن عرضه الشريف، أو أني أدعو إلى تأجيلها حتى تصلح أحوالنا حكاماً ومحكومين، كلا بل إني أدعو إلى مزيد من هذا الانتصار والمقاطعة والتعاون في ذلك، كما هو الحاصل الآن والحمد لله رب العالمين، ولكنني أردت أيضاً الالتفات إلى أحوالنا وتفقّد إيماننا، وصدقنا في محبتنا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والانتصار له، بأن نبرهن على ذلك بطاعته عليه الصلاة والسلام، واتّباعنا لشريعته والذبّ عنها، والاستسلام لها باطناً وظاهراً، قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ) [البقرة: 208].
وقال تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا) . [الأحزاب:36].
وقال تعالى: (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا) . [النساء: 6].
الوصية الثالثة:
إن ما حصل من إساءة إلى الرسول- صلى الله عليه وسلم- في الإعلام الدنمركي والنرويجي، جرم عظيم ينمّ عن حقد متأصل في قلوب القوم، ولكن ينبغي ألاّ تنسينا مدافعة هؤلاء القوم مَن هو أشد منهم خبثاً وحقداً وضرراً على المسلمين، ألا وهي طاغية العصر أمريكا؛ إذ جمعت الشر كله، فوقعت فيما وقع فيه هؤلاء من الإساءة إلى نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، وإهانة كتاب ربنا سبحانه وتنجيسه وتمزيقه على مرأى من العالم، وزادت على القوم بقتل أهلنا ونسائنا وأطفالنا في أفغانستان والعراق وفلسطين، وسامت الدعاة والمجاهدين سوء العذاب في أبي غريب وأفغانستان، وسجونها السرية في الغرب والشرق، فيجب أن يكون لها الحظ الأكبر من البراءة والانتصار منها لربنا -عز وجل- ولكتابه سبحانه، ولرسوله -صلى الله عليه وسلم-، وأن ننبه الناس في هذه الحملة الميمونة إلى هذا العدو الأكبر، وأنه يجب أن يكون في حقه من إظهار العداوة له، والبراءة منه، ومقاطعته كما كان في حق الدنمرك بل أكثر وأشد.
وأتوجه بهذه المناسبة إلى المنادين بمصطلح (نحن والآخر)، والمطالبين بالتسامح مع الآخر الكافر وعدم إظهار الكراهية له، لأقول لهم: هذا هو الآخر الذي تطلبون ودّه، وتتحرّجون من تسميته بالكافر، إنه يرفض ودّكم، ويعلن كراهيته لديننا ونبينا، وكتاب ربنا سبحانه، فماذا أنتم قائلون؟! وهذا من عدونا غيض من فيض، وصدق ربنا سبحانه؛ إذ يقول في وصفهم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ) . [آل عمران: 118].
الوصية الرابعة:
إن من علامة صدق النصرة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ألاّ نفرق في بغضنا وغضبتنا بين جنس وآخر ممن آذى نبينا عليه الصلاة والسلام، وأساء إليه أو إلى دين الإسلام؛ بل يجب أن تكون غضبتنا لله تعالى، وتكون عداوتنا لكل من أساء إلى ربنا أو ديننا أو نبينا -صلى الله عليه وسلم-، من أي جنس كان، ولو كان من بني جلدتنا ويتكلم بألسنتنا. كما هو الحاصل من بعض كتّاب الصحافة والرواية، وشعراء الحداثة، والذين يلمّحون تارة، ويصرّحون تارة أخرى بالنيل من أحكام ديننا وعقيدتنا، وإيذاء نبينا -صلى الله عليه وسلم-، بل وصل أذاهم وسبّهم للذات الإلهيّة العليّة، تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيراً، فأين غضبتنا على هؤلاء؟! وأين الذين ينتصرون لله –تعالى- ودينه، ورسوله -صلى الله عليه وسلم- من فضْح هؤلاء والمطالبة بإقامة حكم الله فيهم، ليكونوا عبرة لغيرهم؟! إن الانتصار من هؤلاء لا يقلّ شأناً من الانتصار ممن سبّ ديننا ونبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- في دول الغرب الكافر، يقول الله -عز وجل-: (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) . [المجادلة:22].
الوصية الخامسة:(/4)
يقول الله -عز وجل-: (وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) . (الإسراء: 36).
يقول الإمام ابن كثير- رحمه الله تعالى-: "عند هذه الآية بعد أن ذكر أقوال أهل العلم، ومضمون ما ذكروه أن الله –تعالى- نهى عن القول بلا علم، بل بالظن الذي هو التوّهم والخيال، كما قال –تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ) . (الحجرات: 12).
وفي الحديث: "إياكم والظنّ فإنّ الظنّ أكذب الحديث".
وفي سنن أبي داوود: "بئس مطيّة الرجل زعموا".
وقوله: (كل أولئك) أي هذه الصفات من السمع والبصر والفؤاد (كان عنه مسؤولا): أي سيُسأل العبد عنها يوم القيامة، وتُسأل عنه وعمّا عمل فيها" أ.هـ .
وفي ضوء هذه الآية الكريمة، وما ورد في معناها نخرج بمنهج عادل وقويم في التعامل مع الأحداث، والمواقف ينصحنا الله -عز وجل- به، حتى لا تزلّ الأقدام، وتضلّ الأفهام، وحتى لا يقع المسلم في عاقبة تهوّره وعجلته، وذلك بألاّ ينساق وراء عاطفته وحماسته الثائرة دون علم وتثبّت مما رأى أو سمع، فيقول بلا علم، أو يتّخذ موقفاً دون تثبّت وتروي.
إن المسلم المستسلم لشريعة ربه سبحانه محكوم في جميع أقواله ومواقفه وحبه وبغضه، ورضاه وسخطه بما جاء في الكتاب والسنة من الميزان العدل، والقسطاس المستقيم، فإن لم يضبط المسلم عاطفته وحماسه بالعلم الشرعي، والعقل والتروي، فإن حماسته هذه قد تجرّه إلى أمور قد يندم على عجلته فيها.
والمقصود هنا التحذير من العجلة، والجوْر في الأحكام، والمواقف خاصة عندما تكثر الشائعات، ويخوض فيها الخائضون بلا علم أو عدل، بل لابد من التثبّت ومشاورة أهل العلم والشرع، وأهل الفهم بالواقع.
ومن أمثلة هذه المواقف المتسرّعة في هذا الحدث، ما تناقلته بعض المطويّات ورسائل الجوّال من وجوب المقاطعة لبضائع كثيرة بعضها ليست من منتجات القوم المقصودين بالمقاطعة, ومن ذلك التسرّع في الحكم على مَن لم يقاطع بأنه آثم لا يحبّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكما جاء في قول القائل: (قاطع من لم يقاطع)، ومن ذلك الإكثار من الرؤى و المنامات, والاستناد عليها في تصحيح موقف ما أو تخطئته.
فهذا ما يسّره الله -عز وجل- من هذه الوصايا التي أخصّ بها نفسي وإخواني المسلمين في كل مكان؛ مع التأكيد على ضرورة الصمود والمصابرة في البراءة من القوم، ومقاطعة منتجاتهم، فما كان في هذه الوصايا من صواب فمن الله -عز وجل-، فهو الأمان بذلك، وما كان فيها من خطأ فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله -عزّ وجلّ- وأتوب إليه، والحمد لله رب العالمين.(/5)
منع الرمي قبل الزوال (جهل)! (وتشدد)! (وغلو)!
22-1-2006
بقلم عبدالله بن صالح العجيري
"...طالبوا العلماء أن يستنبطوا من الكتاب والسنة ما ييسر على الحجيج حجهم ، فكان استظهارهم هذا إرهابا فكريا للخصوم ، ووضعا لهم في هذا الموقف الحرج ..."
إن مما تتألم له القلوب وتدمع له العيون ما وقع في حج هذا العام من حوادث مفجعة أودت بحياة المئات من المسلمين ما بين عمارة تهاوت على من فيها ، وتزاحم وتدافع عند الجمرات خلف ضحايا وأموات ، أسأل الله الكريم أن يتقبل من أموات الحجيج حجهم ويكتب لهم أجرهم ويبعثهم أنقياء من خطاياهم كيوم ولدتهم أمهاتهم .
وقد تتابعت المقالات في شتى الصحف والمنتديات ، متناولة هذا الحدث بالتعريف والتحليل في محاولة لتمس الأسباب التي تقف خلفه ، فذهبت في ذلك مذاهب شتى ، فمنها ما أرجع ذلك لتقصير في جانب التنظيم والإدارة ، ومنها ما أرجعه لجهل الحجيج وقلة الوعي ، ومنها ما حمّل تبعة ذلك العلماء والمفتين ، الذين يفتون برأي الجماهير من أهل العلم في توقيت رمي الجمار أيام التشريق ببعد الزوال ، وعدم تجويز الرمي قبله ، فحُمّلوا تبعة ما وقع من ازدحام وتدافع أدى إلى ما أدى إليه من قتلى ووفيات .
فظهرت الدعوات تلو الدعوات مطالبة بالتيسير في هذا الباب ، والتوسيع على الحجيج ، في محاولة لإلزام أهل العلم كافة بتجويز الرمي قبل الزوال ، وحملهم على ذلك حملا .
وقد استظهر أولئك بموقف الدولة المتمثل بتصريح بعض الوزراء والأمراء والذين طالبوا العلماء أن يستنبطوا من الكتاب والسنة ما ييسر على الحجيج حجهم ، فكان استظهارهم هذا إرهابا فكريا للخصوم ، ووضعا لهم في هذا الموقف الحرج إما مع الدولة أو ضدها ، وعلقوا الأزمة برمتها بفتوى هي الحل لهذه الأزمة ولا حل غيرها ، في تغاب وتغييب متعمد لمختلف أسباب هذه الحوادث ، وحصرها في السبب الذي لا سبب وراءه تشدد العلماء وتعنتهم في فتيا الناس بوجوب الرمي بعد الزوال وعدم إجزاء ما كان قبله ، وكأن الجميع براء من كل نقيصة وتقصير إلا تقصير العلماء المزعوم هذا ، ، يقول موسى العبدالعزيز مثلا: (وليست أسبابها -أي حادث الجمرات- القطعية قصورا من ولاة الأمر وفقهم الله بل من قبل عدم استقامة الرؤى الشرعية لمن لم يستقرئ منهج الرسول صلى الله عليه وسلم على وجه صحيح)1 .
ويقول حمود أبو طالب: (من كل ذلك، يتضح أن مسألة الرمي بعد الزوال هي المحور الأساسي للمشكلة التي تتكرر بين موسم حج وآخر، وتحد كثيراً من فعالية الإجراءات التنظيمية التي تتخذها كل الأجهزة المشاركة في تنظيم الحج. وكل عام، وبعد كل حادثة نسمع الحديث المكرر عن ضرورة الإتيان بحل فقهي ميسر يساهم في إنهاء هذه المشكلة)2 .
هكذا الأمر إذن العلماء هم المسؤولون ولا مسؤول سواهم .
وإن أدنى متابع منصف لشؤون الحج وما يُبذل في سبيل تسهيله وتيسيره يعلم حجم الهوة بين الواقع والمأمول ، بدءا بأزمة المواصلات ، مرورا بمشكلة الإسكان وانتهاء بمثل هذه الوقائع الأليمة التي يذهب ضحيتها زوار البيت الحرام ، وإلا فما الذي يفسر سبب انعدام وسائل المواصلات الحديثة بين مختلف المشاعر كالقطارات مثلا ، وانحصار التنقل بالسيارات والباصات أو على الأقدام والدراجات ، أهم العلماء؟! وما الذي يوجب أن تكون مزدلفة أرضا جرداء قاحلة لا ترى فيها عوجا ولا أمتا ، وما الموجب أن تظل منى على الصورة التي هي عليها ، ولا يُسعى في جعلها تستوعب من الحجيج ضعف ما تستوعبه اليوم ، أما خطط الإخلاء وتجهيزات الطوارئ فلا تسل عنها وما حج العام الماضي (عام السيل) عنا ببعيد .
إن الخلل كبير وإن ما يرجى من خير في هذا الباب كثير ، وإن الإمكانات المادية متوافرة والعقول موجودة والطاقات متحفزة فلم التقصير ولم الفوضى ، ولم نفتح على أنفسنا أبواب الطعن عن اليمن والشمال ما بين قناة تتشمت ، ومطالب بنزع اليد عن الحرمين وتدويل الحج ، لا قدر الله! وإنا لنرجو أن يحصل بعض المأمول عن قريب ، ما هو بعزيز ولا غريب .
وواقع هؤلاء المدافعين عم يرى من تقصير ينادي بأنه لو مات الحجيج جميعا فذاك قضاء الرحمن ، وليس في الإمكان أبدع مما كان ، والله المستعان ، وليت الأمر قد اقتصر عند هذا الحد ، في تحميل العلماء مسؤولية هذه الوقائع ، لكن البعض قد تجاوز الأمر إلى محاولة لتصفية الحسابات مع الحركة الإسلامية ، والمرجعية العلمية الشرعية ، فاتخذوا من هذا الحدث والمصاب ، وتلكم المسألة مادة دسمة لمهاجمة خصومهم ، في اتهام بأحادية النظرة والإقصاء والجهل والغفلة عن مقاصد الشريعة ، وأن هذه المسألة مثال من أمثلة كثيرة على التخلف العلمي الذي نعيشه ، ودلالة على أزمة فقه الرأي الواحد الذي نعيشه!.(/1)
يقول جمال خاشقجي في مقاله: (مسألة الرمي قبل الزوال نموذج لأزمتنا مع فقه الرأي الواحد): (إن قصة الرمي بعد الزوال نموذج لأزمتنا في السعودية مع الفقه المصر على النقل من كتب الأسبقين بل ليس كل الأسبقين وإنما عدد قليل منهم لا تملأ كتبهم رفا واحدا)3 .
ويقول مبينا التخلف العلمي الذي تعيشه المؤسسة الدينية: (فالدولة السعودية وقيادتها متلاحمة مع الإسلام تلاحماً لا خلخلة فيه، ولكن الدولة وقيادتها كانت دوما متقدمة على المؤسسة الدينية الرسمية في نظرتها للمستقبل، والتي بقيت مكان الاحترام وإن اضطرت الدولة إلى تجاوزها بسبب مواقفها المتصلبة في مسائل عصرية ثبت لاحقا أن موقف الدولة هو الصحيح، وآخر مسألتين جليتين في ذلك موضوع الجوال الكاميرا الذي كاد أن يجعلنا أنموذجا للتخلف، وأهم منه مسألة التأمين التي لو أخذت الدولة برأي المؤسسة لما كنا اليوم جزءاً من منظمة التجارة العالمية)4 .
ويقول خالد الغنامي: (لا شك أن الأزمة أولا أزمة فقه ، فما زال كثير من الفقهاء لا يستشعرون تغير البعد الزماني والمكاني الذي يكتنف حياة المسلمين اليوم ، هؤلاء الفقهاء المرعوبون من فكرة التجديد والتحديث يريدون أن يبقى الفقه كما كان منذ ألف سنة)5 .
وتقول أميرة كشغري: (إن هناك ترددا كبيرا من قبل الكثير من المسلمين في الأخذ باليسر ، إما عن جهل بالحكم الشرعي ، أو لعدم إدراك المقاصد الكبرى في العبادات ، والاكتفاء بأداء الشعائر دون إيلاء الجانب الروحاني ما يستحقه من مكانة)6 .
هكذا يتعامل القوم مع هذا القول بمنع الرمي قبل الزوال وهكذا يتهمون القائلين به ، ويطالبون بتجاوزهم وتهميشهم ، أو قسرهم على رأيهم وأطهرهم عليه أطرا ، وكأن هذا القول شاذ لا رصيد له من دليل شرعي ، وكأنه لا قائل به من أهل العلم ، وهو في الحقيقة لمن له أدنى اطلاع شرعي قول الجمهور من أهل العلم ، ودليله أظهر وأقوى عند التأمل والنظر .
أليس الرسول صلى الله عليه وسلم هو القائل: (لتأخذوا عني مناسككم)7 ، وهو الذي كان يتحين هذا الوقت ويتقصده للرمي دون ما قبله ، ومعلوم من هديه صلى الله عليه وسلم أنه ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما ، وأي الوقتين أيسر للرمي لو كان جائزا أأول النهار أم عند اشتداد حر الظهيرة ، ثم يتكرر هذا التحري في أيام التشريق جميعا ، ولا يصدر عنه صلى الله عليه وسلم إشارة من قول أو فعل لجواز الرمي قبله ، ومعلوم هدي النبي صلى الله عليه وسلم تركه للسنة الثابتة المستقرة أحيانا دلالة على سنيتها ودفعا لتوهم الوجوب .
فأي قرينة من قوله صلى الله عليه وسلم أو فعله دالة على أن فعله هذا للاستحباب دون الوجوب ، وهو يتقصده مع أنه أشق ، ويكرره في أيام الرمي جميعا كما تقدم ، فهلا تركه مرة إرشادا وتعليما ، أو نبه إليه بقوله ، أو فعله صحابي بحضرته فيقره ، أو يسأل عنه كما سئل عن غيره فيجيب تنبيها على جواز الرمي قبل الزوال ، ومن تأمل سياق الرويات في حجته صلى الله عليه وسلم يلحظ تسخير الله لبعض أهل الإيمان لأفعال تبين ما هو واجب من شؤون الحج وما يستحب وفي حديث (افعل ولا حرج)8 آية عليه .
ومعلوم أن الشرع ما جاء لزمن النبوة دون ما بعده ، وأن اللطيف الخبير عليم بما يصلح العباد وبما سيؤول إليه أمر الحج وعدد الحجيج ، فلو كان الأمر بالوضوح الذي يريد دعاة الترخيص اليوم أن يصوروا المسألة لكان الشارع قد بين الأمر بيانا جليا ظاهرا يرفع الالتباس الذي أوقع الجماهير من أهل العلم فيه ، فلما لم يكن مثل هذا البيان موجودا ، بل الموجود عكسه من فعل النبي صلى الله عليه وسلم ، المؤكد بالتكرار ، المؤكد بقوله: (خذوا عني مناسككم) كان فيه دليلا على أن التوقيت مقصود شرعا ، وأنه لو كان ثمة ترخص جائز لكان التنصيص واردا فيه كوروده في غيره ، ولذا أفتى عبدالله بن عمر بعدم الرمي قبل الزوال حيث قال: (لا ترمى الجمار في الأيام الثلاثة حتى تزول الشمس)9 ، وتابع ابن عمر على فتياه هذه جمهور العلماء .
وليس القصد التوسع في عرض المسألة ودلائلها ، كلا ، ولا مصادرة رأي من يجوز الرمي قبل الزوال ، ولا الإنكار على عالم تبناه باجتهاد ، أو مقلد اتبع فيه عالما بحق طلبا للحق ، كيف وأئمة كبار وعلماء أجلة قد قالوا به في القديم والحديث ، لكن المقصود وضع الأمر في نصابه الشرعي الصحيح ، وبيان المنهج الشرعي الصحيح في التعاطي مع هذه المسألة وغيرها ، والتحريج على من يرمي الجمهور من أهل العلم بمختلف التهم بدءا بالجهل والغفلة عن فقه المقاصد ، وانتهاء بالتشدد والغلو والتعلق (بقشور الحج)! دون لبابه ، كما عبر بعضهم .(/2)
يقول موسى العبدالعزيز: (إنني أدعو كل من بيده إرشاد المسلمين باسم الدين... أن يعيد النظر في هذا الأمر وييسر على الناس، فهذا من فقه العباد وهو التشدد على العباد... فهل نحن كذلك... والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (من تولى أمراً من أمور أمتي وشدد عليهم شدد الله عليه يوم القيامة) بل جعل من الصفات المذمومة لمثل هذا الفقه أن نتائجه عند الله بأنه لا يجد خلاقاً يوم القيامة، ولو قصد حماية الدين. فقال عليه الصلاة والسلام: (سيشدد هذا الدين برجال لا خلاق لهم عند الله يوم القيامة))1 .
وهذا إرهاب فكري ما بعده إرهاب ، والمصادرة للرأي التي ما بعدها مصادرة ، والتهمة الواسعة العريضة ، والعبث بالنصوص تنزيلا لها في غير منازلها ، وإلا فهل يجرؤ هو أو غيره على وصف عالم معين في القديم والحدث بهكذا وصف ، فكيف والقول ليس بقول واحد ولا اثنبن ، إنه قول الجمهور ، وإن رغمت أنوف .
وإنه لمن العجيب حقا أن يضطر المرء للذب عن جماهير أهل العلم ويحمل على المدافعة عنهم في وجه أولئك الأصاغر ، المتهمين علماءنا بالجهل والغفلة والغلو ، هذا وهم يزعمون أنهم أهل الحوار ، وأصحاب الرأي والرأي الآخر ، فما بالهم وهذا الإقصاء والمصادرة والتجهيل لمخالفيهم ، فأقصروا ويلكم فإن الأمر خطير ، والمركب الذي تركبونه لعمري صعب عسير ، ولحوم العلماء مسمومة وسنة الله في منتقصيهم معلومة .
وهاك مثلا آخر على هذا الإرهاب الذي يمارسه أولئك الأشقياء في حق جمهور العلماء والفقهاء ، يقول خالد الغنامي: (كل هذا يجب أن ينتهي ، هذا الجهل المطبق المرعب الذي يعيش فيه المسلمون يجب أن يتوقف بأي وسيلة ممكنة ، بقوة النظام ، بتجديد الفقه ، بأي صورة لا بد أن ننقذ الإنسان من جهله)11 .
فلم يبق إلا سل السيوف ، وتعليق المشانق ، وفتح المعتقلات لأهل هذا القول ، وهكذا تكون المناصحة والحوار وإلا فلا ، وحذاري أن تقرن هؤلاء الصحفيين المتعالمين المتسورين سياج العلم بغير حق ، بأهل العلم والفقه المجوزين للرمي قبل الزوال ، وإياك أن تسوي بين الفريقين ، فإن الفرق بينهما كبير ، وأين الثرى من الثريا ، وما يطرحه هؤلاء من رأي مخالفٌ في المنطلق والمنهج والطريقة لما يطرحه أولئك الكبراء .
قالقوم قد حسموا المسألة ولمّا ينظروا في أدلتها وأنّى لهم أن ينظروا ، واعتقدوا قبل أن يستدلوا ، واختاروا الترخص بالرمي قبل الزوال قبل البحث والاستدلال ، ثم أخذوا في تتبع ما هنالك من أدلة (قد) تساعدهم ، مطالبين العلماء بإيجاد الدلائل الشرعية على هذا الترخص ، ولعمر الله إن هذا لهو الانحراف الكبير الذي لا يتوقف بصاحبه عند حد ، وهو عمدة المبتدعة الضلال في رد النصوص الشرعية والعمل بها بحسب الأهواء ، فإن وافقت كان الاستدلال وإن خالفت فالرد نصيبها ، ولنفتش لعل وعسى أن نقف على نص ننصر به قولنا ، أو نصحح به رأينا .
أهذا منهج شرعي يرضي الرب جل وعلا ، وهل هذه طريقة علمية صحيحة توصل إلى الحق؟.
بل الدين الصحيح والعقل الصريح يأبى مثل هذه الطريقة ، ولو قُدر لهذه الطريقة أن تُفعّل في دنيا الناس وتعمل عملها لأفسدت عليهم دنياهم فكيف بدينهم .
إن الواجب الشرعي الذي لا مرية فيه ولا ارتياب هو النظر في الدلائل الشرعية بنفس متجردة عن صنوف الهوى وميول النفس طلبا لإصابة الحق وحكم الرب جل وعلا ، فإن كانت الإصابة فللمجتهد المصيب أجرين وإلا أصاب أجرا واحدا وخطؤه مغفور ، أما المعتقد قبل الاستدلال فمخطئ أصاب الحق في المسألة أم أخطأ ، فكيف إذا انضاف إلى هذا الجهل بالشرع وأصول الاستدلال ، فمصيبة القوم أنهم يجهلون ويجهلون أنهم يجهلون (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ ) .(/3)
وإليك صنيع خالد الغنامي كمثال جهل لبعض الكتاب في هذا الباب وغيره ، حيث كتب مقالا بعنوان (الصحابة يرمون الجمار بالليل) والذي ينتصر فيه لجواز الرمي قبل الزوال في (النهار)! فيستدل بأثر في المصنف لابن أبي شيبة فيمهد له بتمهيد يقول فيه: (هناك كتاب سلفي تراثي يجمع آثار صحابة محمد صلى الله عليه وسلم ورضي الله عليهم أجمعين ، هذا الكتب اسمه (الكتاب المصنف في الأحاديث والآثار) ومؤلفه هو الحافظ أبو بكر عبد الله بن محمد بن أبي شيبة الكوفي المتوفى سنة 235 للهجرة ، عندما نتصفح كتاب الحج من هذا المصنف سنجد أثراً يجدر بنا أن نبرزه للمسلمين جميعاً حتى يروه) ثم يسوق الأثر الذي أقام مقالته عليها فيقول: (هذا الأثر جاء بهذا الرسم، مجلد رقم 3 صفحة رقم398 أثر رقم 1532 قال أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا أبو خالد عن ابن جريج عن ابن سابط قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدمون حجاجاً فيدعون ظهورهم فيجيئون فيرمون بالليل) ثم يعيد الكلام على صاحب المصنف فيقول: (أبو بكر بن أبي شيبة تقدم التعريف به وهو ثقة إمام حافظ وأبو خالد هو سليمان بن حيان الأزدي الكوفي وهو ثقة، وابن جريج هو عبد الملك بن عبد العزيز الأموي المكي وهو من الحفاظ الكبار المشاهير، وابن سابط هو عبد الرحمن الجمحي المكي وهو ثقة) ليخلص بعد ذلك أن الصحابة كانوا يرمون (ليلا)! ، فهو دليل على جواز الرمي في (النهار)! قبل الزوال!! .
فهل سمع بمثل هذا الاستدلال ، وهل بعد هذا الفقه من فقه ، يقول بعد كلام وتهويل: (هذا الأثر عن صحابة محمد صلى الله عليه وسلم يدل دلالة واضحة أن الرمي يجوز في كل وقت وعلى مدار الأربع وعشرين ساعة)!!12.
إنه لمن الواجب الشرعي أن يحجر على أمثال هؤلاء الجهلة المتعالمين صيانة للعلم وحفاظا على الدين ، ومن تكلم في غير فنه أتى بمثل هذه العجائب ، فكيف ولا فن لهم يعرفون به! وخلاصة القول وزبدة الكلام أن ما ذهب إليه الجمهور من أهل العلم بناء على ما سبقلا يصح أن يكون محلا للطعن أو للتهمة أو للتجريح ، وأن حكم الرمي قبل الزوال كغيرها من المسائل الشرعية المختلف فيها ، التي لا تثريب فيها على من أخذ فيها بقول بشرط أن يكون طلبا للحق ونصرة له .
فإن كان من عالم مجتهد فشرط الأجر موقوف على اجتهاده في تطلب الحق ، وإن كان من مقلد فشرطه أن يتبع عالما طلبا للوصول إلى الحق ، لا لمجرد الترخص ، أو هوى النفس ، أو ميول الطبع ، أو التعصب لشيخ أو مذهب أو طائفة .
وأن إلزام المفتين في مثل هذه المسألة برأي واحد غير صحيح ولا مقدور عليه ، وأن الذم لاحق بمن ذم العلماء ، وطعن فيهم ، وحمّلهم وزر ما وقع ، وأن ثمة حلولا شرعية لحل مثل هذه الأزمات لا شك في ذلك ولا ارتياب ، وأن التعاطي مع المسائل الشرعية يجب أن يكون من مصادرها الصحيحة وفق المنهج الشرعي الصحيح ، وأن الحق متى ما استبان فثم اليسر ، (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ) ، (مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً).
من مقال (جواز الرمي للمتعجل قبل الزوال في اليوم الثاني عشر) جريدة الوطن 16 ذو الحجة 1426هـ http://www.alwatan.com.sa/daily/26-1-16/writers/writers2.htm
2 مقال (زوال الشمس.. وطلوع الروح) جريدة الوطن 16 ذو الحجة 1426هـ http://www.alwatan.com.sa/daily/26-1-14/writers/writers2.htm
3 من مقال (مسألة الرمي قبل الزوال نموذج لأزمتنا مع فقه الرأي الواحد) جريدة الوطن 17 ذو الحجة 1426هـ
http://www.alwatan.com.sa/daily/26-1-17/writers/writers3.htm 4 من مقال (مسألة الرمي قبل الزوال نموذج لأزمتنا مع فقه الرأي الواحد) جريدة الوطن 17 ذو الحجة 1426هـ
http://www.alwatan.com.sa/daily/26-1-17/writers/writers3.htm 5 من مقال (الصحابة يرمون الجمار بالليل) جريدة الوطن 16 ذو الحجة 1426هـ
http://www.alwatan.com.sa/daily/26-1-16/writers/writers3.htm 6 من مقال (حج بلا ضحايا) جريدة الوطن 16 ذو الحجة 1426هـ http://www.alwatan.com.sa/daily/26-1-17/writers/writers7.htm
7 رواه مسلم 1297 ، وأبي دواود 197 ، والإمام أحمد في المسند 1428.
8 رواه البخاري 1738 ، ومسلم 136 ، والإمام أحمد في المسند 6761.
9 رواه الإمام مالك في الموطأ 934 عن نافع عن ابن عمر. 1 من مقال (جواز الرمي للمتعجل قبل الزوال في اليوم الثاني عشر) جريدة الوطن 16 ذو الحجة 1426هـ
http://www.alwatan.com.sa/daily/26-1-16/writers/writers2.htm 11 من مقال (الصحابة يرمون الجمار بالليل) جريدة الوطن 16 ذو الحجة 1426هـ
http://www.alwatan.com.sa/daily/26-1-16/writers/writers3.htm 12 مقال (الصحابة يرمون الجمار بالليل) جريدة الوطن 16 ذو الحجة 1426هـ http://www.alwatan.com.sa/daily/26-1-16/writers/writers3.ht(/4)
منكر لعذاب القبر بحجة أنه لو كشف القبر لم يلحظ تغير
كيف نجيب من ينكر عذاب القبر ويحتج بأنه لو كشف القبر لوجد لم يتغير ولم يضق ولم يتسع ؟.
الجواب:
الحمد لله
قال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله :
" يجاب من أنكر عذاب القبر بحجة أنه لو كشف القبر لوجد أنه لم يتغير بعدة أجوبة منها :
أولاً :
أن عذاب القبر ثابت بالشرع قال الله تعالى في آل فرعون : ( النار يعرضون عليها غدواً وعشياً ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب ) غافر / 46 .
وقوله صلى الله عليه وسلم : " فلولا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع ثم أقبل بوجهه فقال : تعوذوا بالله من عذاب النار ، قالوا : نعوذ بالله من عذاب النار، فقال : تعوذوا بالله من عذاب القبر قالوا : نعوذ بالله من عذاب القبر" رواه مسلم 2867. وقول النبي صلى الله عليه وسلم في المؤمن : " يفسح له في قبره مد بصره " رواه البخاري 1374 ومسلم 2870 إلى غير ذلك من النصوص .
فلا يجوز معارضة هذه النصوص بوهم من القول بل الواجب التصديق والإذعان .
ثانياً :
أن عذاب القبر على الروح في الأصل ، وليس أمراً محسوساً على البدن فلو كان أمراً محسوساً على البدن لم يكن من الإيمان بالغيب ولم يكن للإيمان به فائدة لكنه من أمور الغيب ، وأحوال البرزخ لا تقاس بأحوال الدنيا .
ثالثاً :
أن العذاب والنعيم وسعة القبر وضيقه ، إنما يدركه الميت دون غيره والإنسان قد يرى في المنام وهو نائم على فراشه أنه قائم وذاهب وراجع ، وضارب ومضروب ، ويرى أنه في مكان ضيق موحش ، أو في مكان واسع بهيج ، والذي حوله لا يرى ذلك ولا يشعر به.
والواجب على الإنسان في مثل هذه الأمور أن يقول : سمعنا وأطعنا، وآمنا وصدقنا. "
مجموع فتاوى ابن عثيمين رحمه الله ( 2/29) . (www.islam-qa.com)(/1)
منهج آيل للسقوط! علي صالح طمبل*
الولايات المتحدة تمارس ضغوطاً على الدول الإسلامية لتعيد صياغة مناهجها المتشددة على حد زعمها.. وهذه الحكومات تسايس أمريكا وتعدها خيراً.
ما إن وقفت على هذا الأمر حتى وجدتني أتأمل في واقع التعليم في السودان؛ فمنذ الاحتلال الإنجليزي وحتى في عهد الحكومات الوطنية اللاحقة بدأ التعليم في السودان يأخذ منحى جديداً؛ فمن يدرس الرياضيات، واللغة الإنجليزية، والعلوم المختلفة يجد وظيفة محترمة، أما الذي يدرس العلوم الشرعية فسيكون محظوظاً جداً إذا وجد مدرسة يدرّس بها، أو حتى خلوة يعلم فيها القرءان.
وإذا قام الأستاذ بتدريس التربية الإسلامية فإن حصته تأتي آخر الحصص بعد أن يبدأ حلم الطلاب بمغادرة المدرسة يداعب أجفانهم عقب تناولهم للفول الذي يزيدهم نعاساً على نعاس.
ثم إن الأساتذة الذين كان يتم اختيارهم لتدريس التربية الإسلامية هم في أغلبهم أحوج ما يكونون إلى هذه (التربية) قولاً وسلوكاً، و(فاقد الشيء لا يعطيه).
أما المنهج فأمره عجب!؛ فهو منهج آيل للسقوط – إن لم يسقط مثل عمارة جامعة الرباط – ولا أعدو الحقيقة إذا قلت إن هذا المنهج المتهافت كان أحد الأسباب الرئيسية وراء تهافت الدين في حياتنا، واقتصاره على المظهر دون الجوهر، وعلى البدع والخرافات دون التوحيد والاتباع.
هذا المنهج والطريقة التي يدرس بها هما اللذان جعلا الدين في حياتنا زينة متضاربة الألوان؛ فنحاول سدىً تجميل واقعنا بها، وصورة نعلقها متى ما دعت الحاجة إليها، ونضعها عندما تتعارض مع مصالحنا الشخصية في أول امتحان يجابهنا في الحياة.
لا أبارح الحق حين أقول: إن هذا المنهج الهزيل هو الذي كان وراء كثير من الجرائم التي نخرت في عظام مجتمعنا؛ كان وراء جرائم المال العام، والفساد، والغش، والنفاق.
منهج يفتقر إلى أهم ما في الدين؛ ألا وهو التوحيد الذي لم يتعلمه من تعلمه إلا في المساجد؛ ليجدوا الفرق شاسعاً بين توحيد الحق وما درسوه في المدارس؛ لأن ما درسوه يتناول قضية التوحيد بسطحية شديدة.. وحتى الذين حفظوا القرءان كله لم يحفظوه إلا خارج إطار المدرسة؛ إذ أن المدارس لم تكن تؤهل لحفظ جزء واحد، وحتى إن حفظ لا يسلم من أخطاء التجويد والتفسير التي يقع فيها الأستاذ لقلة التأهيل.
وقد نجح المستعمر ومن شايعه من العلمانيين في مواقع المسؤولية في أن يجعلوا منهج تدريس التربية الإسلامية منهجاً بلا روح؛ لا يعرف من الدين سوى الفرائض والعبادات، ولا يأخذ من التاريخ الإسلامي سوى الحروب والنزاعات؛ لا يؤهل داعية، ولا يربي مؤمناً.
ولكن بالرغم من التحسن النسبي في هذا المنهج مؤخراً إلا أنه ما زال بحاجة إلى منهجية وترتيب للأولويات، ومزيد من الخطوات لترسيخ الدين في حياتنا بصورة كاملة؛ دون التفات للهمهمات التي تسري من حين لآخر في أوساط العلمانيين الذين كشفوا عن أنيابهم بعد اتفاقية نيفاشا؛ ليحاولوا محو الدين من حياتنا، وقصره على المساجد، ولكن هيهات لهم؟!.(/1)
منهج أهل السنة والجماعة
فالمنهج الحق الذي لا يجوز لأحد خلافه هو إتباع كتاب الله سبحانه وتعالى ، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وإجماع أمة الإسلام، وهذه الأصول الثلاثة هي أصول الدين المعصومة فقط التي لا يتطرق إليها خلل مطلقاً.
تعريف المنهج :
وأعني بالمنهج الطريق والسبيل , الذي كان عليه السلف الصالح رضي الله عنهم جميعا .
والمنهاج : الطريق الواضح , والمنهاج كالمنهج , وأنهج الطريق : وضح واستبان وصار نهجا واضحا بينا .( 1)
قال تعالى : {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} [ سورة المائدة : 48 ]
قال مجاهد : الشرعة السنة , والمنهاج الطريق الواضح . وقال قتيبة : الشرعة والشريعة واحد , والمنهاج : الطريق الواضح .
وقيل : إن الشرعة ابتداء الطريق , والمنهاج : الطريق المستمر .قاله ابن المبرد
وقيل : إن الشرعة الطريق الذي ربما كان واضحا , وربما كان غير واضح , والمنهاج الطريق الذي لا يكون إلا واضحا . ذكره ابن الأنباري .( 2)
وقد اختار الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم على سائر الأمم والملل
وأوضح لها الطريق وأبان لها السبيل كما قال تعالى : {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً} [سورة المائدة : 3]
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم وضوح الطريق , وأنه كالشمس في رابعة النهار .
عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : وَأَيْمُ اللَّهِ لَقَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى مِثْلِ الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا وَنَهَارُهَا سَوَاءٌ . قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ : صَدَقَ وَاللَّهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرَكَنَا وَاللَّهِ عَلَى مِثْلِ الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا وَنَهَارُهَا سَوَاءٌ .(3 )
فهذه الأمة أوتيت الكتاب واصطفيت , وكانت خير أمة أخرجت للناس , وهي شهيدة على الناس يوم القيامة , حين يشهد عليها رسولها صلى الله عليه وسلم .
قال تعالى : {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [سورة البقرة : 143]
وقال تعالى : {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [سورة آل عمران : 110]
والله تبارك وتعالى اختص واختار من هذه الأمة المصطفاة المختارة , طائفة بعينها , هي في هذه الأمة , كأمة الإسلام بين أهل الأديان وسائر الملل , وهذه الفئة والطائفة , هي آهل السنة والجماعة
ولهذه التسمية مدلولها ففيها وبها يتميز المنهج والخاصية العظمى لأهل السنة والجماعة .
عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ أَنَّهُ قَامَ فِينَا فَقَالَ أَلَا إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ فِينَا فَقَالَ أَلَا إِنَّ مَنْ قَبْلَكُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ افْتَرَقُوا عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً وَإِنَّ هَذِهِ الْمِلَّةَ سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ ثِنْتَانِ وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ وَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ وَهِيَ الْجَمَاعَةُ .( 4)
ومعلوم أن كثيراً ممن انتسبوا إلى الإسلام قد اختلفوا في حقيقة الدين ، وخالفوا كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم , وخرجوا عن إجماع الصحابة رضي الله عنهم أجمعين ، واتبعوا أهواءهم ، وجعلوا هذه الأهواء أقوالاً واعتقاداً ، وتحزبوا حولها وافترقوا بها عن سائر الأمة ممن بقي متمسكاً بالكتاب والسنة والإجماع ، وهذه الأهواء لا شك أنها نشأت جميعاً بعد قرن الصحابة فلم يكن من الصحابة أحد -بحمد الله- داعياً إلى بدعة ، ولا صاحب هوى , ولا صاحب طريقة مخالفة للكتاب والسنة ، وإنما نشأت البدع فيمن بعدهم ، وتصدى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لبيان هذه البدع وحاربوها وبينوا ضلالها وضلال أهلها .
وأهل السنة يردون كل قول ، وكل خلاف إلى هذه الأصول ، فما وافق الكتاب، والسنة ، والإجماع قبلوه ، وما خالفها رفضوه من قائله كائناً من كان ، فإنه لا أحد معصوماً ، ولا قولاً معصوماً سوى ذلك ، أي : الكتاب و السنة و الإجماع .
وأهل السنة و الجماعة , أكثر طوائف الأمة حرصاً على السنة وتدوينا لها , وحفظاً وعملاً , وإن وجد مَنْ غيرِهِم مَنْ يهتم بها فهو لخدمة هوى في نفسه , أو ليخلط حقا بباطل .
أما أهل السنة والجماعة فيهتمون بكتاب الله عز وجل حفظاً وتلاوة , ويهتمون بسنة النبي صلى الله عليه وسلم حفظاً وفهماً , وكذلك تصحيحاً وتضعيفاً .
ومما يميز أهل السنة و الجماعة و يختصون به دون غيرهم من الطوائف , أنهم أمة وسط , وهذه الوسطية تتجلى في أمور الإيمان و العقيدة و المنهج جميعاً .(/1)
وضوح المنهج سبب في صحة العبادة :
فوضوح المنهج وبيانه , له أعظم الأثر على صحة العبادة , وعلى صحة سير العبد إلى ربه ومولاه , فكم من أقوام قد اجتهدوا في العبادة , وأظهروا الطاعة ؛ فلما أخطئوا الطريق كانت عباداتهم هباءً منثورا .
قال تعالى : {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً (23)} [ سورة الفرقان : 23 ]
فربما يكون العبد عنده من العبادة , أو مدعيا للاستقامة , ولكن المنهج والطريق غير واضح , فوقع في شعبة من شعاب أهل البدع فهلك , ولذلك فالمنهاج يكون بالاستقامة على عقيدة أهل السنة وملازمة منهجهم ؛ مع الحذر من طرق أهل الهلكة , ويكون ذلك ملازما له إلى آخر الطريق .
فمهما حاول العبد أن يطرق بابا من الأبواب , أو أن يسير في درب من الدروب , بلا منهج واضح فلن يصل إلى الحق .
فهؤلاء الخوارج رغم كثرة صلاتهم وصيامهم , لما جهلوا المنهج وحادوا عن سبيل أهل السنة كانوا من أهل الضلالة .
عَنْ أَبَي سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ , قَالَ : قَالَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ , وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ , يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ , يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ , يُنْظَرُ إِلَى نَصْلِهِ فَلَا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ , ثُمَّ يُنْظَرُ إِلَى رِصَافِهِ فَمَا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ , ثُمَّ يُنْظَرُ إِلَى نَضِيِّهِ وَهُوَ قِدْحُهُ فَلَا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ , ثُمَّ يُنْظَرُ إِلَى قُذَذِهِ فَلَا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ , قَدْ سَبَقَ الْفَرْثَ وَ الدَّمَ , آيَتُهُمْ رَجُلٌ أَسْوَدُ إِحْدَى عَضُدَيْهِ مِثْلُ ثَدْيِ الْمَرْأَةِ أَوْ مِثْلُ الْبَضْعَةِ تَدَرْدَرُ , وَيَخْرُجُونَ عَلَى حِينِ فُرْقَةٍ مِنْ النَّاسِ , قَالَ: أَبُو سَعِيدٍ فَأَشْهَدُ أَنِّي سَمِعْتُ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَأَشْهَدُ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ قَاتَلَهُمْ وَأَنَا مَعَهُ فَأَمَرَ بِذَلِكَ الرَّجُلِ فَالْتُمِسَ فَأُتِيَ بِهِ حَتَّى نَظَرْتُ إِلَيْهِ عَلَى نَعْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي نَعَتَهُ . (5 )
فهؤلاء أهل عبادة وجهد واستقامة , كانوا يسموا بالقراء لشدة اجتهادهم وملازمتهم له , ورغم ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم : " يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ "ورغم ما جدوا فيه من الصلاة والصيام إلا أنهم " يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ " .
وهذا عمرو بن عبيد كان من أشهر عباد المدينة , قال سفيان بن عيينة : كان عمرو بن عبيد يصلي الصبح بوضوء العتمة بمكة .( 6)
ورغم ذلك كان منحرفا عن الطريق فقد كان معتزليا وقدريا.(7 )
فالطرق كثيرة , والشعاب متفرقة , و الأكثرون يلقون بأنفسهم في طرق الهلكة , فماذا يجب عليك حتى تتحقق من خطورة الأمر ؟ وتبحث عن طوق النجاة ؟! وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن الأمة ستفترق إلى ثلاث وسبعين فرقة , ستسير في طرق الهلكة ؛ ولن ينجو منها إلا واحدة كما بينا سابقا , ومن لم يهتم ببداية الطريق فلن يصل إلى النهاية .
فبهذا يتبين بوضوح وجلاء وجوب معرفة الحق , وأن تقول لنفسك لا أذوق غمضا حتى أصل إليه .
قال بشار : قال لي يوسف بن أسباط : تعلموا صحة العمل من سقمه , فإني تعلمته في اثنين وعشرين سنة .( 8)
وقال الأوزاعي : اصبر نفسك على السنة , وقف حيث وقف القوم , وقل بما قالوا , وكفَّ عما كفوا عنه , واسلك سبيل سلفك الصالح , فإنه يسعك ما وسعهم ولا يستقيم الإيمان إلا بالقول ؛ ولا يستقيم القول إلا بالعمل , ولا يستقيم الإيمان والقول والعمل إلا بالنية موافقة للسنة , وكان من مضى من سلفنا لا يفرقون بين الإيمان والعمل , وإنما العمل من الإيمان , والإيمان من العمل , وإنما الإيمان اسم جامع كما يجمع هذه الأديان اسمها , ويصدقه العمل , فمن آمن بلسانه وعرف بقلبه وصدق ذلك بعمله , فتلك العروة الوثقى التي لا انفصام لها , ومن قال بلسانه ولم يعرف بقلبه ولم يصدقه بعمله لم يقبل منه , وكان في الآخرة من الخاسرين .( 9)
وقد خشي النبي صلى الله عليه وسلم على الأنصار لما رأى من إيثارهم فبين لهم الطريق حتى يكون واضحا بلا لبس أو غموض .
فعن أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ , قَالَ : أَرَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُقْطِعَ مِنْ الْبَحْرَيْنِ , فَقَالَتْ الْأَنْصَارُ : حَتَّى تُقْطِعَ لِإِخْوَانِنَا مِنْ الْمُهَاجِرِينَ مِثْلَ الَّذِي تُقْطِعُ لَنَا , قَالَ: سَتَرَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي .( 10)(/2)
تأمل معي هذا الحديث ! لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم محبة الأنصار لإخوانهم من المهاجرين , وتعلقهم بهم , حتى أنهم لا يأخذون شيئا إلا وطلبوا مثله لإخوانهم من المهاجرين , فخاف عليهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يحرموا بعض الحق فيصرفهم عن الطريق , فحدد لهم المنهج الذي يعاملون به الناس في أمر الإيثار , حتى يلقوا النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة , وهم على الطريق .
وضوح المنهج سبب في الثبات على الطريق :
فَمِنْ نعم الله أن الطائفة الباقية على الحق ثابتة هي أهل السنة والجماعة , فإن الفرق تظهر , وتخبوا تنتشر , و تتقلص , وتذوب , وتنقطع , أما أهل السنة فإنهم على الطريق خلف نبيهم سائرون , قد وضح لهم الطريق وبانت أعلامه , فإذا وضح الطريق كان القذف في النار أحب إلى العبد من الكفر .
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ , عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا , وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ , وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ .( 11)
قال البيهقي رحمه الله(12 ). :
فأبان بهذا الخبر أن الشح بالدين من الإيمان لأن ذكر الحلاوة مثل الإيمان , وأراد أن الشحيحَ بدينهِ كالمتطعم بالشيء الحلو , فكما أن الراغب في الإيمانِ لا يسلم له مقصوده منه إلا وأن يكون شحيحا به , فإنه إذا شح بالإيمان لم يأت بما يفسده عليه , كما أن من وجد حلاوة الحلو لم يأت بما يبطلها عليه - والله أعلم - .
وتأمل حال الأنبياء , وهم يتعرضون لفتن تتزلزل لها الجبال , ولكنهم تخطوا جميع الصعاب , وجازوا كل المفاوز حتى عبروا الطريق .
فهذا نوح عليه السلام , يلقى من قومه الصدود والإعراض , وهو لا يعبأ بخلافهم له بل يمضي إلى ربه بلا التفات .
قال تعالى : {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (39)} [سورة هود : 38-39]
وهذا هود عليه السلام , يحرم الرفيق , ويسير في دربه وحيداً , والقوم يصارعونه , وهو صامد لا يلين ولا يعبأ بتهديدهم , بل يتحداهم بجمعهم وقوتهم إن يلحقوا به أذى فعجزوا .
قال تعالى : { قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)} [سورة هود : 54-56]
وهذا إبراهيم عليه السلام , يتحدى قومه بالحجة والبيان وبالدليل والبرهان , ولم تكسر له شوكة أو تلين له شكيمة .
قال تعالى : {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِي وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82)} [سورة الأنعام : 80-82]
بل حطم أصنامهم , سفه أحلامهم , وأظهر جهلهم وغباءهم , حتى القوه في النار وأنجاه الله .(/3)
قال تعالى : {قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60) قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمْ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنطِقُونَ (65) قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (67) قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمْ الأَخْسَرِينَ (70) وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71)} [سورة الأنبياء : 60-71]
ويخرج مهاجراً وحيداً غريباً معهُ رفيقة درب وهو زوجته سارة , فيذهبُ إلى بيت المقدس , وما تبعه على الطريق إلا لوط عليه السلام , ومن هنا يظهر قيمة الأجر كلما وعر الطريق كلما عظم أجر الرفيق , فلما آمن لوط أعلى الله قدره وصيره نبيا .
قال تعالى : { فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنْ الصَّالِحِينَ (27)} [سورة العنكبوت : 26-27]
وكذلك الحال مع موسى عليه السلام, لما اشتد الخطب , وعظم الأمر , وقل المعين فلما تبعه هارون جعله الله نبيا .
قال تعالى : {قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنْ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ (35)} [سورة القصص : 35]
ولما خرج موسى وهارون مع ذرية من بني إسرائيل أنجاه الله من القوم الظالمين .
قال تعالى : {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ (62)} [سورة الشعراء : 61-62]
وهذا شعيب , يهدده قومه بإخراجه , وطرده من بين أهله وعشيرته , وهو لا يعبأ بهم .
قال تعالى : {قَالَ الْمَلأ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88) قَدْ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89)} [سورة الأعراف : 88-89]
قال البيهقي( 13) :
فإن في هذا الباب عدة معان مرجعها كلها إلى الشح بالدين , أحدها : أن شعيباً عليه السلام سمى مهانته المستكبرين من قومه نجاة , وقد علم أن ضد النجاة الهلكة , ومن كان عنده أن الكفر هلكة و الإيمان نجاة لم يكن إلا شحيحا على دينه .
والثاني : أنه أشار بقوله على الله توكلنا ؛ إلا أنه قد فوض أمره إلى الله تعالى , فإن عصمه من الجلاءِ عنْ الوطنِ فذلك فضله , و إن جلاءهم و ما يهمون به من إخراجهم بالجلاءِ , أحب إليه من مفارقة الدين , وهذا من الشح بالدين لأن الله تعالى جعل الجلاء عن الوطن بمرتبة القتل , و الثالث : أن شعيبا عليه السلام فرغ إلى الله , و استنصره , و دعاه كما يدعو في الشدائد إذا عرضت له , و الخطوب إذا نزلت , فقال : ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق , استعظاماً منه لما كان يخاطب به , وتأملا أن يدافع الله عنه أذية الكفار , فلا يسمعوه في دينه ما يشق عليه سماعه , وهذا أيضاً من الشحِ بالدين , و معلوم أن الله تعالى يقيض علينا هذا ومثله لتتأدب بآداب الذين يصف لنا سيرهم ثم يمنعها , و بيان مذاهب الذين يصف لنا طرائقهم ثم يدعها و يتبع الأحسن من الوجهين دون الأقبح منها , لذا قال عز وجل : فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ؛ الآية , فصح أن الشح بالدين من أركانِ الدين , لا يجد حلاوة الدين من لا يجد الشح به في قلبهِ . . والله أعلم .(/4)
وهذا هو الأمر الذي يشهد العقل بصحته , لأن من اعتقد ديناً ثم لم يكن في نهايةِ الشح به و الإشفاق عليه , كان ذلك دلالة على أنه لا يعرف قدره و لا يبن موضع الحظ لنفسهِ فيه ومن كان الحقَ عندهُ حقيراً لم يسكنْ الحق قلبهِ وبالله العصمة .
ثم إن الشح بالدين ينقسم قسمين أحدهما : الشح بأصله كيلا يذهب , و الآخر : الشح بكماله كيلا ينقص , ألا ترى أن الله تعالى كما مدح شعيباً عليه السلام وأثنى عليه بأنه شح على دينهِ فلم يفارقهُ مع استكراهِ قومهٌ إياه على مفارقته , وكذلك قد مدح يوسُف عليه السلام بأن استعصمَ حين راودتهُ امرأة العزيز عنْ نفسهِ , وقال : ربِ السجنُ أَحبُ إلي مما يدعونني إليه , فَبَان أن الشحَ على شعبِ الإيمان كيلا ينقص كالشح على أصله كيلا يذهب , وهذا سبيل كل مفتون به , لأن الشحيحَ بماله كما شح بجماعته فشح بابعاضه الشحيح بنفسه يشح بأطرافه , كما يشح بحملهِ مدة و هكذا الدين . . وبالله التوفيق .
ومن الشحِ على الدينِ أن المؤمنَ إذا كان بين قوم لا يستطيع أن يوفي الدين حقوقه بين ظهرانيهم ويخشى أن يفتنوه عن دينه وكان إذا قاربهم يجد لنفسه مأمنا يتبوأه , و يكون فيه أحسن حالا منه بين هؤلاء , لم يقم بين ظهرانيهم وهاجر إلى حيث يعلم أنه خير له و أوفق , قال الله تعالى : ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله و رسولهُ ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله , وعلى هذا الوجه كانت هجرة أصحاب رسول الله ? , من ديار الكفار , وليلقوه , و يصحبوه , و يهاجروا معه , ثم هذا الحكم فيمن لم يمكنه اظهار دينهِ في موضعهِ باق بعده , و قد تكلمنا على هذه المسألة في كتاب السير من كتابِ السنن وروينا في كتابِ دلائل النبوة ما قاسى أصحاب رسول الله ? من الشدائد والمكاره لمحاورة الكفار حتى أمروا بالهجرة إلى أرض الحبشة ثم إلى المدينة و الله تعالى يوفقنا لمتابعة سلفنا , فنعم السلف كانوا لنا رضي الله عنهم . أهـ
وهذا يوسف عليه السلام , كيف يختار فتنة السجنِ على الوقوع في فتنةِ امرأة العزيز كما قال تعالى : {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنْ الْجَاهِلِينَ (33)} [سورة يوسف : 33]
فكل من خشي الفتنةُ على دينهِ في مكان شرع له الهجرة إلى مكان آخر يقيم فيه دينه و لو أقل فتنة .
قال تعالى : {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (100)} [سورة النساء : 100]
ومن سدت أمامه الأبواب , وحارت بعقله الفتن , وجب عليه الصبر مع إظهار دينه حتى يجعل الله له فرجا ومخرجا .
عَنْ خَبَّابٍ , قَالَ : كُنْتُ قَيْنًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ , وَكَانَ لِي عَلَى الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ دَيْنٌ فَأَتَيْتُهُ أَتَقَاضَاهُ , قَالَ : لَا أُعْطِيكَ حَتَّى تَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَقُلْتُ : لَا أَكْفُرُ حَتَّى يُمِيتَكَ اللَّهُ , ثُمَّ تُبْعَثَ , قَالَ : دَعْنِي حَتَّى أَمُوتَ وَأُبْعَثَ فَسَأُوتَى مَالًا وَوَلَدًا فَأَقْضِيكَ , فَنَزَلَتْ أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمْ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا .( 14)
وهذا بخلاف من يتقلبُ مع الأيامِ ويتلون مع الزمان إن وافقَ الحق هواه قبل وإن خالفهُ حاد عنهُ وسخط ؛ كحال من يستخفونَ من الناسِ ولا يستخفون من الله .
قال تعالى : {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10)} [سورة العنكبوت : 10]
ولقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم أعظم المثل في الصبر والتحمل والجهر بالحق وتبليغ أمر الله دون أن يداهن في أمر الله أحد , وهو يمضي إلى ربه صابراً محتسباً لا يعيقه شيء .(/5)
عَنْ أَنَسٍ , قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَقَدْ أُخِفْتُ فِي اللَّهِ وَمَا يُخَافُ أَحَدٌ , وَلَقَدْ أُوذِيتُ فِي اللَّهِ وَمَا يُؤْذَى أَحَدٌ , وَلَقَدْ أَتَتْ عَلَيَّ ثَلَاثُونَ مِنْ بَيْنِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ , وَمَا لِي وَلِبِلَالٍ طَعَامٌ يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ إِلَّا شَيْءٌ يُوَارِيهِ إِبْطُ بِلَالٍ , قَالَ أَبُو عِيسَى : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ , وَمَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ حِينَ خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَارِبًا مِنْ مَكَّةَ وَمَعَهُ بِلَالٌ إِنَّمَا كَانَ مَعَ بِلَالٍ مِنْ الطَّعَامِ مَا يَحْمِلُهُ تَحْتَ إِبْطِهِ .( 15)
وكان صلى الله عليه وسلم يثبت أصحابه , وهم يتحملون صنوف العذاب في اللهِ تعالى فيصبرهم , ويشد من أزرهم , ويخبرهم بحسن المثوبة عند الله , فيمر على آل ياسر وهم يعذبون , فيقول لهم : صبرا آل ياسر , فإن موعدكم الجنة , وكان صلى الله عليه وسلم يخشى على أصحابه الفتنة , فإن رأى منهم استعجالاً وحيرة يغضب لذلك , ويبشرهم بنصر الله .
عَنْ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ , قَالَ : شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ , قُلْنَا لَهُ : أَلَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا , أَلَا تَدْعُو اللَّهَ لَنَا , قَالَ : كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِي الْأَرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهِ , فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ , وَ مَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ , وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ , وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ , وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لَا يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ أَوْ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ .( 16)
ومن أعظم القصص التي يحار فيها العقل قصة الغلام والساحر , وكيف كان يعده الملك لأن يكونَ من أعظمِ أعوانهِ وأقرب خلانهِ , ولكن يسرَ اللهُ لهذا الغلام راهباً يدلهُ على الله , فعظم في كل يوم ثباتاً , وزاد في كل يوم علماً .
حتى تيقن من الحق , وتيقن الراهب من ثباتِ الغلام وصحة منهجه ,
فَقَالَ لَهُ الرَّاهِبُ : أَيْ بُنَيَّ أَنْتَ الْيَوْمَ أَفْضَلُ مِنِّي , قَدْ بَلَغَ مِنْ أَمْرِكَ مَا أَرَى وَإِنَّكَ سَتُبْتَلَى , فَإِنْ ابْتُلِيتَ فَلَا تَدُلَّ عَلَيَّ .
فَجِيءَ بِالْغُلَامِ , فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ : أَيْ بُنَيَّ قَدْ بَلَغَ مِنْ سِحْرِكَ مَا تُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَتَفْعَلُ وَتَفْعَلُ , فَقَالَ : إِنِّي لَا أَشْفِي أَحَدًا , إِنَّمَا يَشْفِي اللَّهُ , فَأَخَذَهُ فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ حَتَّى دَلَّ عَلَى الرَّاهِبِ .(/6)
ثُمَّ جِيءَ بِالْغُلَامِ , فَقِيلَ لَهُ : ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ , فَأَبَى فَدَفَعَهُ إِلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ , فَقَالَ : اذْهَبُوا بِهِ إِلَى جَبَلِ كَذَا وَكَذَا فَاصْعَدُوا بِهِ الْجَبَلَ , فَإِذَا بَلَغْتُمْ ذُرْوَتَهُ , فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ , وَإِلَّا فَاطْرَحُوهُ , فَذَهَبُوا بِهِ فَصَعِدُوا بِهِ الْجَبَلَ , فَقَالَ : اللَّهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ فَرَجَفَ بِهِمْ الْجَبَلُ , فَسَقَطُوا , وَجَاءَ يَمْشِي إِلَى الْمَلِكِ , فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ : مَا فَعَلَ أَصْحَابُكَ ؟ , قَالَ : كَفَانِيهِمُ اللَّهُ فَدَفَعَهُ إِلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ , فَقَالَ : اذْهَبُوا بِهِ فَاحْمِلُوهُ فِي قُرْقُورٍ فَتَوَسَّطُوا بِهِ الْبَحْرَ , فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ , وَإِلَّا فَاقْذِفُوهُ , فَذَهَبُوا بِهِ , فَقَالَ : اللَّهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ , فَانْكَفَأَتْ بِهِمْ السَّفِينَةُ , فَغَرِقُوا , وَجَاءَ يَمْشِي إِلَى الْمَلِكِ , فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ : مَا فَعَلَ أَصْحَابُكَ ؟ , قَالَ : كَفَانِيهِمُ اللَّهُ , فَقَالَ لِلْمَلِكِ , إِنَّكَ لَسْتَ بِقَاتِلِي حَتَّى تَفْعَلَ مَا آمُرُكَ بِهِ , قَالَ : وَمَا هُوَ , قَالَ : تَجْمَعُ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ , وَتَصْلُبُنِي عَلَى جِذْعٍ , ثُمَّ خُذْ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِي , ثُمَّ ضَعْ السَّهْمَ فِي كَبِدِ الْقَوْسِ , ثُمَّ قُلْ بِاسْمِ اللَّهِ رَبِّ الْغُلَامِ , ثُمَّ ارْمِنِي , فَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ قَتَلْتَنِي , فَجَمَعَ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ , وَصَلَبَهُ عَلَى جِذْعٍ , ثُمَّ أَخَذَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ , ثُمَّ وَضَعَ السَّهْمَ فِي كَبْدِ الْقَوْسِ , ثُمَّ قَالَ : بِاسْمِ اللَّهِ رَبِّ الْغُلَامِ , ثُمَّ رَمَاهُ , فَوَقَعَ السَّهْمُ فِي صُدْغِهِ , فَوَضَعَ يَدَهُ فِي صُدْغِهِ فِي مَوْضِعِ السَّهْمِ , فَمَاتَ , فَقَالَ النَّاسُ : آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ . . آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ . . آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ , فَأُتِيَ الْمَلِكُ فَقِيلَ لَهُ : أَرَأَيْتَ مَا كُنْتَ تَحْذَرُ قَدْ وَ اللَّهِ نَزَلَ بِكَ حَذَرُكَ قَدْ آمَنَ النَّاسُ .(17 )
الله أكبر غلام بمفرده قد عرف الطريق وما هدأ له بال وما استراح له خاطر حتى سحب خلفه أمة فما إن ألقي بهم في النار إلا ودخلوا الجنة ونزل فيهم قرآنا يتلى .
قال تعالى : { وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَات وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَىكُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11)} [سورة البروج : 1-11]
أخي الحبيب : إذا عرفت ما تطلب هان عليك الطرق , واعلم أن الله لم يرض للجنة ثمنا سوى النفس وما تملك قال تعالى : {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)} [سورة التوبة : 111]
كتب إبراهيم بن أدهم إلى سفيان الثوري : من عرف ما يطلب هان عليه ما يبذل , ومن أطلق بصره طال أسفه , ومن أطلق أمله ساء عمله , ومن أطلق لسانه قتل نفسه .(18 )
أخي الحبيب : لقد أصبح من الواجب تحديد المنهج , وبيان الطريق قبل أن يخطو العبد خطوة , ولا يكون ذلك إلا بالعلم .
[من كتاب "المنهج وأثره في حياة أهل السنة والجماعة" للشيخ]
________________________________________
( 1) لسان العرب (6/4554)
( 2) زاد المسير (2/284)
( 3) حسن : رواه ابن ماجة (5)
( 4) أبو داود (3981) أحمد (16490)
( 5) البخاري (3610) مسلم (1064)
(6 ) أخبار مكة (467)
(7 ) قال الذهبي في ترجمته "الميزان" (6410): المعتزلي القدري مع زهده وتألهه .
(8 ) حلية الأولياء (6/144)
(9 ) حلية الأولياء (6/144)
(10 ) رواه البخاري (2377)
( 11) البخاري (16) مسلم (43)
( 12) البيهقي "شعب الإيمان" (2/236)(/7)
( 13) البيهقي "شعب الإيمان" (2/236)
(14 ) البخاري (2091) مسلم (2316)
( 15) الترمذي (2472) ابن ماجة (151) أحمد (13641)
( 16) البخاري (3612)
( 17) رواه مسلم (3005)
(18 ) شعب الإيمان (2/248)(/8)
منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله
المحتويات
مقدمة
لماذا الحديث عن منهج الأنبياء؟
المعلم الأول: دعوة التوحيد
المعلم الثاني: تعبيد الناس لله وحده
المعلم الثالث: لا أسألكم عليه أجراً
المعلم الرابع: الأمة الواحدة
المعلم الخامس: بلسان قومه
المعلم السادس: رعي الغنم
المعلم السابع: الوضوح
المعلم الثامن : كان الأنبياء يعيشون قضية عصرهم
المعلم التاسع: الولاء على أساس الحق
المعلم العاشر: الاستعانة بالله واللجوء له
المعلم الحادي عشر: حقيقة التمكين
مقدمة
الحمد لله الكريم الوهاب، الرحيم التواب، غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد : فهذا الموضوع حول منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله .
ولا أظن أن مثلي وفي هذه العجالة يمكن أن يأتي بمنهج الأنبياء في الدعوة إلى الله عز وجل، فنتحدث عن هذا المنهج بفروعه ومعالمه لكنها ومضات وخواطر أملاها الواقع الذي نعيشه.
ثمت ثوابت اتفق عليها أنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم، وهي قضايا ليست بجديدة وكيف تكون جديدة وهي قضايا المنهج التي يجب أن تكون معالم واضحة لا يجهلها أحد، معالم لا يزيغ عنها إلا من ضل وانحرف، وكيف تكون جديدة وهي حديث عن منهج الأنبياء الذي نقرأه في كتاب الله جل وعلا، فكلنا يقرأ القرآن صباح مساء ويردد آيات الله "عز وجل" التي فيها الحديث عن قصص الأنبياء وعن منهج الأنبياء وعن دعوتهم.
ومن ثم فالحديث مع أمثالكم عن منهج الأنبياء لن يكون حديثاً جديداً، إنما هو تذكير بحقائق نعرفها وندركها جميعاً، وهو إعادة لأفراد المسائل والمواقف التي نقفها في الدعوة إلى الله عز وجل إلى أصولها وجذورها.
لماذا الحديث عن منهج الأنبياء؟
يدعونا للحديث عن هذا الموضوع أمور عدة :
أولها: أن الحديث كثير عن المنهج، فيتحدث الكثير اليوم عن التغيير ومناهجه، وتتنوع الأطروحات الإسلامية ونتنافس في طرح برامج التغيير وبرامج الإصلاح، وتنوع الاجتهادات واختلاف المواقف أمر لا غبار عليه بل لا يمكن سواه، لكن المرفوض أن تتحول الجزئيات والاجتهادات إلى ثوابت، وأن تتحول الاقتناعات الشخصية إلى قضايا منهجية عند البعض يوالى ويعادي من أجلها، وينطلق من اقتناعات شخصية أو اجتهادات ليرسم من خلالها منهجاً يرفض الدعوة إلا من خلاله، ويسفه الآراء التي تنطلق من سواه، ويوالي ويعادي عليه، ويستنبط من خلال ذلك معايير لتقويم الناس والبرامج الدعوية.
إن قضية المنهج تهتم بالثوابت والإطار العام، ومع تأكيدنا لضرورة انضباط المسائل الاجتهادية بضوابط الشرع، ورفضنا الشديد للقسمة الضيزى لشرع الله عز وجل إلى لب وقشور - مع رفضنا لذلك كله - فإن الحكم الشرعي قضية لا تقبل النقاش، والنص الشرعي لا يجوز المساومة عليه، لكن مع كل ذلك لا يسوغ أن تتحول المسائل الاجتهادية إلى قضايا يؤثم فيها الناس ويخطئون ويضللون، أو أن تدعى الأمة أن تجتمع على رأي فلان أو اجتهاد علان، ولا يجوز أن تتحول هذه القضايا إلى معيار للولاء والبراء وتقويم الناس ووزنهم.
إن بعض الناس يرسم ثوابت ومنطلقات يمليها عليه اجتهاده، وربما تقليده لفلان من الناس، أو هي انعكاس لوضع عاشه فيرسم هذه الثوابت ثم يسعى بعد ذلك لتحويلها إلى منهج من خلال البحث عن نصوص شرعية تؤيد ذلك، ولو أدى إلى أن يلوي أعناقها ليًّا. أو من خلال اجتهادات لبعض آحاد السلف تتحول هذه الاقتناعات عند صاحبنا إلى منهجٍ من خالفه فهو منحرفٌ ضال أفاك أثيم.
وثمة طوائف لا تزال في عزلة عن النص الشرعي وغربة عن منهج الطائفة المنصورة، فالمنهج لا يعدو أن يكون حسابات مرحلية أو قضايا استراتيجية، ولهذا قد لا تكاد تفرق أحياناً بين حسابات بعض هؤلاء الدعاة وبين حسابات الساسة وأصحاب الأيدلوجيات الأرضية.
لأجل هذا وذاك كان لا بد من الحديث عن منهج الأنبياء حتى لا تتحول القضية إلى فوضى وتسيب وانحراف عن النص الشرعي والثوابت الشرعية، وحتى لا نشتط ونغلو فنحول اجتهاداتنا الشخصية التي لم يرد فيها نص واضح صريح تتعبد الأمة به.(/1)
ثانياً: العصمة: فمن مزايا منهج الأنبياء أن الله سبحانه وتعالى قد عصمهم من الانحراف والخطأ والخلل، وعصمهم سبحانه وتعالى من الأهواء والأغراض، ومن ثم فاتباع سبيلهم ضمان بإذن الله للاستقامة على الطريق القويم ، لذا فمن رحمة الله سبحانه وتعالى بعباده أنه جل في علاه لم يتركهم لاجتهادات البشر أو يعبدهم لآراء مثلهم، واقرأ في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فهل أنت واجد دليلاً واحداً يأمر الناس بالتقليد ويحثهم عليه؟ إنك لن تجد الحديث عن التقليد في كتاب الله وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم إلا في مقام الذم والعيب لأولئك الذين عطلوا عقولهم وعطلوا منطق البرهان والحجة ليسيروا وراء رأي فلان أوفلان من الناس؛ فتكون آراؤه حجة ملزمة للناس ودينا لا يسعهم الخروج عليه.
قد يكون البشر أمة، وقد يكونون دعاة، وموجهين وأعلاماً للأمة تستفتيهم وتصدر عن رأيهم وتنتظر أراءهم وتستضيء بقولهم، لكن ذلك أبداً لا يمكن أن يحوِّلهم إلى معصومين، وإلى حجة بين الله عز وجل وخلقه، ينبغي عليهم أن يتبعوهم؛ فمن خالف قولهم واجتهادهم سار ضالاً منحرفاً زائغاً.
ويرسم ابن عباس رضي الله عنه للأمة معالم هذا المنهج فيقول: أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقولون قال أبو بكر وعمر يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء.
ومن هنا كانت الحاجة ماسة وملحة للحديث عن منهج الأنبياء؛ لأن البديل عن منهج الأنبياء هو أن يتعبد الناس بآراء البشر أمثالهم، والبشر أياً كانوا لا يمكن أن يكونوا محجة بيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، إنها طريق واحدة وسبيل واحدة هي سبيل المعصوم محمد صلى الله عليه وسلم وما عداه فهو عرضة للخلل والخطأ والزيغ والانحراف إلا من عصم الله عز وجل.
ثالثاً: يقول الله سبحانه وتعالى مخاطباً نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم :"أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده قل لا أسألكم عليه أجراً" فيأمر الله سبحانه وتعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن يقتدي بمنهج الأنبياء وأن يقتفي أثرهم وأن يسير على سنتهم، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم خطاب لأمته من بعده إلى قيام الساعة ونتساءل معشر الإخوة الكرام لماذا يُبدئ القرآن ويعيد في الحديث عن منهج الأنبياء والحديث عن قصص الأنبياء وتتكرر الآيات والسور عن هذا المنهج إشارة أو إيماء أو تفصيلاً، فلا يكاد يخلو جزء من القرآن الكريم من قصة دعوة نبي من الأنبياء، أو إشارة إليه وإلى ما جرى بينه وبين قومه، وفي هذا دعوة إلى أولئك الذين يقرؤون ذلك الكتاب ويتعبدون الله بتلاوته إلى أن يسيروا وفق هذا المنهج وأن يرتسموا معالمه ويسلكوا خطاه.
رابعاً: الأنبياء هم قمة النجاح والإنجاز البشري، وقد اعتاد الناس أيًّا كانت اتجاهاتهم ومذاهبهم وطرقهم أن يثنوا على أولئك الذين ينجحون وينجزون ويبدعون، ولا يزال الناس يتحدثون كثيراً عن عوامل نجاح فلان وعن سر إبداع فلان، فأنت ترى الأدباء يعتنون كثيراً بالحديث عن سيرة فلان وفلان من الأدباء الذين قد تحولوا إلى رفات، ويتحدث المؤرخون والساسة أيضاً عن أولئك الناجحين ويقرؤون سيرهم لينهلون منها معالم يقتفونها ويسيرون في إثرها، ولا يزال المصلحون والمجددون والدعاة يحظون بعناية أهل العلم وأهل الفكر والتوجيه: دراسة لأسباب النجاح، وتحليلاً لعوامل النبوغ والارتقاء، وهم يستحقون ذلك بلا شك لكن قمة النجاح وغاية الإبداع هو ما حققه أنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم.
إن الله سبحانه وتعالى قد اختار الأنبياء لهذه الدعوة وهو الخلاق العليم ((ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير)) ((وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة سبحانه وتعالى عما يشركون)) أفليس الدعاة إلى الله أحوج إلى دراسة سير الأنبياء وطريقة دعوتهم وكيف حققوا مقاصدهم ونجحوا فيما يسعون إليه؟
إنهم أولى بأن يُعتنى بسيرهم؛ لأنهم في قمة البشرية والنجاح والإبداع والإنجاز، فكيف وهم مع ذلك معصومون ؟فكيف ونحن مأمورون بالإقتداء بهم متعبدون بالسير على طريقهم؟
هذه عوامل وأسباب تؤكد لنا ضرورة العناية بدراسة منهج الأنبياء، ونحن حينما ندرس منهج الأنبياء فإننا ينبغي أن نأخذه جملة بكل تفاصيله وبكل معالمه، ولا يسوغ أبداً أن نقتطع أجزاء مما دعا إليه الأنبياء فنحتج بها ونتحدث عنها ونخاصم من أجلها وندع ما سواها، ولا يسوغ أن نرسم منهجاً ونقرر ثوابت ثم نبحث بعد ذلك عما يؤيده من منهج الأنبياء، فينبغي أن نتجرد من الأهواء والتبعية والتقليد إلا لكتاب الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وحينها نستطيع أن نرسم معالم هذا المنهج واضحاً جليًّا مشرقاً بعيداً عن الزلل والانحراف، ولهذا فليس كل من تحدث عن منهج الأنبياء يكون حديثه حديثاً كاملاً كافياً مبرءاً من الهوى والمقررات السابقة التي يأتي إليها فيبحث عما يؤيدها.(/2)
وأنا حين أقول ذلك لست أدعي العصمة فيما أقول؛ فأنا بشر لا أعدو أن أكون قد دونت بعض ما ظهر لي من خلال تلاوة آيات الله عز وجل فيما قصه سبحانه عن أنبيائه، فسعيت إلى أن أشير إلى بعض المعالم التي اتفق عليها الأنبياء –جميعهم أو معظمهم- وأرى أنها ينبغي أن تكون معالم وثوابت لمنهج الدعوة إلى الله عز وجل، وقد يكون في بعض ما أراه خطأ أو شطط وهذا دليل على سلامة منهج الأنبياء؛ لأن البشر أيًّا كانوا لا يمكن أن يتجردوا عن الأهواء والأخطاء.
المعلم الأول: دعوة التوحيد
فقضية التوحيد هي قضية القضايا في دعوة الأنبياء، وهي الأساس الذي سعى إليه أنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم ،قال الله سبحانه وتعالى: ((و لقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت)) ، ففي كل أمة خلت ومضت بعث الله عز وجل نبيًّا يدعو إلى عبادته والكفر بالطاغوت، وينفي سبحانه وتعالى -وهو عز وجل أعلم برسله- أن يكون أرسل رسولاً بغير شهادة التوحيد ((و ما أرسلنا قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون)).
وفي قصص الأنبياء المتعاقبة يذكر الله سبحانه أن كل نبي قد قال لقومه أول ما قال ((اعبدوا الله ما لكم من إله غيره)) ،فما دام كل نبي أتى وبعث من أجل التوحيد، وأرسل من أجل شهادة ألا إله إلا الله، فمن يسير على منهجهم ويتبع خطاهم ما لم تكن قضية التوحيد هي القضية الأساس لديه، والأول في سلم اهتماماته فليعد النظر في منهجه.
إننا نرى في عصرنا الحاضر صوراً صارخة من العدوان على التوحيد وركوب الشرك والطاغوت، أليس من المناقضة لأصل التوحيد ما نراه من أولئك الذين يمرغون جباههم أمام الأضرحة ساجدين أو متبركين بتربة ضريح وليًّ أو إمام؟ أو أولئك الذين يتوجهون لهم بالدعاء من دون الله عز وجل معتقدين فيهم قضاء الحاجات وتنفيس الكربات؟ كم في بلاد الإسلام من طواغيت تشد إليها الرحال وتعقد عليها الخناصر؟ أفيسوغ أن تقوم دعوة من الدعوات وتجعل هذه الصورة الصارخة من الشرك المناقض للتوحيد قضية هامشية أو جزئية من جزئيات الدعوة؟
ومن صور العدوان على التوحيد ما يعتقده أهل الخرافة أن النبي صلى الله عليه وسلم أو أولياءهم يعلم الغيب أو يملك ضرًّا ونفعاً، أو أولئك الذين يفضلون كلام البشر وما ابتدعوه على كلام الله عز وجل، أتكون تلك الدعوة التي تحمل بين صفوفها بعض هؤلاء أو تلتقي معهم أو تهادنهم وتجاملهم دعوة تسير على منهج الأنبياء؟
و من صور العدوان على التوحيد والولوج في الشرك ما يعتقده البعض من تكفير أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أبر هذه الأمة وأصدقها لهجة، وما يتعبدون فيه لله بزعمهم من سب خيرة الخلق وعيبهم وتنقصهم، واعتقاد أن أئمةً لا يجاوز عددهم عدد شهور العام هم المعصومون الذين يعلمون الغيب، والناس بهائم لا عقول لهم وليس عليهم إلا أن يسيروا وراءهم وكم يفعل هؤلاء عند البقيع أو عند أضرحة أئمتهم مما يتفطر له قلب كل موحد مخلص، أفتكون تلك الدعوة التي تصور خلافها مع هؤلاء خلافاً جزئيًّا؟ أو تلك التي تداريهم أو تسكت عن شركهم وضلالهم أتكون دعوة على منهاج النبوة؟
و من صور العدوان والجرأة على الشرك اتخاذ طائفة من البشر أنداداً من دون الله يشَّرعون ويُحلُّون ويحرَّمون ويصدرون قانوناً يبيح ما حرم الله عز وجل ويحرم ما أباح الله ويبدل شرع الله سبحانه وتعالى، ويصبح هذا القانون شرعاً مطاعاً عند الناس متبعاً يقاد الناس إليه ويخضعون له ويجرِّمون ويبرَّئون على أساسه. لقد قال الله عز وجل عن أولئك الذين أطاعوا أحبارهم وعبادهم في إباحة بعض ما حرم الله وتحريم ما أباح :((اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله)).
وقال مخاطباً للمؤمنين أنهم لو أطاعوا المشركين في إباحة مسألة من المسائل في إباحة الميتة أنهم مشركون :((و إن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون))، فكيف بمن شرَّع وأحل وحرم وبدَّل شرع الله عز وجل وصيَّر ذلك شرعاً يقاد الناس إليه ويخضعون له؟ أليس هذا أصرخ عدوان وجرأة على مقام الربوبية وعلى مقام الله سبحانه وتعالى؟
إن الدعوة التي تسعى للالتقاء مع هؤلاء في منتصف الطريق أو ترى لها مسوغاً في السكوت عن شركهم وضلالهم دعوة بعيدة كل البعد عن منهج الأنبياء.(/3)
إن الذي يدين الله سبحانه وتعالى بالعقيدة الإسلامية ويتخذها منهجاً ونبراساً له ما لم يتخذه موقفاً واضحاً محدداً من أعداء العقيدة سواء أكانوا عباد قبور وأضرحة، أم كانوا سبابة لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أم كانوا باطنيين يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر المحض، أم كانوا من المغضوب عليهم والضالين إخوان القردة وعباد الصليب، إن الذي لا يتخذ من أولئك موقفاً واضحاً محدداً ليس إلا جاهلاً ببدهيات العقيدة مما لا يعذر مسلم بجهله، أو متاجر بدعوى اتباع العقيدة والدعوة إليها ، أليس الأنبياء كلهم جميعاً قد بعثوا لعبادة الله واجتناب الطواغيت؟ فأين اجتناب الطواغيت؟
المعلم الثاني: تعبيد الناس لله وحده
لقد كانت مقولة كل نبي لقومه (اعبدوا الله مالكم من إله غيره) وهي - مع ما فيها من دلالة على التوحيد- دليل على أن دعوة الأنبياء إنما تهدف وتقصد تعبيد الناس لله سبحانه وتعالى، ومن ثم فالداعية السائر على خطى الأنبياء المقتفي آثارهم جدير بأن يتذكر كل حين ويستشعر كل آن أن غاية دعوته ومنتهى مقصده هو تعبيد الناس لله رب العالمين، وأن يعطي سائر أهدافه مكانها الطبيعي وحجمها المعقول؛ حينها لن يصبح داعية لنفسه ولا لتجميع الناس حول شخص أو حتى حول اجتهاداته أو اقتناعاته.
المعلم الثالث: لا أسألكم عليه أجراً
قال سبحانه وبحمده :((كذبت قوم نوح المرسلين إذ قال لهم أخوهم نوحٌ ألا تتقون إني لكم رسولٌ أمين فاتقوا الله وأطيعون * وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين))، وقال سبحانه وبحمده ((كذبت عادٌ المرسلين إذ قال لهم أخوهم هودٌ ألا تتقون)) إلى آخر الآيات، وكل نبي يقول هذه المقولة ((ما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين)).
ويأمر الله سبحانه وتعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن يقولها واضحة صريحة ((قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين)) ، ومن ثم فإن السائر على منهج الأنبياء ينبغي أن يقولها صريحة بلسان المقال ((ما أسألكم عليه أجراً)) إنني أدعو إلى قضية واحدة إلى عبادة الله ((اعبدوا الله ما لكم من إله غيره)) عبادة الله بمعناها الشامل ومفهومها الواسع فلست أريد أي أجر كان.
إن أولئك الذين يتاجرون بالكلمة فيقولون كلمة أو يسطرون أخرى ويرجون من ورائها أجراً، لا يفقهون حق الفقه منهج الأنبياء أو هم متاجرون بدعوتهم، وقد يبلغ الأمر أن يقول أحدهم كلمة ويشهد الله على ما في قلبه، وهي كلمة يريد من وراءها أجراً قد يكون مالاً محدداً يقبضه ويتلقاه، وقد يكون شهرة بين الناس أو جاهاً أو غير ذلك.
إن قوله تعالى : ((ما أسألكم عليه من أجر)) نكرة في سياق النفي قد دخلت عليها من الزائدة فهي في أعلى صور العموم، إن أي أجر وأي ثمرة عاجلة يريدها صاحبها في الدنيا كفيلة بأن تبعثر عليه الأوراق، وهي وثيقة اتهام له بانحرافه عن منهج الأنبياء، أما الدعاة الصادقون الذين يقتفون هدي النبوة ويسيرون على منهجها فهم أولئك الذين يقولون ما يعتقدون أنه الحق ويدينون الله عز وجل به دون أن يرجوا من وراء ذلك أجراً في الدار الدنيا أيًّا كان ذلك الأجر مالاً أو جاهاً.
المعلم الرابع: الأمة الواحدة
تبدو هذه قضية واضحة المعالم، يدركها قارئ كتاب الله عز وجل حين يتأمل أي سياق ورد في قصص الأنبياء، بل قد نص الله جل وعلا على ذلك تعقيباً على قصص الأنبياء قائلاً: ((و إن هذه أمتكم أمة واحدة)) ، إن هذا الأمة الواحدة لا ينتهي مداها في دار الدنيا بل يمتد هناك إلى الدار الآخرة حين يقف الناس للحساب والجزاء والمساءلة، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يدعى نوح يوم القيامة فيقال له هل بلغت؟ فيقول نعم، فيدعى قومه فيقال: لهم هل بلغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير وما أتانا من أحد فيقال لنوح من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته ،قال: فذلك قوله "وكذلك جعلناكم أمة وسطا" قال :والوسط العدل فتدعون فتشهدون له بالبلاغ ثم أشهد عليكم" رواه البخاري.
إن هذا يجعل المسلم يتخطى حاجز الزمن؛ ليرى أنه ينتمي إلى جيل واحد وإلى أمة واحدة وحزب واحد ألا وهو حزب الله ((أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون))، فهو يرى أن تاريخه لا يقف عند حدود ستين عاماً عند آبائه وأجداده، أو عند فلان وفلان، بل ليس عند حدود هذه الأمة؛ فهو تاريخ ضارب بأطنابه كله في جذور التاريخ منذ أن هبط آدم عليه السلام؛ فهو يرى أنه ينتمي إلى أمة واحدة.
وتجنى هذه الثمرة وتتم وحدة هذه الأمة يوم القيامة حين تشهد هذه الأمة لأنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم، هناك في المحاكمة والمقاضاة، حينها يتصل الوثاق وهذا الرباط فتأتي هذه الأمة لتشهد يوم يهان الظالمون ويسحبون على وجوههم، لتشهد بأن نوح بلغ الرسالة، وأن هوداً أدى الأمانة، وأن صالحاً قد بلغ ما أمر به، وتشهد لجميع أنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم.(/4)
إن من نتاج وحدة الأمة أن اتحدت مواقف أعدائهم منهم، واقرؤوا كتاب الله عز وجل لتروها صورة واحدة كل نبي يعيش صراعاً مع طغاة قومه ((قال الملأ الذين استكبروا من قومه)) وهكذا يتزعم الملأ قضية المواجهة مع أنبياء الله عز وجل، ومن العجيب أن تتحد الأساليب والطرق ولهذا يقول سبحانه وتعالى :((أتوا صوبه بل هم قومٌ طاغون)) فكأن هؤلاء قد تواصوا واتفقوا على أسلوب واحد يواجهون به رسل الله والداعين إلى منهجه، لكنهم قوم طاغون يبدؤون العدوان بالسخرية و الاستهزاء ((وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين)) ((قالوا يا شعيب ما نفقه كثيراً مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفاً ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز)) إنها لهجة واحدة الاستهزاء وتشويه السمعة ((كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحرٌ أو مجنون * أتواصوا به بل هم قوم طاغون)) ثم يتجاوز الأمر إلى التشكيك في النوايا والمقاصد ((قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر)) ،((إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها فسوف تعلمون))، فرعون يشكك في نوايا أولئك الذين آمنوا أن إيمانهم كان مؤامرة اتفقوا فيها مع موسى ليبطشوا بفرعون ليخرجوه من أرضه، وهكذا يقول عن موسى ((وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد)).
وقوم نوح يتهمون أتباعه بأنهم أقوام يسترزقون من وراء هذه الدعوة ويتلقون على ذلك أجراً ولذلك يقول ((وما أنا بطارد المؤمنين)) ، ((ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم أفلا تذكرون الخ…))، أي مال يملكه نوح عليه السلام حتى ينفقه على أولئك الذين يدعي هؤلاء أنهم إنما اتبعوه لأجل المال، وهكذا يسير هؤلاء وفق هذه الطريقة وهذا الأسلوب القذر في الحديث عن النوايا والمقاصد ويطول هذا الأمر ويشتد ويأبى أنبياء الله الخضوع أمام هذه السخرية أو الاستهزاء أو التشويه أو المساومة والإغراء؛ فيلجأ أولئك إلى الإيذاء البدني والتصفية ((و كان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون قالوا تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله ثم لنقولن لوليه ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون الخ..))، وقال سبحانه وبحمده :((قالوا لئن لم تنته يا نوح لتكونن من المرجومين)) وفرعون يقول :((لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل ولتعلمن أينا أشد عذاباً وأبقى))، ((ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد)).
هذه المواقف وغيرها هي التي ترجمها الشيخ النجدي حين حضر ذلك المؤتمر الغاشم الذي عقده ملأ قريش في مؤامرة تُكاد للنبي صلى الله عليه وسلم، فأثنى ذلك الشيطان على ذاك الاقتراح الذي رأى أن يختار من كل قبيلة شابًّا جلداً فيتفرق دمه بين القبائل، إن هذا المنطق ليس اجتهاداً ولا إبداعاً منه، إنما هو ميراث ورثه من سلفه أولئك الملأ الذين تواصوا بذلك المنطق، وهكذا كانت وتكون مواقف الملأ من كل دعوة صادقة جادة على منهج الأنبياء ولهذا يقولها ورقة -رضي الله عنه- للنبي صلى الله عليه وسلم حين أتاه وهو يرجف فؤاده ليتني حيًّا إذ يخرجك قومك، قال صلى الله عليه وسلم: أو مخرجيًّ هم؟ قال: نعم ما جاء رجل بمثل ما أتيت به إلا عُودِيَ. إنه منهج واحد وطريق واحد إنه العذاب والإيذاء ومن ثم فإن أي دعوة تنتظر أن تهادن أهل الشرك والطغيان والفجور والنفاق، وتنتظر أن تتحاشى اللقاء مع الأعداء فهي دعوة ينبغي لها أن تبحث لها عن منهج أو موقع خارج منهج الأنبياء.
المعلم الخامس: بلسان قومه
قال عز وجل :((وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء)). فقد كان الأنبياء من أقوامهم ويتكلمون بألسنتهم وهذا يحقق مقاصد شتى:
أولها: حتى يفقهوا ما يقول، ويدركوا ما يدعوهم إليه، ومن ثم فالخطاب الدعوي الموجه للناس ينبغي أن يكون واضحاً لا لبس فيه ولا غموض، ولا يسوغ أن تتجاوز الرغبة في جمال العبارة وحسن الأسلوب لتحول الحديث إلى ألغاز يُحتاج في إدراكه إلى خبراء في حل رموزه والبحث عن كوامنه، ولهذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم وهو أفصح الناس يتكلم بكلام فصل لو عدَّه العاد لأحصاه، ولم يكن صلى الله عليه وسلم يسرد كسائر الناس، بل كان يكرر الكلمة ثلاثاً، ولئن دعت الداعية الضرورة بحيث لا يمكنه الإفصاح فيلجأ إلى التلميح والإيماء فإنه لا ينبغي أن يغلو فيبالغ في التعمية فلا يدركها إلا هو فيصبح المعنى في بطن الشاعر، وحينها لا تصبح لدعوته قيمة.
ثانياً: كون النبي يتكلم بلسان قومه يعني أنه منهم يعرفهم ويعرفونه، ويعرف طباعهم وما هم عليه، ومن ثم فالداعية إلى الله عز وجل أحوج ما يكون إلى أن يعرف واقعه، ويعي حال الناس وحال المخاطبين ولهذا اختار الله عز وجل الأنبياء من أقوامهم.(/5)
ثالثاً: يفيد هذا أنهم يعرفونه؛ فليس غريباً عليهم، وليس نكرة فيهم، ولهذا قالوا لصالح (قد كنت فينا مرجواً قبل هذا) كنا نعرفك ونؤمل فيك الخير ونرجوه.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم معروفاً عند قومه بالصادق الأمين عليه أفضل الصلاة والسلام، وكان يحمل الكل ويكسب المعدوم ويعين على نوائب الحق، كان يأتيه الضعيف فيعينه، والمحتاج فيسد حاجته، ولهذا فالدعاة إلى الله عز وجل السائرون على منهج الأنبياء حريٌ بهم أن يكونوا أعلاماً شامخة في أقوامهم يعرفهم الجميع القاصي والداني.
المعلم السادس: رعي الغنم
حين سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن رعيه للغنم أجاب بأن هذا شأن الأنبياء، وأن هذا أمر اختاره الله لأنبيائه؛ فما من نبي إلا ورعى الغنم، والسكينة والوقار كما قال صلى الله عليه وسلم في أهل الغنم.
لقد كان الأنبياء رعاة وقادة للبشرية ومن ثم كان رعي الغنم تهيئة وتربية وإعداداً لهم، ولهذا نرى أسلوب الرفق والحكمة يغلب على منهج الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، فيقول الله جل وعلا لموسى وهارون :((اذهبا إلى فرعون إنه طغى * فقولاله قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى))، وإبراهيم عليه السلام يقول مخاطباً لأبيه ناصحاً واداً ((يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطاً سويًّا)) بلغة الهدوء والمنطق والإشفاق والنصيحة، وأما محمد صلى الله عليه وسلم فما عرفت البشرية أرحم منه صلى الله عليه وسلم :
وإذا رحمت فأنت أم أو أب *** هذان في الدنيا هم الرحماء
وإذا غضبت فإنما هي غضبة *** لله لا حقدٌ ولا شحناء
فما عرفت البشرية أرحم ولا أرق فؤاداً منه صلى الله عليه وسلم ((لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيزٌ عليه ما عنتم جريصٌ عليكم بالمؤمنين رؤوف الرحيم)) فالدعاة إلى الله عز وجل ينبغي أن يكون منطقهم ورائدهم قوله صلى الله عليه وسلم: "ما كان الرفق في شيء إلا زانه وما نزع من شيء إلا شانه".
المعلم السابع: الوضوح
مع ما اتسم به الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، فقد واجهوا قومهم بانحرافاتهم مواجهة صريحة لا لبس فيها ولا غموض، فلوط عليه السلام يقول لقومه :((أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين)) ، وشعيب عليه السلام يقول الله عز وجل عنه: ((وإلى مدين أخاهم شعيباً قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان إني أراكم بخير وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط)).
وإبراهيم عليه السلام الذي كان رحيماً رقيقاً مع أبيه يعمد إلى أصنام قومه فيكسرها ويحطمها؛ فيعقدون له مجلس المناظرة والمحاكمة فيقولون له: أ أنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم؟ فيقول ساخراً متهكما ((بل فعله كبيرهم هذا فسألوهم إن كانوا ينطقون * فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون ثم نكسوا على رؤوسهم لقد علمت ما هؤلاء ينطقون)) ،قال مخاطباً قومه: ((أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئاً ولا يضركم أفٍ لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون)) ويقول محاجاً لطاغية عصره :((إن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب)).
وموسى عليه السلام الذي أرسله الله إلى فرعون وأمره أن يقول قولاً ليناً ((قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض بصائر وإني لأظنك يا فرعون مثبوراً)) ،((قال فرعون وما رب العالمين قال رب السموات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين)) إنه موسى الذي أمره الله بالقول اللين.
ومن ثم فإن الرفق والقول اللين مع أنه منهج لا يجوز تخطيه ولا المساومة عليه لا يعني السكوت عن قضايا الدعوة، ولا السكوت عن أخطاء الناس وانحرافاتهم وضلالتهم؛ فها هم أنبياء الله يعلنونها صريحة ويواجهون أقوامهم بشركهم وضلالهم مواجهة صريحة.
المعلم الثامن : كان الأنبياء يعيشون قضية عصرهم
لقد كان الأنبياء عليهم السلام يعيشون قضايا عصرهم؛ فلوط عليه السلام دعا إلى التوحيد ثم ندد بالفساد الأخلاقي الذي كان عليه قومه، وشعيب عليه السلام دعا إلى التوحيد وندد بالفساد الاقتصادي والظلم الذي كان عليه قومه، وموسى دعا إلى التوحيد والإيمان وندد بالاستعباد والإهانة للناس ((وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل)).
وهكذا الدعوة التي تسير على منهج الأنبياء ينبغي أن تقتفي معالم هذا المنهج؛ فتعيش قضية عصرها. إنه لا يسوغ أن يعيش امرؤ في بلد يعج بدعاء غير الله وتقديس الأضرحة، ولا يعرف حينها من يعيش هذا العصر من قضية العقيدة إلا قضية الأسماء والصفات، وأن القرآن منزل غير مخلوق.
وهكذا في أي عصر ينبغي أن يعيش الداعية قضية عصره، بل قد كان الأنبياء عليهم السلام -مع أن أقوامهم لم يستجيبوا بعد لقضية التوحيد- يتحدثون عن الفساد والضلال والانحراف الذي كان في عصرهم، فلا ترى سورة يذكر فيها لوط إلا ويذكر فيها الحديث عن الفساد والشذوذ الذي كان عليه قومه، ولا سورة يذكر فيها شعيب إلا وترى حديثه عن الفساد الاقتصادي وعن بخس الناس أموالهم وحقوقهم.(/6)
المعلم التاسع: الولاء على أساس الحق
لقد ضرب الله عز وجل لنا في القرآن مثلاً (امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئاً وقيل ادخلا النار مع الداخلين).
ونوح حين وعده الله عز وجل أن ينجيه وابنه من أهله وكان يراه في معزل فناداه نوح ((يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وحال بينهما الموج فكان من المغرقين)) ،حينما دعا نوح ربه قال الله عز وجل ((يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألن ما ليس لك به علم)) ، وإبراهيم حين شاقه أبوه وعانده قال له ولقومه ((إنا برءاء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده)) . إنها قضية الولاء والبراء وهي تلك التي يقولها صلى الله عليه وسلم إن آل بني فلان ليسوا بأوليائي إنَّ أوليائي المتقون، فقضية الولاء والبراء قضية من أسس العقيدة لا يجوز الإخلال بها والمساومة عليها وخدشها؛ فهي قضية من قضايا الأمة الواحدة مما اتفق عليها الأنبياء إلى قيام الساعة، ولهذا توعد الله أولئك الذين يوالون أعداء الله ،قال: ((بشر المنافقين بأن لهم عذاباً أليما * الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعاً) (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين * فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على أسروا في أنفسهم نادمين)).
فمن يسير على منهج الأنبياء ينبغي أن يكون ولاؤه على أساس الإيمان وعلى أساس كلمة التوحيد وحدها لا غير.
المعلم العاشر: الاستعانة بالله واللجوء له
قال تعالى :((ونوحاً إذ نادى من قبل) ،(وزكريا إذ نادى ربه رب لا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين)) إلى آخر ذلك ، ثم قال الله عز وجل :((إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغباً ورهباً وكانوا لنا خاشعين))، لقد كان أنبياء الله يلجؤون إلى الله سبحانه وتعالى في السراء والضراء، يلجؤون إليه عبادة وخضوعاً وتذللاً له سبحانه وتعالى، ويلجؤون إليه استعانة واستنصاراً به سبحانه وتعالى.
فجدير بمن يقتفي أثر منهج الأنبياء أن تكون له صلة بالله عز وجل دعاءً ورغبة ورهبة ولجؤًا إليه سبحانه وتعالى واستعانة به عز وجل واستمداداً للعون والثبات والتوفيق منه سبحانه وتعالى.
المعلم الحادي عشر: حقيقة التمكين
وعد الله عز وجل -ووعده صادق- بالتمكين للمؤمنين فقال:((و لقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون))، ((و لقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين * إنهم لهم المنصورون وأن جندنا لهم الغالبون)) ،((فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله إن الله عزيز ذو انتقام)).
ومع ذلك فقد نصر الله طائفة من أنبيائه وأهلك أقوامهم وجعلهم الله سبحانه وتعالى عبرة وعظة للمكذبين من بعدهم، لكن هناك من أنبياء الله من يأتي يوم القيامة وليس معه إلا الرجل والرجلان، ومن يأتي يوم القيامة وليس معه أحد، ومنهم أولئك الذين تجرأ عليهم إخوان القردة والخنازير المغضوب عليهم فقتلوهم، فكم عاب الله أولئك الذين يقتلون الأنبياء بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس،؟ أترى أولئك الأنبياء الذين كتب الله لهم أن يقتلوا لم يتحقق فيهم وعد الله سبحانه وتعالى؟ ((ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون)) ،بلى والله لقد تحقق فيهم هذا الوعد، لكن مفهوم النصر مفهوم أشمل، إنه ليس بالضرورة التمكين في دار الدنيا، فقد يقتل أنبياء الله وقد يمضون ولما يتبعهم أحد، لكن الله لن يخلف وعده رسله ((يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات وبرزوا لله الواحد القهار)) ،حينها يحقق الله عز وجل الوعد لأولئك فحقيقة النصر والتمكين ليست قاصرةً أو منتهية في هذه الدار.
هذه بعض معالم منهج الأنبياء ومعالم الأمة الواحدة علنا أن نقتفي أثرهم ونترسم من خلالها منهجاً واضحاً محدداً نسير عليه في دعوتنا؛ فمنهج الأنبياء خير وأزكى وأبر من اجتهادات البشر التي هي ليست معصومة من الهوى والضلال والانحراف، أسأل الله عز وجل أن يوفقنا وإياكم للإقتداء بأنبيائه صلوات الله وسلامه عليهم وأن يحشرنا تحت ضيائهم وفي زمرتهم؛ إنه سميع مجيب.(/7)
منهج الإمام أبي حاتم محمد بن حبان البستي في بعض كتبه
أملاه الشيخ
سليمان بن ناصر العلوان
حفظه الله تعالى
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده . أما بعد :
فقد اشتهر عند كثير من علماء عصرنا أن ابن حيان متساهل في التصحيح يوثق ما يضعفه العلماء ويصحح ما يرغب عنه أهل التحقيق حتى أدى ذلك إلى عدم الاعتماد على آرائه وأقواله ، وهذا حيد عن الصواب ورغوب عن التحقيق . ولذا سنتكلم عن كتبه الثلاثة على وجه الاختصار :
1/ الصحيح 2/ المجروحين 3/ الثقات
إنصافاً لهذا الإمام وإيضاحاً لبعض طلاب العلم من أهل هذا العصر الذين يطلقون الكلام على عواهنه دون رجوع إلى كلام المتقدمين إنما غالب اعتمادهم على الذهبي وابن حجر وهما من المتأخرين مع أنهما لم يتفوها بكثير من كلام المعاصرين .
1/ كتابه الصحيح :
أما الصحيح فقد حصل لنا استقراء وقراءة لكتابه وهو ينقسم إلى ثلاثة أقسام :
1ـ الصحيح الذي يوافقه عليه جمهور أهل العلم ، وهذا ولله الحمد هو الغالب على كتابه ، يعرف ذلك من قرأه وأمعن النظر فيه .
2ـ مما تنازع العلماء فيه وأورده ـ رحمه الله ـ في صحيحه ، فهذا لا عتب عليه فيه ، لأنه إمام له مكانته العلمية يعدل ويجرح وينتقد كغيره من العلماء . ومن هؤلاء ممن خرج لهم في صحيحه ممن تنازع العلماء فيهم : محمد بن إسحاق ، ومحمد بن عجلان ، والعلا بن عبد الرحمن ، والمطلب بن حنطب وغيرهم . وهؤلاء فيهم أن أحاديثهم لا تنزل عن مرتبة الحسن ، مع العلم أن مسلماً قد أخرج في صحيحه لمحمد بن عجلان وابن إسحاق(1)
3ـ أن يكون ـ رحمه الله ـ قد وهم فيه كتخرجه لسعيد بن سماك بن حرب ، فإنه قد روى عن أبيه عن جابر بن سمرة : ( أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يقرأ ليلة الجمعة في صلاة المغرب ، بقل يا أ]ها الكافرون ، وقل هو الله أحد ) وهذا حديث متروك ، سعيد بن سماك قال عنه أبو حاتم : متروك الحديث . ولكن هذا لا يدل على أن ابن حبان متساهل لأنه بشر يخطئ ويصيب والعبرة بكثرة الصواب وهو كثير كما قدمنا قال الشاعر :
……………… ... كفى بالمرء نبلاً أن تعد معايبه
وقد انتقد شئ كثير على البخاري ومسلم في توثيقهم لبعض الضعفاء ومن ذلك :
( إسماعيل بن أبي أويس )(2) أخرج له البخاري في الأصول ، وهو ضعيف الحديث على القول الصحيح ، ومع ذلك من أمعن في كتب الرجال كتهذيب الكمال وتهذيب التهذيب والجرح والتعديل لابن أبي حاتم وغيرها ولم يعتمد على المختصرات والله الهادي إلى سواء السبيل .
2/ كتاب المجروحين :
هذا كتاب عظيم فرد في بابه ، حتى قال جماعة من العلماء : ( كل رجل يزثقه ابن حبان فعض عليه بالنواجذ ، وأما يضعفه فتوقف عليه ) فهذا يفيد أهمية توثيق ابن حبان ـ رحمه الله ـ
ورماه الحافظان الذهبي وابن حجر : بالتشديد في نقد الرجال .
ومما يدلنا على ذلك أنه تكلم في عارم محمد بن الفضل السدوسي مع أنه إمام ثقة أخرج له السبعة .
وقال في كثير بن عبدالله بن عمر بن عوف المزني : منكر الحديث يروي عن أبيه عن جده (( نسخة موضوعة ، لا يحل ذجرها في الكتب ولا الرواية عنه إلا على جهة التعجب ومع ذلك فقد صحح الترمذي حديثه : ( الصلح جائز بين المسلمين ) ، فالترمذي إذا متساهل على هذا عند أهل عصرنا وقد فعلوا وما ذخروا .
3/ كتاب الثقات :
وقد حصل لنا إستقراء للكتاب ، وأنه على أقسام :
1ـ أن يوثق من ضعفه بنفسه في كتابه المجروحين ، فله حالتان :
ـ أن يكون تغير اجتهاده ، إحساناً للظن في أئمة الإسلام .
ـ أن يكون قد وهم فيه ، ومن الذي يسلم من الوهم ويعرى من الخطأ .
ولقد وقفت على كتاب لبعض من يتصدى للتصحيح والتضعيف من أهل عصرنا ممن يلمز ابن حبان ولا يعتد في تصحيحه فوجدت في كتابه خمسين خطأ له ، فلو كان كل عالم يخطئ تطرح أقواله لكان هذا أولى بالطرح .
2ـ أن يوثقه ابن حبان ويضعفه غيره فهذا سبيله سبيل الإجتهاد ، وهناك جماعة وثقهم أحمد وضعفهم البخاري فهل يقول عاقل أن أحمد متساهل .
وهناك جماعة وثقهم ابن معين وابن المديني وضعفهم غيرهم فهل يقول أحد بأنهما متساهلان .
ولو فتحنا هذا الباب ورمي أئمة الحديث بالتساهل مع بذلهم وجهدهم وتعبهم ، لفتحنا باباً عظيماً للتجرأ على هداة الإسلام والعلماء الأعلام .
3ـ أن لا يروي عن الراوي إلا راو واحد (3) ولا يأتي بما ينكر عليه من حديثه ، فابن حبان يرى أنه
__________
(1) قال الحاكم : أخرج مسلم لمحمد بن عجلان (13) حديثاً كلها في الشواهد ، ( ميزان الاعتدال ) . أما ابن إسحاق فقد أخرج له مسلم خمسة أحاديث كلها أيضاً في الشواهد .
(2) ومثله مصعب بن شيبة خرج له مسلم حديث عشر من الفطرة وهو ضعيف الحديث على القول الصحيح كما ذهب إليه أحمد وانظر (3/147) شرح مسلم .
(3) بشرط أن يكون ثقة أما إن كان ضعيفاً فابن حبان لا يوثقه كما نص على ذلك ـ رحمه الله ـ في كتاب المجروحين في ترحمه ( سعيد بن زياد الداري )) .(/1)
ثقة لأن المسلمين كلهم عدول لذلك أودع من هذه صفته في كتابه الثقات .
وهذا اجتهاد منه ، خالفه فيه الجمهور ، ولكن قوله هذا ليس بحد ذاك من الضعف ، بل في قوله هذا قوة خصوصاً في التابعين بل إن ابن القيم ـ رحمه الله ـ قال : ( المجهول إذا عدله الراوي عنه الثقة ثبتت عدالته وإن كان واحداً على أصح القولين )(1)
وأكثر المعاصرين شنع عليه من جهة هذه المسألة فقط ، فلا يكاد يمر ذكر ابن حبان في كتبهم إلا ويوصف بأنه من المتساهلين في التصحيح فلا يعتمد عليه والأولى على منهجهم تقييد تساهله في هذه المسألة لا أنه يعمم وتهضم مكانة الرجل العلمية حتى جر ذلك إلى طرح قراءة كتبه ، وخاض في ذلك من يحسن ومن لا يحسن دون بحث وتروي .
4ـ أن يروي عن الراوي اثنان فصاعداً ولا يأتي بما ينكر من حديثه فيخرج له ابن حبان في ثقاته وهذا لا عتب عليه فيه لأنه هو الصواب .
مع العلم أن العلماء اختلفوا في ذلك على أقوال :
1- القبول مطلقاً ( وهو الراجح ) . 2- الرد مطلقاً . 3- التفصيل .
والصواب الأول بشرط أن لا يأتي بما ينكر عليه .
ورجحناه لوجوه :
1ـ أن رواية اثنين فصاعداً تنفي الجهالة على القول الصحيح وقد نص على ذلك ابن القيم(2)
2ـ أنه لم يأتي بما ينكر من حديثه فلا داعي لطرح حديثه بل طرح حديثه في هذه الحالة تحكم بغير دليل .
3ـ أن الإمامين الجليلين الجهبذين الخريتين البخاري ومسلماً قد خرجا في صحيحهما لمن كانت هذه صفته(3) مثاله :
ـ ( جعفر بن أبي ثور ) الراوي عن جابر بن سمرة : ( الوضوء من أكل لحوم الإبل ) هذا الحديث أخرجه مسلم وتلقته الأمة بالقبول حتى قال ابن خزيمة : لا أعلم خلافاً بين العلماء في قبوله .
مع أن فيه جعفر بن أبي ثور لم يوثقه أحد إلا ابن حبان ، ولكنه لكا لم يأتي بما ينكر من حديثه
وروى عنه اثنان فصاعداً قبل العلماء حديثه ، وممن روى عنه : عثمان بن عبدالله بن موهب وأشعث بن أبي الشعثاء وسماك بن حرب .
( أبو سعيد مولى عبدالله بن عامر بن كريز ) الراوي عن أبي هريرة حديث : ( لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ….. الحديث في مسلم ) .
أبو سعيد أخرج له مسلم في صحيحه مع العلم أنه لم يوثقه إلا ابن حبان ولكنه لم يرو عنه إلا الثقات ولم يأت بما ينكر .
احتمل العلماء حديثه وقد روى عنه داود بن قيس والعلاء بن عبدالرحمن ومحمد بن عجلان وغيرهم.
وفي الصحيحين من هذا الضرب شئ كثير جداً .
حتى قال الذهبي في ترجمة مالك بن الخير الزيادي : (( قال ابن القطان : هو ممن لم تثبت عدالته .
قال الذهبي : يريد أنه ما نص أحد على أنه ثقة .
وفي رواة الصحيحين عدد كثير ما علمت أن أحداً نص على توثيقهم ، والجمهور على أنه من كان من المشايخ قد روى عنه جماعة ولم يأت بما ينكر عليه أن حديثه صحيح )) .
تمت والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
هذا آخر ما أملاه شيخنا
أبو عبدالله
سليمان بن ناصر العلوان
بريدة ـ صباح الثلاثاء ـ
14/محرم / 1413هـ
__________
(1) ـ زاد المعاد (( 5/456))
(2) زاد المعاد ((5/38)) ، وذكره الإمام الدار قطني في سننه ((3/174)) عن أهل العلم .
(3) وأيضاً مما يؤكد أن الراوي إّا روى عنه اثنان ولم يأت بما ينكر من حديثه أنه حجة ( اتفاق الحديث على تصحيح حديث حميده بن عبيد بن رفاعة في حديث الهرة انظر عون المعبود ((1/140))(/2)
منهج التعامل مع أهل البدعة في وقت الفتنة
رئيسي :المنهج :الاثنين 17 محرم 1425هـ - 8 مارس 2004م
إن العلم بأصول التعامل مع أهل الافتراق عن منهج صحابة رسول الله ضرورةٌ يفرضها وجود هذه الفرق، ويحتمها ما يترتب على أسماء الدين وأحكامه من حقوق وواجبات شرعية يأثم المرء بتعطيلها، فضلًا عما يصيبه من ضنك العيش بالتفريط فيها .
ولئن كان الحال كذلك في أوقات الأمن والاستقرار، فإنه في حال الفتنة والمحنة آكد، ويدرك هذه الأهمية من أدرك معنى قوله صلى الله عليه وسلم: [بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنْ الدُّنْيَا]رواه مسلم.
وإنما ذلك لعِظم الفتن.
إن قضية التعامل مع أهل البدع تفرض نفسها اليوم في واقعٍ من الفتنة التي يمكن تصويرها من خلال سياقين مؤلمين تعيشهما أمتنا الإسلامية:
فأما الأول: فهو استباحة بيضة بلاد الإسلام استباحةً علنيةً لا لَبس فيها، وضابط ذلك: وجود الكافر الحربي في ديار الإسلام وجوداً علنياً سافراً.
وأما الثاني: فهو استشعار مجتمعٍ مسلم تربُص الكافر الحربي به للانقضاض عليه، واستباحة أراضيه، وأمواله، ودمائه، وأعراضه.
والمصيبة المشتركة بين السياقين في واقعنا المعاصر تتمثل في غياب الإمامة الشرعية الصحيحة عن الساحة السياسية للأمة، تلك الإمامة التي يناط بها عادةً:
المرابطة على ثغر الأمة العقدي من جهة.
وحماية كيان الأمة السياسي من جهة أخرى .
مما يفرز تساؤلات عديدة حول الأولويات والحاجات المفتقر إليها لتحقيق أمن العقيدة، ووحدة الصف السياسي للأمة، حيث إن نفس هذا الكيان الحسي للمجتمع أو البلد؛ أصبح مهدداً بالخطر في هذين السياقين. وأعتقد أن خارطة الأمة الإسلامية من الوضوح بمكان من جهة تحقق هذه السياقات على أرض الواقع بحيث إني سأعمم القول قدر المستطاع؛ ليُتمكن تنزيله على ما يستجد من وقائع مماثلة، وحتى لا نحصر تنزيل أصول وقواعد هذا المنهج في جزئيات ميدانية قابلة للتبدل فيقع الوهم واللبس.
إذا عُلم هذا، فلا بد لنا قبل الخوض في هذا الموضوع من أن نقرر جملةً من الثوابت المتعلقة بالموضوع وإن بدا بعضها بدهياً، فالغرض هنا تقريرها حتى نتحاكم إليها فيما يفرضه الواقع من متغيرات وجزئيات متبدلة، فتكون عوناً لنا على الاستنارة حيث تدلهم الخطوب:
القاعدة الأولى: إن الافتراق أمر ثابت في هذه الأمة لا يجدي جحوده ولا يقلل من خطره إنكاره: والدليل على ذلك قوله تعالى:{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا[115]}[سورة النساء].. فهذا أصلٌ في الافتراق المنهجي العلمي، وقوله تعالى:{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ[72]}[سورة الأنفال]. فهذا أصل في وقوع المفارقة الحسية ابتداءً، وقوله تعالى :{فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ...[9]}[سورة الحجرات] . فهذا أصل في وقوع المفارقة بعد وجود الاجتماع فهو افتراق طارئ .
فاتفق لنا ثلاث صور من المفارقة هي:
المفارقة المنهجية: وضابطها: الاجتماع المنهجي على أصلٍ بدعي مخالف لمنهج الصحابة.
والمفارقة الحسية الأصلية بترك اللحوق بالجماعة ابتداءً: وضابطها: التخلف عن الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام مع القدرة عليها .
والمفارقة الحسية الطارئة: وضابطها: البغي على إمام مستقر بتأويل أو شبهة .
وقد يجتمع الافتراق المنهجي والحسي، فتصبح للفرقة المجتمعة على أصل بدعي أو أكثر شوكة تهدد الأمنين العلمي والسياسي لجماعة المسلمين.. وكل هذه الصور موجودة اليوم على مدى الخارطة الإسلامية نسأل الله السلامة والعافية.
القاعدة الثانية: خطر الافتراق علميٌ منهجي أو عمليٌ سياسي وقد يجتمعان: وإن أهمية التمييز بين أنواع الافترق المذكورة آنفاً تتمثل في معرفة مناط الخطر من هذا الافتراق أهو الأمن العقدي العلمي الذي يُخشى أن يفتتن الناس به في دينهم ..أم هو الأمن الحسي الجماعي الذي يُخشى أن يتخطف به الناس من أمنهم واستقرارهم. فهذا الافتراق ليس مسألة جماعة من الناس اختارت لنفسها رأياً، أو طريقاً خاصاً يحتمل السكوت عنه تحت تأثير وَهم حرية الرأي والتعبير، وإنما هو خطر حقيقي يضر بأمن المسلمين علمياً وعملياً .(/1)
فأما الضرر العلمي العقدي: فهو ما يدخل قلوب المسلمين من شبهات تشكك في العقيدة، وتنكت النكت السوداء في القلب، ولقد نبه الله إلى خطورة هذا المسلك حين مارسه طائفة من أعداء الدين الأصليين حين كانت الدعوة في مهدها، تأمل معي قوله تعالى:{وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ[72]}[سورة آل عمران] . وهكذا أهل الافتراق البدعي يوهمون الانتساب إلى منهج الحق، ويحشدون في التدليل على ذلك حشود متشابه القرآن والسنة الموضوعة إن أعياهم تأويل الصحيحة، فإذا هم يضللون ويلبسون على الناس دينهم؛ لعل الناس يرجعون عن جادة الحق، ويتبعون سُبُل أهل الأهواء .
والغالب في منهج أهل الفرقة والهوى هو لَبس الحق بالباطل كما كان منهج اليهود والنصارى حيث قال تعالى:{ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ[71]}[سورة آل عمران] .
وأما الضرر العملي: فحسبك عليه منبهاً قوله تعالى:{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ[107]}[سورة التوبة]. وتأمل حولك اليوم لترى كم من مساجد الضرار، وكم من هيئات الضرار، وكم من فتاوى الضرار.. يطلع علينا بها عُبَّاد الأهواء من المنظرين لجماعات الافتراق والتفريق، الذين قطَّعوا الأمة إرباً إرباً تحت شتى رايات البدع والضلال.
وإذا عجبت فالعجب لا ينقضي ممن يكيل التهم لأهل الحق، ويتهمهم ببذر بذور الفتنة والشقاق حين ينبهون أهل الأهواء من غفلتهم، أو يفضحونهم حين يصرون على ما هم سادرون فيه، ويتجاهل عمداً، أو سهواً الإنكار على المتسبب في وقوع الفرقة أصلاً، فمثل هؤلاء كمثل من ينكر على من صاح على القاتل، ولا ينكر على القاتل نفسه!
وأما اجتماع الخطرين: فيحدث حينما تكون لأهل الافتراق المنهجي شوكة تعكر على جماعة المسلمين صفو دينهم وأمنهم، ولعل الطامة الكبرى تكون حين يلجأ بعض أهل الفرقة والهوى اليوم إلى التماس الشوكة من أعداء الإسلام المتربصين كجحافل الصليب المستأسدة، فيرتمون في أحضانها طلباً للشوكة والمنعة، ويتجاهلون استحالتهم أدوات طعن في جسد هذه الأمة التي يزعمون الانتساب إليها، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
القاعدة الثالثة: أتباع منهج صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يمتحنون الناس: قال الله تعالى :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ ...[94]}[سورة النساء]. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مَنْ صَلَّى صَلَاتَنَا وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا فَذَلِكَ الْمُسْلِمُ الَّذِي لَهُ ذِمَّةُ اللَّهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ فَلَا تُخْفِرُوا اللَّهَ فِي ذِمَّتِهِ]رواه البخارى. قال الحافظ ابن حجر في شرحه:' وفيه أن أمور الناس محمولة على الظاهر, فمن أظهر شعار الدين أجريت عليه أحكام أهله ما لم يظهر منه خلاف ذلك'.
فالحاصل أن أتباع منهج الصحابة يأخذون بظواهر الناس التي قررها الشرع، ولا ينقبون عما في قلوبهم، وهذا كله حيث بقيت هذه البدع مستورة في قلوب حامليها فلا ينقب عنها، أما إذا أظهر أهل البدعة بدعتهم، فذاك مقامٌ آخر من حيث الإنكار الشرعي بضوابطه المعروفة.
القاعدة الرابعة:توعد أهل الافتراق والبدع بالنار لا يستلزم كفرهم: فقوله صلوات الله وسلامه عليه في حديث افتراق أمته كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا وَاحِدَةً] رواه ابن ماجه وأحمد . من باب الوعيد . فإذا عُلم هذا فليعلم كل مسلم أن أهل النجاة هم أتباع صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في فهم وتطبيق الكتاب والسنة، وكل من عداهم قد سلكوا من الضلال مسلكاً قد يقف بهم عند حدود المخالفة والفسق، فيكون وعيدهم بالنار من جنس وعيد عصاة الموحدين من أصحاب الكبائر، وقد يفضي بهم مسلك الضلال إلى مهالك الكفر، فيكون وعيدهم بالنار من جنس ما وعد الله تعالى به الكفار، والمشركين، والمنافقين .. وبهذا يندفع الإشكال المتوهم من أن أتباع منهج السنة والجماعة يكفرون غيرهم من المنتسبين إلى القبلة.(/2)
القاعدة الخامسة:مكافحة أهل الأهواء والبدعة والفرقة علمية وعملية: وهذا مهم جداً ويدور مع طبيعة الافتراق الحاصل كما بينا في القاعدة الأولى، فحيث كانت الفُرقة علمية منهجية كانت مجاهدتها بالحجة والبيان، وحيث كانت الفُرقة عملية حسية كانت منازلتها بالشوكة والسنان، ولا يستلزم القتال والقتل في الأخيرة تكفيرًا ولا خروجًا عن الملة، وإن كان يحتمله بحسب حال الأصل البدعي المفارَق عليه.
ومنهج التعامل مع أهل الفرق والأهواء إنما ينطبق في أكمل صوره على حالة الاستقرار السياسي العقدي للأمة بحيث يكون للأمة إمام تقوم به شوكة الدين، ويعلو به عَلَمُ السنة، أما والحال كما ذكرنا من سياقات ضاعت فيها الإمامة الشرعية، واستباحت بيضةَ الدين فيها جحافلُ الحربيين الكفرة في جزء من بلاد الإسلام، وتربصت جحافل أخرى بما تبقى منها، فكيف يكون مسلك مكافحة البدعة والفرقة، وأين أولوية قتال أهل الافتراق حفاظاً على أمن الأمة السياسي من قتال جحافل الكفر التي تتهدد الكيان السياسي للأمة برمته؟
إن الإجابة على هذه التساؤلات تقوم على أساس التمييز بين ما يختص بالثوابت العقدية الراسخة القائمة على التوقيف المطلق، وبين ما يتعلق بفقه السياسة الشرعية القائم على أساس موزانة المفاسد والمصالح درءاً وجلباً على الترتيب.
والأصل فيما سنعرض له من معالم هذا المنهج يقوم على التفريق بين مقام النهي في قوله تعالى:{ فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ[8]وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ[9]}[سورة القلم]، وبين مقام الرخصة في قوله تعالى:{ ...إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ...[28]}[سورة آل عمران]، إنه التفريق بين مقام المداهنة المنهي عنها شرعاً، ومقام التألف، والمداراة المرخص به شرعاً ، وفيما يلي تقرير بعض معالم منهج التعامل هذا:
أولاً: لا مداهنة في مسائل الاعتقاد: إذ أن الغاية من كل ما نجاهد لأجله هو الحفاظ على هذا المعتقد، وكل ما نسعى إلى تحقيقه من الاجتماع الحسي السياسي، وإقامة قلعة الإسلام وأمة الإسلام إنما هو من جنس الوسائل، وإنه لمن السفه بمكان أن نفرط في شيء من المقصد وهو مجموع مفردات العقيدة بحجة المحافظة على وسائل حمايتها .
فكلمة التوحيد هي مناط النجاة، ولو انفرط عقد الجماعة، ولو ضاعت معالم الأمة بحيث لم يبق منها إلا أطياف من البشر متناثرين هنا وهناك، ولن تجد نصاً في الكتاب ولا السنة يشير إلى مجرد اجتماع الناس في صورة أمة، أو جماعة، أو دولة يحقق لهم النجاة بمنأى عن العقيدة؛ ولهذا يجب أن يستقر في أذهاننا أن مفردات العقيدة ثوابت راسخة لا يصح أن تكون مجال مداهنة، أو تنازل، مهما كانت الحجة والمبرر كالتذرع بالمحافظة على الجماعة، وعدم تشرذم الأمة، ونحو ذلك مما يسمى المصلحة الوطنية والوحدة الوطنية .
ومهما أمكن الموزانة بين تحقيق الاجتماع الحسي والسلامة في المعتقد، فقد وجب ذلك، وأنه مهما ألجأ الواقع إلى التفريط بأحدهما دون الآخر، فلا مندوحة عن تفويت كل ما عدا ثوابت العقيدة في سبيل الحفاظ عليها .
وتأمل معي كلام الله تعالى حكايةً عن إنكار موسى عليه السلام واقعَ الشرك الذي تلبَّس به بنو إسرائيل :{ قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا[92]أَلَّا تَتَّبِعَنِي أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي[93]قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي[94]}[سورة طه] فها هو نبي الله هارون عليه السلام يرجح كفة الاجتماع، ويحاول قدر الإمكان استيعاب بدعة الشرك التي جاء بها السامري .
ولربما عذر موسى عليه السلام لأخيه هارون عليه السلام اجتهاده، ولكنه لم يقره عليه البتة حيث انصرف للتو يطهر هذه الجماعة من رجز الشرك ولوثة العقيدة ، تأمل :{ قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ[95]قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي[96]قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا[97]إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا[98]}[سورة طه].
فلم يراع موسى عليه السلام أمام تهديد أمن العقيدة أي شيء آخر فالسامري صاحب فكرة وأتباع يُخشى بمجابهته انفراط عقد الجماعة، ولكن إذا تعين ذلك لحفظ العقيدة؛ فلا ضير، والعجل له عُبّاده ومريديه-وما أكثر عجول اليوم- وربما أدى تحريقه إلى انفراط عقد الجماعة ولكن لا ضير.(/3)
ألا فليعلم كل مسلم أن لو استلزم الأمر التضحية بكل سامري، وخسارة كل عابد عجل في مقابل تحقيق أمن العقيدة ألا فليكن، ألا ولبئس الجماعة التي تحتضن شاكلة السامري وأتباعه بل أي معنى يبقى للجماعة إذا كان مدار تأليف القلوب الإقرار بالشرك بالله، أو السكوت عليه على أقل تقدير.
ثانياً: المداراة مشروعة لدفع الضرر ودرء المفسدة فتقدر بقدرها: وهذا من أبجديات فقه السياسة الشرعية، ولتعلم أن الضابط في مشروعية المداراة: غياب شوكة أهل الحق، وأن الضابط في حد المداراة ومداه: ما يندفع به الأذى والضرر عن جماعة المسلمين فحسب.
فتنبه لهذا فإنه دقيق جداً، وبالغفلة عنه ينجرف البعض في تيارات المداهنة والتمييع والملاطفة ليصبح حاله حال من غصَّ فكاد يختنق فشرعت له شربة خمر متعينة لتذهب غصته فإذا به يسترسل في زجاجة الخمر سادراً متمتعاً! والحاصل أنه لا يجوز أن يتحول الإذن بالمداراة المرتبط بالضرورة الملجئة إلى مجال تنازل عن شيء من الثوابت العقدية التي إنما فارق أهل البدعة أهلَ السنة بتركها .
ففرق بين أن تداري وتتألف قلوب فرقة ضالة، لها شوكة يُخشى أن يتضرر منها جماعة المسلمين، وبين أن نلغي هذه الأسس العقدية التي افترقنا عليها، ونعلن للناس أنه اختلاف بسيط لا يفسد للود قضية، وأن التقارب والتقريب بين الفريقين مشروع، بل مطلوب بحجة وحدة الصف، وحسبك مثالاً واضحاً اليوم ما تزل به أقدام العديد من حملة العلم المنتسبين إلى السنة من الإعلان بمشروعية ومندوبية – بل ربما وجوب - التقريب مع أهل الرفض، ولا أعني بأهل الرفض عوامهم بل منظريهم وعلماءهم وسادتهم ممن يعلمون حقيقة الفساد العقدي الذي يُضلون الخلق به.
وقريب من هذا المجال من يتمادى مع منظري وكبراء العلمانية بحجة وحدة الصف الوطني، ثم يتخذ من مشروعية المداراة ذريعة لذلك.
وغفل هؤلاء، أو ما دروا أن هذه المداراة ما شُرعت إلا حيث تعينت طريقاً للحفاظ على سلامة أهل السنة باعتبارهم حملة منهج الحق لا باعتبار ذواتهم وأشخاصهم، فمهما أفضت المداراة إلى تمييع منهج الحق، أو تضييع شيء من ثوابته؛ لم تعد مشروعةً البتة.
وهذا كله يعود إلى الأصل القرآني فيما أبيح للضرورة حيث قال تعالى:{ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ[173]}[سورة البقرة]، فمن تجاوز المدارة إلى المداهنة، فقد بغى، واعتدى، وخرج عن حد الإباحة قولاً واحداً.
فمبدأ المداراة يقوم في الجملة على ترك الاستعداء، وترك الإعلان بالعداوة والبغض في الله لأعيانهم، وذوي الشوكة منهم لا لمناهجهم وأصولهم التي لا تنقطع مجاهدتها بالبيان الأولى بالأولى، ولا يقوم أبداً على الاستخذاء، والاسترضاء لرءوس البدعة ودعاتها، إن المداراة في حقيقتها أقرب إلى التحييد المؤقت لهذه الفئة حتى يُتفرغ لمن هو أعظم خطراً منها، وإن مشروعية المداراة والتألف مع هؤلاء يجب أن تقتصر على هذا التحييد ولا تتجاوزه إلى شيء من العلاقة الإيجابية، اللهم إلا ما دخل في جنس التعاون على البر والتقوى والمعروف مما لا شرط له كدفع صائل، ونصرة مظلوم، ونحو ذلك مما تتطلبه طبيعة المرحلة، وهذا وفق قاعدة ' للمسلمين نفعه وعليه وزره '.
ثالثاً: مداراة وتألُّف أهل البدع والافتراق ليست تقريراً لهم على بدعتهم وضلالاتهم: إن استحضار هذا الأصل يقي من الانجراف وراء أوهام التقريب التي قد تكون أوقات الفتنة مروجةً لها؛ ولذا نؤكد على ما سبق في الأصل السابق، وهو أن مداراة هؤلاء لا يُقصد منها سوى دفع الضرر الأكبر عن المسلمين وعنهم، ولا يراد بها تقريرهم على بدعتهم البتة . فالتألف والمداراة دفع لأعظم الضررين بالنسبة لكل من أهل الحق وأهل البدعة، وإرجاء للتعامل الحاسم مع أهل البدعة إلى حين انطفاء نار الفتنة، وعودة الشوكة لأهل الحق .
رابعاً: إن مداراة أهل البدعة زمن الفتنة لا يعطل جهادهم بالبيان: فزمن الفتنة أدعى لانحسار السنة، وافتتان الناس بباطل التأويلات، وزيف البدع والضلالات؛ فكان الواجب المرابطة على ثغور السنة بالعلم والبيان والمحاجة العلمية بالدليل، فيجب على أهل العلم وحملته أن يجتهدوا ويشمروا في بيان معالم الحق، والكلام في كل ما يشكل على الناس من أصول دينهم، لا سيما ما له علاقة بطبيعة الفتنة الحاصلة كأن يدهمهم العدو، أو يشغر الزمان عن إمام، ونحو ذلك.
خامساً: مراعاة الترتيب الشرعي، وسياق الحال في مكافحة البدعة:فمن البدعة ما هو مكفر، ومنها ما هو مفسق، ومن البدعة ما هو أقرب إلى الواقع العملي، ومنها ما هو أقرب إلى التأصيل العلمي النظري، ولا يصح في الأذهان الانشغال بما هو أقل ضرراً عما هو أشد ضرراً، ولا الانشغال بما هو نازلةٌ واقعة بما هو نظري تأصيلي يحتمل التأخير.(/4)
وهذا مأخوذ من أصول الشرع الدالة على وجوب الانشغال بالأهم كما صح في حديث بعث معاذ رضي الله عنه إلى أهل الكتاب حيث أمره صلى الله عليه وسلم بدعوتهم إلى التوحيد، ثم إلى الصلاة، ثم إلى الزكاة كما هو معروف.
فعلى سبيل المثال: نجد اليوم إحياءً لمفهوم الإرجاء من زاوية خفية قاتلة هي زاوية تعطيل الولاء والبراء، والتدليس على الناس بمفهوم التسامح الديني المغلوط؛ إذ أن ترويج مفهوم الإرجاء يقدم قاعدة وأرضاً خصبة لبذر بذور تولي الكفار، وخذلان المؤمنين طالما أن إيمان أهل الإرجاء لا يختل بذلك، فمن المهم حينما ننكر على بدعة الإرجاء اليوم ألا ننحصر في سياقاتها التاريخية، وأعيان رجالاتها الذين أفضوا إلى ما قدموا، ولكن نبرز خطورة بدعة الإرجاء من خلال ثمرات الحنظل المرة المتمخضة في واقعنا اليوم .
فنبين للناس كيف أن دعوى سلامة الإيمان، وتحققه مع اجتماع النواقض العملية للإيمان؛ دعوى هدامة قد جرَّت على المسلمين الويل والثبور، فوطأت بلادهم بل وفرشهم أقدام العدو الكافر بتعاون خياني حقير من هؤلاء الذين لم يروا بأساً في مد يد العون إلى كافر محارب، ولا في خذلان مسلم مقهور، وأخذوا يخدرون حس المسلم الذي آلمه ذلك كله بجرعات من الإيمان الإرجائي الذي لا يضر معه معصية، ولا كفر عملي طالما أن القلب يعرف لا إله إلا الله – بزعمهم - واللسان يتمتم بها دون وعي، ولا أثر عملي في حياة قائلها.
وقل مثل هذا في أصحاب بدعة العلمانية، والاعتزال، والرفض، والخروج: نعم إن لهذه البدع جذوراً تاريخية يهم العالم والباحث معرفتها ودراستها، ولكننا نتحدث عن نشر علم السنة بين أبناء المجتمع عوامه ومتعلميه وعلمائه، فينبغي الربط بالواقع ما أمكن، وتأصيل الجزئيات ما أمكن، وتخصيص النواحي العلمية التخصصية بأهل العلم المتخصصين ما أمكن.
فالناس لا يهمها كثيراً أن تعرف الجعد بن درهم، ولا واصل بن عطاء، ولا القاضي عبد الجبار، ولكن يهمها أن تعرف رموز العلمانية وأذناب الاستعمار والاستشراق، وزنادقة العصر، وتعرف أن الذين يقتحمون بيوتهم، وينتهكون أعراضهم من الكفار المحاربين قد جاءوا بعون من هؤلاء على اختلاف وتفاوت في مقدار العون بين منظِّر وناعق بوق لأفكار الهدم والتضليل، وبين ماد يد العون العملية بفكر ووشاية وردء وتوجيه، وبين مشاركة حسية عملية عسكرية في مد يد العدوان الأثيم على حرمات المسلمين مع التستر بشتى أنواع التبرير والتضليل المنتسب إلى العلم والإسلام وفتاوى التدجين، فتأمل.
سادساً: تحرير مناط استحلال السيف في رقاب المنتسبين للبدعة إن اضطر إليه:مهما قلنا عن ضرورة استفراغ الوسع في جهاد أهل البدعة بالبيان فإن سياق الفتنة قد يفرز واقعاً يتمحض فيه ضرر بعض المنتسبين إلى البدعة وخطرهم العظيم على أهل الإسلام بحيث يكون السكوت عنهم واحتمالهم في جسد المسلمين الواحد أشبه بالصبر على عضو مسموم في الجسد أخذ يبث ذيفاناته وخبثه في باقي الجسد، ويوشك أن يأتي عليه، وفي هذه الحالات المتعينة قد لا يكون أمام الجماعة المسلمة بدٌ من توجيه السنان وتسليط السيف حيث لم تنجع المداواة بالحجة، والقرآن، والسنة،
وهنا ينبغي التنبه إلى أمور:
منها: ضرورة عدم التوسع في هذا المسلك اتقاء الفتنة.
ومنها: ضرورة تحرير مناط استباحة دماء هؤلاء، وبيان ذلك بما لا يوهم أن سبب استباحة دمه مجرد انتسابه للبدعة، وليس الأمر بسبب الخجل، أو الخوف من الحكم الشرعي، وإنما الخوف من التعميم في الحكم، والتوسع فيه بدون مبرر شرعي .
ولنتذكر أننا نتحدث عن واقع الفتنة لا عن واقع الاستقرار وظهور الشوكة، فتلك حالة أخرى يتسنى فيها للإمام المسلم، أو موكله أن يقيم الحجة، ويحكم بالحكم الشرعي القضائي في هؤلاء، إن متأولين تائبين، أو أهل أهواء مصرين، أو زنادقة أو مرتدين.
فعلى سبيل المثال: إذا ظهر في واقع الفتنة أن بعض المنتسبين إلى البدعة يستحلون تقديم الردء والمظاهرة للكافر المحارب على المسلمين، وقرر أهل العلم والخبرة أن إراحة المسلمين من هؤلاء متعينة؛ فيجب أن يكون العذر الشرعي في استباحة دماء هؤلاء هذه المظاهرة والخيانة لله ولرسوله لا مجرد انتسابهم للبدعة، وهذا مهم جداً لتقليل الهرج والفوضى في زمن الفتنة، وحتى لا يتهاون الناس في دماء معصومة، فتنبه لهذا كله فإنه دقيق .(/5)
سابعاً: قاعدة جليلة في رد التنازع إلى الله ورسوله:ولقد تركنا المسك للختام حيث إنه مهما أعيت المُنَافِحَ عن السنة الحيلةُ في رد الخصوم، وبيان تهافت الضلالات؛ فإن له ملاذاً آمناً لا يخذله البتة، ألا وهو قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا[59]}[سورة النساء] . قال الإمام أحمد رحمه الله:'أصول السنة عندنا التمسك بما كان عليه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم'[أصول السنة].
ولهذا: فإنك مهما وجدت صاحب فرقة وهوى يزعم الانتساب إلى الكتاب والسنة، فإنك لن تجده ينتسب إلى منهج الصحابة البتة، بل إن علامة أهل الفرقة ترك منهج الصحابة، وأمامك تاريخ الفرق وأهل الأهواء تأمله وراجعه؛ لتوقن أن أحداً منهم لا ينتسب إلى صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء، فمهما لبَّس عليك هؤلاء بتأويل آية متشابهة، أو حمل حديث على غير وجه الحق؛ فخاصمهم بسنن الصحابة رضوان الله عليهم، فإن كان لهم فيهم سلف وإلا، فهم صدر هذه الأمة ؛ إجماعهم حجة لازمة، واختلافهم رحمة واسعة، ولن تجد الحق خارجاً عن مجموع أقوالهم البتة، فتأمل.
وبعد، فإن هذا الموضوع من المواضيع الدقيقة والحرجة، ولا شك أن حيثيات كل جزئية من الواقع قد تتعلق بها من الملابسات ما يحتاج مزيد نظر وتأمل واجتهاد وتدقيق، وأذكر نفسي وإخواني في كل مكان سواء المرابطين على الثغور، أم المنشغلين في التنظير والتوجيه لعموم الأمة بضرورة التشاور والتريث، وعدم استعجال الأمور، ولنتذكر نحن أهل السنة والجماعة عظم المسئولية الملقاة على عاتقنا. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
من :' منهج التعامل مع أهل البدعة في وقت الفتنة ' للدكتور/ وسيم فتح الله(/6)
منهج الجهمية في أسماء الله وصفاته
يجب على المسلم إثبات أسماء الله وصفاته على الوجه اللائق بجلال الله وعظمته على وفق ما جاء في الكتاب والسنة؛ لأن هذا يدخل في باب الإيمان بالله عز وجل، وهو مذهب أهل السنة والجماعة، متخذين كتاب الله وسنة رسوله الدليل والمرجع في ذلك، عكس ما عليه الجهمية وتلاميذهم من المعتزلة والأشاعرة، الذين ينفون ما أثبته الله لنفسه من الأسماء والصفات، أو ينفون بعضا منها ويثبتون البعض الآخر تحكما منهم، ويجعلون مرجعهم في ذلك ما قررته عقولهم القاصرة أو قرره لهم أئمة الضلال، وفرق بين من جعل دليله الكتاب والسنة ومن جعل دليله نحاتة الأفكار وزبالة الأذهان؛ كما يقوله واحد منهم: وكل نص أوهم التشبيها أوله أو فوض ورم تنزيها
هذا تعاملهم مع نصوص الكتاب والسنة في باب أسماء الله وصفاته؛ التأويل، وهو صرف هذه النصوص عما دلت عليه من المعاني الجليلة إلى ما تقرره عقولهم من الأفكار العقيمة والآراء الباطلة، وما عجزت عنه عقولهم؛ فرفضوه واعتقدوا خلاف ما يدل عليه.
سبحانك ربي! ما أعظم شأنك! وما أحلمك على عبادك! إنهم نفوا عنك ما أثبته لنفسك من صفات الكمال ونعوت الجلال، وخالفوا كتابك، وقدموا ما أملته عليهم عقولهم على ما أنزلته في كتابك، نفوا عنك أسماءك وصفاتك، ونفوا عن كتابك حجيته وهدايته.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله في هؤلاء: "ومن ظن أنه أخبر عن نفسه وصفاته وأفعاله بما ظاهره باطل وتشبيه وتمثيل، وترك الحق لم يخبر به، وإنما رمز إليه رموزا بعيدة، وأشار إليه إشارات ملغزة، ولم يصرح به، وصرح دائما بالتشبيه والتمثيل الباطل، وأراد من خلقه أن يتعبوا أذهانهم وقواهم وأفكارهم في تحريف كلامه عن مواضعه، وتأويله على غير تأويله، ويتطلبوا له وجوه الاحتمالات المستكرهة، والتأويلات التي هي بالألغاز والأحاجي أشبه منها بالكشف والبيان، وأحالهم في معرفة أسمائه وصفاته على عقولهم وآرائهم لا على كتابه، بل أراد منهم أن يحملوا كلامه على ما لا يعرفونه من خطابهم ولغتهم، مع قدرته على أن يصرح لهم بالحق الذي ينبغي التصريح به، ويريحهم من الألفاظ التي توقعهم في اعتقاد الباطل، فلم يفعل، بل سلك بهم خلاف طريق الهدى والبيان؛ فقد ظن به ظن السوء.
فإنه إن قال: إنه غير قادر على التعبير عن الحق باللفظ الصريح الذي عبر به هو وسلفه؛ فقد ظن بقدرته العجز، وإن قال: إنه قادر ولم يبين، وعدل عن البيان وعن التصريح بالحق إلى ما يوهم، بل يوقع في الباطل المحال والاعتقاد الفاسد؛ فقد ظن بحكمته ورحمته ظن السوء.
ومن ظن أنه هو وسلفه عبروا عن الحق بصريحه دون الله ورسوله، وأن الهدى والحق في كلامهم وعباراتهم، وأما كلام الله؛ فإنما يؤخذ من ظاهره التشبيه والتمثيل والضلال، وظاهر كلام المتهوكين والحيارى هو الحق والهدى؛ فهذا من أسوء الظن بالله...".
إلى أن قال: "ومن ظن أنه لا سمع له ولا بصر ولا علم ولا إرادة ولا كلام إلا كلام يقوم به، وأنه لا يكلم أحدا من الخلق ولا يتكلم أبدا، ولا يقول، ولا له أمر ولا نهي يقوم به؛ فقد ظن به ظن السوء.
ومن ظن أنه ليس فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه، وأن نسبة ذاته إلى عرشه كنسبتها إلى أسفل سافلين؛ فقد ظن به أقبح الظن وأسوأه...". انتهى كلامه رحمه الله، وهو يعني به أولئك الذين نفوا ما أثبته الله لنفسه من صفات الكمال من الجهمية والمعتزلة والأشاعرة، ومعلوم أن من نفى عن الله صفات الكمال؛ فقد أثبت له أضدادها من صفات النقص، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
ثم يلزم من هذا أن يكون هؤلاء الضلال أعلم بالله وما يستحقه من الله؛ لأنهم نفوا عنه ما أثبته لنفسه، وزعموا أنه لا يليق به، وأي ضلال أعظم من هذا؟! وأي جرأة على الله أعظم من هذه الجرأة؟!
ويلزم من ذلك أيضا أن يكونوا أعلم بالله من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أثبت لله هذه الصفات، وهم نفوها وقالوا: إنها لا تليق بالله! وأي ضلال أعظم من هذا الضلال لو كانوا يعقلون؟!
كيف يكون هؤلاء الجهال الضلال أعلم بالله من نفسه تعالى الله عما يقولون؛ والله تعالى يقول: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا}، ولا أحد من الخلق أعلم بالله وما يستحقه وما يليق به من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟!(/1)
إن الذي حمل الجهمية وأتباعهم على نفي صفات الله عز وجل هو جهلهم بالله وسوء أفهامهم؛ حيث ظنوا أنه يلزم من إثبات هذه الصفات التي أثبتها الله لنفسه وأثبتها له رسوله يلزم منها التشبيه؛ لأنهم يرون هذه الصفات في المخلوقين، ولا يفرقون بين صفات الخالق وصفات المخلوق، ولم يفهموا من صفات الخالق إلا ما فهموا من صفات المخلوقين، ولم يعلموا أن صفات الخالق سبحانه تخصه وتليق به وصفات المخلوقين تخصهم وتليق بهم، ولا تشابه بين صفات الخالق وصفات المخلوق؛ كما أنه لا تشابه بين ذات الخالق وذوات المخلوقين؛ كما قال الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} فأثبت لنفسه السمع والبصر، ونفى عنه مشابهة الأشياء، فدل ذلك على أن إثبات الصفات لا يلزم منه المشابهة بين الخالق والمخلوق.
وهذا هو الأصل الذي سار عليه أهل السنة والجماعة في إثبات أسماء الله وصفاته؛ أثبتوا له ما أثبته لنفسه بلا تمثيل، ونزهوه عما نزه نفسه عنه بلا تعطيل.
أما الجهمية وتلاميذهم من المعتزلة والأشاعرة؛ فإنهم بنوا مذهبهم على أصل باطل أصلوه من عند أنفسهم، وهو أن إثبات هذه الصفات يقتضي التشبيه، فيلزم حيال النصوص الواردة بذلك أحد أمرين عندهم: إما تأويلها عن ظاهرها، واما تفويضها مع اعتقاد أن ظاهرها غير مراد، ولهذا يقول ناظم عقيدتهم: وكل نص أوهم التشبيها أوله أو فوض ورم تنزيها سبحانك ربي عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا.
وقد أجرى الله الحق على لسان هذا الناظم حيث قال: "وكل نص أوهم التشبيها"؛ فبين أن مذهبهم مبني على الوهم لا على الحق؛ لأنهم توهموا أن هذه النصوص تقتضي التشبيه، فراحوا يؤولونها!! وهل الوهم يا عباد الله تعارض به النصوص وتبنى عليه عقيدة؟! إن الوهم أقل درجة من الظن، والله تعالى يقول في الظن: {وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا}!!(/2)
منهج السلف في الإيمان بالكتب السماوية ...
الإيمان بالكتب السماوية ركن من أركان عقيدة الإسلام ، دل على ذلك قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيداً } (النساء:136) وقد أخبر صلى الله عليه وسلم - في حديث جبريل - أن الإيمان بالكتب السماوية ، جزء من حقيقة الإيمان ، وذلك بقوله: ( الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ) رواه البخاري ومسلم .
ويتضمن الإيمان بالكتب عدة أمور نذكر منها :
1/ الإيمان بأنها كلام الله تعالى لا كلام غيره، وأن الله تعالى تكلم بها حقيقة كما شاء، وعلى الوجه الذي أراد .
2/ الإيمان بأنه كان واجباً على الأمم الذين نزلت عليهم تلك الكتب الانقياد لها ، والحكم بما فيها كما قال تعالى بعد ذكر إنزال التوراة : { وَمَن لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ الله فَأُولَئِكَ هُمُ الكَافِروُنَ } ، وقال : { ولْيحْكُمْ أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأُولئك هم الفاسقون } ( المائدة : 47 ) فدلت الآيتان على وجوب أن يحكم أهل كل ملة بما أنزل الله عليهم ، وذلك قبل أن يطرأ النسخ على تلك الكتب .
3/ اعتقاد أن جميع الكتب السماوية يصدق بعضها بعضاً ولا يكذبه ، فكلها من عند الله سبحانه ، قال تعالى : { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً } ( النساء الآية : 82 ) . فالإنجيل مصدق لما تقدمه من كتب كالتوراة ، قال تعالى { وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاة } ( المائدة:46) والقرآن مصدق لجميع الكتب السماوية السابقة قال تعالى : { والَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ } (فاطر:31) ، وإنما حصل الاختلاف في التوراة والإنجيل بسبب التحريف الذي دخلهما .
4/ اعتقاد أن كل من كذّب بها أو بشيء منها فقد كفر ، كما قال تعالى: { وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } ( الأعراف:36)
5/ الإيمان بأَنَّ نسخ الكتب السماوية اللاحقة لغيرها من الكتب السابقة حق ، كما نسخت بعض شرائع التوراة بالإنجيل ، قال الله تعالى : في حق عيسى عليه السلام { وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ ولأحلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ } (آل عمران:50) ، وكما نسخ القرآن كثيرا من شرائع التوراة والإنجيل ، قال تعالى: { الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبي الأميَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ والإنجيل يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون َ} ( الأعراف:157) .
فهذا بعض ما يجب على المسلم اعتقاده في الكتب السماوية، التي أمرنا بالإيمان بها ، نسأل الله صدق الإيمان ، وحسن الختام ، والحمد لله رب العالمين .(/1)
منهج السلف في القرآن
الدكتور عبدالرحمن بن صالح المحمود
إن مصدر السلف الصالح في التلقي في العقيدة هو الكتاب والسنة والإجماع.
أ- القرآن الكريم
وهو اسم لكلام الله - تعالى -المنزل على عبده ورسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - المتعبد بتلاوته- وهو ما بين دفتي المصحف- المفتتح بقوله - تعالى -: ((الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)) والمختوم بقوله: ((مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ)).
وأهل السنة والجماعة يؤمنون بأن القرآن كلام الله غير مخلوق، منه - تعالى -بدأ فهو الذي تكلم به وأوحاه إلى عبده. وإليه يعود ويرفع- في آخر الزمان- كما ثبت في الأحاديث الصحيحة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
وهذا القرآن معجزة كبرى من معجزات الرسول - صلى الله عليه وسلم - الدالة على نبوته. وقد تحدى الله المخالفين أن يأتوا بمثله أو بعشر سور من مثله، أو بسورة من مثله، أو بآية أو حديث من مثله. فعجزوا على شدة عداوتهم للرسول - صلى الله عليه وسلم - وللإسلام، وسيبقون عاجزين.
وقد أجمع الصحابة ومن بعدهم، على أمرين:
أحدهما: أن هذا القرآن قد - حفظه الله - تعالى -من الزيادة والنقصان: ((إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)) لهذا، فقد وصل إلينا متواتراً.
الثاني: الإجماع على المصحف والخط العثماني، وأن شرط القراءة- بعد ثبوتها وتواترها- أن تكون موافقة للرسم العثماني.
وعلى ذلك فقد أجمعوا على أن من أنكر حرفاً من كتاب الله - تعالى - مجمعاً عليه فهو كافر، خارج عن دائرة الإسلام.
وهنا يلحظ ما للقرآن من أسماء، فهو قرآن، وكتاب، وذكر، وبيان، ونور، وروح، وفر قان، وبرهان...إلخ، ولكن أشهرها:
* أنه قرآن: وهذا إشارة إلى أنه يتلقى عن طريق القراءة.
* وأنه كتاب: فهو مكتوب، ولذا أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بكتابته وحده دون غيره في أول الإسلام، ثم صار لا يقبل إلا ما وافق الخط والرسم العثماني.
ولما كان القرآن- من ناحية الثبوت والقطعية- بهذه المثابة عند جميع المسلمين، استقر عند المسلمين:
ا- الاستدلال به، والثقة المطلقة بكل ما جاء به، من أحكام، أو أخبار- سابقة أو لاحقة-ولهذا أمر الله بتدبره فقال: ((أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً)).
2- يقينهم بحفظ هذا القرآن، ومن ثمَّ فهو لم ينزل لفترة زمنية معينة يعالج أوضاعها، ثم انتهت، بل يؤمنون أنه هداية ومنهج تشريع إلى قيام الساعة، وكل آية نزلت بسبب، فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
3 - أن هذا القرآن جمع بين وصفين عظيمين:
* أنه ذكر للمؤمنين وللكفار لتقوم عليهم الحجة، قال - تعالى -: ((وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُون))
* أنَّه مبارك: ((وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ)) ومن ثم فلا مقارنة بين صفحة من القرآن، وركام من آلاف الكتب.
4- أن هذا القرآن- منهج حياة- ومن ثم فقد أنزل ليحقق مقاصد عظمى للأمة الإسلامية، حين تعتصم بحبل الله المتين ونوره المبين وصراطه المستقيم.
ومن ذلك:
* الدعوة إلى الإيمان بالله وعبوديته وحده لا شريك له.
* الهداية العامة في الدنيا والآخرة، للفرد وللأسرة والمجتمع.
* ربط الأحكام الشرعية على مختلف متعلقاتها، بالعقيدة. وهذا واضح في منهج القرآن، قارن بالقوانين التي ترتبط الناس بأصول القوانين المادية والبشرية فقط.
* بيان أن معركة الإسلام، ومعركة الأمة الإسلامية مع أعدائها، هي معركة العقيدة.
* بيان سبيل المجرمين. ((وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِين))َ و- بيان قيمة كل من الدنيا والآخرة، وربط الأولى بالثانية في حياة الأمة.
* التأكيد على طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - والتحاكم إلى ما جاء به، وأن ما جاء به وحي من الله - تعالى -، سواء كان قرآناً أو سنة.
* أن هذا القرآن كله محكم متقن. وأن ما قد يشتبه على بعض القاصرين في فهم القرآن وتفسيره عليهم أن يردوا المتشابه إلى المحكم، فهو متشابه عندهم فقط. أما من رسخ في هذا القرآن فلا يشتبه عليه، وغير ذلك.
هذا ما كان مستقراً لدى الصحابة ومن بعدهم من السلف الصالح- رحمهم الله - تعالى-ولكن- ويا للأسف- إن المتأمل في أحوال الأمة الإسلامية اليوم، يرى أنواعاً من الخلل، قد وقع في تعاملها مع هذا القرآن، ولكن ذلك على درجات:
1- فأعلاها وأخبثها، من يزعم أن هذا القرآن محرف أو ناقص، وهذا مذهب الرا فضة وبعض هؤلاء ينكر تحريف القرآن، ولكن:
* التقية دينهم، ولما كان إنكار حرف من القرآن كفر فالتقية واجب أمام من عداهم من المسلمين.
* موقفهم من الصحابة. فهل يعقل أن يقال عن الذين ارتدوا إن جمعهم للقرآن كان صحيحاً.
2- وطائفة قريبة من هؤلاء، بل هي منهم، تأولوا القرآن تأويلات باطنية:
* ((إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً)) قالوا: هي عائشة.(/1)
* ((يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَان)) قالوا: الحسن والحسين.
* ((وَقَالَ اللّهُ لاَ تَتَّخِذُواْ إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلهٌ وَاحِدٌ)) قالوا: إنما هو إمام واحد.
* ((وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيراً)) قالوا: الكافر عمر- رضي الله عنه-.
* ((فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي مِن شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ)) قالوا: هي كربلاء.
3- أولئك الذين استغنوا عن القرآن واستبدلوا به كتباً أخرى، جعلوها منهجاً لهم:
* فلاسفة الإسلام: إشارات ابن سينا.
* فلاسفة الصوفية: دلائل الخيرات، وإحياء علوم الدين للغزالي.
4- من آمن بالقرآن لكن لم يقبل منه إلا ما وافق القواعد العقلية التي قرروها. حيث أتوا إلى القرآن بمقررات وأصول عقلية سابقة. وهي المدرسة العقلية القديمة والحديثة.
5- وبعضهم ظن أنَّ القرآن كتاب فلك وطب ونحو ذلك من العلوم المادية، فوقعوا في أخطاء:
* الهزيمة الدخلية التي تصور لهؤلاء أن العلم الحديث هو المهيمن والقرآن تابع.
* التأويل المستمر لآياته لتوافق النظريات والفروض العلمية.
6- أما جماهير المسلمين اليوم- إلا من عصم الله-فكثير منهم اتخذ هذا القرآن مهجوراً:
* فاقتصر عند بعضهم على الأموات دون الأحياء، فلا يقرأ إلا في المآتم.
* وصار بركة يستفتح به في الإعلام- حتى إذاعة اليهود-
* هجر العمل به والحكم به.
* هجر تلاوته وتعاليمه.
27/8/1426 هـ
http://www.islamlight.net المصدر:(/2)
منهج الصحابة في التفسير
لا شك أن من عاصر نزول الوحي، وعاصر من نزل عليه الوحي، وعاصر خير من فسر وطبق الوحي - وهو خاتم المرسلين - أعرف بمقصود كتاب الله وتفسير ما جاء به.
ولا شك أيضاً أن الصحابة رضوان الله عليهم لم يكونوا على درجة واحدة في فهم مقصود القرآن الكريم، كما لم يكونوا كذلك على درجة واحدة في تلقِّيه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإن بعضهم تلقاه منه مباشرة، وبعضهم تلقاه عن طريق غيره من الصحابة.
والمتأمل فيما نُقل عن الصحابة من تفاسير لآيات قرآنية يجد أن مصادر تفسيرهم كانت تعتمد على القرآن أولاً؛ لأن القرآن يُفسر بعضه بعضاً، ففيه آيات وردت على سبيل الإجمال، وفيه آيات جاءت مفصِّلة لذلك الإجمال؛ من أمثلة ذلك قوله - تعالى -: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ …}(النساء: 7) فهذه الآية أثبتت أصل التوارث دون أن تفصِّل القول فيه، ثم جاءت الآيات بَعْدُ ففصَّلت ما أجملته هذه الآية، وذلك في قوله - تعالى -في السورة نفسها: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ…}(النساء: 11) وقوله كذلك: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ…} (النساء: 12) ونحو هذا كثير.
فإن لم يسعفهم ذلك رجعوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو إلى ما نُقل عنه، لأنه - صلى الله عليه وسلم - من وظيفته البيان والتبيان، كما قال - تعالى -: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (النحل: 44) وهذا أوضح من أن يُستدل عليه.
وإن لم يقفوا على شيء من بيانه - صلى الله عليه وسلم - اجتهدوا في تفسير كتاب الله؛ وقد صح عند البخاري من حديث أبي جُحَيْفة - رضي الله عنه - قال: (قلت لعلي - رضي الله عنه -: هل عندكم شيء من الوحي إلا ما في كتاب الله؟ قال: لا، والذي فَلَقَ الحبة، وبرأ النسمة، ما أعلمه إلا فهمًا يعطيه الله رجلاً في القرآن).
ثم إضافة لما تقدم كان من مصادر التفسير عند الصحابة بعض أقوال أهل الكتاب، وكان الصحابة - رضي الله عنهم - يسألون بعض علماء أهل الكتاب، الذين أنعم الله عليهم ودخلوا في الإسلام، كـ عبد الله بن سلام وكعب الأحبار وغيرهما، بيد أن رجوع بعض الصحابة إلى أقوال أهل الكتاب لم يكن من الأهمية في تفسير كتاب الله ما كان للمصادر السابقة من أهمية، وإنما كان مصدراً ثانوياً ليس إلاَّ.
والذي يعنينا من كل ما سبق أن تفسير الصحابة للقرآن له أهمية بالغة في فهم المراد من كتاب الله - عز وجل -؛ لأنهم أقرب الناس عهداً بنزول الوحي، وأقرب الناس إلى مَن نزل الوحي عليه، حتى إن بعض أهل العلم رأى أن تفسير الصحابة له حكم الحديث المرفوع، أي كأنه من تفسير رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وهذا القول وإن كان لا يخلو من مبالغة ظاهرة، إلا أن فيه ما يدل على أهمية تفسير الصحابة، ومكانته في تفهم المراد من كتاب الله.
بقي أن نقول في ختام هذه العُجالة، إن من أشهر مفسري الصحابة ابن عباس - رضي الله عنه -، وقد دعا له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله: (اللهم فقِّه في الدين وعلِّمه التأويل)رواه الإمام أحمد. وقال فيه عبد الله بن مسعود: (نِعْمَ ترجمان القرآن ابن عباس) أما ابن عمر فيقول فيه: (ابن عباس أعلم أمة محمد بما نزل على محمد).
ومما ينبغي الإشارة إليه هنا أنه نُسب لـ ابن عباس كتاب في التفسير تحت عنوان "تنوير المقابس في تفسير ابن عباس" ولم يُثْبِت صحة هذا التفسير لابن عباس أحدٌ من أهل العلم والتحقيق.
ومن مفسري الصحابة المشهورين أيضاً عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -، وكان من أوائل الذين دخل الإسلام قلوبهم، وكان كثير الملازمة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو أحفظ الصحابة لكتاب الله، وكان رسول الله صلى الله وسلم يقول فيه: (من سرَّه أن يقرأ القرآن غضًا كما أُنزل، فلْيَقرأه على ابن أم عبد)رواه أحمد في "مسنده" وإسناده صحيح. والآثار في ذلك كثيرة تشهد بعلو باعه - رضي الله عنه - في معرفة تفسير كتاب الله.
وإضافة لما ذكرنا، اشتهر من مفسري الصحابة علي وأُُبي ابن كعب - رضي الله عنهما -، ولا يتسع المقام لتفصيل القول في ذلك، وفيما ذكرنا تنبيه لما لم نذكره، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، والحمد لله رب العالمين.
الأربعاء: 27/11/2002
http://www.islamweb.net المصدر:(/1)
منهج العلامة ابن باز في بيان الحق للمخطئين
د. محمد بن إبراهيم أباالخيل أستاذ مساعد في كلية العلوم العربية والاجتماعية/ جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالقصيم 30/3/1423
11/06/2002
ليس بغريب أن يبكي المسلمون في الداخل والخارج – بحرفة – شيخنا العلامة أبا عبدالله عبدالعزيز بن عبدالله بن باز – رحمه الله - ، وأن يأسفوا كثيراً لفقده بمظاهر متنوعة ، وأساليب رأيناها وعايشناها منذ أن صك أسماعنا خبر وفاته ، فمحبته قد ضربت بأطنابها في أعماق قلوب الناس لما لمسوه من علمه وإخلاصه وتواضعه وزهده وأعماله الجليلة في أكثر من حقل ومجال ، وقد صدق الشيخ يوسف القرضاوي في قوله :"لا أعرف أحداً يكره الشيح ابن باز من أبناء الإسلام ، إلا أن يكون مدخولاً في دينه ، أو مطعوناً في عقيدته ، أو ملبوساً عليه . فقد كان الرجل من الصادقين الذين يعلمون فيعملون ، ويعملون فيخلصون ، ويخلصون فيصدقون ، أحسبه كذلك والله حسيبه ،ولا أزكيه على الله تعالى ".
قد خلّف ابن باز – رحمه الله – تراثاً علمياً وفكرياً ضخماً ، توزع بين الأسفار المكتوبة والأشرطة المسموعة ، وتركز في العقيدة والفقه والحديث ، وفي أبواب هذه العلوم وجوانبها وزواياها كانت له نظراته المتميزة ، ومناهجه الخاصة ، وخواطره الفياضة ، وتعليقاته القيمة ، وكل هذه يمكن لطلبة العلم إبرازها والاستفادة منها ، وتخصيص دراسات حولها .
إن من الجوانب المهمة التي كانت منذ سنوات تشد انتباهي في محاضرات الشيخ – رحمه الله – وكتاباته أسلوبه المتميز في مناقشة الآخرين وبيان الحق لهم والرد على أخطائهم ، ذلك الأسلوب الذي يفتقده – يا للأسف – العديد من العلماء وطلبة العلم والدعاة في الزمن الغابر والحاضر الذين إذا طالعت كتاباتهم في هذا المضمار ألفيتها تفتقد إلى كثير من أخلاق الإسلام في معاملة الآخرين والحكم عليهم ، وتفتقر إلى أدنى قواعد المنهج الصحيح في الدعوة إلى الله تعالى والمجادلة بالتي هي أحسن بينما يطمئن القلب ، وتنقاد النفس إلى كتابات هذا الشيخ الجليل (ابن باز ) الذي تمثل آداب الإسلام وهديه فيما يصدر عنه من أقوال ، دع عنك بقية أحواله .
ومن باب النصح لله ولكتابه ولرسوله صلى الله عليه وسلم ولخاصة المسلمين وعامتهم ، وبما أوجبه الله على أهل العلم من قول الحق وعدم كتمانه ، والقيام بالدعوة إلى الله والإرشاد إلى سبيله ، والدفاع عن دينه ، والذب عن حياضه ، قام ابن باز بواجبه المنوط به على مدى عقود من الزمن ، فجاهد بلسانه وقلمه ، فوقف في وجه الدعوات الهدامة والاتجاهات المنحرفة ، وشارك في معالجة كثير من القضايا المستجدة ، وتكلم وكتب موجهاً للجاهلين ، ومصححاً للمخطئين ، ومناقشاً للمجتهدين ، ورداً على المعاندين ، سواء ما كان في الوسائل المسموعة أو المقروءة .
وقد وصل عدد ما طالعته من رسائله ومقالاته التي حررها للتنبيه عن الأخطاء وبيان الحق (الردود) ما يقرب من ثلاثين ، كان معظمها حول ما ورد في صحف ومجلات ، وباقيها القليل حول ما جاء عبر التليفزيون والإذاعة ، وقد كانت نسبة ضئيلة منها رداً على أحد تعرض له ، أما القسم الأكبر فقد أنشأه الشيخ لما يراه واجباً عليه من كشف الباطل وإيضاح الحق ، وتعليم الجاهل ، وتوجيه الغافل ، ورد الشارد إلى الطريق المستقيم .
ومن خلال ما اطلعت عليه من آثار الشيخ في نقد أقوال الآخرين وكتاباتهم رصدت مجموعة من الضوابط والآداب التي كان يلتزم بها ويستند إليها عند عرضه للآراء والأقوال ، ومن ثم مناقشتها والحكم على أصحابها ، وأستطيع أن أجملها في النقاط التالية :
أولاً : ذكره لصاحب المقال أو البحث أو الكتاب المراد مناقشته باسمه الذي وقع به مقاله أو بحثه أو كتابه ، وذلك من حين أن يبدأ بيان الحق له وحتى النهاية ، كما أنه لا يُغفل لقبه العلمي كالشيخ أو الدكتور ونحوهما ، ثم إنه لا يأخذه الحماس في الرد – كما يفعل بعضهم – إلى تحريف الاسم أو الاكتفاء بجزء منه ازدراءً واحتقاراً ، كما لا تجره حدة المناقشة إلى السخرية من عنوان المقالة أو البحث أو الكتاب ، أو التندر ببعض ألفاظ الكتاب كما يفعل بعض المولعين بالردود على الآخرين وانتقاد كتاباتهم .
ثانياً : نقله لأقوال المتحدث أو الكاتب بنصوصها الكاملة غير مبتسرة من وسطها أو أطرافها ، ثم مناقشتها مناقشة علمية ، عبارة بعد أخرى ، أو مقطعاً بعد آخر .
ثالثاً : استخدام الألفاظ الدارجة ، والعبارات السهلة في حواره مع الكاتب أو المتحدث ، بحيث يفهم المقصود من أول وهلة ، فهو يهتم بالمعنى قبل المبنى ، فلا يرص كلمات وعبارات من حوشى الكلام ، فتضيع الفائدة في ركام من الكلمات والعبارات ، وقد يفهم منها خلاف المقصود
رابعاً : اعتماده في تنبيهاته للمخطئين في كتاباتهم على كتاب الله تعالى وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم أقوال السلف والأئمة الأعلام من المتقدمين والمتأخرين ، ويكون نقله نقلاً موثقاً .(/1)
خامساً : الصدع بكلمة الحق وما يراه صواباً دون مماراة أو مداهنة ، ولكن ذلك يكون بأدب جم ، وأسلوب هادي ، وتوجيه حكيم ، وكلمات مهذبة ، وكل كتاباته في هذا الميدان تشهد بما نقول ، ولنأخذ مثلاً واحداً ، فلقد دعا أحد المشايخ – في مقالٍ له – إلى جمع الكلمة بين الفئات الإسلامية ، وتضافر الجهود ضد أعداء الإسلام ، وأن الوقت ليس وقت مهاجمة أتباع المذاهب . فرد الشيخ رحمه الله بقوله :" ولا ريب أنه يجب على المسلمين توحيد صفوفهم ، وجمع كلمتهم على الحق ، وتعاونهم على البر والتقوى ضد أعداء الإسلام كما أمرهم الله سبحانه بذلك عز وجل { واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا } وحذرهم من التفرق بقوله سبحانه { ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات } الآية . ولكن لا يلزم من وجوب اتحاد المسلمين وجمع كلمتهم على الحق واعتصامهم بحبل الله ألا ينكروا المنكر على من فعله أو اعتقده من الصوفية وغيرهم ، بل مقتضى الأمر الاعتصام بحبل الله أن يتآمروا بالمعروف ، ويتناهو عن المنكر ، ويبينوا الحق لمن ظنه ، أو ظن ضده صواباً بالأدلة الشرعية حتى يجتمعوا على الحق وينبذوا ما خالفه ، وهذا مقتضى قوله سبحانه { وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان } ، وقوله سبحانه :{ ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون } ، ومتى سكت أهل الحق عن بيان أخطاء المخطئين ، وأغلاط الغالطين لم يحصل منهم ما أمرهم الله به من الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ومعلوم ما يترتب على ذلك من إثم الساكت عن إنكار المنكر وبقاء الغالط على غلطه ، والمخالف للحق على خطئه ، وذلك خلاف ما شرعه الله سبحانه من النصيحة والتعاون على الخير ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والله ولي التوفيق ".
سادساً : توقيره للعلماء داخل البلاد وخارجها على حد سواء ، واحترامه لآرائهم وفتاويهم ، وإن خالفهم في شيء منها بيِّن رأيه المدعم بالأدلة متجنباً تجهيل الآخر ، أو تسفيه قوله ، بل تراه يدعو لنفسه أولاً وللقائل ثانياً بالتوفيق لإصابة الحق ، فمثلاً أفتى أحد العلماء المعاصرين بأن اللحوم المستوردة من أهل الكتاب مما يذكر بالصعق الكهربائي ونحوه حلال لنا ما داموا يعتبرونها حلالاً . فرد عليه – رحمه الله – بقوله:" أقول هذه الفتوى فيها تفصيل " ثم راح يفصل ما يحل منها للمسلمين وما يحرم ، ثم قال :" وبما ذكر يتضح ما في جواب الشيخ ...(1). وفقه الله من الإجمال " ثم أكمل بقية بيانه ، ثم قال :" ولواجب النصح والبيان والتعاون على البر والتقوى جرى تحريره ". وبعدها ختم كلمته بالدعاء بقوله : " وأسأل الله أن يوفقنا وفضيلة الشيخ ... وسائر المسلمين لإصابة الحق في القول والعمل إنه خير مسئول ...".
سابعاً : إنصاف الشيح – رحمه الله – للمخالف ، فلا يُغفل ما احتواه مقاله من حق وصواب ، وإن كان الغرض الأساس من تناول ذلك المقال استدراك ما فيه من أخطاء ، فعلى سبيل المثال اطلع على بحث يحلل فيه صاحبه المعاملات الربوية المصرفية ، ويقول في مطلعه :" يمكن القول إنه لن تكون هناك قوة إسلامية بدون قوة اقتصادية ، ولن تكون هناك قوة اقتصادية بدون بنوك ، ولن تكون هناك بنوك بدون فوائد ". فرد سماحته :" يمكن تسليم المقدمة الأولى ، لأن المسلمين في كل مكان يجب عليهم أن يعنوا باقتصادهم الإسلامي بالطرق التي شرعها الله سبحانه حتى يتمكنوا من أداء ما أوجب الله عليهم وترك ما حرم الله عليهم ، وحتى يتمكنوا بذلك من الإعداد لعدوهم ، وأخذ الحذر من مكائده " ثم أخذ يشرح الوسائل الكفيلة بتكوين قوة اقتصادية للمسلمين ، ثم قال :" وأما المقدمتان الثانية والثالثة وهما قوله ولن تكون هناك قوة اقتصادية بدون بنوك ، ولن تكون هناك بنوك بلا فوائد ، فهما مقدمتان باطلتان " ثم شرع بشرح بطلانهما ، فبين أن الأدلة الشرعية ، وما درج عليه المسلمون من عهد نبيهم صلى الله عليه وسلم إلى أن أنشئت البنوك كل ذلك يدل على بطلان هاتين المقدمتين ، حيث استقام اقتصاد المسلمين طيلة القرون الماضية بدون بنوك وبدون فوائد ربوية .(/2)
ثامناً : كان رحمه الله تعالى يناقش النص الذي أمامه ، ويتجنب الحكم على النيات وما يدور في القلوب مما لا يعلمه إلا علام الغيوب ، ويعرض عن حشد الأخطاء الموجودة في ذلك المقال أو البحث لتكون مقدمات ومعطيات لإصدار حكم معين على القائل ناهيك عن عودته إلى كتابات سالفة للمخالف بغرض تصديق حكمه عليه كما يفعل بعض الناس ، فمنهجه أخذ كلام القائل على الظاهر ، وحمله على أجمل المحامل ، والتماس العذر للبعض أحياناً ، فمن الأمثلة على ذلك أنه عندما أعلن أحد المشايخ إنكاره لتلبس الجني بالإنسي ، واستحالة مخاطبة الجن للإنس ، وأبدى استعداده للتراجع عن قوله هذا إن أُثبت له خلافه . رد عليه سماحة الشيخ ، وأثبت له بالأدلة النقلية والعقلية تلبس الجن بالإنس وجواز مخاطبة الجني للإنسي ، ثم عقب بقوله :" وقد وعد في كلمته أن يرجع إلى الحق متى أرشد إليه ، فلعله يرجع إلى الصواب بعد قراءته ما ذكرنا ، نسأل الله لنا وله الهداية والتوفيق ". ولما نشرت بعض الصحف مقالات حول إحياء الآثار والاهتمام بها ، وتصدى لها سماحة الشيخ عبدالله بن حميد رحمه الله وكتب أحدهم بعده مقالاً في الموضوع نفسه أنشأ ابن باز جواباً رد فيه على صاحب المقال الأخير ، وحمله على الظاهر وظن به الظن الحسن ، فكان من كلامه بعد ذكره رد ابن حميد على المقالات قوله :" ولكن الأستاذ ... هداه الله وألهمه رشده لم يقتنع بهذا الرد ، أو لم يطلع عليه فكتب مقالاً في الموضوع ". وحين كتب أحد الصحفيين العرب مقالاً يدعو فيه إلى الاهتمام بما في المدينة المنورة من آثار وقبور ، لا سيما قبور أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأزواجه وعماته ، ثم اقتراحه على إدارة الأوقاف وضع لوحات يكتب فيه أسم صاحب القبر ، ويحاط بشبك من حديد . رد عليه سماحته وحمله على الخير ، وعذره بعدم علمه ، فكان مما قاله بعد أن وضح له الحق :" قد يكون هذا الاقتراح من الكاتب عن حسن نية ومقصد صالح ، ولكن الآراء والاستحسانات لا ينبغي للمؤمن الاعتماد عليها حتى يعرضها على الميزان العادل الذي يميز طيبها من خبثها ألا وهو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، ولعل الكاتب حين كتب هذه الكلمة من أولها إلى آخرها لم يكن عنده علم بما جاءت به السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حول القبور ، فلذلك وقعت منه الأخطاء السالفة ، ووقع منه هذا الخطأ الأخير وهو اقتراحه على إدارة الأوقاف ما تقدم ذكره ....".
تاسعاً : حسب ما اطلعنا عليه من كتابات وأقوال في ردوده على المخطئين ومخاطبته للمخالفين لا نرمق فيها كلمة تحامل أو تجريح ، أو لمز بعيب ، أو زن بريبة ، أو رمي ببدعة ، أو عبارات تهجم أو تشفٍ حتى من الذين أخطاءوا في حقه أو سخروا منه أو كذبوا عليه ، فحينما سخر منه أحدهم لكون سماحته استمع إلى جني متلبس بامرأة ، وأن هذا الجني أسلم في مجلسه ، ذكر هذا الساخر باسمه ولقبه العلمي المعروف فقال :" فقد بلغني عن فضيلة الشيخ ... أنه أنكر مثل حدوث هذا الأمر " وكلما أورد اسمه قدم له بـ( فضيلة الشيخ ) ، وفي أثناء الرد عليه كان لا يكف عن الدعاء له بالهداية والتوفيق . ومثال آخر كان أحد الكتاب خارج المملكة تكلم على لسانه بأن أي فتوى تصدر منه يجب أن تكون ممهورة بخاتمة ومصدقة من وزارة الأوقاف الإسلامية ، ثم نسب إليه كلاماً عن حلق اللحية . فرد عليه سماحته ، فكان من رده بعد الحمدلة والتصلية قوله : " فقد اطلعت على ما نشر في جريدة .... لكاتبه .... وقد نسب إلي هداه الله كلاماً " – لاحظ الدعاء له بالهداية –ثم ذكر ذلك الكلام ، وبعد عقب بقوله : " وهذا الكلام ظاهر البطلان " ثم أخذ يبين له الحق ثم نصحه بالتقوى والحذر من سوء الظن بالمسلمين . ومثال ثالث افترت عليه إذاعة لندن – ذات مرة – الفتوى بأن الاحتفال بالموالد كفر ، فوضح كذبها وتحريفها للفتوى التي قال فيها بأن الاحتفال بالموالد من البدع المحدثة في الدين ، ونشرت في الصحف والإذاعة ، ثم لم يزد رحمه الله عن قوله بأن ما ذكرته إذاعة لندن " كذب لا أساس له من الصحة ، وكل من يطلع على مقالي يعرف ذلك ،وإني لآسف كثيراً لإذاعة عالمية يحترمها الكثير من الناس ، ثم تقدم هي أو مراسلوها على الكذب الصريح ".(/3)
عاشراً : يلاحظ أثناء توضيحه الحق لأحد من العلماء أو من دونهم دعاءه له بين آونة وأخرى بالهداية والتوفيق والرشاد والمغفرة ونحو ذلك ، وتشعر من كلمات الدعاء وصيغته والمواضع التي يدعو بها للمخالف أو المخطئ بأنه دعاء مخلص صادق ، يخرج من سويداء القلب ، وليس دعاءً عابراً ، أو دعاء له في موضع ودعاء عليه في موضع آخر كما تراه عند البعض ، فكان من الصيغ التي يستخدمها في الدعاء لمن يكتب له ، أو يرد عليه قوله "هداه الله"،"هداه الله وألهمه التوفيق"،"هداه الله وألهمه رشده"،"سامحه الله". وأحياناً يشرك نفسه في الدعاء ، فيقول :"عفا الله عنا وعنه"،"نسأل الله لنا وله التوفيق". وإذا كان القائل أو الكاتب قد نادى في مقاله بأمر خطير يُحلل حراماً ، أو يصادم حكماً من أحكام الإسلام فإنه ينصحه بالإنابة إلى الله تعالى والرجوع إلى الحق وعدم التمادي في الباطل . فمثلاً – ختم رده الطويل على من أباح الغناء بالنصيحة ، فقال :" ونصيحتي لـ ... وغيره من المشغوفين بالغناء والمعازف أن يراقبوا الله ويتوبوا إليه ، وأن ينيبوا إلى الحق ، لأن الرجوع إلى الحق فضيلة ،والتمادي في الباطل رذيلة ...". أما الكاتب الذي زعم حل المعاملات الربوية المصرفية فسأل الله له أن يوفقه " للرجوع إلى الحق ، والتوبة مما صدر منه ، وإعلان ذلك على الملأ لعل الله أن يتوب عليه كما قال عز وجل :{ وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون }". وحين نادى مدير إحدى الجامعات العربية بالتعليم المختلط بين الجنسين ، وزعم أن المطالبة بعزل الطالبات عن الطلاب مخالفة للشريعة . رد عليه الشيخ رحمه الله ، وكان يدعو له خلال مناقشته لأقواله بمثل "هداه الله ، وأصلح قلبه ، وفقهه في دينه"، ثم ختم الرد بالنصيحة له فقال :" ونصيحتي لمدير جامعة ... أن يتقي الله عز وجل ، وأن يتوب إليه سبحانه مما صدر منه ، وأن يرجع إلى الصواب والحق ، فإن الرجوع إلى ذلك هو عين الفضيلة والدليل إلى تحري طالب العلم للحق والإنصاف ...".
حادي عشر : رغم ما بلغه من مقام علمي ومنزلة اجتماعية فإنك لا تخال في كتاباته في هذا الميدان أي كلمة أو عبارة يفهم منها تعالمه عن من هم دونه ، أو تعاليه على غيره ، والناظر في ردوده على الآخرين يدرك ذلك تماماً ، ولعل أصدق الأدلة على ما نحن بصدده كونه يخاطب بعض الصحفيين أو الكتاب المغمورين بـ"الأستاذ" أو "الأخ" أو "أخانا" ونحو ذلك .
ثاني عشر : مع أن كل رسالة أو مقالة كتبها في هذا الفن كانت في الأصل لبيان الحق لقائل أو كاتب بعينه ، فتراه يناقش عباراته مناقشة وافية إلا أن هدفه – رحمه الله – كان أسمى من الرد على فلان أو علان ، إذ تلاحظ حرصه أثناء ذلك على توجيه الناس للعلم الشرعي والتمسك بالعقيدة الصحيحة ، ودعوتهم إلى الخير وطرقه ، وتحذيرهم من الشر وأساليبه ، وتذكريهم بمكر الأعداء وحيلهم ، وتقديم النصح للإعلاميين ومن على شاكلتهم ، ودعوة الحاكم والرؤساء لتحكيم الإسلام في بلدانهم ، وسنكتفي هنا بذكر بعض نصائحه للإعلاميين التي ضمنها في ردوده على بعض الكتاب ، فمنها قوله – بعد أن نبه على مزالق وقعت بها إحدى الكاتبات :" فيجب أن ننزه أقلامنا من الوقوع في مثل هذه المزالق امتثالاً لأمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم كمالاً للتوحيد وابتعاداً عما ينافيه أو ينافي كماله ، ووسائل الإعلام – كما هو معروف – واسعة الانتشار ، وعظيمة التأثير على الناس ، وكثرة ترديدها لمثل هذه الكلمات ينشرها بين الناس ، ويجعلهم يتساهلون في استعمالها ، وخاصة النشء مع ما في استعمالها من المحذور "وقال عقب تعليقه على قصيدة نشرتها إحدى الصحف وتضمنت مخالفات عقدية ، قال :" والواجب على جميع القائمين على الصحف من أهل الإسلام ألا ينشروا ما يخالف شرع الله عز وجل ، وأن يتحروا فيما ينشرونه ما ينفع الأمة ولا يضرهم في دينهم ودنياهم ، وأعظم ذلك خطراً ما يوقع في الشرك وأنواع الكفر والضلال ..." . وحينما كتب أحدهم مقالاًُ ينتقد فيه تصرفات بعض أهل الحسبة وجهه بقوله :" وكان الواجب على الكاتب حين بلغه عنهم ما يعتقده خلاف الشرع أن يتصل بأعيانهم مشافهة أو كتابة ، ويناصحهم فيما أخذ عليهم أو يتصل بسماحة المفتي أو رئيس الهيئات ، ويبدي ما لديه حول الإخوان من النقد حتى يوجههم المشايخ إلى الطريق السوي . أما أن يكتب في صحيفة سيارة ما يتضمن التشنيع عليهم ، والحط من شأنهم ، ووصفهم بما هم براء منه فهذا لا يجوز من مؤمن يخاف الله ويتقيه ، لما في ذلك من كسر شوكة الحق والتثبيط عن الدعوة إليه ، والتلبيس على القراء ، ومساعدة السفهاء والفساق على باطلهم ، وعلى النيل من دعاة الحق ...".(/4)