الرابع والعشرين: أنّ السّعديَّ قد تميّز بطول النفَس، وسعة الباع في ذكر المعاني الكثيرة المحتَمَلة [كما تراه في ص 48، 65، 66،89، 113، 117، 131]:
ـ فقد قال في تفسير (واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة) [البقرة 231]: "أي السُّنّة اللَّذَيْن بيّن لكم بهما طرق الخير، ورغّبكم فيها وطرق الشرّ وحذّركم إياها، وعرّفكم نفسه ووقائعه في أوليائه وأعدائه، وعلّمكم ما لم تكونوا تعلمون، وقيل: المراد بالحكمة أسرار الشريعة؛ فالكتاب فيه الحِكَم، والحكمة فيها بيان حكمة الله في أوامره ونواهيه. وكلا المعنيين صحيحٌ" [ص 103].
ـ وقال في تفسير (هذا بيانٌ للناس وهدى وموعظةٌ للمتقين) [آل عمران: 138]: "لأنهم هم المُنْتفعون بالآيات؛ فتهديهم إلى سبيل الرشاد، وتعظهم وتزجرهم عن طريق الغيّ، وأما باقي الناس فهي بيانٌ لهم، تقوم به عليهم الحجّة من الله؛ ليهلك من هلك عن بيِّنةٍ، ويحتمل أنّ الإشارة في قوله: (هذا بيانٌ للناس) للقرآن العظيم، والذكر الحكيم، وأنه بيانٌ للناس عموماً، وهدى وموعظةٌ للمتّقين خصوصاً، وكلا المعنيَيْن حقٌّ" [ص 149].
ـ وكذلك قوله في تفسير (وليُمحِّص الله الذين آمنوا) [آل عمران 119]: "يمحِّص بذلك المؤمنين من ذنوبهم وعيوبهم... وليمحّص الله أيضا المؤمنين من غيرهم من المنافقين" [ص 50].
الخامس والعشرين: أنّ هذا التفسير الماتع قد حثّ على كل علمٍ نافعٍ: كقوله في شأن التاريخ عند قول الله تعالى: (يا أهل الكتاب لم تحاجّون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون ها أنتم هؤلاء حاججتم في ما لكم به علم فلِمَ تحاجّون فيما ليس لكم به علمٌ والله يعلم وأنتم لا تعلمون) [آل عمران 65-66]: "فيها...حثٌّ على علم التاريخ، وأنه طريقٌ لردّ كثيرٍ من الأقوال الباطلة والدعاوى التي تُخالف ما عُلِم من التاريخ" [ص 134].
السادس والعشرين: أنّ السّعدي قد وُفِّق في عدم التعويل على الإسرائيليات، والانسياق وراء أوهام أهل الكتاب وأباطيلهم:
ـ فقد صرّح بمنهجه في ذلك بقوله: "اعلم أنّ كثيراً من المفسّرين ـ رحمهم الله ـ قد أكثروا في حشو تفاسيرهم من قصص بني إسرائيل، ونزّلوا عليها الآيات القرآنية، وجعلوها تفسيراً لكتاب الله، مُحْتجّين بقوله صلى الله عليه وسلم: ((حدِّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج)). والذي أراه أنه وإن جاز نقل أحاديثهم على وجهٍ تكون مُفردةً غير مقرونةٍ، ولا منزّلةٍ على كتاب الله؛ فإنه لا يجوز جعلها تفسيراً لكتاب الله قطعاً إذا لم تصحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وذلك أنّ مرتبتها كما قال صلى الله عليه وسلم: ((لا تصدّقوا أهل الكتاب ولا تُكذِّبوهم))؛ فإذا كانت مرتبتها أن تكون مشكوكاً فيها، وكان من المعلوم بالضرورة من دين الإسلام أنّ القرآن يجب الإيمان به، والقطع بألفاظه ومعانيه؛ فلا يجوز أن تُجْعَل تلك القصص المنقولة بالروايات المجهولة ـ التي يغلب على الظنّ كذبها أو كذب أكثرها ـ معانيَ لكتاب الله، مقطوعاً بها، ولا يستريب بها أحد؛ ولكن بسبب الغفلة عن هذا حصل ما حصل!" [ص 55-56]. وانظرْ كذلك [ص 112، 138].
السابع والعشرين: أنّ هذا التفسير قد استلهم رُوحَ السنةِ النبوية؛ حتى إنّ القاريء ليستحضر أحاديثَ النبي صلى الله عليه وسلم بمجرَّد أن يسمع بعض المعاني التي يربط بها السعدي بين القرآن والسنة:
ـ كما مرّ في الكلام على الإسرائيليات، وكما في قوله رحمه الله في تفسير (لتكونوا شهداء على الناس) [البقرة: 143]: "ومن شهادة هذه الأمة على غيرهم أنه إذا كان يوم القيامة وسأل الله المرسلين عن تبليغهم, والأمم المكذِّبة عن ذلك, وأنكروا أنّ الأنبياء بلّغتهم, استشهدت الأنبياء بهذه الأمة, وزكّاها نبيّها" [ص 71]. فهذا يذكِّر طالب العلم بما رواه البخاري في كتاب (أحاديث الأنبياء) باب قول الله عز وجل (ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه) [هود: 25]، وفي كتاب (التفسير) باب (وكذلك جعلناكم أُمّة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً) [البقرة: 143]، وفي كتاب (الاعتصام بالكتاب والسنة) باب (وكذلك جعلناكم أُمّة وسطاً) عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يُدعى نوحٌ يومَ القيامة فيقول: لبّيك وسعديْك يا ربّ! فيقول: هل بلّغتَ؟ فيقول: نعم. فيُقال لأمته: هل بلّغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذيرٍ! فيقول: من يشهد لك؟ ـ وفي رواية الاعتصام: من شُهودُك؟ ـ فيقول: محمّدٌ وأُمّته؛ فيشهدون أنه قد بلّغ، ويكون الرسول عليكم شهيداً؛ فذلك قوله جل ذكره (وكذلك جعلناكم أُمةً وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً).(/9)
ـ وكذلك قوله في تفسير (فلنُولّينّك قبلةً ترضاها) [البقرة: 144]: "أي: تحبّها وهي الكعبة, وفي هذا بيانٌ لفضله وشرفه صلى الله عليه وسلم, حيث إنّ الله تعالى يسارع في رضاه" [ص 71]؛ فإنّ هذه العبارة مُسْتوحاةٌ من قول أمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنه لما نزل (تُرْجي من تشاء منهن وتُؤوي إليك من تشاء) [الأحزاب: 51]: "ما أرى ربَّك إلا يُسارع في هواك" كما في الصحيحين.
الثامن والعشرين: أنّ الشيخ السعديَّ يلهج ـ كثيراً ـ في تفسيره بحمد الله وشكره على عظيم نعمائه؛ وهذا ـ لعمري ـ مما يزيد الأعمال بركةً وصلاحاً وفلاحاً؛ وما هذا التفسيرُ البديعُ إلا ثمرةً من ثمرات قول الله تعالى: (لئنْ شكرتم لأزيدنّكم):
ـ فمن أمثلة ذلك ما قاله السعديّ في تفسير (ومما رزقناهم يُنفقون) [البقرة: 3]: "في قوله: (رزقناهم) إشارةٌ إلى أنّ هذه الأموال التي بين أيديكم, ليست حاصلة بقوتكم ومِلْككم, وإنما هي رزق الله الذي خوَّلكم, وأنعم به عليكم, فكما أنعم عليكم وفضّلكم على كثير من عباده؛ فاشكروه بإخراج بعض ما أنعم به عليكم, وواسُوا إخوانكم المُعدَمِين" [ص 41].
ـ وما قاله في تفسير (ولأتمّ نعمتي عليكم) [البقرة: 150]: "قد أعطاه الله من الأحوال والنعم, وأعطى أمته, ما أتم به نعمته عليه وعليهم, وأنزل الله عليه: (اليوم أكملتُ لكم دينكم وأتممتُ عليكم نعمتي, ورضيتُ لكم الإسلام ديناً)؛ فللّه الحمدُ على فضله, الذي لا نبلغ له عَداً, فضلاً عن القيام بشكره" [ص 74].
ـ وكذلك في تفسير (ولعلكم تهدون) [البقرة: 150]: "أي: تعلمون الحق, وتعملون به؛ فالله تبارك وتعالى ـ من رحمته بالعباد ـ قد يسّر لهم أسبابَ الهداية غايةَ التيسير, ونبّههم على سلوك طُرُقها, وبيّنها لهم أتمَّ تبيين؛ حتى إنّ من جملة ذلك أنه يقيّض الحق للمعاندين له فيجادلون فيه, فيتضح بذلك الحق, وتظهر آياته وأعلامه ...ولولا الباطل ما اتضح الحق اتضاحاً ظاهراً؛ فلله الحمد على ذلك" [ص 74].
ـ وقوله في تفسير (فاذكروني أذكركم واشكروا لي) [البقرة: 152]: "أي: على ما أنعمتُ عليكم بهذه النعم, وصرفتُ عنكم صنوف النقم. والشكر يكون بالقلب: إقراراً بالنعم واعترافاً, وباللّسان: ذكراً وثناءً, وبالجوارح: طاعةً لله وانقياداً لأمره واجتناباً لنهيه؛ فالشكر فيه بقاءُ النعمة الموجودة، وزيادةٌ في النِّعَم المفقودة، قال تعالى: (لئن شكرتم لأزيدنّكم). وفي الإتيان بالأمر بالشكر، بعد النعم الدينية: من العلم، وتزكية الأخلاق، والتوفيق للأعمال، بيان أنها أكبر النعم، بل هي النِّعَم الحقيقيةُ التي تدوم إذا زال غيرها؛ وأنه ينبغي لمن وُفِّقوا لعلمٍ أو عملٍ أن يشكروا الله على ذلك؛ ليزيدهم من فضله، وليندفع عنهم الإعجاب؛ فيشتغلوا بالشكر!" [ص 74].
ـ وكذلك قوله في تفسير (إنّ في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار) [البقرة 164]: "أليس من القبيح بالعباد أن يتمتّعوا برزقه, ويعيشوا ببرّه, وهم يستعينون بذلك على مساخطه ومعاصيه؟! أليس ذلك دليلاً على حِلْمِهِ وصَبرِه وعفوِه وصَفحِه وعَميمِ لُطفِه؟! فله الحمد أولاً وآخراً, وظاهراً وباطناً." [ص 79].
التاسع والعشرين: أنّ الشيخ السعديَّ رحمه الله قد اعتنى بمفهوم الآيات، دون اقتصار على منطوقها؛ وفي هذا إثراءٌ لفقه دلالات القرآن:
ـ فمن ذلك قوله في تفسير (ويُحبّون أن يُحْمَدوا بما لم يفعلوا) [آل عمران 188]: "دلّت الآية بمفهومها على أنّ من أحبّ أن يُحمد ويُثنى عليه بما فعله من الخير واتباع الحق؛ إذا لم يكن قصده بذلك الرياء والسمعة: أنه غير مذمومٍ؛ بل هو من الأمور المطلوبة التي أخبر الله أنه يجزي بها المحسنين له الأعمال والأقوال، وأنه جازى بها خواصّ خلقه، وسألوها منه: كما قال إبراهيم عليه السلام: (واجعلْ لي لسانَ صدقٍ في الآخرين)، وقال: (سلامٌ على نوحٍ في العالمين إنا كذلك نجزي المحسنين)، وقد قال عباد الرحمن: (واجعلنا للمتقين إماماً)؛ وهي من نعم الباري على عبده، ومِنَنِهِ التي تحتاج إلى الشكر" [ص 161].
ـ ولـ (تيسير الكريم الرحمن) بحمد الله عنايةٌ فائقةٌ بالمفاهيم: مثل (مفهوم الموافقة) [ص 53، 72، 92]، و(مفهوم المخالفة): سواء كان وصفاً [ص 77، 113، 119]، أو شرطاً [ص 65، 102، 103]، أو ظرفاً [ص 91]...
ـ وقد نبّه الشيخ رحمه الله على بعض المفاهيم المُلْغاة: مثل تقريره أنّ "القيد الذي خرج مخرج الغالب لا مفهوم له" [ص 173، 174].
الثلاثين: أنّ هذا التفسير الجليل قد شوّق الصالحين إلى بلوغ جنّات النعيم:
ـ فمن ذلك قوله في تفسير (الذين يظنّون أنهم ملاقو ربّهم وأنهم إليه راجعون) [البقرة: 46]: "فهذا الذي خفّف عليهم العبادات، وأوجب لهم التسلّي في المصيبات، ونفّس عنهم الكربات، وزجرهم عن فعل السيّئات؛ فهؤلاء لهم النعيمُ المقيمُ في الغرفات العاليات!" [ص 52].(/10)
ـ وكما جاء في قوله عند تفسير (أحياءٌ عند ربّهم يُرزقون) [آل عمران: 169]: "لفظ (عند ربّهم) يقتضي علوَّ درجتهم، وقربهم من ربّهم (يُرزقون) من أنواع النعيم الذي لا يعلم وصفه، إلا من أنعم به عليهم؛ ومع هذا (فرحين بما آتاهم الله من فضله) أي مغتبطين بذلك قد قرّتْ عيونهم، وفرحتْ به نفوسهم؛ وذلك لحُسنه، وكثرته، وعظمته، وكمال اللّذّة في الوصول إليه، وعدم المُنغِّص؛ فجمع الله لهم بين نعيم البدن بالرزق، ونعيم القلب والروح بالفرح بما آتاهم من فضله؛ فتمّ لهم النعيم والسرور!" [ص 157].
ـ وكذلك قوله في تفسير (فاستبقوا الخيرات) [البقرة: 148]: "ومن سبق في الدنيا إلى الخيرات فهو السابق في الآخرة إلى الجنات!" [ص 73].
نسألك اللهم يا ذا الجلال والإكرام: (تيسير) العلم النافع، والعمل الصالح، وأن توفقنا إلى معرفة (تفسيرِ كلام المنّان)، وأن تنفعنا، وتنفع بنا، وتجعلَنا سبباً لمن اهتدى، وأن تجمعَنا و(الشيخَ السعديَّ) في جنةِ الفردوس؛ إنك أنتَ (الكريم الرحمن):
[نونيّة القحطاني ص 87-88]
والحمد لله والصلاة على رسول الله.(/11)
مقدمة ملحمة النبي
محمد (صلى الله عليه وسلم)
"مقدمة ملحمة النبي"
عمر أبو ريشة
أي نجوى مخضلة النعماءِ رددتها حناجرُ iiالصحراءِ
سمعتها قريش فانتفضت غضبى وضجت مشبوبة iiالأهواءِ
ومشت في حمى الضلال إلى الكعبة مشي الطريدة البلهاءِ
وارتمت خاشعة على اللات والعزَّى وهزتْ ركنيهما iiبالدعاءِ
وبدت تنحر القرابينَ نحراً في هوى كل دمية iiصماءِ
وانثنتْ تضرب الرمال اختيالاً بخطى جاهلية عمياءِ
* * ii*
عربدي يا قريش وانغمسي ما شئت في حمأة المنى iiالنكراءِ
لن تزيلي ما خطه الله للأرض وما صاغه لها من iiهناءِ
شاء أن ينبت النبوّة في القفر ويلقي بالوحي من iiسيناء
فسلي الربعَ ما لغربة عبد الله تطوى جراحُها في iiالعزاء
ما لأقيالِ هاشم يخلع البشرُ عليها مطارفَ iiالخيلاء
أنظريها حول اليتيم فراشاً هَزجاً حول دافق iiاللألاء
وأبو طالب على مذبح الأصنام يزجي له ضحايا iiالفداء
هوذا أحمد فيا منكب الغبراء زاحمْ مناكب iiالجوزاء
* * ii*
بسم الطفل للحياة وفي جنبيه سرّ الوديعة العصماء
هبَّ من مهده ودبّ غريبَ الدار في ظل خيمة iiدكناء
تتبارى حليمةُ خلفه تعدو وفي ثغرها افترار iiرضاء
عرفت فيه طلعةَ اليمن والخير إذ أجدبت رُبى iiالبيداء
وتجلَّى لها الفراقُ فأغضت في ذهول وأجهشت iiبالبكاء
* * ii*
عاد للربع أينَ آمنةٌ والحبُّ والشوقُ في مجال iiاللقاء
ما ارتوت منه مقلة طالما شقَّت عليهِ ستائرَ الظلماء
يا اعتداد الأيتام باليتم كفكفْ بعده كل دمعةٍ iiخرساء
* * ii*
أحمدُ، شب يا قريش فتيهي في الغوايات واسرحي في iiالشقاء
وانفضي الكفَّ من فتى ما تردّى برداء الأجداد والآباء
أنتِ سميته الأمين وضمخت بذكراه ندوةَ iiالشعراء
فدعي عمه فما كان يغريه بما في يديك من iiإغراء
جاءه متعبَ الخطى شاردَ الآمال ما بين خيبةٍ iiورجاء
قال هوّنْ عنك الأسى ياابن عبد الله واحقن لنا كريمَ iiالدماء
لا تسفّه دنيا قريش تُبوّئك من الملك ذِروة iiالعلياء
فبكى أحمدُ، وما كان مَنْ يبكي ولكنها دموعُ iiالإباء
فلوى جيدَه وسار وئيداً ثابتَ العزم مثقل iiالأعباء
وأتى طودَه الموشّح بالنور وأغفى في ظل غار حراء
وبجفنيه من جلال أمانيه طيوفٌ عُلوية iiالإسراء
وإذا هاتفٌ يصيح به "اقرأ" فيدوي الوجودُ iiبالأصداء
وإذا في خشوعه ذلك الأميّ يتلو رسالةَ iiالإيحاء
وإذا الأرض والسماء شفاهٌ تتغنى بسيد الأنبياء
* * ii*
جمعت شملها قريش وسلتْ للأذى كلَّ صعدةٍ iiسمراء
وأرادتْ أن تنقذ البغي من أحمد في جنح ليلة iiليلاء
ودرى سرَّها الرهيب عليٌ فاشتهى لو يكون كبش iiالفداء
قالـ: يا خاتم النبيين أمستْ مكة دار طغمةٍ iiسفهاء
أنا باقٍ هنا ولست أبالي ما ألاقي من كيدها في iiالبقاء
سيروني على فراشك والسيف أمامي وكل دنيا iiورائي
حسبي الله في دروب رضاه أن يرى فيّ أول iiالشهداء
فتلقاه أحمد باسم الثغر عليماً بما انطوى في iiالخفاء
أمر الوحي أن يحث خطاه في الدجى للمدينة iiالزهراء
وسرى واقتفى سراه أبو بكر وغابا عن أعين iiالرقباء
وأقاما في الغار والملأ العلويُّ يرنو إليهما iiبالرعاء
وقفت دونه قريش حيارى وتنزت جريحةَ iiالكبرياء
وانثنت والرياح تجأرُ والرملُ نثيرٌ في الأوجه iiالربداء
* * ii*
هلِّلي يا ربى المدينة واهمي بسخي الأظلال iiوالأنداء
واقذفيها ألله أكبرُ حتى ينتشي كلُ كوكب iiوضاء
واجمعي الأوفاءَ إن رسول الله آتٍ لصحبهِ iiالأوفياء..
* * ii*
وأطلّ النبيُّ فيضاً من الرحمة يروي الظماء تلو الظماء
والصلاة الطهور عالية الأصداء جوَّابة بكل iiفضاء
هزت الجاهليَّ فاهتز إنساناً نجيَّ الرسالة iiالعذراء
وقريش في يقظة الحقد وهجٌ من عتادٍ ولفحة من iiعداء
كلما مرَّ مؤمنٌ بحماها قذفته بطعنة iiنجلاء
خسة تترك المروءة غضبى وتردُّ الحُلومَ صرعى iiحياء
ضاق ذرعاً بها النبيُّ، فنادى فإذا الصافنات رجعُ النداء
وإذا الصِيد فوقها يحملون الشهبَ أسيافَ نخوة iiشماء
وتخطّاهم النبيُّ، فساروا في ركاب الهدى إلى iiالهيجاء
لم يرقه سفكُ الدماء، ولكن عجز الحلم في انتزاع iiالداء
دَرَنُ النفسِ ليس يمحى إذا لم تجرِ فيه مباضعُ iiالحكماء
وإذا الحلمُ لم تجد فيه بناءً فأكرم بالسيف من iiبنّاء
* * ii*
وقف الحقُّ وقفةً عند بدرٍ شحذت في الغيوب سيفَ iiالقضاء
ووراء التلال ركبُ أبي سفيان يحمي سرية الفيحاء
وقريش في جيشها اللجب تسعى بين وهج القنا وزهو iiالحداء
بلغت منحنى القليبِ ولفَّتْ مَن عليه ببسمة استهزاء
وأرادت أكفاءها فتلقاها عليٌ ذؤابةُ iiالأكفاء
جز بالسيف عنق شيبة وارتد إلى صحبه خضيبَ iiالرداء
فطغى الهول والتقى الند بالند وماجا في لجة iiهوجاء
وعيون النبي شاخصة ترقص في هدبها طيوفُ iiالرجاء
ودنت منه عصبة الإثم والموت على راحها ذبيح iiعياء
فرماها بحفنة من رمال ورنا ثائر المنى iiللعلاء
ودعا "شاهت الوجوهُ" فيا أرض اقشعرِّي على اختلاج iiالدعاء
* * ii*
قُضيَ الأمرُ يا قريش فسيري للحمى واندبي على iiالأشلاء(/1)
واحذري الطيب أن يمس غلاماً في نديٍّ أو غادةً في iiخباء
وأعدّي للثأر حُمرَ السرايا واحشديها للوثبة iiالرعناء
يوم بدر يوم أغرّ على الأيام باق إن شئت أو لم iiتشائي
ركز الله فيه أسمى لواءٍ وجثا الخلد تحت ذاك iiاللواء
* * ii*
طُوي الحول وانطوى أُحدٌ فيه ولم تحملي سوى iiالضراء
أي ذل على جفونك يعوي وركابُ النبي ملء iiالعراء
حلّ في مكة ووجهك في الترب خضيبٌ ووجهه في iiالسماء
ومشى للصلاة والكعبة السمحة في غمرة من iiالنعماء
وتعالى التكبير يا سدةَ الأصنام ميدي ويا علوج iiتنائي
واشهدي يا سماء أن رسول الله أوفى بالعهد خير iiوفاء
* * ii*
وجم المؤمنون في رهبة الظن وناموا على رؤى iiسوداء
وتمطَّى على المدينة صبحٌ كاسف الوهج قاتم iiالأفياء
أحمد ودَّع الحياة، فيا فاروق أقصرْ ما فيك من iiغلواءِ
كلُّ حيٍ رهن الفناء وتبقى آية الله فوق طوق الفناء
* * ii*
يا نجيَّ الخلود تلك سراياك على كل ربوةٍ iiغناءِ
حملت صبوةَ الشآم وفضَّتها أريجاً على فم iiالزوراءِ
وشجتها غرناطةٌ فشفتْ منها فؤادَ الصبيّة iiالحسناءِ
فإذا الأرض في عرائسك الأبكار مغنى سنىً ومجلى iiسناءِ
حلم وانقضى فيا للمناجي زُهرَ أطيافه ويا iiللرائي
* * ii*
يا عروسَ الصحراء ما نبتَ المجد على غير راحة الصحراءِ
كلما أغرقتْ لياليها في الصمت قامتْ عن نبأة iiزهراءِ
وروتها على الوجود كتاباً ذا مضاء أو صارماً ذا iiمضاءِ
فأعيدي مجد العروبة واسقي من سناه محاجرَ iiالغبراءِ
قد ترفُّ الحياة بعد ذبولٍ ويلين الزمان بعد iiجفاءِ(/2)
مقولات دعويّة تحت المجهر
د. جمال بادي ـ الإسلام اليوم
شاع في الساحة الدعويّة في العقود الأخيرة مقولات سلبيّة لم تحظ من أقلام ذوي الأفهام ما تستحقه من التحليل والتقويم، فاستساغ كثير من الدعاة تلك المقولات وألفوها، وردّدوها كلما تجدّدت مسبّباتها.
وليست المقولات مجرّد كلمات تُردّد، ولكن يترتب عليها مآلات نفسيّة شعوريّة، ومواقف دعويّة غير معلنة. وقد يترتب على بعضها آثار تعيق التطوير الدعويّ وتقدّمه نحو الأفضل.
ومن تلك المقولات السلبية مقولة: "لم آمر بها ولم تسؤني" للتعبير عن مشاعر الرضا والقبول والغبطة لأمر أو حدث وقع في مكان ما، ولم تحصل فيه مشاركة من أتباع المدرسة الدعوية!
وعادة ما يكون في هذا الحدث سلبية بشكل أو بآخر، وعادة لا يدخل تحت الأجندة الدعوية لأصحاب المقولة، لكنهم يرضونه ويقع منهم تأييد عاطفي وجداني لفاعله مع عدم إقرارهم له منهجاً وتأصيلاً!
وهنا أمور:
الأول: حصول نوع من انفصام الشخصية الدعوية مع الوعي بها وهو أمر غير مقبول عند التمحيص وإمعان الفكر والرأي ويترتب عليه ارتباك وصراع نفسي يتم تجاوزه وتحجيمه وإبعاده عن دائرة الشعور بعد صراع يطول أو يقصر –حسب مستوى التفكير النقدي للشخص- وهو من الأمور التي تسبب الاكتئاب الدعوي المتقطع كلّما وردت على الذاكرة الدعوية موجباته أو تجدّدت صوره الذهنيّة.
الثاني: تدرّج السلبية في الموقف يأخذ أشكالاّ عدة، فمهما بلغت درجة عدم الموافقة على "الحدث" الذي حصل "كأحداث سبتمبر" وما تبعته من أحداث ومقايسات في طول العالم الإسلامي وعرضه مما أعلنت جهات معينة محسوبة على الدعوة الإسلامية وساحتها مسؤوليتها الكاملة عنه بما لا يقبل الشك، إلا أن السلبية هنا تكمن في عدم الإعلان عن موقف "عدم الموافقة" مهما قلّ والذي تعبّر عنه جزئية "ولم تسوءني" من المقولة المشؤومة.
وفي مقابل ذلك ينبري أناس آخرون تنقصهم التجربة والخبرة والرؤية الصحيحة للأحداث ولكن تدفعهم الغيرة على الحق وعلى "سمعة الإسلام" بكل ما يملكون من عواطف متأججة رافضة للحدث بالكتابة في الموضوع والحديث عنه فتأتي كتاباتهم العاطفية دون تحقيق المقصود الأعظم وهو "تغيير المسار الفكري" لكل من قد يتأثر بمذهب وفكر أصحاب الحدث، وعلى الأقل محاولة حفظ عقول الآف الشباب الآخرين عن الوقوع ضحية لهذا الفكر المنحرف.
ومن تلك المقولات: "علينا بذل الأسباب وليس علينا النتائج، أو النتائج على الله" .
هذه المقولة لها معنى صحيح من حيث عموم الأقدار في هذا الكون. إلا أن لها معنى آخر غير صحيح هو المقصود بالنقد والتقويم في هذا المقال؛ إذ أصبحت المقولة بشكلها السلبي احتجاجاً بالقدر على ضعف أو فشل الداعية أو المدرسة الدعويّة في أمر ما.
وقد أدّت بعد انتشارها وقبولها من عدد كبير من الدعاة دون تبصر أو تدبر إلى الإهمال التام لأمور عظيمة منها:
أ) - عدم العناية بسلامة وجودة وملائمة الوسائل المبذولة في العمل الدعوي.
ب) - عدم عناية الداعية بمآلات الأفعال والأقوال أو عدم تقديرها ابتداء.
ج) - إهمال توافق الأسباب المبذولة مع السنن الإلهية في الأنفس والآفاق وفي الكون والمجتمعات.
د) – غياب أو ضعف مقام المحاسبة والمراقبة فيما يفعل الداعية أو يدع.
هذان مثالان لمقولات دعويّة سلبيّة أسأل الله أن يوفق الدعاة إلى التنبّه إلى آثارها ومآلاتها، وأن ييسر لهم إقصاءها عن قاموسهم الدعويّ.(/1)
مقومات السعادة الزوجية
بسم الله الرحمن الرحيم
أولاً: المقدمة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن سار على نهجه، واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: (1)
فإن موضوعنا – أيها الأحبة – الذي يدور عليه حديثنا يتعلق بناحية مهمة في حياتنا الاجتماعية، ولذا فإني أقدمه هدية لكل عروسين، بل لكل واحد منكم، والهدية – كما تعلمون – تعبير صادق عن المحبة الكامنة في الفؤاد، والرّغبة في إدخال السرور على قلب كلٍّ من الزوجين، وهي وإن اعتاد الناس كونها مادية، إلا أني سأقدمها معنوية، إيثاراً لما يبقى على ما يفنى:
لا خيلَ عندك تُهديها ولا مال ... فليُسعد النطقُ إِنْ لم تُسعدْ الحَالُ
ولذا أحببت معالجة هذا الموضوع الذي يدور بِخَلَد الكثيرين ممن وقفوا على عتبة باب الزواج من فتيان وفتيات، سائلاً الله أن تكون هذه المعالجة سبيلاً إلى تحقيق السعادة لهم جميعاً في الدارين. إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وقد دفعني لاختيار هذا الموضوع عدة دوافع أذكر أهمها:
أهمية هذا الموضوع، حيث إن السعادة الزوجية مطلب ضروريّ لك راغب في الزواج، ومقبل عليه، وواقع فيه.
كثرة وقوع المنازعات والخلافات الزوجية التي تؤدي إلى الفرقة والشقاق، ومن ثمّ الطلاق؛ وليس هذا في مجتمعنا فحسب، بل لا يكاد مجتمع يسلم من زخم الأرقام الهائلة لحوادث الطلاق، وخير دليل نقدمه على صدق هذه الدعوى ما أثبتته الإحصائيات لنسب الطلاق على المستوى الدولي.
ففي أمريكا وصلت نسبة الطلاق إلى (48%).
بينما وصلت في ألمانيا لمن هم دون الخامسة والعشرين عاماً إلى (35%).
وفي أوربا عموماً وبعض الولايات الأمريكية وصلت إلى (62%).
وإذا انتقلنا إلى الدول العربية، وجدنا بعضها قد وصلت فيه النسبة إلى (20%).
وهذه النسب كلها مذهلة، حيث تجد نسب الطلاق تصل إلى ما فوق النصف، أو الثلث، أو حتى إلى الخمس.
فضلاً عن تلك البيوت التي تتشبث بعقد الزوجية مع ما تعيشه من اختلاف وتمزق وتعاسة.
أن الأسرة المستقرة تُخرّج الأجيال الذين يُعدون لحمل رسالة الإسلام.
فنحن بحاجة إلى الشاب الصالح والفتاة المؤمنة اللذين يتربيان في بيت ترفرف عليه السعادة؛ لا الفراق والشقاق، وهنا ينشأ الأولاد في جو نفسي رائع بعيد عن التوتر والقلق، وفي مثل هذا البيت يتخرّج الدعاة والمصلحون.
وقد استشرت في هذا الموضوع المهم وهو "مقومات السعادة الزوجية" ذوي الاختصاص، كما رجعت إلى بعض المراجع، واستفدت من ذوي الخبرة والتجربة، وخرجت من هذا كله بخلاصة تحوي (معظم) مقومات السعادة الزوجية.
ولطول الموضوع، وكثرة ذيوله، فإنّي سأذكر هذه المقومات على سبيل الإيجاز والاختصار والتركيز الشديد.
وقبل أن ألجَ في خِضَمّ الموضوع، أحب أن أشير إلى اهتمام الإسلام وعنايته البالغة بشأن الزواج، وترغيبه التام، وحَثّه المُطّرِد عليه، وذلك في آيات وأحاديث كثيرة، أشير إلى بعض منها على عجالة:
فمن الآيات:
قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً) (النساء: الآية 1).
قوله تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً ) (الروم: من الآية21).
وقوله تعالى: (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (الذاريات: الآية 49).
ومن صفات المؤمنين التي يذكرها الله لنا في معرض المدح: (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً) (الفرقان:74). فهم ينشدون السعادة في أزواجهم وأولادهم، ويسألونها من القادر عليها – سبحانه -.
ومن الأحاديث:
قوله - صلى الله عليه وسلم - : "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج"(2) الحديث.
ما رواه أنس، أن نفراً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، سألوا أزواج النبي صلى الله عليهم عن عمله في السرّ؟ فقال بعضهم: لا أتزوج النساء! لا وقال بعضهم: لا آكل اللحم! وقال بعضهم: لا أنام على فراش! فحمد الله وأثنى عليه، فقال: "ما بال أقوام قالوا كذا وكذا؟ لكني أصلي وأنام؛وأصوم وأفطر؛ وأتزوج النساء؛ فمن رغب عن سنتي فليس مني"(3).
__________
(1) - أصل هذه الرسالة محاضرة ألقاها فضيلة الشيخ ناصر العمر، وقد أذن لنا مشكوراً بإخراجها، ونشرها، حتى يتم النفع بها – إن شاء الله.
(2) - رواه البخاري (فتح 9/112) ومسلم (1400).
(3) - رواه البخاري (9/104) ومسلم (1401).(/1)
أيها الأحبة إن بناء الأسرة من ضرورات قيام هذا الدين، لأن الأسرة لبنة المجتمع الأولى، وأساس هذا البناء الزواج الناجح المبني على أسس سليمة وأهداف مستقيمة، لأن اختلال الأسس، وتفاهة الأهداف تؤدي إلى انعدام الثمرة من التزاوج، وخذ على هذا مثلاً: أولئك الذين يقدمون على الزواج للمتعة، وقضاء الوطر فقط مجرداً عن المعاني العظيمة التي يُقصد الزواج من أجلها، فسرعان ما يمل أولئك الحياة الزوجية، لأنهم أخطأوا تحديد الهدف منذ البداية.
والإسلام حينما نزل هداية للبشرية، جاء بتشريع كامل شامل لجميع مناحي الحياة، (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) (المائدة: 3). لا تجد مسألة إلا وفي الإسلام تشريعها، ولا مشكلة إلا ولها دواؤها. يقول أبو ذر – رضي الله عنه – مترجماً هذا المعنى: "لقد تَرَكَنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما يتقلب في السماء طائر إلا ذكّرنا منه علماً"(1).
والحياة الزوجية حظيت كغيرها بتشريع متكامل، وعالج الإسلام جميع جوانبها مما يضمن حياة سعيدة هانئة مستقرة.
ولقد كنت أتساءل عن سر هجوم أعداء الله الشرس على الأسرة المسلمة، ومحاولتهم نصب الشباك لإيقاعها في شرَك التمزق والاختلاف؟
فكان الجواب: أن الأعداء أدركوا أن انهيار الأسرة المسلمة معناه تلقائياً: انهيار المجتمع الإسلامي بكامله؛ فمتى فرَّخت القلاقل والمشكلات في بيت، فلا تنتظر أن يتخرّج فيه جيل صالح.
لقد زرت إحدى دور الأحداث، وأذهلتني الإحصائيات المتوافرة هناك، والتي أثبتت أن ما بين 70 إلى 80% من أسباب دخول الأحداث للدار، هو وجود الخلاف الناشب بين الزوجين، أو وقوع الطلاق.
وقد قسمت إحصائياتهم حسب الأحياء، وبتتبع يسير، وجدتُ أن الأحياء التي يكثر فيها وجود الخلافات والمنازعات بين الأزواج يكثر دخول أحداثها للدار، خلافاً لتلك الأحياء التي يقلُّ في بيوتها وقوع الشقاق بين الأزواج، فإن دخول أبنائهم للدار قليل جداً.
أرأيتم – أيها الإخوة – ما تُسببه نارُ المنازعة من تصدع في كيان الأسرة، وتقطُّع لأوصال المجتمع، وانهيار ف بناء الأمة، ومن هنا فَطِنَ الأعداء لهذا المدخل الخطير، وبذلوا ما في وسعهم لهدم بنائه وتحطيم جدرانه، نسأل الله أن يرد كيدهم في نحورهم.
ثانياً: مقومات السعادة الزوجية
بعد هذه العجالة في بيان شأن الزواج، وأهميته في الإسلام، وضرورة تحقيق السعادة في الحياة الزوجية، ودور الأسرة في بناء كيان الأمة، أنتقل إلى الحديث عن مقومات السعادة الزوجية، والتي سأحاول جاهداً – بعون الله – ربطها بالواقع، لتكون أقرب إلى الأفهام، وأدعى للقبول.
وهي تكمن إجمالاً فيما يلي:
أولاً: أمور يجب أن تراعي قبل الزواج.
ثانياً: القيام بالحقوق الزوجية.
ثالثاً: الواقعية في الحياة الزوجية.
رابعاً: معرفة كل من الزوجين نفسيّة صاحبه.
خامساً: الأولاد.
سادساً: حسن العلاقة مع الآخرين.
سابعاً: القدرة على حل المشكلات.
ثامناً: أمور متفرقة.
وسألقي الضوء على كل قضية من هذه القضايا، مع محاولة الإيجاز ما أمكن، إلا عند اقتضاء الأمر البيان والإيضاح لما يستدعي الإطالة وطول التأمل.
ثالثاً: أمور يجب أن تراعى قبل الزواج
ثمة مسائل يتعين على المقبل إلى الحياة الزوجية مراعاتها والعناية بها:
1- حسن الاختيار:
روى أبو هريرة – رضي الله عنه – عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " تُنْكَح المرأة لأربع: لجمالها،ولمالها، ولنسبها، فاظفر بذات الدين تربت يداك " (2).
إن مسألة حُسن الاختيار أمر مُهم، لا يختلف فيه اثنان، ولكن الذي يدور عليه الاختلاف هو: كيف يكون الاختيار حسناً؟.
حيث نجد أنّ كثيراً من الناس يغلب على اهتماماتهم شأن الجمال، أو الحسب، أو المال، وهذا ليس خطأ في حد ذاته، ولكن الخطأ أن يتنازل الرجل عن أهمّ مواصفات الزوجة، وهو (الدين) على حساب وجود المواصفات الأخرى كلّها أو بعضها، فالدّين، الدّين، تَرِبَتْ يداك.
وكما أن الرجل مطالب أن يُحسن اختيار شريكة حياته. وأمّ أولاده. يجب على وليّ المرأة أن يُحسِنَ اختيار الرجل المناسب، ليكون زوجاً لموليته.
وإنه لمن المؤسف حقاً أن يستحوذ السؤال عن المكانة والوظيفة والمال والمنصب على ذهن الولي، ويتناسى الدِّين الذي لا يجوز التنازل عنه ألْبتة، وليس اهتمامه بالأمور الأخرى مضراً إلا إذا اقتصر عليها، وتنازل عن رأس الأمر كلِّه ألا وهو الدين، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إذا جاءكم من تِرضون دينه وخُلُقه فزوِّجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير"(3).
__________
(1) - رواه أحمد 5/162، 153.
(2) - رواه البخاري (9/132 فتح) ومسلم (1466).
(3) - رواه الترمذي (1084) وقال: حسن غريب وابن ماجه (1967) والحاكم (2ظ164) وصححه.(/2)
وحسن الاختيار لا يقتصر فيه كل من الزوجين على صاحبه فقط، بل ينبغي أن يتعداهما إلى ذويهما وأهلهما، فقد تكون أم الزوجة امرأةَ سوء، تؤثِّر على ابنتها بأخلاقها، وتزرع الشقاق بين ابنتها وزوجها. وقل مثل ذلك فيمن عداها مما يتصل ببيئة الزوجين، وإيّاكم وخضراء الدِّمَنْ.
2- رؤية الخاطب لمخطوبته:
وهذه المسألة من المسائل التي صار الناس فيها على طرفي نقيض، ما بين مُفْرِط ومُفَرِّط، وخاصة في مجتمعنا!
فمن الآباء من يعتبر رؤية الخاطب لابنته عيباً كبيراً، وأمراً عسيراً، مع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حثَّ عليه، ورَغَّب فيه، وأمر به، فهو يقول للمغيرة، وقد خطب امرأة: "انظر إليها؛ فإنه أحرى أن يُؤدَم بينكما"(1).
وأبو هريرة - رضي الله عنه - يقول: " مكثت عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأتاه رجل من الأنصار، فأخبره أنه تزوّج امرأة من الأنصار، فأمره الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يذهب وينظر إليها " (2).
والحاصل: أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم، قد أمر برؤية المخطوبة لأنه سبب في دوام العشرة، وبقاء المودة، وطول الأُلفة.
وعدم السماح بالرؤية مخالفة لهديه صلى الله عليه وسلم، ومجانبة لسنته، والخير كل الخير في اتّباع نهجه، واقتفاء أثره.
وفرّط آخرون ففتحوا الباب على مصراعيه، وتركوا الحبل على الغارب، فالخاطب لا ينظر فقط، بل يخلو بالمخطوبة ويحادثها ويضاحكها، وقد يصل الأمر إلى الخروج بها، واصطحابها إلى المتنزّهات والأسواق وغيرها، مما يسفر عن محاذير وفجائع، يذهب ضحيتها الفتاة المسكينة؛ والأب المخدوع.
ولا خير إلا في سلوك الصراط السوي، واتباع المنهج النبوي، حيث يُمَكّن الخاطبُ من رؤية ما يُرَغِّبه في مخطوبته، كالوجه واليدين والشعر وما إلى ذلك، بحضور أحد محارمها.
3- عدم المغالاة في المهور وحفلات الزواج:
أ- عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: " كان صداق النبي - صلى الله عليه وسلم - لأزواجه اثنتي عشر أوقية " (3).
ب- وقال عمر بن الخطاب – رضي الله عنه -: " ما نكح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نساءه، ولا أنكح بناته، على أكثر من اثنتي عشر أوقية " (4).
جـ- وقال – عليه الصلاة والسلام-: "خير الصداق أيسره"(5).
يقول أحد الكتّاب في هذه المسألة: "إن التوسط والبعد عن الإفراط والخيلاء وحب المظاهر، من أسباب السعادة الزوجية والتوفيق بإذن الله، وهو أمر مطلوب من الأغنياء والوجهاء قبل غيرهم؛ لأنهم هم الذين يصنعون تقاليد المجتمع، والآخرون يتشبهون بهم".
إن بساطة المهر، وحفل الزفاف، خطوة تحتاج إلى عزيمة صادقة، وهمّة عالية، لا تبالي بأقوال سفهاء الناس ودَهْمائهم.
وأكثر الناس في قضية المهر، طرفان:
غالٍ، وجافٍ، وكلاهما مذموم، فبينما نرى رجلاً يُبالغ في التبسيط حتى يصل مهر ابنته إلى ريال واحد، نجد آخر يغلو ويسرف حتى تبلغ نفقات ليلة الزفاف ما يكفي لزيجات كثيرة.
ولسائل أن يقول: ما علاقة بساطة المهر، وقلة نفقات الزواج بالسعادة الزوجية؟
فنقول: إن الرجل الذي أُثقِل كاهلُه بجمع الأموال الطائلة، التي قد يكون أكثرها قد تحمله دَيناً على ظهره ينوء بثقله زمناً طويلاً، إنه لا بد أن يتوقع في عروسه المثالية في الجمال والكمال وحسن الحال، وحينما ترحل الليالي الأولى بلذائذها وأفراحها، سيظهر من الزوجة مع الأيام تقصير في شأن من شئون الزوجية، مما يغضب الزوج، ويدفعه لتبكيتها: خسرتُ عليك، ودفعت فيك، وأنفقت من المال لأجلك مما أثقل الكاهل، وأنت تفعلين وتفعلين، وهكذا ديدنه عند حدوث أي مشكلة، خاصة، وإن اجتمع عليه مع ذلك ملاحقة الدائنين، وشكاوي الطالبين، فإن الأمر يتفاقم سوءاً في صدره، همٌّ في النهار، وأرقٌ في الليل، وزوجة لها حقوق، فلا خلاص إلا بالطلاق والفراق، وإن لم يكن فنزاع دائم وشقاق.
أما إن تمت مراسيم الزواج، ونفقات المهر، على ما سنّه المصطفى صلى الله عليه وسلم لأمته، فإن الرجل وإن وجد عيباً أو رأى تقصيراً سينعقد لسانه عن ثلبها حياءً، لا محالة، وسيتذكر أن لأبيها فضلاً عليه، حين طلب مهراً مناسباً.
وهذه سعادة سببها تخفيف المهر ومعقوليته.
رابعاً: القيام بالحقوق الزوجية
أولاً: حقوق الزوج على الزوجة :
__________
(1) - رواه أحمد 4/246، والترمذي (1087) وحسنه، والحاكم (2/165) وقال: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي.
(2) - رواه مسلم (14241).
(3) - رواه مسلم (1426).
(4) - رواه أحمد (1/40، 41)، وأبو داود (2106) والترمذي (1114). وقال: حديث حسن صحيح، والحاكم (2/176) وقال: "تواترت الأسانيد الصحيحة بصحة خطبة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب – رضي الله عنه-".
(5) - رواه أبو داود (2117)، والبيهقي (7/232)، والحاكم (2/182) وقال: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي.(/3)
وهذه قضية طويلة ذات ذيول وشعب، لكن سنحاول المرور على أهم قضاياها بتركيز وإيجاز. علماً بأن مدارها وخلاصتها في قوله تعالى: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) (النساء:19) وقوله – جل شأنه -: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) (البقرة: 228).
والحقوق ثلاثة أقسام:
الأول: حقوق الزوج على الزوجة:
وأصل هذه الحقوق، قوله -تعالى-: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ) (النساء: 34) وقوله – جل شأنه -: (وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) (البقرة: 228).
وحقوق الزوج تتلخص فيما يلي:
أ- القوامة:
وهذا حق تنازل عنه كثير من الرجال بمحض اختيارهم، مما سبب كثيراً من المشكلات العاصفة باستقرار عش الزوجية، وقد يظن قوم أن في تنازل الرج لعن قِوامته لزوجته إسعادٌ لها، وهذا ظنٌّ خاطئ، ذلك لأن المرأة بفطرتها تحب أن تأوي إلى ركن تلجأ إليه، حتى وإن تحدثت بعض النساء أمام صويحباتها بفخر أن زوجها يطيعها، ولا يعصي لها أمراً، مما يوحي بضعف قوامته عليها، فإنها في داخل نفسها تشعر بضعف وخلل في بنية الأسرة.
وعلى العكس منها، تلك المرأة التي تظهر الشكوى من زوجها ذي الشخصية القوية، والقوامة التامة، فإنها وإن باحت بذلك، تشعر براحة توائم فطرتها، وسعادة تناسب ما جُبلت عليه.
ولعلي أوضح هذه القضية بمثالٍ يسفر عن وجه الحق فيها فبالمثال يتضح المقال:
إذا انفلت زماما الأمن في بلد ما، فإن للشعب أن يفعل ما يشاء، لكنه لا يشعر بالاستقرار النفسي، وسيلاحقه خوف مقلق، وجزع مؤرق من جراء ذلك، وقل ضد ذلك إذا ضبطت أركان الدولة، وتولى زمام الأمور رجال أقوياء، مع أنه سيضايق فريقاً من الناس، إلا أنهم سيشعرون باستقرار داخلي، وراحة وأمن وهدوء بال.
ولذلك فإن تنازل الرجل عن قوامته أمر يُشقي المرأة ولا يُسعدها، ويُسبب وهناً في بناء الأسرة، وتقويضاً في أركانها، وصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث يقول: " لن يُفلح قومٌ وَلّوْا أمرهم امرأةً " (1) وهذا عام حتى في أمر البيت.
وأرى من أجل استقرار الحياة الزوجية أن تُطالب المرأة زوجها بالقيام بقوامته على الأسرة كما تُطالبه بالنفقة إذا قصّر فيها.
ب- الطاعة بالمعروف:
ودليل ذلك قوله تعالى: (وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً) (النساء: 34).
ومن السُّنَّة: ما جاء في قصة عمّة حُصين بن محصن التي جاءت للرسول - صلى الله عليه وسلم - فسألها: "أذات زوج أنت؟ قالت: نعم. قال: كيف أنت له؟ قالت: ما آلوه - أي لا أقصر في خدمته وطاعته - إلا ما عجزت عنه" فقال لها: "انظري أين أنت منه، فإنما هو جنتك ونارك"(2).
جـ- ألا تأذن لأحد في بيته إلا بإذنه:
ودليل ذلك، ما رواه أبو هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تصم المرأة وبعلها شاهد إلا بإذنه ولا تأذن في بيته وهو شاهد إلا بإذنه"(3)الحديث.
قال النووي – رحمه الله -: "في هذا الحديث إشارة إلى أنه لا يفتات على الزوج بالإذن في بيته إلا بإذنه، وهو محمول على ما لا تعلم رضا الزوج به، أما لو علمت رضا الزوج بذلك، فلا حرج عليها"(4). كما جرت عادته بإدخال الضيفان موضعاً معدّاً لهم، سواء كان حاضراً أو غائباً، فلا يفتقر إدخالهم إلى إذن خاص لذلك، وحاصله أنه لا بد من اعتبار إذنه تفصيلاً أو إجمالاً(5).
د- خدمتها له:
خدمة الزوجة لزوجها حقٌّ واجب له عليها، وهذه المسألة وإن وقع فيها خلاف بين أهل العلم، إلا أن القول الصحيح، أنّ خدمة الزوجة لزوجها واجبة من مثلها لمثله، كما مرّ في قصة عمة حُصين الآنفة الذّكْر، فهي تختلف من بيت لآخر، ومن زوج لزوج، ومع ذلك نجد من النساء من ترهق زوجها، فتطالبه بخادمة مع قدرتها على القيام بشئون البيت، واستغنائها عمّن يخدمها، وما يدعوها لذلك إلا حب المباهاة والمفاخرة والتقليد الأعمى.
وهذا أحد المنغصات للحياة الزوجية السعيدة، لما فيه من كلفة على الزوج، وإدخال عنصر غرب لا حاجة له في البيت، وبقاء الزوجة في البيت بلا عمل يشغل بالها ويُولّد في نفسها أعمالاً أخرى هي ثقل على كاهل الزوج لتملأ الفراغ الذي تُحسُّ به.
ولعل الدهشة تصيبك حينما تسمع رجلاً يتحدث في مقابلة أجريت معه في الإذاعة، يحكي فيها أن مرتبه سبعة آلاف ريال، ويسكن في شقة مستأجرة، ولديه خادمتان، ويعلل هذا التصرف بأن زوجته هي التي أرادت ذلك!!
__________
(1) - رواه البخاري (فتح 8/126).
(2) - رواه أحمد (4/341)، وابن سعد 8/409، والحاكم 2/189 وصححه، وحسنه الألباني.
(3) - رواه البخاري (9/295) ومسلم(1026).
(4) - شرح مسلم للنووي 7/115.
(5) - رواه البخاري (فتح 9/295) ومسلم (1026).(/4)
وما يقال للزوجة، يقال للزوج، إذ عليه ألا يكلّفها فوق طاقتها بل يجب أن يراعي قدرتها وطاقتها على العمل.
هـ- ألا تصوم تطوعاً وهو حاضر إلا بإذنه:
ودليل ذلك ما روته عائشة – رضي الله عنها – عن رسول صلى الله عليه وسلم : "لا تصم المرأة وبعلها شاهد إلا بإذنه"(1).
وذلك لأن صيام التطوع قد يُفَوِّت على الزوج كمال الاستمتاع بزوجته ويحرمه منها أثناء صيامها، فإن رضي به فقد أسقط حقّه باختياره، وهذا إنما هو في الصيام النافلة دون الواجب.
و- أن تحافظ على نفسها وماله وأولاده:
المرأة في بيت زوجها مسترعاة على ما فيه، وأنفس ما في بيت الرجل زوجته وماله وأولاده، وهي أمانة بيد المرأة يجب عليها تمام حفظها ورعايتها. فهي رعية ستُسأل عنها المرأة يوم القيامة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "والمرأة راعية في بيت زوجها، ومسئولة عن رعيتها"(2).
وبهذا الحق نكون قد أتينا على خاتمة أبرز حقوق الزوج على زوجته.
الثاني: حقوق الزوجة على زوجها:
ويتلخص أهمها فيما يلي:
المهر:
لقوله تعالى: (وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً) (النساء: 4).
ويُلحظ في هذا الأمر ما بينته سابقاً، فلا إفراط ولا تفريط، ولا إسراف ولا تقتير.
ب- النفقة والسكن:
لقوله -تعالى-: (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) (البقرة: 233).
وقوله تعالى: (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ) (*) (الطلاق: 6).
ولما روى حكيم بن معاوية عن أبيه قال: قلت: يا رسول الله، ما حق الزوجة على أحدنا؟ قال: "أن تَطعمها إذا طَعِمْتَ، وأن تكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه ولا تقبّح، ولا تهجُر إلا في البيت"(3).
وأخرج الشيخان أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال لهند بنت عتبة عندما جاءت تشكو شُحّ أبي سفيان عليها وعلى ولدها، قال: "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف"(4).
جـ- المعاشرة بالمعروف وحسن الخلق:
قال الله تعالى مبيِّناً هذا الحقّ: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) (النساء: 19).
وقال عليه الصلاة والسلام: "خيرُكم خيرُكُم لأهله، وأنا خيركم لأهله"(5) .
ولأجل إنفاذ هذا الحق فإننا نطالب الزوج بالتزام المنهج الشرعي في معاشرة الزوجة بالمعروف، ومعاملتها بالحسنى امتثالاً لقوله تعالى: (فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) (البقرة: 229).
يقول الشاعر مصوِّراً الوُد الطبيعي والمتكلف، ومبيناً صفات كل منهما وأثره:
إذا المرء لا يلقاك إلا تكلفا ... فدعه ولا تكثر عليه التأسفا
ففي الناس أبدال وفي الترك راحة ... وفي القلب صبرٌ للحبيبِ ولو جفا
إذا لم يكن صفو الوداد طبيعة ... فلا خير في ود يجيء تكلفا
ولا خير في خلٍّ يخون خليلَه ... ويلقاه من بعد المودة بالجفا
وينكر عيشا قد تقادم عهده ... ويظهر سرا كان بالأمس قد خفا
سلام على الدنيا إن لم يكن بها ... صديق صدوقٌ صادق الوعد منصفا
وليعلم أن الناس في العشرة طرفان مذمومان.
فمنهم من لا تعرف الرحمة والعطف إلى قلبه سبيلاً.
ومنهم من يفرط في التساهل والتسامح حتى ينفلت زمام الأمور من يده، والحق وسط بين الغالي فيه والجافي عنه.
د- حق المبيت والمعاشرة:
وهذا حق يجب على الزوج أن يقوم به، ويراعيه حتى لا يضطر حليلته إلى الخروج عن حيائها.
وهذا الحق من الحقوق التي يقع الخلل في أدائها من قبل بعض الأزواج، فتراه في دنياه لاهثاً أو يدمن السهرات مع الأصحاب والخلان ولا يَؤوب إلا في ساعة متأخرة من الليل، قد أرهقه التعب وأضناه اللعب، واستنفد ما في جعبته من المرح واللهو مع مسامريه، فيدخل بلا سلام ولا كلام، ويرتمي على فراشه كالجيفة، ولو قُدّر له أن يقضي وَطَرَه منها، قضاه على وجه لا تشعر معه المرأة بسعادة، وكأنها ما بقيت في البيت إلا للكنس والطبخ والخدمة وتربية الأطفال، فهي في نظره أو كما يعبر عنه واقعه معها ليست بحاجة إلى قلب يعطف عليها ورجل يداعبها ويحنّ إليها، ويروي عاطفتها، ويُشبع غريزتها. وإذا كان الرجل يُنهى عن الانهماك في العبادة لأجل إتمام هذا الحق لزوجته فكيف بإهدار الوقت وإضاعته في السهرات العابثة والليالي اللاهية؟
__________
(1) - البخاري: النكاح (5195) ومسلم: الزكاة (1026) وأحمد (2/316).
(2) هذه الآية في المطلقة، فمن تحت عصمته من باب الأَوْلى.
(3) - رواه أحمد 4/446، وأبو داود (2142) وابن ماجه (1850) والاكم (2/187) وصححه ووافقه الذهبي.
(4) - رواه البخاري (9/507 فتح) ومسلم (1714).
(5) - رواه الترمذي (3895) وقال: حسن غريب صحيح، قال الألباني (الصحيحة 285): وإسناده صحيح على شرط الشيخين وابن حبان (1312 موارد) والحاكم (4/173) وصححه، ووافقه الذهبي.(/5)
جاء سلمان الفارسي لأبي الدرداء يزوره، وقد آخى بينهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا أم الدرداء مبتذلة، فقال: ما شأنك؟ قالت: إن أخاك لا حاجة له في الدنيا،يقوم الليل، ويصوم النهار!! فجاء أبو الدرداء، فرحب به، وقرب إليه طعاماً فقال له سلمان: كُلْ. قال: إني صائم، قال: أقسمت عليك لتفطرن، فأكل معه، ثم بات عنده، فلما كان الليل، أراد أبو الدرداء أن يقوم، فمنعه سلمان. وقال: إن لجسدك عليك حقاً، ولربّك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، صُم وافطر، وائت أهلك، وأعط كل ذي حق حقه، فلما كان وجه الصبح، قال: قم الآن إن شئت، فقاما، فتوضآ ثم ركعا، ثم خرجا إلى الصلاة، فأتى النبي صلى الله عليه، فذكر ذلك له، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "صدق سلمان"(1).
هـ- تعليمها أمور دينها:
أهم من النفقة والمبيت أن يعلمها الزوج أمور دينها وبخاصة إذا كانت المرأة لم تأخذ من التعليم الشرعي ما يكفيها في أمور دينها ودنياها، وعلى الزوج أن يتخذ من الوسائل الشرعية ما يُكمّل به هذا الجانب، والرسول صلى الله عليه وسلم، كان يعلم تساءه أمور دينهن، وزوّج رجلاً من الصحابة امرأة على ما معه من القرآن.
وهذا الأمر تسال فيه كثير من الأزواج فالله المستعان.
و- الغيرة عليها:
من أبرز حقوق الزوجة وواجبات الزوج أن يصون كرامتها ويحفظ عِرْضها، ويَغَار عليها.
ومن المؤسف أن بعض حيوانات الغابة أكثر غِيرةً على زوجاتهن من بعض الرجال، فتراه يطلق العنان لزوجته تختلط مع الرجال وتحادثهم، وتذهب للأسواق وحدها، وقد تركب مع السائق وحده، وإذا كان الحمو(2) هو الموت كما أخبر بذلك المصطفى صلى الله عليه وسلم، فكيف بغيره.
ومن ضعف الغِيرة أن ترى المرأة الرجال في آلات اللهو والفساد. ومن أشد الصحابة غيرة سعد – رضي الله عنه – حتى قال فيه صلى الله عليه وسلم: "أتعجبون من غيرة سعد، لأنا أَغْيَرُ منه والله أغير مني". رواه مسلم.
فأدوا حقوق زوجاتكم بالغيرة عليهن، وإلا فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية.
الثالث: الحقوق المشتركة بين الزوجين:
هناك حقوق مشتركة تجب لكل واحد من الزوجين تجاه صاحبه، وليست خاصة بأحدهما، نلخصها فيما يلي:
عدم إفشاء السر:
كل واحد من الزوجين مطالب بكتمان ما يراه من صاحبه، أو يسمعه منه، وهذا أدب عام حثّ عليه الإسلام، ورغب فيه وبخاصة ما يقع بين الزوجين، حيث يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن من أشرّ الناس عند الله منزلة يوم القيامة، الرجل يُفْضي إلى امرأته، وتُفْضي إليهن يم ينشر سرّها"(3).
يقول الشاعر:
واحفَظْ لسانَكَ واحتَرِزْ من لفْظهِ ... فالمرءُ يسلمُ باللسانِ ويعطَبُ
وزِنِ الكلامَ إذا نَطَقْتَ ولا تكن ... ثرثارةً في كلِّ نادٍ تخطُبُ
والسرّ فاكتمْهُ ولَا تنطقْ بِهِ ... فهوَ الأسيرُ لديكَ إذْ لا ينشِبُ
واحرصْ علَى حفظِ القلوبِ من الأذَى ... فرجوعُها بعدَ التنافرِ يصعُبُ
إنَّ القلوبَ إذا تنافرَ ودُّهَا ... مثلُ الزجاجةِ كسرُهَا لا يُشعبُ
المناصحة بينهما:
للتناصح وبخاصة بين الزوجين دور كبير في الارتقاء بمستوى الأسرة، ورتق الفتوق الواقعة فيها، وإنارة درب السلامة من التردّي في الخطأ، بيد أن كثيراً نما لأزواج يرى من غير الطبيعي أن تؤدي المرأة دورها في نصيحة زوجها، وأن من السائغ والمعتاد أن تكون من جانبه دونها، ويصل الظنّ بجملة منهم إلى أن قيامها بالنصيحة نوع من التطاول والعجرفة، وخدش لكرامة الرجل، وقوامة الزوج، وهذا خطأ ظاهر، وهدم لعش الزوجية وسعادة الأسرة.
جـ- الشورى:
بمعنى أن يكون التشاور وتداول الرأي قائماً بين الزوجين فيما يتعلق بشئون البيت، وتدبير أمر الأسرة، ومصير الأولاد، وليس من الحكمة في شيء أن يستبد الرجل برأيه ولا يلتفت إلى مشورة امرأته، لا لشيء، إلا لأنها امرأة، ومشورتها قدح لقوامته عليها في نظره السقيم. فكم من امرأة أدلت برأي صار له أكبر الأثر في استقامة أمور وصلاح الأحوال، وخير من يقتدى به في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، يوم أن دخل على أم سلمة غاضباً مما فعل أصحابه يوم الحديبية حيث أمرهم بالحلق والتحلل فكأنهم تحرجوا وتباطؤوا، فأشارت عليه أم سلمة أن يحلق هو حتى يحلقوا، فأخذ الرسول صلى الله عليه وسلم بمشورتها، فما كان إلا أن بادروا إلى امتثال أمره عليه الصلاة والسلام.
د- صدق المودة بين الزوجين:
مما لا تتم السعادة الزوجية إلا به، تحبب كلٍّ من الزوجين إلى صاحبه وإظهار صدق المودة، وتراشق الكلمات الحنونة، فإن ذلك أحسن ما تستقيم به أحوال الزوجين، وأفضل ما تبنى عليه حياتهما، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك مع أزواجه – رضي الله عنهن – ولسنا بخير منه حتى نستنكف عما فعله، ولما امتدح الله حُورَ الجنة ذكر من جميل أوصافهن كونهن (عُرُباً أَتْرَاباً) (الواقعة:37). والعروب: هي المتحببة إلى أزواجها.
__________
(1) - رواه البخاري 0فتح 4/209).
(2) - الحمو: أخو الزوج.
(3) - رواه مسلم (1437).(/6)
والحياة الزوجية التي يُفقد من قاموسها الكلمات الطيبة الجميلة، والعبارات الدافئة حياة قد أَفَلَتْ أنجُم السعادة فيها.
ولا خيرَ في وُدِّ امرئٍ مُتلوِّنٍ ... إذا الريحُ مالتْ مالَ حيثُ تميلُ
وكم من حُسْنٍ في الخُلُق غطى عيباً في الخَلْق.
خامساًً: الواقعية في الحياة الزوجية
للواقعية نصيب وافر في رَفْرَفة أجنحة السعادة على عش الزوجية، ويمكن الحديث عنها عبر المجالات الآتية:
الواقعية في المهور وحفلات الزواج والهدايا:
إن إثقال كاهل الزوج بمهر باهظ وحفلة زفاف مجحفة لا يعود على الحياة الزوجية إلا بالنكد والهم والتعب، لذا لا بد أن يكون المهر وحفلة العُرس موائمة لحال الزوج مناسبة لوضعه المادي، لنضمن – بإذن الله – هدوء نفسه، وراحة باله، وطمأنينة قلبله، حتى يستقبل حياته الزوجية بانشراح ورغبة.
ومثل ذلك يُقال، فيما تعارف الناس عليه من الهدايا في الأعراس والمناسبات. إذ يجب أن يكن بقدر حال الزوج، وليس من مصلحة المرأة أن تلحّ وتطالب بما هو أغلى ثمناً وأعلى قدراً مما لا تسمح ظروف الزوج المادية به، وكثرة ذلك مؤذنة بغياب السعادة وأفول شمسها من عش الزوجية إن لم يصل الحد إلى أمر لا تحمد عقباه.
ب- الواقعية في النفقة:
إن من خير ما تحلّت به المرأة المسلمة من الصفات مع زوجها مراعاتها لطاقته وقدرته في النفقة، فلا إلحاح في حالة العسر، ولا شراهة في وقت اليسر، بل تلبس لكل حالة لَبُوسها، وترضى منه باليسير، وشرذث ما اتصفت به المرأة الشراهة وكثرة المطالب وهذا لا يزيدها من زوجها إلا بُعداً، ولا من قلبه إلا بُغْضاً.
وقد هجر النبي صلى الله عليه وسلم أزواجه شهراً لما سألنه في النفقة، وأكثرن عليه فيها حتى أنزل الله سبحانه قوله: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً) (الأحزاب: 28، 29). فخَيَّرهن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاخترنه(1).
وعلى الرجل أيضاً ألا يكون شحيحاً على أهله، مقتّراً عليهم، بل ينفق عليهم من سعته ولا يكلف الله نفساً إلى ما آتاها، (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ) (الطلاق: 7).
جـ- الواقعية في الصفات وتجنب المثالية:
وهذه الخصلة لا تكاد توجد إلا عند نزرٍ يسير من الناس ممن وفقهم الله، بينما غالبهم عندما يهمَُ بالزواج يرسم الزوجة في ذهنه رسماً يتواءم مع طموحاته الوهمية البعيدة عن أرض الواقع. وكأنه يصور بيده تمثالاً لامرأة وهمية، مما حدا بأحد الأذكياء، عندما أخبره صاحبه بالصفات التي ينشدها في شريكة حياته، أن قال لمحدثه: إن المرأة التي تطلب موجودة، ولكن عليك أن تنتظر إلى أن نُبعث لأن امرأة بمثل ما تذكر لا توجد إلا في الجنة.
نعم إن الاعتدال في المطالب والصفات لا بد وأن يكون مركوزاً في ذهن كل من الزوجين، ويجلي ذلك بوضوح قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقا رضي منها خلقا آخر"(2).
وتلك هي سنة الله في خلقه ألا يجتمع الكمال في كل الصفات في عامة البشر، فقد تكون المرأة وسطاً في الجمال لكنها ذات دين وخلق عظيم.
ولو وقف نُشّاد الكمال مع أنفسهم وقفة تأمل ومحاسبة لوجدوا أنهم لم ينصفوا، إذ غالب ما يطلبونه قد لا يكون متوافراً فيهم، فكما أنك تريد فغيرك يطلب منك ما تريد وإلا صار مصيرُك مصيرَ ذلك الرجل الذي ظل يطلب الزوجة المثالية في نظره ردهاً طويلاً من عمره فلما وجدها وتقدم لخطبتها، رفضته، لأنها لم تجد بُغْيتها فيه، فعاد بالخيبة والحرمان.
د- الواقعية في المطالبة بالحقوق وأداء الواجبات:
ليس من حسن العشرة أن يُكلّف الزوج امرأته شططاً، وينهكها في تحقيق حقوقه تعباً، بل عليه أن يسلك هدياً قاصداً، ويتغاضى عن بعض حقوقه في سبيل تحقيق المهم منها، إحساناً للعشرة، وتخفيفاً على الزوجة.
وكذا حال المرأة مع زوجها لتستديم محبته، وتكسب ثقته ومودته.
والواقعية في هذا قد نبه عليها الشاعر بقوله:
فسامح ولا تستوف حقك كله ... وأبق فلم يستوف قط كريم
ولا تغل في شيء من الأمر واقتصد ... كلا طرفي قصد الأمور ذميم
وآخر يقول مبيناً ضرورة الواقعية في الصحبة:
سامحْ أخاك إذا خلَط ... منه الإصابة بالغلط
وتجاف عن تعنيفه ... إن زاغ يوما أو سقط
واحفظ صنيعك عنده ... شكر الصنيعة أو غمط
وأطعه إن عاص وهُنْ ... إن عز وادنُ إذا شحط
واعلم بأنك إن طلبت ... مهذبا رُمْت الشطط
من ذا الذي ما ساء قط ... ومن له الحسنى فقط
سادساً: معرفة كل من الزوجين نفسية صاحبه
__________
(1) - رواه مسلم (1478).
(2) - رواه مسلم (1469).(/7)
وهذه إحدى القضايا التي لا تجد من كثير من الأزواج عناية مع أن دوام العشرة، وهناءة العيش لا تحصل على أتم وجوهها إلا عندما يدرك كل منهما نفسية صاحبه ومزاجه، وما يحبه ويكرهه، وما يرضيه ويسخطه، وما يقبله، ويرفضه، وهذه الأمور لا يتحتم إدراكها بالسؤال، بل يعرفها الفَطِن الذّكي من الحال والمقال.
وخير ما يستشهد به على هذا لبيان أثره على حياة الزوجين قصة شُريح القاضي، لما تزوج بامرأة من بني تميم، فيقول: لما دخلت عليها قمت أتوضأ، فتوضأت معي، وصليت فصلت معي، فلما انتهيت من الصلاة دعوت بأن تكون ناصية مباركة، وأن يعطيني الله من خيرها، ويكفيني شرّها، قال: فحَمِِدَت الله، وأثنت، ثم قالت: إنني امرأة غريبة عليك فماذا يعجبك فآتيه، وماذا تكره فأجتنبه، قال: فقلت: إني أحب كذا، وأكره كذا، فقالت: هل تحب أن يزورك أهلي. فقلت: إنني رجل قاضٍ، وأخاف أن أملَّهم، فقالت: من تحب أن يزورك من جيرانك، فأخبرتها بذلك.
قال شريح: فجلست مع هذه المرأة في أرغد عيش وأهنئه حتى حال الحول، إذ دخلت البيت فإذا بعجوز تأمر وتنهى، فسألتُ: من هذه؟ فقالت: إنها أمي. فسألته الأم: كيف أنت وزوجتك؟ فقال لها: خير زوجة، فقالت: ما حوت البيوت شرّاً من المدللة، فإذا رابك منها ريب فعليك بالسوط.
قال شريح: فكانت تأتينا مرة كل سنة، تنصح ابنتها، وتوصيها، ومكثتُ مع زوجتي عشرين عاماً، لم أغضب منها إلا مرة واحدة، وكنت لها ظالماً(1).
لذا فمعرفة كل من الزوجين لنفسية صاحبه قضية لها أثرها في الحياة الزوجية، وتجاهل هذا الأمر له ما بعده.
سابعاً: الأولاد
من المعلوم أن من أعظم مقاصد النكاح لب الولد، والإنجاب، وهذا المقصد يتعلق به حقوق ومستلزمات، لها أثر في السعادة الزوجية. نعرض في هذه العجالة لطرف منها، ونبين الموقف الأمثل تُجاهها. والله المستعان.
1- الإنجاب:
بعض الأزواج يطلب من زوجته التريث في الحمل باستعمال مانع له بعد الزواج مباشرة بحجة طلب المتعة، وهذا فيه ضرر بالغ على الزوجة، إذ من الثابت طبيّاً أن استعمال الحبوب المانعة للحمل من قبل امرأة لم يسبق لها الإنجاب قد يؤدي إلى عقم تحرم معه المرأة من الولد طيلة عمرها.
ومن الزوجات من تفضل الانتظار سنة أو أكثر بدعوى التأكد من توافقها مع زوجها، وهذا تشاؤم بحدوث المكروه:
احذر لسانك أن تقول فتبتلى ... إن البلاء موكل بالمنطق
وقسم من الزوجات ترفض الحمل؛ لأنه يعيقها عن مواصلة دراستها، مما يسبّب سآمةَ الزوج من رتابة حياته الزوجية معها، لخلوها من مولود يجدد سعادتهما، ويملأ عاطفة الأبوّة لديهما.
وبعضهن تستمرئ هذا الرفض حتى بعد الدراسة بحجة العمل، وهي حجة عليلة خالية المضمون، قد تحدث الفرقة بين الزوجين كما حدثني بذلك أحدهم عن زوجته التي امتنعت عن الحمل بحجة الدراسة، وبعد إتمام الدراسة رفضت الإنجاب بحجة العمل، ويرى الآن أنه لا حلّ للمشكلة إلا بالطلاق، مع أن المسلم مطالب بكثرة الإنجاب – مع عدم الضرر – لأن الرسول صلى الله عليه وسلم، مكاثر بأمته الأمم يوم القيامة.
ب- تربية الأولاد:
غير خافٍ أن الناس يختلفون في طرائق التربية والتوجيه، وهكذا الحال مع الزوجين، فإنهما قد لا يتفقان على منهج واحد في التربية، بسبب اختلاف طبيعة الرجل عن المرأة. إلا أنه من المتفق عليه أن ثمة مجالات تختلف باختلاف سنّ الولد وطبيعته يكون رائد التربية فيها الأب، ومجالات أخرى يكون رائد التربية فيها الأم، فعلى كل من الزوجين احترام وتقدير مجال صاحبه، وعدم التعدي عليه فيه، مع التسليم بأن القِوامة للرجل، سُنّة الله التي قد حكم بين العباد، وهذا لا يعني – ألبتّة – أن يلجأ أحدهما إلى تخطئة الآخر أمام الأولاد، وتجريحه والنيل من كرامته، أو يختلف الأبوان في الأسلوب الأمثل لحل واقعة بين الأولاد بحضورهم، فإن ذلك يؤدي إلى جرح عميق في نفوسهم، يبقى أثره أبد الدهر، وأقل ما يحصل من ذلك عقوق الأولاد لأحدهما، واستهانتهم بالمهزوم منهما، ولعلكم تُدركون هذا جيداً حينما تسمعون أن امرأة لها أربعة أبناء، كل منهم يملك سيارة خاصة، إلا أنها مع ذلك تستعمل النقل الجماعي وأحياناً تستقدم سائقاً خاصّاً؛ لرفض أولادها خدمتها. ومن أسباب ذلك تصرف زوجها الذي كان يقوم بإهانتها أمام أولادها، حتى فقدت كل مقومات التأثير عليهم، فبدر منهم هذا العقوق لها.
وإذا كان للزوج ملحوظة على زوجته بشأن تربية الأولاد، فلا يبدي هذه الملاحظة أمام الأولاد، ولكن إذا انفرد بها قال لها ما شاء، ومثل ذلك الزوجة من باب أَوْلى.
ثامناً: حُسن العلاقة مع الآخرين
__________
(1) - القصة مذكورة بطولها في العقد الفريد 6/92.(/8)
ونعني بهم والديْ كلٍّ من الزوجين وأقاربهما، وكذا جيرانهما. فعلى كل من الزوجين أن يراعي حق صاحبه في والديه وأقاربه، وألا يذكر أحداً منهم بسوء، فإن ذلك يوغر الصدور، ويجلب النفرة بين الزوجين، وكم من زوج تحدث أمام حليلته بمثالب أبيها وسقطاته – وهو مَن هو في جلالة قدره عندها – فأحدث ذلك ألماً في قلبها أطفأ شمعة السعادة المضيئة في حياتها مع زوجها، وأشد من ذلك الحديث عن أمها.
وإذا كان هذا في حق الزوج وله القوامة، فما بالك بحديث الزوجة عن والدي زوجها بسوء.
ولسنا نلزم أحداً منهما بمحبة أقارب الآخر، فالقلوب بيد الرحمن، يصرفها كيف يشاء، ولكنا نُحتِّم عليه أن يحفظ لصاحبه مشاعره، وكرامته وعرضه.
وأقارب كل من الزوجين يجب احترامهم وتقديرهم وعدم الإساءة إليهم. أما عن علاقة الزوجين بالجيران، فتختلف باختلاف الجيران، فينبغي عليهما تحديد إطار مسبق لعلاقتهما بهم.
تاسعاً: القدرة على حل المشكلات
ما من زوج ولا زوجة إلا ويريد أن يجعل من نفسه شخصاً قادراً على حل المشكلات الزوجية، والتغلب عليها، ولذا سنطيل النظر فيها لأهميتها، وعظم خطرها. ويتم ذلك في نظري بمراعاة عدة أمور.
أ- التروي والحكمة:
عندما يمعن المرء النظر في الحياة الزوجية عند عامة الناس لا يكاد يجد بيتاً يسلم من مشكلة تخْبو نارها إلى وأخرى على إثرها يتأجج أُوارُها. وليس هذا غريباً على طبائع البشر، حتى بيت النبوة لم يكن بمنأى عن تلك الخلافات لكنها حكمة الله تتجلى في وجودها، ليظهر للناس كيف يقف المصطفى صلى الله عليه وسلم منها، فتقتدي الأمة به، وتتأسى بهديه، ولو شاء الله لصفّى للمصطفى حياته من الكدر، ومشكلات البشر.
يروي أنس – رضي الله عنه – أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عند بعض نسائه، فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين بِصَحْفَةٍ فيها طعام، فضربت التي كان النبي صلى الله عليه وسلم في بيتها يد الخادم. فسقطت الصحفة، فانفلقت، فجمع النبي صلى الله عليه وسلم فِلَقَ الصحفة، ثم جعل يجمع فيها الطعام الذي كان في الصحفة، ويقول: " غارَتْ أمُّكم"، ثم حبس الخادم حتى أتى بصحفة من عند التي هو في بيتها، فدفع الصحفة الصحيحة إلى التي كُسِرت صحفتها، وأمسك المكسورة في بيت التي كسرت فيه(1).
فانظر – رعاك الله – إلى هذه الأناة وتلك الحكمة من هادي البشرية في معالجة الخلافات، واحتواء المشكلة قبل أن تكبر وتتعاظم.
إن من أعظم ما يجب الاستمساك به عند اندلاع نار الفتنة في بيت الزوجية هو أن يطفئ المرء نارها بماء الأناة والحكمة وإلا فإن النار قد تزداد اشتعالاً فتُهْلِك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد.
ولقد حدث لأحد الأزواج خلاف مع زوجته، أثار غضبها، وطلبت منه الطلاق بقوة وإلحاح، فأمرها أن تأتي بورقة وقلم ليكتب ما تريد، فجاءت بهما، فأشار عليها أن يؤجل الكتابة إلى الغد، فوافقت، فما أشرقت شمس غد حتى أشرق نور الوِفاق بينهما، بعد زوال سَوْرة الغضب، وحِدّة التّوَتّر وعلمت الزوجة أثر أناة زوجها في حل المشكلة وتلافيها.
ب- التكيف:
ونقصد به: حمل كل من الزوجين نفسه على التأقلم مع صاحبه ومراعاة اختلاف طبيعته، وطريقته في التعامل.
وهذه المسألة من أخطر المشكلات التي تواجه الزوجين في بداية الزواج، كما حدثني بذلك أحد المختصين، لأن كلاً منهما قد عاش في بيئة تختلف عن بيئة الآخر وعلى منهج مغاير، فهل ينتظر منهما أن يتوافقا في الأذواق والأمزجة والطبائع في غضون ليالٍ قليلة إن لم يحمل كلٌّ نفسه على التكيف مع صاحبه، خصوصاً في بدء حياتهما. وعندما ينعدم التكيف نسمع أن فلاناً طلق عروسه ليلة عرسه، وآخر فارقها بعد أسبوع، وأخرى طلبت الطلاق بعد شهر، وكان الأجدر بهؤلاء أن لو تريثوا وحملوا أنفسهم على الاختلاف الطارئ في التعامل.
جـ- ضبط اللسان:
حفظ اللسان من سيئ الكلام، وبذيء الحديث، والثرثرة أعظم مفتاح يمتلكه المرء لإغلاق باب المنازعات على نفسه، إذ لو تأمل العاقل في غالب منازعات الناس، فضلاً عن الزوجين، لوجدها من عثرات الألسن، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين قال لمعاذ – رضي الله عليه -: "وهل يكبُّ الناسَ في النار على وجوههم، أو قال على مناخرهم، إلا حصائد ألسنتهم"(2).
نعم إن فلتات اللسان مقاتل الإنسان، وأماني الشيطان، وصدق من قال:
يُصاب الفتى من عثرة بلسانه ... وليس يُصاب المرء من عثرة الرجل
فعثرة القول تُذهِبُ رأسه ... وعسرته بالرجل تبرأ على مهل
وآخر يقول:
احفظ لسانك أيها الإنسان ... لا يلدغنّك إنه ثُعبان
كم في المقابر من قتيل لسانه ... كانت تهاب لقاءَهُ الشّجعان
وثالث يبيّن مدى السلامة في ترك الثرثرة:
الصمت زَيْنٌ والسكوت سلامة ... فإذا نطقت فلا تكن مكثارا
__________
(1) - رواه البخاري (فتح 9/320) والصَّحْفَة: إناء يشبع الخمسة. والخادم: واحد الخَدَم يطلق على الذكر والأنثى.
(2) - رواه أحمد 5/231، 236، 237، والترمذي (2616) وقال: حديث حسن صحيح.(/9)
فلئن ندمت على سكوتك مرة ... فلتندمنّ على الكلام مرارا
ولذا فعلى كل من الزوجين حفظ لسانه وبخاصة عند حدوث المشكلات وارتفاع سَوْرَة الغضب، فمنه كلمة ومنها أخرى حتى يقع المحذور.
د- عدم نقل المشكلات خارج البيت:
إن نقل المشكلة خارج نطاق البيت يعني بقاءها، وازدياد اشتعال نارها، وخصوصاً إذا نقلت إلى أهل أحد الزوجين، لأنهم لا يدركون أبعاد المشكلة وأسبابها، وغالباً ما يسمعون القضية من طرف واحد، هو خصم، والخصم لا يسمع كلامه إلا بحضور خصمه، فيحكمون حكماً جائراً أعور، وقد تأخذهم الحمية لإنقاذ ابنهم أو ابنتهم، فيُضْرمون نار العداوة والبغضاء بين الزوجين إضراماً يذهب بالبقية الباقية من أواصر المحبة بينهما.
وغالب ما يحدث من منازعات بين الزوجين إنما هي أمور طفيفة لأسباب تافهة، تقوم لسوء مزاج أحدهما في وقت معين أو نحو ذلك، ثم تُصور للآخرين بألفاظ أضخم من حقيقة المشكلة فيظن السامع لها الذي لم يعايشها أنها كبيرة ومستعصية، فتأتي على إثر ذلك حلول شوهاء، يذهب ضحيتها الزوجان. ولذلك كان من المستحسن أن يتواصى الزوجان، ويتعاهدا على عدم نقل مشاكلاتهما خارج عشّ الزوجية، وأن يحرصا كل الحرص على ألا تبيت المشكلة معهما ليلة واحدة.
إن عضّك الدّهر فكن صابراً ... على الذي نالك من عضّته
أو مسك الضر فلا تشتك ... إلا لمن تطمعُ في رحمته
هـ- استشارة ذوي العقول وأهل الاختصاص(1):
إن التشاور مع ذوي الشأن وأرباب الحِجى عامل مهمّ في كل ما يحدث من خلاف بين الزوجين، ذلك لأن غيرك يعرف من الحلول ما لا تعرفه، وقد يكون ممن وقع في حَدَثٍ مماثل فَوُفِّق للحل المناسب. وعادة ما يصاب المرء حين المشكلة بضيق في الرأي، وتعكير على صفو التفكير، يحتاج معه إلى الاستناد إلى آراء الآخرين، للخلاص مما هو واقع فيه.
وأعرف شابّاً وقع في بيته حدث كاد يُودِي بالحياة الزوجية إلى أمر محزن، لولا أن الله وفقه لاستشارة صاحب رأي من إخوانه، فطمأنه إلى أنه لا مشكلة فيما حدث، إن عمل بمشورته بإذن الله، وفعلاً انقلبت المشكلة إلى سعادة ورضا، وصارت الزوجة تخجل من نفسها إذا تذكرت ما حصل منها، وحمد الزوج ربّه على الأناة، وضبط اللسان، واستشارة ذوي الشأن.
(وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً) (النساء:35).
و- الرضا بالقضاء والقدر
إن من أعظم ثمرات الإيمان بقدر الله وقضائه، الاطمئنان إلى عدل الله وحكمته، فإن أمر المؤمن كلَّه له خير، إن أصابته سراءُ شكر فكان خيراً له، وإن أصابه ضراء صبر فكان خيراً له، والصبر على مُرِّ القضاء دليل على قوة الإيمان وهو ابتلاء من الرحمن لعبده، أيقابله بالشكر والرضا، أم بالكفر، والسخط بما قدره الله تعالى، والاعتراض على حكمته وتدبيره.
وليعلم الزوجان أن رضاهما بما قدر عليهما كعدم الإنجاب، أو ضعف الولد أو تشويهه أو نحو ذلك من أسباب المشكلات، واحتسابهما الأجر عند ربهما وصبرهما على بليتهما خيرٌ لهما في الدنيا والآخرة، ففي الدنيا سعادةٌ وانشراحُ صدرٍ. وفي الآخرة جنة، ورضوان من الله أكبر.
وإنه لينقضي عجبك من قوم تسمع عن أحدهم أنه هدد امرأته بالطلاق، لأنها تنجب البنات. وكأنه لا يدري أن أمر الولد ليس موكولاً إليها، ولا إلى أحد من المخلوقين، بل هو تقدير العزيز العليم (يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيماً) (الشورى: الآيتان 49،50). وكأنه أدرى بالحكمة وأعرف بالمصلحة من ربه – جل وعلا -، وهذا التصرف دليل على ضعف الإيمان، وقلة اليقين.
وقد روت كتب الأخبار أن رجلاً سخط على امرأته وهجرها لأنها مئناثٌ لا تَلِدُ إلا البنات، وتزوج من أخرى، فأنشأت أبياتاً تقولها وهي ترقص إحدى بُنياتها وتبين أنه لا مجال للسخط عليها:
مال أبي حمزة لا يأتينا ... يظل في البيت الذي يلينا
غضبان أنا لا نلد البنينا ... تالله ما ذاك في أيدينا
وإنما نحن كالأرض لزارعينا ... ننبت ما زرعوه فينا
فأدرك الزوج خطأه، وعاد إلى زوجته، وعاشرها بالحسنى.
وقد يبتلى بعض الرجال بزوجة دميمة، فعليه أن يصبر على ما ابتلي به (فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً) (النساء: من الآية19). وعليه ألا يُعَيّر المرأة بدمامتها، وهو أمرٌ ليس من تقدريها وخلقها، وقد يؤدي مثل هذا التعيير والتنقص إلى إثارة المرأة ومحاولتها الانتقام من زوجها، كما نشرت جريدة الرياض قصة امرأة مصرية، قتلت زوجها، وقطعته عدة قطع، لأنه كان يعيرها بقبحها، ويهددها بالزواج عليها.
__________
(1) - هذا لا يتعارض مع الذي قبله فليتأمل.(/10)
ومثل ذلك إذا أنجبت المرأة أولاداً معوقين، فعليه بالرضا بالقضاء والقدر، ولعل الله أراد به خيراً، وإذا أحب الله عبداً ابتلاه، وعليه بفعل ما يشرع من الأسباب لتلافي مثل ذلك، وقل مثل هذا إذا أصيب أحد الزوجين بمرض أو عاهة فعلى الآخر الرضا والصبر والاحتساب، فالله لا يضيع أجر من أحسن عملاً.
وعلى الزوجة أن تصبر إذا افتقر زوجها بعد غنى، أو ابتلي بمصيبة من مصائب الدنيا كالسّجن والتغرب وغيرها (سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً) (الطلاق: من الآية7).
عاشراً: أمور متفرقة
بقيت أمور مهمة، الحديث عنها، وإبداء الرأي فيها جزء من مقومات السعادة الزوجية، أفردتها لأهميتها في الحياة الزوجية، وهي كالتالي:
1- عمل المرأة:
مما يُحدث إشكالات في حالات كثيرة بين الأزواج، قضية عمل المرأة، والأمر فيها بيّن واضح:
فإن كانت المرأة اشترطته على زوجها دائماً أو وقتاً معيناً، فإن عليه أن يلتزم بالشرط كما اتفقا عليه حين العقد ورضيا به، لقوله صلى الله عليه وسلم: "إن أحق الشروط أن تُوفوا به ما استحللتم به الفروج"(1).
وقوله صلى الله عليه وسلم: "المسلمون على شروطهم"(2).
وإن اشترط الزوج على زوجته ألا تعمل، أو لم يكن هناك شرطٌ سابق لكنه رفض عملها، لزمها أن تطيع وتسمع؛ لأنه بَعْلها، وطاعته واجبة عليها.
ولكن على المرأة ألا تركب رأسها حين يكون العمل مضرّاً بحياتها الزوجية مرهقاً للزوج، بل ينبغي لها أن تتنازل عن شرطها، وتتخلى عن عملها، لأن الإبقاء على الزوج، وتقدير مصلحة البيت خير لها من لزوم العمل، وهذا كله إنما يتم بطريق المفاهمة والمشاورة ومبادلة الرأي.
2-مال الزوجة:
بعض الأزواج يغلبه الطمع فيتسلط على مال زوجته بدون رضاها، وهذا ليس من حقه، بل للمرأة مالها. ولها حق التصرف فيه، دون غيرها، وعلى الزوج أن يقوم بواجبه في النفقة عليها، وإن كانت ذات مال.
ومثل هذا الجشع من بعض الأزواج يمحو المحبة، ويذيب الوُدّ من قلب الزوجة، إن لم يحملها على تصرفٍ مشين يحطِّم السلام في أمن البيت. ومن ذلك ما نشرته جريد الرياض أن امرأة أقدمت على قتل زوجها، وتقطيعه، وتوزيع قطع الجثة على مدينتين، وفي مجاري المياه، لأنه كان يضربها، ويتسلط على مالها، يقول الله تعالى: (وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً) (النساء:4).
3- التجمل والزينة:
للزينة دور فعّال في إعفاف كلٍّ من الزوجين وقناعته بصاحبه والرغبة فيه، ودوام العشرة بالمعروف، ومتانة سياج المودة والمحبة، ولا غرو، فالقلب مجبول على التطلع إلى الجمال ومحبته. بيد أن بعض الرجال يعتقد أن هذا خاص بالمرأة دونه، وأنه يجب عليها أن تتجمل له وتتزينن لكنه لا يقوم بدوره في التجمل لذلك الاعتقاد الخاطئ، وقد قال الله تعالى: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) (البقرة: من الآية228). نعم إن زينة الرجل كمالُ رجولته، وقوامته، وحسنُ عشرته، ولكن التجمل الظاهر مطلب للمرأة ترتاح له وتسرُّ به.
وقد بينت ذلك إحداهن حينما خطبها رجلٌ قد شاب شعر رأسه فأبدت موافقتها، وقالت: "أخبروه أن في رأسي شيباً"، فغير الرجل رأيه لذلك، فقالت المرأة: "والله ما في رأسي شعرة إلا وهي سوداء، ولكني أردت أن أُعلمه أن ما يحبونه فينا نحبُّه فيهم".
ومع هذا كله، تجد كثيراً من الأزواج يهمل هذا الحق لزوجته عليه.
وأكثر من ذلك، وأشدُّ قبحاً ما يقع من إهمال كثير من النساء لزينتهن أمام أزواجهن، أصحاب الحق بالزينة وقد تمرُّ بالواحدة الأيام والليالي لم تبدُ خلالها بمظهر حسن لبعلها، وليت الأمر يقف عند هذا الحد، بل يتعداه إلى أن الزوج الذي بماله تُشترى الملابس الجميلة، والعطور، وأدوات الزينة، يحرم منها، لتعرضها المرأة أمام النساء في المناسبات والأعياد والزيجات.
أحرام على بلابله الدوح ... حلال للطير من كل جنس!!
حتى حدا هذا العمل ببعضهم أن ينتظر بفارغ الصبر قدوم مناسبة يمتع ناظريه فيها بزوجته بأبهى حلة وأحسن حال، ووصل الأمر بآخرين إلى افتعال المناسبة، واختلاق موعدها ليحظى بتجمل زوجته له. وهذا لا شك ظلمٌ من الزوجة لزوجها، وتقصير في حقه، مضر بسعادتها معه، يحمل الزوج على الانصراف عنها، والزهادة فيها، ليتطلع إلى الزواج بأخرى تروي عاطفته، وتشبع غريزته وتملأ عينه.
__________
(1) - رواه البخاري (فتح 5/323) ومسلم (1418).
(2) - رواه أبو داود (3594) والحاكم (2/49) والبيهقي (6/79) وغيرهم من حديث أبي هريرة وعائشة وأنس، وابن عمر، ورافع بن خديح وعمرو بن عوف، وهو صحيح بمجموع طرقه. انظر الإرواء (1303).(/11)
وقد تزوج أحدهم بامرأة أخرى لهذا السبب، فما كان من الأولى إلا أن تزينت وتجملت، فلما دخل الزوج عليها ظنّها امرأة أجنبية من عظم الفوارق بين حالتيها، ودهش حينما رآها بهذا التألق الذي ظن أنها تفتقده، وأخبرها أنه ما كان ليتزوج لو كانت معه على تلك الحال قبل ذلك، ولكن على نفسها جنت براقش.
4- أم الزوجة:
ترسخت لدى كثيرين مفاهيم خاطئة عن أمّ الزوجة (الحماة) استقوها من الصحف والمجلات والمسلسلات، صُوِّرت فيها على أنها امرأة شريرة، تحمل في طبعها الكيد والمكر والخداع، وأن سعادتها منوطة بشقاء زوج ابنتها، وراحتها في تعليم ابنتها أساليب ابتزاز مال الزوج، وتعب بدنه.
والحقيقة أن الواقع خلاف ذلك، فالحماة امرأة فاضلة صالحة تسهر على سعادة ابنتها مع زوجها، وتحرص على قيام ابنتها بكامل حقوق الزوج، وقد تُضَحِّي براحتها لإراحتهما، وهذا لا يعني أن كل حماة بهذه الصفات، بل قد يكون منهن من هي بخلاف ذلك، وهذا غير مستبعد على طبائع البشر، لكن أن تنقلب الأحوال فتصور على غير ما هي عليه في أعم أحوالها، فذلك ظلم لها، وهضم لجميلها، وقل مثل ذلك عن أمّ الزوج.
5- تعدد الزوجات:
تعدد الزوجات أمر مشروع، ولا مجال للنقاش في مشروعيته، وإنه ليخشى على دين من يُناقش في ذلك، ويخطئ أولئك الذين يظنون أن التعدد مباح عند الضرورة، كعقم الزوجة، أو مرضها المزمن، فذلك مما لم يرد به دليل، ولم ينزل به شرع.
ولست الآن بصدد البحث في هذا الموضوع، لكن أعرض منه ما له مساس بموضوعنا (مقومات السعادة الزوجية) وهو حث الرجال والنساء على الاعتدال في مسألة التعدد، والأمر بالتزام المنهج الشرعي فيها.
فمن الأزواج من يتعجل في التعدد، ويقدم على الزواج من غير تبصُّر وتربُّص فيقع في أخطاء فادحة، تُهَشِّم بُنيان السعادة في أسرته.
ومنهم من يجعل الحديث عن التعدد سبيلاً لإغاظة الزوجة، واستفزازها وتهديدها.
ومنهم من لا يراعي في التعدد إلا إشباع الرغبة الجنسية. صارفاً النظر عن الأغراض الشرعية السامية، التي من أجلها شرع التعدد، ومعرضاً عما ينبغي أن يقوم به من العدالة والقوامة والقدرة على القيام بالحقوق، فيكون حاله كحال هذا الشاعر الذي يقول مصوراً ما هو فيه من تعاسة ونكد عيش.
تزوجتُ اثنتين لفرطِ جهلي ... بما يشقى به زوجُ اثنتين
فقلتُ أصير بينَهما خروفا ... أنعم بين أكرم نعجتين
فصرتُ كنعجةٍ تُضحِي وتُمسِي ... تداولُ بينَ أخبثَ ذئبتين
رضا هذه يُهيّجُ سخْطَ هذه ... فما أعرَى من احدى السخطتين
وألقى في المعيشة كلَّ ضُرٍّ ... كذاك الضر بين الضَّرَّتين
لهذه ليلةٌ ولتلك أخرى ... عتابٌ دائمٌ في الليلتين
فإن أحببتَ أن تبقى كريما ... من الخيراتِ مملوءَ اليدين
فعشْ عزبا فإن لم تستطعه ... فواحدة تكفيك شرَّ الضرتين
6- ارتكاب المعاصي بحجة البحث عن السعادة:
وتلك قاصمة الظهور، وجالبة الشرور، قد سرت بين الناس سريان النار في الهشيم، وجاءت تحت قوالب ومسميات أبعد ما تكون عن الإسلام ومنهجه السوي في شأن الزواج، ومن ذلك مثلاً، ما يسمّى "بشهر العسل" تلبيساً وإيهاماً. ويرتكب الزوجان تحت مظلة هذا الشهر آثاماً من أشدها ضرراً وأخطرها شرراً قضية السفر إلى الخارج، بدعوى السياحة والتفرج، وهي بدعة غريبة يحقق عملنا بها قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: "لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، حتى لو سلَكُوا جُحر ضبٍّ لسلكتموه"(1).
ويحدث خلال السفر ما يَنْدى له جبين المسلم من ضياع الأموال، وتبرج النساء، وارتكاب المحظورات، وهذه هي سعادتهم، شهر واحد فقط، ثم تعاسة دائمة، وبؤس مستمر. أما المسلم فحياته كلها سعادة وبهجة.
ومن ذلك، مشاهدة الأفلام الخليعة، خصوصاً في أول ليالي الحياة الزوجية، أو قراءة المجلات الماجنة، أو استماع الأغاني المحرمة المثيرة للغرائز، أو قيام الزوجة بتضييف أصدقاء زوجها، أو هتكها لحجابها، وغير ذلك من المعاصي التي لا تخفى، والتي تعود بالشؤم والبلاء العاجل والآجل على عش الزوجية (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) (الشورى:30). وكم تفرق شملٌ، وتشتَّت جَمْع، واضطربت بيوتٌ، وطُلِّقت نساء وضيع أولاد، بشؤم المعصية، في وقت يتصور الزوجان أنهما بهذه المعاصي يحققان السعادة والهناء.
7- الهدية:
لعل خير ما يذكر في آخر هذه الرسالة لتحقيق الأهداف التي كتبت من أجلها، مسألة غفل عنها الكثير من الأزواج مع أثرها في تحقيق السعادة ودوام المحبة والألفة، ألا وهي الهدية، هدية الزوج لزوجته وهدية الزوجة لزوجها، وكذلك هدية كل من الزوجين لأهل الآخر، وبالأخص للوالدين، إن الهدية تذهب السخيمة، وتزيل البغضاء، ومهما كانت الهدية بسيطة ويسيرة فإن لها من الآثار النفسية ما يصعب حصره وتعدد مزاياها. فتهادوا تحابوا.
__________
(1) - رواه البخاري (فتح 6/495، 13/300) ومسلم (2669).(/12)
ومما يلحق بالهدية إفشاء السلام وطلاقة الوجه والبشاشة، "أولا أدلُّكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم، أفشوا السلام بينكم". رواه مسلم.
و"لا تحقرن من المعروف شيئاً، ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق". رواه مسلم.
وجربوا الهدية والسلام والبشاشة وستجدون النتيجة بإذن الله.
الحادي عشر: الخاتمة
وبعد:
هذه أبرز مقومات السعادة الزوجية لمن أراد حياة هانئة مستقرة، لا تشوبها المشكلات والقلاقل، ولا تكدرها الخصومات والشقاق.
وفي هذا البيت السعيد تتكون الأسرة المؤمنة وتتربى الأجيال، ومن مثل هذه الأسرة يتخرج القادة والمصلحون. إن أمتنا الإسلامية بأمس الحاجة إلى الوقوف في وجه الهجمة الشرسة من أعدائنا لتقويض أركان الأسرة في مجتمعنا، عن طريق وسائل متنوعة متعددة، لا تخفى على أولي الألباب.
إن الأسرة التي تلتزم بدينها وعقيدتها، وتجعل الكتاب والسنة نبراساً لحياتها، لهي جديرة بالبقاء والهناء والسعادة (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى) (طه: من الآية123).
أما من انحرف عن المنهج السوي، وابتعد عن الصراط المستقيم، ودان لأخلاق الشرق والغرب، إعجاباً وتقليداً وسلوكاً، وربّى أهله وأبناءه على هذه الطرق، فلا يلومنّ إلا نفسه، (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) (طه:124).
وعلينا أن نتذكر ما أعده الله للأزواج السعداء في الدنيا من سعادة في الآخرة (هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ) (يس: 56). والملائكة يدعون لهؤلاء السعداء، (رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (غافر: 8).
وليحذر الزوجان أن يكونا ممن قال الله فيهم: (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ) (الصافات:22، 23).
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وسلام على المرسلين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(/13)
مكالمات خائن ... زوجي يخونني
الزوجة الغافلة:
استفاقت هذه الزوجة الغافلة على ما لم تكن تتصوره أو تتوقعه في يوم من الأيام... إنه زوجها الذي تحبه بعد زواج استمر خمسة عشر عامًا... يتكلم في الهاتف مكالمات غريبة؛ همسات... ضحكات... عبارات حب ملتهبة.. يأخذ تليفونه المحمول حيثما اتجه، يضعه تحت رأسه عند نومه... يسهر كثيرًا.. يسرح كثيرًا.. يبتعد عنها شيئًا فشيئًا حتى صار هذا ديدنه... لا يحافظ على صلواته.. يتابع الأفلام والفضائيات... وهي ترى كل هذا التغيير ولا تصدق ما تسمع بأذنها ولا ما ترى بعينها.. ماذا حدث ؟ وما السبب ؟ اكتشفت الغافلة المسكينة أن زوجها يحب أخرى... ووصلت العلاقة بينهما حدًا تجاوز الهواتف.
عزيزي القارئ هل توصلت إلى المشكلة التي نحن بصددها الآن؟
إنها مشكلة من المشاكل الزوجية السلوكية وهي انحراف الزوج أو ما يسمى بالخيانة الزوجية..
والسؤال الآن ما هو مفهوم الخيانة الزوجية؟
يقول أ. د. محمد رواس قلعة - كلية الشريعة، جامعة الكويت -:
'الخيانة الزوجية أن يأتي شخص متزوج من غير زوجته متعة جنسية ما يأتيه من زوجته حلالاً. سواء كانت هذه المتعة الجنسية جماعًا أم مداعبة أم لمسًا أم كلامًا؛ لأن المتع الجنسية لا تحل إلا من الزوجة'.
والخيانة في الشرع هي: غمط الحقوق واغتصابها، وهي من أرذل الصفات وأبشع المذام، وأدعاها إلى سقوط الكرامة والفشل والإخفاق.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } [27] سورة الأنفال
وقال صلى الله عليه وسلم: [[أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كان فيه خصلة منهن كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر]] [متفق عليه].
أما الأمانة فهي أداء ما ائتمن عليه الإنسان من الحقوق وهي ضد الخيانة وهي من أنبل الخصال وأشرف الفضائل، بها يحرز المرء الثقة والإعجاب وينال النجاح والفوز، وهي عنوان للنبل والاستقامة.
يقول تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} [8] سورة المؤمنون
إن الحياة الزوجية لا تسمو ولا تصفو إلا في جو تسوده الثقة والأمانة.
لذلك فإننا نجد أن من أخطر المشاكل الزوجية السلوكية هي الخيانة الزوجية فبسببها تُقوّض أركان البيت ويحل الغدر والخيانة محل الأمانة والثقة المتبادلة.
ولا يختلف اثنان على أن الخيانة الزوجية غير جائزة ومرفوضة شرعًا وعرفًا وأثرها السلبي الخطير يعود على الفرد وعلى الأسرة [الزوج ـ الزوجة ـ الأولاد ـ الأقارب].
عجيب أمر هذه الزوجة - الغافلة - فإنها حين تُفاجأ بخيانة زوجها دون مقدمات فمعنى ذلك أنها مقصرة تمام التقصير في عدم فهمها للطرف الآخر، وما يطرأ عليه من تغيرات وأحوال واهتمامات، فلا خيانة إلا ويسبقها مقدمات ومن هذه المقدمات:
1ـ تغير حال الزوج ـ وخصوصًا الناحية الدينية ـ: كأن يبدأ حياته الزوجية متدينًا ثم ينقلب على عقبيه ويتغير حاله إلى اللامبالاة والتساهل في العبادات. [نسأل الله الثبات والعافية ونعوذ بالله من الحور بعد الكور].
2ـ فساد الأخلاق: ويكون هذا واضحًا في مشاهدة الفضائيات والأفلام... والاختلاط مع النساء في العمل وفي الأسرة من الأقارب أو الجيران.
3ـ عدم القيام بالحقوق: وأداء الواجبات الأساسية للأسرة [الزوجة ـ الأولاد] كالبخل عليهم وكثرة الانتقاد والشكوى، الغياب الكثير عن البيت، السهر خارج البيت، إهمال تربية الأولاد والسؤال عن أحوالهم.
4ـ المقارنة: وهي مقارنة الزوج زوجته بمن حوله من النساء مثل زميلات العمل أو التي يراها في الفضائيات ووسائل الإعلام.
5ـ الصحبة السيئة: فهذه من أسباب انحراف الفرد؛ فصاحب السوء يزين لصاحبه الشر... لذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم: [[المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل]].
6ـ خفوت جذوة الحب: وهنا تحس الزوجة أن عاطفة زوجها تجاهها لم تعد كما كانت في السابق، فلم يعد منجذبًا إليها، لا ينظر إليها بنظرات الإعجاب. إن إحساس أحد الطرفين بفتور الحب يشكل نقطة ارتكاز في الخلاف وصدًا مهما بينهما ، ومن هنا يبدأ البعد والانصراف.
وإذا وصلت الحياة الزوجية إلى نقطة الخيانة فإن الانشقاق والخراب سيخيم على هذا البيت. وخصوصًا أن الرجل قوام البيت وهو قدوة الأولاد وقدوة الزوجة أيضًا, وهو راعي الأسرة ومسئول عن رعيته ومؤتمن على الزوجة والأولاد. كما جاء في الحديث الصحيح: [[الرجل راعٍ على أهل بيته... فكلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته]] [متفق عليه].
ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: [[إن الله سائل كل راع عما استرعاه أحفظ ذلك أم ضيّع، حتى يسأل الرجل عن أهل بيته]].(/1)
مكامن الأدواء
محمد السيد
saif_el_haq@hotmail.com
قال تعالى : (كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبثس ما كانوا يفعلون) (النحل _ 112 _ )
أفسح لقلبي ساحة حرية ، كي يفرغ في ميادينك رحيق الروح، ادن مني، أهمس في أذن الجميع حداثق النصح، تفتح أبوابها للحب ، لشواطئ الأمان العذبة ، لفصول من الزمان تستعيد اللحظات النقية الآمنة ، يتجاذبها حاضر الأحزان ، فترقؤه رقية لا تترك لظمأ الأيام أن ينثر في العروق دماء الأوهام ...
انظر إليهم .. جموع تفوح منها لوعات حنين إلى لحظة أمان ، ها هم يتناجون بما سيكون . وقد ألقتهم الكهانات إلى أيدٍ غريبة ، تعبث بهم ، كما يعبث الخنزير في أرض طرية رطبة ، تكاد خضرتها تشرف على الذبول ... وهم في حضن الردى ، والقوارب الغبية تناوش أجفان الحقيقة ، وهي تطبق على البصيرة أهداباً غبراء ، تلطخت بالمنكر الذي صار في ناديهم على المدى معروفاً
لا تنه عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم
وتحولت نواديهم وفضائياتهم بين ليلة وضحاها إلى جسد وكأس وذهول ومعاقرة ذل ، خيم منذ الكلمة الخديعة يثرثر بها متفيهقو الواقعية ، وحتى الفعل من رسمييهم أصبح يجرجرهم إلى قاعات حضور ذلك الذي غرق بأوهام قوته .. ليتركهم يتقلبون في حمآت زمانه النكد .. يقلب الأرض يحرثها بالخراب والدمار وهم من فزع ومن هلع على مواقع لهم ، يحاولون لملمة الحواشي والفتات من على الموائد اللئيمة ، ولو كان في ذلك هلاك الزرع والضرع والأفلاك .
" كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه " ، ولا يفقهون أن في ذلك الذي يفعلونه في ساحات المنكر وبين أحضانه تكمن النهايات الأليمة والمآلات الفاضحة . ولا يعلمون أن مكامن الأدواء ترقبهم ، وأجسامهم وعقولهم غير حصينة ؛ فقد أغلقوا نوافذ السمع ، فلا تصل إليهم صيحات الإنذار أو نداءات النصح ، كما أنهم أهالوا على مدنهم سجفاً من الليل يفتك بالهدى ، ويزجي صولاته بين الآمنين ، يقفز على بيوتهم يغارات غدت من كثرة تكرارها مشهورة بالغثى ، مذكورة بالإظلام ، فلا شمس و لا قمر يهديان في هذه العتمة الشاسعة الأبعاد المقارفة للأهوال ، تلقي بجرانها في أحضان الأوطان ، لتنقلب الأوطان إلى جحور لا تشهد نوراً ، ولا تذكر فصولاً تعبر الساحات .. إنها اللعنات تحضر في ساعات الاستحقاق ، حين يغيب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر : " لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داوود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ، كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون " .
و إنها للسعات الجوع ، ورهاب الخوف ، يحلان في الديار ، حين يهرب الجمع من توجيه الله ، ويكفر القوم بأنعمه : " وضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون " .
فتلك هي مكامن الأدواء إذن : " لا يتناهون عن منكر فعلوه " ، ولا يأمرون بمعروف أُمِرُوه ، ويكفرون بأنعم الله التي وُهِبُوها ... وتلك هي المآلات المعدة : الإبعاد من الرحمة الربانية ، ولعنات الجوع والخوف والذل المقيم : " لعن الذين كفروا من بني إسرائيل ... " ، و " فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون " .
وها أنت ترى اليوم كيف أصبحت شموسنا ذابلة ..! وأشرعتنا مطوية ، فقد تقوقعت مقولاتنا ، وانزوت في جحور ترفع رايات الآخرين ، واستلم زمامها غرقى ضجيج الحداثة الآفلة ، التي روت حكايات مزورة لرواقات مزيفة .. ثم انسلّت بعد أن رمتنا بدائها العضال .
تقول لهؤلاء : إن الفصول تتوالى ، ولكن لا يمكنك الجزم بأن الحديث منها خير من الذي مضى .. إذ أنه لولا الشتاء لما كان الربيع ، ولولا زهر الربيع لما كان ثمر الصيف ، ولولا حرارة الصيف لما جفت أوراق الخريف . فالحداثة الحقة إذن متوالية تتداخل عناصرها القديمة بالجديدة بالمستقلية تداخل بناء واستيعاب واستنتاج ، ثم تواصل مستمر بين أفكار الأجيال من خلال الاحترام المخترق لتنمية الاستمرار المضيف أبداً إضافات متأصلة مؤسسة فوق الماضي والحاضر لبناء الأسعد من المستقبل : "والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم " لكنهم ( غرقى ضجيج الحداثة ) يخذلون عقولهم ليقولوا : لا يمكن بناء الحديث إلا بهدم ما كان ، وإن التمسك بروح النص : " كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه " جمود يوقف عملية التحديث والانفتاح على الآخر .. ألا ساء ما يزرون ...!(/1)
ونقول لهم : إن الإسلام دين سلام للنفس الإنسانية ، ودين عزم وشموخ وقوة لحامله ، ودين تقدم وتطوير وتجديد وتحديث للأوطان والمجتمعات ، وحصن مانع من الخضوع والخنوع ، وسياج حافظ من كل انحطاط .. وذلك حين جعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سمة مميزة لكل منتمٍ له فرداً كان أو جماعةً . ويجيبون على قولنا بلا فهم ولا تدبر ولا اتعاظ : إن هذا ضد الحرية . وهو جمود على القديم و هو خطاب ظلامي ضد التقدم، ثم يقومون بفعلهم وسوء حالهم بنشر فواحش الفكر والسلوك والأنظمة في مجتمعاتهم ، بحجة الانفتاح على الآخر والأخذ بروح العصر :
" لبئس ما كانوا يفعلون " ؛ إذ أن ما نراه اليوم من بوار في الأمة هو نتيجة لمناهج هؤلاء الضالة ، ولكن الله لهم بالمرصاد . و حملة هذا الدين في عصرنا لهم بالمرصاد أيضاً : ( فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوماً ليسوا بها بكافرين أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده .. ) وهذا هو الرأي .. والله أعلم .(/2)
مكانة اللسان وخطورته
أ.د. ناصر بن سليمان العمر
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فإن اللسان جرم صغير، ولكن خطره كبير ولهذا قالوا في المثل: المرء بأصغريه؛ قلبه ولسانه، فقرنوا اللسان بالقلب.
وقد دعا موسى _عليه السلام_ رب العز والجلال أن يهبه ما يؤدي به واجب البلاغ المبين فقال : "وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي"، ثم قال _عليه السلام_ باثاً مخاوفه من عقبة عدم القدرة على البيان "وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ" ثم طلب بعد ذلك معيناً له على تأدية مهمته ممن منّ الله عليهم بنعمة البيان، فقال: "وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ".
واللسان نعمة امتن الله بها على الإنسان، فقال: "أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَين ولساناً وَشَفَتَيْنِ" وهذه النعمة سلاح ذو حدين، إن استعمل في الخير كان سبباً لرضوان الله وإن استعمل في الشر كان سبباً لسخط الله قال _تعالى_ في أمر الإفك: "إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ"، وقال _تعالى_ مبيناً رضاه عمن استعمل لسانه في طاعته: "وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ"، وجاء أن رسول اللّه _صلى اللّه عليه وسلم_ قال: "إنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بالكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ _تعالى_ ما كَانَ يَظُن أنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ يَكْتُبُ اللَّهُ _تَعالى_ لَهُ بِهَا رِضْوَانَهُ إلى يَوْمِ يَلْقاهُ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بالكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ _تَعالى_ ما كانَ يَظُنُّ أنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ يَكْتُبُ اللَّهُ _تَعالى_ بِها سَخَطَهُ إلى يَوْمِ يَلْقَاهُ".
فليحذر الإنسان من لسانه وليعمل جاهداً أن يكون لسانه قائده إلى الجنة وموصله إلى رضوان الله، فإن كل ما يقول محسوب، إما له أو عليه، قال _تعالى_: "مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ" وجاء في الحديث أن معاذ بن جبل _رضي الله عنه_ قال للنبي _صلي الله عليه وسلم_: "يا نبي الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم" وقد عرّف النبي _صلي الله عليه وسلم_ المسلم الحق الذي استسلم لله ظاهراً وباطناً، فقال: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده" وإن شهوة الكلام من أكثر الشهوات غلبة للناس حتى لا تكاد تجد من يكبح جماحها، وما النجاة إلا لمن وفقه الله فألزم لسانه حدود ما أراد الله _تعالى_، عن عقبة بن عامر قال: "قلت يا رسول الله ما النجاة؟ قال أمسك عليك لسانك وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك" قال أبو عيسى هذا حديث حسن.
فإذا كان اللسان أول أسباب النجاة فانظر إلى واقعنا لتعرف مقدار الناجين ثم لا تعجب ممن هلك كيف هلك ولكن العجب ممن نجا كيف نجا، ولذا فإن الجوارح كلها تعنف اللسان وتوبخه كل صباح وتذكره أن نجاة سائر البدن به إن استقام، وهلاك الأعضاء كلها به إن انحرف، عن أبي سعيد الخدري رفعه قال: "إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تكفر اللسان فتقول اتق الله فينا فإنما نحن بك فإن استقمت استقمنا وإن اعوججت اعوججنا".
وقد كان السلف على ما بهم من حرص في كلامهم يتهمون ألسنتهم، وروي أن عمر بن الخطاب _رضي الله عنه_ رأى أبا بكر الصديق _رضي الله عنه_ وهو يمد لسانه بيده، فقال له: ما تصنع يا خليفة رسول الله؟! قال: هذا أوردني الموارد، إن رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ قال: ليس شيء من الجسد إلا يشكو إلى الله اللسان على حدته.
فهل نحن عن آفات اللسان منتهون ولشهوة اللسان كابحون ولما يرضي ربنا طالبون؟(/1)
مكة التي لا تنام
لذكر مكَّة وقع خاص في النفوس؛ فهي مهوى الأفئدة، وقرَّة العيون، لها مع مواسم الطاعة التصاق وثيق، ففريضة الصلاة إلى كعبتها، ومناسك الحج لا تصح إلا بزيارتها، وأما الصيام والقيام في حرمها فله مذاقه الخاص الذي لا يدانيه شيء.
وأما العمرة فلها في رمضان شأنها الخاص، فهي تعدل عمرة مع الحبيب - صلى الله عليه وسلم -، كما صحَّ بذلك الحديث عند البخاري (1782) ومسلم (1256) من طريق ابن عباس - رضي الله عنهما-.
مكة المكرمة بلد الله المعظَّم، التي طالما قصدها الزائرون عبر القرون، وكتب عنها وأرَّخ لها المصنفون والمؤرخون، وتغنّى بجمالها وروحانيتها الشعراء المبدعون.
هذه البلدة الطيبة شهدت في زماننا هذا -وبالخصوص في العقدين الأخيرين- إقبالاً منقطع النظير؛ بفعل الصحوة الإسلامية العارمة التي اجتاحت العالم كله، وبتأثير الدعاية الفاعلة - التي تولى زمامها علماء الصحوة ودعاتها- لكل شرائع الإسلام، بما فيها فضل المجاورة في البيت الحرام، وشد الرحال إلى رحابه الطاهرة.
هذا الإقبال الكبير نحو البلد الحرام لم يُوظف توظيفاً جيداً لمصلحة بث الوعي وتثقيف الناس الثقافة الشرعية الصحيحة، وتصويب المفاهيم الدينية الخاطئة.
بل صاحب ذاك الإقبال، جملة من السلبيات والأخطاء المنافية لقدسية المكان، وشرف الزمان أحياناً!
والجموع القادمة من البلاد العربية المختلفة، أو الأفريقية أو الآسيوية أو حتى الأوروبية والأمريكتين يغلب عليها -وللأسف الشديد- طابع الجهل وفشو البدع والمعتقدات المنافية لأصل التوحيد أو كماله.
كما أن القادمين من أهل البلد الأصليين -وهم المواطنون لا سيما المراهقون والمراهقات وحدثاء السن من الجنسين- يغلب على كثير منهم الانحراف الأخلاقي، بفعل عوامل كثيرة من أهمها:
(1) ضعف الوازع الديني لهشاشة التربية البيتية والمدرسية والبيئية.
(2) وجود أسباب الانحراف، ودواعي الفساد عبر ما تبثه وسائل الإعلام، وأدوات الترفيه غير البريء من قنوات وإنترنت وغيرها.
(3) الانفتاح على العالم عبر السياحة والسفر وغير ذلك مما لا يتسع المقام لحصره.
هؤلاء المنحرفون القادمون بصحبة أهاليهم الصائمين القائمين، وربما المعتكفين لا يفرقون بين مكة وغيرها، ولا بين رمضان وشوال، فغلبة الرذيلة على النفوس، واستحواذ الشيطان على القلوب، يجعل أي تصرُّف من أمثال هؤلاء غير مستغرب أو مدهش.
فقديماً ملأ المشركون جوف الكعبة وساحات المسجد أصناماً، وطافت النساء عريانات، ولم يبال أحد من أولئك بقدسية المكان أو شرف الزمان، لا بين أشهر حج أو أشهر حرم أو غيرها.
وإزاء هذه الجموع القادمة ببدعها وانحرافاتها العقدية، أو بفسقها ومجونها نتساءل ماذا أعدَّ المسؤولون والمحتسبون لمواجهة هذه الأعباء الجسيمة لتخفيف حدتها واحتواء وطأتها؟!
إننا لا نرى -للأسف الشديد- إلا استنفاراً –رغم ما فيه من سلبيات- من جهاز المرور، ودوائر الأمن.
وكأن الهدف هو ضمان وصول الزوَّار إلى مكة بأسرع وقت، وخروجهم منها بأسرع من ذلك!!
أما تغيير البدع إلى سنن، والخرافات إلى حقائق، والرذائل إلى فضائل، فهي مسائل لم تأخذ حظها من الاهتمام، بل ربما من التفكير، ولذا فالمقترح ما يلي:
1. نناشد المسؤولين في رئاسة الحرمين أن يستغلوا قدوم هذه الجموع العظيمة إلى مكة الطاهرة، فيضعوا برامج علميّة ودعويّة جادة، لتوعيتهم وتثقيفهم وتصويب المفاهيم لديهم. وما المانع من التعاون مع الجامعات الشرعية المتعدِّدة في بلادنا، ودعوة أساتذة الجامعات الشرعيين والقضاة وطلاب العلم المبرزين للتدريس في المسجد الحرام تحت نظر وإشراف الرئاسة، مع توفير المترجمين الموثوقين للقيام بمهمة الترجمة الفورية لتلك الدروس العلمية.
2. دعوة التجار والمحتسبين إلى التبرع لصالح مشروع طباعة ونشر الكتيبات والمطويات الدعوية بلغات مختلفة، وبأساليب مناسبة لأفهام المخاطبين.
3. ينبغي تكثيف رجال الحسبة أيام المواسم كرمضان والحج والإجازات الرسمية، ونشرهم في الأسواق، وردع الفساق والفاسقات من انتهاك حرمات الله، وتغريرهم بما يناسب من جلد أو سجن أو غيره! ولا مانع من التعاون مع المتطوعين لهذا العمل الشريف، كالمدرسين والطلبة وأمثالهم في إطار رسمي منظَّم.
4. ينبغي تنظيم التسوق في زمانه ومكانه، فيُمنع وقت أداء الفرائض أو حتى التراويح والقيام؛ لكون هذا الأخير هو الوقت المفضَّل لحصول الممارسات اللاأخلاقية، اهتبالاً لفرصة انشغال الوالدين بنافلة القيام.
إنه من العجيب حقاً ألا تتميز مكة -حتى الآن- بخصوصية إغلاق الأسواق أو تنظيمها فتحاً وإغلاقاً، بدءاً وانتهاءً مراعاة لقدسية المكان وروحانية الزمان، أو على الأقل إغلاق أسواق المنطقة المحيطة بالمسجد الحرام، لما في ذلك من الفوائد الكثيرة، منها:
أ. تخفيف حدّة الزحام إلى حد معقول، ذلك أن المتسوقين والباعة كثيراًً ما يتسببون في عرقلة السير، ومضايقة جموع القادمين للعبادة.(/1)
ب. تخفيف حدة الضوضاء والضجيج، وما يسببانه من حدة الخلق ونرفزة الأعصاب لدى المرضى وكبار السن على وجه الخصوص.
ج. تخفيف العبء على المؤسسات العامة المنوطة بالأمن والمرور وغيرهما.
د. التقليل من فشو الأجواء غير الصحية التي يسببها الزحام وعوادم السيارات.
ولا يظن أحد أن قضية إغلاق الأسواق في وقت مبكِّر أمر مستحيل، أو بدع من الفعل، بل هو تقليد عالمي في كبريات المدن والولايات الدولية، لمصلحة تخفيف حدّة التوتر العصبي، والتلوث البيئي وغيرهما.
ونحن أحق بالهدوء والسكينة، وأجدر بالترتيب والنظام المثمرين والله المستعان!.
د. رياض المسيميري(/2)
ملامح الجيل المرتقب
إنَّ أُمَّةً أُخْضِعَتْ للعسف والهوان أمداً طويلاً حتى رضخت واستكانت لفي حاجة إلى قلب كبير يسع العالم كُلَّه، وإلى قلمٍ جبَّار يشعل في سماء الأمة بُروقَ العزة والتمرد على أي نوع من أنواع الاستكانة الروحية والإذلال النفسي. ففي الوقت الذي يُشعِل مثل هذه البروق ويحدث مثل هذه الرعود في وجدان الأمة، يعود ليفجر ماء السماء فوق ألْسِنَةِ اللهب الذي يكاد يحرق أخضر العالم ويابسه.
لقد أرسى العَالَمُ بنفسه أساس دماره عندما تنكر لله، ونأى بجانبه عنه، وها هو الآن يقاسي من أجل ذلك أهوالاً عظيمة من الآلام، ولا ينفك يزرع في الأرض مظالم فظيعة تغرق البشرية بالمزيد من الدماء والدموع والآلام. ففي رأس هذا العالم وفي قلبه روح الموت والخراب، وجحيم فوَّار بكل أنواع العذاب.
العقل الأرقى، والقلب الأذكى، والنفس الأصفى، هذا ما نلمسه كلما قرأنا شيئاً من نتاج قلم الشيخ فتح الله كولن.
ووحدة كيان، وجوهرية إنسان، وخفقات أكوان، تطفر من كلمات هذا الكتاب، وتنساب بين السطور كالماء الرائق العذب الذي هو منبت كلّ ظامئ في كل وقت. إنه هنا روح خِصْبٌ فيَّاض يرتاد باشتياق مجاهيل النفس والكون والتاريخ.
إنه يكتب ليوقد من جديد شعلة الأمة الخابية، ويثير الرغبة في الحياة الحرة الكريمة، وهو يحذر من هذا المزيد من الانحطاطات التاريخية التي تتردَّى فيها الأمة يوماً بعد يوم، ويشير إلى هذه الفوضى في الفكر والعقيدة والحياة، ويدعونا إلى شيء من النظام والتماسك الفكري والروحي، ويتساءل متألماً: لماذا نعاني نزع الاحتضار بينما إكسير الحياة لا زال يتدفق بقوة من الإيمان والقرآن..؟ وهذه الأيام لماذا لا تسقينا إلاَّ الصَّابَ والعلقم، ولا تهدينا إلاَّ الفاجع والمأساوي من القهر والعذاب...؟ ولماذا فقدنا حِدَّة البصر والبصيرة ولم نعد نبصر ما عندنا من كنوز المعرفة حتى عدنا نتسكع على أرصفة الثقافات التافهة، ونستجدي فُتَاتَ الأفكار، وعَفَنَ السلوكيات...؟ مَنْ يمسح عنَّا هذا الهمَّ النَّاصب المرتسم على وجوهنا...؟ ولماذا نلوذ بأهداب الصمت في هذا الضجيج من الأصوات المعادية دون أنْ نقوى على أنْ ننبس ببنت شفة...؟ أين ضمائرنا، لماذا لم تعد تُبكِّتُنا أقلَّ تبكيت..؟
إنَّ الجدب العقلي والروحي هو أصعب على الأمة احتمالاً من أقسى وأفظع أيِّ عذاب جسماني رهيب.
والسؤال الملح الذي يفرض نفسه هنا، هو:
كيف يمكن للمسلم المعاصر أن يعود ليقف على قدمين راسختين في مواجهة هذا العالم المخيف الذي يكاد يأكله أكلاً ويحرقه حياً...؟ وما هي مواصفاته...؟ وكيف نستطيع انتشاله من وهدته أولاً ثم دفعه إلى قمّة البطولة والتحدي ثانياً...؟
يجيب الشيخ فيقول: إنه – أي هذا المسلم المرتقب- "بطل قد حفرتْ الآلام أخاديد على وجهه، عينه دامعة، صدره ملتاع، ضميره يقظ، قد جمع في نفسه روح التكية وأصالتها ومنطق المدرسة ومحاكماتها العقلية، ونظام المعسكر وطاعته، ويقدم لنا بكل هذا كمال نفسه وعلو همته".
والشيخ يرغب في أن يرى المسلم وهو كشعلة من نور لا تخبو أبداً، مَنْ ينظر إليه يحسبه إنساناً قد انشقَّتْ عنه أحشاء الحياة آنفاً، ولا زال ماء الحياة النقي يقطر من جنباته ولم يجف بعد عليه، مُحَصَّنٌ ضِدَّ عَدْوَى العصر، وسيع القلب، رحيم الفؤاد، يجثو على ركبتيه إشفاقاً أمام فواجع البشرية وآلامها، ولا يفتأ يتساءل فيما إذا كان الضمير البشري قد أصيب بداء السكتة، فلم يعد قادراً على أن ينبس ببنت شفة احتجاجاً على سقوط العالم بين يدي القوى الغاشمة التي تنهش قلبه، وتدمي روحه، وهل كُتب على الإنسان أن يعاني الآلام قبل أن يقوى على استرداد روحه التائهة، وهل مكتوبٌ على شبيبتنا المثقفة أن يصيبها العفن لعجزها عن تجديد نفسها، والخروج من شرنقة أفكارها والإنفتاح على عالم الإيمان الجديد الذي أنشأته أقلام حُرَّةٌ من نسيج يجمع بين العقل والقلب، وبين الروح والعلم، وهل شلل هذه الزمر شلل عقلي دائم لا يريم، أو أنه شلل موقت يمكن أن تتعافى منه في أي وقت.
وأين مِنَّا تلك الصرخات اليائسة، والأنين المفزع الذي يملأ أجواء السماء من أمتنا المُسَجَّاةِ على سرير الموت، وأين هم فتيان الحياة الشاربون من إكسير حياة الأبد لينفخوا فيها الحياة من جديد، وليشتروا كلَّ آلامها بحبهم الجارف العميق.
ألم يكفنا ما عانينا من شقاء لكي تتطهر قلوبنا –كما يرى الشيخ– وتؤوب إلى بارئها، مليئة بالتقوى، ومفعمة بالحب والإيمان، مَنْ يَمْحَضُنَا الودَّ غير الودود!. مَنْ يمسح جروحنا غير يده الآسية!. مَنْ يرحمنا في عالم قد جفت فيه ينابيع الرحمة غير الرحمن الرحيم!. مَنْ يأخذ بِأيدينا في تيه الوجود غير خالق الوجود!. مَنْ ينهضنا من عثرتنا غير مقيل العثرات!. ومَنْ يجبر كسرنا غير جابر الكسور!. ومَنْ يعيدنا إلى تاريخ العالم الذي خرجنا منه إلاَّ ربُّ الأزمان ومحرك العوالم!...(/1)
إنَّ إنساناً جديداً مختبئًا بدواخلنا يمكن أَنْ يُبْعَثَ إلى الوجود، ويحتلَّ مكاناً مرموقًا فوق الأرض، بصرخةِ إيمانٍ واحدةٍ يطلقها مجلجةً قلمُ الشيخ، فتنصدع لها القلوب، وتهتز لها الأرواح، وتجيش لها الفِطَرُ، وتنشقُّ لها الصدور.. فيملأها نوراً هادياً، ويضع فيها قلباً ملائكياً طاهراً.. فإذا أصحابها بَشَرِيُّونَ يأكلون ويمشون في الأسواق بقلوب ملائكية تسمو على كل القلوب بنبلها وشرفها. غير أنَّ كُلَّ واحد منهم يديم خطاب فؤاده قائلاً: "أُصْمُتْ أيها الفؤاد واصبر وتواضع، كن تراباً لتغدوَ تِبْراً، وَدُسَّ نفسك تحت ثرى الأرض لتعلوَ فوق الثريا في السماء."
أمَّا أذهانهم فتامَّةُ الصفاء، وأمَّا عقولهم فتضيءُ كُلُّهَا في لحظةٍ واحدةٍ، بنورٍ زَاهٍ واحدٍ، كأنَّ بعضها يرتبط ببعض بسلك نورانيٍّ خفيٍّ واحدٍ، يسري فيه تيار كهربيٌّ واحد، فتشتعل كُلُّهَا مرةً واحدةً بِمَسٍّ خفيف على زرٍّ صغيرٍ واحدٍ.
من عيونهم يشرق نورٌ هادئٌ غير أنه نافذ القوة، لا يلتقون أحداً إلاَّ مَسُّوا أوتار المحبَّة في قلبه فصار يقطر وُدّاً ومحبَّةً، ولا يلتقيهم أحد إلاَّ ويجد نفسه منساقاً بقوة دافعة إلى معانقتهم والشدِّ على أيديهم وكأنهم قادمون من مكان قصي في عالم الغيب ولو الْتقاهم في اليوم ألف مرة. إذا تكلموا صاغوا كلامهم من حنايا قلوبهم، وإذا صمتوا أكبرتَ صمتهم وَهِبْتَهُمْ ولم تجرؤْ على مخاطبتهم قبل أن يعودوا من رحلة الصمت هذه بآهةٍ حرَّى هي تعبير عن آلام أُمَّة وأوجاع دين.
لمثل هؤلاء الشباب الأفذاذ ذوي الصفات العالية الخارقة، يحتفظ الأستاذ فتح الله بدمعته الأخيرة، لأنه ما من أحد يسعه أن يكتم دمعة تجود بها عيناه عندما يرى آمال فكره شاخصة أمامه، وأحلامَ روحه حقائق قائمة بين يديه... هؤلاء هم المصغون لهتاف قلبك، والملبُّون لنداء فكرك أيها الشيخ الجليل، ومن أجل حُبِّكَ العظيم لهم تتألم روحك، ومن أجل إشفاقك عليهم يبكي قلبك، إنهم اليومَ مِلءُ السمع والبصر، تطرب الأرض بوقع أقدامهم، وترنو السماء إليهم رُنُوّ الوامق المشتاق. وتجد الأبدية فيهم لسانها المتكلم بألف لسان ولسان، إنهم وجدوا الشيءَ الذي يحيون من أجله، ووقعوا على ما يطيب النضال في سبيله، ألا وهو السلام، ووحدة العالم، تحت ظلِّ إلهٍ واحد، هو ربُّ السلام، ومنه السلام، وإليه يعود السلام.
أنا مغمض العينين
ألحظ أجيال الغد
وهي تتفتح عن منابت الأملنحن نشعر بأن كل شيء في العالم الخيّر الجميل للغد سيكون بروعة وجمال الوجوه المشرقة لأهل الجنة، وسيكون معبراً كالتعبير العميق لنظراتهم، وسيكون فواحاً بالعطر كعطر جلودهم وأجسادهم، وستلين بل تذوب حتى القلوب المتحجرة بفعل الروائح العطرة التي ستهب من كل جانب.
أجل!.. سيتفتح الوجود في يد إنسان المستقبل المتنور ذهناً وروحاً مثل برعم وردة، وسينتقل الإنسان السعيد لهذا المستقبل المنور في صدد الكشف عن الأكوان كالفاتحين العظام من نصر إلى نصر ويصل في النهاية إلى معرفة السر في أن الأشياء كلها مسخرة لبني الإنسان. ويمر تحت أقواس النصر الواحد منها تلو الآخر لينصب راية الفكر والشعور على برج مرضاة الله تعالى، ويرى قدرته في عجزه، وثروته وغناه في فقره، فيرتفع ويطير بأجنحة الشكر والشوق ويبحث عن عوالم أخرى لفتحها وحتى يحين اللحظة التي يفتح فيها عينه على العالم الآخر يعيش في دنياه الحلوة هذه حلاوة الأحلام محاولاً على الدوام إضافة أبعاد جديدة لها.
إن قُيّض لنا أن نصل إلى تلك الأيام، نحن الذين نشكو عقدة في لساننا وضيقاً في صدورنا، وشللاً في مشاعرنا... نحن الذين نعاني الحرمان لم نجد فرصة لتوسيع عالم مشاعرنا وأفكارنا... إن وصلنا إلى تلك الأيام هاجت بنا الأشواق وبدأت الحِكَمُ تتساقط من أفواهنا، وعندما نرى أن الآمال التي طالما أخفيناها في صدورنا ومشاعرنا الخفية المتأرجحة بين الحسرة والأمل وأفكارنا السجينة الحزينة على قلة حظها قد ظهرت الميدان... عند ذاك سيتم تذوق كل حلاوات وسحر تلك العوالم التي كانت تعيش على الدوام في خيالنا.
أجل!.. إن مشاعرنا النائمة في أعماقنا ستقوى وتتوتر بشوق، وتتذوق حلاوة هذه الحياة مثل فراشة تتنقل في الصباح الباكر بين الورود والزهور باحثة عن أبعاد جديدة من سعادة الحياة التي هو اللذة بذاتها. وفي هذا الجيل الذي تتبرعم في كل جانب منه أنواع من اللذائذ، سيجد أصحاب الأرواح المتفتحة على ذاتها وعلى عوالم مشاعرها وأحاسيسها فرصة البحث عن عوالم أخرى من الجمال اللدني، وعوالم أخرى من الخيال المذهل الذي تبرق فيه الأبصار، فيشاهدون في سهول وبراري قلوبهم المتنورة بالإيمان عناقيداً من النجوم المتراصة الواحدة تلو الأخرى، وسفوحاً كسفوح تلال الجنة موزعة هنا وهناك. وبفضل هذه الأفكار الجميلة الملونة التي تأتي متعاقبة يمزقون الرتابة التي تسعى لإطفاء جمال عالمهم إرباً إرباً فيعيشون في شوق وطرب.(/2)
الروح الواصل إلى هذه المرتبة يستغرق في تأمل وجه الحقيقة التي تظهر له من خلال المنافذ المتفتحة على قلبه ضارباً عرض الحائط بالصورة الضيقة لعالم الوجود، ويتخلص من الأسر خلقته باحثاً عن مأوى جديد له خارج أبعاد الزمان والمكان، وفي كل قفزة يحاط بأنوار أكثر، وفي كل عملية من عمليات التنوير هذه يشعر أكثر بالمنبع الأساسي لوجوده وينسى تماماً ما كان يُطلق عليه من قبل "أنا" فيغدو في حال يحس فيها في كل صوت يطرق سمعه، وفي كل لون يسيل إلى عينيه العشقَ الذي زرع كبذرة في روحه منذ الأزل وكأن شيئاً كالحمّى أحاط بكل كيانه، عند ذلك يحترق بلوعة الوصال وناره. عند ذاك لا يعود لبكاء الألوان ولا لانزياح الأنوار والأطياف، ولا لعبوس الموت وحزنه أي أهمية أو معنى لديه. عند ذاك يرن كل صوت في أذنيه كنغمة أمل باسم، وكل دبيب في أعماقه ولبه ينبض نبض الخلود، وتُعرض جميع الأسرار أمامه، ويجد نفسه بين أذرع العشق الذي يحرق كل شيء أجنبي في عقله وذهنه ويجعله رماداً فيصل إلى إدراك غاية وجوده.
أجل!.. إنني آمل أن تتذوق الأجيال القادمة اللذائذ العديدة لمثل هذه الحياة كل يوم وكل ليلة وكل ساعة، بل كل ثانية، وأن تضم في صدرها الأمواج المتلاطمة والمتتابعة للبحار الكبيرة للعشق والوصال، حيث ينقلب كل موجة صغيرة إلى بحر، ويصل هؤلاء السعداء –الذين يرتشفون في كل لحظة قطرات العشق والوصال- في يوم من الأيام إلى أعظم عشق وأعظم وصال، ويتخلصون من خداع الظلال ومن ضجيج "الكثرة" خلاصاً تاماً.
روح الفتوة
عندما نذكر الفتوة يخطر على البال حالاً أبطال من الشباب ممتلئين حيوية من مفرق رأسهم إلى أخمص قدمهم أمثال علي بن أبي طالب t، وحمزة بن عبد المطلب t، وألب أرسلان[1]، ومحمد الفاتح، وأولو باطلي حسن[2]... ومهما كان مفهوم الفتوة في مسار تاريخها، فإن المعنى الخاص لها هو الإيمان بالله تعالى وحده لا شريك له، وأخذ جميع أنواع التضحيات بنظر الإعتبار في سبيل المعاني الدينية والأفكار الدينية والحياة الدينية، والنضال ضد جميع المعتقدات والمفاهيم والتصرفات الباطلة، والإرتباط في كل زمان ومكان بالحق تعالى والإفصاح والإعلان عنه بكل قوة.
أصحاب روح الفتوة هذه يسمون بإرادتهم ويكبحون جماح أهوائهم، ويحاسبون أنفسهم مرات كل يوم ويعيدون النظر في تصرفاتهم ويتفحصونها ويسيطرون عليها، ويحيون في عالم القلب ليصلوا إلى الحياة الحقيقية، وتثور مشاعرهم بأسمى الأحاسيس الروحية في عوالم وراء هذا العالم، لذا فهم يمثلون أنقى دم يجري في شعيرات وشرايين المجتمع الذي يعيشون فيه وأطهره. والمجتمعات التي تملك أمثال هؤلاء الذين يمثلون عصارة الحياة وقوامها مجتمعات سعيدة. أما المجتمعات التي تفقد هؤلاء فتسير في طريق الموت والإضمحلال مثل شخص قطعت شرايينه وبدأ الدم ينزف منها قطرة قطرة.
إن روح الفتوة من أهم ضمانات وجود وبقاء المجتمع وأقواها. فالأبطال الذين يمثلون هذا الروح هم كالرايات المرفرفة فوق حصونه، وكالعيون الساهرة في ثغوره، وكالآذان الحساسة بكل أصوات العداء والخصومة وأنفاسها. يرون ويسمعون ويتهيأون ويأخذون أهبتهم لكل طارئ، ولا يترددون في اقتحام الأهوال وساحات الموت الزؤام.
تتدافع في أذهانهم أمواج الألم، وتهب على أرواحهم أنسام الحزن، وتنقسم وتتجزأ حياتهم –التي تتجاوز الزمن وحركة عقارب الساعة– حسب هذه الأنسام، وأخيراً تنعكس أنغام هذه الأقسام المملوءة أسىً أو فرحاً من أوتار قلوبهم بهذه الأنسام على مَن حولهم.
أجل!.. يقوم هؤلاء بالإعلان عن أي شفق يبدو على آفاقهم بصوت جهور وكأنه ترانيم أدعية، ويبثونه حواليهم حتى يرن العالم بأصواتهم. أما إن شاهدوا ثغرة أو خللاً في جبهتهم، أو أعلام آمالهم ترفرف حزنا وأسىً شعروا بغصة في حلوقهم وتأوهوا.
لا تستطيع قوة الدول الكبرى، ولا التفوق التكنولوجي للخصوم أن يلقي الرعب في قلوبهم ولا أن يسوقهم إلى اليأس والتسليم. الشيء الوحيد الذي يقلقهم ويجعلهم يتلوون من الألم هو اهتزاز جبهتهم أو بروز المشاكل في ثغورهم، أو التصرفات السلبية وغير الحكيمة في صفوفهم. فإن كانت الصفوف قوية ومتينة والثغور حصينة والقلوب تنبض معاً فهم مُوقنون بأنهم يستطيعون تجاوز كل الصعاب، وتخطي كل العقبات.
هؤلاء الأبطال مستعدون في سبيل عقيدتهم المقدسة لاقتحام خطوط النار، والكفاح ضد أكبر البلايا والنضال ضد أشرس الأعداء، لكي يكملوا ما بدأوا من الأعمال ويحققوا الوعود التي قطعوها لأمتهم. وهم في أثناء قطعهم لطريقهم الصعب المملوء بالمهالك لا يلتفتون بتوجه الناس ولا بالمخاطر التي تنتظرهم في كل منعطف من منعطفات طريقهم. لا يعيرون بالاً بالتصفيق ولا يلقون سمعا للنقد، بل يواصلون طريقهم لا يلوون على شيء حتى يصلوا إلى أهدافهم السامية.(/3)
تراهم صلبين ضد أهوائهم تمام الصلابة، وليِّنين ومتسامحين مع أخطاء أصدقائهم وهفواتهم.. لا ينتقدون أحداًَ.. ولا يعبأون بأي نقد.. يعملون بصمت ودون أي مظاهر كاذبة.. يراعون عدم إثارة الغيرة لا عند الأصدقاء ولا عند الأعداء مراعاة شديدة.
يمتزجون في المجتمع الذي يعيشون فيه لكي ينيروا طريقه ويرفعوه إلى المستوى الإنساني اللائق... يشاطرونه آلامه وأفراحه، ويبحثون على الدوام عن السبل الكفيلة بإفراغ إلهام أرواحهم في صدره، حتى تذهب أنفسهم حسرات لدى البحث عنها.
والخلاصة أن أبطالنا هؤلاء في الأمس واليوم وغداً يدركون تماماً ماهية نضالهم ويصبرون عليه، يبحثون بكل عزم عن منابع ماء الحياة. وعقيدتهم من القوة والثبات بحيث لا يغيرون منهجهم ولا ينحرفون عن طريقهم تحت أي نوع من أنواع إغراءات الدنيا وزينتها وزخرفها.
________________________________________
[1] ألب أرسلان: من الحكام المرموقين للدولة السلجوقية، ومن أشهر أبطال التاريخ التركي وهو ابن "جاغري بك" وإلى خراسان، وكان له دورهم في تأسيس الدولة السلجوقية ولد في (20/1/1029) تلقى تعليماً جيداً ونال انتصارات عديدة. اصبح والياً على خراسان بعد وفاة والده. عندما توفي عمه "طغرل بك في 4 أيلول 1063 اوصى تولي سليمان بك (الأخ الأكبر لألب أصلان) عرش الدولة السلجوقية ولكن زعماء الدولة اعترضوا على هذا القرار ونصبوا ألب أصلان حاكماً للدولة السلجوقية الذي كان اول عمل جيد له هو تعيين نظام الملك – الذي سُجل في التاريخ كافضل وزير – وزيراً له. ثم قام بتوحيد الدولة السلجوقية والقضاء على الامارات الصغيرة فيها. حارب الامبراطورية البيزنطية. وفتح في جورجيا واذربيجان. دعاه قواد مصر فتح مصر وانقاذه من ظلم الحكام الفاطميين فتوجه إلى سوريا أولاً ودخل إلى حلب، ولكن عندما بلغه نبأ قيام الامبراطور البيزنطي بالتوجه بجيشه لقتال السلجوقيين رجع وتهيأ لخوض الحرب معه. وفي هذه الحرب (في عام 1071م) كسب معركة تاريخية كبيرة هي معركة "ملازكرت" وشتت الجيش البيزنطي واسر الامبراطور ولم يقتله بل عفا عنه ووقع معه اتفاقية هدنة. اشتهر إلى جانب انتصاراته العسكرية باهتمامه بالعلم والثقافة والتعليم فبنى مدارس عديدة واكرم العلماء وحارب الباطنية وخدم الاسلام خدمات كبيرة. (المترجم)
[2] ألوب باطلي حسن ( -1453): جندي من جنود محمد الفاتح، اشترك في فتح اسطنبول (يوم الجمعة/6نيسان/1453م) وكان أول جندي تسلق أسوار اسطنبول وساعد ثلةً من الجنود الآخرين يقارب عددهم 30 جندياً على تسلق الأسوار. ثبت العلم العثماني على السور قبل أن يستشهد بنبال الأعداء. فأصبح رمزاً للبطولة في التاريخ العثماني. (المترجم)
أرواح نذرت أنفسها للحق تعالى
إن أهم جانب يستدعي النظر ويجلب التقدير والإعجاب عند الذين أحبوا الله تعالى ونذروا حياتهم في سبيل رضاه وارتبطوا بغاية مثلى هي نيل محبته... إن أهم جانب لدى هؤلاء وأهم مصدر من مصادر قوتهم هو أنهم لا يبتغون ولا ينتظرون أي أجر مادي أو معنوي. ولن تجد في خططهم وحساباتهم أنهم يعيرون أي أهمية للأمور التي يسعى طلاب الدنيا للحصول عليها كالأموال والأرباح والثروة والرفاهية... هذه الأمور لا تشكل عندهم أي قيمة، ولا يقبلون أن تشكل عندهم أي مقياس.
إن القيمة الفكرية لهؤلاء الناذرين أرواحهم تعلو على القيم الدنيوية إلى درجة يصعب معها تحويل محور هدفهم المرتبط برضا الله دون أي غرض آخر ودون أي تنازل. أما ربطهم بهدف بديل فمستحيل. والحقيقة أن قلب كل منهم قد تعرض لتحول جذري من كل ما هو زائل وفانٍ إلى الباقي أبداً، لذا فلا يمكن أبداً أن يتغير إلى شيء آخر، ولا أن يصعد إلى مستوى أعلى، لأنه يعلم يقيناً أنه لا يوجد مستوى أعلى من دعواه ومن فكرته... فهو قد نذر نفسه لإرشاد الناس إلى الحق تعالى وتحبيبه إليهم، لتحقيق الحصول على محبته تعالى، وربط حياته لإحياء نفوس الآخرين، ونأى بنفسه عن أي هدف عرضي وزائل، أي قلّص هدفه رافعاً من قيمته، ومخلصاً له من التشتت وموحداً قبلته... نظراً لكل هذا فلن تجد عند أمثال هؤلاء شعارات تفرق ولا تجمع، وتشتت ولا توحد وتقود إلى النزاع من أمثال "هم" و "نحن" أو "أنصارنا" و "أنصارهم". ولا توجد عندهم أي مشكلة ظاهرية أو خفية مع أحد، ليس هذا فحسب، بل تراهم في سعي دائم ليكونوا ذوي فائدة لكل من حولهم، ويبدون عناية فائقة لعدم الإحتكاك أو إثارة أي مشاكل أو حساسيات في المجتمع الذي يعيشون فيه. وعندما يرون أي سلبيات في مجتمعهم فلا يتصرفون كمحاربين غلاظ، بل كمرشدين رحماء يقومون بدعوة الأفراد إلى الأخلاق الفاضلة، ويسعون في هذه السبيل سعيا حثيثا، ويبذلون ما بوسعهم للابتعاد عن فكرة الحصول على نفوذ سياسي أو الوصول إلى الحكم.(/4)
إن أهم ما يميز العمق الداخلي لهؤلاء الناذرين أرواحهم لله هو المعرفة وتقييمها، وأسس أخلاقية قويمة وسيادتها على كل مظاهر الحياة وميادينها، وفضيلة قائمة على الإيمان وعدم الاستغناء عنها. وهم يبدون اهتماماً خاصّاً للابتعاد عن كل شيء لا يفيد غدهم ولا سيما حياتهم الأخروية من دعايات فارغة لجلب شهرة أو صيت أو نفع مادي. ويبذلون كل ما بوسعهم إلى درجة الإرهاق لتوجيه الذين يسيرون وراءهم أو يحترمونهم إلى المعاني الإنسانية السامية بجعل معارفهم وأفكارهم ذات مغزى بالإمتثال بها كلٌّ حسب سعة أفقة. وهم إذ يقومون بهذا لا يبتغون جزاء ولا شكوراً، ويحاولون أن يبتعدوا عن المصالح الشخصية والمنافع ويهربوا منها مثلما يهربون من الأفاعي والعقارب. وهم يتصرفون هكذا كتحصيل حاصل لعمق غناهم النفسي الذين ينأ بهم عن كل نوع من أنواع الدعاية والضجيج وحب المظاهر ويملكون من القوة ما يعصمهم عن هذه السفاسف. كما أن تصرفاتهم وسلوكهم النزيه والجميل الذي يعكس صدى أرواحهم يكون له من قوة الجاذبية والتأثير ما يسخر به كل مَنْ يعقل ما حوله فيجعله يسير وراءهم مسرعاً.
لذا لا يدور بخلد أي واحد من هؤلاء أن يتكلم عن نفسه أو يتوسل إلى الدعاية لرفع شأنه ولا يظهر أي رغبة أو شهوة في نشر صيته. وعوضاً عن هذا نراه يحاول بكل جهده ليبلغ مستوى حياة القلب والروح، رابطاً كل فعالياته هذه بالإخلاص ولا يبتغي غير وجه الله تعالى. وبتعبير أخر يهدف كل واحد منهم إلى رضاء الله وحده ويسعى إلى هذا الهدف السامي بكل حوله وقوته، ولا يلوث أيٌّ منهم عزمه الصارم –القريب من عزم الأنبياء–بالأغراض الدنيوية ولا بمحاولة الحصول على الصيت والشهرة بين الناس أو نيل إعجابهم.
وبما أن الإيمان والإسلام والقرآن يتعرضون اليوم إلى هجوم وانتقادات مباشرة وعلنية، وتثار الشبهات حولهم، كان من الواجب أن تتوجه الجهود جميعها نحو نقاط الهجوم هذه لتحصين الأفكار والمشاعر الإسلامية لدى الأفراد، وإنقاذ الجماهير من حياة سائبة لا هدف لها وربطهم وتوثيق صلتهم بالأفكار والأهداف العالية. ولا يمكن إشباع هذه الحاجة وإنقاذ الأفراد من اللهاث وراء البحث عن أهداف أخرى إلا بتقوية الإيمان في القلوب من جديد بكل ألوانه وزينته وجماله ولهجة خطابه. وتستطيع أن تطلق على هذا أيضاً تعبير توجيه الإنسان من جديد إلى الحياة الروحية والقلبية. ويكتسب هذا الأمر أهمية خاصة ولا سيما في عهد يرى فيه البعض ضرورة تغيير كل شيء، وتغيير بُنية القالب الاجتماعي وتحويلها، ثم صبها في قوالب جديدة. لأن أي محاولات من هذا النوع تحمل في طياتها احتمال النزاع والشقاق والاحتكاك والتفرق، بينما لا نجد سوى التفاهم والوفاق والتعاون في أسلوب التوجيه الإيماني.
لا تعيش الأرواح التي نذرت نفسها لرضا الحق تعالى أي فراغ في حياتها العقلية والمنطقية نتيجة توحيد قبلتها، على العكس من هذا تراهم منفتحين على الدوام على المنطق وعلى العلم ويعدون هذا من ضرورات الإيمان الحقيقي. مع ملاحظة أن الأهواء الدنيوية لهؤلاء والرغبات الجسدية لهم تذوب في حنايا قربهم من الله وتذوب في أعماق مشاعر وجو التوحيد عندهم الذي يشبه المحيطات في سعتها وأعماقها وأغوارها. لذا تنقلب هذه الرغبات عندهم إلى شكل آخر وإلى صورة أخرى... إلى ذوق روحاني نابع من رضا الله. لذا فإنه في الوقت الذي يتنفس فيه هؤلاء –الذين نذروا أنفسهم للحق تعالى– جواً ملائكياً في ذرى حياتهم الروحية والقلبية تراهم يتعاملون مع أهل الدنيا أيضاً ولا يتأخرون عن استعمال جميع حقوقهم الدنيوية المشروعة. لذا يعدون من جانب أهل دنيا لأنهم يتوسلون بالأسباب ويستعينون بها ويراعونها، ومن جانب آخر يعدون من أهل الآخرة لأنهم يستثمرون كل شيء وكل مسألة من زاوية حياتهم الروحية والقلبية. ولا يعني قيام حياتهم الروحية والقلبية بتحديد حياتهم الدنيوية بدرجة ما أنهم يهملون الحياة الدنيوية ويتركونها تماماً أو ينعزلون عنها تماماً، على العكس فهم يقفون كل حين في وسط الدنيا متحكمين فيها. ولكن وقوفهم هذا ليس من أجل الدنيا ولا باسمها، بل باسم الله ورعاية للأسباب ولربط كل شيء بالآخرة.
والحقيقة أن هذا هو السبيل الوحيدة لإبقاء الجسد في إطاره والروح في أفقه، أو ربط الحياة وجعلها تحت إمرة القلب والروح. فإطار حياة البدن المحدودة بالمقياس الضيق للجسد، لذا يجب أن يتوجه أفق الحياة الروحية المتطلعة إلى الخلود نحو اللاتناهي على الدوام. وهكذا فإن قام الإنسان –باعتبار هذا المستوى لأفق حياته– بالتعامل مع الأفكار السامية في كل حال من أحواله، ووجّه حياته لواهبها ورأى أن الإحياء أعمق شيء في حياته، ورنا بنظره نحو الذرى على الدوام تحول –أراد ذلك أم لم يرد– إلى شخص يطبق برمجة سامية. لذا يقوم بلجم أهوائه وبتضييق أذواقه الشخصية ولكن ضمن إطار معين.(/5)
لا شك أن القيام بتوجيه الحياة وتسييرها وفق هذا العمق ليس أمراً هيناً، ولكن هذه الصعوبة سرعان ما تتحول إلى أمر هين عند من نذر نفسه لله، وجعل غاية حياته تعريف خالقه للناس وتحبيبه إليهم، وتراه يدق بإحدى يديه على أبواب قلوب الناس ويدق بيده الأخرى على باب رحمة الحق تعالى، فهو في حركة دائبة بين هذين الأمرين رامياً هداية الجميع وتوجيههم إلى خالقهم الحق تبارك وتعالى.
والحقيقة أن من يشعر بدفء الإيمان بالله تعالى في قلبه.. ويسعى ليعبر عن هذا بلسان قلبه، وجذوة فؤاده أحياناً خشية منه سبحانه وأخرى حبا له.. مثل هذا الإنسان لن يجد أي صعوبة في أي مسألة، ولا في أي أمر. لأنه في مقابل قيامه بقصر تفكيره ونظره في الله تعالى، وفي البحث عن سبل الوصول إليه، وتقييم كل وسيلة حسب قوة تقريبها وتوصيلها إليه... في مقابل هذا يجعله الحق تعالى محط نظره وعنايته الخاصة موقَّراً ومُحترَماً من قبل الجميع، أي أنه في مقابل وفاء أرضي ضئيل، يكون الوفاء السماوي أضعافاً مضاعفة. وهاكم قطرة واحدة –التي تسع بحراً– من هذا الوفاء {وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ} (الأنعام: 52). ولم يكن هؤلاء الذين نبه الله تعالى رسوله الكريم r بعدم طردهم من مجلسه سوى المداومين على حضور مجلسه من الذين نذروا أنفسهم لرضا الله تعالى.
وحسب درجة الإخلاص في هذا النذر، وكونه صادراً من صميم القلب نرى التفاتاً خاصّاً من الحق تعالى نحوهم، وإسباغ فضل خاص عليهم. أجل!.. بمقياس ارتباط المرء بالله تعالى ومحاولة كسب رضاه، وجعل هذا الأمر غاية حياته وهدفها يرى أفضال الله عليه وأنعمه، ويكون موضوع حوار في عوالم ما وراء السماوات. كل فكر لمثل هذا الإنسان في الدنيا وكل كلام أو سلوك وتصرف يضمخه الإخلاص ويعطره يتحول في ذلك العالم الآخر إلى جو من النور وإلى صحائف قدر مبهجة. وهؤلاء المحظوظون الذين ملأوا أشرعتهم بنسيم هذا الحظ الطاهر يسرعون نحوه على الدوام بأنسام فضله تعالى حسب درجة إخلاصهم، ولا يقف أمامهم أي عائق. والصورة التي يرسمها القرآن لهؤلاء تستحق التأمل:
{رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (النور: 37-38).
إن أمثال هؤلاء من ذوي الأرواح التي تخلصت من الأسر ومن القيود، والذين رموا أعباء كل أحزانهم وهمومهم عن أكتافهم بتسليم أنفسهم لله والتوكل عليه، لا يبقى أمامهم شيء يبحثون عنه لأنه بجانب الأفضال والهبات التي حصلوا عليها في عالم القلب والروح لا تعد جميع النعم الدنيوية الغالية والأهواء والمباهج إلا كفضلات الطعام والأقداح الفارغة فوق الموائد. وتجاه لوحات وصور الجمال التي تزين عوالم قلوبهم لا تعد الدنيا وما فيها إلا خرافة من الخرافات أو أسطورة من الأساطير. وما كان من المنتظر من شيء يخضر في الربيع ثم يبهت لونه في الخريف أن يكون له قدر أكبر من هذا (1). لذا فإن الأرواح التي تعي هذه الحقيقة وتعيشها على الدوام وترنو ببصرها إلى الخلود والبقاء، ترسم إشارة الضرب على كل شيء لا يحمل صفة الأبدية وتدير ظهرها له، وتسير في طريقها دون الالتفات نحوه... تسير في درب القلب إلى بساتين وحدائق الخلود، ولا تلتفت إلى الدنيا ولا إلى زخارفها.
___________________
[1] أي أن الدنيا زائلة وهي مثل ربيع قصير العمر سرعان ما يأتي الخريف فتبهت ألوان الأوراق وتصفر وتسقط، لذا فلا قيمة كبيرة لها. (المترجم)
المؤمن لا يسقط وإن اهتز
وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (آل عمران : 139)
إن الصورة الحالية للأوضاع صورة مرعبة ولكن تجاوز هذه الأوضاع وتخطيها بالإيمان والأمل والتوجه إلى الله ليس مستحيلاً. فإن سار الإنسان نحو الشمس أو طار فإن ظله سيكون خلفه، ولكن إن أدار ظهره للشمس فإنه يبقى خلف ظله. لذا يجب أن تكون عيوننا مصوبة على الدوام إلى المنبع اللانهائي للضوء. أجل.. إن كل شيء كما عبر عنه الشاعر محمد عاكف مرتبط بـ: الاستناد إلى الله، والتوسل بالسعي، والاستسلام إلى الحكمة.
مما لا شك فيه أن البلد يعيش أزمات حقيقية متداخلة بعضها في بعض، إلا أنه يمكن تجاوزها بمعرفة أسبابها والنضال ضدها بكل إيمان وعزم وأمل، وإلا فإن الخيال والأوهام ستضخّم صورة هذه المشاكل. كما أن السياسة إن تدخلت فيها واستغلتها فستكبر، وستبدو أكبر بكثير من حجمها الحقيقي، وتصل –نتيجة آثار التخريبات النفسية– إلى وضع يصعب الخروج منه.(/6)
نحن نعيش اليوم مرحلة من المراحل التي يتكرر فيها التاريخ بعبره. فقد أحاطت بنا المآسي والمصائب والبلايا من كل جانب كالزلازل والفيضانات والحرائق والضغط على الحريات وكتم الأنفاس. وعلى الرغم من كل هذا الظلم والجور نرى الساكتين والصامتين المسلوبي الإرادة الخائفين حتى من التأوه أمام المصائب. ومقابل هذا نرى صنفاً من الظالمين الدجلة الذين يظلمون الناس ويغدرون بهم، ثم يتظاهرون بالبكاء والشكوى ليقلبوا الحقائق وليظهروا المظلومين وكأنهم هم الظالمون. ثم هناك بعض الكتل الجماهيرية التي نراها –لأسباب مختلفة– غير متوازنة في تصرفاتها، فهي على الدوام غاضبة ومحتدة. وهناك أوساط مختلفة كأوساط الإدارة الفاسدة والأوساط المتحكمة والأوساط المحرضة، والأوساط اللاهية التي لا يهمها شيء، والذين يعدون الخداع مهارة والسرقة شطارة، والإنتهازيون الذين لهم نصيب عند هؤلاء السراق، والذين يتحصنون وراء حصانتهم القانونية من عديمي الشرف الآكلين المال الحرام، والذين يرفعون شعار "الحق للقوة" ويستخدمونه حتى النهاية من أئمة الظلم، والمرتشين والآثمين والمختلسين وتجار الأسلحة وشبكات تجارة المخدرات والمدمنين عليها، وتنظيمات ملعونة أخرى لم يعط لها اسم بعد... كل هذه الأوساط تدفع الجماهير الغاضبة التي فقدت اتزانها إلى مزيد من أعمال الشدة والعنف.
أجل!.. هناك خريف حزين في كل مكان، والقيم الإنسانية سقطت تحت الأقدام. فلا حرمة للفرد، ولا حرمة للقيم الإنسانية. وإذا وُجد هناك بضعة أفراد يتصرفون ببعض الاحترام فمن أجل الحصول على أجرة وعلى مقابل لهذا الاحترام. والجماهير أصبحت تُعد في كل مكان كتلاً لا قيمة لها، وحالها تفتت الأكباد وتبذل لها الوعود بالحصول على عمل وعلى لقمة عيش في أوقات الانتخابات فقط. ولكن لم يعد أحد يصدق هذه الوعود لعدم تحققها.. فالعلم لا صاحب له... والمعرفة والعرفان وراء جبل قاف... الفن مجرد حارس للإيدولوجيات... بيوت العلم استسلمت للتقليد... عشق الحقيقة وحب العلم والشوق للبحث أمور لا تستحق الاهتمام والالتفات إليها... أما بعض الجهود المبذولة فربما لا تتعدى نطاق الهواية... مؤسساتنا الحيوية التي أودعنا فيها حاضرنا ومستقبلنا ميتة ولا حياة فيها... إن استمعت إلى الدعايات والإدعاءات حسبت أننا نكفي لعوالم عدة. بينما تشير الحقائق صارخة بأننا لا نكفي لمدينة صغيرة. ومن الواضح لكل ذي عينين أن قيمنا الأخلاقية، والشعور بالمسؤولية، والتزامنا بالحق وبالعدل هي دون المستوى العالمي بكثير، فلا تجد عند الكثيرين منا أي حياء أو خجل أو أي احترام للحق ولا أي توقير للفكر... لقد زال منذ زمان بعيد الخشية من الله، وحس الفضيلة... أما الحياء من الناس فنحن الآن نسعى للتخلص من هذا الشعور المزعج(!). لقد تحولنا إلى أكوام بشرية لا قلب لها ولا روح، وانعكس هذا على وجوهنا، فلم يبق عند معظمنا إحساس بالرحمة أوالشفقة، ولا شعور بالاحترام والتوقير. أما عدد الذين يعدون الدين والديانة مؤسسة عتيقة وبالية فلا يستهان بهم... المشاعر الدينية خربة في كل مكان والتدين مُهان... اللامبالاة منتشرة وكذلك السقوط الأخلاقي... الخيانات متداخلة بعضها مع البعض الآخر في كل جانب، والصرخات والتأوهات تسمع من هنا وهناك... في هذه الأرواح التي فقدت مشاعرها الإنسانية ترى جموداً في الأحاسيس والعواطف وشللاً... أو معاذير من أمثال "هل أنا المكلف بإنقاذ العالم؟"... القلوب الحساسة أصبحت أسيرة انفعالاتها وفقدت توازنها... أما عدد الإنتهازيين الذين يقولون "هذا هو يومنا... وهذا هو عهدنا وزماننا" فليس معروفاً... والله تعالى وحده هو الذي يعلم عدد الذين جعلوا الوصول إلى الثروة عن أي طريق هدف حياتهم. في مقابل هذا نرى أن من يفكر ويحس ولو قليلاً يتجرع الآلام من أيدي أصحاب القوة الغاشمة، ونرى أن مصير من يخدم هذه الأمة هو الانسحاق، ومصير من يخلص لهذه الأمة هو الوقوع في المصايد الشيطانية المنصوبة له في كل منعطف... صحيح أن الساكتين الآن والصامتين لا يصيبهم شيء، ولا يقال لهم شيء، ولكن لا أحد يعرف ماذا سيأتي به الغد.(/7)
هناك شرذمة هامشية تثير على الدوام ضجة وجلبة في كل فرصة سانحة لها ضد الإيمان وضد الإسلام. وهي بدرجة عدائها للدين وللإيمان تستهين بالرأي الحر والديمقراطية الحقة وحقوق الإنسان وتعلن الحرب على كل من يخالفها في الرأي وفي الفكر، وتدين كل من لا يشاركها وجهة نظرها، وتلغ في عرضه وشرفه بل ربما توسلت إلى التصفية الجسدية لمن لا تستطيع الصمود أمام فكره وحججه، وهناك من بينهم بعض النماذج والأفراد الذين لا يملكون ذرة من شرف الفكر وعفة الروح. ولا يتردد أمثال هؤلاء القيام اليوم بتكذيب ما قالوه في الأمس، وأن يذمّوا غداً ويخسفوا به إلى سابع أرض من يصفقون له ويهتفون بحياته اليوم. وإذا كانت هناك صفة لصيقة بهؤلاء من ذوي الوجهين فهي أنهم يطفون على السطح دائماً، ويتلذذون بلدغ الآخرين كالثعابين. أما التعصب الكفري الموجود لدى بعض هؤلاء فحدث عنه ولا حرج، فهم لا يؤمنون لا بالله تعالى ولا برسوله (صلى الله عليه وسلم) ... قد عميت بصائرهم فهم لا يرون وصمَّت آذانهم فهم لا يسمعون... لا يملكون روحاً ولا قلباً، ولا عقلاً متدبراً، ولا يحملون وقاراً لا لله ولا لرسوله (صلى الله عليه وسلم). جهالتهم جهالة مركبة، فهم لا يعلمون، ولا يعلمون أنهم لا يعلمون، ويحسبون أنهم يعلمون.
والخلاصة أننا خائضون اليوم حتى الركب في جميع السلبيات التي كنا نتمنى عدم وجودها، والأنكى من هذا هو عدم وجود أي خبر أو علامة مما كنا نأمل فيه كأمة منذ سنوات عديدة. وعندما يكون هذا هو المنظر العام فمن الصعب الحديث عن الأمل وعن العزيمة. ولكننا كأمة يجب أن نتجاوز هذه الصعاب، إذ لا خيار آخر أمامنا. لأن المصائب التي نواجهها حالياً قد تظهر أمامنا في المستقبل وقد تضاعفت، وعندها ينقلب البلد من أقصاه إلى أقصاه إلى ما يشبه مقبرة جماعية، وقد يُلف عزم الأمة وأملها مثل كفن على رأسها، وتنقلب الأنهار إلى "نهروان" والسهول إلى كربلاء والأعداء إلى شمر(1) والشهور إلى شهر محرم(2) . وقد تتتابع المؤامرات الواحدة منها تلو الأخرى، وتحدث حرائق كبيرة فتحرق إلى جانب بيوتنا ومساكننا آمالنا أيضاً وخططنا وتحولها إلى رماد. وقد يتخلى عنا الجميع... أصدقاء كانوا أم أعداء، ونظل وحيدين ومعزولين. بل قد لا يكتفون بهذا إذ قد نطعن من الخلف من قبل أشخاص لا نتوقع منهم هذه الخيانة. أجل!.. نحن نعيش في هذه الظروف التي يَطعن فيها الأعداءُ ويجحد فيها الأصدقاء ويتخلون عنا تماما فعلينا ألا نستسلم أبداً، ولا ننحني، بل نبقى صامدين وواقفين على أرجلنا مستندين في ذلك إلى إيماننا وآمالنا بل مسرعين نطوي المسافات مثل جواد أصيل يعدو حتى النفس الأخير.
فلو وصلت المصائب والفواجع إلى أضعاف ما هي عليه حالياً، ولو أحاط بنا الأنين والنحيب من كل جانب، ولو بلغ الصراخ عنان السماء... حتى لو تحولت المآسي الحالية إلى حمم بركانية متدفقة نحو القلوب... ولو تلوّت الأمة بأجمعها من الألم ومن اليأس، ورَسمت السيوف أقواساً فوق الرؤوس المفكرة، ولو سُحقت الأدمغة بالمطارق، وانفرد الظالمون وبقوا في الميدان وساد ظلمهم كل مكان، ولو غطى اليأس الأسود أفضل القلوب وأطهرها، ولو انهارت البيوت وتقوضت العوائل وانهدمت... لو غرب القمر وانطفأت الشمس، ولو انغمرت القلوب مع الأبصار في ظلام دامس... ولو طغت القوة وتجبرت... لو انسحق الحق تحت أقدام وعجلات القوة الغاشمة... لو كشرت القوى الظالمة عن أنيابها، وانزوى الضعيف في صمت... لو خارت قوى أصحاب القلوب العاجزة عن المقاومة واحداً إثر آخر... لو سقط كل أصحاب القلوب...
لو حدث كل هذا لما كان علينا إلا أن نستمر في موقفنا ونعطيه حقه من الثبات دون أن نغير سلوكنا قيد شعرة... نقف في موضعنا لنكون موضع أمل ومنبع وقوة يلجأ إليها الجميع، ونحاول من جديد إشعال جميع المشاعل الخابية.
إن كان إيماننا بالله تامّاً فلابد أن يكون الأمل والعزم شعارنا، وتقديم الخدمة للأمة مهمتنا. يجب أن يكون توقيرنا للحق تعالى وأن ننذر أنفسنا لإسعاد الآخرين بدرجة أن نفضل أن نُطْعِم قبل أن نَطعَم، وأن نكسو قبل أن نَكسي فيسعد من يرى أسلوب حياتنا الموقوفة للآخرين، وأمانتنا في أداء الأمانة. يجب أن نعيش طاهرين ونزيهين إلى درجة أن أي حرام أو أي أمر غير مشروع لا يستطيع أن يلوث حتى أفق أحلامنا فضلاً عن حياتنا. ومن يدري كم فقدنا وكم خسرنا، وكم هبطنا من علونا جراء بعض هذه التلوثات. فلا يفلح قط من لا يوفي حق موقعه وينحرف عنه. هذا علماً أننا نعد انتخارا حتى حب الحياة أو المنافع الشخصية فضلا عن الأهواء الدنيوية. بل علينا ألا نجعل حتى الجنة غاية عبوديتنا. لأن علينا أن نربط قلوبنا بالهبات والأفضال الإلهية والسعي لنيل رضاه، واضعين سدّاً منيعاً أمام رغباتنا وأهوائنا الشخصية. نعطي -دون انتظار أي مقابل- ولا نأخذ، بل نحسن على الدوام. وعندما ننطلق نحو "المحبوب" ونسلك سبيل السعداء لا تخطر أنفسنا على بالنا.(/8)
لقد اعتاد الذين نذروا أنفسهم لسلوك طريق السعداء –في الماضي والحاضر– ألاّ يطالهم اليأس والقنوط وألاّ يهتزوا ولا تأخذهم الحدة والغضب حتى وإن تعرضوا من كل جانب لمشاعر العداء والكره، وإن قاسوا من جحود الأصدقاء وشماتة الأعداء، وإن أصبحوا هدفاً لهجوم أصحاب الأرواح المملوءة حقداً ونفوراً، ولا يقابلون هذا بشعور مقابل من العداء والكره، بل يدفعون السيئة بالحسنة وبالكلمة الطيبة وبسلوك الإحسان وبالقول اللين فيقومون بذلك بإصلاح جميع السلبيات، ويقابلون الأفكار الهدّامة بحملات البناء، ولو انقلب كل شيء في البلد –لا سمح الله– في يوم من الأيام رأساً على عقب، وانغمرت الجماهير في الظلام، وتقطعت الطرق وتهدمت الجسور فلن يضطرب هؤلاء ولن يهتزوا، لأنهم يرون أن هذا الاضطراب والاهتزاز منهم يعد عدم توقير لعقيدتهم ولإرادتهم. لذا فبدلاً من إظهار دلائل ومناظر الموت والخراب في جو من اليأس والقنوط يقومون بتحفيز مشاعر الحياة عند الآخرين وتنشيطها وإثارتها، ويهتفون لكل من يستطيع السير أَنْ الطريق مفتوح.
إنني أعتقد بأن يد العناية ستمتد حتماً إلى أبطال العزم والعزيمة هؤلاء إن لم يكن اليوم فغداً، وأن العواصف الهوجاء التي تقطع عليهم الطريق ستهدأ وتسكن، وستذوب الثلوج وتزول، وستتحول السهول والوديان القاحلة حولهم منذ قرون إلى جنان نضرة، وسيبتسم لهم الحظ.
اليأس عفريت يقطع عليك الطريق، وفكرة العجز وانعدامِ الحيلة مرض قاتل للروح، والذين برزوا في تاريخنا المجيد برزوا لأنهم ساروا بكل عزم وإيمان. أما الذين تركوا أنفسهم لمشاعر العجز والقنوط فلم يقطعوا أرضاً، ولا ساروا مسافة، بل ضاعوا في الطريق، فمن ماتت عندهم المشاعر والأحاسيس، ومن فقدوا قابلية الحركة لن يقطعوا طريقاً، والنائمون لا يستطيعون الوصول إلى الهدف. أما الذين فقدوا عزمهم وإرادتهم فلن يستطيعوا البقاء قطعاً على أرجلهم مدة طويلة.
والآن إن كنا نفكر في غدنا، ونأمل في الوصول إلى المستقبل ونحن ننبض بالحركة والحياة، فعلينا ألا ننسى أبداً بأن الطرق تُقطع بالسير، وأن الذرى تبلغ بالعزم والإرادة والتخطيط. إن الذرى التي تبدو مستحيلة الوصول، قد تم الوصول إليها مراراً. وَقَبَّلت القمم الشاهقة أقدامَ العزم والإرادة وأنارت في أصحابها عزماً جديداً. والحقيقة إن من عرف طريقه في أي عهد من العهود وعرف الهدف الذي يتوجه إليه، وكان واثقاً من القوة التي يستند إليها استطاع بفضل هذا الشعور وبفضل هذه الديناميكية التي يشعر بها في أعماقه أن يرقى إلى هذه الذرى ويتجاوزها فيصل الشاهقة مرات ومرات، وتصغر الأرض تحت أقدامهم، وتفتح السماوات صدرها لعرفانهم، وتقف لهم المسافاتُ تحيةً وإكباراً وتقف لعزمهم وجهودهم احتراماً، وتتحول العوائق والموانع إلى جسور تنقلهم إلى أهدافهم... أجل!.. إن الظلام يندحر دائماً أمام هؤلاء الشجعان، وتنقلب المصائب إلى شآبيب رحمة وتتحول المشقات إلى طرق نجاة، والضوائق إلى حوافز انطلاق.
لو أبادوا حاضر مثل هذا الشخص نراه ييمم وجهه نحو المستقبل ويستمر في طريقه المتوجه إلى الغد. ولو هدموا مستقبله أيضاً لما تردد في نخس جواده نحو مستقبل أبعد. أي لا يملكون حيلة حيال أمثاله، ولم يستطيعوا هذا حتى الآن. لأن حتى لو عاش هزائم، أو سقط على الأرض، فإنه بفضل عزمه وإيمانه وأمله يستمر في وضع خطط جديدة للفوز وللنجاح ويجد فيها السلوى والعزاء. كما أنه عندما يجابه بموجات من الحقد والعداء، وعندما تدلهم أمامه الخطوب، وتتكاثف الظلمات بعضها فوق بعض لا يسقط في وديان اليأس والقنوط، ولا يضطرب أو تهتز منه شعرة. لأنه لا يمثل الأمس فقط ولا اليوم ولا الغد، بل هو في موقع يسري كلامه إلى الأزمنة جميعا فهو "صاحب الوقت" و "ابن الزمان"(3). يعرف إضافة إلى لغة عصره روح الدين وأسرار القرآن. كل من يراه ويستشعره يتذكر عصر النبوة والراشدين، وهو بمشاعره وأفكاره وبعفته ونزاهته وبوفائه... بصدقه وخلقه المتين يبدو كأنه صرح من الجلمود أو الجرانيت، إن تهدم كل من حوله وانهار، فلا يتفتت ولا يسقط منه مقدار قلامة ظفر واحدة.
نحن نأمل –بفضل هذه الأخلاق العالية والقوية والراسخة– أن تجد الصدور التي تشتكي الغربة والهجران الشفاء والسلوان إن لم يكن اليوم فغداً، وأن يعدل الذين عاشوا منحني الظهر منذ عصور ظهورهم، ويهتفوا مؤكدين وجودهم، وأن تحيا الأرواح التي هزمها الظلام وتقوم بتبديد وطرد الظلمات التي تحيط بهم وتحاصرهم، وأن يصرف الجميع جهوداً استثنائية ويقوموا –تحت إرشاد المعاني المركوزة في جذورهم وأعماق نفوسهم– بتجاوز جميع العقبات فيتحدون مع ذواتهم وماهيتهم ويصلون إلى ذروة الحظ والسعادة.
________________________________________
[1] شمر بن ذي الجوشن: قاتل سيدنا الحسين بن علي (رضى الله عنه) (المترجم)
[2] إشارة إلى مأساة كربلاء التي وقعت في شهر محرم (المترجم)(/9)
[3] لتعبير "صاحب الوقت" و "ابن الزمان" معانٍ خاصة في التصوف. أما هنا فان "ابن الزمان" يعني ابن العهد الذي يعيش فيه، "وصاحب الوقت" يعني حاكم عهده.
حركة نماذجها من ذاتها
أود في هذه المقالة تناول موضوع يقتضي خُلُقُ الوفاء تناوله، وهو في الوقت نفسه موضوع يصعب الحديث عنه لأنه يشبه قصص البطولة القريبة من الأساطير. ولا أدري في الحقيقة هل تستطيع مقالة أن تحيط في إطارها حركة البعث والإحياء التي بدأت فسائلها ونبتاتها الصغيرة تورق في أرجاء المعمورة؟.. لا أظن هذا... فمعلوماتي في هذا الموضوع منحصرة فيما شاهدته في أفلام الفيديو، وشهادتي هنا بمسموعاتي، وقلمي أسير لقريحتي، ولا أدري زمن تحقق معنى كل ما جرى... إذن فتعال وقل لي: كيف يمكن التعبير عنه في ظل مثل هذه الظروف؟! لذا فكل ما يمكنني في هذا الأمر هو القيام بتصوير زهرة أو وردة واحدة تمثل جميع الأزاهير والورود. فكيف يمكن بصورة ميتة لزهرة واحدة تصوير جمال بستان بأكمله... بستان بزهوره ووروده، مع أن لكل زهرة لونها، ولكل وردة جمالها الخاص بها؟.. من الواضح استحالة هذا الأمر. ومع هذا فإنني أعتقد بضرورة إظهار مثل هذه الجرأة لدعوة أرباب القلوب والعلم كي يسجلوا ملحمة العصر هذه ويشرحوها. فإن استطاعت محاولتنا هذه دفع بعض أرباب الهمة إلى البدء في هذه المهمة، فإن محاولتنا تكون قد وصلت إلى هدفها.
إذن فمهما كان الاسلوب ومهما كان مستوى التعبير فيجب شرح هذه الملحمة، لإيداعها في ضمير التاريخ أولاً، ثم لأداء حق ودَيْن الوفاء للأبطال الذين نذروا أنفسهم لها وأنجزوها وحققوها. فإن لم يتم شرح هذا النسيم الرقيق الذي هب في أرجاء الأرض في وقت قصير ولم تتم الإشادة بهذا الهواء الدافئ، وبهذا الفكر النضر، وبموجات الحب وقبول الآخر التي تموجت بها أرجاء الأرض... فإن هذا يكون جحوداً وقلة وفاء، وضعفاً في الشهامة، وعدم احترام وتوقير لمثل هذه الخصال السامية.
إن هذه الحركة ظاهرة يجب أن تُشرح ويتم الوقوف عندها بشكل جدي، فَقَدْ قررت فئة قليلة ملك الحب قلبها أن تنطلق لنيل رضاه تعالى إلى المشرق وإلى المغرب وإلى أرجاء الأرض جميعاً في وقت لم يخطر فيه هذا بخاطر أحد... انطلقت دون أن تهتم بآلام الغربة وبفراق الأحبة، ملؤها العزم والثقة... طوت في أفئدتها بعشق خدمة الإيمان لواعجَ الفراق، وَحُبَّ الوطن، وآلامَ فراق الأهل والأحبة... قليل من الناس شعروا مثلهم وعاشوا الجهاد في سبيل الله مثلهم وقالوا وهم ينتشرون في المغرب وفي المشرق مثلما قال حواريو الرسل "فقد ولجنا طريق الحب فنحن والهون..." (الشاعر نيكاري)... ذهبوا وهم في ميعة الشباب يحملون آمالاً وأشواقاً دنيوية تشتعل في قلب كل شاب والتي لها جاذبية لا تقاوَم فضلا عن هذه الفترة النضرة من مرحلة الشاب، ذهبوا في عصر طفت فيه المادية والأحاسيس الجسمانية على المشاعر الإنسانية، وهم يكبتون تلك المشاعر والآمال المشتعلة في صدورهم باشتياق إلى وصال آخر أقوى منها وأكثر التهاباً وتوهجاً وهم ينتشرون في مشارق الأرض ومغاربها ويسيحون حاملين في أفئدتهم تلك الجذوة المشتعلة من نشوة الرعيل الأول. لم تكن هذه السياحة من ذلك النوع الذي يهيم به الشاب في مرحلة مراهقته خلف حلم ملكة جمال مزيفة ويعيش طوال عمره بسذاجة في أوهام وخيالات آلام الفراق، مبتعداً عن ذاتيته ولا يستطيع الوصول أبداً إلى مبتغاه. أما سياحة هؤلاء الأفذاذ فسياحة واعية ملؤها المشاعر الصادقة والإرادة الحازمة والإخلاص الصادق العميق... ويمكنكم أن تعبروا عن هذا: بأنهم المستعلون على كل حب سواه تعالى، المجاهدون في سبيل دعوتهم، ديناميكيتهم الإيمان دوماً، وأحوالهم الطبيعية العشق . أجل!.. لم يتعثر- صلى الله عليه وسلم -والشوق، ومبتغاهم نذر أنفسهم لله تعالى، وأسوتهم النور الخالد هؤلاء لطبع أنفسهم ولم يستسلموا أمام العراقيل. الحب الوحيد الذي لم يبهت في أفئدتهم كان حب الله ومحاولة كسب رضاه، والوصول إلى الحق تعالى. لذا شدوا رحالهم إلى أبعد زوايا العالم. ساروا في هذا الطريق... فافتخر بهم الطريق، وسعد بهم الربانيون، وشقي بهم الشياطين... ساروا دون خيل ولا عربة... لا سلاح لهم ولا ذخيرة... الإيمان العميق الذي كان يعمر قلوبهم ويتفجر فيها كالحمم كان منبع قوتهم وقدرتهم... وهدفهم المرسوم في آفاقهم سعادة الإنسانية ورضوان الله تعالى... حظوظهم كحظوظ الحواريين والصحابة... وصلوا في عفتهم وطهرهم إلى عفة الملائكة الأطهار، وسجلوا ذكريات ملاحم لا تنسى ولا تمحى.(/10)
وأسالوا في كل مكان وصلوا إليه نورا دفّاقا من الأزل.. أشعلوا المواقد في كل جانب في لهيبها وجمرتها ودخانها الأمن والطمأنينة.. تهاوى سحر الظلم والظلام.. طار نوم خفافيش الإلحاد.. تعالت شكايات واحتجاجات الظلام كله.. تصاعدت موجات الكذب والإفتراء والزور.. وارتفع ضجيج الفكر الفج والتعصب.. توجهت السهام نحو الفكر الحر، ووضعت المصائد المميتة للإيمان. ولكن جميع هذه المحاولات اليائسة كانت سدًى، فقد انتشر النور في كل الأرجاء، ولف النور الآتي من الأزل بأكملها. لقد أصبح العهد عهد الأرواح النيرة والزمان زمانهم.. صحيح كان هناك بعض آثار من الغبار ومن الدخان، وكان الأفق مضبباً، ولكن كان سحر الظلام والفكر الفج قد زال وانقضى.
لقد أصبحت الكلمة الآن لأصحاب الأرواح النيرة. ستكتشف الإنسانية بهم نفسها من جديد، وستأخذ مكانها الصحيح في كيان الوجود. لذا كان هؤلاء هم الجيل المنتظر قدومه. كانوا هم المنتظرين من قبل الإنسانية في كل مكان... أما هم فقد كانوا بخلقهم الرفيع وبتواضعهم الجم وبعبوديتهم لله وتعظيمهم له، وبتوقيرهم للناس واحترامهم لهم، ينتظرون من خلال فرجة باب رحمة الرحمن الرحيم واللحظة التي سينهمر فيها النور الإلهي عليهم. إنهم جيل المستقبل وأَبناءَهُ أيا كان تقييم الناس إياهم، فالمستقبل المنوّر حامل بأسرارهم. كل فرد من هؤلاء السعداء حواري الإحياء والإنقاذ ضمن طاقته.. في أيديهم باقات من ورود الصداقة... وعلى شفاههم أناشيد الإخوة والصداقة... أقوالهم الفاصلة –كالفيصل المهنَّد- تغذَّى من شلاّل القرآن.. أحاديثهم ذات أبعاد أخروية. كلماتهم وأحاديثهم كانت تبيد الظلام وتزيله دون أن تجرح أحداً... ومع أنها كانت تطبع صوت خرير ماء الكوثر في الآذان، دون أن تترك أثر حسرةٍ عند أحد.
والحقيقة إن هؤلاء لا يحتاجون لا إلى يد ولا إلى لسان، لأن وجوههم المتلألئة كالمشاعل تُذكر بالله أينما حلوا وأينما وجدوا وأينما أقاموا، وأن السحر المترشح من سيماهم الطاهرة والمعاني الناضحة من أحوالهم كان من القوة بحيث تخرس كل بيان أمامه، وتدفع الألسن إلى مراقبة صامتة. لم يكن ضياؤهم، بل حتى ظلالهم تحرق الفراشات الحوامة حولهم، أو نورهم يبهر عيون من يقترب من منازلهم ويعشيها. وكما في المثل "لسان الحال أبين من لسان القال". كان هؤلاء هم الممثلين لصحة هذا القول. لقد وجد في هذه الدنيا في كل عهد أناس خيّرون وأبرار، إلا أن أداء هؤلاء وأسلوبهم كان شيئاً مختلفاً تماماً. ولا أستطيع أن أقول أن ليس لهم مثيل أو نظير. ولكن إن قيل لي: "إذن فهات" لم أستطع الرد حالاً، بل ربما قلت: "إن هؤلاء يشبهون الملائكة الأطهار".
لا يهم بمن نشبه أصحاب هذه الأرواح النيرة، فقد قامت الأنوار التي نشروها بتحويل الصحارى القاحلة إلى جَنَّاتِ عدن، وتحول كثير من أصحاب الأرواح المظلمة كالفحم إلى أرواح شفافة ومضيئة كالألماس، والجبلات والأمزجة والطبائع الخشنة والغليظة والهابطة ارتفعت وسمت. لذا فقد كان من الطبيعي أن يتحدث الجميع عنهم الآن، وينتظروا ويترقبوا تحقق الإخوة والمسامحة التي وعدوا بها وسعوا من أجلها. ولا يوجد من يعاديهم ويثيروا الأقاويل والشبهات حولهم سوى الذين لا يميزون بين الظلام والنور من الذين قضوا كل حياتهم في سجن الجسد ومطالبه... الخفافيش منزعجة منهم... الذئاب والوحوش تكشر لهم عن أنيابها... الذين فقدوا رشدهم وصوابهم في ضيق وانزعاج منهم. وأنا أرى –من جهة- هذا أمراً طبيعياً، وأقول: {كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} (الإسراء: 84).
ومهما كان من أمر قيام بعضهم بإطفاء الشموع هنا أو هناك، فهم ينيرون القلوب الظامئة إلى النور أينما حلوا أو ارتحلوا، وينبهون الفِطر السليمة والطاهرة إلى ما وراء أستار الأشياء والحوادث، ويسقون السجايا السليمة القيم الإنسانية.
إنني على يقين بأنه بعد أن تم تجاوز العراقيل الموجودة بين القارات بفضل القرآن وتحقق حوار مستند إلى الحب وإلى التوقير تأسست وستتأسس أرضية لتفاهم جديد بفضل هؤلاء الربانيين. لقد عرفت الإنسانية في الماضي أمتنا بأنها أمة مستبشِرة قد ضحك لها حظها، فما المانع أن تكون اليوم أيضاً هكذا مرة أخرى؟.. بينما نرى أن شلالاً من الحب بدأ يهدر فعلاً بين الناس في كل مكان وصل إليه هؤلاء المهاجرون في سبيل غايتهم. ففي كل مكان، وفي كل موضع يهب نسيم من الطمأنينة والسكينة يشعر به الجميع. والأكثر من هذا فقد تكونت في كل ناحية وجانب ما نطلق عليه وصف جزر السلام والمحبة على أسس مستقرة ومتينة.(/11)
من يدري فقد يتحقق في المستقبل القريب بفضل هؤلاء المخلصين الناذرين أنفسهم لفكر البعث والإحياء تأسيس الصلح بين العقل والقلب مرة أخرى. فيكون كل من الوجدان والمنطق أحدهما بُعداً مختلفاً للآخر، وتوضع نهاية للنزاع بين ما هو مادي وما هو ميتافيزيقي، حيث ينسحب كل منهما لساحته ويجري كل شيء في طبيعته وماهيته، ويجد إمكانية التعبير عن نفسه وعن صور جماله بلسانه. ويتم اكتشاف التداخل الموجود بين الأوامر التشريعية والأسس التكوينية من جديد، ويشعر الناس بالندم على ما جرى بينهم من خصام وعداء لا موجب له، وسيسود جو من السكينة والهدوء –الذي لم يتحقق تماماً حتى الآن– في الشارع وفي السوق وفي المدرسة وفي البيت، وتهب نسائمه على الجميع. لن يُنْتَهَكَ عرض، ولن يُداسَ على شرف، بل سيسود الاحترام القلوبَ، فلا يطمع إنسان في مال إنسان آخر، ولا ينظر نظرة خيانة إلى شرف آخر... سيكون الأقوياء عادلين... وسيجد الضعفاء والعاجزون فرصة في حياة كريمة... لن يُعْتَقَلَ أحد لمجرد الظن... لن يتعرض مسكن أحد ولا محل عمله لهجوم... لن تُرَاقَ دَمُ أي برئ... لن يبكي أي مظلوم... سيبجل الجميعُ اللهَ تعالى وَسَيَحُبُّ الناسَ... حينذاك فقط ستكون هذه الدنيا التي هي معبر للجنة فردوساً لا يُمَلُّ العيشُ فيه.
عشاق متيّمون
لا يستطيع تحقيق الأفكار السامية والغايات العُلى والمشاريع العالمية إلاَّ من يستطيع التحليق عالياً، ويملك نفَساً طويلاً... الذي لا يبطئ من سرعة مسيره.. الذي يقف بثبات ورباطة جأش.. المملوء بتطلعات الآخرة وأذواقها ممن وهبوا قلوبهم لمبادئهم وأصبحوا عشاقاً ولهانين لها. لا نحتاج اليوم إلى هذا أو ذاك. بل نحتاج إلى هذا النمط من الأفراد الذين نذروا أرواحهم للحقيقة ويسعون لتطبيق أفكارهم التي يعتقيدون بها في الواقع وإلى الأخذ بيد أمتهم أولاً، ثم بيد الإنسانية ليخرجوها من الظلمات إلى النور ويؤمِّنون رسم طريق لها نحو الحق تعالى. كل فرد من هؤلاء يفكر بما يجب عليه أن يفكر ويعرف ما يجب معرفته.. فينفذ ما يعرفه إلى واقع.. يتجول وكأن على فمه صور إسرافيل تمهيداً لبعث جديد بعد الموت.. ينفخ الحياة في كل مكان ولكل شيء.. بقوة البيان إن كان يملك قابلية البيان وفنه.. وبقلمه إن كان من أصحاب القلم.. وبفنه ورسمه وخطوطه إن كان من أرباب الإبداع.. وبسحر الشعر إن كان شاعرا.. وبعذوبة نغمات ألحانه إن كان موسيقيا.. يهتف على الدوام بإلهامات روحه.. ويُظهر في كل فرصة أحاسيس أعماقه.. لسانه مرتبط بأعماق فؤاده.. وفؤاده مرتبط بكل إخلاص بذوي الأرواح النابضة بالحقيقة.
إن قمنا بتقييم هؤلاء الأبطال بالنماذج الموجودة على مسرح الحياة نرى أنهم يسيحون في أرجاء الأرض وكأنهم ذاهبون إلى الحج، ويُتوِّجون سياحتهم هذه بروح الهجرة، ويهمسون أشياء لكل من يقابلونه بلسان الحال والوجدان.. لا يتحدثون إلا بالحب.. ينبّهون كل من يصادفونه بالحب.. ويقيمون مقعداً للحب في كل قلب... بهم تحيا الأرواح الظامئة للحب، وتستمع إليهم جميع القلوب التي بُعثت من جديد. ترى سمة الإخلاص وبصْمته عند الذين هاجروا بهذه المشاعر ورحلوا، وكذلك عند الذين قبلوهم واحتضنوهم.. لن تجد مصلحة أو منفعة شخصية بين من يتحدث ومن يصيخ إليه بسمعه.. بين من يعرض ما في ذاته من معنى وروح ومن يتطلع إليه.. بين من يمسك بقدح شراب الحياة ومن أفاق ورجع إلى نفسه.. بين من يقدم التأييد والنصرة ومن يؤيَّد ويبصَر، كما ليس مدار بحث عما هو خارج رضا الله تعالى. فهذه العلاقات العميقة والنابعة من القلوب تستند كليا إلى قيم إنسانية عالمية، وتنبع من التوقير والاحترام المشترك لهذه القيم.
لقد بدأنا -بعهدنا القريب- نظهر كأننا قد نسينا تماماً أننا أمة لها جذور روحية سليمة قوية، وأننا أنشأنا على مدار التاريخ حضارات متعددة ورفيعة المستوى، وبدأنا نتصرف كأمة لا تملك ماضياً. والأنكى من هذا أننا نتيجة عقدة من الشعور بالنقص بدأنا ننكر أنفسنا وننكر ماضينا. بل أصبح بعضنا يخجل حتى من هويتنا كأمة لها شخصيتها. وهكذا أصبحنا يوماً بعد يوم مبتعدين عن أنفسنا مدمنين بالقيم الأجنبية. وكم هو حزين أن أُمتنا التي كانت في ماضيها المجيد أمة تفكر وتتحدث معبرة عن نفسها، فشيدت معابد في كل مكان تعكس عقيدتها ومعايير الحسن والجمال، وغدت ذكرى طيبة للتاريخ. فما أفجع أن تهبط هذه الأمة من علياء المجد والشهامة والشهرة إلى حضيض النسيان فلا صيت لها ولا شهرة ولا توقير.(/12)
فلا تستحق هذه الأمة المصير الحزين وما كان له أن يستمر إلى الأبد، فقد استطاعت مرات ومرات أن تحول حفر الموت ووهداته بإذن الله إلى مسالك واسعة للحياة، وحولت الأوضاع التي كانت تبدو كعلامات انقراض وهلاك إلى وسائل تجديد وتطوير، مبدية كفاءة عالية ومطورة في كل مرة أساليب جديدة للسير نحو مستقبل زاهر رغم أنف بعض أصحاب المصالح الشخصية الذين لا يعرفون سوى منافعهم الذاتية، ورغم أنف المتعصبين من الملاحدة الذين ينكرون القيم الدينية وقيم الأمة، وهي على الدوام تجمع شتات نفسها في كل مرة تتعرض فيها للهزات وتقف على رجليها من جديد، منطلقة إلى العالم أجمع حاملة معها مشاعرها وأفكارها ورسالتها. أصحاب الحمية هؤلاء بعيدون كل البعد عن أي رغبة في الشهرة والصيت، لا يهتمون بالمظاهر الكاذبة، اتخذوا التواضع خلة، والإخلاص خصلة، والوفاء شيمة.. أقوياء أمام إغراءات النفس وشهواتها.. انقلبوا -بحس التاريخ الذي ورثوه عن أجدادهم– إلى حواريين مبشرين بقيمنا الملّية والدينية للدنيا كلها.. اختاروا ركوب الصعاب على الدعة والراحة قائلين "فقد ولجنا طريق الحب فنحن والهون"، فحققوا أجل حادثة لهذا العصر.
الورود في أرجاء العالم اليوم استمدت نضرتها وحمرتها ورونقها من جهود هؤلاء ذوي الوجوه النيرة ومن المعاني التي تحملها أرواحهم، والجغرافية الاجتماعية بدأت تُنسج على جمال أفكارهم مثل قماش مطرز، وبدأت الإنسانية تترنم بأنغامهم القديمة التي لا تشيخ ولا تبلى. ومع أن مشاعرهم وأفكارهم النقية تبدو في بدايتها كقطرات صغيرة، فإن الذين يدركون روح الموضوع ومعناه يعلمون بأنها تحمل ماهية بحار واسعة تتماوج بأمواج مختلفة من الهبات الإلهية.
وبسبب طبيعة هذا الأمر فإن أبطال النور هؤلاء وفرسانه اضطروا في بداية الأمر إلى تنوير محيطهم القريب منهم، أما الآن فقد ظهروا بمظهرهم الحقيقي من العمق وقوة الروح وانقلبوا إلى سحابة غيث، وإلى أنشودة فرح، وإلى بسمة أمل انهمرت على كل طرف وجانب لتشفي غليل الأرواح الظامئة للمحبة والقلوب المشتاقة للود والمسامحة وتحيلها إلى جنان ضاحكة مزهرة. يصح القول بأن الأرض اليوم تتهيأ من أقصاها لأقصاها لربيع جديد ولولادة جديدة نتيجة للبذور التي بذرها هؤلاء في كل مكان، وأن الإنسانية بكاملها -بشعور من حدس مسبق- مقبلة على فرحة تلقي نسائم بشارات هذه الولادة وهذا التحول الجديد. ومهما اختلفت الأصوات والأنغام فإن المعنى الذي ينعكس في القلوب ويستقر في الصدور هو المعنى نفسه... أما النسائم التي تهب في أوقات السحر فصوت رقراق من جدول ماء الحياة الموهوب إلى أيوب عليه السلام، وعطر إبراهيمي من عطر يوسف ليعقوب عليهم السلام.
وكما أن هذا عودة منا إلى موقعنا الحقيقي مرة أخرى، فهو أيضا رسالة إحياء بديلة للإنسانية جمعاء. والحقيقة أن الأمم المختلفة التي تعيش أزمات حادة وتتلوى من آلامها في حاجة إلى مثل هذا النسيم. فطوبى للروّاد السعداء الذين حركوا هذه النسائم! وطوبى لمن فتحوا قلوبهم لها!.
إننا نؤمن بأن الصورة الحالية للدنيا ستتغير في يوم من الأيام بفضل هؤلاء الأبطال الذين نذروا أنفسهم لإقامة صرح القيم الإنسانية وفتحوا قلوبهم للمحبة، وستتنفس الإنسانية الصعداء. ولعل الفكر الإنساني في عالم المستقبل سيسطع نورا بهم للمرة الأخيرة، وستتحقق بهم الآمال الإنسانية وأحلام المدن الفاضلة والعديد من آمالنا وأمانينا. أجل!.. لابد أن يأتي ذلك اليوم الذي يتحقق فيه كل هذا، وعنده سيجثوا أصحاب القلوب الفارغة والحظوظ النكدة أمام هؤلاء الربانيين طالبين الصفح والغفران ساكبين دموع الندم. ولكنهم لا يستطيعون أبداً تلافي ما أضاعوا من فرص. وكم يتمنى المرء لو أن هؤلاء من أصحاب القلوب الفجة والمشاعر الدنيئة والأفكار المتمردة والمظلمة والتصرفات الرعناء والخشنة أن يرجعوا في مستقبل قريب إلى أنفسهم ويتبعوا طريق الحق والإنصاف ولا يلوّثوا غدهم قبل أن يأتي يوم يتلوون فيه من عذاب الضمير.(/13)
إن هؤلاء الأبطال الأسطوريين المضحين تضحية الصحابة الكرام، الساعين للوصول إلى أرجاء الأرض كافة.. الذين يهمهم إيصال ماء الحياة إلى الآخرين.. الذين لم يلتفتوا إلى مغريات حياتهم الشخصية... النابذين كل مظاهر التباهي والفخر والعجب.. الذين يظهر التواضع ونكران الذات في كل حال من أحوالهم.. لا يهدأ حماسهم وشوقهم حتى في أحلك الظروف والأوقات على الرغم من جميع السلبيات والعوائق.. أصبحوا بهذا الحماس الذي لا يفتر ولا يهمد وبإقبالهم على خدمة الإنسانية بهذه الهمة العالية أنموذجاً نادراً في التاريخ من ناحية الشهامة والإخلاص والتضحية.. تراهم يهمسون لكل من يلقونه بشيءٍٍ من أعماق قلوبهم، ويزرعون في كل مكان شتلة ليحولوا كل جانب إلى بساتين خضراء زاهرة... تراهم على الدوام في حيوية ونشاط، وفي حركة دائبة ويعبرون عن أنفسهم بكفاءة عالية يدعون الناس إلى الحياة الأبدية بعزم وإيمان وثبات وبأمل كبير في المستقبل.. قد يبدو الطريق الذي يمشون عليه طريقاً متعذر السلوك، علما أنهم أدرى به مسبقا. أجل!.. يعلمون أن الطريق سيتحول في يوم من الأيام إلى طريق وعر وشائك، ويعلمون أن جميع الجسور ستتهدم. لقد أخذوا هذا في حسبانهم منذ البداية، وأدركوا منذ اليوم الأول بأن العفاريت والأبالسة ستظهر أمامهم ليقطعوا الطريق عليهم، وأن أعاصيراً من العداء والكراهية والحقد ستثار من حولهم. أجل!.. هم على يقين بأن طريقهم طريق الحق، ولكنهم لم يسقطوا من حسابهم أن عراقيل كبيرة لا تخطر على البال ستظهر أمامهم، وتراهم يعدون كل ما ظهر وكل ما سيظهر من مشقات ضريبة طريق الحق تعالى. لذا لا يفقدون من حماسهم شيئاً ويستمرون في طريقهم مسرعين لا يلوون على شيء. ويلوذون بالله تعالى مما يقلقهم من المخاطر ويلتجئون إلى الحصن الحصين للإيمان، ويحاولون قراءة العصر الذي يعيشون فيه وحوادثه قراءة جيدة وصائبة، ويسعون اليوم وغداً للحصول على رضا الله تعالى واثقين بنصره.
وكما أنه ليس بمقدور أحدٍ أن يحرف هؤلاء الدعاة –الذين يعيشون في وحدة العقل والقلب– المستقيمي السلوك عن قيمهم التي آمنوا بها حتى الآن، فليس بمقدور أحدٍ كذلك أن يحول طريقهم الذي جعلوا محوره الحصول على رضا الله تعالى، وتعريف العالم كله بالخالق تقدست أسماؤه. لقد نذروا كل حياتهم في سبيل هذه القضية ولأداء هذه المهمة وصمدوا كالجبال الشُّمِّ لا يزحزحهم عن هذا الأمر شيء، ويَتَحَدَّونَ الأعاصير والزلازل، والرعود والبروق، واكتشفوا سر استثمار كل موسم من المواسم، فسقوا وأنبتوا الورود والأزهار وعلى شفاههم أناشيد أفراحها وحبورها.
تراهم في حركاتهم وسكناتهم كالساعة نظاما ودِقة، وتستشف في أحاديثهم وكلامهم استقامة وعواطف جياشة ونضرة. لا تجد اضطراباً في حركاتهم، ولا مرارة في أقوالهم. قلوبهم طاهرة كقلوب الملائكة ونقية، وألسنتهم ترجمان صادق لأعماق قلوبهم. لذا غدوا بسلوكهم وتصرفاتهم محط غبطة وبكلامهم وأحاديثهم مثار عواطف جياشة، لا تجد في عوالم قلوبهم سوى رغبة الحصول على رضا الله تعالى، وفي كلامهم سوى عشقا عميقا لله تعالى، وحبا للوجود، ومحبة للإنسان إشفاقا عليه وأخذه بالمسامحة والعفو. الحصول على رضا الله تعالى هدفهم الوحيد الذي صوّبوا له أنظارهم، والتفسير الصحيح للأشياء وللحوادث وتحليلها وتقييمها بصواب هوايتهم التي لا يستطيعون التخلي عنها، وحب الناس وفتح صدورهم لهم جزء لا يتجزأ من طبيعتهم ومزاجهم.
وعندما يعبِّر هؤلاء بعشقهم العميق عن موقفهم من الله تعالى يستطيعون بسر مفتاح المحبة أن يلينوا الطبائع القاسية حتى تغدو كالشمع ليونة ويفتحوا القلوب الصدئة والعفنة وبذلك يؤدون حق ما حظو به من تكرم رباني. فيُحَبّون ويُحِبُّون، لا يهتزون تجاه أقسى الهجمات ولا يتزلزلون، بل يثبتون في أماكنهم كالجبال الشم بعزم يقارب عزم الأنبياء، وعندما ينظرون إلى ما حواليهم ينظرون بنظرة سماوية، لا يسقطون ولا يتهاوون أمام العواصف الهوجاء، ولا يهتزون أمام الزلازل الشديدة. ويفتحون صدورهم للأمواج العاتية وللرياح العاصفة، ولا يبخلون عليها بقبضة من تراب هذه الشواطيء عندما ترتد هذه الأمواج عن شواطيء قلوبهم.(/14)
هؤلاء الرجال الشهمون مدركون بأن قلوبهم متعلقة بأجَلِّ مهمة وأنبلها تلك هي رضا الله تعالى، وهم عازمون على التصدي لأي شيء للوصول إلى غايتهم. عندما تنظر إليهم كأشخاص تراهم في منتهى التواضع، يحترقون كالشموع لينيروا ما حواليهم، ومع أنهم يظهرون عدم المباهاة مستعدون في كل آن للتحليق كالطيور في السماء والتسابق مع الربانيين. وحتى عندما يبدون دون حراك في الظاهر، إلا أنهم بفعاليتهم الداخلية في حيوية مستمرة، وعزم راسخ وفي حمى من الحركة الدائبة. هم كالبحار تسقي سواحلها بأمواجها، وأحيانا تخفف بأمطارها حرارة أماكن بعيدة عنها. ومهم يقدمون ماء الحياة للجميع.. إلى القريب والبعيد، وينفخون روح الحياة في الأجساد التي فقدت معنى الحياة وأصبحت ميتة قبل سنين وأعوام. يقصون لمن حولهم على الدوام بلسان الروح قصص القلب، ولا يشاركون في أي إشاعة أو نقاش يؤدي إلى زرع أي نوع من أنواع الكره والحقد في المجتمع.
يعيشون على الدوام على أمل أن يكونوا نافعين للناس جميعاً، ويحسون في أعماق أرواحهم بآلام الإنسانية جراء مشاكلها المختلفة وأزماتها المعنوية. يفتحون صدورهم لكل من يقترب منهم.. يستمعون للشكاوى.. ويئنون لها.. ويبحثون عن أصحاب القلوب المكلومة ويضعون أيديهم بأيديهم لكي يعالجوا آلام البائسين، ويمسحوا الدموع عن أعينهم. وعندما يأتي الوقت المناسب يتصدون لإخماد نيران الفتن وشرارات الفساد، ولا يزرعون غير الأزهار والورود حتى بين الأشواك وعلى شفاهم أناشيدها وبهجتها.
تتحول أحياناً قسماتهم الوردية - التي تشبه البراعم المتفتحة- إلى حمرة قانية نتيجة ما يجابهونه من آلام وأشجان، وتصل بهم الحال أحياناً إلى درجة يحسون معها أن قلوبهم ستتفطر كمداً وحزناً، وتتحول النغمات التي يترنمون بها إلى ما يشبه الصراخ، ولكنهم على الرغم من كل هذا يسيرون نحو أهدافهم راضين يشيعون لمن حولهم الإبتسامات وإن كانت صدورهم تحترق ناراً، فتخضر الأماكن التي يمرون بها، وتنقلب إلى بساتين وحدائق خضراء كجنان الجنة، والذين يمسكون بأيديهم ويعاونونهم يُبعثون كمن شرب من تبهر العيون...- عليه السلام -ماء الحياة... الخدمات التي يقدمونها تكون كاليد البيضاء لموسى جهودهم ونشاطهم تفضح حيل جميع السحرة، وتتهاوى الأفكار الفرعونية عند كل بلد يحلّون فيه وتفلس.
يملك هؤلاء غنى في الإفضال والهبات الإلهية النابعة من الإيمان، بحيث أن ما كان يملكه قارون من خزائن وأموال تعد بجانب هذا الغنى وهذه الثروة فُتاتاً ومن سقط المتاع. بل يستطيعون بهذه الثروة الإلهية وبهذا الغنى أن يشتروا العوالم. كفة أعمارهم ربحاً ومواهب، مملوءة على الدوام. أما كفة الخسارة عندهم فهي فارغة إلى درجة تدفع الشياطين إلى غضب مجنون.
يعرف هؤلاء جيداً أين يستثمرون رأسمال حياتهم وكيف يشرون بكل مهارة الحقائق الباقية والخالدة بالأشياء الفانية والزائلة. لا يصرفون أوقاتهم هباءً وفي أمور لا تنفع، ولا يستسيغون أبداً التأخر عن أداء الخدمات الإيمانية. همتهم عالية، إرادتهم صلبة، عزمهم مستمر. الإيمان والحركة والنشاط من أهم مميزات قلوبهم ومزايا سلوكهم. لا يخافون أحداً إلا الله، ولا يخشون غيره، يقفون أبداً منتصبي القامة، مرفوعي الرأس، ويمضون مرفوعي الهامة لتنوير العالم بكل تواضع. تراهم على الدوام متواضعين قد خفضوا أنظارهم إلى الأرض. يهبون أحياناً كالريح بأفكارهم السماوية لينثروا بذور الخير في كل مكان، وأحياناً ليهطلوا كالغيث على كل موضع ليكونوا رسل حياة على سطح الأرض... لا يزلزلهم سوء أحوالهم المعيشية، ولا كساد تجارتهم، ولا الأزمات والمشاكل الحادة المتتابعة التي تعصف بآمالهم. كثيراً ما يجددون عهدهم وموثقهم.. يستخدمون كل نعمة من نعم الله المعنوية والمادية الموهوبة لهم في إقامة صروح أرواحهم لإحياء شعائر الإسلام. فأينما كان الدين ورضا الله كانوا هناك ويسعون لتحقيق أوامره تعالى. وعندما يقومون بكل هذا يبذلون عناية خاصة في أن يكونوا ناجحين في أعمالهم الدنيوية إلى درجة أن الذين يرون هذا النجاح ولا يعرفون هؤلاء الرجال الشهمين بهذا الجانب لا يتصورون أن لهم أي علاقة مع الدين والحياة الآخرة. وعندما يشاهدون ارتباطهم الوثيق برضا الله تعالى ينذهلون من عشقهم هؤلاء ويهتزون ويحسبون كأنهم بين صفوف الرعيل الأول.
لا يحب هؤلاء أبداً البقاء دون عمل جاد، ولا صرف أعمارهم فيما لا ينفع ولا يجدي، بل هم في حركة دائبة يسعون لإعمار دينهم ودنياهم: فإن كانوا يعرفون القراءة والكتابة حاولوا كتابة بعض الصفحات، وإلاّ أهدوا قلماً لمن يعرفها باذليه ما بوسعهم لإدامة مشاركتهم في قافلة الخدمة. يحبون العلم على الدوام، ويوقرون العلماء، ويجالسون أصحاب القلوب اليقظة والعقول النيرة فيتنفسون بذكر المحبوب تعالى ومعرفته.(/15)
لو لم يبق فوق سطح هذه الأرض إنسان حقيقي، ولو غطت السحب والدخان الآفاق من جهاتها الأربعة، ولو غرقت الطرق والأزقة بسيول من الأوحال، ولو حاصرت الأشواك كل مكان، واستولت أشجار الزقوم على أماكن الورود والزهور، ولو استولت الغربان ونعيقها على الميادين والساحات، وطغت على تغريد البلابل، وتزاحمت الزنابير حول أقداح العسل، وسادَتْ وحشة الغابات المرعبة طرقنا وأزقتنا، ولم تبق للعلم حرمة ولا توقير، وطردت المعرفة من كل الديار، وأصبحت الإنسانية ضحية للغدر وقلة الوفاء، وزالت الصداقات وانقلب الأصدقاء إلى أعداء... لو حدث كل هذا لثبت هؤلاء في مكانهم بكل رسوخ دون أن تزل أقدامهم وكل منهم يقول: "يجوز أن ينقلب كل شيء رأساً على عقب، ولكن المهم أنني واقف على قدمي بثبات... قد تتحول كل ناحية إلى صحراء جرداء، ولكن المهم أنني أملك نبعاً من الدموع... لقد وهبني الله زوجاً من الأقدام لكي أمشي، وقبضتين لكي أعمل، وأملك إيماناً هو رأسمالى وقلباً حصيناً لا يخترقه العدوّ.. هناك فرص تكفي لإعمار العوالم تنتظر استثمارها، وأنا أستطيع –استناداً إلى عون من ربي- أن أقلب العالم بهذه الملكات إلى جنان وارفة الظلال... وما دامت كل بذرة تنبت سنابل عدة فلِمَ اليأس من المستقبل، ولِمَ هذا الغم والهم؟!. ولا سيما إن كان الله تعالى يعد بمضاعفة كل خير آلاف الأضعاف في العالم الآخر.." يقولون هذا وهم يسيرون في طريقهم نحو أهدافهم على الرغم من الطرق الخربة والجسور المتهدمة. يسيرون وهم ينشرون الحياة لحواليهم كالنهر المتدفق، ويطفئون حرقة وغليل وظمأ كل واحد.. وهم كالنار تضطرم للحفاظ على الآخرين من البرد والقر، وكالشمعة تحترق وتذوب بعد أن يسيل النور إلى آلاف العيون.. أحياناً يترصدون في الكمائن كأرباب الليل ويفتحون صدورهم لاستقبال نسائم الرحمة... وأحياناً يئنون في الأوقات والساعات المباركة ويتأوهون ويتوجهون لنيل عناية إلهية فائقة. هذا الطريق الذي يمشون عليه هو الطريق الذي سلكه ويسلكه أرباب القلوب، لذا لا تجد أحداً يضيع فيه، أو لا يصل إلى هدفه.
ترى هؤلاء على الدوام مترعين بالإيمان والأمل والحماسة، كرماء إلى درجة التضحية بما يملكون في سبيل الحق تعالى، يقضون أعمارهم في حمى البذل رجاء نيلهم عمّا فعلوه هنا أضعاف مضاعفة من الثواب. فقد وقر في أنفسهم أنه لا توجد هناك مرتبة أرفع ولا أسمى من مرتبة من ينذر حياته في صيانة الدين ورعايته وتمثيله في أرجاء المعمورة بمستوى لائق ورفيع. وهم يعدون الوصول إلى هذه المرتبة الغاية الوحيدة لحياتهم، وأن حكمة وجودهم في هذه الحياة هي تحقيق هذا الهدف ليس إلا. يتنفسون على الدوام هذه المشاعر والأحاسيس، ويجتمعون لتخطيط أفكارهم. ويعمقون اجتماعاتهم بربطها في سبيل الله، حتى أن سكّان الملأ الأعلى يباركونها ويهنئون أصحابها ويدعون لهم بالنجاح والتوفيق.
لا يفكر هؤلاء في راحة أنفسهم. فألسنتهم رطبة بكلمة "الله" و "الفضيلة" على شفاههم على الدوام. يهرعون إلى القيم الإنسانية. ويفتحون صدورهم للجميع متبعين سنة الأنبياء في هذا، ويعيشون على الدوام من أجل الآخرين. وبسبب مدى إخلاصهم يمد الله تعالى يد العون والمساعدة لرجال القلب والمشاعر هؤلاء أجنحة كأجنحة الملائكة في وقت عصيب شديد لا تنفع فيه الإيدي والأرجل، فيشرفهم في الدنيا بتوفيقٍ مفاجئ ونجاح غير متوقع، وفي الآخرة يسعدهم بظلال الوصال والقرب، ويجعلهم ضمن الربانيين ويغدق عليهم النعم الخاصة بضيوفه المميزين، ثم يتوّج هذه كلها برضوانه سبحانه وتعالى.
الأرواح الممتزجة بالآلام
الألم لا يسكن لحنَه إلا في صدر ملتاع
ليملأ الجسد بنحيب محترق
الذين وهبوا قلوبهم للمبادئ السامية وتحملوا آلامها وأوجاعها يقضون حياتهم كمبخرة تضطرم فتنشر روائح زكية. تولد الشمس وتغرب، وتتتابع الأسابيع والأشهر، وتتوالى المواسم موسماً إثر موسم وهكذا تمضي وكذا يبقى هؤلاء وهم يبحثون في ضوء مبادئهم عن ربيعٍ آخر... يعيشون موسم الخريف على الدوام ويسمعون أغانيه الحزينة، ولكنهم لا يشكون من حالهم ولا من أحد، يتحملون كل ألم وعذاب في سبيل دعوتهم السامية التي أقسموا على نصرتها وساروا في دربها، ولا يصيبهم سأم ولا ملل.
هذه الأرواح النيرة العاشقة لغايتها الجياشة بالبشائر تعلم مسبقاً أن هناك صعاباً جمة في طريقها، وودياناً سحيقة عليها أن تتجاوزها، لذا فقد أخذت هذا الأمر في حسبانها وتهيأت له، فلا تستطيع المشاكل المفاجئة، ولا المخاطر العديدة التي تقطع عليهم الطريق أن تحيرهم ولا أن تبعث الشكوك في نفوسهم حول دعوتهم. فهم على يقين من أن يوماً سيأتي يزول فيه كل خطر، وتنفتح فيه كل الطرق لتقلب الاستحالات إلى أمور ممكنة، فعزمهم لا يفتر، وأملهم لا يخبو.(/16)
لذا لا ينجرفون إلى اليأس والقنوط أمام أكثر الحوادث بعثاً لليأس، وأكثر الظروف قتامة وظلاماً، بل يتخطون العقبات بسرعة البرق ويتوجهون نحو أهدافهم مسرعين لاهثين.
تراهم على أهبة الاستعداد لما يدور حولهم بكل دقة وحساسية، ولا سيما إن كانت ذات علاقة بدنْيا أفكارهم... يمتزجون مع المجتمع الذي يعيشون فيه امتزاجاً قوياً بحيث إن رأوا فرداً قد انحرف عن الطريق السوي، أو أسرة تكاد روابطها تنحل، أو قيمة معنوية تُسند المجتمع قد تضررت، طار النوم من عيونهم أياماً وتقلبوا على فراش الألم والأنين.
أكثر ما ينفرون منه اللامبالاة، لذا يحسون بمشاكل وأوجاع كل شرائح المجتمع وكأنها خنجر مغروز في قلوبهم، ويطوون آلام مجتمعهم في صدورهم. وكم من ليالٍ نبضت قلوبهم بالآلام والصداع يكاد يفجر رؤوسهم، فهم وحيدون غرباء مع كونهم داخل الحشيد من الناس.
تمر لياليهم بالحسرات طوال عمرهم، لا يحس بهذا أحد غيرهم. وكما قال الشاعر باقي:
لا يدري المنجم وحاسب الأوقات ضنى الليالي السود الطويلة
لذا فاسأل من أصابه الهم والغم كم ساعة تمتد هذه الليالي
يرتبط الإنسان بمبدأ ما بقدر إيمانه به وتغلغله في قلبه. وبنسبة ارتباطه هذا يحس بالفرح مرة وبالعذاب والأسى مرة أخرى. لذا وحسب هذا المقياس فهناك من يصرف في سبيل دعوته يوماً أو أسبوعاً... شهراً أو سنة أو سنوات. وهناك من يجعل من دعوته هدف عمره وحياته، بحيث لو كان له من الرؤوس بعدد ما في رأسه من الشعر، وطلب منه في سبيل دعوته كل يوم واحدا منه لفداه بلا تردد وبلا منة ولا أذى. وقد كان سيد الرسل والأنبياء صلى الله عليه وسلم في ذروة هذا الأمر حتى أن الله تعالى خاطبه قائلاً {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} (الكهف: 6).
وكم من أفذاذ اقتفوا هذه الفطرة التي لا مثيل لها صلى الله عليه وسلم قضوا حياتهم وهم يتنفسون الألم ويقاسون آلام الفكر، ويقومون ويقعدون مع الآلام. وشدة الآلام عند هؤلاء تتناسب طردياً مع درجة سموهم وعظمتهم الروحية، فكلما قاسوا ارتفعوا، وكلما ارتفعوا قاسوا، حتى تطهّروا من كل ذنب وأصبحوا لغزاً من ألغاز السماء. أجل!.. ليس هناك ما يطهر الإنسان من ذنوبه وينقيه ويسمو به مثل المعاناة في سبيل الحق تعالى وفي سبيل صلاح الأمة. وقد ورد في الحديث: "إن من الذنوب ذنوبا لا تكفرها الصلاة ولا الصيام ولا الحج ولا العمرة، تكفرها الهموم في طلب المعيشة."(1) فما بالك بمعاناة الآلام في سبيل إنقاذ الأمة وإنقاذ المجتمع الذي نعيش فيه!.
إن أكثر ما نحتاج إليه اليوم ليس هذا أو ذاك بل نحن في أمس الحاجة إلى من يقول: "إنني أرضى في سبيل سعادة أمتي المادية والمعنوية أن أُحرق في لهيب جهنم".. إلى من يفني نفسه في سبيل الحق تعالى والأمة ضاربا عرض الحائظ بمنافعه وبمصالحه الشخصية.. إلى من يتلوى بآلآم المجتمع ويتأوه.. إلى من يحمل في يده شعلة العلم ليشعل في كل مكان أقباساً وأنواراً تطارد الجهل والسفاهة وتطردهما.. إلى من يهرع بكل عزم وإيمان إلى الذين ضاعوا بين الطرق ويمد لهم يد العون والمساعدة.. إلى من يستمر في طريقه كجواد أصيل دون أن يشكو من الصعاب التي تعترض طريقه ودون أن يتأفف أو ييأس.. إلى أبطال نسوا أذواق العيش والحياة لأنفسهم وفضلوا عليها لذة خدمة الآخرين في عيشهم وحياتهم.
________________________________________
[1] كنز العمال للمتقي، رقم الحديث: 16600، 16640؛ وانظر: مجمع الزوائد للهيثمي، 2/291؛ كشف الخفا للعجلوني، 1/297.
الروح الإسلامية
نجزم أن الجو الوحيد الذي يفسح للإنسان أن يتنفس منتعشاً هو جو الإسلام. فلم تزد النظم المفروضة على الإنسانية جمعاء أبان القرن أو القرنين الأخيرين، إلا اضطرابا وشقاء. وأول الداء أنها جميعاً كانت غريبة على روح الإنسان غربة بعيدة. وربما ائتلف مع بعضها ائتلافاً موقوتا، لكن الرفض وعسر القبول الداخليان لم يسكنا أبداً. وكان ذلك يولد في كثير من الناس شكوكاً سارية في البواطن حيال كل الأنماط والنظم الفكرية، فيكون انعدام الثقة والشك والتوجس سبباً – بالدور – لأزمات جديدة. لذلك صار كل نداءٍ جديد وكأنه سبب لازمة جديدة، واتبعه رفضاً جديداً. ولا عجب، لان هذه النظم المفروضة على الإنسانية تستند على افتراضات تطوي فراغات واسعة وكثيرة في المناسبات بين الحياة والكائنات والخالق. إن نقص العلم، بل الجهل، بالكنه الإنساني، وكذا إقصاء الحياة القلبية والروحية للإنسان إقصاءً لا هوادة فيه، هما من النواقص المهولة التي لا يملأ شيء الفراغات الحاصلة من جرائهما في هذه الأنظمة.(/17)
ولم يتيسر لأي نظام وضع توازن دقيق في مناسبات (الإنسان – الكائنات – الله) من غير ترك فراغات، إلا الإسلام في توازنه الدقيق المستدق. فان التشكلات المعنوية أو المنظومات المادية قبله، أو النظم والتيارات التي وعدت بالخلاص والأمل بعده، لم تشبع حاجات الإنسانية، بل قصرت حتى عن الآمال الموعودة. و"الغلط" العظيم اليوم هو الانصراف إلى إشباع الرغبات الجسمانية، والحال أن لهف الإنسانية أو حاجتها ترجع إلى جوع القلب والروح. أن الكد في إشباع الجوع واللهف المعنويان بتسمين الأبدان، لا يختلف عن ارواء الظمآن بماء البحر!. ومنذ سنين وسنين تعيش الإنسانية جمعاء، وعالمنا خاصة، في دائرة هذا الدور والتسلسل الفاسد... فكل حملة وهمة لإشباع رغبات الإنسان البدنية، تُبعد عن الروح مسافة أخرى، وسياق كل ابتعاد يولّد هذياناً آخر!. وكلما طال توجع الإنسان في قبضة حاجاته الجسمانية لخواء حياته القلبية والروحية في هذه المرحلة، ازداد صَلَفا باعتبار البدن، فنصب مطالبه النفسانية حاكما وحيداً على القيم الإنسانية جمعاء. والحال أن الابتعاد عن روح الإسلام هو السبب الأساس الكامن لمعاناة الإنسانية جمعاء من جوعٍ وعطشٍ حقيقي. وإذ نقول "روح الإسلام"، لا نعني حاله الباهت، والذاوي لونا، والمضببة جاذبيته السماوية، كما هو في الواقع الحاضر من زاوية نظرنا ووجهه تقويمنا له. بل بألوانه ورقوشه البراقة وكما تستشعره أرواح طاهرة فتتذوقه حتى الآن، وكما أحسه الإنسان في عصر السعادة (النبوية) فعاشه. هذا الروح لم يزل كالبحر الذي لا تسكن أمواجه، طاهراً أبداً، ندياً، عميقاً لا يتكدر قط بالأوساخ الفكرية لأي زمانٍ أو مكانٍ. لكن الوصول إليه، وتمام الاستفادة منه، يتطلب نية ونظراً معلوماً، وهمة وغيرة معروفة، وتوجهاً واعتماداً معيناً.
ومهما كان الروح هذا كاملاً ولاهوتيا وحركياً، فلن يستفيد منه منتسبوه وممثلوه استفادة تامة، مع عظم ثرائه وسعته، إلا بنية سليمة متامدية، ونظرٍ وتقويم صائب، وعزم ثابت على الكشف والاجتهاد، وتصديق واطمئنان إلى إن كل مطلوب ومقصود هو فيه. وبغير ذلكم يصعب عليهم التغلب على أنواع الاحتياجات والعلل كالجوع والفقر، وان قضوا عمراً في الالتصاق بهذه الخزينة السماوية... لان العالم الذي لم يزل يُمدّ بغذاء القرآن والسنة، لن يطمئن بشيء غيرهما. وأنا شخصيا أؤمن بان كثيراً من معضلات العصر المستعصية ستنحل، وكثيراً من أمواج الأزمات والدواهي المتلاطمة ستتكسر، أو تتلاشى أضرارها في أهون الأحوال، ذلك في حال التمسك بالقرآن والسنة وتقويمها بالدرجة التي كان عليها المخاطَبون في العصور الأولى. والحقيقة أن الإسلام في عالمنا، كان – وما زال – منهل غذائنا الأصل كثدي ألام، وفيصل مشاعرنا وأفكارنا وتقويماتنا، ورفيقنا في بيوتنا، وهواؤنا الذي نتنفسه في حياتنا أبداً، ولم نشعر قط بغربةٍ أو وحشة حياله. وعلى الضد الأيدلوجيات والمبادئ الغريبة. فكم طرقت أبوابنا وهزت صيحاتها أزقتنا، لكن لم تلج إلى دواخلنا، ولم تمتزج بأرواحنا، ولم تكن لنا أو نكن لها البتة. بل أثارت حفيظتنا من أول وهلة لغرابة صورها ووجوهها، ونبشت شكوكنا فيها، وتقززت بيئتنا الفكرية منها، فلم تجد لها محلاً في بدننا (الملي) إلا بمقدار الضعف الذي أصاب مناعتنا.
كان الإسلام – وما يزال – قريباً منا في وطننا وجغرافيتنا ومدننا وبيوتنا، محتضنا حياتنا وحاجاتنا وخفقات تحمسنا، إلى درجة اصطباغ حركاتنا وتصرفاتنا وفعالياتنا بشيء كثير من ألوانه. فصبغته في سلوكياتنا وأعضائنا، ومده وجزره في أذهاننا، وصوته ونَفَسه في قلوبنا، وآثاره في سماتنا، وثَفِناتُه في رُكبنا، وفواصله المريحة مددنا أبان التعب، وإلهاماته الداعية إلى التفكر سميرنا إبان الراحة، وتصرفاته في أنفسنا، وشِرْكته في أموالنا، وفوارقه الفاصلة في حياتنا الفردية والعائلية، وحضه الصادق في حبنا وتعانقنا، ووعوده بالخلود في شبوب آمالنا وأمانينا، ومعادلاته المتوازنة التي تشرح القلب في مسائل الحق والعدالة والمساواة.... كل هذا ربطنا به من أعماقنا، بل جعلنا مدمنين عليه،. حتى انه لو تخلى عنا يوما – وحفظنا الله – فاظن أننا سنفنى هماً وغماً وحزنا.(/18)
لقد استغلت نظم معلومة قيماً مثل الحق والعدالة والمساواة والأمن العالمي، كوسيلة لمرامٍ وأهداف معينة، أو لتحقيق مبادئها. أما الإسلام، فيتطلع إلى هذه القيم العالمية في نقطة الالتقاء بين سعادة الناس ورضاء الحق تعالى، فيتحقق إرادة الله تعالى ومطالب البشر.والإسلام يطالب المسلمين بالتمسك بهذه النكتة الفريدة في القضية. وليس ببعيد، غداً أو بعد غد، أن يصل المسلمون إلى مقام يغبطون عليه، إذا رعوا "الحق" و "العدالة" و "المساواة" بدرجة أهمية الموضوع، ولم يستخدموا ملاحظاتهم السامية مطية لرغباتهم الجسمانية والنفسانية، وأداموها مشدودة الوثاق بالحق تعالى. هذا المقام هو مقام فيه يحبون الله، ويحبهم الله، ويغبطهم البشر. إن الدافع الأول في حيازة هذا المقام هو قوة الإسلام التي لا تقهر، ونمط حياة المسلمين المغبوطة.
الإسلام لا يحتاج إلى إعلانات كحاجة الإيديولوجيات والمبادئ المستوردة من الخارج. فمرجعيته هو ذاته وسلوكيات ممثليه الأوفياء. أن التزام الحق دائماً، والنهوض بالحق، وتوقير الحق، عبادة في الإسلام. يقول "عاكف" في بيت له: (ترجمته): "الحق من اظهر أسماء الخالق الحسنى التي ما لها عد... فما أعظمه شرفاً أن ينهض بالحق ويذود عنه العبد". فقد قال هذه الملاحظة اللطيفة في إطار تلك النكتة الفريدة المذكورة آنفاً، ونعدها صوتاً ونفساً لحقيقة لن نتخلى عنها أبداً. الإسلام يتحرك أبداً وفاقاً لقاعدة "القوة في الحق"، ولا يستسلم لتسلط القوة الظالمة أو الطائشة البتة. فيقف منتصباً ويمشي رجولة، لا يتواطأ مع ظلم، ولا يطأطئ لظالم، فيقول مع "الشاعر باقي" (مترجماً): "لن يشوب وجوهَنا للأرذال تذللٌ... لدنيا دنيئة، وبالله اعتصامنا وعليه التوكل"... ثم يمضي إلى غايته.
إن موازنة الحق والقوة موضوع مهم يتطلب النظر فيه مليا.. ومعالجته بشرح وانبساط أوسع. نشير إلى ذلك ونؤخره إلى اجل قابل.
العدل والاستقامة في الإسلام نمط حياة للفرد والعائلة والمجتمع في أوسع أطرها. نعم، الفرد الرابط حياته بالإسلام، يفكر ويعيش في استقامة بلا حيد، ويجهد للبقاء في ساحة الحقانية دائماً، ويبدي سلوكاً ضد الظلم والحيد عن الحق بدءاً من نفسه، ويتصرف بحس رهيف في رعاية حقوق الآخرين كرعايته لحقوقه، بل برعاية أرهف وارق... فيعيش حياة موزونة وكأنها مشدودة إلى ميزان.
إن العدل والاستقامة مبحث متميز أيضاً، يتطلب إسهابا ليس موضعه هذه المقالة.
والمساواة في الإسلام أمرُ الحق تعالى ولازمٌ من لوازم توقير الإنسان، ويُعدّ الإخلال بها أو إبطالها جرماً عظيماً بحق الإنسانية. فهو ضد الامتيازات بسبب اللون أو العرق أو الإقليم أو الطبقة الاجتماعية، ولا يفتر في الكفاح الفكري ضد هذا الفهم المنحرف في كل مجال. الإسلام يحفز الاستعدادات والمهارات ويقدّمها، ويرعى الفرص المتكافئة والاستفادة المتساوية من الإمكانات. فهو يرفض التكوينات القائمة على أساس الأصل والأرومة ويبطل أبطالاً باتا الحاكمية لفئة معينة (كنوع من الاوليغارشية) في أي وحدة من وحدات الحياة. انه يفسح السبيل للقابليات الفردية ويحفز النجاح، ويُعدّ ذلك من ضرورات "وفضلنا بعضكم على بعض". ولكنه لا يني في الكفاح ضد الملاحظات المونارشية.
الإسلام يحتضن كل فرد وفئة بالحنان عينه. ويقوّم حاجات الجميع وطلباتهم في خط سوي واحد، وينادي بصوت جهوري أن ليس إنسان فوق إنسان، ويؤكد بلا كلل على المساواة وتكافؤ الفرص معاً. ويحمل حملة لا هوادة فيها على إخماد الاستعدادات في دياجير الإهمال أو شل القابليات في قيود الميلاد غير النخبوي. ويقف منتصباً حيال الصعود والعلو من غير حركية داخلية للفرد أو جهد صادق منه، ويعلن عياناً بياناً أن هذه الحال غير أخلاقية، ويرجع هذه السلوكيات اللاأخلاقية إلى بؤس الروح وانحطاطه... والإسلام يسعى إلى انتزاع البؤس والانحطاط والذلة من الأرواح بإزالة الأسباب والدوافع المادية، وبتحفيز قوة الإرادة الفردية بمشاعر الإيمان والمعرفة والإحسان.
وان صيانة الروح من الدناءة والبؤس والانحطاط، يحتم اللجوء إلى الدرع الصلب للإيمان السليم والعرفان الرحيب والمراقبة الدائمة. أن بلوغ الروح بهذه التجهيزات إلى الإشباع والاطمئنان، يفتح عين الإنسان على أمور حياتية فائقة الأهمية، وفوق أمور البدن والجسمانية بأبعاد شاسعة. وعلى الضد، المحرومون من التجهز بهذا الجهاز، اذ يتعسر أشد العسر صونهم للقيم الإنسانية وثباتهم أمداً طويلاً. فبؤس الروح وانحطاطه يبعد الفرد عن صيرورته الذاتية، فيكون عرضة للانسحاب إلى هنا وهناك، والانصباب في هذا القالب أو ذاك، وينجرّ إلى انقطاع لا مفر معه من الوقوع في خدمة أبواب الأسياد، والاسترقاق عاجلاً أو آجلاً.(/19)
ونحن، إذا تفهمنا الحركية التي أوجدتها (أو توجدها) العقيدة الإسلامية في القلوب المؤمنة، فسنفهم أسباب ودوافع الهبوط والصعود، أو السقوط والارتقاء، فردياً أو اجتماعيا، وزد عليه، إدراكنا الأسس المهمة في التماسك والاستواء من جديد، واستجماع امرنا للحاق بالقافلة التي تأخرنا عنها. وقدوتنا في هذه المسألة أصولنا الذهبية التي حملت الرايات في مراحل الارتقاء كافة، وفي المقدمة إنسان عصر السعادة (النبوية). فإذا استَقْوَينا – في خط فهمهم ذاك – بماضينا التليد كمصدر سرعةٍ منطلقة "عن المركز"، وتَمَسَكنا بجذور معانينا الذاتية اشد التمسك، "وتوكلنا على الله، وتشبثنا بالسعي والعمل، ونَشَدْنا التوفيق" (كما قال عاكف) – ولا مناص لنا غير ذلك -، فحينئذٍ تتمهد القمم التي كأنها عصية على العبور، وتنبسط السهول بلا عوائق. فلا شك في هذا ولا ريب.
إن مجتمع عصر السعادة (النبوية) ومهندسي تاريخنا "الملي" العظام، هم ممثلو الإسلام حق التمثيل، سواء في حياة "العمل الحركي"، أو في عالم الوجدان. فقد نشأوا في ظل القرآن وإقليم الإسلام الفياض، وعاشوا أعمارهم في أفق صعب المنال يفصل بين الفانيات والخلود. إن تحول هذا المجتمع الشديد، بل الوحشي، والمتعصب لعاداته، والمعاند اشد العناد، والمتهالك بالخلق السيء والعادات الفاسدة قبل الإسلام، إلى جماعة أنموذجية بعقلها وقلبها وروحها ونَفْسها بحملة واحدة، ليس إلا معجزة بينة للإسلام. فهؤلاء أنصتوا للقرآن، وتربوا بغذاء القرآن، ووهبوا قلوبهم لصاحب القرآن (جل تعالى)، فوجدوا أنفسهم في صعيد البناء والأعمار والأحياء بعوالمهم الشعورية والفكرية والحسية. لقد تبدلوا من أخمص القدمين إلى ذروة الرأس. بحماس انبعاثٍ جديد، واجتنبوا الخُلق السيء والعادات القاتلة، وحاربوا بلا هوادة الرغبات الجسمانية غير المشروعة جميعها بمخالفتهم الدائبة للنفس، وعقدوا العزم على "إحياء الآخرين"، فرجحوا "الإحياء" على الحياة، وربطوا وشيجة حياتهم بإسعاد الآخرين باعتبارهم ممثلين فضلاء لنظام فاضل، وسعوا حثيثا في مداومة المحاسبة والتصرف المكين وتوقي الانزلاق، بملاحظة احتمال الضعف البشري في كل وقت، وتوجهوا حين المس بنزغ إلى الحق تعالى بالتوبة والإنابة والأوبة في اخلص أحوال قلوبهم، وتحروا عن سبل الارتقاء العمودي، فعاشوا مبرمجين على التحليق في الشواهق. لم يستسلموا قط، بل صمدوا شامخين حيال الانسحاق لقلتهم ووحشة الغربة لوحدتهم والاضطهاد والتخويف وأنواع الغبن والظلم والحرمان. ومع هذه المقاومة الصامدة، ضموا الجميع إلى أحضانهم وفتحوا لهم صدورهم ولم يستحقروا أفكار غيرهم وسعوا من اجل تحقيق المتطلبات اللازمة للارتقاء إلى "الإنسان الكامل". صنعوا عالماً جديداً بالعلوم المنسابة إلى أرواحهم من القرآن والسنة، وأقاموا قيمهم الإنسانية الكامنة على ارض الحقيقة فصاروا قدوة للآتين من بعدهم.
أولئك هم جذورنا، الذين قصدوا إلى الخالق، ووجدوا قبلتهم فانعتقوا بالعبودية للحق من أنواع العبوديات، كالعبودية للهوى والقوة والشهوة والشهرة... وغيرها، وتجردوا من السفالات التي تلقي الإنسان في أحضان البؤس... نحن كنا أولئك، ونحن اليوم "تمثُّلُهم" في الحاضر، وهم أصلنا، وسيكون الآتون من بعدنا هم فصلنا. نحن أبناء الإسلام، أنصتنا إليه في تنهيدة الأمهات في بيوتنا، واستمعناه في صرير المهاد، ورضعناه من أثداء أمهاتنا، وتنفسناه في هوائنا. كان الإسلام أبداً في شغاف قلوبنا، ولم يقف غريباً عنا البتة.
أنت!
أنت يا بلبل عصر وردي!.. أنت يا بشيرَ بعثٍ لماثل على الهلاك!.. أنت يا عصارة بطولة التاريخ!.. أنت أيها الكائن الأسطوري قد نبعت من لب الملة وعدت إليها لكي تعيدها إلى جوهرها وماهيتها مرة أخرى وتفانيت في سبيلها!.. نحن نتوق أن نجعل من قلوبنا المضطرمة شوقاً مشاعل للاحتفال بقدومك، والترحيب بمجيئك والسير وراءك مرة أخرى.
كلما ألمتْ بنا الخطوب، وادلهمت الأيام تذكرناك، ونظمنا قصائد الشوق واللهفة إلى أنفاسك الباعثة على الحياة، ولم نستطع فعل شيء جاد آخر.
أنت أيها الأمير الجَلِدْ والشهم للعهود المضطربة الملتهبة وموجهها، والمرشد المشفق الحنون!.. أنت يا بطل الحقيقة الذي يحمل في شفتيه إكسير الحياة الذي يحيي القلوب الميتة!.. أنت يا طبيب الأدواء المستعصية ومسيحها ولقمانها!.. في هذه الأيام التي بهتت فيها ألواننا، وبطئت فيها نبضات قلوبنا، وتحشرجت فيها أصواتنا.. في مثل هذه الأيام فلقد أصبحنا في ظمأ وحاجة –كظمأ أهل كربلاء ومظلوميها وحاجتهم- إلى نظراتك التي تومض كالبروق، وإلى صوتك وبيانك الهادر كالرعود، وإلى جهودك وقدرتك المحركة إرادتك المغيِّرة التي تهطل على صدر هذه الأمة كالغيث فتتفانا فيها وتفتح لها سبل الإستحالة.(/20)
في هذا العالم المتهدم الأرجاء الذي قام الظالمون فيه بتحويله إلى بركة من الدماء وملأوه بالأنين والآهات، ولم يتركوا بلداً إلا وجعلوا عاليه سافله... من أمثال هذه الخرائب لم نعد نسمع سوى أصوات الظالمين أو أنين المظلومين.
قم!.. قم واضرب بسيفك على هذا الطوق المخيف الملتف حول عنق ماضيك لكي تُبطل هذا السحر المنعقد، وامسح وأزل الحظ النكد لهذه الأمة... فكما قمت بإسماع صوتك للعالم أجمع.. قم بهذا الآن ليصل صوتك إلى العالم بأسره.
تعال!.. تعال فقد نفد صبرنا... تعال فقد اقفر هذا البلد وتحول إلى صحراء قاحلة وبدأت الجرافات الأجنبية تجرِف البنية الملية وتخربها، وبدأ التآكل الاجتماعي يسحب الأجيال أمامه ويدفعه إلى هاوية مجهولة، وبدأت النغمات والترانيم الأجنبية تسكر إنساننا إلى حد الثمالة في هذه الأيام السود... تعال إذن.
تعال!.. تعال وأنشد نشيداً جديداً لهذا الجيل الذي لم يسمع سوى الأناشيد القديمة طوال سنوات وسنوات فأصبح حائراً ومذهولاً أمام الحركات البهلوانية لهذا العالم الجديد... نشيداً يُعرِّفك ويعرِّفني بهم... لحنه طاهر وسامٍ كبدر.. صادر من الأعماق ومتوجه إلى دار الخلود كمالازْكِيرت .. وشامل عالميّ يجلب صيطا جديدا كفتح القسطنطينة.. منبعث من فؤاد مكلوم مثل نضالك الإستقلال.
تعال!.. واجلب أمل وعزم فعل شيء جديد لهذه القلوب الخابية والأرواح البائسة الواهنة التي ذهلت عن نفسها وغرقت في سيل الهذيان.
تعال!.. وَهَبْ بشرى الشفاء والصحة لهذا الإنسان البائس الذي أُجريت له سبعون عملية جراحية بدعوى علاجه، والذي حمل إلى قسم معالجة العظام بعد أن كسروا ذراعيه وقدميه، أجلب الشفاء لهذا الإنسان الذي أصابه ضر كضر النبي أيوب عليه السلام وملأت الأحزان والهموم عينيه كيعقوب عليه السلام. إن الذين تصدوا لعلاجه من الجهلاء والسفهاء بتشخيص وعلاج خاطئين لم يتسببوا إلا في زيادة مشاكله وآلامه، ولأنهم تناولوا مشاكله الجزئية والموضعية والوقتية فقط، فإن كل بارقة أمل في الشفاء كانت مثل شمعة زائفة سرعان ما انطفأت دافعة أياه إلى خيبة أمل جديدة ويأس جديد.
ويبدو أنه لا يسلم نفسه بعد الآن إلى أي طبيب كان، ويظهر أنه سيصر على أسنانه صابراً حتى ظهور طبيبه الحاذق الذي سيتناول أدواءه ومشاكله بشكل شامل وعميق.
تعال!.. تعال وكن أنت ذلك الطبيب، واقلب ليل الذين ينتظرونك منذ سنوات إلى نهار مشرق... وأوصلهم إلى الآفاق المضيئة. إن حركة خفيفة واحدة منك قد أعطتْ تناغماً للحوادث المتشابكة. فكم من مشكلة مستعصية مزمنة انحلتْ بفضل نفَس واحد من أنفاسك الحارة، وكم من ورم منتفخ ومنتشر في قلب الأمة يسيل قيحاً بدأ بالضمور والزوال. فما بالك لو أنهم شاهدوا الفعالية الحقيقية المتولدة من ذاتك وماهيتك؟..
نحن كأمة واحدة ننتظر بعيون دامعة وبلهفة عارمة يوم قرارك المفرح.
ألف سلام وألف تحية لبطلنا الذي يمسك بيده هذا القرار التاريخي.(/21)
ملامح النموذج الاقتصادي الإسلامي
د. أحمد مجذوب أحمد*
المستخلص:
حرص الباحث على تسمية الموضوع الذي بين أيدينا بملامح النموذج الاقتصادي الإسلامي لأنه – حسب اعتقاده – لا تكفي مساحة هذه الصفحات وحدها للخوض في تفصيلات دقيقة عن الجوانب المختلفة للنموذج موضع الدراسة وعلاقاته المتشابكة. وعليه، اكتفى الباحث بالتطرق لثلاث جوانب تعتبر – من وجهة نظره – رئيسية وجوهرية، وذلك في ثلاث مباحث، المبحث الأول، تم إفراده للحديث عن المبادئ التي يقوم عليها النموذج الاقتصادي. لأنه من غير المتصور أن يقوم أي نموذج أو مثال، دون أن يستند على بعد عقدي أو فكري أو أخلاقي. فالنموذج بهذا الفهم ما هو إلا تعبير عن تطلعات أي مجمع نحو تحقيق غاياته. والمجتمع بدوره هو أسير المبادئ التي يعتقد فيها ويلتزم بها أخلاقيًا وبالتالي يقيم عليها بناءه الفكري.
أما المبحث الثاني، فقد جاء عن ملامح البنيان المؤسسي في النموذج الاقتصادي. وقد بذلت فيه المحاولة لتبيان شكل البناء المؤسسي الذي يعبر عن تحقيق الغايات وحفظ العلاقات. ولتسهيل عملية الدراسة، تمت الإشارة إلى أثر الفكرين الاشتراكي والرأسمالي على البنيان المؤسسي في الواقع العملي لكل منهما. وفي هذا السياق فقد تم إفراد حيز لوضع الدولة في البنيان المؤسسي وكذا الأمر بالنسبة لمؤسسات المجتمع الاقتصادية الأخرى (مؤسسات القطاع الخاص).
بينما خصص المبحث الثالث والأخير للحديث عن الملكية. وعلى الرغم من الصلة القوية لهذا الموضوع بالبناء المؤسسي، إلا أن إفراد مبحث خاص بالملكية في هذه الدراسة يرجع لأهميتها، سواء على المستوى النظري أو على المستوى العملي. كما وأن المعيار الأساسي للتمييز بين النماذج الاقتصادية المختلفة أصبح يرتكز على نوع وشكل الملكية في كل من هذه النماذج.
المبحث الأول(1)
المبادئ والقواعد التي يرتكز عليها النموذج الاقتصادي الإسلامي(*)
هناك جملة من القيم والمعتقدات والقناعات تسود المجتمع وتمتد جذورها إلى الدين أو الأعراف. وقد تم استخلاص مبادئ وقواعد عامة منها، بحيث أصبحت هذه القواعد والمبادئ تؤثر في تفسير وتقنين وتوجيه الظواهر الاجتماعية عامة والاقتصادية في موضوعنا هذا على وجه التحديد. ومن ثم تصبح مرتكزًا للباحثين لصياغة النظريات وبناء النظم وتحديد العلاقات المؤسسية. ونحن نورد هنا بعض المبادئ والقواعد العامة التي نرى أنها تمثل المركز الذي يقوم عليه النموذج الاقتصادي الإسلامي وهي على النحو الآتي:
أولاً: مبدأ تحقيق معنى العبودية لله رب العالمين:
ويستخرج هذا المعنى من جملة النصوص الدالة عليه كقوله تعالى: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون، ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون، إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين)(2). وهذه الآيات أكدت على أن الغاية والمنتهى من الخلق هو تحقيق العبودية لله سبحانه وتعالى(3). بل وأشارت إلى أن القضية الاقتصادية المتعلقة بإشباع الحاجات لم يكلف بها الخلق أصالة، وإنما هي على الله سبحانه وتعالى. وما عليهم إلا الأخذ بالأسباب. ويقول الله تعالى في موضع آخر: (قل إني أمرت أن اعبد الله مخلصًا له الدين)(4). وفي ذلك تأكيد على أن المفرد بالعبادة هو وحده لا شريك له وأمرنا أن ندعو جميع الناس إلى عبادته(5). وتتابعت النصوص في ذلك السياق والمقام هنا ليس مقام إحصاء لها أو إحاطة وإنما إشارة تعين على ربط هذا المعنى بموضوعنا.
فالذي يتضح أن الغاية والمبتغى والمنتهى عبادة الله سبحانه وتعالى والدعوة إليه وإخلاص النية في العمل. وعليه، فإن النظام الاقتصادي بآلياته ومؤسساته وسياساته، لابد أن يعمل على تحقيق معنى العبودية. وهذا يجرنا إلى الحديث عن قضية ارتباط الاقتصاد بالقيم. فهل هو علم يبحث فيما هو كائن فقط أم يبحث فيما ينبغي أن يكون؟ أي هل للأخلاق أي أثر على علم الاقتصاد؟(6)
ذهبت المدارس في هذا الأمر مذاهب شتى. فالاقتصادي بيجو Pigou من أنصار المدرسة الكلاسيكية نفى الاعتماد على المعايير الحكمية في وضع السياسات الاقتصادية. ويؤيده في هذا المنحى الاقتصادي باريتو Pareto، حيث يؤكد أن علم الاقتصاد علم وضعي يبحث في ما هو كائن فقط. وتمكنت هذه الأفكار بسبب انتشار المدرسة العلمانية(7) في الدول الغربية لاحقًا، إذ أقر كل من فريدمان وسام ولسون وروبتر بأن الاقتصاد ليس له علاقة البتة بالقيم والأخلاق وأنه علم محايد. وظهر بعض الاقتصاديين الذي خالفوا هذه المجموعة وتبنوا الرأي القائل بأنه لا يعقل أن يكون التحليل الاقتصادي خاليًا وبشكل كامل من الأحكام والاعتبارات الأخلاقية ويؤكدون أنه ليس عيبًا في الاقتصاد أن يرتبط بالقيم، لأنه علم اجتماعي مرتبط بالإنسان(8).(/1)
ونحن بموجب إدخال هذا الأساس المتمثل في تحقيق معنى العبودية لله سبحانه وتعالى، أكدنا أن الاقتصاد في الإسلام يرتبط بالقيم والأخلاق ويبحث فيما ينبغي أن يحقق معنى العبودية للمولى عز وجل. وقد كان هذا المعنى واضحًا في ذهن المفكرين المسلمين القدامى والمعاصرين. فها هو الدكتور فتحي الدريني يقول: العقيدة في الإسلام عنصر جوهري في تشريعه بوجه عام والتشريع السياسي بوجه خاص. لذا كان الكيان العقائدي أو الروحي أو الأخلاقي هو أول ما أرسى الرسول صلى الله عليه وسلم أركانه. قبل أن يضع أي نظام سياسي أو يقوم بأي إنجاز مادي في شئون المال والاقتصاد والحكم. فكانت دولتة فكرية تقوم على القيم والمثل والعقائد والأخلاق.
ثانيًا: مبدأ الاستخلاف:
ندرك جميعًا أن غالب أهل العلم قد اتفقوا على إقامة الدولة وتعيين الحكام. وهو أمر أجمع عليه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في وقت مضى عندما اجتمعوا في سقيفة بني ساعده لاختيار خليفة له. ومنطلق هذا الاجتماع أن أمر الدين لا يقوم إلا بإقامة الدولة. يقول الإمام الغزالي: "الدين والملك توأمان فلا يستغنى أحدهما عن الآخر"(9). ويقول في موضع آخرى: "إن نظام الدين لا يحصل إلا بنظام الدنيا .. والدين والسلطان توأمان.. والسلطان ضروري في نظام الدنيا ونظام الدنيا ضروري في نظام الدين"(10).
فتحقيق معنى العبودية بشمولها لمختلف جوانب الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية وضرورة إخضاع الناس لما جاء به الشرع، يستلزم تدخل الحاكم لضمان هذا الالتزام وللتأكد من تناسق مسارهم مع ما أمر الله به ونهى عنه. وفي الشأن الاقتصادي، ترتكز الدولة على مفهوم الاستخلاف الذي يحكم علاقة المسلم بالمال والثروة التي تحت يده، لأن المال تتعلق به بعض الحقوق الاجتماعية. ولهذا قال تعالى: (آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه فالذين آمنوا منكم وأنفقوا لهم أجر كبير)(11) ليؤكد بذلك أن أصل الملك لله سبحانه وتعالى، وأن العبد ليس له فيه إلا التصرف الذي يرضى الله فيثيبه على ذلك بالجنة(12). بل وجاءت نصوص أخرى تؤكد أن المال هو مال الله، حيث يقول تعالى في الحث على الإنفاق: (وآتوهم من مال الله الذي آتاكم)(13).
وهكذا تتأكد أن علاقة المسلم بما تحت يده من مال هي علاقة وظيفية أعطته حق التصرف في ماله في حدود ما أمر به الشارع. فملكية الإنسان هي ملكية استخلاف إلهي ومنحة ربانية موقوتة. تقوم حيث شرعها الله وتمتنع حيث منعها. وإذا قامت بالكيفية التي يريدها وإلى الوقت الذي يحدده، فهي مقيدة بما قيدها به الشارع الحكيم أسبابًا واستعمالا وانتقالا. فالبشر مقيدون في ملكيتهم بقواعد وشروط الاستخلاف.. فليس لهم إلا الانتفاع والتصرف بالقدر الذي أجازته الشريعة(14).
والجهة التي كلفت شرعًا برعاية ومتابعة تحقيق معاني الاستخلاف هي الحكام (الأئمة). لأن الاستخلاف من معاني الدين، والدين والملك توأمان، ونظام الدين لا يقوم إلا بالسلطان، كما تمت الإشارة لذلك في موضع سابق. ويتصل مفهوم الاستخلاف بدراسة وتحليل الظواهر الاقتصادية، لأن الاستخلاف يتعلق بالمال والثروة والتصرفات المتصلة بها اكتسابًا وإنفاقًا وإنتاجًا وإستهلاكًا واستثمارًا وادخارًا. ويتصل كذلك بالسياسات الاقتصادية التي تتبناها الدولة في شأن هذه المتغيرات ومن أجل تحقق الأهداف المرسومة. وهكذا يصبح الاستخلاف – بهذا المعنى – هو المرتكز الذي تستند عليه الدولة في اتخاذ قرارها الاقتصادي والقاعدة في المفاضلة بين السياسات الاقتصادية.
ثالثًا: مبدأ المرونة (الصلاح لكل زمان ومكان):(/2)
ويأتي هذا المبدأ من جهة أن الإسلام جاء كرسالة خاتمة لكل الأديان والشرائع وكافة الناس، حيث يقول تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا)(15). ويقول تعالى أيضًا: (ومن يبتغ غير الإسلام دينًا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين)(16). وكذلك يقول الحق عز وجل: (وما أرسلناك إلا كافة للناس)(17). وكون الإسلام رسالة خاتمة ولكل الناس في كل زمان ومكان، يقتضي أن تتسم هذه الأحكام بالمرونة وأن تكون مؤهلة لتقديم الحلول لمختلف المشكلات في شتى الظروف والأحوال. ولهذا نجد أن الشريعة جاءت بأصول كلية ثابتة وقواعد عامة لتنظيم حياة الناس. ثم جعلت من بعد ذلك كيفية تطبيق هذه الأصول الكلية للفقهاء والمجتهدين الذي ينزلون الأحكام على الواقع. فمثلاً، نجد أن الشريعة أكدت على أصول الشورى وإقامة العدل والمساواة والتكافل الاجتماعي وتحقيق المصالح ودفع الفساد والظلم وغيرها من الأصول الكلية. وإعمال هذه الأصول وإنزالها إلى الواقع يقتضي فقهًا يتناسب مع كل مرحلة من مراحل التطور البشري. ولو لم تكن الشريعة كذلك، ما كانت كفيلة بتحقيق مصالح العباد ولكان أحد أمرين: إما أنها شذت عن الشرائع الأولى فلا تراعى مصالح الناس ولا تعنى بمطالبهم الدينية والدنيوية. أو أو أنها ليست خاتمة الشرائع السماوية. وكلا الأمرين يتنافى مع نصوص القرآن ويناقض عقيدة الإسلام(18).
ويعلق أحد الباحثين على هذا المبدأ بقوله: "فليس للاقتصاد الإسلامي نظام معين يلتزم به كل مجتمع مسلم، بل العكس ينبغي أن تتعدد التطبيقات الاقتصادية الإسلامية بحسب ظروف كل مجتمع، وذلك في إطار مبادئ وسياسة الإسلام الاقتصادية"(19). وهكذا نجد أن التطبيق الاقتصادي أو إعمال هذه المبادئ في الجانب الاقتصادي يكسب الاقتصاد الإسلامي مرونة كاملة فتتعدد فيه صور التطبيق، بحسب أحوال الناس واختلاف أمكنتهم. وهذا في حد ذاته يقدم مادة علمية غنية تتيح قدرًا من الخيارات الإسلامية المرتكزة على أصول ثابتة وكلية. وهكذا تتأكد قابلية الشريعة للتطبيق وصلاحها لكل زمان ومكان.
رابعًا: مبدأ الحلال والحرام:
ويرتكز هذا المبدأ على أن الشريعة الإسلامية جاءت لتنظيم حياة الناس وإرشادهم إلى ما ينفعهم وما يضرهم فأمرت بأشياء ونهت عن أخرى. فأقامت دائرة للمعروف وأمرت بإشاعته وتمكينه في المجتمع. وحددت دائرة للمنكر فنهت عنها وأمرت بمحاصرتها وإبعاد الناس عنها.
ويقول تعالى في وصف الرسول صلى الله عليه وسلم: (يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث)(20). ويقول الحق عز وجل: (وأحل الله البيع وحرم الربا)(21). وهذه النصوص تصبح تكليفات واجبة النفاذ يلتزم بها المجتمع في شأنه السياسي والاجتماعي والاقتصادي. فتدور عجلة الإنتاج وفق دائرة الحلال (الطيبات) من السلع وتقف عن دائرة الحرام منها (الخبائث). ويتم التعامل المالي والتجاري وفق قاعدة أحل الله البيع وحرم الربا. فتقوم سياسة التمويل وفق فهم أن النقود لا تلد نقودًا. فاما قرضًا حسنًا، أو تمويلاً يشترك رأس المال في مخاطرة ربحًا أو خسارة.
وهكذا نجد، أن هذا المبدأ يحكم مختلف أوجه النشاط الاقتصادي في إطاره المؤسسى كالأجهزة المصرفية والمؤسسات المالية والشركات بمختلف أنواعها، لأن كل هذه المؤسسات تقوم على علاقة تعاقدية. والعلاقة التعاقدية محكومة بجملة من الموجهات الإسلامية، مثل التي تنهى عن الربا والغرر والاستغلال والاحتكار.. الخ. كما أن المتغيرات الاقتصادية، مثل الاستهلاك والاستثمار والادخار والإنتاج والتوزيع كلها تركز على هذا المبدأ، لأن هناك جملة من الموجهات تتعلق بها مثل: النهي عن الإسراف والتبذير عند الاستهلاك، والنهي عن كنز المال في الادخار، والالتزام بالأولويات والحلال في الإنتاج والاستثمار، وتحقيق العدالة في التوزيع. وهكذا نجد أن هذا المبدأ سيظل محورًا تدور حوله الظواهر والعلاقات الاقتصادية في النظام الإسلامي.
خامسًا: مبدأ الحرية الاقتصادية المقيدة بالأحكام الشرعية:(/3)
ارتكز مفهوم الحرية في الفكر الاقتصادي للمدرسة الكلاسيكية على أن الحرية قادرة وكفيلة على حل المشكلات الاقتصادية الداخلية والدولية. وبالتالي تحقيق التشغيل التام وإعادة التوازن وزيادة الإنتاج. وهي تملك آلية ذاتية في معالجة أي خلل يظهر، لأن تحرك الفرد لتحقيق مصالحه الشخصية يحقق المصلحة الجماعية لكل الناس. فالمصلحة العامة ما هي إلا مجموع مصالح الأفراد وليس للدولة أن تتدخل للتأثير على المتغيرات الاقتصادية، لان هذا التدخل يعوق الآلية التلقائية (الذاتية) في تحقيق التوازن الاقتصادي والقضاء على المشكلات الاقتصادية مثل البطالة والتضخم. وتكتفي الدولة بوظائف الأمن والدفاع وحفظ النظام والقيام بالمشروعات التي يعجز الأفراد (القطاع الخاص) عن القيام بها. وبموجب مفهوم الحرية على هذا النحو، قام النظام الرأسمالي على الملكية الخاصة وحرية التعاقد والإنتاج والإستهلاك، واعتبار باعث الربح هو الأساس للنشاط الإنتاجي، فأصبحت عوامل العرض والطلب هي العوامل المؤثرة في العملية الإنتاجية(22).
ولكن سرعان ما اهتزت هذه المفاهيم التي قامت عليها المدرسة التقليدية (الكلاسيكية) في الفكر الاقتصادي الرأسمالي على أثر تفجر أزمة الكساد العالمي الكبير عام 1929م والتي مهدت لظهور المدرسة الكيترية بأفكارها الجديدة. وقد تعاملت هذه المدرسة مع الواقع الاقتصادي الذي أثبت عدم صحة الافتراضات التي قام عليها التحليل الكلاسيكي. فلم يتحقق التشغيل التام ولا التوازن الاقتصادي التلقائي فجاءت، نتيجة لذلك، السياسة الاقتصادية المتدخلة المقيدة للحرية الاقتصادية، من أجل تحقيق التشغيل التام لمعالجة الخلل الذي يتصل بالطلب الفعلي (الاستهلاكي والاستثماري) بإعادة توزيع الدخل القومي والتأثير على الادخار ومعالجة العوامل المرتبطة به من انفاق حكومي أو انفاق خاص، ومعالجة الضرائب بصورة تتوافق وظروف الوضع الاقتصادي المعين(23).
هذا هو مفهوم الحرية الاقتصادية في الفكر الرأسمالي. فهو إذًا يتعلق بحرية الأفراد في ممارسة نشاطهم الاقتصادي (الإنتاجي – الاستهلاكي – التوزيعي). فالحرية في الإنتاج تبدأ من حرية تملك وسائل الإنتاج، وحرية اختيار السلع المنتجة، وحرية اختيار العلاقة التمويلية وصيغتها التعاقدية، وحرية توقيت الإنتاج وتوزيعه وتسعيره. والحرية في الاستهلاك تتصل بحرية الحصول على الدخل الذي يمول به الإستهلاك، وحرية اختيار مصدر الدخل (نوع العمل) ومكانه ومستواه، وحرية تحديد نوع السلع المستهلكة وحجمها..الخ. فإذا ظل مفهوم الحرية في النظام الاقتصادي الرأسمالي متغيرًا، بحسب الفكر الذي يسود، فما هو الحال بالنسبة لها في النظام الاقتصادي الإسلامي؟.
الحرية مبدأ أصيل في الإسلام يبدأ من حرية التدين (لا إكراه في الدين)(24). فحرية اختيار الدين مبدأ أصيل، حيث قال ابن عباس عن هذه الآية: "نزلت هذه في الأنصار حين كانت المرأة التي لا يعيش لها الولد تقسم بأنه لو بقى حيًا، فإنها تهوده (تجعله يهوديًا). فلما أجلى الرسول صلى الله عليه وسلم بنو النضير عن المدينة، كان فيهم عدد من أبناء الأنصار فشق ذلك على الأنصار فقالوا: لا ندع أبناءنا مع اليهود. فأنزل الله تعالى: (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي)(25). فأعطاهم حرية اختيار الدين الذي يريدونه ونهى عن إكراه أحد للدخول في الدين.
ولكن بموجب حسم الخيارات واختيار الدين الخاتم، فيكون فهم الحرية على ضوء ما جاء في هذا الدين من أحكام تنظيم حياة الناس عامة والمتعلقة بالمنشط الاقتصادي خاصة. وبهذا فنحن نتحدث عن الحرية وفق القيود والضوابط الشرعية التي جاء بها الإسلام في صورة مبادئ وقواعد كلية (كالتي بين أيدينا الآن) أو أحكام تفصيلية تتعلق ببعض صوره التعامل الاقتصادي. فالأصل أن يباشر الأفراد نشاطهم الاقتصادي بحرية كاملة في الإطار الشرعي، دون تدخل من الدولة طالما كانوا مراعين للمبادئ العامة والأحكام التفصيلية المتعلقة بالتعامل الاقتصادي.
فالأصل مثلاً حرية التملك وفق مفهوم أن المال هو مال الله والانتفاع بهذا الملك حسب قوله تعالى: (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق)(26). والتعاقد في الملك في جميع صور التعاقدات، طالما التزم صاحبه بقوله تعالى: (وأحل الله البيع وحرم الربا)(27). والمتاجرة فيه على جميع الأحوال، مع مراعاة النهي عن الاحتكار لقوله صلى الله عليه وسلم: "من احتكر فهو خاطئ"(28). والمقام هنا ليس مقام تفصيل في الموضوع ولكنها إشارات إلى أن هناك أحكامًا تفصيلية بالحظر أو الإباحة، إن التزم بها الفرد في المجتمع المسلم، فإن الدولة لا تتدخل لتقييد حرية تصرفه في الأموال(29).(/4)
أما القواعد الكلية المقيدة، فهي تتصل برعاية الدولة للمصالح العامة وتحديد الخيارات عند تعارض المصالح (عامة أو خاصة) وتحقيق المبادئ الكلية التي دعت إليها الشريعة من عدل ومساواة وتكافل اجتماعي.. الخ، بموجب مسئوليتها الشرعية وقوامتها على أفراد المجتمع، فتتخذ من السياسات التدخلية المقيدة للحرية ما يضمن حفظ هذه المصالح(30). والسياسات المشار إليها، ترد على سبيل الاستثناء. فمتى ما كان المجتمع قائمًا بواجباته ومراعيًا للمصالح والمبادئ العامة، فلا تحتاج الدولة إلى التدخل. ومتى ما انحرف وضعف التزامه بها، تتدخل الدولة. وهذا التدخل يمكن أن يكون ابتداء بموجب الخطط التي تضعها الدول والسياسات الاقتصادية التي تتخذها من أجل إنفاذ هذه الخطط. فمتى ما ترجح للدولة أن هناك جملة من التدابير والإجراءات المتعلقة بالنشاط الاقتصادي، لازمة لحفظ مصالح المسلمين، وجب عليها ذلك. لأنها تصبح من باب ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
سادسًا: مبدأ الاستفادة من الإرث الحضاري للأمم السابقة:
وأعني بذلك أن أعراف المجتمعات وما استقر عليه تظامهم الاجتماعي وعاداتهم، مما لا يخالف الشرع، هو أمر معتبر عند الفقهاء يرتبون عليه أحكامهم ويربطون به فتواهم. ولهذا جاء تعريف العرف عندهم بأنه: ما استقر في النفوس من جهة العقول وتلقته الطباع السليمة بالقبول وهو شامل لما عرفته النفوس وألفته، سواء أكان قولاً أو فعلاً ولم ينكره اصحاب الذوق السليم. ويحصل الاستقرار في النفوس والقبول للطباع بالاستعمال المتكرر الصادر عن الفعل والرغبة(31). ويرادف هذا المعنى (العادة) التي شرحت بأنها: عبارة عما يستقر في النفوس من الأمور المتكررة المقبولة عند الطباع السليمة. وعلى ضوء ذلك جاءت قاعدة (العادة محكمة)، بل وتفرعت عنها قاعدة (المعروف كالمشروط)(32). أي أن ما تعارف عليه الناس في تعاملهم واستقر بينهم كشيء لازم في التعامل، يصبح كالشرط اللازم المتصل بنفاذ هذه المعاملات، بحيث لا يتخلف عنها. وعندما يختلف طرفي العقد (مثلا) يحكم بما هو متعارف عليه.
والعرف والعادة المعتبران يشملان كل ما تعارف عليه الناس واعتادوا عليه في النواحي الاجتماعية والاقتصادية. وبالتالي فهما يفسران الظواهر الاجتماعية والاقتصادية ومقيدان للأحكام المتعلقة بهما. لأن كثيرًا من أعمال الناس وأقوالهم ومعاملاتهم وشئون حياتهم، تقوم على ما اعتادوا وتعارفوا عليه. فلابد من النظر إلى هذا المألوف المتعارف، حين استخراج الحكم الشرعي واستنباطه للمسائل المستحدثة أو المشكلات الناشئة بين الناس. وفهم أعراف الناس يساعد في الاجتهاد ويعين المجتهد على تفهم الواقع وتطبيق الحكم الشرعي المناسب عليه(33).
وهكذا تصبح الموضوعات الاقتصادية وما يتعلق بها من صياغة نظرية أو تحليل ودراسة للمتغيرات وأثرها الاقتصادي، مرتبط بالعرف والعادة ويؤثران عليهما. فمثلاً، عند الحديث عن النظريات النقدية وكيفية بنائها وصياغتها والتعرف على متعلقاتها، فلا نستطيع أن نفصل بين الأساس الفكري الذي يحكمها والعرف والعادة الجارية فيهما. فعرض النقود – على سبيل المثال – يرتبط بسرعة تداولها في المجمتع، وسرعة التداول ترتبط بكيفية استخدام الأفراد للدخول التي يحصلون عليها، والتصرف في الدخل يرتبط بالعرف والعادة.
كما أن كل ذلك يرتبط بالعرف والعادة.
كما أن كل ذلك يرتبط بمفاهيم النهي عن الاكتناز والحث على الإنفاق والتوسط فيه وشرعية طرق الكسب كأسس فكرية تحكم هذا الجانب. وهكذا يحدث الربط بين الأساس الفكري والعادة والعرف في صياغة وبناء النظرية. وتحقيق التكافل في المجتمع وبناء المؤسسات التي ترعاه لا تتأثر فقط بالنصوص التي توجب ذلك على الحاكم وأفراد المجتمع، وإنما ترتبط بأعراف وعادات الناس في تحقيق التكافل. فكلما كانت الأعراف غنية بالمعاني التكافلية وإحالتها لسلوك معاش مستقر في النفوس، دون بناء فوقي يرعاه ويشرف عليه، يتقلص البناء المؤسسي الحكومي وتترك للمجتمع تلقائيته في رعاية هذا المعنى. ومثال ذلك ما درج عليه السودانيون من تعميق لمعاني التكافل في مختلف المناسبات (الأفراح والأحزان) من تقديم المساعدات النقدية والعينية، دون إلزام من قبل ديوان مؤسسي أو بقرار حكومي. وبموجب هذا العرف الذي استقر عليه العمل في هذا الشأن، لابد للحكومة وهي تفكر في إيجاد البناء المؤسسي الذي يقوم برعاية التكافل، أن تستصحب هذا العرف والعادة. لأن التلقائية القائمة فيهما كافية لمقابلة نفقات هذا الجانب. ولكن هذا لا يمنع أن تكمل الدولة هذا الجانب بأي تدابير خاصة بها، ودون تأثير على ما هو قائم ومتعارف عليه. وهكذا يتضح أثر العرف على الظواهر الاقتصادية بمتغيراتها المختلفة وبنائها النظري والمؤسسي.
سابعًا: مبدأ الرشد الاقتصادي (رعاية المصالح):(/5)
وأعني بهذا المبدأ أنّ هناك جملة من المواجهات التي تضبط حركة الدولة والمجتمع والأفراد فتحقق الرشد الاقتصادي في ما يتعلق باستخدام الموارد الاقتصادية. لأن الشريعة الإسلامية قامت في مجموعها لتحقيق مصالح العباد في العاجل والآجل(34)، تناسقًا مع الخطاب الرباني للرسول صلى الله عليه وسلم، حيث يقول الله سبحانه وتعالى: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)(35).
وخوطب الفرد كذلك وأمر بأن يتوسط في الإنفاق وألا يسرف وألا يبذر، حيث يقول المولى عز وجل: (وكلو واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين)(36). ووصف المؤمنين بقوله: (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بن ذلك قواما)(37). وبقوله أيضًا: (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملومًا محسورًا)(38). وبقوله كذلك: (ولا تبذر تبذيرًا، إن المبذرين كانوا اخوان الشياطين)(39). وفي شأن المجتمع فقد خوطب المؤمنين مجتمعين بقوله تعالى: (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قيامًا)(40). ويعلق المؤسسي على كلمة أموالكم بقوله: "فإن الأموال جعلت مشتركة بين الخلق تنتقل من يد إلى يد ومن ملك إلى ملك. أي هي لهم إذا احتاجوها كأموالكم التي تفي أغراضكم وتصونكم وتعظم أقداركم وبها قوام أمركم"(41). ولهذا نهى الله المسلمين عن إيتاء السفهاء الأموال، حيث عرف السفه بأنه سوء استخدام المال. لأن السفيه هو كل من يستحق الحجر عليه ويمنع من التصرف في ماله(42). فهذه الأموال هي لصلاح الأمة والقيام بحاجاتها.
وفي شأن الدولة قوله تعالى: (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها)(43). قال القرطبي عن هذه الآية: "إنها من أمهات الأحكام التي تضمنت جميع الدين والشرع.. وقال إن المخاطب بها هم ولاة المسلمين. كما قال أيضًا أن الأظهر فيها أنها عامة في جميع الناس. فهي تتناول الولاة فيما يليهم من الأمانات في قسمة الأموال ورد الظلامات والعدل في الحكومات"(44). ومن هذا يتضح أن جملة النصوص الإسلامية تقتضي رشدًا في التصرف في الأموال، لأنها أموال عامة المسلمين وبضياعها تضيع مصالح المسلمين. وهكذا يتضح أثرها في التحليل الاقتصادي في البناء النظري لسلوك الظواهر الاقتصادية والمتغيرات المؤثرة فيها. وهذا لا يعنى أن هذا المبدأ مطرد في كل زمان ومكان فربما يظهر مجتمع مسلمين لا يلتزم بمبدأ الرشد، وذلك يقتضي تدخلاً من الدولة لحفظ التوازن ورد الأمر إلى نصابه. ولكن هذا سلوك استثنائي لا يعتبر أصلاً في البناء النظري والتحليل الاقتصادي السليم للظواهر الاقتصادية.
وبهذا نصل إلى نهاية المبحث الذي عقدناه للحديث عن بعض المبادئ التي يقوم ويرتكز عليها النموذج الاقتصادي الإسلامي، وبالتالي تؤثر في بنائه النظري والمؤسسي وفي علاقاته وحركة المتغيرات الاقتصادية فيه.
المبحث الثاني
ملامح البنيان المؤسسي في النموذج الاقتصادي الإسلامي
مدخل:
ينصرف معنى البنيان المؤسسي إلى الكيفية التي يعبر بها المجتمع عن المبادئ والقيم والمعتقدات والأفكار السائدة فيه. لأن هذه المبادئ والقيم والمعتقدات تجيء أساسًا لتنظيم حياة الناس وتحقق مصالحهم وصياغة العلاقات بينهم. ولإنفاذ هذه الأشياء، يقوم المجتمع ببناء مؤسسات تعمل على إحالة هذه المبادئ والقيم والمعتقدات إلى واقع عملي يلزم به الأفراد. فمثلاً، في إطار القيم التي تحكم العلاقة بين المرأة والرجل وكيفية حفظ النوع، قامت مؤسسة الأسرة لترعى وتحقق هذه القيم والمصالح. ولإنفاذ المبادئ التي تحكم الاستثمار المشترك للأموال وتحدد العلاقات بين المشتركين، قامت الشراكة كتعبير مؤسسي عما ارتضاه واعتقده المجتمع في هذا الشأن. وداخل إطار المبادئ الحاكمة لاستثمار الأموال المشتركة، يتعدد الشكل المؤسسي للشركة فتظهر شركات المضاربة وشركات العنان وخلافها.
وفي هذا المبحث سنحاول بيان أثر المبادئ التي أوضحناها في المبحث الأول من هذه الدراسة على البنيان المؤسسي في الاقتصاد الإسلامي، وذلك لمعرفة هل هو مثل البنيان المؤسسي القائم حاليًا في السودان، أم أن هنالك بنيانًا مؤسسيًا متميزًا في النموذج الاقتصادي الإسلامي يختلف شكلاً ومضمونًا عما هو قائم؟.
أولاً: أثر الفكر الرأسمالي والاشتراكي على البنيان المؤسسي:
الناظر في البناء المؤسسي القائم حاليًا في السودان في المجال الاقتصادي يلاحظ عليه أنه بناء مؤسسي موروث عن الفكر الرأسمالي والاشتراكي، أجريت عليه بعض التعديلات والترقيعات لإزالة التشوهات والانحرافات المخالفة للمبادئ والمعتقدات الإسلامية. أي أن البناء المؤسسي ابتداء لا يعبر عن وجهة النظر الإسلامية ولم يقم على مبادئها وقيمها، وإنما يعبر عن فكر وثقافات أخرى.(/6)
وإذا وقفنا على الدولة التي تمثل قمة الهرم المؤسسي (في المجال الاقتصادي)، نجد أن دورها في الاقتصاد السوداني مر بمراحل متنوعة يتمدد وينكمش، بحسب الفكر الغالب والحاكم للشأن السياسي(45). فعندما كانت المدرسة الرأسمالية هي الغالبة، بعد خروج المستعمر وحصول البلاد على استقلالها، سادت مبادئ الحرية الاقتصادية واصبح تعظيم الأرباح هو الدافع لحركة النشاط الاقتصادي وحركة الموارد الاقتصادية فيه. واستجابة لذلك، توسع القطاع الخاص وتعاظم دور مؤسساته في المجالين الإنتاجي والخدمي. وكانت الدولة تكتفي بمراجعة النشاط الاقتصادي واتخاذ السياسات التي تحقق استقلالية القطاع الخاص وفق الرؤى القومية(45).
ولكن بعد وقوع الدولة تحت قبضة الفكر الاشتراكي في عام 1969م، بدأ ينتعش فكر المدرسة الاشتراكية وبدأت المؤسسات التي تعبر عن ذلك في الظهور. حيث بدأت الدولة سياسات التأميم والمصادرة للمشروعات الخاصة، تأكيدًا لما تعتقد فيه من ملكية الدولة لوسائل الإنتاج. وهكذا توسع القطاع العام في المجالات الإنتاجية والتوزيعية والخدمية كتعبير عن هذا الفكر. وبموجب ذلك، تقلص دور القطاع الخاص وأصبحت المبادرة الاقتصادية بيد الدولة وشاع العمل بسياسات التقييد والتحكم في النشاط الاقتصادي(46) وظهرت المؤسسات التي ترعى ذلك وتطبقه. فتوسعت إدارة الرخص بوزارة التجارة وأصبحت سياسة الحصص الكمية هي الأصل في التجارة الخارجية. وتوسعت كذلك إدارة الهيئات والمؤسسات بوزارة المالية، لتتمكن من رعاية المؤسسات التي تحولت ملكيتها للدولة بعد سياسات التأميم والمصادرة.
وإذا انتقلنا إلى النظام المصرفي، نجد أن بنك السودان قام بناؤه المؤسسي – بعد الاستقلال – على الفكر الذي يجعل الفائدة هي عائد رأس المال والربح هو عائد المنظم. وبالتالي قامت آلية البنك المركزي الرقابية وبناؤه التنظيمي على أساس أن سعر الفائدة (الربا) هو المحرك للنشاط الاقتصادي(47). وعلى ضوء ذلك، تأسست قاعدة الجهاز المصرفي (التجاري والمتخصص) كمؤسسات وساطة مالية تعمل على استقطاب المدخرات، بما تدفعه لها من فائدة. ثم تعيد استخدامها في تمويل الاستثمارات بسعر أعلى لتحقق ربحًا هو الفرق بين السعرين.
وقامت قاعدة الجهاز المصرفي في صورة شركات مساهمة تسعى لتعظيم أرباح المساهمين فيها كسمة لازمة للاقتصاديات الرأسمالية والتي ترتكز على مبدأ الحرية الاقتصادية(48). وبموجب القبول الذي أضفته القوانين على ما يصدر منها من التزامات اكتسبت هذه المؤسسات (المصارف) سمعة تجارية جيدة وأصبحت ذات ملاءة مالية وسيولة عالية، بسبب الودائع التي تتقبلها. ومع مرور الوقت، بدأت هذه المؤسسات في التوسع في التعامل المالي (اقتراضًا وإقراضًا) بما يفوق قدرتها المالية الحقيقية، لتأكدها – من خلال خبرتها – أن ليس كل ما يودع من ودائع يتم سحبه كله(48). وهكذا تعارف الجهاز المصرفي (قامة وقاعدة) على أسلوب السحب على المكشوف، بدوافع تعظيم الربح عند المصارف التجارية، وبدوافع حشد المدخرات عند البنك المركزي والدولة، باعتبارها قيم ومبادئ يستهدفها النظام المصرفي.
وبموجب وظيفة الوساطة المالية التي هي السمة الأساسية للنظام المصرفي(49) (كبناء مؤسسي يعبر عن الفكر الرأسمالي)، لم تعرف معظم المصارف في الاقتصاد الرأسمالي الاستثمار المباشر، ولم تقم في هياكلها التنظيمية إدارات للاستثمار، باعتبار أنها مؤسسات مالية
وظيفتها الأساسية المتاجرة في الديون (إقراضًا واقتراضًا)(50).
وتمشيًا مع مقتضيات الفكر الرأسمالي، نجد أن البنك المركزي في السودان، قبل إجازة قوانين الشريعة الإسلامية في السودان عام 1983، ظل متأثرًا في بنائه التنظيمي وفي أدوات سياسته النقدية بآلية سعر الفائدة. فأصبح هو المقرض الأخير للمصارف مباشرة أو بالسحب على المكشوف، حاصلاً بذلك على فوائد مقابل هذه الخدمة. كما يقدم ذات الخدمة عبر عمليات إعادة الخصم التي تتم بينه وبين المصارف التجارية. فوق ذلك، تستهدف سياسة السوق المفتوحة أيضًا التأثير على سعر الفائدة(51). وهكذا قام البناء المؤسسي والأداء الوظيفي على ما جاء به الفكر الراسمالي في شأن إدارة النقود في النشاط الاقتصادي.(/7)
ولمعالجة عيوب النظام المصرفي الذي يتوسع في استخدام الودائع وما ينجم عنه من مخاطر للمودعين، ابتدع الفكر الرأسمالي بناءً مؤسسيًا خصيصًا لذلك يحمل اسم مؤسسة ضمان الودائع. فهذه المؤسسة – وإن كانت تحقق الأمن للمودعين وتكفل لهم قدرًا من الطمأنينة – إلا أنها تعكس جليًا المخاطر الناجمة عن سياسة الحرية الاقتصادية وتعظيم الأرباح التي تحكم عمل الجهاز المصرفي في ظل النظام الرأسمالي. ويظهر ذات الأثر للفكر الرأسمالي في البناء المؤسسي المعروف (بشركات التأمين)، حيث أصبح التكافل والتضامن الاجتماعي ودرء المخاطر التي قد يتعرض لها بعض العاملين في المجال الاقتصادي، خدمة تقدم لمن يشتريها فقط. بل وأصبح عملاً تجاريًا يسعى لتحقيق الربح لمالكي هذه الشركات، حيث تم المقابلة بين الأقساط المدفوعة للشركة والمخاطر التي تتحملها. فتحرص الشركة دائمًا على رفع قيمة الأقساط وتقليل قيمة المخاطر المدفوعة، ليكون هناك فائضًا ماليًا يغطي المصروفات الإدارية ويحقق ربحًا للشركة. ويرجع ذلك لسيادة التعامل المادي وإلغاء الدول الإنساني في التودد والتراحم والتعاون، تمشيًا مع الفكر الرأسمالي الذي يستبعد تأثير القيم على الظواهر الاقتصادية.
ثانيًا: الهيكل العام للبناء المؤسسي في النموذج الاقتصادي الإسلامي:
تتحدد المكونات الأساسية للبنيان المؤسسي من واقع المبادئ والقيم والمعتقدات التي تحكم النموذج، فتؤثر على التسلسل الهرمي للبناء المؤسسي وتوضح العلاقات فيه كما تحدد الآليات والسياسات التي يستخدمها البنيان المؤسسي. وقد وضح لنا جليًا ارتباط البناء المؤسسي في الفكر الرأسمالي، بما فيه من مبادئ وقيم ومعتقدات. وسنوضح الهيكل العام للبنيان المؤسسي في النموذج الاقتصادي الإسلامي على النحو الآتي:
1- وضع الدولة في البنيان المؤسسي:
علمنا أن دور الدولة في النشاط الاقتصادي في الفكرين الرأسمالي والاشتراكي كان نتاجًا لما يسود فيهما من قيم ومعتقدات ومبادئ. فإذا كان الأمر هنالك كذلك، فهل للدولة أي وظائف اقتصادية في النموذج الاقتصادي الإسلامي؟
الإجابة على هذا السؤال تبدأ بالقول إن الوظائف الاقتصادية للدولة تنطلق من وتعتمد على مبدأ تحقيق معنى العبودية لله تعالى، حيث الحاكم هو الراعي والمسئول عن الرعية يسوقها نحو عبادة الله في كل شأن من شئونها الاقتصادية والسياسية وخلافها، ليضمن تناسق حركتها مع التكاليف الشرعية. فالاقتصاد بهذا لا يكون علمًا يهتم بما ينبغي أن يكون فقط، لأنه علم يتصل بدراسة إشباع الحاجات غير المتناهية بواسطة الموارد الاقتصادية النادرة وحاجات الإنسان كمًا ونوعًا واستخدامًا. وكذلك الموارد الاقتصادية هي محل للخطاب الشرعي، بل هي ضمن المقاصد الشرعية الضرورية التي أمر بحفظها ورعايتها ودفع الفساد الواقع عليها(52). والمأمور هنا بتحقيق معاني الحفظ والرعاية ودفع الفساد هو الحاكم عبر آلياته المختلفة، حيث يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته". وبالتالي تصبح قوامة الدولة على النشاط الاقتصادي، وفق الأحكام الشرعية، مبدأ أصيل. وهذا الدور الأساسي للدولة في النشاط الاقتصادي لا ينبنى على هذا المبدأ فحسب، وإنما نستخلصه من حملة المبادئ التي أوردناها في مستهل هذا البحث.
فنجد أن مبدأ الاستخلاف يحدد وضعًا معينًا للدولة في النشاط الاقتصادي، مما يقضى أن يكون لها ذراع مؤسسي لمراقبة استخدام الأموال (الموارد الاقتصادية)، المملوكة وفق مفهوم أنّ أصل المال مملوك لله تعالى، وأن الناس مستخلفون فيه. وذلك يقتضي أن يتصرف الذين بحوزتهم الأموال وفق توجهات المستخلف؛ وعليه، فلابد من آلية مؤسسية تحفظ الحقوق الواجبة في الأموال تجاه المجتمع وتجاه الفقراء فيه. فتقوم، مثلاً، مؤسسة تعمل على تحقيق قيم التكافل والتعاون تحت رعاية الدولة، لأن التكافل الاجتماعي وإشباع حاجات المحتاجين واجب أصيل من واجبات الدولة ومتعلق بالمال العام ومال الأفراد(53). وبالتالي لابد من من مؤسسة للزكاة تقوم بجبايتها وتوزيعها، وإن لم تكف (أي الزكاة)، وجب أن تكمل بمؤسسات أخرى.
ومفهوم الاستخلاف الذي يفيد تعلق حقوق الآخرين بالمال، يعطي الدولة حق ترتيب مساهمات مالية تقتطع من هذا المال لصالح إشباع الحاجة العامة أيًا كان نوعها، طالما تعلقت بها مصالح المسلمين. يقول الإمام القرطبي: "وافق العلماء أنه إذا نزلت بالمسلمين حاجة بعد أداء الزكاة، فإنه يجب صرف المال إليها". وفي ذات المعنى قال الإمام مالك: "يجب على الناس فداء أسراهم، وإن استغرق ذلك أموالهم. وهذا إجماع أيضًا". وقد مثل الإمام مالك لحاجات المسلمين هنا بفداء الأسرى والقيام بمثل هذه الواجبات العامة، يقتضي بناءًا مؤسسيًا يضطلع بمهمة جباية الأموال. وقد تعارف الاقتصاديون على إسناد هذه المهمة لديوان الضرائب.(/8)
ومبدأيي الحلال والحرام، والحرية الاقتصادية المقيدة اللذان تمت الإشارة إليهما، يستدعيان أيضًا بناءًا مؤسسيًا رقابيًا على النشاط الاقتصادي، يضمن التزام الجميع بالعمل وفق دائرة الطيبات والابتعاد عن دائرة الخبائث، استجابة لقوله تعالى: (إن الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث)(54). وللعناية بهذا التكليف، قامت في السابق مؤسسة الحسبة التي تراقب حركة النشاط الاقتصادي لتراقب التزام الأفراد بتطبيق التوجيهات الشرعية والمبادئ الأخلاقية الإسلامية في معاملات السوق(55). وهذا لا يعني إقامة البناء المؤسسي وإنما إيجاد مؤسسة تستوعب الأهداف المطلوبة، أيًا كان مسماها، لأن العبرة بالمعاني لا بالألفاظ والمباني.
وهكذا نجد أن هناك جملة من المواجهات التي تحكم العمل الاقتصادي، وبالتالي تؤثر على بنائه المؤسسي. فمثلاً، نجد أن تحريم الربا (الفائدة) يؤكد قاعدة أن النقود لا تلد نقودًا، وأنه للحصول على عائد (ربح)، لابد من المشاركة في المخاطر، تأسيسًا على ذلك، يقوم البناء المؤسسي – في علاقات استخدام الموارد الاقتصادية اقتراضًا أو بيعًا أو شراءًا أو استثمارًا مباشرًا – على المشاركة في تحمل المخاطر. وهذا يعني أن القوانين التي تحكم هذا العمل، لابد أن تراعي ذلك في العمل العام والخاص.
هذا، ونجد أن الأمر بالعدل وإقامة الوزن بالقسط، يقتضي من الدولة أن تنشئ البناء المؤسسي الذي يدير حركة النقود في المجتمع، بما يضمن حفظ الحقوق. فقد ورد أنه: "ينبغي للسلطان أن يضرب لهم – أي للرعايا – فلوسًا تكون مقيمة العدل في معاملاتهم، من غير ظلم لهم تسهيلاً عليهم وتيسيرًا لمعاشهم"(56). وذكر ابن خلدون: "إن السكة، وهي النظر في النقود المتعامل بها بين الناس وحفظها مما يداخلها من الغش أو النقص، هي وظيفة دينية تندرج تحت الخلافة"(57). وهكذا عد الفقهاء وظيفة إصدار النقود وما يستدعيها من بناء مؤسسي، أحد الوظائف التي تقوم بها الدولة(58).
وبناء على مبدأيي رعاية المصالح وتحقيق الرشد الاقتصادي، استئناسًا بمبدأ الاستخلاف، قد تقضي بعض الظروف قيام الدولة ببعض الأنشطة التي تصنف ضمن عمل القطاع الخاص، كأن تحتكر إنتاج وتوزيع بعض الخدمات والسلع. وهذا يتصل بمبدأ المرونة وملاءمة الشريعة لكل زمان ومكان. وفي مثل هذا الحال، لابد من وجود البناء المؤسسي الذي يرعى ويباشر هذا النشاط وتتوسع مثل هذه المؤسسة وتنكمش، حسب الظرف الزماني والمكاني، ووفق المصلحة التي يقدرها أهل الاختصاص. وتقتضي كذلك مبادئ الاستخلاف وتحقيق الرشد الاقتصادي ورعاية مصالح الأمة، اهتمام الدولة بتنمية الموارد الاقتصادية وإيجاد المؤسسات التي تعمل على استقطاب المدخرات وتوجيهها، حسب الأولويات والمؤسسات التي تضمن لها المرونة في التنقل بين مجالات الاستثمار المختلفة، وكذلك المؤسسات التي تعمل على تقبل المخاطر الاستثمارية. وهذه المؤسسات أيضًا تتمدد، كلما انتشرت مفاهيم الاكتناز والبطالة في مجتمع المسلمين.
ونختم حديثنا عن البناء المؤسسي في النموذج الإسلامي بالإجابة على السؤال عن مدى الحاجة لسوق أوراق مالية في النموذج الإسلامي. فكما هو معلوم، أن سوق الأوراق المالية في النظام الرأسمالي يستهدف أمرين: أولهما، تنفيذ السياسة النقدية التي تتخذها الدولة عبر ما يعرف بسياسة السوق المفتوحة التي يتم بموجبها بيع وشراء الأوراق المالية بهدف التأثير على سعر الفائدة بالزيادة أو النقصان. وبذلك تصبح سياسات السوق المفتوحة مؤشرًا لسياسات الدولة انكماشية كانت أم توسعية(59). ثانيهما، تستهدف سوق الأوراق المالية تسويق وتبادل الإصدارات الجديدة من الأسهم والسندات، بهدف استقطاب المدخرات وتوجيهها نحو النشاط الاقتصادي. وبتحريم الربا في الإسلام ينتفي دور سوق الأوراق المالية كمكان لإنفاذ السياسات المتصلة بتغيير سعر الفائدة، ويبقى أمامها مجال واحد هو تسويق وترويج الأسهم الجديدة، أو تسهيل عمليات تبادل الأسهم القديمة وتمكين مالكي الأسهم من تسييل رؤوس أموالهم التي تكون في سوق الأسهم. وهذا بدوره يعتمد على الربحية المتحققه من الشركات القائمة، كما يعتمد على الربحية المتوقعة للشركات الجديدة. وهذا الدور يمكن أن يتوسع في النموذج الاقتصادي الإسلامي، باعتبار أن الاستثمار المباشر للأموال (الفردي والجماعي عبر الشركات) هو الأصل، مضافًا إليه حرص الفرد المسلم على تشغيل أمواله، التزامًا بالتوجهات التي ذكرناها. وسوق الأوراق المالية بما يقدمه من بدائل استثمارية متعددة يساعد في اتخاذ القرار الملائم فيما يتعلق بتشغيل المدخرات المملوكة للأفراد والمؤسسات.
2- ملامح مؤسسات المجتمع الاقتصادية في النموذج الإسلامي:(/9)
نحن ندرك أن تحقيق معنى العبودية لله تعالى يقتضي تعميق نوازع الفضيلة في نفوس أفراد المجتمع وغرس حب الآخرين فيهم. يقول الله سبحانه وتعالى: (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون)(60). ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)(61). وينجم عن مبدأ الاستخلاف ويتصل به كذلك، حث الأفراد على الإنفاق في وجوه البر المختلفة، تحريرًا للأنفس من الشح وقيامًا بحاجات الآخرين. وهذا السلوك المجتمعي يمثل الإنفاق الاختياري التطوعي الذي يقابل الإنفاق الإجباري المتمثل في الزكاة، والذي ترعاه وتنظمة الدولة.
وتمثل الأوقاف البناء المؤسسي للإنفاق التطوعي المستمر المتجدد النامي. وتتوسع مجالات هذه المؤسسات، كلما ارتفعت درجات الإيمان في نفوس افراد المجتمع وتحرروا عن البخل وأشاعوا معاني التعاون والتكافل والتراحم في مجتمعهم. وهكذا نجد أن مؤسسات التكافل الخيري التطوعي والوقفي، تكون بديلاً لشركات التأمين التجاري، التي تعمل على تعويض الأفراد عن الأضرار التي قد تلحق بهم. فمجتمع المسلمين ينبغي أن يكون كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر. وتقوم مؤسسات الأوقاف التي ترعى العجزة والمسنين واللقطاء والمشردين، بديلاً لمؤسسات الضمان الاجتماعي التي ترعاها الدولة وتشرف عليها في النظام الرأسمالي، تحقيقًا لمعاني الأسرة والتزامًا بتوجيهات البر وصلة الرحم، حيث لا نجد في مجتمعات المسلمين أبنًا يأخذ والده المسن أو العاجز إلى دار العجزة والمسنين، وإن وجد منهم من ليس له عائل وكافل، فإن المحسنين في المجتمع يقومون بذلك، عبر أموالهم الموقوفة لمقابلة مثل هذه النفقات.
كما أن طبيعة المبادئ التي تربط بين أفراد المجتمع، تجعلهم لا يفكرون في تقديم خدمة الضمان الاجتماعي وجبر الأضرار التي تلحق بأفراد المجتمع، وفق المقابل المادي، إنما تقدم بواسطة المجتمع وفق عنصر الحاجة الهرمي، استجابة للتوجيهات التي غرسها الإسلام في نفوس افراد المجتمع. فمثلاً نجد أن الشريعة الإسلامية جعلت العائلة هي التي تتحمل عن صاحب الجناية قيمة الدية في حالة القتل الخطأ(62)، حيث لا يتحملها الجاني لمفرده إنما توزع على عائلته ويساهم كل منهم بقدر استطاعته. كما جعلت المسؤولية عن سد حاجات فقراء كل منطقة هي مسؤولية تضامنية تجاه أغنيائها، حيث يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "ليس بمؤمن من بات شبعان وجاره إلى جنبه جائع"(63).
وهكذا يتسع البناء المؤسسي التلقائي في المجتمع ليقابل هذه الأنشطة وينحسر، تبعًا لذلك البناء المؤسسي الرسمي أو البناء المؤسسي التجاري، الذي يبيع مثل هذه الخدمات للقادرين على شرائها. فالمجتمع عندما يهتم بمثل هذه الأنشطة ويخلق البناء المؤسسي الذي يرعاها وينفذها ينطلق، من المبادئ التي أشرنا الهرمي التي تجعل من هذه الأنشطة واجبات شرعية واجبة النفاذ، إن لم يقم بها المجتمع أثم أفراده وظلموا.
3- مؤسسات القطاع الخاص (الأهلي) في النموذج الإسلامي:
تشترك جملة المبادئ التي أشرنا إلى بعضها في مستهل هذا البحث في تكوين البنيان المؤسسي الذي يعبر عن النشاط الاقتصادي الخاص (أفراد وجماعات)، حيث نجد أن تحقيق معنى العبودية لله وما يستلزمه من اعمار للأرض استجابة لقوله تعالى: (هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها)(64). ولتحقيق معنى الحرية الاقتصادية في الإطار الشرعي، فإن المبادئ الاقتصادية تصبح في يد القطاع الخاص (افرادًا وجماعات)، وبالتالي تتوسع مؤسسات القطاع الخاص في مختلف المجالات الاقتصادية ولا تتدخل الدولة، إلا عند حدوث تجاوز للحدود الشرعية.
كما تعمل مبادئ الحلال والحرام وما يرتبط بها من توجيهات مثل تحريم الربا (الفائدة) والاستعاضة بدلاً عنه بصيغة المشاركة في تحمل المخاطر على تحديد شكل وصورة استخدام الموارد الاقتصادية، حيث تتأكد مبادرة القطاع الخاص في العملية الاستثمارية، وبذلك يصبح العمل الفردي المباشر والاستثمار الجماعي عبر الشركات والشراكات هو الأصل في تشغيل الموارد الاقتصادية.(/10)
وبذلك يمكن أن نقول إن مؤسسات الوساطة المالية – مثل المصارف بالمفهوم الرأسمالي وشركات توظيف المال وشركات التأمين – يضعف دروها في النموذج الإسلامي. لأن الفلسفة التي قامت عليها هذه المؤسسات هي أن هناك أموالاً مدخرة ينبغي أن تستقطب وتحشد بواسطة مؤسسات الوساطة المالية، عبر ما تدفعه من فوائد ربوية ثابتة، دون تحمل صاحب المدخرات لأي مخاطر في العملية الاستثمارية. ثم تعمل هذه المؤسسات على استخدام هذه الموارد وأيضًا بموجب فوائد ربوية، دون تحملها لأي مخاطر. لأن تحمل المخاطر يخالف الفلسفة التي قامت عليها النظرية، في هذا الصدد، ويخل بحقوق طرفي المعادلة (المودع الذي يحصل على الفائدة والمصرف الذي يستخدم الوديعة). وربما يقول قائل هنا إن هذه المعادلة قائمة الآن عبر صيغة المضاربة التي تحكم علاقة أرباب المال بالمصارف التجارية (الإسلامية)، مما يجعل منها مؤسسات وساطة مالية. وعلى ذلك أرد بالنقاط التالية:
o إن تقنين علاقة المودع بالمصرف التجاري على أساس أنها عقد مضاربة، جاءت كمنهج ترقيعي للنظام المصرفي الرأسمالي القائم ليصبح إسلاميًا، حيث لا سبيل لتنظيم هذه العلاقة القائمة أصلاً، إلاّ عبر عقد المضاربة الذي يعطي المصرف حق استخدام الوديعة. ولكن في ظل شروط وقيود تضعف من مرونة المصارف التجارية في استخدام هذه الودائع. كما أن المصرف، بالمفهوم الرأسمالي، لا يقوم بعمليات الاستثمار المباشر. لهذا دار جدل، في بداية نشأة المصارف الإسلامية، حول مدى انطباق تعريف المصرف عليها. بل وذهب آخرون إلى وصفها بأنها عبارة عن مصارف أعمال. وتأكيدًا لهذا الأمر، نشير إلى المصاعب التي قابلت بنك البركة الإسلامي في بادئ الأمر، عندما شرع في تسجيل فرع له بالمملكة المتحدة. وهذه الملابسات تستدعي أن نقف وقفة عند هذا الموضوع حيث نسأل السؤال الهام، هل الأصل في استقطاب الموارد الاقتصادية وتشغيلها في النموذج الإسلامي هو الجهاز المصرفي، أم الشركات الاستثمارية الخاصة والعامة؟
o هذا الأمر ذو صلة وثيقة بمفهومي الادخار والاستثمار في النموذج الإسلامي، حيث نلاحظ أن هناك جملة من النصوص والتوجيهات الشرعية، التي تجعل الموارد الاقتصادية في حالة تشغيل تام. فالشريعة نهت عن الاكتناز، وهو في أحد تعريفاته حبس المال عن دورة الإنتاج. كما نهت عن إضاعة المال، ومن صوره إضاعة المال بحبسه عن الاستثمار. بل وأمرت الشريعة بتشغيل الأموال واستثمارها، حتى لا تتأثر بالزكاة التي تؤخذ عنها سنويًا. وجملة التوجيهات هذه تدفع تلقائيًا بالمدخرات نحو النشاط الإنتاجي. وبالتالي تكون الفجوة بين الادخار والاستثمار ضعيفة، إن لم تكن معدومة تمامًا. ولا شك أن تحقيق هذه الوضع، يضعف من دور مؤسسات الوساطة المالية ويقوي من دور مؤسسات الاستثمار المباشر للأموال. ولابد لنا أن نشير هنا إلى أن مؤسسات الوساطة المالية ستخفض من عائد رأس المال، فهي بتلقيها الودائع الاستثمارية تكون مضاربًا أمام مالكي الودائع (أرباب المال). وبالتالي تشاركهم في عائد المضاربة، حسب الاتفاق. ولكنها، في ذات الوقت تستثمر هذه الأموال بواسطة الآخرين وفق عقد المضاربة لتصبح رب المال. والمستخدم الجديد للمال هو أيضًا مضارب، وله نصيب في عائد مال المضاربة. فالمصارف بواسطتها على هذا النحو، تحول دون اللقاء المباشر بين الطرفين (رب المال والمضارب) والذي يعتبر أصيلاً في عقد المضاربة. يضاف إلى ذلك، أن مشاركتها للآخرين في العائد تقلل من نصيب رب المال الأصلي. وبذلك يكون أثرها سالبًا على الحافز على تشغيل الأموال وتجعل الأفراد يفضلون التعامل المباشر مع المضاربين. أو تضطر المصارف إلى رفع نصيبها في عائد المضاربة لتحسن من نصيب رب المال الأساسي، فترفع بذلك تكلفة التمويل. وغير خافٍ على الكل الأثر السلبي لارتفاع تكلفة التمويل على الأسعار بصفة خاصة، وعلى مستويات التشغيل، بصفة عامة.
o خلاصة النقاش السابق تقوي من الرأي القائل بأن دور مؤسسات الوساطة المالية ضعيف في النموذج الإسلامي، وأن دور مؤسسات الاستثمار المباشر أوسع وأكبر. كما أن شيوع معاني التكافل والتعاون في المجتمع ووجود مؤسسات مجتمعية ترعاها تلقائيًا، يضعف من مبادرة القطاع الخاص للتعبير مؤسسيًا عن تقديم خدمة التعاون بديلاً عن الخدمة بالمقابل المادي، كما هو شائع في النظام الرأسمالي. وبذلك يتسع دور مؤسسات التأمين التعاوني أو التبادلي بديلاً لدور مؤسسات التأمين التجاري، كما ذكرنا ذلك سابقًا.(/11)
o ونظرًا لأن الضوابط الشرعية التي تحكم عمل النموذج الاقتصادي الإسلامي وما يتصل بها من توجيهات وإجراءات تقلل من دور مؤسسات الوساطة المالية، فإن طريقة تعامل المصارف مع الودائع الاستثمارية والجارية – في النموذج الاقتصادي الإسلامي – لا ترتبط بنفس درجة المخاطر التي تظهر في النظام الرأسمالي، والمتمثلة في تشغيل الموارد المالية في المصارف بأكبر من حجمها الحقيقي (ظاهرة خلق الائتمان)، وبما ينجم عنها من تعريض أموال المودعين للضياع. ولهذا فقد لا يحتاج النموذج الإسلامي لمؤسسة لضمان الودائع. لأن ذات المؤسسة، حتى في النظام الرأسمالي، لا تمتلك قدرة البقاء الذاتي. ولأن دورها في رفع نسبة الودائع، عبر الطمأنينة التي تخلقها في نفوس المودعين، ترتبط بعوامل أخرى لا تقل أهمية عن هذه المخاطر. كالعائد المتوقع من الوديعة الاستثمارية وقيمة الفرصة المضاعة وغيرها. ويضاف إلى ذلك، أن صاحب الوديعة الاستثمارية في النموذج الاقتصادي الإسلامي الذي أسس علاقته، وفق عقد المضاربة، يدرك تمامًا أن تعامله يقوم على المشاركة في جني الثمار وتحمل المخاطر إن وجدت. وبهذا فإن نفسية المودع في النظام الإسلامي تختلف كلية عن نفسية المودع في النظام الرأسمالي. ويتوقع، نتيجة لما سبق، أن يتمتع أرباب الودائع في النموذج الإسلامي بقدر من الاستقرار النفسي في اتخاذ قرار الإيداع وتشغيل الودائع. وعليه فهم قد لا يحتاجون إلى مؤسسات أخرى بدعوى أنها تقلل من المخاطر التي قد يتعرضون لها، لأنهم في الأساس يتوقعون الخسارة، كما يخططون لتحقيق الربح.
o ونختم الحديث عن نوع وحجم مؤسسات القطاع الخاص في النموذج الإسلامي بالتأكيد على فاعلية آلية السوق كبناء مؤسسي، ينطلق من مبدأ الحرية الاقتصادية الملتزم بالضوابط والقيود الشرعية. وهو بذلك يكون الآلية الأساسية في تحديد حركة الموارد الاقتصادية وتوزيعها بين مجالات الاستخدام المتعددة، وبالتالي تحديد نوع وحجم الطلب والعرض.
o غير أن آلية السوق، وبعملها وفق ضوابط تحريم الاحتكار والنهي عن الغش والغرر والغبن في عقود البيع، والالتزام بعدم بيع ملاً يملكه الإنسان، يؤكد على سيادة مبدأ المنافسة الكاملة بين المتعاملين والتي تعكس سعر التوازن للسلع والخدمات. كما أن آلية السوق وبالتزام المتعاملين فيها بالضوابط الأخلاقية المتصلة بأولوية الإنتاج، وبتجنب إنتاج السلع الضارة في المجتمع والتزام المستهلكين بالضوابط الأخلاقية التي تنهي عن الإسراف والتبذير (الإنفاق الترفي)، تعمل على تحقيق التخصيص الجيد للموارد الاقتصادية وتعكس شكل خيارات وتفضيلات المجتمع الإسلامي.
المبحث الثالث
الملكية في النموذج الاقتصادي الإسلامي
ظل موضوع الملكية – شكلاً ومضمونًا – محل اختلاف بين المذاهب والأنظمة الاقتصادية التي سادت في العالم، لأن الملكية تتعلق بالموارد الاقتصادية واستخدامها ومن ثم لا يتصور الانفكاك عن هذا الموضوع عند بحث خصائص النماذج الاقتصادية. بل وأصبح موضوع الملكية أحد الأركان الرئيسية التي تميز بين الأنظمة الاقتصادية في العالم. وفي الصفحات التالية سوف نسعى لتوضيح موقف الملكية في النموذج الاقتصادي الإسلامي، وذلك من خلال الإجابة على التساؤلات التالية: هل الملكية فردية مطلقة كما هو الحال في المدرسة الرأسمالية أم ملكية دولة كما كان قائمًا في المدرسة الاشتراكية؟ وإن كانت غير ذلك، فما هو نوعها؟(65)
ونحن هنا لسنا بصدد الإفاضة في هذا الموضوع وإنما نريد أن نحدد الملامح العامة للملكية في الشريعة الإسلامية.
1- طبيعة الملكية في الشريعة الإسلامية:
يقوم مفهوم الملك في الفكر الإسلامي على أساس أن المالك المطلق لما في الكون هو الله سبحانه وتعالى، حيث يقول في هذا الصدد: (تبارك الذي له ملك السماوات والأرض وما بينهما)(66). وكذلك قوله: (لله ملك السماوات والأرض وما فيهن)(67). ولهذا المعنى الذي تؤكده هذه الآيات دلالات وآثار إجرائية على مفهوم الملكية. لأنه بإثبات أصل الملك لله تعالى ولكل الموجودات، يصبح هذا الفهم أصلاً تبنى عليه جميع تصرفات المال المملوك ومرتكزًا يقوم عليه البناء المؤسسي والتحليل النظري. فإذا قررنا أن المالك الأصيل هو الله سبحانه وتعالى وهو الواهب لهذا الملك للبشر، فإن هذا الموضوع يرتبط بمفهوم الاستخلاف الذي قررته جملة من الآيات. فقد قال تعالى: (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة)(68). ويقول كذلك: (هو الذي جعلكم خلائف في الأرض)(69). وقد سبق أن استعرضنا بعضًا من ذلك، في مستهل هذا البحث، تحت مبدأ الاستخلاف وأوضحنا بعضًا من آثار هذا المفهوم على الملك. ونزيد فنقول إن الاستخلاف يستلزم الآتي:
1. التعامل مع الثروة والدخل وفق موجهات المستخلف، وبما يحقق أهدافه من خلق الكون. وهذا يقتضي طبيعة متميزة للملكية في النظام الإسلامي.(/12)
2. سلطة الإنسان وسيطرته على الثروة المستخلف عليها في حدود معاني الاستخلاف وخضوع الأرض وما فيها للإنسان تسخيرًا وإعمارًا(70). حيث يقول تعالى: (هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلو من رزقه وإليه النشور)(71). ويقول في موضع آخر: (وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض)(72). وكذلك أيضًا: (هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها)(73).
3. انضباط السلوك البشري، بمعنى أنه وبقدر ما لدى الإنسان من سلطة وسيادة على الكون ممنوحة من الخالق فعليه الالتزام بمسؤولياته وواجباته المكلف بها(74).
وبهذا يعتبر أن (حق الملكية في المفهوم الإسلامي ليس حقًا طارئًا ومؤقتًا وعرضيًا. وليس حقًا يتعلق بفترة زمنية دون أخرى، أو نظام مرحلي يتوقف وجوده أو عدمه على طبيعة المرحلة الاقتصادية والاجتماعية التي يبلغها المجتمع الإسلامي بل أن الملكية ركيزة عضوية تضرب عمقها في صميم البنية الإسلامية التكاملية)(75) التي تتكامل فيه الوظائف المختلفة للدولة أو المجتمع أو الأفراد.
ومن مفهوم الاستخلاف هذا يتضح، أن الملكية في الشريعة الإسلامية ذات طبيعة مزدوجة. وقد فصل في هذا الأمر الدكتور محمد فتحي الدريني بقوله: "فحق الملكية أقرته الشريعة الإسلامية وشرعت له من الأحكام ما يثبته ويصونه ويحميه. غير أنه مقيد بما لا يضر بالغير فردًا كان أو جماعة. لأن حق الغير محافظ عليه شرعًا. وبذلك تثبت لحق الملكية صفة الفردية والجماعية في وقت واحد. أما الفردية فلأن الحق ليس بذاته وظيفة بل هو ميزة تخول صاحبها الاستثمار بثمرات حقه. فحق الفرد أصلاً شخصي. أما الجماعة فتبدو في تقييد هذا الحق بمنع اتخاذه وسيلة إلى الإضرار بغيره فردًا أو جماعة بقصد أو بدون قصد"(76). هذا الفهم الإسلامي للملكية يعتبر خروجًا على مفهومها في كل من النظام الرأسمالي والنظام الاشتراكي(77).
2- مركزات الوظيفة الاجتماعية للأموال:
إن الوظيفة الاجتماعية للملكية الخاصة في الشريعة الإسلامية أمر أصيل يرتكز على مبدأ الخلافة في الإنسانية نيابة عن الله سبحانه وتعالى في التصرف في الأموال لمصلحة الفرد ولمصلحة الجماعة، بحيث لا تطغى إحداهما على الأخرى فتتصادم المصالح. وتتأكد هذه المعاني بالآتي:
1. إن الله سبحانه وتعالى أضاف الأموال إلى الجماعة في بعض الآيات مثل قول المولى عز وجل: (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قيامًا)(78). فالله سبحانه وتعالى أمر بالحجر على السفهاء ونهى عن تمكينهم من أموالهم، حتى لا يضيعونها بل نسب هذه الأموال إلى الأمة بقوله (أموالكم). وهنا نجد أن إضافة كلمة المال إلى ضمير الجماعة إشارة إلى أن الفرد نائب عنها في التصرف وإشارة إلى مسئولية الجماعة عن تصرف الفرد سفهًا في مالها(79). ويقول تعالى: (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل)(80). ونسبة الأموال إلى الجماعة تأكيد على ارتباط مصالح المجتمع بها وجعله رقيبًا على هذه الأموال. بل أن المجتمع مطالب بتحمل نتيجة اعتداء السفهاء على هذه الأموال(81).
2. وجوب قيام المال بوظيفته في المجتمع ويظهر ذلك من خلال التوجيهات الآتية:
أ . الحث على استثمار المال وتنميته وبالحث على العمل والكسب ورعاية فروض الكفايات التي تتعلق بها مصالح المسلمين.
ب . النهي عن التصرفات المالية الضارة بالمجتمع مثل الاكتناز والتبذير والإسراف وخلافه.
3. إعطاء ولي الأمر سلطة التدخل، عند الانحراف في استعمال حق الملكية حفاظاً على التوازن في تحقيق المصالح بحسب أهميتها ودرجتها ونوعها. فلا يتعدى الخاص على العام، ولا العاجل على الآجل، ولا الكمالي على الضروري، إلا وفق أصله الشرعي.
وهذه الوظائف الاجتماعية والروح الجماعية في الملكية الخاصة في التشريع الإسلامي، ترتكز على الروح التي يربيها الإيمان في نفس كل فرد شعورًا عميقًا بالمسئولية تجاه المجتمع ومصالحه، بحيث يتنازل عن شيء من ثمار أعماله ونتاج ممتلكاته الخاصة، في سبيل المجتمع وفي سبيل الآخرين. وهذا التنازل لا ينظر إليه من منطلق أن الفرد قد سرق الآخرين، كما يعتقد النظام الاشتراكي، والذي يدعو للثورة عليه لاسترداد هذه الحقوق. بل لأنه يدرك ويحس أن ذلك جزء من واجبه واعتقاده الديني تعبيرًا عن القيم التي يؤمن بها. وبهذا يتضح أن الروح الجماعية في النظام الإسلامي تنطلق من ونرتكز على إثارة الدوافع الجماعية في المجتمع وتفجير منابع الخبر في نفوس أفراده، مما يجعلهم يحفظون حقوق الآخرين، بحيث يعيشون معاني الإيثار الحقيقية مصداقًا لقوله تعالى: (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة)(82). وتأكيدًا لهذا المعنى، فرض وأوجب وندب الإسلام جملة من الحقوق على الملكية الخاصة لصالح المجتمع وأفراده، حيث فرض الزكاة حقًا للفقراء من أموال الأغنياء وأمر بالتكافل والتعاون والتراحم وحث على الوقف وأمر بإخراج الخمس من الزكاة والغنائم وجعله في مصالح المجتمع والأفراد(83).(/13)
3- حجم وشكل الملكية العامة للدولة الإسلامية في الوقت الحاضر:
درج بعض الباحثين عند الحديث عن الملكية العامة للدولة الإسلامية على الخلط بين الأحكام التي أملتها الظروف المكانية والزمانية والأحكام الأصلية التي يقوم عليها البناء المؤسسي في ظل النظام الإسلامي. صحيح أن الأحكام التي نشأت وطبقت في العهد الإسلامي الراشد هي محل اعتبار، حتى في بناء الأحكام الجديدة ومعيار لتفسير وتقييد الأحكام الشرعية. غير أن صلاح الشريعة الإسلامية لكل زمان ومكان، وارتباط الأحكام بعللها (أسبابها ودواعيها)، يجعلنا نستصحب هذا الأمر عند تنزيل النصوص على الواقع.
والحديث الذي ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه: "المسلمون شركاء في ثلاث: في الكلأ والماء والنار". واستخدام بعض الباحثين للحديث عن ملكية عامة لهذه الأشياء ليس على إطلاقه. لأن الحديث روى عن الرسول صلى الله عليه وسلم وهو في حالة غزو. وظروف الغزوات ظروف استثنائية وغير عادية، والأحكام فيها ترتبط بالظرف الذي نشأت فيه. كما أن المفسرين، من الذين شرحوا هذا الحديث، أشاروا إلى أن الملكية العامة تقوم عندما لم تكن هذه الأشياء تحتاج إلى جهد يبذله الإنسان. أي أن ينبت الكلأ في أرض عامة دون سقيا وزراعة، وأن يجري الماء دون حفر من أحد، بل وذهب بعض الفقهاء إلى أن المياه التي تتعلق بها الملكية العامة ويكون الناس فيها شركاء هي مياه البحار والأنهار والأودية والعيون في الجبال وسيول الأمطار. أما المال المحرز فهو مملوك ملكية خاصة واختلفوا في الماء الذي يستخرج من بطن الأرض واتفقوا على أن صاحبه أحق به من غيره وذهب بعضهم إلى أنه مملوك ملكية خاصة. وهذا هو الرأي الذي يرجحه كاتب هذا البحث، حتى لا يميل الناس على التواكل.
وتأسيسًا على ذلك، فإن اتخاذ هذا الحديث كأصل لإثبات الملكية العامة أو الجماعية، لا ينهض دليلاً قاطعًا يستند عليه في البناء النظري والمؤسسي للنظام الاقتصادي الإسلامي. أما التطبيقات التي تمت في بعض الأشياء وأصبحت ملكية عامة (كأرض الحمى) التي خضعت لمصلحة عامة المسلمين، فهي تبين تعلق المصلحة بذلك. فمتى ما تعلقت مصالح المسلمين بشيء معين ولم يوجد بديل له، وجب على الإمام أن يجعله في الملك العام لحفظ هذه المصلحة.
وعليه، فإن الأصل في النظام الإسلامي الملكية الخاصة التي ينطلق صاحبها ليحقق مصالحه ومصالح المجتمع ولكن عند تبين وظهور مصالح عامة، فإن الملك الخاص يقيد لصالح النفع العام، مستصحبين المعاني التي سقناها من أن الدوافع الإيمانية الذاتية للفرد المسلم تسهم في حفظ التوازن بين المصلحة الخاصة والمصلحة العامة.
ويمكن أن نخرج بالموجهات الآتية في تحديد حجم وشكل الملكية العامة للدولة الإسلامية:
1. إن المصلحة العامة هي المحدد لشكل وحجم الملكية العامة. وعليه، فإن حجم القطاع العام يتمدد وينكمش، بحسب الظروف الزمانية والمكانية المتصلة بحفظ وتحقيق المصالح.
2. الوظائف المقررة للدولة في الشأن العام والمتفق عليها من أهل الشورى، خاصة القيام ببعض الأعمال الاستراتيجية في القطاع الأمني الدفاعي أو الأمني الغذائي أو الخدمي، تؤثر على الملكية العامة أو الخاصة.
3. إن توسع النشاط الاستثماري الخاص في المجتمع واستعداده للمبادرة في القيام ببعض الواجبات العامة يقلل من حجم القطاع العام ويجعله في حدود تقديم النموذج وتقبل المخاطرة.
4. إن العبرة في الدواعي التاريخية التي أدت لقيام بعض أشكال الملكية العامة هي بفهم أسباب قيام هذه الملكية وأهدافها، ومن ثم إعمال المغازي والمعاني لا الأشكال والمؤسسات. لأن المطلوب هنا هو حفظ المصلحة لا تكرار النماذج الظرفية.
5. إن تخلف المجتمع في فهم الواجبات وفروض الكفاية، قد يقتضي من الدولة القيام ببعض أشكال الملكية العامة، ريثما يفهم المجتمع دوره في فروض الكفاية. وبهذا يصبح هذا النوع من الملكية العامة مؤقتًا وليس نموذجًا دائما وثابتًا.
6. وتبقى مبادئ الاستخلاف وتحقيق العبودية والمرونة هي المبادئ الحاكمة للدولة في إنشاء الملكية العامة وتقييد الملكية الخاصة أو الجمع بينهما، بحسب المقتضيات الزمانية والمكانية المتعلقة بهذه المبادئ.
وبهذا يتضح، أن حجم وشكل الملكية في النموذج الإسلامي ليس ثابتًا على إطار معين ولكنه يتمدد وينكمش، بحسب تحقيق المصلحة المتصلة بالظرف الزماني والمكاني، وحسب أولويات المجتمع واختياراته المقررة عند أهل الشورى.
--------------------------------------------------------------------------------(/14)
(1) نحن نعتبر هذا المبحث بمثابة الأساس الفكري الذي يقوم عليه التحليل في المبحث الثاني والثالث. وبالرغم من أن هناك عددًا من الباحثين تناولوا هذا الموصوع، إلا أن المعالجة النظرية والفكرية والربط في التحليل والدراسة غالبًا ما تختلف من باحث لآخر في كيفية استخدام المعلومات واستخراج النتائج منها، وهذا الاختلاف في الربط واستخراج النتائج سيتضح جليًا في المبحث الثاني.
(*) مصطلح النموذج مستخرج من الكلمة النجليزية Model وهو يعني في الاصطلاح الاقتصادي: إطار للتحليل يبحث عن استخلاص مميزات وخصائص النظام الاقتصادي المعقدة والمتشابكة التي تلزم لفهم العلاقات السلوكية والمؤسسية والفنية لذلك النظام. والهدف من ذلك البحث والاستخلاص هو تفسير الظواهر الاقتصادية وتسهيل عمليات التنبؤ الاقتصادي. وسوف يستخدم مصطلح النموذج في بحثنا هذا ليعبر عن مفهوم المثال الذي ينبغي أن يطبق ويلتزم به في الشأن الاقتصادي. ويتضح جليًا، أن هذا الفهم لا يختلف كثيرًا عن التعريف الذي ذكرناه أعلاه، حيث أن الاتفاق على معالم المثال يسهل عملية استخلاص المميزات والخصائص، كما يساعد في تفسير الظواهر ومن باب أولى المساعدة في عمليات التنبؤ الاقتصادي. أنظر في هذا الصدد:
Macmillan Dictionary of Modern Economics, p. 288.
(2) سورة الذاريات، الآيات (56، 57، 58).
(3) القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج17، مجلد 9، مؤسسة مناهل العرفان: بدون تاريخ، ص 55-56.
(4) سورة الزمر: الآية (11).
(5) القرطبي، مرجع سابق مجلد 5، ج 9، ص 326.
(6) جرت العادة في التحليل الاقتصادي على التمييز بين الاقتصاد التقريري والاقتصاد المعياري، بحيث يهتم الأول بدراسة ما هو كائن ويهتم الثاني بدراسة ما سيكون. وهذا التقسيم، على الرغم مما يقال عنه، فهو يعتمد الخيارات والأولويات والمعطيات القائمة في كل مجتمع والتي تخضع للقيم والأفكار السائدة فيه، مما يجعل السياسة والتحليل الاقتصادي يختلفان من مجتمع لآخر.
(7) مصطلح المدرسة العلمانية أردنا به أن نميز بين الفلسفات التي تعتمد في تفسير الظاهرة الاقتصادية وغيرها على القيم الدينية وبين الفلسفات التي ترتكز على البعد المادي الدنيوي فقط، الذي يكون أساسًا في تفسير هذه الظواهر. ولا يمنع هذا من تعدد المدارس العلمانية، حسب الثقافات والأفكار السائدة.
(8) د. محمد أحمد صقر، "الاقتصاد الإسلامي: مفاهيم ومرتكزات"، في:المركز العالمي لأبحاث الاقتصاد الإسلامي (ناشر) الاقتصاد الإسلامي، طبعة أولى، جدة 1400هـ/ 1980م، ص 34-40.
(9) الغزالي، إحياء علوم الدين، ج 5، مطبعة دار الشعب، القاهرة (بدون تاريخ)، ص 893.
(10) الغزالي، الاقتصاد في الاعتقاد، مكتبة الجندي، القاهرة (بدون تاريخ)، ص 196-197.
(11) سورة الحديد: الآية (7).
(12) القرطبي، مرجع سابق، ج 17، مجلد 9، ص 238.
(13) سورة النور: الآية (33).
(14) د. عبد السلام داود العبادي، الملكية في الشريعة الإسلامية، الطبعة الأولى، مكتبة الأقصى، عمان، الأردن، 1394هـ/1914م، ص 414.
(15) سورة المائدة: الآية (3).
(16) سورة آل عمران: الآية (85).
(17) سورة سبأ: الآية (28).
(18) د. فتحي الدريني، خصائص التشريع الإسلامي، ص 272. ود. أحمد الحصري، السياسة الاقتصادية والنظم المالية في الفقه الإسلامي، مكتبة الكليات الأزهرية: (بدون تاريخ)، ص 39.
(19) د. محمد شوقي الفنجري، "المذهب الاقتصادي في الإسلام"، في: المركز العالمي لأبحاث الاقتصاد الإسلامي (ناشر) الاقتصاد الإسلامي، طبعة أولى، جدة 1400هـ/1980م، ص 116.
(20) سورة الأعراف: الآية (157).
(21) سورة البقرة: الآية (275).
(22) د. لبيب شقير، تاريخ الفكر الاقتصادي، دار نهضة مصر: (بدون تاريخ)، ص 174-176.
(23) المرجع السابق ص 248-255. ود. رفعت المحجوب، الطلب الفعلي، الطبعة الثالثة، دار النهضة العربية: 1964م ص 195-200.
(24) سورة البقرة: الآية (256).
(25) القرطبي، مرجع سابق، ج3/ مجلد 2، ص 280.
(26) سورة الأعراف: الآية (32)
(27) سورة البقرة: الآية (275).
(28) سند الإمام أحمد بن حنبل: جزء 5، ص 27 الهيثمي – مجمع الزوايد – كتاب البيوع باب الاحتكار جزء 4، ص 101.
(29) رفيق يونس المصري، أصول الاقتصاد الإسلامي، الطبعة الأولى، دار القلم/ الدار الشامية: 1409هـ/1989م، ص 62-65.
(30) د. عبد السلام داود العبادي، مرجع سابق، ص 259.
(31) د. صالح بن عبد الله حميد، رفع الحرج في الشريعة الإسلامية، الطبعة الأولى، جامعة أم القرى، مكة المكرمة: 1403هـ/ 1983م، ص 319.
(32) ابن نجم، الأشباه والنظائر، دار الكتب العلمية: بيروت، (بدون تاريخ)، ص 93-95.
(33) د. صالح بن عبد الله بن حميد، مرجع سابق، ص 323.
(34) الشاطبي إبراهيم بن موسى، الموافقات في أصول الشريعة، ج2، دار الفكر العربي: ص 6.
(35) سورة الأنبياء: الآية (107).
(36) سورة الأعراف: الآية (31).(/15)
(37) سورة الفرقان: الآية (67).
(38) سورة الإسراء: الآية (29).
(39) سورة الإسراء: الآيات (26) ,(27).
(40) سورة النساء: الآية (5).
(41) القرطبي: الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق، مجلد 3، ج5، ص 29.
(42) المرجع نفسه ص 28.
(43) سورة النساء: الآية (58).
(44) القرطبي، مرجع سابق ج5، مجلد3، ص 255-256.
(45) نود الإشارة في المقام، إلى أن قراءة الوضع الاقتصادي والتطور الذي حدث فيه حقائق معاصرة ومشاهدة من المعنيين بدارسة الظواهر الاقتصادية، وفق تطور الاقتصاد السوداني.
(45) وهنا نحن نميز بين التدخل في النشاط الاقتصادي، الذي بدأ في عهد حكومة (عبود) والذي استهدف الحث على المبادرة الاستثمارية ونقل القطاع الخاص من الروح التقليدية التي كانت تسود عند معظم أفراده إلى نمط الاستثمار في المشروعات الإنتاجية الكبيرة، وبين التدخل الذي بدأ في عهد حكومة مايو (النميري)، والذي اتخذ جملة من السياسات ممثلة في التأميم والمصادرة، وبالتالي تغيير مفهوم الملكية في النشاط الاقتصادي، وما تبعه من توسع لنشاط الدولة الاقتصادي وبسط هيمنتها عن طريق توسيع دور القطاع العام.
(46) انظر مثلاً بحث: تاج الدين إبراهيم وآخرون، وعلاقة بنك السودان بالحكومة، (بحث غير منشور) المعهد العالي للدراسات المصرفية والمالية: الخرطوم 1997م، ص 7.
(47) بنك السودان (الإدارة العامة للسياسات والبحوث والاحصاء)، وضع البنك المركزي وفروعه بالولايات في ظل فدرالية الحكم، (بحث غير منشور) 1997م، ص28.
(48) صحيح أن هناك وجودًا معتبرًا للمصارف الحكومية في القطاع المصرفي السوداني، ولكن هذا يعبر – في اعتقادنا – عن مرحلة الاتقال، كما يعبر عن سياسة الدولة في رعاية العمل التنموي. وهو أمر لا يتنافى مع قاعدة قيام المصارف على أساس شركة المساهمة التي تحكم كل مصارف القطاع الخاص.
(48) والقصد هنا ينصرف إلى عمليات توليد النقود (أو ما يعرف بعمليات خلق الائتمان) التي تمارسها المصارف، مزيد من التفاصيل حول هذا الأمر تجدها في: د. أحمد مجذوب أحمد، السياسة النقدية في الاقتصاد الإسلامي، دار اللواء: الرياض 1407هـ، ص 36.
(49) صحيح أن هناك أنشطة أخرى للمصارف تتمثل في تقديم الخدمات المصرفية ولكن الدور الذي يركز عليه الاقتصاديون المهتمون بقضايا التنمية، أن المصارف هي مؤسسات وساطة مالية تعمل على تجميع المدخرات وإتاحتها للاستثمار في المشروعات.
(50) انظر في هذا الصدد:
Macmillan Dictionary of Modern Economics P. 30
وانظر كذلك: د. أحمد مجذوب احمد، مرجع سابق، ص 50.
(51) المرجع السابق، ص 170. وراجع أيضًا: قانون بنك السودان 1959م المادة (41): الفقرات (أ، ب، ج).
(52) الشاطبي، مرجع سابق ص 2-8.
(53) راجع في هذا الخصوص: محمد فاروق النبهان، الاتجاه الجماعي في التشريع الاقتصادي الإسلامي، مؤسسة الرسالة: 1404هـ/ 1984م، ص 385. ود. فتحي الدريني، الحق ومدى سلطان الدولة في تقييده، مؤسسة الرسالة: 1404هـ/ 1984م، ص 163.
(54) سورة الأعراف: الأية (157)
(55) مستعين على عبد الحميد، السوق وتنظيماته في الاقتصاد الإسلامي، الدار السودانية للكتب: (بدون تاريخ)، ص 224.
(56) البهوتي: كشاف القناع، مكتبة الرياض الحديثة (بدون تاريخ)، ج 2، 2 232.
(57) ابن خلدون: المقدمة، الطبعة الخامسة، دار العلم: بيروت 1984م ص 226.
(58) انظر: السيوطي، الحاوي للفتاوي، مطبعة مصر 1978م، ص 157. والنووي: المجموع شرح المهذب، ج6، نشر زكريا علي يوسف (بدون عنوان)، ص 10.
(59) د. أحمد مجذوب أحمد، مرجع سابق، ص 169.
(60) سورة آل عمران: الآية (92)
(61) صحيح مسلم: التراث العربي، مجلد 1، كتاب الإيمان، باب 17، حديث رقم 45، ص 67.
(62) د. فاروق محمد النبهان، مرجع سارق، ص 327.
(63) د. يوسف القرضاوي، فقه الزكاة، الطبعة الرابعة، ج 2، مؤسسة الرسالة، 1404هـ/1984م، ص 980.
(64) سورة هود: الآية (61).
(65) نود أن نؤكد أن البناء النظري والشكل المؤسسي لموضوع الملكية يرتكز ويهتدي بالنصوص (القرآنية والحديث) يعتمد على تطبيق العمل بهذا المفهوم في عهد الخلافة الراشدة. كما يرتكز على القواعد الشرعية المستخلصة من هذه النصوص.
(66) سورة الزخرف: الآية (85).
(67) سورة المائدة: الآية (120)
(68) سورة البقرة: الآية (30)
(69) سورة فاطر: الآية (39)
(70) د. شوقي أحمد دنيا، النظرية الاقتصادية من منظور إسلامي، مكتبة الخريجين: 1404هـ/1984م، ص 52-53.
(71) سورة الملك: الآية (15)
(72) سورة الجاثية: الآية (13)
(73) سورة هود: الآية (61)
(74) د. شوقي أحمد دنيا: مرجع سابق، ص 54.
(75) محمد أحمد صقر: الاقتصاد الإسلامي: مفاهيم ومرتكزات، الطبعة الأولى، مركز أبحاث الاقتصاد الإسلامي: 1400هـ/ 1980م، ص 50.
(76) د. محمد فتحي الدريني، الحق ومدى سلطان الدولة في تقييده، مؤسسة الرسالة، 1404هـ/1984م.(/16)
(77) فالنظام الاقتصادي الرأسمالي يؤمن بالملكية الفردية والنظام الاقتصادي الاشتراكي يؤمن بالملكية الجماعية، حيث تعرف الاشتراكية بأنها النظام الذي يتميز بتملك الدولة للأموال وخاصة أموال الإنتاج كالأراضي والآلات والمصانع. أما المذهب الرأسمالي، فالملكية فيه خاصة وهي القاعدة التي لا يمكن الخروج عليها، إلا في الظروف الاستثنائية. فهو يؤمن بحرية التملك ويسمح للأفراد بتملك جميع عناصر الإنتاج (الأرض، الآلات، المباني، المعادن). ويتكفل القانون بحماية الملكية الخاصة وتمكين المالك من الاحتفاظ بها وهذا يستلزم فسح المجال أمام كل فرد لاستغلال ملكيته وإمكاناته على الوجه الذي يرى. لمزيد من التفاصيل عن هذا الموضوع راجع: د. لبيب شقير، مرجع سابق، ص 195. وراجع كذلك: محمد باقر صدر، اقتصادنا، دار الفكر: (بدون تاريخ)، ص 217.
(78) سورة النساء: الآية (5)
(79) د. محمد فتحي الدريني: مرجع سابق، ص 166.
(80) سورة البقرة: الآية (188)
(81) د. محمد فاروق النبهان: مرجع سابق، ص 119.
(82) سورة الحشر: الآية (9).
(83) د. محمد فاروق النبهان، مرجع سابق، ص 188-196
* وزير دولة بوزارة المالية -السودان(/17)
ملامح باهرة من عظمة رسول الله صلى الله عليه وسلم
محمد المجذوب
يقول الفيلسوف الإنجليزي (برناردشو) : (لو أن محمداً ـ صلى الله عليه وسلم ـ واجه مشكلات هذا العصر لأمكنه أن يضع لها أصلح الحلول بأقصر الأوقات) .
ومثل هذا القول يصدر عن ذلك الفيلسوف إنما مرده إلى ما يعلمه عن طريقة رسول الله في علاج النفس البشرية ، تلك الطريقة التي سجلت أعظم النجاح في الجيل الإسلامي الأول ، إذ أخرجته من ظلمات الجاهلية إلى نور الإسلام ، فكونت من تلك النفوس الضائعة خير أمة أخرجت للناس ، فكان عمله صلى الله عليه وسلم فيها كعمل الخبير بعناصر المادة المنثورة في طبقات الأرض ، فلا يزال بها يخرج منها عجائب الموضوعات الباهرة للعقول .. وطبيعي أن نجاحه صلى الله عليه وسلم في تصحيح تلك النفوس الجاهلية برهان قاطع على أن في شريعته الإلهية العلاج الحاسم لكل أدواء البشرية المعاصرة .. وهذا ما يرمي إليه برناردشو في كلمته الحكيمة .
ولا عجب فإن فمحمد رسول الله ، قد اصطفاه لحمل رسالته الخاتمة إلى العالمين فأدبه وأحسن تأديبه ، وعلمه ما لم يكن يعلم ، وزوده بكل المواهب التي تؤهله لإنقاذ الإنسان ، وليكون بأخلاقه وبدعوته وبقيادته الأسوة المثلى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد .
والحديث عن إمام المرسلين المبعوث رحمة للعالمين واسع تضيق عنه المجلدات فكيف بالصفحات ، لذلك لا نجد مندوحة عن الاكتفاء بالإيجاز عن التفصيل ، وسنقف في هذا الموجز على جوانب ثلاثة من حياته الكريمة صلوات الله وسلامه عليه .
الداعية العظيم :
الدعوة إلى الله مهمة الأنبياء الذين اصطفاهم الله لقيادة الإنسانية في هذه الحياة ، ثم هي مهمة الصفوة المختارة من أنصارهم الذين لا ينفكون ينيرون دروب الناس بهداية الله على مر العصور.. وهي أصعب المهام وأثقلها لأن غايتها ضبط مسيرة الإنسان في الطريق الذي يحبه الله ، كما أوضح ذلك في كتابه الحكيم حيث يقول : [أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن] النحل ـ 125 .
ولقد حقق صلى الله عليه وسلم أمر ربه على أفضل الوجوه ، فكان الداعية الأعظم ، الذي يكون سلوكه في الدعوة صورة كاملة للحكمة والموعظة الحسنة ، والقدرة البالغة على مخاطبة الفطرة بأكمل وألطف وسائل الإقناع .
ومن البديهيات أن أول شروط الداعية إلى سبيل الله إيمانه بالموضوع الذي ينهض بالدعوة إليه ، إيماناً يستحوذ على كل تصرفاته ، فيهون عليه مواجهة العقبات التي تعترضه ، إذ يقابلها بصبر أكبر منها ، ولا تزيد العقبات إلا تصميماً على الدعوة وتجلية لحقائقها ، حتى لا يدع لمعاند حجة في إعراضه عنها .
وقد عرفته مكة منذ نعومة أظفاره صلى الله عليه وسلم بأكرم الخصال المساعدة على اجتذاب القلوب والعقول ، حتى كانت تلقبه بالصادق الأمين ، والصدق من أعظم العوامل في نجاح الداعي لأنه يثبت له الثقة في صدور الناس،فلا يرفض حديثه منهم إلا الكارهون للحق المؤثرون لمنافعهم العابرة (1).
ومن الأمثلة الباهرة على إقرار الجميع بصدقه صلى الله عليه وسلم شهادتهم له يوم كلفه ربه الجهر بالدعوة فوقف على الصفا ودعا الناس ، فأقبلوا عليه وبدأهم بهذا السؤال : أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي ؟ فأجابوه دون تردد : نعم ما جربنا عليك كذباً (1) .
ومع ذلك فقد وجد بينهم من يرفض دعوته ، لا تكذيباً له ولكن تعصباً لما ألفوه من الضلالات ، ولهذا يقول له ربه تطييباً لقلبه : [قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون ، فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون] الأنعام 33 .
وكذلك الشأن في تلقيبه بالأمين فهو اعتراف منهم بأنه فوق التهم في كل ما يأتي وما يذر. وقد بلغ من ثقتهم بأمانته أنهم كانوا يأتمنونه على أنفس ما لديهم ، حتى أنه أخر علياً رضي الله عنه يوم هجرته ليرد ما لديه من الأمانات إلى أهلها . وقد أرشده ربه إلى الطريقة الفضلى في معالجة المؤمنين فقال : [واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين] فكان أرحم بالمؤمنين من امهاتهم ، وبذلك كان أحب إليهم من أنفسهم .
وبهذه الحكمة البالغة كان يلقى الغريب والقريب ليبلغهم رسالة ربه فيمس أسماعهم ومشاعرهم بالكلمة الطيبة التي تفتح له مغاليق القلوب .
لقي ذات يوم أحد اليثربيين الوافدين إلى مكة فأخبره بأسلوبه المبين أنه مرسل من قبل رب العالمين ، وأن الله قد أنزل عليه وحياً ليبلغه إليه وإلى سائر عباده ، فقال سُوَيْدٌ هذا : لعل الذي معك مثل الذي معي ؟ فسأله صلى الله عليه وسلم : وما الذي معك ؟. فقال سويد : معي مجلة ـ حكمة ـ لقمان ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اعرضها علي فجعل يقرأ منها ، ولما فرغ قال له صلى الله عليه وسلم : إن هذا الكلام حسن والذي معي أفضل من هذا .. وتلا عليه بعض آيات ربه ودعاه إلى الإسلام فلم يبعد عنه (2).(/1)
في هذا الحوار القصير صورة لحكمة رسول الله صلى الله عليه وسلم في عرض دينه على الناس ، فهو لم يرفض سماع ما عند الرجل بل أبدى استحسانه له ، وبذلك فتح قلبه لاستماع كلام الله .
ولقد كان لهذا الأسلوب الحكيم رد فعل كبير لدى أعداء الدعوة من مشركي قريش ، جعلهم يبذلون جهدهم للحيلولة بين رسول الله وبين لقائه بالغرباء القادمين إلى مكة ، فيرصدون لهم الطرق ليخوفوهم ويحذروهم من الاجتماع به ، زاعمين أن له سحراً يفرق به بين المرء وأقرب الناس إليه.
ويوم عقد هؤلاء الطغاة مؤتمرهم في دار الندوة ، لتدبير القضاء على رسول الله وعلى دعوته ، كان من الأفكار التي طرحوها هناك قول أحدهم : نخرجه من بين أظهرنا ما نبالي أين يذهب ، وكان هناك شيخ نجدي دخل معهم ليمدهم بخبرته فقال : ما هذا لكم برأي ، ألم تروا حسن حديثه وحلاوة منطقه وغلبته على قلوب الرجال بما يأتي به (3).
وإنما يشير هذا الشيطان إلى ذلك الأسلوب النبوي الذي أودعه الله مفاتيح الفطرة البشرية ، فما عن يتصل بها حتى يوقظ في أعماقها روح الإيمان .
وهكذا تتجلى لنا من خلال هذه المشاهد الرائعة شخصية الداعي العظيم الذي لا نجاح لداعية إلا بالتزام سبيله القويم .
الرئيس الأعظم :
كان عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم على مدى الثلاث عشرة سنة من العهد المكي مقصوراً على دعوة الناس إلى الإسلام سراً وجهراً . وعلى تربية المؤمنين الذين استجابوا لله ورسوله ، يبث في أرواحهم معاني الإسلام ، ويروضهم على أخلاقه ويدربهم على الصبر في مواجهة المحن ، التي يتعرضون لها على أيدي البغاة من طواغيت المشركين ، وعلى الرغم من البلاء الكبير الذي يعانيه منهم لم ينقطع قط عن مواصلة الدعوة إلى الله ، والاتصال بكل وافد على البلد الحرام يقرع قلبه بكلمات الله ، حتى شاء الله أن يبدأ الإسلام مرحلته الجديدة ، مرحلة الانتشار خارج مكة ، فكانت الهجرتان الأولى والثانية إلى الحبشة . ثم جاءت الهجرة الكبرى إلى المدينة المنورة ، إذ هدى الله بعض حجاجها إلى الإسلام على يد رسوله ، فرجعوا به إلى بلدهم ينشرونه بين قومهم ، ثم جاء الموسم التالي بآخرين أعطوا رسول الله البيعة الأولى ، وفي العام التالي وفد العشرات منهم ليقدموا البيعة الثانية ، ومن ثم جعل الإسلام يضرب بجرانه في المدينة حتى لم يبق بيت فيها من منازل الأوس والخزرج إلا دخله الإسلام ، وتتابع أصحاب النبي مهاجرين من مكة إلى جوار إخوانهم الأنصار في المدينة ، حتى أتم الله نعمته على الجميع بهجرة رسوله الأمين ومن بقي في مكة من المؤمنين ، إلا من منعه الحبس أو الفتنة ..
وكان المجتمع اليثربي قبل الهجرة مؤلفاً من الأوس والخزرج ، وهما فرعان لقبيلة واحدة ، من أصل يماني يعملون في الزراعة ، وقد تسربت إليهم سموم العداوة والبغضاء فولدت حروباً بينهم لا تكاد تنقطع ، كلما انتهوا من وقعة هائلة مضوا يستعدون لأهول منها .
وإلى جانب هؤلاء العرب المقاتلين قبائل ثلاثة من اليهود هم قريظة والنضير وقينقاع ، وعلى داب اليهود في كل مكان كان كل نشاطهم موجهاً لإثارة الفتن بين الأوس والخزرج ليتمكنوا من استغلالها لمصلحتهم المادية ، عن طريق القروض التي يمولون بها عملياتهم القتالية ، فيستردونها من محصولاتهم الزراعية مضافاً إليها الربا المضاعف .
وما إن أطل فجر الإسلام على المدينة التي جعلت ظلمات الفتن تتقلص عن القبيلتين ، وبدأ المسلمون من الأنصار يشعرون بالتقارب فيما بينهم ، ولأول مرة منذ عشرات السنين يستمتعون بروح الأمن الذي يصفه الله بقوله سبحانه في سورة آل عمران 103 : [واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنت أعداءً فألف بين قلوبكم ، فأصبحتم بنعمته إخوانا ، وكنت على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها] .
ولم يتخلف عن هذا الخبر سوى نفر قليل من عرب المدينة ، لبث قسم منهم على شركه ريثما تتجلى له الحقيقة ، ونقم قسم آخر من ذلك التطور، وفي مقدمته رأس المنافقين عبد الله بن أبي بن سلول ، الذي كان مرشحاً للتويج على المدينة فحال الإسلام دون تحقيق بغيته .
وهكذا بات المجتمع المدني بعد الهجرة مؤلفاً من الأنصار والمهاجرين الذين أصبحوا يؤلفون الكثرة من السكان وينضم إليهم في الظاهر المنافقون ، الذين يبلغون بضع مئات ، ثم بقية المشركين من عرب المدينة ، الذين استسلموا للواقع مع بقائهم المؤقت على عبادة الأصنام .
يقابلهم من الجانب الآخر أولئك اليهود الذين لم يجدوا من مصلحتهم انتشار الإسلام في بلد كان لهم حتى الأمس منطقة استغلال ، فأبطنوا له العداوة مع تظاهرهم بالمودة .(/2)
في هذا الجو الجديد ولدت الدولة الإسلامية الأولى ، التي شاء الله أن تكون الأنموذج المثل للحكم الصالح ، الذي تتطلع إليه الإنسانية في مشارق الأرض ومغاربها ، والذي يوفر العدالة والأمن والعيش الكريم للإنسان ، الذي سلب حق الحياة في ظلال طواغيت الحكام ، فليس له من رأي ولا حرية ولا كرامة ، إلا بمقدار ما يتفق ذلك مع أهوائهم ومصالحهم .
وقد نشأت هذه الدولة المثالية على غير مثال سابق من أنظمة الحكم في العالم كله ، ولا غرابة فهي دولة نبوية يقوم على رأسها رسول من الله يعمل بتوجيه من الوحي الأعلى لإقامة المجتمع الأفضل .
المسجد والشورى :
أول عمل بدأه رسول الله عقب وصوله قباء تخطيطه لمسجدها ، الذي أخبر صلى الله عليه وسلم أن الصلاة فيه تعدل عمرة ، ولما انتقل من قباء إلى قلب المدينة بدأ كذلك أول أعماله بإنشاء مسجده المبارك ، الذي أخبر أن صلاة فيه تعدل ألف صلاة ، وكان في إنشائه هذين المسجدين قبل إقامة أي سكن له وللمهاجرين ، إشارة هامة إلى نوعية هذا المجتمع الجديد ،الذي سيكون منطلقه وغايته عبادة الله ورد القطعان البشرية الضالة إلى ربها .
ثم تلا ذلك تثبيت للروابط الروحية بين المسلمين ، فآخى بين كل فرد وآخر منهم ، حتى كانوا بهذه الأخوة كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر.
ومن ثم التفت صلى الله عليه وسلم إلى تنظيم المجتمع كله ، فوضع أول وثيقة دستورية عرفها العالم ، حدد بها العلائق بين كل فريق وآخر من سكان المدينة عربهم ويهودهم ، فأقر لكل منهم حقه في الأمن والعدالة والكرامة ، وأقام كلاً منهم أمام واجبه نحو الجميع ، في مساواة تامة بين الحقوق والواجبات والتناصر، مع إقرار الفرقاء جميعاً برئاسته صلى الله عليه وسلم ، لتلك الدولة الفتية ، وأنه هو المرجع الذي يخضع الكل لحكمه عند أي خلاف .
ومع أنه رسول الله المؤيد بوحيه ، والذي لا سبيل إلى مرضاة الله إلا بطاعته ، أمره ربه بالتعاون مع أولي الألباب من المؤمنين على تدبير أمور الدولة ، وعلى أساس من الشورى التي يقررها حككم الله القائل لرسوله : [.. فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر] آل عمران 159 . والمحدد لنظام الحكم في دولة الإسلام بقوله الخالد : [وأمرهم شورى بينهم] الشورى 38 . وذلك لتدريب المسلمين على ممارسة الحكم الأفضل الذي من شأنه أن يشعر كل فرد من الأمة بكرامته وبحقه الواجب في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. ويتجلى ذلك قوياً بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في وصف الحاكم الصالح : (خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم وتصلون عليهم ويصلون عليكم ..) (4).
وفي وصف الظلمة المتسلطين يقول : (وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنوكم ..) (4).
وإنما يميز الخيار من الأشرار مدى التزامهم لشريعة الله في خدمة رعاياهم ، أو انتهاكهم حرماتها بالعدوان على حقوقهم وكرامتهم .
وهكذا كان صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى لرجل الدولة ، الذي يستشعر المسؤولية نحو كل فرد من رعيته ، حتى ليكون لهم بمثابة الوالد والمرشد ، يعلمهم ويساعدهم ويقيم بينهم العدل الذي تطمئن له قلوبهم جميعاً .. ويختار لهم الولاة الذين يقيمون فيهم شريعة الله بالقسطاس المستقيم ، فلا يزيغون عن الحق قيد شعرة ، ولا يحابون أحداً أو غرضاً إلا مرضاة ربهم ، لأنهم فقهوا قول نبيهم العظيم : (أيما رجل استعمل رجلاً من العشرة أنفس علم أن في العشرة أفضل ممن استعمل فقد غش الله وغش رسوله وغش جماعة المسلمين) . (5)
ولقد بلغ من عدالته في المسلمين أن يسلم نفسه لقصاص من يظن أنه آذاه ، كما فعل يوم بدر، إذ كان يسوي الصف فأصاب أحد أصحابه بقدح ـ سهم ـ في يده فآلمه ، فما كان منه إلا أن كشف له عن بطنه الشريف ليأخذ بحقه منه ..(6).
الحكم الصالح :
هذه بعض الأمثلة من سياسة رسول الله صلى الله عليه وسلم في داخل دولته ، فننظر إلى بعض صورها في تعامله مع المجاورين لدولته من الخارج .(/3)
وأول ما نلاحظه من ذلك مراقبته الدقيقة لأعدائه سواء من مشركي العرب أو من الدول المحيطة بالجزيرة .. فلم يكن ليفوته أي تحرك يهدد دولته هنا أو هناك ، فمنذ أن استقر وضع المدينة بعد ذلك التنظيم العظيم شرع في توجيه السرايا نحو خطوط قريش وحلفائها ، لإشعارهم باستعداده للقائهم ، فلا يطمعوا بضرب المدينة ، وفي كل زحف قام به هؤلاء لقتاله ، في بدر وأحد والخندق ، لم يستطيعوا أن يفاجئوه على غرة بل كانوا يجدونه على أتم الأهبة لهم في كل مرة ، ولما كشف اليهود عن نواياهم الخبيثة بنكث العهد ، وتآمروا مع أعدائه لضرب الدولة الإسلامية من الخلف أثناء غزوة الأحزاب ، انبرى لهم فأجلى بعضهم عن المدينة ، وعاقب بعضهم بما استحقوه على جرائمهم ، وبذلك طهرت المدينة من كيدهم وحلفائهم المنافقين ، ثم أتم الله نعمته على رسوله بفتح مكة فانفسح له الطريق إلى تبليغ رسالته للأمراء والدول المحيطة بدولته ، فكتب إليهم يدعوهم إلى الإسلام دين الله الحق لسكان الأرض جميعاً ، وحين قام بعضهم بالاعتداء على بعض المسلمين من عرب الشام جرد لهم الكتائب ، وقاد بنفسه أكبر جيش عرفته جزيرة العرب حتى نزل تبوك ، ولم يعد إلى المدينة إلا بعد أن قذف الله الرعب في قلوب أعدائه من الروم وحلفائهم من منتصرة العرب ... ثم كان آخر كتائبه هي التي أعدها عقيب معركة (مؤتة) بقيادة أسامة بن زيد لتأديب الأعداء المتربصين على الحدود الشمالية ، وظل يؤكد على الصحابة وجوب تسييرها وهو في مرض الموت ، حتى انتقل إلى جوار ربه نهض خليفته الصديق بتنفيذ أمره ، فانطلقت تخترق مواطن القبائل حتى أدت مهمتها بإخافة المتربصين لإيقاد الفتنة ، إذ أشعرتهم بقوة المسلمين ، وأن الدولة التي أقامها رسول الله باقية على منهجه في حماية الله وتأييده . وهكذا كانت رئاسته لتلك الدولة الناشئة رحمةً غامرة للمؤمنين ، وقوة رادعة للظالمين ، ونموذجاً عملياً يلقن الرؤساء والولاة في كل زمان ومكان كيف يكون الحكم الصالح الحازم سبباً في إسعاد الرعية ، لأنه قائم على الحنان والحب والخدمة الصالحة لوجه الله ..
ومن هنا انبثقت عدالة خلفائه الراشدين ، الذين تعلموا من سياسته الحكيمة أساليب السياسة العالمية ، التي لا تزال مضرب الأمثال للمفكرين ، والصورة الكاملة للحكم الصالح في العالمين ..
القائد العظيم :
يقول ربنا تبارك اسمه : [ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً ، ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز] سورة الحج40 . فالحياة إذن حلبة صراع بين الحق وأهله والباطل وأشياعه ، فكل غفلة من أنصار الحق لتفوق مدعاة لتفوق المبطلين ، وتمكينهم من الاسترسال في بغيهم وفسادهم .
وبما أن دولة الإسلام القائمة وحدها بحماية الحق ، كان لزاماً عليها أن تكون دائماً على أتم الاستعداد لردع الباطل ورد عواديه .. وهذا ما نفهمه من قوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : [وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم] الأنفال 6 .
ولقد حقق رسول الله صلوات الله وسلامه عليه هذا الركن الهام في دولته على أتم الوجوه فلم يدع وسيلة تؤمن أسباب القوة المطلوبة إلا عمل على استيفائها .. ولم يبت ليلة قط منذ قيام الحكم الإسلامي إلا وهو على ذكر من أحول أعدائه ..وكان من هديه إيقاد شعلة الجهاد في صدور المؤمنين صغاراً وكباراً ، يحضهم على إحسان الرمي ، ويروضهم على الأعمال الحربية ، ويوجههم إلى كل ما يعوز المجاهد في سبيل الله من عناية بالصحة ، وتمرس بفنون الرياضيات النافعة ، وصبر على الأحداث المختلفة ، فكان لتربيته المثالية هذه أثرها الفعال في تكوين الطاقات المتفوقة في المسلمين جعل كل فرد منهم متأهباً لخوض الغمرات عند أول إشارة ، وعضواً كامل الانسجام في صفوف الجنود من إخوانه . الذين بلغوا الذروة في الضبط والطاعة .
ويتعذر على الباحث استيفاء صفاته القيادية صلوات الله وسلامه عليه ، ذلك لأن كل تحرك قام به في الجانب العسكري جاء غاية في الدقة والتنظيم ، مما أدهش خبراء الحروب من كبار القادة العالميين قدماء ومحدثين .. ولذلك سنقتصر على بعض النماذج من صفاته الخارقة في هذا المجال لتكون دليلاً على ما وراءها مما يصعب حصره أو إحصاؤه .
شجاعته صلى الله عليه وسلم :
الشجاعة أحد العناصر الرئيسية في مقومات القيادة الناجحة ، ولو استعرضنا أهم صور الشجاعة في مواقف القادة العالميين لرأيناها متضائلة بإزاء ما حفظه لنا القرآن العظيم والسيرة النبوية من هذه الصفة في حياته صلى الله عليه وسلم .(/4)
لقد جعل الله الجهاد فرض عين على كل قادر من المسلمين ، لحماية الدعوة ولدفع العدوان عن دار الإسلام ، فكان لزاماً على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون الأسوة العليا في ذلك لسائر المؤمنين ، وفي هذا الصدد يقول له ربه [وقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك ، وحرض المؤمنين] النساء 84 . فلو لم يجد أحداً يقاتل معه لأقدم على القتال وحده ، تحقيقاً لأمر الله ومن هنا كانت شجاعته وإقدامه في ساحات الروع هي الأسوة البالغة التي يقتدي بها الأبطال من أصحابه رضوان الله عليهم .. وهذا على بن أبي طالب ، وهو من هو في البسالة والبطولة ، يقول في وصف أثره صلى الله عليه وسلم في أصحابه : (إنا كنا إذا حمي الوطيس واشتد البأس واحمرت الحدق اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه ..) (7).
ويوم أحد ، وقد سرى الاضطراب في جيش المسلمين بسبب ما أشيع عن مقتله ، ثبت في وجه العدو المتكاثر عليه مع قلة يسيرة من صحابته الذين كانوا حوله ، وكان ينظر إلى بطولة نسيبة بنت كعب المازنية وهي تقاتل بين يديه ، وعلى وجهه ابتسامة تنم عن مننتهى الاطمئنان ، وهو موقف لم يعرف مثله قط في تاريخ الأبطال .
وكذلك موقفه العجيب يوم حنين ، وقد أخذ المسلمون على غرة فانفضوا من حوله ، ولم يبق معه سوى بضعة أفراد ، فكان يتقدم في نحر العدو وهو يردد :
أنا النبي لا كذب
أنا ابن عبد المطلب (8)
وذات ليلة انطلق النذير في المدينة بأن عدواً دهمها فهرع الناس يتسابقون للدفاع عنها ، ولكنهم لم يكادوا يستكملون عدتهم حتى وجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عائداً على فرس عار من خارج المدينة ، وهو يطمئنهم بقوله : لم تراعوا .(9)
تخطيطه الحربي :
والشجاعة وحدها لا تفي بمتطلبات القيادة ، بل قد نزج بالجنود في هاوية الدمار إذا لم تقترن بها الحكمة وبعد النظر، والإرادة القوية والحب المتبادل بين القيادة والجنود . وعلى هذه العناصر تبنى الخطط الحربية الناجحة بمشيئة الله .
ولقد توافر لرسول الله كل هذه العناصر مجتمعة ، ولذلك كانت خططه الحربية موضع الدراسة العميقة من كبار القادة . ولنضرب على ذلك بعض الأمثال :
في أحد رتب النبي صلى الله عليه وسلم أوضاع جيشه على أحكم منوال ، فجعل ظهره إلى جبل أحد ليمنع مقاتلة العدو من الالتفاف حوله ، وأقام على الجبل المقابل خمسين من خيرة الرماة ، وأمرهم أن ينضخوا خيل المشركين بسهامهم ، وأكد عليهم الوصية بأن لا يغادروا أمكنتهم مهما تطور سير المعركة .. وبذلك ضمن نصر القلة المؤمنة على الكثرة الكافرة بفضل الله ، ثم بتدبيره الحازم ، حتى ولى هؤلاء الأدبار .. ولولا أن كثرة الرماة خالفت وصاته وغادرت مراكزها طلباً للغنيمة لكسرت شوكة المسلمين نهائياً منذ تلك المعركة ..
وعلى الرغم من الخسارة التي وقعت في صفوف المسلمين ، حتى لم يبق أحد منهم خالياً من الجراح ، فقد أهاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم في اليوم التالي أن ينهضوا معه لملاحقة العدو المنتصر، إيهاماً له بأنهم على أتم الاستعداد لاستئناف قتاله من جديد .. وبذلك أمن عودتهم لاقتحام المدينة .. وهي خطة من الحكمة تبلغ حدود الخوارق .
سرية العمل :
ومن عبقرية القيادة العظيمة الحفاظ على أسرار العمل الذي تريد تحقيقه ، صيانة له من جواسيس العدو ومن غفلات الأعوان ، الذين يسيئون التصرف عن حسن نية .
وتلك من خصائص حكمته العسكرية صلى الله عليه وسلم إذ كان من تصرفاته الحازمة أنه إذا أراد غزو جهة ما أدار حديثه عن جهة أخرى ، ليصرف الأذهان عن مراده .. فيحتفظ لنفسه بالقدرة على مباغتة عدوه .. وقد يوجه السرية في طريق ما دون أن تعرف وجهتها النهائية ، ويدفع لقائدها بخطاب يأمره ألا يطلع على مضمونه إلا في مكان معين ، فإذا قرأه عرف الاتجاه الذي يجب أن يسلكه (10).
ومما يدخل في هذا المجال من الإبداع تنوع وسائله الحربية ، وعدم التزامه الطرائق التقليدية وحدها ، كاتخاذه الخندق لمقاومة الآلاف الزاحفة على المدينة في غزوة الأحزاب .. وهو من الوسائل التي لم يعرفها العرب في حروبهم قط ..
وكان صلى الله عليه وسلم إلى ذلك حريصاً على ترسيخ روح التعاون في جنوده ليكون كل منهم سنداً للآخر، ومن ذلك تدريبه أمته على سنن الشورى في كل أمر هام . وعند الإقدام على الأعمال العسكرية يطرح الموضوع الذي يهمه على أهل شوراه ليستمع إلى آرائهم ، ثم يمضي إلى غايته متوكلاً على الله ، كما فعل قبيل ملحمة بدر، حيث عرض الأمر على كبار الأنصار والمهاجرين ، فأدلى كل منهم بوجهة نظرة ، حتى استقر الرأي على الاتجاه المفضل بتوفيق الله .(/5)
وهكذا فعل قبيل معركة أحد إذ طرح قضية العمل على جمهور المسلمين شيوخاً وشباباً ، وأخذ في النهاية برأي الراغبين في الخروج لملاقاة الغزاة خارج المدينة ولما خرج على الناس في عدة الحرب تقدم الشباب إليه نادمين خشية أن يكونوا قد أكرهوه على غير ما يريد ، فكان جوابه على ذلك : (ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته ـ عدة القتال ـ أن يضعها حتى يقاتل) . (11)
فكان درساً لقادة المسلمين يعلمهم ألا بد من الإدارة الحاسمة في الأمر الذي يختارون ، حتى لا يدعوا للتردد سبيلاً إلى نفوسهم .
* وبعد فهذه لمحات يسيرة عن حياة طافحة بأنواع الكمالات ، أحاطها خالق السموات والأرض بعنايته ، لتمثل القيم العليا في أتم صورها ، فإذا كان من خصائص الرؤساء والقادة والدعاة أن تنحصر مواطن عظمتهم في جانب على حساب الجوانب الأخرى من حيواتهم ، فقد استوفى محمد صلوات الله عليه وسلامه مقومات العظمة في كل ناحية من حياته ، فكان كالشمس تبهر الناظر من أي الجهات واجهها.
ولا عجب فإن خاتم النبيين ، وإمام المرسلين ، وحجة الله على العالمين .. فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين .(/6)
ملامح تربوية وفق الرؤية الإسلامية مالك إبراهيم بابكر*
قال تعالى: (هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين).
تأتي تلك الآيات البينات وهي تحمل في طياتها قيم ومعاني المنهج الإسلامي التربوي لصياغة الفرد والمجتمع؛ فهي تفصح بجلاء في سياق معانيها عن أن مهمة بعثة النبوة الأولى هي إخراج الأمة من الأمية بكافة أشكالها وأنواعها؛ وتربيتهم عبر الحكمة والموعظة الحسنة؛ لبناء أمة اسلامية بمعنى الكلمة.
وإخراج الأمة من الأمية لا يتحقق بالأمنيات والرغائب، وإنما يتحقق بالتربية، والتعليم، واكتساب المعرفة، والخبرات، وتأتي التربية في مقدمة أولويات المنهج الإسلامي من حيث البناء والصياغة للأمة قبل التعليم، والانطلاق نحو التمكين، والإسلام يجسد ذلك قولاً وفعلاً في إعداده للفرد، والمجتمع؛ وقد جاءت الآيات توضح ذلك كقوله تعالى: (كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون).
فالتزكية تعني التربية، وبناء النفوس، ثم يأتي بعدها التعليم عبر الهدى القرآني، والحكمة المنبثقة من السنة النبوية؛ المبينة لذلك الكتاب كما في قوله تعالى: (وأنزلنا عليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون).
ونجد أولوية التربية أيضًا واقعًا معاشًا، ونموذجًا حيًا في تلك المدرسة المحمدية التي أقامها رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بدار الأرقم بداية الدعوة الإسلامية؛ لبناء النفوس أولاً، وإعدادها إعدادًا إيمانيًا؛ للاستعداد لتحمل أعباء الدعوة، والانطلاق بها نحو الآفاق؛ فالتربية، والتعليم هما وظيفة الأنبياء، والمرسلين، والدعاة من بعدهم، وكل المصلحين، والداعين إلى الخير، والفضيلة؛ فهي واجب رباني؛ يقوم به الإنسان من باب الفرض، قبل أن يكون وظيفة؛ يأخذ عليها أجرًا؛ لقوله تعالى: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر)، كما أن التربية مسؤولية تضامنية؛ تقع على عاتق المجتمع كله؛ ابتداءًا من الدولة، وإلى آخر أسرة فيها؛ لقوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته).
ويعتبر المنهج التربوي المبني على الأسس، والقواعد الإسلامية صمام الأمان؛ لبناء أمة تقود البشرية إلى صراط المستقيم؛ عبر رسالته الخيرية الشاملة؛ قال تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس)؛ فكلمة (للناس) تعني لجميع البشرية.
ومن هنا نعلم عظمة المنهج الإسلامي، ونبصر قيمه، وتعاليمه التربوية التي تصلح لكل زمان، وأوان، ويسعد بها كل إنسان.
ويمتاز المنهج التربوي الإسلامي عن غيره بأنه ليس نظرية من صنع البشر؛ تأخذ جانبًا وتضع الجانب الآخر؛ فهي تهدف إلى بناء الإنسان كله، والعناية به منذ بداية نشأته الأولى وقبل أن يكون مولودًا؛ في أجنة الأرحام وإلى أن ينتقل إلى ربه؛ فهي منهج رباني، متكامل؛ يستسقى جذوره من العقيدة الإسلامية الصحيحة؛ (وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون).
ويغذي أفراده بالقيم الإيمانية الفاضلة؛ (لا يكتمل إيمان المرء حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)، (المسلم أخو المسلم).
ويبني أجسادهم بالرزق الحلال؛ من خلال حث الفرد للعمل، والبحث في الأرض، ومراقبة الله تعالى في حياته؛ قال تعالى: (هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور).
ويقول الحبيب المصطفى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: (ما أكل أحد طعامًا قط خيرًا من أن يأكل من عمل يده؛ وإن نبي الله داؤود عليه السلام كان يأكل من عمل يده).
والإسلام يحيط ذلك السياج التربوي بحقائق من الذكر الحكيم في قوله تعالى: (والعصر * إن الإنسان لفي خسر * إلا اللذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر)، (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون)؛ فالتربية من خلال المفهوم القرآني، والهدي النبوي هي إعداد، وصياغة الفرد، والمجتمع؛ ليتبوءوا مواقعهم في الحياة الدنيا؛ لأداء خلافة الله تعالى في الأرضن وتحقيق عبوديته الخالصة التي خلقوا من أجلها، وليهيئو أنفسهم ليتبؤوا مقاعدهم في الآخرة في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
هذه هي المعاني التربوية التي يريد الإسلام أن تكون واقعًا معاشًا في حياة الفرد، والمجتمع، وأن تترجم إلى سلوك عملي؛ لكي تكون حياة الفرد كلها عبادة؛ مصداقًا لقوله تعالى: (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين).. صدق الله العظيم.والله من وراء القص(/1)
ملامح تربوية وفق الرؤية الإسلامية
مالك إبراهيم بابكر*
قال تعالى: (هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين).
تأتي تلك الآيات البينات وهي تحمل في طياتها قيم ومعاني المنهج الإسلامي التربوي لصياغة الفرد والمجتمع؛ فهي تفصح بجلاء في سياق معانيها عن أن مهمة بعثة النبوة الأولى هي إخراج الأمة من الأمية بكافة أشكالها وأنواعها؛ وتربيتهم عبر الحكمة والموعظة الحسنة؛ لبناء أمة اسلامية بمعنى الكلمة.
وإخراج الأمة من الأمية لا يتحقق بالأمنيات والرغائب، وإنما يتحقق بالتربية، والتعليم، واكتساب المعرفة، والخبرات، وتأتي التربية في مقدمة أولويات المنهج الإسلامي من حيث البناء والصياغة للأمة قبل التعليم، والانطلاق نحو التمكين، والإسلام يجسد ذلك قولاً وفعلاً في إعداده للفرد، والمجتمع؛ وقد جاءت الآيات توضح ذلك كقوله تعالى: (كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون).
فالتزكية تعني التربية، وبناء النفوس، ثم يأتي بعدها التعليم عبر الهدى القرآني، والحكمة المنبثقة من السنة النبوية؛ المبينة لذلك الكتاب كما في قوله تعالى: (وأنزلنا عليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون).
ونجد أولوية التربية أيضًا واقعًا معاشًا، ونموذجًا حيًا في تلك المدرسة المحمدية التي أقامها رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بدار الأرقم بداية الدعوة الإسلامية؛ لبناء النفوس أولاً، وإعدادها إعدادًا إيمانيًا؛ للاستعداد لتحمل أعباء الدعوة، والانطلاق بها نحو الآفاق؛ فالتربية، والتعليم هما وظيفة الأنبياء، والمرسلين، والدعاة من بعدهم، وكل المصلحين، والداعين إلى الخير، والفضيلة؛ فهي واجب رباني؛ يقوم به الإنسان من باب الفرض، قبل أن يكون وظيفة؛ يأخذ عليها أجرًا؛ لقوله تعالى: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر)، كما أن التربية مسؤولية تضامنية؛ تقع على عاتق المجتمع كله؛ ابتداءًا من الدولة، وإلى آخر أسرة فيها؛ لقوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته).
ويعتبر المنهج التربوي المبني على الأسس، والقواعد الإسلامية صمام الأمان؛ لبناء أمة تقود البشرية إلى صراط المستقيم؛ عبر رسالته الخيرية الشاملة؛ قال تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس)؛ فكلمة (للناس) تعني لجميع البشرية.
ومن هنا نعلم عظمة المنهج الإسلامي، ونبصر قيمه، وتعاليمه التربوية التي تصلح لكل زمان، وأوان، ويسعد بها كل إنسان.
ويمتاز المنهج التربوي الإسلامي عن غيره بأنه ليس نظرية من صنع البشر؛ تأخذ جانبًا وتضع الجانب الآخر؛ فهي تهدف إلى بناء الإنسان كله، والعناية به منذ بداية نشأته الأولى وقبل أن يكون مولودًا؛ في أجنة الأرحام وإلى أن ينتقل إلى ربه؛ فهي منهج رباني، متكامل؛ يستسقى جذوره من العقيدة الإسلامية الصحيحة؛ (وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون).
ويغذي أفراده بالقيم الإيمانية الفاضلة؛ (لا يكتمل إيمان المرء حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)، (المسلم أخو المسلم).
ويبني أجسادهم بالرزق الحلال؛ من خلال حث الفرد للعمل، والبحث في الأرض، ومراقبة الله تعالى في حياته؛ قال تعالى: (هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور).
ويقول الحبيب المصطفى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: (ما أكل أحد طعامًا قط خيرًا من أن يأكل من عمل يده؛ وإن نبي الله داؤود عليه السلام كان يأكل من عمل يده).
والإسلام يحيط ذلك السياج التربوي بحقائق من الذكر الحكيم في قوله تعالى: (والعصر * إن الإنسان لفي خسر * إلا اللذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر)، (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون)؛ فالتربية من خلال المفهوم القرآني، والهدي النبوي هي إعداد، وصياغة الفرد، والمجتمع؛ ليتبوءوا مواقعهم في الحياة الدنيا؛ لأداء خلافة الله تعالى في الأرضن وتحقيق عبوديته الخالصة التي خلقوا من أجلها، وليهيئو أنفسهم ليتبؤوا مقاعدهم في الآخرة في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
هذه هي المعاني التربوية التي يريد الإسلام أن تكون واقعًا معاشًا في حياة الفرد، والمجتمع، وأن تترجم إلى سلوك عملي؛ لكي تكون حياة الفرد كلها عبادة؛ مصداقًا لقوله تعالى: (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين).. صدق الله العظيم.والله من وراء القصد..(/1)
ملحمة الشام
الشيخ سفر بن عبد الرحمن الحوالي
يا شامُ هل يحجُزُ الأشواقَ iiقضبانُ
أم يحجب الطيفَ أسوارٌ iiوجدران
قد استوينا فكلٌّ رهن iiمحبِسِهِ
للظلم من حوله سوطٌ iiوسجان
لنا إذا هبت الأنسام iiلاعجةٌ
من حُرقة الوجد فالأكباد نيران
يغشى الأسى ناظِرَينا كلما iiومضت
إذا تألق في عليائها iiأملٌ
لا عتْبَ أنْ فرقتنا للنوى iiسبلٌ
وهكذا تنضُبُ الأرواح iiنازفةً
لم يبق إلا صُباباتٌ نجاذبها
نباكِرُ الغمَّ في الإصباح iiمتقداً
تطير أرواحنا شوقاً ولو iiقَدَرَت
أنتم نَدامى الهوى ما للهوى iiبدل
لسنا من الحب في شيء لو انصرفت
نسلو الحياة ولا نسلو iiتذكرَكم
وحسبكم أنكم في القلب iiمسكَنُكم
عسى تراسُلُ أشواقٍ iiيعللنا
أواصر الحبِّ كلُّ الحب iiتجمعنا
إمَّا سألتَ فإنا معشر iiنُجُبٌ
وكلُّ ناعورةٍ بالشام iiنادبةٌ
الله أكبر! هذا الظلم iiفرقنا
كأنه لم يكن بالمرج iiمرتعُنا
ولم يكن في الثغور الغرِّ مرصدُنا
وفي السواحل نيرانٌ iiوأربطةٌ
وفي المدائن أنسابٌ iiمؤلَّفةٌ
وأعذبُ الحب ما كانت iiموارِدُهُ
يا شامُ يا معقِلَ الإسلامِ ما iiركضت
إذا تضاءل هذا الحب عن iiبلد
تاللهِ ما الغوطةُ الغناء iiمُنْيَتُنا
ولا رسومٌ لأجداد بساحتكم
ولا صبا بردى يَسْبي iiمشاعرَنا
من البراق أصولُ الحب قد iiبزغت
إذا سرى الطيف منكم وانثنى iiسحراً
للهِ حبٌّ رسولُ الله iiأسَّسَهُ
وقام من بعده الصديقُ iiيورِدُهُ
بعزمةٍ عقد الرايات iiمرتقباً
وقال: إن لم نبادرهم iiبمعمعة
والدهر ما عزمَ الصديقُ iiمرتجفٌ
إذا تحنن فالإعصار iiمرحمةٌ
يعطي وليس لمخلوق عليه iiيدٌ
دع ليلة الغار فالقرآن iiخلدها
والروم قد أثخَنَت في الفرس عن حَنَقٍ
حلاوةُ النصر لازالت iiتداعبها
لكنَّ قلبَ هِرَقْلٍ واهنٌ iiوَجِلٌ
لديه من سابق الأخبار عن iiسلف
شمسُ الرسالة هذا حينُ iiمطلعِها
"ساعير" و "الطور" للإسلام تَقْدِمةٌ
والله يختار مما شاء مرسلَهُ
والملك في فرع إسماعيل iiمنتقل
ملك الختان بدا في الأفق iiشاهده
وأخمدت نار كسرى حين iiمشرِقِهِ
تلا كتابَ رسولِ اللهِ في iiأدبٍ
هذا الرسولُ الذي كنا iiنُؤَمِّلُهُ
وهذه الشام للمبعوث iiعاصمةٌ
إن اتبعناه فالدنيا لنا iiتَبَعٌ
وإن أبينا فأمر الله iiغالِبُنا
نعمْ هِرَقْلُ لقد أسمعتَ ذا iiصَمَمٍ
أبت بطارقةُ الرومان iiموعظةً
والكبر ما كان في طياته iiحسدٌ
إلا "ضُغاطرُ" إن الله iiأكرمه
محمدٌ نحن في الأسفار نعرفه
تواترت عندنا أنباء iiبَعْثَتِهِ
لولاه ما هاجر الأحبار iiواصطبروا
وللنبوة أعلام إذا نُشِرت
وحْيٌ يصدق بعضاً بعضُه iiأبداً
والحق أوله مهدٌ iiلآخرِهِ
تقدس الله أن يدعَى له iiولد
وكلكم عارف ما قلتُ iiفاتبعوا
فأشعياء حكى أوصاف طلعته
ودانِيَالُ فقد جاءت iiنبوتُهُ
وفي المزامير يأتي أحمدٌ iiفإذا
وسوف تُخْدِمُهُ أقيالهَا سبأٌ
ويُهْرَعُ الناسُ نحو البيتِ iiعاريةً
تُهدَى إليه قرابينٌ iiمقلَّدَةٌ
وفي شكيمٍ له جيشٌ ذوو iiغُرَرٍ
وأرضُ بابلَ يعنو سحرُها iiهلعاً
هم أمةُ الحمدِ والتكبيرُ ديدَنُهم
وفي النهارِ لُيوثٌ لا iiيساوِرُها
هذا هو الملكوتُ الحقُّ قد iiبزغت
كأنني أبصر الأملاكَ iiتحمله
وذا المباركُ باسم الرب iiمَقْدَمُهُ
تمت على الحجرِ المرفوضِ iiنعمته
أيخفض اللهُ بنياناً iiونرفعُهُ؟
ويبتلي اللهُ تقوانا iiفيلبَسُها
فمزَّقوه وقد كان الإمامَ iiلهم
كانت دمشقُ ترى هذا iiوتسمعه
وكلُّ مؤتمر في أي محتَضَرٍ
بكى هِرَقْلُ ولكنْ كان ذا iiجَلَدٍ
يا أيها الرومُ إن لم تُسْلِموا فلنا
ومُلْكُ أحمدَ حدُّ الشمس iiمَبْلَغُهُ
وسوف تسجُدُ روما وهي iiصاغرةٌ
قالوا أندفعُ للأعراب iiجِزْيتَنا
فقال يا ليتني عبدٌ iiلأعسَفِهِم
وكنت ألثُم من خير الورى iiقَدَماً
وقد تمنى مسيحُ الله iiخدمَتَهُ
ثم انثنى من وراءِ الدربِ iiمكتئباً
وكان ما كان مما الدهرُ iiسجَّلَه
ملاحمُ الحق واليرموكُ iiرايتُها
وكلما أوقد الرومانُ ملحمةً
جئنا صقوراً على شُقْرٍ iiمضمَّرةٍ
قد انتضينا سيوفَ الحق ليس iiلها
وللبطولات أصداءٌ iiمزلزِلَةٌ
فما تظن بجيش في iiذؤابته
ملائكُ الله بالإرعاب iiتنصرُهم
تمضي القرون ونونُ الدهر iiعاجزةٌ
ودِّعْ هرقل وداعاً لا لقاءَ iiله
ودعْ على حسرةٍ ما كنتَ iiتعشقه
غال الحقيقةَ قومٌ أترِعوا بَطَراً
فاقنعْ بمشطورِ مُلكِ الروم ما iiبقيت
ومن يعظِّمْ رسولَ الله يجُْزَ iiبِهِ
والحمد لله صانَ الله ملَّتَنا
وأورثَ الله أرضَ الأنبياء iiلنا
والرومُ ما شئتَ من رأيٍ ومن iiعَدَدٍ
وإنما خَذَلَ الرحمنُ iiمجمعَهُم
وكي يظلوا عدواً دائماً iiأبداً
والشام بالشوق قد أخفت شماتَتَها
يا شام قد لاحت البشرى على iiظمأ
حان اللقاء فتيهي وارقصي iiجَذَلاً
أبو عبيدةَ والتقوى iiتجلِّلُهُ
وعانقته دمشق وهي iiغارقةٌ
قالت ألا ترتوي من مَبْسِمٍ iiسقطت
هذا العفاف وهذا الزهد iiأذكَرني
يا حبذا النورُ نورُ الله يغمُرُني
هذا الحواريُّ لا ما كنتُ iiأحسَبُهُ(/1)
هذا الأمين كنوزُ الأرض iiتطلبُه
والزهدُ في الفاتحين الغرِّ iiمَنْقَبَةٌ
سل الفتوحَ التي كانت شريعتُها
يا من وسادته تُرْسٌ ومسكنه
ما الشام قبلك إلا مقْبَرٌ iiخَرِبٌ
... في الأفق بارقة تخبو وتزدان
هوى إليه هوىً وانساب iiألحان
فالدهر ذو دولة والوصل ميَّان
بكل جرح مرارات وأشطان
لا ترتوي فالجوى باليأس iiحرَّان
وفي العشية آهاتٌ iiوأشجان
طارت إليكم مع الأرواح iiأبدان
منكم إذا سامر المشتاق َ نَدمان
عنكم صبابتُنا أو ضل iiوجدان
وهل تَداوَى بغير الذكر iiولهان
حيث الأسى راتع واليأس حيران
وربما خفتت بالشوق أحزان
رغم القيود أما قد قال iiحسان؟:
الأزد نسبتنا والماء iiغسَّان
عهد الوصال فهل للهَيْض جُبران
وللمقادير إيلاف iiوإظعان
ولم يكن في ربى جيرونَ iiجيران
وفي المضائق حراس iiوسكان
وفي الجزيرة أحباب iiوإخوان
وفي العشائر أصهار iiوأختان
بالقدس أواه هل للقدس iiنسيان
بُلْقُ الخيول ومد الظلَّ iiأفنان
ففي مرابعكم فيءٌ وأكنان
وفي مسارحها للحسن غِزلان
إذ كان يملكها أزد iiوزهران
لكنما حبكم دين iiوإيمان
وقد أضاءت لها بصرى iiوحوران
يهيج بالقلب للإسراء عنوان
وهل لنا غيرَهُ أُسٌّ iiوأركان
والشرق والغرب نيران iiوصلبان
بشرى الرسول وأمضى وهو iiعجلان
تُنسِي الحلومَ فلا كنا ولا iiكانوا
والأرض مائدة والبحر iiطوفان
وإن توعد فالأنسام حُسْبان
إنفاقه حِسْبةٌ والعتق iiإحسان
تقاصرت هممٌ عنها iiوأزمان
فالشام قلب وباقي الملك iiجثمان
ونشوة النصر في الطغيان iiطغيان
تصارعت فيه أنوار iiوأوثان
من النبوات آيات وبرهان
فلتبتهج بسنا الرحمن iiأكوان
والنور تعلنه في الأرض ii"فاران"
والخلق ليس لهم رأي ولا iiشان
حتماً ولو كرهت روم iiويونان
فبان أن الملوكَ القُلْفَ قد iiبانوا
واهتز بالشُّرُفات الشُّمِّ iiإيوان
وقال للروم والأرصاد iiحيطان
العين نائمة والقلب iiيقظان
للسيف ظل وللزيتون iiأغصان
وسائر الناس خدام iiوولدان
وملكنا ضائع والسعي iiخسران
لو كان لقوم آذان iiوإذعان
وغلَّ أحلامَهم كِبرٌْ iiوبهتان
فشرُّ وادٍ تردَّى فيه iiإنسان
وقال يا قوم إنَّ الحق iiفرقان
فكيف يوبقنا في الكفر iiنكران
فالخلق ينتظرون الإنسُ iiوالجانُ
على لظى يثربٍ والشامِ iiجِنَّان
أصغى وأبصرها بكمٌ iiوعميان
توراة موسى وإنجيل وقرآن
جبريل ناموسُهُ والرسْلُ iiإخوان
أو أن يكون له نِدٌّ وأعوان
حكيمةَ النمل إذ وافى iiسليمان
كما حكى صورةً بالرسم فنان
نصاً كما يبصر الإنسانَ iiإنسانُ
كلُّ الجزائر والأنهار iiخُضْان
وسوف تُتْحِفُه بالورد iiلبنان
أطرافُهم ولهم عَجٌّ iiوألحان
تسوقها حسبةً مصرٌ iiومديان
يقتص مما أراقت قبلُ iiرومان
إذا ترنم بالتهليل iiعربان
إذا علوا شرفاً أو لاح iiعلوان
غُمْرٌ وهم في ظلام الليل iiرهبان
أنواره فالدجى المبهور iiوسنان
وهم صفوف لمبداه iiوفرقان
بنوره محفِلُ الأملاكِ iiزهوان
فصار تاج الذرى والدين iiبنيان
ويصطفي الله مختاراً iiونختان
من التعصب إغماط وشنْآن
لكنْ تملَّكَهم بغيٌ iiوأضغان
كذاك أصغت لقول الحبر iiجولان
غيرَ السقيفة أسمارٌ iiوبطلان
وقال قولة نصح وهو iiلهفان
في الصلح خير وبعض المر iiحلوان
والترك من جنده والصين iiأقنان
مهما تقادمَ أجيالٌ iiوأزمان
أبناءِ هاجرَ؟! هم للروم عُبدان!
ملكاً ولا مُلْكَ لي فيكم ولا iiشان
يحيى بقُبلتها روح ووجدان
وحملِ نعليه والإنجيلُ برهان
إذ أقبلت لجنود الله iiفرسان
وشهدت آيَهُ حِمْصٌ iiوبَيْسان
فاضت بها من روابي الشام iiشطآن
هوى لنا شُهُبٌ وانقضَّ iiعِقبان
وهم على الدُّهْمِ يوم الرَّوْع iiغِربان
في النقع إلا جُسومَ الروم iiأجفان
سارت بها في فجاج الأرض iiركبان
أصحابُ بدر وسيفُ الله iiأركان
لهم من الذكر أحرازٌ وأحصان
عن كَتْبِ أمجادهم والسطرُ iiعيَّان
ضاع الهوى فَقَدَ الأحلامَ iiهيمان
مراتعَ العز حيث الملك iiجذلان
كما قد اغتالها في الدير iiرهبان
من البطاقةِ أطلال iiوعنوان
دنيا إذا فاته دين iiورضوان
من مثل ما عاث "قسطنطين" أو iiجان
والسيف للسيف أكفاء وأقران
لكنما الأمرُ توفيق iiوخذلان
كيلا يَمُنَّ على الإسلام iiمنَّان
لا يستكين لهم حقدٌ iiوأضغان
والحب يوقده للصب كتمان
واستشرف الفجرَ أكمامٌ iiوسيقان
فموكب الشوق للأعراس iiبستان
هشت لملقاه آكام iiووديان
في سكرة الحب والمشتاق iiنشوان
منه فدى لرسول الله iiأسنان
يحيى الرسولَ فقل لي: كيف iiأزدان
وحبذا الجندُ جندُ الله مَن iiكانوا
إذ للنواقيس في الأرجاء iiإعلان
وكم سباها من الأحبار iiخَوان
ما نالها قط عربيدٌ iiودنَّان
ما سار "إسكندرٌ" أو سن ii"ساسان"
خُصٌّ ومِزْوَدُهُ ملح iiوأُشنان
تناثرت فيه أشلاءٌ iiوأكفان(/2)
ملحمة القصر الكبير
بقلم: أنور عبد العزيز الحمدوني
________________________________________
في زمن كانت فيه الجيوش الصليبية تغير على الطرف الشرفي لدار الإسلام، فتحتل، وتنهب، وتشر، وفي زمن كانت فيه البرتغال، أقوى إمبراطورية في العالم، إلى جانب إسبانيا حيث تمتد رقعتها إلى مناطق شاسعة من العالم، في هذا الزمن حين بلغ الصليبيون قمة قوتهم، فكان لا بد –في نظرهم- من كسر شوكة الإسلام في جناحه الغربي.
في سنة 981 هـ تولى ملك المغرب محمد المتوكل [1]، وبقي على العرش حوالي السنتين، إذ انقلب عليه أبو مروان عبد الملك السعدي، وأخوه أحمد (وهما من عائلة المتوكل) بمساعدة العثمانيين الذين كانوا على الحدود الشرقية للمغرب، في الجزائر. فما كان من المتوكل إلا أن فرّ إلى البرتغال طالباً النجدة من إمبراطورها دونْ سباستيان على أن يسلمه كل شواطئ المغرب على المحيط الأطلسي دون استثناء.
هكذا وجد سباستيان فرصته الذهبية للقضاء على الإسلام في جناحه الغربي، وتنصير المسلمين فيه تطبيقاً لوصايا إيزابيلا الكاثوليكية. وبدأ الإمبراطور البرتغالي مشاوراته مع أباطرة أوروبا وملوكها، فاتصل أول الأمر بخاله فيليب الثاني عاهل إسبانيا، الذي سمح للمتطوعين من كل ممالكه بمرافقة سباستيان إلى المغرب للقتال في سبيل الصليب، وتحرك سباستيان بجيوش نظامية من ألمانيا وإيطاليا وإسبانيا والفاتيكان البابوية ومتطوعين من إنجلترا وفرنسا بالإضافة إلى جيوشه البرتغالية.
وعلم عبد المالك ملك المغرب بالمخطط الذي يحاك ضد بلاده، فبعث رسالة إلى إمبراطور إسبانيا يدعوه إلى حسن الجوار وإقامة علاقات صداقة، كما بعث لسباستيان يؤنّبه فيها على العمل الذي ينوي الإقدام عليه، ويهدده بسوء المصير،ويدعوه في الوقت نفسه إلى الدخول في السلم، والشروع في المفاوضات، ومما جاء في الرسالة:
»إنّ عزمك على محاربتي في عقر داري ظلم وعدوان، وأنت تعلم أني لا أضمر لك شراً، ولم أقم بحركة ضدك، فكيف تبيح لنفسك أن تسطو على حقوق وهبني الله إياها وتقدمها لشخص آخر هو محمد المتوكل، مقابل وعود (تسليم شواطئ الأطلسي)، لا يستطيع أن يفي لك بها ما دمت على قيد الحياة، وباستثناء العاصمة مراكش فإنني مستعد أن أتنازل لابن أخي (محمد المتوكل) على أي قضية، وإنك بإغرائك مغربياً على أخيه تقوم بعمل مشين لن يخدم سمعة البرتغال. إني أعلم أنك في طريقك لإبعادي عن مملكتي، ولكنك لا تعلم أنك بكل ما تملك وبما يوجد تحتك من ممالك لن تقدر على ذلك، ولا تظن أن الجبن هو الذي يملي علي ما أقول لك، فإن فعلتَ فإنك تعرض نفسك للهلاك، وإنني مستعد للتفاهم معك رأساً لرأس في المحل الذي تريده، وإنني أفعل كل هذا سعياً في عدم هلاكك المحقق عندي، ولا يملي علي هذه المشاعر إلا محبّتي للعدل، وإنني أقبل أن أتحاكم معك لدى محكمتك التي لا تستطيع ان تنتزع من أحد حقاً من حقوقه ظلماً وعدواناً لتعطيه لغيره، وإنني أقبل حكمها مسبقاً، وإنني أشهد الله على ما أقول، وأعلم أنك شاب لا تجربة لك، وأن في حاشيتك من يشير عليك بآراء فاشلة، لكن هيهات أن يمتنع الذي عزم«.
بداية المعركة واستراتيجية عبد المالك في الحوار مع إمبراطور البرتغال..
بدأت الحملة الصليبية في السابع من تموز (رمضان) 986 هـ، وانطلقت المراكب من ميناء قادس متوجهة صوب المغرب، حاملة جيوشاً صليبية هي أقوى جيوش العالم آنذاك عدداً وعدة.
وصلت الجيوش إلى مدينة أصيلة فاحتلتها ونواحيها، وكان ملك المغرب عبد المالك في مراكش آنذاك، فبعث إلى سباستيان برسالة قال فيها: »إنني أعترف بشجاعتك وشهامتك يا سباسيتان، ودليلنا على ذلك هو هجومك على بلادنا الآمنة، إنني أنحي عليك باللوم لآنك انتهزت فرصة غيابي وهجمت على المدن والقرى الوديعة تفتك بالمدنيين والفلاحين العزّل، وهذا لم أكن أعهده فيك، والآن ففي إمكانك أن تنتظرني أياماً أقدم عليك«.
وتأثر سباستيان بالرسالة بفعل الغرور، وكان هذا شيئاً هاماً ينم عن ذكاء عبد المالك، وذلك لكي لا تتوغل جيوش سباستيان في الآراضي المغربية، فيكسب سكانها الذي سيحاربون إلى جانبه بالإكراه.
وسافر عبد المالك إلى مدينة القصر الكبير، فكتب مرة إخرى إلى سباستيان: »لقد قطعت أنا المراحل والمسافات الطويلة لمقابلتك، أفلا تتحرك أنت يا سباستيان لمقابلتي، لتبرهن علىشجاعتك وشدة مراسك؟« وكانت هذه أيضاً خطة ناجحة لإبعاد الجيوش الأوروبية عن مراكز التموين على البحر.
الملحمة..
وفعلاً تحركت الجيوش الأوروبية الصليبية مهاجمةً المغاربة الذي استدرجوا هذه الجيوش إلى سهل القصر الكبير في مكان استراتيجي بين وادي المخازن في الخلف ونهر لوكوس على اليمين ووادي وارور في الأمام.(/1)
ثم كان الشطر الثاني من خطة المسلمين للمعركة، إذ هدموا جسر وادي الخازن لقطع خط الرجعة على الفلول الصليبية، وأخيراً كان الملتقى بعد فجر يوم الاثنين 30 جمادى الأولى سنة 986 هـ (4 آب/أغسطس 1578م). ويصف لنا المؤلف المغربي الأفراني المعركة في كتابه »نزهة الحادي في أخبار القرن الحادي« قائلاً: »نزل العدو علىوادي المخازن، وقطعه بجيوشه وعبر جسر الوادي، فأمر عبد المالك بالقنطرة أن تهدم، ووجه لها كتيبة من الخيل فهدموها، ثم زحف بجيوش المسلمين وخيل الله المسوّمة، فالتقت الفئتان، وحمي الوطيس، واسودّ الجو بنقع الغبار، ودخان مدافع البارود، إلى أن هبّت على المسلمين ريح النصر، فولّى المشركون الأدبار، وقُتِل الطاغية البرتغالي غريقاً في الوادي، ولم ينجُ من الروم إلا عدد نذر وشرذمة قليلة«.
وصدق الله العظيم: { إن تنصروا الله ينصركم ويثبّت أقدامكم } [محمد: 7]، صدق الذي أعزّ عبده، ونصر جنده، وهزم الأحزاب وحده. وسبحانه، ففي يوم واحد –في هذه المعركة- مات ثلاثة ملوك، الأول معتدٍ هو سباستيان، الذي قُتِل من جراء جرحين أصيب بهما في رأسه، وجرح آخر في ساعده، ثم غرق في الوادي، والثاني هو محمد المتوكل، غرق أيضاً فأخذوه وطافوا به في القصر الكبير، وفاس ومراكش، أما الأخير فهو أبو مروان عبد المالك، صعدت روحه إلى ربها راضية مرضية، بعد المرض الذي أصابه وهو يوجّه أوامره ويسيّر المعركة من داخل خيمته.[2]
نتائج معركة القصر الكبير
هل كانت معركة صليبية؟ لقد غيّرت معركة القصر الكبير مجرى مهماً في التاريخ، إذ فقدت البرتغال –مثلاً- استقلالها، وفقدت ممتلكاتها الواسعة في العالم وأوقفت الهجمات الصليبية الشرسة الأوروبية عموماً والبرتغالية خصوصاً على الخليج العربي. أما المغرب فقد جنى غنائم طائلة، وكسب سمعة عالية، حتى بدأت دول أوروبا نفسها تخطب ودّه، وهذا ما أوجد في نفس الأوروبيين عقدة حاصة، ذهبوا معها إلى أن المعركة لم تكن صليبية، ومن بين هؤلاء المؤرخ الفرنسي هنري تيراس الذي يقول: »إنها لم تكن من الصدمات الكبرى بين النصرانية والإسلام، بل كانت –حسب تواريخ البرتغال والمغاربة معاً- حادثاً عرَضياً بدون مقدمة ولا نتائج«.
وهذا خطأ، وإلا كيف نفسر ما ترتبت على المعركة من نتائج لا يجهلها هذا المؤرخ نفسه؟ وكيف نفسر الاستعدادات طويلة الأمد، ومشاركة جيوش كثيرة من أوروبا بلغ تعدادها 35 ألف مقائل صليبي[3] عدا المتطوعين الذين يزيدون على عشرة آلاف، على متن ألفي مركب شراعي، في الوقت الذي كان فيه تعداد المسلمين 37 ألف مقاتل ضمنهم أربعة آلاف من الجيوش العثمانية التي تكوّن فرق المدفعية والبارود.
ولعل من المفيد هنا أن أورد ما قاله كاستوني دوفوس[4] حول نظرة البرتغال إلى المعركة: »إن من المؤكد أن رجال البلاط في لشبونة كانوا ينظرون إلى تلك الحرب وكأنها رحلة من رحلات الساحة، وليس أدل على ذلك من أنهم كانوا يهيئون الصلبان لتعليقها على مساجد فاس ومراكش. وقد أبدى كثير من نساء الطبقة النبيلة رغبتهن في مصاحبة الجيش البرتغالي وكأنهن سيحضرن إلى ملعب لسباق الخيل، وكان الشاعر الكبير كاموانس، الذي اشتهر بكونه أنبغ الشعراء وأكثرهم قصائد في الحث على القضاء على المغاربة، على فراش الموت، وحيث لم يستطع ركوب البحر فإنه بعث مع الجنود أغنية مجّد فيها المحاربين الذي باركهم البابا، وصلى من أجل انتصارهم«.
وأورد مؤرخون آخرون حالة الاستعداد التي كانت عليها أوروبا قبل المعركة، إذ ذهب الخبال ببعض المهندسين إلى درجة أنهم وضعوا تصميمات لتحويل قبة القرويين إلى مذبح كنائسي تعلّق فيه صورة العذراء.
وهذا فقط يكفي للدلالة على أن معركة القصر الكبير كانت صداماً حاسماً بين الإسلام والنصرانية المزيفة، أي وبتعبير آخر: كانت معركة صليبية فاصلة في التاريخ.
________________________________________
[1] محمد المتوكل: من ملوك دولة السعديين بالمغرب، وعبد المالك هو ابن عمه.
[2] بعض الروايات تقول: إنه سُقي سماً من طرف أحد خدامه الأتراك.
[3] بعض الوثائق الأجنبية تذكر أنهم كانوا ستة آلاف مقاتل، انظر الجزء 3 من سلسلة دي كاسطري، ص 397.
[4] مؤرخ فرنسي من القرن الماضي.(/2)
ملحمة النبي
شعر: عمر أبو ريشة
أي نجوى مخضلة النعماء رددتها حناجر الصحراء
سمعتها قريش فانتفضت غضبى وضجت مشبوبة الأهواء
ومشت في حمى الضلال إلى الكعبة مشي الطريدة البلهاء
وارتمت خشعة على اللات والعزى وهزت ركنيهما بالدعاء
وبدت تنحر القرابين نحرا في هوى كل دمية صماء
وانثنت تضرب الرمال اختيالا بخطى جاهلية عمياء
عربدي يا قريش وانغمسي ما شئت في حمأة المنى النكراء
لن تزيلي ما خطه الله للأرض وما صاغه لها من هناء
شاء أن ينبت النبوة في القفر ويلقي بالوحي من سيناء
فسلي الربع ما لغربة عبد الله تطوى جراحها في العزاء
ما لأقيال هاشم يخلع البشر عليها مطارف الخيلاء
انظريها حول اليتيم فراشاً هزجاً حول دافق اللألاء
وأبو طالب على مذبح الأصنام يزجي له ضحايا الفداء
هو ذا أحمد فيا منكب الغبراء زاحم مناكب الجوزاء
بسم الطفل للحياة وفي جنبيه سر الوديعة العصماء
هبَّ من مهده ودبَّ غريبَ الدار في ظل خيمة دكناء
تتبارى حليمةٌ خلفه تعدو وفي ثغرها افترار رضاء
عرفت فيه طلعة اليمن والخير إذا أجدبت ربى البيداء
وتجلَّى لها الفراق فأغضت في ذهول وأجهشت بالبكاء
عاد للربع أين آمنةٌ والحب والشوق في مجال اللقاء
ما ارتوت منه مقلة طالما شقت عليه ستائر الظلماء
يا اعتداد الأيتام باليتم كفكف بعده كل دمعة خرساء
أحمد شبَّ يا قريش فتيهي في الغوايات واسرحي في الشقاء
وانفضي الكف من فتى ما تردَّى برداء الأجداد والآباء
أنت سميته الأمين وضمخت بذكراه ندوة الشعراء
فدعي عمه فما كان يغريه بما في يديك من إغراء
جاءه متعب الخطى شارد الآمال ما بين خيبة ورجاء
قال هوِّنْ عنك الأسى يابن عبد الله واحقن لنا كريم الدماء
لا تسفّهْ دنيا قريش تبوِّئْك من الملك ذروة العلياء
فبكى أحمد وما كان من يبكي ولكنها دموع الإباء
فلوى جيده وسار وئيداً ثابت العزم مثقل الأعباء
وأتى طوده الموشح بالنور وأغفى في ظل غار حراء
وبجفنيه من جلال أمانيه طيوف علوية الإسراء
وإذا هاتف يصيح به اقرأ فيدوّي الوجود بالأصداء
وإذا في خشوعه ذلك الأمي يتلو رسالة الإيحاء
وإذا الأرض والسماء شفاه تتغنى بسيد الأنبياء
جمعت شملها قريش وسلَّتْ للأذى كلَّ صعدة سمراء
وأرادت أن تنقذ البغي من أحمد في جنح ليلة ليلاء
ودرى سرَّها الرهيب عليٌّ فاشتهى لو يكون كبش الفداء
قال : يا خاتم النبيين أمست مكة دار طغمة سفهاء
أنا باق هنا ولست أبالي ما ألاقي من كيدها في البقاء
سيروني على فراشك والسيف أمامي وكل دنيا ورائي
حسبي الله في دروب رضاه أن يرى فيّ أول الشهداء
فتلقاه أحمد باسم الثغر عليماً بما انطوى في الخفاء
أمر الوحي أن يحثَّ خطاه في الدجى للمدينة الزهراء
وسرى واقتفى سراه أبو بكر وغابا عن أعين الرقباء
وأقاما في الغار والملأ العلوي يرنو إليهما بالرعاء
وقفت دونه قريش حيارى وتنزَّت جريحة الكبرياء
وانثنت والرياح تجأر والرمل نثير في الأوجه الربداء
هللي يا رُبا المدينة واهمي بسخيِّ الأظلال والأنداء
واقذفيها الله أكبر حتى ينتشي كل كوكب وضاء
واجمعي الأوفياء إن رسول الله آت لصحبه الأوفياء
وأطلّ النبي فيضاً من الرحمة يروي الظماء تلو الظماء(/1)
ملحمة تورا بورا (1)
بقلم الدكتورعدنان علي رضا النحوي
لهفي هُنَاك ! " وتُوْرَبُوْرَا " قِمَّةٌ ... ... تَزْهُو بأَمْجَادِ التّقاة وتَعْتَلي
صَعدَتْ تَسَابَقُ في الفَضاء كَأنّها ... ... عَزمُ الأباة وهِمَّةٌ لمْ تُخْذَلِ
حَمَلَتْ معَ التّاريخ أرْوَعَ قِصَّةٍ ... ... للمؤمنين الصادقين البُذَّلِ
أَعْيَتْ زُحُوفَ الطاَمِعِينَ وروّعَتْ ... ... كُلَّ الطّغَاةِ ونَزْوَةَ المُتَمَحِّلِ
وَبقيتِ للإسْلامِ آيةَ حِصْنِهِ ... ... وشموخَ رَايتِهِ وعِزَّة مَعْقِلِ
وأتى عليك الغاصِبُون كأَنّهمْ ... ... جُنّوا بأهْواءِ البُغاةِ المُيَّلِ
زَعَمُوا ! أ " إرهَابٌ " يُرادُ قِتالُه ؟! ... ... ما كان بيِّنَةٌ ولا مِن مَدْخَلِ
زَعَمُوا وقُالوا كُلَّ يَومٍ حُجَّةً ... ... كَذَبَتْ ، ودَعْوى مُفْتَرٍ و مُضَلِّلِ
ويحي ! أَ إِرهابٌ يُرادُ قِتالُه ؟! ... ... وَهُمُ ذوو الإرْهاب والظُلْمِ الجَلي
كَمْ أرْهَبُوا الدُّنيا بِظُلْمٍ غَادرٍ ... ... وَهَلاكِ أَقْوامٍ وفُحْشِ مُنَكِّلِ
مَنْ كَان يَنْسى " ناجَزاكي " أو " هِرُو ... ... شِيما " وكلَّ جريَمةٍ وتَغَلْغُلِ
ورجالَ أفْرِيقيا تُسَاقًُ حُشُودهُمْ ... ... بَيْنَ السَّلاسِلِ والهَوانِ الأثْقَلِ
وهُنَودُ أمريكا تُبادُ جُمُوعُهُمْ ... ... ما بَيْنَ تَشْريدٍ يُدارُ ومَقْتَلِ
في كُلِّ أرضٍ في البسيطة فِتْنَةٌ ... ... ودَوِيُّ إِرهابِ الطغاةِ ومِعْوَلِ
وهَلاكُ أسْلحَةِ الدَّمارِ جَميعها ... ... تَهْوِي عَلى شَعْبٍ هُنالكَ أَعْزَلِ
أهُناكَ إرْهابٌ أشَدُّ ضَرَاوةً ... ... مِنْ مُجْرِمين بَغَوْا وكِبْرٍ مُوغِلِ
كِبْرٍ يَجُرُّ أُنُوفَهُمْ لِهَلاكِهِمْ ... ... يَوْماً على قَدَرٍ أَعزَّ وأعْدَلِ
* * * ... * ... * * *
صَبْراً جميلاً " تُورَبورا " ! فَاسْلمي ... ... لا بُدَّ من بُشْرى تُطِلُّ وتَنْجَلي
ويحي ! وأَطنَانُ القَنابل لم تَزَلْ ... ... تَهْوي عَليكِ بكلِّ هَوْلِ مُذهِلِ
وَعَلَوْتِ صِدْقاً ! غيَرَ آبَهةٍ بِهِمْ ... ... صَرْعى الضّياعِ بِكلِّ وادٍ مُسْفِل
* * * ... * ... * * *
ما لِلْكُهوفِ تَنَفّسَتْ عَبقاً سَرَى ... ... في كُلِّ ناحِيةٍ بعطْرٍ أجْمَل
ودَمٌ يُصَبُّ كأنّه الفجْرُ الذي انْـ ... ... ـبَلَحَتْ مَطالِعُهُ بِنَصْرٍ مُقْبِل
مِسْكاً يَظلُّ الأفقُ منتَشِياً بِهِ ... ... ويَظَلُّ يُنْشَر في مَداهُ الأطْوَلِ
يَتَدَفَّقُ الشُهَداءُ مِنْ جَنَبَاتِها ... ... يَتَنافَسُون عُلاً وعِزّةَ مَنْزِلِ
يَتَسَابَقُوْنَ إِلى الجِنان ومَوْعِدٍ ... ... حَقٍّ وذُخْرٍ للشَّهيد مُؤَمَّلِ
* * * ... * ... * * *
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) معركة " تورابورا " من أهمّ المعارك التي دارت في أفغانستان و " تورابورا" منطقة جبلية في شرق أفغانستان ذات قمم عالية مليئة بالكهوف المليئة بالأسرار . ساد اعتقاد بأنّ رجال القاعدة وقادتهم وقادة طالبان كذلك مختبئون في هذه الكهوف ، فبدأت أمريكا بقصف هذه الكهوف قصفاً هائلاً مستمرّاً، وذلك في شهر ( شوال 1422هـ ديسمبر2001 م) ، و استخدمت أمريكا أكبر قنبلة تدميريّة تقليديةّ في ترسانة أسلحتها . فقصفت تلك المواقع بثلاث قنابل زنة الواحدة (15) ألف رطل ، قبل أن تبدأ قوات المعارضة المسماة " التحالف الشمالي " والمكوّنة من ثلاث قبائل أفغانيّة هجومها .(/1)
ملحمة فلسطين
بقلم الدكتورعدنان علي رضا النحوي
تَمُوجُ المَنَايا حولَهُ والمَلاَحِمُ ... ... وتزأرُ منْ هَوْلِ اللِّّقَاءِ الضَّرَاغِمُ
وَتَرْجِعُ في السَّاحَاتِ أصْداءُ أُمَّةٍ ... ... وَتْنهَضُ أَمْجَادٌ لَهَا وعَظَائِمُ
فَهَلْ وَثَبَتْ مِنْ كُلِّ نادٍ كتيِبَةُ ... ... فَزَلْزَلَ منْ شُمَّ الرَّوَاسي زَمَازِمُ (1)
هَلِ انَتفَضَ التْارِيخُ ثُمَّ تواثَبتْ ... ... عَلَى السَّاح أَشْواقُ الهُدَى والعَزَائِمُ
أحَقاً تَرَى ! أَم أَن هذي طيوفُها ... ... يَحُومُ بِهَا شَوْقٌ مِنَ القَلْبِ حالِمُ ؟!
أَفَاقَ ! فَمَا يَلْقَى عَلَى السَّاحِ غَيْرَهُ ... ... وإِلا الصَّدى غابَتْ عليه الرَّواسِمُ (2)
كَأنَّ الذي يَلقاهَ أَطيَافُ فَيلقٍ ... ... تَدَافَعُ مِن أَجْداثِهَا وتَزَاحمُ
تَلَفّتَ ! أيْنَ الأهْلُ والعَهْد والوَفَا ... ... وأَيْنَ جُيُوشٌ في الدِّيارِ خَضَارِمُ (3) ؟ !
وَنَادَى ! وأَصْدَاءُ النِّدَاء خَفيَّةٌ ... ... وَدَوَّى ! وأصْدَاءُ الدَّوِيِّ غَمَاغِمُ (4)
تُغَيِّبُهُ الآفاقُ ، والدّارُ ، و الرُّبَى ... ... وتَطْريهِ ساحات بِهَا وعَوَاصِمُ
وَنَادَى ! وأَيْنَ الكاسِحَاتُ و مدْفَعٌ ... ... وَأيْنَ القَنَا مِنِّي وأيْنَ الصَّوَارِمُ ؟! (5)
فلم يَلقَ إِلا كَوْمَةً مِن حِجَارَةٍ ... ... وصَيْحَةَ أجْداثٍ تَقْولُ هُنَا هُمُ
تطَايَرَتِ الأحْجَارُ في كفِّه قَناً ... ... وأرعَدَ منها سَاحَةٌ وغمائِمُ
فَهَلْ لِنْتَ ليْ "صَخْرُ" ما أرْوَعَ الوفا ! ... ... وَمَا لانَ ليْ قَلْبٌ ولا هو راحمُ
أتَبْلُغُ يا " صَخْرُ " المواقِعَ كُلّها ... ... وَمَا بَلَغَتْها أعْيُنُّ وقوائِمُ ؟ !
أتَسْمَعُ مِنِّي أيُّهَا الصّخْرُ صَيْحتِي ... ... وَحوْليَ لو تدري أَصَمُّ ونائمُ ؟ !
فَلاَ أُذُنُ تُصْغي ، ولا أعينٌ تَرَى ... ... ولا أضْلُعٌ حَنَّتْ ، ولا أنا سَالِمُ
نَطَقْتَ ! فَمَا أعلَى بَيانَك إنَّهُ ... ... دَوِيُّ وَعَتْهُ في النَّوادِي الأَعَاجِمُ
وزَلْزلَ أرْكَانَ الطُّغَاةِ وَجَمْعَهُمْ ... ... وَمَادَت عليهم مِنْ نِدَاك الدَّعائمُ
وَأقْبَلَ ! والأعَدَاءُ دَفْقُ جَحَافِلٍ ... ... وَحَشْدُ مَوَالٍ حَوَلَهُمْ وسَوائِمُ (6)
وَأرْتَالُ آلاتٍ كَأنَّ دَويَّها ... ... عَلَى الأفْقِ بُرْكَانٌ لَها وغواشِمُ (7)
تَلَفَّتَ ! نادَى ! لمْ يَجِدْ غَيْر صَخْرةٍ ... ... رَمَاهَا ! فَطَارَتْ في السَّمَاء القَشَاعِمُ(8)
وَهَبَّتْ عَلَى الأعْداءِ مِنها عَوَاصِفٌ ... ... وَزَمْجر آسادٌ وَثَارَتْ ضَياَغِمُ (9)
أنا الصَّخْرُ ! لا كَانَتْ عُهُودٌ تَشُدُّني ... ... إذا لَمْ تُفَلَّقْ مِنْ عَدُوِّي الجَماجِمُ
وَلا كُنْتُ صَخْراً مِنْ رُبُوعٍ تَبارَكَتْ ... ... إذا لَمْ تُغيِّبنْي الدِّما والحَيازِم (10)
إذا سَكَتَتْ مِنَّا المَدافِعُ إنَّني ... ... نَذِيرٌ تَلَظَّى في الوَغَى لا أُسَالِمُ
سَتَعْرفُني يَوْمَ النّزال مَواقِعٌ ... ... وتَعْرِفُني بَيْنَ البِطَاحِ المَلاحِمُ
سَيَحْفَظُني عَهْدٌ مِنَ الله صَادقٌ ... ... وَحَقٌ مَعَ الأيّام مَاضٍ وقائِمُ
لِمُلْحَمةٍ كُبْرَى تَدور وآيةٍ ... ... مِن الحَقِّ تُجْلَى في سَناهَا المعَالِمُ
ويُنطِقُني فيها عَلى الحَقِّ خَالِقي ... ... وتَنْطِقُ أشَجارٌ بهَا وَ رَوْاجِمُ
لنشْهَدَ هَذا مُجْرِمٌ ومُخَاتِلٌ ... ... هُنا ويَهوديٌ تَوَارَى وغاشِمُ
فَنَدْعُوكَ ! عَبْدَ الله ! فاقَتُلْهُ إِنَّهُ ... ... عَدُوٌ وشَرٌ للْخَليقَةِ جَاثِمُ
فَما أنا إِلا في سِلاحِكَ آيَة ... ... وَمَا أنا إلا مُنْذِرٌ عَنْك حَازِمُ
فَجمِّعْ عَلَى السَّاحِ العَدِيدَ وَعُدَّةً ... ... فَمَا الحَرْبُ إِلا عُدَّةٌ و عَزائِمُ
وَعُذْ إِنْ صَدَقْتَ اليَوْمَ بالله وَحْدهُ ... ... فَمَا لَكَ إِلا الله مِنْ ذاكَ عَاصِمُ
وأقبَلَ ! والسَّاحاتُ نارٌ تأجَّجَتْ ... ... وَزَحْفٌ عَليهِ مُطبقٌ وَمهَاجمُ
تَلفَّتَ ! هَلْ لِيْ خِنْجَرٌ فَأديْرُه ... ... إِذا جَدَّ منِّي في النِّزال التَلاحُمُ ؟
وَهَلْ لِيْ سِلاحٌ مُنْجدٌ لا يَخُونُني ... ... وعَهْدٌ عَلَى الأيَّام صَافٍ وَدائِمُ ؟
وَهَلْ أنْتَ في البأساءِ يا " صَخْرُ" مُنجدي ... ... إذا شَغَلَتْ أهْلي الهُمُومُ الدَّوَاهِمُ (11)
بَكَى مِنْ أسىً لمَّا رأى ذُلَّ حَيْرَتي ... ... وَفَاضَتْ على الصّخْرِالدُّمُوعُ السَّواجِمُ (12)
أتَبْكي ! وَقَدْ كُنْتَ الذي لانَ قَلْبُهُ ... ... عَلىَّ وفَاضَتْ مِنْكَ عَنّيِ التَّراجِمُ
بَكَيْتُ لأني قَدْ رَأيْتُ مَرابِعاً ... ... وَقَدْ هُتكَتْ أعْراضُهَا وَالمَحَارِمُ
وَمَا انْتَفَضْت دارٌ ولا هبَّ ضيَغَمٌ ... ... وَلا حَمْحَمَتْ بَينَ البِطَاحِ الصَّلادِمُ (13)
بَكيْتُ لأني قدْ رأيْتُ مَوَائداً ... ... هُنَاكَ ، وأشَبَاهُ الرِّجَالِ سَوَاهِمُ(/1)
رَأيتُ " بُطونا " أتْخِمَتْ ، وسَوَاعِداً ... ... تَرَاخَتْ ، وعَقْلاً غَيَّبَتْهُ النّواعِمُ
وَكَأسْاً كَأنّ الموْتَ في رَشَفاتِهِ ... ... يَمِيلُ بِهِ رأسٌ وتَهْوِي مَكَارِمُ
بَكَيْتُ " وماخُورٌ " يَضجُّ وفتْيَةٌ ... ... تُهاوتْ وَرِجْسٌ مِنْ خناً وَمَآثِمُ
وغِيَدٌ كَأنّ الشّوْق بين عُيُونِها ... ... لهيب فَلاهٍ بيْنَهُنَّ وَ حَالِمُ
فَتُلقَى عَلَى أعْناقهن لآلئٌ ... ... وتُنْثَرُ مَا بَيْنَ النُّهودِ الدَّارهِم
ويُسْحَقُ عَارٍ في الأزقة جَائِعُ ... ... ويُسْحَقُ مسْكينٌ هُناكَ وهَائم
فَضاعَتْ مُرُوءات الرِّجالِ وغُيِبَتْ ... ... كَأنَّ بني الإِنسان فِيها بَهائِمُ
بَكَيْتُ لأَنِّي قد رَأيْتُ ذَوي الحجَا ... ... يكادُ الهَوَى يهوي بِهِم وَيُدَاهِمُ
أَضَرَّ بِهمْ حُبُّ الحَياةِ و أَفسَدَتْ ... ... مَنَاهجَهُمْ أهواؤاهُمْ والتخاصُمُ
بَكَيْتُ لأَنِّي قَدْ رَأيْتُ وَلاَءنا ... ... تَداوَلهُ أَعْدَاؤُنا و السَّوَائِمُ
فهذا مَعَ " الشَّرْقِ " الذي هُو كَافِرٌ ... ... وهذا مَعَ " الغَرْبِ " الذي هو ظَالمُ
وَهَذا مَعَ الأهْوَاءِ في كُلِّ محْفلٍ ... ... يُدَاري " زَعِيماً " أو يُدَارِيِه حَاكِمُ
ولا يَصْدُقُ النُّصْحَ الكريمَ مُنافقٌ ... ... ذِئابٌ تُعوِّي أَو تَفُحُّ الأَراقِمُ (14)
فهذا يُمَارِي في جلاء قضيَّةٍ ... ... وهذا عَلى حَقِّ الإِلهِ يُسَاوِمُ
بَكَيتُ ! وَيَا هَوْلَ البَلاءِ ! أمَامَنا ... ... إِذا مَا غَفَوْنا أسْوَدُ اللَّيْلِ فَاحِمُ
فَحَقَّ لِمِثْلي أَن يَصُبَّ دُمُوعَهُ ... ... وحَقَّ لأَهل الخافِقَين التَّلاوُمُ
حنَانَكِ يا أَرْضَ الحجَارةِ إِنَّه ... ... حنيْنُ اللَّيَالي لمْ تَرُعْها الهَزَائِمُ
حَنينٌ إِلى الأَقْصَى ، إلى كُلِّ رَبْوَةٍ ... ... عَليْها مِنَ الإِسْلام آيٌ وخَاتَمُ
حَنينٌ إِلى أرْضِ النُبوَّاتِ أشرَقَتْ ... ... بأَحْمَدَ سَاحَاتٌ لَهَا وَ مَعَالِمُ
تُجَلِّلُهَا الأَنْوَار في كُلِّ رَبْوَةٍ ... ... ويَغْمُرُهَا خَيْرٌ مِنَ الله دائمُ
جَلالٌ مِنَ الوَحْي الكريم وعزَّةٌ ... ... من الحَقِّ تُجلى مِنْ سَنَاهُ المكارِمُ
وَنَشْرٌ مِن الإِيمان في كلِّ رَوضَةٍ ... ... تَهُبُّ بِهِ رِيحٌ وتغْفُو نسَائِمُ
كَأَنَّ الفُتُوح الحَالياتِ لآلئٌ ... ... تَزَيَّنَ مِنْها جِيدُها و المَعَاصِمُ
يَصُوغُ لَهَا الإِيِمان حِيناً قلائداً ... ... ويُلقي عَلَيْها مِنْهُ مَا هُو ناظِمُ
ويَنْثُرُ حِيناً عَبْقريَّ جواهِرٍ ... ... فتزهو رَوابٍ عِنْدها وَمَحَارِمُ
* ... * ... *
ويا شَجَرَ الزَّيتُونِ أَينَ اخضراره ؟ ! ... ... ويا غَرْسَةَ اللَّيْمُون أَين البَراعِمُ ؟ !
وَيَا نَفَحَاتِ البُرتُقالِ ! إِذا سَرَتْ ... ... تحَدَّثَ تَارِيخٌ ودَارَتْ مَلاحَمُ
وَيَا زَهْرَةَ اللّوزِ التي كان عِندَها ... ... صباي فكمْ حَنَّتْ إِلَيْكِ الحَمَائِمُ ؟ !
ويَا شَجَرَ العنَّاب ! مِلءُ عُروقِه ... ... دَمٌ سَكَبْتهُ في البطاح اللَّهاذِمُ (15)
وَنَادَيْتُ أَيْنَ الرَّوضُ والورْدُ والشَّذَا ... ... فَهبَّ مِنَ الأنجاد لاحٍ ولائِمُ
تلفَّت زيتونٌ ومالَتْ غَرائسٌ ... ... وأقْبَلَ من كُلِّ البِطاحِ سَواهِمُ
وقالوا ترَكْنا كُلَّ عطْر وخُضْرةٍ ... ... وجفّتْ يَنَابيعٌ وجَفَّتْ بَرَاعِمُ
تَرَكْناهُ حتى يَسْتعيد رواءَه ... ... شهيدٌ وتُروى مِنْ دِمَاهُ الرَّمَائِمُ (16)
وتنزلَ للمَيْدانِ أُمّةُ أَحْمَدٍ ... ... لهَا في الوَغَى عَهْدٌ مَعَ الله لازِمُ
* ... * ... *
29/8/1408هـ
16/4/1988م ... ... ...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
· من كتاب ملحمة فلسطين للمؤلف .
(1) الزمازم : ج زَمزَمة وهي صوت من بعيد له دويّ .
(2) الرواسم : الآثار الباقية من الديار .
(3) خضارِمُ : ج خِضرِم وهو العظيم الكبير من كل شيء .
(4) غماغم : ج غمغمة وهي الصوت المختلف .
(5) الصوارم : ج صارم وهو السيف القاطع .
(6) السوائم : ج سائمة وهي الإِبل الراعية إِشارة إلى أعوان اليهود من أسياد لهم أو عبيد لهم ومن أناس كالإبل الراعية .
(7) غواشم : ج غاشمة وهي من الغشم وهو الظلْم .
(8) القشاعم : ج قَشْعَم وهو النسر الطويل العمر . وسميت المنية أم قشْعَم لطول عمرها .
(9) ضياغم : ج ضَيْغَم وهو الذي يعضّ ، والأسد .
(10) الحيازم : ج حيزوم وهو ما استدار من البطن وضلع الفؤاد .
(11) الدواهم : ج داهمة ، من دَهِمَ : غَشِيَ .
(12) السواجم : الدموع التي تسيل كثيراً .
(13) الصلادم : ج صِلدِم وهي الفرس الشديدة والصلبة القوية .
(14) الأراقِم : ج أرقم وهي نوع من الحيات وهي أخبثها .
(15) اللهاذم : ج لهذم وهو القاطع من الأسنة .
(16) الرمائم : ج رميمة وهي البالية من العظام . وهي إِشارة إِلى أنه تكثر الدماء حتى ترتوي العظام البالية في القبور .(/2)
مما يوصف به المنافقون
أ.د/محمد أديب الصالح
رئيس تحرير مجلة حضارة الإسلام
كتب يوسف بن أسباط رحمه الله إلى حذيفة المرعشي –وكان على علم كبير- كتاباً جاء فيه:
أما بعد: فإني أوصيك بتقوى الله، والعمل بما علمك الله، والمراقبة حيث لا يراك أحد إلا الله، والاستعداد لما لا حيلة لأحد في دفعه، ولا ينتفع بالندم عند نزوله.
فاحسر عن رأسك قناع الغافلين، وانتبه من رقدة الموتى، وشمر الساق، فإن الدنيا ممر
السابقين.
ولا تكن ممن قد أظهر الشك، وتشاغل بالوصف، وترك العمل بالموصوف له، فإن لنا ولك مقاماً يسألنا فيه عن الرمق الخافي، وعن الخليل الجافي...
واعلم أن مما يوصف به منافقو هذه الأمة أنهم خالطوا أهل الدين بأبدانهم، وفارقوهم بأهوائهم، وخففوا مما سعوا من الحق، ولم ينتهوا عن خبيث فعالهم؛ إذ ذهبوا إليه فنازعوا في ظاهر أعمال البر بالمحامل والرياء، وتركوا باطن أعمال البر مع السلامة والتقى، كثرت أعمالهم بلا تصحيح، فحرمهم الله من الثمن الربيح...
واعلم يا أخي أنه لا يجزينا من العمل القول... ولا من التوقي التلاوم. وقد صرنا في زمن هذه صفة أهله، فمن يكن كذلك، فقد تعرض للمهالك.
موعظة في كتاب
وكتب محمد بن يوسف(1) إلى أخيه عبد الرحمن بن يوسف كتاباً جاء فيه:
سلام عليك.. فإني أحمد الله إليك الذي لا إله إلا هو.
أما بعد: فإني أحذرك من متحوّلك من دار مهلتك إلى دار إقامتك، وجزاء أعمالك، فتصير في قرار باطن الأرض بعد ظاهرها، فيأتيك منكر ونكير فيقعدانك، فإن يكن الله معك، فلا بأس ولا وحشة ولا فاقة، وإن يكن غير ذلك فأعاذني الله وإياك من سوء مصرع، وضيق مضجع، ثم يتبعك صيحة الحشر ونفخ الصور، وقد قام الجبار بعد فصل القضاء للخلائق، فخلت الأرض من أهلها، والسماوات من سكانها، فبادرت الأسرار، وسُعِّرت النار، ووُضعت الموازين (وجيء بالنبيين والشهداء، وقضي بينهم بالحق، وقيل الحمد لله رب العالمين).
فكم من مفتضح ومستور، وكم من هالك وناج، وكم من معذب ومرحوم... فياليت شعري: ما حالي وحالك يومئذٍ!!!
ففي هذا ما هزم اللذات، وسلا عن الشهوات، وقصر الأمل، واستيقظ الباغون، وحذر الغافلون، أعاننا الله وإياك على هذا الخطر العظيم، وأوقع الدنيا والآخرة من قلبي وقلبك موقعها بين قلوب المتقين، فإنما نحن به وله.
خوف... وأمن
روي عن محمد بن النضر قال:
ذكر رجل عند الربيع بن خثيم، فقال:
ما أنا عن نفسي براضٍ فأتفرغ منها إلى آدمي غيرها، إن العباد خافوا الله على ذنوب غيرهم، وأمنوه على ذنوب أنفسهم.
(1) كان من خيرة العلماء العباد المستقيمين على مرضاة الله عز وجل علماً وعملاً، وقد حملت ترجمته كثيراً من الثناء عليه والاعتراف بفضله من كبار العلماء العاملين أمثال عبد الرحمن ابن مهدي ويحيى ابن سعيد القطان. وقد روي أن يحيى بن سعيد قال:
ما رأيت رجلاً قط خيراً من محمد بن يوسف –يعني من طبقته وقرنائه-.
فقال أحمد بن حنبل رضي الله عنه:
يا أبا سعيد هذا الرجل الذي يكثر ذكره علماً وفضلاً؟
قال:علماً وفضلاً.
الهوامش
* مجلة حضارة الإسلام- السنة 10 –العدد 8 –شوال 1389 –ك1/ك2 1996 -1970م
* مجلة حضارة الإسلام –العدد7 –ذو القعدة 1386هـ(/1)
ممارسة التجارة دون ترخيص تجاري
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ... الفهرسة/ المعاملات/ البيوع/البيوع المنهي عنها
التاريخ ... 14/5/1424هـ
السؤال
ما حكم ممارسة التجارة دون الحصول على الأوراق المطلوبة النظامية؟ أو بمعنى آخر كيف يمكن توجيه قصر البيع والشراء(احترافاً) على الحصول على سجل تجاري؟ وهل يختلف الحكم في البلاد الإسلامية عن غيرها؟ وفقكم الله.
الجواب
إذا كانت التجارة تمارس بين الطرفين في أمور مباحة بعقد صحيح لا غش فيه ولا تزوير فهذه الممارسة جائزة، ولو لم يكن لصاحبها سجل تجاري، ولا يجوز لأحد كائناً من كان أن يحرم أو يبطل ما أباحه الله، كما لا يجوز له أن يبيح ما حرمه الله، بعد قوله تعالى: "وأحل الله البيع" [البقرة: 275]، وقول النبي – صلى الله عليه وسلم –: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا" رواه البخاري (2079)، ومسلم (1532) من حديث حكيم بن حزام –رضي الله عنه-، وإجماع المسلمين قائم عليه، والقاعدة الشرعية تقول: (الأصل في المعاملات وأنواع التجارات هو الحل والإباحة)، فلا يمنع إلا ما حرم الله ورسوله – عليه السلام -، فالألف واللام في لفظ (البيع) في الآية، و(البيعان) في الحديث يعمان كل بيع حلال وكل بائع ومشتر مسلماً كان أو كافراً، واشتراط السجل التجاري من الدولة شرط كمال، لا يؤثر في صحة عقد البيع وجوداً ولا عدماً، وإنما تشترطه الدولة لمزاولة أنواع من التجارة الكبيرة، لغرض ضبط رؤوس الأموال التي يتاجر بها في الداخل أو الخارج، ومعرفة أصحابها، ووضع الرسوم عليها مقابل تسهيل أو تقديم بعض الخدمات.
والخلاصة: إن ممارسة التجارة في أمور مباحة وبعقد صحيح لا غش فيه ولا تزوير جائزة شرعاً، والسجل التجاري لا يؤثر في شرعية هذه الممارسة من حيث الديانة بينك وبين الله، ومع هذا فإني أنصحك بأخذ السجل التجاري حتى لا تتعرض لقائمة المخالفة الإدارية والجزائية من قبل الدولة إسلامية كانت أو غير إسلامية، والله أعلم.(/1)
ممارسة الطبيب للإجهاض لأجل التدرب
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ...
التاريخ ... 9/8/1424هـ
السؤال
نحن ندرس الطب في بلد تقر قوانينه الإجهاض، والآن نحن مقبلون على فترة التطبيق في المستشفى، وعندما نطبق في قسم النساء والولادة، نمر على قسم تحديد النسل والعقم، وفيه تجري عمليات الإجهاض، بعضها تكون لها ما يبررها علمياً، كأن تكون هناك تشوهات في الجنين، أو موت الجنين في الرحم، أو ما شابه ذلك من الحالات، وفي حالات أخرى تأتي حسب طلب المريض، والقوانين في هذا البلد لا تمنع الإجهاض في أي فترة كانت إلا في المراحل المتأخرة جدا، هذا إذا كان الجنين لأبوين شرعيين، أما إذا كان غير ذلك فالأمر مجاز فيه على أي مرحلة عمرية وصل إليها الجنين.
على العموم، الطلبة المسلمون عادة لا يمرون على هذا القسم، ولكن أحد الأطباء السابقين أشار علينا أن تعلم كيفية الإجهاض مفيدة، لأنه قد يصادف الطبيب حالات تستوجب منه عمل الإجهاض، فلذا نريد منكم أن تبينوا لنا رأي الشارع الحكيم في هذه المسألة؟ وما حدود موقفنا منها؟ هل نشارك فيها؟ أم نكتفي بمشاهدتها؟ أم لا ندخلها أصلا؟ الرجاء الإسراع في الإجابة؛ نظراً لأن موعد التطبيق في هذا القسم قد اقترب جدا، مشكورين على تعاونكم.
الجواب
جاء في حديث عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- في الصحيحين "إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات بكتب: رزقه، وعمله، وأجله، وشقي أو سعيد"، فدل الحديث على أن نفخ الروح يجعل الجنين كائناً حياً له حرمته وحقوقه الإنسانية، ولا يجوز الاعتداء عليه، ولو من أقرب الناس إليه، فلو تسببت الأم مثلاً في قتل جنينها بأي سبب لزمتها ديته وكفارة عتق رقبة، فالإجهاض بعد أربعة أشهر (120يوماً) كما في هذا الحديث هو قتل للنفس بغير حق، ويدخل في الوأد المحرم بقوله تعالى: "وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ" (التكوير:8-9)، وذكر بعض الفقهاء حرمة إسقاط الجنين بعد (80) يوماً، وقالوا: وإن لم تنفخ فيه الروح فقد تم فيه خلق الإنسان؛ أي تميزت هذه المضغة وتشكلت بشكل أعضاء الإنسان من عصب، ولحم، وعظم، وظهرت فيه صورته الجنسية من الذكورة والأنوثة، ونحوها، وهذا القول يتفق مع ما يراه الأطباء في عصرنا، وقد أفتى بعض الفقهاء اليوم بجواز الإجهاض إذا كان بقاء الجنين في بطن أمه خطراً محتماً على حياتها، أو قرر الأطباء المختصون أن الجنين سيتعرض لتشوهات خطيرة تجعل حياته - إن حيي - شقاء وعذاباً له، ولأهله، وذلك لأن الأم أصل في حياة الجنين، والجنين فرع عنها، فلا يضحى بالأصل من أجل الفرع، ولا تؤثر إجازة قوانين البلد للإجهاض على الحكم الشرعي بتحريمه، ولا أرى تشوه الجنين مبرراً للإجهاض بحال، فإن قتل النفس والمشاركة في ذلك حرام، ومهما كان الأمر فيبقى رأي الطب في تشوه الجنين أمراً احتمالياً ظنياً، فكم من طفل ولد مشوهاً فشفي, وكم من مولود قرر الأطباء أن فيه الحمى المنغولية فعافاه الله، ثم إن التشويه الخلقي وانفصام الشخصية ليس معيباً في كل حال، ولا عند كل الناس، فهو أمر نسبي يتفاوت الناس في تقبله والرضاء به.
وتأسيساً على ما سبق لا يجوز لكم تعلم الإجهاض إذا كان الجنين بلغ أربعة أشهر، ويجوز قبل هذه الفترة الزمنية للجنين إن كان ذلك لازماً من لوازم تخصصكم، وإن لم يكن فعليكم الاكتفاء بالمشاهدة عن طريق الصورة التلفزيونية الحية إن أمكن ذلك، وإن لم يمكن فلا بأس عليكم إن شاء الله، على أن يكون الجنين المراد في عملية الإجهاض لم تنفخ فيه الروح، والله أعلم.(/1)
ممانعات
د. عبد الكريم بكار 4/11/1425
16/12/2004
مكافحة العماء و (اللاتكوّن) هو العمل الذي لا يكفّ بنو الإنسان عن ممارسته في كل زمان ومكان. وذلك لأن الحقيقة –أية حقيقة- ذات أغوار وأبعاد متتابعة. وكلما اكتشفنا غورًا أو بعدًا برز لنا غور آخر، يتطلب سبره وفهمه معرفة جديدة، تكون في العادة أبعد منالاً وأكثر خفاءً من المعرفة التي احتجناها لاكتشاف الغور السابق، وهكذا فإنه طالما غَمَرنا شعور عام بأن المعرفة أشبه بالمال، المعروض منها دائمًا أقل من المطلوب. نحن في حاجة إلى المزيد من العلم والمزيد من الخبرة من أجل أمرين جوهريين:
1- أن نتعرف على حقول الممارسة المتاحة، وأن نفتح حقولاً جديدة منها ملائمة لما هو متوفر من إمكاناتنا، وما نصبو إلى بلوغه من غايات وأهداف.
2- أن نكتشف السنن الربانية التي تحكم طبائع الأشياء والمنطق الذي يحكم تطورها. ومهمة هذا الكشف هو توفير الوقت والعناء الذي نتكبده نتيجة جهلنا بالممانعات الناشئة من صلابة الأشياء وتأبيها على التشكل الذي نريد. إن العقل بتكوينه الأساسي الفطري لا يستطيع إدراك تلك الممانعات من غير معرفة يمدّه بها المجتمع والواقع المعيش. ولا يستطيع المجتمع الحصول عليها من خلال التأمل المجرّد، وإنما عليه أن ينغمس في التجربة والممارسة أولاً، وبعد ذلك سيكون في إمكانه استخراج بعض الدلالات والمستخلصات حول الطرق المسدودة وحول العلاقات القائمة بين الأشياء، والتي تحكم الكثير من وجوه الانتفاع بها وإعادة تشكيلها، ويمكن أن نقول في هذا السياق: إن عقولنا ستظل متأزمة ومرتبكة وستظل تنتج الفروض الشكلية والبعيدة عن ملامسة المشكلات – ما لم نمتلك الروح العملية، ونحاول تضييق الهوة القائمة بين ما نقول وما نفعل. صحيح أن العقول هي التي ترسم الخطط النظرية؛ لكن إذا ما كانت الأيدي في أزمة وفي عطالة فإن العقل سيجد نفسه يتخبط حيث الافتقار الشديد إلى الأطر التي يعمل داخلها، والمعطيات التي يشتغل على أساسها، ولنضرب بعض الأمثلة على ما نقول:
أ- من غير الممكن في مؤسسة يسودها الظلم وهضم الحقوق جعل العاملين يعملون بحماسة وأريحية. إنهم سيبذلون الحدّ الأدنى من جهودهم بما يكفي لتأمين سير العمل عند حدوده الدنيا. ولكل قاعدة فيما نقول شذوذات لا تجرح صفاء هذه المقولات بمقدار توكيدها لها.
ب- من غير الممكن تكوين ضمير أخلاقي رادع في مجتمع يسوده الخروج على النظم المرعية على نحو سافر وواسع، القانون يولِّد ثقافة . والثقافة حين تتشكل تحمي القانون إلى حد عدم الحاجة إليه في الضبط الاجتماعي، أي تتحول الثقافة إلى قوة ضابطة تحل محل القانون.
ج- لا نستطيع قطع دابر الخلاف في أي قضية وقع بيننا خلاف في تعريفها، وإذا عرفنا أننا لا نستطيع تفادي (الانتقائية) في كل أو معظم التعريفات، عرفنا لماذا يصعب حسم النزاع في الكثير من القضايا الإصلاحية والتربوية.
د- لا تستطيع أن تكون معتزًا بنفسك أو نسبك أو انتمائك إلى شيء بعينه دون أن تعرِّض نفسك لسوء الفهم والنظر إليك على أنك متعجرف ومتكبر. كما لا يستطيع الحليم أن يمنع الناس من تفسير حِلمه على أنه جبن وخَوَر.
هـ - لا تستطيع الوصول إلى حلول كاملة في وسط غير كامل، وإذا عرفنا أن المعروض من المعرفة ومن المال والأدوات والمتوفر من الظروف هو دائمًا دون ما هو مطلوب عرفنا أن حلولنا ستكون دائمًا ناقصة، وسيكون النصر النهائي شيئًا بعيد المنال.
و- كلما زادت الرقابة الاجتماعية على الأفراد ضعف لديهم الوازع الداخلي؛ وذلك لأن الشعور بالمسؤولية يتطلّب قدرًا من التفويض وقدرًا من الحرية. وهذا يعني أن التدقيق الشديد في حياة الأفراد يدفع بهم دفعًا إلى أن يكون لهم سلوكان، خيرهما الذي يظهر للناس.
ز- من العسير جدًا أن نستطيع توليد مشاعر جميلة في مكان تجتاحه الفوضى أو القذارة أو مكان ضيِّق، لا يستوعب الشاغلين له.
ح - في ظل الفساد الإداري، يمكن للاقتصاد أن يتقدم، ولكن إلى حدود، حيث إن النمو الجيد يتطلب دائمًا درجة عالية من الثقة والمصداقية. وهذا ما يصعب توفيره آنذاك. الفساد الإداري يدفع بالناس إلى القيام بموازنات وإجراء حسابات كثيرًا ما تفضي بهم إلى سحب أموالهم من الدورة الاقتصادية.
ط - الأنشطة السياسية والتربوية والتعليمية والدعوية والتجارية والإدارية، تتم في إطار (نظم مفتوحة) أي في بيئات تسمح بوجود تأثيرات أجنبية خارجة عن إرادتنا وسيطرتنا. ولهذا فإن التنبؤ بنتائج هذه الأنشطة يظل غير دقيق، وهذا على عكس الأنشطة التي تتم وفق نظم مغلقة.
ي- إذا كان الشيء ذا وسط متدرج لم نستطع أن نصدر عليه أحكامًا قاطعة، وكان علينا أن نقنع بالأحكام التقديرية والتقريبية، كما هو الشأن في (الصفات) والسبب في ذلك عدم قدرة النظام اللغوي على مواكبة التدرج الموجود في الأشياء. وهذا هو مصدر ارتباك العقل في التعامل معها.(/1)
ك- من الصعب اليوم أن يتعشق شعب المعرفة، ويبذل من أجلها، أو ينتج معارف متقدمة، وأكثريته تعمل في مهن بدائية وحرف يدوية.
ل - من كانت ملكة النقد لديه نامية أكثر مما ينبغي فإنه لا يستطيع أن يتفادى التعرض للجفاف الروحي.
م - الحرية قدرة على الاختيار. ولا اختيار من غير بدائل. وليس لشعب أن يدّعي أنه حرّ كريم والضرورات تحيط به من كل جانب.
ن - ما دامت قدراتنا –مهما عظمت- تظل محدودة فإن الكم في أعمالنا، لا يكون إلا على حساب الكيف. والتقدم الحضاري كثيرًا ما يتطلب تفوق الكيف لا الكم. إن هذه الممانعات تملي علينا المزيد من التبصر والفهم العميق للعلاقات التي تربط بين الأشياء. وإن فقه الأولويات الذي كثر كلامنا فيه لا ينمو على النحو المطلوب إلا إذا زادت حصيلتنا من هذه المفاهيم والمدركات.
س - الانخراط في العمل والاهتمام بالإنجاز واحترام الممارسة –كل ذلك مما يحسن رؤيتنا لما هو ممكن، وما هو في حيز المستحيل والعسير والبعيد. وإن تجاهل طبائع الأشياء والسنن الربانية في تطور الأمور يظل مكلفًا جدًا مع أن صلابة السنن الاجتماعية أقل من صلابة السنن الطبيعية. وإني أشعر أن فقه الطرق المسدودة ما زال لدينا يميل إلى الفجاجة والضآلة، وإن إنضاجه قد يكون شيئًا مهمًا لتقدم الوعي الدعوي والإصلاح(/2)
مملكة الروح
د. عبد الكريم بكار 7/9/1425
21/10/2004
أرواحنا وليست عقولنا هي مكمن وجودنا، وهي البعد الأرحب والأعمق في شخصياتنا. في أرواحنا تجتمع الروعة مع الغموض، ومنهما معاً تتولد الحيرة، والعالم حائر في أمر الروح اليوم، وحائر في التعامل معها. وقد مسّ أمة الإسلام في أيامنا هذه شيء من هذا وذاك. ليست مهمة الإيمان مقصورة على رسم الفضاء النظري لمعتقداتنا ورؤانا، وإنما أيضًا منحنا التميز في عالم فقد الإيمان ودخل عالم الشك والضياع. إن الإيمان بالله –تعالى- يمنحنا ميزة فورية هي صعوبة سجننا داخل معطيات مادية محدودة. إنه يخرجنا فورًا من العالم المحدود والمحسوس إلى عالم من غير حدود.
وذلك العالم عالم الروح وعالم الغيب. في العالم المادي يشعر الإنسان دائمًا بالانكماش والضعف، ويجد نفسه محاصرًا بالضرورات ومهددًا بنفاد الطاقة. لكن في عالم الروح الأمر مختلف، كل شيء يتمدد، ويتسع، ويكبر؛ فيشعر المؤمن بمدد لم يحسب حسابه يغمر كيانه كله بالنور والحبور.
هدفنا الأعظم نحن المسلمين أن نفوز برضوان الله –تعالى-، وهذا الفوز يشكل مرجعية وأولوية بالنسبة إلينا، بمعنى أن الذي يدخل البهجة على نفوسنا، ويغمر أرواحنا بالسرور النقي يجب أن يظل دائمًا في إطار محبوبات الله –تبارك وتعالى-، كما أن كل أشكال الارتقاء المادي وكل المغانم والمكاسب التي نحاول الحصول عليها يجب أن تتم داخل ذلك الإطار.
وهذه نقطة مفاصلة بيننا وبين الأمم الأخرى. إن الأمم التي تقود الحضارة اليوم قد أسست منذ مدة لوضعية فيها الكثير من المجافاة للروح؛ حيث الأولوية لرفاهية الجسد، وحيث الحكم لمنتجات العقل ومعطيات الخبرة والممارسة. وليس في إمكان القوم على المدى القريب فعل أفضل من ذلك ما داموا فقدوا المفاهيم والرمزيات التي تجعل استمداد الرؤى من الوحي شيئًا معقولاً أو مقبولاً. إن الإيمان يجعلنا ننظر بجدية إلى أن كل التحسينات التي ندخلها على بيئاتنا وعلى أوضاعنا العامة لا تشكل غاية في حد ذاتها، وإنما هي وسيلة لمساعدتنا على تعميق صلتنا بالله –تعالى- وعلى النجاح في الابتلاء الذي كتب علينا في هذه الحياة.
إن مما يدعو إلى الأسف أن هذا المعنى المحوري قد لحقه الكثير من الحيف في هذه الأيام؛ حيث تعمل العولمة على إغراق وعينا بجزئيات وفرعيات وتفصيلات لا نهاية لها. ومع أن الاهتمام بالتفاصيل يظل علامة على الارتقاء؛ إلا أن ذلك يجب أن يكون في إطار الأصول والمبادئ الكلية، وإلا تحول إلى عامل يطمس ملامح توجهنا العام، فنفقد الغاية العظمى، وتصبح حركتنا في الحياة أشبه بكوكب فقد مداره. الخلاصة أن مواصفات زماننا التي تزداد رسوخًا وتعميمًا لا تخدم عالم الروح، ولا تلائم متطلبات الإيمان، وهذا يعني أن على المسلم الذي يريد أن يحيا وفق مبادئه وعقيدته أن يعوّد نفسه السباحة ضد التيار، وأن يمتلك طاقة استثنائية على التحمل والممانعة، ولدينا العديد من الآثار التي تدل على ما يلاقيه المتمسك بدينه في زمان كزماننا من عنت ومشقة، كما ورد ما يدل على عظم الأجر وجزالة المكافأة التي أعدها الله –تعالى- له.
لا يخفى علينا أننا في عالم يقدّس القوة على حساب الرحمة، ويحتفي بالمادي على حساب المعنوي، وينخرط في العاجل على حساب الآجل، وينظر إلى الطيبة على أنها نوع من السذاجة، وينظر إلى الحديث عن الأخلاق على أنه شيء ينزع إلى المثالية، والمتحدث عنها يستحق شيئًا من الإشفاق!. وفي عالم كهذا تكون الأحاديث حول الرجاء والخوف والمحاسبة والمناجاة والشوق إلى الله –تعالى- وتذكر الصراط والميزان والكوثر وشقاء جهنم... شيئاً يدل على العيش خارج العصر وبعيدًا عن دوائر الاهتمام. وهذا بالضبط ما يجعل مملكة الروح تبدو موحشة ومهجورة!.
إن المسلم في هذه الحياة يحتاج إلى أمور كثيرة، لعله يأتي في مقدمتها أمران: رؤية راشد مسددة للواقع بفرصه وإمكاناته وتحدياته... وطاقة تساعده على قطع طريق طويل مملوء بالصعاب والعقبات.
التفكير والتأمل والتثقف والحوار... أمور تساعد على تكوين الرؤى الجيدة. ويبقى علينا أن نتعلم كيف نحصل على مفتاح منجم الطاقة والقدرة المطلوبة.
إن الإيمان بالله –تعالى- حين يتجاوز وضعية القناعة العقلية ليصبح مصدرًا للشعور بمعية الله –تعالى- والأنس به والتوكل عليه والاستعانة به والثقة بما عنده... فإنه يصبح آنذاك المولّد الأساسي لروح المقاومة وروح المبادرة وروح الاستمرار لدى الإنسان المسلم.
الإيمان حتى يكون كذلك فإنه يحتاج إلى شيء غير الفكر وغير الثقافة، إنه يحتاج إلى التعبد والتنفل والإكثار من ذكر الله –تعالى- ومناجاته... ولا ريب أن من يفعل هذا يكون في الأساس قد صار أداء الواجبات وترك المعاصي شيئًا مالوفًا في حياته وموضع التزام صارم.(/1)
في هذا الإطار يقدم لنا شهر رمضان المبارك الذي نتفيأ ظلاله هذه الأيام الفرصة الذهبية لاستعادة شيء من أمجاد الروح السليبة. إن الصيام في حد ذاته هو إعلان من المسلم بأنه قادر لمدة شهر كامل أن يفتح قوسًا في سلسلة أنشطة تستهدف خدمة الجسد، وذلك من أجل إنعاش الروح. إن عالم ما بعد الحداثة يدفع بالناس للعيش في وسط مائع خال من القيود وغير محدود بحدود. ويأتي الصوم بحرفية توقيته من الفجر إلى المغرب ليمنح المسلم فرصة التأكيد على أن التدين الصحيح يوفر للمسلم ترياق المناعة ضد موجات التحديث التي تستهدف تفكيك المنظومة الفكرية والخلقية التي تساعدنا على أن نظل بشرًا أسوياء.
إن الاعتكاف قد بات بين السنن التي هجرها كثير من المسلمين مع أنه يوفر فرصة عظيمة لالتقاط الأنفاس اللاهثة خلف مكاسب مؤقتة، كما يوفر فرصة نادرة لإرواء أرواحنا الظامئة وتحريك عواطفنا الجامدة.
إن في إمكاننا أن نتخذ من رمضان مناسبة لمراجعة أحداث عام كامل ومن خلال تلك المراجعة فقد نتمكن من العودة إلى مملكة الروح ومغادرة عالم الوهم والسراب؛ فهل نحن فاعلون(/2)
من آثار العولمة الثقافية على العقيدة
24/10/1424
أ. د .ناصر بن سليمان العمر
آثار العولمة الثقافية: الآثار العقدية
1- خلخلة عقيدة المسلمين، والتشكيك فيها:
وذلك عبر وسائل وأساليب متعددة مباشرة وغير مباشرة، وإذا ضاعت العقيدة، وفقد المسلم ركناً ركيناً يجنح إليه إذا تشعبت الأمور، فكيف تكون حاله؟ إن فيما نشهده من نسبة ارتفاع وفيات الانتحار في العالم الغربي مقارنة بالعالم الإسلامي، جواباً على هذا السؤال.
وقف الكون حائراً أين يمضي
ولماذا وكيف لو تشاء يمضي
عبث ضائع وجهد غبين
ومصير مقنع ليس يرضي
2- إضعاف عقيدة الولاء والبراء، والحب والبغض في الله:
إن استمرار مشاهدة الحياة الغربية، وإبراز زعماء الشرق والغرب داخل بيوتناً، والاستمرار في عرض التمثيليات والمسلسلات، والاستماع إلى الإذاعات، والأشكال الأخرى لاستيراد الثقافات سيخفف ويضعف من البغض لأعداء الله، ويكسر الحاجز الشعوري، فمع كثرة الإمساس يقل الإحساس، والله _جل وعلا_ يقول: "لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ" (1)الآية.
3- تقليد النصارى في عقيدتهم:
وذلك باكتساب كثير من عاداتهم المحرمة التي تقدح في عقيدة المسلم كالانحناء، ولبس القلائد والصلبان، وإقامة الأعياد العامة والخاصة، وقد رأينا القصات العالمية، وأشهر (الموضات)، إلى غير ذلك من صنوف التشبه المحرمة "ومن تشبه بقوم فهو منهم" (2).
4- نشر الكفر والإلحاد، حيث إن كثيراً من شعوب تلك الدول لا يؤمنون بدين، ولا يعترفون بعقيدة سماوية، فلا حرج عندهم إذا نشروا أفلاماً تدعو بطريقة أو بأخرى لتعلم السحر، ومن أمثلتها أفلام السحر التي يقحمونها ببعض الألعاب القتالية، وهي منتشرة.
5- ومن أخطر الآثار العقدية الدعوة إلى النصرانية فالعولمة الغربية تتيح للتيارات الفكرية الموجودة بها نشر أفكارها، عن طريق الاستفادة من تقنياتها، فبينما تطحن العولمة الاقتصادية الشعوب الفقيرة يوجد أسطول طائرات يضم أكثر من 360 طائرة في أمريكا وحدها توزع بها الكنائس الإعانات على الفقراء، ومع الدعوة للانفتاح الإعلامي، وبينما لايتجاوز عدد الإذاعات الإسلامية أصابع اليدين يربو عدد الإذاعات والتلفزيونات التنصيرية عن 4050 إذاعة، وهذا أيضاً في أمريكا وحدها وفقاً لإحصائيات (دافيد بار) خبير العمل الإحصائي في الولايات المتحدة، ووفقاً لإحصائيات عام 1992م فيوجد بالعالم 24900 مجلة تنصيرية، وعلى الصعيد السياسي يجد المتأمل أن التيارات الأصولية لها أثرها البين على السياسة الأمريكية وبالأخص اليمين المسيحي، والذي من أبرز رجالاته (بات روبرتسون)، و (جيري فلويل)، و(جيري فيناز)، و(فرانكلين جرهام) صاحب الحملة (الإغاثية!) إبان غزو العراق.
وقديماً استرعى الانتباه المشروع التنصيري الذي يستعد الفاتيكان فيه لبناء محطة تلفزيونية كبيرة، للبث في كافة أنحاء العالم للتبشير بتعاليم الإنجيل بواسطة ثلاثة أقمار اصطناعية تسمى بمشروع نومين(3) (2000) مع العلم أن القمر الواحد يغطي ثلث مساحة الكرة الارضية.
كما عقد قديماً في هولندا اجتماع عالمي للتنصير حضره (8194) منصر، من أكثر من مائة دولة، وكلف (21) مليون دولار، برئاسة المنصر جراهام، وقد تحمل نفقات هذا المؤتمر منظمة سامرتيان برس، وهدف المؤتمر دراسة كيفية الإفادة من البث المباشر في التنصير(4).
ويقول الدكتور: عمر المالكي: "والأمر الملفت للنظر وجود شبكة للبرامج الدينية التي تشرف عليها الكنائس، مثل: شبكة البث المسيحي(5) NBN وشبكة CBN والشبكة الأخرى يصل بثها إلى أكثر من سبعة عشر مليون عائلة عن طريق الكابلي VATC وبرامجها على مدار الساعة تقدم عن طريق القمر الصناعي SATC3 وتوجد عدة قنوات للبث الديني، واحدة منها للبث الديني اليهودي، ومن المقرر بنهاية 1990 م أن يصل عدد الكنائس الموصلة بشبكات البث الخاص عن طريق الأقمار الصناعية إلى عدة آلاف"(6).
هذه بعض آثار وأخطار العولمة الثقافية على عقيدة المسلمين ودينهم، وقد لا تبدو تلك الآثار سريعة، ولكن مع الزمن والتكرار يحدث الأثر.
--------------------------------------------------------------------------------
1 سورة المجادلة آية: 22.
2 حديث ابن عمر رواه ابن أبي شيبة 6/471، ومن طريقه أبوداود في سننه 4/44 برقم (4031)، ورواه الإمام أحمد 2/50، وله شواهد مرسلة، وقد حسنه ابن حجر في (الفتح 10/271)، وفيه عبدالرحمن بن ثابت بن ثوبان والأقرب أنه حسن الحديث.
3 (الحاجة إلى تنسيق وتكامل إعلامي) حمود البدر ص 19.
4 مجلة رابطة العالم الإسلامي (290).
5 الصحيح أن يقول: النصراني؛ لأن هذا هو الاسم الصحيح لهم في القرآن الكريم.
6 مجلة البيان عدد (34).(/1)
من آداب البيوت
فضيلة الشيخ : أبي محمدعبدالله بن مانع العتيبي كبير المدرسين بإدارة الشؤون الدينية للقوات الجوية 18/2/1423
01/05/2002
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد:
فإن البيوت لم تزين ولن تزين بأدب وعمل أعظم من تقوى الله عز وجل وإن البيت إذا عمر بطاعة الله عز وجل من الكبير والصغير والذكر والأنثى كان هذا من أجل الخصال وأعظم الحلل التي تزدان بها بيوت أهل الإسلام. وقد جمعت بعض آداب البيوت منتزعا لها من نصوص الوحيين الكتاب والسنة ومن كتب أهل العلم من الحديث والفقه وغير ذلك ولم أرد الإستيعاب وحسبي أني نبهت على المهم من ذلك، والله أسأل التوفيق والسداد.
1-إغلاق الأبواب، وإطفاء النار عند النوم، وتخمير الآنية (أي تغطيتها)، وكف الصبيان فقد أخرج البخاري ومسلم عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:( إذا كان جنح الليل فكفوا صبيانكم فإن الشياطين تنتشر حينئذ فإذا ذهب ساعة من العشاء فخلوهم وأغلق بابك واذكر اسم الله وأطفيء مصباحك واذكر اسم الله وخمر إناءك واذكر اسم الله ولو تعرض عليه شيئا) رقم 3280 عند البخاري وفي لفظ مسلم 2014 ( غطوا الإناء وأوكوا السقاء) وفي لفظ له (خمروا الانية وأوكوا الأسقية وأجيفوا الأبواب وكفوا صبيانكم عند المساء فإن للجن انتشارا وخطفة، واطفئوا المصابيح عند الرقاد، فإن الفويسقة ربما اجترت الفتيلة فاحرقت أهل البيت) رقم 3316 عند البخاري. وفي حديث ابن عمر عند البخاري ومسلم ( لا تتركوا النار في بيوتكم حين تنامون) رقم 6293 عند البخاري، وفي حديث أبي موسى المتفق عليه قال: احترق بيت بالمدينة على أهله من الليل فحدث بشأنهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ( إن هذه إنما هي عدو لكم فإذا نمتم فأطفئوها عنكم). وفي سنن أبي داوود من طريق عكرمة عن ابن عباس قال: جاءت فارة فجرت الفتيلة فألقتها بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم على الخمرة التي كان قاعدا عليها فأحرقت منه مثل موضع الدرهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا نمتم فأطفئوا سراجكم فإن الشيطان يدل هذه على هذا فيحرقكم) وعند مسلم من حديث جابر ( لاترسلوا فواشيكم وصبيانكم إذا غابت الشمس حتى تذهب فحمة العشاء فإن الشياطين تنبعث إذا غابت الشمس)، قال النووي رحمه الله: قال أهل اللغة: الفواشي: كل منتشر من المال كالإبل والغنم وسائر البهائم وغيرها. وهي جمع فاشية لأنها تفشو أي تنتشر في الأرض. وفحمة العشاء: ظلمتها وسوادها. وفسرها بعضهم بإقباله وأول ظلامه. وكذا ذكره صاحب نهاية الغريب. قال: ويقال للظلمة التي بين صلاتي المغرب والعشاء الفحمة، وللتي بين العشاء والفجر العسعسة أ.هـ (شرح مسلم للنووي 13/186-187). قال بن دقيق العيد (11/87 فتح الباري): هذه الأوامر لم يحملها الأكثر على الوجوب، وهذه الأوامر تتنوع بحسب مقاصدها فمنها ما يحمل على الندب، وهو التسمية على كل حال ومنها ما يحمل على الندب والإرشاد معا كإغلاق الأبواب من أجل التعليل بأن الشيطان لا يفتح بابا مغلقا لأن الاحتراز من مخالطة الشيطان مندوب إليه وإن كانت تحته مصالح دنيوية كالحراسة وكذا إيكاء السقاء وتخمير الإناء أ.هـ وقال أيضا رحمه الله: الأمر بإغلاق الأبواب فيه من المصالح الدينية والدنيوية حراسة الأنفس والأموال من أهل العبث والفساد ولا سيما الشياطين أ.هـ. وأما الأمر بكف الصبيان في هذه الساعة فللخوف عليهم من أذى الشياطين ساعة انتشارهم في أول الليل، لأن الليل أجمع للقوى الشيطانية والذكر في الصبية مفقود فاحتيج إلى هذا. وفيما يتعلق بتخمير الآنية، تعتبر الثلاجة في هذا الزمان في حكم الإناء الكبير فإدخال الطعام فيها يقوم مقام تخميره، إذا لم يكن لها أغطية فعلى هذا تغلق ويذكر اسم الله.
2-روى مسلم عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:( إذا دخل الرجل بيته فذكر الله عند دخوله وعند طعامه قال الشيطان لا مبيت لكم ولا عشاء فإذا دخل فلم يذكر الله عند دخوله قال الشيطان أدركتم المبيت وإذا لم يذكر اسم الله عند طعامه قال الشيطان أدركتم المبيت والعشاء) ففيه التسمية عند الدخول أو ذكر الله كقول لا إله إلا الله. وأما حديث ابي مالك الأشعري إذا ولج الرجل بيته فليقل (بسم ال، اللهم إني أسألك خير المولج…………الخ) فهذا حديث منقطع يرويه شريح بن عبيد عن ابي مالك وروايته عنه مرسلة كما قال ابو حاتم.
3-البداءة بالسواك عند دخول المنزل فقد روى المقدام بن شريح عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل بيته بدأ بالسواك. رواه مسلم.
4-روى الشيخان عن بن عمر رضي الله عنهما قال صلى الله عليه وسلم:(اجعلوا في بيوتكم من صلاتكم ولا تتخذوها قبورا) وفي حديث جابر عند مسلم مرفوعا (إذا قضى أحدكم الصلاة في مسجده فليجعل لبيته نصيبا من صلاته فإن الله جاعل في بيته من صلاته خيرا).(/1)
5-عدم إتخاذ الصور أو إتخاذ التماثيل ففي حيث ابي طلحة المتفق عليه عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال:(إن الملائكة لا تدخل بيتا فيه صورة) وفي لفظ البخاري ( ولاصورة تماثيل). وفي حديث ابي هريرة عند مسلم ( ولا تدخل الملائكة بيتا فيه تماثيل وتصاوير) وكذا عند البخاري من حديث عائشة وابن عمر، ففي هذه الأحاديث مسائل:
•أن الصور المعلقة للعظماء والرؤساء والآباء محرمة وكذا التي للذكرى على الراجح.
•أما الصور الممتهنة في الفرش والوسائد فلابأس بها وكذا الصور التي على العلب كعلب الحليب وبعض الأغذية فإنها في حكم الممتهنة وكذا التي للضرورة أو الحاجة.
•أما الحيوانات المحنطة فلايجوز اتخاذها وقد منعها شيخنا بن باز رحمه الل من ثلاثة وجوه، من حيث الإسراف وأن فيها عملا وتصويرا ممن يحنطها، وأن بعض الناس يعتقد بها اعتقادات.
•فائدة:آفة هذه التصاوير والتماثيل هو الوجه وفي قول بن عباس رضي الله عنهما ( الصورة الرأس، فإذا قطع الرأس فلا صورة) أخرجه البيهقي بسند صحيح عنه (7/270)، وتسمية الوجه صورة موجود في أحاديث كثيرة ثابتة في الصحيحين وغيرهما. ومما ينبغي التنبيه عليه أيضا حسن انتقاء لعب الأطفال لأن كثيرا من هذه اللعب لا تخلو من محاذير شرعية متعددة.
6-عدم إيواء الكلاب في البيوت وتربيتها ففي حديث أبي طلحة السابق ( لاتدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا تصاوير) وكذا في حديث ابن عمر وفي حديث أبي هريرة عند مسلم (كلب ولا جرس)، وفي حديث أبي هريرة وابن عمر (من اقتنى كلبا غير كلب زرع أو ماشية أو صيد نقص من أجره كل يوم قيراطان). والقيراط المذكور هنا جزء مقدر من الحسنات في ذلك اليوم إما من عشرين جزءا أو أربعة وعشرين جزءا وقيل غير ذلك فينقص هذا كل يوم من حسناته، وأما القيراط في الجنائز فقد قيل إنه مثل القيراط هنا وأنهما متساويان، وقيل إن الذي في باب الجنائز أعظم لأنه من باب الفضل والذي هنا من باب العقوبة وباب الفضل أوسع من غيره. أ.هـ. مختصرا من كلام الحافظ في الفتح (3/194-195) (5/ص7) قلت: وقد وقع التصريح بأن القيراط في الجنائز كالجبل العظيم أو كجبل أحد أو أعظم من أحد. ففي الحديث من الأحكام:
•تحريم اقتناء الكلاب.
•أن اقتناءها من التشبه بالكفرة.
•أما الأجراس، فأجراس البيوت جائزة للحاجة وكذا أجراس الهاتف والسيارة كما قال شيخنا بن باز رحمه الله.
•فائدة: يتعدد نقص الأجر بتعدد اتخاذ الكلاب الغير مأذون فيها على الراجح، وكذا يتعدد الأجر بتعدد الجنائز عند الصلاة عليها أو اتباعها وهذا القول هو الراجح في المسألتين.
7-عدم ترك الصليب وما فيه تصاليب في البيوت فقد روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها (لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يترك شيئا فيه تصاليب إلا نقضه).
8-عدم تعليق جلود النمور أو افتراشها أو الركوب عليها أو اتخاذها وقد جاءت فيها أحاديث منها حديث المقدام بن معد يكرب وفيه ( ونهى عن جلود السباع والركوب عليها) رواه أحمد وأبو داوود والنسائي وقال الحافظ في الفتح (10/294) حديث ثابت. ومنها حديث معاوية: ونهى عن جلود النمور أن يركب عليها وفي لفظ ( لاتركبوا الخز ولا النمار) رواه أحمد وأبو داوود وحديث أبي هريرة ( لاتصحب الملائكة رفقة فيها جلد نمر) رواه أبو داوود وحديث أبي المليح عن أبيه (نهى عن جلود السباع) رواه الترمذي وابو داوود. وأيضا حديث علي ( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخز وعن ركوب عليه وعن جلوس عليه وعن جلود النمور وعن جلوس عليها وعن ركوب عليها) أخرجه عبدالرزاق والطحاوي في مشكل الآثار. ومنها حديث ابي ريحانة رواه أحمد الطحاوي كذلك، والأحاديث هذه بمجموعها تدل على أن النهي عن جلود النمور محفوظ بلا شك، وحديث المقدام وأبي هريرة كافيان، مع أن تعليقها أيضا فيه مفسدة كسوة الجدر وأقل أحواله الكراهة وسيأتي. والحكمة في النهي عن اتخاذ جلود النمور والركوب عليها التأثر بأخلاقها الخبيثة كما قال ابن القيم وشيخنا، وقيل لأنها لاتطهر بالدباغ (وهذا حق ولكن ليس هو علة النهي هنا)، وقيل التشبه بالأعاجم، وقيل لما في ذلك من الخيلاء، وفي حديث أبي هريرة أن اصطحابها سبب لنفرة الملائكة، وجلود السباع بعامه حكمها كحكمها وجاءت في بعض الألفاظ في الحديث.(/2)
9-عدم اتخاذ الآت اللهو والمعازف واستعمالها وكل ذلك محرم وكذلك الآت الفساد كالدشوش والتلفاز وماشابهها. ومما يحسن التنبيه عليه هنا ما أنعم الله به علينا من وسيلة الإتصال (الهاتف) وهذه النعمة وإن كانت عظيمة لكن من أساء استخدامها أو غفل عن بعض أضرارها وقع في مهالك، وبعض الناس يدع الرد على الهاتف لكل أحد في البيت من رجل أو إمرأة صغيرا كان او كبيرا وهذا غلط ظاهر فالذي يتولى الرد على الهاتف ينبغي أن يكون من الذكور البالغين إن تيسر، ولا أرى داعيا لرد المرأة على الهاتف مع وجود الرجال وهذا الأمر معدود من مسؤولية الرجل على أهل بيته وحفظه لهم ويقظته المحموده وغيرته المشروعة.
10-عدم استقبال القبلة واستدبارها عند الاستطابة وفي حديث أبي أيوب (إذا أتيتم الغائط فلاتسقبلوا القبلة ولا تستدبروها ولكن شرقوا أوغربوا) ونحوه عند مسلم من حديث أبي هريرة وحديث سلمان الفارسي. ومذهب الجمهور التفريق بين البنيان والفضاء فيجوز الاستقبال والاستدبار في البنيان عند قضاء الحاجة ولايجوز ذلك في الفضاء. والأفضل عدم الاستقبال أو الاستدبار حتى في البنيان. والمنع بإطلاق ذهب إليه شيخ الإسلام وابن القيم. وشيخنا بن باز رحمه الله يرى أن الأفضل تركه في البنيان، والشيخ بن عثيمين رحمه الله يفرق في البنيان بين الاستقبال والاستدبار فيرى منع الاستقبال وإباحة الاستدبار لحديث بن عمر المتفق عليه.
11-عدم استعمال آنية الذهب والفضة سواء في الأكل أو الشرب أو غير ذلك كالوضوء، وفي الباب حديث أم سلمة المتفق عليه (الذي يشرب في آنية الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم) وفي مسلم زيادة (الذهب والأكل) أي: الذي يأكل أو يشرب في آنية الذهب أو الفضة. وأشار مسلم إلى تفردبعض الرواة بها وقد جاء بها حديث حذيفة عند البخاري ومسلم. وقد نقل الاتفاق على منع سائر وجوه الاستعمال جماعة من العلماء كابن المنذر وابن هبيرة وابن القيم والموفق صاحب المغني، بل إن بن حزم على ظاهريته يلحق سائر وجوه الاستعمال بالأكل والشرب. ونقل بن قاسم في الأحكام شرح أصول الأحكام عن شيخ الإسلام الاتفاق على منع الاستعمال وذكر بن الهمام في فتح القدير أن المنع لأجل التشبه بالأكاسرة والجبابرة وقال شيخ الاسلام في الاقتضاء مثله وأن اتخاذها من التشبه بالكفار.أ.هـ. قلت: وقل من نبه على هذه العلة مع أنها في الحديث (فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة) وذكر نحو هذا بن القيم. وشيخنا بن باز رحمه الله يمنع سائر وجوه الاستعمال كجماهير أهل العلم بل عامتهم. وقد اشتهر قصر المنع على الأكل والشرب دون سائر وجوه الاستعمال الأخرى عن المتأخرين، فقد نقل هذا عن داوود الظاهري والشوكاني وصديق حسن وابن عثيمين.
12-الاستئذان عند إرادة دخول البيوت ونحوها ففي حديث أبي موسى عند مسلم: والاستئذان ثلاثا فإن أذن لك وإلا فارجع، ونحوه عن أبي سعيد متفق عليه، وفيه قصة، وفي الباب أحاديث. وبعد ثلاث لايجوز الإستئذان لأنه أذى لأهل البيت وهم قد علموا بك ولم يسمحوا بدخولك، فإن صرحوا لك بالرجوع فيحرم الاستئذان حينئذ، وقد قال الله تعالى (وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم والله بما تعملون عليم). والاستئذان يكون بالكلام أو بدق الباب أوبضرب الجرس، وقد بوب ابو داوود على حديث جابر وهو متفق عليه باب: الرجل يستأذن بالدق. وهكذا يكون الاستئذان من الأقارب واهل الدار بعضهم على بعض كما قال تعالى:( يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء ثلاث عورات لكم……الآية)، فيؤمر الخدم والأطفال المميزون أن لايهجموا على البيت في هذه الأوقات من غير استئذان لما يخشى أن يكون الرجل على أهله أو غير ذلك. وأما البالغون فيستأذنون في كل حال. وقد روى مالك عن صفوان بن سليم عن عطاء بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأله رجل فقال يا رسول الله استأذن على أمي؟ قال: نعم. قال الرجل إني معها في البيت! فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم استأذن عليها. فقال الرجل: إني خادمها! فقال الرسول صلى الله عليه وسلم:استأذن عليها. أتحب أن تراها عريانه؟ قال: لا. قال: فاستأذن عليها. رواه مالك مرسلا ومعناه في كتاب الله كما مر آنفا.(/3)
13-عدم ستر الجدر إلا لحاجة، ففي مسلم عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى سترا فهتكه وقال (إن الله لم يأمرنا أن نكسوا الحجارة والطين) وانظر الفتح (9/250). قال في الاختيارات في باب الوليمة: ورخص أبو محمد في ستر الحيطان لحاجة من وقاية حر أو برد ومقتضى كلام القاضي المنع لإطلاقه على مقتضى كلام أحمد يكره تعليق الستور على الأبواب من غير حاجة لوجود أغلاق غيرها من ابواب الخشب ونحوها، وكذا تكرار الستور في الدهليز لغير حاجة فإن مازاد على الحاجة فهو سرف. وهل يرتقي إلى التحريم؟ فيه نظر أ.هـ. وقال شيخنا بن باز رحمه الله: ستر الجدار أقل أحواله الكراهة لأنه نوع إسراف لاحاجة إليه وأما ستر النوافذ فلا بأس به، وكذا إذا كان على الأبواب أما الجدر فينكر.
14-اتخاذ مايرتفق به الضيوف والاستعداد بكفاية دون زيادة أوسرف. عند مسلم عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (فراش للرجل وفراش لأمرأته والثالث للضيف والرابع للشيطان).
15-عدم الإسراف في المآكل والمشارب فقد قال الله سبحانه وتعالى (وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين) وقال سبحانه وتعالى (ولا تبذر تبذيرا إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا). وقد روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول صلى الله عليه وسلم قال (كلوا واشربوا وتصدقوا والبسوا ما لم يخالطه إسراف أو مخيلة) رواه أحمد والنسائي وابن ماجه وغيرهم. ويزداد الأمر سوءا إذا كان مصير ما يفضل من هذه المآكل والمشارب هو القمامة والأماكن القذرة فإن هذا من الاستهانة بالنعم، والاستهانة بالنعم استهانة بالمنعم. فعلى المسلمين اتباع هدي سيد المرسلين الذي قال ( طعام الواحد يكفي الإثنين، وطعام الإثنين يكفي الأربعة، وطعام الأربعة يكفي الثمانية) رواه مسلم. ومن فضل الله علينا في هذا الزمان وجود المبرات الخيرية التي تستقبل، بل تأتي لأخذ ما فضل من الطعام وتقوم بإيصاله إلى المحتاجين. فإن لم يتيسر الاتصال بهذه المبرات ولم يمكن حفظ ما بقي من الأطعمة فليطعم الدواب، فإن لم يتيسر ذلك فليوضع في مكان طاهر.
16-عدم المبالغة في البناء. قال البخاري في صحيحه: باب ما جاء في البناء وقال أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من أشراط الساعة إذا تطاول رعاة البهم في البنيان). قال الحافظ في الفتح وقد ورد ذم البناء مطلقا في حديث خباب ( يؤجر الرجل في نفقته كلها إلا التراب) أخرجه الترمذي وصححه وأخرج له شاهدا عن أنس بلفظ (إلا البناء فلا خير فيه) وللطبراني من حديث جابر رفعه (إذا أراد الله بعبد شرا خضر له في اللبن والطين حتى يبني) ومعنى خضر: حسن وزنا ومعنى وله شاهد من حديث أبي بشر الأنصاري ( إذا أراد الله بعبد سوءا أنفق ماله في البنيان) وأخرج أبو داوود من حديث عبدالله بن عمر بن العاص قال: مر بي النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أطين حائطا فقال (الأمر أعجل من ذلك) صححه الترمذي وابن حبان. وهذا كله محمول على ما لا تمس الحاجة إليه مما لابد منه للتوطن وما يقي البرد والحر. وقد أخرج أبو داوود أيضا من حديث أنس رفعه (أما إن كل بناء وبال على صاحبه إلا ما لا إلا ما لا) أي إلا ما لابد منه ورواته موثوقون إلا الراوي عن أنس وهو أبو طلحة الأسدي فليس بمعروف، وله شاهد من حديث واثلة بن الأسقع عند الطبراني) أ.هـ كلام الحافظ (11/92-93).
17-قراءة القرآن في البيوت فهذا سبب للبركة وطرد الشياطين فعند مسلم من حديث أبي هريرة مرفوعا (ولا تجعلوا بيوتكم مقابر إن الشيطان يفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة)، وفيه من الفوائد أن المقبرة ليست محلا للقراءة ومر معنا حديث بن عمر مرفوعا (اجعلوا في بيوتكم من صلاتكم…… ولا تتخذوها قبورا) يفيد أن القبور ليست محلا للصلاة أيضا فمن لم يتنفل في بيته ولم يقرأ القرآن فقد شبه بيته بالمقبرة.(/4)
18-عدم قتل حيات البيوت قبل إنذارها ففي الصحيحين عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم (نهى عن قتل حيات البيوت وهي العوامر) وفي رواية (جنان البيوت) يعني قبل إنذارها، وفي حديث أبي سعيد عند مسلم ( إن بالمدينة جنا قد أسلموا فإذا رأيتم منها الحيات فآذنوه ثلاثة أيام فإن بدأ بعد ذلك فاقتلوه فإنما هو شيطان) وفي لفظ (فحرجوا عليها ثلاثا) وفيه قصة. وجاءت صفة التحريج عند ابي داوود من حديث عبدالرحمن بن أبي ليلى عن أبيه مرفوعا (أنشدكن العهد الذي أخذ عليكن نوح، أنشدكن العهد الذي أخذ عليكن سليمان أن لاتؤذننا فإن عدن قتلن) وفي سنده محمد بن عبدالرحمن بن أبي ليلى يرويه عن ثابت بن عبد الرحمن به ومحمد سيء الحفظ جدا، فالصحيح أن صفة التحريج ( أحرج بالله عليك أن تخرج وإلا قتلتك) أو نحو هذا الكلام مثل أنت في ضيق وحرج إن لبثت عندنا أو ظهرت لنا أو عدت إلينا، ثلاث مرات وإن كررت في ثلاثة أيام فهو حسن لحديث أبي سعيد وإلا فلا يلزم فقد يكون رواية بالمعنى فإن كانت الحية جانا ولم يخرج فقد حل دمه وإن كانت غير جان فهو لايعلم ما تقول لأنه دابة عجماء وفي الحالين يقتل. ويستثنى من هذا التحريج (الأبتر وذو الطفيتين) لعظم خطرهما فإنهما يلتمسان البصر ويستسقطان الحبلى كما في حديث ابن عمر وعائشة رضي الله عنهم.
19-السلام على أهل الدار لعمومات النصوص في ذلك وأهلك أحق من تسلم عليهم.
20-عدم خلوة الرجل في البيت بالمراة الأجنبية لقول النبي عليه الصلاة والسلام (إياكم والدخول على النساء) فقال رجل يارسول الله أفرأيت الحمو (يعني أخبرني عن حكم دخول قريب الزوج أو ابن عمه) فقال النبي صلى الله عليه وسلم (الحمو الموت)، يعني احذروه كما تحذرون الموت أو يكون المعنى دخوله هو هلاك الدين لما يخشى من فعل الفاحشة أو مقدماتها. قلت: والله عز وجل قد سمى المرأة شهوة، فقد قال تعالى (زين للناس حب الشهوات من النساء ……..الآية) وحب النساء في قلوب الرجال طبع فطروا عليه. ومهما كان حال المرأة من كبر سن أو دمامة وجه فإنها تجد من يعلقها وقد قال الناظم:
لكل ساقطة في الحي لاقطة ... ...
وكل كاسدة يوما لها سوق
وقد قيل المرأة لحم على وضم إلا ماذب عنه. ومن المعدود من منكرات البيوت الخلوة بالخادمات مما هو سبب ظاهر لما لا تحمد عقباه، ومن ابتلي بشيء منهن فعليه صيانتهن من التبذل والسفور والإحسان اليهن وتعليمهن أمر دينهن والله مسترعيه وسائله. حفظ الله أعراضنا وأعراض المسلمين من كل سوء ومكروه وكبت الله دعاة الرذيلة ورد كيدهم في نحورهم.
21-سعة الدار ومرافقها من غرف ومجالس ونحوها وعدم تضييقها، وفي حديث سعد عند أحمد وابن حبان وأبي يعلى وغيرهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (أربع من السعادة وذكر منها المسكن الواسع) وإسناد ا بن حبان جيد.
22-وضع مكتبة ورقية وسمعية بها الكتب المفيدة النافعة والأشرطة النافعة حتى تحفظ أوقات أهل فيما ينفع وتكون متنفسا صالحا لروادها.
23-وضع حاوية للأوراق التي فيها ذكر الله حتى لا تمتهن، بل تؤخذ وتحرق أو تفرم ولا تكون عرضة للإهانة مثل اتخاذ البعض لها سفرا للطعا(/5)
من آداب السفر وأحكامه
عبد الله بن مانع العتيبي 5/5/1423
15/07/2002
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله .
أما بعد فهذه بعض آداب السفر وأحكامه انتقيتها من كتب الحديث والفقه ولم أقصد الاستيعاب وإنما أردت التذكير بالمهم من ذلك والله نسأل التوفيق والسداد.
1 - طلب الصحبة في السفر لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الراكب شيطان والراكبان شيطانان والثلاثة ركب ) إسناده حسن أخرجه مالك وأحمد وأهل السنن.
2 - التأمير في السفر لحديث أبي هريرة وأبي سعيد ( إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم ) أخرجه أبو داود بسند جيد وفي حديث علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث جيشاً و أمر عليهم رجلاً وأمرهم أن يسمعوا له ويطيعوا. أخرجه البخاري وغيره
3 - الإتيان بدعاء الركوب و دعاء السفر فقد جاء عن علي رضي الله عنه أنه أتي بدابة ليركبها فلما وضع رجله في الركاب قال: بسم الله فلما استوى على ظهرها قال: الحمد لله ثم قال ( سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون ) ثم قال الحمد لله (ثلاثاً) الله أكبر(ثلاثاً) سبحانك اللهم إني ظلمت نفسي فاغفرلي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ) الحديث رواه أحمد وأهل السنن وفي إسناده اختلاف وإسناده عند الطبراني والحاكم جيد ثابت وأخرج مسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا استوى على بعيره خارجاً إلى سفر كبر ثلاثاً ثم قال ( سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى ومن العمل ما ترضى اللهم هون علينا سفرنا هذا وأطو عنا بعده اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر وكآبة المنظر وسوء المنقلب في المال والأهل ) إذا رجع قالهن وزاد فيهن ( آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون ) وفي حديث أنس عند مسلم حتى إذا كنا بظهر المدينة قال ( آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون ) فلم يزل يقول ذلك حتى قدمنا المدينة) فعلى هذا تقال هذه العبارة عند بداية القفول وعند قدومه لبلده،وروى مسلم عن عبدالله بن سرجس أيضاً : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر يتعوذ من وعثاء السفر وكآبة المنقلب والحور بعد الكون وفي بعض النسخ ( الكور ) ودعوة المظلوم وسوء المنظر في الأهل والمال ) 0
ودعاء الركوب إنما يقال في الأسفار خاصة كما اختاره شيخنا ابن باز رحمه الله تعالى.
4 - الخروج يوم الخميس إذا تيسر ذلك فقد روى البخاري عن كعب بن مالك قوله: ( لقلما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج إذا خرج إلا يوم الخميس ) وبوب عليه البخاري في كتاب الجهاد وهذا من باب الأفضلية و إلا فقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع يوم السبت0
5 - التسبيح عند هبوط الأودية والتكبير إذا علا مرتفعاً كما ثبت ذلك في حديث جابر وابن عمر ولفظ حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله علية وسلم كان إذا قفل من غزو أو حج أو عمره يكبر على كل شرف من الأرض ثلاث تكبيرات ثم يقول( لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهوعلى كل شي قدير آيبون تائبون عابدون ساجدون لربنا حامدون، صدق الله وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده ) وهو عام في كل سفر
6 - توديع الأهل والأقارب وغيرهم وجاء في ذلك أحاديث وآثار ثابتة
7 - تعجيل العودة بعد الفراغ من الحاجة التي سافر لأجلها لقوله عليه الصلاة والسلام ( السفر قطعة من العذاب يمنع أحدكم طعامه وشرابه ونومه فإذا قضى أحدكم نهمته ( بفتح النون حاجته ) فليعجل رجوعه إلى أهله ) متفق عليه0
8 - عدم اصطحاب المنكرات والمكروهات في السفر أخرج مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( لا تصحب الملائكة رفقة معهم كلب ولا جرس )-
9 - كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان في سفر وأسحر يقول : ( سمع سامع بحمد الله وحسن بلائه علينا ربنا صاحبنا وأفضل علينا عائذاً بالله من النار ) أخرجه مسلم عن أبي هريرة.
10 - الدعاء إذا نزل في مكان فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من نزل منزلاً فقال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يضره شيء حتى يرتحل من منزله ذلك ) رواه مسلم.
11 - الدعاء في السفر : فإن حال السفر من أسباب أجابة الدعاء وفي الحديث ثلاثة لا ترد دعوتهم وذكر منهم المسافر. أخرجه أهل السنن وعند مسلم ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث اغبر.
12 - من السنة ألا يطرق أهله ليلاً إذا قدم إلا إذا أخبرهم بذلك كما ثبت ذلك في حديث جابر وغيره، ، ومعنى الطروق القدوم ليلاً
13 - من السنة النقيعة وهي الإيلام عند القدوم من السفر كما ثبت ذلك عنه صلى الله عليه وسلم في حديث جابر عند البخاري في أخر كتاب الجهاد من صحيحه وانظر المجموع النووي (4/285).(/1)
14 - كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قدم المدينة فرآها حرك دابته من حب المدينة . كما أخرجه البخاري.
15 - من السنة عند القدوم من السفر أن يأتي المسجد ويصلي فيه ركعتين . كما دل على ذلك حديث جابر المتفق عليه وقد أخرجه البخاري في بضعة عشر باباً.
مسائل هامة في السفر
1 - يشرع الإنسان في السفر إذا خرج عن بنيان بلدته وقد علق البخاري في صحيحه عن علي رضي الله عنه أنه خرج من الكوفة فقصر وهو يرى البيوت فلما رجع قيل له هذه الكوفة قال: حتى ندخلها. ووصله الحاكم والبيهقي وصلى النبي صلى الله عليه وسلم الظهر بالمدينة أربعاً والعصر بذي الحليفة ركعتين.
2 - إذا دخل عليه الوقت وهو مقيم ثم سافر فصلى الصلاة في السفر فهل يصليها تامة أو مقصورة ؟ الصحيح القصر وحكاه ابن المنذر في الأوسط (4/354) إجماعاً والمشهور عند أصحابنا الحنابلة الإتمام وهو مرجوح.
3 - إن ذكر صلاة حضر في سفر أتم وحكاه ابن المنذر إجماعاً الأوسط (4/368) وإن ذكر صلاة سفر وهو في الحضر ففيه خلاف هل يتم أم يقصر والصحيح أنه يقصر.
4 - إذا صلى المسافر خلف المقيم فإنه يصلي أربعاً مطلقاً حتى لو لم يدرك إلا التشهد الأخير فإنه يصلي كصلاة المقيم أربعاً وهو قول الجمهور وظاهر السنة وهو اختيار الإمامين ( ابن باز وابن عثيمين رحمهما الله ) وانظر المجموع للنووي (4/236).
5 - إذا صلى المسافر بمقيمين فإنه يقصر ويشرع له إذا سلم أن يقول ( أتموا صلاتكم ) وقد روى مالك عن نافع عن ابن عمر عن عمر رضي الله عنه أنه كان يأتي مكة ويصلى بهم فيقول: ( أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر ) وروي مرفوعاً عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم لكنه ضعيف أخرجه أبو داود وغيره وإن نبه عليهم قبل الصلاة فلا بأس حتى لا يقع عليهم الالتباس.
6 - السنن الرواتب التي تسقط في السفر هي سنة الظهر القبلية والبعدية وراتبة المغرب ( وهي بعديه ) وراتبة العشاء ( وهي بعديه ) ولا تسقط سنة الفجر ولا يسقط الوتر بل يصلى سنة الفجر و الوتر وله أن يصلى صلاة الضحى وبعد الوضوء وعند دخول المسجد . . . .
(ص)س
7 - السنة: تخفيف القراءة في السفر فقد ثبت عن عمر أنه قرأ في الفجر بـ ( لإيلاف قريش ) وقرأ أيضاً بـ ( قل هو الله أحد ) وقرأ أنس بـ ( سبح اسم ربك الأعلى ) أخرجها ابن أبي شيبة و كلها صحيحة.
8 - إذا جمع بين الصلاتين المجموعتين فإنه يؤذن إذاناً واحداً ويقيم أقامتين لكل صلاة إقامة وله أن يجمع في أول الوقت ووسطه وآخره فكل ذلك محل للصلاتين المجموعتين.
9 - الجمع بين الصلاتين في السفر سنة عند الحاجة إليه كما قال شيخ الإسلام رحمه الله، وعند عدم الحاجة مباح.
10 - من لا يجب عليه حضور الجمعة كالمسافرين والمرضى يجوز لهم إداء صلاة الظهر بعد أن تزول الشمس ولو لم يصل الإمام صلاة الجمعة .
11 - المسافر له أن يصلى النافلة على السيارة أو الطائرة كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم في التطوع على الدابة من وجوه كثيرة .
12 - كل من جاز له القصر جاز له الفطر بلا عكس .
13 - السفر يوم الجمعة جائز لكن إن أذن المؤذن الثاني لصلاة الجمعة وهو مقيم لزمه أن يمكث حتى يصلى الجمعة إلا إن كان يخشى فوات رفقة أو فوات حجز طائرة فيباح له السفر حينئذ وكذلك يجوز له السفر بعد نداء الجمعة الثاني إذا كان سيصلي الجمعة وهو مسافر كما لو كان سيمر ببلد قريب فيصلي معهم الجمعة.
14- الأذكار التي بعد الصلاة الأولى عند الجمع تسقط وتبقى أذكار الصلاة الثانية لكن إن كان الذكر بعد الأولى أكثر فيأتي به كما لو جمع بين المغرب والعشاء فيأتي به بعد صلاة العشاء.
15 - إذا صلى الظهر وهو مقيم ثم سافر فهل له أن يصلي العصر في السفر قبل دخول وقتها ؟ اختار المنع الشيخان ابن باز وابن عثيمين رحمهما الله أ.هـ.
وذلك لفقد شروط الجمع ولأنه لا حاجة إلى ذلك وهو سيصلي العصر ولا بد فلا يصليها إلا بعد دخول وقتها.
16 - إذا أخر الصلاتين المجموعتين وهو مسافر ثم أقام قبل خروج وقت الأولى لزمه الإتمام سواء صلى الأولى في الوقت أو بعد خروجه وأما إذا فاتت الأولى في السفر ثم أقام في وقت الثانية فيصلي الصلاة الأولى تامة واختاره الشيخ ابن عثيمين وأما الثانية فتامة على كل حال وانظر المجموع للنووي (4/245).
17 - إذا كان المسافر يعلم أو يغلب على ظنه أنه سيصل إلى بلده قبل صلاة العصر أو قبل صلاة العشاء فالأفضل له ألا يجمع لأنه ليس هناك حاجة للجمع وإن جمع فلا بأس. انظر مجموع فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن عثيمين(15/422).
18- لا يشترط في السفر نية القصر على الصحيح انظر فتاوى شيخ الإسلام (24/104).
19 - منع كثير من أهل العلم أن تجمع العصر مع الجمعة وهو المشهور عند الحنابلة والشافعية وغيرهم واختار المنع الشيخان ( ابن باز وابن عثيمين رحمهما الله انظر مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين (15/371).(/2)
20 - القصر سنة مؤكدة وقيل بوجوبه حتى قال ابن عمر رضي الله عنهما ( صلاة السفر ركعتان من خالف السنة كفر) إسناده صحيح أخرجه عبدالرزاق (2/519-520)والطحاوي وغيره .
21 - رخص السفر تستباح في سفر الطاعة والمعصية على الصحيح وهو اختيار شيخ الإسلام المشهور عنه.
22 - المرأة لا تسافر إلا مع ذي محرم وهو ( كل ذكر بالغ عاقل تحرم عليه المرأة على التأبيد بنسب أو سبب مباح).
23 - إذا جمع المسافر بين المغرب والعشاء جمع تقديم يدخل وقت الوتر على القول الراجح من أقوال أهل العلم ولا يحتاج إلى الانتظار حتى يدخل وقت صلاة العشاء.
(ص)س
24 - إذا شك المأموم وهو مسافر في الإمام هل هو مسافر أو مقيم فالأصل أن المأموم يلزمه الإتمام لكن لو قال المأموم في نفسه إن أتم أتممت وإن قصر قصرت صح ذلك. وهذا من باب التعليق وليس من باب الشك كما قال الشيخ محمد ابن عثيمين رحمه الله في الشرح الممتع (4/521).
25 - الجمعة لا تلزم المسافر المستقر في بلد ما دام يسمى مسافراً، وقد نقل ابن المنذر في الأوسط الإجماع على ذلك وقال ولم يخالف فيه إلا الزهري. وإن حضر المسافر الجمعة أجزأته عن الظهر.
26 - المسافر إذا أدرك من الجمعة ركعة فأكثر أتمها جمعه، فإن أدرك أقل من ركعة فإنه يصليها ركعتين على أنها ظهر مقصورة.
27 - إذا كان الإنسان مسافراً في شهر رمضان فله الفطر وله الصوم ولكن الأفضل له فعل الأيسر فإن كان الأيسر الصيام صام، وإن كان الأيسر له الفطر أفطر وإذا تساويا فالصوم أفضل لأن هذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم وهو أسرع في إبراء الذمة وأهون على الإنسان وحكاه بعضهم قول الجمهور.
28 - ذكر النووي في المجموع أكثر من ستين فائدة في السفر وبعضها فيه نظر فراجعها إن شئت وفقك الله .
________________________________________
إعداد كبيرالمرشدين والمدرسين
بإدارة الشؤون الدينية للقوات الجوية.
عبد الله بن مانع العتيبي(/3)
من آداب الطعام في الإسلام
من يطلع على مناهج التربية الأسرية في ديارنا العربية يجد اهتماماً بتعليم الطلاب فن تناول الطعام , وكيفية الجلوس على الطعام وتناوله , وهذا أمر طيب ولكن يعاب على معظم هذه المناهج أنها مترجمة في كثير من موضوعاتها وأن آداب الطعام المدرجة في الكثير منها هي الآداب الغربية , وحيث أن في ديننا آداب إسلامية للطعام فوجب علينا الأخذ بها وتعليمها لأبنائنا وقد حفلت كتبنا الإسلامية بالأحاديث النبوية الدالة على ذلك ومن هذه الأحاديث:
ـ قال صلى الله عليه وسلم: ( إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه، وإذا شرب فليشرب بيمينه، فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله ). رواه مسلم.
ـ وقال صلى الله عليه وسلم: ( سم الله وكل بيمينك، وكل مما يليك ) متفق عليه.
ـ وقال صلى الله عليه وسلم: ( فاجتمعوا على طعامكم واذكروا اسم الله يبارك لكم فيه ) رواه أبو داود.
ـ وقال صلى الله عليه وسلم: ( لا آكل متكئاً ) رواه البخاري.
ـ وقال صلى الله عليه وسلم: ( طعام الواحد يكفي الاثنين , وطعام الإثنين يكفي الأربعة وطعام الأربعة يكفي الثمانية ) رواه مسلم.
الأحاديث السابقة غيض من فيض أحاديث آداب الطعام الواردة في السنة النبوية المطهرة وهي قاعدة ممتازة لتعلم نظام طعام إسلامي متميز ومنها نستنتج الآتي:
1ـ الآداب الإسلامية الحميدة
تعلمنا الأحاديث النبوية الآداب الإسلامية الحميدة في آداب الطعام مثل التسمية ( بسم الله ) أو ( بسم الله أوله وآخره ) لمن نسي التسمية، والأكل باليد اليمنى، وعدم التشبه بالشيطان والكفار الذين يأكلون باليد اليسرى، والجلوس الصحيح على الأكل، والاجتماع على الطعام وهذا ما يجب أن نتعلمه ونعلمه لأبنائنا وتتضمنه مناهج التربية الأسرية فآداب الطعام وطريقة إعداد الطعام والأكل ثقافة وحضارة وتدل على ثقافة وحضارات الشعوب والأمم , فلا يستهان بها، علاوة على أن منها ما هو واجب وعبادة وهدي نبوي يثاب المسلم عليه.
2ـ الاقتصاد في الطعام
فطعام الواحد يكفي الإثنين، وطعام الإثنين يكفي الأربعة، وهكذا إذا اجتمعنا على الطعام اقتصدنا في الوقت والمال ولم نسرف في الأكل، ولم يتبقى الطعام ويلقى به في سلة المهملات وصناديق القمامة، فليس من الهدي النبوي إعداد كيات زائدة من الطعام تحت مسّى الكرم، وهذا المنحى الإسلامي نراه مطبقاً عند غير المسلمين حيث نراهم يشترون كميات قليلة من الفاكهة والخضروات والطعام وكل شيء محسوب ونحن أولى بذلك استناداً إلى الهدي النبوي في الاجتماع على الطعام.
3ـ تعلم الآداب والتأكيد عليها
فالرسول صلى الله عليه وسلم عندما رأى يد الغلام تطيش في الصفحة قال له ( وكل مما يليك ) جزء من حديث متفق عليه وعند الأخذ من آنية الطعام نأخذ من الحافة اقتصادياً وتفادياً للتلف، قال صلى الله عليه وسلم: ( فكلوا من حافته ولا تأكلوا من وسطه ) جزء من حديث رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح. وقال صلى الله عليه وسلم: ( كلوا من حواليها ودعوا ذروتها يبارك فيها ) رواه أبو داوود والبيهقي وإسناده صحيح كما ورد في رياض الصالحين باب الأمر بالأكل من جانب القصعة.
وهكذا يعلمنا المصطفى صلى الله عليه وسلم أن نعلم النشء آداب الطعام وأن تتضمن مناهج التربية الأسرية هذا الهدي العلمي النبوي الشريف.
4ـ تمايز المجتمع المسلم
فكما قلنا سابقاً آداب الطعام من الثقافة المميزة للأمم، ويجب علينا أن نتميز بهذا الهدي وأن يعلم الناس أننا نأكل بيميننا ونسمي الله عند بداية الأكل , ولنا جلسات مميزة وهذا يحافظ على هويتنا الإسلامية.
5ـ احترام الهدي النبوي
فعندما نتمسك بالهدي النبوي فهذا إعلان أننا متبعون لهدي المصطفى صلى الله عليه وسلم وأنه علمنا الآداب الفاضلة والسلوك القويم , وأننا على قناعة تامة بأهمية الاتباع , ومن حبنا للمصطفى صلى الله عليه وسلم نفعل ما علمنا إياه ولا نرضى به بديلاً لأنه هدي إلهي قويم.(/1)
من آفات الدعاة الوهن أسبابه ومظاهره ...
يتعرض الفرد والأمة دائماً وباستمرار إلى عوارض متعددة وظروف طارئة، ويتفاوت أثر ذلك بحسب طبيعة المؤثر
الجديد وبنيان الفرد والأمة والعوامل المساعدة، وقد ينتاب الفرد أو المجتمع مرض عارض ويزول بسرعة دون أن يترك أثراً ما وقد يصاب الفرد بمرض معين فيقتصر عليه ولا يمتد إلى المجتمع ولا تحس الأمة به، وقد يتحول من الفرد إلى المجتمع فيصبح مرضاً قاتلاً ووباءً فتاكاً، ومن هذه الأمراض الفتاكة التي يشترك فيها الفرد والمجتمع وتنذر الأمة بالويل والدمار مرض الوهن.الوهن: هو الضعف في العمل والأمر والعظم، ورجل واهن: أي ضعيف في الأمر والعمل(1)
جاء ذكر الوهن ومشتقاته في القرآن الكريم عشر مرات وجاء المعنى المقصود به الوهن هو الضعف ودعم التمسك وقد ضرب الله مثلاً يوضح به الضعف في صورة مادية ملموسة ومرئية لبيت العنكبوت فقال: "مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ" (العنكبوت:41) فمجرد الالتجاء إلى غير الله _تعالى_ ضعف كالالتجاء العنكبوت إلى بيتها، والعنكبوت حشرة ضعيفة لا قوة لها ولا حماية وبيتها من عملها فالضعف لا يولد قوة فبيتها أضعف البيوت لأنه لا يدفع عنها حراً ولا برداً ولا أذى.
يتعرض الفرد والأمة دائماً وباستمرار إلى عوارض متعددة وظروف طائرة ويتفاوت أثر ذلك بحسب طبيعة المؤثر
الجديد وبنيان الفرد والأمة والعوامل المساعدة وقد ينتاب الفرد أو المجتمع مرض عارض ويزول بسرعة دون أن يترك أثراً ما وقد يصاب الفرد بمرض معين فيقتصر عليه ولا يمتد إلى المجتمع ولا تحس الأمة به
واستعمل القرآن الكريم أيضاً الوهن بمعنى الضعف المعنوي فبعد هزيمة المسلمين في موقعة أحد وجه الله لهم الخطاب بعدم الضعف النفسي من أثر الهزيمة وعدم التمادي في الحزن على الشهداء، قال _تعالى_: "وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ" (آل عمران:139) فمداولة الأيام وتعاقب الشدة والرخاء محك لا يخطئ وميزان لا يظلم والرخاء في هذا كالشدة وكم من نفوس تصبر للشدة وتتماسك، ولكنها تتراخى بالرخاء وتنحل والنفس المؤمنة هي التي تصبر للضراء ولا تستخفها السراء وتتجه إلى الله _تعالى_ في الحالين وتوقن أن ما أصابها من الخير والشر فبإذن الله.
وقال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ عن الوهن وأسبابه: "يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ فقال: بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم وليقذفن في قلوبكم الوهن قال قائل: يا رسول الله وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت"(2).
وتعريف الوهن في هذا الحديث (حب الدنيا وكراهية الموت) فالعقوبة عقوبتان العقوبة الأولى انتزاع المهابة والعقوبة الثانية عقوبة الوهن هاتان العقوبتان من الله _تعالى_ الذي جعل المتخاذلين من المسلمين في كل المجالات في موضع الغثائية لا قيمة لهم تتقاذفهم أمواج المجتماعات المتحلقة من حولهم، وكل ذلك نتيجة الخواء والاستفراغ والتآكل الهيكلي للجسم المسلم فبعد أن كان ذو وزن وقيمة يخافه الناس مهابة وإجلالاً وتقديراً أصبح جسداً هيكلياً هشاً نحيفاً شاحباً تتدافعه الصيحات والأيدي، فالذي أوصل لمرض الغثائية ما هو إلا الاستجابة للدنيا بكل صيحاتها الاستجابة للنفس والهوى وللنساء وللمال وللمنصب والجاه ... وعدد ما شئت من المغريات والملهيات وهذا واضح في قول الله _تعالى_: "زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ" (آل عمران:14) وهذه الآية الكريمة تجمع كل ما يحتويه تعبير (حب الدنيا).
ونشأ عن مرض الوهن الحرص على تحصيل الدنيا بكل وسيلة وعلى جمعها بكل سبب وأصبح كل إنسان لا يهمه إلا نفسه وما يتعلق ببلاده وإن ذهب دينه ولهذا المرض العضال أسباب ومظاهر يمكن التحرز والابتعاد منه بعد معرفة تلك الأسباب والمظاهر الخطيرة المؤدية إلى إصابة الإنسان بداء الوهن وأهمها(3):
1- ضعف الإيمان:
فالإيمان جذوة تتقد في قلب الداعية فتقوده إلى كل خير وتنأى به عن كل شر فإذا ما ضعف الإيمان أو فقد فإن صاحبه لن يبالي بالمكرمات ولن يسعى للمعالي.
ثم إن ضعف الإيمان أو فقده أعظم ما يقرب الداعية ليرمي به في مستنقعات الوهن ويقلل بركة عمره وعلمه وعمله، فالإيمان بالله -عز وجل_ وبقدره خيره وشره وما أعدّه للمؤمن من الأجر والمثوبة أساس كل أمر يقوم به الداعية.
2- ضعف الغيرة على الحق:(/1)
فالغيرة الصادقة تبعث صاحبها إلى الفضائل وتنهض إلى محاربة الفساد بكل صوره وتأخذ بيده إلى مكافحة المبطل أو المفسد وتقويم عوجه في تثبيت وحزم.
أما ضعف الغيرة على الحق أو فقدها فنقيصة خطيرة تنزل بالداعية إلى الوقوع في الآفات كالوهن والكسل في الدعوة والخوف وغيرها.
3- الكسل في الدعوة.
وهذا من أعظم مظاهر الوهن فكم من المسلمين من يتوانى في الدعوة إلى الله مع أنه على درجة كبيرة من العلم والبيان تؤهله لنفع الناس والتأثير فيهم ودفع الضرر عنهم.
وكم ممن يدعو إلى الله من تضعفه نفسه ويصيبه الوهن وينكص على عقبيه عند أدنى عقبة تعترضه، إما من كلام الناس ولومهم وإما عن إعراضهم وقلة استجابتهم أو غير ذلك مما لا بد لمن يدعوا إلى الله من مواجهته والاستعداد التام لدفعه.
أين هؤلاء الدعاة من حياة الأنبياء والمرسلين ومن حياة العلماء العاملين والدعاة المخلصين؟
بل أين هم من العلمانيين ودعاة الانحلال والرذيلة والغرام والغزل ممن يضحّي واحدهم بكل ما عنده في سبيل الوصول إلى هدفه غير مبال بلوم اللائمين مع أنكم يا معشر الدعاة ترجون من الله مالا يرجون؟
4- التفريط في عمل اليوم والليلة:
التفريط هو التقصير في الأمر وتضييعه حتى يفوت وفي التنزيل: "أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّه" (الزمر: من الآية56) أي أنيبوا إلى ربكم وأسلموا له مخافة أن تصير إلى حال الندامة للتفريط في أمر الله.
وعندما يتلطخ ويتدنس الداعية_ والعياذ بالله _ فيصيبه الوهن ويكون غير محترس أو متحرز من المعصية لا سيما الصغائر تلك التي يستهين بها كثير من الناس ولا يولونها رعاية أو أهمية، وحينئذ فلا بد من العقاب ويكون العقاب بأمور كثيرة من بينها الإصابة بآفة الوهن والتفريط في عمل اليوم والليلة والتكاسل في أداء العبادات فيتكاسل في أدائه للوظائف العبادية التي ينبغي للمسلم الحفاظ والمواظبة عليها في اليوم والليلة حتى يخرج وقتها وتفوت مثل النوم عن الصلاة المكتوبة، ومثل إهمال النوافل الراتبة أو صلاة الوتر أو تضييع الورد القرآني والأذكار والدعاء أو المحاسبة لنفس والتوبة والاستغفار أو التخلف عن الذهاب إلى المسجد وعدم حضور الجماعة بغير عذر ولا مبرر أو إهمال عبادات أخرى أو إهمال الآداب الاجتماعية من عيادة المرضى وتشييع الجنائز والسؤال عما في الناس ومشاركتهم أحوالهم في السراء والضراء .. إلى غير ذلك من الطاعات والعبادات(4). فما يصيب الإنسان من وهن وما تصيبه من مصيبة فبما كسبت يداه يقول الله _تعالى_: "وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ" (الشورى:30)
5- الاستعجال:
ولا بد للمسلمين عامة ولحملة الدعوة خاصة أن يعتصموا بالصبر ويحذروا من الاستعجال فالنفس مولعة بحب العاجل والإنسان عجول بطبعه كأنه المادة التي خلق الإنسان منها قال _تعالى_: "خُلِقَ الْإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ" (الأنبياء: من الآية37) فإذا أبطأ على الإنسان ما يريده نفد صبره وضاق صدره ناسياً أن لله في خلقه سنناً لا تتبدل وأن لكل شيء أجلاً مسمى، وأن الله لا يعجل بعجلة أحد من الناس ولكل ثمرة أوان تنضج فيه فيحسن عندئذ قطافها والاستعجال لا ينضجها قبل وقتها فهو لا يملك ذلك، وهي لا تملكه ولا الشجرة التي تحملها إنها خاضعة للقوانين الكونية التي تحكمها وتجري عليها بحساب ومقدار، ولهذا خاطب الله رسوله بقوله: "فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ" (الأحقاف: من الآية35)
6- اليأس:
وهذا عامل آخر يجر الداعية إلى الوهن ويقع فيه كثير من الدعاة فهو من أعظم الآفات التي تعوق الدعوة فإن اليأس لا صبره له لأنه يدفع الزارع إلى معاناة مشقة الزرع وسقيه وتعهده هو أمله في الحصاد فإذا على قلب وأطفأ شعاع أمله لم يبق له صبراً على استمرار العمل في أرضه وزرعه وهكذا كل عامل في ميدان عمله وصاحب الدعوة والرسالة كذلك ولهذا حرص القرآن الكريم على أن يدفع الوهن عن أنفس المؤمنين فبذر الأمل في صدورهم: "وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ" (آل عمران:139) وقال _تعالى_: "فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ" (محمد:35).
ولما أمر موسى _عليه السلام_ قومه بالصبر إزاء طغيان فرعون وتهديده أضاء أمامهم شعلة الأمل فقال: "قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ" (لأعراف:128).(/2)
ولما شكا خباب بن الأرت _ رضي الله عنه _ إلى النبي _صلى الله عليه وسلم_ ما يلقى من أذى المشركين شكوى تحمل الضيق والتبرم ضرب له النبي _صلى الله عليه وسلم_ مثلاً بما لقيه المؤمنون في الأزمنة الماضية ثم طرد عن قلبه اليأس وزرع فيه الأمل الخصب حين أخبره أن الله سيُتم هذا الأمر حتى يسير الراكب من أقصى الجزيرة إلى أقصاها لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه!!
وما ذلك إلا لأن الأمل أكبر معين على الصبر على طول الطريق ومشقاته وأن اليأس من أقرب الطرق إلى الوهن(5).
7- قلة الصبر:
لا شك أن أهل الإيمان وأهل الدعوة أشد تعرضاً للأذى والابتلاء في أموالهم وأنفسهم وكل عزيز لديهم فقد اقتضى نظام الكون أن يكون لهم أعداء يمكرون بهم ويكيدون لهم ويتربصون بهم الدوائر كذلك جعل الله لآدم إبليس ولإبراهيم نمرود ولموسى فرعون ولمحمد أبا جهل وأمثاله "وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ" (الفرقان: من الآية31).
فمن ظن أن طريق الدعوة مفروشة بالأزهار والرياحين فقد جهل طبيعة الإيمان بالرسالات وطبيعة أعداء الرسالات.
ولعل هذا الحسبان أو الوهم داخل نفوس بعض المؤمنين في العهد المكي بعد أن أصابهم من العذاب ما أصابهم فنزل قوله _تعالى_: "أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ" (العنكبوت:2)
بل في العهد المدني نجد أن القرآن ينفي مثل هذا الحسبان الواهم في مثل قوله _تعالى_: "أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ" (البقرة:214).
الجنة إذاً لا بد لها من ثمن وهي سلعة غالية فلا مضر من الثمن وقد رفعه أصحاب الدعوات من قبل فلا بد أن يدفعه إخوانهم من بعد دون أن يتطرق الوهن في قلوبهم.
8- المبالغة في تعظيم شأن الخوف:
فهذا السبب من أكبر الأسباب الداعية لإصابة الإنسان بالوهن فكم من الدعاة من أقصره الخوف عن الدخول في ميادين الدعوة وللقرآن الكريم أبلغ الكلم في تصوير حال الجبناء فلننظر إليه إذ يصفهم ويرينا كيف يذوقون موجات الفزع المرة بعد الأخرى فيقول "يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ" (المنافقون: من الآية4).
ويرينا كيف يظهر أثر الجبن في أبصارهم إذ يقلبونها وهم في ذهول من أدركه الموت، فيقول: "أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ"(الأحزاب: من الآية19).
كما أن القرآن الكريم نعى على الجبناء ونبّه على أنهم قد فقدوا جانباً في رجولتهم قال _تعالى_ في توبيخ قوم تأخروا عن الجهاد في سبيل الله وقعدوا مع من لم يُخلقن للطعن والضرب: "رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ" (التوبة: من الآية87).
فهذا الخوف الذي ذكر خوف سلبي مانع من الدعوة ولهذا صح أن يكون سبيلاً إلى الوهن والفتور(6).
9- المبالغة في احتقار النفس:
فكثير من الدعاة مصابون بهذا الداء فالواحد من هؤلاء يبخس حظه ويبالغ في احتقار إمكانياته ولا يثق في نفسه البتة بل يرى أنه دون مستوى القيام بالدعوة وأنه لا قيمة لدعوته ولا أمل في نجاحه ولا يمكن أن يصدر منه عمل عظيم يسد ثغرة في ميدان الدعوة فهذا شعور بالوهن والضعف وصغر الشأن ومن شأنه أن يقتل الطموح ويفقد ثقة الداعية بنفسه فإذا هو أقدم على عمل شك في مقدرته وارتاب في إمكان نجاحه(7).
ومن طبيعة الناس أنهم يحتقرون من احتقر شأنه ويدوسون بأقدامهم من استذل وفي الوقت نفسه يحترمون المقدام الواثق من نفسه العالم بقدرها فالثقة بالنفس فضيلة وشتان بينها وبين الغرور الذي يعد رذيلة فثقتك بنفسك أيها الداعية تعني معرفتك الصحيحة بها وبمقدار ما تتحمله من أعباء الدعوة الإسلامية وما تلتزمه من واجبات، وكذلك عملك بما لديها من استعداد وملكات ومواهب حتى تتمكن من القضاء على الأوهام التي تعوق طريق دعوتك(8).
10- التقصير في الأخذ بمقومات النجاح:
إن التقصير في الأخذ بمقومات النجاح وأسباب الفلاح قد يؤدي إلى تسليط الوهن وسيطرته على القلوب ومن ثم إلى الفشل والإخفاق ويتولد من أثر ذلك بعض المفاهيم والأعمال الخاطئة فيسرع الرجل إلى الإعراض والنفور من الناس وبدلاً من أن يصبر أو ينقذ نفسه ويغير أسلوبه ويعالج خطأه نراه يلقي باللائمة على الناس ويحكم عليهم بالفساد والاستعلاء عن الحق وأنهم أعداء لله ولرسوله _صلى الله عليه وسلم_ ونحو ذلك مما حذر منه النبي _صلى الله عليه وسلم_ في حديثه الصحيح الذي قال فيه: "إذا قال الرجل: هلك الناس فهو أهلكهم"(9).(/3)
فلا بد من إعداد العدة البدنية والمادية والمعنوية وسائر أنواع العدة من جميع الوجوه حتى نستغني بما أعطانا الله _سبحانه وتعالى_ من الأسباب لنجاح دعوتنا.
11- صحبة الأشرار ومرافقة المخذلين والسفهاء:
ومن الأسباب المهمة التي تؤدي إلى تحكم الوهن في تصرفات الداعية هي صحبة أشرار الناس ومرافقة المخذلين والسفهاء فالصحبة السيئة تحسن القبيح وتقبح الحسن وتجر المرء إلى الرذيلة وتبعده عن كل خير وفضيلة ذلك أن المرء يتأثر بعادات جليسه فالصاحب ساحب.
ثم إن مجالسة الخذلين ومرافقتهم تنساق بصاحبها إلى الحضيض فكلما هم بالصعود عوقوه عن همته وثنوه عن عزمه تارة بالتخذيل وتارة بالتخويف وتارة بوضع العراقيل.
وقد صدق من قال:
وأشد ما يلقى الفتى من دهره
فقد الكرام وصحبة اللؤماء(10)
ومن الناس من إذا ابتلى بسيفه ساقط لا خلاق له. أخذ يجاريه في قيله وقاله مما يجعله عرضة لسماع مالا يرضيه من قبيح القول ورديئة فيصبح مساوياً للسفيه في سفهه إذ نزل إليه وانحط في مرتبته(11)
إذا جاريت في خلق دنيئاً
فأنت ومن تجاريه سواء(12)
وهناك أسباب أخرى كثيرة لتسلط الوهن على الداعية لا يسعنا ذكرها هنا بالتفصيل ومنها:
التهرب من المسؤولية، والتكلف والتصنع، والاشتغال بما لا يعني والانصراف عما يعني, والتحسر على ما مضى وكثرة التلاوم وقلة العمل، وكثرة الشكوى إلى الناس، والاسترسال مع الأماني الكاذبة، والتردد في أمور الدعوة وغيرها.
فالمقصود من ذكر ما تقدم هو تحقيق غاية الدعوة، والبعد عن الأسباب التي تقف أمام الداعية، فيجب الإقلاع عن تلك المظاهر والوسائل المؤدية إلى غرق سفينة الدعاة.
--------------------------------------------------------------------------------
(1) المعجم الوسيط 2/1060
(2) رواه أبو داود في كتاب الملاحم, باب تداعي الأمم على الإسلام, والإمام أحمد في المسند برقم 21363
(3) راجع على سبيل المثال: عدة الصابرين لابن القيم الجوزية، وأدب الدنيا والدين للماوردي، ورسائل الإصلاح لمحمد الخضر حسين، والهمة العالية لمحمد بن إبراهيم الحمد.
(4) الجواب الكافي لابن القيم الجوزية ص 74
(5) راجع كتاب المحن للتميمي، والصبر في القرآن للدكتور يوسف القرضاوي ص 113
(6) الهمة العالية ص 78-79
(7) الهمة العالية ص 77-78
(8) الهمة العالية ص 77-78
(9) أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب, باب النهي عن قول هلك الناس صحيح مسلم بشرح النووي 13/175
(10) ديوان البارودي ص 31
(11) الهمة العالية ص 62-74
(12) ديوان أبي تمام4/296
كاتب المقال: فضل الله ممتاز
المصدر: موقع المسلم نت(/4)
من أجل الشباب الشيخ صادق عبد الله عبد الماجد*
كيف بي إن لم أستجب لدعوة أعرف عمق أثرها في النفس، وعلاقتها الوثيقة بقضية تمس كيان هذه الأمة في الصميم؟!.. كيف بي إن لم أستجب وقد كان موضوعها بابا خطيرا كان موصدا لسنوات وسنوات فإذا به ينفتح لا بأيادينا؛ ولكن بأياد خافيات؛ ليست من طينة أهل هذا البلد الذي عاش حياته في طهر؛ حتى عدت عليه العاديات؛ من أناس ما كان يسعدهم أن يروا على ظهر الأرض قوما عل مثل ما هو عليه أهل السودان، وشباب السودان، ورجال السودان!!.. فماذا يفعلون لأمة هذا حالها، وحال أبنائها؛ من الطهر، والعفة، والنظافة؟!.. ماذا يفعلون بها ولها سوى أن يفتحوا عليها بابا من أبواب الشر، والضياع، وطمس الشخصية القومية؛ وإبدالها بمخلوق آخر؛ في كل ما خلقه فيه الله، وزانه به؛ من عقل، وإنسانية، واستقامة؛ يقيم عليها حياته، ويستهدي بها في كل مسارات وجوده.
انفتح هذا الباب الرهيب على الشباب دون سواهم؛ لأنهم عدة المستقبل، وعتاده، وأمله، وطاقاته.. انفتحوا عليه وفقا لخطة مدروسة، ماكرة، خبيثة؛ تلك هي باب (المخدرات) التي صوبوا فيها سهامهم القاتلة المسمومة إلى عقول الشباب تحديدا؛ حيثما يجدونهم؛ في: الجامعات، والمعاهدن والمدارس، وفي أماكن اللهو، والتجمعات، والشلليات؛ يزينونها لهم بشتى الوسائل والأساليب.. وكان لا بد من أن يتقدم المصلحون ليواجهوا هذا الموقف الخطير إنقاذا للشباب وللبلد.
فمن هم هؤلاء الذين تصدَّوا لها في وطنية دافقة، وحرص على سلامة البلد وشبابه؟!.. إنهم الذين تصدوا منذ سنوات لرعاية وحماية (مصحة كوبر) سابقا التي صار اسمها اليوم (مستشفى الطب النفسي) بقيادة اللواء د. نور الهدى محمد الشفيع المدير التنفيذي للمستشفى، بالتعاون مع (مجموعة المصحات) لهذا العمل الجليل؛ فأقاموا لهذا الغرض النبيل دورة تدريبية هي الأولى من نوعها؛ اختاروا ستين طالبا وطالبة من (جامعة الرباط والدراسات الإسلامية) تحت مسؤولية اللواء شرطة سابقا إسماعيل عطية؛ خضع فيها هؤلاء المختارون للتدريب مدة أسبوع لكل؛ ثلاثون منهم تلقوا فيها جميعهم تدريبا في كيفية مخاطبتهم للطلاب إذا رجعوا إليهم.. مبينين لهم الآثار الخطيرة لهذه المخدرات عقليا وجسديا، وأنها لا ترحم المتعاطين لها فور سقوطهم في الجرعات الأولى منها، ثم لا عودة بعدها للحالة الطبيعية التي كان عليها!!.. إنها سقطة واحدة يهوي بعدها المتعاطي مفارقا بعدها الأهل، والأسرة، والجيران؛ ليعيش حياة غريبة؛ لا هي للإنسان أقرب؛ بل للحيوان، والجان، والشيطان؛ عقرب تظل تلسع جسده حتى يفارق الحياة!!.
وتحية للأخ وزير الداخلية الزبير بشير طه الذي رعى حفل توزيع الشهادات، وألقى فيه كلمة مضيئة كانت بلسما شافيا.(/1)
من أجل المثاقفة
د. عبد الكريم بكار 3/9/1426
06/10/2005
حين يشتبك الناس بالأيدي، وحين يشهر بعضهم السلاح في وجوه بعض فإن ذلك يعني اصطدام بُنى ثقافية متناقضة وعقليات متباينة. ويبدو أن الناس يرون في حسم الأمور عن طريق القوة والقهر الوسيلة الأسرع للتخلص من الشقاق الفكري والثقافي. ومع أن تكاليف استخدام القوة دائماً باهظة إلا أن كثيراً من الناس يراها أسهل من مناقشة خصم عشرين سنة دون أن تكون متأكداً من إقناعه أو تغيير بعض أفكاره. ولا شك أن هذا يشكل خطأ فادحاً في الرؤية الإسلامية وفي الرؤية الوضعية المعاصرة.
حين ترى انغلاقاً في الفهم واعتزازاً بالاجتهاد والرأي، ففتش عن بنية التربية وأسلوب التعليم؛ إذ إن من شأن التربية المتسلطة أن تدفع في اتجاه التسلط، والذي يعني رؤية مريضة للذات وللغير. كما أن أسلوب التعليم القائم على فرض المعلومات وإلغاء دور الطالب، يؤسس لعقلية ترى في الجدل والحوار مدخلاً لهدم المعتقدات وتقويض ركائز المعرفة. مع أن المنهج القرآني يؤكد أن كل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام اتخذوا من المجادلة أداة لنشر الدين والشرائع وترسيخها في نفوس الناس وعقولهم.
ولعلي أسوق في هذا الشأن الملحوظات الآتية:
1- إن عقولنا لا تدرك الحقائق دفعة واحدة، وإنما على دفعات متعددة، وقد تنقضي الأعمار، دون أن نشعر أننا استحوذنا على كل أبعاد حقيقة من الحقائق أو أدركنا كل ميزات شيء من الأشياء، وهذا يعني أن أبواب التطوير والتحوير لآرائنا ورؤانا ستظل مشرعة. والدليل على صحة ما نقول استمرار العالم في إنتاج أشكال جديدة من كل المصنوعات التي تمكّن من إنجازها عبر القرون، ولم يقل أحد: إن هذا الشكل أو هذا الطراز من هذا الشيء هو آخر ما يمكن إبداعه، بل إن الحاصل هو العكس من ذلك تماماً؛ إذ يحث كل خبراء التقنية على رصد المزيد من المال من أجل دفع عجلة التطوير، والذي كثيراً ما يعني تخفيض التكاليف وتحقيق مستوى أعلى من الجودة وتوسيع الوظائف. وكثير من هذا يتوقف على اكتشاف المزيد من الخصائص التي زوّد الله تعالى الأشياء بها، كما يقوم على معرفة المزيد من العلاقات التي تربط بينها. وتقليد ما لدى الآخرين واستعارة بعض ما لديهم من أفكار وأساليب، من الطرق اللاحبة المطروقة في كل ذلك. هذا كله يعني أن نعدّ الكثير من اجتهاداتنا شيئاً مؤقتاً وقابلاً للتغيير في أي وقت. ومثل هذا الاعتقاد هو الذي يحمينا من شرور التصلب الذهني والتكلس الثقافي، ويدفع بنا في اتجاه الانفتاح على ما لدى الآخرين، ومحاولة اقتباس شيء مما لديهم. وهذا في الحقيقة أحد الأسس المهمة في مسألة المثاقفة.
معظم مشكلاتنا، من صنع أيدينا، وبعضها مما صنعه الآخرون لنا، لكن سيظل لدى أولئك الآخرين جزء من الحل لما صنعوه لنا ومما صنعناه لأنفسنا، وإنكار هذه الحقيقة، أو التقليل من شأنها، يدفع بنا نحو العنصرية الثقافية، ويدخلنا في نفق الارتباك والركود.
2- كثيراً ما ننسى أننا محدودون وضعفاء، وكثيراً ما نذهل عن كون أدواتنا الفكرية والمعرفية غير كاملة، مما يجعل ما نبلوره من آراء وننضجه من أفكار ومواقف موسوماً بالخلل والقصور. إن المصطلحات والتعريفات التي نستخدمها في صياغاتنا الفكرية والثقافية غير حاسمة، ومعرضة دائماً للإصابة بوباء التحيز والانتقاء، كما أن النظام اللغوي – أي نظام لغوي- الذي نعوّل عليه في تأسيس الوعي بالذات وبالأشياء هو نظام غير مكتمل، وعلى الرغم من عدم اكتماله ونقصان كفاءته، فإن سيطرتنا عليه تظل محدودة!
الوضعية الناتجة عن كل هذه المعطيات هي أننا سنظل نبحث عن الحقائق، وسنظل نُواجه بأسئلة لا إجابات عنها؛ لأن الحقيقة ذات طبقات عديدة، وكلما اخترقت طبقة وقفت أمامك طبقة جديدة تتحداك، لتشعر بالتالي أن طريق الاكتشاف يبدأ ولا ينتهي، هذه الحالة الصعبة تجعل نتائج بحوثنا ودراساتنا للظاهرة الواحدة تتباين وتتقاطع في كثير من الأحيان؛ مما يجعلنا قادرين على القول: لدينا جزء من الحقيقة ولديكم جزء آخر، فكيف السبيل إلى المزج بينهما؟ أو كيف السبيل إلى جعل ما لدي من خبرة ومعرفة يشكل مع ما لديك منهما طريقاً إلى الدنو معاً من الحقائق الثابتة والمعارف القطعية؟
قد يكون الدخول في حوار على أساس ما أصّله سلفنا وأئمتنا حين قالوا:" مذهبنا صواب يحتمل الخطأ، ومذهب غيرنا خطأ يحتمل الصواب" هو الذي يجعل من المثاقفة شيئاً لا بديل عنه لتضييق دوائر الجهل وتوسيع دوائر الاستنارة والفهم.
إن لدى الناس شعوراً غريزياً يدفعهم إلى الاعتقاد بأنهم دائماً على صواب، وعلينا أن نتعلم كيف نقاوم هذا الشعور، ونتخلص من قيوده وعقابيله، وكلما كان الشعور قوياً وراسخاً لدى الواحد منا كان الشعور بخيبته بنفسه أكبر وأشد، لكن إدراك هذا قد لا يتم إلا بعد فوات الأوان!(/1)
3- لا ينبغي للتثاقف أن يكون عبارة عن اقتباس واستعارة فحسب، بل ينبغي أن يوفر مساراً لنقد الذات. علينا أن نقف من بعضنا الموقف الصحيح القائم على الاحترام المتبادل المصحوب بنشاط محموم من أجل الوعي بالذات والآخر، وهذا لا يكون إلا من خلال بعث حركة نقدية شاملة تستهدف توفير الكثير من وجهات النظر المختلفة في المسائل الإصلاحية الكبرى، ونحن في الحقيقة في حاجة إلى نظرة جديدة للنقد؛ إذ ارتبطت النظرة القديمة إليه بالنزاع والشقاق والتسفيه والعدوان.. النظرة الجديدة لا تقوم بوصف النقد وسيلة لإبراز العيوب والمساوئ فحسب، وإنما تقوم بوصفه أداة للكشف عن مساحات الصواب والجمال والخير أيضاً، وعلى عده مصدراً لإضاءة الواقع من أجل النهوض به. إنك حين تنقدني توفر لي مادة تساعدني على نقد ذاتي من خلال منظار جديد، وحين أنقدك أفعل مثل ذلك. وهذا مشروط بلزوم الحق والإنصاف والتحلي بالأدب الإسلامي الرفيع في هذا الشأن حين يعلمني شخص كيف أنقد ذاتي، فإنه يقدم لي هدية قد لا أعرف الحصول عليها من غير أي طريق آخر، ومن هنا فإن مثاقفة النقد تكتسب أهمية فريدة.
من أجل المثقافة (2/2)
د. عبد الكريم بكار 17/9/1426
20/10/2005
كنت قد تحدثت في المقال السابق عن بعض الأفكار التي تتعلق بمسألة المثاقفة والتبادل الفكري والمعرفي، وفي هذا المقال سأتحدث عن المزيد من النقاط المكملة بغية المزيد من البلورة لهذه المسألة المهمة.
4- سيظل الشعور بالحاجة إلى المثاقفة واهياً ما لم نعتقد على نحو راسخ أن مساعينا إلى معرفة الحقائق لا تكون أبداً منتجة على نحو كامل، بمعنى أننا لن نحصل على اليقين الكامل في كثير من القضايا التي نتداول فيها الرأي.
وهذا يعود أساساً إلى أن الله – جل وعلا- جعل في كل ظاهرة من الظواهر عنصراً غيبياً استأثر بعلمه، وليس للبشر سبيل إلى معرفته. وهذا العنصر حين يُكتشف يؤثر في فهمنا للظاهرة وفي موقفنا منها. حين نتحدث عن المخاطر المحدقة وعن الفرص المتاحة والأحداث المتوقعة، فإننا في الحقيقة نتحدث ونحن في منطقة بين العلم والظن، أو بين الظن والشك أو بين الشك والوهم. وإن نظرة فاحصة على تحليلاتنا للأحداث الكبرى منذ عشرين سنة إلى اليوم تكشف -على نحو جليّ- عن دقة هذه الرؤية. وإذا كان واقع الحال على ما نصوّره -وهو إن شاء الله كذلك- فإن من المتوقع أن يعرف شخص متخصص أو باحث في مسألة من المسائل كالفقر أو البطالة أو التلاحم الاجتماعي ما لا يعرفه باحث متخصص في المسألة نفسها، وهذه المعرفة الشخصية حين تمتزج بخلفية فكرية وثقافية خاصة، فإنها تسفر من غير ريب عن رؤية مغايرة وتحليل مختلف. وهذا كله يدعونا إلى عدم التصلب في اجتهاداتنا وإلى عدم المبالغة في الاعتزاز بما تبلور لدينا من أفكار واتجاهات، بل إن هذا يتطلب منا أن ننتظر من بعضنا الأفكار التي تساعدنا على اكتشاف جوانب الخطأ في نظرياتنا.
تعالوا في هذه المرحلة لنعمل على بلورة الأخطاء في طرق تفكيرنا، وعلى إعطاء هذه البلورة الأولوية على تصحيح ما نعتقد أنه خاطئ، وأنا أعتقد أن الباحثين في الفكر الإسلامي والناشطين في ساحات الصحوة محتاجون اليوم إلى إعلاء شأن تحديد نقاط الخلل في طروحاتهم؛ فالذي يكتشف أنه وقع خلال مسيرته الإصلاحية في عشرين خطأ أرفع مقاماً وأولى بالتقدير من الذي لم يكتشف إلا خمسة أو عشرة أخطاء؛ وذلك بقطع النظر عمّا قام به كل واحد منهما من تغيير وتجديد في مسيرته الفكرية والعملية، وإنما نقول هذا لأن اكتشاف الخطأ في المجال الفكري كثيراً ما يكون ناتجاً عن إصلاح طريقة التفكير، وعن امتلاك رؤية جديدة للتعامل مع المعطيات المختلفة. إن الضعف يحيط بنا إحاطة الثوب بالبدن، وإن معلوماتنا محدودة، لكن جهلنا غير محدود، حتى إنه من القول: إن العلم الذي لدى كبار الباحثين والمتخصصين هو علم ظرفي ووقتي، ووثاقته مرتهنة بالوقوف على المزيد من المجهول منه، وأنا أعتقد -على نحو جازم- أنه لو قُدّر لنا أن نطلع على كل الحقائق والمعلومات والمعطيات المتعلقة بقضية من القضايا، فإن أحكامنا عليها سوف تتغير، وقد تنقلب رأساً على عقب!
من خلال الحوار والتفاهم العقلاني ومن خلال الإحساس بعدم الكمال، قد نصل إلى تصحيح أخطائنا أو زيادة الوعي بها – على الأقل- وبذلك نقترب معاً على ما بيننا من تباين من معرفة الحقيقة.(/2)
5- نحن لا نهتم بالبحث عن أوجه القصور في تفكيرنا، كما أننا لا نهتم كثيراً بالجرم الذي يرتكبه أولئك الذين يتسترون على الأخطاء، ولا أدري لماذا يحدث هذا. ربما كان اعتقادنا بسلامة نياتنا وحسن مقاصدنا يدفعنا إلى الظن بأننا مجتهدون، وما دمنا مجتهدين فإننا مأجورون على اجتهادنا، ومن ثم فإننا لسنا في حاجة إلى المراجعة والبحث عن الأخطاء، ولا شك أن هذا خاطئ؛ إذ إن الذين يحملون نوايا سيئة ضد مصلحة الإسلام أو ضد مصلحة المسلمين أو ضد مصلحة أوطانهم هم نادرون جداً، لكن الذين يسيئون إلى كل ما ذكرناه يفوقون الحصر!
إن معظم ما نقع فيه من أخطاء ليس ناشئاً عن حب الأذى أو الإساءة وإنما ناشئ من القصور: القصور في الفهم والقصور في العلم والقصور في أدوات البحث وملكات الاجتهاد، ولهذا فإن استماعنا إلى بعضنا بعضاً باحترام واهتمام هو الذي يساعدنا على تقليل الضرر الناشئ عن الأخطاء غير المقصودة.
6- نحن في حاجة إلى إرساء تقاليد ثقافية تسهّل علينا الاعتراف بالخطأ، وتسهّل علينا بالتالي الاستفادة من خبرات بعضنا، وأظن أن من أهم ما يحول دون إرساء تلك التقاليد ذلك التسابق المحموم نحو استعراض ما نعرف، وما نتقن، الكل يريد أن يثبت أنه يملك من الرؤية والفهم والمعرفة ما ليس لدى غيره، ومن كان هذا شأنه، فإنه يجد صعوبة بالغة في الاستفادة من غيره أو الاعتراف بأخطائه، نحن في حاجة إلى أن نتعوّد التحدّث عما لا نعرف، وعن المشكلات غير المحلولة، ووجهات نظرنا القاصرة وغير الناضجة، لنتحدث عن هشاشة معرفتنا ببعض المسائل، وعن عجزنا عن تقليب النظر في بعض القضايا، وسنجد أننا بهذا الأسلوب من احترام المنهج واحترام عقول الناس نكون قد وضعنا أنفسنا على بداية طريق المثاقفة وتلقيح الفكر، وما أجمل قول الله – جل وعلا-:( قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ...)[الأنعام: من الآية50] ، وقوله:(...وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)[الأعراف: من الآية188]. إنه التأسيس لتقليد الأعراف بمحدودية العلم والقدرة، وهذا ما نحتاج إليه في سياق استعراض تشخيصاتنا وعلاجاتنا للمشكلات العالقة(/3)
من أجل تدمير الشباب !! د. ست البنات خالد*
في متابعة مستمرة من قبل الأمم المتحدة ومنظماتها المختلفة لتوالي عقد المؤتمرات العالمية لتبني مفاهيم الحرية الجنسية والإباحية:
عقد في براغ البرتغال مؤتمر الشباب 1998 م … وفيه تمكنت المنظمات الدولية من إدخال عبارة \"مرض الخوف من الحياة الجنسية المثلية \" ثم عقد مؤتمر: لاهاي للتنمية والسكان في هولندا 1999م وقد تبنى المؤتمر وبكل وقاحة اطروحات جماعات الشواذ والمنحلين والاستحواذ على فعالياته وتوصياته ودارت فعالياته في ثلاثة نطاقات :-
النطاق الأول والثاني :-
مؤتمر الشباب ومؤتمر المنظمات غير الحكومية وعقد في الفترة 6 – 7 فبراير 1999م.
يطالب الإعلان الحكومات بتحديد قسم من ميزانيتها لتأمين هذه المطالب وخاصة موانع الحمل الإجهاض والإجهاض في حالات الطوارئبحيث يتمكن الشباب من صنع قراراتهم واختيارهم
والنطاق الثالث :-
مؤتمر الدبلوماسيين 8 – 13 فبراير .. وكان هدف هذه المؤتمرات التحضير لمؤتمر نيويورك الدولي الذي شارك فيه ممثلو حكومات العالم في الفترة من 22 – 30 مارس 1999م .
وهذه المؤتمرات عبارة عن جلسات تمهيدية متعددة صدر عنها توصيات إيضاحية لإعلان مؤتمر القاهرة، والذي يتضمن نصوصاً إباحية صريحة لعرضها والتصديق عليها في المؤتمرات اللاحقة وهي دورة الحكومات في نيويورك، ثم إنهاء الخطوات التنفيذية في اجتماع سفراء الشباب 30 يونيو – 2 يوليو 99 م في سان فرانسيسكو بأمريكا، ثم اجتماع نهاية العام في 31 ديسمبر 1999م ليواجه الشباب العالم أجمع بقراراته ،
وقد اتخذت مجموعات الشباب أسماء منظمات عديدة تعمل من خلالها مثل :
\"منظمة اليوم الواحد ” , ” منتدى الشباب \" , \"سفراء الشباب\" , \"اجتماع مندوبي الشباب\"
و\"مؤسسة جسر الحياة ” وغيرها من المنظمات الإباحية التي تعمل تحت ستار الشباب سواء على المستوى المحلي القطري أو الدولي .
اذا كان مؤتمر القاهرة قد لاقى الصعوبات في إدراج مصطلح التوجه الجنسي فإن إعلان الشباب في لاهاي حفلت كل صفحاته بمصطلحات مثل : حرية التعبير الجنسي, الحريات الجنسية , المتعة الجنسية, حق الإجهاض, توفير موانع الحمل إضافة إلى عدم التفرقة على أساس السلوك الجنسي والتوجه الجنسي
ومؤتمر الشباب الأخير الذي عقد في هولندا أصدر المؤتمرون فيه \"قائمة التوصيات\" أو ما سمي بالإعلان ما يلي : (يجب أن يكون التعليم الجنسي الشامل إلزامياً على جميع المراحل ويجب أن يغطي المتعة الجنسية والثقة والحرية عن التعبير الجنسي والسلوك الجنسي غير النمطي ).
وطالب الإعلان بإنشاء جهاز خاص في كل مدرسة لتحطيم الصور التقليدية والسلبية للهوية الجندرية ، للعمل على تعليم الطلبة حقوقهم الجنسية والإنجابية (المتعلقة بالجهاز العضوي الإنجابي) ولهدف خلق هوية إيجابية \"للفتيات النساء\" و\"للفتيان الرجال \" .
وهذا الإعلان في حقيقتة ما هو إلا تفسير لألغاز مصطلحات نص إعلان القاهرة .. فالمادة 19 – 4 من نص إعلان القاهرة تدعو إلى تحطيم \"التفرقة الجندرية \" وإلى \"إزالة الصور التقليدية لأدوار الجنسين من مناهج التعليم والتواصل\" .
وإذا كان مؤتمر القاهرة قد لاقى الصعوبات في إدراج مصطلح \"التوجه الجنسي\" فإن إعلان الشباب في لاهاي حفلت كل صفحاته بمصطلحات مثل : \"حرية التعبير الجنسي\" , \" الحريات الجنسية \" , \"المتعة الجنسية\" , \"حق الإجهاض \" , \" توفير موانع الحمل \" إضافة إلى عدم التفرقة على أساس \"السلوك الجنسي \" و \"التوجه الجنسي\" .
كما يدعو – بوقاحة مطلقة - الحكومات إلى إعادة النظر وتقديم قوانين جديدة تتناسب مع
حقوق المراهقين والشباب للإستمتاع بـ\"الصحة الجنسية\" و\"الصحة الإنجابية\" بدون تفرقة على أساس \"الجندر\" .
ويطالب الإعلان الحكومات بتحديد قسم من ميزانيتها لتأمين هذه المطالب وخاصة \"موانع الحمل\" \"الإجهاض\" والإجهاض في حالات الطوارئ (emergency contraception ) بحيث يتمكن الشباب من \"صنع قراراتهم واختيارهم\" .
بعد ذلك جاءت دورة الحكومات بنيويورك للمصادقة على ما انبثق عن هذه المؤتمرات وإقرار إعلان القاهرة ليصبح مُلزماً لجميع الدول في الأمم المتحدة .
وتتمثل أهداف خطة العمل بأجندة الشباب للسكان والمرأة في دورة الحكومات بنيويورك في التالي :
1-إعطاء الشذوذ صفة شرعية باعتبارها حقاً من حقوق الإنسان وقبول زاوج الجنس الواحد .
2-معاملة الصحة الإنجابية على أنها حق من حقوق الإنسان .
3-مطالبة الحكومات بدعم وسائل منع الحمل للشباب والشابات والمراهقين غير المتزوجين والشواذ .
4-مطالبة الحكومات بصرف العقاقير الطبية في المدارس والمناطق النائية من خلال العيادات الطبية (كل ما يخص موانع الحمل والصحة الإنجابية) .
ومطالبة الحكومات بعرض كل ما يخص الصحة الإنجابية على الشباب والفتيات في المدارس .(/1)
5-مطالبة الحكومات بإدخال الصحة الإنجابية في المقررات الدراسية وتدريسها في الفصول اليومية لتكون المرجع الأساسي لدول العالم .
6-تقديم المسوحات للمدرسين في المدارس والأهالي والأطباء لإقناعهم بالسياسة الجديدة .
7-مطالبة الحكومات بتوعية الشابات بمعنى الإجهاض الآمن ، والمراهقات ذوات الحمل المبكر \"غير الشرعي\" بمعنى الأمومة الآمنة .
8-المطالبة بنشر مراكز المعلومات بين الشباب والشابات في المدارس والمجتمعات والقرى لتنفيذ البرامج.
9-مطالبة الحكومات بالتعاون مع المنظمات الأهلية على نطاق واسع لتلبية حاجات الشباب .
10- مطالبة الحكومات بتوفير وسائل \"منع الحمل في الماكينات بالشوارع\".
11- مطالبة الحكومات برعاية المغتصبات وتقديم الخدمات لهن بما في ذلك الزوجات اللاتي اغتصبهن أزواجهن!!( وهي المعاشرة الجنسية للزوجة بدون رضاها)..!!
12- مطالبة الحكومات برعاية المجهضات دون ضوابط قانونية أو تحفظات أخلاقية.
وهذا غيض من فيض يود صندوق الأمم المتحدة للسكان إغراق العالم في أوحاله(/2)
من أجل جندي واحد!!!!!
أبوعبدالرحمن عبدالله نياوني (سانوغو)
من أجل جندي واحد، أبرقت إسرائيل وأرعدت، ودقت أكبار الحرب وأوعدت، و كشفت عن أنيابها وبراثنها، وأقامت الدنيا ولم تقعدها، و أخرجت دباباتها ومدفعياتها ومروحياتها الحربية، وأعلنت حرب ضروس، ليس لها من دون الإفراج عن الأسير نهاية، وقصفت بيوت المدنيين العزّل، بلا خجل ولا وجل، ولا تكاد تترك من حجر، ولا شجر، ولا بشر، في بلاد القدس الشريف، إلا ودمرته، و قطعت المياه والكهرباء، عن سكان يربو عددهم على مليون نسمة.
فأين مجلسهم الأمن؟ وأين أممهم المتحدة ؟ وأين أدعياء الديمقراطية وقراراتهم الصارمة؟ أين هم من هذا الهضم الإسرائيلي لحقوق الإنسان؟
قتل امرئ في غابة جريمة لا تستغفر بينما قتل شعب كامل مسألة فيها نظر
نعم من أجل جندي واحد، وقع بإذن من لايغفل ولاينام، أسيرا بأيدي شباب جعلوا حياتهم رهنا،للرباط في سبيل الله، تعلن إسرائيل من خلال طغيانها، وغطرستها،لا لأبناء الحجارة فحسب، بل تعلن للمسلمين قاطبة، مدى الهزيمة النفسية التي تعيش فيها الأمة الإسلامية.
فأين المسلمون من أسراهم في سجون اليهود؟
الآن ما يربو على عشرة آلاف مسلم ومسلمة في سجون الصهاينة، يُضربون عن الطعام فينة، ويُمنعون من النوم فينة أخرى، بل ويُمنع ذووهم من زيارتهم، أمالتعذيب والتنكيل فحدّث..........
فأين المسلمون من أسراهم؟
في سجون اليهود، ضرب المخاض إحدى أخواتنا المسلمات، ولكن أبت قلوب اليهود(قتلة الأنبياء) أن تلين لحالها،بل تركوها مقيدة موثوقة في سلاسلها إلى أن أنجبت، ولسان حالها يقول أنا لمسلمة المعذبة أنقذوني إخوتاه!
فأين مليارنا أيها لمسلمون!؟
ليس أشر على الأمة من أن يكون همّ أفرادها أنفسهم، فكلما طاب لهم الأمر لم يبالوا بأي واد تسير الأمة.
قال ابن القيم رحمه الله:
(..وهل بلية الدين إلا من هؤلاء الذين إذا سلمت لهم مآكلهم ورياستهم فلا مبالاة بما جرى على الدين وخيارهم المتحزن المتلمظ، ولو نوزع في بعض ما فيه غضاضة عليه في جاهه أوماله، بذل وتبذل وجد واجتهد واستعمل مراتب الإنكار الثلاثة بحسب وسعه، وهؤلاء مع سقوطهم من عين الله، ومقت الله لهم قد بلوا في الله بأعظم بلية تكون وهم لا يشعرون، وهو موت القلوب، فإن القلب كلما كانت حياته أتم، كان غضبه لله ورسوله أقوى وانتصاره للدين أكمل)اهـ إعلام الموقعين.
فجزى الله خيرا، شباب المقاومة، وسدد صوب العدو رميهم.
جزاهم الله خيرا على رباطهم قال صلى الله عليه وآله وسلم : ( رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها) رواه البخاري من حديث سهل بن سهل.
جزاهم الله خيرا على رضاهم ببلاء الله، قال صلى الله عليه وآله وسلم:(إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قوما ابتلاهم فمن رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط) رواه الترمذي وابن ماجه عن أنس بن مالك.
جزاهم الله خيرا على صبرهم على البلاء ، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله عز وجل إذا أحب قوما ابتلاهم فمن صبر فله الصبر ومن جزع فله الجزع) رواه أحمد عن محمود بن لبيد.
جزاهم الله كل خير على ثباتهم ورجوليتهم وجلدهم، فأما أن قريب ستتنفّس صبح النصر والظفر إن شاء الله.
قال تعالى:( أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مسّتهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب) سورة البقرة 214
أخي المسلم ! أختي المسلمة!
إذا كان العذر فد حبسنا عن التضحية بالروح والمال، فإن دوري ودورك إذن هو الدعاء الخالص.
الدعاء الدعاء في الصلوات وعقبها....
الدعاء الدعاء في جوف الليل و بالأسحار ...
الدعاء الدعاء بعد قراءة القرآن الكريم...
الدعاء الدعاء يا أمة الإسلام..(/1)
من أجل حِوار حضارات لصالح البشريّة
بدران بن الحسن 28/7/1425
13/09/2004
منذ نهاية الحرب العالميّة الثانيّة والإنسانيّة تتجه إلى وحدة المصير، وتشترك في القضايا الكبرى، وترتبط في علاقاتها بشكل يوحّد من همها وتطلعاتها، كما يوحّد شعورها بالمخاطر المحدقة بالإنسانيّة، وأهميّة العمل المشترك، والعيش أو التعايش المشترك بدل منطق الصّراع الذي قد يؤدّي إلى النهاية المأساويّة للجميع.
وقد تعمق هذا الوعي بشكل أكبر -على المستوى الفكريّ- عندما بدأت الكتابات تتوالى في الغرب خاصة عن طبيعة العلاقات الدوليّة التي ستحكم العالم، وخاصة بعد انهيار المعسكر الشيوعيّ، وخلوّ الساحة الدوليّة لهيمنة الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها، ووقع العالم تحت هيمنة "وحيد القرن" وزوال الثنائيّة.
ثم إنّه بعد صدور كتابَي كلٍّ من فوكوياما "نهاية التاريخ" وهاتنجتون "صدام الحضارات" حيث بشّر فوكوياما بسيادة قيم الديمقراطيّة الليبراليّة وهيمنتها على العالم وتحوّلها إلى المصير الوحيد للإنسانيّة التي يجب أنْ تقبله، بينما تنبأ هاتنجتون بأن الصّراع في المستقبل لن يكون بين الدول الوطنيّة، ولا بين المحاور السياسيّة الأيديولوجيّة، بل بين المحاور الحضاريّة. أي بين الحضارات التي تشكل -في نظره- "الإطار الثقافيّ الأوسع للمجتمعات"، وبهذا فإنّ خطوط التماس الحضاريّ ستشهد –وقد شهدت فعلاً- صداماً دموياً مثلما حدث في البوسنة وفي الصومال وفي كوسوفا وفي مواقع أخرى ويحدث الآن في فلسطين والعراق.
ولذلك سارعت الأمم المتحدة وبعض الدول التي لا ترغب في هذا الصّدام إلى تبني مقولة "حِوار الحضارات"، وأعلنت الأمم المتحدة سنة 2002 سنة لحوار الحضارات، ثم شاع أدب الحوار بين الحضارات في مختلف الدوائر الفكريّة والسياسيّة والدينيّة والاجتماعيّة، ومما زاد الأمر أهميّة تعاظُم ظاهرة العولمة واقترانها بمرحلة تاريخيّة من حياة الإنسانيّة اتسمت بمحاولة إزالة كل الحواجز في وجه القوة الأمريكيّة، مستعملةً في ذلك كلّ الأدوات السلميّة والحربيّة من أجل فرض الهيمنة على العالم وتوجيهه وفق تطلعات إدارة البيت الأبيض، وبارونات المال والأعمال، والنخبة المتواجدة في مراكز القرار والأبحاث والدراسات الاستراتيجيّة في الغرب عموماً وأمريكا بوجه خاص.
منطقان متعاكسان يحكمان حِوار الحضارات:
وبناء على ما سبق فقد كثر الحديث عن حِوار الحضارات والثقافات والأديان، مما يدل على الوعي بالصعوبات التي يواجهها الجميع؛ سواء في ذلك العالم المتطور أو العالم المتخلف.
ومن جهة أخرى فإنّ كثرة الحديث عن موضوع الحِوار بين الحضارات والثقافات يدل على الاختلالات التي تعاني منها منظومة العلاقات السائدة بين الأمم، وأنها لم تعد عادلة ونافعة، بل ولم تعد قابلة للتنفيذ والممارسة بشكل يحقّق مصالح الإنسانيّة في الأمن والسلام والتقدم، وخاصة الاختلالات التي تعاني منها منظومة القيم والثقافة الغربيّة والأمريكيّة بوجه أخص، وذلك بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر.
وفي هذا السياق أرى أنّ سبب تلك الاختلالات راجع في جوهره إلى منطقين متعاكسين في الاتجاه وفي المنطلق، ونظراً لهذا التعاكس بين المنطقين فإنّ الإنسانيّة مهددة في مصيرها إمّا باستمرار ~ة حالة الاحتقان، وإمّا بهيمنة الغطرسة الأمريكيّة التي ترى نفسها هي الحضارة القدوة وغيرها تخلّف وإرهاب. أما المنطقين المتعاكسين فهما: منطق التاريخ من جهة، والقاضي باتجاه البشريّة إلى وحدة المصير بفعل اطّراد تقدم البشريّة، وترابط مصالحها بعضها ببعض، وبفعل التقدم التكنولوجيّ الهائل الذي أدّى إلى تقارب المكان والزمان. ومن جهة أخرى هناك منطق الهيمنة الغربيّة على العالم، ومحاولة فرض نمط عنصريّ محدود الأفق، قاصر في رؤيته ومداه، متحيّز في قيمه، ماديّ في طموحه وتوجّهه، وصدامِيّ في تعامله. محاولة هذا النموذج بفعل ما يملكه من غلبة حضاريّة مؤقتة أنْ يفرض ثقافته ومعياره على العالم، مما يولّد رفضاً من بقية الكيانات الحضاريّة لمثل هذه الغطرسة وفرض القيم والمعايير
والمنطقان اللذان سبق ذكرهما يطرحان إشكالاً غاية في الأهميّة، وهو بدوره يقوم على قضيتين:
أولاـ إنّ وحدة المصير الإنسانيّ تفرض على كل حضارات الأمم والشعوب والدول التزاماً جماعياً بمتطلبات عالميّة أو كونيّة؛ لأنّ المصير صار مشتركاً، والمصالح صارت متداخلة، والعالم صار قرية صغيرة يؤثّر أدنى حدث فيها في كل أركان المعمورة، ويمسّ كل الناس.
ثانياًـ إنّ هناك تميزاً واختلافاً في القيم والمعايير والثقافات بين مختلف الشعوب، وبالتالي ينشأ حقّ أساسيّ من حقوق الأمم والشعوب والكيانات الحضاريّة في التميز والاختلاف عن الثقافة الغربيّة المهيمنة وبالتالي الاحتراز نظرياً وعملياً من الذوبان في ثقافة الغرب المتغطرسة.
أبعاد الإشكاليّة:(/1)
ولنا أنْ ننظر إلى مكمن الإشكال الذي ذكرناه، ونتساءل عن كيفية حلّه من أجل صالح البشريّة؛ فهل نعتبر الحضارة الغربيّة المعاصرة هي أرقى ما توصلت إليه الحضارة الإنسانيّة، وبالتالي فهي تمثل الحضارة القدوة وعلينا القبول بها نموذجاً مهيمناً غالباً ينبغي اتباعه والاقتداء به، وترك كل الخصوصيّات الثقافيّة والحضاريّة الخاصّة بنا؟
أم أنّ الحضارة الآن هي نتاج تراكميّ تاريخيّ لشعوب وحضارات متعدّدة، وبالتالي فإنّها نتاج عوامل متعدّدة، وليست ذات خصوصيات غربيّة أو أمريكيّة أو إنتاج أمّة معيّنة، وبهذا علينا أنْ نعتبرها هي الحضارة، ولا ينبغي الخروج عنها؟
أم أنّ مفهوم الحضارة العالميّة مفهوم فَضْفاض مهلهل مهتزّ، استعمله الغالب ليسيطر على المغلوب، ودعا إليه القويّ ليسلب من الضعيف آخر أدوات المقاومة لنموذج مشوّه وقاصر ومحدود الأفق، وبذلك ينبغي الاحتفاظ بالخصوصيّة الحضاريّة والثقافيّة، وترسيخ مبدأ التميّز والاختلاف؟
إنّ تأمّل الخيارات الثلاثة المطروحة أمامنا تمثل –في الواقع- أهمّ المقاربات الموجودة في الأوساط السياسيّة والثقافيّة والعلميّة، وهي المقاربات المتداولة بين الباحثين والمهتمين بالشأن الحضاريّ.
ويمكن القول: إنّ هذه المقاربات تحمل كلّ منها مبرّراتها كما تحمل جوانبها السلبيّة، وهذا ما يدفع إلى الدّعوة إلى العمل على صياغة مقاربة أكثر شموليّة وإحاطة بالموضوع، وذلك من خلال استراتيجيّة ومنهجيّة تتوجه إلى أبعاد ثلاثة:
أولاً: فهم النّسق والسياق التاريخيّ الذي نشأت فيه الحضارة المعاصرة، وهو لا شكّ نسق الحداثة الغربيّة بما وفر للحضارة الغربيّة المعاصرة من إطار فلسفيّ ومرجعيّة فكريّة ومنظومة قيميّة تطوّرت في كنفها الحضارة وصاغت مقولاتها فيما يخص علاقتها بالحضارات والثقافات غير الغربيّة.
ثانياً: محاولة فهم العلاقة بين الدينيّ والدنيويّ، بين المطلق والزماني، بين منظومة القيم الدينيّة والقيم العلمانيّة التي صاغتها الحضارة الغربيّة، وأثر ذلك على تشكل المؤسّسات والجماعات السياسيّة والاجتماعية والثقافيّة والمهنيّة وغيرها في الغرب. أي فهم مفهوم وموقع الدين في صياغة الحضارة الغربيّة المعاصرة.
وثالثاً: فهم التطوّر التكنولوجيّ الهائل الذي ميّز الحضارة الغربيّة المعاصرة، والأبعاد التي أضفاها على منظومة القيم والمعايير، وما أدّى إليه من تغيّر النظرة إلى الإنسان ومكانته وماهيّته ووجوده. أو ما عبّر عنه ابن نبي بِـ "تقدّم العلم وتخلّف الضّمير".
وفي الختام نقول: إنّه بهذه الاستراتيجيّة يمكن أنْ نحيط بالظاهرة وأنْ نستوعبها فهماً، وبعد ذلك يمكن أنْ نحلّ الإشكالات المطروحة، ونستطيع أنْ نتحدث عن الحضارة العالميّة أو الكونيّة.(/2)
من أجله صلى الله عليه وسلم...دعونا نفعل شيئا لونا حافظ*
خاتم الديانات.. زبدة الرسالات وآخر الصلة بين الأرض والسماوات.. شرعه الرحمن على لسان خير من عرفت البسيطة.. النبي العدناني.. نبينا عليه الصلاة والسلام (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً).. هكذا قال الديّان.
اصطفاه الله على الورى، وأنعم عليه بالهدى؛ فكان الإسلام على الأرض نوراً لا تحجبه الأسقف، وصيتاً لا يعترف بالمدى، وهوية لا تعرف القبلية.. والملتقى بين الأنام قراره (لا إله إلا الله محمد رسول الله)..
هذا الدين بدأ غريباً، والآن نحو غربته، وقلة نصرته يتجه؛ إحقاقاً لنبوة الصادق المصدوق (بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ؛ فطوبى للغرباء).. ونرى ذلك الآن، وأعداؤه من النصارى واليهود يتكالبون عليه، ويتداعَون كما قال صلى الله عليه وسلم (يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها).. نعم اليهود والنصارى الذين لن يهنأون والإسلام يزداد انتشاراً؛ ويملأ أرجاء البسيطة يوماً بعد يوم؛ وهم الذين قال عنهم المولى تبارك وتعالى: (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملّتهم)؛ فما سنحت لهم سانحة للنيل بالانتقاص منه إلا وبادروا باستغلالها؛ مرة بجيوشهم حروباً ودماءًا، وأخرى بأقلام صدئة إهانة وسخرية..
وها هي إحدى الدول المنتسبة إلى النصرانية – الدنمارك – والتي تنتهج منهجاً مدروساً للإساءة للإسلام ووصفه بالإرهاب والوحشية، وهم منذ خمس سنوات خلت ينحَون هذا النحو ذاته، وتحت ذريعة حرية التعبير تتركهم حكوماتهم يعبثون بكل شيء إلا المقدسات، لكن ليس الإسلام!!.. فعنده لا تدخّل؛ وليعبث العابثون.. وها هو أحد صحفيي تلكم الجرائد يتجرأ على شخص المجتبى، سيد الورى عليه الصلاة والسلام برسوم كاريكاتيرية تنتقص من مقام النبوة، وتطعن في ذات سيد الأمة.. فداه أنفسنا عليه الصلاة والسلام.. كاتب حُرم عقيدة التوحيد؛ فازدوجت عنده المفاهيم، وسُلبت حياته من الغايات؛ فكان هذا جهده، ونفاد مداده؛ فعليه وعلى القائمين على أمره نُشفق؛ لكنها شفقة من مُنح الرجاء على من أعماله هباء..
فبمن اُستهزئ؟!..
سؤال يُعنى به الجميع؛ إخوان العقيدة وأعداؤها.. إنه أعظم الأنبياء، وأكرم المرسلين، وسيد الخلق أجمعين.. لم يخلق الله أفضل، ولا أكمل، ولا أفصح، ولا أرجح، ولا أعظم منه.. نعم.. أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة، وهو أول من يدخل الجنة، وهو صاحب الحوض، وصاحب لواء الحمد، وصاحب المقام المحمود، وأول من جُعلت له الأرض مسجداً وطهوراً.. إمام الأنبياء وخيرهم، وأمته خير الأمم، والكتاب الذي أنزل عليه خير الكتب.. وهو من صلى عليه الله عز وجل وملائكته (إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً).. قرن الله اسمه باسمه شهادة تعلن الإسلام، وتقيم الأركان؛ فهو المزكى من خالق النفس، وبارئها..
زكّاه الله في خُلقه (وإنك لعلى خُلق عظيم)، وزكّاه في بصره (ما زاغ البصر وما طغى)، وزكّاه في نطقه (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى)، وزكّى فؤاه (ما كذب الفؤاد ما رأى) فعن أي شخص يتحدّثون؟!.. وما أصدق المثل القائل (ما كل قارئ متعلّم)!.
إخوان العقيدة! هذه وقفة جادة لنا، وعودة واجبة علينا، أن هلاّ انطلقنا؛ وتعمّقنا في سيرته علماً، وبحثاً، وتنقيباً.. هلاّ تعرفنا عليه معرفة حقّة؛ تمكننا من إدراك نصره، هي بمثابة حد الكفاف؛ عسى أن نجد جواباً يوم الوقوف.. فعند الحوض تبقى رشفة لا نظمأ بعدها أبداً في يوم مقداره خمسون ألف سنة.. الشمس تدنو فيه من الرؤوس؛ ولا شافع ولا مُشفَّع إلا هو عليه الصلاة والسلام، ثم من أذن له ربنا عز وجل ممن رضي عنهم.. ولعلنا - من الوهن الذي تعيشه أمتنا - أقوياء بسلاح لا يعرف الهزيمة لمن يريد اقتناءه، ألا وهو سلاح الإرادة؛ بها تغلب الأهواء، وتنتصر على الأعداء بإذن الله عز وجل.
وقفة!!..
- إن نشر هذه الصور في الصحيفة الدنماركية تبعه إعادة نشر الصور ذاتها في النرويج، وفرنسا، وألمانيا، وإسبانيا، وإيطاليا، ومغتصبة إسرائيل؛ فما المقصود؟!، ومن التالي؟!.
- هذا الصحفي - والذي يدعى بورس – يقول: إنه اعتذر للمسلمين العرب، واعتذر عن الاعتذار داخل الدنمارك!!، وهو غير نادم على نشرها، لكنه آسف على أثرها على المسلمين!.
- إن عدد المسلمين في الدنمارك يفوق 200 ألف مسلم؛ من بينهم 70 ألف عربي!!.
- رئيس الوزراء يرفض الاعتذار عن الصحيفة، لكنه يتحدث عن صفته الشخصية بأنه لا يحب الإساءة للشخصيات الدينية!!.
- إن في كوبنهاجن – عاصمة الدنمارك – شعارات ترفع الآن بأن الاعتذار للمسلمين يعتبر خيانة!!.
أخا العقيدة!!
• إن هذه الآلام، والجراحات تجدد روح الوحدة، والعودة إلى الثوابت..
• إن هزائمنا المتلاحقة التي دفعت أعداءنا للتطاول على أعز ما نملك، ونقدّس ستنتزع النصر انتزاعاً..(/1)
فها هي الشعوب المسلمة صانعة القرار ترفض التعامل مع من سبوا المصطفى صلى الله عليه وسلم، وتعلن المقاطعة.
جميعاً فلنفعل شيئاً
- قاطعوا أعداءكم.. عرّفوا بدينكم.. انصروا نبيّكم..
- عرّف نفسك بهويّة مشتركة عنوانها: الإسلام.. توقيعها: العدنان..
- توقيع لا يقبل الطعن، ولا التزوير، ولا الخذلان.. هيا بادر..(/2)
من أحكام الأضحية
إعداد اللجنة العلمية بموقع الإسلام اليوم 26/12/1426
26/01/2006
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
مسائل تتعلق بالأضحية:
المسألة الأولى: حكمها:الأضحية سنة مؤكدة على كل من قدر عليها، والدليل على أنها سنة وليست بواجبة قوله –صلى الله عليه وسلم-:"إذا دخلت العشر وأراد أحدكم أن يضحي فلا يمس من شعره شيئاً" رواه مسلم وغيره، حيث جعل أمر التضحية مفوضاً إلى إرادة المضحي فقال:"وأراد أحدكم" ولو كانت واجبة لقال:"فلا يمسنَّ أحدكم...".
كما صح عن أبي بكر وعمر –رضي الله عنهما- أنهما كانا لا يضحيان مخافة أن يعتقد الناس وجوبها.
المسألة الثانية: فضلها:
التضحية هي من شعائر الله التي أمر أن تُعظم "ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب".
وفيها التأسي بسنة المصطفى –صلى الله عليه وسلم- (فقد ضحى بكبشين أملحين أقرنين)، متفق عليه. ولم يكن –صلى الله عليه وسلم- يدعها.
وقد وردت أحاديث في فضلها، لكن لا يصح منها شيء.
نقل الشيخ بكر أبو زيد –حفظه الله- عن بعض أهل العلم –وأبهمه- أنه لا يصح في الضحايا شيء.
ومن تلك الأحاديث:
ما روته عائشة –رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-:"ما عمل آدمي من عمل يوم النحر أحب إلى الله من إهراق الدم، إنها لتأتي يوم القيامة بقرونها وأشعارها وأظلافها، وإن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع على الأرض، فطيبوا بها نفساً".
وعن عمران بن حصين أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال:"يا فاطمة، قومي إلى أضحيتك فاشهديها يغفر لك عند أول قطرة من دمها كل ذنب عملتيه..."الحديث.
وعن ابن عباس –رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-:"ما عمل ابن آدم في هذا اليوم أفضل من دم يهراق إلا أن تكون رحماً توصل".
المسألة الثالثة: شروط صحة التضحية:
1) أن تكون الأضحية من بهيمة الأنعام، وهي الإبل والبقر والغنم ولا يجزئ غيرها لقوله تعالى:"ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام".
2) أن تكون الأضحية قد بلغت السن المعتبرة شرعاً؛ لقوله –صلى الله عليه وسلم-:"لا تذبحوا إلا مسنة إلا أن تعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن"، والمسنة: هي الثنية، ويُفهم من قوله:"فتذبحوا جذعة" أن ما كان دون الجذعة لا يجزئ. وعلى هذا الشرط لا يجزئ من الإبل إلا ما كان له خمس سنين فأكثر، ولا يجزئ من البقر إلا ما كان له سنتان فأكثر، ولا يجزئ من الضأن إلا ما كان له ستة أشهر فأكثر، ومن المعز ما له سنة فأكثر.
3) السلامة من العيوب المانعة من الإجزاء، فلا يجزئ في الأضحية العوراء البين عورها، ولا العرجاء البين ضلعها، ولا المريضة البين مرضها، ولا المهزولة التي لا تنقي، قال ابن قدامة في المغني (5/462):"لا نعلم بين أهل العلم خلافاً في منعها" لحديث البراء بن عازب: قام فينا رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فقال:"أربع لا تجوز في الأضاحي: العوراء البيّن عورها، والمريضة البيّن مرضها، والعرجاء البيّن ضلعها، والكسيرة التي لا تنقي" رواه أبو داود والنسائي. قال ابن قدامة (المغني 5/462) :"ويثبت الحكم فيما فيه نقص أكثر من هذه العيوب بطريق التنبيه". وعلى هذا فلا تجزئ العمياء لأن العمى أشد عيباً من العور، ولا المبتورة مقطوعة الرجل أو اليد لأنها أشد عيباً من العرجاء. قال النووي:"أجمعوا على أن التي فيها العيوب المذكورة في حديث البراء لا تجزئ التضحية بها، وكذا ما كان في معناها أو أقبح منها كالعمى وقطع الرجل ونحوه"أ.هـ، كما يُلحق بالعرجاء من باب أولى الزمنى وهي العاجزة عن المشي لعاهة، وأما الهتماء: وهي التي ذهبت ثناياها من أصلها فإنها تجزئ على الراجح وكذلك الجداء: وهي التي نشف ضرعها على الراجح، وكذلك العضباء: وهي التي ذهب بعض قرنها أو أذنها على القول الراجح إذ لا يصح في ؟؟ النهي عن التضحية بها حديث، ولأن الأذن والقرن لا يقصد أكلها وكذلك مقطوعة الألية أو المقطوعة خلقة. وتجزئ التضحية بالجماء التي لم يخلق لها قرن، والصمعاء وهي الصغيرة الأذن وكذلك الخصي، على أنه كلما كانت الأضحية أسلم وأجمل وأكمل خلقة فهي أفضل .
تنبيه: إن تعيبت الأضحية بعدما عينها بشراء أو بقوله: هذه أضحية فإنه يذبحها وتجزئه، لأنه عيب حدث بها من غير فعله ولا تعديه ولا تفريطه فلم يمنع الإجزاء، فإن حدث العيب بفعله أو بسبب تفريطه لزمه بدلها.(/1)
4) الشرط الرابع: أن تكون التضحية في وقت الذبح المشروع. ويبدأ وقت ذبح الأضحية من بعد صلاة العيد فإن كان بمكان ليس به صلاة عيد فليعتبر بمقدار صلاة العيد، ولا يجزئ الذبح قبل ذلك في الأضحية؛ لحديث البراء قال: خطبنا النبي –صلى الله عليه وسلم- يوم النحر فقال: إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلي ثم نرجع فننحر، فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا، ومن ذبح قبل أن نصلي فإنما هو لحم عجله لأهله، ليس من النسك في شيء" البخاري (2915) ومسلم (1961). ولمسلم (1960) "من ذبح قبل الصلاة فليذبح شاة مكانها". وينتهي وقت التضحية بغروب شمس آخر يوم من أيام التشريق وهو الثالث عشر على القول الصحيح؛ لقوله –صلى الله عليه وسلم-:"أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله" مسلم (1141)، فجعل حكمها واحداً من غير تفريق. ويجزئ الذبح بالليل على الراجح من غير كراهية، إذ الليالي تبع لأيامها في الحكم، ولم يصح دليل على النهي عن التضحية بالليل.
المسألة الرابعة: الحكمة من مشروعيتها:
قال ابن عثيمين –رحمه الله-:"وهي من نعمة الله على الإنسان أن يشرع الله للمسلم ما يشارك به أهل الموسم لأن أهل الموسم لهم الحج والهدي، وأهل الأمصار لهم الأضحية، ولهذا نجد من فضل الله ورحمته أنه جعل لأهل الأمصار نصيباً مما لأهل المناسك، مثل: ترك الأخذ من الشعر والظفر في أيام العشر من أجل أن يشارك أهل الأمصار أهل الإحرام بالتعبد لله تعالى، بترك الأخذ من هذه الفضولات، ولأجل أن يشاركوا أهل الحج في التقرب إلى الله بذبح الأضاحي، لأنه لولا هذه المشروعية لكان ذبحها بدعة، ولَنُهي الإنسان عنها، ولكن الله شرعها لهذه المصلحة العظيمة" [الشرح الممتع (7/454-455)].
وكذلك شرع الله الأضحية لتحقيق الحكم التالية:
1- اقتداء بأبينا إبراهيم –عليه السلام- الذي أمر بذبح فلذة كبده، فصدق الرؤيا، ولبى وتله للجبين، فناداه وفداه بذبح عظيم، وصدق الله العظيم إذ يقول:"فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين*فلما أسلما وتله للجبين*وناديناه أن يا إبراهيم*قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين*إن هذا لهو البلاء المبين*وفديناه بذبح عظيم"[الصافات:102-107]، ففي ذبح الأضاحي إحياء هذه السنة، وتضحية بشيء مما أفاء الله على الإنسان، لصاحب النعمة ومسديها، وغاية الشكر محض الطاعة بامتثال الأمر.
2- توسعة على الناس يوم العيد، فحين يذبح المسلم أضحيته يوسع على نفسه وأهل بيته، وحين يهدي منها أصدقائه وجيرانه وأقاربه فإنه يوسع عليهم، وحين يتصدق منها على الفقراء والمحتاجين فإنه يغنيهم عن السؤال في اليوم الذي هو يوم فرح وسرور. [أحكام العيدين وعشر ذي الحجة لعبد الله الطيار صـ (65-66)].
مسائل متفرقة في الأضحية:
(1) لا يجوز بيع جلد الأضحية ولا غيره من أجزائها، ولا يجوز أن يعطي الجزار شيئاً منها أجرة، -أي يحتسبها عليه من أجرة ذبحها- لحديث علي بن أبي طالب –رضي الله عنه-: أمرني رسول الله –صلى الله عليه وسلم- أن أقوم على بُدنه، وأن أقسم جلودها وجلالها، وألا أعطي الجازر منها شيئاً، وقال: نحن نعطيه من عندنا" متفق عليه.
فأما إن أعطاه شيئاً منها على سبيل الهبة أو الصدقة فلا بأس، كما أن له –أي للمضحي- أن ينتفع بجلودها أو غيرها من أجزاء الأضاحي قياساً على جواز الانتفاع بلحمها.
(2) ذبح الأضحية أفضل من التصدق بثمنها لفعله –صلى الله عليه وسلم- حيث واظب عليها وكذلك فعل الصحابة من بعده، ولأن في ذلك إحياءً لسنة مؤكدة.
قال ابن القيم في تحفة المودود صـ(65):"الذبح في موضعه أفضل من الصدقة بثمنه فإن نفس الذبح وإراقة الدم مقصود، فإنه عبادة مقرونة بالصلاة كما قال تعالى:"فصل لربك وانحر" وقال تعالى:"قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين" ففي كل ملة صلاة ونسك لا يقوم غيرها مقامها ولهذا لو تصدق عن دم المتعة والقران بأضعاف القيمة لم يقم مقامه وكذلك الأضحية".
(3) من أراد أن يضحي فلا يجوز له إذا دخلت العشر أن يأخذ شيئاً من شعره أو أظفاره أو بشرته، وهذا إنما هو على من يضحي لا من يضحّى عنه من أهل البيت، ويدل لذلك قوله –صلى الله عليه وسلم-:"إذا دخلت العشر وأراد أحدكم أن يضحي فلا يمس من شعره ولا بشره شيئاً" رواه مسلم (1977)، وأما أهل البيت ممن يُضحى عنهم فلا يحرم عليهم لأن النبي –صلى الله عليه وسلم- إنما نهى عمن يضحي دون من يُضحى عنه، ولأنه –صلى الله عليه وسلم- لم يكن ينهى أهل بيته عن الأخذ من أشعارهم وأبشارهم وأظفارهم.
فإن عصى وفعل فأخذ من بشرته أو شعره أو أظفاره شيئاً فلا فدية عليه إجماعاً، ولا يصح أن يقاس على المحرم، بل ولا أثر لذلك في إجزاء أضحيته وقبولها.
وإن لم ينوِ الأضحية إلا أثناء العشر وقد أخذ من شعره أو ظفره شيئاً فلا بأس، ويبتدئ تحريم ذلك من حين نوى التضحية لأن العبرة بالنية.(/2)
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم(/3)
من أحكام التعدد
الشيخ/أبي محمد عبد الله بن مانع العتيبي 21/4/1424
21/06/2003
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد:
فهذا ملخص نافع – إن شاء الله – في أحكام تهم الذي تزوج أكثر من زوجة كتبته تيسيرا على المعددين وتقريباً للفقه بين المسلمين بعد طلب بعض الفضلاء لكثرة الجهل في أحكام القسم بين النساء عند الخلق إلا من رحم الله وقد انتقيته من كتب الحديث وشروحها وكتب الفقه والنوازل والقواعد الفقهية . والله أسأل أن يجعله طريقاً لنيل رضاه ومقرباً لجنات النعيم يوم لقاه . وصلى الله وسلم على رسول الله .
* * *
1 - يجب العدل بين الزوجات قال ربنا جل في علاه : ( فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ) النساء آية 3 وقد روى أحمد والأربعة من طريق همام عن قتادة عن النضر بن أنس عن بِشير بن نَهيك عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من كان له امرأتان فمال إلى أحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل ) قال أبو عيسى وإنما أسند هذا الحديث همام بن يحيى عن قتادة ورواه هشام الدستوائي عن قتادة قال كان يقال ولا نعرف الحديث مرفوعا إلا من حديث همام وهمام ثقة حافظ .أ.هـ0 وفي العلل الكبير قال حديث همام أشبه .أ.هـ . قلت وهذا مصير من الترمذي إلى ترجيح المرفوع وهو الصواب إن شاء الله0فالحديث ثابت.
والعدل الواجب هنا في القسم والسكن والكسوة والنفقة ، وهل العدل في الواجب من ذلك فقط، أم يشمل العدل في الواجب والمستحب والمباح؟
فعلى القول الأول يجب العدل في الواجب من النفقة والملبس والمسكن فما فضل بعد ذلك من مال أو ملابس أو حلي أو سعة في مسكن فهذا كله لا ينافي العدل لأن ما زاد نفل والنفل فضل وهذا اختيار شيخنا ابن باز، ونص عليه أحمد رحمهما الله. انظر المغني ( 10/242 ) وهو قول أكثر أهل العلم وجمهورهم ولهذا قال الحافظ أبو الفضل ابن حجر في فتح الباري على قول البخاري باب العدل بين النساء، وذكر الآية ( ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء . . ) قال ما نصه أشار بذكر الآية إلى أن المنتهى فيها العدل بينهن من كل جهة وبالحديث إلى أن المراد بالعدل التسوية بينهن بما يليق بكل منهن فإذا وفَّى لكل واحدة منهن كسوتها ونفقتها والإيواء إليها لم يضره ما زاد على ذلك من ميل قلب أو تبرع بتحفة . أ.هـ.
والقول الثاني العدل واجب في كل ما يقدر عليه مما يجب عليه أو يستحب أو يباح وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية كما نقله صاحب الإنصاف و كذلك اختيار الشيخ ابن عثيمين رحمهما الله، وقال بعض أهل العلم التسوية في مثل هذا تشق فلو وجب لم يمكنه القيام به إلا بحرج فسقوط وجوبه أقرب.
وعدم العدل بين الزوجات من كبائر الذنوب ولهذا توعد عليه في الآخرة بسقوط شقه والجزاء من جنس العمل فلما مال في الدنيا عن العدل جاء بهذه الصفة يوم القيامة على رؤوس الأشهاد.
وأما العدل في المحبة والجماع، فعامة العلماء على عدم وجوبه لأنه ليس في ملكه، ولهذا قال ابن القيم في الهدي (5/151) لا تجب التسوية بين النساء في المحبة فإنها لا تملك وكانت عائشة رضي الله عنها أحب نسائه إليه وأخذ من هذا أنه لا تجب التسوية بينهن في الوطء لأنه مُوقف على المحبة والميل وهي بيد مقلب القلوب، وفي هذا تفصيل وهو أنه إن تركه لعدم الداعي إليه وعدم الانتشار فهو معذور وإن تركه مع الداعي إليه ولكن داعيه إلى الضرة أقوى فهذا مما يدخل تحت قدرته وملكه فإن أدى الواجب عليه منه لم يبق لها حق ولم يلزمه التسوية وإن ترك الواجب منه فلها المطالبة به.أ.هـ.
وقد روى أبو داود والنسائي من طريق حماد بن سلمة عن أيوب عن أبي قلابة عن عبدالله بن يزيد عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه فيعدل ثم يقول ( اللهم هذا فعلي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك ) ورواه حماد بن زيد عن أيوب فأرسله لم يذكر فيه عائشة وهو المحفوظ.
والنبي صلى الله عليه وسلم كان يحب عائشة أكثر من سائر أزواجه وهذا أمر مشهورعنه صلى الله عليه وسلم وفي الصحيح عن عمرو بن العاص لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم أي الناس أحب إليك قال: عائشة ، قال من الرجال قال أبوها …. الحديث. وبوب البخاري : باب حب الرجل بعض نسائه أفضل من بعض على حديث ابن عباس والجماع تابع لشهوة النفس وانبعاثها ومحبتها . .
وحيث قلنا لا يجب العدل في الجماع لكن يجب أن يعفها ويعاشرها بالمعروف وكذلك لا يجب العدل في مقدمات الجماع من أنواع الاستمتاعات لكن يستحب ذلك وروي عن بعض السلف أنه كان يعدل بين نسائه حتى في القُبل.(/1)
2 - القسم يكون بين الزوجات يوم لهذه ويوم لتلك . . فإن أحب أن يقسم يومين يومين أو ثلاثة ثلاثة فقيل يجوز له ذلك وقيل بل لا بد من رضاهن فيما زاد على اليوم وهذا أرجح لأن في العمل به إزالة الوحشة عنهن لقرب عهده بهن اللهم أن يكون للزوج غرض صحيح في الزيادة على اليوم لا يمكن إدراكه إلا بذلك فيجوز والحالة هذه بلا رضاهن.
3 - القسم يكون للمريضة والحائض والنفساء، فلا يسقط حقهن في القسم لأجل ما عرض لها، وكذا يقسم لمن آلى منها أو ظاهر منها أو رتقاء أو مُحرمة وكذا يقسم لكتابية ومجنونة إلا أن تكون غير مأمونة لأنه لا يحصل الأنس بها ولا لها وكذا يجب القسم على الزوج المريض والعنِّين والمجنون إلا إن يكون غير مأمون لأنه لا يحصل منه أنس ، وأصل المسألة أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول في مرضه ( أين أنا غداً ) رواه البخاري.ولأن القسم القصد منه السَكن والأنس، وهو حاصل بالمبيت.
4 -إذا مرضت إحدى زوجاته ولم يوجد لها متعهد أو ممرض واحتاجت لتعهد زوجها فإنه يمكث معها ويقضي للباقيات بعد البرء فإن ماتت تعذر القضاء لأنه.إنما يحسب من نوبتها، وإذا تعذر القسم للمريضة من أجل كونها في المستشفى ، فإنه لا قسم لها ولا يقضي لها بعد خروجها من المستشفى كسفرها في حاجتها بإذنه على القول الراجح.
5 - القسم عماده بالليل، والنهار تبع له . . ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها: ( قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي وفي يومي) وإنما قبض النبي صلى الله عليه وسلم نهاراً، والنهار يتبع الليلة الماضية، وأما من كان معاشه بالليل كالحارس ونحوه فقسمه يكون بالنهار.
6 - الزوجة المغمى عليها يسقط حقها في القسم لتعذر حصوله لها ولا قضاء لها.
7 - لا قسم للناشر ولا المطلقة الرجعية.
8 - يجوز الدخول على نسائه نهاراً والمكث قليلاً ولو في غير نوبتهن، ولهذا قال البخاري باب دخول الرجل على نسائه في اليوم ثم أسند حديث عائشة قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا انصرف من العصر دخل على نسائه فيدنو من إحداهن . . ).
ولفظه عند أبي داود ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفضل بعضنا على بعض في القسم في مكثه عندنا وكان قلّ يوم إلا وهو يطوف علينا جميعاً فيدنو من كل امرأة من غير مسيس حتى يبلغ التي هو يومها فيبيت عندها ) ولفظ البيهقي (7/300) ( يطوف علينا جميعاً فيقبل ويلمس مادون الوقاع . . )
وهذا الدخول للحاجة من دفع نفقة أو عيادة أو سؤال عن أمر يحتاج إلى معرفته أو زيارة لبعد عهده بها وكذلك للتأنيس والمباشرة والتقبيل من غير جماع-
وهذا كما ترى لا ينافي العدل بل هو العدل، ولهذا قال ابن القيم في الهدي (5/152) في حكمه صلى الله عليه وسلم في قسم الابتداء والدوام بين الزوجات وذكر من فوائد حديث عائشة ( أن الرجل له أن يدخل على نسائه كلهن في يوم إحداهن ولكن لا يطؤها في غير نوبتها ).
وأما الدخول ليلاً لغير صاحبة النوبة فقد صرح العلماء بتحريمه إلا لضرورة تستدعي ذلك كحريق ومرض مفاجيء، ونحو ذلك من الضرورات أو الحاجات الملحة.
9 - يجوز للرجل جماع نسائه كلهن في ساعة واحدة ولو كان في نوبة إحداهن فقد روى البخاري من طريق هشام الدستوائي عن قتادة عن أنس قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يدور على نسائه في الساعة الواحدة من الليل والنهار وهن ( إحدى عشرة ) قال قتادة قلت لأنس أو كان يطيقه ؟ قال كنا نتحدث أنه أعطي قوة ثلاثين وقال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس ( تسع نسوة )0وبوب عليه البخاري : من طاف على نسائه في غسل واحد، وجاء نحوه عن عائشة قالت: ( كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيطوف على نسائه ثم يصبح محرماً ينضخ طيباً ) أخرجه البخاري أيضاً، فمثل هذا جائز كما ثبت به الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم فإذا كان هذا بإذن صاحبة النوبة أو كان عادة للإنسان أنه ربما وطيء نسائه كلهن في نوبة إحداهن فلا بأس إذ لا جور في ذلك بل هو عدل، وقد كان هذا من عادة سيد الخلق صلى الله عليه وسلم.فإن اغتسل بعد كل جماع فحسن وإن توضأ فهو حسن، وأقل الأحوال أن يغسل ذكره حتى لا تختلط المياه لا ختلاف الأرحام.(/2)
10 - إذا تزوج البكر على الثيب ( زوجته أو زوجاته السابقات قطع الدور ) وأقام عند البكر سبعة أيام ثم قسم وإذا تزوج ثيباً على زوجته أو زوجاته السابقات قطع الدور وأقام عندها ثلاثة أيام ثم قسم فإن أرادت الثيب الجديدة أن يمكث عندها سبعاً فلها ذلك إذا رضي الزوج، فإن سبَّع لها سبَّع لسائر زوجاته، ففي الصحيحين عن أنس رضي الله عنه أنه قال: من السنة إذا تزوج الرجل البكر على الثيب أقام عندها سبعاً وقسم، وإذا تزوج الثيب أقام عندها ثلاثاً ثم قسم. قال أبو قلابة الراوي عن أنس: لو شئت لقلت إن أنساً رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وفي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لما تزوج أم سلمة أقام عندها ثلاثاً فأراد أن يخرج فأخذت بثوبه فقال لها إنه ليس بك على أهلك هوان إن شئت سبَّعت لك، وإن سبَّعت لك سبعت لنسائي وإن شئت ثلَّثت ثم درت قالت: ثلَّث ) أ.هـ ( من مجموع الألفاظ عند مسلم ).
ومعنى قوله ( ليس بكِ على أهلكِ هوان ) يعني بأهلك نفسه عليه الصلاة والسلام، ومعنى هوان أي هون يريد أنك عزيزة وغالية ولكن هذا القسم هو الحق.
وتخيير الزوج الثيب بين ثلاث وسبع ليس بواجب بل هو سنة ولا يجب على الزوج مشاورة البواقي فيما تختار الثيب الجديدة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشاور زوجاته في ذلك.
فإن قيل لم زاد الثيب أربعة أيام وقضى البواقي سبعاً قيل هذا من العدل لأنه أخر حقهن وزاد الأولى أربعاً.
فإن قيل لما خص البكر بسبع والثيب بثلاث قيل الحكمة ظاهرة لوجهين.
أولاً: قوة الرغبة في البكر غالبا.( وفي هذا مراعاة الرجل ).
ثانيا: استيحاش البكر من الرجال غالباً فزيد في المدة للإستئناس.(وفي هذا مراعاة للمرأة).
11 - و إذا تزوج بكراً على بكر ويتصور هذا لو عقد على بكر وتردد عليها من غير جماع ثم تزوج بكراً أخرى فهل حكمه كحكم من تزوج بكراً على ثيب؟
الجواب نعم ويكون معنى قوله : ( تزوج البكر على الثيب ) من باب الأغلب مع أن هذه الصورة نادرة.
12- تجب الموالاة في سبع البكر وثلاث الثيب ولو فرق لم تحسب أ صلا على القول الراجح .
13 - بعد انقضاء أيام البكر أو الثيب يدور على باقي نسائه وتصبح الجديدة آخرهن نوبة .
14 - إذ سافر بجديدة وقديمة بقرعة أوبرضى البواقي تمم للجديدة حق العقد ثم قسم بينها وبين الآخرى .
15-إذا أقام الزوج عند الثيب سبعا فأقام بغير اختيارها في الأربع الزائدة فانه يقضي للباقيات الأربع الزائدة فقط لأن مكثه عندها بغير رضاها فلم تؤاخذ به .
16 - وإذا تزوج بكرين في عقد واحد كما لو عقد له رجل على ابنته وابنة أخيه (ابنتي عم ) فإنه يقرع بينهما فإذا خرجت قرعة إحداهن مكث عندها سبعاً ثم الأخرى سبعاً وإن تقدم عقد إحداهما على الأخرى فزفت إليه قبلاً فهي المقدمة بلا قرعة.
17 - إذا تزوج امرأة بكراً أو ثيباً وليس عنده غيرها، فلا يتعين عليه التسبيع أو التثليث ، لأنه لم ينكحها على غيرها ، وهي طِلق له دهرها ، فلم تقع المشاحة في الزمن حتى يلزمه التسبيع أو التثليث على القول الراجح .
18 - لو تزوج وهو في سفر و معه بعض نسائه قسم للجديدة ثلاث أو سبع (بحسب حالتها) ثم عدل بينها وبين المستصحبات في السفر.
19 -إذا سافر الزوج بنسائه كلهن أو بدونهن فلا إشكال ، وكذا إذا سافر بواحدة أو أكثر وترك البعض ورضي المقيمات بذلك فلا إشكال أيضاً، فإن أبين فلا بد من القرعة فمن خرجت قرعتها سافر بها سواء في يومها أو في يوم غيرها، وإذا عاد من سفره قسم لهن ولم يقض للمقيمات.
ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت : ( كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه فآيتهن خرج سهمها خرج بها معه ) قال ابن القيم في الهدي (5/151) إذا أراد السفر لم يجز أن يسافر بإحداهن إلا بقرعة، وقال : إنه لا يقضي للبواقي إذا قدم، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يقضي للبواقي.أ.هـ.
أما إذا خرج بدون قرعة بإحداهن أو بعضهن فإنه إذا قدم يقضي للبواقي حقهن متواليا ويحسب عليه مدة غيابه بما فيها الذهاب والإياب، وقولنا يقضي حقهن متواليا لأن هذا حق مجتمع في ذمته فليقضه من غير تأخير ومن ضرورة ذلك التوالي ولا يقسط عليهن إلا بإذنهن0قال في الإنصاف: إذا رضي الزوجات بسفر واحدة معه، فإنه يجوز بلا قرعة نعم إذا لم يرض الزوج بها وأراد غيرها أقرع .أ.هـ. قلت: فإن خرج سهم التي لم يردها أولاً لزمه السفر بها.
20 -اذا سافر بزوجتين بقرعة عدل بينهما فان ظلم أحداهما قضى لها بالسفر فان لم يتفق قضى في الحضر من نوبة التي ظلمها بها.
21 -لواستصحب واحدة بقرعة وأخرى بلا قرعة عدل بينهما أيضا ثم إذا رجع قضى للمخلفة من نوبة المستصحبة بلا قرعة .
22 - إذا سافر الزوج بامرأة لحاجتها فإنه يقضي للبواقي .
23 - إذا سافرت الزوجة في حاجة لها ولزوجها جميعاً فلا يسقط حقها في القسم فيقضي لها إذا عادت وضم حاجتها إلى حاجته لا يضرها .(/3)
24 - إذا خرجت القرعة لإحداهن في السفر لم يجز السفر بغيرها فإن أبت صاحبة القرعة فله إكراهها على السفر معه فإن أبت فهي ناشز عاصية وللزوج استئناف القرعة مرة أخرى .
25 -من لا يمكن اصطحابها في السفر لمرض أو نحوه فإنه يخرج بالأخرى فإن كن أكثر من اثنتين أقرع بينهن لأن القرعة إنما تكون مع استواء حالهن وصلاحيتهن للسفر وهذه قاعدة القرعة .
26 - إذا سافرت المرأة في حاجة لها بإذن الزوج فلا قسم لها، فإذا عادت لا يقضي لها على القول الراجح، وإذنه لها لدفع الإثم عنها، وأما إذا سافرت في حاجة له أي للزوج بإذنه، فإنه يقضي لها إذا عادت وأما إذا سافرت في حاجة لها بلا إذن الزوج فهي عاصية ناشز لا قسم لها ولا نفقة.
27 - لو سافر ببعض نسائه بقرعة فأراد إبقاء إحداهن أو بعضهن في بعض المنازل في السفر فبالقرعة.
28 - لو خرج مسافراً وحده ثم نكح في سفره لم يلزمه القضاء للباقيات لأنه تجدد حقها في وقت لم يكن عليه تسوية وإن خرج لأجل النكاح احتسب عليه مدة الغياب بعد حق المنكوحة.
29-إذا سافر بإحدى زوجاته بقرعة إلى محل ثم بدا له غيره أو أبعد منه فله أن يصحبها معه لأن حكمه حكم سفر القرعة .
30 -إذا تزوج امرأة وأراد السفر بها لم يجز إلا بقرعة بينها وبين نسائه ويحتمل أن له السفر بلا قرعة ووجه ذلك أن القسم قسمان ابتدائي واستمراري وهذه الجديدة قسمها ابتدائي بنص الحديث تستحقه بلا قرعة وشرط القرعة تساوي جهات الاستحقاق وهذه لها البداءة كما لو تزوجها ومكث أياماً ثم سافر بها قبل إنقضاء حق العقد فلم يحتج إلى القرعة فكذا في مسألتنا ويتداخل حق العقد مع حق السفر فإن قدم من سفره قبل مضي مدة ينقضي بها حق العقد أتمه في الحضر.
31 - للمرآة أن تهب ليلتها لإحدى ضراتها فإن لم يقبل الزوج فإنه يقسم للواهبة ويرد هبتها وإن قبل فلا يجوز للزوج جعلها لغير الموهوبة وإن وهبتها للزوج فله جعلها لمن شاء منهن، وفي حال هبتها لضرتها إذا كانت ليلة الواهبة تلي ليلة الموهوبة قسم لها ليلتين متواليتين، وإن كانت لا تليها، فهل له نقلها إلى مجاورتها؟ الصحيح عدم الجواز إلا بإذن البواقي، لأن في ذلك تأخير حق غيرها، وتغيير لليلتها بغير رضاها، ( وهو اختيار صاحب المغني ) وللزوج إن وهبته إحدى نسائه ليلتها له أن يجعلها مرة لأحدى نسائه ومرة لأخرى أو يجعله مشاعاً بينهن ومعنى مشاعاً بينهن أن وجود الواهبة كعدمها فيبقى القسم للأخريات بينهن.
وأصل المسألة ما ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها ( أن سودة بنت زمعة وهبت يومها لعائشة وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقسم لعائشة بيومها ويوم سودة ) .
وللواهبة أن ترجع متى شاءت في المستقبل دون الماضي لأن الأيام تتجدد فهي هبة في شيئ لم يقبض فحقها يتجدد أما الماضي فقد قبض ولا رجعة لها فيه .
وقولنا ( للواهبة أن ترجع متى شاءت ) هذا ما لم يكن صلحاً بينهما كما لو كره الزوج المقام معها أو عجز عن حقوقها أو بعض حقوقها فخيرها بين الطلاق وبين المقام معه على أن لاحق لها في القسم والوطء والنفقة أو في بعض ذلك بحسب ما يتفقان عليه، فإن رضيت بذلك لزم وليس لها المطالبة بعد الرضى وليس لها الرجوع بعد ذلك فإن هذا الصلح جرى مجرى المعاوضة وهذا هو الصواب الذي لا يسوغ غيره .أ.هـ.انظر زاد المعاد(5/153).
32 -لووهبت نوبتها لامرأة معينة وأذن الزوج وأبت الموهوبة فيقسم للموهوبة ولا يشترط رضاها .
33 - إذا شق القسم على الزوج المريض فإنه يستأذن زوجاته في المكث عند إحداهن كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم فإذا أذنَّ له مكث عند إحداهن فإذا أبين إلا أن يدور أو تشاححن ولم يكن به قدرة على الدوران فإنه يقرع فأبتهن خرج سهمها مكث عندها وعلم مما تقدم أنه إذا كان مرضه لا يمنعه من القسم فيجب عليه القسم.
34 - القسم في أثناء السفر في النزول والمسايرة في الطريق.
35 - إذا رغبت المريضة والنفساء ونحوهن في تأخير قسمهن ثم القضاء بعد متوالياً لم يجز إلا برضى الزوج وإذن سائر نسائه .
36 - من كان له امرأتان في بلدين فعليه العدل بينهما لأنه اختار المباعدة بينهما فلا يسقط حقهما، فإما أن يمضي إلى الغائبة في أيامها وإما أن يقدمها إليه فإن امتنعت من القدوم مع الإمكان فهي ناشز لا حق لها في القسم وإن أحب أن يقسم بينهما في بلديهما ولم يمكن القسم ليلة ليلة جعل القسم على حسب ما يمكن كشهر أو أكثر أو أقل .
37 - يجوز للمرآة أن تبذل قسمها لزوجها بمال فتعاوضه على ليلتها على القول الراجح ، وأما بذلها مالاً لزوجها ليزيدها في القسم على حساب ضراتها فحرام لأنه رشوة.
38 - من أتاها زوجها ليبيت عندها فأغلقت بابها دونها ومنعته من الاستمتاع أو قالت لا تدخل علي فهي ناشز لا قسم لها.
39 - تجزي أضحية واحدة عن الرجل ونسائه ، ولهذا ضحى النبي صلى الله عليه وسلم بأضحية واحدة عنه وعن أهل بيته وأما الهدايا في الحج فعلى كل واحدة هدي إذا تمتعت أو قرنت .(/4)
40 - لا يجوز أن تؤخذ بويضة المرأة ثم تلقح بماء زوجها ثم توضع في رحم ضرتها .
41 - لو مات الزوج فلزوجاته أن يغسلنه فان وضعت إحداهن وهو على السرير فلا يجوز لها أن تغسله لخروجها من العدة وحلها للأزواج .
42-إذا مات المعدد يحد جميع نسائه وهذا لإخفاء به لكن عند بعض النساء اعتقاد فاسد أنه إذا ولدت إحداهن بعد موته ولدا فإنها ترفع الإحداد عن نفسها وعن سائر ضراتها وهذا باطل فالبواقي على أحد ادهن حتى يخرجن من العدة على حسب حالهن.
43- إذا حبس الزوج فهو باق على نصيبه منهن وهن كذلك فإذا أمكن خروجه إليهن أوترددهن إليه فذاك ولو تباعد ما بين ذلك فهو على ترتيب النوبات
***
وختاما أقول والعاقل من الأزواج صاحب الدين يستطيع صيانة دينه ونفسه وعرضه دون كثير عناء والأحمق منهم لا يزيده ما ذكرت إلا بلاء وفتنة وحيرة والموفق من وفقه الله والمهتدي من هداه الله والصلاة والسلام على رسول الله .(/5)
من أحكام الجهاد والإعداد
الشيخ الأمين الحاج محمد أحمد*
الحمد لله الذي جعل الدين قائماً، والجهادَ ـ ذروة سنام الإسلام ـ ماضياً إلى يوم القيامة، لا يبطله عدلُ عادلٍ ولا جوْرُ جائرٍ، وجعل الطائفةَ المنصورةَ باقيةً، لا يضرُّها من خذلها ولا من خالفها، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك، وجعلَ الأمّةَ الإسلاميّة وسطاً بين الأمم، وأهلَ السنة نقاوةَ كل الفرق، والأمرَ بالمعروف والنهيَ عن المنكر بعد الإيمان بالله عزّ وجل دليل خيريّةِ هذه الأمّة، والعلماءَ ورثةَ الأنبياء.
وصلى الله وسلم وبارك على رسوله القائل: (يُوشِك أنْ تَدَاعى عَليكُم الأُمَمُ من كلِّ أفق كما تَدَاعى الأَكَلَة إلى قصْعَتِها، قيل: يا رسول الله فمن قِلّةٍ يومئذٍ؟ قال: لا، ولكنّكم غثاء كغثاء السيل) [رواه أحمد وأبو داود]، وبعد..
فقد أمر الله بجهاد الكفّار وإخوانهم المنافقين، وفَرَضَه على المؤمنين، فقال عزّ وجلّ مخاطباً الأمّة في شخص رسولها صلى الله عليه وسلم: ((يا أيّها النّبي جاهدِ الكفّارَ والمنافقين واغلظْ عليهم ومأواهم جَهنّمُ وبئس المصير)) [سورة التوبة: 73].
ودلّنا على أنه مِنْ أربحِ التجارات، وأعظمها أجراً، وأكثرها ربحاً ونفعاً، في هذه الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد، فقال: ((يا أيّها الذين آمنوا هل أدلُّكُم على تجارةٍ تنجيكم مِنْ عذاب أليم. تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إنْ كنتم تعلمون. يغفرْ لكم ذنوبَكم ويدْخِلكم جنّات تجري من تحتها الأنهار ومساكنَ طيبةً في جنّات عدنٍ ذلك الفوز العظيم. وأخرى تحبّونها نصرٌ من الله وفتحٌ قريبٌ وبشِّرِ المؤمنين)) [سورة الصف: 10-13].
ومِنْ رحمته سبحانه بهذه الأمّة أنّه لم يقْصُر الجهاد على الجهاد بالنفس، بل جعله بالنفس، والمال، والبنان، واليد، والقلب، واللسان، كما هو بالسِّنان، وليس وراءَ ذلك مثقال حبّة من خردلٍ من إيمان.
قال العلاّمة ابن القيم رحمه الله: "والتحقيق أنّ جنسَ الجهاد فرضُ عين، إمّا بالقلب وإمّا باللسان، وإمّا بالمال، وإمّا باليد. فعلى كلّ مسلم أنْ يجاهد بنوعٍ مِنْ هذه الأنواع" [زاد المعاد لابن القيم، تحقيق شعيب وعبد القادر الأرناؤوط: 3/72] .
والجهاد أنواعٌ هي:
1- جهاد الطلب.
2- وجهاد الدفاع.
3- وجهاد النفس.
أولاً: جهاد الطلب:
هو أَنْ يُطلب من الكفار والمشركين الدخول في الإسلام، فإن هم استجابوا لذلك فبها ونَعِمَت، وإلاّ فُرضَت الجزية على أهل الكتاب وقُوتِل المشركون والكتابيون إذا مَنعوا الجزية أو من حال دون دخولهم في الإسلام، ومن أهل العلم من أجاز أخذ الجزية من المشركين - مالك وغيره - لقوله صلى الله عليه وسلم عن المجوس: (سُنّوا بهم سنّة أهل الكتاب) [رواه مالك في الموطأ، كتاب الزكاة، باب جزية أهل الكتاب والمجوس]، وهذا النوع هو أُسُّ الجهاد وأصله، وهو رهبانية الإسلام، وهو الذي فرضه الله وكتبه على المسلمين، قال تعالى: ((كُتِب عليكم القتال وهو كره لكم)) [سورة التوبة: 36]، وقال: ((انفروا خفافاً وثقالاً وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله)) [سورة التوبة: 41].
وهذا الجهاد هو الذي مارسه الرسول صلى الله عليه وسلم في جزيرة العرب إلى أَنْ دانَ له أهلُها، وخاضَه خلفاؤه الراشدون، والسلف الصالحون حتى فتحوا كلَّ البلاد، وأنقذوا العباد، ونشروا العدل والرحمة، وقَضَوا على دول الكفر والشرك والعناد، ولله درّ القائد الملهم والأمير المفخّم عقبة بن نافع الفِهرِي القرشي، فاتح بلاد المغرب وشمال أفريقيّة، عندما اصطدم بالمحيط الأطلسي قال، كما حكى ابن الأثير عنه: "يا ربّ لولا هذا البحر لمضيت في البلاد مجاهداً في سبيلك. ثم قال: اللهم اشهد أَني قد بلغتُ الجهود، ولولا هذا البحر لمضيت في البلاد أقاتل من كفر بالله حتى لا يعبد أحدٌ من دونك. ثم وقف ساعة ثم قال لأصحابه: ارفعوا أيديكم ففعلوا، فقال، اللهم إني لم أَخرج بطراً ولا أشراً، وإنك لتعلم إنمّا نطلب السبب الذي طلبه عبدك ذو القرنين، وهو أن تُعْبَد ولا يُشرَك بك شيء. اللهم إنّا معانِدون لدين الكفر، ومدافعون عن دين الإسلام فكن لنا ولا تكن علينا يا ذا الجلال والإكرام. ثم انصرف راجعاً" [الكامل لابن الأثير: 3/308-309].
حكمه: فرض كفاية.
وهذا هو النوع الذي يجب أَنْ تتوفر فيه الشروط الآتية:
1- لا يكون إلاّ تحت راية أَمير ذي شوكة، براً كان أو فاجراً.
2- أن تسبقه دعوة إلى الإسلام بالحسنى.
3- أَنْ يُعلَن.
4- لا بد فيه من رضى الوالدين إن كانا حيين أو أحدهما.
5- وهو المنهي فيه عن قتل النساء والأطفال والشيوخ إلاّ أن يكونوا مقاتلين.
ثانياً: جهاد الدفاع:
أما جهاد الدفاع فهو الجهاد الذي يدفع به المسلمون عن دينهم وديارهم ولا يشترط فيه ما اشترط في جهاد الطلب، وإنما يجب على المسلمين أنْ يدافعوا عن دينهم وديارهم وأموالهم وذراريهم وإخوانهم بما يرد كيد الكافرين والظالمين عنهم.(/1)
حكمه: الوجوب على من استولى الكفار والمشركون على ديارهم، فإن لم يتمكنوا فيجب على من يليهم من المسلمين وهكذا حتى يستوعب كل المسلمين.
قال تعالى: ((أُذِنَ للذين يقاتلون بأنهم ظُلِموا وإِنَّ الله على نصرهم لقدير)) [سورة الحج: 39]، وقال: ((وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم)) [سورة البقرة: 190]، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم حاثاً وحاضاً على الدفاع عن الدين والعرض والنفس والمال: (ومن قُتِل دون عرضه فهو شهيد، ومن قُتِل دون ماله فهو شهيد...) [متفق عليه].
ولعلّ ما يمارسُهُ بعضُ المسلمين ـ المستضعفين المضطهدين في دينهم، المُشَرَّدين من أوطانهم، المنبوذين من إِخوانهم، ضدّ من بدأهم بالظلم والعدوان ومارس معهم كل أنواع الضّغط والكبت والإرهاب، وحَرَّض عليهم من يسومهم سوء العذاب، من عمليات فدائيّة وردّ على بعض ما يُواجَهون به ـ لعلّه يكون من هذا القبيل، إذا صلحت النيّة، وصدُقت الطويّة، سيما وأنّ جل الكفار اليوم محاربون للإسلام، ومنابذون لجنده العاملين، ودعاته المخلصين، مضيّقون على من يعمل لنُصْرة هذا الدين بأي وسيلة من الوسائل، وتحت رايات عدّة، ومجالاتٍ شتّى، وشعاراتٍ مختلفة منها ما هو معلنٌ ومنها ما هو مخفيٌ.
لقد أضحَت محاربة الكفّار للإسلام والمسلمين سافرةً واضحةً على الرغم من تسميتهم للأمور بغير أسمائها من باب التمويه على السُذّج والمغفّلين تحت ستار الأصولية حيناً والإرهاب حيناً، وإقامة العدل والحريّة بين الأنام كما أُعلنَ الآن لمشروعيّة هذه الحرب الصليبية الكبرى التي تَدور رحاها على شعبٍ فقيرٍ أعزل، وفئةٍ مستضعفة، وجماعةٍ مفترى عليها، من غير دليل ولا برهان، ولا حجّة ولا بيان، بقيادة قوى الظلم والطغيان والمستكبرين من الإنجليز والأمريكان ومن ساندهم وشايعهم من ملل الكفر والمنتسبين إلى الإسلام.
وما جرى ويجري في أرض المسرى فلسطين ليس ببعيد عنا، حيث تمارس إِسرائيلُ، ذلك المولود غير الشرعي الذي أوجده الإنجليز وتولّى رعايته والإنفاق عليه الأمريكان، أبشع أنواع الظلم والإرهاب والطغيان حيث حَرَمَت المسلمين من أراضيهم وديارهم وأوطانهم، وشَرَّدت الكثير منهم إلى بقاع الدنيا ومن بَقِيَ منهم يعيش في ذلّ وهوانٍ وتضييقٍ وتخريبٍ وتعذيبٍ وتقتيلٍ.
ولعلّ قيام هؤلاء وأولئك من المستضعفين من المسلمين - المواجَهين بشرِّ أنواع التشريد والتضييق والتعذيب بالانتقام من الكفّار - لها في قصّة أبي بصير رضي الله عنه سابقة ومستند، خاصّة وقد خذلهم قومُهم، وأسلموهم إلى عدوهم، ورفعوا أيديهم عنهم، ومنعوا مساعداتهم منهم الحسّيّة والمعنويّة، بل صالحوا عدوّهم وَطَبَّعوا علاقاتهم معه، وفتحوا أَسواقهم لبضائعهم ومنتجاتهم من غير خوف ولا وجل ولا حياء ولا خجل من الله ولا من الناس، فأصبحوا متنكّبين قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا لم تستحِ فاصنع ما شئتَ) [رواه البخاري]، ومخالفين قوله صلى الله عليه وسلم: (المسلم أخو المسلم لا يسلمه ولا يخذله) [متفق عليه] ومُبَشَّرين بقوله صلى الله عليه وسلم: (من أُذلَّ عندَه مؤمنٌ فلم ينصره وهو قادر على أن ينصُره أذلّه الله عزّ وجل على رؤوس الخلائق يوم القيامة) [رواه أحمد].
فالحذر الحذر أخي المسلم في كل مكان من خذلان إخوانك المسلمين في أفغانستان وفي فلسطين وفي كشمير وفي الشيشان، وفي غيرها من البلدان، لاسيما أولئك الذين تَربطهم بك عَلائق بجانب الدين، فهلاّ حرَّكَتْكَ حميّتك حين ضعُفَ إيمانك، وذهبت غيرتك، كما كان يفعل الجاهليون الأوائل!
فكيف يهنأ لك عيشٌ، أم كيف تطمئنّ لك نفس أيها الأفغاني والباكستاني وأنت ترى وتشاهد أمريكا وبريطانيا ومن والاهما من قوى الاستكبار وهما تعيثان في الأرض وتقصفان تلك الديار الإسلاميّة، وتقتلان الشيوخ الرّكّع، والأطفال الرّضّع، والبهائم الرّتّع، ولا تحرك ساكناً كأنّ الأمر لا يعنيك من قريب ولا من بعيد؟!
استمع ـ أخي الكريم! ـ إلى ما قاله سعيد بن عامر رضي الله عنه وهو يفنِّد المآخذ التي رفعها ضدَّه أهل حمص حين كان عامِلَها من قِبَل عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين قال لهم عمر: (ما تشكون منه؟ قالوا: يغنط الغنطة- وهي شدّة الكرب والجهد - بين الأيّام. قال: - أي عمر - ما يقولون؟ قال: شَهِدْتُ مصرع خُبيب ابن عَدي الأنصاري بمكّة وقد بَضعت قريش لحمه ثم حملوه على جذعِ فقالوا: أتحبّ أن محمداً مكانك؟ فقال: والله ما أُحبّ أَني في أهلي وولدي، وأنّ محمداً شِيك بشوكة. ثم نادى: يا محمد. فما ذكرت ذلك اليوم وتَرْكي نُصرَته في تلك الحال وأنا مشرك لا أومن بالله العظيم إلاّ ظننت أنّ الله عزّ وجلّ لا يغفر لي بذلك الذنب أبداً فتصيبني تلك الغنطة. فقال عمر: الحمد لله الذي لم يُضلّ فِراستي) [صفة الصفوة لابن الجوزي: 1/666].
إذا كان هذا الوعيد السابق فيمن خذل أخاه المسلم فكيف بمن أعان الكفار على المسلمين، ودلّهم على عوراتهم، وقاتل في صفّ الكفار واحتمى بحماهم؟(/2)
لقد أجمع أهل العلم على كفر صاحب هذا الصنيع، ويكفي أن نأتي بفتوى إمامين من أئمة المسلمين هما شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حيث قال في اختياراته: "من جمز إلى معسكر التتار ولحق بهم ارتدّ" [الدرر الكامنة: 8/338]، والشيخ عبد العزيز بن باز طيّب الله ثراه حيث قال: "موالاة الكفار التي يكفر بها من والاهم هي محبّتهم ونصرتهم على المسلمين" [الفتوى رقم 6901 للجنة الدائمة برئاسته رحمه الله، الفتاوى النجدية: 1/443].
فاحذر ـ أخي المسلم! ـ أن تبيع آخرتك بدنياك، أو بدنيا غيرك فتكون من الخاسرين، ولله در القائل:
وقصَّة أبي بصير رضي الله عنه كما حكاها البخاري في صحيحه وأهل السنن وابن عبد البرّ في الاستيعاب واللفظ له عن ابن شهاب قال: "رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من عمرة القضية عام الحديبية إلى المدينة، فجاءه أبو بصير - رجل من قريش - وهو مسلم، فأرسلت قريش في طلبه رجلين، فقالا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: العهد الذي جعلتَ لنا أَنْ تردَّ إلينا كلَّ من جاءك مسلماً. فدفعه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرجلين، فخرجا حتى بلغا ذا الحليفة، فنزلوا يأكلون من تمرٍ لهم، فقال أبو بصير لأحد الرجلين: والله إني لأرى سيفك هذا جيّداً يا فلان، فاستلّه الآخر، فقال: أجل والله إنّه لجيّد، لقد جرّبتُ به ثم جرّبت. فقال له أبو بصير: أَرني أنظر إليه، فأمكنه منه فضربه به حتى بَرَد، وفَرَّ الآخر حتى أتى المدينة، فدخل المسجد يعدو، فقال النبي صلى الله عليه وسلم حين رآه: (لقد رأى هذا ذُعراًَ)، فلمّا انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: قُتل واللهِ صاحبي، وإني لمقتول. فجاء أبو بصير، فقال: يا رسول الله، قَدْ والله وَفَتْ ذِمّتك، وقد رددتني إليهم، فأنجاني الله منهم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ويلُ أُمِّهِ مِسْعَر حرب ـ أي موقدها ـ لو كان معه أحد) فلمّا سمع ذلك علم أنّه سيرده إليهم، فخرج حتى أتي سيف البحر قال: وانفلت منهم أبو جندل بن سهيل، فلحق بأبي بصير، وجعل لا يخرج رجل من قريش قد أسلم إلا لحق بأبي بصير حتى اجتمعت منهم عصابة. قال: فوالله ما يسمعون بعِير خرجت لقريش إلا اعترضوا لهم فقتلوهم، وأخذوا أموالهم، فأرسلت قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم تناشده الله والرحمَ، إلا أَرسَل إليهم فمن أتاك منهم فهو آمن". قال ابن عبد البر: وذكر موسى بن عقبة هذا الخبر عن أبي بصير بأَتمِّ ألفاظ وأكمل سياق. قال: "وكان أبو بصير يصلي لأصحابه، وكان يكثر من قول الله العلي الأكبر من ينصر الله فسوف ينصره. فلما قدم عليهم أبو جندل كان هو يؤمهم. واجتمع إلى أبي جندل ناس مِنْ بني غفار وأَسلم وجُهينة وطوائف مِنَ العرب، حتى بلغوا ثلاثمائة وهم مسلمون، فأقاموا مع أبي جندل وأبي بصير لا يمر بهم عيرٌ لقريش إلاّ أخذوها وقتلوا أصحابها" [الاستيعاب في معرفة الأصحاب لابن عبد البر: 4/176-177].
يستفاد من هذه القصّة ومن إقرار الرسول صلى الله عليه وسلم له ما يأتي:
1- أنّه يجوز لمنْ ظُلِمَ أن يَنتقم مِنْ ظالمه الكافر بأيّ وسيلةٍ تيسّرت له، سيما لو كان الكافر محارباً، إن شاء.
2- أنّ ما يفعله هذا المظلوم المنتقم المُتَعدَّى عليه لا تلحق جريرته بالمسلمين الآخرين، وهم غير مسؤولين ولا مؤاخذين بما يفعل لا شرعاً ولا قانوناً.
3- لا ينبغي أنْ يؤخذ بريء بجريرة غيره.
4- أنّ الخدعة في الحرب جائزة سواء كانت دفاعية أو لطلب الكفار الدخول في الإسلام.
5- أنّ ما كان يمارسه أبو بصير وأبو جندل ومَن كان معهم مِن المسلمين مِن اعتراض قوافل الكفار والإغارة عليها شبيه بما يمارسه بعض المستضعفين المظلومين انتقاماً لأنفسهم من الكفار المحاربين لهم اليوم.
6- أنّ ما كان يمارسه أبو بصير وأبو جندل ومَن معهما مِن سلطات شبيه بما تمارسه أو يمكن أن تمارسه أي دولة من الدويلات المسلمة المُعتَدى عليها أو أي جماعة مِن الجماعات.
7- أنّ المدافعة بين الكفرِ والإيمان، والشرِّ والخير مطلوبة شرعاً لمن قدر عليها ((ولولا دفع الله النّاس بعضهم ببعض لهُدّمَت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً ولينصرنّ الله من ينصره إن الله لقوي عزيز)) [سورة الحج: 40].
8- أنّ عمل المنتقم لا ينضبط ولهذا خُتم قوله تعالى ((ذلك ومَن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بُغي عليه لينصرنّه الله)) بقوله عزّ وجلّ ((إنّ الله عفوٌ غفور)) [سورة الحج: 60].
9- في مثل هذه الظروف لا بدّ من الموازنة بين المفاسد والمصالح، فدرء المفاسد مقدّم على جلب المنافع، وهذه مِن الأمور التقديرية التي يختلف فيها البشر.(/3)
10- أن ما قام به أبو بصير وأبو جندل ومن معهما من المسلمين لا يساوي شيئاً مما لقيه المسلمون الأوائل من كفار قريش، فقد أُخرجوا وأُوذوا وقُتِلوا وتُعُدِّيَ عليهم من غير سبب إلاّ أن قالوا ربنا الله، كذلك الأمر بالنسبة لما يمارسه بعض المستضعفين من المسلمين اليوم من الممارسات الانتقامية فإنها لا تساوي مِعشار ما فعله الكفار ضد الأبرياء والعزّل من المسلمين، فالجزاء من جنس العمل، وكما تدين تدان.
العمليات الفدائية الاستشهادية:
العمليات الفدائية التي يقوم بها بعض المستضعفين من المسلمين انتقاماً من الكافرين، وكرد فعلٍ لما لحقهم من الإرهاب والتي دُفِعوا إليها دفعاً، وأُكرِهوا على ارتكابها إكراهاً.
اختلف العلماء في هذا العصر في جوازها وعدم جوازها، فمنهم من أجازها ومنهم من منع منها وحرّمها، والذي يترجّح لدي فيها والله أعلم أنها لا تجوز ولا تحلّ إلاّ في حال الحرب دفاعيةً كانت أم هجومية - كما هو الحال اليوم في فلسطين وأفغانستان والشيشان وكشمير، أمّا في غير الحرب والجهاد فلا تحلّ أبداً، فقد حرّم الله قتل النفس إلاّ بالحق ولو كانت نفس الإنسان لأنها ملك لله عزّ وجلّ -، إذا صدرت هذه العمليات من مسلم يبتغي بذلك وجه الله ولإعلاء كلمته.
والأدلة على ذلك كثيرة، نذكر منها ما يسره الله، فنقول:
1- أوضَح الأدلة على جواز تلك العمليات الفدائية لاقتحام صفوف العدو، ولقذفِ الرعب في قلوبهم؛ ما فعله أبو دجانة رضي الله عنه في حرب عدوّ الله مسيلمة الكذّاب لعنه الله، حيث قال أبو دجانة لبعض أصحابه "ألقوني على التِرَسة حتى أشغلهم"، والترسة جمع ترس وهو ما ترّست به بنو حنيفة خلف أبواب الحديقة ليحولوا دون فتحها ويمنعوا المسلمين من دخولها.
قال الكلاعي في حروب الرِّدَّة: "فكانوا قد أغلقوا الحديقة، فأخذوه، فألقوه على التِرَسة حتى وقع في الحديقة وهو يقول: "لا ينجيكم منّا الفرار!" فضاربهم حتى فتحها، ودخلنا عليه مقتولاً رحمه الله! وقد رُويَ أنّ البراء بن مالك هو المُرْمَى به في الحديقة، والأوّل أثبت" [حروب الردة للكلاعي: 137].
2- ومنها ما قاله أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه في فتح القسطنطينيّة لمن اعترض على مَن ألقى بنفسه في صفّ الروم. خَرَّجَ أبو داود والترمذي من طريق أَسلَم أبي عمران قال: "غزونا مِن المدينة نريد القسطنطينيّة وعلى الجماعة عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، والروم ملصقو ظهورهم بحائط المدينة، فحَمَل رجل على العدو فقال الناس: مَهْ، مَهْ، لا إله إلاّ الله، يُلقِي بيديه إلى التهلكة. قال أبو أيوب: إنماّ نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار، لما نصر الله نبيَّه، وأظهر الإسلام، قلنا: هَلُمَّ نُقيم في أموالنا ونُصلحها ونَدَع الجهاد، قال أبو عمران: فلم يزل أبو أيوب يجاهد في سبيل الله حتى دُفِن بالقسطنطينيّة" وإسناده صحيح [أبو داود: 2512، الترمذي: 2976].
قُلتُ: فما أكثرَ الذين ألقوا بأنفسهم إلى التهلكة اليومَ بسبب حبّ الدنيا والانغماس فيها؟!
3- ومِن الأدلّة على جواز ذلك أيضاً، ما فعله ذلكم الغلام مع الملك الغَشُوم كما في قصّة أصحاب الأخدود التي قصّها الله علينا في سورة البروج، حيث تسبب في قتل نفسه ودلّ الملك على كيفيّة قتله بعد أنْ عجز الملك عن ذلك ومارس كل أسباب القتل ولكنها لم تُجْدِ. فأمره الغلام أنْ يأخذ سهماً مِن كنانته ويضربه في صدغه ويقول عند الضرب: بسم الله ربّ الغلام. فما كان إلا أنْ حدث ما كان يخشاه الملك ويريده الغلام، حيث قال جميع الحضور والشهود: آمنّا برب الغُلام [القصة في صحيح مسلم من حديث صهيب رضي الله عنه].
فقد تسبب هذا الغلام في قتل نفسه، بل كأنّه باشر ذلك وجاد بروحه بُغْيةَ أنْ يهدي الله بذلك غيره تصديقاً لقوله عزّ وجلّ ((ومن أحياها فكأنّما أحيا الناس جميعاً)) [سورة المائدة: 32]، فهو قد قتل نفسه ولكنّه أحيا غيره وأحيا نفسه كذلك مِن غير أنْ يشعر به أحد ((ولا تحسبنّ الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يُرزَقون)) [سورة آل عمران: 169].
وقد نال بهذا العمل خيري الدنيا والآخرة.
4- ومن الأدلّة على جواز ذلك أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة يحبّهم الله)، وذكر منهم: (الرجل يلقى العدو في فئة فينصب لهم نحره حتى يُقتل أو يفتح لأصحابه) [رواه أحمد في المسند] .
5- ومن الأدلّة أيضاً حمْل سلمة بن الأكوع، والأخرم الأسدي، وأبي قتادة وحدهم رضي الله عنهم على عُيينة بن حصن ومَن معه وقد أثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم وأقرّهم على ذلك بقوله (خير رجالتنا سلمة) [متفق عليه].
هذا بجانب أدلّة أخرى وبجانب أنّ الضرورات تبيح المحظورات فما يُباح للمستضعف والمظلوم المتعدى عليه لا يُباح لغيره.(/4)
هذا ما ظهر لنا والعلمُ عندَ مَن لا تخفى عليه خافية، وأهمّ مِن هذا وذاك دراسة الأسباب التي أدّت إلى ذلك بشجاعة وصراحة، بدَلاً مِن التعامل بردود الأفعال، والصّلف والكبر الذي لا يزيد الأمر إلا تعقيداً، ويُوَسّع دائرته، ويزيد من أنصار مقاومة الظّلم والعدوان الذي يمارسه الكفّار ومَن والاهم ضد المسلمين المستضعفين العُزّّل، والذي يُسمّونه بغير اسمه إرهاباً وهو في الحقيقة انتقامٌ لما أصاب إخوانهم المسلمين في بقاع العالم المختلفة.
فمن المغالطات العجيبة الغريبة في هذا العصر تسمية الأشياء بغير أسمائها تمويهاً وخداعاً، والكيل بمكاييل عِدّة حسب ما يراه راعي الكفرِ والكافرين، أمريكا ومَن والاها، فهي لا تُرِي العالمَ إلاّ ما ترى وما تهديهم بذلك إلاّ سبيل الرشاد كما تَزْعُم، كما قال الطاغية فرعون بعد أن سام شعبه سوء العذاب: ((أليس لي ملك مصر)) [سورة الزخرف: 51] إذن ((ما أريكم إلاّ ما أرى وما أهديكم إلاّ سبيل الرشاد)) [سورة غافر: 29].
فأسلحة الدمار الشامل حلال على أمريكا وربيبتها إسرائيل امتلاكُها وحَرام على مَن سواهم ذلك.
وضرب العُزّل الأبرياء مِن الشيوخ والأطفال والنساء حلال على أمريكا أنْ تقذفهم بصواريخها، وترميهم بآلاتها الحربية،وتجرّب فيهم أسلحتها، وحرام أبلغ الحُرمة أنْ يُدمَّر مبنى التجارة العالمية في واشنطن، وحلال على إسرائيل أنْ تستولي على الأرض وتقتُل وتُشرّد، وحرام على مَن يقاومها لينال جزءاً مِن حقّه المسلوب، وهكذا أصبح المعروف منكراً والمنكر معروفاً، والسُنّة بدعةً والبدعة سُنّةً، والجهاد والمقاومة إرهاباً، والإرهاب عندما تمارسه أمريكا وذيلها بريطانيا ومَن شاكلهما شرعيّة دوليّة وعملاً صالحاً متقبلاً، ومقاومة روسيا عندما غزت باكستان جهاداً لأنه كان يخدم مصالح أمريكا وبِرضىً منها، ولذلك وقف جلُّ حكّام المسلمين معهم وساندوهم، أما غزو أمريكا لأفغانستان وحربها لها فهو بغرض محاربة الإرهاب والقضاء عليه فهو عمل مباركٌ من قِبَل حكّام المسلمين.
وأيضاً مما يجب الاهتمام به والتيقظ له الآثار المترتّبة والمتوقعة مِن هذه الفتنة، فكما كان لفتنة حرب الخليج آثارها وسلبياتها سيكون كذلك لهذه الحرب التي أشعلتها أمريكا ومَن والاها والتي تولّت كِبْرها، آثار خطيرة، وتَبِعات جسيمة، نسأل الله أنْ يكفي المسلمين شرّها، وأن يبوء الكفّار بوزرها.
ثالثاً: جهاد النفس:
ما هي الأسباب التي أدّت أو قد تؤدي إلى مثل هذه العمليات الفدائية الانتقامية التي يقوم بها بعض المستضعفين؟
مما لا شكّ فيه أن لهذه الأعمال الانتقامية - التي اتخذتها أمريكا ذريعةً وسبباً ليكون لها موطن قدم في وسط آسيا لتُحكِم سيطرتها وهيمنتها وتؤدي دور الشرطي في كل العالم أسباباً كثيرة، وعوامل عديدة، منها ما يتعلّق برُعاة المسلمين، ومنها ما يخُصّ الرعيّة؛ متمثلةً في المستشارين، والعلماء، وقادة الحركات الإسلامية، وفي العامّة، وسأُوْجِزُ القول في مسؤولية كلٍّ مِن هؤلاء وتقصيره حتى يتسنّى لنا إدراك ما يمكنُ إدراكه، ومعالجة ما يمكنُ معالجته، ومواجهة ما يمكنُ مواجهته، بصدق وإخلاصٍ وشجاعةٍ وتجرّدٍ، ولا ينبغي لنا أنْ يكون مثلنا مثل النعامة عندما تخفي رأسها في التراب وتظنّ أنها قد تحصّنت مِن صائدها؛ فالمسؤولية جسيمة والعاقبة - والله - وخيمة، والرجوع إلى الحق فضيلة.
ولكل شريحة في المجتمع نصيبٌ فيما حدث وواجبٌ ينبغي أنْ تقوم به، وبذلك نجاهد أنفسنا ونربّيها ونقاوم شهواتنا ونعالج أخطاءنا ونصحح مسيرتنا، فقد جاء في الأثر عن بعض السلف وهو إسماعيل بن عُلَيّة رحمه الله وقد عادوا من جهاد الكفار أنه قال: "عدنا مِن الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر"، وأياًّ كان الجهاد الأكبر، جهاد النفس أم جهاد الكفار والمنافقين فهو أمرٌ ضروريٌ يُتَوصَّل به إلى الجهاد الواجب وهو جهاد الكفار والمنافقين.
فبمجاهدة النفس والشيطان والهوى نتغلّب على كثير مِن الصعاب، ونزيل كثيراً مِن الحواجز الوهمية وغير الوهمية.
حكمه: الوجوب، لأن ما لا يتم الواجب إلاّ به فهو واجب.
مسؤولية حكّام المسلمين:
مسؤولية حكام المسلمين عامة في الأحداث الانتقامية الأخيرة وغيرها التي يمارسها بعض المضطهدين والمستضعفين انتقاماً لأنفسهم ولإخوانهم المسلمين تتمثل في الآتي:
1- موالاة جلّ حكام المسلمين للكفار أكثر من موالاتهم لكثير من إخوانهم المسلمين.
2- عدم تطبيق جلّهم لشرع الله، بل استبدلوا به القوانين الوضعيّة الوضيعة.
3- التضييق على هذه الفئة من الشباب ومحاربتها تحت شعار: "محاربة الإرهاب" تنفيذاً لمخططات الكفار ومجاراةً لما يشيعه ويروّجه الإعلام الموجّه في كثير من ديار الإسلام بينما يغضون الطرف عن المتحلّلين من الخلق والدين تمشياً مع ما سنّه عبد الناصر عليه من الله ما يستحقه.
4- تفشي الفساد في كثير من بلاد الإسلام وحمايته بالقانون.(/5)
5- الأخذ بالظنة مما يولِّد الحقد وسوء الظن بين الراعي والرعية.
ورحم الله أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه عندما تهدّده العِلج المجوسي أبو لؤلؤة - لعنه الله - بقوله له: "لأصنَعَنَّ لك رحى يتحدث عنها من بالمشرق والمغرب"، فقال عمر: "لقد تهددني العبد"، وكان ذا فِرَاسةٍ لا تكاد تخطئ، ومع ذلك لم يراقبه ولم يعتقله، فقد خسر العالم بقتل عمر الكثير والكثير، ولكن عمر أرسى مبدأً هامّاً وهو عدم الأخذ بالظن.
6- خذلانهم لكثير من إخوانهم المسلمين المستضعفين في الأرض، مع مناشدتهم لهم، ولم يجدوا منهم في هذا العصر ما كان يجده المستغيثون والمستغيثات في الماضي من حكّام المسلمين، فعندما استغاثت امرأة مسلمة بالمعتصم العباسي قائلة: "وا معتصماه" وهي بعمّورية - أنقرة - وهو بسامرّاء أجابها: "لبيكِ لبيكِ يا أَمَة الله، سميعاً دعوتِ ومجيباً رجوتِ" ثم هبّ لنصرتها وكتب كتاباً لملك أنقرة جاء فيه: "إذا وصلك كتابي هذا ففكّ أسر المرأة العربية وإلاّ والذي بعث محمداً بالحق لأرسلنّ لك جيشاً أوله عندك وآخره عندي"، ومن فوره لبس لامة الحرب، وسرعان ما دوّى النفير وقُرعت الطبول وحُشدت الجموع واتجّه بها المعتصم لعمّورية ليفك أسر المرأة الهاشمية ويفتح تلك البلاد ويضمها إلى رقعة الدولة الإسلامية ويذلّ قادتها ويلقنهم درساً لا يُنسى.
وما فعله المعتصم العباسي، فعله الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل عندما استغاثت به امرأة وقالت:"واغوثاه يا حكم!! قد ضيّعتَنا وأسلمتَنا واشتغَلت عنّا حتى استأسد العدوّ علينا"، فاستعدّ للجهاد وخرج غازياً أرض الشرك وقاتل وجاهد حتى خلّص المرأة ومن معها. وقال لهم: "هل أغاثكم الحكم؟" قالوا: "شفى والله الصدور، ونكى في العدو، وما غفل عنا إذ بلغه أمرنا؛ فأغاثه الله وأعزّ نصره" [انظر البيان المغرب: 2/72-73].
ولله درّ من قال مقارناً بين حكام الماضي وحكام اليوم في هذا الشأن:
7- لم يسعَوا لإقامة جسور حوار بينهم وبين هؤلاء الشباب، بل جعلوا بينهم وبينهم حواجز منيعة، وعقباتٍ عديدة، ولم يقتدوا بسيرة السلف الصالح؛ علي وابن عباس وابن الزبير وعمر بن عبد العزيز، حيث ناظروا من هم قطعاً شرٌّ من هؤلاء - أعني الخوارج - وقد رجع منهم الكثير بسبب هذه المناظرات الصادقة.
8- تلقيبهم إياهم بلقب شيطاني: "الأفغان العرب"، على من ابتدعه أولاً ما يستحقّ مِن الله، وبسبب هذا اللقب نُبِذوا وحُرِموا من دخول دولهم وغيرها بعد أنْ كانوا مجاهدين ورسل سلام أضحوا شياطين لئاماً يخشاهم كل ذي سلطان.
9- خذلان هؤلاء الشباب المستضعفين بتسليمهم إلى حكوماتهم وإلى الكفار مِن قِبَل الدول التي لجأوا إليها واحتموا بها مع يقينهم التام بما سيلاقيه هؤلاء من القتل بعد التعذيب والتنكيل، وبخدع خبيثة، وحيل خسيسة، ومِن هؤلاء الشباب مَن اشتغل بطلب العلم وتحصيله، ولم تكن له جريرة إلا أنّه كان قد ذهب إلى أفغانستان. ألا يخشى هؤلاء الحكّام أنْ يخذلهم الله ويسلمهم إلى زبانيته يوم القيامة ويتخلّى عنهم كما تخلّوا عن إخوانهم المستضعفين الأبرياء من المسلمين؟ بم سيجيبون رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم وقد خالفوا صريح قوله: (المسلم أخو المسلم؛ لا يظلمه ولا يسلمه) [متفق عليه] أي إلى عدوّه، (المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يكذبه، ولا يحقره، بحسب امرئٍ من الشر أن يحقر أخاه المسلم) [رواه مسلم]. فليعدّوا لذلك اليوم جواباً، ولتلك الحال مقالاً فإنه آتٍ لا محالة.
10- تضييق دائرة الشورى أو انعدامها في بعض الأحيان.
11- تشاغلهم بخلافاتهم الداخلية مع إخوانهم وجيرانهم مِن الدول، وحرصهم على تمكين سلطانهم.
مسؤولية المستشارين:
لا تقلُّ مسؤولية كثير مِن المستشارين في هذه الأحداث عن مسؤولية حكامهم إنْ لم تزد عليها، ولله در أبي حازم عندما قال مخاطباً أحد مستشاري سليمان بن عبد الملك رحمه الله لأنه أراد أنْ يحول بينه وبين مناصحته: "اسكت، إنما أهلك فرعونُ هامان، وهامانُ فرعون" [رواه الدارمي].
فكثير من مستشاري الحكام اليوم لا يقلون خطراً وضرراً على الإسلام والمسلمين مِن هامان، وقارون، وبِشر المرّيسي، وابن أبي دؤاد ومَن شاكلهم مِن المستشارين الخَوَنة، والوزراء السَّفَلة، بل إنّ بعض مستشاري المسلمين اليوم أقسى قلوباً، وأحطّ نفوساً، وأقبح حالاً، وأسوأ مقالاً، وأشد عداوة للمسلمين من مستشاري الكفار، كما هو مشاهد. ولهذا قالت إحدى الخارجات وقد أُسِرت وجِيء بها إلى الحجاج فاستشار خاصّته ما يصنع بها، فقالوا له: عجِّل بقتلِها. فقالت للحجاج: لكنّ مستشاري صاحبك كانوا خيراً مِن مستشاريك. فقال لها: مَن صاحبي؟ فقالت له: فرعون: لأنه عندما استشارهم فيما يصنع بموسى وهارون عليهما السلام قالوا: ((أرجه وأخاه)) [سورة الأعراف: 111].(/6)
عليك أخي المستشار أن تقتدي وتتأسى بالمستشارين الأخيار، والوزراء الأطهار، أمثال أبي بكر، وعمر وابن عباس، ورجاء بن حيوة، والقاسم بن محمد، وعمر بن عبد العزيز، وإياك أن تقتدي بالمستشارين الضعفاء والوزراء الخبثاء.
وعليك أخي الحاكم وفقني الله وإياك لكل خير أن تجتهد في اختيار وزرائك ومستشاريك ليكونوا مِن المؤمنين الأخيار، ومِن المصطفين الأطهار. عليك بالعلماء وأهل القرآن فإن لم يكن فيهم خير فمَن سواهم أولى. كما قال عمر لأحد ولاته.
تذكر قول رسولك صلى الله عليه وسلم ونصيحته لك وهو الناصح الأمين، فقد صح عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أراد الله بالأمير خيراً جعل له وزيرَ صدقٍ، إن نسيَ ذكّره، وإن ذَكَرَ أعانَه. وإذا أراد به غير ذلك جعل له وزيرَ سوءٍ إن نَسيَ لم يُذَكِّره وإن ذَكَرَ لم يُعِنه) [رواه أبو داود].
ولتكن لك - أخي الحاكم الكريم! - القدوة الحسنة في أمثال المعتمد بن عبّاد رحمه الله، عندما استعان به ابن تاشفين - أحد الحكام المسلمين - وقد داهمَه الكفّار وقال له مستشاره الخائن: لا تُعنه فإنّه إنْ انتصر عليه هاجم مملكتك. فرد عليه في الحال: لأن أرعى الجمال لابن تاشفين أحبّ إلي مِن أنْ أرعى الخنازير للفونسو - أي لحاكم الأسبان النصراني - إذ لم يعبأ بما قال مستشاره.
فعليك ألا تطيع مستشاريك في كلّ ما يقولون، واعلم أنك مسؤول أمام الله عن كلّ ما تقدّم وتؤخّر، ولن ينفعك في ذلك اليوم طاعتك لمستشاريك حيث لم يستطيعوا أنْ يتحملوا عنك شيئاً أو يغنوا عنك فتيلاً، فمسؤولية المستشارين والوزراء تكمن في الآتي:
1- موافقة كثير منهم لهوى حكامهم.
2- مراعاتهم لحقوق الحاكم الخاصّة به كبقائه في الحكم أطول مدّة ممكنة أكثر مِن مراعاتهم لحقوق الله والرعيّة.
3- تزيين كثير منهم الباطل للحكام.
4- تضخيمهم لسيئات هؤلاء الشباب وإفشائهم لأخطائهم وستر حسناتهم.
5- بيع كثير منهم آخرتهم بدنياهم بله بدنيا غيرهم.
6- جل المستشارين اليوم من العلمانيين أعداء الملّة والدين، الذين لا يرقبون في مؤمن إلاًّ ولا ذمّة، وإن كان هذا راجعاً إلى من اختارهم واصطفاهم على غيرهم.
7- بقاء بعضهم على الرغم من عدم طاعة الحكّام لهم في كثير من الأمور الشرعيّة.
مسؤولية العلماء:
مسؤولية العلماء وتقصيرهم في هذا الجانب لا يقل خطراً من تقصير الحكّام والوزراء والمستشارين كذلك، لأنهم جزء من ولاة الأمر الذين أُمرنا بطاعة أمرهم والاقتداء بهم، فهم مع الحكّام كالملح، إذا فسد الملح فمن يصلحه؟
فمن المآخذ التي تؤخذ على أهل العلم الواجب تداركها نحو الراعي والرعيّة:
1- تأخير البيان عن وقت الحاجة: لأنّ في التأخير ضرراً ليس بعده ضرر، وإذْناً لأدعياء العلم أنْ يَتَغوّلوا عليه كما أخبر الصادق المصدوق: (اتخذ الناس رؤوساً جُهّالاً فأفتوْا بغير علم فضَلّوا وأَضَلّوا) [رواه البخاري].
2- عدم مُناصَحَة الحكّام.
3- منافقة كثير منهم للمجتمع.
4- إصدار بعضهم فتاوى تناسب هوى الحاكم.
5- عدم قيامهم بتبصير الرعيّة بأمور دينها بسبب تشاغلهم عن ذلك وعدم ثقة الرعيّة فيهم.
مسؤولية قادة الحركات الإسلامية:
يتلخص تقصير قادة الحركات الإسلامية في القيام بواجبهم في الآتي:
1- عدم اهتمام أكثرهم بالعلم الشرعي.
2- عدم تأصيل الحكم الشرعي لأيّ عمل قبل الدخول فيه.
3- عدم التنسيق مع بعضهم بعضاً.
4- سوء الظنّ في كلّ مَن خالفهم مِن الجماعات.
5- رفع بعضهم لشعار "مَن لم يكن معنا فهو ضدنا".
6- منافقتهم في بعض الأحيان للحكام وللمجتمع على حدٍ سواء، إذ إنّ منافقة المجتمع لا تقل خطراً وضرراً عن منافقة الحكام وإصدار الفتاوى التي توافق هواهم ليَتَكَثَّروا بهم وينالوا تأييدهم.
7- إلزامهم لأتباعهم بطاعتهم طاعةً عمياء.
8- تشاغلهم بالخلافات الفرعية مع غيرهم مِن الجماعات مع التغافل عن واجباتٍ كثيرةٍ مهمة.
مسؤولية العامة:
لو صَلُح العامّة لصلح الخاصة، فالناس على دين ملوكهم، ولله در أمير المؤمنين علي رضي الله عنه عندما قال له أحدهم: لِمَ خُرج عليك ولم يُخرَج على مَن كان قبلك؟ فقال علي: "لأنّ الرعيّة في عهد أبي بكر وعمر كانوا أمثالي، والرعيّة في عهدي كانوا أمثالك".
فكما أنّ للرعية حقوقاً فعليهم واجبات، نحو:
1- إسداء النصح للعامّة والخاصّة حسب الطاقة.
2- عدم منافقة الحكّام بالتأييد الكاذب.
3- مطالبة الحكّام بتطبيق الشّرع وإقامة العدل.
وعليهم مؤاخذات وفيهم تقصير، ويتثمل ذلك في:
1- حرصهم على مصالحهم الدنيوية أكثر مِن حرصهم على إصلاح دينهم.
2- انغماس كثير منهم في الفساد.
3- تقصيرهم في أداء الواجبات.
4- تقصيرهم في تحصيل العلم الشرعي وعدم التفَافِهم حول العلماء.
الإعداد للجهاد:(/7)
ما لا يتمّ الواجب إلا به فهو واجب، ولهذا قال تعالى: ((وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم)) [سورة الأنفال: 60]، والإعداد يكون بأمور حسية ومعنوية، والإعداد المعنوي أهم من الحسي بالنسبة للمسلم، وأهم وسائل الإعداد هي:
1- الإعداد النفسي لمجاهدة الكفار والمنافقين ومجالدتهم.
2- التوعية بأحكام الجهاد.
3- دراسة مغازي الرسول صلى الله عليه وسلم والملاحم التي دارت بين المسلمين والكفار.
4- التدريب على حمل السلاح واستعمالاته المختلفة.
5- التأكيد على أن النصر بيد الله، وأن الله ناصرٌ لمن نصره، فالمسلمون لا يقاتلون الكفار بالسلاح والعتاد، وإنما بصدق التوكل على الله وباجتناب كل ما يسخط الله.
6- الاجتهاد في صناعة الأسلحة والذخائر والمعدات الحربية المختلفة، فقد برهنت التجارب أن المسلمين أحدُّ ذكاءً وأكثر قدرة على ذلك من غيرهم إذا جدّوا في ذلك.
7- تبصير المسلمين بعقيدة الولاء والبراء.
8- محاربة اليأس والقنوط والروح الانهزامية التي سيطرت على جُلِّ المسلمين بسبب التفوق المادي للكفار.
والله أسأل التوفيق والسداد والعون والرشاد لنا ولجميع المسلمين.
اللهم إنك تعلم أنّا معاندون لدين الكفر، ومدافعون عن دين الإسلام، فكن لنا ولا تكن علينا، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم إنّا نسألك أنْ تنصر دينك وكتابك وسنّة نبيك وعبادك المؤمنين. اللهم مَن كان مِن هذه الأمة على غير الحق وهو يظنّ أنه من أهله اللهم فرده إلى الحق ليكون من أهله.
اللهم انصر المجاهدين والمستضعفين وأخز الكفر والكافرين. اللهم عليك بأمريكا وإسرائيل، ومن والاهما، ومن شايعهما وسالمهما. اللهم أرِنا فيهم قوَّتَك وجبروتك وانتقامك مِن القوم المجرمين. اللهم أرِنا فيهم يوماً كيوم عاد وثمود وفرعون. اللهم إنّك آتيت أمريكا زينة وأموالاً في الحياة الدنيا ليضلوا عن سبيلك ربّنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم؛ فإنّك ولي ذلك والقادر عليه. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم وعنّا معهم.
التعقيب على ورقة (من أحكام الجهاد والإعداد)
د. صالح التوم:
[1] التأكيد على معاني الصبر والاحتساب والتمكين والتعزية والتسلية ((ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين)) [سورة آل عمران: 139] إلى قوله تعالى: ((وكأيّن من نبي قاتل معه ربّيّون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين)) [سورة آل عمران: 146].
[2] الجهاد من أعظم الشعائر وأحبّها إلى الله ((وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله)) [سورة الأنفال: 39].
[3] الجهاد سبب لصيانة الحرمات ونصرة المستضعفين ودفع الظلم عن المظلومين, وتأمين الثغور كما قال تعالى: ((ومالكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليّا واجعل لنا من لدنك نصيرا)) [سورة النساء: 75].
[4] بشريعة الجهاد تُكسر شوكة الكافرين ((فقاتل في سبيل الله لا تُكلّف إلا نفسك وحرض المؤمنين عسى الله أن يكفّ بأس الذين كفروا)) [سورة النساء: 84].
[5] بالجهاد تتميّز الصفوف ((ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض)) [سورة محمد: 4].
[6] ليس الجهاد قاصراً على (جهاد الدفع) بل يشمل (جهاد الطلب).
الشيخ محمد عبد الكريم:
[1] الجهاد هو فقه الساعة وحاجة الأمة إليه أكيدة.
[2] انعكس غياب روح الجهاد وتشويه معالمه على تسميات الوزارات فصار لليهود وزارة الحرب, وصار للعرب في دولهم (وزارات الدفاع) لأنّ العرب قد قنعوا بالدفاع. أما اليهود فقد حاربوا فأسَروا القدس الشريف...
[3] سعى المستعمرون إلى إفراغ قلوب المسلمين من روح الجهاد.
عند إطلاق لفظ الجهاد ينصرف إلى جهاد الكافرين.
[4] الجهاد سبيلٌ لإقامة شرع الله ((الذين إن مكنّاهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور)) [سورة الحج: 41].
[5] التنبيه إلى أنّ المنافقين يريدون تحريف غاية الجهاد وسرقة راياته. فلا بدّ من تصحيح الغاية والحفاظ على الراية. وقد حذّر النبي صلى الله عليه وسلم من الرّايات العَمِيَّة.(/8)
من أركان القيادة 30/4/1426
أ.د. ناصر بن سليمان العمر
الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين، والصلاة والسلام على قائد الغر المحجلين نبينا محمد عليه وعلى آله أزكى صلاة وأتم تسليم، وبعد:
إن القيادة نوع من الولاية التي ينال كل إنسان نصيبه منها، كما قال _صلى الله عليه وسلم_ :"كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته".
ومشكلة القيادة مشكلة تعاني منها أمة الإسلام، وكثير من الناس يتصور أن ذلك على نطاق الدول فحسب، فتراه يرجع ما آل إليه حال المسلمين من تقهقر إلى سوء القيادة أو الإدارة على النطاق العام، وليت الأمر كان كذلك إذن لخف الخطب، فمشكلة القيادة مشكلة أعظم استفحالاً ربما عانى منها الأفراد في كل مؤسسة، بل في كل بيت، بل في كل عمل مشترك.
ولهذا أحببت أن أقف اليوم –ولا تزال الوقفات مع سورة يوسف _عليه السلام_ متصلة مع آية لها تعلق بهذا الموضوع، وهي قول الله _تعالى_ حكاية عن نبيه يوسف: "ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ"(يوسف: من الآية59).
فأنت تجد أنهم لما جاؤوه في أول سنوات الشدة يطلبون الميرة، وبعد أن أكرمهم وأنزلهم وتعرف عليهم واستمال قلوبهم وعاطفتهم ووفى لهم الكيل، جاء الأمر، جاءت القوة قال لهم: "ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ".
هنا جاء الحزم: "فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ" (يوسف:60).
وقد تضمن هذا الأسلوب ركنان أساسيان في مفهوم القيادة ما أحوجنا إليه في قيادتنا.
إن الذين يقودون الناس بالإحسان والأفعال التي تأسر القلوب فقط لا ينجحون نجاحاً كاملاً.
كما أن الذين يقودون الناس بالشدة والحزم وجر الأبدان فقط يفشلون فشلاً ذريعاً، ولو نجحوا زمناً فسوف يفشلون أزماناً.
يوسف وهو عزيز مصر وهو يتولى مسؤولية كبرى في الملك جمع بين الأمرين، فاستضافهم ابتداء وأكرمهم واستمالهم فأحبوه، ثم جاء بالعزم وأصدر الأمر: "ائتوني بأخ لكم من أبيكم"، ثم قرنه بالحزم: "فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ".
إن هذا الأسلوب الذي يجمع بين قيادة القلوب وقيادة الأبدان يدل على توافر ركيزتين أساسيتين جدير صاحبها بتولي القيادة، وهما: الأمانة والقوة، فالأمانة من مقتضيات حب الإحسان وقيادة القلوب، كما أن القوة متعلقة بقيادة الأبدان.
ويوسف _عليه السلام_ جمع هنا بين القوة والأمانة، فالقوة عندما قال: "فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ"، والأمانة عندما قال:"أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ" ولا يوفِ الكيل إلا الأمين.
ولذلك ركز شيخ الإسلام _رحمه الله_ في كتاب السياسة الشرعية على هذا الجانب وأنه لا يقوم بالمسؤولية إلا من اتصف بهذين الصفتين.
وهذا الأمر ينسحب على كل مسؤول ليشمل المجتمع بأسره، حتى في داخل البيوت، فالذي يريد أن يقود بيته بالحب وحده فلن ينجح، فالناس قد يتمردون على الحب وإن كانوا أبناءك؛ لأن الحب دافع للرعاية والعناية وإعطاء الحقوق، ولكنه ليس سبباً للأخذ على يد المسيء ومعاقبة الظالم وأطر الجاهل على الحق، ومن طبع الإنسان الظلم والجهل فلزم التعامل معه بما يناسبه.
والذين يريدون أن يقودوا الناس بالشدة والبطش وسوق الأجسام فقط فسوف يفشلون أيضاً فأطر النفوس على ما لا تحب سبب لتمردها عليه متى وجدت الفرصة أو القدرة.
ولابد من قيادة القلوب وقيادة الأبدان جميعاً، قيادة القلوب بالإحسان وبالرحمة وباللطف وبالعطف وبالتواضع وبالوفاء وبالعدل، وبهذا تستميل قلوب الناس "وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ" (آل عمران: من الآية159) وقيادة الأبدان أن تكون حازماً جريئاً تأطر على ما ينبغي فعله، وتمنع من فعل ما لا ينبغي فعله وإن وافق أهواء البعض، و"إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن".
أسأل الله أن يوفق كل راع وكل مسؤول في قيادة رعيته إلى ما يحب ويرضى، والحمد لله أولاً وآخراً، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين(/1)
من أسباب عزة المسلمين
عبدالعزيز السدحان
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:
فإن الناظر بعين الاعتبار إلى أحوال الناس قبل ظهور الإسلام يرى عجائب وغرائب، من الجهالات والظلمات التي أضلت الكثير عن طريق الهداية والرشاد، فالأصنام تُدعى وتُرجى، ومجالس الخمر معمورة صباح مساء، والظلم مرفوعة رايته وقد تلوثت في أوحاله أقدام الكثيرين.
شاهد المقال: أن حياتهم لم تزل في ظلمات الجهل والفوضى حتى بعث الله محمداً فأخرجهم الله به من الظلمات إلى النور، ومن الذل والمهانة إلى العزة والمكانة، فأمسكوا بزمام الأمور، وتوالت الفتوحات والانتصارات، ولم يزالوا في رفعة وعزة بسبب تمسكهم بدينهم.
ومع تقدم الزمن بدأ الضعف يدب إليهم بسبب بعدهم عن دينهم، ويزداد ضعفهم بقدر ابتعادهم عن دينهم، وهذه بعض الأسباب التي أدت إلى ضعف أمة الإسلام، وانهزامها بين الأمم:
الإعراض عن حكم الله والجهل بأحكام الدين.
والإعجاب والتبعية المطلقة لأعداء الإسلام.
والعصبية الجاهلية لجنس أو لون أو لسان.
واليأس والقنوط.
وتعطيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فما هي الأسباب التي ترتفع بها الأمة، وتأخذ مكانها اللا ئق بها؟
السبب الأول: التمسك بالكتاب والسنة:
منهجاً وعقيدة، ففي ذلك الفلاح كله والخير كله، فلا فلاح إلا بالأخذ بهما معاً، وتحكيمها في جميع مجالات الحياة وَأطِيعُوا اللّه وَالرسُولَ لَعَلَكُم تُرحَمُون [آل عمرآن:132]، قُل إن كُنتُم تُحِبُون اللّه فَاتبِعٌونِي يُحببكُمُ اللّه وَيَغفِرُ لَكُم ذُنُوبكُم واللّهُ غفُور رحِيم [آل عمرآن:31].
وقال : { تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما إن تمسكتم بهما: كتاب الله، وسنتي }.
والنصوص في هذا الموضع كثيرة جداً.
وبكل حال فالتمسك بالكتاب والسنة من أعظم أسباب الفلاح في الدين والدنيا، ويتبع التمسك بهما - أو من لازم التمسك بهما - محاربة البدع والتحذير منها، وعدم الغفلة أو التهوين من شأنها مهما صغرت، فإن البدع إذا غُفل عنها زاد انتشارها فكيف إذا أقرها من علمها أو هون من شأنها؟ لا شك أن هذا من الجهالة بمكان، بل هو من أعظم أسباب الهزيمة النفسية، ويُلقى أكثر حمل هذا على من زعم الإصلاح بخلاف ما كان علية منهج سلف الأمة وقدوتها.
السبب الثاني: الالتفاف حول العلماء:
الالتفاف حول علماء الأمة الراسخين في العلم، المعروفين بصلاح المعتقد، وسلامة المنهج، فالقرب من أولئك والاستئناس بآرائهم والصدور عن رأيهم فيه مصلحة عظيمة للأمة وشبابها. فعلماء السنة أدرى الناس بمعالجة قضايا الأمة، وهم أبصر الناس بمجاراة واقعها وإيجاد الحلول الناجعة لها، فأولئك الثلة من العلماء لا تصدر آراؤهم إلا بعد النظر في النصوص الشرعية، فثوابهم مضاعف مأجور وخطؤهم غير مأزور بل مأجور، قال : { إذا اجتهد الحاكم فحكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فحكم فأخطأ فله أجر واحد }.
السبب الثالث: قراءة التاريخ الإسلامي:
إعادة النظر في تاريخ المسلمين المجيد التليد، لا من باب التسلية والمواساة والتواكل، بل من باب شحذ الهمم وبعث العزائم، وكيف كان المسلمون الأوائل أقوياء حسياً ومعنوياً، وكيف كان تمسكهم بدينهم واعتزازهم به حتى دانت له الأمم، وخضعت لهم الأعداء، نصروا الله فنصرهم وأعزوا الإسلام فأعزهم الله به.
السبب الرابع: التفاؤل بأن النصر للإسلام:
التفاؤل والقطع بأن النصر للإسلام وأهله، كما جاءت بذلك النصوص الكثيرة التي تدل دلالة واضحة على ذلك، من ذلك قوله تعالى: هٌو الّذي أرسَلَ رَسُولَهُ بالهُدى وَدِينِ الحَقِ لِيُظُهِرهُ عَلى الدينِ كُله وَلَو كََره المُشرِكٌونَ [التوبة:33]، وقد ذكر بعض المفسرين عند هذه الآية عدداً من الأحاديث النبوية المبشرة بظهور الإسلام وعزته، فمن ذلك ما أخرجه مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله : { لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزى } فقالت عائشة رضي الله تعالى عنها: يا رسول الله، إن كنتُ لأظن حين أنزل الله هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [التوبة:33] أن ذلك تام، فقال صلى الله علي وسلم: { إنه سيكون من ذلك ما شاء الله }.
وعن ثوبان رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله : { إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها } [أخرجه الإمام مسلم].(/1)
ومن ذلك أيضاً قوله : { ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدرٍ ولا وبرٍ إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام وأهله، وذلاً يذل به الكفر } [أخرجه الإمام أحمد وغيره عن تميم الداري رضي الله تعالى عنه]، ثم قال تميم بعد أن ساق الحديث: ( قد عرفت ذلك في أهل بيتي، لقد أصاب من كان كافراً منهم الذل والصغار والجزية ).
السبب الخامس: الحذر من اليأس والقنوط:
وقتل الهمم والعزائم لكثرة ما يرى ويسمع من مصاب الإسلام في أي مكان أو زمان، فعلى المسلم أن يغلق عن نفسه باب اليأس والقنوط بأحكم الأقفال وأوثقها، وأن يحسن الظن بالله تعالى، وأن يستشعر معاني الآيات المحذرة والمرهبة من اليأس، كقوله تعالى: لا تَقُنَطُوا مِن رحمَةِ اللّه... [الزمر:53] وقوله تعالى: وَمَن يَقنطُ من رحمة رَبِهِ إلا الضّالُونَ [الحجر:15] وقوله تعالى: وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ [يوسف:87].
وعلى المسلم أيضاً في الوقت نفسه أن يتذكر النصوص المبشرة والدالة على حصول اليسر بعد العسر، كما في قوله تعالى: حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ [يوسف:110] إلى غير ذلك من النصوص والأخبار التي تذكي العزائم، وتشحذ الهمم.
السبب السادس: استشعار المسئولية:
من كل فرد من أفراد المجتمع، وذلك أن يشعر كل واحد من المسلمين مهما كان موقعه وشأنه أنه مسؤول ومساءل، فيبدأ بإصلاح نفسه وبيته، ثم تتسع دائرة الإصلاح حتى تشمل جلساءه وجيرانه ومجتمعه، وليعلم كل واحد منا أنه على ثغر من ثغور الإسلام، فليحذر أن يؤتى الإسلام من قبله.
فعلى الكاتب منا أن يسخر قلمه لخدمة الإسلام ونصرته، وعلى التاجر أن يراعي أولاً حق الله من زكاة ونفقه، ثم عليه أن يجعل من ماله نصيباً في دعم الإسلام والمسلمين، وليعلم أنه مهما بالغ في الإنفاق فإن ذلك خير وأنفع سبيلاً وَمَا تُقَدِمُوا لأنفُسكُم مَن خَيرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللّهِ هُو خَيُراً وأعظم أجراً [المزمل:20].
وقال : { ما نقصت صدقة من مال } [أخرجه مسلم].
شاهد المقال: أن على كل واحد أن يستشعر أنه على ثغر من ثغور الإسلام، فيؤدي ما يقدر عليه من دعم الإسلام والمسلمين مهما كان حجم ذلك الدعم، ولو كان يسيراً في نظره أو نظر الآخرين، فربما يكون ذلك اليسير عظيماً حيناً من الدهر، قال : { لا تحتقرن من المعروف شيئاً... }.
السبب السابع: عدم الاغترار:
بل الحذر من الاغترار بالكثرة، والعُجب بالعدة والعتاد، فالكثرة لا تنفع أصحابها شيئاً إذا كانت النفوس صغاراً.
وإذا كانت النفوس كباراً *** تعبت في مرادها الأجسام
فالتفاخر بكثرة العدد مذموم شرعاً، بل في غالب أمره يؤدي بأصحابه إلى العجب ثم الانهزامية، وقد جاءت نصوص تبين ذم الكثرة العددية في غالب أحوالها، كما في قوله تعالى: وَإن تُطِعُ أكثَر مَن فِي الأرضِ يُضلُوكَ عَن سَبيلِ اللّهِ [الأنعام:116].
وَمَا يُؤمِنُ أكَثَرُهُم بِاللّهِ إلا وَهُم مُشرِكُونَ [يوسف:106].
وَمَا أكثرُ النّاسِ وَلَو حَرصُتَ بِمُؤمِنينَ [يوسف:103].
كَم مِن فِئةٍ قَليلةٍ غَلَبت فِئَةٌ كَثِيرةٌ بإذن اللّه [البقرة:249].
اعمَلُوا آل دَاوُودَ شُكراً وَقليلٌ مَن عِبادي الشكُورُ [سبأ:13].
وَإن كَثِيراً مِنَ الخُلطَاء لَيبغي بَعُضُهمُ عَلَى بَعضٍ إلا الّذين آمنوا وَعَمَلُوا الصالحَاتِ وَقليلٌ مَا هَم [ص:24]. إلى غير ذلك من الآيات.
وأما السنة: فعن ثوبان رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله : { يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كل أفق كما تداعى الأكلة على قصعتها } قال: قلنا: يارسول الله، أمن قلة بنا يومئذ؟ قال: { أنتم كثير، ولكن تكونون غثاء كغثاء السيل، ينتزع المهابة من قلوب عدوكم، ويجعل في قلوبكم الوهن }، قال: قلنا: وما الوهن؟ قال: { حب الحياة، وكراهية الموت } [رواه الإمام أحمد وغيره].
السبب الثامن إجتناب المعاصي:
والحذر والتحذير منها، فالمعاصي مفتاح لكل شر، ومغلاق لكل خير، وبسببها يتصدع كيان الأمة وتزول هيبتها، وتكون مقودة بعد أن كانت قائدة، قال : { إذا تبايعتم بالعينة، ورضيتم بالزرع، واتبعتم أذناب البقر، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم }.
السبب التاسع: التنبه لمكائد الأعداء:
والحذر منها؛ لأنها تتنامى وتزداد بحسب تجاهلها وعدم إلقاء البال لها، وفي الوقت نفسه تتبلد أحاسيس كثير من الناس تجاهها، ومن ثم يستمرئونها ويتأقلمون عليها.
شاهد المقال: أن كيد شياطين الإنس والجن مستمر في شره واستفحاله، والواجب على كل مسلم أن يحذر ويحذر من الخداع ببريقه.
السبب العاشر: عدم التهويل من شأن العدو:(/2)
إلى حد إدخال الرعب في قلوب ضعاف الإيمان واليقين، وذلك بذكر عدد العدو، وعدته، وعتاده بصورة تظهره بمظهر الغالب الذي لا يُغلب، فهذا مما يعين على فقدان الشعور، بل مجرد التفكير بالنصر.
ولا شك ولا ريب أن هذا من الخطورة بمكان، إذ أن الهزيمة النفسية أعظم من الهزيمة الحسية، فالهزيمة الحسية، مؤقتة بوقت تزول بزواله، أما المعنوية فتبقى ملازمة أصحابها أمداً طويلاً.
وبكل حال: فالحذر الحذر من التضخيم والمبالغة في إظهار العدو، بل الأولى بالمسلم أن يكون سبباً في شحذ الهمم والعزائم، وحث النفوس على حسن الظن بالله تعالى، وكذلك على فعل ما يستطاع من الأسباب والوسائل التي تكون عوناً - بعد الله تعالى - في هزيمة العدو وكسر شوكته وَأعِدوا لَهُم مَا استَطَعتُم مِن قُوةٍ وَمِن رِباطِ الخَيلِ تُرهِبُونَ بِهِ عَدُو اللّهِ وَعَدُوكُم [الأنفال:60].
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، اللهم أصلح أحوال المسلمين وردهم إلى دينهم رداً جميلاً.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(/3)
من أسباب نصر ونجاة الأمة
الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى.......وبعد:
فإن الأمة الإسلامية اليوم تتطلع إلى نصر عاجل يرفع عنها هذا الذل والهوان الذي تسربلت به ، وينقلها من دركات المهانة والإذلال إلى درجات العزة والرفعة والسمو ...نصرا يعيد لها مجدها السابق ، وحماها المستباح....
ولاشك أن الناصر هو الله تعالى وحده .... فهذه عقيدة الموحدين التي لا يساومون عليها ... ولا يشكون فيها ... عقيدة ثابتة مغروسة في النفوس ....
ولكن الله تبارك وتعالى قد جعل لذلك النصر أسبابا وأمر بتحصيلها والإعتناء بها حتى تؤتي الشجرة ثمرتها ....
وقبل أن أذكر جملة من أسباب النصر المادية والمعنوية لابد من بيان سنة ربانية يترتب على فهمها حقيقة عقدية تؤهلنا إلى معرفة أسباب نصر ونجاة هذه الأمة المسلمة المستضعفة.... وهذه السنة هى :
سنة الله فى القرى:
أولا: أنباء القرى :
قال تعالى: { ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم وحصيد } [ هود : 100 ]
أى: قال قتادة: القائم ما كان خاويا على عروشه, والحصيد ما لا أثر له. وقيل: القائم العامر, والحصيد الخراب; قاله ابن عباس: وقال مجاهد: قائم خاوية على عروشها, وحصيد مستأصل; يعني محصودا كالزرع إذا حصد.
مصير القرى المؤمنة:...
قال تعالى: { ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون } [ الأعراف : 96 ]
مصير القرى الفاسقة الظالمة:
قال تعالى: { وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد } [ هود : 102 ]
أي كما أخذ هذه القرى التي كانت لنوح وعاد وثمود يأخذ جميع القرى الظالمة , فهو إخبار عما جاءت به العادة في إهلاك من تقدم من الأمم المهلكة إذ أخذهم.
وقال تعالى: { وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا } [ الكهف : 59 ]
وقوله : { وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا } أي الأمم السالفة والقرون الخالية أهلكناهم بسبب كفرهم وعنادهم { وجعلنا لمهلكهم موعدا } أي جعلناه إلى مدة معلومة ووقت معين لا يزيد ولا ينقص أي وكذلك أنتم أيها المشركون احذروا أن يصيبكم ما أصابهم فقد كذبتم أشرف رسول وأعظم نبي ولستم بأعز علينا منهم فخافوا عذابي ونذر.
وقال تعالى: { وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوما آخرين } [ الأنبياء : 11 ]
وقوله: { وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة } هذه صيغة تكثير كما قال { وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح } وقال تعالى : { وكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها } الآية. وقوله { وأنشأنا بعدها قوما آخرين } أي أمة أخرى بعدهم.
وقال تعالى: { وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة ثم أخذتها وإلي المصير } [ الحج: 48 ]
وقال تعالى: { ولما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا إنا مهلكو أهل هذه القرية إن أهلها كانوا ظالمين } [ العنكبوت : 31 ]
وقال تعالى: { وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله فحاسبناها حسابا شديدا وعذبناها عذابا نكر } [ الطلاق : 8 ]
يقول تعالى متوعدا لمن خالف أمره وكذب رسله وسلك غير ما شرعه ومخبرا عما حل بالأمم السالفة بسبب ذلك فقال تعالى: { وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله } أي تمردت وطغت واستكبرت عن اتباع أمر الله ومتابعة رسله { فحاسبناها حسابا شديدا وعذبناها عذابا نكرا } أي منكرا فظيعا.
وفى السنة المطهرة:
أخرج البخارى فى كتاب الفتن: عن عروة بن الزبير أن زينب بنت أبي سلمة حدثته عن أم حبيبة بنت أبي سفيان عن زينب بنت جحش رضي الله عنهن..
« أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها فزعا يقول لا إله إلا الله ويل للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه وحلق بإصبعه الإبهام والتي تليها قالت زينب بنت جحش فقلت يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون قال نعم إذا كثر الخبث »
وأخرجه مسلم أيضا فى كتاب الفتن..وقال النووى فى شرح مسلم:
قوله صلى الله عليه وسلم : أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال : « إذا كثر الخبث » هو بفتح الخاء والباء , وفسره الجمهور بالفسوق والفجور , وقيل : المراد الزنا خاصة , وقيل : أولاد الزنا , والظاهر أنه المعاصي مطلقا . و ( نهلك ) بكسر اللام على اللغة الفصيحة المشهورة , وحكى فتحها . وهو ضعيف أو فاسد . ومعنى الحديث أن الخبث إذا كثر فقد يحصل الهلاك العام , وإن كان هناك صالحون ...
وأخرج البخارى فى كتاب تفسير القرآن: عن أبي موسى رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته قال ثم قرأ { وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد }
قوله : « إن الله ليملي للظالم » وفى رواية " إن الله يملي " وربما قال " يمهل "(/1)
قوله : « حتى إذا أخذه لم يفلته » بضم أوله أي لم يخلصه , أي إذا أهلكه لم يرفع عنه الهلاك وهذا على تفسير الظلم بالشرك على إطلاقه , وإن فسر بما هو أعم فيحمل كل على ما يليق به , والله أعلم
كيف يأخذ الله القرى وبما يهلكها:
قال تعالى: { وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا } [ الإسراء : 16 ]
وقال تعالى: { وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون } [ الأنعام : 123 ]
والمعنى: وكما زينا للكافرين ما كانوا يعملون كذلك جعلنا في كل قرية. { مجرميها } والأكابر جمع الأكبر.وهم الرؤساء والعظماء. وخصهم بالذكر لأنهم أقدر على الفساد. والمكر الحيلة في مخالفة الاستقامة, قال مجاهد: كانوا يجلسون على كل عقبة أربعة ينفرون الناس عن اتباع النبي صلى الله عليه وسلم; كما فعل من قبلهم من الأمم السالفة بأنبيائهم. ......
وقال تعالى: { وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون } [ النحل : 112 ]
وهذا مثل أريد به أهل مكة فإنها كانت آمنة مطمئنة مستقره يتخطف الناس من حولها ومن دخلها كان آمنا لا يخاف , { يأتيها رزقها رغدا } أي هنيئا سهلا { من كل مكان فكفرت بأنعم الله } أي جحدت آلاء الله عليها وأعظمها بعثة محمد صلى الله عليه وسلم إليهم كما قال تعالى { ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار جهنم يصلونها وبئس القرار }، ولهذا بدلهم الله بحاليهم الأولين خلافهما فقال { فأذاقها الله لباس الجوع والخوف } أي ألبسها وأذاقها الجوع بعد أن كان يجبى إليهم ثمرات كل شيء ويأتيها رزقها رغدا من كل مكان وذلك أنهم استعصوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبوا إلا خلافه فدعا عليهم بسبع كسبع يوسف فأصابتهم سنة أذهبت كل شيء لهم فأكلوا العلهز وهو وبر البعير يخلط بدمه إذا نحروه
وقوله: { والخوف } وذلك أنهم بدلوا بأمنهم خوفا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حين هاجروا إلى المدينة من سطوته وسراياه وجيوشه.
والله لايهلك القرى إلا بعد الإنذار:.
قال تعالى: { وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلوا عليهم آياتنا وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون } [ القصص : 59 ]
وقال تعالى: { ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون } [ الأنعام : 131 ]
أى: لم يرسل إليهم رسول يبين لهم؟
وما من قرية إلا سترى ذلك أو نحوا منه كله مقدر عند الله فى كتاب:
قال تعالى: { وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم } [ الحجر : 4 ]
أى: أي أجل مؤقت كتب لهم في اللوح المحفوظ.
وقال تعالى: { وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة أو معذبوها عذابا شديدا كان ذلك في الكتاب مسطورا } [ الإسراء : 58 ]
أى: هذا إخبار من الله عز وجل بأنه قد حتم وقضى بما قد كتب عنده في اللوح المحفوظ أنه ما من قرية إلا سيهلكها بأن يبيد أهلها جميعهم أو يعذبهم { عذابا شديدا } إما بقتل أو إبتلاء بما يشاء وإنما يكون ذلك بسبب ذنوبهم وخطاياهم كما قال تعالى عن الأمم الماضين { وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم } وقال تعالى { فذاقت وبال أمرها وكان عاقبة أمرها خسرا }
وأخذه لايعلم وقته وهو غير مأمون:..... قال تعالى:
{ وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون } [ الأعراف : 4 ]
أى: ليلا... أو نائمون بالظهيرة والقيلولة إستراحة نصف النهار وإن لم يكن معها نوم, أي مرة جاءها ليلا ومرة جاءها نهارا..
وقال تعالى: { أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون } [ الأعراف : 97 ]
أى: ليلا... وهم غافلون عنه...
وقال تعالى: { أوأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون } [ الأعراف : 98 ]
أى: أي وهم فيما لا يجدي عليهم; يقال لكل من كان فيما يضره ولا يجدي عليه لاعب,
وقال تعالى: { وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء لعلهم يضرعون } [ الأعراف : 94 ]
ومن العجيب أن مثل ذلك لم يحدث إلا قليلا جدا مثل ما حدث فى قوم يونس كما فى قوله تعالى: { فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين }(/2)
وروي في قصة قوم يونس عن جماعة من المفسرين: أن قوم يونس كانوا بنينوى من أرض الموصل وكانوا يعبدون الأصنام، فأرسل الله إليهم يونس عليه السلام يدعوهم إلى الإسلام وترك ما هم عليه فأبوا ؛ فقيل : إنه أقام يدعوهم تسع سنين فيئس من إيمانهم؛ فقيل له: أخبرهم أن العذاب مصبحهم إلى ثلاث ففعل، وقالوا: هو رجل لا يكذب فارقبوه فإن أقام معكم وبين أظهركم فلا عليكم، وإن ارتحل عنكم فهو نزول العذاب لا شك ؛ فلما كان الليل تزود يونس وخرج عنهم فأصبحوا فلم يجدوه فتابوا ودعوا الله ولبسوا المسوح وفرقوا بين الأمهات والأولاد من الناس والبهائم، وردوا المظالم في تلك الحالة. وقال ابن مسعود: وكان الرجل يأتي الحجر قد وضع عليه أساس بنيانه فيقتلعه فيرده؛ وعن ابن عباس أنهم غشيتهم ظلة وفيها حمرة فلم تزل تدنو حتى وجدوا حرها بين أكتافهم. وقال ابن جبير: غشيهم العذاب كما يغشى الثوب القبر، فلما صحت توبتهم رفع الله عنهم العذاب. وقال الطبري: خص قوم يونس من بين سائر الأمم بأن تيب عليهم بعد معاينة العذاب؛ وقال الزجاج: إنهم لم يقع بهم العذاب، وإنما رأوا العلامة التي تدل على العذاب ، ولو رأوا عين العذاب لما نفعهم الإيمان .
قال القرطبى : قول الزجاج حسن ؛ فإن المعاينة التي لا تنفع التوبة معها هي التلبس بالعذاب كقصة فرعون ، ولهذا جاء بقصة قوم يونس على أثر قصة فرعون لأنه آمن حين رأى العذاب فلم ينفعه ذلك ، وقوم يونس تابوا قبل ذلك .
ويعضد هذا قوله عليه الصلاة والسلام: « إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر ». والغرغرة الحشرجة، وذلك هو حال التلبس بالموت، وأما قبل ذلك فلا . والله أعلم.
والنجاة من ذلك أن يكون أهل القرى مصلحين:
قال تعالى: { وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون } [ هود : 117 ]
أي فيما بينهم في تعاطي الحقوق؛ أي لم يكن ليهلكهم بالكفر وحده حتى ينضاف إليه الفساد, كما أهلك قوم شعيب ببخس المكيال والميزان ، وقوم لوط باللواط; ودل هذا على أن المعاصي أقرب إلى عذاب الإستئصال في الدنيا من الشرك ، وإن كان عذاب الشرك في الآخرة أصعب. وفي صحيح الترمذي من حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده ». [صحيح الجامع برقم:1973].
وقيل: المعنى وما كان الله ليهلكهم بذنوبهم وهم مصلحون؛ أي مخلصون في الإيمان. فالظلم هنا المعاصي على هذا المعنى.
ولذلك أمرنا أمرا جامعا لعل فيه النجاة:
فقال تعالى: { وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا } [ النساء : 75 ]
أى: يحرض تعالى عباده المؤمنين على الجهاد في سبيله وعلى السعي في استنقاذ المستضعفين بمكة من الرجال والنساء والصبيان المتبرمين من المقام بها ولهذا قال تعالى { الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية} يعني مكة كقوله تعالى { وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك } ثم وصفها بقوله { الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا أي سخر لنا من عندك وليا ناصرا }
خلاصة:
مما سبق بيانه نفهم عدة حقائق:
1- أن القرى – الدول – منها ما يبقى ومنها ما يحصد.
2- أن البقاء والحصاد أمر ربانى لايحكمه ويقدره الا الله وحده لأن الملك ملكه والكون له وحده.
3- أن أعظم أسباب إهلاك القرى الظلم والطغيان حتى لو كان فيها إيمان.
4- أن أعظم أسباب البقاء والنجاة هو الإيمان والتقوى لتكون القرى طائعة عادلة.
5- أن هلاك القرى يبدأ بتسليط مترفيها ومجرميها عليها.
6- أن الهلاك لايتحقق إلا بعد الإنذار من الله لعل القرى ترجع.
7- ما من قرية إلا وسيأتيها هذا الإنذار والبلاء والعذاب...سنة الله سبحانه فى القرى...وحكمته إرجاع القرى قبل هلاكها...لعلهم يتضرعون.
8- ذلك الأخذ والإنذار لايعلم وقته لكل قرية إلا الله وحده , ويأتى فجأة بلا مقدمات...وهو أمر مسطور.
9- من أعظم أسباب نجاة أهل القرى أن يكونوا مصلحين...ولذلك علينا بالصلاح والإصلاح والتمسك بأسباب النجاة والنصر.
أسباب النجاة والنصر:
لابد هنا من معرفة أن النصر نوعان:
- الأول: نصر العبد فى نفسه منفردا بالثبات على الحق حتى الممات:
فمن مات على الحق فقد نصره الله نصرأ فرديا مؤزرا.وهذا النوع من النصر جاء فيه مثل قول الله تعالى: { إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم } [ التوبة : 40 ]
وهو بين فى أيات كثيرة من كتاب ربنا العلى حيث قال:
قال تعالى: { ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز } [ الحج : 40 ](/3)
وقال تعالى: { إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد } [ غافر : 51 ]
ويقول تعالى: { يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء } [ إبراهيم : 27 ]
وقال تعالى: { واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون } [ البقرة : 48 ]
وقال تعالى: { أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون } [ البقرة : 86 ]
وهذا النصر هو أعظم النصر للعبد ولايملكه له إلا الله وحده قال تعالى:
{ والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون } [ الأعراف : 197 ]
وقال تعالى: { وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم } [ الأنفال : 10 ]
وقال تعال: { وكان حقا علينا نصر المؤمنين } [ الروم : 47 ]
وقال تعالى: { وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين } [ الأنفال : 62 ]
وقال فى حق من حرم هذا النوع من النصر:
قال تعالى: { فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين } [ القصص : 81 ]
وقال تعالى: { وقيل اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين } [ الجاثية : 34 ]
- والنوع الثانى من النصر:
هو المعلوم المعروف ....وهو نصر جماعة المؤمنين الذين رضى الله عنهم ، على عصابات الكافرين الضالين الهالكين وهو الذى تبحث عنه الأمم جميعا حتى الكافرة التى ترفع رايات الكفر وتقول إن الله – بزعمهم وضلالهم – سينصرهم ، فأنت ترى قوى الكفر ترفع الصليب والعلمانية والصهيونية والإلحاد ، وتقول الله ينصرنا ...والله سيهلكهم بكفرهم وطغيانهم كما علمنا سبحانه , لكن الأمة المسلمة الباحثة عن هذا النوع من النصر , لابد للأمة أن تقف على أسبابه وتعرف مقوماته , وهو ما سأذكر منه نبذة أو أذكر ببعضه....لكن من الأهمية بمكان أن تعرف أن النوع الأول من النصر هو من أعظم أسباب النوع الثانى فهو كالأساس بالنسبة له...ثم من الأسباب:
1- الإيمان بالله تعالى [ باطنا و ظاهرا ]:
قال تعالى : { إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد }
قال تعالى : { وكان حقا علينا نصر المؤمنين }
ولاشك أن من أسباب الهزيمة المعاصي .... ومن أسباب النصر الطاعات.
2- الصبر..[على الطاعة وعلى ترك المعصية والإبتلاء]:
قال تعالى : { بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين } [ آل عمران : 125 ]
قال تعالى : { وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين } [ الأنفال : 46 ]
قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون } [ آل عمران : 200 ]
وهنا أذكر أن المعاصى تمنع النصر وتورث الحرمان لمن عصى من الموحدين يدل على ذلك موقف يوم أحد حيث قال الله تعالى: { ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين } [ آل عمران : 152 ]...
وانظر إلى قوله تعالى { حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم } ...(/4)
أخرج البخارى فى كتاب المغازى عن البراء رضي الله عنه قال : « لقينا المشركين يومئذ وأجلس النبي صلى الله عليه وسلم جيشا من الرماة وأمّر عليهم عبد الله (ابن جبير) وقال : لا تبرحوا إن رأيتمونا ظهرنا عليهم فلا تبرحوا وإن رأيتموهم ظهروا علينا فلا تعينونا ... في رواية "وإن رأيتمونا تخطفنا الطير"... فلما لقينا هربوا حتى رأيت النساء يشتددن في الجبل رفعن عن سوقهن قد بدت خلاخلهن فأخذوا يقولون الغنيمة الغنيمة فقال عبد الله عهد إلي النبي صلى الله عليه وسلم أن لا تبرحوا فأبوا فلما أبوا صرف وجوههم فأصيب سبعون قتيلا.. وفي حديث ابن عباس " فلما غنم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأباحوا عسكر المشركين انكفت الرماة جميعا فدخلوا في العسكر ينتهبون , وقد التفت صفوف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهم هكذا - وشبك بين أصابعه - فلما أخلت الرماة تلك الخلة التي كانوا فيها دخلت الخيل من ذلك الموضع على الصحابة , فضرب بعضهم بعضا والتبسوا , وقتل من المسلمين ناس كثير...... ووقع عند الطبري من طريق السدي قال : " تفرق الصحابة : فدخل بعضهم المدينة , وانطلق بعضهم فوق الجبل , وثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الناس إلى الله , فرماه ابن قمئة بحجر فكسر أنفه ورباعيته , وشجه في وجه فأثقله , فتراجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثون رجلا فجعلوا يذبون عنه . فحمله منهم طلحة وسهل بن حنيف , فرمى طلحة بسهم ويبست يده . وقال بعض من فر إلى الجبل : ليت لنا رسولا إلى عبد الله بن أبي يستأمن لنا من أبي سفيان , فقال أنس بن النضر : يا قوم إن كان محمد قتل فرب محمد لم يقتل . فقاتلوا على ما قاتل عليه "..... وأشرف أبو سفيان فقال أفي القوم محمد فقال لا تجيبوه فقال أفي القوم ابن أبي قحافة قال لا تجيبوه فقال أفي القوم ابن الخطاب فقال إن هؤلاء قتلوا فلو كانوا أحياء لأجابوا فلم يملك عمر نفسه فقال كذبت يا عدو الله أبقى الله عليك ما يخزيك قال أبو سفيان اعل هبل فقال النبي صلى الله عليه وسلم أجيبوه قالوا ما نقول قال قولوا الله أعلى وأجل قال أبو سفيان لنا العزى ولا عزى لكم فقال النبي صلى الله عليه وسلم أجيبوه قالوا ما نقول قال قولوا الله مولانا ولا مولى لكم قال أبو سفيان يوم بيوم بدر والحرب سجال وتجدون مثلة لم آمر بها ولم تسؤني »
أرأيت أخى كيف تمنع المعاصى النصر....نسأل الله العافية
3- الإخلاص لله تعالى . [ أن يكون القصد نصرالنفس بالإيمان ونصر دين الله وإقامة شرعه ]:
قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم } [ محمد : 7 ]
قال تعالى : { ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز } [ الحج : 40 ]
وعلامة الإخلاص ... فى قوله تعالى: { الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور } [ الحج : 41 ]
4- الإعداد المادي { وأعدوا لهم }
قال تعالى : { وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم ... } [ الأنفال : 60 ]
فلما تركنا هذا التوجيه الرباني الكريم هنا على أنفسنا وصرنا مطمع لكل طاغية وكافر.
5- الائتلاف وعدم الاختلاف:
قال تعالى : { وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين } [ الأنفال : 46 ]
فلما اختلفنا زرع الأعداء بيننا من ليس منا ... ليزيد الفرقة والتمزق ...وقسمونا عبادا وأرضا وإقليما..وقادونا بسياسة فرق تسد.... حتى صرنا قطعانا تتناهشها الكلاب ....
6- التوكل على الله والاعتماد عليه واللجوء إليه والتضرع بالدعاء إليه والإستغاثة به وحده:
قال تعالى : { فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين } [ آل عمران : 159 ]
قال تعالى : { إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده وعلى الله فليتوكل المؤمنون } [ آل عمران : 160 ]
قال تعالى : { ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين } [ البقرة : 250 ]
وقال تعالى : { ... أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين } [ البقرة : 286 ]
7- الإقدام وفداء الدين بالنفس والنفيس:
قال تعالى : { قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين } [ المائدة : 23 ]
ولذلك كان الانغماس في العدو من أفضل الجهاد لما ينتج عنه من علو في الهمم ، ورفع للمعنويات ، وبه تقوى عزائم أهل الإيمان ، وبه تتحطم معنويات أهل الظلم والطغيان ...وفي المقابل حرم التولي يوم الزحف وصار من السبع الموبقات لما يسببه من الهزيمة .... والتثبيط ...وتخبيل صفوف المسلمين.... ورفع معنويات العدو ....
8- الشورى والمشورة:(/5)
وذلك بمشاورة القائد [ حاكما أو قائدا ] لأصحابه وبطانته [ من أصحاب الرأي والمشورة من أهل الحل والعقد وغيرهم ] وإشراكهم في صناعة القرار.... فتطيب النفوس وتقوى العزائم ...ويسدد القول والرأى]
قال تعالى : { وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله ... } [ آل عمران : 159 ]
قال تعالى : { وأمرهم شورى بينهم } [ الشورى : 38 ]
وهذا يشمل الجهاد وغيره من أمور سياسية واقتصادية وتعليم ومجتمع ...إلخ... فهو قاعدة عامة الحكم والقيادة.
9- طاعة أمراء الحق والدين و التصرف بإذنهم وعدم الخروج عليهم:
لقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم } [ النساء : 59 ]
وقوله : { وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه } [ النور : 62 ]
10- تقريب الخيار وإبعاد الفجار وإتخاذ بطانة خير وبر لا بطانة سوء [كالخبراء والمستشارين]:
يقول تعالى: { إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق والله بما تعملون بصير } [ الأنفال : 72 ]
وقال تعالى: { والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم } [ التوبة : 71 ]
وحذر من بطانة السوء فقال سبحانه:
{ ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون } [ هود : 113 ]
ويقول تعالى: { لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير } [ آل عمران : 28 ]
وقال تعالى: { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا } [ النساء : 144 ]
وقال تعالى: { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين } [ المائدة : 51 ]
11- التصرف على وفق الشرع فى الشدائد والحروب وعند الملاقاة:
وهذا باب واسع يحتاج الى فقه عظيم وعلم دقيق للمسائل المتعلقة بذلك لكن أذكر منها على سبيل الإجمال:
أ- وحدة صفوف المقاتلين و تراصها:
لقوله تعالى : { إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص } [ الصف : 4 ]
ب- الثبات عند اللقاء:
لقوله تعالى :{ يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون } [ الأنفال : 45 ]
ج- الإكثار من ذكر الله:
لقوله تعالى : { واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون } [ الأنفال : 45 ]
د- الإستغاثة بالله سبحانه:
لقوله تعالى : { إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملآئكة مردفين } [ الأنفال : 9 ]
ر- إتخاذ الحيطة والحذر مع الأعداء:
لقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا } [ النساء : 71 ]
{ ياأيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين } [ آل عمران : 149 ]
س- السرية في القول و العمل ورد الأخبار إلى ولاة الأمور:
لقوله تعالى : { وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم } [ النساء : 83 ]
ع- الرفق بالمؤمنين و تحريضهم على القتال:
لقوله تعالى : { أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة } [ المائدة : 54 ]
لقوله تعالى : { لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم والله عليم بالظالمين } [ التوبة : 47 ]
ق- منع المتخلفين من القتال:
{ فإن رجعك الله إلى طآئفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا إنكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين } [ التوبة : 83 ]
ك- إرهاب الأعداء والغلظة عليهم:
لقوله تعالى : { ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم } [ الأنفال : 60 ]
وقوله : { يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة } [ التوبة : 123 ]
هـ- دعوة من طلب الأمان من الأعداء الى الإسلام قبل أى أمر آخر:
لقوله تعالى: { وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون } [ التوبة : 6 ]
ومن المبشرات:
{ سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا ومأواهم النار وبئس مثوى الظالمين } [ آل عمران : 151 ]
{ ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين } [ آل عمران : 178 ](/6)
{ لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد } [ آل عمران : 196 ]
وبعد أخى الباحث عن النصر فهذه نبذة فيها القليل مما ينبغى على الأمة ولعله ينفع مع قلته ..... اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين وأهلك الكفرة أعداءك أعداء الدين ...وأخرجنا منها منصورين بالإيمان غير خزايا ولا مفتونين , ولا مغيرين ولا مبدلين...آمين...اللهم ارحم الأمة واكشف الغمة...وأعد عليها أسباب نصرها وعزتها...أمين...أمين ...أمين .
هذا والحمد لله رب العالمين ولاعدوان إلا على الظالمين وصلى اللهم وسلم على محمد وآله وصحبه أجمعين...سبحانك اللهم وبحمدك ، أشهد أن لا إله إلا أنت ، أستغفرك وأتوب إليك....
وجمعه وكتبه د/ السيد العربى. ... ...(/7)
من أسرار الصدقة
غزوان مصري
gazwan@gazwan.com
هل تريد الشفاء من الأمراض ؟ ... عليك بالصدقة
قال صلى الله عليه وسلم " داووا مرضاكم بالصدقة "
هل تريد أن يظلك الله يوم لا ظل إلا ظله ؟ ... عليك بالصدقة
قال صلى الله عليه وسلم "كل امرئ في ظل صدقته حتى يُفصل بين الناس"
هل تريد أن تطفيء غضب الرب ؟ ... عليك بالصدقة
قال صلى الله عليه وسلم " صدقة السر تطفيء غضب الرب"
هل تريد محبة الله عز وجل ؟ ... عليك بالصدقة
قال عليه الصلاة والسلام "أحب الأعمال الى الله عز و جل سرور تدخله على مسلم , أو تكشف عنه كربة , أو تقضي عنه دينا , أو تطرد عنه جوعا , ولان أمشي مع أخي في حاجه أحب إلي من أن اعتكف في هذا المسجد شهر .... " الحديث
هل تريد البرهان على صحة الإيمان ؟ ... عليك بالصدقة
قال صلى الله عليه وسلم " ... والصدقة برهان "
هل تريد الرزق ونزول البركات ؟ ... عليك بالصدقة
قال الله تعالى " يمحق الله الربا ويربي الصدقات "
هل تريد الحصول على البر والتقوى ؟ ... عليك بالصدقة
قال الله تعالى " لن تنالو البر حتى تنفقوا مما تحبون وما تنقوا من شيء فإن الله به عليم "
هل تريد أن تفتح لك أبواب الرحمة ؟ ... عليك بالصدقة
قال صلى الله عليه وسلم " الراحمون يحمهم الله , إرحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء "
هل تريد أن يأتيك الثواب وأنت في قبرك ؟ ... عليك بالصدقة
قال صلى الله عليه وسلم : "إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة: ـ وذكر منها ـ صدقة جارية"
هل تريد أن توفي نقص الزكاة الواجبة ؟ ... عليك بالصدقة
حديث تميم الداري ـ رضي الله عنه ـ مرفوعاً قال: "أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة؛ فإن كان أكملها كتبت له كاملة، وإن كان لم يكملها قال الله ـ تبارك وتعالى ـ لملائكته: هل تجدون لعبدي تطوعاً تكملوا به ما ضيع من فريضته؟ ثم الزكاة مثل ذلك، ثم سائر الأعمال على حسب ذلك"
هل تريد إطفاء خطاياك وتكفير ذنوبك ؟ ... عليك بالصدقة
قال صلى الله عليه وسلم "الصوم جنة , والصدقة تطفيء الخطيئة كما يطفيء الماء النار "
هل تريد أن تقي نفسك مصارع السوء ؟ ... عليك بالصدقة
قال صلى الله عليه وسلم "صنائع المعروف تقي مصارع السوء "
هل تريد أن تطهر نفسك وتزكيها ؟ ... عليك بالصدقة
قال الله تعالى " خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها "
وغيره من الفضائل
قال صلى الله عليه وسلم : "يا معشر النساء تصدقن؛ فإني رأيتكن أكثر أهل النار، فقلن: وبِمَ يا رسول الله؟ قال: تكثرن اللعن، وتكفرن العشير"
"ما نقص مال من صدقة "
" اتقوا النار ولو بشق تمرة "
كثيرا نسمع قصص المتصدقين ممن شفاه الله من أمراض عجز عنها الطب وشفي بسبب الصدقة , وممن تحسنت أموره المالية بعد أن كثرت ديونه فبارك الله في ماله بسبب الصدقة , وغيره من القصص فلا تبخل يا أخي بالصدقة فهي خير لك في الدنيا و أمورها وخير لك في الآخرة
فلو خصصت مبلغ بسيط من دخلك الشهري للصدقة لوجدت
أمورك على أحسن حال " أحب الأعمال أدومها وإن قل "
وتذكر الدال على الخير كفاعله ,, إذا تصدق أحدهم بسببك فلك مثل أجره لا ينقص من أجره شيء , فماذا لو جعلته يخصص مبلغ شهري للصدقة.(/1)
من أسرار سورة المائدة ( 4 - 4 )
د. زغلول راغب محمد النجار
دلالات علمية ولمحات إيمانية:
" وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل (60)" (المائدة).
أولاً: في قوله - تعالى -: " وجعل منهم القردة..." (المائدة) جاءت الإشارة إلى مسخ العصاة من بني إسرائيل إلى القردة والخنازير في ثلاثة مواضع من القرآن الكريم (البقرة: 65، المائدة: 60؛ الأعراف: 166) والقردة من الثدييات المشيمية التي تنسب إلى رتبة (الرئيسيات) (Orrer Primates) وتعيش متسلقة على الأشجار، وإن كان بعضها يحيا على اليابسة، وتتميز بكبر حجم الجمجمة وتميز الوجه وبأقدامها ذات الأصابع الطويلة وبالقدرة على التسلق بالتشبث بالأطراف، وبزوج من الأعين القوية الإبصار والموجودة في مقدمة الرأس، وأبسط (الرئيسيات) تركيبات وجدت بقاياها في صخور عهد الياليوسين أي منذ حوالي ستين مليون سنة مضت، وتعرف باسم البروسيمات (Prosimit) وهي حيوانات صغيرة الحجم تشبه القردة إلا في استطالة وجهها، وتبعتها فصيلة الكوبلديات (Tarsiers) في عهد الأيوسين (أي منذ حوالي خمسين مليون سنة مضت)، ثم فصيلة الليموريات (Lemuridae) Lemurs، Family ثم فصيلة زبابات الشجر (Tree Shrews، Family Tupaiiae) ثم فصيلة القردة بسترخية الذئب (New World Monkeys Family Cebidae) وفصيلة السعادين (old World Monkeys Famliy Cercopithecidae) وفصيلة القردة الكبيرة الحجم Apes Famliy Pongidae)) ومنها الجبون Gibbon)) والشمبانزي (Chimpanzee) والغوريللاorilla)) والأورانج أوتان Orangatan).
والقردة تسير عادة على أربع أرجل، ولكن بعضها يستطيع أحيانًا السير بشكل شبه معتدل على رجلين فقط، مما يعطي الطرفين الأماميين شيئاً من الحرية في الحركة مثل التسلق على الأشجار والتقاط الطعام وتناوله.
والقرود من(الرئيسيات) آكلة الأعشاب واللحوم (omnivorous)، وتحيا غالباً فوق الأشجار في المناطق الاستوائية، وشبه الاستوائية... وهي حيوانات تتمتع بقدر من الذكاء، وبقدرة على التعلم، ولكن القرد حيوان حاد المزاج، ويتسم بالأنانية الشديدة، وبالخيانة وبالغدر، والميل إلى الاستغلال وحب التملق وعدم الوفاء وحب الرشوة، ولذلك كان المسخ من مرحلة الإنسانية إلى مرحلة القردة يعتبر امتهانًا وإذلالا ًوعقاباً من الله (تعالى) للعصاة من بني إسرائيل، كما روى ذلك عن ابن عباس - رضي الله عنهما - الذي ذكر أنه لم يعش مسخ من الخلق فوق ثلاثة أيام أبدًا، ولم يأكل ولم يشرب ولم ينسل.
وقال مجاهد - يرحمه الله - إن مسخهم كان مسخاً معنوياً لا صورياً، ولكن استنادًا إلى حديث رسول الله السابق ذكره فإن المسخ كان معنوياً وصورياً في آن واحد والله - سبحانه وتعالى - أعلى وأعلم.
ثانياً: في قوله - تعالى -: وجعل منهم القردة والخنازير....
وصف القرآن الكريم الخنزير بأنه رجس وحرم أكله، في أكثر من مقام (البقرة: 173، المائدة: 60، الأنعام: 145، النحل: 115) كما جاءت الإشارة إلى مسخ عصاة اليهود إلى القردة في ثلاث آيات (البقرة: 65، المائدة: 60، والأعراف: 166) وإلى القردة والخنازير في آية واحدة (المائدة: 60)، وهي الآية الكريمة التي نحن بصددها.
لفظة رجس:
ولفظة (رجس) هي لفظة جامعة لكل معاني القذارة والقبح، والنجاسة والإثم، وذلك لأن الخنزير حيوان قوي الأنياب له جلد سميك يغطى بشعر خشن ضخم الجثة، كتلي الشكل، كريه، المنظر، مكتز اللحم والشحم، قصير الأرجل، طويل البؤز قذر، جشع، كسول، رمام، يأكل النبات والحيوان والقمامة، والجيف، كما يأكل فضلاته وفضلات غيره من الحيوانات، وهذا من أسباب قيامه بدور كبير في نقل العديد من الأمراض الخطيرة للإنسان.
والخنزير من الحيوانات الثديية السرية (Placental Mammals) التي تلد وترضع صغارها ولها حافر مشقوق يحمل عددًا زوجياً من الأصابع (أربعة أصابع)، ولذلك يضم في مجموعة من الثدييات المشيمية التي تعرف باسم الحافريات زوجية الأصابع (Artiodactyla Even-toed ungulates) وقد عمرت الأرض خلال الخمسين مليون سنة الماضية (من بدايات عهد الأيوسين أو فجر الحياة الحديثة إلى اليوم)، والخنازير تفصل هذه المجموعة من الحيوانات لكونها رمامة وغير مجترة.(/1)
وتضم الخنازير عددًا من الأنواع البرية والمستأنسة، التي تجمع كلها في فصيلة واحدة تعرف باسم فصيلة الخنازير (Family Suidae) ويسمى الذكر منها باسم "العفر" (Boar) وتسمى الأنثى باسم الخنزيرة (Sow) وهي من النوع الولود، والخنزير المخصي يعرف باسم "الحلوف" (Hog) ويستعار اللفظ لوصف كل قذر، شره، أناني من البشر؛ وتستخدم لفظة (Swine) في الإنجليزية للتعبير عن الخنزير بصفة عامة (سواء كان ذكراً أو أنثى، مخصياً أو غير مخصي، مستأنساً أو غير مستأنس)، وتستعار هذه الكلمة كذلك لوصف كل فرد من بني البشر حقير النفس، بخيل اليد، قذر المظهر والملبس، متصف بالخيانة، والجبن والغدر وبغير ذلك من أحقر الصفات، فإذا أطلقت على الأنثى كان لها من هذه الحقارة حظ وافر، بالإضافة إلى وصفها بالمرأة الساقطة المجردة من كل فضيلة، لذلك كان مسخ العصاة من بني إسرائيل من مستوى الآدمية المكرمة إلى مستوى الخنازير القذرة المهانة عقاباً من الله (تعالى) لهم استحقوه على فُجورهم ومبارزتهم الله (تعالى) بالمعاصي، وحربهم للإنسانية بالمؤمرات، والخيانات والغدر.
عبد الطاغوت:
ثالثاً: في قوله - تعالى -: وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت:
والمقصود بالتعبير القرآني وعبد الطاغوت أي عبيده وخدامه، والطاغوت لغة هو كل مجاوز للحد في العصيان لله (تعالى) بعبادة الشيطان أو الكاهن أو كل رأس في الضلال مفردًا كان أو جمعًا، وإن كانت الكلمة تجمع على (طواغيت)، وكل معبود من دون الله طاغوت، وكل سلطان لا يستمد من سلطان الله طاغوت، وكل حكم لا ينبني على أساس من شريعة الله طاغوت، وكل عدوان يتجاوز الحق طاغوت، سواء كان ذلك في حق الله (تعالى) بإنكار ألوهيته أو حاكميته أو وحدانيته، أو في حق العباد بالتآمر عليهم أو الغدر بهم أو خيانة أماناتهم، الاعتداء على دمائهم، أو أموالهم، أو ممتلكاتهم أو مقدساتهم أو أراضيهم.
ويهود اليوم والمتهودون فيه يمثلون ركازة الكفر وعبادة الطاغوت في أقبح صورها... لأن اليهود ما كانوا يتبعون أحد أنبيائهم لفترة من الفترات حتى يكفروا به ويعودوا إلى الشرك بالله، وإلى عبادة الطاغوت، ولذلك حاربوا كل نبي بعث إليهم، وحرفوا الرسالة التي أنزلت عليهم، ولذلك لعنهم القرآن الكريم، كما لعنهم من قبل كل من داود وعيسي ابن مريم، وحتى التوراة المحرفة التي يتداولونها بينهم اليوم، والتي اخترقوا بها كنائس الغرب والشرق، تلعنهم، وأسفار ما يسمى بالعهد القديم تلعنهم وتصفهم بالغطرسة الفارغة، والاستعلاء الكاذب، ومحاربة كل صورة من صور الحق، ونبيهم موسى يلعنهم في كتبهم المزورة، وأسفار ما يسمى بالعهد الجديد تلعنهم، كما جاء القرآن الكريم بلعنهم وتحقيرهم، وذلك لأن اليهود كفروا بالله (تعالى) على زمن نبيهم موسى فعبدوا العجل، وكفروا بالله من بعد موسى فحرفوا التوراة وباعوها قراطيس للناس واشتروا بها ثمناً قليلاً، وكفروا بالله على زمن أنبيائهم العديدين فقاتلوهم وقتلوهم عدواً بغير علم، وكفروا بالله على عهد نبي الله المسيح عيسى ابن مريم، فأنكروا نبوته، وشوهوا سمعته، وخاضوا في عرض أمه (شرفها الله) بكل اختلاق مشين وأعلنوا عليه حروب الشياطين، تآمروا عليه، وأغروا الرومان بصلبه لولا أن الله (تعالى) نجاه من بين أيديهم، ثم اندسوا بين حوارييه وأتباعه من أجل تحريف رسالته، وكفروا بالله على عهد خاتم الأنبياء والمرسلين فنقضوا كل العهود والمواثيق التي أبرموها معه، وألّبوا القبائل ضده، وتآمروا مع الكفار والمشركين عليه، وحاولوا قتله وسمه، ولكن الله (تعالى) نجاه من كل مؤامراتهم الخسيسة، وأغرقوا في الدس عليه بالإسرائيليات الكاذبة، ولكن الله - تعالى -تعهد بحفظ دينه الخاتم فحُفظ.
وركازة الكفر هذه اتخذت من محاربه قضية الإيمان بالله غاية لها في الحياة، ومن تحريف رسالتي موسى وعيسى (عليهما سلام الله) وسيلة من وسائل الاستعلاء في الأرض، ومن التخطيط الشيطاني تحت الأرض ومن كل من الجريمة والرذيلة، وسوء الاستغلال حرفاً احترفوها عبر التاريخ، فكرهتهم كل المجتمعات الإنسانية وأبغضتهم ونبذتهم، واضطهدتهم واعتبرتهم جنود الشيطان في الأرض وعبدة الطاغوت.
يهود اليوم
ولكن ركازة الكفر المتمثلة في يهود اليوم استطاعت بمؤامراتها الدنيئة اختراق الكنيسة في الغرب، وإقناع أتباعها الجهلة أن المسيح (- عليه السلام -) لن يعود عودته الثانية حتى تقام لليهود دولة في أرض فلسطين، وفي غيبة تامة من وعي العرب والمسلمين رتبت الحكومة البريطانية فرض الوصاية على فلسطين لتقديمها لقمة سائغة لعصابات من حثالات الأمم ونفايات الشعوب ليقيموا دولة لهم على أرض الفلسطينيين دون أدنى حق ديني، أو عرقي، أو تاريخي، أو لغوي، مخالفين بذلك كل القوانين الدولية، والأعراف والأخلاق والقيم.(/2)
ثم تولت الولايات المتحدة الأمريكية حماية هذه العصابات المجرمة بدعمها عسكرياً، واقتصادياً، وإعلامياً، وفي كل المحافل الدولية حتى ابتلعت غالبية أرض فلسطين، وأذاقت شعبها الأعزل ويلات الظلم والقهر والاضطهاد والتغريب والتعذيب والتشريد، وأغرقت هذه الأرض المباركة في بحار من الدمار والخراب والدماء والأشلاء، قتلت الأطفال والنساء والشيوخ والشباب، واعتقلت عشرات الآلاف منهم في سجون للتعذيب الوحشي اللاإنساني، وهدمت المساجد والمدارس والمستشفيات والجامعات، وجرفت الأراضي الزراعية، واقتلعت الأشجار من جذورها وسطت على ممتلكات الناس، والعالم من حولهم يتفرج وكأن الأمر لا يعنيه وأمريكا تدعم هذا الظلم الفادح بلا حدود.
وصدق الله العظيم الذي وصف هؤلاء الشياطين من قبل ألف وأربعمائة سنة بقوله الحق: " وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل 60 " (المائدة).
ولو لم ينزل في القرآن من حقائق الكون غير هذه الآية الكريمة لكانت كافية للشهادة له بأنه كلام الله الخالق الذي أنزله بعلمه على خاتم أنبيائه ورسله، وحفظه بعهده في نفس لغة وحيه بكل ما فيه من حق وصدق والله غالب على" أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون 21(يوسف).
http://www.almujtamaa-mag.com المصدر:(/3)
من أسرار عالم النوم
الدكتور حسان شمسي باشا
رغم أننا نقضي ثلث عمرنا في النوم ، إلا أننا لا نعلم إلا القليل عن النوم . والفكرة السائدة بين العلماء هي أن للنوم وظيفة مرممة وشافية للدماغ .
وليس الدماغ هو المستفيد الوحيد من النوم ، بل إن في النوم سكنا وراحة للجسم كله .
قال تعالى : (( ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيها والنهار مبصرا )) النمل 86 .
ولكن بعض الناس - وللأسف الشديد - يقلب ليله نهارا ، ونهاره ليلا وخاصة في رمضان.
والحقيقة أن في الدماغ ما يسمى بالساعة البيولوجية التي تجعلنا نستيقظ من النوم في ساعة محددة كل صباح ، وتشعرنا بالنعاس في الوقت ذاته من كل مساء إذا ما اعتدنا على ذلك.
ولا ينفرد الإنسان بوجود هذه الساعة بل هي موجودة عند الحيوانات أيضا . فمن المعروف أن الصراصير والبوم والخفاش والجرذان تنشط ليلا وتهجع في النهار ، بينما الحيوانات الأخرى يكون نشاطها الأعظم أثناء النهار .
وقد تم نقل نحلات من منطقة باريس إلى نيويورك فلوحظ أنها تنطلق للحقول لجمع الرحيق في نيويورك عندما يحين موعد جمع الرحيق في باريس . وليس موعد الجمع في نيويورك ، إذ أن ساعتها البيولوجية ما زالت مبرمجة على توقيت باريس .
ويعتقد الباحثون أن الغدة الصنوبرية التي تفرز الميلاتونين هي التي تمثل الساعة البيولوجية عنده . وعندما ينتقل أحدنا غربا إلى الجانب الآخر من الكرة الأرضية ، حيث يتأخر الوقت نحو 12 ساعة ، نلاحظ أنه ينشط عندما يحين منتصف الليل . فجسمنا مبرمج لأن نكون نشيطين في الساعة 12 ظهرا حسب توقيت بلادنا ، أي عندما ينتصف الليل في نصف الكرة الآخر ، والعكس صحيح . من أجل ذلك تضطرب حياة من يضطر بحكم عمله إلى الانتقال باستمرار شرقا وغربا ، كما هو الحال مع أطقم الطائرات ، وكذلك حياة من يضطرون للقيام بمناوبات ليلية ونهارية كالممرضات . وينطبق على ذلك من يحيلون ليلهم إلى نهار ونهارهم إلى ليل .
فإذا عملت أثناء الليل أو سافرت لمسافة بعيدة بالطائرة ، فربما تتكيف ساعة الجسم مع التوقيت الجديد للنوم ، ولكن قد يحتاج ذلك إلى بضعة أيام . وقد يشكو هؤلاء خلال ذلك من بعض الأعراض التي تشمل الأرق والإعياء والصداع وضعف التركيز .
وتشير الدراسات الأولية إلى أن استخدام حبوب الميلاتونين يمكن أن يفيد في التخفيف من أعراض السفر الطويل .
وقد أكد الأطباء أن أهنأ نوم هو ما كان في أوائل الليل ، وأن ساعة نوم قبل منتصف الليل تعدل ساعات من النوم المتأخر ، ويقول الدكتور شابيرو في كتاب Body Clock : إن الذهاب إلى النوم في وقت محدد كل مساء والاستيقاظ في وقت معين كل صباح لا يحسن نشاط المرء في النهار فحسب ، بل يهيئ الشخص لنوم جيد في الليلة التالية .
ويقول البروفسور أوزولد : " إذا كنت تريد أن تنام بسرعة حين تخلد إلى النوم فانهض باكرا في الصباح . وافعل ذلك بانتظام ، فبذلك تحصل على أفضل أنواع النوم . وتكون أكثر سعادة وأعظم نشاطا طوال النهار " .
أليس هذا ما كان يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ! ألم يقل عليه الصلاة والسلام : (( إياك والسمر بعد هدأة الرجل ، فإنكم لا تدرون ما يأتي الله في خلقه )) . فلم يكن الصحابة يسهرون الليالي الطوال يتحادثون ويتسامرون ، بل كانوا ينامون بعد فترة قصيرة من العشاء .
وفي ليالي رمضان يطيب قيام الليل لا بالحديث والسمر ، بل بالصلاة والتقرب إلى الله تعالى . وقد وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم عبادة داود عليه السلام فقال :
(( أحب الصلاة إلى الله صلاة داود ، وأحب الصيام إلى الله صيام داود ، كان ينام نصف الليل ، ويقوم ثلثه ، وينام سدسه . ويصوم يوما ، ويفطر يوما )) متفق عليه .
ولا شك أن في قيام الليل رياضة روحية وجسدية . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(( عليكم بقيام الليل ، فإنه دأب الصالحين من قبلكم ، وهو مطردة للداء عن الجسد ))
رواه أحمد والحاكم .
فلنجعل من رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه قدوة لنا في رمضان نأخذ قسطا وافيا من النوم ، ثم نقوم لقيام الليل ، ونعمل في النهار بلا كسل ولا فتور .(/1)
من أشكال الحوار 11/1/1426
أ.د. ناصر بن سليمان العمر
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
إن الحوار لأهميته تكرر كثيراً في القرآن، فالحوار هو سبيل إيصال الدين، وتعليم الجاهلين، وإقناع المعارضين، ومعرفة ما عند الآخرين، وهو القدرة على التفاعل المعرفي والعاطفي والسلوكي مع الناس، وبه يسهل تبادل الخبرات والمفاهيم بين الأجيال.
فلا عجب أن امتلأت دفتا المصحف بعرض مواضيع تتعلق بالحوار.
ولعل المتأمل في آي القرآن الكريم يلحظ أن الحوار ورد ذكره على خمسة أضرب، وقد يكتنف الضرب الواحد مدح وذم باعتبارات مختلفة:
- فقد جاء في القرآن ذكر الحوار على وجه العموم؛ سواء أكان ذلك بذكر نص لفظ الحوار أو مشتقاته، أو بذكر وصفه وما جرى فيه من أقوال للمتحاورين.
- ويأتي كذلك بذكر المجادلة.
- ويأتي بذكر المخاصمة، وأصل المخاصمة المنازعة، فإذا جاءت في الحوار دلت على نوع خاص من الجدال، وهو الذي يتنازع الحقَ فيه أكثر من طرف.
- ويأتي بذكر المحاجة، وهي ضرب من المخاصمة، فالتنازع في المخاصمة قد تكون معه محاولة الإتيان ببرهان، أو لا تكون، كأن يكون التنازع بنحو رفع الصوت، أو مجرد الادعاء، فإن كان التنازع عن طريق الإتيان بالحجج الناصرة لقول أحد المتحاورين كانت المحاجة إذ كل واحد من المتحاورين ينازع الآخر البرهان أو الحجة، ويزعم أن الحق حيث حج أو قصد.
- ويأتي بذكر المماراة، وهي مجادلة ومنازعة وطعن في قول الآخر تزيينًا للقول وتصغيرًا للقائِل بخلافه، ومنه قول الله _تعالى_: "فلا تمار فيهم إلاّ مراءً ظاهراً" والمراد: لا تجادل فيهم على نحو التجهيل والتعنيف (تمار)، إلاّ جدلاً وفق ما أظهرنا لك كقولك لهم: لا، لم يكون أصحاب الكهف ثلاثة ولاخمسة، وهذا القول فيه معنى المراء اللغوي لكونه يتضمن تكذيباً وتجهيلاً لمدعي خلافه، وقد خرج عن أصل المراء المذموم؛ لأنه لا مجال لتكذيب القرآن أو التساهل في تقرير ما قرر.
وكل هذه أقسام من أقسام الحوار وجميعها يحتاج إلى بسط وتفصيل وبحث لتعلم مواطن حمدها، ومواضع ذمها، ولعلي أقف اليوم مع المجادلة لأبين كيف تكون وجهاً من أوجه الحوار الهادئ، ومتى تكون ضرباً من الخصام الذي يذم أهله.
ومع التنبيه على أن أغلب ما تجيء المجادلة في النصوص الشرعية بمعنى المناقشة والخصام.
وأصل المجادلة من الجدل: وهو أصل واحد يفيد استحكام الشيء في استرسال يكون فيه، كامتداد الخصومة ومراجعة الكلام(1).
ومن هنا نخلص إلى أن المجادلة على معنيين يقتضي جميعهما أصل المادة:
1- الاسترسال في النقاش، ومراجعة الكلام مطلقاً بغير خصومة.
2- الاسترسال في مراجعة الكلام لأجل المخاصمة أو الشقاق أو المخالفة، وهذا الإطلاق في القرآن هو الأكثر.
أما الإطلاق الأول: وهو أن تأتي المجادلة للاسترسال في النقاش (مراجعة الكلام)، فكما في قول الله _تعالى_: "قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا" (المجادلة: من الآية1).
عبر بهذا اللفظ لا لكونها تطيل في الخصام وهو المعنى الذي غلب إطلاقه على الجدال، ولكن لكونها استرسلت في النقاش، وقد أورد ابن كثير في تفسير الآية:
"عن ابن عباس قال: كان الرجل إذا قال لامرأته في الجاهلية أنت علي كظهر أمي حرمت عليه فكان أول من ظاهر في الإسلام أوس وكان تحته ابنة عم له يقال لها خويلة بنت ثعلبة فظاهر منها فأسقط في يديه، قال:ما أراك إلا قد حرمت علي،وقالت له مثل ذلك قال فانطلقي إلى رسول الله _لى الله عليه وآله وسلم_فأتت رسول الله _صلى الله عليه وسلم_فوجدت عنده ماشطة تمشط رأسه، فقال: يا خويلة ما أمرنا في التابعين بشيء فأنزل الله على رسوله _صلى الله عليه وسلم_.
- فقال: "يا خويلة أبشري".
- قالت: خيراً.
- قال: فقرأ عليها "قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكى إلى الله والله يسمع تحاوركما"، إلى قوله _تعالى_: "والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا".
- قالت: وأي رقبة لنا والله ما يجد رقبة غيري.
- قال: "فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين".
- قالت: والله لولا أنه يشرب في اليوم ثلاث مرات لذهب بصره.
- قال: فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً.
- قالت: من أين ما هي إلا أكلة إلى مثلها.
- قال: فدعا بشطر وسق ثلاثين صاعاً، والوسق ستون صاعاً، فقال: ليطعم ستين مسكيناً وليراجعك.
وهذا إسناد جيد قوي وسياق غريب وقد روي عن أبي العالية نحو هذا...".
لهذا الاسترسال في النقاش والمراجعة، جاء التعبير القرآني: "تجادلك في زوجها"، ونسب المجادلة لها، لكون استرسالها في الكلام هو الذي سبب استرسال النبي _صلى الله عليه وسلم_ في الجواب وأنشأه. والله أعلم
وقد قرئ: "تحاورك" أي: تراجعك الكلام. وتحاولك، أي: تسائلك.
وهذا النوع من المجادلة لا ينهى عنه ولا يذم، طالماً أن الاسترسال في النقاش كان لمقتض صحيح.(/1)
أما الإطلاق الثاني: والذي يتضمن معنى المخالفة، أو المخاصمة، أو الشقاق، أو المحاجة، فهو الأكثر، وأمثلته أكثر من أن تحصر في هذا المقام ومنها:
"وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً" (النساء:107).
أي لا تجادل فتخاصم(2) عن الذين يخونون أنفسهم..
"يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ" (النحل:111).
أي تخاصم(3) وتحاج عن نفسها.
"وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ" (العنكبوت: من الآية46).
أي لا تحاجوا ولا تخاصموا أهل الكتاب إلاّ بالتي هي أحسن، ولهذا قال الطبري: قال ابن زيد في قول الله _عز وجل_: "لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ" (الشورى: من الآية15) لا خصومة بيننا وبينكم، وقرأ "وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ"(4).
والخلاصة أن المجادلة قسمان:
الأول: الاسترسال في النقاش أو مراجعة الكلام، والأصل في هذه الجواز طالما أن الاسترسال لمقتض صحيح.
الثاني: المخاصمة والمحاجة التي تنشأ عن شقاق ومخالفة، وهذه أكثر ما تطلق في القرآن للباطل، وتكون جدلاً مذموماً، ويجوز إطلاقها في الحق وهو قليل وتكون حينها جدلاً مشروعاً.
نسأل الله أن يرزقنا حسن الجدال عن دينه وشرعه بالتي هي أحسن، وأن يثبت حجتنا، ويسدد ألسنتنا، ويهدي قلوبنا، ويسلل سخائم صدورنا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
_____________
(1) معجم مقاييس اللغة لابن فارس 189.
(2) تفسير ابن جرير الطبري 5/270، والقرطبي 5/377،
(3) القرطبي 10/193، والطبري 14/185،
(4) تفسير الطبري 25/18.(/2)
من أمثال العرب*
الأمثال خلاصة تجارب الشعوب، تكون لها في الأصل خصوصيتها، ثم تصبح لها عموميتها بعد أن تَذيع وتنتشر، وتُنسى مناسبتها الأولى الخاصة، وقد قال المبرد:
"المثل مأخوذ من المثال، وهو قول سائر، شبه به حال الثاني بالأول، والأصل فيه التشبيه"
وقال إبراهيم النظّام:
"يجتمع في المثل أربعة لا تجتمع في غيره من الكلام: إيجاز اللفظ، وإصابة المعنى، وحسن التشبيه، وجودة الكناية، فهو نهاية البلاغة."
وهكذا يتميز المثل، من حيث هو صياغة نثرية، ومن حيث قيمته المعنوية، على لغة الحديث اليومية.
وطبيعي أنه ليس هناك عصر من العصور يستقلّ بإنتاج الأمثال دون غيره، فلكل عصرٍ تجاربه وأمثاله، لكن الملاحظ أن العصور التي كانت أشكال التعبير الفني فيها محدودة، كانت الأمثال أكثر وكان انتشارها أوسع، وكان هذا الوضع بالنسبة للعصر الجاهلي، فهو إذا قورن بعصرٍ كعصرنا الحاضر اتّضحت فيه هذه المزية، إذ تعدّدت في عصرنا أشكال التعبير وتنوعت، ووجد الناس وسائل لا تحصى، للتعبير عن أنفسهم تعبيراً فنياً، وانحصرت الأمثال في الدوائر الشعبية وعلى ألسنة العامة.
وما زال قدر هائل من أمثال الجاهلية معروفاً ومتداولاً حتى اليوم، ولكل مثل مناسبته الأولى، ثم أصبح الناس يتمثلون به في كل حالةٍ مشابهة لتلك المناسبة.
ومن ذلك قولهم:
(رجعَ بخفّي حُنين).
وهو مثل يُضرب عن الرجوع بالخيبة واليأس من الحاجة، وأصله أن إسكافاً كان يقال له (حُنين) أتاه أعرابي فساومه بخفّين فاختلفا حتى أغضبه الأعرابي، فلما ارتحل أخذ حنين الخفّين فألقى أحدهما على طريق الأعرابي، ثم ألقى الآخر على مسافة منه، وكَمَن بينهما بحيث لا يراه، فلما مرّ الأعرابي بالخُفّ الأول قال:
- ما أشبه هذا بخف حُنين، ولو كانا خُفين لأخذتهما.
ثم مرّ بالآخر، فندم على تركه الخفَّ الأول، فأناخ راحلته وأخذه ورجع في طلب الآخر، فأخذ حُنين الناقة ومضى، وأقبل الأعرابي إلى أهله ليس معه غير خفّي حنين، فذهب ذلك مثلاً.
ومن الأمثال المشهورة أيضاً قولهم:
(قطَعتْ جَهيزةُ قول كلّ خطيب).
وأصلُه أن قوماً اجتمعوا يخطبون في صُلح بين حَيَّين، قتل أحدهما من الآخر قتيلاً، ليرضوا بالديّة، فبينما هم في ذلك إذ جاءت أمَةٌ يقال لها (جَهيزة) فقالت: إن القاتل قد ظفر به بعض أولياء المقتول فقتلوه، فقالوا عند ذلك: قطعت جَهيزة قول كل خطيب.
وقد يتفق أن نجد عدداً من الأمثال قد استُخرج من مناسبة واحدة، أو انتُزع من سياق الحوار في حادثة ما، بين شخصيات على مستوى عالٍ من الفصاحة والخبرة، كما في خبر الزبّاء مع جذيمة الأبرش، وعمرو القصير، ونظير هذا النوع من الأمثال المنتزعة من موقف واحد، ما وضع على ألسنة الحيوانات، كقصة الثعلب مع الأرنب التي التقطت ثَمرة، واختصامهما إلى الضب ليحكم بينهما، فقد ورد فيها عدد من الإجابات التي صارت أمثالاً (سميعاً دعوتِ، عادلاً حكّمتما، في بيته يؤتى الحكم.. إلخ).
وربما كان هناك بعض الأمثال التي لا تعرف مناسبتها ولا قائلها، فبقيت أخبارها في مطاوي النسيان.
وقد كان من العرب في العصر الجاهلي من اشتهر بالحكمة ورويت عنهم أقوال كثيرة سارت مسار الأمثال، مثل أكثم بن صيفي القائل:
(إنك لا تجني من الشوك العنب).
وهو الذي يقول:
(الحزم سوء الظن بالناس).
وتختلف الحكمة عن المثل، في أنها نابعة من تجارب الإنسان الذي عرف حلو الحياة ومرّها وهي غالباً لا تقترن بحادثة معينة أو قصة معروفة.
ومهما يكن من شيء، فإن العرب في الجاهلية قد أكثروا من قول الحكم والأمثال، وأوْلَوها عناية خاصة، وتركوا لنا من ذلك ثروة عظيمة تعكس لنا أطرافاً من شؤون حياتهم وقيمهم الاجتماعية، يضاف إلى ذلك أن أشعارهم أيضاً ملأى بالأمثال والحكم التي ظلّت حية ناشطة في صدور الناس وعقولهم في مدى الأيام، وراحوا يضيفون إليها كل يوم جديداً مما يبتكرونه ويجري عفو الخاطر على ألسنتهم، حتى اليوم.
وقد جاء في القرآن الكريم، والحديث النبوي عدد وافر من الأمثال والحكم التي اكتسبت صفة خاصة بسيرورتها على الألسنة، ففي التنزيل:
- "إنها لا تعمى الأبصار، ولكن تعمى القلوب التي في الصدور".
- "وجاء الحق، وزهق الباطل، إن الباطل كان زهوقاً".
وممّا جاء في الأحاديث قوله عليه السلام:
_ "إن المُنْبَتَّ لا أرضاً قطَع، ولا ظهراً أبقى"(1).
- "لا يُلدغ المؤمن من جحر مرتين".
وقد أُثرت عن الصحابة أيضاً أمثال خاصة بهم، كقول أبي بكر الصديق:
(احرص على الموت توهب لك الحياة).
وقول عمر بن الخطاب:
(من لم يعرف الشر كان أجدر أن يقع فيه).
وقول عثمان:
(أنتم إلى إمام فعّال أحوجُ منكم إلى إمام قوّال).
وقول علي:
(إن من السكوت ما هو أبلغ من الكلام).
وهذه الأقوال كلها تجري مجرى الأمثال.
وقد كان العرب يضربون المثل ببعض الأشخاص، رجالاً ونساءً، كقولهم:
(أسخى من حاتم.
وأوفى من السموءل.
وأبلغ من سحبان بن وائل.
وأحلم من الأحنف بن قيس.
وأكذب من مسيلمة.(/1)
وأحمق من هَبَنّقة.. إلخ).
ومن الواضح أن هذا الطراز من الأمثال المشتقة من الصفات المتحققة في أقوى صورها، في أشخاص بأعيانهم، تؤكد أن سيرة هؤلاء كانت حيّة في ضمير العربي، وكانت تمثل جزءاً من ثقافته العامة.
هذا وقد صُنفت في الأمثال كتب كثيرة، بعد أن عُني بها علماء اللغة والأدب لأنها سجلّ من سجلات اللغة، ومن هذه الكتب: مجمع الأمثال للميداني، وجمهرة الأمثال لأبي هلال العسكري، والمستقصى في أمثال العرب للزمخشري، وكلها مطبوعة(2).
الهوامش:
* من كتاب: دروس في اللغة العربية. تأليف: محمد الأنطاكي، ومحمود الفاخوري.
(1) المنبتّ: الذي أجهد دابته حتى أعيت. يقال ذلك لمن يبالغ في طلب الشيء ويُفرط حتى ربما يفوّته على نفسه.
(2) كان اعتمادنا في هذا البحث على كتاب (المكوّنات الأولى للثقافة العربية) للدكتور عز الدين إسماعيل (77 – 88) مع شيء من التصرف والاختصار(/2)
من أنت وما دورك؟!.
لطف الله بن عبد العظيم خوجه(1) 1/1/1426
10/02/2005
من أنت؟، وما دورك؟.
(من أنت؟)
أنت إنسان.. أنت ابن آدم.. أنت مسلم، متبع لمن رضي الله عنهم، وأنزل السكينة عليهم.
- أنت إنسان!.
هل تعلم ما معنى: إنسان؟.
إن أصل كلمة "إنسان"، وكذا "إنس"، و "أنس": في كلام العرب من الإيناس؛ ومعناه: الإبصار.
يقال: أنَسْته، وأنِسْته؛ أي أبصرته.
وقيل للإنس: إنس. لأنهم يؤنسون؛ أي يبصرون.
كما قيل للجن: جن. لأنهم لا يؤنسون؛ أي لا يرون. كذا ذكر الأزهري.
وكذا جاء المعنى في القرآن الكريم، قال تعالى: "فإن آنستم منهم رشدا"؛ رأيتم.
وفي قوله تعالى: "آنس من جانب الطور نارا"؛ أي أبصر. فالاستئناس في كلام العرب بمعنى النظر.
وإنسان العين هو ما ينظر به، وهو السواد الذي في العين، قال ابن سيده:
أشارت لإنسان بإنسان عينها *** لتقتل إنسانا بإنسان كفها
فتحصّل من هذا أن كلمة "إنسان" في كلام العرب يرجع إلى معنى الظهور، عكس الجن.
ثم إنهم ذكروا للإنسان معنى آخر هو: النسيان. فقد أورد ابن منظور عن ابن عباس قوله: "إنما سمي الإنسان إنسانا؛ لأنه عهد إليه فنسي"، كما في قوله تعالى: "ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما". وبهذا قال الكوفيون: إنه مشتق من النسيان.
وبهذا فإن معنى الإنسان، الذي هو محور حديثنا، يرجع في معناه، في كلام العرب، إلى: الظهور، والنسيان.
ومعرفة هذه النتيجة لها دور مهم، في تحديد ما يجب أن يكون الإنسان عليه، فما دام أن الظهور أصل معناه، فيفترض به أن يكون الظهور سمته البارزة، فيحقق هذا المعنى في: نفسه، وطريقته، وحياته. فيكون ظاهرا في:
- مبادئه، وقيمه، وأخلاقه، ودينه الذي يؤمن به، فلا يستخفي، ولا يتوارى، كما يتوارى الجن.
- في أقواله، وأفعاله، يوافق ظاهره باطنه، مجتنبا لحن القول، ومخالفة الظاهر للباطن، كما هي حال المنافقين.
ومبنى هذا الافتراض، ووجوب التحقق: ما عرف وثبت، من أن الأسماء لها أثر في مسمياتها، وكما قيل: "كل له من اسمه نصيب"، فهذا في الأسماء المسماة باجتهاد واختيار الوالدين، فكيف بالاسم الذي تعلق بهذا الكائن، حين عدمه، وحين وجوده، والذي علقه به وأطلقه عليه، الذي خلقه، وهو أعلم به.
وأما النسيان، فيستفاد منه: أن الإنسان فيه هذا العقل. فهو الذي يتذكر، وهو الذي ينسى، فالنسيان علامة وجود العقل، وإذا عرف الإنسان أن معناه مرتبط بهذه الآلة: العقل. كان مما يجب عليه أن يرعى هذه النعمة حق الرعاية:بالحفظ، والنماء. فالعقل جرم عجيب، من حيث إنه صغير الحجم، لكنه كبير السعة، حفظا وفهما، فمن الرعاية استثماره وتنميته، وإهماله يعني فقد جزء أساس من الإنسانية.
ذلك في اللغة.. أما في الاصطلاح، فقد اختلف العلماء في تحديد ماهية الإنسان على ثلاثة أقوال:
الأول: أنه الروح وحده.
الثاني: أنه الجسد وحده.
الثالث: أنه الروح والجسد.
والصواب أنه روح وجسد؛ وذلك أن الجسد وحده لا يسمى إنسانا، والروح وحده لا يسمى إنسانا، ودليله قوله تعالى لزكريا عليه السلام: "وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا"، فهذا الخطاب لهذا النبي متجه إلى روحه وجسده، فلو كان جسدا وحده لم يخاطب بهذا، ولو كان روحا كذلك.
ولمعرفة هذه النتيجة أهمية ظاهرة في تحديد مهمة الإنسان، ودوره في الحياة:
فإن معرفة الإنسان عن نفسه أنه روح وجسد، ينتج عنها: عنايته بهما جميعا. فلا يبالغ لأحدهما دون الآخر، بل يعطي كلا حقه، وهذا ما يسمى بالتوسط:
- فيعطي الجسد حقه من: الرعاية، والتغذية، والحفظ، والنظافة، والتجمل، والتزين.
- ويعطي الروح حقه من: الرعاية، والغذاء، والحفظ، والتهذيب، والتزكية، والإصلاح.
ولو نظرنا في أحكام الشريعة: وجدناها تعامل الإنسان وفق هذا المبدأ: أنه روح وجسد. فثمة أوامر ونواهي متعلقة ببدنه، ومثلها بروحه:
- فالصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، والذكر: أوامر متعلقة ببدنه. والربا، والزنا، والسرقة، والخمر: نواهي متعلقة ببدنه.
- والإخلاص، والخوف، والرجاء، والتوكل: أوامر متعلقة بروحه. والرياء، والتكبر، والغرور، والعجب، والنفاق، والحقد، والحسد: نواهي متعلقة بروحه.
وقد أجمع أهل السنة والجماعة على أن الإيمان، وهو الدين: قول، وعمل: قول القلب واللسان، وعمل القلب والجوارح:
- فأما قول القلب: فهو التصديق، والإقرار.
- وأما قول اللسان: فهو النطق، والذكر، وقراءة القرآن.
- وأما عمل القلب: فهو الإخلاص، والمحبة، والخوف، والرجاء.
- وأما عمل الجوارح: فهو الصلاة، والزكاة.
فأعمال الدين مفرقة على جميع الإنسان: روحه، وجسده. فهذا الدين كله، ليس الدين الأخذ بالظاهر، وإهمال الباطن، وليس الدين الأخذ بالباطن، وإهمال الظاهر، بل الأخذ بهما جميعا.
هذا ما يتعلق بالإنسان، في تعريفه: لغة، واصطلاحا. بقي أن نقول:
- إن الإنسان اسم جنس يطلق على الذكر والأنثى.
إذن فكل ما قيل سابقا، يعم الذكر، والأنثى: الرجل، والمرأة. الشاب، والفتاة. بحد سواء.
* * *(/1)
أنت ابن آدم!.
هل تعلم ما معنى كونك ابن آدم؟.
ذلك يعني أن لك فضلا، تستمده من فضل أبيك، الذي فضل على: الملائكة، والجن، وسائر الخلق.
فالله تعالى أسجد لأبيك، الذي هو أصلك: ملائكته، والجن في شخص إبليس، فقال تعالى: "إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين * فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين * فسجد الملائكة كلهم أجمعون * إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين".
وكان سبب تفضيله:
- أن الله تعالى خلقه بيده: "قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي".
- أنه تعالى نفخ فيه من روحه: "ونفخت فيه من روحي".
- أنه تعالى علمه أسماء كل شيء: "وعلم آدم الأسماء كلها".
فنال شيئا، واختص بأشياء لم يكرم غيره بمثلها، فكرم وفضل، وسرى فضله وإكرامه في بنيه، حتى عمهم، وشملهم، فجنس بني آدم في أصله مكرم، مفضل على سائر الخلق، كما قال تعالى:
- "ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا".
وصورة هذا التفضيل ظهرت في أمور هي:
أولا: أن الله تعالى سخر له الأشياء: "وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه".
ثانيا: أنه ميزه بهيئة خاصة، تعينه على استثمار النعم المسخرة له، فهو قادر على الصنع، والإتقان، وتحضير الأطمعة المركبة، بما وهب من العقل، وحسن الهيئة، واليدين، فكلها مجتمعة تميزه.
ثالثا: أنه ميزه بالقراءة، والكتابة، والتعلم: "الرحمن * علم القرآن * خلق الإنسان * علمه البيان"، "اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم".
رابعا: تميز باجتماع جميع قوى الموجودات فيه، فهو في هذا نقطة جمع لجميع صفات المخلوقات، فما تفرق فيها اجتمع فيه، وهذا مقتضى قوله: "وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم":
- ففيه: الحرارة، والبرودة، والرطوبة، واليبوسة.
- وفيه شبه من البهائم، فيه: الإقدام كالأسد، والعدو كالفهد، والاختيال كالطاووس، والدهاء كالثعلب، والحرص كالنمل، والإصلاح والنفع كالنحل.
- كما أن فيه من شر أخلاق البهائم، وكذا الشياطين، من: شره، وعيث، وبلادة، وفظاظة، وليس بها يفضل، بل يفضل بمغالبتها، فما وضعت فيه، إلا لبيان فضله في قدرته على كبتها، وحكمها، ولجمها.
- وفيه من صفات الملائكة، من: طهارة، ونقاء، وصفاء، وطاعة، وامتثال، وعبادة، ونفع، وبركة.
وفائدة معرفة هذه الخصائص الآدمية للإنسان: أنه بها يعرف فضله، وتكريمه، وبها يحقق لنفسه الفضل:
- فيسعى في تحصيل الفضائل، والترفع عن الرذائل.
- ويغتنم جميع القوى النافعة فيه، فيستغلها كامل الاستغلال بما يعود بالنفع في الدارين.
- ويجد في التعلم، والتعليم.
- ويستثمر ما سخر له من المخلوقات، بما ينفع.
- وأن يكون ابنا لأبيه آدم في الصلاح، والطاعة، والتوبة، والاستغفار، والإنابة، فيحقق بنوة الصلاح والتقى، كما تحقق له بنوة النسب والصلة.. ويحذر أن يكون ابنا لإبليس في الحقد، والحسد، والمعصية.
* * *
أنت مسلم!.
هل تعلم ما معنى كونك مسلما؟.
إن معنى ذلك: أنك قريب من الله تعالى، من بين سائر بني آدم.
وقربك منه تعالى يعني أنك أفضل وأحسن من كل أولئك الذين لم يسلموا، وبه اختصك الله بمنزلة في الدنيا والآخرة، لم يختص بمثلها الذين لم يسلموا وجوههم لله تعالى، فمن ذلك: أن للمسلم أحكاما في الدنيا والآخرة، ليس لغيره ممن كفر بالله تعالى شيئا منها:
- فحرمتك، ودمك أعظم من الدنيا، وأهل الأرض جميعا، فلا دم يكافئ دم المسلم:
- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم)، (لو أهل السموات وأهل الأرض اشتركوا في دم مؤمن لأكبهم الله في النار).
وأعضاؤك مكرمة، محرمة، لا يجوز الإضرار بها، فكل شيء فيك اثنان، ففي كل واحد منهما نصف دية النفس، كاليدين، والرجلين، والعينين، والأذنين.. وكل شيء فيك واحد، ففيه الدية كاملة، كالعقل، والذكر، واللسان، والأنف.
والله تعالى كتب لك في هذه الدنيا الحياة الطيبة، والعيشة السعيدة، ومكانك في الآخرة في جنات عدن:
"من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون"، "مثل الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار أكلها دائم وظلها تلك عقبى الذين اتقوا وعقبى الكافرين النار".
فإذا عرفت منزلتك عند الله تعالى، فواجب عليك: العزة، والرفعة، والعلو بالإيمان، والقرب من الله تعالى، فمن كان قريبا من الملك حق له أن يفتخر، ويعز، لكن بغير ظلم، ولا عدوان، قال تعالى:
- "ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين"، "ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين".
* * *
هذا هو أنت أيها الإنسان، فهل عرفت قدر ما لك؟.
وهل أدركت عظم ما عليك من مسؤولية؟.(/2)
فالمسئوليات مرتبة على التكريمات، فليس من خص بشيء، كمن لم يخص، وليس من قرّب، كمن لم يقرّب، وليس من اصطفاه الله تعالى وفضله، كمن لم يصطفه، ولم يفضله. وما ذكر من وظائف وأعمال مترتبة على الخصائص، لم يكن إلا إشارات يسيرة، والمسألة تحتاج إلى بسط، وهذا ما سيكون.
فاعرف نفسك جيدا، واربأ بها أن ترعى مع الهمل..!!. لكن ما دورك؟.
* * *
(ما دورك)؟.
بعد أن عرفت: من أنت؟، جاء الدور لتعرف: (ما دورك)؟.
فالمعرفة إذا لم يتبعها تطبيق وعمل، فإنما هي حجة ووزر على العارف، والمشركون واليهود والنصارى لم يكن ذنبهم أنهم ما عرفوا الحق، كلا، بل لأنهم لم يعملوا بما علموه منه:
"الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون".
وليس هذا مقام تقرير هذه المسلَّمة، فيكفي فيه أن نذكّر: بأن إهمال العمل وسيلة لنسيان العلم نفسه. فإنه ما أهمل إنسان العمل: بإنسانيته، وآدميته، وإسلامه. إلا وعلمه بهذه الأصول إلى أفول.
* * *
ما دورك أيها الإنسان، يا ابن آدم، يا مسلم، يا متبع: في هذه الحياة؟.
فيما تقدم تبين أن للإنسان خصائص هي: الظهور، والعقل، والتوسط، والآدمية، والإسلامية.
وبحكم العادة: فإن الأدوار، والوظائف، والأعمال دائما ما ترتبط بالخصائص والأوصاف، فكل خصيصة فلها دور ووظيفة، وبما أن كلامنا عن الإنسان المسلم، فلا بد إذن من أن نضمّن تلك الخصائص معاني الإسلام، لتؤدي دورا أرقى وأسمى، من مجرد كونها خصائص إنسانية، دورا يتنسم روح الإيمان، ويصطبغ بصبغة الله تعالى: "ومن أحسن من الله صبغة"، وهكذا نريد أن نعرض لكل خاصية:
* * *
الخاصية الأولى: الظهور وعلاقته بدور الإنسان في الحياة.
جاء النور وصفا للوحي المنزل، فقال تعالى:
- "يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا".
والنور صفة ظاهرة، عكس الظلام الذي هو صفة خفية، فأحكام الوحي كلها برهان، وبذلك فإنه يفترض في معتنق هذا النور: أن يظهر عليه أثره: نورا، وبرهانا. في كل شيء، فالنور لا يجوز إخفاؤه.
وظهور النور عليه يعني: ظهوره به وإعلانه، وجرأته في نشره وبثه. بل لا يملك حجب ما عليه من نور ولايقدر، فيعرفه كل من حوله به، يعرف: بأخلاقه، ومبادئه، وعقيدته، وأفكاره، وأقواله، وأفعاله. كصفحة بيضاء. يراه الجميع، لا يستخفي استخفاء المنافق، ولا يتوارى تواري الجن. وهذا في الأصل، والاستثناء له أحكامه، فالمكره، والمضطر الخائف من ضرر بالغ على نفسه، أو دينه أن يفتن له حكمه الخاص.
لكن هاهنا مسألة: قد يصيب بعض أهل الحق نوع من الاستخفاء، والتردد وعدم الوضوح، ليس سببه الإكراه، بل علة أخرى في حقهم هي: عدم وضوح الحق لهم في بعض المسائل، وعدم الاهتداء إلى تحريرها.
ومرد هذه العلة: نسيان المنهج الصحيح لمعرفة الصواب في مسائل الاختلاف. فإن النصوص حمالة أوجه، وقد تسبب ذلك في اختلاف الناس، ووجد الزائغ فرصة للتلبيس، فانتشرت الأقوال المختلفة في المسألة الواحدة، فاحتار كثير من الناس لايدرون: أين الحق؟، وأين النور؟!!.
ولما كان الله تعالى قد تكفل حفظ دينه، فلم يكن من العسير الخروج من هذه المشكلة اليسيرة، وذلك إنما يكون باتباع المنهج الصحيح لحل مسائل الخلاف، وهو: اتباع فهم الصحابة رضوان الله عليهم للنصوص.
فإنهم مقدمون في الدين: كون الله تعالى رضي عنهم.. وكونهم شهدوا التنزيل.. ولأن الله تعالى بين في كتابه أنه ألزمهم كلمة التقوى، وأنهم أحق بها وأهلها، وأن من آمن بمثل ما آمنوا به فقد اهتدى، ومن تولى فهو في شقاق. إذن، لا إشكال، فكل مسألة اختلف العلماء فيها: فالصحابة رضوان الله عليهم حكم وفيصل.
وإذا تساءل أحد: ماذا نصنع إزاء ما اختلف فيه الصحابة أنفسهم؟.
فيقال: المسائل عن الصحابة أربعة:
أولا: ما أجمعوا عليه، فالنور فيه، والظلمة في مخالفته، كما أجمعوا على كفر تارك الصلاة، وغير ذلك.
ثانيا: ما كان عليه كبارهم، كالأئمة الأربعة، أو جمهورهم، فالنور فيه.
ثالثا: ما ذهب اليه بعضهم، واشتهر قولهم فيه، ولم يخالفهم أحد، فالنور فيه.
رابعا: ما اختلفوا فيه، وتساوت أقوالهم، فالنور فيها كلها، فهنا الخلاف سائغ.
فهذا هو النور، وهو المحجة البيضاء، التي تركنا عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، فإذا علم هذا، فقد تبين الطريق لاعتناق هذا النور، ووسيلة الاستمساك به، وكلما كان التمسك به قويا، كان ظهوره أشد وأبين، فلا يملك حامله إلا الظهور به، دون خوف أو وجل، بل بعزة وعلو بالحق، دون ظلم، ولا عدوان، يلقي بهذا النور على الناس، فيأتيهم بالطيب، والحسن، والبر، فيكون كالطبيب، يصارح المريض بمرضه، ويعالجه بصدق، ويسعى فيه بأمانة، وإخلاص، ومحبة، وشفقة.
* * *
الخاصية الثانية: العقل وعلاقته بدور الإنسان في الحياة.(/3)
العقل هو الحكمة، وحاجة الإنسان إلى الحكمة غاية في الأهمية، خاصة إذا تعلم وفهم أهمية التخلق بصفة الظهور؛ بالجرأة، والصدع بالحق، فإنه كثيرا ما يساء فهم هذا المعنى الدقيق، فيظن أن معناه: الإقدام بغير شرط، ولا قيد. وهذا خطأ، فالتحلي بالقوة، والثبات، لا يلزم منه التهور، والإقدام من غير روية، كلا، بل تجب مراعاة الحكمة، والأدب، والذوق. فالشجاعة من غير حكمة يقتل صاحبها ويهلك، وإن تراجع صاحب الحق، واستعماله الحكمة في مواطن الخطر والريب: عين الشجاعة. فليست الشجاعة الإقدام في كل حال، وليس الشديد بالصرعة، إنما الذي يملك نفسه عند الغضب، فالأسد مضرب المثل في الشجاعة، ثم إنك تراه في كثير من المواطن ينهزم، ويكف، ليس خوفا، ولا جبنا، لكنه يقدم حين ترجح المصلحة، ويتأخر حين ترجح الضرر، لكن تراجعه لم يكن يوما لينسبه إلى الجبن، والخور، والخوف، فالشجاع معروف، والجبان معروف، فلا تراجع الشجاع يفقده وصف الشجاعة، ولا إقدام الجبان ينفي عنه وصف الجبن.
وقد جاءت الشريعة بمراعاة المصالح والمفاسد، ودفع الضرر، وارتكاب أهون الشر، وقد قيل:
"ليس الفقيه من يعرف الخير من الشر، ولكن الفقيه من يعرف خير الخيرين، يعرف شر الشرين".
والنصوص أوضحت أن القوة لا تنافي الحكمة، فجاء الأمر بالصدع، كما جاء الأمر بالحكمة، قال تعالى:
- "ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن".
- "فاصدع بما تؤمر وأعرض على الجاهلين".
فعلم أنه لا تعارض بينهما، فالصدع بالحق لا يعارض إعمال الحكمة؛ فإن الإنسان في قدرته قولة الحق، مع الأدب، واللين، والشفقة، والرحمة، والمحبة.. وأما الربط بين الصدع، وبين العنف، والقسوة، والشدة، فمن أوهام الناس، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد كان أقوى الناس في الحق، وكان أيضا رحيما، حليما، صابرا، محبا، راجيا هداية الناس، داعيا لهم، ناصحا، مخلصا، فعلم من ذلك أنه لا تعارض.
ولو كان الدين هو الجرأة، والصدع وحده، لما أمر المسلمون بالكف عن الجهاد في مكة، ولما شرط للجهاد شروط، ولما أذن بالخدعة والكذب في الحرب، فالحكمة في آعمال العقل لتوقي الضرر، وجلب المصلحة. يقول الله تعالى: "يؤت الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا".
* * *
الخاصية الثالثة: التوسط وعلاقته بدور الإنسان في الحياة.
هذه الأمة أمة الوسط، قال تعالى: "وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس".
فالوسط نعت الأمة الأعظم، وشعارها الأكبر، فهو المقياس للاتزان والتوازن، والارتكاز ونقطة الجمع، فكل ما خرج عنه فهو طرف، وهذه قاعدة كلية عامة، وهذه جملة من معالم الوسطية.
- فالوسط: إعمال النصوص كلها، والطرف إعمال بعضها، وإهمال بعضها.
- والوسط: اقتفاء أثر من سلف من الصحابة رضوان الله عليهم، فهم أمة الوسط، والطرف اقتفاء غيرهم.
- والوسط: التعبد بالقلب، واللسان، والجوارح، والطرف الإخلال بشيء منها.
- والوسط: قبول الخلاف في فروع المسائل: العقدية، والفقهية. أما الأصول (كأركان الإسلام والإيمان) فلا يسوغ قبول الخلاف فيها، فالوسط العمل بالأصول، والطرف رفضها، مع العلم أن هناك من يعبث بالأصول، فيجعلها فروعا، لكن هذه الحيلة ليست بناجحة، بعد أن تبين أن الطريق لفهم الدين الصحيح هو: اتباع الصحابة. كما وضحنا ذلك في التقسيم السابق.
- والوسط: التفريق بين وصف الفعل بالكفر، ووصف الفاعل به، فلا يثبت الكفر على معين، بمجرد الفعل، حتى تتحقق الشروط، وتنتفي الموانع، فإطلاق الكفر على معين، بمجرد وقوعه فيه: طرف.
- والوسط: إحسان الظن بالمسلم، والتماس العذر له، وعدم التسرع باتهام قصده ونيته.
- والوسط: حمل الكلام الموهم على الواضح، وتفسيره به، والطرف عكس ذلك.
- والوسط: أن يقول المرء ما له وما عليه، وإذا جادل فغرضه الحق، لا الانتصار للنفس.
* * *
الخاصية الرابعة: الآدمية وعلاقتها بدور الإنسان في الحياة.
تكريم الإنسان يفرض عليه مراعاة هذا التكريم، وإلا فالعقوبة مضاعفة، فالقاعدة: أن كل من اصطفي ضوعف في ثوابه، كما يضاعف في عقابه. والإنسان إذا لم يرع هذا التكريم حقه سقط أسفل سافلين، وكان أضل من البهائم، كما قال تعالى:
- "لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم * ثم رددناه أسفل سافلين * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات".
- "أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا * أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا".
فكمال النعمة يوجب القيام بموجباتها، وذلك:
- بالسعي في اكتساب فضائل: الأخلاق، والأفعال، والأقوال، والمبادئ، والأفكار، والاعتقاد. مثل: الجد والاجتهاد، والسعي والعمل، والصدق والأمانة، والإخلاص، والكلمة الطيبة، والتدين والإيمان، والتواضع وسلامة الصدر.(/4)
- والترفع عن سفاسف الأخلاق، وصغائرها التي لا تليق بمكرم. مثل: الكبر، والعجب، والغرور، فلا ينسى أن أصله من تراب، ومن نطفة، وهي عناصر سفلية. ومثل الإقبال على: اللهو، واللعب، والعبث. واستعمال الكلام البذيء، والكذب، والنفاق، والإلحاد، والظلم، والكسل، والبطالة، والبلادة.
- التعلم، والتعليم، وكسب المعارف، والانتفاع بالقدرة على الكتابة، والقراءة، واستعمال العقل.
- استثمار خيرات الأرض المسخرة، وتسخيرها لنفع الناس، وهدايتهم، ورعايتهم، دون الإضرار بهم.
* * *
الخاصية الخامسة: الإسلام وعلاقته بدور الإنسان في الحياة.
المؤمنون هم الأعلون، والدور المترتب على هذه العقيدة: الاعتزاز بالإسلام، والتمسك به، ودعوة الناس إليه، باستعمال كل الأوصاف الراسخة في الإنسان، من: ظهور، وعقل، وتوسط، وآدمية بكل أوصافها من: فضائل، وتواضع، ولين جانب، وخضوع، وعمارة للأرض. يسخر كل هذه، ويستعملها في الدعوة إلى الله تعالى، وبقدر ما يحصل من تلك الأوصاف، يكون تأثيره، فحيث استكملها كمل التأثير، وحيث أنقص ضعف بقدره، فمن أخل بصفة منها، اختل تأثيره. فدور الإنسان في هذا الحياة باختصار أمران:
الأول: أن يمتثل خصائص الإنسانية في نفسه، ويحققها بالكمال قدر المستطاع.
الثاني: أن يستعملها في إيصال النور الذي معه إلى المحرومين.
دور الإنسان يستحق أكثر مما ذكر، لكن المقام لا يتسع، فيكفيه أن يحفظ خصائصه، ليعلم دوره.
------------
الأستاذ المساعدة بقسم العقيدة بجامعة أم القر(/5)
من أنماط العولمة العولمة الثقافية
8/10/1424
أ. د .ناصر بن سليمان العمر
ثانياً العولمة الثقافية:
الثقافة لفظ عام ولعل ما يهمنا هو مفهومها عند دعاة تصديرها وعولمتها، أو بتعبير أدق عند من يملك الآلة المادية لتصديرها وفرضها، فكلمة culture التي تترجم إلى العربية على أنها الثقافة والتهذيب وقد يعطونها أحياناً معنى الحضارة، هذه الكلمة جذرها cult، ومعناها: عبادة ودين، ومن مشتقاتها cultivation، ومعناها: تعهد، تهذيب، رعاية.
وعند النظر إلى اصطلاح الثقافة عند الغربيين نجد أن من عرفها لايخرج كثيراً عن معناها اللغوي ورغم تباينهم في ضبطها بحد جامع مانع، إلاّ أنهم يتفقون على أهمية العقيدة ودور الدين في صنع الثقافة وتوجيه سلوك الإنسان(1).
وماتهدف إليه العولمة الثقافية هو إيجاد ثقافة عالمية، تعني بتوحيد القيم، حول المرأة والأسرة , وجميع ما يمكن أن يندرج تحت لفظة (الثقافة)، فهي توحيد للثقافات بغير حدود، وآلة ذلك الإعلام بوسائله المختلفة، والاتصالات بقاطاعاتها المتعددة، وهذه العولمة مبنية على سرعة انتشار المعلومات، وسهولة حركتها مع إمكانية الوصول إليها بغير رقيب أو حسيب.
ولا يكاد يؤيد العولمة الثقافية المطلقة في المجتمعات الإسلامية والعربية إلاّ بعض الحداثيين الذين لايدينون بقضية ولا يعترفون بهوية، فهؤلاء لاتحمل العولمة عندهم أي تهديد ثقافي، بل تقدم فرصاً لتجاوز نهائي وحاسم للخصوصيات المريضة، والموروثات الثقافية التي سيطرت على المجتمعات العربية في الحقبة الماضية، وهؤلاء شراذم قليلة في أغلب المجتمعات، وخاصة الإسلامية.
أما بالنسبة للآخرين، على تعدد مشاربهم القومية والدينية، فالعولمة تعني بالضرورة اختراق البنية الثقافية المحلية، وتفاقم مخاطر الاستلاب والغزو والاستعمار الثقافي، بل مخاطر محو الهوية ونزع الخصوصية الشخصية، التي ما زالت الأمم تضحي بالأرواح في سبيل الحفاظ عليها.
وإذا علمنا -استناداً إلى إحصاءات الأمم المتحدة- أنه قد اقتُلع أكثر من 75 مليون إنسان من بيوتهم في الربع الأخير من القرن العشرين بسبب الحروب والصراعات الدينية والإِثنية والقبلية، فإنه لايمكن أن نعلل ذلك بغير حرص الناس أياً كانت مشاربهم على الحفاظ على هويتهم وخصوصيتهم، ورفضهم تسلط أي أفكار أو ثقافة دخيلة على المجتمعات،
والناس إزاء رفض هذا النوع من العولمة طوائف تتعدد رؤاهم بحسب أفكارهم وهوياتهم منهم الساذج الذي يرفض العولمة الثقافية؛ لأن ما جاءت عَبره من وسائل حديثة ومبتكرات عصرية سوف تقتل الحس الشعري والإبداع القريحي الفطري! وقد عبر عن ذلك بعض الأدباء المعاصرين ممن يشار إليهم بالبنان قائلاً: " مع قدوم القرن الواحد والعشرين، سيحمل الشعر حقائبه، ويسافر إلى جزيرة في عرض البحر. لا توجد فيها تكنولوجيا متقدمة، ولا أقمار صناعية، ولا تلفونات موبايل …ولا إنترنت"!
وآخرون يرون في قبولها جملة تغيير للدين، وقتل لكثير من حميد السلوك والأخلاق، وطيب الخصال والعادات، ودعوة تبيعة ذيلية للغرب.
والذي يتأمل واقع الناس اليوم يلحظ أن العالم يشهد تطوراً مطرداً في مجال الاتصالات والإعلام وسائر العلوم التجريبية المختلفة، وعلى الرغم من هذا التقدم المذهل، وعلى الرغم من دعاوى العولمة تظل نسبة المالكين لهذه المبتكرات محدودة جداً.
فالإحصائيات تفيد بأن حوالي: "15 بالمائة من سكان العالم يوفّرون تقريباً كلَّ الاِبتكارات التكنولوجية الحديثة، و50 بالمائة من سكان العالم قادرون على استيعاب هذه التكنولوجيا استهلاكاً أو إنتاجاً، و بقية سكان العالم 35 بالمائة، يعيشون في حالة انقطاعٍ وعزلةٍ عن هذه التكنولوجيا"(2).
أما براءات الاختراع المسجلة فقد نبهت هيئة اليونسكو في تقريرها العلمي الأخير، إلى تدني نصيب الدول العربية من براءات الاختراع التكنولوجي على مستوى العالم، حيث بلغ نصيب أوربا من هذه البراءات 47.4%، وأمريكا الشمالية 33.4%، واليابان والدول الصناعية الجديدة 16.6% وبقي حوالي 2.6% يتنافس فيها العالم.
ولا يرى بطبيعة الحال دعاة العولمة أن من واجبهم أو واجب المؤسسات إشاعة المعرفة التي توصلت بها شركة أو مؤسسة إلى ابتكار ما أو اختراع، ولكن غاية ما هناك أن يستغل نفوذ الإعلام وتطوره المذهل في تصدير الدعاية لاستهلاك تلك المبتكرات العلمية، بالإضافة لثقافات أخرى تراها الشعوب المصدرة حريات تفخر بعرضها، وأفكار من واجبها الدعوة إليها، وكثير منها وسائل قصدوا بها تغيير فكر وثقافة الآخر وصهره في الفكر الحداثي الغربي.
وقد نسب الفرنسي (جيل كيبيل) الخبير في الشؤون الإسلامية، والذي تحدث عن حتمية دخول العالم الإسلامي في الحداثة، وانصهار المسلمين في الديموقراطية، نسب الفضل في التحول المرتقب نحو العولمة إلى ثورة الاتصالات والمعلوماتية التي ستدخل فضائل الديموقراطية في وعي الأمم الإسلامية.(/1)
وإذا تأملت حال بعض الشعوب وجدت ذلك جلياً، فأي شعب من شعوب ما يسمى بالعالم الثالث أثرت فيه الثقافة الغربية المصدرة، فجعلت من شبابه رجالاً يحاكون (توماس أديسون) في المثابرة والتحصيل، أو يسيرون على خطى (آنشتاين) في البحث والتأصيل؟
كم عدد هؤلاء؟ وما نسبتهم إلى من يترسمون خطى (شوارزنجر) و(جيمس بوند) ويتابعون جديد أستاذ ثقافتهم (هوليود)!!
حتى غدا المثقف –للأسف- عند كثير من هؤلاء هو من يعرف أشهر الأفلام وأبطالها، والجاهل الأضحوكة من يخلط بين (بوب مارلي) و (مايكل جاكسون)!
بل أصبح المثقف في ذهن كثيرين هو الذي يعرف بعض مشاهير الغربيين من ممثلين وفنانين ولاعبين وغيرهم من حثالة المجتمع، والأدوار التي قاموا بها، والبطولات التي حققوها! وعلامة الثقافة عندهم أن يذكر هؤلاء في كتاباته ومقالاته!
وهذا الفهم هو ما يريده الغربيون بعولمة الثقافة، فهم يريدون أن تطغى الثقافة الحداثية (الغربية) على كافة الثقافات، وقد صرح عدد من أعمدة الفكر الغربي المعاصرين، مثل (فرنسيس فوكوياما) أن عولمة الثقافة لا تتأتى إلاّ بسيطرة ثقافة معينة على الثقافات المتعددة.
فليست العولمة الثقافية إذن انتقالاً من ظاهرة الثقافة الوطنية والقومية إلى ثقافة عليا جديدة تسمى بالثقافة العالمية، بل هي اغتصاب ثقافي وعدواني رمزي على سائر الثقافات، وبخاصة ثقافتنا العربية والإسلامية ، ووفقاً لفرضية (فوكوياما) في (نهاية التاريخ و الإنسان الأخير) فإنه يرى أن الحداثة هي التي ستطغى وتظهر في المجتمعات الراديكالية، وأن مصير الراديكاليات إلى زوال وسقوط بما في ذلك الراديكالية الإسلامية التي لا يمكن أن تكون عالمية(3)، وهذا ما أيده العديد من خبرائهم المختصين، وقد سبقت الإشارة إلى كلمة (جيل كييبل)، غير أنهم يرون سقوط جميع الراديكاليات حصل فعلياً بما فيها الشيوعية، غير أن الإسلام (الراديكالي) لا يزال يسبب إشكالات، ولكن حربه ومنعه من إقامة تحالفات مع الكونفوشستية الصينية، وقيام النظم العلمانية كفيل بحل النظام الإسلامي.
هذا ما زعموه، ومع أن حلهم المقترح هو الواقع الماثل فلا تحالف للإسلاميين مع ثقافات كونفوشسانية ولاغيرها، كما أن الحرب مستعرة على الإسلام، وكثير من دول المسلمين علمانية، لا يتجاوز حكم الإسلام فيها قانون الأحوال الشخصية، ومع ذلك (مشكلتهم!) لاتزال قائمة تزداد يوماً بعد يوم.
ومع أني لست أدري لماذا تعد العلمانية حلاً يمكن أن يجيء بالديمقراطية والليبرالية والثقافة التي يدعون إليها، مع أنها جاءت في الاتحاد السوفيتي –بعد سقوطه- بالشيوعية والاشتراكية مرة أخرى! وجاءت في بعض الدول بقوميات ما أنزل الله بها من سلطان!
ومع أن هذا الرفض للتبعية الغربية أو لمحاولات الاستنساخ لا ينفرد به أصحاب الاتجاهات الإسلامية وحدهم، وإنما هو موقف لكافة التيارات الوطنية والقومية المتباينة اللهم إلاّ ممسوخوا الهوية من الحداثيين، وهؤلاء لا يخالفون بقية القوى الوطنية، بل يخالفون العالم أجمع في سبيل موافقة الغرب.
ومع أن واقع الدول الإسلامية بعيد كل البعد عن تمثيل من ينعت بالأصولية الإسلامية! بخلاف بعض الدول الأخرى التي نجد للتيارات الأصولية دوراً فاعلاً فيها، فتنامي دور الأصولية المسيحية في الولايات المتحدة، واليهودية في إسرائيل، والهندوسية في الهند لايجوز غض الطرف عنه، فإن تأثيرها على القرار السياسي أصبح قوياً في تلك البلدان، كما أن تأثير الاشتراكية كان ولايزال في دول أخرى، في حين أن ما يسمى بالأصولية الإسلامية مازالت خارج دائرتي التمثيل الثقافي الرسمي، والقرار السياسي، بل هي قوى مطاردة في العالم العربي على الأقل(4).
مع كل هذا فإن هؤلاء (المفكرون!) يتصورن أن مشكلة المسلمين في النظام الإسلامي الجذري أو (الراديكالي) _كما يقولون_!
إن هذا التصور الخاطئ يمثل أول الإشكالات التي تكتنف العولمة.
والإشكال الثاني هو في إصرار الباحثين الغربيين على اعتبار التغريب معياراً وحيداً للحداثة، التي ينبغي أن يتبناها العالم ليصل إلى الرقي والتحضر.
والإشكال الثالث: هو اعتبارهم أن الحداثة هي الثقافة التي يجب أن تفرض على الجميع، وأخيراً الإشكال الكبير وهو عدم اكتشاف هؤلاء لما يعيشونه من وهم ومشاكل كبرى بسبب الشق الآخر من الحداثة، فالحداثة جزآن جزء يدعو إلى التطور والتقدم في مجالات العلوم التطبيقية وآلاتها، وجزء يدعو إلى التحلل والتفسخ من روابط وقوانيين الأديان ومعتقداتها، وما يريدونه منا هو أن نأخذ الحداثة بجزئها الثاني، ولا أظن أنه يعنيهم كثيراً أخذنا لجزئها الأول ولا أقول أو تركه، فهم لا يدعون إليه ولا يقدمونه، وإنما هو علم (باطن) لايمكن أن يناله إلاّ من (اصطفوه)، والأصل أنه محتكر ضمن أروقة المؤسسات الكبرى.(/2)
إن مشكلة الثقافة الإسلامية الحقيقية مع الغرب، بل مشكلات الثقافات والحضارات الأخرى مع هؤلاء هي في رفضهم الاعتراف بشرعية النموذج الحضاري الذي يحاول أن يبني نفسه على نحو مستقل، يرفض تجارب الاستنساخ الغربية، فضلاً عن أن تكون لهم أذن يصغون بها لما يقدمه الآخر (غير الغربي)، أو عقول حاضرة تقيم مايقول!
فخيارات دعاة العولمة الجديدة محدودة، إما أن تكون تبعاً، وإما تكون غيراً، وإذا كنت غيراً فأنت حضارة أخرى تجري عليك نظرية "صراع الحضارات" التي أعدت في الكابيتول هول وروج لها (صمويل هنتنجتون) في كتابه الشهير، وحلم بنتيجتها (فوكوياما) في نهاية التاريخ.
وأما مفكرو أهل الإسلام فهم على ثقة من أنه متى ما أصغت الآذان، وحضرت العقول، وأحضرت الحجج، فإن العالم لن يرضى بغير الإسلام بديلاً، فإن فيه ذكرى "لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد".
--------------------------------------------------------------------------------
1 نقل الدكتور معن زيادة في كتابه (معالم على طريق تحديث الفكر العربي) (ص30 وما بعدها) العديد من تعريفات الغربيين لمصطلح الثقافة.
2 (العولمة والحياة الثقافية في العالم الإسلامي) لعبدالعزيز التويجري.
3 ومايزال الغربيون يروجون لفرضية فوكوياما ويمجدونها، حتى أن كتابه نال جوائز باعتباره كتاب الساعة، وروج له العديد من مشاهير الثقافة الأمريكية على صفحات أشهر الصحف، وعلى العموم مايزال ينشر فكرته هذه ويكتب حولها بين الفينة والأخرى.
4 مستفاد من مقال جيد للأستاذ فهمي هويدي، بعنوان: خطأ في التشخيص وفي العلاج، نشر في الشرق الأوسط بتاريخ 24/ديسمبر/2001م.(/3)
من أنماط العولمة الاقتصادية
24/9/1424
أ. د .ناصر بن سليمان العمر
يتحدث الناس عن مجالات مختلفة للعولمة، منها: الاقتصادي، ومنها الثقافي، ومنها الإعلامي، ومنها السياسي، ومنها العسكري، وغير ذلك.
وهذه المجالات متداخلة فيما بينها، يصعب فصلها، غير أن الثلاثة الأولى هي مفاتيح أنماط العولمة الأخرى وأهم آلاتها، فالاقتصاد والثقافة والإعلام، هي التي تصنع المجتمعات، فالسياسات وما يتبعها، فلهذا ولأن تفصيل الحديث عن أنماط العولمة المختلفة يحتاج إلى جهد وبسط ربما طال أمده، أكتفي في هذه الدراسة بالإشارة إلى الأنماط أو المجالات الرئيسة للعولمة.
أولاً العولمة الاقتصادية:
الأسئلة التي سبق طرحها يعاد طرحها مرة أخرى لفهم المشكلة الاقتصادية، فطالما أن الأعراق متنوعة، والثقافات متعددة، والأديان مختلفة، والأهواء متباينة، فمن يحكم هذه الصبغة الواحدة؟ من يضع ضوابطها ويحدد قوانينها؟
ولأن هذا نزر يسير من الأسئلة والإشكالات، فلا عجب أن تشهد (براغ) عنفاً لم تشهد مثله منذ قرون! فقد انقلبت العاصمة التشيكية في سبتمبر من عام ألفين رأساً على عقب، ففي اليوم السادس والعشرين تلقى عشرات الآلاف، بل مئات الآلاف من خلال شبكة الإنترنت رسالة تحدد موعداً للقيام بتحرك في مدينة (براغ) التشيكية، وتطالب الرسالة أولئك الذين تلقوها بالحضور في الموعد المحدد من أجل المساهمة في التظاهر ضد العولمة والرأسمالية العالمية؛ للاحتجاج على الشركات والمؤسسات الكبرى التي أصبحت تتحكم بمصائر العالم من خلال تزايد نفوذها أكثر فأكثر وما يتبع ذلك من آثار مأساوية على العديد من شعوب العالم، وخاصة الفقيرة منها المستثناة عملياً من دورة المناقصة التجارية،
وقد تم اختيار الموعد على ضوء انعقاد المؤتمر السنوي لصندوق النقد والبنك الدوليين في مدينة (براغ) نفسها، ومما يلفت النظر أن الدعوة وجهت خطاباً خاصاً لمن سبق له التظاهر ضد العولمة في (سياتل) و(ملبورن) و(لندن).
ويرى بعض الغربيين: أن العولمة الرأسمالية والحركات النقابية والعمالية والاجتماعية المضادة لها سيكون بينهما صراع كبير في القرن الحادي والعشرين، وقد ابتدأ بالفعل هذا الصراع في مطلع القرن الحادي والعشرين في مدينة (سياتل) بأمريكا –معقل فكرة العولمة- عام (1999م)، فمؤتمر (سياتل) الذي اجتمعت فيه معظم الحركات والمنظمات المضادة للعولمة استطاع أن يكشف مؤتمر التجارة العالمية الذي يضم قادة العالم الرأسمالي(1).
إذن فمناهضة العولمة حركة عالمية لا تخضع لأيديولوجية معينة بمعنى أنها ليست محصورة في إيديولوجيا كالماركسية مثلاً، وهذا ما كان يحصل للحركات النقابية العمالية سابقاً، بل هي حركة تتجاوز القوميات والأقطار، وتعمل لصالح العمال والفلاحين والمضطهدين في شتى أنحاء العالم، كما يزعم أنصارها.
وهدف هذا الطيف المتباين، وهو: محاربة الليبرالية أو الرأسمالية الجديدة، بل قل العالمية الجديدة، التي تريد أن تلغي الآخر وتحكم للأقوى بالسيادة والبقاء، ولذا يرى كثير ممن لا تجمعهم أيديولوجية أن العولمة آفة متوحشة تحتقر الإنسان والفقراء والمهمشين والعاطلين عن العمل، سواء كان ذلك على نطاق الدول الرأسمالية ذاتها أو على نطاق دول العالم الثالث، فإنها تؤدي إلى كم من المآسي في نهاية المطاف.
وهذه الحركة الجديدة المضادة للعولمة الرأسمالية ليست أحادية الجانب وليست متفقة بالضرورة على كل شيء، بل كما يقول بعض دعاتها: "إنها ليست حزباً نمطياً ببغائياً يقول نفس الشيء عن كل شيء على الطريقة الشيوعية السابقة، ومن يتأمل حالها يجد فيها كل الاتجاهات: من أحزاب الخضر المدافعة عن البيئة إلى الأحزاب الاشتراكية، فالحركات السلمية فالحركات الإنسانية، فحركات تحرر المرأة، وغيرها"(2).
بعضها يتعاون فيما بينه، وبعضها يعمل مستقلاً لتحقيق نفس الهدف،
وكما أن الأيديولوجيات المناهضة للعولمة مختلفة، فإن الاستراتيجيات التي اعتمدتها الجهات المناضلة مختلفة، فبعضهم يتبع استراتيجية عنيفة إلى حد ما، كما فعل النقابيون الفرنسيون الذين هجموا على المطاعم الأميركية في بعض مناطق فرنسا، وكان ذلك بقيادة (جوزيه بوفيه) ليصبح بذلك المناضل المعروف في الوقت الحاضر!
ومن الطريف أن الرجل عندما قدم للمحاكمة في شهر يونيو من عام ألفين بتهمة تخريبه لأحد مطاعم (مكدونالدز) تجمع في فرنسا نحواً من 40 ألف شخص للاحتجاج على تقديمه للمحاكمة.(/1)
فقد كان هدفه وهدف من معه ظاهراً بالنسبة لهم، وهو لفت الأنظار إلى خطورة الأغذية الصناعية، والدفاع عن الأغذية الطبيعية أو الصحية، وهو هدف مشروع في وقت لاتبالي فيه الرأسمالية العالمية بتسميم اللحوم، وتشكيل خطر حقيقي على الصحة العامة، ومن براهين ذلك عندهم قضية البقرة المجنونة وقضايا أخرى مشابهة، فالرأسماليون من شدة حرصهم على الربح بأسرع وقت ممكن وبأكبر قدر ممكن لا يتورعون عن تقديم اللحوم المطحونة كغذاء للحيوانات بدلاً من العلف النباتي!
وقد قال توماس فريدمان معلقاً على مظاهرات سياتل، كلمة يصح لمتظاهري (بوفيه) قولها، قال: "لقد كان لمظاهرات سياتل جانبها الأحمق، لكن ما أراد المحتجون الجادون طرحه هناك كان: "يا أميركا، إنك الآن تؤثرين على حياتي بشكل يفوق تأثير ما تفعله حكومتي. إنك تؤثرين علي بنفس أسلوب تغلغل ثقافتك في ثقافتي، وبنفس أسلوب تسريع تقنياتك لتغيير جميع مناحي حياتي، وبنفس الأسلوب الذي فرضته إجراءاتك الاقتصادية علي، إنني أريد أن أدلي برأيي في كيفية فرضك لقوتك؛ لأنها الآن باتت قوة تشكل حياتي".
عوداً على بدء، فما اتبعه (جوزيه بوفيه) استراتيجية، وبعض المناهضين للعولمة قد يلجأ إلى استراتيجية أخرى أشد، ومن هؤلاء أولئك الذين جعلوا برجي التجارة العالمية أثراً بعد عين.
ومنهم من يكتفي بمسيرات يحشد لها مئات الآلاف كتلك التي خرجت في بوليفيا عام ألفين بمناسبة خصخصة شركة المياه.
إن هذا الاعتراض العالمي على مايسمى بالعولمة الأمريكية هو الذي حدى بتوماس فريدمان للتساؤل: لماذا لم تتهيأ الأمم عسكرياً ضد الولايات المتحدة؟
قال: "يجيب مايكل ماندلباوم، مؤلف كتاب (الأفكار التي غزت العالم) قائلاً: "تطرح واحدة من أبرز مدارس العلاقات الدولية -مدرسة الواقعيين- أنه متى ما برزت قوة مهيمنة، كأميركا في النظام العالمي، فإن دولاً أخرى ستحشد جهودها بشكل طبيعي ضد هذه القوة، لكن ولأن العالم يدرك بشكل أساسي أن هيمنة أميركا (سلمية)، فان عملية التصدي لها لا تتخذ شكل العمليات الحربية، وبدلاً من ذلك، تصبح مسعى لكبح جماحها، باللجوء إلى قواعد منظمة التجارة العالمية أو الأمم المتحدة، وبقيامها بذلك فإنها تطالب باستخدام حق النقض (الفيتو) فيما يتعلق بكيفية تفعيل قوة أميركا".
وهناك أيضاً سبب آخر لرد الفعل غير العسكري، وهو: أن بروز أميركا كقوة مهولة حدث خلال عصر العولمة، حيث باتت الاقتصاديات متشابكة للغاية، إلى حد أن الصين وروسيا وفرنسا، أو أي تجمع منافس آخر لا يمكنه إلحاق الأذى بالولايات المتحدة بدون إصابة اقتصادياته بضرر ما.
ثم ذكر أن الناس الوحيدين الذين بإمكانهم إلحاق الضرر العسكري هم من ليست لهم أي مصالح مع النظام الدولي، ومثل بأسامة بن لادن.
وأضيف سبباً آخر على ما ذكراه، وهو أن أصحاب القرار والنفوذ والأموال في العالم ليس من مصلحتهم حرب العولمة، وهؤلاء هم القطاع المؤثر الحقيقي بصورة مباشرة أو غير مباشرة في قرارات الدول.
فإذا كانت المعارضة للعولمة حدت بطرح هذا التساؤل، وهذه الآراء في الدول الغربية لكون الفارض والمسيطر دولة أخرى، فإن ما يسمى بدول العالم الثالث أشد معارضة لهذا النظام، والإسلامية والعربية منها على وجه الخصوص، فكيف تخضع هذه الأمم لغير الشرائع الإلهية أو الأحكام الدينية، ثم إن الدراسات الاقتصادية أو التجارية والإحصائية والاجتماعية المبنية على مصلحة مجتمع ما، ليس من العدالة فرضها على المجتمعات الأخرى.
--------------------------------------------------------------------------------
1 (العولمة والحركات الاجتماعية والأمميات الجديدة) لبيتر وتر مان.
2 بيتر وترمان في كتابه (العولمة والحركات الاجتماعية والأمميات الجديدة).(/2)
من أهم الصفات التي يجب أن يتحلى بها الجندي المسلم
1ـ الإيمان:قال تعالى: ?وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ? [ الروم:47].
وقال تعالى: ?إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ? [غافر:51].
2ـ الإخلاص في الجهاد بحيث يبتغى به وجه الله تعالى:
قال تعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ? [محمد :7].
وقال تعالى: ?الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً ? [النساء :76].
3ـ الحذر من الأشر والبطر وشوائب البغي والظلم والعدوان والاستعلاء والحمية والعصبية، والرياء والسمعة:
قال تعالى: ?وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَراً وَرِئَاء النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَاللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ?[الأنفال :47].
"سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل رياء"، وفي رواية: "الرجل يقاتل للذكر، ويقاتل ليحمد، ويقاتل ليغنم، ويقاتل ليرى مكانه، فمن في سبيل الله؟ قال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله".
4ـ التوكل على الله تعالى، والاعتماد عليه وحده، والاعتصام به:
قال تعالى: ?فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ? [آل عمران: 159].
وقال تعالى: ?إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُونَ ?[ آل عمران :160].
5ـ التقوى والصبر:
قال تعالى: ?وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ?[ آل عمران :120].
وقال تعالى: ?لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيراً وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ ?[آل عمران:186].
وقال تعالى ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ?[ آل عمران:200].
6ـ الاتجاه إلى الله تعالى واللجوء إليه، وبالأخص عند ملاقاة العدو طلباً للنصر والثبات والصبر:
قال تعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ? [الأنفال :45].
وقال تعالى: ?وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ?[البقرة:250].
وقال تعالى: ?وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ?[آل عمران: 146 - 147].
7ـ الحذر من تسرب الضعف والوهن أو الاستسلام والاستكانة:
إذا نزل بهم بلاء على أيدي أعدائهم، فإن كل ما يصيبهم لهم به عند الله أجر، وإن قتلوا فشهداء؛ إذا صبروا واحتسبوا.
قال تعالى: ?وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ?[آل عمران :139].
وقال تعالى: ?وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ?[ آل عمران: 146- 147].
وقال تعالى: ? وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً ?[النساء: 104].
وقال تعالى: ? فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ? [محمد:35 ].(/1)
وقال تعالى: ? مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللّهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ?[ التوبة:120].
وقال تعالى: ? وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ?[ آل: عمران:157].
8ـ الثبات عند ملاقاة العدو، وعدم الفرار من الزحف، والحذر من الخوف والجبن
قال تعالى: ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ ? [الأنفال: 15].
وقال تعالى:? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ? [الأنفال:45].
وقال تعالى:? إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ?[ آل عمران:175].
وقال تعالى: ? وَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ? [التوبة:56].
9ـ اليقظة الدائمة، وأخذ الحيطة والحذر من مكائد العدو وغدره، ومباغتاته ومكره، فذلك دليل الحزم
قال تعالى: ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُواْ جَمِيعاً ? [النساء:71].
وقال تعالى: ? وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ إِنَّ اللّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً ? [النساء:102].
10ـ الحذر من التنازع والاختلاف المؤدي إلى الشتات والتمزق الذي يجر إلى الضعف وذهاب الهيبة والقوة، وإعطاء العدو الفرصة للانقضاض.
كما يجب الحفاظ على جمع الكلمة، والتئام الصف، وهذا لا يتم إلا عند صفاء النفوس، والابتعاد عن ركوب الأهواء، والطاعة الكاملة لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم ولولي الأمر في المعروف.
قال تعالى: ? وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ?[ الأنفال:46].
قال تعالى: ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ? [النساء:59].
قال تعالى: ? وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ?[ الشورى:10 .
وقال تعالى: ? إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ?[ النور:51].
11ـ إعداد العدة المقدور عليها، وعدم التقصير أو التهاون في شأنها، لأنها من الأسباب المادية التي يجب مراعاتها شرعاً، ولأن الأخذ بالأسباب وعدم التواكل من الإيمان ولأن العدة الكافية من أسباب رهبة العدو منهم، وغلظتهم عليه، وقد شرع الله سبحانه القتال والقتال لا يتم إلا بوسائله المكافئة في كل عصر بحسبه.
قال تعالى: ? وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ?[ الأنفال:60].
وقال تعالى: ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ?[التوبة:123].(/2)
وقال تعالى: ? قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ?[ التوبة:14].
وفي الحديث قال صلى الله عليه وسلم: " وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة: ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي".
وقال صلى الله عليه وسلم: "من علم الرمي ثم تركه فليس منا – أو فقد عصى".
فالجندية إذا تعني:
العقيدة الراسخة التي لا تتزعزع.
المعنويات العالية القائمة على التوكل على الله تعالى .
الاعتزاز بالدين.
الثقة بالنفس.
اليقين بأن ما يعتقده ويدافع عنه ويجاهد من أجله هو الحق.
اليقين بأن الله مع المؤمنين الصادقين، وأنهم به منصورون.
الضبط المتين الذي يثمر دقة المحاسبة والرقابة.
تلاحم الصف وكمال المحبة وعدم التنازع والاختلاف.
التدريب والتسليح الذي يتناسب مع الزمن.
التواضع لله والإخلاص لوجهه.
التزام الوفاء بالعهد والوعد.
الثبات والصبر ورباطة الجأش.
الإيمان بأن الآجال بيد الله تعالى.
التسليم لقضاء الله وقدره واستشعار الرضا والطمأنينة لحكمه.
الترفع عن حظوظ النفس وأهوائها والتجرد للحق الذي يعمل من أجله.
إحساس الجندي بالمسئولية كإحساس القائد.
مداومة تذكير النفس والصلة بالله تعالى واستمساكها بهدي الله تعالى
قال تعالى: ? وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ?[ العنكبوت:69 ].
إعداد العدة للجهاد:
قال تعالى ? وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُواْ إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ?[الأنفال :59-60].
وقال صلى الله عليه وسلم: "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة: ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي".
وقال صلى الله عليه وسلم : "إن الله عز وجل يدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر الجنة: صانعه يحتسب في صنعه الخير، والرامي به، ومنبله، وارموا واركبوا، وأن ترموا أحب إلي من أن تركبوا، كل لهو يلهو به الرجل المسلم باطل إلا رميه بقوسه، وتأديبه فرسه، وملاعبته أهله، فإنهن من الحق".
ومر النبي صلى الله عليه وسلم على نفر من أسلم ينتضلون فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان راميا".
وقال صلى الله عليه وسلم: " من علم الرمي ثم تركه فليس منا أو قد عصى".
ما يصيب الناس من الفتنة والعذاب عند تركهم الجهاد:
قال تعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ?[التوبة :38-39 ].
الإلزام بالجهاد ابتلاء من الله تعالى لعباده:
قال تعالى: ?ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ?[محمد:4].
من فوائد الجهاد:
أ ـ حتى لا تكون فتنة (شرك).
قال تعالى: ?وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ?[ البقرة : 193].
ب ـ بدون الجهاد ينتشر الفساد في الأرض بتغلب أهل الباطل والضلال.
قال تعالى بعد ذكره قتل داؤود عليه السلام لجالوت وانتصار قوم طالوت ?وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ? [البقرة:251].
وقال تعالى: ?أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ?[الحج:39 -40].
ج ـ إنقاذ المستضعفين الذين يعيشون تحت وطأة الظلم والطغيان والجبروت:(/3)
قال تعالى: ?وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيراً ?[ النساء: 75].
د ـ النصر والظفر على الأعداء:
قال تعالى: ?قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ? [التوبة : 14].
وقال تعالى: ?وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ? [الصف: 13].
هـ ـ الفوز بالشهادة:
قال تعالى: ?إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ?[آل عمران: 140].
وقال تعالى: ?وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ?[ آل عمران: 169].
التحذير من ترك الجهاد:
قال صلى الله عليه وسلم: " إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر ورضيتم، بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم".
وقال صلى الله عليه وسلم: "يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تدعى الأكلة إلى قصعتها.. فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم وليقذفن الله قلوبكم الوهن، فقال قائل: يا رسول الله وما الوهن.؟ قال: حب الدنيا، وكراهة الموت".
راجعه : عبد الحميد أحمد مرشد.
- مسلم 3/ 1512 ، حديث رقم: 1904
ـ سنن أبي داؤود 2/ 18 ، حديث رقم:2517 ، وصححه الألباني.
- مسلم ج3 الإمارة 167 وأبو داؤود باب الرمي 24 برقم 2194 صحيح أبي داود للألباني.
- مسلم ج3 الإمارة 169 (أو قد عصى).
- سبق تخريجه .
- أبو داؤود 2/16، وأورده الألباني في ضعيف أبي داؤود، 540، لكن قوله (كل ما يلهو..) صحيح إلا (فإنهن من الحق) – الصحيحة برقم 315، ضعيف بن ماجه: 227، 618-2811.
- البخاري ج6 مع الفتح كتاب الجهاد 78، باب التحريض على الرمي وقول الله عز وجل (60 الأنفال) (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ..) والأنبياء 12.
- سبق تخريجه.
-أخرجه أبو داؤود في البيوع 3462، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داؤود 2 /(2956) باب النهي عن العينة من حديث بن عمر.
- أخرجه أبواد داود 2/514 ، كتاب الملاحم، باب في تداعي الأمم على الإسلام، وصححه الألباني في صحيح أبو داود، ج3، برقم 3610، والمشكاة 5369، والصحيحة 956.(/4)
من أوابد الوعاظ
تدفع العاطفة القوية صاحبها دفعةً ربما أخلَّت بتوازنه, وربما تحكمت كثيراً فيما يطرحه, وأدت به إلى عدم اتزان, ومبالغات تحوي مخالفات شرعية.
استمعت لأحد الوعاظ الغيورين يتحدث للمصلين مع مطلع شهر رمضان حول القنوات الفضائية, وانطلق في حديثه من قوله صلى الله عليه و سلم :»يا باغي الخير أقبل« وأقسم أيْماناً عدة أنه ليس في جميع هؤلاء من يبغي الخير ومن يريده.
إنه وإن كان كثير من هؤلاء يعلن المعصية ويظهرها, إلا أنهم ليسوا في درجة واحدة, وربما كان فيهم من المصلين البعيدين عن الفواحش والآثام, لكن غلبه هواه, أو ضعفت قوامته على أهله.
وبعد ذلك بأيام سمعت آخر يتحدث عن أولئك الذين لا يشهدون الصلاة مع المسلمين إلا في رمضان, فقال: »والله إنهم يحبون الله ورسوله, ويريدون الخير لكن يغلبهم هواهم« إنه تطرف آخر.
إن المسلم لا يمكن أن يشهد للمصلين الخاشعين أمامه بهذه القضية; التي هي قضية قلبية, فكيف يقسم على أن جميع الذين لا يشهدون الصلوات مع المسلمين في غير رمضان يحبون الله ورسوله? أليس التخلف عن صلاة الفجر والعشاء من علامات أهل النفاق بنص كلام النبي صلى الله عليه و سلم؟ فعن أُبي بن كعب قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه و سلم يوماً الصبح فقال: »أشاهدٌ فلان?« قالوا: لا, قال: »أشاهدٌ فلان?« قالوا: لا, قال: »إن هاتين الصلاتين أثقل الصلوات على المنافقين, ولو تعلمون ما فيهما لأتيتموهما ولو حبواً على الرُّكب...«([1]).
ويذكر الشيخ عبد اللطيف السبكي أن أحد الخطباء في الأزهر خطب حول حديث: »وأتبع السيئة الحسنة تمحها«, فهوَّن أمر المعصية, وذكر أن الله فطر الناس عليها, حتى قال بالحرف الواحد: »إن الله لم يقل للناس لا تسيئوا, ولكن قال إذا أسأتم فاستغفروا«.
إذن فما معنى أن تكون السيئة سيئة? ومن أين له في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه و سلم أن الله لم يقل للناس: لا تسيئوا?
وأين هؤلاء عما أُثِر عن علي أنه قال: »ألا أنبئكم بالفقيه حق الفقيه: من لم يقنط الناس من رحمة الله, ولم يُرخص لهم في معاصي الله, ولم يؤمنهم مكر الله«([2]).
لقد غلَّب الرجل الأول جانب الخوف, وأشفق مما يرى من كثرة الفساد وطرقه, والآخرون غلَّبوا حرصهم على هؤلاء العصاة ورغبتهم في إعادتهم إلى ركاب الطائعين.
فما أجدر الدعاة والوعاظ أن يكونوا معتدلين فيما يطرحونه للناس بأن يعتدلوا في حماسهم لمشروع أو برنامج أو ظاهرة من الظواهر, وأن يعتدلوا حين يخاطبون الناس ويزنوا ألفاظهم بميزان الشرع; فالإفراط والمبالغة قد تؤدي إلى نتائج معاكسة لما يريد صاحبها, وسنة الله قائمة في الكون أجمع على الاعتدال.
إن استخدام الأسماء والألفاظ الشرعية, وسعة الثقافة والاطلاع, وعمق النظر للقضايا, والشمول وعدم نظر الأمور من زاوية واحدة, وهدوء الطبع والاتزان, والتربية السليمة, إن ذلك كله يمكن أن يسهم إلى حد كبير في التخفيف من اللغة واللهجة الحادة التي تسيطر على حديث بعضنا أحياناً.
اللهم إنا نسألك السداد في القول والعمل, وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
--------------------------------------------------------------------------------
([1])رواه أحمد (30758), وأبو داود (554), والنسائي (843).
([2])تذكرة الحفاظ (1/13).(/1)
من الآيات الكونية في القرآن الكريم
التاريخ: 19/07/1427
تقييم:
د/ زغلول النجار
في مطلع الحديث عن كتاب الله لابد من تحديد عدد من معالمه الثابتة التي منها أنه كلام الله المعجز , الموحي به إلي خاتم الأنبياء والمرسلين بلسان عربي مبين , والمنقول عنه صلوات الله وسلامه عليه نقلاً متواتراً بلا أدني شبهة , بنفس النص الذي نجده في المصاحف التي خطت أو طبعت علي مر العصور , ومسجلا في صدور الحفاظ جيلا بعد جيل , ومن ثم علي مختلف صور الأشرطة والاسطوانات الممغنطة , والذي نزلت آياته منجمة علي مدي ثلاث وعشرين سنة , وكتبت في حياة رسول الله صلي الله عليه وسلم عقب الوحي بكل مجموعة منها مباشرة ثم رتبت تلك الآيات في مائة وأربع عشرة114 سورة بتوقيف من الله سبحانه وتعالي الذي تعهد بحفظ آخر كتبه المنزلة فحفظه حفظا كاملا , بنفس اللغة التي نزل بها , كلمة كلمة , وحرفا حرفا .
بينما تعرضت الكتب السماوية السابقة كلها إما للضياع التام , أو للتحريف والتبديل والتغيير , ولذلك فالقرآن الكريم هو الكتاب الوحيد الذي يتعبد بتلاوته , والذي لاتصلح الصلاة الا بقراءة فاتحته وعدد من آياته , والذي لايغني عنه من الاحاديث أو الأذكار أو الأدعية شيء , لانه الوحي السماوي الوحيد الموجود بين أيدي الناس اليوم محفوظا بحفظ الله كلمة كلمة وحرفا حرفا بنفس اللغة التي أوحي بها وقدتحدي ربنا تبارك وتعالي كلا من الإنس والجن أن يأتوا بمثل هذا القرآن مجتمعين متظاهرين فقال عز من قائل : ? قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ? الإسراء :88]
كما سخر ربنا تبارك وتعالي ممن ادعي من المشركين أن الرسول صلي الله عليه وسلم قد افتراه , وهو النبي الأمي الذي لايعرف القراءة أو الكتابة لحكمة يعلمها الله , فقد تحدي الله تعالي العرب علي ما كانوا عليه من علم بأسرار العربية وأسباب البلاغة ـ أن يأتوا بعشر سور مثله مفتريات , أو حتي بسورة من مثله , ولايزال هذا التحدي قائما دون أن يستطيع بشر مجابهته علي الرغم من مضي أكثر من أربعة عشر قرنا علي مجئ التنزيل بقول الله تعالي : ? أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللهِ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ ? ? فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ وَأَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ ? [ هود :13 ، 14]
ويقول الحق تبارك وتعالي : ? وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللهِ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ ? [ البقرة :23] .
وقد عجزت القدرات البشرية , ولا تزال عاجزة عن أن تداني كتاب الله في روعة بيانه , أو في كمال صفاته , ودقة دلالاته , وصدق أنبائه , وسمو معانيه , وعدالة تشريعه , أو في نهجه وصياغته , وتمام أحاطته بطبائع النفس البشرية , وقدرته علي التعامل معها وهدايتها , ودقة استعراضه لمسيرة البشرية من لدن أبينا آدم - عليه السلام - إلي بعثة خاتم الأنبياء والمرسلين -عليه وعليهم أجمعين أفضل الصلاة وأزكي التسليم - ومن هنا كان القول « بإعجاز القرآن »
أوجه الإعجاز في القرآن الكريم
تتعدد أوجه الإعجاز في كتاب الله بتعدد جوانب النظر فيه , فكل آية من آياته فيها إعجاز لفظي وبياني ودلالي , وكل مجموعة من الآيات , وكل سورة من السور طالت أم قصرت , بما فيها من قواعد عقدية , أو أوامر تعبدية , أو قيم أخلاقية , أو ضوابط سلوكية , أو إشارات علمية , إلي شيء من أشياء هذا الكون الفسيح ومافيه من ظواهر وكائنات , وكل تشريع , وكل قصة , وكل واقعة تاريخية , وكل وسيلة تربوية , وكل نبوءة مستقبلية , كل ذلك يفيض بجلال الربوبية , ويتميز عن كل صياغة انسانية ويشهد للقرآن بالتفرد كما يشهد بعجز الإنسان عن أن يأتي بشيء من مثله . وقد أفاض المتحدثون عن أوجه الإعجاز في كتاب الله , وكان منهم من رأي ذلك في جمال بيانه , ودقة نظمه , وكمال بلاغته , أو في روعة معانيه وشمولها واتساقها ودقة صياغتها , وقدرتها علي مخاطبة الناس علي اختلاف مداركهم وأزمانهم , واشعاعها بجلال الربوبية في كل آية من آياته .(/1)
ومنهم من أدرك أن إعجاز القرآن في كمال تشريعه , ودقة تفاصيل ذلك التشريع وحكمته وشموله , أو في استعراضه الدقيق لمسيرة البشرية ولتاريخ عدد من الأمم السابقة من لدن أبينا آدم -عليه السلام - إلي خاتم الأنبياء والمرسلين -عليه وعليهم أجمعين أفضل الصلاة وأزكي السلام عليكم و رحمة الله وبركاته-, مما لم يكن يعلم تفاصيله أحد من الناس . منهم من رأي إعجاز القرآن الكريم في منهجه التربوي الفريد , وأطره النفسية السامية والعلمية في نفس الوقت , والثابتة علي مر الأيام , أو في إنبائه بالغيب مما تحقق بعد نزوله بسنوات طويلة , أو في إشاراته إلي العديد من حقائق الكون.
وسنن الله فيه مما لم يكن معروفا لأحد من البشر وقت نزول القرآن ولالمئات من السنين بعد ذلك النزول , ومنهم من رأي إعجاز القرآن في صموده علي مدي يزيد علي أربعة عشر قرنا لكل محاولات التحريف التي قامت بها قوي الشر المتعددة متمثلة في الكفرة والمشركين والملاحدة علي مدي تلك القرون العديدة وذلك لأن الله تعالي تعهد بحفظه فحفظ قال تعالي :
? إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ? [ الحجر : آية 9]، ومن العلماء من يري إعجاز القرآن في ذلك كله وفي غيره مما يقصر الحديث دونه .
الإعجاز النظمي للقرآن الكريم
كانت الكثرة الكاثرة من القدامي والمعاصرين علي حد سواء قد ركزوا اهتمامهم علي ناحية نظم القرآن الكريم فهذا ابن عطية الأندلسي « ت 546 هـ » يذكر في مقدمة تفسيره«278/1» مانصه :
«إن الله قد أحاط بكل شيء علما , فإذا ترتبت اللفظة من القرآن , علم بإحاطته أي لفظة تصلح أن تلي الأولي , وتبين المعني بعد المعني , ثم كذلك من أول القرآن الي آخره , والبشر يعمهم الجهل والنسيان والذهول , ومعلوم ضرورة أن أحدا من البشر لايحيط بذلك , فبهذا جاء نظم القرآن في الغاية القصوي من الفصاحة , وبهذا يبطل قول من قال : ان العرب كان في قدرتهم الاتيان بمثله فصرفوا عن ذلك , والصحيح أنه لم يكن في قدرة أحد قط , ولهذا نري البليغ ينقح القصيدة أو الخطبة حولا , ثم ينظر فيها فيغير منها , وهلم جرا , وكتاب الله لو نزعت منه لفظة , ثم أدير لسان العرب علي لفظة أحسن منها لم يوجد ... وقامت الحجة علي العالم بالعرب , اذ كانوا أرباب الفصاحة ومظنة المعارضة .»
وهذا هوالأستاذ الدكتور عبد الصبور شاهين أحد العلماء المعاصرين يكتب فصلاً في إعجاز القرآن « كتقديم لترجمته لكتاب الظاهرة القرآنية للمفكر الإسلامي الأستاذ مالك بن نبي - يرحمه الله - يحدد فيه الإعجاز في دائرة البيان والنظم حيث يقول : ان الآيات القليلة من القرآن , ثم الآيات الكثيرة , ثم القران كله , أي ذلك كان في تلاوته علي سامعيه من العرب , الدليل الذي يطالبه بان يقطع بأن هذا الكلام مفارق لجنس كلام البشر , وذلك من وجه واحد , هو وجه البيان والنظم .
واذا صح ان قليل القرآن وكثيره سواء من هذا الوجه , ثبت أن ما في القرآن جملة , من حقائق الأخبار عن الأمم السابقة , ومن أنباء الغيب , ومن دقائق التشريع , ومن عجائب الدلالات علي مالم يعرفه البشر من أسرار الكون الا بعد القرون المتطاولة من تنزيله , كل ذلك بمعزل عن الذي طولب به العرب , وهو ان يستبينوا في نظمه وبيانه انفكاكه من نظم البشر وبيانهم , ومن وجه يحسم القضاء بأنه كلام رب العالمين ...
ولكن اذا جاز هذا التحديد علي موقف التحدي من مشركي العرب ـ علي الرغم من عدم وجود الدليل علي ذلك ـ فانه بالقطع لايجوز علي اطلاقه , خاصة أن العرب اليوم في جملتهم قد فقدوا الحس اللغوي الذي تميز به أسلافهم , وأن التحدي بالقرآن للانس والجن متظاهرين هو تحد مستمر قائم الي يوم الدين , مما يؤكد أن ما في القرآن من أمور الغيب , وحقائق التاريخ , ومن فهم دقيق لمكنون النفس البشرية وحسن الخطاب في هدايتها وإرشادها وتربيتها , ومن مختلف الصور التي ضربت لعجائب آيات الله في خلقه , ومن غير ذلك مما اكتشفه ولايزال يكتشفه - في كتاب الله - متخصصون في كل حقل من حقول المعرفة , لايمكن أن يبقي بمعزل عن ذلك التحدي المفضي الي الإعجاز القرآني , والدال علي أن القرآن كلام الله .
نشأة منهج التفسير العلمي لكتاب الله
يزخر القرآن الكريم بالعديد من الآيات التي تشير الي الكون وما به من كائنات« أحياء وجمادات», والي صور من نشأتها , ومراحل تكونها , والي العديد من الظواهر الكونية التي تصاحبها , والسنن الالهية التي تحكمها , وما يستتبعه كل ذلك من استخلاص للعبرة , وتفهم للحكمة , وما يستوجبه من ايمان بالله , وشهادة بكمال صفاته وافعاله , وهو ـ سبحانه وتعالي ـ الخالق الباريء المصور الذي أبدع ذلك الخلق بعلم وقدرة وحكمة لاتحدها حدود , ولايفيها حقها وصف .(/2)
قد أحصي الدارسون من هذه الاشارات الكونية في كتاب الله مايقدر بحوالي الألف آية صريحة , بالاضافة إلي آيات أخري عديدة تقرب دلالاتها من الصراحة , وبدوام اتساع دائرة المعرفة الانسانية , وتكرار تأمل المتأملين في كتاب الله , وتدبر المتدبرين لآياته ـ جيلا بعد جيل , وعصرا بعد عصر ـ لن ينفك العلماء والمتخصصون يكتشفون من حقائق الكون الثابتة في كتاب الله مايؤكد علي تحقق الوعد الالهي الذي يقول فيه ربنا - تبارك وتعالي -: ? سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ? [ فصلت : آية 53] .
وبدهي أن يتباين موقف العلماء من تلك الاشارات الكونية في كتاب الله بتباين الأفراد وخلفياتهم الثقافية وأزمانهم , وباتساع دائرة المعرفة الانسانية في مجال الدراسات الكونية - التي تعرف اليوم باسم دراسات العلوم البحتة والتطبيقية - من عصر الي عصر , وأول من بسط القول في ذلك الامام الغزالي « ت 505 هـ » في كتابيه إحياء علوم الدين وجواهر القرآن والذي رفع فيهما شعارات عديدة منها أن القرآن الكريم يشمل العلوم جميعاو أن من صور إعجاز القرآن اشتماله علي كل شيء , وأن كل شيء , وأن كل العلوم تشعبت من القرآن , حتي علم الهيئة , والنجوم , والطب الي آخر ماذكر .
تبع الإمام الغزالي في ذلك كثيرون , كان من أشهرهم في القديم العلامة الشيخ الفخر الرازي « ت 606 هـ », وفي الحديث فضيلة الشيخ طنطاوي جوهري « ت 1359 هـ », مما أدي الي بروزالمنهج العلمي في تفسير القرآن الكريم , والذي يعتمد في تفسير الاشارات الكونية الواردة في كتاب الله علي ضوء من معطيات العلوم الحديثة , مع تفاوت في ذلك من عصر الي عصر . ويعتبر تفسير الرازي المعنونمفاتيح الغيب أول تفسير يفيض في بيان المسائل العلمية والفلسفية , خاصة مايتعلق منها بعلم الهيئة , وغير ذلك من العلوم والفنون التي كانت معروفة في زمانه , والتي كان هو علي معرفة بها .
أما تفسير الشيخ طنطاوي جوهري والمعنون الجواهر في تفسير القرآن الكريم فيعتبر أضخم تفسير ينهج النهج العلمي , اذ يقع في خمسة وعشرين جزءا كبارا , حاول فيها الشيخ يرحمه الله تفسير القرآن الكريم تفسيرا يتجاوب مع روح العصر , وما وصلت اليه المعارف الانسانية في مجال دراسات الكون ومافيه من أجرام سماوية , ومن عوالم الجمادات والأحياء , ومن الظواهر الكونية التي تصاحبها , والسنن الالهية التي تحكمها , ليبرهن للقاريء أن كتاب الله الخالد قد أحاط بالكون في تفصيل وبيان وايضاح غفل عنه كثير من السابقين , وأنه بحق ينطوي علي كل ما وصل , وماسيصل اليه البشر من معارف .
هذا , وقد نعي الشيخ الجوهري يرحمه الله علي علماء المسلمين اهمالهم للجانب العلمي في القرآن الكريم , وتركيز جهودهم علي الجوانب البيانية والفقهية فقط بقوله : لماذا ألف علماء الاسلام عشرات الألوف من الكتب في علم الفقه , وعلم الفقه ليس له في القرآن الا آيات قلائل لاتصل إلي مائة وخمسين آية ؟ فلماذا كثر التأليف في علم الفقه , وقل جدا في علوم الكائنات التي لاتكاد تخلو منها سورة؟ .
لذا فاننا نجده في مطلع تفسيره يتوجه بنداء الي المسلمين يقول فيه : يا أمة الاسلام , آيات معدودات في الفرائض يقصد آيات الميراث اجتذبت فرعا من علم الرياضيات , فما بالكم أيها الناس بسبعمائة آية فيها عجائب الدنيا كلها ... هذا زمان العلوم , وهذا زمان ظهور الاسلام ... هذا زمان رقيه , ياليت شعري , لماذا لانعمل في آيات العلوم الكونية مافعله أباؤنا في علوم الميراث؟ثم يضيف : ان نظام التعليم الاسلامي لابد من ارتقائه , فعلوم البلاغة ليست هي نهاية علوم القرآن بل هي علوم لفظه , وما نكتبها اليوم يقصد في تفسيره, علوم معناه ....
ولم يكتف الشيخ طنطاوي جوهري في تفسيره بتتبع الآيات واستنتاج معانيها وفق ما ارتآه فيها من اشارات الي مختلف الدراسات الحديثة , بل انه قد استعان في هذا التفسير ـ الفريد من نوعه ـ بكثير من صور النباتات والحيوانات والمظاهر الكونية , والوسائل التجريبية , كما استخدم الآراء الفلسفية عند مختلف المدارس الفكرية , وكذلك الأرقام العددية التي ينظمها حساب الجمل المعروف .(/3)
قد اعتبر المفسرون من بني عصره ذلك المنهج العلمي في التفسير كما اعتبر من قبل جنوحا الي الاستطراد في تأويل بعض آيات القرآن الكريم علي غير مقاصدها التشريعية والايمانية , استنادا الي الحقيقة المسلمة ان القرآن لم يأت لكي ينشر بين الناس القوانين العلمية ومعادلاتها , ولاجداول المواد وخصائصها , ولا قوائم بأسماء الكائنات وصفاتها , وإنما هو في الأصل كتاب هداية , كتاب عقيدة وعبادة وأخلاق ومعاملات , وهي ركائز الدين التي لا يستطيع الإنسان أن يضع لنفسه فيها ضوابط صحيحة , والقرآن العظيم حين يلفت نظر الانسان الي مختلف مظاهر هذا الوجود إنما يعرض لذلك من قبيل الاستدلال علي قدرة الخالق العظيم وعلمه وحكمته وتدبيره ومن قبيل إقامة الحجة البينة علي الجاحدين من الكافرين والمشركين , ومن قبيل التأكيد علي إحاطة القدرة الإلهية بالكون وبكل مافيه وعلي حاجة الخلق في كل لحظة من لحظات الوجود الي رحمة ذلك الخالق العظيم .
فهذا هو الشيخ محمد رشيد رضا- يرحمه الله- يكتب في مقدمة تفسيره المنار مانصه :..... وقد زاد الفخر الرازي صارخا آخر عن القرآن هو مايورده في تفسيره من العلوم الرياضية والطبيعية وغيرها من العلوم الحادثة في الملة علي ماكانت عليه في عهده , كالهيئة الفلكية اليونانية وغيرها , وقلده بعض المعاصرين « ويقصد الشيخ طنطاوي جوهري » بايراد مثل هذا من علوم العصر وفنونه الكثيرة الواسعة , فهو يذكر فيما يسميه تفسير الآية , فصولا طويلة ـ بمناسبة كلمة مفردة , كالسماء أو الأرض ـ من علوم الفلك والنبات والحيوان , تصد القاريء عما أنزل الله لأجله القرآن .
وعلي الرغم من استنكار علماء التفسير لهذا المنهج العلمي قديما وحديثا , الا أن عددا كبيرا من العلماء المسلمين ظل مؤمنا بأن الاشارات الكونية في كتاب الله أي الآيات المتعلقة ببعض أشياء هذا الكون علي اجمالها وتناثرها بين آيات الكتاب المجيد ـ تبقي بيانا من الله , خالق الكون ومبدع الوجود , ومن ثم فهي حق مطلق , وصورة من صور الإعجاز في كتاب الله ـ الذي لايأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ـ وان ذلك قد لايتضح إلا للراسخين في العلم من المتخصصين في مختلف مجالات العلوم البحتة والتطبيقية كل في حقل تخصصه, وحتي هؤلاء يظل يتسع إدراكهم لذلك الإعجاز باتساع دائرة المعرفة الانسانية جيلا بعد جيل , وعصرا بعد عصر , مصداقا لقول الحق تبارك وتعالي : ? إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ ?[ ص :87 و 88] .
ولقول رسول الله - صلي الله عليه وسلم- في وصفه للقرآن الكريم بأنه ( لا تنقضي عجائبه , ولا يخلق من كثرة الرد ).
ومن هنا كان واجب المتخصصين من المسلمين في مختلف مجالات المعرفة الانسانية ـ في كل عصر وفي كل جيل ـ أن تنفر منهم طائفة للتسلح بمستلزمات تفسير كتاب الله من المام بقدر كاف من علوم اللغة العربية وآدابها , ومن الحديث وعلومه , والفقه وأصوله , وعلم الكلام وقواعده , مع معرفة بعادات المجتمع العربي الأول , واحاطة بأسباب النزول , وبالمأثور في التفسير , وبالسيرة النبوية المطهرة , وباجتهاد أعلام السابقين من أئمة المفسرين , وغير ذلك من الشروط التي حددها علماء التفسير وأصوله , ثم تقوم تلك الطائفة علي شرح آيات الكتاب الحكيم ـ كل فيما يخصه ـ حتي تستبين للناس جوانب من الإعجاز في كتاب الله , لم يكن من السهل بيانها قبل عصر العلم الذي نعيشه . وحتي يتحقق قول الله تعالي في محكم كتابه : ? لِكُلِّ نَبَأٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ?[ الأنعام : 67]
وانطلاقاً من ذلك الفهم , ظهرت مؤلفات عديدة تعالج قضية الإعجاز العلمي في كتاب الله من أشهرها في القديم كتاب كشف الأسرار النورانية القرآنية فيما يتعلق بالأجرام السماوية والأرضية والحيوانات والنباتات والجواهر المعدنية لمحمد بن احمد الاسكندراني الطبيب وهو من علماء القرن الثالث عشر الهجري.(/4)
ورسالة عبد الله فكري وهو من وزراء المعارف السابقين في مصر في مطلع هذا القرن والتي يقارن فيها بين بعض مباحث علم الهيئة الفلك وبين الوارد من نصوص القرآن الكريم في ذلك , وكتاب الاسلام والطب الحديث لعبد العزيز اسماعيل , ورياض المختار لأحمد مختار الغازي , وكتابا معجزة القرآن في وصف الكائنات والتفسير العلمي للآيات الكونية لحنفي أحمد , وكتابا في سنن الله الكونية والاسلام في عصر العلم لمحمد أحمد الغمراوي , وإعجاز القرآن في علم طبقات الأرض لمحمد محمود ابراهيم , و العلوم الطبيعية في القرآن ليوسف مروة , وسلسلة كتب كل من محمد جمال الدين الفندي وعبد الرزاق نوفل في نفس الموضوع , وكتاب أضواء من القرآن علي الانسان ونشأة الكون والحياة لعبد الغني الخطيب , والقرآن والعلم لأحمد محمود سليمان , ومن اشارات العلوم في القرآن الكريم لعبدالعزيز سيد الأهل , و محاولة لفهم عصري للقرآن لمصطفي محمود , وتفسير الآيات الكونية لعبد الله شحاتة , والاسلام والعلم التجريبي ليوسف السويدي , والقرآن تفسير الكون والحياة لمحمد العفيفي , وكتاب الانجيل والقرآن والعلم لموريس بوكاي , وكتاب خلق الانسان بين الطب والقرآن لمحمد علي البار , هذا بالاضافة الي ماظهر مؤخرا من كتب ومجلات عديدة وأبواب كثيرة عن الإعجاز العلمي في القرآن وردت مجمعة في كتب اسلامية متعددة , أو متناثرة في كثير من التفاسير التي حررت في النصف الأخير من هذا القرن .
هذا من جهة , ومن جهة أخري فقد تعرض هذا المنهج ـ بحق أحيانا , وبغير ذلك في أحيان أخري كثيرة ـ للمزيد من النقد والتجريح الذي أسس علي أن معجزة القرآن هي في الأصل معجزة بيانه الذي أدرك اساطين اللغة العربية فيه , ومنذ سماع أولي آياته , أنه علامة فارقة بين كلام الله وكلام البشر , وأن علينا أن نفهم الاسلام كما بينه نبي الاسلام - صلوات الله وسلامه عليه - وكان من شواهد ذلك ومبرراته حيود عدد من الذين تعرضوا للقضايا الكونية في القرآن عن جادة الطريق إما عن قصور في فهم الحقائق العلمية , أو انتفاء لشروط القدرة علي الاجتهاد في التفسير , أو لكليهما معا ,
وعلي الرغم من ذلك كله , فقد تمكن هذا السيل من الكتابات عن الإعجاز العلمي في آي القرآن الكريم من تهيئة النفوس لقبول ذلك المنهج , حتي قام المجلس الاعلي للشئون الاسلامية في مصر بتشكيل عدد من اللجان العلمية التي ضمت الي علماء القرآن وتفسيره , والحديث ورجاله والفقه وأصوله , والشريعة وعلومها , واللغة العربية وآدابها , والتاريخ الاسلامي وتفاصيله , عددا من كبار العلماء والباحثين والمفكرين في مختلف جنبات المعرفة الانسانية , وقد قام كل هؤلاء بمدارسة كتاب الله في اجتماعات طالت لسنين كثيرة , ثم تبلورت في تفسير موجز تحت اسم المنتخب في تفسير القرآن , كتب بأسلوب عصري وجيز , سهل مبسط , واضح العبارة , بعيد عن الخلافات المذهبية , والتعقيدات اللفظية والمصطلحات الفنية , وقد أشير في هوامشه الي ماترشد اليه الآيات القرآنية من نواميس الحياة وأسرار الكون , ووقائعه العلمية التي لم تعرف الا في السنوات الأخيرة , والتي خصها ذلك التفسير في مقدمته بأنه لايمكن الا أن يكون القرآن قد أشار اليها لأنه ليس من كلام البشر , ولكنه من كلام خلاق القوي والقدر , الذي وعد بذلك في محكم هذا الكتاب فقال: ? سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ?[ فصلت : 53] .
كما تمت الاشارة في مقدمة هذا التفسير الوجيز إلي أنه سيتلوه تفسير اخر وسيط في شيء من البسط والتفصيل يليه المفصل إن شاء الله تعالي .
حجة المعارضين لتعبير الإعجاز العلمي في القرآن الكريم
وقبل استعراض مواقف المفسرين في عصرنا الحاضر من الآيات الكونية في كتاب الله « أي الآيات التي تحتوي علي إشارات لبعض أشياء هذا الكون من مثل السماوات والأرض , والشمس والقمر , والنجوم والكواكب , والجبال والأحجار , والأنهار والبحار , والرياح والسحاب والمياه , والرعد والبرق , ومراحل الجنين في الإنسان , وبعض صور الحيوان ومنتجاته والنبات , ومحاصيله وثماره وغير ذلك» لابد لنا من الإشارة الي أن بعض الكتاب من القدامي والمعاصرين ـ علي حد سواء .. قد اعترض علي استخدام لفظ معجزة ومشتقاته في الإشارة الي عجز الإنسان عن الإتيان بمثل هذا القرآن أو بشئ من مثله , أو إلي أستعصاء تقليد القرآن الكريم علي الجهد البشري واستعلائه عليه , لأنه كلام الله تعالي , المغاير لكلام البشر جملة وتفصيلا , ولو أنه أنزل بأسلوب يفهمه البشر وقت نزوله وفي كل عصر من العصور التالية لنزوله إلي أن يرث الله تعالي الأرض ومن عليها .(/5)
وحجة المعترضين علي لفظ معجزة ومشتقاته تقوم علي أساس من أن اللفظ لم يرد له ذكر في كتاب الله بالمعني الشائع اليوم , ولا في الصحيح من الأحاديث النبوية الشريفة وإن وردت مشتقاته للدلالة علي عدد من المعاني القريبة أو المغايرة قليلا لذلك في ستة وعشرين موضعا من القرآن الكريم بألفاظ أعجز , ومعجزين , ومعاجزين وعجوز وإعجاز وتصريفاتها ودلالاتها في تلك المواضع قد تبعد قليلا عما أريد التعبير عنه بلفظ المعجزة عند علماء اللغة , خاصة أن القرآن الكريم قد أشار دوما إلي مدلول المعجزة بلفظ آية « بصيغة المفرد والمثني والجمع » في أكثر من 380 موضعا منها قول الحق تبارك وتعالي : ? وَقَالُوا لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ ? [ الأنعام : أية 37] ، وقوله عز من قائل : ? وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ ? [ البقرة : 118] ، وقوله تعالي : ? وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ ? [ البقرة : أية 145] ، وقوله : ? سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ ? [ البقرة : آية 211] ، وقوله تعالي علي لسان أحد أنبياء بني إسرائيل : ? وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ ....إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَةً لَكُمْ إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ ? [ البقرة : آية 248] ، قوله تعالي علي لسان نبيه صالح - عليه السلام - مخاطبا قومه : ?... هَذِهِ نَاقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً ....? [ الأعراف : 73] ، وقوله علي لسان فرعون وقومه وهم يعارضون سيدنا موسي -علي نبينا وعليه أفضل الصلاة وأزكي التسليم -: ? وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ ?[ الأعراف : 132]
وهذه حجة مردودة لأن التعبير عن إعجاز القرآن قد استخدم منذ القرون الهجرية الأولي , ولم يجد علماء المسلمين من الصحابة والتابعين غضاضة في استخدام هذا التعبير علي الرغم من عدم وروده بهذا المعني في كتاب الله .(/6)
من البشارات المحمدية في كتب العهدين حسين أبو بكر إدريس*
الأمين الصادق (وهي بشارة بالنبي صلى الله عليه وسلم، ووصفه وجهاده)
جاء في سفر رؤيا يوحنا 19/11-15 : (11) ثم رأيت السماء مفتوحة وإذا فرس أبيض والجالس عليه يدعى أميناً صادقاً وبالعدل يحكم ويحارب(12)وعيناه كلهيب نار وعلى رأسه تيجان كثيرة وله اسم مكتوب ليس أحد يعرفه إلا هو(13)وهو متسربل بثوب مغموس بدم ويدعى اسمه كلمة الله(14)والأجناد الذين في السماء كانوا يتبعونه على خيل بيض لابسين بزاً أبيض ونقياً(15)ومن فمه يخرج سيف ماض لكي يضرب به الأمم وهو سيرعاهم بعضاً من حديد وهو يدوس معصرة خمر سخط وغضب الله القادر على كل شيء.
ففي هذه الرؤيا صفات لشخص بشري لا توجد إلا في نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وهي:
1- قوله: والجالس عليه يدعى أميناً وصادقاً، وفي طبعة الموصل: يسمى الأمين الصادق. وكان العرب يسمون الرسول صلى الله عليه وسلم الصادق الأمين. وبهذا وصفه أعداؤه أمام ملوك الأعاجم (ورد هذا عند شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه الجواب الصحيح1/99. وابن القيم في كتابه هداية الحيارى ص48-49).
2- قوله: وبالعدل يحكم ويحارب، فهل روى الأعداء أعداء الرسول صلى الله عليه الصلاة والسلام أنه جار في حكمه أو في قتاله مرة واحدة؟!. بل كانت أحكامه منبع العدل والمساواة كما أن قتاله كان في غاية الرحمة والعدل والإحسان. وتشهد بذلك الوقائع الكثيرة التي شهدها عليه الصلاة والسلام، والوصايا التي كان يوصي بها جنده وقادته من الرأفة والرحمة وعدم إيذاء الشيوخ والنساء والأطفال والمنقطعين للعبادة.
3- قوله: وعيناه كلهيب نار. وهي صفة عيني نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فقد روى ابن سعد في الطبقات عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (كان إذا خطب احمرّت عيناه). وفي طبعة الموصل: وكانت عيناه شبه وقيد النار. وروى في الطبقات عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مشرب العينين بحمرة)، ورد هذا في الطبقات الكبرى لابن سعد الباب1/410-411. وبهذا نرى أنه كان في عيني رسول الله صلى الله عليه وسلم حمرة لا تفارقهما.
4- قوله في البشارة: وعلى رأسه تيجان كثيرة. كناية عن خضوع الملوك لدين الإسلام وفتح أمته عليه الصلاة والسلام على ممالك الفرس والروم والقبط وتقسيم خزائنها في سبيل الله.
5- قوله في البشارة: وله اسم مكتوب لا يعرفه إلا هو. والمقصود أن اسمه (محمد وأحمد) عليه الصلاة والسلام، وهذا الاسم ليس مما اعتاد بنو إسرائيل ولا بنو إسماعيل أن يسموا أبناءهم به، وهو ظاهر في اسمه بين قومه. أما قوله: ويدعى اسمه كلمة الله. فلا شك أنه من التحريف القصدي بالتبديل أو الزيادة. والدليل على ذلك أن هذه العبارة تناقض العبارة أو الفقرة السابقة لها وهي: وله اسم مكتوب ليس أحد يعرفه إلا هو. وهذا من التحريف القصدي هو من أجل تطبيق هذه البشارة على عيسى ابن مريم عليه السلام. ويوحنا اللاهوتي صاحب الرؤيا(أي سفر المشاهدات) كان بعد رفع المسيح عليه السلام بزمن كتب هذه الرؤيا فكيف تكون رؤياه بشارة بعيسى عليه السلام الذي سبقه بزمن ورفعه الله؟!.إذاً هي صريحة في نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
6- في البشارة الفقرة: وهو متسربل بثوب مغموس بدم. إشارة إلى بعث النبي صلى الله عليه وسلم بالجهاد والسيف وهي صفة أمته كذلك. والمعنى كأنهم تسربلوا بألبسة القتال، فهم لا يخلعونها لأنهم في جهاد دائم في سبيل الله.
7- وفي البشارة أيضاً قوله: والأجناد الذين في السماء كانوا يتبعونه على خيل بيض لابسين بزاً أبيض ونقياً. فيه إشارة إلى تأييد الله لرسوله صلى الله عليه وسلم بالملائكة وقتالهم معه ف يبدر والخندق وغيرهما،وهي الجنود التي قال الله تعالى عنها في سورة التوبة آية 26: (وأنزل جنوداً لم تروها وعذب الذين كفروا). وفي سورة التوبة أيضاً آية40 يقول تعالى: (وأيّده بجنود لم تروها). وفي سورة الأحزاب الآية9 قال تعالى: (فأرسلنا عليهم ريحاً وجنوداً لم تروها).
8- وقوله في البشارة: ومن فمه يخرج سيف ماض لكي يضرب به الأمم وهو سيرعاهم بعضاً من حديد وهو يدوس معصرة خمر سخط وغضب الله. فيه إشارة إلى للسيوف العربية التي حملها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتباعهم الذين فتحوا البلاد ونفذوا فيها حكم الله وشريعته، وحطموا بيوت المحرمات ومعاصر الخمر، وكان حكمهم فيها نافذاً قوياً كقوة العصا الحديدية لاستنادهم إلى الشرع القويم.
فهذه الأوصاف جميعها لا تصدق على عيسى عليه السلام، ولم يتصف بها أحد غير نبينا عليه الصلاة والسلام بل كأنها نص صريح عليه.اللهم اجعلنا من أمته، وأَمِتْنا على دينه، واحشرنا في صفه وحزبه وارزقنا مرافقته في الجنة.وصلى اللهم عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليماً كثيراً.(/1)
من الحرية الدينية إلى الدولة العلمانية
أ.د. جعفر شيخ إدريس*
من أعظم الوسائل التي تُستعمل لتحريف نصوص الكتاب والسنة في عصرنا أن يؤخذ نص أو عبارة من نص ثم تعطى معنى من معاني الثقافة الغربية له لوازم لا تتناسب مع بقية نصوص الكتاب والسنة، ثم إما أن يلتزم المحرِّف بهذه اللوازم فيمضي في تحريفه إلى نهايته، وإما أن ينكر بعضها فيقع في التناقض والحرج، وإما أن يلجأ إلى تحريف النصوص الأخرى كما حرَّف النص الأول.
من العبارات القرآنية التي حُرفت بهذه الطريقة عبارة {لا إكْرَاهَ فِي الدِّين} [البقرة: 256] التي صار يُستدل بها على الحرية الدينية بالمعنى الغربي لهذه العبارة. وما دامت الحرية الدينية بهذا المعنى الغربي تقتضي أن يكون من حق الإنسان أن يدخل في الدين أو يخرج منه متى شاء حكم هؤلاء بأن تكون الردة أمراً مباحاً لا جريمة يعاقَب مرتكبها، حتى قال قائلهم في وقاحة ـ مخالفاً لقول الرسول -صلى الله عليه وسلم- ـ: (لا بأس على الإنسان أن يبدل دينه).
لكن حرية الدين بالمعنى الغربي لا تقف عند حدود إباحة الردة؛ لأنك إذا أبحت للإنسان أن يخرج من الدين كله فيلزمك أن تبيح له الخروج من بعضه. وهذا هو الأمر في الغرب. فكما أن من حق الإنسان أن يخرج من اليهودية أو النصرانية أو الإسلام؛ فمن حقه أيضاً أن ينكر بعض ما في دينه ويظل رغم ذلك يهودياً أو نصرانياً أو مسلماً، ولا يحق لجهة دينية أن تعترض عليه. ولا زلت أذكر مستغرباً كلمة الرجل الأمريكي الشاذ الذي انتخبته كنيسته قسيساً كبيراً لها معتذراً للذين اعترضوا على ترشيحه، قال كلاماً فحواه أنهم محقون؛ لأن انتخابه مخالف لتقاليد الكنيسة، ومخالف لنصوص الكتاب المقدس، ثم قال: «لكن هذا لا يعني أنه خطأ»!
وعليه فإذا كان من حق المسلم أن يرتد عن دينه كله، فيكون من حقه أن ينكر الصلاة أو الصيام، أو يمتنع عن أداء الزكاة، أو يبيح شرب الخمر أو الزنا، أو حتى الشذوذ. وقد حدث فعلاً أن كوَّن جماعة من الشباب المنحرفين في أمريكا جمعية أسموها (جماعة الشباب الإسلاميين الشاذين).
لكن هذا يؤدي إلى نتيجة خطيرة هي أن الإسلام لا يمكن أن يكون نظاماً أو قانوناً لدولة؛ لأنه إذا كان من حق الإنسان أن يخرج على كل أمر أو نهي ديني، فيكون من حقه أن يخرج على كل أوامر الدولة وقوانينها. لكن الناس لا بد لهم من دولة تأمر وتنهى وتعاقب؛ فإذا لم تكن دينية لزم أن تكون علمانية. يقول بعضهم: يمكن أن نُلزم الناس بهذه الأوامر باعتبارهم مواطنين لا باعتبارهم مسلمين. وأقول: إن هذا يؤكد علمانية الدولة؛ لأن العلمانية لا تمنع من أين تتبنى الدولة بعض الأوامر والنواهي ذات الأصل الديني ما دامت لا تجعل الدين أساساً لمشروعيتها. ونحن نعلم أن في الدول العلمانية الغربية كثيراً من أمثال هذه القوانين.
الحرية بهذا المعنى الغربي ناتجة عن اعتقاد بدأ يشيع في الغرب بعد القرن الثامن عشر فحواه أن المعتقدات الدينية لا تقوم على أساس علمي، وإنما هي مشاعر قلبية، فلا يحق لإنسان أن يجبر الآخرين على أن تكون مشاعرهم وعواطفهم كمشاعره. والدين يختلف في هذا عن العلوم التجريبية التي تستند دعاواها إلى أدلة علمية حسية أو عقلية. وكثيراً ما يأخذون علينا ـ معاشرَ المسلمين ـ معاملتنا للدين معاملة هذه العلوم، فيقولون: إنكم تدَّعون أنكم تملكون الحقيقة. ونحن فعلاً نعتقد أن الحق معنا في مسائل الدين، وأن ديننا يقوم على حقائق تشهد لها أدلة حسية وعقلية، وأن الأمر ليس متروكاً فيه للأذواق الفردية؛ وهذا هو الذي يجعلنا نحكم على بعض الأقوال والتصرفات أنها مخالفة للدين أو مناقضة له مخرجة لصاحبها عن الملة الإسلامية.
ولأننا نعتقد اعتقاداً جازماً بأن الحق معنا ولا سيما في أصول الدين، وأن من مصلحة الإنسان الدنيوية والأخروية أن يؤمن بهذا الحق، فنحن حريصون على نشره كما هو من غير زيادة أو نقص أو تحريف، وحريصون على حماية من يؤمن به من المؤثرات التي تضعف إيمانه أو تفتنه عنه.
وهذا هو السبب في اعتبار الردة جريمة يعاقب عليها القانون الإسلامي. إن الذي يعاقب عليه القانون ليس هو أن يغير الإنسان ما في قلبه؛ فهذا أمر لا يستطيع البشر الاطلاع عليه اطلاعاً مباشراً، ولا يستطيع أحد أن يجبر أحداً على اعتقاد معين حقاً كان أو باطلاً؛ ولذلك يقال للرسول -صلى الله عليه وسلم-: {إنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص: 56].
ويقال له:{فَذَكِّرْ إنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ}.[الغاشية: 21 - 22](/1)
فالاستدلال بمثل هذه النصوص على إباحة الردة استدلال خطأ؛ لأن هذه النصوص لا تتكلم عن حرية التعبير عن الكفر وإنما تتحدث عن وجود الكفر في القلب. ومنع التعبير عن الكفر والتصريح به غير منع وجوده في القلب. والتفريق بين هذين أمر متفق عليه بين كل العقلاء، ولا يمكن إلا أن يراعى حتى في القوانين الوضعية. فالقانون لا يعاقب إنساناً على اعتقاده بأن إنساناً آخر سارق مثلاً، وإنما يعاقبه على إعلانه عن هذا الاعتقاد لما يترتب عليه من ضرر بالمتهم. ولو أن مسلماً رأى أخاً له يزني وتأكد من هذا الأمر فلا يجوز له أن يصرح به، بل إن تصريحه به يعد ذنباً يعاقب عليه إذا لم يشهد معه ثلاثة مثل شهادته.
وكذلك الأمر بالنسبة للردة. فالمسلم إذا ارتد وكتم ردته في قلبه بحيث لم يطلع عليه إلا الله ـ سبحانه وتعالى ـ فإن الله هو الذي يحاسبه. أما في الدنيا فيعامل معاملة المسلم. وأما إذا أعلن ردته فإنه يعاقب لما قد يترتب على ردته من عواقب سيئة عليه وعلى غيره. من هذه العواقب:
أولاً: استعمال الردة وسيلة لمحاربة الدين، ومن ثَم الدولة التي يقوم عليها هذا الدين. قال ـ تعالى ـ عن بعض الكفار: {وَقَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [آل عمران: 72].
ثانياً: أن الإنسان قد تخطر بباله شبهات تشككه في دينه؛ فإذا ما صرح بها وعرفها الناس عنه، ربما كان من الصعب عليه أن يتنازل عنها. وأما إذا ما كتمها في قلبه، أو بدأ يناقش بعض إخوانه فيها مناقشة علمية، فقد يرجع عنها. وقد جربنا هذا كثيراً.
ثالثاً: إن التصريح بالخروج من الدين لا تقف حدود ضرره على المرتد وحده، بل إن هذا قد يؤثر في كل من له صلة به ولا سيما الزوجة أو الزوج والأولاد.
فتجريم إعلان الردة هو في الحالة الأولى حماية للأمة، وفي الحالة الثانية حماية للفرد، وفي الحالة الثالثة حماية لمن حوله ممن قد يتأثر به.
أقول بعد هذا: إن الذين فسروا عبارة {لا إكْرَاهَ فِي الدِّين} ذلك التفسير الغربي، والتزموا لوازمه كلها أو بعضها، وأباحوا الردة، اضطروا كلهم لأن ينكروا أو يحرفوا نصوص السنة النبوية.
يقول لك أحدهم: إنه لا ذكر لتجريم المرتد في القرآن الكريم. تقول له: بلى! قال ـ تعالى ـ: {إنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إسْرَارَهُمْ * فَكَيْفَ إذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} [محمد: 25 - 28].
يقول لك: لكن المذكور في هذه الآية وآيات غيرها إنما هو عقاب أخروي. تقول له: لكنه تجريم على كل حال. ثم إن تفاصيل كثير من الأحكام إنما جاءت بها السنة التي أمرنا الله ـ تعالى ـ في كتابه أن نأخذ بها.
فإنكار السنة أو شيء منها إنكار للقرآن الكريم. قلت لبعضهم: إن القرآن لم ينزل عليك ولا على أبيك، وإنما نزل على محمد -صلى الله عليه وسلم-؛ فإذا كنت تعتقد أنه صادق في قوله إن القرآن أنزل عليه، فيجب أن تعتقد أنه محق في بيانه للقرآن وفي قوله إنه أوتي القرآن ومثله معه. وإذا كنت لا تصدقه في هذا أو لا تأخذ بقوله فقد أبطلت الأصل الذي يقوم عليه إيمانك بأن القرآن كلام الله إن كنت حقاً مؤمناً بذلك. ثم كيف تبيح لنفسك أن تفسر القرآن وتنكر على من أُنزل عليه أن يفسره؟
ومنهم من ينكر وجود أحاديث تجرِّم الردة وتعاقب عليها. ومنهم من يعترف بوجود بعض الأحاديث لكنه يتعمد تحريف معانيها بشتى الوسائل. من أشهر هذه التحريفات السخيفة التي انطلت ـ مع الأسف ـ على بعض الناس قولهم: إن الرسول -صلى الله عليه وسلم- إنما عنى بقوله: )من بدل دينه فاقتلوه( من جمع بين ترك الدين والخروج على الدولة. ثم يخترعون من عند أنفسهم مناسبات لهذا الحديث ما أنزل الله بها من سلطان. هذا مع أن من المناسبات الحقيقية للحديث ما يتنافى منافاة بينة مع هذا الهراء. الحديث رواه ابن عباس وذكره بمناسبة تحريق أمير المؤمنين علي ـ رضي الله عنه ـ لبعض الزنادقة. خرَّج البخاري في صحيحه عن عكرمة قال: أُتي علي ـ رضي الله عنه ـ بزنادقة فأحرقهم، فبلغ ذلك ابن عباس، فقال: لو كنتُ أنا لم أحرقهم لنهي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لا تعذبوا بعذاب الله»، ولقتلتهم لقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «من بدَّل دينه فاقتلوه». وإنما قتلهم، ثم أحرقهم؛ لأنهم سجدوا له، وقالوا له: أنت خالقنا ورازقنا؛ فهل هنالك من حال هي أشد خضوعاً للحاكم وأبعد عن الخروج عليه من حال إنسان يسجد له ويقول له: أنت ربي؟(/2)
من الحقوق الزوجية
السؤال :
ما الحكم في زوجة لا تطيع زوجها ، و زوج يفرط في حقوق زوجته بسبب تقصيرها في طاعته ؟
الجواب :
أقول مستعيناً بالله تعالى :
طاعة الزوج واجبة على زوجته ما لم يأمر بمعصية ، و من حقه عليها بذل نفسها و عدم التمنع من بذل ما عليها من استمتاع و خدمة بالمعروف و يلزمها طاعته في ترك الأمور المستحبة كالصيام و سفر الحج ، و الحج الذي ليس بواجب و أن لا تخرج من بيته إلا بإذنه و لا تدخله أحداً إلا برضاه و أن تحفظه في نفسها و ولده و ماله و أما طاعتها له في الأمور الواجبة شرعاً فهي ألزم و أولى بالصون و المراعاة .
غير أن الطاعة الواجبة للزوج على زوجته مشروطة بكون المأمور به مما أباحه الله تعالى أو ندب إليه أو أوجبه ، أما إن كان معصية فلا سمع و طاعة فيها ، كائناً من كان مصدرها ؛ زوجاً أو غيرَ زوجٍ ، و لا تجوز مجارات رغبات أحدٍ باقتراف ما حرّم الله ، إذ لا طاعةَ لمخلوقٍ في معصية الخالق ، و لكنّ الطاعة في المعروف .
روى الشيخان و أبو داود و النسائي و أحمد عنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه أنَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه و سلم قَالَ : ( إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ ) .
و إذا تبين للمرأة وجوب طاعتها لزوجها ، و سألها أمراً لا معصية فيه ، أو صرفَها عن غير واجبٍ ، أو نهاها عن مكروهٍ أو محرّم ، فمن الحري بها أن لا تفرط فيما افترض عليها من طاعته ، و لها لقاء ذلك حافزان عظيمان :
أولهما : أن يبادرها الزوج بأداء حقوقها و ما أوجبه الله تعالى عليه تجاهها ، لقوله تعالى : ( وَ لَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ) [ البقرة : 228 ] .
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية الكريمة : أَيْ وَ لَهُنَّ عَلَى الرِّجَال مِنْ الْحَقّ مِثْل مَا لِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ ، فَلْيُؤَدِّ كُلّ وَاحِد مِنْهُمَا إِلَى الآخَر مَا يَجِب عَلَيْهِ بِالْمَعْرُوفِ ... وَ فِي حَدِيث بَهْز بْن حَكِيم عَنْ مُعَاوِيَة بْن حَيْدَة الْقُشَيْرِيّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّه أَنَّهُ قَالَ : يَا رَسُول اللَّه مَا حَقّ زَوْجَة أَحَدنَا ؟ قَالَ : ( أَنْ تُطْعِمهَا إِذَا طَعِمْت وَ تَكْسُوهَا إِذَا اِكْتَسَيْت وَلا تَضْرِب الْوَجْه وَ لا تُقَبِّح وَ لا تَهْجُر إِلا فِي الْبَيْت ) وَ قَالَ اِبْن عَبَّاس : إِنِّي لأُحِبّ أَنْ أَتَزَيَّن لِلْمَرْأَةِ كَمَا أُحِبّ أَنْ تَتَزَيَّن لِي الْمَرْأَة لأَنَّ اللَّه يَقُول : ( وَ لَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ) .اهـ.
و ثانيهما : تحصيل الأجر الجزيل عند الله تعالى ، و نيل رضاه ، لما روي عن أم سلمة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها ، قالت : قال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ سَلَّم : ( أيما امرأة ماتت و زوجها عنها راضٍ دخلت الجنة ) رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَ حسنه ، و الحاكم و صححه .
و روى أحمد في مسنده عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ( إذا صلت المرأة خمسها و صامت شهرها و حفظت فرجها و أطاعت زوجها قيل لها : ادخلي من أي أبواب الجنة شئت ) . و روى نحوه ابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه .
و معنى هذا الحديث كما بينه الإمام المناوي في فيض القدير : ( إذا صلت المرأة خمسها ) المكتوبات الخمس ( و صامت شهرها ) رمضان غير أيام الحيض إن كان ( و حفظت ) و في رواية أحصنت ( فرجها ) عن الجماع المحرم و السحاق ( و أطاعت زوجها ) في غير معصية ( دخلت ) لم يقل تدخل إشارة إلى تحقق الدخول ( الجنة ) إن اجتنبت مع ذلك بقية الكبائر أو تابت توبة نصوحاً أو عفي عنها .اهـ.
فالواجب على كل من الزوجين أن يتقي الله في الزوج الآخَر ، و يحسن إليه ، محتسباً في ذلك جزيل الأجر ، و عظيم الثواب عند الملك الوهاب ، يوم لا ينفع مال و لا بنون إلا من أتى الله بقلبٍ سليمٍ .
و بالله التوفيق .(/1)
من المخالفات في الطهارة والصلاة
عبدالله القرني
دار الوطن
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين.. أما بعد:
أخي الحبيب: لو نظرنا بميزان الشرع إلى عبادات أكثر الناس اليوم لرأينا عجبا مما أحدثوه، وما ورثوه من المخالفات الكثيرة التي أصبحت بينهم كسنن مأثورة يتناقلونها جيلا بعد جيل، وفي مقابل هذا تركوا سننا ثم اعتبروها من قبيل البدع وذلك لغربتها بينهم. وحجتهم في ذلك أن جمهور الناس يعملون بها، ولا شك أن هذا ليس دليلا شرعيا يعتمد عليه في تقرير الأحكام الشرعية؟ فالسنة مثل سفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق؟ وفي هذه الرسالة السريعة نكشف عن بعض المخالفات الشائعة في الطهارة والصلاة حتى نحذرها ونحذر الناس منها.. والله الهادي إلى سواء الصراط.
أولا: مخالفات في الطهارة
1- الجهر بالنية عند الوضوء: قال ابن القيم رحمه الله تعالى: (ولم يكن النبي يقول في أوله: نويت رفع الحدث ولا استباحة الصلاة، لا هو ولا أحد من أصحابه ألبتة، ولم يرد عنه في ذلك حرف واحد، لا باسناد صحيح ولا ضعيف).
2- الدعاء عند غسل أعضاء الوضوء: كقول بعضهم عند غسل يده اليمنى: اللهم أعطني كتابي بيميني. وعند غسل وجهه: اللهم بيض وجهي... قال ابن القيم رحمه الله: (ولم يحفظ عنه أنه كان يقول على وضوئه شيئا غير التسمية، وكل حديث في أذكار الوضوء الذي يقال عليه فكذب مختلق، لم يقل رسول الله صلىالله عليه وسلم شيئا منه ولا علمه لأمته، ولا ثبت عنه غير التسمية في أوله، وقوله: { أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدأ عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التوابين، واجعلني من المتطهرين، في آخره }، فهذا ثابت).
3- الإسراف في ماء الوضوء: ففي البخاري أنه كان يغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد ويتوضأ بالمد. قال البخاري: (وكره أهل العلم الإسراف فيه، وأن يجاوزوا فعل النبي ). وقد أخبر خبرا يفيد النهي أنه سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الطهور والدعاء. [رواه أحمد وأبو داود].
والاعتداء في الطهور هو الزيادة على الثلاث وإسراف الماء.
4- كثرة الوساوس الشيطانية: قال فضيلة الشيخ ابن جبرين: (كثيرا ما يوسوس الشيطان إلى بعض الناس بانتقاض الوضوء بريح أو بول، ولا يكون لذلك حقيقة، فعلى من ابتلي بشيء من ذلك أن يبني على اليقين وهو الطهارة، ولا يلتفت إلى تلك الأوهام، فإنه بذلك يسلم وتنقطع عنه سريعا، فإن اهتم بها طال غمه وكثرت وساوسه، وتكلف بتكرار الوضوء، وفاتته الجماعة أول الوقت حتى يمل العبادة ويستثقلها، وذلك ما يتمناه الشيطان الرجيم).
5- عدم إسباغ الوضوء وإكماله: عن خالد بن معدان، عن بعض أزواج النبي { أن رسول الله رأى رجلا يصلي وفي ظهر قدمه لمعة قدر الدرهم لم يصبها الماء، فأمره رسول الله أن يعيد الوضوء } [أرواه أحمد وأبو داود].
وقد تساهل كثير من الناس في ذلك وهم بهذا يعرضون عبادتهم للفساد والبطلان كما هو واضح من الحديث.
6- استقبال القبلة عند البول أو الغائط: عن أبي أيوب الأنصاري قال: قال رسول الله : { إذا أتى أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يولها ظهره، ولكن شرقوا أو غربوا } [رواه البخاري ومسلم].
7- عدم التنزه من البول وعدم التوقي من رذاذه، والتساهل في عدم التحفظ منه: ففي الحديث أنه مر بحائط من حيطان المدينة فسمع صوت رجلين يعذبان في قبورهما، فقال : { بلى، كان أحدهما لا يستتر من بوله، وكان الآخر يمشي بالنميمة } [رواه البخاري ومسلم].
8- إدخال اليد في الإناء الذي يتوضأ منه قبل أن يغسلهما ثلاثا: ففي الحديث: { إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يدخل يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا، وإن أحدكم لا يدري أين باتت يده } [رواه البخاري ومسلم].
وقد أطلق العلماء الحكم فقالوا: وإن علم أين باتت يده فإنه يتعين عليه أن يغسلهما ثلاثا قبل إدخالهما في الإناء.
9- غسل الرقبة في الوضوء: والحديث الذي ورد في مسح الرقبة قال عنه النووي: "حديث موضوع ليس من كلام النبي ". وقال ابن القيم: "ولم يصح عنه في مسح العنق حديث البتة".
10- اعتقاد بعض الناس أنه لابد من غسل الفرج قبل كل وضوء ولو لم يحدث: وهذا خطأ شائع، والسنة خلاف ذلك.
11- أن بعض الناس يأخذه النوم فإذا أقيمت الصلاة وخاصة صلاة الفجر والجمعة قام وصلى مع المسلمين ولم يتوضأ: ولا شك أن النوم ينقض الوضوء، فعن صفوان بن عسال رضي الله عنه: { أمرنا رسول الله إذا كنا مسافرين ألا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة، ولكن من غائط وبولي ونوم } [رواه النساثي والترمذي].
12- أن بعض الرجال إذا جامع أهله لا يغتسل ولا يأمر أهله بالغسل إلا إذا أنزلا: وهذا أمر تعم به البلوى وأخطأ فيه الكثير، والصواب أنه يجب عليه الغسل بمجرد الجماع، لقوله : { إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب الغسل } [متفق عليه]. وزاد مسلم: { وان لم ينزل }.(/1)
13- اعتقاد بعض الناس أن الوضوء لا يم إلا إذا كان ثلاثا ثلاثا: أي غسل كل عضو ثلاث مرات... وقد ثبت عن النبي أنه توضأ مرة مرة، ومرتين مرتين كما جاء في صحيح البخاري.
14- الزيادة في عدد غسل أعضاء الوضوء أو بعضها أكثر من ثلاث مرات: وهذا بلا شك بدعة، وعند مسلم: { من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو ردا }.
ومن المخالفات التي تتعلق بالنساء في الطهارة:
15- أن بعض النساء لا يؤدين الصلاة التي طهرن في وقتها بل يبدأن بالصلاة القادمة: قال الشيخ ابن عثيمين حفظه الله: "أما إذا طهرت وكان باقيا من الوقت مقدار ركعة فأكثر فإنها تصلي ذلك الوقت الذي طهرت فيه، لقوله : { من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر} [رواه البخاري ومسلم].
16- قد يأتي الحيض للمرأة بعد دخول وقت الصلاة بمدة، فإذا طهرت لم تقض تلك الصلاة التي وجبت عليها قبل العادة: قال الشيخ ابن عثيمين: "إذا حدث الحيض بعد دخول وقت الصلاة كأن حاضت بعد الزوال بنصف ساعة مثلا، فإنها بعد أن تتطهر من الحيض تقضي هذه الصلاة التي دخل وقتها وهي طاهرة؟ لقوله تعإلى: إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا [النساء:103]".
17- ما يفعله كثير من النسوة من تأخير الغسل من الجماع أومن الحيض إذا طهرت بالليل حتى تطلع الشمس ثم تغتسل فتقضي: وهذا حرام بالإجماع. والواجب عليها أن تبادر بالغسل وتصلي قبل طلوع الشمس إذ أن الصلاة لا يجوز إخراجها عن وقتها عمدا بالإجماع... وإذا علم الزوج وسكت عن إنكاره فهو شريكها في الاثم إن كانت عالمة بالتحريم، وإن كانت جاهلة فعليه إثم جهلها وإثم معصيتها.
18- وضوء بعض النساء وعلى أظفارهن ما يسمى بالمناكير: ولا شك أن هذا الطلاء يمنع وصول الماء منعا باتا إلى المحل مما يؤدي إلى بطلان الوضوء، ولهذا يجب إزالته قبل مباشرة الوضوء.
19- امتناع بعض النساء من الصلاة والصيام مدة أربعين يوما بعد النفاس حتى ولو طهرت قبل هذه المدة: وهذا فهم خاطئ، والصواب أنه لا حرج عليها أن تصوم أو تصلي أو تعتمر أو يطؤها زوجها إذا طهرت قبل ذلك.
ثانيا: مخالفات في الصلاة
1- الصلاة في الثياب الرقيقة الشفافة أو التي تحجم العورة أو التي لا تكون سابغة: يقول الإمام الشافعي: "هوإن صلى في قميص يشف عنه لم تجزه الصلاة". ويقول الشيخ عبدالله ابن جبرين: "كثير من الناس الذين لا يلبسون الثياب السابغة وإنما يلبس أحدهم السراويل وفوقه جبة "قميص" على الصدر والظهر، فإذا ركع تقاصت الجبة وانحسرت السراويل، فخرج بعض الظهر وبعض العجز مما هو عورة، بحيث يراه من خلفه. وخروج بعض العورة يبطل الصلاة". والحكم يعم المرأة، فقد تدخل إحداهن في الصلاة وشعرها أو جزء منه أو من ساعدها أو ساقها مكشوف، وحينئذ فعليها عند جمهور أهل العلم أن تعيد الصلاة في الوقت وبعده.
2- كشف العاتقين في الصلاة: وهذا من الأخطاء الواجب تجنبها لقوله : { لا يصلين أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء } [متفق عليه].
ومن هنا نعلم خطأ بعض المصلين عندما يصلون- خصوصا في فصل الصيف – بـ "الفنيلة" ذات الحبل اليسير الذي يكون على الكتف.
3- الصلا ة في الثوب الذي عليه صورة: فعن أنس قال: كان قرام لعائشة سترت به جانب بيتها، فقال لها النبي : { أميطي عني، فإنه لا تزال تصاويره تعرض لي في صلاتي } [رواه البخاري]، وبوب على الحديث بقوله: باب إن صلى في ثوب مصلب أو تصاوير هل تفسد صلاته؟.
4- أداء الصلاة وهو حاقن لبول أو غائط: لقوله : { لا صلاة بحضرة طعام ولا هو يدافعه الأخبثان } [رواه مسلم].
5- الجهر بالنية: كأن يقول: نويت أن أصلي كذا وكذا. وهذا من البدع المنكرة. قال ابن القيم: "... ولا تلفظ بالنية ألبتة، ولا قال أصلي لله صلاة كذا مستقبل القبلة أربع ركعات... لم ينقل عنه أحد قط بإسناد صحيح ولا ضعيف ولا مسند ولا مرسل لفظة واحدة منها ألبتة" وقد أفتى غير واحد من العلماء بعدم جواز الجهر بالنية.
6- عدم تحريك اللسان في التكبير وقراءة القرآن وسائر أذكار الصلاة، والاكتفاء بتمريرها على القلب: وهذا من الأخطاء الشائعة، قال النووي: "وأما غير الإمام فالسنة الإسرار بالتكبير سواء المأموم أو المنفرد. وأدنى الإسرار أن يسمع نفسه إذا كان صحيح السمع ولا عارض عنده من لغط وغيره. وهذا عام في القراءة والتكبير والتسبيح في
الركوع وغيره".
7- ترك دعاء الاستفتاح والاستعاذة قبل قراءة الفاتحة مع أنهما من مستحبات الصلاة.
8- قول بعض المصلين في دعاء الاستفتاح: ولا معبود سواك، والثابت هو قوله : { سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك }. وما عداه زيادة غير وا ردة.(/2)
9- رفع البصر إلى السماء أو النظر إلى غير مكان السجود مما يسبب السهو وحديث النفس: وقد ورد الأمر بخفض البصر والنظر إلى موضع السجود إلا في حالة الجلوس للتشهد، فإن النظر يكون إلى الإشارة بالسبابة. يقول : { ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم؟! فاشتد قوله في ذلك حتى قال : لينتهين عن ذلك أو لتخطفن أبصارهم } [متفق عليه]. وسئل النبي عن الالتفات في الصلاة فقال: { هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد } [رواه البخاري].
10- كثرة الحركة والعبث في الصلاة: كتشبيك الأصابع، والتحريك المستمر للقدمين، وتسوية العمامة أو العقال، والنظر في الساعة، وربط الإزار، وتحريك الأنف واللحية؟ وقد رأى النبي أقواما يعبثون بأيديهم في الصلاة فقال : { ما لي أراكم رافعي أيديكم كأنها أذناب خيل شمس؟! اسكنوا في الصلاة } [رواه مسلم].
11- قول بعض المصلين بعد قول اللإمام "ولا الضالين": آمين ولوالدي وللمسلمين، وهذا خلاف السنة.
12- عدم إقامة الصلب في القيام والجلوس: كأن يكون محدودبا بظهره أو مائلا جهة اليمين، وكذا عدم إقامة الصلب في الركوع والسجود.
قال : { لا ينظر الله عز وجل إلى صلاة عبد لا يقيم صلبه بين ركوعها وسجودها } [رواه الطبراني بسند صحيح]. وقال : { أتموا الركوع والسجود } [رواه البخاري ومسلم].
13- عدم الطمأنينة في الركوع والاعتدال منه: عن زيد بن وهب قال: { رأى حذيفة رجلا لا يتم الركوع والسجود. قال : ما صليت، ولو مت مت على غير الفطرة التي فطر الله محمدا عليه } [رواه البخاري].
وروى أبو هريرة عن النبي أنه رأى رجلا دخل المسجد فصلى، فقال له النبي : { ارجع فضل فإنك لم تصل } [رواه البخاري].
14- يزيد بعض المصلين عند الاعتدال من الركوع لفظة "والشكر" عند قولهم: ربنا ولك الحمد: وهذه الزيادة لم تثبت عن رسول الله .
15- تحريك الأصبع بين السجدتين: والثابت عنه أنه كان يشير بإصبعه السبابة في أثناء جلوسه للتشهدين.
16- انتطار الإمام إن كان ساجدا حتى يرفع أو جالسا حتى يقوم وعدم الدخول معه إلا إذا كان قائما أو راكعا: والصواب أن تدخل مع الإمام على أي حال كان عليه؟ قائما أو راكعا أو ساجدا أو جالسا.
عن معاذ قال: قال رسول الله : { إذا أتى أحدكم الصلاة والإمام على حال فليصنع كما يصنع الإمام } [رواه الترمذي].
17- قيام المسبوق لقضاء ما فاته قبل تسليم الإمام أو عند ابتداء الإمام في السلام: يقول الشيخ عبدالرحمن بن سعدي رحمه الله في هذا الصدد: "لا يحل له ذلك وعليه أن يمكث حتى ينتهي الإمام من التسليمة الثانية، فإن قام قبل انتهاء سلامه ولم يرجع انقلبت صلاته نفلا، وعليه إعادتها".
18- اللإسراع والسعي للالحاق بالإمام قبل ركوعه: وهذا الإسراع منهي عنه، لقوله : { إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون، وأتوها وأنتم تمشون، وعليكم بالسكينة، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا } [رواه البخاري ومسلم].
19- إتيان المسجد بعد أكل الثوم أو البصل: وهو منهي عنه كما في حديث ابن عمر رضي الله عنهما، عن رسول الله : { من أكل من هذه الشجرة - يعني الثوم - فلا يقربن مسجدنا } [رواه البخاري]. أما إذا زالت رائحة الثوم أو البصل بالطبخ فلا حرج من إتيان المساجد.
20- زيادة لفظ "سيدنا" في التشهد أو في الصلاة على رسول الله في الصلاة: يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله: "اتباع الألفاظ المأثورة أرجح، ولا يقال: لعله ترك ذلك تواضعا منه ، وأمته مندوبة إلى أن تقول ذلك كلما ذكر، لأنا نقول: لو كان ذلك راجحا لجاء عن الصحابة ثم عن التابعين. ولم نقف في شيء من الآثار عن أحد من الصحابة ولا التابعين أنه قال ذلك مع كثرة ما ورد عنهم من ذلك".
21- التنفل عند إقامة الصلاة: فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : { إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة } [رواه الجماعة]. وأخرج مسلم أن النبي مر برجل يصلي وقد أقيمت صلاة الصبح فكلمه بشيء لا ندري ما هو، فلما انصرفنا أحطنا به نقول: ماذا قال لك رسول الله ؟ قالى: قال لي: { يوشك أحدكم أن يصلي الصبح أربعا }. 22- المرور بين يدي المصلي: وقد تساهل بعض المصلين في هذا الأمر مع أن الأمر فيه وعيد شديد. عن أبي الجهيم قال: قال رسول الله : { لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه لكان أن يقف أربعين خيرا له من أن يمر بين يديه } قال أبو النضر أحد رواة الحديث: لا أدري أقال أربعين يوما أو شهرا أو سنة؟! [رواه البخاري].
23- قول بعض الناس عند إقامة الصلاة: "أقامها الله وأدامها": والحديث الذي ورد في هذا ضعيف لا يعتمد عليه، فالأولى تركها.
24- عدم كظم التثاؤب من المصلي في أثناء صلاته: قال رسول الله : { إذا تثاءب أحدكم في الصلاة فليكظم ما استطاع، فإن الشيطان يدخل } [رواه مسلم].
وكظمه أن يرد التثاؤب ما استطاع، وذلك يكون بوضع اليد على الفم كما ورد في بعض الروايات.(/3)
25- الصلاة بين السواري: لما في ذلك من تقطيع الصفوف، عن قرة قال: { كنا ننهى أن نصف بين السواري على عهد رسول الله ونطرد عنها طردا } [رواه ابن ماجة وصححه الحاكم ووافقه الذهبي].
26- تخلف بعض الناس عن صلاة الجمعة لانشغالهم بمشاهدة كرة القدم: ولنذكر هؤلاء بأن من ترك الجمعة ثلاث مرات متواليات بلا عذر يطبع على قلبه ويكون من الغافلين والمنافقين كما ثبت في الحديث الصحيح.
نسأل الله تعالى أن يهدينا ويسدد خطانا، وصلى الله وسلم على محمد وآله وصحبه أجمعين.(/4)
من المقصود بالدعوة إلى اللَّه عز وجل ؟
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه وبعد.
فقد يكون في عنوانِ هذه المقالة شيءٌ من الغرابةِ عند البعض، ذلك لأنَّ الجواب معروف، ولا يجهل أحد أن المقصودين بالدعوة إلى الله عز وجل: هم طوائف الناس على اختلاف مشاربهم، وذلك بتعبيد هم لربهم سبحانه، حتى يسعدوا في الدنيا بالحياة الطيبة ، وفي الآخرة برضوان الله عز وجل وجنّته.
فإذا كان الجواب معروفًا، فما المقصود بعنوان المقالة إذن ؟
إنَّ المقصود بهذا السؤال تنبيهٌ لنفسي وإخواني الدعاة، إلى أن الدعوة إلى الله عز وجل تعني أول من تعني، دعوة النفس إلى الله عز وجل ، وتعبيدها له سبحانه، ويدخلُ في ذلك الأهلُ والقرابة، لأنَّ المُشاهد في حياة الكثير منَّا، الاهتمامُ بدعوة الآخرين، ونسيان النفس أو الغفلة عنها في زحمة دعوة الآخرين ، وهذا إنما نشأ من أنَّ مفهوم الدعوة قد ينحصرُ عند الكثير منَّا في دعوة الناس ، ولم نتنبّه إلى أن الدعوة إلى الله عز وجل على قسمين: دعوة النفس ، ودعوة الغير.
والذي دفعني إلى إثارةِ هذا الموضوع، ما رأيتهُ من نفسي ومن بعض إخواني الدعاة، من غفلة عمَّا ينقص النفس من واجباتٍ وأخلاقيات، أو ما يتلبسُ بها من مثالب وأمراض باطنة وظاهرة، يجب أن يُبذل الجهد في إزالتها، وأن تُدعى النفس إلى الدخول في السِّلم كافة.
ويلحق بذلك الأولاد والزوجة والوالدين، ثم الأقرب فالأقرب.
قال الله تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ )) (التحريم:6) .
ولا يعني هذا تركُ دعوة الآخرين حتى تصلح النفس، ويصلح الأهلون والأقارب، كلا. فالكمالُ عزيز، والنقصُ من طبيعةِ الإنسان.
ولكنَّ المراد: الاعتناءُ بالنفس والأهل، ودعوتهم إلى الله عز وجل في الوقت الذي يدعى فيه الآخرون، ويجبُ أن تسيرَ دعوةُ النفس ودعوةُ الغير في خطين متوازيين غير متقاطعين.
وكم يكون لدعوة الآخرين من ثمرةٍ وفائدةٍ كبيرة إذا كان الداعية مهتمًا بنفسه، محاسبًا لها، داعيًا لها إلى الله عز وجل، وذلك لما يضعُ الله تعالى على يديهِ من البركة والقبول في أقواله وأفعاله، ولما يجدُ الناسُ فيه من القدوةِ والمثال الذي يُحتذ ى، فالناسُ ينظرون إلى الأفعال أكثر من نظرهم إلى الأقوال المجردة(/1)
من المواقف الخالدة مع المأمون
صالح البوريني/الأردن
قال الشيباني : حدثنا محمد بن زكريا عن عباس بن الفضل الهاشمي عن قحطبة بن حميد قال : إني لواقف على رأس المأمون يوما وقد جلس للمظالم ، فكان آخر من تقدم إليه وقد هم بالقيام امرأة عليها هيئة السفر وعليها ثياب رثة فوقفت بين يديه فقالت : السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته ، فنظر المأمون إلى يحيى بن أكثم فقال لها يحيى : وعليك السلام يا أمة الله .. تكلمي في حاجتك : فقالت :
يا خير منتصف يهدى له الرشد ويا إماما به قد أشرق البلد
تشكو إليك عميد القوم أرملة عدى عليها فلم يترك لها سبد
وابتز مني ضياعي بعد منعتها ظلما وفرق مني الأهل والولد
فأطرق المأمون حينا ثم رفع رأسه وهو يقول :
في دون ما قلت زال الصبر والجلد عني ، وقرح مني القلب والكبد
هذا أذان صلاة العصر فانصرفي وأحضري الخصم في اليوم الذي أعد
والمجلس السبت إن يقضى الجلوس لنا ننصفك منه ، وإلا المجلس الأحد
قال فلما كان يوم الأحد جلس ، فكان أول من تقدم إليه تلك المرأة ، قالت : السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته . فقال وعليك السلام أين الخصم ؟ فقالت : الواقف على رأسك يا أمير المؤمنين ، وأومأت إلى العباس ابنه ، فقال : يا أحمد بن خالد خذ بيده فأجلسه معها مجلس الخصوم ، فجعل كلامها يعلو كلام العباس ، فقال لها أحمد بن خالد : يا أمة الله إنك بين يدي أمير المؤمنين ، وإنك تكلمين الأمير فاخفضي من صوتك . فقال المأمون : دعها يا أحمد فإن الحق أنطقها وأخرسه ، ثم قضى لها برد ضيعتها إليها ، وظلم العباس بظلمه لها ، وأمر بالكتاب لها إلى العامل الذي ببلدها أن يوفر لها ضيعتها ويحسن معاونتها وأمر لها بنفقة .(/1)
من انتصارات المسلمين في شهر رمضان
نصر الله عز وجل الأوائل في مواطن كثيرة، لأنهم كانوا يحسون إحساساً عميقاً بالإسلام، يرمون عن يد الله تعالى، ويستروحون عبير الجنة، ويسمعون حفيف أجنحة الملائكة.
لقد تعلم الأوائل في ساحة القرآن الكريم، ولذلك كان رمضان عندهم في موسم جهاد للنفس والعدو لا موسم ولائم وحفلات تزخر بأطايب الطعام والشراب، وأكدوا حقيقة واقعة ناصعة هي أن مشقة الصوم لا تقعد بالصائم عن ممارسة أشق الأعمال، وإنما تدفعه إلى الاستزادة منها.. وشتان ما بين واقع المسلمين الأوائل والمسلمين اليوم.. فواقع المسلمين اليوم يرسم علامات استفهام وعلامات تعجب أيضاً على كثرتهم يفتقرون لشئ واحد هو الإحساس بالإسلام! الإحساس بالمبادئ الإلهية والتعاليم المحمدية التي ساد بها أسلافهم.. الإحساس بالقيم الرفيعة التي كانت تختلج في وجدان المسلمين الأوائل.. الإحسان بأن المشقة في سبيل الإسلام إنما هي زاد روحي أغلى من متاع الدنيا.
ولقد حدثت في خلال شهر رمضان معارك عظيمة خاض غمارها المسلمون وهم صائمون، وانتصروا فيها انتصاراً باهراً، ومازال التاريخ يتعطر بأنباء هذه المعارك التي تمدُّ المسلمين بالقوة، وتذكرهم بما يجب عليهم حتى يواصلوا جهادهم في سبيل نصرة دينهم وإعزاز شأن أنفسهم تحقيقاً لقوله تبارك وتعالى: ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين"(1).
ومن انتصارات المسلمين في شهر رمضان:
غزوة بدر الكبرى
معركة بدر الكبرى وقعت في صبيحة يوم الجمعة السابع عشر من شهر رمضان في السنة الثانية من الهجرة.. قال رب العزة والجلال في شأنها: ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون(2).
وفي هذه الغزوة وغيرها لجأ رسول الله { إلى الله تعالى داعياً: "اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحادُّك وتكذب رسولك، اللهم فنصرك الذي وعدتني.. اللهم ٌإن تهلك هذه العصابة اليوم لا تُعبد..".
ولقد قاتل المسلمون في معركة بدر قتالاً رائعاً يميزه الصدق والإخلاص والحرص على الموت في سبيل الله تعالى، ولقد علم الله منهم هذا، فساندهم وثبتهم وشد عزائمهم وأمدهم بملائكته.. قال تعالى: إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان(3).
وكان شعار الصحابة يوم بدر: أحَدٌ.. أحَدٌ، وتسابق الصحابة إلى الموت رجاء أن يدخلوا الجنة، حتى إن عمير بن الحمام استطال المدة، التي يستغرقها أكل عدة تمرات، فألقاها من يده وقاتلهم حتى قُتل.. فَعَن أنس } قال: انطلق رسول الله { وأصحابه حتى سبقوا المشركين إلى بدر، وجاء المشركون فقال رسول الله {: "لا يقدمن أحدٌ منكم إلى شيءٍ حتى أكون أنا دونه".. فدنا المشركون فقال {: "قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض".. قال عمير بن الحمام الأنصاري: يا رسول الله! جنة عرضها السموات والأرض؟ قال: نعم، قال: بخ بخ(4). فقال رسول الله {: ما يحملك على قولك بخٍ بخٍ؟ قال: لا والله يا رسول الله إلا رجاءة أن أكون من أهلها. قال: فإنك من أهلها.. فأخرج تمرات من قرنه(5)، فجعل يأكل منهن ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه. إنها لحياة طويلة، فرمى بما كان معه من التمر، ثم قاتلهم حتى قُتل(6).
وذكر ابنُ جرير أنه كان يقول:
ركضاً(7) إلى الله بغير زاد
إلا التقى وعمل المعاد
والصبر في الله على الجهاد
وكل زاد عرضة النفاد
غير التقى والبر والرشاد
لقد كان يوم بدر يوم القصاص الذي تجلى فيه عدل الله تعالى وقصاصه للمؤمنين الأولين من المشركين الظالمين الذين ساموا الكثير منهم سوء العذاب.
قال تعالى: وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد(8). فهذا أمية بن خلف الذي صاح بلالٌ في وجهه قائلاً: "أمية بن خلف رأس الكفر والضلالة لا نجوت إن نجا".. وهذا عقبة بن معيط، وأبو جهل والنضر بن الحارث وغيرهم من أئمة الكفر والضلالة.. وكانت نهايتهم في بدر عبرة وعظة لكل ظالم تحدثه نفسه بالوقوف في سبيل الحق والعدل.
والمسلمون حينما يتحدثون عن غزوة بدر، لا يتحدثون من حيث نوعية السلاح وكفاءة الأسلحة، ولا من حيث العدد والعدة، ولكن الحديث عن معركة بدر كآية من آيات الله تعالى تقرر حقيقة كونية وسنة إلهية هي أن الصراع بين الحق والباطل صراع موصول وأن الحق مهما قل أتباعه وضعف أشياعه فإن الغلبة له في النهاية، وأن الباطل مهما امتد باعه وكثر أشياعه فإن الحق دامغه ومنتصر عليه لا محالة.
وقد قرر القرآن الكريم هذه الحقيقة في قوله تعالى: قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين والله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار(9).
فتح مكة المكرمة(/1)
في اليوم العشرين من شهر رمضان المبارك من السنة الثامنة للهجرة، كان فتح مكة المكرمة الذي عز به الإسلام، وارتفعت كلمة الإيمان، ونزل فيه قوله عز وجل: إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا(10).
وكان فتح مكة هو الأمنية الكبرى للرسول { لما يترتب عليه من أثر بالغ في حياة الدعوة، فلئن كان النصر في معركة بدر الكبرى تأسيساً لبناء الدولة الإسلامية الفتية، فلقد كان فتح مكة بناء لصرح العقيدة الإسلامية.. ولئن قضى في ساحة بدر على رؤوس الشرك وعبادة الأصنام، فقد قضى في الكعبة والبيت العتيق على الأصنام التي كان يعبدها هؤلاء الطواغيت.. وبهذا الفتح المبين حقق الله تعالى لرسوله { وعده الكريم حيث أنزل عليه ب "الجحفة" وهو مهاجر قوله تعالى: إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد(11).
دخل الرسول { مكة المكرمة تالياً قوله تعالى: وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا(12).
وطهر الكعبة المشرفة من دنس الوثنية والشرك.. ووقف { على باب الكعبة قائلا: "لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده".. تالياً قوله تعالى: يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم(13).. ثم قال: يا معشر قريش: ماذا تظنون أني فاعل بكم؟ قالوا خيراً أخ كريم وابن أخ كريم.. فقال { اذهبوا فأنتم الطلقاء.. لقد نزل هذا العفو الكريم برداً وسلاماً على تلك القلوب القاسية، والتي طالما اضطرمت بالعداوة لهذه النفس الخيرة، وطالما أعماها الحقد عن مجاوبة هذا القلب الرحيم، فقد ظل رسول الله { نيفاً وعشرين عاماً ينشد الخير لهؤلاء الناس، ويحاول بكل وسيلة أن يوجههم إليه، ولكنهم عموا وصموا وبادلوه عداوة بمودة وإساءة بإحسان، وكذبوه وقاطعوه، وأخرجوه وحاربوه، وألبوا عليه وظلوا دهرهم يتربصون به الدوائر، ويتحينون فيه الفرص، فلما أظهره الله عليهم وأمكنه من رقابهم نسي كل ما سلف من مساءاتهم وعداوتهم وكافأهم بالصفح الجميل، والعفو الشامل، فأية نفس عظيمة هذه النفس! إنها نفس الرسول الكريم { الذي لم يكن يضمر قط إلا الخير، ولم يكن يبغي إلا الصلاح.. والذي لم يكن قط جباراً ولا ظالماً ولا منتقماً لنفسه.. قال تعالى: لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريض عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم(14).
إذلال الروم بفتح عمورية
في سنة مائتين وثلاث وعشرين للهجرة، وفي شهر رمضان المبارك اقتحم المعتصم بالله العباسي حصون عمورية في مائة وخمسين ألفاً من جنوده.. وكانت عمورية غرة في جبين الدهر، والدرة والتاج في تأريخ الإسلام.. ولقد نقل إلى الخليفة أن امرأة مسلمة من العفيفات قد وقعن في يد علج(15) من علوج الروم، فلما هم بسبيها نادت: وامعتصماه.. وامعتصماه.. فهز النداء نخوته، وأثار رجولته، وقال: لبيك.. لبيك.. فنهض المعتصم، ولبس لامته(16) وتقلد سلاحه، وركب حصانه، وصاح بالنفير(17) وهو على أبواب قصره.. وأقسم ألا يعود إليه إلا شهيداً محمولاً على الأعناق، أو ظافراً منتقماً للمدينة الغالية المنكوبة، والمرأة المسلمة المغصوبة.. وفي أرض المعركة قاتل الجيش المسلم الروم.. ولم تغب شمس يوم السابع عشر من شهر رمضان سنة مائتين وثلاث عشرين للهجرة إلا وكانت المدينة العريقة العتيدة قد فتحت أمام جيوش المسلمين المنتصرة.. وشوهد المعتصم بن الرشيد يدخل مدينة "عمورية" على صهوة جواده الأصهب(18).. وقد نكس رأسه خضوعاً لله وشكراً على نعمائه.. وعاد المعتصم الظافر إلى بغداد بعد هذا الفتح الكبير.. قال الشاعر أبو تمام يخاطبه:
خليفة الله جازى الله سعيك عن
جرثومة(19) الدين والإسلام والحسب
بصرت بالراحة الكبرى فلم ترها
تنال إلا على جسر من التعب
إن كانت بين صروف الدهر(20) من رحم
موصولة أو ذمام غير منقضب(21)
فبين أيامك اللاتي نصرت بها
وبين أيام بدر أقرب النسب
هزيمة التتار في عين جالوت
سنة ستمائة وثمان وخمسين للهجرة شهد العالم الإسلامي يوماً من أيام الله، أعز الله تعالى فيه المسلمين من هوانٍ(22)، وقواهم من ضعف، وآمنهم من خوف.. ونصرهم على عدو يفوقهم في العدة ويزيد عليهم في العدد. واليوم يوم عين جالوت.. وبطل هذا اليوم سيف الدين قطز..(/2)
وشعب التتار أو شعب الدمار أنزل ببلاد المسلمين من الدمار ما لم ينزله ببلد سواها.. استولى على الصين وكوريا، واجتاح بلغاريا، وروسيا، والمجر، وبولونيا، وأخضع تركستان، وسمرقند، وبخارى.. وابتلع الرّي، وهمذان، والتهم: سجستان، وكرمان، وغزنة وما جاورها من بلاد الهند.. فانسابت جيوش "جنكيزخان" في بلاد المسلمين انسياب الثلوج من قُنن(23) الجبال، هلاك وخراب وفساد في مدينة هراة، وبخارى، وبغداد، كانت النكبة الكبرى حيث سقطت بين براثن التتار.. وفي الشام ومصر غمر الشعور الديني سائر النفوس ورجع الناس إلى الله.. ولم يبق للناس من حديث غير الحديث عن لقاء عدو الله وعدوهم، وفي صباح الجمعة لخمس بقين(24) من رمضان سنة ثمان وخمسين وستمائة التقى الجمعان في "عين جالوت" الواقعة بين بيسان ونابلس.. ولما رأى "قطز" شدة بأس عدوه خلع خوذته عن رأسه، وألقى بها على الأرض، وردد بصوته الأجش قوله: واإسلاماه.. واإسلاماه.. فألهب قلوب جنوده بنار الإيمان، وأضرم(25) أفئدتهم بالحمية للإسلام.. فألقى الله الوهن في نفوس "التتار" وقذف في قلوبهم الرعب.. فركب المسلمون ظهورهم، وأعملوا السيوف في رقابهم، ومزقوهم شر ممزق.. وأذل الله تعالى "هولاكو" .. ولم تقم للتتار قائمة بعد هذا اليوم.. وسبيل العزة للمؤمنين دائماً.. هذا وبالله تعالى التوفيق.. والحمد لله على نعمة الإسلام.. وصلى الله على محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
الهوامش:
1. آية 8 المنافقون.
2. آية 123 آل عمران.
3. آية 12، الأنفال.
4. بخٍ بخٍ: كلمة تقال لتعظيم الأمر والتعجب منه.
5. القرن: جعبة النشاب.
6. رواه مسلم.
7. الركض: العدو..
8. آية 102 هود.
9. آية 13 آل عمران.
10. سورة النصر.
11. آية 85 القصص.
12. آية 81 الإسراء.
13. آية 13 الحجرات.
14. آية 128 التوبة.
15. العلج: الرجل القوي الضخم.
16. لامته: درعه وملابسه الحربية.
17. صاح بالنفير: نادى للحرب.
18. الجواد الأصهب: الفرس الذي يختلط لونه بحمرة أو بشقرة.
19. الجرثومة: الأصل.
20. صروف الدهر: تغيراته وتقلباته.
21. غير منقضب: غير منكسر ولا منقطع.
22. الهوان: الذل.
23. قنن الجبال: أعالي الجبال.
24. لخمس بقين من رمضان: أي في اليوم الخامس والعشرين فيه.
25. أضرم: أوقد.(/3)
من بعد ما كاد الأولاد، يباعون في المزاد
ثرثرة لا معنى لها
د.إبراهيم عوض
ibrahim_awad9@yahoo.com
أثناء قراءتى فى بعض كتب الدكتور محمد أركون أستاذ تاريخ الفكر الإسلامى بجامعة السوربون من أجل إعداد دراستى التى سبق نشرها فى بعض الصحف الألكترونية عن رأيه فى القرآن الكريم صادفتنى كلمة له سريعة عن الفيلسوف الجزائرى "بلديّاته" مالك بن نبى، ذلك الرجل الذى استطاع أن يحرز نجاحا كبيرا، فى ما خلّف من دراسات، فى تحويل دراسة التاريخ الإسلامى إلى علم ذى قوانين بحيث لا تقتصر قراءتنا له على مجرد الإلمام بالمعلومات، بل تتجاوز ذلك إلى استخلاص العبرة مما وقع فيه لا على الطريقة الوعظية القديمة رغم أهميتها، بل على طريقة علماء العلوم الطبيعية والرياضية ما أمكن، وفى هيئة معادلات وقوانين. وكانت الإشارة فى معرض حديث أركون عن القرآن والدراسات التى وضعها بعض المعاصرين من الكتّاب المسلمين عن كتاب الله الكريم، ومنها كتاب مالك بن نبى: "الظاهرة القرآنية"، فوجدته يتهم الكتاب بالضحالة والبعد عن الروح العلمية ومحاولة العزف على أوتار المشاعر الدينية التى لا عقل لها، أو شىء من هذا القبيل.
وسرحتُ بفكرى مستغربا هذا الكلام الذى أقل ما يمكن أن يوصف به أنه بعيد عن الحقيقة تمام البعد، وفيه ظلم كبير لبن نبى ولكتابه القيم، لكنى سرعان ما فِئْتُ إلى نفسى وعقلى فلم أستطع أن أجد جوابا على هذا الاستغراب إلا أن الرجلين يمثلان نمطين مختلفين تمام الاختلاف: فأما مالك فمفكّر متحمس لدينه يتألم لأوضاع أمته ويحاول أن يطبّ لها ويأخذ بيدها من المستنقع الذى غاصت فيه أرجلها منذ قرون ولا تستطيع أن تتخلص منه، مؤمنا أن علاجها إنما يكمن فى استمساكها بالقرآن الكريم والحرص على هويتها الإسلامية، وأنها لو عادت إلى هذا الدين وفهمته وطبقته كما ينبغى أن يُفْهَم ويُطَبَّق فى هذا العصر بناء على ما يقتضيه منطق الدين والعقل ومنطق الحياة والطبيعة البشرية فهى حقيقةٌ أن تخرج من الورطة الحضارية التى ارتكست فيها، بأقل مجهود ممكن وأسرعه. وأما أركون فقد اختار أن يحمل على كاهله وِزْر التشكيك فى كتاب الله وإثارة الشبهات من كل لون فيه من خلال مغالطة الحقائق المعروفة، وتزيين الخروج على الملة واللحاق بأوربا لحاق التبعية والانقياد، مطنطنا فى تلك الأثناء بأسماء بعض العلوم الإنسانية الجديدة التى يعرف جيدا أنها تبهر كثيرا من "البُلْه" الآتين من دول العالم الثالث، ومنه عالم الإسلام، وناثرا مصطلحاته الغريبة التى من شأنها اجتذاب الآذان الضعيفة المناعة التى تظن أنه كلما كان الكلام غير مفهوم كان معنى ذلك أنه كلام عميق لا يستطيع أن يقدره حق قدره إلا ذوو الألباب. وفاتهم أنْ ليس كل ما يلمع ذهبا!(/1)
وشىء آخر: أن بن نبى لم يستطع أن يلتقطه المستشرقون لأنه لم يرض لنفسه أن يلتقطوه، وكان واعيا بما يفعلونه للإيقاع به وبأمثاله من شبان المسلمين ممن ساقتهم الأقدار للاقتراب من دوائرهم، وبخاصة فى فرنسا. وقد حكى لنا، رحمه الله، فى الجزء الثانى من كتابه الرائع الخطير: "مذكرات شاهد للقرن" بعض ألاعيبهم وأساليبهم لالتقاط من لا يبالون من شباب العرب والمسلمين بدين أو وطن، وكل همهم الوصول إلى المناصب والحصول على الأموال والشهرة والاستمتاع بالنساء، ثم فليذهب كل شىء بعد ذلك إلى الجحيم. ومن بين من جاء ذكرهم من هؤلاء المستشرق لويس ماسينيون، الذى كان يزعم أنه صديق للعرب وللمسلمين، والذى قال الأستاذ محمد لطفى جمعة (الكاتب والمحامى المصرى المعروف) عنه فى بعض ما كتب إنه قد اعتنق الإسلام، وهو ما سارعتُ إلى مناقشته فى مقدمة كتبتها لأحد كتبه قائلا إن مسألة كهذه لا يمكن أن نتقبلها بهذه البساطة، بل لا بد من دليل واضح مقنع، وبخاصة أن ما نعرفه عن الرجل يقول عكس هذا. ثم وجدت جمعة نفسه قد عاد فى موضع آخر من كتاباته فأبدى تشككه فى الرجل، فعرفت أن اتجاه ذهنى فى هذه المسألة كان سليما بحمد الله. وبن نبى فى هذا يختلف تمام الاختلاف عن أركون، الذى قرَّبه الفرنسيون وعيّنوه فى جامعة من أعرق جامعاتهم، وهم يعرفون أنه استثمار نافع ومفيد أشد النفع والإفادة، إذ يمكن أن يكون مخلبا لاصطياد الطلاب العرب والمسلمين الذين تسوقهم الأقدار إلى الاحتكاك به فى محاضراته أو أثناء العمل فى رسائلهم العلمية تحت إشرافه، فينطلقون يمجّدونه ويعلون من شأنه دون تحفظ بل دون تفكير، وهو ما استفزنى فكتبت الدراسة التى لم يبعد بها العهد والتى نُشِرت فى بعض المجلات الألكترونية مؤخرا. لقد آلمتنى مزاعم الرجل التافهة المتهافتة ضد القرآن من أنه نتاج للمخيال الجماعى العربى لا وحى إلهى، وذلك رغم قلة إلمامه بالتراث الإسلامى وعدم تعمقه فى فهمه، مع الاستعاضة عن ذلك فى نفس الوقت بلَوْك كثير من العبارات التى لا رأس لها ولا ذيل، وسَوْق طائفة من المصطلحات العجيبة التى يريد بها أن يحرف العقول عن القرآن والإسلام، والتخفى وراء قدر من الغموض مقصود ليُوقِع فى رُوع القارئ المسكين أنه بصدد فكرٍ عميقٍ لمفكرٍ عملاق، وهو ما يروّج له بعض من الطلاب الذين درسوا على يديه فى باريس وحصلوا على درجة الدكتورية فى تخصص غير تخصصهم الأصلى، وأخذوا يرددون دعاواه السخيفة فى الدين الذى أتى به محمد عليه السلام والكتاب الذى أُنْزِل عليه. وهل هناك خدمة أفضل من هذه يمكن أن يؤديها أى منا للغرب، الذى يعمل بكل قواه منذ أن بزغت شمس الإسلام حتى الآن على خنق نور الله، مستعينا بعلمائه وساسته ورحّاليه وصحفييه وإدارييه وعسكرييه ومستشرقيه ومبشريه، وبالاستعانة كذلك بتلامذته وحوارييه من بين أظهرنا؟(/2)
وقد بدأ اهتمامى بمالك بن نبى منذ أن كنت طالبا فى الجامعة، فقرأت له أنا وأصدقائى آنذاك كل ما وقعت عليه أيدينا من كُتُبه التى ترجم كثيرا منها الدكتور عبد الصبور شاهين. وقد راعنى وأعجبنى منها تلك الروح العلمية التى تريد أن تقنّن كل شىء، مما ذكّرنى بابن خلدون ومقدمته التى نحا فيها نفس المنحى، مع الفارق المتمثل فى أن بن نبى قد ركَّز كلامه وفكره الفلسفى على المجتمعات الإسلامية القديم منها والحديث، بخلاف ابن خلدون، الذى جاء كلامه فى هذا الصدد عامًّا يهدف من ورائه إلى أن يصدق على كل مجتمع مسلما كان أو غير مسلم. وهو ما كتبته فى مقال لى عن هذا المفكر الجزائرى حاولت نشره فى أواسط السبعينات من القرن الماضى فى مجلة "الإذاعة والتليفزيون" المصرية متشجعا بوجود الأستاذ أحمد بهجت على رئاسة تحريرها، وإن لم أستطع رغم ذلك أن أقابله (بل لم أره أو أتصل به حتى الآن)، إذ كنت فى كل مرة من المرات القليلة التى ترددت فيها على المجلة أقابل سكرتير التحرير، الذى كان يبيع لى الكلام المعسول مستغربا (أو قل: مستنكرا)، فيما يبدو، أن يتجرأ شاب صغير لا هو فى العير ولا فى النفير على التفكير فى النشر فى أشهر مجلة فى مصر فى ذلك الحين وأوسعها انتشارا، لكنه فى ذات الوقت أخذ يسوّف فى مسألة النشر، إلى أن ضاق صدرى بعد المرة الثالثة، فصممت أن أذهب فأسترد المقال بأى ثمن، ولم يشفع للرجل، وكان مسؤولا فى وزارة الإعلام، أنه أخذ يطيب خاطرى ويؤكد لى أن أحمد بهجت قد أصدر أمره بنشر المقال، لكنْ كان العفريت قد ركبنى فلم أَلِنْ لكلامه، وأخذت عيناى تقذفان بالشرر، ورفضتُ أن أتفاهم أو أبقى معه لحظة، وصممت على أخذ المقال بأى سبيل، فلم يجد بدا من أن يناولنيه، وانصرفت دون أن ألقى عليه تحية الانصراف. وقد أعطيت المقال بعد ذلك للأستاذ نصر عبد اللطيف مدير التحرير فى مجلة "الهلال" قبل أن أترك مصر بعدها بقليل إلى بريطانيا فى بعثة للحصول على الدكتورية فى النقد الأدبى، ولم أعد أعرف عن مصير المقال شيئا، وبخاصة أن الدكتور حسين مؤنس قد تولى عقب ذلك رئاسة التحرير بعد الشاعر صالح جودت وغيّر من نظام المجلة ملغيا ملحق "الزهور" الذى كان الأستاذ نصر عبد اللطيف ينشر لنا فيه مقالاتنا بكل مودة ورقة وترحاب كشخصيته الكريمة رغم أنه لم يكن يعرف واحدا مثلى معرفة شخصية، لأفاجأ بعد عودتى من البعثة بعد ست سنوات (فى عام اثنين وثمانين) بأحد الأصدقاء يزفّ لى النبأ بأن مجلة "الهلال" قد نشرت المقال، فظللت أبحث عن العدد الذى ظهر فيه إلى أن وجدته.(/3)
وإنى لأذكر الظروف التى كتبت فيها المقال. لقد كان ذلك فى شقة الصديق المذكور بالإسكندرية حيث كنت، وأنا لا أزال فى العشرينات من عمرى، أسافر من قريتى "كُتَامة الغابة" فى محافظة الغربية إلى عروس البحر المتوسط كل صيفٍ وأنزل ضيفًا على أخى وأختى وصديقى هذا فأقضى هناك أوقاتا هانئة رغم قلة المال فى ذلك الوقت. وأذكر أنى انتهيت من المقال فى جلسة واحدة معتمدا على كتابين أو ثلاثة لمالك بن نبى وعلى الذاكرة أكثر مما اعتمدتُ على نصوص الكتب مباشرة. وكان يخيَّل لى حينها أننى أضحيت كاتبا كبيرا! ألست أكتب عن فيلسوف كمالك بن نبى، وأنتهى من كتابة مقالى عنه فى شوط واحد وأنا جالس ممددا بطول الأريكة فى بيت صديقى السكندرى؟ وقد أبرزتُ فى ذلك الفكرة التى كانت وما زالت تسكن عقلى منذ تعرفى بكتابات المفكر الجزائرى من أن مالك بن نبى هو فيلسوف القوانين التاريخية كابن خلدون، وإن لم أذكر الفرق الذى أومأت إليه قبل قليل بين المفكّرَيْن. ويبدو أن هذه الفكرة هى التى شفعت للمقال عند الدكتور مؤنس، إذ كان، كما هو معروف، أستاذا للتاريخ، وكان مستغرقا فى أخريات حياته فى البحث فى أحوال المسلمين ومحاولة العثور على دواء لأمراضهم الحضارية والنفسية والاجتماعية من خلال الدين المحمدى العظيم مثلما كان يصنع مالك بن نبى، فنشره مشكورا رغم أنه لم يسمع بى لا قبل ذلك ولا بعده لأنى لم أعاود الكرّة فى محاولة نشر أى مقالات لى لا فى "الهلال" ولا فى غيرها من المجلات المصرية بعد الذى جرى، اللهم إلا مقالا فى مجلة "الشعر" منذ عدة أعوام نشره لى أحد الأصدقاء، وإلا مقالا آخر بعده فى مجلة "المصور" أرد فيه على أستاذ مصرى يعيش فى سويسرا منذ وقت طويل كنت وضعت كتابا عن رسالته التى حصل بها على درجة الدكتورية من فرنسا وشكَّك فيها فى أحداث السيرة وأخذ يتخيل من عند نفسه بدلا منها أحداثا ما أنزل الله بها من سلطان، فبدلا من أن يتعرض لأدلتى الصلبة التى نقضت بها فكرة كتابه المحورية وهلهلتُ ما تفرع منها من أفكار جزئية، وجد أن من السهل عليه الاكتفاء بمقال فى مجلة "المصوّر" يدّعى علىّ فيه أنى مارست معه الإرهاب الفكرى وأنى استهدفت عقيدته بالتشكيك أو ما إلى ذلك مما لست أذكره بمضى الزمن، ظنا منه أن ذلك سيصرفنى عن التعرض له ولما كتب، فحبّرت ردا على هذا الذى كتبه متحديا إياه أن يدلنى على أى شىء فى كتابى يعضد ما ادّعاه علىّ، وحكّمت القراء فى المسألة تاركا لهم الرجوع للكتاب المذكور والبحث فيه عما يمكن أن يكون مصداقا لدعواه ضدى إن استطاعوا. وأغلب الظن أننى لو رجعت الآن للمقال الذى كتبته عن مالك بن نبى فلن أرضى عنه، أو على الأقل لن يكون له فى عينى ذلك البريق القديم، إذ لن يخرج فى أحسن الأحوال عن أن يكون تمرينا مبكرا لما أصبحت أكتبه فيما بعد ولا أستطيع مع ذلك أن أحس تجاهه بالرضا التام مهما بذلتُ فيه من جهد وتجويد. ولكن ما هذا الذى جرى يا ترى مما جعلنى أعزف عن التفكير فى النشر بالمجلات؟(/4)
بعد عودتى من بريطانيا إثر حصولى على الدكتورية من جامعة أوكسفورد عام 1982م بشهور جاءنى خطاب حكومى صغير أحسست، لا أدرى لماذا، عند تسلمه بشىء من الانقباض فى صدرى، ففتحته لأجد أنه من مأمورية الضرائب التى فى قصر العينى تطالبنى فيه بتسديد نحو سبعمائة جنيه عن المقالات التى أكتبها فى المجلات المصرية، وهو ما يعنى أننى كنت أكتب كل شهر فى كل مجلة من هذه المجلات مقالا طوال السنوات التى قضيتها فى بريطانيا، وأننى كونت ثروة من هذا النشاط، فى حين أن الحقيقة عكس ذلك تماما، فإنى لم أكن قد نشرت أى شىء منذ سفرى إلى المملكة المتحدة فى عام 1976م، ببساطة لأننى كنت خارج البلاد، فضلا عن انشغالى التام هناك بدراستى. وقد ذهبت ثانى يوم إلى مأمورية الضرائب وكُلّى اطمئنان إلى أننى متى أريتهم جواز السفر فسوف تنتهى المشكلة على الفور ويقولون لى: "نحن آسفون على هذا الإزعاج". ومن يدرى؟ ربما عوّضونى كذلك عما سببوه لى من توتر. ولكن من الواضح أننى كنت واهما، إذ إننا نتعامل مع إدارة حكومية تنتمى إلى العالم الثالث. فطلبوا منى أن أوافيهم بخطاب من كليتى تقول فيه إننى كنت فعلا بالخارج طوال السنوات الماضية التى يطالبوننى بتسديد ضرائب عما يُفْتَرَض أننى كتبته أثناءها من مقالات. ورغم استغرابى هذا الطلب لاعتقادى أن جواز السفر يجيب على ما يطلبون بأجلى بيان، علاوة على أنه لا يمكن أن يكذب بينما يمكن أن يزوِّر الواحد، لو أراد، مثل هذا الخطاب الذى يطلبونه، فقد قلت لنفسى: "بسيطة! تاهت ولقيناها". وذهبت للكلية فأعطتنى الخطاب المطلوب الذى سلمتُه بدورى للضرائب منتظرا أن يعتذروا لى عن وجع الدماغ الذى سببوه لى ظلما. لكننى كنت واهما مرة أخرى، إذ أحالونى إلى لجنة للنظر فى الخطاب والجواز، لتقول اللجنة لى بعد مدة لا أدرى كم طالت إننى ينبغى أن أدفع المبلغ مضافا إليه الفوائد. وعبثا حاولت على مدار سنتين أو أكثر أن أتفادى دفع هذا المبلغ الكبير عن عدة مقالات كان كل ما قبضته مكافأة لها هو بضع عشرات من الجنيهات لا تزيد عن الخمسين إلا قليلا... إلى أن وصلنى ذات يوم خطاب حكومى أصفر صغير، فانقبض قلبى مرة أخرى، وفتحته لأجدهم ينذروننى إنذارا نهائيا بالدفع خلال خمسة عشر يوما أو يحجزوا على أثاث الشقة الذى أمرونى ألا أتصرف فيه، وإلا اتُّهِمْتُ بالتبديد. وكان المبلغ قد بلغ فى تلك الأثناء بسبب الفوائد ألف جنيه، وهو مبلغ ضخم جدا بالنسبة لواحد مثلى فى ذلك الحين من منتصف ثمانينات القرن الماضى. وقد شعرت بالعرق ينساب غزيرا من كل مكان فى جسدى، لا لفداحة المبلغ فقط، بل لما فى الأمر من غَبْنٍ جلف، فإنى لم أكسب من العملية كلها كما قلت إلا نحو خمسين جنيها من عدة مقالات لا راحت ولا جاءت ولا قيمة لها. لكن: هذا "ألله"، وهذه حكمته، وهذه هى الأوضاع فى بلادنا المحروسة، بينما يهرب اللصوص بالملايين التى سرقوها من جيبى وجيبك وجيوب الآخرين المساكين دون أن يهددهم أحد بشىء بل معززين مكرمين، وعلى خدّ كل واحد منهم بوسة (بوسة شرعية طبعا. أخويّة يعنى، وليست من التى بالى بالك). وأذكر أنى قضيت آنذاك "ليلة ليلاء" كما نقول نحن أساتذة العربى، الله يلعن العربى وسنينه الذى يغرى بكتابة مقالات لا معنى لها ولا فائدة من ورائها وتوقع فى مشاكل ضريبية من هذا النوع، ثم فى نهاية المطاف لا يقرؤها أحد إلا من يرومون إثارة الجدال والمماحكة!(/5)
وذهبت ثانى يوم من الفجر بعد أن ضاعفتُ جرعةَ الدعاء عقب الصلاة بأن يجىء الله بالفرج هذه المرة، ووصلت لمأمورية الضرائب التى أصبحتُ أحفظ موقعها ومكاتبها كما أحفظ بيتى، وسألت فى الاستقبال عن مكان تصدير الخطاب فقالوا لى: الأرشيف. وكان فى الطابق الأرضى على يمين الداخل، فدخلتُ فوجدتُ موظفا شابا يقضم شطيرة (شطيرة، وليس كما يتظرف السخفاء: "شاطر ومشطور وبينهما طازج")، فقت له وأنا أطلعه على الرسالة: من فضلك، من الذى أرسل لى هذا الخطاب؟ فقال على الفور بعد أن ألقى نظرة سريعة عليه: أنا. فقلت ضاحكا من شدة البلية: وهل ستحجزون فعلا على أثاث شقتى؟ فقال: نعم بكل تأكيد. فقلت وأنا لا أزال أضحك من فداحة الهم: وأين أنام أنا وأولادى إذن؟ فقال: ولكن هذه هى التعليمات، وأنا العبد المأمور. فتخيلتُ الفضيحة أم جلاجل التى ستتسبب لى فيها مأمورية الضرائب بين الجيران عندما يأتون ويقيمون مزادا علنيا للأنتريه وغرفة النوم والسفرة التى فى الشقة، وهى أشياء ليست ذات قيمة. ثم من يدرى؟ربما أضافوا الأولاد أيضا إلى المزاد إذا لم تَكْفِ هذه الأشياء لتغطية المبلغ المطلوب. وتصورت أولادى وقد اشتراهم أحد الجيران وألحقهم باسمه ولم يعد لى فيهم نصيب ولا أستطيع أن أقول لهم: "ثلث الثلاثة كم؟" وهم يروحون ويجيئون أمام عينى، فقلت له كمن هبط عليه الإلهام فجأة: يا أخى الفاضل، دعنا من الرسميات والقانون، وتعال نتكلم من الناحية الإنسانية. فوجدته يتوقف عن الطعام لينصت، فشجعنى هذا على المضى فى الكلام، وقلت له الحكاية من "طق طق" ل"سلام عليكم"، ثم عقبت قائلا: "والآن ضع نفسك فى مكانى، وقل لى من فضلك كيف تتصرف". وإذا به يضع الشطيرة جانبا (الشطيرة لا الشاطر والمشطور والطازج الذى بينهما كما يقول السخفاء للتهكم بلساننا القومى، بلاهم الله بمأمورية الضرائب كما بلانى وأرانى فيهم يوما) ويقول: تعال معى. فقلت له: إلى أين؟ فقال: لأحلّ لك المشكلة. قلت له وأنا غير مصدق، وفى نفس الوقت فرحان لأن أولادى لن يباعوا منى فى المزاد، هؤلاء الأولاد الذين كلفونى الكثير ووُلِدوا وتربَّوْا فى إنجلترا، و"يضربون بالقُلَّة" بلسان جون بول وينادوننى ب"دادِى"، التى أصوّبها لهم قائلا: "ضاضِى لا دادِى" بحجة أن لغتنا هى لغة "الضاد" لا "الداد" (باختصار: أولاد عمولة، وليسوا شُغْل سُوق): هل من المعقول أن المشكلة التى حيرتنى طوال السنوات الماضية سوف تنحلّ الآن وبهذه السهولة؟ فأكد لى أنْ نعم. فقلت له (وأنا أكاد أطير من الفرح لولا أننى قلت لنفسى: انتظر حتى تنحل المشكلة فعلا، وبعدها يصير لكل حادث حديث كما نقول نحن أهل العربى، وعندك يا أبا خليل برج الجزيرة على مقربة منك يمكنك أن تصعد فوقه وتطير كما تحبّ وتفعل مثلما فعل عباس بن فرناس فتنزل على جذور رقبتك بالطريقة التى تُشْمِت بك أمة محمد وعيسى وموسى جميعا): الله ينعم عليك! ولكن لم لا تنتهى من الشطيرة أولا؟ (الشطيرة لا الشاطر والمشطور وال... إلخ كما يقول ال... إلخ للتهكم بال...إلخ أيضا). فقال بارك الله فيه: دعنا من الشطيرة الآن (بطبيعة الحال حتى أكون صادقا، فالكذب خيبة، لقد قال: "الساندويتش". ولم يكن من اللياقة ولا اللباقة فى شىء كما لا يخفى عليكم، ولا كان عندى نفس، أن أنبهه إلى أن الصواب هو أن يقول: "شطيرة". ألا لعنة الله على الشطيرة والساندويتش معا! هل هذا وقته؟).(/6)
المهم: أخذنى الشاب ابن الحلال فى المصعد إلى السيدة التى كانت تتولى ملف الضرائب الخاص بى والذى كانت مشكلته فى ذلك الوقت قد صارت أعقد من مشكلة الملف النووى للعراق وإيران وكوريا الشمالية (التى منها صديقى "ريانج" الكافر) جميعا، ولم يبق إلا أن تقرر أمريكا ومعها بريطانيا وأستراليا ضربى بالقنابل والصواريخ بكل أنواعها أثناء المزاد العلنى، لينبرى الفصحاء ممن يحملون أسماءنا ويدينون رسميا بديننا ويتكلمون لغتنا (لغة الشاطر والمشطور وبينهما ما تعرفون فلا داعى لتكملة الكلام)، وهم الآن أكثر من الهم على القلب ويعرضون خدماتهم بحرارة فى كل مجلة وجريدة ورقية أو ألكترونية وفى كل إذاعة مرئية أو صوتية، فيتهموننى بالإرهاب والكباب والهباب وتقطيع الرقاب واستحقاق العقاب والعذاب بسبب التخلف الدينى (أى الإسلامى طبعا، وهل هناك غيره؟) وتعكير صفو الأمن الدولى، ويطالبون بمحوى من على الخريطة محوا تاما لا يبقى ولا يذر إكراما للأمريكان والأسترال والإنجليز. يا حفيظ، يا حفيظ! شىء يجنّن، شىء يغيظ! وكل هذا من أجل شوية "لحاليح" لا تساوى شيئا بجنب الملايين والمليارات التى يسرقها اللصوص الذين لا يستطيع أن يحملق فى وجوههم أحد من هؤلاء الأذيال الأنذال، وإلا كان مصيره النكال والوبال والضرب بالنعال! لكن ماذا تقول فى الضمير الحَرِج والعَسِر للمتدلّهين فى غرام أمريكا؟ حساسيتهم الأخلاقية حساسية من الطراز الأول! أم تريدونها فوضى؟ لا يا سادة، ألم تسمعوا بقول الشاعر الشاطرىّ المشطورىّ الطازجىّ وهو يقول:
لا يَسْلَم الشرف الرفيع من الأذى حتى يُراق على جوانبه الدَّمُ؟
فلماذا إذن المعاظلة؟ أومن يقول الحق فى هذه البلاد كِخّة؟
وعند وصولنا فاتَحَ الرجلُ الطيبُ الموظفةَ المسؤولةَ عن الملف النووى الإبراهيمى "مسز إكس" (على وزن هانز بليكس) فى الموضوع فقالت له إنها تعرف القصة، وإن عليه (أى علىّ أنا العبد لله) أن يدفع الألف جنيه... إلى آخر ما تعرفونه الآن أكثر منى من كثرة ما تابعتم الموضوع على شاشات التلفاز وفى الصحف ومحطات الإذاعة المحلية والعالمية، فما كان منه إلا أن قال لها بكل بساطة وعبقرية: "دعيك مما فات، وخلِّنا أولاد اليوم، وابدئى معه من هذه اللحظة، وخذى أقواله فى كل ما تحتاجين أن تكتبيه فى التقرير". يعنى أننى سأكون مصدر المعلومات المطلوبة منى. والعجيب الغريب أنها استجابت لما قال! الله أكبر! ولماذا لم يكن الكلام هكذا من الأوّل؟ إذن لَكُنّا وفّرنا الوقت الذى ضاع، والأعصاب التى تهرّأت، والمال الذى أُهْدِر على البنزين والزيت الذى أكلته السيارة، ودوخة البحث كل مرة عن مكان أضع فيه سيارتى لحين الانتهاء من السبع دوخات فى متاهة الضرائب! ثم بعد كلمتين من هنا وكلمتين من هناك، وحسبة ولا حسبة برما (وبالمناسبة فبرما هذه لا تبعد عن قريتى أكثر من ثمانية كيلومترات، وتقع فى منتصف الطريق بينها وبين طنطا)، أعطتنى ورقة لأدفع المبلغ الذى يجب علىّ أن أسدده فى الخزينة. ترى كم كان هذا المبلغ أيها القارئ الكريم؟ أحد عشر جنيها وكسور! يا أخى قل: اثنا عشر جنيها، وخَلِّ الباقى لأجلك، فما بين الجيّدين حساب. لا والله يا أخى القارئ لن يرجع الباقى إلى جيبى، فهو لك حلاوة البراءة! وذهبتُ ودفعتُ وعدتُ ونزلت مع الرجل الطيب وأنا أتوقع أن يلمح لى بشىء لقاء هذه الخدمة العظيمة التى لم تكن تخطر لى على بال، لكن الرجل الطيب لم ينطق ولم يلمح، فحاولت أنا أن أومئ، لكن الرجل الطيب ولا هو هنا. فأخذت أشكره وأطيل الشكر على عادتى مع كل من أدَّى إلىّ معروفا وأعود فأشكره من جديد متوقعا أنه سوف يستجمع شجاعته ويقول أى شىء. لكن يبدو أن الجرعة المضاعفة من الدعاء فى أعقاب صلاة الفجر قد آتت مفعولها، فمد الرجل الطيب يده يصافحنى إيذانا لى بالانصراف مطمئنّا أنه لا شىء مطلوب منى لا تحت الترابيزة ولا فوق الترابيزة، ثم دخل واستأنف أكل الشطيرة (الشطيرة لا الشاطر ولا المشطور ولا الطازج الذى بينهما يا مفترين الكذبَ على المجمع اللغوى مثلما يفترى الكذبَ على المقاومة والمتدينين المسلمين من يواطئون أمريكا على إجرامها وفحشها). سبحان الله! وأين كان هذا الرجل الطيب من البداية؟ ولماذا لم يخطر لأى من الذين تعاملت معهم على مدار السنتين وزيادة الماضيتين أن يفكر بهذه الطريقة العبقرية والبسيطة والعادلة فى آن؟ وكيف يستطيع هذا الرجل الطيب الجالس فى الأرشيف أن يحل المشكلة بتلك المهارة وتلك الثقة، ولا يستطيع الموظفون المختصون والمديرون الذين فوقهم واللجان التى تشكلت أن يصنعوا مثل صنيعه؟ بل كيف استجابت الموظفة لتوجيهه ولم تأخذها العزة بالإثم فتصر على موقفها، ومن لا يعجبه الكلام فليشرب من البحر (الشارب هو أنا بطبيعة الحال، أم هناك رأى آخر؟)؟ حكمتك يا رب! تضع سرك فى أضعف خلقك!(/7)
أخذنى الكلام فنسيت أن أقول لكم إنهم، عندما شكلوا لجنة لدراسة حالتى، كلفونى أن أدور على كل المجلات المصرية (والحمد لله أنْ لم يطلبوا منى أن أدور أيضا على مجلات الوطن العربى كله) وأحضر من كل منها بيانا بما يمكن أن أكون قد أخذته منها من مكافآت (أى بصريح العبارة "كعب دائر")، ولكنى اكتفيت بالمجلات التى تعاملتُ معها فعلا لا كل المجلات كما طلبوا، وإلا لكنت لا أزال إلى يومنا هذا أجمع تلك البيانات ومعى عسكرىّ أُمّىّ لا يعرف الرحمة ولا يمكن التفاهم معه: ننتقل من قطار إلى قطار، ونرتحل من قسم شرطة فى كل محافظة إلى آخر وقد رُبِطَت يده بالقيد الحديدى فى يدى كيلا أهرب قبل أن أدفع الأحد عشر جنيها وكُسُورا التى كانت فى ذمتى للحكومة والتى كانت كفيلة بإصلاح أحوال ميزانية الدولة آنذاك، فإن أحدا لا يدرى أين تكون البركة حسبما قال سيدنا رسول الله! كما نسيت أيضا أن أخبركم أننى لم أغادر مأمورية الضرائب فى ذلك اليوم إلا بعد أن مزقت البطاقة الضريبية ستمائة ألف حتّة بعدد الحِتَت التى دعا السودانىُّ (المفقوعُ المرارة مما وقع له من سرقة محفظته فى قلب القاهرة) أن يمزق الله دولة السودان ومصر إليها بعد أن كان يهتف من أعماق قلبه قبلها مباشرة وبعُلُوّ حِسّه أن السودان ومصر حِتّة (هِتّة) واحدة! ثم رميتها بعد ذلك فى صندوق الزبالة كما لا أحتاج أن أقول. وكان هذا آخر عهدى بكتابة شىء فى أية مجلة مصرية بفلوس، اللهم إلا المقال الوحيد الذى أشرت إليه قبل قليل. ثم ألغيت الضرائب على الكتب والمقالات بعد ذلك بقليل! عجايب! بعد خراب بصرة؟ أما كان من الأو(/8)
من بلاغة القرآن الكريم تعدد المعاني واللفظ واحد
في اللغة العربية كلمات وألفاظ، يدل كل لفظ منها على معان مختلفة، يحددها السياق الذي وردت فيه؛ فمثلاً، لفظ: (العين) يطلق على العين الباصرة، ويطلق على الشمس، ويطلق على عين الماء، ويطلق على الجاسوس، ويطلق على معان أُخر.
وظاهر اللفظ القرآني ما يتبادر منه إلى الذهن من المعاني، وهو يختلف بحسب السياق، وما يضاف إليه؛ فالكلمة الواحدة يكون لها معنى في سياق معين، ومعنى آخر في سياق مختلف، وتركيب الكلام يفيد معنى على وجه، ومعنى آخر على وجه غيره؛ فمثلاً لفظ (القرية) في قوله - تعالى -: {وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة} (الإسراء: 58) يراد بها القوم، واللفظ نفسه في قوله - سبحانه - على لسان ضيف إبراهيم: {إنا مهلكوا أهل هذه القرية} (العنكبوت: 31) يراد بها مساكن القوم، وسياق الآيتين هو الذي حدد المعنى المراد وعينه.
والذي يعنينا من هذه الظاهرة القرآنية اللغوية هنا، أن نبين أنه وردت في القرآن الكريم ألفاظ، اختلفت معانيها وفق السياقات والسباقات التي وردت فيها؛ فقد يسبق للذهن منها عند الوهلة الأولى غير ما هو مراد منها؛ ولكن إذا أمعنا النظر في ذلك اللفظ على ضوء السياق والسباق الذي جاء به، استطعنا أن نفهم المقصود من ذلك اللفظ، وبالتالي فهم الآية بناء على ذلك؛ وبمثال آخر يزداد الأمر بيانًا، فنقول:
لفظ (الأمة) ورد في القرآن الكريم في تسعة وأربعين موضعًا، وبعدة معان مختلفة، وفق السياق الذي ورد فيه، ولتوضيح ذلك يحسن بنا أن نلقي نظرة سريعة على بعض السياقات القرآنية التي ورد فيها هذا اللفظ فنقول:
الأَمُّ في اللغة، بفتح الهمزة: القصد؛ تقول: أمَّه يؤمُّه أمًّا، إذا قصده. والتيمم بالصعيد في قوله - تعالى -: {فتيمموا صعيداً طبيًا} (المائدة: 6) مأخوذ من هذا.
و (الإِمَّة) و(الأُمَّة) بكسر الهمزة وبضمها: الحالة والشِّرْعَة والطريقة، ومنه قوله - تعالى -: {إنا وجدنا أباءنا على أمة} (الزخرف: 23) أي: كانوا على دين وشِرعة لا يحيدون عنها.
ونقرأ أيضًا قوله - تعالى -: {كنتم خير أمة أخرجت للناس} (آل عمران: 110) أي: كنتم خير أهل دين جاء للناس.
و (الأُمَّة): القرن من الزمن - بمعنى الفترة الزمنية - يقال: قد مضت أمم، أي قرون وسنون؛ ومنه قوله - تعالى -: {ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة} (هود: 8) أي: إلى وقت مقدر ومحدد.
وأمة كل نبي: من أرسل إليهم، من كافر ومؤمن؛ قال - تعالى -: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً} (النحل: 36).
و (الأُمَّة): الجيل والجنس من كل حي، وفي التنزيل قوله - تعالى -: {وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أُمَمٌ أمثالكم} (الأنعام: 38) وكل من الحيوان أمة، ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها) رواه أحمد.
وكل من كان على دين مخالفًا لسائر الأديان، فهو أمة وحده؛ ومنه قوله - تعالى -: {إن إبراهيم كان أمة} (النحل: 120) وهذا على رأي بعض المفسرين، وقال آخرون: إن (أمة) هنا بمعنى الإمام والقدوة.
و (الأمَّة): الحين من الزمن، ومنه قوله - تعالى -: {وقال الذي نجا منهما وأدكر بعد أمة} (يوسف: 45) أي: بعد حين من الزمن.
و (الأمَّة): الجماعة، ومنه قوله - تعالى -: {وإذ قالت أمة منهم} (الأعراف: 164) أي: جماعة.
و (أُمُّ) كل شيء: أصله وعماده، وفي التنزيل قوله - سبحانه -: {هن أم الكتاب} (آل عمران: 7) أي: أصله وأساسه الذي يرجع إليه عن الاشتباه؛ وقوله: {وإنه في أم الكتاب لدينا} (الزخرف: 4) أي: في اللوح المحفوظ، إذ هو الأصل الذي نزل منه القرآن.
و (أم الرأس): الدماغ، وبه فسر قوله - تعالى -: {فأمة هاوية} (القارعة: 9) قيل: معناه ساقط هاوٍ بأم رأسه في نار جهنم؛ وعبر عنه بأمه، يعني دماغه، روي نحو هذا عن ابن عباس - رضي الله عنهما - وغيره.
و (الإمام) في قوله - تعالى -: {وإنهما لبإمام مبين} (الحجر: 79) - وهو من اشتقاقات لفظ الأمة - يعني الطريق الواضح البيِّن.
ثم إن لهذا اللفظ (أمم) معان أُخر، ذكرها أصحاب قواميس اللغة، أعرضنا عنها مخافة الإطالة، واقتصرنا لك من معاني الكلمة على ما جاء في القرآن فحسب.
فتحصَّل من مجموع ما تقدم - أخي الكريم - أن ألفاظ القرآن الكريم ليست ذات دلالة واحدة لا تخرج عنها أينما وردت، بل إن العديد من تلك الألفاظ تحمل دلالات عدة ومختلفة، يحددها السياق والسباق القرآني الذي وردت فيه، ومن هنا تظهر لك أهمية فهم اللفظ القرآني على ضوء سياقه وسباقه الذي ورد فيه، وفي إطار متقدمه ومتأخره، ولا ينبغي أن يفهم اللفظ القرآني مقطوعًا عن سياقه وسباقه، ومبتورًا عن متقدمه ومتأخره، ففي ذلك ما فيه من الإخلال في الفهم، والبعد عن القصد، والتجافي عن الصواب.
24/07/2005
http://www.islamweb.net المصدر:(/1)
من تجربتي أقول...!
د. سفر الحوالي 17/5/1424
17/07/2003
سئلت مرّة عن الإرجاء والغلو، وأيهما أخطر على الإسلام؟ وقلت: كلاهما خطره عظيم؛ لكن الأخطر على شباب الصحوة المعاصرة هو الغلو؛ فالنبي -صلى الله عليه وسلم- حذر من الخوارج بتعيين صفاتهم وإيجاب قتالهم، وفضل من قام به في عشر روايات صحيحة، ولم يصح في الإرجاء حديث مرفوع، والسبب في ذلك أن الغلو تبديل للدين، أما الإرجاء فهو تفريط في الدين أو تسويغ للتقصير فيه؛ وهذا خطر على العامة، لكن كثيراً من المسلمين لا يقبل أن يجعله هو الدين، وبعضهم لا يعتبر من ظهر عليهم التساهل والتفريط ممثلين لحقيقة الدين، وإن زعموا هم ذلك بناءً على تأويلات المرجئة، وذلك لاختلاط حالهم بحال الفساق والمتهاونين. أما المتشدد الغالي فإنه يكتسب عندهم منزلة التقديس، كما حدث لغلاة الزهاد والعباد؛ لأنهم يرون فيه تمسكاً أكثر وأخذاً للنفس بالعزيمة، والعامة عادة لا يميزون بين شدة التمسك بالحق وبين الغلو، فيقع الاشتباه، وينشأ عنه تبديل مفهوم حقيقة الدين، ومما يدل على ذلك أن النصوص جاءت ببيان أن أصل الانحراف البشري هو الغلو، سواء الغلو في الصالحين كما حدث لقوم نوح، أو الغلو في الزهد حتى يجعل الحلال حراماً كما في الحديث القدسي: "وإني خلقت عبادي حنفاء، فاجتالتهم الشياطين عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم"، وهذا يصح أيضاً في مقام الجهاد والإنفاق وغيرهما من مقامات الدين؛ فإن الناس يظنون أن التهور شجاعة، وأن التبذير سخاء، وأن الرهبانية تبتُّل، كما أن مما يجعل الغلو هو الأخطر أنه يفضي إلى العنف واستحلال دماء المسلمين، ويعرقل الأمة عن الجهاد؛ بل يمزق صفوف المجاهدين منذ خروج الخوارج حتى اليوم.
إن الزخم الدعوي في هذه البلاد كبير وشامل، وظهور بعض الشذوذ أو الانحراف سببه قلة المربين والموجهين بالنسبة لكثرة المهتدين. لكن يظل التيار العريض على الجادة والتوسط بين الجفاء والغلو؛ فهو في الجملة على منهج الدليل لا على منهج التقليد.
من تجربتي أقول: إن كثيراً من المشكلات لدى الشباب ليست مستعصية الحل؛ بل بعضها يمكن حله بالتعامل معها بأناة وهدوء والصبر عليها حتى تهدأ تلقائياً، لديهم حماس عاطفي لا ينبغي مواجهته؛ بل ضبطه وتهذيبه. مجتمعنا في بعض جوانبه لم يتعود اختلاف الرأي؛ بل عاش أجيالاً تحت سلطة مركزية أحادية سياسياً وعلمياً.
ومعلوم أنه كلما قلَّ حظ الإنسان من العلم والتجربة ضاق أُفُقُه، واشتد حرصه على الإنكار والاختلاف، سواء في المسائل العلمية أو المواقف العملية؛ ولذلك يجب على المربين الصبر على تربية الشباب على العلم، والتعقل مقتدين في ذلك بما كان عليه السلف الصالح من سعة الأفق وحرية الاجتهاد داخل المنهج المعصوم -منهج الوحي والدليل- فقد اختلفوا في مسائل كثيرة من غير تعصب ولا تباغض؛ وإذا كان في العالم الإسلامي أربعة أئمة متبوعون؛ فإن المدينة النبوية وحدها كان فيها في زمن التابعين سبعة فقهاء متبوعون، لم يكن أحد منهم مقلداً لغيره، وإلا كانوا ستة. ومن ناحية أخرى يجب التحذير من الغلو فيما يسمى «الرمز» باسم احترام المشايخ أو تقدير ذوي السابقة فلا غلو ولا جفا(/1)
من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد...
فإن للشهوات سلطاناً على النفوس، واستيلاء وتمكناً في القلوب، فتركها عزيز، والخلاص منها عسير، ولكن من اتقى الله كفاه، ومن استعان به أعانه: وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ وإنما يجد المشقة في ترك المألوفات والعوائد من تركها لغير الله، أما من تركها مخلصاً لله فإنه لا يجد في تركها مشقة إلا أول وهلة؛ ليُمتَحن أصادق في تركها أم كاذب، فإن صبر على تلك المشقة قليلاً استحالت لذة، وكلما ازدادت الغربة في المحرم، وتاقت النفس إلى فعله، وكثرت الدواعي للوقوع فيه عظُم الأجرُ في تركه، وتضاعفت المثوبة في مجاهدة النفس على الخلاص منه.
ولا ينافي التقوى ميلُ الإنسان بطبعه إلى الشهوات، إذا كان لا يغشاها، ويجاهد نفسه على بغضها، بل إن ذلك من الجهاد ومن صميم التقوى، ثم إن من ترك لله شيئاً عوّضه الله خيراً منه، والعوض من الله أنواع مختلفة، وأجلّ ما يُعوّضُ به: الأنسُ بالله، ومحبته، وطمأنينة القلب بذكره، وقوته، ونشاطه، ورضاه عن ربه تبارك وتعالى، مع ما يلقاه من جزاء في هذه الدنيا، ومع ما ينتظره من الجزاء الأوفى في العقبى.
نماذج لأمور من تركها لله عوّضه الله خيراً منها:
1 - من ترك مسألة الناس، ورجاءهم، وإراقة ماء الوجه أمامهم، وعلق رجاءه بالله دون سواه عوّضه خيراً مما ترك، فرزقه حرية القلب، وعزة النفس، والاستغناء عن الخلق { ومن يتصبر بصبره الله ومن يستعفف يعفه الله }.
2 - ومن ترك الاعتراض على قدر الله، فسلّم لربه في جميع أمره رزقه الله الرضا واليقين، وأراه من حسن العاقبة ما لا يخطره له ببال.
3 - ومن ترك الذهاب للعرافين والسحرة رزقه الله الصبر، وصدق التوكل، وتَحَقُقَ التوحيد.
4 - ومن ترك التكالب على الدنيا جمع الله له أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة.
5 - ومن ترك الخوف من غير الله، وأفرد الله وحده بالخوف سَلمَ من الأوهام، وأمّنه الله من كل شيء، فصارت مخاوفه أمناً وبرداً وسلاماً.
6 - من ترك الكذب، ولزم الصدق فيما يأتي ويذر هُدي إلى البر، وكان عند الله صديقاً، ورزق لسان صدق بين الناس، فسوّدوه، وأكرموه، وأصاغوا السمع لقوله.
7 - ومن ترك المراء وإن كان مُحقاً ضُمن له بيت في ربض الجنة، وسلم من شر اللجاج والخصومة، وحافظ على صفاء قلبه، وأمن من كشف عيوبه.
8 - ومن ترك الغش في البيع والشراء زادت ثقة الناس به، وكثر إقبالهم على سلعته.
9 - ومن ترك الربا، وكسب الخبيث بارك الله في رزقه، وفتح له أبواب الخيرات والبركات.
10 - ومن ترك النظر إلى المحرم عوّضه الله فراسة ضادقة، ونوراً وجلاءً، ولذة يجدها في قلبه.
11 - ومن ترك البخل، وآثر التكرم والسخاء أحبه الناس، واقترب من الله ومن الجنة، وسلم من الهم والغم وضيق الصدر، وترقى في مدارج الكمال ومراتب الفضيلة وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ .
12 - ومن ترك الكبر، ولَزمَ التواضع كمل سؤدده، وعلا قدره، وتناهى فضله، قال فيما رواه مسلم في الصحيح: { ومن تواضع لله رفعه }.
13 - ومن ترك المنام ودفأة ولذتة، وقام يصلي لله عز وجل عوضه الله فرحاً، ونشاطاً، وأنساً.
14 - ومن ترك التدخين، وكافة المسكرات والمخدرات أعانه الله، وأمده بألطاف من عنده، وعوضه صحة وسعادة حقيقية، لا تلك السعادة الوهمية العابرة.
15 - ومن ترك الإنتقام والتشفي مع قدرته على ذلك، عوضه الله إنشراحاً في الصدر، وفرحاً في القلب؛ ففي العفو من الطمأنينة والسكينة والحلاوة وشرف النفس، وعزها، وترفعها ما ليس شيء منه في المقابلة والانتقام.
قال فيما رواه مسلم: { وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً }.
16 - ومن ترك صحبة السوء التي يظن أن بها منتهى أنسه، وغاية سروره عوضه الله أصحاباً أبراراً، يجد عندهم المتعة والفائدة، وينال من جراء مصاحبتهم ومعاشرتهم خيري الدنيا والآخرة.
17 - ومن ترك كثرة الطعام سلم من البطنة، وسائر الأمراض، لأن من أكل كثيراً شرب كثيراً، فنام كثيراً، فخسر كثيراً.
18 - ومن ترك المماطلة في الدَّين أعانه الله، وسدد عنه بل كان حقاً على الله عونه.
19 - ومن ترك الغضب حفظ على نفسه عزتها وكرامتها، ونأى بها عن ذل الاعتذار ومغبة الندم، ودخل في زمرة المتقين الكاظمين الغيظ .
جاء رجل إلى النبي فقال: يا رسول الله أوصني! قال: { لا تغضب } [رواه البخاري].
قال الماوردي رحمه الله: ( فينبغي لذي اللب السوي والحزم القوي أن يتلقى قوة الغضب بحلمه فيصدّها، ويقابل دواعي شرته بحزمه فيردها؛ ليحظى بأجلّ الخيرة، ويسعد بحميد العاقبة ).(/1)
وعن أبي عبلة قال: غضب عمر بن عبدالعزيز يوماً غضباً شديداً على رجل، فأمر به، فأُحضر وجُرّد، وشُدّ في الحبال، وجيء بالسياط، فقال: خلو سبيله؛ أما إني لولا أن أكون غضباناً لسؤتك، ثم تلا قوله تعالى: والكاظمين الغيظ .
20 - ومن ترك الوقيعة في أعراض الناس والتعرض لعيوبهم ومغامزهم عُوّض بالسلامة من شرّهم، ورزق التبصر في نفسه.
قال الأحنف بن قيس رضي الله عنه: ( من أسرع إلى الناس فيما يكرهون قالوا فيه ما لا يعلمون ).
وقالت أعرابية توصي ولدها: ( إياك والتعرّض للعيوب فتتخذ غرضاً، وخليق ألا يثبت الغرض على كثرة السهام وقلما اعتورت السهام غرضاً حتى يهي ما اشتد من قوته ).
قال الشافعي رحمه الله:
المرء إن كان مؤمناً ورعاً *** أشغله عن عيوب الورى ورعه
كما السقيم العليل أشغله *** عن وجع الناس كلهم وجعه
21 - ومن ترك مجاراة السفهاء، وأعرض عن الجاهلين حمى عرضه، وأراح نفسه، وسلم من سماع ما يؤذيه خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [الأعراف:199].
22 - ومن ترك الحسد سلم من أضراره المتنوعة؛ فالحسد داء عضال، وسم قاتل ومسلك شائن، وخلق لئيم، ومن لؤم الحسد أنه موكل بالأدنى فالأدنى من الأقارب، والأكفاء، والخلطاء، والمعارف، والإخوان.
قال بعض الحكماء: ( ما رأيت ظالماً أشبه بمظلوم من الحسود، نفس دائم، وهم لازم، وقلب هائم ).
23 - ومن سلم من سوء الظن بالناس سلم من تشوش القلب، واشتغال الفكر، فإساءة الظن تفسد المودة، وتجلب الهم والكدر، ولهذا حذرنا الله عز وجل منها فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ . وقال : { إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث } [رواه البخاري ومسلم].
24 - ومن اطَّرح الدعة والكسل، وأقبل على الجد والعمل عَلَت همته، وبورك له في وقته، فنال الخير الكثير في الزمن اليسير.
ومن هجر اللذات نال المنى ومن *** أكب على اللذات عض على اليد
25 - ومن ترك طلب الشهرة وحب الظهور رفع الله ذكره، ونشر فضله، وأتته الشهرة تُجَرّر أذيالها.
26 - ومن ترك العقوق، فكان برّاً بوالديه رضي الله عنه، ورزقه الله الأولاد الأبرار وأدخله الجنة في الآخرة.
27 - ومن ترك قطيعة أرحامه، فواصلهم، وتودد إليهم، واتقى الله فيهن؛ بسط الله له في رزقه، ونَسَأَ له في أثره، ولا يزال معه ظهير من الله ما دام على تلك الصلة.
28- ومن ترك العشق، وقطع أسبابه التي تمده، وتجرَّع غصص الهجر ونار البعاد في بداية أمره، وأقبل على الله بكليته؛ رُزِقَ السلوَ وعزة النفس، وسلم من اللوعة والذلة والأسر، ومُلئ قلبه حريةً ومحبةً لله عز وجل تلك المحبة التي تلم شعث القلب، وتسدُّ خلته، وتشبع جوعته، وتغنيه من فقره؛ فالقلب لا يسر ولا يفلح، ولا يطيب ولا يسكن، ولا يطمئن إلا بعبادة ربِّه، وحبِّه، والإنابة إليه.
29- ومن ترك العبوس والتقطيب، واتصف بالبشْر والطلاقة؛ لانت عريكته، ورقَّت حواشيه، وكثر محبوه، وقلَّ شانؤوه.
قال : { تبسُّمك في وجه أخيك صدقة } [أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن غريب].
قال ابن عقيل الحنبلي: ( البِشْر مُؤَنِّسٌ للعقول، ومن دواعي القبول، والعبوس ضده ).
وبالجملة فمن ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه. فالجزاء من جنس العمل فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ [الزلزلة:8،7].
مثال على من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه:
وإذا أردت مثالاً جليّاً، يبين لك أن من ترك شيئاً لله عوَّضه الله خيراً منه فانظر إلى قصة يوسف عليه السلام مع امرأة العزيز، فلقد روادته عن نفسه فاستعصم، مع ما اجتمع له من دواعي المعصية، فلقد اجتمع ليوسف ما لم يجتمع لغيره، وما لو اجتمع كله أو بعضه لغيره لربما أجاب الداعي، بل إن من الناس من يذهب لمواقع الفتن بنفسه، ويسعى لحتفه بظلفه، ثم يبوء بعد ذلك بالخسران المبين، في الدنيا والآخرة، إن لم يتداركه الله برحمته.
أما يوسف عليه السلام فقد اجتمع له من دواعي الزنا ما يلي:
1 - أنه كان شاباً، وداعية الشباب إلى الزنا قوية.
2 - أنه كان عزباً، وليس له ما يعوضه ويرد شهوته.
3 - أنه كان غريباً، والغريب لا يستحيي في بلد غربته مما يستحيي منه بين أصحابه ومعارفه.
4 - أنه كان مملوكاً، فقد اشتُري بثمن بخس دراهم معدودة، والمملوك ليس وازعُه كوازع الحر.
5 - أن المرأة كانت جميلة.
6 - أن المرأة ذات منصب عال.
7 - أنها سيدته.
8 - غياب الرقيب.
9 - أنها قد تهيأت له.
10 - أنها أغلقت الأبواب.
11 - أنها هي التي دعته إلى نفسها.
12 - أنها حرصت على ذلك أشد الحرص.
13 - أنها توعدته إن لم يفعل بالصغار.(/2)
ومع هذه الدواعي صبر إيثاراً واختياراً لما عند الله، فنال السعادة والعز في الدنيا، وإن له للجنة في العقبى، فلقد أصبح السيد، وأصبحت امرأة العزيز فيما بعد كالمملوكة عنده، وقد ورد أنها قالت: ( سبحان من صير الملوك بذلك المعصية مماليك، ومن جعل المماليك بعز الطاعة ملوكاً ).
فحري بالعاقل الحازم، أن يتبصر في الأمور، وينظر في العواقب، وألا يؤثر اللذة الحاضرة الفانية على اللذة الآجلة الباقية.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
كاتب المقال: الشيخ / محمد الحمد
المصدر: موقع يا له من دين(/3)
من تواضع لله رفعه .. !!
التواضع خلق حميد، وجوهر لطيف يستهوي القلوب، ويستثير الإعجاب والتقدير وهو من أخصّ خصال المؤمنين المتّقين، ومن كريم سجايا العاملين الصادقين، ومن شِيَم الصالحين المخبتين. التواضع هدوء وسكينة ووقار واتزان، التواضع ابتسامة ثغر وبشاشة وجه ولطافة خلق وحسن معاملة، بتمامه وصفائه يتميّز الخبيث من الطيب، والأبيض من الأسود والصادق من الكاذب.
نعم.. فاقد التواضع عديم الإحساس، بعيد المشاعر، إلى الشقاوة أقرب وعن السعادة أبعد، لا يستحضر أن موطئ قدمه قد وطأه قبله آلاف الأقدام، وأن من بعده في الانتظار، فاقد التواضع لا عقل له، لأنه بعجبه وأنفته يرفع الخسيس، ويخفض النفيس، كالبحر الخضم تسهل فيه الجواهر والدرر، ويطفو فوقه الخشاش والحشاش. فاقد التواضع قائده الكبر وأستاذه العجب، فهو قبيح النفس ثقيل الطباع يرى لنفسه الفضل على غيره.
إن التواضع لله تعالى خُلُق يتولّد من قلب عالم بالله سبحانه ومعرفة أسمائه وصفاته ونعوت جلاله وتعظيمه ومحبته وإجلاله. إن التواضع هو انكسار القلب للرب جل وعلا وخفض الجناح والذل والرحمة للعباد، فلا يرى المتواضع له على أحد فضلاً ولا يرى له عند أحد حقاً، بل يرى الفضل للناس عليه، والحقوق لهم قبله. فما أجمل التواضع، به يزول الكِبَرُ، وينشرح الصدر، ويعم الإيثار، وتزول القسوة والأنانية والتشفّي وحب الذات.
أخي المسلم، أختي المسلمة.. إن من نبذ خلق التواضع وتعالى وتكَبَّر، إنما هو في حقيقة الأمر معتدٍ على مقام الألوهية، طالباً لنفسه العظمة والكبرياء، متناسياً جاهلاً حق الله تعالى عليه، من عصاة بني البشر، متجرِّئٌ على مولاه وخالقه ورازقه، منازع إياه صفة من صفات كماله وجلاله وجماله، إذ الكبرياء والعظمة له وحده. يقول سبحانه في الحديث القدسي: «الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، من نازعني واحداً منهما ألقيته في جهنم» [رواه مسلم].
التواضع نوعان..
1-محمود، وهو ترك التطاول على عباد الله والإزراء بهم.
2-مذموم، وهو تواضع المرء لذي الدنيا رغبة في دنياه.
فالعاقل يلزم مفارقة التواضع المذموم على الأحوال كلها، ولا يفارق التواضع المحمود على الجهات كلها.
من التواضع..
1-اتّهام النفس والاجتهاد في علاج عيوبها وكشف كروبها وزلاتها {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا.وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا}.
2-مداومة استحضار الآخرة واحتقار الدنيا، والحرص على الفوز بالجنة والنجاة من النار، وإنك لن تدخل الجنة بعملك، وإنما برحمة ربك لك.
3-التواضع للمسلمين والوفاء بحقوقهم ولين الجانب لهم، واحتمال الأذى منهم والصبر عليهم {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِين}.
4-معرفة الإنسان قدره بين أهله من إخوانه وأصحابه ووزنه إذا قُورن بهم «ما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً». رواه مسلم.
5-غلبة الخوف في قلب المؤمن على الرجاء، واليقين بما سيكون يوم القيامة {وَبَدَا لَهُمْ مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ}.
6-التواضع للدين والاستسلام للشرع، فلا يُعارض بمعقول ولا رأي ولا هوى.
7-الانقياد التام لما جاء به خاتم الرسل صلى الله عليه وسلم، وأن يُعبد الله وفق ما أمر، وأن لا يكون الباعث على ذلك داعي العادة.
8-ترك الشهوات المباحة، والملذّات الكمالية احتساباً لله وتواضعاً له مع القدرة عليها، والتمكن منها «من ترك اللباس تواضعاً لله وهو يقدر عليه، دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيّره من أي حلل الإيمان شاء يلبسها». رواه أحمد والترمذي.
9-التواضع في جنب الوالدين ببرّهما وإكرامهما وطاعتهما في غير معصية، والحنو عليهما والبِشْرُ في وجههما والتلطّف في الخطاب معهما وتوقيرهما والإكثار من الدعاء لهما في حياتهما وبعد مماتهما {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً}.
10-التواضع للمرضى بعيادتهم والوقوف بجانبهم وكشف كربتهم، وتذكيرهم بالاحتساب والرضا والصبر على القضاء.
11-تفقّد ذوي الفقر والمسكنة، وتصفّح وجوه الفقراء والمحاويج وذوي التعفف والحياء في الطلب, ومواساتهم بالمال والتواضع لهم في الحَسَب، يقول بشر بن الحارث: "ما رأيت أحسن من غني جالسٍ بين يدي فقير".
تواضع الخليل صلى الله عليه وسلم
1- سُئلت عائشة رضي الله عنها: ما كانَ النَّبِيُّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم يَصنعُ في بَيْتِهِ؟ قالت: "كان يَكُون في مِهْنَةِ أَهْلِهِ -يَعني: خِدمَةِ أَهلِه- فإِذا حَضَرَتِ الصَّلاة، خَرَجَ إِلى الصَّلاةِ". رواه البخاري.
2- "كان يخصف نعله ويخيط ثوبه ويعمل في بيته كما يعمل أحدكم في بيته". رواه الترمذي.
3- "كان بشراً من البشر يفلي ثوبه ويحلب شاته ويخدم نفسه". رواه الترمذي.
4- "ما كان شخص أحب إليهم من رسول الله، وكانوا إذا رأوه لم يقوموا له لما يعلمون من كراهيته لذلك".(/1)
5- «لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم، فإنما أنا عبد، فقولوا عبد الله ورسوله». رواه البخاري.
6- "كان يأتي ضعفاء المسلمين، ويزورهم، ويعود مرضاهم، ويشهد جنائزهم ". رواه أبو يعلى.
7- "كان يتخلّف في المسير فيزجى الضعيف ويردف ويدعو لهم". رواه أبو داود.
8- "كان يجلس على الأرض، ويأكل على الأرض، ويعقل الشاة ويجيب دعوة المملوك على خبز الشعير". رواه الطبراني.
9- "كان يزور الأنصار ويسلّم على صبيانهم ويمسح رؤوسهم". رواه النسائي.
10- "كان لا يُسأل شيئا إلا أعطاه أو سكت". رواه الحاكم.
11- "إِنْ كَانَتِ الأَمَةُ مِن إِمَاءِ المَدِينَةِ لَتَأْخُذُ بِيَدِ النبيِّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم، فَتَنْطَلِقُ بِهِ حَيثُ شَاءَتْ". رواه البخاري.
12- « يا عائشة، لو شئت لسارت معي جبال الذهب، جاءني ملك، إن حجزته لتساوي الكعبة -أي موضع شد الإزار-، فقال: إن ربك يقرأ عليك السلام، ويقول: إن شئت نبياً عبداً، وإن شئت نبياً ملكاً، فنظرتُ إلى جبريل -عليه السلام- فأشار إلى أن ضع نفسك فقلت: نبياً عبداً ». رواه أبو يعلى.
13- عن أبي رِفَاعَةَ تَميم بن أُسَيدٍ رضي اللَّه عنه قال: "انْتَهَيْتُ إِلى رسول اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم وهو يَخْطُبُ، فقلتُ: يا رسولَ اللَّه، رجُلٌ غَرِيبٌ جَاءَ يَسْأَلُ عن دِينِهِ لا يَدري مَا دِينُهُ؟ فَأَقْبَلَ عَليَّ رسولُ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم وتَركَ خُطْبتهُ حتى انتَهَى إِليَّ، فَأُتى بِكُرسِيٍّ فَقَعَدَ عَلَيهِ، وجَعَلَ يُعَلِّمُني مِمَّا عَلَّمَه اللَّه، ثم أَتَى خُطْبَتَهُ، فأَتمَّ آخِرَهَا". رواه مسلم.
14- «لَوْ دُعِيتُ إِلى كُراعٍ أَوْ ذِرَاعٍ لقبلتُ، وَلَوْ أُهْدي إِليَّ ذِراعٌ أَو كُراعٌ لَقَبِلْتُ». رواهُ البخاري.
الكِبْرُ
1- به اتصف إبليس فحسد آدم, وامتنع من الانقياد لأمر ربه {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ}.
2- به تخلّف الإيمان عن اليهود الذين رأوا النبي وعرفوا صحة نبوته، ونصبوا له العداوة.
3- به تخلف إسلام أبي جهل، ومنع ابن أبي ابن سلول من صدق التسليم لما جاء به الحبيب صلى الله عليه وسلم.
4- به استحبت قريش العمى على الهدى { إِنَّهُمْ كَانُواْ إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ }.
5- به تحصل للفرقة والنزاع والاختلاف والبغضاء { فَمَا اخْتَلَفُواْ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ }.
6- به تنوّعت شنائع بني إسرائيل مع أنبيائهم بين تكذيب وتقتيل { أَفَكُلَّمَا جَآءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنْفُسُكُمْ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ }
7- به عُذِّبت الأمم السالفة لاتصافهم به {وَاسْتَغْشَوْاْ ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّواْ وَاسْتَكْبَرُواْ اسْتِكْبَارا}، {وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لاَ يُرْجَعُونَ}، {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُواْ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُواْ مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ}، {قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يشُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ}.
8- به يصرف الإنسان عن الاعتبار والاتعاظ بالعبر والآيات {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ}.
9- به تحل النكبات والكوارث وقد خسفت الله بمتكبر «بينما رجلٌ يمشي في حلةٍ تعجبه نفسه مرجلاً رأسه يختال في مشيته إذ خسف الله به, فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة». متفق عليه.
10- به يعامل العبد بنقيض قصده يوم القيامة «
يحشر الجبارون والمتكبرون يوم القيامة في صور الذر يطؤهم الناس بأرجلهم». رواه الترمذي.
وأخيراً..
فإن المتواضع يبدأ من لقيه بالسلام، ويجيب دعوة من دعاه، كريم الطبع، جميل العشرة ، طلق الوجه، باسم الثغر رقيق القلب، متواضعا من غير ذلة، جواداً من غير سرف.
سلمان بن يحي المالكي(/2)
من ثمار الوضوء
1- الوضوء يكفر الذنوب، قال –صلى الله عليه وسلم-: ( مَنْ تَوَضَّأَ فَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ خَرَجَتْ خَطَايَاهُ مِنْ فِيهِ وَأَنْفِهِ فَإِذَا غَسَلَ وَجْهَهُ خَرَجَتْ خَطَايَاهُ مِنْ وَجْهِهِ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ تَحْتِ أَشْفَارِ عَيْنَيْهِ فَإِذَا غَسَلَ يَدَيْهِ خَرَجَتْ خَطَايَاهُ مِنْ يَدَيْهِ فَإِذَا مَسَحَ بِرَأْسِهِ خَرَجَتْ خَطَايَاهُ مِنْ رَأْسِهِ حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ أُذُنَيْهِ فَإِذَا غَسَلَ رِجْلَيْهِ خَرَجَتْ خَطَايَاهُ مِنْ رِجْلَيْهِ حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ تَحْتِ أَظْفَارِ رِجْلَيْهِ وَكَانَتْ صَلَاتُهُ وَمَشْيُهُ إِلَى الْمَسْجِدِ نَافِلَةً) [ابن ماجه عَنْ عَبْدِ اللَّهِ الصُّنَابِحِيِّ].
2- ومن ثمرات الوضوء ما أخرجه البخاري عن أبي هريرة –رضي الله عنه- أنَّه قال: سمعت النبي –صلى الله عليه وسلم- يقول: ( إِنَّ أُمَّتِي يُدْعَوْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ) [البخاري].
3- ومن ثمرات الوضوء تنشيطه للجوارح، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ( إِذَا أَتَى أَحَدُكُمْ أَهْلَهُ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَعُودَ فَلْيَتَوَضَّ) [مسلم عن أبي سعيد الخدري]. وبيّن في رواية للحاكم، أنَّه أنشط للعود.
4- الوضوء من خصال الإيمان، قال –صلى الله عليه وسلم-: (وَلَا يُحَافِظُ عَلَى الْوُضُوءِ إِلَّا مُؤْمِنٌ)[مسند أحمد من حديث ثوبان].
5- قال صلى الله عليه وسلم: ( مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ يَتَوَضَّأُ فَيُبْلِغُ أَوْ فَيُسْبِغُ الْوَضُوءَ ثُمَّ يَقُولُ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ إِلَّا فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةُ يَدْخُلُ مِنْ أَيِّهَا شَاءَ) [مسلم عن عقبة بن عامر].
6- رفع الدرجات، قال صلى الله عليه وسلم: ( أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الْخَطَايَا وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: إِسْبَاغ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِه وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ فَذَلِكُمْ الرِّبَاطُ) [مسلم عن أبي هريرة]
7- ومن ثمرات الوضوء العظيمة حب الله للمتطهرين، قال تعالى: ?إنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ? [البقرة:222]، فالطهر طهر بالماء من الحدث، وطهر بالتوبة من الشرك والمعاصي.
فانظروا رحمكم الله! كم في الوضوء من ثمار، وكم تيسر للعبد من أسباب تكفير الخطايا؛ لعلّه يتطهر قبل الموت فيلقى ربه طاهرًا؛ فيصلح لمجاورة ربّه في دار السلام.(/1)
من ثمرات العفة
يشعر بعض من أسرتهم الشهوات أن الذين سلكوا طريق العفة يعيشون المعاناة مع النفس، والحرمان من اللذائذ، ويجهل هؤلاء أن للعفة ثمرات عاجلة وآجلة، ثمرات يجنيها المرء في الدنيا، وثمرات يجنيها في الآخرة، ومن هذه الثمرات:
1- الفلاح وثناء الله تعالى:
يفرح الناس بثناء البشر والمخلوقين ويعتزون بذلك، فالطالب يفرح بثاء معلمه عليه أمام زملائه، والطالبة تسعد بثناء معلمتها، وحين يكون الثناء والتزكية ممن له شهرة بين الناس تعلو قيمة الثناء، فكيف إذا كان الثناء من خالق البشر جميعا، وخالق السماوات والأرض بمن فيهن؟ قال تعالى } قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ. الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ.إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ. فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ {(المؤمنون:1-7).
إنه ثناء لا يعدله ثناء، شهادة من الله تبارك وتعالى لهؤلاء بالإيمان، وإخبار عن فلاح هؤلاء الذين من صفاتهم حفظ الفرج والتجافي عن الفواحش، فهل يستبدل عاقل بذلك شهوة عاجلة ولذة فانية؟
2- الجنة والنعيم المقيم:
وعد الله تبارك وتعالى أهل العفة والحافظين فروجهم بالجنة والخلود فيها}أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ. الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ{ (المؤمنون:10-11).
ويخبر e - وهو الذي لا ينطق عن الهوى- عن وعد صادق، فيقول: "من يضمن لي مابين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة"( رواه البخاري (6474) و الترمذي (2408 ) .
فحين تعف نفسك عن الحرام وتحفظ جوارحك ينطبق عليك وعد الله تبارك وتعالى، ووعد المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى باستحقاق الجنة وضمانها . فهل لديك مطلب أغلى من الجنة ؟
اسأل العالم الذي يقضي وقته في العلم والتعليم، اسأل العابد الذي ينصب في عبادة ربه، اسأل المجاهد الذي يرخص نفسه في سبيل الله، اسأل الذي يضحي بنفسه لإحقاق الحق وإبطال الباطل، اسأل الداعية الذي يواصل سهر الليل بكدّ النهار ويقيمه همّ الدعوة ويقعده، اسأل هؤلاء جميعا لم يصنعون ذلك؟ سيجيبونك بإجابة واحدة( نريد الجنة ) إنها مطلب السائرين إلى الله عز وجل مهما تنوعت بهم السبل.
فبادر أخي الكريم وبادري أختي الكريمة بضمان جوارحكم عن الحرام لتستحقوا هذا الوعد النبوي الصادق.
3- الطمأنينة وراحة البال:
يعاني من يسير وراء شهوته المحرمة عذاباً وجحيماً لا يطاق، أما من يعف نفسه فيعيش طمأنينة وراحة بال، إن الهم الذي يشغله ليس الهم الذي يشغل سائر الناس، والتفكير الذي يسيطر عليه ليس التفكير الذي يسيطر على سائر الناس، ولا عجب في ذلك، فالله تبارك وتعالى هو الذي خلق الإنسان وهو أعلم به، وخلقه لعبادته وطاعته، ومن ثم فلن يعيش الحياة السوية المستقرة مالم يستقم على طاعة الله تبارك وتعالى، فالسيارة التي صنعت لتسير في الطرق المعبدة يصعب أن تسير في غيرها، والقطار الذي صنع ليسير على القضبان حين ينحرف عن مساره لا يستطيع المسير. وهكذا الإنسان فهو إنما خلق لعبادة الله وطاعته، فإذا انحرف عن هذا الطريق اضطربت حياته، وعانى من المشكلات، ولذا فأهل الكفر والإلحاد أقل الناس استقرارا وطمأنينة، وكلما اقترب العبد من الإيمان والطاعة ازداد استقرارا وطمأنينة.
4- لذة الانتصار على النفس:
لئن كان اللاهون العابثون يجدون لذة ممارسة الحرام، فالشاب العفيف والفتاة العفيفة يجدان من لذة الانتصار على النفس أعظم مما يجده أصحاب الشهوات، إن الرجولة والإنسانية الحقة أن يقدر المرء أن يقول لنفسه لا حين يحتاج إلى ذلك، وأن تكون شهواته مقودة لا قائدة، أما الذي تحركه شهوته وتستعبده فهو أقرب ما يكون إلى الحيوان البهيم الذي لا يحول بينه وبين إتيان الشهوة سوى الرغبة فيها.
كيف تواجه الشهوة
الشيخ : محمد بن عبدالله الدويش(/1)
من ثمرات اليقين باليوم الآخر..
القسم الأول
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على نبينا وقدوتنا محمد ، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين ، أما بعد ..
لما كان الإيمان باليوم الآخر أحد أصول الإيمان الستة التي لا يصح إيمان مسلم بدونها .ولما لذلك الإيمان من أثر في حياة المسلم وطاعته لأوامر الله (عزو جل) واجتناب نواهيه ، ولما له من أثر في صلاح القلوب وصلاح الناس وسعادتهم في الدنيا والآخرة ، ولما في نسيان ذلك اليوم العظيم والغفلة عنه من خطر على حياة الناس ومصيرهم .. فلا غرابة إذن أن يرد ذكر هذا اليوم كثيراً في القرآن ، حتى لا تكاد تخلو منه صفحة من صفحاته .
وإذا كان الكتاب والسنة قد اهتما غاية الاهتمام بتفاصيل ذلك اليوم المشهود وبأحوال هذا النبأ العظيم ؛ فإنه من الحمق والجهل ألا نهتم بما اهتم به الوحيان .
إن أعظم قضية يجب أن ينشغل بها كل واحد منا هي : قضية وجوده وحياته والغاية منها ، وقضية مستقبله ومصيره وشقائه وسعادته ، فلا يجوز أن يتقدم ذلك شيء مهما كان ، فكل أمر دونه هين وكل خطب سواه حقير . وهل هناك أعظم وأفدح من أن يخسر الإنسان حياته وأهله ، ويخسر مع ذلك سعادته وسعادتهم ، فماذا يبقى بعد ذلك ؟ (قُلْ إنَّ الخَاسِرِينَ الَذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ القِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الخُسْرَانُ المُبِينُ) [الزمر : 15] .
وأهمية هذا الموضوع تتجلى فيما يلي :
1- انفتاح الدنيا الشديد على كثير من الناس في هذا الزمان وما صحب ذلك من مكر الليل والنهار بأساليب جديدة ودعايات خبيثة تزين الدنيا في أعين الناس وتصدهم عن الآخرة ، ومع ما كان عليه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم- من الإيمان والتقوى ، فقدكان يحذرهم من الاغترار بالدنيا وضرورة الاستعداد للآخرة ، مع أن الدنيا لم تنفتح عليهم مثل اليوم ، فلا شك ولا ريب أننا أحوج منهم بكثير إلى أن نتذكر الآخرة ويذكّر بعضنا بعضاً بعظمة شأنها وأهمية الاستعداد لها .
2- ركون كثير من الناس للدنيا ولقد ترتب على ذلك أن قست القلوب ، وتحجرت الأعين ، وهُجِرَ كتاب الله عز وجل، وإذا قرأ أحدنا القرآن قرأه بقلب لاهٍ ، فأنّى لمثل ذلك القلب أن يخشع لذكر الله ؟ وأنّى لعينيه أن تدمع خوفاً من الله ، وقد انعكس ذلك على الصلاة فقلّ الخاشعون والمطمئنون فيها .. والله المستعان .
3- لما في تذكر ذلك اليوم ومشاهده العظيمة من حث على العمل الصالح والمبادرة لفعل الخيرات وترك المنكرات ، بل ما تكاسل المتكاسلون في عمل الصالحات سواء الواجب منها والمسنون إلا بسبب الغفلة عن الآخرة والانشغال عنها، يقول تعالى في وصف عباده الصالحين : ( رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإقَامِ الصَلاةِ وَإيتَاءِ الزَّكَاةِ) [النور : 37].)أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ
سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لايَعْلَمُونَ إنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ)[الزمر : 9] .
4- لما ظهر في عصرنا اليوم من المشكلات المعقدة والأمراض المزمنة، التي نشأت عنها الأمراض النفسية المتنوعة من القلق والاكتئاب اللذين يؤديان غالباً إلى حياة يائسة، ومن أسباب ذلك: البعد عن الله تعالى ، وعن تذكر اليوم الآخر .
5- لما تميز به زماننا اليوم من كثرة المظالم في بعض المجتمعات واعتداء الناس بعضهم على بعض ، من أكلٍ لأموال غيرهم بدون وجه حق ، وكذلك النيل من الأعراض ، والحسد والتباغض ، والفرقة والاختلاف ، وبخاصة بين بعض الدعاة وطلبة العلم ، ولا شك أنه لا شيء مثل تذكر اليوم الآخر وتذكر الوقوف بين يدي الله عز وجل علاجاً لتلك الأمراض .
6- ولما كان الركون إلى الدنيا والغفلة عن الآخرة من أعظم الأسباب في وهن النفوس وضعفها كان لا بد من التذكير المستمر بذلك اليوم وما فيه من نعيم أو جحيم ، لأن في هذا التذكير أكبر الأثر في نشاط الهمم وعدم الاستسلام للوهن واليأس رجاء ثواب الله عز وجل وما أعده للمجاهدين في سبيله الداعين إليه .
7- ولما قلّ في برامج الدعوة والتربية الاعتناء بهذه الجانب العظيم من التربية مما له الأثر الكبير في الاستقامة على الجادة والدعوة إلى الله على بصيرة ، ولكن نرى من بعض المهتمين بالدعوة من يستهين بهذا الجانب العظيم حتى صار بعضهم يقلل من أثر التذكرة بالآخرة بقوله : إن هذا الأمر يغلب عليه الوعظ أو هذا مقال عاطفي وعظي… إلخ .. مع أن المتأمل لكتاب الله سبحانه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم يرى بجلاء جانب الوعظ بارزاً بالربط بين الدنيا والآخرة والثواب والعقاب .. نسأل الله أن يهدينا جميعاً وأن يوفقنا للاقتداء بالسنة والسير على نهجها .
الآثار المرجوة لليقين باليوم الآخر :(/1)
إن في اليقين باليوم الآخر وأنبائه العظيمة لآثاراً واضحة وثماراً طيبة ، لابد أن تظهر في قلب العبد وعلى لسانه وجوارحه ، وفي حياته كلها ، ولكن هذا اليقين وحده لا يكفي حتى ينضم إليه الصبر ومجاهدة الشهوات والعوائق ، لأن الواحد منا مع يقينه باليوم الآخر وأهواله يرى في حياته أن ثمرات هذا اليقين ضعيفة ، فلابد إذن من سبب لهذا الأمر، ويجلي هذه المسألة الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى فيقول :(فإن قلت كيف يجتمع التصديق الجازم الذي لا شك فيه بالمعاد والجنة والنار ويتخلف العمل ؟ وهل في الطباع البشرية أن يعلم العبد أنه مطلوب غداً إلى بين يدي بعض الملوك ليعاقبه أشد عقوبة ، أو يكرمه أتم كرامة ، ويبيت ساهياً غافلاً ! ولا يتذكر موقفه بين يدي الملك ، ولا يستعد له ، ولا يأخذ له أهبته ؟ ! .
قيل : هذا لعمر الله سؤال صحيح وارد على أكثر الخلق ؛ فاجتماع هذين الأمرين من أعجب الأشياء ، وهذا التخلف له عدة أسباب :
أحدهما : ضعف العلم ونقصان اليقين ، ومن ظن أن العلم لا يتفاوت ، فقوله من أفسد الأقوال وأبطلها . وقد سأل إبراهيم الخليل ربه أن يريه إحياء الموتى عياناً بعد علمه بقدرة الرب على ذلك ، ليزداد طمأنينة ، ويصير المعلوم غيباً شهادة .
وقد روى أحمد في مسنده عن النبي أنه قال : (ليس الخبر كالمعاينة) [1] .
فإذا اجتمع إلى ضعف العلم عدم استحضاره أو غيبته عن القلب في كثير من أوقاته أو أكثرها لاشتغاله بما يضاده ، وانضم إلى ذلك تغاضي الطبع ، وغلبات الهوى ، واستيلاء الشهوة ، وتسويل النفس ، وغرور الشيطان ، واستبطاء الوعد ، وطول الأمل ، ورقدة الغفلة ، وحب العاجلة ، ورخص التأويل ، وإلف العوائد ، فهناك لا يمسك الإيمان إلا الذي يمسك السموات والأرض أن تزولا ، وبهذا السبب يتفاوت الناس في الإيمان والأعمال ، حتى ينتهي إلى أدنى مثقال ذرة في القلب .
وجماع هذه الأسباب يرجع إلى ضعف البصيرة والصبر، ولهذا مدح الله سبحانه أهل الصبر واليقين ، وجعلهم أئمة الدين ، فقال تعالى : (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ) [السجدة : 24] [2] .
ذكر الثمرات المرجوة :
وبعد هذه المقدمة التي لا بد منها حول ثمرات اليقين بالنبأ العظيم نذكر ما تيسر من هذه الثمرات ، والله ولي التوفيق :
1- الإخلاص لله (عز وجل) والمتابعة للرسول :
إن الموقن بلقاء الله (عز وجل) يوم الفزع الأكبر، لا تلقاه إلا حريصاً على أعماله ، خائفاً من كل ما يحبطها من أنواع الشرك الأكبر أو الشرك الأصغر، حيث إن الشرك الأكبر يحبط جميع الأعمال ، فتصير هباءً منثوراً ، والشرك الأصغر يحبط العمل الذي حصل فيه هذا النوع من الشرك كيسير الرياء ، والعجب ، والمن ، وطلب الجاه والشرف في الدنيا، فكلما كان العبد موقناً بلقاء ربه كان منه الحرص الشديد على ألا تضيع منه أعماله الصالحة في موقف القيامة ، يوم أن يكون في أشد الأوقات حاجة إليها ؛ ولذلك فهو يجاهد نفسه بحماية أعماله في الدنيا بالإخلاص فيها لله تعالى لعل الله عز وجل أن ينفعه بها ، كما أن اليقين بالرجوع إلى الله عز وجل يجعل العبد في أعماله كلها متبعاً للرسول صلى الله عليه وسلم غير مبتدع ولامبدل ؛ لأن الله عز وجل لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً صواباً ، قال تعالى : (قُلْ إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إلَيَّ أَنَّمَا إلَهُكُمْ إلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو
لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) [الكهف : 110] .
2- الحذر من الدنيا والزهد فيها والصبر على شدائدها وطمأنينة القلب وسلامته :
إذا أكثر العبد ذكر الآخرة ، وكانت منه دائماً على بال ، فإن الزهد في الدنيا والحذر منها ومن فتنتها سيحلان في القلب ، وحينئذ لا يكترث بزهرتها ، ولا يحزن على فواتها ، ولا يمدن عينيه إلى ما متع الله به بعض عباده من نعم ليفتنهم فيها ، وهذه الثمرة يتولد عنها بدورها ثمار أخرى مباركة طيبة منها : القناعة ، وسلامة القلب من الحرص والحسد والغل والشحناء ؛ لأن الذي يعيش بتفكيره في الآخرة وأنبائها العظيمة لا تهمه الدنيا الضيقة المحدودة ، مع ملاحظة أن إيمان المسلم باليوم الآخر وزهده في الدنيا لا يعني انقطاعه عنها وعدم ابتغاء الرزق في أكنافها ؛ يقول تعالى : ( وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ) [القصص : 77] .(/2)
كما يتولد أيضا من هذا الشعور ، الراحة النفسية والسعادة القلبية وقوة الاحتمال والصبر على الشدائد والابتلاءات، ذلك للرجاء فيما عند الله عز وجل من الأجر والثواب، وأنه مهما جاء من شدائد الدنيا فهي منقطعة ولها أجل ، فهو ينتظر الفرج ويرجو الثواب الذي لا ينقطع يوم الرجوع إلى الله عز وجل ، قال تعالى : (إن تَكُونُوا تَاًلَمُونَ فَإنَّهُمْ يَاًلَمُونَ كََمَا تَاًلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ) [النساء : 104] وما إن يفقد القلب هذه المعاني حتى يخيم عليه الهم والتعاسة ، ومن هنا ينشأ القلق والانزعاج والضيق والحزن ، أما ذاك الذي عرف الدنيا على حقيقتها ، وامتلأ قلبه بهمّ الآخرة وأنبائها ، فإن نفسه لا تذهب على الدنيا حسرات ، ولا تنقطع نفسه لهثاً في طلبها، ولا يأكل قلبه الغل والحسد والتنافس فيها، ولا يقل صبره ولا يجزع قلبه عند المحن والشدائد، ومهما حرم في هذه الدنيا الفانية فهو يعلم أن لله عز وجل في ذلك الحكمة البالغة، وهو يرجو الأجر يوم القيامة ، قال تعالى : (وَلَوْلا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفا وَإن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ) [الزخرف : 33- 35] .
3- التزود بالأعمال الصالحة وأنواع القربات واجتناب المعاصي والمبادرة بالتوبة والاستغفار :
يقول الإمام ابن القيم (رحمه الله تعالى) : (ومما ينبغي أن من رجا شيئاً استلزم رجاؤه ثلاثة أمور :
أحدهما : محبة ما يرجوه .
الثاني : خوفه من فواته .
الثالث : سعيه في تحصيله بحسب الإمكان .
وأما رجاءٌ لا يقارنه شيء من ذلك فهو من باب الأماني ، والرجاء شيء والأماني شيء آخر ، فكل راجٍ خائف ، والسائر على الطريق إذا خاف أسرع السير مخافة الفوات .
وفي جامع الترمذي من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله (من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل ، ألا إن سلعة الله غالية ، ألا إن سلعة الله الجنة) [3]
وهو سبحانه كما جعل الرجاء لأهل الأعمال الصالحة ، فكذلك جعل الخوف لأهل الأعمال الصالحة ، فعلم أن الرجاء والخوف النافع ما اقترن به العمل ، قال تعالى : (إنَّ الَذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ ) [المؤمنون : 57- 61] .
وقد روى الترمذي في جامعه عن عائشة رضي الله عنها قالت : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية ، فقلت : أهم الذين يشربون الخمر ويزنون ويسرقون ؟ قال : (لا ، يا ابنة الصديق ، ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون ويخافون أن لا يتقبل منهم ، أولئك يسارعون في الخيرات) [4] وقد روي من حديث أبي هريرة أيضاً .
والله (سبحانه) وصف أهل السعادة بالإحسان مع الخوف ، ووصف الأشقياء
بالإساءة مع الأمن) [5] .
وقال تعالى: (إنَّ الَذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) [البقرة : 218] .
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى : (فتأمل كيف جعل رجاءهم إتيانهم بهذه الطاعات ؟ وقال المغرورون : إن المفرطين المضيعين لحقوق الله المعطلين لأوامره الباغين المتجرئين على محارمه ، أولئك يرجون رحمة الله) [6] . للحديث صلة .
________________________
(1) أحمد، ج1ص215 ، 271 وصحح إسناده أحمد شاكر (1842) .
(2) الجواب الكافي، ص 54 .
(3) رواه الترمذي، كتاب صفة القيامة، باب 18 الحديث رقم 2450 وانظر صحيح سنن الترمذي (1993) .
(4) رواه أحمد ، ج6ص159، والترمذي (كتاب التفسير) باب تفسير سورة المؤمنون، ح 3175 .
(5) الجواب الكافي، ص 57 ، 58 .
(6) الجواب الكافي، ص 56 .
مجلة البيان : العدد : ( 98 ) التاريخ : شوال /1416هـ .
4- الدعوة إلى الله (عز وجل ) والجهاد في سبيله :
وهذا يدخل في الثمرة السابقة ، حيث إنه من أفضل القربات والأعمال الصالحة ، وقد أفردته هنا باعتباره ثمرة مستقلة من ثمار اليقين باليوم الآخر ، وذلك لما يلي :
(أ) فضل الجهاد والدعوة إلى الله (سبحانه) وأثرهما في إنقاذ الناس بإذن ربهم من الظلمات إلى النور ، ولذلك كان من أحب الأعمال إلى الله (عز وجل) ، قال (تعالى) : (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ)[ فصلت : 33] .
(ب) وصف الرسول للجهاد بأنه ذروة سنام الإسلام .(/3)
في الجهاد أيضاً : حقيقة الزهد في الحياة الدنيا ، وفيه أيضاً : حقيقة الإخلاص ؛ فإن الكلام فيمن جاهد في سبيل الله ، لا في سبيل الرياسة ، ولا في سبيل المال، ولا في سبيل الحمية.. وهذا لا يكون إلا لمن قاتل ليكون الدين كله لله، ولتكون كلمة الله هي العليا، وأعظم مراتب الإخلاص : تسليم النفس والمال للمعبود ، كما قال تعالى : (إنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ ) [التوبة : 111] .
(ج) في الحديث عن الجهاد في سبيل الله عز وجل ومحاربة الفساد وتعبيد الناس لرب العالمين أكبر رد على الذين يرون أن التعلق باليوم الآخر والاستعداد له يعني اعتزال الناس ، وترك الدنيا لأهلها ، والاشتغال بالنفس وعيوبها ، وترك الحياة يأسن فيها أهلها .
نعم هذا ما يراه بعض المتصوفة وأصحاب الفهم المنحرف لحقيقة الدنيا والآخرة .. ([لقد كان ] الناس في فترات من الزمان يعيشون سلبيين ، ويَدَعون الفساد والشر والظلم والتخلف والجهالة تغمر حياتهم الدنيا مع ادعائهم الإسلام هم يصنعون ذلك كله أو بعضه لأن تصورهم للإسلام قد فسد وانحرف ؛ ولأن يقينهم في الآخرة قد تزعزع وضعف ! لا لأنهم يدينون بحقيقة هذا الدين ... فما يستيقن أحد من لقاء الله في الآخرة ؛ وهو يعي حقيقة هذا الدين ، ثم يعيش في هذه الحياة سلبيّاً أو متخلفاً أو راضياً بالشر والفساد . إنما يزاول المسلم هذه الحياة الدنيا وهو يشعر أنه أكبر منها وأعلى ، ويستمتع بطيباتها أو يزهد فيها وهو يعلم أنها حلال في الدنيا خالصة له يوم القيامة ... ، ويكافح الشر والفساد والظلم محتملاً الأذى والتضحية حتى الشهادة ، وهو إنما يقدم لنفسه في الآخرة ... إنه يعلم من دينه أن الدنيا مزرعة الآخرة ، وأن ليس هنالك طريق للآخرة لا يمر بالدنيا ، وأن الدنيا صغيرة زهيدة ، ولكنها من نعمة الله التي يجتاز منها إلى نعمة الله الكبرى) [1] .
5- اجتناب الظلم بشتى صوره :
نظراً لكثرة الظلم والشحناء بين المسلمين في عصرنا الحاضر ، وأنه لا شيء يمنع النفس من ظلم غيرها في نفس أو مال أو عرض : كاليقين بالرجوع إلى الله عز وجل، وإعطاء كل ذي حقحقه ، وإنصاف المظلوم ممن ظلمه ، فإذا تذكر العبد هذا الموقف العصيب الرهيب ، وأنه لا يضيع عند الله شيء ، كما قال تعالى : (وَنَضَعُ المَوَازِينَ القِسْطَ لِيَوْمِ القِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) [الأنبياء : 47] وقوله تعالى : )وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً) [طه : 111] ،إذا تذكر هذه المواقف واتعظ بهذه الآيات ، وأيقن بتحققها فلا شك أن ذلك سيمنعه من التهاون في حقوق الخلق ، والحذر من ظلمهم في دم أو مال أو عرض ، خاصة وأن حقوق العباد مبنية على المشاحة والحرص على استيفاء الحق من الخصم ، وبالذات في يوم الهول الأعظم الذي يتمنى العبد فيه أن يكون له مظلمة عند أمه وأبيه وصاحبته وبنيه ، فضلاً عن غيرهم من الأباعد ، ومعلوم أن التقاضي هنالك ليس بالدينار والدرهم ولكن بالحسنات والسيئات .
فياليتنا نتذكر دائماً يوم الفصل العظيم ، يوم يفصل الحكم العدل بين الناس ، ويقضي بين الخصماء بحكمه وهو أحكم الحاكمين ، ليتنا لا نغفل عن هذا المشهد العظيم ، حتى لا يجور بعضنا على بعض ، ولا يأكل بعضنا لحوم بعض ، ولا نتكلم إلا بعلم وعدل ، إنه لا شيء يمنع من ذلك كله إلا الخوف من الله (عز وجل) وخوف الوقوف بين يديه ، واليقين الحق بأن ذلك كائن في يوم لا ريب فيه ؛ قال تعالى : (إنَّكَ مَيِّتٌ وَإنَّهُم مَّيِّتُونَ (30) ثُمَّ إنَّكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُون ( [الزمر : 30 ، 31] .
6- حصول الأمن والاستقرار ، والألفة بين الناس بالحكم بشريعة الله :(/4)
إن مجتمعاً يسود بين أهله الإيمان بالله عز وجل واليقين بالآخرة والجزاء والحساب ، لا شك أنه مجتمع تسوده المحبة ويعمه السلام ؛ لأن تعظيم الله سبحانه سيجعل هذه النفوس لا ترضى بغير شرع الله (عز وجل) بديلاً ، ولا تقبل الاستسلام إلا لحكمه ، وهذا بدوره سيضفي الأمن والأمان على مثل هذه المجتمعات ، لأن أهلها يخافون الله ويخافون يوم الفصل والجزاء ، فلا تحاكم إلا لشرع الله ، ولا تعامل إلا بأخلاق الإسلام الفاضلة : فلا خيانة ولا غش ولا ظلم ، ولا يعني هذا أنه لا يوجد في المجتمعات المسلمة من يظلم أو يخون أو يغش ، فهذا لم يسلم منه عصر النبوة ولا الخلافة الراشدة ، لكن هذه المعاصي تبقى فردية ، يؤدّب أفرادها بحكم الله عز وجل وحدوده ، إذا لم يردعهم وازع الدين والخوف من الله، والحالات الفردية تلك ليست عامة ، أما عندما يقل الوازع الديني والخوف من
الآخرة ، ويكون التحاكم إلى أهواء البشر وحكمهم فهذا هو البلاء العظيم والفساد الكبير : حيث تداس القيم والحرمات، ويأكل القوي الضعيف ، وبالتالي :لا يأمن الناس على أديانهم ولا أنفسهم ولا أموالهم ولا أعراضهم ، وكفى بذلك سبباً في عدم الأمن والاستقرار ، وانتشار الخوف ، واختلال حياة الناس .
7- تقصير الأمل وحفظ الوقت :
إن من أخطر الأبواب التي يدخل منها الشيطان على العبد : طول الأمل ، والأماني الخادعة التي تجعل صاحبها في غفلة شديدة عن الآخرة ، واغترار بزينة الحياة الدنيا ، وتضييع ساعات العمر النفيسة في اللهث وراءها حتى يأتي الأجل الذي يقطع هذه الآمال، وتذهب النفس حسرات على ما فرطت في عمرها، وأضاعت من أوقاتها . ولكن اليقين بالرجوع إلى الله عز وجل والتذكر الدائم لقصر الحياة وأبدية الآخرة وبقائها ، هو العلاج الناجع لطول الأمل وضياع الأوقات .
يقول ابن قدامة رحمة الله : (واعلم أن السبب في طول الأمل شيئان :
أحدهما : حب الدنيا ، والثاني : الجهل .
أما حب الدنيا : فإن الإنسان إذا أنس بها وبشهواتها ولذاتها وعلائقها ، ثقل على قلبه مفارقتها ، فامتنع من الفكر في الموت ، الذي هو سبب مفارقتها ، وكل من كره شيئاً دفعه عن نفسه .
السبب الثاني : الجهل ، وهو أن الإنسان يعول على شبابه ، ويستبعد قرب الموت مع الشباب ، أو ليس يتفكر المسكين في أن مشايخ بلده لو عدوا كانوا أقل من العشرة ؟ وإنما قلوا لأن الموت في الشباب أكثر ، وإلى أن يموت شيخ قد يموت ألف صبي وشاب ، وقد يغتر بصحته ، ولا يدري أن الموت يأتي فجأة ، وإن استبعد ذلك) [2] .
8- سلامة التفكير وانضباط الموازين وسمو الأخلاق :
لا يستوي من يؤمن بالله واليوم الآخر ويوقن بيوم الحساب والجزاء ولا يغفل عنه ، ومن لا يؤمن بالآخرة ، أو يؤمن بها ولكنه في لهو وغفلة عنها ، لا يستويان أبداً في الدنيا ولا في الآخرة ، أما في الآخرة فيوضحه قوله تعالى : (لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الجَنَّةِ أَصْحَابُ الجَنَّةِ هُمُ الفَائِزُونَ) [الحشر : 20] .
وأما في الحياة الدنيا فلا يلتقي أبداً من يعلم أن له غاية عظيمة في هذا الحياة، وأن مرده إلى الله عز وجل في يوم الجزاء والحساب والنشور، مع من لا يعلم من هذه الحياة الدنيا إلا ظاهرها، وأنها كل شيء عنده ، وهو عن الآخرة من الغافلين .
إنهما لا يلتقيان في التفكير ، ولا في الميزان الذي توزن به الأشياء والأحداث، ولا في الأحكام ، وبالتالي : فبقدر ما تسمو أخلاق الأول وتعلو همته لسمو منهجه وميزانه بقدر ما تسفل وترذل أخلاق الآخر لسفالة تصوره وفساد ميزانه .
قال تعالى في وصف أهل الدنيا : (يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ)
[الروم : 7] .
9- الفوز برضا الله (سبحانه) وجنته ، والنجاة من سخطه والنار :
وهذه ثمرة الثمار ، وغاية الغايات ، ومسك الختام في مبحث الثمار ، قال تعالى: ) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ وَإنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إلاَّ مَتَاعُ الغُرُورِ) [آل عمران : 185] .
يقول الشيخ السعدي رحمه الله تعالى عند قوله تعالى : (فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ) : (أي : حصل له الفوز العظيم بالنجاة من العذاب الأليم ، والوصول إلى جنات النعيم ، التي فيها : مالا عين رأت ، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر؛ ومفهوم الآية : أن من لم يزحزح عن النار ، ويدخل الجنة ، فإنه لم يفز ، بل قد شقي الشقاء الأبدي ، وابتلي بالعذاب السرمدي ، وفي هذه الآية إشارة لطيفة إلى نعيم البرزخ وعذابه ، وأن العاملين يجزون فيه بعض الجزاء مما عملوه ، ويقدم لهم أنموذج مما أسلفوه) [3] .(/5)
اللهم إنا نسألك بأن لك الحمد ، أنت المنان ، بديع السموات والأرض ، يا ذا الجلال والإكرام ، نسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل ، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل ، ونسألك أن لا تجعل الدنيا أكبر همنا ، ولا مبلغ علمنا ، يا حي يا قيوم ، يا أرحم الراحمين .
________________________
(1) اليوم الآخر في ظلال القرآن ، ص6 .
(2) مختصر منهاج القاصدين ، ص367 368 .
(3) تفسير السعدي ، ج1 ص 467 468 .
مجلة البيان :العدد : (99) التاريخ : ذو القعدة / 1416هـ .(/6)
من ثمرات اليقين باليوم الآخر.. القسم الأول
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على نبينا وقدوتنا محمد ، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين ، أما بعد ..
لما كان الإيمان باليوم الآخر أحد أصول الإيمان الستة التي لا يصح إيمان مسلم بدونها .ولما لذلك الإيمان من أثر في حياة المسلم وطاعته لأوامر الله (عزو جل) واجتناب نواهيه ، ولما له من أثر في صلاح القلوب وصلاح الناس وسعادتهم في الدنيا والآخرة ، ولما في نسيان ذلك اليوم العظيم والغفلة عنه من خطر على حياة الناس ومصيرهم .. فلا غرابة إذن أن يرد ذكر هذا اليوم كثيراً في القرآن ، حتى لا تكاد تخلو منه صفحة من صفحاته .
وإذا كان الكتاب والسنة قد اهتما غاية الاهتمام بتفاصيل ذلك اليوم المشهود وبأحوال هذا النبأ العظيم ؛ فإنه من الحمق والجهل ألا نهتم بما اهتم به الوحيان .
إن أعظم قضية يجب أن ينشغل بها كل واحد منا هي : قضية وجوده وحياته والغاية منها ، وقضية مستقبله ومصيره وشقائه وسعادته ، فلا يجوز أن يتقدم ذلك شيء مهما كان ، فكل أمر دونه هين وكل خطب سواه حقير . وهل هناك أعظم وأفدح من أن يخسر الإنسان حياته وأهله ، ويخسر مع ذلك سعادته وسعادتهم ، فماذا يبقى بعد ذلك ؟ (قُلْ إنَّ الخَاسِرِينَ الَذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ القِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الخُسْرَانُ المُبِينُ) [الزمر : 15] .
وأهمية هذا الموضوع تتجلى فيما يلي :
1- انفتاح الدنيا الشديد على كثير من الناس في هذا الزمان وما صحب ذلك من مكر الليل والنهار بأساليب جديدة ودعايات خبيثة تزين الدنيا في أعين الناس وتصدهم عن الآخرة ، ومع ما كان عليه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم- من الإيمان والتقوى ، فقدكان يحذرهم من الاغترار بالدنيا وضرورة الاستعداد للآخرة ، مع أن الدنيا لم تنفتح عليهم مثل اليوم ، فلا شك ولا ريب أننا أحوج منهم بكثير إلى أن نتذكر الآخرة ويذكّر بعضنا بعضاً بعظمة شأنها وأهمية الاستعداد لها .
2- ركون كثير من الناس للدنيا ولقد ترتب على ذلك أن قست القلوب ، وتحجرت الأعين ، وهُجِرَ كتاب الله عز وجل، وإذا قرأ أحدنا القرآن قرأه بقلب لاهٍ ، فأنّى لمثل ذلك القلب أن يخشع لذكر الله ؟ وأنّى لعينيه أن تدمع خوفاً من الله ، وقد انعكس ذلك على الصلاة فقلّ الخاشعون والمطمئنون فيها .. والله المستعان .
3- لما في تذكر ذلك اليوم ومشاهده العظيمة من حث على العمل الصالح والمبادرة لفعل الخيرات وترك المنكرات ، بل ما تكاسل المتكاسلون في عمل الصالحات سواء الواجب منها والمسنون إلا بسبب الغفلة عن الآخرة والانشغال عنها، يقول تعالى في وصف عباده الصالحين : ( رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإقَامِ الصَلاةِ وَإيتَاءِ الزَّكَاةِ) [النور : 37].)أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ
سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لايَعْلَمُونَ إنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ)[الزمر : 9] .
4- لما ظهر في عصرنا اليوم من المشكلات المعقدة والأمراض المزمنة، التي نشأت عنها الأمراض النفسية المتنوعة من القلق والاكتئاب اللذين يؤديان غالباً إلى حياة يائسة، ومن أسباب ذلك: البعد عن الله تعالى ، وعن تذكر اليوم الآخر .
5- لما تميز به زماننا اليوم من كثرة المظالم في بعض المجتمعات واعتداء الناس بعضهم على بعض ، من أكلٍ لأموال غيرهم بدون وجه حق ، وكذلك النيل من الأعراض ، والحسد والتباغض ، والفرقة والاختلاف ، وبخاصة بين بعض الدعاة وطلبة العلم ، ولا شك أنه لا شيء مثل تذكر اليوم الآخر وتذكر الوقوف بين يدي الله عز وجل علاجاً لتلك الأمراض .
6- ولما كان الركون إلى الدنيا والغفلة عن الآخرة من أعظم الأسباب في وهن النفوس وضعفها كان لا بد من التذكير المستمر بذلك اليوم وما فيه من نعيم أو جحيم ، لأن في هذا التذكير أكبر الأثر في نشاط الهمم وعدم الاستسلام للوهن واليأس رجاء ثواب الله عز وجل وما أعده للمجاهدين في سبيله الداعين إليه .
7- ولما قلّ في برامج الدعوة والتربية الاعتناء بهذه الجانب العظيم من التربية مما له الأثر الكبير في الاستقامة على الجادة والدعوة إلى الله على بصيرة ، ولكن نرى من بعض المهتمين بالدعوة من يستهين بهذا الجانب العظيم حتى صار بعضهم يقلل من أثر التذكرة بالآخرة بقوله : إن هذا الأمر يغلب عليه الوعظ أو هذا مقال عاطفي وعظي… إلخ .. مع أن المتأمل لكتاب الله سبحانه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم يرى بجلاء جانب الوعظ بارزاً بالربط بين الدنيا والآخرة والثواب والعقاب .. نسأل الله أن يهدينا جميعاً وأن يوفقنا للاقتداء بالسنة والسير على نهجها .
الآثار المرجوة لليقين باليوم الآخر :(/1)
إن في اليقين باليوم الآخر وأنبائه العظيمة لآثاراً واضحة وثماراً طيبة ، لابد أن تظهر في قلب العبد وعلى لسانه وجوارحه ، وفي حياته كلها ، ولكن هذا اليقين وحده لا يكفي حتى ينضم إليه الصبر ومجاهدة الشهوات والعوائق ، لأن الواحد منا مع يقينه باليوم الآخر وأهواله يرى في حياته أن ثمرات هذا اليقين ضعيفة ، فلابد إذن من سبب لهذا الأمر، ويجلي هذه المسألة الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى فيقول :(فإن قلت كيف يجتمع التصديق الجازم الذي لا شك فيه بالمعاد والجنة والنار ويتخلف العمل ؟ وهل في الطباع البشرية أن يعلم العبد أنه مطلوب غداً إلى بين يدي بعض الملوك ليعاقبه أشد عقوبة ، أو يكرمه أتم كرامة ، ويبيت ساهياً غافلاً ! ولا يتذكر موقفه بين يدي الملك ، ولا يستعد له ، ولا يأخذ له أهبته ؟ ! .
قيل : هذا لعمر الله سؤال صحيح وارد على أكثر الخلق ؛ فاجتماع هذين الأمرين من أعجب الأشياء ، وهذا التخلف له عدة أسباب :
أحدهما : ضعف العلم ونقصان اليقين ، ومن ظن أن العلم لا يتفاوت ، فقوله من أفسد الأقوال وأبطلها . وقد سأل إبراهيم الخليل ربه أن يريه إحياء الموتى عياناً بعد علمه بقدرة الرب على ذلك ، ليزداد طمأنينة ، ويصير المعلوم غيباً شهادة .
وقد روى أحمد في مسنده عن النبي أنه قال : (ليس الخبر كالمعاينة) [1] .
فإذا اجتمع إلى ضعف العلم عدم استحضاره أو غيبته عن القلب في كثير من أوقاته أو أكثرها لاشتغاله بما يضاده ، وانضم إلى ذلك تغاضي الطبع ، وغلبات الهوى ، واستيلاء الشهوة ، وتسويل النفس ، وغرور الشيطان ، واستبطاء الوعد ، وطول الأمل ، ورقدة الغفلة ، وحب العاجلة ، ورخص التأويل ، وإلف العوائد ، فهناك لا يمسك الإيمان إلا الذي يمسك السموات والأرض أن تزولا ، وبهذا السبب يتفاوت الناس في الإيمان والأعمال ، حتى ينتهي إلى أدنى مثقال ذرة في القلب .
وجماع هذه الأسباب يرجع إلى ضعف البصيرة والصبر، ولهذا مدح الله سبحانه أهل الصبر واليقين ، وجعلهم أئمة الدين ، فقال تعالى : (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ) [السجدة : 24] [2] .
ذكر الثمرات المرجوة :
وبعد هذه المقدمة التي لا بد منها حول ثمرات اليقين بالنبأ العظيم نذكر ما تيسر من هذه الثمرات ، والله ولي التوفيق :
1- الإخلاص لله (عز وجل) والمتابعة للرسول :
إن الموقن بلقاء الله (عز وجل) يوم الفزع الأكبر، لا تلقاه إلا حريصاً على أعماله ، خائفاً من كل ما يحبطها من أنواع الشرك الأكبر أو الشرك الأصغر، حيث إن الشرك الأكبر يحبط جميع الأعمال ، فتصير هباءً منثوراً ، والشرك الأصغر يحبط العمل الذي حصل فيه هذا النوع من الشرك كيسير الرياء ، والعجب ، والمن ، وطلب الجاه والشرف في الدنيا، فكلما كان العبد موقناً بلقاء ربه كان منه الحرص الشديد على ألا تضيع منه أعماله الصالحة في موقف القيامة ، يوم أن يكون في أشد الأوقات حاجة إليها ؛ ولذلك فهو يجاهد نفسه بحماية أعماله في الدنيا بالإخلاص فيها لله تعالى لعل الله عز وجل أن ينفعه بها ، كما أن اليقين بالرجوع إلى الله عز وجل يجعل العبد في أعماله كلها متبعاً للرسول صلى الله عليه وسلم غير مبتدع ولامبدل ؛ لأن الله عز وجل لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً صواباً ، قال تعالى : (قُلْ إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إلَيَّ أَنَّمَا إلَهُكُمْ إلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو
لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) [الكهف : 110] .
2- الحذر من الدنيا والزهد فيها والصبر على شدائدها وطمأنينة القلب وسلامته :
إذا أكثر العبد ذكر الآخرة ، وكانت منه دائماً على بال ، فإن الزهد في الدنيا والحذر منها ومن فتنتها سيحلان في القلب ، وحينئذ لا يكترث بزهرتها ، ولا يحزن على فواتها ، ولا يمدن عينيه إلى ما متع الله به بعض عباده من نعم ليفتنهم فيها ، وهذه الثمرة يتولد عنها بدورها ثمار أخرى مباركة طيبة منها : القناعة ، وسلامة القلب من الحرص والحسد والغل والشحناء ؛ لأن الذي يعيش بتفكيره في الآخرة وأنبائها العظيمة لا تهمه الدنيا الضيقة المحدودة ، مع ملاحظة أن إيمان المسلم باليوم الآخر وزهده في الدنيا لا يعني انقطاعه عنها وعدم ابتغاء الرزق في أكنافها ؛ يقول تعالى : ( وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ) [القصص : 77] .(/2)
كما يتولد أيضا من هذا الشعور ، الراحة النفسية والسعادة القلبية وقوة الاحتمال والصبر على الشدائد والابتلاءات، ذلك للرجاء فيما عند الله عز وجل من الأجر والثواب، وأنه مهما جاء من شدائد الدنيا فهي منقطعة ولها أجل ، فهو ينتظر الفرج ويرجو الثواب الذي لا ينقطع يوم الرجوع إلى الله عز وجل ، قال تعالى : (إن تَكُونُوا تَاًلَمُونَ فَإنَّهُمْ يَاًلَمُونَ كََمَا تَاًلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ) [النساء : 104] وما إن يفقد القلب هذه المعاني حتى يخيم عليه الهم والتعاسة ، ومن هنا ينشأ القلق والانزعاج والضيق والحزن ، أما ذاك الذي عرف الدنيا على حقيقتها ، وامتلأ قلبه بهمّ الآخرة وأنبائها ، فإن نفسه لا تذهب على الدنيا حسرات ، ولا تنقطع نفسه لهثاً في طلبها، ولا يأكل قلبه الغل والحسد والتنافس فيها، ولا يقل صبره ولا يجزع قلبه عند المحن والشدائد، ومهما حرم في هذه الدنيا الفانية فهو يعلم أن لله عز وجل في ذلك الحكمة البالغة، وهو يرجو الأجر يوم القيامة ، قال تعالى : (وَلَوْلا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفا وَإن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ) [الزخرف : 33- 35] .
3- التزود بالأعمال الصالحة وأنواع القربات واجتناب المعاصي والمبادرة بالتوبة والاستغفار :
يقول الإمام ابن القيم (رحمه الله تعالى) : (ومما ينبغي أن من رجا شيئاً استلزم رجاؤه ثلاثة أمور :
أحدهما : محبة ما يرجوه .
الثاني : خوفه من فواته .
الثالث : سعيه في تحصيله بحسب الإمكان .
وأما رجاءٌ لا يقارنه شيء من ذلك فهو من باب الأماني ، والرجاء شيء والأماني شيء آخر ، فكل راجٍ خائف ، والسائر على الطريق إذا خاف أسرع السير مخافة الفوات .
وفي جامع الترمذي من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله (من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل ، ألا إن سلعة الله غالية ، ألا إن سلعة الله الجنة) [3]
وهو سبحانه كما جعل الرجاء لأهل الأعمال الصالحة ، فكذلك جعل الخوف لأهل الأعمال الصالحة ، فعلم أن الرجاء والخوف النافع ما اقترن به العمل ، قال تعالى : (إنَّ الَذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ ) [المؤمنون : 57- 61] .
وقد روى الترمذي في جامعه عن عائشة رضي الله عنها قالت : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية ، فقلت : أهم الذين يشربون الخمر ويزنون ويسرقون ؟ قال : (لا ، يا ابنة الصديق ، ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون ويخافون أن لا يتقبل منهم ، أولئك يسارعون في الخيرات) [4] وقد روي من حديث أبي هريرة أيضاً .
والله (سبحانه) وصف أهل السعادة بالإحسان مع الخوف ، ووصف الأشقياء
بالإساءة مع الأمن) [5] .
وقال تعالى: (إنَّ الَذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) [البقرة : 218] .
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى : (فتأمل كيف جعل رجاءهم إتيانهم بهذه الطاعات ؟ وقال المغرورون : إن المفرطين المضيعين لحقوق الله المعطلين لأوامره الباغين المتجرئين على محارمه ، أولئك يرجون رحمة الله) [6] . للحديث صلة .
_______________
(1) أحمد، ج1ص215 ، 271 وصحح إسناده أحمد شاكر (1842) .
(2) الجواب الكافي، ص 54 .
(3) رواه الترمذي، كتاب صفة القيامة، باب 18 الحديث رقم 2450 وانظر صحيح سنن الترمذي (1993) .
(4) رواه أحمد ، ج6ص159، والترمذي (كتاب التفسير) باب تفسير سورة المؤمنون، ح 3175 .
(5) الجواب الكافي، ص 57 ، 58 .
(6) الجواب الكافي، ص 56 .
مجلة البيان : العدد : ( 98 ) التاريخ : شوال /1416هـ .(/3)
من جوانب الاقتداء بهدي الأنبياء عليهم الصلاة والسلام
في مقال سابق بيّنت أهمية معرفة حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وهديهم ؛ وذلك لأخذ العبر العظيمة، والاقتداء بهم ، والتعزي بما أصابهم ، والحصول على الفوز في الدنيا والآخرة باتباعهم .
وسيكون التركيز في هذا المقال إن شاء الله تعالى بالوقوف على ثلاثة جوانب عظيمة من حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، هي في نظري من أهم جوانب الاقتداء بهم عليهم الصلاة والسلام ، وهي كما يلي :
أولاً: من هديهم عليهم الصلاة والسلام في قوة العلم بالله تعالى، وأثر ذلك في صدق الإيمان وكمال التوحيد وقوة العبادة.
ثانياً: من هديهم عليهم الصلاة والسلام في الأخلاق والسلوك.
ثالثاً: من هديهم عليهم الصلاة والسلام في الدعوة والتبليغ.
وسيكون تحت كل جانب من هذه الجوانب الثلاثة تقسيمات أخرى تفصّل فيها بعض الصور والأمثلة الداخلة تحت كل جانب ، مع محاولة الربط ما أمكن بواقعنا نحن المسلمين اليوم ، وبخاصة ما يتعلق بالدعوة والدعاة في هذا العصر ، موضحاً من خلال هذا الربط مدى قربنا أو بعدنا من هذا الهدي الكريم في كل جانب من الجوانب الآنفة الذكر من حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وهذا هو جهد المقل ؛ فما وجدته أخي الكريم من صواب وحق فهو من الله عز وجل، وما وجدت فيه من خطأ وخلل فمني ومن الشيطان، فإلى تفصيل ما أشير إليه آنفاً .
الجانب الأول : من هديهم في قوة العلم بالله عز وجل، وأثر ذلك في صدق الإيمان وكمال التوحيد :
إن أعلم الناس بالله عز وجل هم أنبياؤه ورسله عليهم الصلاة والسلام، وهذا العلم به سبحانه وبأسمائه وصفاته العلا هو الذي أوجد هذه الخشية العظيمة والإيمان الصادق والتوحيد الكامل لله عز وجل ؛ لأنه كلما كان العبد أعلم وأعرف بربه سبحانه كلما كان أشد خوفاً وتعظيماً وعبادة ومحبة وإخلاصاً له ، والعكس بالعكس .
وإن مما اختص الله سبحانه به رسله ، ومما منّ به عليهم : تكميل هذا العلم العظيم في نفوسهم، والذي هو أشرف العلوم وأزكاها .
وإن المسلم مأمور بطلب هذا العلم الشريف قدر استطاعته اقتداءً بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام؛ ولو أنه لن يصل إلى علمهم ولا إيمانهم ، لكنه بذلك يقترب منهم ويسعد بثمار هذا العلم العظيم في قلبه وسلوكه وحياته كلها .
ومن الأدلة على شرف هذا العلم ما يلي :
قول الله تعالى :عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام في دعوته لأبيه : ((يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً)) (مريم : 43) .
وقوله تعالى عن يعقوب عليه الصلاة والسلام : ((وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ )) (يوسف : 68)
وقوله تعالى عن يعقوب عليه الصلاة والسلام : ((قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ)) (يوسف : 96) . .
وقوله تعالى عن نوح عليه الصلاة والسلام أنه قال لقومه :((أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ)) (الأعراف : 62) .
وهذا موسى عليه الصلاة والسلام ، مع ما آتاه الله عز وجل من العلم العظيم ، فإنه لم يكتف به، وإنما طلب المزيد .. وقصة سفره (عليه الصلاة والسلام) إلى الخضر عليه السلام ليتعلم منه معروفة ، وقد قصها الله (عز وجل) علينا في كتابه الكريم ، والشاهد منها قوله تعالى : ((قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً)) (الكهف : 66) .
وللشيخ السعدي رحمه الله تعالى عند هذه القصة كلام نفيس ، فليرجع إليه .
وقوله تعالى لنبيه محمد : ((قُلْ إنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبْتُم بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إنِ الحُكْمُ إلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الفَاصِلِينَ)) (الأنعام : 57) .
وقوله عن نفسه عندما تنزه بعض الصحابة عن شيء رخص فيه الرسول ، فُبلِّغ ذلك إليه ، فخطب ، فحمد الله ، ثم قال : (( ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه ؟ ! ، فو الله إني لأعلمهم بالله ، وأشدهم له خشية)) [1].
الآثار على نفوس الأنبياء : وبعد سرد هذه الأدلة والتي هي على سبيل المثال لا الحصر نأتي الآن إلى أثر هذه البينات العظيمة في نفوس الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، الناشئة عن هذا العلم الشريف بالله عز وجل وبأسمائه الحسنى وصفاته العلا ، لعلنا نهتدي بهذه الآثار الإيمانية المباركة ونسعى للتأسي بهم .
ومن هذه الآثار ما يلي :
أولاً : شدة تعظيمهم لله عز وجل وخوفهم منه :(/1)
فعلى الرغم من اصطفاء الله سبحانه لهم وحبه لهم وقربهم منه .. فإن هذه المزايا لم تزدهم لربهم إلا تعظيماً، ومحبة ، وخوفاً منه سبحانه، وخشية . وهذه سنة الله سبحانه ؛ فكلما ازداد العبد معرفة بربه كلما عظّمه في نفسه ، وخاف منه سبحانه خوف المحب لحبيبه ؛ خوفاً يقرب إلى الله عز وجل، وخوفاً يهضم العبد عنده نفسه ويحقرها ولا يرى لها فضلاً ولا طوعاً، وإنما يراها أهلاً للظلم والخطيئة والضعف ، إن لم يوفق الله تعالى صاحبها ويعينه عليها .
وهكذا كان شأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، والأمثلة في ذلك كثيرة ،
منها : مناجاة نوح عليه الصلاة والسلام لربه بشأن ابنه : وقد جاء ذلك في قصة نوح مع قومه في سورة هود ، حيث يقول الله تعالى : ((وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإنَّ وَعْدَكَ الحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الجَاهِلِينَ * قَالَ رَبِّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وإلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الخَاسِرِين)) (هود : 45-47) .
ويظهر من هذه الآيات علم نوح عليه الصلاة والسلام بربه عز وجل ،والذي أثمر عنده هذا الأدب العظيم مع ربه والخوف منه سبحانه ؛ فتراه وهو يدعو ربه بشأن ابنه الهالك مع الكافرين يختم دعاءه بقوله : ((وَأَنتَ أَحْكَمُ الحَاكِمِينَ)).
ولم يقل : وأنت أرحم الراحمين، وهذا من كمال علمه عليه الصلاة والسلام بأسماء الله البالغة التي اقتضت أن يكون ابن نوح مع الهالكين ولم يكن مع الناجين ، ولذلك : ختم نوح عليه السلام دعاءه بقوله : ((وَأَنتَ أَحْكَمُ الحَاكِمِين)) . كما يظهر في هذه المناجاة خوف نوح عليه السلام من ربه ، واتهامه لنفسه بالظلم ، وطلبه المغفرة من ربه سبحانه ؛ وذلك في قوله :
((وإلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الخَاسِرِينَ)) .. الله أكبر ! ، هذا نوح عليه السلام الذي أمضى مئات السنين في دعوة قومه ، وصبر وصابر ، وناله من الأذى والاستهزاء الشيء العظيم ، ومع ذلك يختم دعوته بطلب المغفرة والرحمة من ربه سبحانه:((رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إلاَّ تَبَاراً)) (نوح : 28)
فماذا نقول نحن المفرطين الظالمين الجاهلين ؟! .. سبحانك قد ظلمنا أنفسنا ظلماً كثيراً ، وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
هذا إمام الحنفاء وخليل الرحمن يخاف من ذنوبه ويسأل ربه المغفرة والستر، ويطلب من ربه سبحانه أن يلحقه بالصالحين ، وكأنه ليس منهم !! .
يقول الله تعالى:((وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ * رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ * وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ * وَاجْعَلْنِي مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ * وَاغْفِرْ لأَبِي إنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ * وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)) (الشعراء : 82 -89 ) .
إذن : فما حالنا نحن المقصرين ؟ ، ماذا عسانا أن نقول ؟ ! ، إنه ليس أمامنا إلا أن نحذو حذو هذا الركب المبارك المطهر ونقول ما أوصى به الرسول أبا بكر
الصديق رضي الله عنه عندما سأله أن يعلمه دعاءً يدعو به في صلاته ، فقال : ((قل:اللّهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، ولا يغفر الذنوب إلا أنت ، فاغفر لي مغفرة من عندك ، وارحمني ،إنك أنت الغفور الرحيم)) [2].
تعظيم نبينا محمد لربه سبحانه وخوفه منه :
ونختم هذه الأمثلة من تعظيم الأنبياء لربهم سبحانه وخوفهم منه ببعض الشواهد من تعظيم نبينا محمد لربه وخوفه منه، مع أنه سيد المرسلين ، وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر .. ولا غرابة في ذلك ؛ فهو كما قال عن نفسه : ((فوالله إني لأعلمهم بالله ، وأشدهم له خشية)) [3] . ومما ورد عنه في هذا الشأن :
عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ، ولبكيتم كثيراً)) [4] ؛ ولذلك : ما رؤي رسول الله صلى الله عليه وسلم مستجمعاً ضاحكاً قط ؛ إنما كان يتبسم .(/2)
عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عصفت الريح قال : ((اللّهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به ، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به)) ، قالت : وإذ تخيّلت السماء تغير لونه ، وخرج ودخل ، وأقبل وأدبر ، فإذا أمطرت سُرّي عنه ، فعرفت ذلك عائشة ؛ فسألته ، فقال : لعله يا عائشة كما قال قوم عاد :(( فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ )) [5].
عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه وهم يختصمون في القَدَر ، فكأنما يفقأ في وجهه حب الرمان من الغضب ، فقال : ((بهذا أمرتم ؟ ، أو لهذا خلقتم ؟ ، تضربون القرآن بعضه ببعض. بهذا هلكت الأمم قبلكم)) [6].
ثانياً : كثرة ذكرهم لله عز وجل وشدة تضرعهم ودعائهم له سبحانه مع قوة عبادتهم :
وهذا الجانب من هديهم عليهم الصلاة والسلام ثمرة من ثمار الإيمان الصادق والتوحيد الكامل النابعين من كمال حبهم لله عز وجل وتعظيمهم له ، والمتأمل في هذا الجانب من هديهم ليأخذه العجب والإجلال والحب الخالص لهذه الصفوة المختارة من عباد الله ، وهو يرى إخباتهم لربهم سبحانه وكثرة ذكرهم له ، وتضرعهم ودعاءهم المتواصل لربهم ، مع كثرة عبادتهم وطولها وتنوعها.. كل ذلك وهم أولياء الله وأنبياؤه وصفوته من خلقه ، وإن في هذا الهدي لعبرة لمن هو دونهم ممن يحسب نفسه من الدعاة المتبعين لهم . نعم ..إن في ذلك لعبرة لمن جاء بعدهم من المحبين لهم في أن يولوا هذا الجانب حقه ، وأن يقتدوا بهؤلاء المصطفين الأخيار في كثرة ذكرهم لله عز وجل ، وكثرة دعائهم وتضرعهم وعبادتهم له سبحانه مع ما هم فيه من هم الدعوة والجهاد والانشغال في أمر هذا الدين في الليل والنهار ، ولكن كل ذلك لم يشغلهم عن الخلوة بربهم سبحانه والتفرغ لذكره ودعائه
وعبادته .
وفي هذا رد على ما قد يتذرع به بعضنا إذا نبه إلى هذا الجانب المهم في حياة الداعية من التذرع بضيق الوقت وكثرة المشاغل وتعب الجسد وإجهاده في طلب العلم والدعوة إلى الله عز وجل، فيدخل الشيطان إلى النفس من هذا الباب باب التفريط فيجد الداعية نفسه وقد أهملها في أعظم رافد له في دعوته وأكبر زاد له في طريقه إلى الله .. وأورد الآن نماذج من هذا الهدي المبارك ، لعلها أن تشحذ الهمم وتقوي العزائم ، ولعلها في الوقت نفسه أن تطامن منا بعض النفوس التي أصابها داء العجب؛ فتشعر وهي تقرأ هذه النماذج بأنها لا زالت مقصرة ومفرطة في جنب الله ، فيحصل مقت النفس في ذات الله عز وجل واحتقارها ؛ الاحتقار الذي يؤدي مع الاستعانة بالله عز وجل إلى علاجها ويقظتها.
ومن هذه النماذج ما يلي :
* تضرعهم عليهم الصلاة والسلام إلى ربهم سبحانه وسؤاله قضاء حوائجهم :
ذكر الله عز وجل في آخر سورة الأنبياء مجموعة من أنبيائه ورسله عليهم الصلاة والسلام، وهم يسألون ربهم ويتضرعون إليه في قضاء حوائجهم، ويتوسلون إلى الله عز وجل بأسمائه وصفاته، كما يتوسلون بفاقتهم وافتقارهم إلى الله عز وجل. ومن ذلك قول الله تعالى : ((وَأَيُّوبَ إذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ)) (الأنبياء : 83- 84 ) .
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى معلقاً على هذا الدعاء الخاشع من أيوب عليه الصلاة والسلام) : (جمع في هذا الدعاء بين حقيقة التوحيد وإظهار الفقر والفاقة إلى ربه ووجود طعم المحبة في التملق له ، والإقرار له بصفة الرحمة وأنه أرحم الراحمين ، والتوسل إليه بصفاته سبحانه، وشدة حاجته هو وفقره ، ومتى وجد المبتلى هذا كشفت عنه بلواه) [7].
وفي قوله تعالى : ((وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ)) أي : إن في صبر أيوب عليه الصلاة والسلام ودعائه عبرة للعابدين من بعده ؛ ليقتدوا بصبره وعبادته ودعائه ويقينه .
* خشوعهم وبكاؤهم عند ذكر الله عز وجل:
فبعد أن ذكر الله عز وجل مجموعة من الأنبياء في سورة مريم أثنى عليهم بقوله تعالى : ((أُوْلَئِكَ الَذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إبْرَاهِيمَ وَإسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِياً )) )مريم : 58).(/3)
يقول الشيخ السعدي رحمه الله تعالى عند هذه الآية : فهذه خير بيوت العالم اصطفاهم الله ، واختارهم واجتباهم، وكان لهم عند تلاوة آيات الرحمن عليهم ، المتضمنة للإخبار بالغيوب ، وصفات علام الغيوب، والإخبار باليوم الآخر، والوعد والوعيد .
((خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِياً)) أي : خضعوا لآيات الله ، وخضعوا لها، وأثرت في قلوبهم من الإيمان والرغبة والرهبة ما أوجب لهم البكاء والإنابة، والسجود
لربهم ) [8] .
وقوله تعالى عن يوسف عليه الصلاة والسلام أنه قال :((رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ المُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَاًوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ)) (يوسف : 101 ) .
يقول السعدي رحمه الله تعالى عند هذه الآية : (ينبغي للعبد أن يتضرع إلى الله دائماً في تثبيت إيمانه) .
ويقول ابن القيم رحمه الله تعالى عند هذه الآية أيضاً : (جمعت هذه الدعوة : الإقرار بالتوحيد ، والاستسلام للرب ، وإظهار الافتقار إليه ، والبراءة من موالاة غير الله سبحانه، وكون الوفاة على الإسلام أجل غايات العبد ، وأن ذلك بيد الله لا بيد العبد ، والاعتراف بالمعاد ، وطلب مرافقة السعداء) [9] .
وأختم هذه الأدعية النبوية بذلك الدعاء الذي كثيراً ما كان يلهج به الرسول ويردده ؛ فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول : ((يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك)) ، فقلت : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد آمنا بك وبما جئت به ، فهل تخاف علينا ؟ ، قال : ((نعم، إن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء)) [10].
فإذا كان هذا هو حال أنبياء الله عز وجل وصفوته من خلقه فحري بمن
دونهم أن يخاف على نفسه من سوء الخاتمة ، فمن ذا الذي يأمن الفتنة بعد أنبياء الله عز وجل ؟
* القوة في طاعة الله تعالى وعبادته :
هذه الصفة العظيمة من أبرز ما في حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، حيث إنهم أكثر الناس عبادة وصلاة وإخباتاً لله عز وجل ، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى عند قوله تعالى :((وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ)) (ص : 45)
وعن عطاء الخراساني : ((أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ))، قال : أولو القوة في العبادة والعلم بأمر الله ، وعن مجاهد
وروي عن قتادة قال :( أعطوا قوة في العبادة وبصراً في الدين)) [11].
والشواهد في ذكر عبادة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كثيرة، منها :
قوله تعالى على لسان إبراهيم عليه الصلاة والسلام : ((رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ)) (ابراهيم : 40) .
وقوله تعالى في مدح إسماعيل عليه الصلاة والسلام : ((وَكَانَ يَاًمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عَندَ رَبِّهِ مَرْضِياً)) (مريم : 55) .
وقوله تعالى في مدح إسحاق ويعقوب : ((وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إلَيْهِمْ فِعْلَ الخَيْرَاتِ وَإقَامَ الصَّلاةِ وَإيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِين)) (الأنبياء : 73) .
أما عن نبينا محمد وكثرة عبادته وقوته فيها فهي كثيرة جدّاً ، مع أنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ..ولا غرابة في ذلك ؛ فهو الذي امتلأ قلبه معرفة بربه سبحانه وحبّاً وتعظيماً له ، وهو الذي قال له ربه سبحانه : ((يَا أَيُّهَا المُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إلاَّ قَلِيلاً * نِّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ القُرْآنَ تَرْتِيلاً)) (المزمل : 1- 4).
وهو الذي قال له ربه عز وجل : ((وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً)) (الإنسان : 26).
وقال له : ((فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِياً)) (مريم : 65)، وأكتفي بشاهد من أحواله الكثيرة في عبادته وقوته فيها :
فعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال : قام النبي حتى تورمت قدماه ، فقيل له : قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ، قال : ((أفلا أكون عبداً شكوراً ؟ !)) [12].
وأخيراً : فهذه أحوال المصطفين الأخيار من أنبياء الله عز وجل ، وما سبق ذكره إن هو إلا جانب يسير وغيض من فيض من صلتهم بالله عز وجل ، ذكراً وتسبيحاً ودعاءً وصلاة ، فهل من مشمر للأخذ بهديهم كما أمر الله عز وجل ((فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ )) ؟ ، وهل بقي مجال لأحد أن يعتذر بكثرة المشاغل الدعوية وطلبىالعلم في التفريط في هذا الزاد العظيم ؟ .
وتبقى مسألة مهمة تبرز للمتأمل في تلك الكلمات والجُمل العطرة الجامعة ، والتي تتألف منها أذكارهم وأدعيتهم عليهم الصلاة والسلام، ألا وهي : تجريد التوحيد لله عز وجل وإخلاص العبادة له وحده .(/4)
فهل بقي عذر لمن يتوجه إلى الأنبياء أو غيرهم في جلب نفع أو دفع ضر ، وهذا هو شأنهم مع ربهم في دعائهم له ؟ .
________
[1] البخاري ، ح/6101 ، ك/ الأدب ، ومسلم ، ح/2356 ، ك/ الفضائل
[2] البخاري ، ح/834 ، ك/ الأذان ، ومسلم ، ح/2705 ، ك/ الذكر والدعاء .
[3] البخاري ، ح/6101 ، ك/ الأدب ، ومسلم ، ح/2356 ، ك/ الفضائل .
[4] البخاري ، ح/6486 ، ك/ الرقاق ، ومسلم ، ح/2359 ، ك/ الفضائل .
[5] رواه مسلم ، ك/ الاستسقاء ، باب التعوذ عند رؤية الريح والغيم ، ح/ 899
[6] صحيح سنن ابن ماجة ، ح/ 69 ، 1/21 .
[7] بدائع التفسير ، 3/189 .
[8] تفسير السعدي ، 3/209 .
[9] بدائع التفسير ، 2/476 .
[10] الترمذي ، ح/2141 ، في القدر ، وقال : حسن صحيح .
[11] مجموع الفتاوى ، 19/170
[12] مسلم ، ح/ 772 ، ك/ صلاة المسافرين .(/5)
من جوانب الاقتداء بهدي الأنبياء عليهم الصلاة والسلام
في مقال سابق بيّنت أهمية معرفة حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وهديهم ؛ وذلك لأخذ العبر العظيمة، والاقتداء بهم ، والتعزي بما أصابهم ، والحصول على الفوز في الدنيا والآخرة باتباعهم .
وسيكون التركيز في هذا المقال إن شاء الله تعالى بالوقوف على ثلاثة جوانب عظيمة من حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، هي في نظري من أهم جوانب الاقتداء بهم عليهم الصلاة والسلام ، وهي كما يلي :
أولاً: من هديهم عليهم الصلاة والسلام في قوة العلم بالله تعالى، وأثر ذلك في صدق الإيمان وكمال التوحيد وقوة العبادة.
ثانياً: من هديهم عليهم الصلاة والسلام في الأخلاق والسلوك.
ثالثاً: من هديهم عليهم الصلاة والسلام في الدعوة والتبليغ.
وسيكون تحت كل جانب من هذه الجوانب الثلاثة تقسيمات أخرى تفصّل فيها بعض الصور والأمثلة الداخلة تحت كل جانب ، مع محاولة الربط ما أمكن بواقعنا نحن المسلمين اليوم ، وبخاصة ما يتعلق بالدعوة والدعاة في هذا العصر ، موضحاً من خلال هذا الربط مدى قربنا أو بعدنا من هذا الهدي الكريم في كل جانب من الجوانب الآنفة الذكر من حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وهذا هو جهد المقل ؛ فما وجدته أخي الكريم من صواب وحق فهو من الله عز وجل، وما وجدت فيه من خطأ وخلل فمني ومن الشيطان، فإلى تفصيل ما أشير إليه آنفاً .
الجانب الأول : من هديهم في قوة العلم بالله عز وجل، وأثر ذلك في صدق الإيمان وكمال التوحيد :
إن أعلم الناس بالله عز وجل هم أنبياؤه ورسله عليهم الصلاة والسلام، وهذا العلم به سبحانه وبأسمائه وصفاته العلا هو الذي أوجد هذه الخشية العظيمة والإيمان الصادق والتوحيد الكامل لله عز وجل ؛ لأنه كلما كان العبد أعلم وأعرف بربه سبحانه كلما كان أشد خوفاً وتعظيماً وعبادة ومحبة وإخلاصاً له ، والعكس بالعكس .
وإن مما اختص الله سبحانه به رسله ، ومما منّ به عليهم : تكميل هذا العلم العظيم في نفوسهم، والذي هو أشرف العلوم وأزكاها .
وإن المسلم مأمور بطلب هذا العلم الشريف قدر استطاعته اقتداءً بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام؛ ولو أنه لن يصل إلى علمهم ولا إيمانهم ، لكنه بذلك يقترب منهم ويسعد بثمار هذا العلم العظيم في قلبه وسلوكه وحياته كلها .
ومن الأدلة على شرف هذا العلم ما يلي :
قول الله تعالى :عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام في دعوته لأبيه : ((يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً)) (مريم : 43) .
وقوله تعالى عن يعقوب عليه الصلاة والسلام : ((وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ )) (يوسف : 68)
وقوله تعالى عن يعقوب عليه الصلاة والسلام : ((قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ)) (يوسف : 96) . .
وقوله تعالى عن نوح عليه الصلاة والسلام أنه قال لقومه :((أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ)) (الأعراف : 62) .
وهذا موسى عليه الصلاة والسلام ، مع ما آتاه الله عز وجل من العلم العظيم ، فإنه لم يكتف به، وإنما طلب المزيد .. وقصة سفره (عليه الصلاة والسلام) إلى الخضر عليه السلام ليتعلم منه معروفة ، وقد قصها الله (عز وجل) علينا في كتابه الكريم ، والشاهد منها قوله تعالى : ((قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً)) (الكهف : 66) .
وللشيخ السعدي رحمه الله تعالى عند هذه القصة كلام نفيس ، فليرجع إليه .
وقوله تعالى لنبيه محمد : ((قُلْ إنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبْتُم بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إنِ الحُكْمُ إلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الفَاصِلِينَ)) (الأنعام : 57) .
وقوله عن نفسه عندما تنزه بعض الصحابة عن شيء رخص فيه الرسول ، فُبلِّغ ذلك إليه ، فخطب ، فحمد الله ، ثم قال : (( ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه ؟ ! ، فو الله إني لأعلمهم بالله ، وأشدهم له خشية))[1].
الآثار على نفوس الأنبياء : وبعد سرد هذه الأدلة والتي هي على سبيل المثال لا الحصر نأتي الآن إلى أثر هذه البينات العظيمة في نفوس الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، الناشئة عن هذا العلم الشريف بالله عز وجل وبأسمائه الحسنى وصفاته العلا ، لعلنا نهتدي بهذه الآثار الإيمانية المباركة ونسعى للتأسي بهم .
ومن هذه الآثار ما يلي :
أولاً : شدة تعظيمهم لله عز وجل وخوفهم منه :(/1)
فعلى الرغم من اصطفاء الله سبحانه لهم وحبه لهم وقربهم منه .. فإن هذه المزايا لم تزدهم لربهم إلا تعظيماً، ومحبة ، وخوفاً منه سبحانه، وخشية . وهذه سنة الله سبحانه ؛ فكلما ازداد العبد معرفة بربه كلما عظّمه في نفسه ، وخاف منه سبحانه خوف المحب لحبيبه ؛ خوفاً يقرب إلى الله عز وجل، وخوفاً يهضم العبد عنده نفسه ويحقرها ولا يرى لها فضلاً ولا طوعاً، وإنما يراها أهلاً للظلم والخطيئة والضعف ، إن لم يوفق الله تعالى صاحبها ويعينه عليها .
وهكذا كان شأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، والأمثلة في ذلك كثيرة ،
منها : مناجاة نوح عليه الصلاة والسلام لربه بشأن ابنه : وقد جاء ذلك في قصة نوح مع قومه في سورة هود ، حيث يقول الله تعالى : ((وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإنَّ وَعْدَكَ الحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الجَاهِلِينَ * قَالَ رَبِّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وإلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الخَاسِرِين)) (هود : 45-47) .
ويظهر من هذه الآيات علم نوح عليه الصلاة والسلام بربه عز وجل ،والذي أثمر عنده هذا الأدب العظيم مع ربه والخوف منه سبحانه ؛ فتراه وهو يدعو ربه بشأن ابنه الهالك مع الكافرين يختم دعاءه بقوله : ((وَأَنتَ أَحْكَمُ الحَاكِمِينَ)).
ولم يقل : وأنت أرحم الراحمين، وهذا من كمال علمه عليه الصلاة والسلام بأسماء الله البالغة التي اقتضت أن يكون ابن نوح مع الهالكين ولم يكن مع الناجين ، ولذلك : ختم نوح عليه السلام دعاءه بقوله : ((وَأَنتَ أَحْكَمُ الحَاكِمِين)) . كما يظهر في هذه المناجاة خوف نوح عليه السلام من ربه ، واتهامه لنفسه بالظلم ، وطلبه المغفرة من ربه سبحانه ؛ وذلك في قوله :
((وإلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الخَاسِرِينَ)) .. الله أكبر ! ، هذا نوح عليه السلام الذي أمضى مئات السنين في دعوة قومه ، وصبر وصابر ، وناله من الأذى والاستهزاء الشيء العظيم ، ومع ذلك يختم دعوته بطلب المغفرة والرحمة من ربه سبحانه:((رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إلاَّ تَبَاراً)) (نوح : 28)
فماذا نقول نحن المفرطين الظالمين الجاهلين ؟! .. سبحانك قد ظلمنا أنفسنا ظلماً كثيراً ، وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
هذا إمام الحنفاء وخليل الرحمن يخاف من ذنوبه ويسأل ربه المغفرة والستر، ويطلب من ربه سبحانه أن يلحقه بالصالحين ، وكأنه ليس منهم !! .
يقول الله تعالى:((وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ * رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ * وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ * وَاجْعَلْنِي مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ * وَاغْفِرْ لأَبِي إنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ * وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)) (الشعراء : 82 -89 ) .
إذن : فما حالنا نحن المقصرين ؟ ، ماذا عسانا أن نقول ؟ ! ، إنه ليس أمامنا إلا أن نحذو حذو هذا الركب المبارك المطهر ونقول ما أوصى به الرسول أبا بكر
الصديق رضي الله عنه عندما سأله أن يعلمه دعاءً يدعو به في صلاته ، فقال : ((قل:اللّهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، ولا يغفر الذنوب إلا أنت ، فاغفر لي مغفرة من عندك ، وارحمني ،إنك أنت الغفور الرحيم))[2].
تعظيم نبينا محمد لربه سبحانه وخوفه منه :
ونختم هذه الأمثلة من تعظيم الأنبياء لربهم سبحانه وخوفهم منه ببعض الشواهد من تعظيم نبينا محمد لربه وخوفه منه، مع أنه سيد المرسلين ، وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر .. ولا غرابة في ذلك ؛ فهو كما قال عن نفسه : ((فوالله إني لأعلمهم بالله ، وأشدهم له خشية))[3] . ومما ورد عنه في هذا الشأن :
عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ، ولبكيتم كثيراً))[4] ؛ ولذلك : ما رؤي رسول الله صلى الله عليه وسلم مستجمعاً ضاحكاً قط ؛ إنما كان يتبسم .(/2)
عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عصفت الريح قال : ((اللّهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به ، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به)) ، قالت : وإذ تخيّلت السماء تغير لونه ، وخرج ودخل ، وأقبل وأدبر ، فإذا أمطرت سُرّي عنه ، فعرفت ذلك عائشة ؛ فسألته ، فقال : لعله يا عائشة كما قال قوم عاد :(( فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ )) [5].
عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه وهم يختصمون في القَدَر ، فكأنما يفقأ في وجهه حب الرمان من الغضب ، فقال : ((بهذا أمرتم ؟ ، أو لهذا خلقتم ؟ ، تضربون القرآن بعضه ببعض. بهذا هلكت الأمم قبلكم))[6].
ثانياً : كثرة ذكرهم لله عز وجل وشدة تضرعهم ودعائهم له سبحانه مع قوة عبادتهم :
وهذا الجانب من هديهم عليهم الصلاة والسلام ثمرة من ثمار الإيمان الصادق والتوحيد الكامل النابعين من كمال حبهم لله عز وجل وتعظيمهم له ، والمتأمل في هذا الجانب من هديهم ليأخذه العجب والإجلال والحب الخالص لهذه الصفوة المختارة من عباد الله ، وهو يرى إخباتهم لربهم سبحانه وكثرة ذكرهم له ، وتضرعهم ودعاءهم المتواصل لربهم ، مع كثرة عبادتهم وطولها وتنوعها.. كل ذلك وهم أولياء الله وأنبياؤه وصفوته من خلقه ، وإن في هذا الهدي لعبرة لمن هو دونهم ممن يحسب نفسه من الدعاة المتبعين لهم . نعم ..إن في ذلك لعبرة لمن جاء بعدهم من المحبين لهم في أن يولوا هذا الجانب حقه ، وأن يقتدوا بهؤلاء المصطفين الأخيار في كثرة ذكرهم لله عز وجل ، وكثرة دعائهم وتضرعهم وعبادتهم له سبحانه مع ما هم فيه من هم الدعوة والجهاد والانشغال في أمر هذا الدين في الليل والنهار ، ولكن كل ذلك لم يشغلهم عن الخلوة بربهم سبحانه والتفرغ لذكره ودعائه
وعبادته .
وفي هذا رد على ما قد يتذرع به بعضنا إذا نبه إلى هذا الجانب المهم في حياة الداعية من التذرع بضيق الوقت وكثرة المشاغل وتعب الجسد وإجهاده في طلب العلم والدعوة إلى الله عز وجل، فيدخل الشيطان إلى النفس من هذا الباب باب التفريط فيجد الداعية نفسه وقد أهملها في أعظم رافد له في دعوته وأكبر زاد له في طريقه إلى الله .. وأورد الآن نماذج من هذا الهدي المبارك ، لعلها أن تشحذ الهمم وتقوي العزائم ، ولعلها في الوقت نفسه أن تطامن منا بعض النفوس التي أصابها داء العجب؛ فتشعر وهي تقرأ هذه النماذج بأنها لا زالت مقصرة ومفرطة في جنب الله ، فيحصل مقت النفس في ذات الله عز وجل واحتقارها ؛ الاحتقار الذي يؤدي مع الاستعانة بالله عز وجل إلى علاجها ويقظتها.
ومن هذه النماذج ما يلي :
* تضرعهم عليهم الصلاة والسلام إلى ربهم سبحانه وسؤاله قضاء حوائجهم :
ذكر الله عز وجل في آخر سورة الأنبياء مجموعة من أنبيائه ورسله عليهم الصلاة والسلام، وهم يسألون ربهم ويتضرعون إليه في قضاء حوائجهم، ويتوسلون إلى الله عز وجل بأسمائه وصفاته، كما يتوسلون بفاقتهم وافتقارهم إلى الله عز وجل. ومن ذلك قول الله تعالى : ((وَأَيُّوبَ إذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ)) (الأنبياء : 83- 84 ) .
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى معلقاً على هذا الدعاء الخاشع من أيوب عليه الصلاة والسلام) : (جمع في هذا الدعاء بين حقيقة التوحيد وإظهار الفقر والفاقة إلى ربه ووجود طعم المحبة في التملق له ، والإقرار له بصفة الرحمة وأنه أرحم الراحمين ، والتوسل إليه بصفاته سبحانه، وشدة حاجته هو وفقره ، ومتى وجد المبتلى هذا كشفت عنه بلواه) [7].
وفي قوله تعالى : ((وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ)) أي : إن في صبر أيوب عليه الصلاة والسلام ودعائه عبرة للعابدين من بعده ؛ ليقتدوا بصبره وعبادته ودعائه ويقينه .
* خشوعهم وبكاؤهم عند ذكر الله عز وجل:
فبعد أن ذكر الله عز وجل مجموعة من الأنبياء في سورة مريم أثنى عليهم بقوله تعالى : ((أُوْلَئِكَ الَذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إبْرَاهِيمَ وَإسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِياً )) )مريم : 58).
يقول الشيخ السعدي رحمه الله تعالى عند هذه الآية : فهذه خير بيوت العالم اصطفاهم الله ، واختارهم واجتباهم، وكان لهم عند تلاوة آيات الرحمن عليهم ، المتضمنة للإخبار بالغيوب ، وصفات علام الغيوب، والإخبار باليوم الآخر، والوعد والوعيد .(/3)
((خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِياً)) أي : خضعوا لآيات الله ، وخضعوا لها، وأثرت في قلوبهم من الإيمان والرغبة والرهبة ما أوجب لهم البكاء والإنابة، والسجود
لربهم ) [8] .
وقوله تعالى عن يوسف عليه الصلاة والسلام أنه قال :((رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ المُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَاًوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ)) (يوسف : 101 ) .
يقول السعدي رحمه الله تعالى عند هذه الآية : (ينبغي للعبد أن يتضرع إلى الله دائماً في تثبيت إيمانه) .
ويقول ابن القيم رحمه الله تعالى عند هذه الآية أيضاً : (جمعت هذه الدعوة : الإقرار بالتوحيد ، والاستسلام للرب ، وإظهار الافتقار إليه ، والبراءة من موالاة غير الله سبحانه، وكون الوفاة على الإسلام أجل غايات العبد ، وأن ذلك بيد الله لا بيد العبد ، والاعتراف بالمعاد ، وطلب مرافقة السعداء)[9] .
وأختم هذه الأدعية النبوية بذلك الدعاء الذي كثيراً ما كان يلهج به الرسول ويردده ؛ فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول : ((يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك)) ، فقلت : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد آمنا بك وبما جئت به ، فهل تخاف علينا ؟ ، قال : ((نعم، إن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء))[10].
فإذا كان هذا هو حال أنبياء الله عز وجل وصفوته من خلقه فحري بمن
دونهم أن يخاف على نفسه من سوء الخاتمة ، فمن ذا الذي يأمن الفتنة بعد أنبياء الله عز وجل ؟
* القوة في طاعة الله تعالى وعبادته :
هذه الصفة العظيمة من أبرز ما في حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، حيث إنهم أكثر الناس عبادة وصلاة وإخباتاً لله عز وجل ، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى عند قوله تعالى :((وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ)) (ص : 45)
وعن عطاء الخراساني : ((أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ))، قال : أولو القوة في العبادة والعلم بأمر الله ، وعن مجاهد
وروي عن قتادة قال :( أعطوا قوة في العبادة وبصراً في الدين))[11].
والشواهد في ذكر عبادة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كثيرة، منها :
قوله تعالى على لسان إبراهيم عليه الصلاة والسلام : ((رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ)) (ابراهيم : 40) .
وقوله تعالى في مدح إسماعيل عليه الصلاة والسلام : ((وَكَانَ يَاًمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عَندَ رَبِّهِ مَرْضِياً)) (مريم : 55) .
وقوله تعالى في مدح إسحاق ويعقوب : ((وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إلَيْهِمْ فِعْلَ الخَيْرَاتِ وَإقَامَ الصَّلاةِ وَإيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِين)) (الأنبياء : 73) .
أما عن نبينا محمد وكثرة عبادته وقوته فيها فهي كثيرة جدّاً ، مع أنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ..ولا غرابة في ذلك ؛ فهو الذي امتلأ قلبه معرفة بربه سبحانه وحبّاً وتعظيماً له ، وهو الذي قال له ربه سبحانه : ((يَا أَيُّهَا المُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إلاَّ قَلِيلاً * نِّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ القُرْآنَ تَرْتِيلاً)) (المزمل : 1- 4).
وهو الذي قال له ربه عز وجل : ((وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً)) (الإنسان : 26).
وقال له : ((فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِياً)) (مريم : 65)، وأكتفي بشاهد من أحواله الكثيرة في عبادته وقوته فيها :
فعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال : قام النبي حتى تورمت قدماه ، فقيل له : قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ، قال : ((أفلا أكون عبداً شكوراً ؟ !))[12].
وأخيراً : فهذه أحوال المصطفين الأخيار من أنبياء الله عز وجل ، وما سبق ذكره إن هو إلا جانب يسير وغيض من فيض من صلتهم بالله عز وجل ، ذكراً وتسبيحاً ودعاءً وصلاة ، فهل من مشمر للأخذ بهديهم كما أمر الله عز وجل ((فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ )) ؟ ، وهل بقي مجال لأحد أن يعتذر بكثرة المشاغل الدعوية وطلبىالعلم في التفريط في هذا الزاد العظيم ؟ .
وتبقى مسألة مهمة تبرز للمتأمل في تلك الكلمات والجُمل العطرة الجامعة ، والتي تتألف منها أذكارهم وأدعيتهم عليهم الصلاة والسلام، ألا وهي : تجريد التوحيد لله عز وجل وإخلاص العبادة له وحده .
فهل بقي عذر لمن يتوجه إلى الأنبياء أو غيرهم في جلب نفع أو دفع ضر ، وهذا هو شأنهم مع ربهم في دعائهم له ؟ .
_________
[1] البخاري ، ح/6101 ، ك/ الأدب ، ومسلم ، ح/2356 ، ك/ الفضائل
[2] البخاري ، ح/834 ، ك/ الأذان ، ومسلم ، ح/2705 ، ك/ الذكر والدعاء .(/4)
[3] البخاري ، ح/6101 ، ك/ الأدب ، ومسلم ، ح/2356 ، ك/ الفضائل .
[4] البخاري ، ح/6486 ، ك/ الرقاق ، ومسلم ، ح/2359 ، ك/ الفضائل .
[5] رواه مسلم ، ك/ الاستسقاء ، باب التعوذ عند رؤية الريح والغيم ، ح/ 899
[6] صحيح سنن ابن ماجة ، ح/ 69 ، 1/21 .
[7] بدائع التفسير ، 3/189 .
[8] تفسير السعدي ، 3/209 .
[9] بدائع التفسير ، 2/476 .
[10] الترمذي ، ح/2141 ، في القدر ، وقال : حسن صحيح .
[11] مجموع الفتاوى ، 19/170
[12] مسلم ، ح/ 772 ، ك/ صلاة المسافرين(/5)
من حق إخواننا علينا
المحتويات
1 - من ثمرات اهتدائهم على يديك
2 - جوانب مضيئة من سيرتهم
الجانب الأول : عدم رضاهم عن حالهم
الجانب الثاني : رغبتهم في تغيير حالهم
الجانب الثالث: تفكيرهم في الالتزام
الجانب الرابع : أن أكثر هؤلاء يشعر أن الالتزام طريق السعادة
الجانب الخامس : استجابتهم للنصيحة
الجانب السادس : سماع الشريط الإسلامي
الجانب السابع : موقفهم من الشباب الملتزم
3 - قبل الدعوة
محاذير وتنبيهات
1 - من ثمرات اهتدائهم على يديك
عندما يهدي الله سبحانه وتعالى أحد العصاة على يديك، فهل تأملت ما الثمرات التي تجنيها من وراء ذلك ؟ إنها ثمرات عدة، وليست ثمرة واحدة.
الثمرة الأولى:أن لك مثل أجورهم:
فقد قال صلى الله عليه وسلم :"من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الوزر مثل أوزار من تبعه لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئاً" رواه مسلم وأحمد وأصحاب السنن الأربعة من حديث أبي هريرة.
فهذا الشاب عندما يهديه الله على يديك لابد أن يكون له نصيب من الصلاة والصيام والصدقة و الزكاة والاجتهاد في النوافل وغير ذلك من أبواب الطاعة والتقرب إلى الله سبحانه وتعالى فلك حينئذ مثل أجره.
وقد تكون أنت مقصراً في العمل، وقد يكون لديك بعض الكسل والفتور، فلا تكون صاحب همة في الاجتهاد في الطاعات والنوافل، فيهدي الله على يديك من يكون أكثر منك همة، وأكثر منك تقوى وورعاً وطاعة لله عز وجل، فيكتب الله لك بذلك أجراً.
الثمرة الثانية :أن هذا الأمر خير من حمر النعم :
فقد قال صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه لما أرسله إلى اليهود في خيبر: "لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله"، فأعطاها علياً رضي الله عنه ، وقال له فيما ما أوصاه به: "لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم" رواه الإمام أحمد والشيخان من حديث سهل رضي الله عنه . وفي هذا الحديث يخبر النبي صلى الله عليه وسلم : أن هداية أحد على يد علي رضي الله عنه -والخطاب ليس خاصاً به - خير له من حمر النعم، وحمر النعم أنفس ما كان يملكه العرب في ذلك الوقت، ألا وهي الإبل تلك الرواحل التي كانوا يمتطونها، ولكي تعلم قيمتها فاعرف أنهم كانوا يقدرون الدية – غالباً - بها فدية الرجل عندهم مائة من الإبل، وكذلك دية الجروح والقصاص المقدرة وسائر الديات المقدرة إنما تقدر غالباً بالإبل نظراً لقيمتها عندهم ومع هذا كله فهداية الرجل الواحد خير لمن هداه الله على يديه من حمر النعم.
إن الكثير من الشباب يتمنى أن يحصل على سيارة، وتزداد الأمنية عندما تكون السيارة جديدة ولم يستعملها أحد قبله، وكم يفرح ويُسر عندما يتيسر له هذا الأمر، فكيف لو قيل له سوف نعطيك أنفس السيارات التي يقتنيها الناس ويفاخرون بها ؟ إن هداية رجل واحد على يديك خير لك من ذلك كله هذا إذا كان رجلاً واحداً فكيف إذا كان أكثر من ذلك ؟
الثمرة الثالثة :الدعوة لصالحة:
إنك حين تدعو أحداً إلى الهداية فلن تحرم منه دعوة صالحة يدعو لك بها؛ إذ أنقذه الله على يديك من الظلمات إلى النور.
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن دعوة الأخ لأخيه بظهر الغيب مجابة فيكون عند رأسه ملك يقول له : آمين ولك بمثله.
فإذا منَّ الله سبحانه وتعالى على يديك بهداية أحدهم فسيعرف لك هذا الفضل، وسيعرف لك ما قدمت له،ولن يبخل عليك بدعوة صالحة بإذنه تعالى. بل قد تكون أنت نائماً في فراشك، وهو قائم بين يدي الله سبحانه وتعالى في ثلث الليل الأخير، حين يقول الله عز وجل :"من يدعوني فأستجيب له؟" فيدعو لك بدعوة صالحة خالصة من قلبه، يكتب الله لك بها الخير إلى يوم تلقاه.
الثمرة الرابعة :الجزاء من جنس العمل:
الجزاء من جنس العمل قاعدة شرعية معروفة، وأنت سيكون لك بعد ذلك ذرية وأبناء بمشيئة الله، والقلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن، ومهما أوتيت من قدرات تربوية، ومهما كان عندك من الحرص والعناية والاهتمام، فإن صلاحهم يبقى بعد ذلك ليس إليك، فالتوفيق بيد الله سبحانه وتعالى.
وكم نرى من الأبناء الذين يعتني بهم آباؤهم ويحرصون عليهم ويبذلون الغالي والنفيس لحمايتهم، ومع ذلك لا يوفقون، ونرى في المقابل من الآباء المعرضين الغافلين من كان لهم أبناء صالحون، متبعون لأمر الله سبحانه وتعالى.(/1)
لا شك أن التربية لها دور مهم وأن المناصحة والعناية والاهتمام له دور في صلاح الابن ولكن يبقى بعد ذلك توفيق الله سبحانه وتعالى، فإذا كنت تحمل هم أبناء الناس، وتسعى إلى إصلاحهم، ويؤرقك هذا الأمر، وتجتهد غاية الاجتهاد في استنقاذ هؤلاء من الضلال والانحراف، فلعل مما يكافئك الله سبحانه وتعالى به: أن يجزيك من جنس عملك فيصلح لك ذريتك وأولادك، وهي من أعلى النعم التي يجدها العبد في الحياة الدنيا، ولا تقدر بثمن أبداً فالصالحون دعاؤهم لله تبارك وتعالى [ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما].
وهذا الأمر يمثل امتدادا لعملك الصالح، يقول النبي صلى الله عليه وسلم : " إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث :صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له" إننا حينما نجتهد في استنقاذ هؤلاء من الفساد بدعوتهم إلى الله، ونبذل في ذلك نفيس أوقاتنا لنتفاءل أن الله سبحانه وتعالى سيقيض بعد ذلك لأبنائنا -ولو بعد وفاتنا- من يدعوهم إلى الله سبحانه وتعالى، وقد يموت أحدنا وابنه لا يزال صغيراً؛ فحينئذ من له بعد الله سبحانه وتعالى ؟ إن دعوتنا إلى الله تعالى لمما نرجو به صلاح ذريتنا واستقامتهم على الهدى.
ولذلك قال الله عز وجل في قصة موسى والخضر [فوجدا فيها جداراً يريد أن ينقض فأقامه قال :لو شئت لاتخذت عليه أجراً ]، ثم لما أخبره الخضر عن تأويل ما لم يستطع عليه صبراً أعلمه بشأن الجدار [وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحاً فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك…] فقد حفظ الله هذين الغلامين بصلاح أبيهما، ولا شك أن الذي حفظهما في مالهما سبحانه وتعالى يعلم أنهما أحوج إلى أن يحفظا في دينهما.
أقول: لعلك حينما تجتهد في هذا الأمر أن تجزى هذا الجزاء، فيحفظ الله لك ذريتك ويقيض لأولادك من ينظر إليهم بتلك النظرة التي تنظر بها إلى الناس؛ فالجزاء من جنس العمل.
الثمرة الخامسة :أن هذا من شكر النعمة :
فقد منّ الله عليك بالهداية والتوفيق إلى سلوك طريق الخير، ولاشك أن الفضل أولاً وآخراً له سبحانه وتعالى، وسوف تسأل عنها يوم القيامة فهي مثل سائر النعم الأخرى من حقها عليك أن تشكرها، وأعظم شكر لهذه النعمة أن تنقل هذه النعمة إلى غيرك الذي قد حرمها. وأن تجتهد في دعوة هؤلاء إلى سلوك هذا الطريق الذي منّ الله عليك بسلوكه، ولو شاء ربك لكنت مثل هؤلاء، والقلوب بين أصابع الرحمن يقلبها كيف شاء، وقلب ابن آدم أشد تقلباً من القدر إذا استجمعت غلياناً، كما ثبت ذلك عنه صلى الله عليه وسلم .
فهذا العمل فيه شكر للنعمة وأحرى به أن يكون سبباً لتوفيق الله سبحانه وتعالى لك في الثبات على هذا الطريق طريق الهداية. وذلك لما ذكر في الثمرة السابقة.
يقول ابن القيم في نونيته :
واجعل لقلبك مقلتين كلاهما *** بالحق في ذا الخلق ناظرتان
فانظر بعين الحكم وارحمهم بها ***إذ لا ترد مشيئة الديان
وانظر بعين الأمر واحملهم على ***احكامه فهماً إذا نطران
واجعل لوجهك مقلتين كلاهما *** من خشية الرحمن باكيتان
لو شاء ربك كنت أيضاً مثلهم ***فالقلب بين أصابع الرحمن
الثمرة السادسة: وماذا لو كان داعية؟
ماذا لو هدى الله على يديك شاباً معرضاً غافلاً، كان همه الأمور الساقطة، ثم بعد أن منّ الله عليه بالهداية أصبح شخصاً آخر: خطيباً مفوهاً يقول كلمة الحق ويستمع الناس إليه، أو واعظاً يبكي القلوب، أو داعية ينفع الله به الأمة؟ بل و لا تستبعد يا أخي أن يكون مجدداً، أليس النبي صلى الله عليه وسلم أخبر : أن الله عز وجل يبعث على رأس كل مائة سنة لهذه الأمة من يجدد لها أمر دينها؟.
يقول ابن القيم رحمه الله مثنياً على شيخه ابن تيمية رحمه الله بعد أن تحدث عن ضلال من ذكرهم من الضالين وما في كتبهم:
ياقوم والله العظيم نصيحة *** من مشفق وأخ لكم معوان
جربت هذا كله ووقعت في *** تلك الشباك وكنت ذا طيران
حتى أتاح لي الإله بفضله *** من ليس تجزيه يدي ولساني
حبرأتى من أرض حران فيا *** أهلاً بمن قد جاء من حران
أخذت يداه يدي وسار فلم يرم *** حتى أراني مطلع الإيمان
ورأيت أعلام المدينة حولها *** نزل الهدى وعساكر القرآن
ووردت كأس الماء أبيض صافيا *** حصباؤه كلآلئ التيجان
ورأيت حوض الكوثر الصافي الذ*** ما زال يشخب فيه ميزابان
ميزاب سنته وقول إلهه *** وهما مدى الأيام لا ينيان
ثم قال:
فالله يجزيه الذي هو أهله *** من جنة المأوى مع الرضوان(/2)
ومع ما كان للإمام أحمد بن تيمية من دور بارز في تجديد العقيدة ومع ما له من أيد يضاء سطر فيها ابن القيم في ثنائه على شيخه ما سطر، لكن انظر إلى ما لابن القيم من مواقف وصولات مع المبتدعة وإلى مواقفه أيضاً في نصرة الدين، وإلى مصنفاته التي لا زال العلماء يعضون عليها بالنواجذ، فتأمل أخي كم لابن تيمية رحمه الله من أجر وكم حصل له من التوفيق بهداية ابن القيم رحمه الله على يديه.
فتخيل يا أخي -وهذا ليس بعيداً أبداً - أن الله هدى على يديك شخصاً كان له دور في خدمة دين الله وإعلاء كلمة الله.
قد تكون طاقاتك محدودة وقدراتك العقلية والعلمية محدودة، بل قد تكون همتك محدودة، لكن يهدي الله على يديك رجلاً صاحب همة وطاقات، أعطاه الله عقلاً وقدرة، فيسخّر طاقاته وقدرته لدين الله سبحانه وتعالى بطلب العلم وتعليمه، والدعوة إلى الله عز وجل، فكم سيكون سرورك وفرحك وأنت ترى في الحياة الدنيا عاجل ثمرة دعوتك ؟ وأما ما عند الله سبحانه وتعالى فهو خير وأبقى.
هذه بعض الثمرات التي يجنيها من رزقه الله نعمة الدعوة إلى الله ومنّ بها عليه ومن أنقذ الله سبحانه وتعالى على يديه من هؤلاء من الضلالة.
2 - جوانب مضيئة من سيرتهم
من خلال الدراسة التي أجريت، والاستبانات التي وزعت اتضح أن إخواننا هؤلاء يعيشون في عالم آخر فيه ما فيه من الضياع والانحراف والغفلة، وهذا أمر قد لا نتصوره مع أننا ندرك خطورة ما هم عليه، وكلما ازداد أحدنا اطلاعاً على واقع هؤلاء عرف ذلك العالم الذي نغفل عنه وننساه، فنحن في المحاضرات والدروس لا نكاد نقابل إلا الذين منّ الله عليهم بالهداية، أما أولئك الأفواج التائهة الضائعة، فلا نعرف عن حالهم إلا القليل القليل، ولكن مع تلك الجوانب السيئة فهناك جوانب إيجابية لديهم منها :
الجانب الأول : عدم رضاهم عن حالهم
أكثر هؤلاء مع أنه يتمتع بالشهوات ويرخي لنفسه العنان فهو غير راضٍ عن حالته التي هو عليها، وقد وجه إليهم سؤال، هو :ما مدى رضاك عن حالك الآن من الناحية الشرعية؟
وكانت الإجابات على النحو التالي:
- 6% فقط من طلاب المرحلة الثانوية قالوا إنهم راضون تماماً عن حالهم.
- 14% من طلاب المرحلة المتوسطة راضون تماماً.
- أما البقية والذين يمثلون نسبة 94%من طلاب المرحلة الثانوية و 86%من طلاب المرحلة المتوسطة فعندهم قدر من عدم الرضا يتفاوت.
- الذين منّ الله عليهم بالاستقامة بعد أن كانوا في طريق الانحراف وهم فئة(ب)وجه إليهم سؤال :هل كنت راض في ذلك الوقت (وقت الانحراف)عن حالك؟ 15%أجاب أنه كان متضايق جداً.
- 30% من المرحلة الثانوية غير راضين عن حالهم.
- 32% من الفئة الثانية (ب) غير راضين.
- 22% من المرحلة المتوسطة أجابوا أنهم غير راضين.
- 51% من المرحلة الثانوية غير راضين عن حالهم نوعاً ما.
- 64% من المرحلة المتوسطة أجابوا الإجابة نفسها.
والخلاصة : أن أكثر هؤلاء عنده قدر من عدم الرضا والقناعة بحاله التي هو عليها بتفاوت، فبعضهم متضايق جداً، وبعضهم غير راض، وبعضهم الأمر عنده دون ذلك، لكن معظمهم يشتركون في أنهم غير راضين عن حالهم التي هم عليها.
لاشك أن هذا جانب إيجابي يخدمنا في دعوتهم، ويشعرنا أن هؤلاء لديهم قرب من الحق وطريق الاستقامة.
الجانب الثاني : رغبتهم في تغيير حالهم
عندما سئل أفراد الاستبانات الموزعة عن رغبتهم في تغيير حالهم، كانات نسب الإجابات كما يلي :
- 3% من طلاب المرحلة الثانوية، و7%من طلاب المرحلة المتوسطة فقط قالوا إنهم لا يرغبون في تغير حالهم.
البقية يتفاوتون، على النحو التالي:
- 46%من طلاب المرحلة الثانوية، و37% من المرحلة المتوسطة رغبتهم أكيدة.
ونلاحظ تفاوت النسب بشكل واضح بين المرحلة الثانوية والمرحلة المتوسطة، فكلما تقدم الشاب في السن ازداد تعقلاً وإدراكاً لسوء حاله التي هو عليها، ومن ثم ازداد رغبةً في تغيير حاله التي هو عليها.
الجانب الثالث: تفكيرهم في الالتزام
- 93% من المرحلة الثانوية و92%من المرحلة المتوسطة فكروا في الالتزام.
إذاً فأكثر هؤلاء لا يقف الأمر بهم عند عدم الاقتناع، بل فكر فعلاً في الالتزام، وهؤلاء الذين فكروا في الالتزام .
- 32% منهم فكر تفكيراً جاداً في الالتزام.
- 71% من المرحلة الثانوية و 74% من المرحلة المتوسطة فكروا في الالتزام ثلاث مرات أو أكثر.
- 49% من المرحلة الثانوية و34% من المرحلة المتوسطة بدأوا خطوات عملية، مثل المحافظة على الصلاة، والجلوس في المسجد بعد صلاة الفجر في الإجازة، والالتحاق بالصاحين، وتمزيق الصور، وحرق الأفلام والأشرطة، ولكن لم يستطيعوا الثبات على الطريق الذي بدؤوا في سلوكه.
الجانب الرابع : أن أكثر هؤلاء يشعر أن الالتزام طريق السعادة
وجه سؤال هو:هل تشعر أن الالتزام طريق السعادة ؟ وكانت الخيارات التي أمامهم فكانت النتيجة كما يلي :(/3)
- أجاب بنعم :79% من طلاب المرحلة الثانوية، و81% من طلاب المرحلة المتوسطة وهؤلاء قالوا إنهم يشعرون بأن الالتزام طريق السعادة.
- أجاب بلا أدري : 21% من طلاب المرحلة الثانوية و 18% من طلاب المرحلة المتوسطة.
- أجاب بلا: 0.5% من طلاب المرحلة الثانوية و 1% من طلاب المرحلة المتوسطة، أي شخص واحد من المرحلة المتوسطة وشخص واحد من المرحلة الثانوية الذين لا يشعرون بأن الالتزام طريق السعادة.
فلست بحاجة إلى مزيد من بذل الجهد في دعوته لإقناعه بأن هذا هو طريق السعادة فهو يشعر بذلك، ولكن حدثه عن السعادة التي وجدتها بعد استقامتك، وحدثه عن جوانب منها.
الجانب الخامس : استجابتهم للنصيحة
وجه إليهم سؤال هو: هل وجه لك نصيحة شخصية ؟ وكانت إجابتهم كما يلي :
- 88% من طلاب المرحلة الثانوية و 85% من طلاب المرحلة المتوسطة أفادوا بأنهم قد تلقوا نصيحة شخصية.
ثم وجه للذين تلقوا نصيحة شخصية سؤال آخر هو: ما أثر هذه النصيحة عليك؟ فكانت الإجابة على ما يلي :
- 31% من المرحلة الثانوية و 34% من المرحلة المتوسطة أي قريباً من الثلث، أجابوا بأنهم استقاموا مدة محدودة. فلم يقتصروا على قبول النصيحة والتأثر بها، بل استقاموا فعلاً، لكنها مدة محدودة لم يستمروا عليها.
- 36% من المرحلة الثانوية و 40% من المرحلة المتوسطة أفادوا أنهم تأثروا تأثراً وقتياً.
- إذاً 67% من المرحلة الثانوية و 74% من المرحلة المتوسطة ممن تلقوا نصيحة شخصية، كان أثر النصيحة عليهم أثر إيجابياً، فإما أنه استقام مدة محدودة، وإما أنه تأثر تأثراً وقتياً، وهي قضية نشاهدها، فعندما نتحدث في الفصل مع الطلاب، ونوجه لهم نصيحة أو موعظة، نشاهد في وجوه الكثير من هؤلاء التأثر، ونشعر فعلاً بعلامات الندم ترتسم عليها، فكيف إذا كانت النصيحة نصيحة شخصية ؟
- 23% من المرحلة الثانوية و 25% من المرحلة المتوسطة يقول شكرته ولم أستجب له، بمعنى أن لديه شكراً وعرفاناً لهذه النصيحة وإن لم يستجب لها، هذا بلا شك يعد جانباً إيجابياً بحد ذاته، فأنت عندما تنصح إنساناً، ويشكر ويقدر ويثني ولو لم يستجب فإنك تشعر أن جهدك لم يذهب سُدى.
وأما الذين سخروا من الذين أسدوا لهم النصيحة فأفاد : وأما الذين سخروا من الذين أسدوا لهم النصيحة فأفاد :
- 2% من المرحلة الثانوية و 1% من المرحلة المتوسطة أنهم سخروا ممن وجه لهم النصيحة، ولكن عندما تكون النصيحة جادة أخوية فلا شك أنه من النادر أن تجد من يسخر منك.
إذاً فقد عرفت نسبة الذين يستجيبون للنصيحة، فيسمعونها وتؤثر فيهم كما عرضنا وكما نشاهد، وعندما جلسنا مع بعض الشباب على الرصيف كانوا مؤدبين فأبدوا لنا الترحيب، وكان بعضهم يدخن فأطفأ سيجارته، وجلسنا معهم وعرضنا عليهم موضوع عوائق الاستقامة، وسألناهم ما الذي يمنعكم من سلوك طريق الاستقامة ؟ ودخلنا معهم في النقاش، ثم بعد ذلك استأذنا منهم، فقال أحدهم :إنك جعلت هذا الموضوع عائقاً بينك وبين النصيحة، فقد كنا ننتظر منك أن توجه لنا نصيحة شخصية بعد ذلك، فلماذا لم توجه لنا هذه النصيحة ؟ وكان حديثه وطلبه محرجاً لنا، وهو دليل على أن هؤلاء عندهم رغبة، وعندهم حرص أن يسلكوا طريق الاستقامة، وهم يرحبون بالنصيحة، وأسوأهم حالاً من يرحب ترحيب مجاملة ولا شك أن هذا يعطيك دافعاً أكبر.
ونلاحظ من خلال النسب التي عرضناها، أن استجابة طلاب المرحلة المتوسطة للنصيحة وتأثرهم بها أكثر، مع أن طلاب المرحلة الثانوية أكثر جدية، ولكن طلاب المرحلة المتوسطة يسهل التأثير عليهم لأنهم لم يغوصوا بعد في أعماق الفساد والشهوات.
الجانب السادس : سماع الشريط الإسلامي
وجه إليهم سؤال هو: هل تسمع الشريط الإسلامي ؟ فأجاب:
6% من المرحلة الثانوية و 5%من المرحلة المتوسطة بأنهم لا يسمعون الشريط الإسلامي إطلاقاً، والبقية يسمعون سماعاً متفاوتاً، ومنهم من يسمع دائماً، ومنهم من يسمع كثيراً، ومنهم من يسمع على ندرة، لكن هؤلاء يشتركون في أنهم يسمعون الشريط الإسلامي.
بل أفاد أكثر هؤلاء أن أكثر الوسائل التي يرونها تأثيراً على الشباب هو الشريط.
ولاشك أن هذا الجانب إيجابي يجب أن نعتني به، فإذا كان هؤلاء لديهم استعداد أن يسمعوا الشريط الإسلامي فهذا يدفعنا إلى أن نخصص لهم حديثاً خاصاً، ومحاضرات خاصة، خطباً خاصة، وإصدارات خاصة موجهة لهم، ثم نسلك معهم وسيلة أخرى، وهي نقل الشريط الإسلامي، وإهداؤه وتوزيعه عليهم، فالكثير منهم يسمع الشريط الإسلامي،ويتأثر به حيث أفاد أكثر من 60% تقريباً أنهم يتأثرون عندما يسمعون الشريط.
وهذه رسالة نوجهها إلى أصحاب التسجيلات ليعتنوا بهذا الجانب، وليعتنوا بهذه النوعية من الشباب.(/4)
وكذلك نوجهها إلى مشايخنا وأساتذتنا من العلماء والدعاة بأن يعتنوا بهؤلاء فيقدموا لهم مادة قوية قيمة، وإذا عرفنا مدى ما لدى هؤلاء من الاستعداد لسماع الشريط الإسلامي، فما نسبة المادة الموجهة لهم من المواد المعروضة في التسجيلات ؟ لاشك أن المحاضرات والخطب التي تأخذ الجانب الوعظي تناسب هؤلاء، ولكن هل يجد هؤلاء حديثاً واقعياً فيه نقاش عقلي لمشاكلهم الخاصة، وما يواجهونه من عقبات، وفيه الاهتمام بهم؟ وقد أبدى لنا كثير من هؤلاء الشباب شكره على اهتمامنا به، وعلى توجيه مثل هذه الأسئلة والاستبانات التي تُشعر بالاهتمام والعناية بشأنه.
الجانب السابع : موقفهم من الشباب الملتزم
لقد فوجئنا فعلاً بنتيجة ما كنا نتوقعها من حيث موقف هؤلاء من الشباب الملتزم، كان من الأسئلة الموجهة لهم : كلمة توجهها إلى كل من : الأب، الأستاذ، الداعية، الشاب الملتزم.
ولنعرض بعض الكلمات التي وجهها هؤلاء للشباب الملتزمين، والكثير من هؤلاء رسالته للملتزمين : أن ينصحوا إخوانهم، وأيضاً : ترك العزلة، والأنانية، وكسر الحواجز بينه وبين غير الملتزمين.
فهو يرى أنك عندما تستأثر بهذا الخير وحدك وتبتعد عنهم أنك تملك قدراً من الأنانية، ويرى أنه ينبغي أن تشركهم في هذا الخير الذي بين يديك.
وهذه بعض أقوالهم :
*أن يكونوا قدوة صالحة ليدركوا أهميتهم.
*أن يحمدوا الله على الهداية.
*تقديم النصيحة لغير الملتزمين مرة ومرة.
*أن ينظر أمامه فلا يبالي بمن يسخر به فهو أفضل منه.
*أن يتحملوا كل ما يقال لهم ويصمدوا ويكونوا خير مثل.
*جزاهم الله خيراً، لا أقترح عليهم شيئاً لأنهم قائمون بواجبهم التام.
*أتمنى أن أكون مثلهم.
*هم قدوتنا نحو الصلاح.
*أشكركم على ما فعلتم بي.
*المحاولة أن يكون لهم كيان، ويؤثروا على غيرهم.
*نسأل الله أن يثبتهم، وأن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر.
*إن العيون موجهة إليكم، عيون أهل الشر، وعيون أهل الخير فكونوا على أهبة الاستعداد.
*زوروا الشباب غير الملتزم ووجهوا إليهم النصيحة (وهذه الكلمة تكررت أكثر من مرة).
*كونوا على جانب كبير من الأخلاق والتعامل للتأثير على الغير.
*عدم التفكير في الرجوع إلى ما كانوا عليه.
*الإصرار والعزيمة وأن يعرفوا أنهم على حق، ولا يهتموا بكلام الناس.
*كم أسرُ عند رؤيتكم، يا أحفاد أبي بكر وعمر وعلي وعثمان.
هذه بعض ما وصلتنا من مشاعر تجاه الملتزمين، صحيح أن بعضهم انتقد، وبعضهم ذكر جوانب سلبية، لكن أكثر هؤلاء ذكروا عبارات مثل هذه، وتجمع هذه العبارات على أنهم يحبون الشاب الملتزم، ويثقون به.
لاشك أن هذا الأمر يخدمك كثيراً عندما تشعر أن هؤلاء يحبونك وإن أبدوا السخرة والاستهزاء، وغالبا لا يسلك منطق الاستهزاء والسخرية إلا الشخص الذي ليس له قناعة من الطريق الذي هو عليه، أما صاحب القناعة فلا يمكن أن يسلك هذا الطريق.
3 - قبل الدعوة
ثمة أمور مهمة تهيئ الأرضية المناسبة لسماع الدعوة والتأثر بها، ومنها:
أولاً :حسن الخلق أثقل ما في ميزانك :
لقد عظم النبي صلى الله عليه وسلم شأن حسن الخلق،وأخبر أنه ما من عمل أثقل في ميزان العبد يوم القيامة من حسن الخلق، وأخبر صلى الله عليه وسلم : أن العبد يبلغ بحسن الخلق درجة الصائم القائم،وأخبر صلى الله عليه وسلم : أن أحب الناس إليه أحاسنهم أخلاقاً، والحديث عن حسن الخلق يطول.
ولا شك أن لحسن الخلق والتعامل والبشاشة وطلاقة الوجه مع هؤلاء وغيرهم أثر كبير في دعوتهم واستجابتهم وتأثرهم. كم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم سلم بسبب حسن خلقه صلى الله عليه وسلم ، أو بسبب موقف واحد رآه من الرسول صلى الله عليه وسلم .
ثانيا: الإحسان إلى الناس:
تقول خديجة رضي الله عنها لما جاء النبي صلى الله عليه وسلم إليها يشتكي فزعاً بعد شدة الوحي: والله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتقري الضيف، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الدهر" قد كانت هذه أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم ولنا فيه صلى الله عليه وسلم قدوة وأسوة حسنة.
وقبل ذلك كان يوسف عليه السلام مشتهراً بين من حوله بإحسانه لذا فقد قال صاحباه في السجن[إنا نراك من المحسنين].
وأنت في السيارة تستطيع من خلالها أن تُشعر الناس بأنك تتأسى بالنبي صلى الله عليه وسلم في حسن الخلق ومساعدة الناس، ومن ذلك فسح الطريق للناس وإعطائهم الأولوية، وإعانة من يحصل عليه عطل في سيارته، وهذا من خلق النبي صلى الله عليه وسلم الذي قال : "وتعين الرجل على دابته فتحمل عليها أو تحمل له متاعه عليه صدقة ".
ومن ذلك أيضاً مساعدة زملائك في الفصل في الإعانة على شرح مسألة، أو إيثار بمقعد، أو احتمال جفوة من أحدهم.
إذا علم هؤلاء أن هذا منهج الصالحين وأن هذا مما أملاه عليهم صلاحهم فلربما أعاد التفكير، ولربما أثرت فيه هذه الأخلاق تأثيراً بالغاً ولكم كُسب أناس بحسن الخلق والكلمة الطيبة والمساعدة في المواقف التي يحتاج إليها فيها.(/5)
إنك بهذا تعطي صورة مضيئة، وكأنك تقول بلسان حالك : هذا هو الطريق الذي أريدكم أن تسلكوه، ومهما اختلفت أفكار الناس واتجاهاتهم، فإنهم يجتمعون على محبة صاحب الخلق، ويجمعون على أن يجدوا في قلوبهم الفضل لمن أحسن إليهم، حتى أن أصحاب الأخلاق السيئة يتفقون جميعاً على تقدير صاحب الخلق، ولا يجرؤ أحد منهم على أن يسيئ إليه.
فإذا كان الشاب متميزاً في فصله، يعرفه طلاب الفصل، والأساتذة وإدارة المدرسة بأنه صاحب الخلق الحسن والمواقف الحميدة والاعتذار قبل أن يخطئ فهذا له دوره قبل توجيه النصح، فما بالك إذا وجه النصيحة كيف يكون أثرها ؟ عندما يعرف عنه ذلك هؤلاء، قبل أن ينصح له دور، فما بالك إذا وجه النصيحة، كيف يكون أثرها.
ثالثاً: لا تنتظر ثمرة إحسانك:
عندما تقدم إحساناً لهؤلاء، من حسن خلق أو عفو أو غير ذلك،فلا تنتظر ثمناً لذلك، فعندما آتي مثلاً و أجد شاباً عليه آثار الانحراف قد تعطل في الطريق وأقف لأعينه، فليس بالضرورة أن أوجه له النصيحة الآن إذا أمكن توجيهها في وقت آخر، وكذلك الحال عندما أقدم خدمة، بل أتخلق بالأخلاق الطيبة – مع كسب الناس - لأن حسن الخلق أمر به الإسلام، ولأنه خلق النبي صلى الله عليه وسلم ، الذي وصفه الله فقال: [وإنك لعلى خلق عظيم ]. وهو الذي ما رؤي أحسن منه خلقاً صلى الله عليه وسلم ، وهو الذي يقول عنه حسان رضي الله عنه:
وأحسن منك لم ترى قط عيني *** وأجمل منك لم تلد النساء
خلقت مبرأمن كل عيب *** كأنك خلقت كما تشاء
فإ ذا رحمت فأنت أم أو أب *** هذان في الدنيا هما الرحماء
فذا غضبت فإنما هي غضبة *** لله لا حقد ولا شحناء
هذه أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم ، وما عرفت الدنيا أبر وأطهر وأحسن خلقاً منه صلى الله عليه وسلم .
لا تتخلق أخي بحسن الخلق من أجل أن تكسب الناس فقط، بل تخلق به لأنك تعلم أن هذا هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم ، ولأنك تعلم أن حسن الخلق يبلغ به العبد ما لا يبلغ الصائم القائم، ولأنك تعلم أن أقرب الناس مجلساً إلى النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة وأحبهم إليه أحاسنهم أخلاقاً، وأن النبي صلى الله عليه وسلم زعيم لك في بيت بأعلى الجنة لمن حسن خلقه.
رابعاً: تنازل عن بعض حقك :
تحكي لنا عائشة رضي الله عنها صورة من هديه فتقول :" ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم منتصراً في مظلمة ظُلمها قط ما لم ينتهك من محارم الله شيء، فإذا انتهك من محارم الله شيء كان من أشدهم على ذلك غضباً، وما خير صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن مأثماً " رواه الإمام أحمد والشيخان.
وتقول أيضاً في وصف آخر له صلى الله عليه وسلم : "لم يكن رسول صلى الله عليه وسلم فاحشاً ولا متفحشاً، ولا صخاباً في الأسواق ولا يجزي بالسيئة ولكن يعفو ويصفح " رواه الإمام أحمد والترمذي في سننه وفي الشمائل والطيالسي.
وكلنا يحفظ تلك الصورة المثلى من هديه صلى الله عليه وسلم ، حكاها أنس رضي الله عنه فقال:كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم وعليه برد نجراني غليظ الحاشية، فجاءه أعرابي فجبذه بردائه، حتى أثر الرداء في صحفة عنقه فقال له :أعطني من مال الله الذي عندك، فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم وابتسم وأعطاه حتى رضي.
قد يساء إليك وما أكثر ما يسيء إليك هؤلاء، ولاشك أن الذي يسيئ الأدب مع الله عز وجل ويتجرأ على محارم الله لابد أن يسيئ الأدب مع خلق الله، فتنازل عن بعض حقك وتميز بذلك، وتميز بأنك الرجل الذي تتنازل عن بعض حقك وتحلم وتصفح وتكظم الغيظ، وهذه الأخلاق هي التي تعلمتها وأنت تقرأ القرآن قال تعالى :[وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين * الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين] بل إن عفوك وصفحك، وتنازلك عن حقك في الغالب يعيد إليك الحق، فلو سخر منك وقابلت ذلك بالإحسان فإنه سيعرف -بإذن الله -أن هذه يد لا بد أن يجزيك بها، ولو أساء إليك بأي إساءة أخرى وقابلت هذه الإساءة بالصفح والإحسان لحفظ هذا الجميل لك، وستلقاه بعد ذلك عاجلاً، وإن كنت لا تبحث عن الجزاء العاجل إنما تسلك ذلك استجابة لأمر الله سبحانه وتعالى واقتداء بهدي نبيك صلى الله عليه وسلم الذي كان كثيراً ما يعفو وكان لاينتصر مالم ينتهك من محارم الله شيء، ولطالما كسب الناس بمثل الحكمة والصفح والتنازل عن الحقوق.
محاذير وتنبيهات
1- احذر من القياس على رأس الديك:
يحكون أن رجلاً أعمى عاد إليه بصره فرأى رأس الديك، ثم بعد ذلك فقد بصره، فصار كلما قيل له شيء قال: وماذا يكون من رأس الديك ؟
ينبغي أن يكون عندنا سعة أفق، فلا نسلك أسلوباً واحداً، وتمعن في المثال التالي :-
أحياناً يُجرَّب أسلوبٌ فينجح، أو طريقة معينة فتنجح فنسلك نحن جميعاً هذا الأسلوب دون تفكير ولا تأمل فهل هذا عمل صحيح ؟(/6)
وخير مايدل على ذلك كتاب الله تعالى اقرأ القرآن تجد تنوع الأساليب، فمرة يذكر ما يحصل لأهل النار من العذاب، ومرة يذكر نعيم أهل الجنة، ومرة تذكر مخلوقات الله والتفكر فيها، ومرة يذكر قصص الأولين والسابقين إلى غير ذلك، وهكذا تجد الموعظة في كتاب الله جاءت متنوعة على أنحاء شتى.
وكذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته ينوع الأساليب، فعندما أتاه الوليد بن المغيرة فقال له : اسمع، ثم قرأ عليه القرآن، وكذلك لما أتاه أعرابي أعطاه مالاً، فأسلم لأجل المال كما قال أنس رضىالله عنه :"فلقد كان الرجل من الأعراب يسلم ما به إلا حب الدنيا، ثم لا يلبث أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما".
ولما جاءه ضماد رضي الله عنه وكان رجلاً كاهناً قال صلى الله عليه وسلم : "الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ".
ولما جاءه عدي بن حاتم رضي الله عنه وهو ملك قال:" أترى الحيرة ؟"، قال : (نعم سمعت عنها ولم أرها )، قال: "يوشك أن تسير الضعينة من الحيرة فتطوف بالبيت لا تخاف إلا الله، قال :أتعرف كسرى بن هرمز ؟" قال : نعم، قال :"يوشك أن تنفق كنوزه في سبيل الله " ثم قال : "يوشك أن يعطى المال فلا يقبله أحد "فيقول عدي رضي الله عنه : (فلقد رأيت اثنتين وأنا أنتظر الثالثة )فلما كان عدي ملكاً خاطبه بما يناسبه.
وهكذا تأمل سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم تراه ينوع الأساليب، ونحن في العصر بحاجة إلى أن نبتكر الأساليب التي تؤثر على أمثال هؤلاء.
2-اليأس داء قاتل :
قد توجه النصيحة وتبذل الجهد ولكن لا يستجاب لك فتيأس، والذي نريده منك أن تكون كما كان نوح عليه السلام لما دعا على قومه وقال بعد ذلك [ولا يلدوا إلا فاجراً كفاراً ]،إنه لما يئس يأساً تاماً من قومه أصبح يؤمل في أولادهم، حتى يئس من أولادهم فقال [ولا يلدوا] ولكن عليه الصلاة والسلام دعا قومه خمسين وتسعمائة سنة.
والنبي صلى الله عليه وسلم لما استأذن ملك الجبال أن يطبق عليهم الأخشبين قال : " لا لعل الله عز وجل أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله ".
هب أنه لم يسمع لك ولم يستجب لك فلا تظن أبداً أن الكلمة التي قلتها خالصة لله عز وجل ستذهب سدى، فإن العبد يتكلم بالكلمة من رضوان الله ما يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله له بها رضوانه إلى يوم يلقاه، أو يرفعه الله بها درجة.
3- قد تمهد الطريق إلى غيرك :
قد تنصح شخصاً ولا يستجيب وقد تسلك معه أسلوباً ولا ينجح هذا الأسلوب، ومع هذا فيس معناه أن هذا الجهد قد ذهب سدى، قد تكون أنت بهذا الأسلوب وبهذه النصيحة قد مهدت الطريق لمن يليك فأوجدت عنده إحساساً يخطئه أو أثرت فيه تأثيراً لم يظهر لك على جوارحه، وتكون بذلك مهدت لهدايته على يد غيرك، وإذا تكررت عليه النصائح وتعددت معه الأساليب يجتمع هذا مع الرصيد السابق حتى يكون ذلك سبباً في هدايته بإذن الله فإذا حصل هذا فإن لك دوراً في هدايته وإن لم تكن أنت السبب المباشر، ولكنك تكون قد تقدمت به خطوة إلى الهداية.
4- بين ترك الجليس وحسن المعاملة :
إن حسن الخلق والبشاشة والطلاقة مع هؤلاء، قد يفهم فهماً خاطئاً فيتجاوز بعض الشباب في ذلك ويطيل صحبة الأشرار، ونعلم جميعاً أثر الجليس السيئ، وخطره وبخاصة في مرحلة الشباب وفي مقتبل العمر، ونعلم أيضاًً أن كثيراً من الشباب الذي ينحرف بعد الاستقامة قد يكون سبب انحرافه أمثال هؤلاء الجلساء.
فحينئذ يتساءل بعض الشباب ويقول: هل تريد أن نجلس مع هؤلاء و نعاشرهم حتى يهديهم الله عز وجل ؟ أو ماذا نفعل ؟.
يجب أن نفرق بين أمرين:البشاشة وحسن الخلق، مصاحبتهم والجلوس معهم.
فما الذي يمنع أن تبدأهم بالسلام وتبتسم لهم ثم تودعهم وتنصرف؛ إذ حسن الخلق لايستلزم أن تقضي الوقت معهم.
والمرء قد يجره الشيطان بحجة الدعوة والتأثير عليهم فينساق معهم خطوة خطوة، حتى يصبح بعد مدة من جلسائهم حباً لهم ولما عندهم، ويمارس الشهوات التي يمارسونها.
وترك مجالستهم لا يعني أن تكون مكفهر الوجه، لا تؤدي السلام، ولا تحسن الخلق معهم، فإن هؤلاء مسلمون عندهم جوانب خير، وعندهم طاعة، ولهم من الولاء بقدر ما عندهم من الإسلام.
ولقد جاء رجل فاستأذن على الرسول صلى الله عليه وسلم فقال : " ائذنوا له بئس أخو العشيرة "، فلما دخل هش له الرسول صلى الله عليه وسلم وبش، فلما خرج سألت عائشة رضي الله عنها النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا التغير فقال : "يا عائشة شر الناس من ودعه الناس اتقاء فحشه ". رواه البخاري وغيره، فها هو الرسول صلى الله عليه وسلم يذمه ومع ذلك يحسن معاملته ويبش له.
وهذا الحديث يدلنا على مشروعية حسن الخلق مع هؤلاء، وإن كان عندهم ما عندهم من الفسوق والعصيان، وأن نشعرهم أننا نحب ما عندهم من الخير وإن كنا نكره ما عندهم من المعصية.(/7)
وهولاء عندهم جوانب من الخير فهم من أهل الإسلام وممن يشهدون ألا إله إلا الله وأن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله، ويصلون، ويحبون أهل الخير، وعلينا أن نحبهم لأجل هذا وأن نحسن معاملتهم ونحسن الخلق معهم مقابل ما عندهم من الخير ورجاء هدايتهم واستقامتهم.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.(/8)
من حقوق أهل الحسبة
محمد الدويش
المقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لاإله إلا الله وحده لاشريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أما بعد :- فإن الحسبة كانت بنيانا شامخا في الأمة، وكان لها أدوار لاتنكر في حماية الشريعة، والذب عن الدين وإنكار المنكرات، ومجتمعنا الذين امتاز بهذه الميزة بين المجتمعات المعاصرة، لم يبتدع بدعة ليس لها مثال سابق . وهذه الرسالة ليست مخصصة للحديث عن جوانب هذا الجهاز الإداري، ودوره في الأمة، إنما هو حديث عن رجال هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مجتمعنا الذين يقومون ببعض وظائف الحسبة، ويمثلون دور المحتسب . قمت بتسطيرها رغبة في الوفاء ببعض الواجب علينا تجاه هؤلاء الجنود المخلصين، ولست أدعي أني قلت ما قالت حذام، وأني سأقطع قول كل خطيب ، إنما هو اجتهاد قد يخطيء ويصيب، والكمال لمن خلقه، والعصمة لأصحاب الرسالة . وإني في هذه السطور لا أخاطب العاملين في هذا الجهاز . ولا أخاطب من يدركون دوره ويتعاونون معه. ولا أخاطب صاحب شهوة ونزوة قطع عليه هؤلاء الطريق. ولا أخاطب حاقدا يسوءه علو الكلمة الصادقة، وانتشار الفضيلة. ولا أخاطب مثاليا يطلب الكمال من البشر ولايعفو عن الزلة. إنني أخاطب الكثير من أبناء مجتمعنا ، ممن يحملون العاطفة الخيرة، إنهم يحبون الخير وأهله، ويمقتون الشر ودعاته. وهم مع ذلك قد يقعون في أعراض هؤلاء، ويشاركون من حيث لايشعرون في الحملة التي تشن ضدهم . لم يدعهم لذلك شر متأصل، أو كراهية للفضيلة، لكنه الجهل بحالهم، ومنجزاتهم، وحقوقهم، فيدركون خطأً أو أكثر،يرتسم في أذهانهم فيغطي على ماسواه، فلهؤلاء وحدهم أكتب هذه السطور . وأرجو أن لاتدفعني العاطفة للمبالغة ، ولامحبة الإنصاف لهضم حقوقهم، فالتطرف سهل يطيقه الجميع، أما العدل فقلّ من يوفق إليه . فإن أصبت فمن الله وأن أسأت فمن نفسي والشيطان . وصلى الله على خير آمر بالمعروف وناه عن المنكر . محمد وعلى آله وصحبه ومن سار على هديه وسنته محمد بن عبدالله الدويش
صفحة من تاريخ الحسبة(/1)
ولنفتح صفحة من تاريخ الحسبة، لنرى شيئا من قيمتها ومكانتها في الأمة، فلنقرأ هذا التقليد لمنصب الحسبة ( وهو خطاب يرسل للمحتسب ) الذي أنشأه الوزير الأديب ضياء الدين ابن الأثير، وأورده في كتابه المثل السائر ( 2/024 - 234 ) فمما قال " ومن أهم مانقرر بناءه، ونقدم عناءه، ونصلح به الزمان وأبناءه أن نمضي أحكام الشريعة المطهرة على ماقررته في تعريف ماعرفته، وتنكير مانكرته، ومدار ذلك على النظر في الحسبة التي تتنزل منه بمنزلة السلك من العقد، والكف من الزند، وقد أخلصنا النية في ارتياد من يقوم فيها ويكفيها، ويصطفي لها ولا يصطفيها وهو أنت أيها الشيخ الأجل (فلان) .. فابدأ أولا في النظر في العقائد واهد فيها إلى سبيل الفرقة الناجية..فمن انتهى من هؤلاء إلى فلسفة فاقتله ولاتقبل منه صرفا ولاعدلا، وليكن قتله على رؤوس الأشهاد، مابين حاضر وباد .. وماتجده من كتبها- الفلسفة - التي هي سموم ناقعة... فاستأصل شأفتها بالتمزيق، وافعل بها مايفعله الله بأهلها من التحريق، ولايقنعك ذلك حتى تجتهد في تتبع آثارها ، والكشف عن مكامن أسرارها، فمن وجدت في بيته فليؤخذ جهارا، ولينكل به إشهارا، وليقل هذا جزاء من استكبر استكبارا ولم يرج لله وقارا.. ثم تحدث عن القدر .. التجسيم .. خلق القرآن .. ثم قال .. وأما الفرقة المدعوة بالرافضة(الشيعة) التي هي لما رفعه الله خافضه فإنهم أناس ليس لهم من الدين إلااسمه، ولامن الإسلام إلارسمه..وإذا فرغنا من الأصول التي هي للدين ملاك فلنتبعها بالفروع التي هي له مساك، وأول ذلك الصلاة..فاجمع الناس عليها، واحملهم عليها ..وراقبهم عند أوقات الأذان في الأسواق التي هي معركة الشيطان، فمن شغل منهم بتثمير مكسبة ..فخذه بالآلة العمرية(الدرة) التي تضع من قدره، وتذيقه وبال أمره، ولا يمنعك من ذي هيبة هيبته، ولاعن ذي شيبة شيبته، فإنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد.. وهاهنا عظيمة عضيهة (الإفك والبهتان) وفاحشة يفقه لها من ليست نفسه بفقيهة وهي الربا..ونحن نأمرك أن تشمر في هذا الأمر تشميرا يرهبه الناس، ولا تدع ربا حتى تضعه وأول ربا تضعه ربا العباس فتأديب الكبير قاض بتهذيب الصغير .. ومما نأمرك به أن تمحو الصغيرة كما تمحو الكبيرة فإن لمم الذنوب كالقطر يصير مجتمعه سيلا متدفقا..- وذكر- الحرير والذهب،الصّور، الإسبال ، لبس النساء، قراءة القرآن بالألحان، القينات، الخضاب بالسواد، مجالس التعازي والنياحة، أهل الذمة... ثم قال .. ويتصل بهذه المنكرات المذكورة أشياء أخرى تجري مجراها في التقديم، وتنزل منزلتها في التحريم، فاحكم فيها بحكمك، وامض في شبهاتها بدليل علمك، ونب عنا في التذكير والتحذير، والتعريف والتنكير، حتى يتقوم الأود، ويتضح الرشد، ويمكث في الأرض ماينفع ويذهب الزبد ... واعلم أن الأمر بالمعروف،والنهي عن المنكر عبادة يتعدى نفع صاحبها إلى غيره وتستضيف خير المأمور بها إلى خيره، وهي الجهاد الأكبر الذي تقاتل فيه عواصي النفوس وتضرب فيه رؤوس الشهوات، التي هي أمنع من معاقد الرؤوس، فقتيله يحيا بقتله، وجريحه يؤسى بجراحه ونصله، وبمثل هذا الجهاد تستنزل أمداد النعم مضعفه، كما تستنزل أمداد النصر ردفة، فأقدم عليه ذا عزم باتر، وطرف ساهر، وقدم ثابت صابر، حتى تظل لمعاقل الشيطان فاتحا، وتكون فيمن دعا إلى الله وعمل صالحا ".
وقفة مع المحاسن(/2)
من هم الذين تحاك حولهم الروايات، وتنسج عليهم الشائعات؟ إنهم أقوام من الخيرين نحسبهم والله حسيبهم، ولانزكي على الله أحدا، نحسبهم ممن يخلصون أعمالهم لله لايرجون جزاء ولا شكورا ، إنني لا أتحدث عن القلوب، ولاأدعي صفاء نوايا أقوام لم أطلع على دواخلهم . لكن أخي القاريء : ألا توافقني أن الأغلب من هؤلاء تلمس أنت منه صدق النية، وأنه لايعمل لمقابل مادي إنما لله عز وجل . الثانية :- وهم ثانيا يعملون أوقاتا طويلة خارج الدوام الرسمي، فالساعة الثامنة مساءً نهاية دوامهم، أما دوامهم الفعلي فكثيرا ما يمتد لقبيل أو بعد صلاة الفجر، سهرا على حرمات المسلمين وعوراتهم، فلله كم رجل منهم برق عليه الفجر، وهو ساهر على أعراض من لم يتورعوا عن الخوض في عرضه . أما ليلة الجمعة، ليلة المناسبات واللقاءات العائلية فلا يعرف فيها هؤلاء طعم الراحة، مع أنها لهم كغيرهم وقت إجازة ، أفلا يشفع لهم ذلك للإغضاء عن بعض أخطائهم ؟ الثالثة :- فأما الثالثة فقد أوجب الله على هذه الأمة واجبات عامة، لابد للأمة من القيام بها وأدائها، فإن قام بها البعض سقط الإثم عن البقية، وإن قصروا أثمت الأمة جمعاء - وذلك مايسمى بفرض الكفاية - ومن أوجب فروض الكفاية وأهمها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقد قال عز وجل ( ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير و يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون ) ( فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض ) فهم يتحدثون باسمك، ويقومون بهذا الواجب نيابة عنك، ولئن تخلى هؤلاء وغيرهم ممن يقوم بهذا الواجب فسوف ينالك الإثم لأنك من الأمة ومخاطب بهذا الواجب الشرعي . الرابعة:- فتاة كانت على علاقة مع شاب سيء والتقت معه في الخلوة مرارا وصار بينها وبينه كل سوء غير مايوجب الحد، وفي ليلة ليلاء، وقد بقي على زواجها ليلتان فقط، كانت معه فتناولا الطعام سوية في أحد المطاعم، وبيناهما في الطريق إلى أحد أوكار الفساد، وقد أوقعها في خدعة ووافقت له على تدنيس عرضها، وتلطيخ شرفها، وإلحاق العار بأهلها، إذا برجال الهيئة يقبضون عليهما - عفوا ينقذونهما من الفاحشة- فكأنما استيقظت الفتاة المسكينة من سباتها فلهجت لهم بالشكر والثناء على حمايتها وإنقاذها . وفتاة أخرى شأنها كهذه . وثالثة بعد أن تزوجت زوجا صالحا سافرت معه للخارج فما كان من زميلها وخليلها إلا أن اتصل بها هناك، بعد حصوله على هاتفها اتصل مهددا لها بإرسال بعض الصور والأشرطة لزوجها، إن لم توافق على تدنيسه لعرضها بعد أن فاته ذلك أيام العشرة المحرمة، وحين أن علم أنها ستقدم لأهلها ، ولم ؟ لأجل أن تضع مولودها الأول . فأسقط في يد المسكينة، وحارت العفيفة، أتستطيع إخبار زوجها ؟! وهل تطيق أن تبوح له بشيء من الأمر ؟ لكنها اتصلت على أخيها الذي وجد ملجأه في مركز الهيئة، فتوصلوا إليه، وأتلفوا مالديه بعد تعزيره بما يستحق . ولكم أن تتخيلوا ماموقف والدها بعد ذلك، وكيف كانت مشاعر إخوتها وكأني بأمها العفيفة المصونة،تختلط دموع فرحها مع أصوات دعائها الصادق لهؤلاء الذين أنقذوها وابنتها . فالرابعة هي حمايتهم لأعراض المسلمات، فلله كم من فتاة حصان رزان كادت أن يدنس عرضها فأدركوها بعد رحمة الله في اللحظات الأخيرة، وكم من عائلة شريفة عفيفة حموها من تدنيس السمعة وتلطيخ الشرف . أخي الكريم :إنها نماذج يطول استقصاء بعضها، لن تسمعها من أصحابها ، وهل تريد من مسلم أغلى مايملك عرضه أن يتحدث بما حصل له، أو كيف أنقذت ابنته، أو ابنه ؟ الخامسة :- أتعلم أخي القاريء أن مركزاً واحداً في مدينة الرياض قبض على عصابة جاءت من خارج البلاد بحجة العمرة ثم دخلت الرياض قوامها ثلاثة عشر عضوا، بل ثلاث عشرة داعرة تمارس البغاء الرخيص . وأن مركزا واحدا قبض على (11) مروج للمخدرات ليس في عام، ولاشهر، بل في أسبوع واحد، وأن المركز نفسه قبض على (88) مصنعا للخمر في عام واحد . وكم هم أعضاء هذا المركز إنهم ستة من الشباب فقط . كم ستفعل هذه البغايا في هذا المجتمع المحافظ النزيه ؟ وكم من شاب سيدمره بائع السموم هذا المروج ؟ بل كم من منزل سينهار، ويقضي عليه هؤلاء المجرمون . بعد ذلك، ألا توافقني أخي أن الخامسة من محاسنهم حماية المجتمع من الفساد والجريمة . السادسة :- مجرم محترف له عشر سوابق ضبط في جريمة تصنيع الخمر، هداه الله على يديهم، تحول بعد ذلك إلى داع لله واعظ . وذات ليلة قبضوا على مروج للهروين فجاء شاب في العام السادس من العقد الثاني من عمره ( 16) سنه، يتهادى يسقط تاره وينهض أخرى، إنه يريد جرعة من الهروين وبعد جهد هؤلاء هداه الله على يديهم، فجاء والده المسكين للمركز ومشاعر الفرحة والسعادة تملأ فؤاده، جاء ليعبر لهم عما في قلبه من ود، وعما يكنه من عرفان وتمناهم أن يطلبوا ثمنا، وأنى أن يفعلوا .فلم يجد إلا أن يقسم على رئيس المركز أن يسمح له بتقبيل رأسه، وهو يوقن أن هذا ليس(/3)
الثمن الذي يقدمه لهم، لكنه وسيلة للتعبير عن بعض المشاعر الصادقة . امرأة اعتادت الفساد ومخالطة الشباب من غير المحارم تبكي وتعلن توبتها في المركز بعد أن وقف أحد الأعضاء ينصحها ويعضها وهو تحت وابل المطر، وقد تجاوبت عيناه مع السماء فهو يبكي، فتقول أدركت فعلا أنه رجل صادق . شاب يلاحق فتاة في الشوارع ويقف ينتظرها عند مشغل تجاري، تنهمر عيناه بالبكاء ويعلن التوبة على يد العضو إياه الذي سمع منه الموعظة . امرأة يقبض عليها المرة الخامسة في قضية بيع للعرض، وممارسة للبغاء يهديها الله على أيديهم . وليست هي الوحيدة، ولا هذه النماذج يتيمة فذلك غيض من فيض، وقطرات من بحر . مروج للمخدرات يستفيق من غفلة بعد رعاية وحسن معاملة أحدهم . فما أن خرج من السجن حتى جاء يبحث عنه شاكرا، والآن حين تراه لاتصدق تاريخه السيء . فلو سألتك بعد ذلك عن السادسة لقلت بأعلى صوتك ( استنقاذ الكثير من أوحال الفساد وإنقاذهم من طريق الضلال) . السابعة :- أما السابعة من محاسنهم فهي مساهمتهم في دفع العقوبة الإلهية التي تنزل حين يقارف المنكر، ولا يجد من ينكره . ( وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون ) ( واتقوا فتنة لاتصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب ) الثامنة :- كم مجرم قبض عليه هؤلاء، وكم من عصابة محترفة للفساد والرذيلة، وكم من مروج للمخدرات، ومصنّع للخمور . أتظن أن مواجهة هؤلاء أمرا سهلا ؟ . وبأي قوة يواجهه هؤلاء الرجال أولئك العتاة، جلاوزة الإجرام، وعصابات الفساد ؟ . أليسوا يخاطرون بحياتهم وأرواحهم عندما يواجهون أولئك ؟ أليست هذه ثامنة المحاسن ؟ . التاسعة :- ومع هذه الجهود، وحماية الأعراض، ومواجهة الفساد، والتضحيات الغالية، يحمون أعراض من لايتورع عن الخوض في أعراضهم، ويقدمون الخير لمن لايكف لسانه عنهم . فمع هذا الجهد ينظر البعض إليهم شزرا، فيسمعون النقد اللاذع، ويقرأون في وجوه البعض أمارات عدة يجمعها عدم الرضا عنهم . ومما يزيد الطين بلة، والهم غماً، صدور النقد والتجريح من بعض الأخيار ، وطلاب العلم الذين ينتظر منهم فوق الكف عن الإساءة : الإعانة، والتأييد . فما حال من يرى الإساءة ممن أحسن إليه، ونكران الجميل لمن أهداه إليه ، أوليست تاسعة المحاسن : تحمل الأذى النفسي، ومواجهة إحسانهم بالإساءة ? بلى والله . العاشرة:- عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " مروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر قبل أن تدعوا فلا يستجاب لكم " ( رواه ابن ماجه ) بل يقسم النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك فيقول في حديث حذيفة " والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا من عنده ثم لتدعنه فلا يستجاب لكم " ( أخرجه أحمد والترمذي ) . إذا فحين يقصر الناس في هذا الواجب الشرعي يستحقون لهذه العقوبة الشنيعة، ألا وهي انغلاق أبواب السماء، ومن يفتحها ؟ إنهم أولوا البقية الذين ينهون عن الفساد في الأرض . فبقيام هؤلاء وغيرهم بهذا الواجب، تندفع هذه العقوبة، وينفتح للناس هذا الباب . الحادية عشرة :- لقد أثنى الله على الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، فوصفهم بالفلاح فقال ( ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون ) . ووصفهم بأنهم أولو بقية ( فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض) . وبعد هذه الجولة مع المناقب والمحاسن، كأني أحس أنك ستقول، وتسأل : بعد أن عرفت هذه المحاسن ماذا عما يصدر منهم من تجاوزات ؟ ومايرتكبون من أخطاء ؟ أم أنك لاتعلم شيئا عنها ؟ أو أنك تنظر بعين الأعور إلى المحاسن وحدها ؟ وعين الرضا عن كل عيب كليلة *** ولكن عين السخط تبديالمساويا فلئن انطبق علي أنا القاريء شطر البيت الأخير فلن تخلو أيها الكاتب من نصيب من الشطر الأول . لعل هذا قد يختلج في صدور بعض القراء الكرام . فأقول : أرجو أن لا أكون كذلك، وأن لا أدافع بالحماسة والعاطفة، فالخطأ يحصل ولابد . ولايسوغ أن ندافع بالباطل . لكن دعنا نطبق المنهج الشرعي في ذلك .
ألايخطيء هؤلاء؟(/4)
أولا :- أليس البشر عرضة للخطأ، وهل رأيت في حياتك أحدا خلا من الخطأ ؟ تفكر في أعز أصدقائك وأقربهم إليك ألا تجد منه عيبا ؟ ألم يرتكب ضدك خطأ يوما من الدهر ؟ إذا كنت في كل الأمور معاتبا *** صديقك لم تلق الذيلاتعاتبه فهل كون هؤلاء في هذا المجال يجعلنا نريد منهم العصمة ؟ فليست لأحد بعد أنبياء الله . ثانيا :- هل عرف التاريخ أبر وأطهر ممن اختارهم الله لصحبة نبيه، وهل سطر أحد في صفحاته أنصع مما سطره ذاك الجيل الفريد ، ومع ذلك فهل سلموا من الخطأ؟ جاء رجل جاهل فبال في طائفة المسجد ، فماذا كان من أولئك رضوان الله عليهم ؟ لقد انتهروه ، وفي غير ما حادثة يقول أحدهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم دعني أضرب عنق فلان، وقد يكون لم يرتكب مايوصله إلى ذلك . فهل أنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم وغلظ عليهم ؟ أليسوا قد وقعوا - رضوان الله عليهم - في الخطأ في أسلوب الإنكار . وهل تريد بشرا في هذا العصر أفضل من أولئك ؟! ثالثا :- الخطأ حين يقع فلايتحمله إلا صاحبه، فلِم يؤخذ الجميع بجريرة الواحد ؟ والناس لايلفت انتباهم إلا الخطأ، فيرون رجال الحسبة مررا ولاتبقى في مخيلتهم المواقف المشرفة، وحين يرون خطأً يرتسم في أذهانهم، وهكذا البشر . رابعاً:- الهيئة جهاز حكومي كسائر الأجهزة، فهل هم وحدهم يقعون في الخطأ ؟ أفليس لرجال المرور تجاوزات، ورجال الشرطة، ورجال الجمارك …أوليس هناك أخطاء لرجال الصحة والبلديات قد يذهب ضحيتها أرواح بريئة ؟! وهكذا سائر الموظفين فلم هؤلاء وحدهم ؟ أم أن وراء الأكمة ماوراءها . خامسا :- من أبسط قواعد العدل والمنهج الشرعي أن تذكر المحاسن مع المساويء ، والإنجازات مع التجاوزات، أوليس صلى الله عليه وسلم عفا عن رجل أفشى سرا عسكريا خطيرا للأعداء لأنه شهد بدراً ؟ أننسى العشر السابقة مقابل خطأ واحد ؟ وهل سمعتم من المتحدثين عن المزالق والتجاوزات من يردفها بحسنة واحدة مما قلنا ومالم نقل، فأين العدل ياأمة العدل ؟! سادسا :- هل تفضل هذا المتحدث يوما بزيارة أحد المراكز ليرى صدق ماسمع، وليبدي النصيحة، ويناقش أصحاب الشأن ؟ أليس هذا هو الواجب الشرعي، وبعض مايمليه منطق العدل والإنصاف، حينئذ يدرك الأمر على حقيقته ويطلع على ما كان خافيا عليه من قبل، ويجد الإجابة على أي تساؤل يطرحه . ويسمع للنصيحة الصادقة حين تصدر منه . سابعا :- هب أن المساويء ربت على المحاسن، والتجاوزات طغت على الإنجازات، هب ذلك جدلا، ولو كان محالا حقيقة، فما الحل ؟ . أهو الحملة الشعواء، والتجريح اللاذع، والثلب اللامسؤول ؟ أم هو الإصلاح، والمناصحة ؟ ولو وصل الأمر إلى هذا الحد . أفيترك واجب الأمر والنهي، وتوصد أبواب الإصلاح بهذه الحجة ، أم نسلك سبيل الإصلاح والتغيير ؟ فهل الوسائل التي يسلكها الكثير من الناس الآن، وسائل إصلاح فعلية ؟ وهل تخدم أم تهدم ؟ . وبأي منطق عقلي، أو مستند شرعي تدرج هذه الأساليب الهوجاء في قائمة الغيرة على المجتمع والسعي لإصلاحه ؟ ثامنا :- ثمة رجلان : الأول يرى المنكر فتأخذه الحمية لدين الله، والغيرة على حرماته ، فيتحرك الدم في عروقه غضبا لله وانتصارا لدينه ؛ فينكر بأسلوب خاطيء، ويسيء وهو يريد الإصلاح . وأما الثاني فيرى المنكر بملء عينيه، ويسمع عن انتهاك حرمات الله، ومع ذلك لايلفظ ببنت شفه، ولا يحرك لديه ساكنا، لأنه ليس وكيلا لآدم على ذريته، ولن يحجز السيل بعباءته-كما يقول البعض- واحتكم إليك الرجلان . فأيهما أكثر خطأ، وأيهما أكبر جرما ؟ وإياك أن تحكم عقلك، ومنطقك البشري . فالحكم ليس إلا لله ولشرعه ( وأن احكم بينهم بما أنزل الله ) . فهل من اجتهد فأخطأ، أشد خطأً ممن يتخلى عن الواجب الشرعي بحجج باردة، ومنطق بشري . دون عذر أو مبرر . وهب أن الأول كان أشد خطأً، وأعظم إثما، فهل صفحة الثاني بيضاء نقية؟. وإذا تحمل الأول 70% من الخطأ فلم لايحوّل جزء من الحملة، ويوجه بعض النقد لصاحب الـ 30% ؟ إنه المنطق المعكوس . أما إن أردت الفصل فالأول أخطأ من حيث أراد الصواب، والله يغفر له بل يجزيه أجر على اجتهاده، وأما الآخر فقد قصر لسكوته عن المنكر وسيسأل يوم القيامة (ما منعك إذ رأيت المنكر أن لا تنكره). وما أكثر الصنف الثاني الذي يرى المنكر بعينه وعيانه، فلا يصنع شيئاً، ولا يحرك ساكناً!! فله شأن غير هذا، والأمر يعني غيره. فهل سمعنا في المجالس من ينقد هؤلاء الساكتين، ويبين خطأهم تلميحاً أو تصريحاً؟!. فإن كان الحديث عن رجال الحسبة وأخطائهم مبعثه الغيرة على الدين، فلِمَ لم تفعل الغيرة فعلها هنا؟. أو ليس هذا خطأ؟ تاسعاً: التثبت في الأخبار من صفات العقلاء، فضلاً عن أنه منهج شرعي، فهل نحن نسلك هذا المنهج في التعامل مع الأخبار التي نسمعها عن هؤلاء، فقد يروي لك أحدهم خبراً وقد عاقبوه، أو قبضوا عليه، وتُسلّم بكل ما يقول، ومثل هذا ولو كان عدلاً فهو خصم، فهل تسمع قول أحد الخصمين وحده. فكيف لو كان فاسقاً،(/5)
أو غير موثوق، أو لا يتورّع عن الكذب، والنقص والزيادة؟
وقفة مع الشائعات
ولنقف وقفة يسيرة مع الشائعات التي كثيراً ما نسمعها، وللأسف نتعامل معها بغير المنهج الشرعي. القسم الأول: وهذا باطل جملة وتفصيلاً، فقد تلقى أحد رؤساء المراكز مكالمة هاتفية تستفسر عن حالة قتل حصلت له، وآخر تلقى تعزية في عضوين جالسين أمامه وأما ثالثة الأثافي فرجل تلقى مكالمة للتأكد من أن عضواً سينفذ فيه القصاص غداً الجمعة، لأنه اختصم مع شخص فقتله خطأ يوم الثلاثاء، وانظر كيف يحمل الخبر مقومات كذبه، ومع ذلك ينطلي على بعض العقلاء، فقتل الخطأ لا قصاص فيه، وكيف يتم التحقيق، والحكم، والتّصديق من هيئة التمييز ثم من المجلس الأعلى للقضاء، والأمر بالتنفيذ من الجهة التي تملكه في يوم واحد. وأمثلة ذلك كثيرة. أن تروج الإشاعة وتلوكها الألسن، ويرددها الكثير، ومع ذلك فلا أصل لها. القسم الثاني: أما الثاني فهو صحيح جملة، لكن تفاصيله غير صحيحة، بل قد تكون أضعاف الأصل، قصة شهدت بعض فصولها في أحد المراكز، وقد قبض على رجل أجنبي حقيقة وحكماً، وهو طرف في قضية تمتد إلى الدعارة، وبيع لحم الخنزير، فبينما هو في غرفة التوقيف، إذا به يخنق نفسه منتحراً، ثم سمعت بعد ذلك من أكثر من مصدر، أنهم قاموا بضربه حتى فارق الحياة، أرأيتم كيف تفارق هذه الأخبار الحقيقة، بل وأحد الناقلين طالب علم وللأسف. القسم الثالث: وثالث الإشاعات أن يرى الناقل خبراً لا يدرك تفاصيله، فيجتهد -رحمه الله- في تفسير الخبر، قائلاً: رأيت بعيني، وسمعت بأذني، وشممت بأنفي، كذا وكذا. قبض مرة رجال الحسبة على مروج للمخدرات واحتاج منهم ذلك لبعض العراك، وكان الأمر وقت الأذان، أتدري ماذا قال الحاضرون، وبم فسروا الحدث؟ أترك لك استنباط ذلك. مع قصة لها شبيهة، مع ثالثة قبضوا فيها على شاب يعتدي على امرأة أثناء خروجها من أحد المحلات التجارية فتستنجد المسكينة، برجال الهيئة القريبين منها، فيقبضون على صاحب النزوة، وفي آخر السوق يراهم أحد المارة، فيعلق. ألأجل تأخره عن الصلاة تفعلون به ذلك ؟ إنها مواقف كثيرة من هذا القبيل، فثمت فرق بين رواية الخبر وتفسيره، والحديث عن أبعاده، وكثيراً ما يخلط المستمع للخبر بين الرواية، والتفسير. القسم الرابع: أما هذه فيكون الراوي فيها هو صاحب القضية، فيعمد إلى حذف بعض المقاطع المهمة، ليصور نفسه بريئاً، وجميع الناس ظلموا المسكين الغافل، كان المذكور يعاكس في السوق، ويتعرّض للحرائر، فيحول بينه هؤلاء وبين تحقيق شهوته فتسمع الرواية. "كنت في السوق فقبض عليّ دون جريمة، ودون تهمة". تماماً كما يفعل الطالب الكسول فيصور مشكلته لوالده، وكأنه مظلوم تمالأ الجميع عليه وهو مسكين بريء، فحين يقدم للمدرسة يرى مواضع حذفها الراوي، هي أهم فصول المشكلة. وقد يكون راوي القصة لا يشهد الصلاة أصلاً، أو من المعروفين بالفسق، أو من الذين لا يتورّعون عن الكذب، وما أكثر هذا الصنف، فبأي منطق يطعن في الأخبار العدول، بخبر من الكذب أهون عليه من شرب الماء ؟ القسم الخامس: وقد تصدق الخامسة، وحينئذ فما الموقف الشرعي؟! أهو التندر بها في المجالس، أم المناصحة بعد التأكد، ومقارنتها بالمحاسن؟! فالماء إذا بلغ القلتين لم يحمل الخبث.
الناس تجاههم(/6)
كيف يتعامل الناس مع هؤلاء الرجال؟ وما مواقفهم منهم؟ إنهم أصناف : الصنف الأول: من يتعاون معهم، ويشعر أنهم يقومون بالواجب نيابة عنه، ويدافعون عن عرضه، وعرض إخوانه، فهو ينافح عنهم، ويؤازرهم، ويشعر أن قضيتهم قضيته. الصنف الثاني: من يقع فيهم، ويتحدّث عن مثالبهم، وينتقدهم، دون إشارة إلى محاسنهم، وهؤلاء الصنف ليسوا فئة واحدة. فأولهم رجل عدوّ للدين يسوؤه أن يرى راية الدين والحق عالية. وثانيهم رجل صاحب شهوة، ونزوة، يقطع عليه هؤلاء شهوته. وأما الثالث، فرجل خَيّر فاضل مستقيم، يحب الخير وأهله، ويمقت الشرّ وأعوانه، ولو دعته نفسه لمقارفة شهوة، أو السير وراء نزوة، فلن يدعوه ذلك للوقوف ضد الخير ولسان حاله: أحبّ الصّالحين ولست منهم *** لعلي أن أنال بهم شفاعة وأكره من تجارتهم معاصي *** وإن كنا سويًّا في البضاعة وصاحبنا الثالث إنما أتى من جهله بواقعهم، وسماعه لبعض أخطائهم، والناس أعداء ما جهلوا. الصنف الثالث: من لا يعنيه الأمر في قليل ولا كثير، ولا يشعر أن له ناقة في الأمر أو جملاً، فلسان حاله يقول: مالي وهؤلاء وجدوا أو لم. صدق ما يقال أو لم.؟ وهمه هل سيخسر متجري، أو ينقص مرتبي؟ أو أفقد منزل؟ إنه المنطق الأناني، منطق من يعيش لنفسه لا لأمته. أخي الغيور أعرف أن الكثير ممن يروج هذه الإشاعات ممن لا يقصد الإساءة إنما أتى من جهله بواقع هؤلاء الذين لاجتهادهم لا يتحدثون عن منجزاتهم، ولم يجدوا من يفتح لهم المجال، إلا صحفي سار يشوه السمعة إما بمقال غير مسئول، أو مقابلة مع أحد المسئولين منهم يزيد فيها ويحذف، ناهيك عن الأسلوب غير المؤدب في طرح الأسئلة على أمثال هؤلاء. فلنستنطق لغة الأرقام، ونفتح صفحة من سجل الإحصاءات لنرى بعض منجزات هؤلاء التي لم تجد من يتحدّث عنها. أخي الكريم، أتدري من الرابح ومن الخاسر في هذه الحملة ضد هذا الجهاز الذي عرفته الأمة من صدر الإسلام واسع الصلاحيات، شامخ البنيان، ساري الأمر على الصغير والكبير؟ إنه أحد اثنين لا ثالث لهما مغرض يُريد الإفساد، أو طائش يُريد فتح أبواب شهوة أغلقها عليه هؤلاء. أخي الكريم إياك والمنطق المعكوس، منطق الأنانية والفردية، ممن يقول وما مسئوليتي في الأمر، وما علاقتي وشأني في هذا وذاك؟ أنسيت يا أخي أنك عضو في أمة، وأنك تنتمي لمجتمع، فحين تتخلى أنت عن مسئوليتك، ويعتقد الآخر أنه غير مسئول، ويقول الثالث هذا ليس من شأني، فمن يتبنى قضايا الأمة، ومن يحمل هموم المجتمع.؟! أتعلم يا أخي، أن من ذبّ عن عرض أخيه، ذبّ الله عن وجهه النار يوم القيامة، فلم لا تخلص النية، وتحتسب في الأمر، وتقول كلمة في الدفاع عن هؤلاء. لا عن عاطفة واندفاع، ولا عن حماس فائر إنما عن واقع ومعرفة.
رسالة للمحتسب(/7)
أخي القارئ بعد هذه الجولة التي آمل أن تكون ممتعة لك، أستأذنك في أن أوجه رسالة للمحتسب. أخي المحتسب، ندرك تمام الإدراك ما تقوم به -حفظك الله- من جهد، وما تبذله -رعاك الله- من تضحيات. ولئن كان السكوت عن الشكر، وغضّ الطرف عن الجهود الخيرة، عدم عرفان للجميل، وعدم وفاء لصاحب الفضل. لئن كان الأمر كذلك فليته وقف هاهنا. ليتك يا أخي نجوت كفافاً لا عليك ولا لك، وليت الذين تدافع عن أعراضهم، وتحمي مجتمعاتهم كفّوا عن عرضك، ورعوا حرمتك. وإن كان الواجب هو العرفان، والوفاء. أخي الكريم، إن هذا مما يزيدك منزلة عند من تعمل من أجله، وتضحي في سبيله. فهل سواء -أخي المحتسب- من يعمل وهو يتلقى الدعم والتأييد، ومن تنكر جهوده، وتدفن محاسنه، بل يتلذذ الناس بالولوغ في عرضه؟. نعم أخي أجزم أنك تدرك الإجابة. إننا يا أخانا الفاضل مع رجائنا أن تقف المعركة، وأن يتورّع الجميع عن الولوغ في الأعراض البريئة، نقول: -وما تلقاه لا يسرنا أبداً- لقد أضفت إلى عملك عملاً آخر، ألا وهو ما وعد الله صاحبه بالجزاء من غير حساب ((إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب)) نعم أخي، إنه باب آخر من أبواب العبادة، ومنقبة أخرى لك لن ينساها الأوفياء. أخي الكريم، لقد قيل قبلك لمن هو خير منك ((ما نراك اتبعك إلا الذين هم أرَاذلُنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنّكم كاذبين)). ((لئن لم تنته… لتكونن من المرجومين.. من المخرجين.. وإنا لنراك فينا ضعيفاً ولو لا رَهْطُك لرجمناك..). وغير ذلك كثير، أو لا تودّ أن تتشبه بهؤلاء، فمن تشبه بقوم فهو منهم. أخي الكريم، ومع هذه الكآبة، والمضايقة، هناك ألسنة جادّة، صادقة تلهج بالثناء عليك، بل والدعاء والتضرعّ لك، نعم، وليسوا -يا أخي- قلة، وإن لم تسمعهم فنحن نسمعهم، وما فعلوا ذلك إلا لأنك قائم بالحقّ، فهم يرجون وجه الله. أفليس لك من العزاء أن تنال مع أجر الصابرين، ثناء الصّادقين، ودعاء الرّاكعين السّاجدين؟. أخي الكريم، إن البنت التي أنقذتها من الورطة لن تنساك أبداً، وإن والديها -وإن لم يقولا للناس- فلن يفتر لسانهما عن اللهج لك بالدعاء والتوفيق. وإن الذي هداه الله على يديك أقل ما يكافئك به دعوة صادقة في ظلمة الليل. أخي الكريم، ومع ذلك كله فمعك أقوى نصير، وأكرم معين ((إن الله يدافع عن الذين آمنوا)). ((الذين يَلْمِزُونَ المطّوّعين من المؤمنين في الصّدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم). أخي الكريم، أستأذنك في أن أودعك راجياً أن يشفع لي ما سطرته دفاعاً عنك، وانتصاراً لك، أن يشفع لي ذلك في التجاوز عما ارتكبته من تقصير في حقك، حفظك الله ووقاك، وأيدك وأعانك على أداء الأمانة. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
فصول الكتاب
مقدمة
صفحة من تاريخ الحسبة
وقفة مع المحاسن
ألايخطيء هؤلاء؟
وقفة مع الشائعات
الناس تجاههم
رسالة للمحتسب(/8)
من حقوق البيوت في الإسلام
الدكتور نظمي خليل أبو العطا
علمنا في مقالات سابقة كيف حمى الإسلام حقوق الجنين، والطفل، والرجل، والمرأة، والحيوان، والنبات، والكائنات الحية الدقيقة والجماد.
واليوم نعيش مع حقوق البيوت المادية والاجتماعية والأمنية والتربوية في الإسلام فالبيت هو المكان الوحيد الذي نعيش فيه مع من نحب من الزوجة والزوج والأولاد والآباء والأمهات والأرحام والخدم وغيرهم.
ومن حقوق البيوت في الإسلام:
1. الحق في الوجود والتشييد والتنظيم:
فأول حق للبيت هو التشييد والبناء بمواد البناء المتوفرة والمتلائمة مع العوامل البيئية في مكان البيت وأن تكون أرض البناء حلال غير مغتصبة فالأبنية وشؤون العمران من جوانب الحياة المهمة ولذلك فقد استغرقت أحكامها مجالاً واسعاً في كتب الفقه الإسلامي ودخلت في أبواب متعددة منه، والفت فيها كتب مستقلة فخرج من ذلك تنظيم تشريعي دقيق في حق الإنسان في البنيان والعمران ولهذا الحق خصائصه ومنهجه المتميز مما يدل على أهمية البنيان وارتباطه بالدين والحياة وقد صدرت في الأعوام الأخيرة العديد من الرسائل العلمية المبينة لأهمية البيوت وحقها في التشييد قد أجملها الدكتور عبد الرحمن بن صالح الأطرم عند تحقيق لكتاب الإعلام بأحكام البنيان لابن الرامي البناء والذي قال فيه: هذا كتاب جمعت فيه مسائل الأبنية في الجدار ونفي الضرر والغروس والأرحية من أمهات الدوواين وكتب المتأخرين، ونوازل القضاة ومسائل المفتين) أ هـ .
وقال الله تعالى في كتابه الكريم(والله جعل لكم من بيوتكم سكناً وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتاً تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثاً ومتاعاً إلى حين) النحل (80).
فهنا يذكر الله تعالى عباده بنعمة، تكنكم من الحر والبرد، وتستركم أنتم وأولادكم وأمتعتكم وتتخذون فيها الغرف والبيوت التي هي لأنواع منافعكم ومصالحكم وفيها حفظ لأموالكم وحرمكم وغير ذلك من الفوائد كما قال الشيخ عبد الرحمن بن السعدي رحمه الله في تفسير الآيات.
2 ـ الحق في الحماية من الإهمال والكوارث:
الحرائق من أهم وأخطر الكوارث المادية التي تصيب البيوت وتقضي على مكوناتها ومحتواها ولذلك كان من الهوى العلمي النبوي حماية البيوت من الحريق بالوقاية من مسبباته فقال صلى الله عليه وسلم: (لا تتركوا النار في بيوتكم حين تناموا)رواه البخاري.
فترك النار في البيت أثناء النوم من أهم مسببات كارثة الحريق في البيوت لذلك نهى المصطفى صلى الله عليه وسلم المسلمين أن يتركوا النار مشتعلة في البيوت ثم يناموا ومن هنا وجب التدفئة بالخشب والفحم والغاز وإطفاء نار المطابخ والخيام والبحث عن بدائل آمنة للبيوت المحتاجة إلى التدفئة كالتدفئة بالمياه الساخنة ودفايات الزيت والهواء الساخن وغيرها، وما ينطبق على البيوت ينطبق على المدارس والمصانع والمطابخ العامة ومؤسسات الأفراد والدولة، ومن المسببات العامة للحرائق في البيوت والمباني السُرج المعرضة للاشتعال بالحيوانات الليلية كالفئران والقطط وغيرها فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(غطوا الإناء وأوكئوا السقاء، وأغلقوا الأبواب وأطفئوا السراج، فإن الشيطان لا يحل سقاء، ولا يفتح باباً، ولا يكشف إناء فإن لم يجد أحدكم إلا أن يعرض على إنائه عوداً ويذكر اسم الله فإن الفويسقة (أي الفأرة) تضرم على أهل البيت بيتهم) رواه البخاري.
فقد يتسبب انكفاء السراج ليلاًَ من على الحوائط بالفئران والقطط والحمام في اشتعال النار في البيت وأهله نيام فلا يفيقون إلا والنيران تحيطهم من كل جانب ولهذا فإن من الشرع تأمين بيوتنا ضد الحريق ومسبباته، وأن نضع فيها أنابيب إطفاء مناسبة ونتعلم كيف تستخدمها.
فكم من بيوت تحولت إلى رماد وعجز أفراد الأسرة عن إطفاء الحريق في بدايته لنومهم أو إهمالهم أو جهلهم، كما أن في الحديث الأخير حماية للبيوت من الغرق بترك السقاء كالصنابير ومحابس غلق المياه مفتوحة أو تالفة فعرقت البيوت وأهلها نيام أو هم خارج البيت أو في سفر طويل.
كما وجب التأكد من أن الأبواب مغلقة ومؤمنة وبذلك نحمي البيت من السرقة والكوارث.
2. الحق في التنظيف والحماية من التلوث الميكروبي:
فقد أمرنا المصطفى صلى الله عليه وسلم بعدم ترك القمامة في البيوت، وأمرنا بالمداومة على إخراجها من البيت وتنظيفه فقال:(فنظفوا أفنيتكم ) جزء من حديث رواه الترمذي وقد أمرنا الرسول صلى الله عليه وسلم بمخالفة الذين يتركون القمامة في أفنيتهم أو بيوتهم وفي هذا حفظ لبيوت المسلمين من التلوث الميكروبي، ومن الممرضة الكريهة، وهذا يوجب على المسلمين إنشاء نظام علمي صحي اجتماعي محكم لجميع القمامة من البيوت وعدم تركها بجوار البيوت في الحاويات والطرق والتخلص منها وفق القاعدة الشرعية (الضرر يرفع) وقاعدة (لا ضرر ولا ضرار).(/1)
كما حذرنا المصطفى صلى الله عليه وسلم من انبعاث روائع الطعام ودخان المطاعم، وإيذاء الجار بروائح الشواء وغيرها وفي هذا حماية للبيوت من الروائح الكريهة والمنفرة.
3. الحق في الحماية من التلوث الضوضائي:
فقد حمي الله سبحانه وتعالى البيوت من التلوث الضوضائي والأصوات الخارجية العالية، وجعل المناداة على أهل البيت من الخارج بصوت مرتفع مزعج من قلة العقل قال تعالى: (إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون. ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيراً لهم والله غفور رحيم) الحجرات 4،5.
ففي هذا الهدى القرآني يعلم الله سبحانه وتعالى المسلمين أن لا ينادوا أصحاب البيوت من الخارج بأصوات عالية مزعجة، أو بآلات تنبيه السيارات وغير ذلك، وقد جعل الله هذا الفعل من قلة العقل حيث لم يعقلوا أدب الإسلام في المناداة والتواصل مع الساكنين في البيوت، فأدب الله هؤلاء القوم وحفظ حق البيوت في الهدوء والحماية من التلوث الضوضائي والله غفور رحيم لمن كان لا يعلم هذا الحكم وعمل به ثم تعلّّمه وأقلع عنه عندنا علمه (والله غفور رحيم) غفور لمن صدر منه هذه المخالفات من الإخلال بالآداب الاجتماعية العامة، رحيم بهم حيث علمهم السلوك السوي، ولم بعجل لهم العذاب على هذا السلوك المشين، وبذلك سبق الإسلام علماء الآداب الاجتماعية والسلوك الاجتماعي في تعليم المسلمين إعطاء البيوت وسكانها حقهم في الحماية من التلوث الضوضائي ويتدرج تحت ذلك استخدام مكبرات الصوت بطريقة غير مقنعة في إزعاج السكان وحرمانهم من الهدوء والتلوث الضوضائي، كما يدخل في ذلك استخدام الأصوات العالية للمسجلات في البيوت والسيارات مما يسبب إزعاجاً عاماً.
4 الحق في الحماية من أنظار الفضوليين:
فقد علّم الله سبحانه وتعالى المؤمنين وجوب غض البصر عامة فقال سبحانه (قل للمؤمنين بغضوا من أبصارهم) النور (30).
وقال:(وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن )النور: 31.
وقد حمى حمى الله سبحانه وتعالى البيوت من أنظار الفضوليين، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من أطلع في دار قوم بغير أذنهم ففقئوا عينه فقد هدرت عينه) وما رواه سهل بن سعد، رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمن أطلع في إحدى حجراته، وكانت في يده مدري يحك بها رأسه (لو كان أعلم أنك تنظر لطعنت بها عينك).
وفي هذا الهوى حماية للبيوت من نظرات الفضوليين والمعتدين على الحرمات والمتجسسين.
4. الحق في تنظيم الدخول إليها:
فقد نظم الإسلام الدخول إلى البيوت والاستئذان لدخولها بقوله تعالى:(ليس البر أن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها وأتقوا الله لعلكم تفلحون) البقرة 189.
فكان الأنصار وغيرهم إذا أحرموا، لم يدخلوا البيوت من أبوابها تعبداً بذلك، ظناً (منهم) أنه بر، فأخبر الله تعالى أنه ليس من البر، لأن الله تعالى لم يشرعه لهم، وكل من تعبد بعبادة لم يشرعها الله ورسوله فهو متعبد ببدعة، وأمرهم أن يأتوا البيوت من أبوابها لما فيه من السهولة عليهم).
كما أورد الشيخ عبد الرحمن بن السعدي رحمه الله في تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، هذا بالنسبة إلى بيت الإنسان، أما بالنسبة لبيوت الآخرين فقد قال الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون) النور (27).
والاستئناس : بمعنى الاستئذان وإعلام الطارق أهل البيت أعلاماً تاماً أنه قادم عليهم، وفعل ما يؤنس أهل البيت ويدفع عنهم الوحشة التي تلم بهم إن لم يفعل، وبذلك على القادم أن يطلب العلم برأي أصحاب البيت في دخوله وإعلامهم إعلاماً مؤكدا بقدومه، بطلب ما يؤنسهم ويتعرفون عليه وأن يؤنسهم قبل الدخول.
والاستئذان لدخول البيت ثلاث مرات الأولى لإسماع أهل البيت، والثانية ليتهيئوا، والثالثة ليأذنوا بدخوله أو يردوه.
وإذا قال له أهل البيت أرجع فعلية أن يرجع من دون غضب أو قطيعة قال تعالى ( وإن قيل لكم أرجعوا فأرجعوا هو أزكى لكم والله بما تعملون عليم) النور 28.
وعلى الطارق أن لا يقف صوب الباب ولا ينظر في البيت فإنما جعل الاستئذان من أجل النظر. وقد جعل الله البيوت سكناً يقي إليها الناس، فتسكن أرواحهم وتطمئن نفوسهم ويأمنون على عوراتهم وحرماتهم، ويلقون أعباء الحذر والحرص المرهقة للأعصاب، والبيوت لا تكون كذلك إلا حين تكون حرها آمناً لا يستبيحه أحد إلا بعلم أهله وإذنهم، وفي الوقت الذي يريدون، وعلى الحالة التي يحبون أن يلقوا الناس عليها.
5. الحق في تنظيم تنقل أهل البيت بداخله:(/2)
فقد نظم الإسلام تنقل أهل البيت بداخله تنظيماً حضارياً معجزاً عجيباً قال تعالى:( يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء ثلاث عورات لكم ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن طوافون عليكم بعضكم على بعض كذلك يبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم) النور (58).
وفي هذا تنظيم دقيق لدخول الخدم والأطفال والأبناء على الآباء وقت النور والراحة.
قال تعالى:( وإذا بلغ الأطفال الحلم فليستأذنوا كما أستأذن الذين من قبلكم كذلك بيت الله لكم آياته والله عليهم حكيم ) النور (59).
وعندما سأل الرجل الرسول صلى الله عليه وسلم الدخول على أمه التي يخدمها قال (أستأذن ثم قال له: أتحب أن تراها عريانة)، إنه الهدى الاجتماعي النبوي الذي يحفظ العورات والأخلاق حتى يبين الآباء والأبناء وهذا من عظمة الإسلام.
6. الحق في تنظيم الأكل في البيوت:
فقد نظم الإسلام الأكل في البيوت قال تعالى: (ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم أو بيوت أمهاتكم أو بيوت إخوانكم أو بيوت أخوالكم أو بيوت أعمامكم أو بيوت عماتكم أو بيوت أخوالكم أو بيوت خالاتكم أو ما ملكتم مفاتحه أو صديقكم، ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعاً أو أشتاتاً فإذا بيوتاً فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله مباركة طيبة كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تعقلون) النور 61.
وهذه الآية تشير إلى أن القرابة والصداقة ليس معناها إغفال الآداب العامة وإهدار حقوق البيوت في السلام وتنظيم الأكل، وقال تعالى:( يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه ولكن إذا دعيتم فأدخلوا فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث. إن ذلكم كان يؤذي النبي ) الأحزاب (53)، فعلى المدعو إلى الطعام أن يتعلم آداب الدعوة والحضور إلى الطعام بحيث لا يأتي قبل الموعد المحدد فيؤثم أهل البيت ويطلع على ما لا يحبون أن يطلع عليه أحدن وأن لا يجلس بعد الأكل فيؤذي أهل البيت بهذا الانتظار، وفي هذا تنظيم للأكل في البيوت بالعقل والشرع.
7. الحق في الحماية من التجسس:
فقد نظم الإسلام حق النظر داخل البيوت، ونظم حق الدخول فيها، كما نظم الإسلام حق البيوت في الاحتفاظ والتنصت عليها بالإنسان أو الأجهزة الخاصة بذلك، لأن البيوت أسرار وهي عورات وفيها يمارس الإنسان حقوقه الزوجية الشرعية والاجتماعية والأسرية الخاصة التي لا يجب أن يطلع عليها أحد من دون علم وإذن صاحب البيت قال تعالى : (يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ) الحجرات : 12.
فليس من حق أحد التجسس على البيوت إلا بالقانون، ولضرورة وبأذن القضاء.
8. الحق في علاقات اجتماعية قوية:
فقد بنى الله سبحانه وتعالى الحياة الاجتماعية داخل البيوت على الحب والمودة والرحمة والسكن والعطف والتوقير والإحسان فالبيت هو المكان الذي نعيش فيه مع من نحب لذلك قال المصطفى صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح (لا أرى للمتحابين إلا النكاح)، وقال تعالى: (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون) الروم: 21.
وقد وصف الله سبحانه وتعالى بيت العنكبوت بالضعف بسبب العلاقات الاجتماعية الواهية بين سكانه، وقد أوضحنا ذلك بالتفصيل في رسالتنا إلى المتحابين من شباب المسلمين.
أما بيت المسلم فهو بيت قوي أسس على الكتاب والسنة، والكل يسعى لمصلحة الآخرين ويعمل على حمايتهم من المعاصي والنار كما قال تعالى ( يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون) التحريم: 6.
فالأم في بيت المسلم مرحومة وكذلك الأب والضيف مكروم ولكل فرد فيه حقوقه الشرعية الواردة في الآيات القرآنية والسنة النبوية المطهرة والفقه الإسلامي كما أن للجار الحقوق الاجتماعية.
كما نظم الله سبحانه وتعالى طريقة حل الخلافات الزوجية بأساليب تحفظ لكل فرد من أفراد الأسرة حقوقه الاجتماعية والنفسية والمادية والتربوية بطريقة متميزة.
9. الحق في الحماية العامة:
فقد كفل النظام الإسلامي الحق للبيوت في الحماية من اللصوص وشدد العقوبة على الساقين، وكفل الإسلام الحق للبيوت في الحماية من الزنا وهتك الأعراض وشرب الخمور وشدد العقوبة على ذلك.(/3)
كما كفل الإسلام للبيوت الحق في الحماية من الشياطين ومنها في الآيات القرآنية والأحاديث النبوية إلى ما يحمي بيوتنا من الشياطين والحرمان من دخول ملائكة الرحمة، وحمى الإسلام بيوت المسلمين من الطَّيرة، والشرك والدجل والسحر والحسد بطريقة شرعية علمية بعيدة عن الخرافات والجهل وبذلك حمى الإسلام حقوق البيوت، وحقوق سكانها بطريقة شرعية علمية مبدعة ومعجزة سباقة.
المصدر: موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة(/4)
من حقوق الحيوان في الإسلام
إعداد الدكتور نظمي خليل أبو العطا
علمنا في مقالات سابقة أن لكل مخلوق حقوقه, وقد أمرنا الإسلام أن نعطي لكل ذي حق حقه, وحديثنا اليوم عن حقوق الحيوان في الإسلام وقبل أن نتحدث عن حقوق الحيوان نبين الأهمية الحيوية والبيئية للحيوان:
الأهمية الحيوية والبيئية للحيوان:
الحيوان من الكائنات الحية الأرضية المهمة فهو الذي يحول النبات إلى بروتين ولبن وشعر وصوف ووبر وعظام ويحمل الأثقال ويحافظ على السلاسل الغذائية الأرضية البرية والبحرية ويقوم بتحرير طاقة النبات والكربون الذي حبس في النبات حتى تستمر عملية البناء الضوئي من هنا كان للنبات أهمية حيوية وبيئية كبرى لايتسع المقام لبيان أهمية إعطاء الحيوان حقه, فمن حقوق الحيوان ما يلي:
1. الحق في الحماية:
فقد روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: نزل نبي من الأنبياء تحت شجرة فلدغته نملة فأخرج متاعه من تحتها ثم أمر ببيتها فأحرق بالنار فأوحى الله إليه فهلا نملة واحدة.
وفي هذا الحديث حماية لبيت النمل من الهلاك فلو أهلك نملة واحدة أي النملة التي لدغته وحدها لما عاتبه الله على ذلك, ومن حماية الحيوان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نص عن استخدام الحيوان هدفاً في الرماية فقد مر ابن عمر رضي الله عنهما بفتيان من قريش نصبوا طيرا أو دجاجة يترامونها وقد جعلوا لصاحب الطير كل خاطئة من نبلهم فلما رأوا ابن عمر تفرقوا فقال ابن عمر: لعن الله من فعل هذا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن من اتخذ شيئاً فيه الروح غرضاً, وفي هذا الحديث وغير من الأحاديث حق الحيوان في الحماية.
2. الحق في الرعاية:
( فقد عذبت امرأة في هرة سجنتها حتى ماتت لاهي أطعمتها وسقتها إذ هي حبستها ولاهي تركتها تأكل من خشاش الأرض )رواه البخاري.
( وقد مر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعير لصق ظهره ببطنه فقال: اتقوا الله في هذه البهائم المعجمة, فاركبوها صالحة, وكلوها صالحة ) رواه أبو داوود وابن خزيمه في صحيحة, وقال: قد لحق ظهره ببطنه.
روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يضغي للهرة الإناء فتشرب وهذه الأحاديث وغيرها تظهر رعاي الإسلام للحيوان.
وقف الهررة:
من منطلق حق الحيوان في الرعاية فقد أوقف المسلمون وقفاً للقطط سمي يوقف الهررة حيث يعدون طعاماً للقطط تأكل منه ثم تنصرف في الصباح والمساء.
3 ـ الحق في الرحمة:
لقد رحم الإسلام الحيوان ففي حديث ابن عباس رضي الله له أن رجلاً أضجع شاة، وهو يجد شفرته فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" أتريد أن تميتها موتتين ؟ هلا أحددت شفرتك قبل أن تضيعها " رواه الطبري واللفظ له.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فانطلق لحاجته فرأينا حمرة (طائر) معها فرخان فأخذنا فرخيها فجاءت الحمرة فجعلت تعرش فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من فجع هذه بولديها ردوا ولديها إليها.
4 ـ الحق في الطعام والشراب:
وللحيوان الحق في الطعام والشرب و قد علمنا أن مرأة دخلت النار في هرة لأنها حبستها ولم تطعمها.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (بينما رجل يمشي فأشتد عليه العطش فنزل بئراً فشرب منها ثم خرج فإذا هو بكلب يلهث، يأكل الثرى من شدة العطش قال: لقد بلغ هذا الكلب مثل الذي بلغ بي، فملأ خفه ثم أمسكه بفيه ثم رقى فسقى الكلب فشكر الله له فغفر له قالوا: يا رسول الله، وإن لنا في البهائم أجراً، قال: في كل كبد رطبة أجرا.
5 ـ الحق في رفع الظلم عنه:
قال:حق الحيوان رفع الظلم عنه قال مالك: أن عمر بن الخطاب مر بحمار عليه لبن (طوب غير محروق) فوضع عنه طوبتين، فأتت سيدته (صاحبة الحمار) لعمر فقالت: يا عمر مالك ولحماري؟ ألك عليه سلطان؟ قال : فما يقعدني في هذا الموضوع.
وقال عمر: لو أن بغلة بالعراق تعثرت لسؤل عمر عنها لماذا لم يمهد لها الطريق.
وقد رأي الفاروق رجلاً حمل بعيره مالا يطيق فضربه وقال: لم تحمل بعيرك مالا يطيق.
فال الماوردي رحمه الله (إذا كان من أرباب المواشي من يستعملها في مالا تطيق أتكره المحتسب عليه ومنعه منه (وللحديث بقية بإذن الله ).
6 ـ الحق في الوقاية من المرض:
فقد قرر الإسلام حق الحيوان في الوقاية من الإصابة بالأمراض المعدية فمن التعليمات فمن التعليمات الإسلامية (لا يوردن ممرض مصح)، والممرض هي الإبل المريض التي تعدى غيرها فلا يجب أن تحتك الحيوانات المريض بالصحيحة حتى لا تعديها وفي هذا حق لوقاية الحيوان من المرض.
7 ـ الحق في بيئة نظيفة:
فقد حرم الإسلام الإفساد في الأرض قال تعالى (ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها) ومن الإفساد تلوث الماء والنبات والهواء والتربة، فعندما ينهى الإسلام عن ذلك فإنما يحمي الحيوان من التلوث المائي والهوائي والنباتي، وهذا حق لكل كائن حي وجهاد بما في ذلك الحيوان.(/1)
8 ـ الحق في عدم تغيير خلقته:
فقد حرم الإسلام وسم الحيوان في الوجه لأن المصطفى صلى الله عليه وسلم لعن من ضرب أو وسم وجه الحيوان وقد ذكر الفقهاء أن قطع ذنب الحيوان يوجب التعزير، كما لا يجوز فصد أو قطع أو كي الحيوان من غير المختص لأن فعل ذلك بغير تخصص يشوه الحيوان ومن فعل ذلك يلزمه الضمان.
9 ـ الحق في عدم السب واللعن:
حرم الإسلام لعن البهيمة فقد روى الإمام مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كأنا في سفر فلعنت امرأة ناقة فقال: خذوا ما عليها ودعوها فإنها ملعونة، فكأني أراها الآن تمشي في الناس ما يعرض لها أحد وفي هذا حماية للحيوان من السب واللعن.
10 الحق في بيان فوائده واستثمارها:
فمن حق الحيوان في الإسلام بيان فوائده قال تعالى: ( والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون. ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس. إن ربكم لرءوف رحيم. والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون. وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر ولو شاء الله لهداكم أجمعين) النحل: 3ـ 9.
وقال تعالى: ( والله جعل لكم من بيوتكم سكناً وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتاً تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ومن أصوافها وأشعارها أثاثاً ومتاعاً إلى حين) النحل: 80.
وقال تعالى: (يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون) النحل: 69.
كما نهى المصطفى صلى الله عليه وسلم ذبح الحلوب للضيف فقال لمضيفه الأنصاري: " إياك والحلوب ".
كما أمر المصطفى صلى الله عليه وسلم الانتفاع بجلد الشاة فقال (هلا انتفعتم بجلدها).
11 ـ فقد حض الإسلام على حفظ جنس الحيوان ونوعه، فقد نهى عن حرق بيت النمل كما قلنا سابقاً وقال " فهلا نملة واحدة" .
وقال صلى الله عليه وسلم لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها فأقتلوا منها الأسود البهيم قال تعالى (وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء) الأنعام: 38.
وما دامت الطير أمة وكل دابة أمة وجب الحفاظ عليها.
12 ـ الحق في الدراسة العلمية:
فقد ينبهنا الله إلى أهمية الدراسة العلمية للحيوان وتضيف كما ذكرنا في حقه في الحفاظ على أمته وجنسه ونوعه قال تعالى: (والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على أربع يخلق الله ما يشاء إن الله على كل شيء قدير) النور: 45.
قال تعالى: (وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونها من بين فرث ودم لبناً خالصاً سائغاً للشاربين) النحل: 66.
وقال تعالى (وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتاً ومن الشجر ومما يعرشون ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذلاً. يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون) النحل: 69.
وهنا يقرر الله حق الحيوان في التفكير في خلقه ومنافعه وسلوكه من هنا أقر حق الاهتمام بدراسته العلمية وهكذا وضع الإسلام للحيوان حقوقاً ما سبق كان غيضاً من فيض ذلك.
المصدر: موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة(/2)
من حقوق المسلمين بعضهم على بعض
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ..
وبعد : فإن للمسلمين بعضهم على بعض حقوقا يجب عليهم أن يراعوها.
وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم بعض هذه الحقوق بقوله: (حق المسلم على المسلم خمس : ردُّ السلام , وعيادة المريض , واتباع الجنائز, وإجابة الدعوة , وتشميت العاطس) أخرجه الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. صحيح البخاري , رقم 1240 , الجنائز (3/112) , صحيح مسلم , رقم 2162 السلام , (ص1704).
ففي هذا الحديث الشريف يبين لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسة حقوق للمسلمين بعضهم على بعض, وحقوق المسلمين على إخوانهم كثيرة , وإنما المقصود بيان مايحتاج السامعون إلى معرفته, وهذا المنهج البياني موجود في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم , حيث يعبِّر أحيانا عن الكل بالبعض, إما للإهتمام بهذا البعض, أولأن السامعين الذين يخاطبهم بهذا البيان بحاجة إلى معرفة هذه الأمورالتي خصها بالذكر, وأحيانًا يُسأل عن شيء فيجيبُ بذكر بعض أفراد العام مراعاة لحال السائل ونحو ذلك.
وأحيانًا يكون من الحكمة في تخصيص بعض الوصايا بالذكر كونُها تحقق واحدا من أهداف الشريعة , فهذه الوصايا الخمس مثلا كلُّها تؤدي إلى تقوية الأخوة الإسلامية بين أفراد المسلمين, وهذا لون من ألوان البلاغة النبوية في جمع الخصال التي تؤدي إلى تقوية أمر من أمور الدين المهمة, ودرء بعض المفاسد التي تحطم الأخلاق وتهدد كيان الأمة .
فالسلام هو الباب الذي يتم به التعارف بين أفراد المسلمين , فإذا وجد التعارف تكونت المودة والمحبة بين القلوب , وتلك عوامل مهمة في وجود الأخوة الإسلامية وتقويتها .
وإذا كانت هذه الفوائد موجودة في ابتداء السلام فإنها متوافرة بشكل أوضح في رد السلام, حيث إن عدم رد المسلم على أخيه إذا سلَّم عليه يُوَلِّد في قلبه عليه شيئا من الحقد والضغينة, والأخلاق السيئة بين المسلمين تُضعف من مفعول الأخوة الإيمانية بينهم , فلذلك بيَّن العلماء أن رد السلام واجب وابتداءَه سنة, لأن ابتداء السلام تترتب عليه تلك المنافع ولايترتب على فقده ضرر مباشر بين فردين من المسلمين, بخلاف عدم رد السلام فإنه يورث علاقة سيئة بين أفراد المسلمين .
أما عيادة المريض فإنها من المواساة والوفاء بين أفراد المسلمين , فالمسلم بوجوده داخل المجتمع الإسلامي يُعدُّ لبنة من لبنات هذا المجتمع وعضوا فعالا فيه , يسهم في عمرانه وحيويته , ويبذل طاقته في إعزازه والرفع من شانه , فإذا مرض هذا الفرد المسلم فقد تعطل جزء من مكونات هذا المجتمع , فكان من حقه على إخوانه الذين يشاركونه في بناء هذا المجتمع أن يزوروه ليشعروه بأنهم معه في السراء والضراء , وأنهم يشكرونه على ما قدم من خدمة مجتمعه الإسلامي , ويرجون له الشفاء ليعود إلى المشاركة في عمارة المجتمع , ولذلك كان من وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن قام بعيادة أخيه المريض أن يقول: (اللهم أشف عبدك ينكأ لك عدوا ويمشي لك إلى الصلاة). مسند أحمد 2/172 , سنن أبي داود , رقم 3107 , الجنائز (3/480) .
وفي هذا بيان لأبلغ مهمات المسلم في حالي السلم والحرب , كما أن في عيادة المسلم لأخيه تسليةً له ورفعا لمعنوياته , حتى لايكون مرضه الجسماني سببا في مرض نفسي , ولذلك ينبغي تذكيره بالصبر على قدر الله تعالى والرضى بقضائه وما أعده لعباده الصابرين من الأجر الجزيل ومغفرة الذنوب , وفي هذا المعنى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لمن يعوده : (لا بأس عليك طَهور إن شاء الله). صحيح البخاري , رقم 7470 , التوحيد (13/447) .
فالمريض في حال المرض يكون منكسر النفس سريع التأثر بالوساوس الشيطانية إن لم يعصمه الله تعالى باليقين والرضى , والشيطان حريص على أن يستغل ضعف المسلم حال مرضه ليضعف من ثقته بالله عز وجل وتوكله عليه فيحاول زلزلة إيمانه .
وعيادة المريض من إخوانه المؤمنين تقوي إيمانه وتشد من عزيمته , وتُسري عنه من همومه, حيث يشعر بأنه وإن كان قعيد البيت فإنه مازال عضوا فعالا في المجتمع , لأن الذين كان يراهم في المساجد والأسواق ودور العمل قد أصبحوا يأتون إليه في بيته فيواسونه ويؤنسونه , فهو لم يفقد بمرضه صلته بالمجتمع .
أما اتباع الجنازة فإن فيه مراعاةً لحق الأخ الميت وحقوق أقاربه الأحياء , فالمسلم إذا فارق هذه الحياة فإن حقوقه على إخوانه لاتنقطع بموته , لأن هذه الحقوق ليست مقابل عوض يحصل عليه من يؤديها في هذه الحياة الدنيا ولكنه ينتظر أجرها الكبير عند الله تعالى في الحياة الآخرة .
وإن من حق المسلم الذي شاركَنا العمل في بناء هذا المجتمع الإسلامي أن نوفيه حقه بعد أن يغادر حياة العمل إلى دار الجزاء , وأن ندعو له دعاءً صالحا كي يحصل على السعادة في دار الخلد بعدما قدَّم من عمل في دار الفناء .(/1)
وهنا نجد الفرق كبيرًا بين المسلمين الذين يعرفون حق إخوانهم بعد موتهم وبين غير المسلمين الذين تنتهي علاقاتهم بانتهاء هذه الحياة الدنيا .
إن المسلم حين يموت لاينتهي وجوده , بل ينتقل من مرحلة من مراحل الحياة إلى مرحلة أخرى وهي الحياة البرزخية ثم ينتقل بعد ذلك إلى الحياة الخالدة , فإذا مات أخونا في الإسلام فإننا لم نفقده إلى الأبد , وإنما سبَقَنا إلى المرحلة الثانية ونحن به لاحقون , فمن حقه علينا أن نؤدي حقوقه بعد الموت , من تشييع جنازته والدعاء له وزيارته في قبره , فإن ذلك يُعدُّ دليلا على تخلق فاعل ذلك بخلق الوفاء , حيث لم ينس أخاه الذي انتقل إلى عالم آخر .
وذلك كله من عوامل تكوين الأخوة الإسلامية وتقويتها فإن أقارب الميت بحاجة إلى من يواسيهم ليشعروا بأن إخوانهم المسلمين معهم , وأنهم إن فقدوا فردا منهم فإنهم لم يعدموا إخوانا لهم في الله كثيرين .
أما إجابة دعوة المسلم إذا دعا إخوانه إلى طعامه فإن ذلك يُعدُّ تطييبا لقلبه ووفاء بحقه , وذلك الاجتماع وسيلة من وسائل اللقاء بين المؤمنين وإذا اجتمع المسلمون بأبدانهم فحريٌّ بهم أن يجتمعوا بقلوبهم , فلذلك كانت هذه المناسبات من أهم عوامل تكوين الأخوة الإسلامية وتقويتها.
وإجابة الدعوة سنة إلا إذا كانت في مناسبة زواج والداعي هو الزوج فإنها تكون واجبة مالم يشتمل المكان على محرمات .
أما تشميت العاطس فإنه من تبادل الدعاء بين المسلمين , فالمسلم حينما يتخلص بالعطاس من الأذى فيحمدُ الله تعالى فإن أخاه مأمور بأن يدعو له بالرحمة , ثم هو مأمور بأن يدعو لأخيه بالهداية وصلاح البال , فهذا ربط رائع للمسلم بربه جل وعلا فهو الذي يشفي من الأمراض فله الحمد والشكر وهو الذي يرحمنا فيتجاوزُ عن تقصيرنا ويمنُّ علينا بالفضل , وهو الذي يهدينا إلى الصراط المستقيم الموصل إلى سعادة الدنيا والآخرة .
وكون المسلم يشارك أخاه فرحته في تخلصه من الأذى ويتبادل معه الدعاء الصالح مما يوثق الأخوة الإسلامية بينهما , وإذا توثقت الأخوة بين الأفراد تكوَّن المجتمع الصالح.(/2)
من حكمة الله تعالى ابتلاء العباد بالمصائب والفتن.....الإمام ابن باز ...
...
28-02-2004
من حكمة الله تعالى ابتلاء العباد بالمصائب والفتن ، منها الزلازل
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى كافة إخواني المسلمين وفقني الله وإياهم لفعل ما يرضيه وجنبني وإياهم أسباب سخطه وعقابه ، آمين
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، أما بعد :
فلقد أنعم الله علينا معشر المسلمين بنعم كثيرة وخيرات وفيرة أهمها وأعظمها نعمة الإسلام تلكم النعمة الكبرى التي لا يعادلها شيء ، من عقلها وشكرها واستقام عليها قولا وعملا فاز بسعادة الدنيا والآخرة يقول الله تعالى : وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ويقول سبحانه وتعالى : وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ فالواجب على الجميع شكر الله سبحانه وتعالى على هذه النعم والحذر من عدم الشكر ، قال تعالى ممتنا على عباده : وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ فشكر الله على نعمه جملة وتفصيلا قيد لها ووسيلة لدوامها وسبب للمزيد منها قال الله تعالى : وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ وقال تعالى : بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ وقال تعالى : فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ وقال تعالى : اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ وقد أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل رضي الله عنه أن يدعو بهذا الدعاء في دبر كل صلاة اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك وبشكر الله على نعمه واستعمالها فيما يرضيه تستقيم الأمور وتقل الشرور .(/1)
وإن من خير ما تحلى به أنبياء الله ورسله عليهم الصلاة والسلام وأتباعهم من الصفات الفاضلة هو شكرهم للنعمة وطلبهم التوفيق لذلك ، قال الله تعالى عن نبيه سليمان عليه الصلاة والسلام : رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وقال ومن علامات شكر النعمة استعمالها في طاعة الله سبحانه وتعالى وعدم الاستعانة بها على شيء من معاصيه ، وكذا التحدث بها على وجه الاعتراف بها لله والثناء عليه ، لا تطاولا وفخرا على من حرمها ، ولا رياء وسمعة ، وعلى العكس من ذلك كفران النعمة وعدم شكرها فهو نكران للجميل وجحد لفضل المنعم وعامل من عوامل زوالها عمن أنعم الله بها عليه وهو ظلم للنفس يجر عليها أسوأ العواقب قال الله سبحانه وتعالى : قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا أي دنسها بالمعاصي ، وبتقوى الله سبحانه وتعالى وطاعته بامتثال أوامره واجتناب نواهيه تحصل الخيرات وتندفع الشرور والمكروهات وتدوم النعم ، قال الله تعالى : وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ وقال تعالى : إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ومن حكمة الله سبحانه وتعالى أنه يختبر عباده فيبتليهم بالخير تارة وبالشر أخرى فيزداد المؤمنون إيمانا على إيمانهم وتعلقا بالله ولجوءا إليه سبحانه وتعالى ويصبرون على ما قدره الله وقضاه ليتضاعف لهم الأجر والثواب من الله وليخافوا من سوء عاقبة الذنوب فيكفوا عنها ، قال الله سبحانه وتعالى : وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ وقال تعالى : أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ وقال تعالى : أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ وقال سبحانه وتعالى : الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ وقال تعالى : وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ وقال تعالى : وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ وكل هذه الآيات يبين الله سبحانه وتعالى فيها أنه لا بد أن يبتلي عباده ويمتحنهم كما فعل بالذين من قبلهم من الأمم فإذا صبروا على هذا الابتلاء وأنابوا إلى الله ورجعوا إليه في كل ما يصيبهم عند ذلك يثيبهم الله رضاه ومغفرته ويسكنهم جنته ويعوضهم خيرا مما فاتهم ، وما يحصل في هذا الكون من آيات تهز المشاعر والأبدان كالصواعق والرياح الشديدة والفيضانات المهلكة للحرث والنسل والزلازل وما يسقط بسببها من شامخ البنيان وكبار الشجر وما يهلك بسببها من الأنفس والأموال وما يقع في بعض الأماكن من البراكين التي تتسبب في هلاك ما حولها ودماره وما يقع من خسوف وكسوف في الشمس والقمر ونحو ذلك مما يبتلي الله به عباده هو تخويف منه سبحانه وتعالى وتحذير لعباده من التمادي في الطغيان وحث لهم على الرجوع والإنابة إليه واختبار لمدى صبرهم على قضاء الله وقدره ولعذاب الآخرة أكبر ولأمر الله أعظم . مثنيا على نبيه نوح عليه الصلاة والسلام : إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا(/2)
ولما كذبت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبر الله نبيه أنه قد أهلك الأمم المكذبة للأنبياء والمرسلين السابقين عليه في قوله تعالى : وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ وأنزل بعدها قوله تعالى : إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ فعلى المؤمنين جميعا أن يتقوا الله ويراقبوه بامتثال أوامره واجتناب نواهيه وإذا ما حلت بهم نازلة من النوازل فعليهم أن ينيبوا إلى الله ويرجعوا إليه ويفتشوا في أنفسهم عن أسباب ما حصل لأن الله يقول : وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ
وعليهم أن يتوبوا إلى الله مما حصل منهم من نقص في الطاعات أو اقتراف للسيئات فإن التوبة من أسباب رفع المصائب ، وعليهم أن يصبروا ويحتسبوا أجر ما حصل لهم من مصائب عند الله قال تعالى : وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ وقال تعالى : مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ المعنى من أصابته مصيبة فعلم أنها بقضاء الله وقدره فصبر واحتسب واستسلم لقضاء الله هدى الله قلبه لليمين ، فيعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه ويؤمن أن الله سيعوضه عما فاته في الدنيا هدى في قلبه ويقينا صادقا ، وقد يخلف عليه ما كان أخذ منه أو خيرا منه ، وكون بعض الحقائق قد تبين أن شيئا من الكسوف أو الخسوف وما أشبههما يعرف بالحساب أو ببعض الأمارات قد يحصل ، فهذا لا ينافي قدرة الله سبحانه وتعالى وتخويف عباده فهو يوقعها متى شاء ، قال الله تعالى : مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْ لا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ
وحينما كسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلى بأصحابه صلاة الكسوف ، خطب فيهم خطبة بليغة أخبرهم فيها أن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته ولكن الله يرسلهما يخوف بهما عباده ، وأمرهم بالصلاة والصدقة والتكبير والذكر والاستغفار والعتق ، وقال في خطبته : يا أمة محمد والله ما من أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته ويا أمة محمد والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا الحديث ، وإن واقع أكثر المسلمين اليوم يدل على استخفافهم بحق الله وما يجب من طاعته وتقواه والمتأمل يسمع ويرى كثيرا من العقوبات للأمم والشعوب ، تارة بالفيضانات وتارة بالأعاصير وتارة بالهزات الأرضية وتارة بالمجاعات وتارة بالحروب الطاحنة التي تأكل الرطب واليابس ، كما بين سبحانه وتعالى في كتابه العزيز بعض أنواع العقوبات التي أنزلها بالعاصين والمنحرفين عن الصراط المستقيم من الأمم السابقة المكذبين لرسلهم ليتعظ الناس ويحذروا أعمالهم ، قال تعالى : فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ(/3)
وإن للمعاصي والذنوب من الآثار القبيحة المضرة بالقلب والبدن والمجتمع والمسببة لغضب الله وعقابه في الدنيا والآخرة ما لا يعلم تفاصيله إلا الله تعالى ، فهي تحدث في الأرض أنواعا من الفساد في الماء والهواء والثمار والمساكن ، قال تعالى : ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ وقال تعالى : وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ وإن فيما يقع من هذه الكوارث عظة وعبرة ، والسعيد من وعظ بغيره ، وبالجملة فإن جميع الشرور والعقوبات التي يتعرض لها العباد في الدنيا والآخرة أسبابها الذنوب والمعاصي ، وإن من علامات قساوة القلوب وطمسها والعياذ بالله أن يسمع الناس قوارع الآيات وزواجر العبر والعظات التي تخشع لها الجبال لو عقلت ثم يستمرون على طغيانهم ومعاصيهم مغترين بإمهال ربهم لهم عاكفين على اتباع أهوائهم وشهواتهم غير عابئين بوعيد ولا منصاعين لتهديد قال تعالى : وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ
كما أن الاستمرار على معاصي الله مع حدوث بعض العقوبات عليها دليل على ضعف الإيمان أو عدمه ، قال تعالى : إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ وقال تعالى : قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ وقال تعالى : كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ كَلا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ أيها الإخوة في الله لقد حدث في الأيام القريبة الماضية حدث عظيم فيه عظة وعبرة لمن اعتبر ومن واجب المؤمنين أن يعتبروا بما يحدث في هذا الكون قال تعالى : فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ ما حدث هو ما سمعنا عنه في الإذاعة وقرأنا عنه في الصحف والمجلات وما شاهده الناس على شاشة التلفاز وتحدث به القريب والبعيد ذلك هو ما تعرض له اليمن الشمالي من الزلازل والهزات التي اجتاحت كثيرا من مدنه وقراه ، وما نتج عن ذلك من ذهاب كثير من الأنفس والأموال والممتلكات وخراب الكثير من المساكن وجرح الكثير وبقاء أسر كثيرة فاقدة أموالها ومساكنها .
وأبناءها وأزواجها ، فترمل الكثير من النساء وتيتم الكثير من الأطفال وكل هذا حصل في وقت قصير وهو دليل على عظمة الله وقدرته ، وأن العباد مهما تمكنوا في هذه الدنيا وكانت لهم قدرة وقوة وعظمة ضعفاء أمام قدرة الله تبارك وتعالى . .(/4)
وإن من الواجب على جميع المسلمين أن يأخذوا العظة والعبرة مما حصل وأن يتوبوا إلى الله وينيبوا إليه ويحذروا أسباب غضبه ونقمته ، وندعو الله لموتى إخواننا اليمنيين بالمغفرة والرحمة ولأحيائهم بالسكينة وحسن العزاء وأن يجعل الله ما حصل لهم مكفرا لسيئاتهم ورافعا لدرجاتهم وموقظا لقلوب الغافلين منا ومنهم ، كما يجب علينا أن نواسيهم بالتعاون معهم والعطف عليهم ببذل ما ينفعهم من أموالنا إحسانا إليهم وصدقة عليهم جبرا لمصيبتهم وتخفيفا من عظمها عليهم ، قال تعالى : وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وقال تعالى : وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ وقال سبحانه : وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وقال صلى الله عليه وسلم : من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه رواه مسلم ، وقال صلى الله عليه وسلم : من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته وقال صلى الله عليه وسلم : المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا وشبك بين أصابعه وقال صلى الله عليه وسلم : مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى متفق عليه ، فعلينا جميعا المبادرة إلى مد يد العون لإخواننا في اليمن وبذل ما نستطيع ليتحقق معنى الأخوة الإسلامية التي أشار إليها الرسول في هذه الأحاديث الصحيحة ، ولنحصل على الأجر العظيم الذي وعد الله به المنفقين والمحسنين ، وفق الله المسلمين عموما وإخواننا في اليمن خصوصا للصبر والاحتساب ، وضاعف لنا ولهم الأجر والثواب ، وأنزل على المصابين السكينة والطمأنينة وحسن العزاء ، ومن على الجميع بالتوبة النصوح والاستقامة على الحق والحذر من أسباب غضب الله وعقابه إنه ولي ذلك والقادر عليه .(/5)
من خصائص التربية الأخلاقية في الإسلام
1- ربانية المصدر : فهي مستمدة من شرع رب البشر؛ سواء منها ما أثبته الشرع ابتداءً أو أقره مما قد تعارف عليه الناس، وحتى ما لم ينص عليه من محاسن الأخلاق , فربانيته في اندراجه تحت أصل شرعي عام: [ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن].
2-عبادية القصد: ليس الغرض من الأخلاق الإسلامية وجود صورتها الخارجة , وإنما تهدف إلى أن تملك على المسلم قلبه , فيدفعه إليها إيمانه , ويزيده الالتزام بها إيمانًا.
3-مثالية واقعية: الأخلاق الإسلامية تدعو الناس إلى السمو , وتراعي نفسية البشر واحتياجاتهم وقدراتهم على الارتقاء, فلا تطالبهم بما فوق طاقاتهم عملاً بقوله تعالى: ] فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا ..... [16] [ سورة التغابن ، فلا يعد الجائع خائنًا للأمانة إن سرق ليأكل من جوع شديد أصابه، ولا يعتبر الخائن أو المكره ناقضًا للصدق إن كذب لينجو.
4-شمولية متكاملة: الأخلاق الإسلامية تشمل جميع جوانب حياة الإنسان مع ربه ومع الناس؛ في بيته، وفي عمله، وفي خلوته, وفي المجتمع.
5-ثابتة: فهي أصلية في نفس صاحبها؛ فلا يتغير خلقه مع الضعفاء ولا الأقوياء , ولا في خلوته أو جلوته .
و مصدر ثبات هذه الأخلاق أنها تعبدية يدور صاحبها مع الحق حيث يدور، ومصدر تذبذب الأخلاق غير الإسلامية أنها تدور مع المصالح والأهواء , وهذه متقلبة تدير صاحبها على حسب تقلبها.
6-متوازنة: الأخلاق الإسلامية لا تغلّب جانبًا على جانب؛ فكل الأخلاق الإسلامية مطلوبة , دون تغليب على بعضها وإغفال البعض؛ فهي تدعو إلى العزة والتواضع كما تدعو إلى الانتصار والعفو , فيها الصراحة والاحترام، وفيها الكرم والاقتصاد، وهي الشجاعة بغير تهور ولين في غير ضعف.
7-تنال بالمجاهدة: هنالك أخلاق يتفضل الله عز وجل على بعض خلقه فيطبعهم بها، ومن لم يؤتها مكلّف بمجاهدة نفسه إلى أن تصبح هذه الصفات الفاضلة خلقًا مكتسبًا , وإلى أن يكتسبها يحتاج إلى أن يتكلف فعل هذه الأخلاق الفاضلة , فيؤدي تكراره لها إلى ترشحها في قلبه , وانقلابها مع الزمن إلى طبع ثابت، ولذلك جاء في الحديث: [مَنْ يَسْتَعِفَّ يُعِفَّهُ اللَّهُ وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ ] خرجه السبعة ماعدا الترمذي ، وهكذا كل الأخلاق.. بالتشجيع يصبح شجاعًا، وبالتسامح يصبح سمحًا , وبالتورع يصبح درعًا.
8-تؤخذ بالتأسي: الذي يسهل على من يضعفون عن اكتساب الأخلاق بالمجاهدة بأنفسهم أن يكتسبوها بالاقتداء بالداعية القدوة , فهو الذي ينقش في أذهان الناس صورًا عملية لا تنسى للخلق الفاضل؛ بينما قد يتسنى الناس التعليمات النظرية و لا يدركون كيفية تطبيقها , أو يحول بينهم وبين العمل بها اعتقاد مثاليتها واستبعاد واقعيتها ، ولذلك فإن الله لم ينزل كتبه إلا ومعها العامل بها , والقائم عليها من رسله: ] أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ ....[90] [ سورة الأنعام , ] لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ .....[21] [ سورة الأحزاب .
ولذلك فإن فطرة الصبيّ تبدأ بالانحراف حين يعيش بين والدين لا يلتزمان بمحاسن الأخلاق , ولأجل ذلك أيضا كان من توبة قاتل المائة أن يهجر قرية السوء ليعيش في قرية صالحة بين قوم صالحين يعينه التأسي بهم الطاعة.
9-تراعي التدرج: إنها لا تُطْلَب من الناس وبكليتها الشاملة منذ الانخلاع من الجاهلية , والولوج في بوابة الهداية , وإنما تقوم تربية الإسلام على التدرج في إلقاء الأوامر والواجبات بتقديم الأهم والأوجب , واجتناب الأفحش والأكبر، فيطالب ابتداء بالصدقة بما تجود به نفسه , ولا يطالب بالتنازل عن كل ماله كما فعل أبو بكر رضي الله عنه.
10-ذات أثر اجتماعي: أخلاق الرهبنة تبقى بين العبد وربه، وبما أن الإسلام دين الحياة , فإنك ستجد المسلم في كل مجالات الحياة متخلقًا بأخلاق الإسلام , فالعبادات تنعكس على السلوك الاجتماعي ] إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ .....[45] [ سورة العنكبوت .
اسم الكتاب : هذه أخلاقنا حين نكون مؤمنين حقًا …. تأليف/ محمود الخزندا(/1)
من دخل البيت الأبيض فهو آمن!
دكتور محمد يحيى* 19/6/1424
17/08/2003
أصبح الآن عند الكثير أنه من دخل البيت الأبيض فهو آمن، ومن تأَمْركَ به فقد سلم، ولذلك يولي البعض وجوههم شطر البيت الأبيض وأصحابه أينما كانوا، حتى في بلادهم الأصلية، ويكتبون في صحفهم التي تصدر بأموال الشعوب المسلمة المغلوبة على أمرها.
وهؤلاء هم الذين يروجون الآن لفكر الهزيمة والانبطاح والاستسلام والتبعية، بل ويتقاضون عنه الأجر والجوائز، والفكرة بسيطة للغاية فهم يكتبون الآن أن أمريكا هي سيدة العالم، وأنها غالبة على أمرها للأبد، وأنه لا مجال لأحد إلا أن يسمع ويطيع ويفعل ما يؤمر، والمكافأة تكون في الجنة، وجنة أمريكا لا تعني أكثر من مجرد الرضاء المعنوي للأمريكان، وبعض مقالات المديح في صحفهم، وربما بعض المعونة، وأرفع درجات الجنة الأمريكية هي في ضمان البقاء في المقاعد والسلطة، وهي على أية حال درجة غير مضمونة ولا تدوم. أما العقاب فهو دخول النار، ونار أمريكا تعني إرسال قوات المارنز الأمريكي، وإسقاط الحكام والهجوم الإعلامي الدائم، غير أن دراويش وكهنة أمريكا الذين يبشرون بها ليل نهار لا يكتفون بهذا؛ بل يعلنون لنا أن السمع والطاعة والاستسلام والامتثال إنما هي للشعوب والعقائد قبل الحكام والأنظمة، فهؤلاء الآخرون قد أوتوا العلم قبلها وجاؤوا مسلمين للبيت الأول، أما الآن فقد حان أوان إسلام الشعوب ودخولها إلى العقيدة الحقة، وأول شروط الاستسلام اللازم للشعوب؛ هو أن تتخلى عن كل ما يناقض العقيدة الأمريكية ألا وهو دينها السابق الإسلام ، فبوش لا يقبل أن يختلط الإيمان المسيحي الصهيوني مع أية عقيدة أخرى، ولذلك فالإصلاح المطلوب هو إصلاح ديني، أي: إصلاح الدين نفسه بمعنى التخلي عنه ونبذه وتنحيته؛ لإفساح المجال أمام الدين الأمريكي الغربي.
ولذلك فلابد من الإصلاح وتجديد وتحديث الخطاب الديني والمفاهيم الإسلامية والعادات والتقاليد والهوية العربية كي ينزوي الإسلام القديم رويداً رويداً، ويحل محله إسلام الوجه لأمريكا وعقيدتها.
التسليم التام لأمريكا والكتاب الموالون لأمريكا والذين ينالون المكافآت على هذا يخوِّفون الجميع بأنه إذا لم يجر تسليم الوجه والقفا وكل شئ لأمريكا؛ فسوف تحدث كارثة تتمثل في تشويه صورة الإسلام في الغرب، والتخلف عن ركب العولمة الأمريكي.
وهؤلاء الكتاب والكهنة والساسة لا يقفون عند حد التبشير بالدين الأمريكي؛ بل إنهم يشحذون أسلحتهم للهجوم الدائم على الدين (الإسلام) وتسفيهه وتحقيره والتشكيك في شعائره وعقائده وتاريخه وعلمائه، وهم لا يكفون الآن لحظة واحدة في المنابر المفتوحة لهم عن سب ولعن الإسلام جهاراً نهاراً والدعوة إلى العقيدة الأمريكية تحت مسميات العلمانية أو التحديث أو الإصلاح.
إنهم لم يعودوا كما كانوا في الماضي يغطون تصوراتهم ببعض الحياء، فلقد سقط الغطاء تماماً وأصبحت التبعية علنية ظاهرة ومطلوبة تحظى بالمكافأة والجوائز؛ بل يُحاسب تاركها بقدر ما يُثاب فاعلها ويلقى الثناء والرقي والعلو في المكانة .
إنه عصر الدين الأمريكي فمن شاء فليسبق!.
* أستاذ الأدب الإنجليزي بجامعة القاه(/1)
من دروس الهجرة النبوية
الشيخ/صفاء الضوي العدوي 22/1/1424
25/03/2003
تلخيص أحداث الهجرة
أولاً :أسباب الهجرة:
1-صدع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدعوة وأنذر قومه فاشتد الأذى والاضطهاد على المستضعفين من المؤمنين في مكة ، ففكر النبي صلى الله عليه وسلم في الهجرة إلى المدينة ، وقد جاء التصريح بهذا السبب في قول بلال وأبي بكر وغيرهما ، بل كان ذلك هو السبب في الهجرة إلى الحبشة قبل الهجرة إلى المدينة.
2-وكان من أسباب الهجرة كذلك رغبة النبي صلى الله عليه وسلم في الانتقال إلى أرض يجد فيها المأوى لأصحابه والنصرة لدعوته، ولتكون منطلقاً للطموحات الكبيرة لدعوة الإسلام في الأرض.
3-تأمين المستضعفين من المؤمنين من الفتن بإيجاد دار يهاجرون إليها فراراً بدينهم.
4-كان لابد من وجود قوة تحمي الدعوة في بداية الطريق لتمضي إلى أهدافها ، وكان لابد من دولة تؤسس تلك القوة المأمولة ، فكان لابد من أرض تقوم عليها الدولة.
أوفد النبي صلى الله عليه وسلم بين يدي هجرته بعض النبلاء من أصحابه الكرام لتهيئة المهجر لاستقبال النبي صلى الله عليه وسلم، والقيام بالدعوة لإضافة أنصار جدد يشاركون في تحمل تبعة هذه الخطوة الخطيرة، وكان من رواد هذه الطلائع مصعب بن عمير وعبد الله بن أم مكتوم كما ذكر البخاري، كما كان من أوائلها كذلك أبو سلمة بن عبد الأسد كما جزم ابن إسحاق.
صدق المهاجرين الأولين وحسن بلائهم:
انطلق المؤمنون مهاجرين جماعات ووحدانا، وقد تعرض كثير منهم للأذى والبلاء حال هجرته، وكان ممن تعرضوا للبلاء أم سلمة التي منعها أهلها من الهجرة مع زوجها، ونزع أهل زوجها ابنها منها فتجاذبوه حتى خلعوا ذراعه، فهاجر أبو سلمة وحده، وبقيت أم سلمة في أحزانها على فراق زوجها وولدها حتى استرجعت بعد مدة ولدها ولحقت بزوجها وتمت لها هجرتها.
كما وقع لصهيب أن أمسكه المشركون حين خرج مهاجراً وخيروه بين ماله وبين السماح له بالهجرة فاختار الهجرة وشرى نفسه ابتغاء مرضاة الله كما هو شأن كل مهاجر صادق فربح بيعه .
وهاجر عمر سراً أخذاً بأسباب الحيطة والحذر ، واستبقى النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق ليصحبه في هجرته حسب الخطة التي رعتها العناية الإلهية ، فقد سأل النبي صلى الله عليه وسلم جبريل : من يهاجر معي ؟ قال جبريل: أبو بكر الصديق، كما روى الحاكم في مستدركه عن علي وصححه، ووافقه الذهبي.
أحس المشركون في مكة بخطر تلك الهجرات المتتابعة لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وفطنوا إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم لابد أن يلحق بهم، وأنهم هناك في دار هجرتهم سيقوى أمرهم ، وتقوم لهم دولة ، وتحصل لهم شوكة ففكروا على الفور في التخلص من النبي صلى الله عليه وسلم .
واجتمعوا في دار الندوة للتشاور في تفاصيل الخطة ، واستعرضوا الاقتراحات التي كان أهمها ؛ القتل أو السجن أو الطرد من مكة ، وتبدى لهم الشيطان في صورة شيخ نجدي فشاركهم المشورة ، فسمعوا له ، فخذلهم عن فكرة السجن وفكرة الطرد ، فاقترح أبو جهل قتله فأيده الشيخ النجدي ، فاتفقوا على أن يجمعوا من كل قبيلة فتى شاباً نسيباً يضربون جميعاً محمداً ضربة رجل واحد فيتفرق دمه في القبائل ، فتعجز بنو عبد مناف عن حرب قومهم جميعاً فيرضوا بالدية ، وانفض المجلس على هذا العزم.
أعلم الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بخبر هذا الاجتماع، فأمر علياً بالمبيت في فراشه ، لإيهام المشركين بأن النائم هو النبي صلى الله عليه وسلم ، كما أمره أن يتخلف عنه ليرد الودائع والأمانات التي كانت عنده للمشركين ، وتسلل هو صلى الله عليه وسلم إلى بيت أبي بكر في وقت الظهيرة ، وهو وقت هدأة الرِّجل، وقلة المارة وذلك لبحث آخر الترتيبات لرحلة الهجرة .
كان أبو بكر قد أعد للرحلة راحلتين ، فقبل النبي صلى الله عليه وسلم إحداهما بثمنها ، واتفقا على أن يخرجا ليلاً إلى غار ثور ، وأن يمكثا فيه ثلاثة أيام حتى يهدأ الطلب ، واستأجرا مرشداً ذا خبرة بالطرق ، وهو عبد الله بن أرقد أو أريقط - وكان على دين قومه - وزودتهما أسماء بنت أبي بكر بزاد ، وكان عبد الله بن أبي بكر يأتيهما في الليل في الغار ومعه الأخبار ، ويعود إلى مكة قبل الفجر فيصبح بين الناس إذ كان لابد من التعرف على أسرار العدو لمتابعة تنفيذ الخطة على ضوء الخبرة بالواقع لا على المجازفة والمغامرة ، وكان عامر بن فهيرة مولى أبي بكر يرعى غنمه في النهار ثم يدنو بها في الليل من الغار ليشربا من ألبانها وليعفي بأقدامها آثار أقدام عبد الله بن أبي بكر.
واجتمع القوم على باب النبي صلى الله عليه وسلم ينتظرونه ليخرج لينفذوا خطتهم ، لكنهم سقط في أيديهم حين اكتشفوا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد خرج دون أن يروه ، وحق فيهم قول الله تعالى ( وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً فأغشيناهم فهم لا يبصرون)
في الغار :-(/1)
وبقي النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه في الغار ثلاثة أيام تجلت خلالها قوة ثقة النبي صلى الله عليه وسلم في ربه وحسن توكله عليه حين كان يهدأ من قلق أبي بكر خوفاً على النبي صلى الله عليه وسلم ويقول له : يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما : ويقول ما حكاه القرآن ( لا تحزن ؛ إن الله معنا ) . وحين هدأ الطلب، وجاءهما الدليل ، انطلقوا إلى المدينة عن طريق الساحل.
معجزات النبي في رحلة الهجرة :
أعلنت قريش عن جائزة كبيرة؛ مائة من الإبل، لمن يأتي بمحمد حياً أو ميتاً ، وتسابق الناس في البحث أملاً في الحصول على تلك الجائزة ، وكان من هؤلاء سراقة بن مالك الذي أدرك الركب الكريم ، فلما دنا منهم ساخت قوائم فرسه في الرمال ، فعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد منعه الله من أعدائه ، فطلب الأمان وعاهد النبي على كتمان خبره ، ووفّى بذلك فلم يخبر قريشاً بالأمر ، ثم إنه أسلم بعد حنين والطائف
معجزات وبركات :-
وكان من بركة النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الرحلة أن مروا بخيمة أم معبد ، ولم تكن شاتها ذات در ، فمسح النبي صلى الله عليه وسلم على ضرعها ودعا الله فدرت كأحسن ما تكون الشاة الحلوب فشربوا حتى ارتووا ، ثم انطلقوا في طريقهم.
وحين دنت قافلة الهدى من المدينة خرج أهل المدينة ؛ رجالهم ونساؤهم وأطفالهم يتلقونه مرحبين فرحين بقدوم المصطفى صلى الله عليه وسلم.
ولما بلغ الركب الطيب قباء أقام بها ليال أسس فيها مسجد قباء ،ثم دخل المدينة وسار في دروبها حتى بركت ناقته أمام دار أبي أيوب الأنصاري ، فأمر ببناء المسجد في الموضع الذي بركت فيه الناقة ، واستضاف أبو أيوب الأنصاري رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في داره شهراً ريثما تم بناء المسجد النبوي وبعض الحجرات بجواره .
ثانياً : الدروس والعبر المستفادة من الهجرة :
1-الحزم البالغ ، والحس الأمني العالي لدى النبي صلى اله عليه وسلم حيث تحرك في الوقت المناسب، دونما تأخير ، وذلك حين علم بعزم قريش على تبييته ، واختياره صلى الله عليه وسلم الوقت المناسب للذهاب إلى بيت أبي بكر ، وهو وقت القيلولة ،وسؤاله حين دخل إلى البيت : من عندك؟
2-الأخذ بما أمكن من الأسباب ، كإشغال المتربصين بنائم في الفراش حتى يتسنى للنبي التحرك في أمن إعداد أبي بكر للراحلتين مسبقاً - الخروج من خوخة لأبي بكر في ظهر بيته - الاتفاق مع المرشد مع التأكد من كونه مأموناً - تكليف عبد الله بن أبي بكر وأخته أسماء وعبد الله بن فهيرة الراعي بمهامهم - اختيار غار ثور للاختباء فيه ثلاثاً لكونه في غير جهة الانطلاق إلى المدينة ، ولكون الطريق إلى مكة مرصوداً بالفرسان المتربصين.
3-السرية التي أحاطت الخطة حتى النجاح دليل على أهميتها في كل عمل يكتنفه الصراع مع الكفار أو المنافقين .
4- بيان فضل أبي بكر باختيار النبي صلى الله عليه وسلم له دون غيره ، فكان هذا الاختيار من أعظم التوفيق للنبي الكريم ، كما كان فيه الإشارة إلى تأييد الله عز وجل لنبيه وحسن رعايته سبحانه لتلك الخطوات المباركة في رحلة الهجرة ، وهي منقبة عظيمة لأبي بكر سجلها القرآن الكريم منوهاً بما كان عليه رضي الله عنه من الحب للنبي والخوف عليه وتفديته بنفسه ، ولقد علمت أمة الإسلام أنه أفضل الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم.
5-فدائية علي رضي الله عنه بمبيته في فراش النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو يعلم بالأمر تدل على أن التربية الإيمانية هي وحدها الجديرة بتقديم مثل هذه النماذج الرفيعة في الجندية والشهامة والرجولة.
6-في تكليف النبي صلى الله عليه وسلم علياً برد الأمانات التي عنده للمشركين دليل على أن القيم الأخلاقية لا تهتز في منظور الإسلام تحت أي ظرف من الظروف مهما كانت شدته وقسوته.
7-في ائتمان المشركين للنبي صلى الله عليه وسلم على أماناتهم رغم جحود هم لدعوته مما يؤكد أن الداعية والمصلح بإمكانه أن يؤسس أرضية طيبة من الثقة والاحترام لدى المدعو تهيئه فيما بعد لتقبل الدعوة ، وهو ما كان من قريش حيث دخلوا جميعاً في الإسلام.
8-في استئجار ابن أريقط المشرك للدلالة على الطريق جواز الاستفادة من خبرات المشركين إذا أمن غدرهم ، مع النظر الدقيق في قاعدة المصالح والمفاسد .
9-كان بيت أبي بكر نموذجاً فذاً لبيوت الدعوة ، فأبو بكر يعرف مهامه فيقوم بها على أكمل وجه ، فيقدم رغبته الشديدة على الصحبة ، ويبذل ماله (بشراء الراحلتين ) ، ويجند ابنه وابنته وراعيه لإنجاح أدوار الرحلة ثم يبذل نفسه بالقيام بتلك الصحبة .
10-إذا تمكن الإيمان من النفس وخالطت بشاشته القلوب أرخص المؤمن كل شيء في سبيل عقيدته ، فهذا أبو بكر لم يقل : أجنب أبنائي الأخطار ، لا سيما البنات ، بل تجلى صدق إيمانه في كل خطوة من خطوات الرحلة ، فكانت نصرة الدين أعلى وأغلى عنده من النفس والولد والمال ، وبمثل هذا الصدق تنجح الدعوات وتنتصر.(/2)
11-ومن دروس الهجرة أن نصرة الدين يجب أن تكون أعلى من كل اعتبار ، فالوطن العزيز على النفس جبلةً ، يتركه المؤمن حين يعتقد أن في تركه نصرة لعقيدته ورفعاً لرايته ، فقد ترك النبي صلى الله عليه وسلم مكة وهي أحب البقاع إليه لما خشي على أصحابه الفتنة ، ولما أراد أن يؤسس للإسلام دولة.
12-ثبوت كثير من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الرحلة ، فمنها ما غشّى أبصار المشركين حين خروجه من داره من بين أيديهم ، ومنها ما كان من شاة أم معبد من در اللبن لما مسح عليها ودعا ، وما كان من شأن سراقة وفرسه عند الطلب
13-توقير أبي أيوب للرسول صلى الله عليه وسلم ورعاية حقه حيث شق عليه أن يسكن في الدور العلوي من البيت والنبي صلى الله عليه وسلم في الدور الأرضي ، ففيه منقبة لأبي أيوب ودليل على وفور عقله وصدق إيمانه
14-جواز التبرك بآثار النبي صلى الله عليه وسلم ، فقد تبرك أبو أيوب وزوجه بآثاره صلى الله عليه وسلم ، وهكذا كان سائر الصحابة يتبركون بوضوئه وشعره ومماسة جسده الشريف في حياته كما كانوا يتبركون بآثاره بعد مماته فقد ثبت أن أسماء بنت أبي بكر كان عندها طيلسانة للنبي صلى الله عليه وسلم كانت تخرجها للمريض يلبسها تبركاً واستشفاءً ، على أن هذا مخصوص بالنبي صلى الله عليه وسلم لا يتعداه إلى غيره لما جعل الله تعالى من البركة في جسده ما لم يجعله في غيره .
15-وجوب الهجرة للقادر عليها ممن يخشى على دينه في أرضه ، وقد نعى الله تعالى على من فرطوا في الدين وتعللوا بالاستضعاف قال تعالى( إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيراً;)) النساء 97 ) ( ، أما قوله صلى الله عليه وسلم " لا هجرة بعد الفتح " ( متفق عليه من حديث ابن عباس ) ، فمعناه أنه لا هجرة واجبة من مكة إلى المدينة بعد فتح مكة ، ولكن جهاد ونية ، وذلك أن الأسباب التي كانت موجبة للهجرة وهي الفتنة قد انتفت.
16-المسجد هو الركيزة الأولى لبناء الدولة المسلمة ، فالصلاة خير موضوع ، فكان المسجد أول مشروع أسسه النبي صلى الله عليه وسلم بعد وصوله إلى المدينة .
17-وفي الهجرة مشروعية فرار المسلم بدينه والاختباء من الطغاة والظالمين ،وأن ذلك لا ينافي الإيمان ، وقد هاجر النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه سراً واختبآ في الغار ، وهاجر عمر سراً ، وقد فرّ موسى عليه السلام - وهو من أولي العزم -من فرعون وقومه، وفر أهل الكهف من ملكهم الكافر ، واختبأ الإمام أحمد لما طلب في أول الأمر أيام المحنة
18-ومن دروس الهجرة أن الأحسن - في الحروب غير النظامية ( حرب العصابات ) ) وقت يقظة العدو الكمون
19-أن الأدب مقدم على الامتثال ، فقد بقي النبي صلى الله عليه وسلم في الدور الأرضي من بيت أبي أيوب ، فثبت بإقراره صلى الله عليه وسلم أن يسكن أحد فوقه مشروعية ذلك ، ولو كان ذلك لا يجوز لبين لأبي أيوب إذ لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة كما هو مقرر في علم الأصول ، فكان هذا يكفي أبا أيوب إلا أن عظيم توقيره للنبي صلى الله عليه وسلم وصدق إيمانه ورهافة حسه أبت عليه إلا أن ينزل هو وزوجه لينتقل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الدور الأعلى ، فقدم الأدب على الامتثال للحكم الثابت بإقراره صلى الله عليه وسلم .
20-مشروعية المعاريض عند الحاجة إليها، ففيها مندوحة عن الكذب وسائر ألوان التمويه والتعمية بقدر الحاجة فحسب ، إذ الضرورة بقدرها كما تقرر في الأصول ، فقد قال أبو بكر لمن سأله عن الرجل الذي معه : هذا يهديني الطريق ، يقصد الهداية إلى الحق ، ويفهم السائل أنه خبير بالطرق والدروب في السفر ، وكان ذلك كافياً في مثل تلك الحال.
ثالثاً : مناقشة مقولة ضرورة الهجرة لاستعادة دولة الخلافة:
الهجرة واجبة للقادر عليها من دار الحرب إلى دار الإسلام ، ومن دار تعلو فيها أحكام الكفر إلى دار تعلو فيها أحكام الشرع ، ومن دار تظهر فيها البدعة إلى دار تظهر فيها السنة ، ومن دار تغلب عليها الرذائل والفواحش إلى دار يقل فيها هذا الشر وكل ذلك تغليباً للمصالح على المفاسد واجتناباً للفتن .(/3)
أما إذا كانت المجتمعات التي يعيش فيها المسلمون قد اختلط فيها الإسلام بالكفر ، والسنة بالبدعة والخير بالشر كما هو حال غالب المجتمعات اليوم فإلى أين نهاجر ، وهل المسلم الذي يلقى عنتاً في دينه وفتنة وأذى وظلماً في مجتمع ما من مجتمعات المسلمين يمكنه أن يأوي إلى دارٍ الخيرُ فيها أكثر والشر فيها منحسر ؟وهل هناك دار تفتح أبوابها للمستضعفين من المؤمنين فتؤويهم وتكرمهم ؟!.إن بعض معاني الهجرة هي الممكنة اليوم ، وهي هجرة المعصية وأهلها وأجوائها بقدر الإمكان ، وهجرة الشرك وسدنته وبيئته قدر الوسع ، مع الاجتهاد في الدعوة إلى الله ، والمشاركة الصادقة في مشروع الإصلاح لإيجاد التجمع الصالح الذي يكون نواة لقيام المجتمع المسلم الذي يعلو فيه شرع الله فيكون مهجراً للمستضعفين في الأرض من المسلمين ، وفيه يكون الإعداد للجهاد في سبيل الله حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله .
والله أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى صحبه أجمعين(/4)
من دروس يعقوب في التربية: (وكذلك يجتبيك ربك..) 12/6/1424
أ. د .ناصر بن سليمان العمر
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد فقد مضت الإشارة إلى الأساليب التربوية في توجيه يعقوب الرفيق "يا بني لا تقصص رؤياك..."، ونقف في هذه المقالة مع بعض الأساليب التربوية في قول يعقوب الذي حكاه الله _تعالى_ في قوله: "وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث".
إن يعقوب _عليه السلام_ أدرك بأن ابنه انشغل بهذه الرؤيا، فلابد أن يكون قد شده قوله: "لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيداً إن الشيطان للإنسان عدو مبين" ، فأراد بعدها أن ينقل الابن من ما قد يجول بخاطره من أفكار إلى أمر آخر بعيد. أراد أن يخرجه أن يخرجه مما يسمى بالاستغراق في اللحظة الحاضرة إلى معنى بعيد جداً ؛لأنه لو ترك ابنه أيضاً على ما ذكره له ونقلته الآية الأولى لبدأ الابن يتساءل لماذا لا أقصص رؤياي؟ لماذا يكيد لي إخواني؟ لماذا، لماذا، لماذا؟ أسئلة أصغر من عمره، فناسب أن ينقل ذهنه نحو معنى مشرق، فقال له: "وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث ويتم نعمته عليك كما أتمها على أبويك" الآية.
والدرس التربوي في هذه الآية أيها الأحبة هو أنك إذا رأيت إنساناً قد حزبه أمر فأهمه فسارع بنقله إلى جانب آخر مشرق يبعث في نفسه التفاؤل ويقوده إلى الاطمئنان ويحثه على العمل الدؤوب، انقله إلى ما يقود إليه هذا الأمر الذي حزبه من خير وأره الجوانب المشرقة في النازلة.
وقد كان ذلك من منهج نبينا _صلى الله عليه وسلم_، ففي صلح الحديبية -وهو من أشد ما مر على الصحابة رضوان الله عليهم- عندما جاء سهيل بن عمرو، نقلهم النبي _صلى الله عليه وسلم_ نقلة عجيبة، فقال: سهل أمركم سهل أمركم .
فجعلهم يتعلقون بأمل مرتقب، وبعث في نفوسهم التفاؤل.
إن من الأساليب التربوية والقيادية الحكيمة الكفيلة بتخفيف آثار المصيبة، بل ربما الخروج منها هو هذا الأسلوب، فما أحوج الآباء والأمهات، والمربون، والقادة، والموجهون، والدعاة، والعلماء إليه إذا رأيت من وقع في أمر عظيم، سواء كان فرداً أو جماعة أو أمة، فانقلهم إلى التفاؤل، انقلهم إلى الصورة الأخرى.
فيعقوب _عليه السلام_ نقل ابنه من هذا الهم الذي يعيشه إلى ما وراءه من مستقبل مشرق، فقال له: "وكذلك يجتبيك ربك".. أبشر يا بني، هذه الرؤيا عظيمة، ستكون حياتك في المستقبل. هذا اجتباء واصطفاء من الله _جل وعلا_ وتأتي البشائر "وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث ويتم نعمته عليك" الله أكبر! هل يتصور بعد ذلك أن يجلس يوسف _عليه السلام_ يفكر في مكيدة إخوته أو ينتقل بفكره إلى هذا الخير المقبل عليه؟ من اجتباء الله _جل وعلا_ واصطفاء الله له وبإتمام نعمته عليه؟
إن هذا الأسلوب قد يغيب عنا ونحن نواجه المشكلات، سواء على المستوى الفردي في بيوتنا مع أبنائنا، مع زوجاتنا، مع جيراننا، مع أقاربنا، أو على المستوى العام، على مستوى الأمة، فالأمة الآن تواجه هزيمة وبلاء وتسلط من الأعداء، وليست بحاجة إلى من يزيد من جروحها ويضخم أعداءها لها، كما يفعل كثير ممن في قلوبهم مرض، وكما فعل أسلافهم من المنافقين في عهد النبي _صلى الله عليه وسلم_، وإنما هي في حاجة إلى من يرفع معنوياتها، إلى من يقول لها: أبشري هذا الذي ترينه طريق النصر _بإذن الله_ إذا أخذت بمقومات النصر.
وقفة تربوية أخرى ..وهي أن كثيرا من الناس يتصور أن الأبناء لا يفقهون، ولا يفهمون، ويتعامل معهم بناء على هذا الاعتقاد، وهذا خطأ تربوي مركب
فيا أخا الإسلام .. إذا نزلت بساحتك مصيبة أو حل بك بلاء على المستوى الفردي أو على مستوى أعلى، فالتمس أوجه الخير فيما نزل فالله لا يخلق شراً محضاً، وانظر إلى ما انطوت عليه المصيبة من خير ثم اعمل على إظهاره واستثماره، ليتم لك الخروج من تلك المحنة، بل لتعود المحنة منحة، كما قال النبي _صلى الله عليه وسلم_: "عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن" .(/1)
ما أحوجنا لهذه المعاني في الواقع الذي نعيشه.. فالأمة لا تحتاج إلى من يزيد من جروحها وبلائها، بل تحتاج أن نفتح لها الأفق الأوسع ونريها المستقبل المشرق لتسعى إليه، كما فعل يعقوب مع يوسف _عليه السلام_ وكما كان يفعل محمد _صلى الله عليه وسلم_ مع صحابته، في الخندق وفي الشدة التي صورها الله _عز وجل_ بقوله: "إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً" ، إذا بمحمد _صلى الله عليه وسلم_ يضرب الكدية ويبشر صحابته _رضوان الله عليهم_، لا يبشرهم بالخروج من الأزمة الراهنة فحسب بل يبشرهم ببشائر عظمى دونهم ودونها مفاوز بعيدة! ولكنها حق نبأه بها اللطيف الخبير .
وهكذا ينبغي أن يكون الداعية مبشراً، على أن يبشر الأمة بالحق الذي ظهرت أدلته الشرعية أو الكونية، وإياه أن يبشرها بغير دليل ولا برهان فإن هذا يضرها ويؤثر في مسيرتها.
ووقفة تربوية أخرى يشير إليها يعقوب _عليه السلام_ في هذه الآية، وهي أن كثيراً من الناس يتصور أن الأبناء لا يفقهون، ولا يفهمون، ويتعامل معهم بناء على هذا الاعتقاد، وهذا خطأ تربوي مركب.
فالطفل يتذكر ويفقه ويتأثر، بل أحياناً أكثر مما يحصل للكبار! وارجع بذاكرتك إلى الوراء سنين عدداً عندما كنت صغيراً، ثم عد بها إلى أحداث مرت بك قبل سنتين أو ثلاث، فستجد أن ما فعلته أو ما وجدته وأنت صغير راسخ في ذهنك، تستطيع أن تصفه بدقة، بينما بعض ما وقع قبل سنة أو سنتين بل ربما قبل أيام قد نسيته، وربما أثر على أحدهم حدث مر به في صغره لرقة نفسه وصفائها أيام الصبا، وبالمقابل لم يؤثر عليه مثله عندما كبر وتبلدت المشاعر لديه.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى فالصغار يفهمون ويدركون ويعقلون، ولكنهم قد لا يحسنون التعبير إما لخوف أو لأسباب أخرى.
مما لفت نظري كلام أحد علماء التربية الغربيين يوجه فيه المربين إلى الاهتمام بملاحظة البيت وما فيه قائلاً: "راقب بيتك بعيني طفل"!
وأذكر قصة عجيبة تتعلق بهذا الصدد، فقبل سنوات عقد مؤتمر في بلاد الشام لمعدي برامج الأطفال في التلفزيون، وقدمت في المؤتمر بحوث عدة، فجاءت أغلب البحوث شارحة طرقاً وأساليب لمن يكتبون برامج الأطفال تبين كيف يستطيع أحدهم أن ينزل بعقله إلى مستوى يخاطب فيه الأطفال، إلا بحثاً واحدا كان لرجل بولندي، فقد كان بحثه ينصب على قضية واحدة وهي كيف ترفع من طاقة عقلك لأقصى درجة إذا خاطبت الأطفال حتى تستطيع أن ترضي دقة ملاحظتهم، ويكون خطابك مؤثراً فيهم، فكان هذا البحث هو البحث الأول في المؤتمر، ونال البولندي جائزة على بحثه القيم.
ومما لفت نظري كلام أحد علماء التربية الغربيين يوجه فيه المربين إلى الاهتمام بملاحظة البيت وما فيه قائلاً: "راقب بيتك بعيني طفل"!
وقد سجلت لنا كتب الأدب قصة طرفة بن العبد يوم كان طفلاً يلعب مع الصبيان والمتلمس ينشد عند علية القوم، فلما بلغ قوله:
وقد أتناسى الهم عند احتضاره بناج عليه الصيعرية مكرم
ففطن لها طرفة دون وجوه الناس، فقال وهو يلعب: استنوق الجمل! فالصيعرية سمة توسم بها النوق باليمن لا الجمال.
والشاهد أننا نخطئ في تقيمنا للأطفال، فلا نعاملهم معاملة تتناسب مع عقولهم، بل يشعرهم البعض بأنهم لا وزن لهم، فتكون النتيجة تخريج نوعين من الشباب؛ شباب يعاني من هزيمة نفسية، يستصغر نفسه ويقلل من شأنه ويقيد نفسه بحبال وهمية نسجها المجتمع من حوله، وشباب آخر متهور يحاول أن يتفلت من كل قيد ليثبت أنه رجل ولو بكل سبيل منحرف! كما أن من الآثار السيئة المترتبة على سوء تقيمنا لقدرات الأطفال قيام البعض بتصرفات خاطئة في حضرتهم لا ينبغي أن تفعل عندهم بحجة أنهم لا يفهمون، وكم من رجال الآن يذكرون قضايا مرت بهم في طفولتهم يستحون من ذكرها فما أحوجنا إلى أن نتنبه لهذا.
وبالمقابل من يقدر عقول أطفاله ويحترم قدراتهم ويخاطبهم خطاب الكبار فما أسرعهم إلى فهم كلامه والتزام توجيهه والتهيؤ لحمل المسؤولية في عمر الشباب، ومثل من حظوا بهذا المنهج في التربية قل أن تظهر فيهم أعراض الطفولة المتأخرة التي نشهدها في كثير من رجال عصرنا، وقد شكا من عوارضها مَن سبقنا، ولعل القائل أرادهم في قوله:
ودهر ناسه ناس صغار وإن كانت لهم جثث ضخام
وربما صور أصحاب هذه الحالة الأولى في قوله:
لا بأس بالقوم من طول ومن عظم أجسام البغال وأحلام العصافير(/2)
لقد بين الله _جل وعلا_ في القرآن -كما في سورة النور- أدب التعامل مع الأطفال، ومتى يحق لهم أن يدخلوا على آبائهم وأهلهم ومتى لا يدخلوا، وليس ذلك عبثاً بل تقديراً لعقولهم وفهومهم وملاحظاتهم، فما أحوجنا إلى هذا المنهج في تعاملنا مع أبنائنا، وقصة يوسف مع أبيه يعقوب تبين كيف تعامل مع يوسف كرجل يفهم يدرك يعقل، وفي السنة مواقف عدة تبين كيف كان محمد _صلى الله عليه وسلم_ يحترم عقول الأطفال ويتعامل معهم المعاملة التي تؤهلهم لأن يكونوا رجالاً يتحملون الأعباء، ومن ذلك قصته مع الحسن _رضي الله عنه_ في تمر الصدقة .
فلننتبه لهذا الأسلوب التربوي في تعاملنا مع أبنائنا، ولنتذكر بأن طفل اليوم هو رجل الغد، وقد يكون هو القائد، هو الزعيم، هو الإمام، هو العالم، هو المجدد، بعيد أن كان الغلام، فلنتعامل معهم التعامل الذي يؤهلهم لذلك.
ومن الوقفات التربوية المهمة في هذه الآية أيضاً: في أسلوب يعقوب _عليه السلام_ وهو يخاطب ابنه "وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث ويتم نعمته عليك كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحق إن ربك حكيم عليم" الإشارة إلى أهمية ربط الابن بآبائه الصالحين، فإن من أقوى مؤثرات التربية قوة الارتباط بالأسرة، فإذا كانت الأسرة على سمت وخلق وعمل، ورث الصغار من الكبار ما لديهم من أخلاق فاضلة، ومكارم محمودة، فالوراثة أيها الأحبة ليست خاصة بالمال، بل الصفات والأخلاق والآداب والعلوم تورث، ومن ذلك الحديث "وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً بل ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر"، ولذلك نبه هنا يعقوب _عليه السلام_ ابنه إلى تركة آبائه، فربطه بآبائه الصالحين _عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام_ وهذا الأسلوب أشار إلى عظم أثره في أبناء يعقوب قول الله _تعالى_ في سورة البقرة عندما ذكر وصية يعقوب: "أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحق إلهاً واحداً ونحن له مسلمون"، فبان أن منهج يعقوب في ربطهم بما كان عليه أسلافهم الصالحون آتى ثماره بدليل قول بنيه عند وفاته: "نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحق إلهاً واحداً ونحن له مسلمون"، إن الأبناء يقتدون بالآباء في الأخلاق الحسنة، فيما هم عليه من أعمال طيبة، يتوارثونها جيلاً بعد جيل.
وإلى هذا الأسلوب التربوي أشار يعقوب _عليه السلام_ عندما ربط يوسف بآبائه الصالحين الأخيار.
وأخيراً نجد في الآية إعادة الفضل لأهله "وكذلك يجتبيك ربك"، فالله هو الذي اجتباه، وهو الذي اصطفاه، وتلك نعمة من أعظم النعم تدفع حلاوتها كل سوء جاء به ابتلاء، وقد رُوي عنه _صلى الله عليه وسلم_ أنه قال عندما أصابه الهم المقيم المقعد: إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي.. وهكذا أولياء الله ومن قبلهم رسله لسان حالهم مع ربهم قول القائل:
فليتك تحلو والحياة مريرة وليتك ترضى والأنام غضاب
وليت الذي بيني وبينك عامر وبيني وبين العالمين خراب
إذا صح منك الود فالكل هين وكل الذي فوق التراب تراب
نسأل الله أن يرزقنا العلم بكتابه والتدبر لآياته، والحمد لله أولاً وآخراً، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.(/3)
من روائع القصص
يروى : أن الامام أحمد بن حنبل .. بلغه أن أحد تلامذته يقوم الليل كل ليلة ويختم القرآن الكريم كاملا حتى الفجر ... ثم بعدها يصلى الفجر
فأراد الامام أن يعلمه كيفية تدبر القرآن فأتى اليه
وقال : بلغنى عنك أنك تفعل كذا وكذا ...
فقال : نعم يا امام
قال له : اذن اذهب اليوم وقم الليل كما كنت تفعل ولكن اقرأ القرآن وكأنك تقرأه علي .. أي كأننى أراقب قراءتك ... ثم أبلغنى غدا
فأتى اليه التلميذ فى اليوم التالى وسأله الامام فأجاب:
لم أقرأ سوى عشرة أجزاء
فقال له الامام : اذن اذهب اليوم واقرأ القرآن وكأنك تقرأه على رسول الله صلى الله عليه وسلم
فذهب ثم جاء الى الامام فى اليوم التالى وقال:
.. لم أكمل حتى جزء عم كاملا
فقال له الامام : اذن اذهب اليوم .. وكأنك تقرأ القرآن الكريم على الله عز وجل
فدهش التلميذ ... ثم ذهب..
فى اليوم التالى ... جاء التلميذ دامعا عليه آثار السهاد الشديد
فسأله الامام : كيف فعلت يا ولدى ؟
فأجاب التلميذ باكيا : يا امام ... والله لم أكمل الفاتحة طوال الليل !!!!!!
يقول الله عز وجل فى حديث قدسى شريف
يا عبادي ان كنتم تعتقدون أنى لا أراكم فذاك نقص فى ايمانكم
وان كنتم تعتقدون أنى أراكم
فلم جعلتمونى أهون الناظرين اليكم؟!!!
ارسلها لصديق .. والأجر من الله
أستودع الله دينكم وأمانتكم وخواتيم أعمالكم
اللهم ان لك صفوة تدخلهم الجنة من غير حساب ولا عقاب
فاجعل قاريء الرسالة منهم(/1)
من روائع كلمات الدكتور مصطفى السباعي رحمه الله
نقتطف هذه المواعظ والحكم
أ.د/محمد أديب الصالح
رئيس تحرير مجلة حضارة الإسلام
* خلوة ساعة بينك وبين ربك، قد تفتح لك من آفاق المعرفة، ما لا تفتحه العبادة في أيام معدودات.
* كل عسير إذا استعنت بالله فهو يسير، وكل يسير إذا اعتمدت فيه على نفسك أو أحد من خلقه، فهو عسير.
* ثلاثة احرص على صحبتهم: عالم متخلق بأخلاق النبوة، وحكيم بيضت فوديه(1) ليالي التجربة، وشهم له من مروءته ما يحمله على نصحك إذا أخطأت، وإقالتك إذا عثرت، وجبرك إذا انكسرت، والدفاع عنك إذا غبت، والإكرام لك إذا حضرت.
* لا يقع التواضع موضعه إلا بثلاث: أن يكون من تواضع إليه مستحقاً لهذا التواضع، وأن يكون عارفاً بقيمته، وأن لا يلتبس التواضع بالذلة عند من يشاهدونه.
* لا ثوب للعبادة إلا بثلاث: إخلاص لله، وحضور مع الله، ووقوف عند حدود الله.
* لا تكمل الرجولة إلا بثلاث: ترفع عن الصغائر، وتسامح مع المقصرين، ورحمة بالمستضعفين.
* من عرف الحق لذت عنده التضحيات.
* إذا همت نفسك بالمعصية فذكرها بالله، فإذا لم ترجع فذكرها بأخلاق الرجال، فإذا لم ترجع فذكرها بالفضيحة إذا علم بها الناس، فإذا لم ترجع، فاعلم أنك تلك الساعة قد انقلبت إلى حيوان.
* إذا أمدك الله بالنعم وأنت على معاصيه، فاعلم بأنك مستدرج، وإذا سترك فلم يفضحك فاعلم أنه أراد منك الإسراع في العودة إليه.
* احذر الحقود إذا تسلط، والجاهل إذا قضى، واللئيم إذا حكم، والجائع إذا يئس، والواعظ المتزهد (الذي يتظاهر بالزهد) إذا كثر مستمعوه.
* إذا فهمت عن الله في الضراء كما تفهم عنه في السراء، فقد صدقت في حبه.
* احذر أن تظلم الضعفاء، فيظلمك من هو أقوى منك.
* لأن تحسن الظن فتندم، خير من أن تسيء الظن فتندم!
* الحياء من أهم دواعي الألفة بين الناس، فلولاه لأكل الناس بعضهم بعضاً، ومن ثمة كان الحياء من الإيمان ومن لا حياء فيه لا خير منه.
* إياك والكذب، فإن من تكذب عليه إما أن يكون واعياً فيحتقرك، أو خبيثاً فيكذب عليك، أو ساذجاً فيخدع بك، ثم ما تلبث الحقيقة أن تنكشف له فيكفر بك، هذا كله عدا عقوبة الله وعذابه.
* العالم الذي يخاف الله لا يجاري أهواء الناس تملقاً لهم، ولا يعطل مصالحهم المشروعة إعناتاً لهم، ولكنما يقول الحق برفق تستسيغه عقولهم، ويدافع عن مصالحهم بقوة تدفع صولة الظالمين عنهم، وكذلك كان الأنبياء والمرسلون.
* صولة الحق في ساعات، تقضي على انتصار الباطل في سنوات.
ومن كلام الحارث المحاسبي رحمه الله قوله:
* خيار هذه الأمة: الذين لا تشغلهم آخرتهم عن دنياهم، ولا دنياهم عن آخرتهم.
* لا ينبغي أن يطلب العبد الورع بتضييع الواجب.
* حسن الخلق احتمال الأذى، وقلة الغضب، وبسط الوجه، وطيب الكلام.
ومن كلام أبي الحسن سري السقطى أستاذ الجنيد وخاله قوله:
* أربعة أشياء لا يسكن في القلب معها غيرها:
الخوف من الله وحده، والرجاء لله وحده، والحب لله وحده، والأنس بالله وحده.
* أحسن الأشياء خمسة: البكاء على الذنوب، وإصلاح العيوب، وطاعة علام الغيوب، وجلاء الرين من القلوب، وألا تكون لكل ما تهوى بركوب.
* من تزين للناس بما ليس فيه سقط من عين الله عز وجل.
* خير الرزق ما سلم من خمسة: من الآثام في الاكتساب، والمذلة والخضوع في السؤال، والغش في الصناعة، وإثمان آلة المعاصي، ومعاملة الظلمة.
* لن يكمل رجل حتى يؤثر دينه على شهوته، ولن يهلك حتى يؤثر شهوته على دينه.
* حضارة الإسلام –السنة 5 –العدد (4-5-6) (جمادى- رجب - شعبان 1384هـ) (10 -11-12/1964).
(1) الفود: معظم شعر الرأس مما يلي الأذن(/1)
من سبل منع الطغيان السياسي في القرآن الكريم
(1 من 3) غرس عقيدة التوحيد في القلوب ماليزيا: د. عبدالرحمن اسبينداري
spendari@yahoo.com
عقيدة التوحيد أضمن سبيل لمنع الطغيان السياسي؛ حيث كانت ولا تزال من أهم الوسائل والسبل التي يتسلح بها الدعاة والمصلحون لمواجهة شتى صور الفساد والطغيان والبغيٍ وتغييرها، سواء كان ذلك الطغيان لاأخلاقياً أو اقتصادياً، أو سياسياً وهو ما نحن بصدده. وبما أن العوامل التي تؤدي إلى ظهور الطغيان السياسي وتقويته عوامل مركبة راجعة إلى كل من الحاكم(1) والبطانة والجنود والرعية، وأن لكل واحد من هؤلاء دوره في إيجاد الطغيان أو ترسيخه، فلابد من الإشارة إلى دور العقيدة وأثرها في الفئات المذكورة ما دام لكل واحدة منها دورها في بروز الطغيان السياسي أو إطالة أمده.
أثرها على الحاكم
العقيدة الصحيحة تمنع الحاكم من الطغيان، وفي الوقت نفسه تدفع الرعية إلى مواجهة الطغيان إن برز في المجتمع وعدم الخضوع له، وهي نفسها التي تمنع الجنود أو المؤسسة العسكرية من أن تكون طرفاً في تثبيت وغرس السياسات الطاغوتية. والعقيدة هي التي تدفع البطانة وتمنعها من أن تكون بطانة سيئة، وتعمل كل ما في وسعها لتبعد عن نفسها كل صفة من شأنها أن تدخلها في دائرة البطانة السيئة.
وذلك لأن الحاكم إذا آمن بالله السميع العليم البصير الرقيب، واعتقد ذلك اعتقاداً جازماً فهيهات أن يتجاوز الحدود المرسومة له أو أن يطغى، أو يقترف ما يدخله في دائرة الطغيان، أو يظلم الآخرين ولو في أمر غير ذي شأن.
وإذا آمن الحاكم باليوم الآخر وأنه سيحاسب على كل ما يصدر عنه من قول أو فعل فلن يقترف ما من شأنه أن يجعله في دائرة الظلمة الذين سيوقفهم الله أمام الحشر العظيم لمحاسبتهم عما بدر منهم، وإن اقترف الحاكم شيئاً من الظلم أو مارسه ضد أحد في حالة ضعف أو غضب فإنه سرعان ما يثوب ويعود إلى رشده فيتوب إلى الله ويطلب الصفح ممن ظلمه.
وعلى البطانة
ويظهر هذا جلياً إذا ما عرفنا أن الذي دفع ويدفع إلى الطغيان، وممارسة البطش والإرهاب والقهر ضد الآخرين هو عدم الإيمان باليوم الآخر وبالحساب، وهي حقيقة ذكرتها آيات قرآنية(2).
والعقيدة هي نفسها التي تمنع البطانة من أن تتحول إلى بطانة سيئة، بل تجعل منها بطانة صالحة حريصة على مصلحة الرعية ومصلحة الحاكم في الوقت نفسه، وتقف دوماً في صف المصلحين والدعاة، انطلاقاً من عقيدتها التي تأمرها بذلك، وتنهاها عن الركون إلى الذين ظلموا ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون (113) (هود). ونجد هذه الصورة واضحة في قصة مؤمن آل فرعون، فعلى الرغم من قربه من الطاغية، وكونه واحداً من حاشيته وآله، وعلى الرغم مما عُرف به فرعون من الطغيان والظلم المتبادر منه لأتفه الأسباب فإن عقيدة الرجل المؤمن دفعته إلى النصح وإلى الوقوف في جانب الخير والإصلاح، وإلى أن ينكر عمل الطاغية وينصحه بالتخلي عنه.
ولمعرفة الفرق الكبير بين صاحب عقيدة التوحيد وغيره من أفراد بطانة الطاغية، الذين لا عقيدة لهم إلا حب المناصب والتقرب من الطاغية، نقرأ الآيات الآتية، فالبطانة السيئة لفرعون قالت: أتذر موسى" وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك قال سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم وإنا فوقهم قاهرون 127 (الأعراف) .
في حين كان موقف صاحب عقيدة التوحيد: وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم وإن يك كاذبا فعليه كذبه وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب 28 يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا (غافر:29) إلى قوله: فستذكرون ما أقول لكم وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد 44 فوقاه الله سيئات ما مكروا وحاق بآل فرعون سوء العذاب 45 (غافر).
فعقيدة التوحيد غيرت هذا الفرد، ونقلته إلى جبهة الخير والإصلاح، ودفعته إلى رفض طغيان فرعون لذا حاول بكل ما أوتي من قوة البيان إقناع فرعون وبقية الملأ باتباع موسى عليه السلام وبالإقلاع عن الطغيان.
وعلى المؤسسة العسكرية(/1)
والعقيدة كذلك كفيلة بجعل المؤسسة العسكرية مؤسسة صالحة، وأن تقف بعيدة عن محاولة تثبيت السياسات الطاغوتية أو القيام بترجمة نزوات الحاكم ورغباته إلى واقع معيش وفرضها على الرعية، فالمعروف أن المؤسسة العسكرية الطرف الأساسي في تنفيذ السياسات الطاغوتية من قتل الأبناء واستحياء النساء وتصليب المعارضين وما إلى ذلك، في حين نجد أنها تتحول في ظل عقيدة التوحيد إلى مؤسسة خيرة مصلحة لا تظلم أحداً، همها الإصلاح في الأرض لا الإفساد، والسهر على حفظ الأمة وكيانها من الأخطار، وإزالة العوائق وإزاحتها أمام نشر عقيدة التوحيد والحريات العامة المندرجة تحتها. وهذا ما نجده في جنود النبي سليمان عليه السلام، وقد أصبح صلاحهم من الشيوع بحيث عرفه كل من يسكن مملكة سليمان (القائمة على عقيدة التوحيد، بل تجاوز ذلك إلى عالم الحيوانات، فها هي نملة تخاطب بقية النمل بقولها كما حكى القرآن الكريم عنها: يا أيها النمل \دخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون 18 (النمل).
فالجنود أو المؤسسة العسكرية المؤمنة لا تظلم أحداً، ولا تقتل أحداً لغير عذر، بل يصل صلاحها إلى أنها لا تعتدي على الحيوانات فلا تقتلها إلا لحاجة، بل يتجاوز ذلك الصلاح إلى عالم الجمادات والنباتات، ويظهر هذا جلياً من خطبة الصديق رضي الله عنه وهو يودع جيش أسامة رضي الله عنه، حيث قال بعد أن وصاهم بتقوى الله تعالى: "يا أيها الناس قفوا أوصكم بعشر فاحفظوها عني؛ لا تخونوا، ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلاً صغيراً، ولا شيخاً كبيراً ولا امرأة، ولا تعقروا نخلاً ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيراً إلا لمأكله" (3).
فالعقيدة هي الفيصل بين أن تكون المؤسسة العسكرية مؤسسة مفسدة وأن تكون مصلحة. وقد عُرف منذ القدم أن الجنود لا يمرون ببلد إلا ويتركون آثار الفساد والخراب في كل مكان منه، ويطمرون فيه معالم الحياة والحضارة. وقد انتبهت ملكة سبأ بحكمتها إلى صفة الإفساد عند الجيوش الطاغية فقالت كما حكى القرآن عنها: قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون 34 (النمل) والملوك تدخل بجيوشها.
فهما صورتان: صورة جيش الطاغية الذي يخلف وراءه الفساد والدمار، وصورة جيش التوحيد الذي يحفظ لغير المحاربين أنفسهم وأموالهم من كل اعتداء.
فإذا كان هذا هو حال المؤسسة العسكرية القائمة على عقيدة التوحيد مع الأعداء، فكيف بها وهي تتعامل مع الأزمات الداخلية والمخالفين للحاكم من الداخل؛ فلا تنتهج سياسة القمع والإرهاب سواء أمر بذلك الحاكم أو لا، لأن أمر الله هو المقدم على غيره من الأوامر، ولا سيما أن الشعور بمراقبة الله سبحانه تعالى قد انغرس في هذه المؤسسة والقائمين عليها.
تأثير العقيدة على الرعية
وقل الأمر نفسه بالنسبة للرعية، فعقيدة التوحيد هي التي تدفعها إلى رفض ما يخالف عقيدتها من المبادئ، وإلى رفض الظلم والطغيان، وإلى المقاومة وعدم الخوف على النفس أو المال أو ما إلى ذلك مما يجبن الإنسان في الغالب بسببه عن الإقدام على مقاومة الطغيان والطغاة ومقارعتهم. فعقيدة التوحيد تجعل من كل فرد من الرعية أمة تقابل الحاكم وتخاطبه بأن أي اعوجاج منه، وأي تجاوز سيتم تقويمه وإرجاعه إلى مكانه الطبيعي.
ولما كان ذلك كذلك فإن جل اهتمام الأنبياء وجهدهم كان منصباً في الدرجة الأولى على بناء العقيدة في الأفراد، وغرس معانيها في النفوس، فما من رسول إلا وقد بدأ دعوته بغرس الإيمان بالمعبود الحق مالك السموات والأرض في نفوس القوم، ثم كانت الخطوة الثانية والرديفة للأولى هي الكفر بالطواغيت، واجتناب عبادتهم أو طاعتهم والخضوع لهم، لذا كان الشعار الذي حمله الرسل ورددوه الواحد منهم بعد الآخر من أولهم إلى خاتمهم عليهم السلام هو: أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت (النحل:36).
فهي معادلة واضحة متوازنة لا تقبل الخلل، إذا وجد الأول انتفى الثاني وبالعكس، فالإيمان بالله وعبادته بالمعنى الشامل يؤديان إلى اجتناب الطاغوت، ولا شك أن الاجتناب لفظ عامل شامل تدخل تحته أمور كثيرة؛ من اجتناب الطاعة والخضوع والرضا به وبحكمه والركون إليه والميل ونحوه.
فالكفر بالطاغوت واجتنابه معناه الإيمان بالله الواحد الأحد، ولا ينبغي هنا أن نأخذ المعنى الضيق الذي قال به بعض العلماء في تفسير كلمة الطاغوت، وهو الصنم أو الوثن أو الشيطان، بل الطاغوت لفظ عام يدخل فيه كما يقول الإمام الطبري: "كل ذي طغيان على الله فعبد من دونه إما بقهر منه لمن عبده، وإما بطاعة ممن عبده له، إنساناً كان ذلك المعبود أو شيطاناً أو وثناً أو صنماً أو كائناً ما كان من شيء"(4) والحاكم الطاغي ونظامه داخلان تحته من باب أولى.(/2)
لذا نجد أن العقيدة عندما تغرس في أعماق القلب فإنها تغير الإنسان الذليل المتملق الذي يلهث وراء شهوة المال وحظوة المنصب إلى مخلوق آخر، فإذا به ينقلب رأساً على عقب، ويتحول إلى أنموذج يضرب به المثل على مر القرون، لا يخاف من الطاغية الذي سبق وأن تملق له في مقابل حفنة من النقود، أو ليجد لنفسه مكاناً في مجلسه يقحم نفسه فيه، نجده بعد دخول عقيدة التوحيد في قلبه لا يعرف ما معنى العقوبة أو التهديد الصادر من الطاغية، ويخاطب الطاغية وكأنه غير الذي كان قبل لحظات يتملق له، وقد نقل القرآن لنا هذه الصورة في قصة السحرة في يوم الزينة بعد أن هددهم فرعون بالصلب والقتل، فيجيبوا : لن نؤثرك على" ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا 72 (طه). قبل قليل كانوا يلهثون ويركضون وراء شيء قليل من متاع الدنيا، والآن أصبحت الدنيا وما فيها في نظرهم لا شيء، في مقابل الآخرة، التي آمنوا بها لتوهم، فهذه هي العقيدة، وهذا هو دورها وأثرها وتأثيرها في النفوس. فالعقيدة لا تنتشر في أمة إلا ويردف ذلك انطمار الطغيان واندراسه.
والعقيدة هي نفسها التي تدفع الحاكم إلى الالتزام بالأوامر والنواهي الشرعية، وهو ما سنتناوله في الجزء الثاني (بعنوان: القرآن جفف منابع الطغيان السياسي وقطع روافده)، لأنه لا يتصور أن يلتزم حاكم بالأوامر الواردة في الشريعة، ويحجم عن المنهيات التي ورد النهي عنها ما لم يكن مؤمناً حق الإيمان بمنزل الشريعة، ومعتقداً اعتقاداً جازماً أن الخروج عن ذلك معناه وجود خلل ونقص في عقيدته.
الهوامش
1 تذهب الشيعة الإمامية إلى أن عصمة الإمام تعد من أنجح الأساليب وأكثرها فاعلية في منع الطغيان السياسي، فيقول عبد الرضا: "اعتبرت العصمة في مذهبنا نحن معاشر الإمامية شرطاً في الولي، فهي أعلى درجة متصورة في مقام حفظ الأمانة، والحيلولة دون الاستبداد، وتحكيم الشهوات. ومن الواضح أن إصابة الواقع والصلاح، وعدم الوقوع في المعصية حتى من باب الخطأ والاشتباه، وكذلك المحاسبة الإلهية، وإيثار الوالي تمام أفراد الأمة على نفسه، إلى غير ذلك من الخصائص أمور تنتهي بواسطة العصمة والانخلاع عن الشهوة إلى درجة لا يصل كنهها أحد، ولا يدرك العقل البشري حقيقتها"، انظر، عبد الرضا، علي، الاستبداد معالجات جذرية لرفع الداء، مجلة النبأ، السنة الخامسة، 1420ه، العدد 37. انظر موقع المجلة:
www.annabaa.org/nba37/estipdad.htm
ولا يشك أحد في أن العصمة وغيرها من الصفات التي ذكرها الكاتب للإمام تعد بالفعل أضمن وسيلة على الإطلاق لمنع الطغيان والظلم، ولكن المشكلة ليست كامنة في ذلك، وإنما في أصل المسألة، فالعصمة وغيرها من الصفات التي ذكرها الكاتب، وإن قالت بها الإمامية، غير ثابتة لبشر غير الرسول ص. وواضح مبالغة الكاتب ولا سيما أنه ينفي عن الإمام وهو من بني آدم الوقوع في المعصية من باب الخطأ والاشتباه، وهذا ما لم يكن ولن يكون في مقدور بشر، وهنا ليس محل مناقشة ذلك. ومع ذلك لما كان الإمام في رأي الكاتب ومذهبه غائباً ، فإنه يرى ضرورة الأخذ بإجراءات وقائية أخرى مثل إلزام الشورى، والعمل برأي الأكثرية.
2 انظر: الآيات الآتية: سورة غافر-27، القصص:39، الفرقان:21 ...إلخ.
3 الطبري، ابن جرير، تاريخ الطبري تاريخ الأمم والملوك (بيروت: دار الكتب العلمية، ط1، 1407ه)، ج2، ص246 .
4 الطبري، محمد بن جرير، جامع البيان عن تأويل آي القرآن (بيروت: دار الفكر، د. ط، 1405ه)، ج3، ص19 .
من سبل منع الطغيان السياسي في القرآن الكريم (2 من 3)
تجفيف منابع الطغيان وقطع روافده
ماليزيا د. عبدالرحمن اسبينداري
spendari@yahoo.com
يميز السلطة في الدولة الإسلامية أنها سلطة محكوم عليها العمل بالشريعة، فلا يحق للسلطة أو الحاكم الخروج عما ورد في الشريعة، ومن جانب آخر ليست هناك سلطة أو جهة في الدولة لها حق تعديل الدستور الذي هو الشريعة وما ورد فيها من أحكام، فهي سلطة متبعة للشريعة وليست بمبتدعة، أي أن مبدأ سيادة الشريعة واتباعها هو المعمول به، وهذا ما يقابل مبدأ سيادة القانون في الدول الأخرى مع تفوق مبدأ سيادة الشريعة عليه لوجود الوازع الديني. وبما أن الحال على هذه الشاكلة في الدولة الإسلامية، وأن الحكام ليس لهم الخروج عن سيادة الشريعة وما ورد فيها، نجد أن القرآن قد استخدم مبدأ (تجفيف المنابع وقطع الروافد) لبتر دابر الطغيان، بل عدم إفساح المجال له للبروز.
ولما كان منهج القرآن الكريم في القضاء على الأمراض سواء كانت اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية منهجاً واقعياً، لم يحرم القرآن شيئاً من الأشياء التي تلبي غريزة إنسانية إلا وأوجد له بديلاً سواء كان مادياً أو معنوياً. ووضع لتلك الأمراض حلولاً موضوعية، وهذا واضح في سور القرآن وآياته التي حذرت من الطغيان والعلو والتجبر، وأمرت في المقابل بالعدل والمساواة والاستقامة.(/3)
ففي باب الطغيان السياسي يبين القرآن في مواضع كثيرة أهم الأساليب المستخدمة من قبل النظام الطاغوتي ولم يكتف بذلك بل وضع أمام تلك الأساليب موانع تمنع الحاكم المؤمن إيماناً صادقاً من الاقتراب منها، ناهيك عن استخدامها في سياسته.
يستخدم الطغاة في سياستهم أساليب عديدة نوجزها ونبين قدر الإمكان كيف وضع القرآن موانع أمامها متبعاً سياسة قطع الروافد التي تؤدي إلى الطغيان بعد أن جفف منابعها.
فالطاغية مثلاً؛ يستعبد الآخرين(1) فجاء القرآن ليجعل المساواة أساس التعامل في المجتمع، فلا فرق بين سيد ومسود وبين حاكم ومحكوم وبين جنس وآخر إلا بالتقوى. وليعلن أن الله سبحانه هو المعبود الحق لا غيره، وحرم استعباد الآخرين واستضعافهم لأي سبب حتى أصبح الشعار الإسلامي المستنبط من روح نصوص القرآن (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً) ، محفوظاً لدى كل من له أدنى إلمام بالإسلام.
والطاغية يفرض نفسه على الآخرين ويستبد برأيه (2)، فجاء القرآن ليجعل من صفات الحاكم المسلم عدم الاستبداد بالرأي واعتماد الشورى أساساً للحكم وشاورهم في الأمر(آل عمران:159) بل حرم فرض الرأي على الآخرين، وإجبارهم عليه ولو كان في أمر الدين والهداية فكيف بغيرها، قال تعالى مخاطباً رسوله ص: لست عليهم بمسيطر(الغاشية) ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى" يكونوا مؤمنين 99(يونس).
الطاغية يفسد في الأرض (3)، فجاء القرآن ليحرم الفساد بكل أنواعه، وليجعل الإصلاح هو السبيل المتبع من قبل المؤمنين: ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفا وطمعا إن رحمت الله قريب من المحسنين 56 (الأعراف).
الطاغية يصادر الحريات العامة (4)، فجاء القرآن الكريم ليعلن أنه: لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد \ستمسك بالعروة الوثقى" لا \نفصام لها والله سميع عليم 256(البقرة) وليقول للرسول ص: أفأنت تكره الناس حتى" يكونوا مؤمنين 99(يونس).
يعتمد الطاغية على ترغيب الآخرين فيما عنده من المناصب والأموال (5)، فجاء القرآن ليحرم حتى مجرد الركون إلى الطغاة والظلمة فكيف بالجلوس في مجلسهم أو الانتماء إلى بطانتهم: ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون 113(هود)، وقد جاءت السنة لتقطع الأمر على الطرفين، على الحاكم بأن جعلت ذلك أمانة في رقبته، وعلى الرعية بأن حرمتها على من طلبها، ولتحرم إسناد الأمور إلى غير أهلها، وكذا الرشوة. وبذلك ليس هناك مجال في الدولة الإسلامية الملتزمة بالشريعة للتملق من أجل الحصول على المال أو المنصب.
الطاغية ينظر إلى الآخرين نظرة المتجبر المتكبر المغرور، فجاء القرآن ليحرم ذلك، وليجعل التكبر سبيلاً إلى النار، ومانعاً من دخول الجنة.
الطاغية يعتمد سياسة تشويه سمعة الآخرين ولا سيما المصلحين فجاء القرآن ليجعل ذلك من القذف والافتراء ووضع لذلك عقوبات دنيوية وأخروية قاسية، إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون 105 (النحل)، قال لهم موسى" ويلكم لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب وقد خاب من \فترى" 61(طه).
الطاغية يخفي حقيقته وراء ادعائه أنه حامي تراث الأمة والآباء (6)، فجاء القرآن الكريم ليحرم اتباع الآباء إلا فيما صح، وجعل الاتباع لما في القرآن الكريم والسنة النبوية.
الطاغية في غالب الأحيان يعتمد على التصفية (القتل) في التعامل مع خصومه (7)، فجاء القرآن ليحرم القتل ويجعله من الكبائر: ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما 93 (النساء)، من أجل ذلك كتبنا على" بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون 32 (المائدة)، وجاء في الحديث: "لزوال الدنيا أهون على الله من قتل مؤمن بغير حق"(8).
يقوم الطاغية بتطبيق سياسة "فرق تسد" (9) أو جعل الناس حسب التعبير القرآني "شيعاً"، فجاء القرآن ليدعو إلى الوحدة والتعاون على الخير: وتعاونوا على البر والتقوى" ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب (2) (المائدة)، واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على" شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون 103(آل عمران)، وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين 46 (الأنفال) ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم 105(آل عمران).
ولذلك فإذا ما تم الالتزام بالأمر القرآني فسيكون ذلك سداً منيعاً في وجه الطغاة.(/4)
وهكذا فما من وسيلة من الوسائل التي تؤدي إلى الطغيان إلا وضع القرآن الكريم أمامها مانعاً أو حرمها، وبالقضاء على الأساليب الطاغوتية يكون القرآن قد منع الحاكم من الوصول أو الاقتراب من درجة الطغيان السياسي. والحديث هنا عن الحاكم المسلم المؤمن حق الإيمان بالقرآن الكريم وما فيه.
ومن جانب آخر أمر القرآن الحاكم بالاستقامة، ونهاه عن الطغيان قال تعالى: فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير 112(هود) ومع أن الخطاب هنا موجه إلى الرسول ص إلا أنه خطاب إلى الأمة، وهذا يدل على جلالة الأمر لأن الرسول ص لو أمر بالاستقامة فغيره من الحكام العاديين أولى بذلك. ثم جاء النهي مباشرة بعد ذلك عن الطغيان وكأنه إشارة إلى الحاكم إذا ظلم وخرج عن حدود الاستقامة عندها تجب على الرعية مقاطعته وإنزاله من منصبه بل ويحرم حتى مجرد الركون إليه أي الميل، ناهيك عن الخضوع والاتباع والطاعة.
وقبل هذا وذاك جاء القرآن ليقطع الدوافع التي تدفع الحاكم إلى الطغيان أو ليحرمها، سواء التكبر والغرور أو هوى النفس أو الاستبداد بالرأي أو المبالغة في حب الملك والحرص عليه، والأمر أوضح من أن نأتي بالآيات والأحاديث التي هذبت بعضاً مما سبق وحرمت بعضاً آخر .
وإضافة إلى ما سبق ذكره فإن القرآن فرض على الحاكم المسلم عدم اتباع الهوى، سواء هوى نفسه أو هوى الآخرين من البطانة والرعية. ثم أمره وفرض عليه الحكم بالحق، وبالعدل.
ثم قطع الإسلام كل ما من شأنه أن يؤدي إلى تقديس الأشخاص ولو كانوا من الأنبياء، بل إنه تجاوز ذلك إلى منع وتحريم كل تصرف من شأنه أن ينبت في قلب المقابل شعوراً بالتعظيم والعلو، ومن ذلك القيام للآخر حيث قال الرسول ص: "من سره أن يتمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار"(10).
ومن ذلك أنه أوجب على الحاكم أن يكون قريباً من الرعية يطلع بنفسه على شؤونها لقضاء حاجاتها حتى لا تقع المظالم عليها من الآخرين ممن يعملون في إدارة شؤونها وهو لا يعلم بذلك، لذا جاء النهي للحاكم عن الاحتجاب وبروايات عديدة، منها:
"من ولي من أمر المسلمين شيئاً فاحتجب دون خلتهم وحاجتهم وفقرهم وفاقتهم، احتجب الله عز وجل يوم القيامة دون خلته وفاقته وحاجته وفقره"(11).
ومنها: "من ولي من أمر الناس ثم أغلق بابه دون المسكين أو المظلوم أو ذي الحاجة، أغلق الله عز وجل دونه أبواب رحمته عند حاجته وفقره أفقر ما يكون إليها" (12).
ومن ذلك إعلان القرآن الحرب على مبدأ السيادة والتبعية السلبية وذلك لما له من تأثير كبير في طغيان الحاكم، وقد تعرض القرآن لهذا المبدأ ولعلاقة الأتباع بالسادة ولا سيما في الآخرة، ونقل الصورة الحية للحوار الذي يجري يوم القيامة بين السادة المستكبرين والعبيد والأتباع وكيف يتبرأ السادة من أتباعهم، كل ذلك من أجل إقناع الفرد المسلم بعدم اتباع الطغاة أياً كانوا، ولغرس روح الرفض في نفوس المسلمين لكل متكبر مهما علا واستكبر لأنه لا ولن يملك لنفسه نفعاً فكيف لمن يتبعونه.
قال تعالى: يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا 66 وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا 67 ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا 68(الأحزاب).
وقال: ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب 165 إذ تبرأ الذين \تبعوا من الذين \تبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب 166 وقال الذين \تبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار 167(البقرة).
وقال: ولو ترى" إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى" بعض القول يقول الذين \ستضعفوا للذين \ستكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين 31 قال الذين \ستكبروا للذين \ستضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى" بعد إذ جاءكم بل كنتم مجرمين 32 وقال الذين \ستضعفوا للذين \ستكبروا بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أندادا وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا هل يجزون إلا ما كانوا يعملون 33(سبأ).
وقال: هذا وإن للطاغين لشر مآب 55 جهنم يصلونها فبئس المهاد 56 هذا فليذوقوه حميم وغساق 57 وآخر من شكله أزواج 58 هذا فوج مقتحم معكم لا مرحبا بهم إنهم صالوا النار 59 قالوا بل أنتم لا مرحبا بكم أنتم قدمتموه لنا فبئس القرار 60 قالوا ربنا من قدم لنا هذا فزده عذابا ضعفا في النار 61 وقالوا ما لنا لا نرى" رجالا كنا نعدهم من الأشرار 62 أتخذناهم سخريا أم زاغت عنهم الأبصار 63 إن ذلك لحق تخاصم أهل النار 64(ص).
ولا شك أن غرس هذه المعاني في نفوس المؤمنين يؤدي إلى رفض الخضوع والطاعة ناهيك عن الاتباع الأعمى لكل متكبر، بل ويتجاوز بهم إلى محاولة تقويم الحاكم.
ولذا فقد قطع القرآن كل السبل والوسائل والروافد التي تصب في بحر الطغيان السياسي وحرمها.(/5)
فلا يمكن أن يكون هناك حاكم يلتزم بأمر القرآن في إقامة العدل ثم يكون في نفس الوقت طاغية أو مستبداً، وعليه فأقل ما توصف به مقولة المستبد العادل (13) بأنها متناقضة لأنه لا يمكن بحال أن تجتمع صفة الاستبداد بمعنى الانفراد بالشيء وفرضه على الآخرين مع صفة العدالة. حتى إذا قلنا إن المقصود بالاستبداد هنا هو المعنى اللغوي أي الانفراد بالأمر، لأن الحاكم في الإسلام ملزم بقوله تعالى: وشاورهم في الأمر (آل عمران:159)، فليس له الحق في الانفراد بالأمر.
الهوامش
1 انظر: سورة الشعراء:22، وسورة المؤمنون: 46 47 .
2 انظر: سورة غافر:29 .
3 انظر: سورة الفجر: 126 .
4 انظر: سورة طه: 71، والشعراء: 29، والنساء:75، وفصلت: 26 .
5 انظر: سورة الأعراف:113 114 .
6 انظر: سورة طه:63 .
7 انظر: سورة الأعراف: 127، وغافر:20، والبقرة:49، والأعراف: 141، وإبراهيم: 6، وهود: 91، والشعراء: 116، والكهف:20، ومريم:46 .
8 ابن ماجة، سنن ابن ماجة، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي (بيروت: دار الفكر، د. ط. ت)، ج2، ص874، كتاب الديات، باب التغليظ في قتل مسلم ظلماً. رقم: 2619 .
9 انظر: سورة القصص:4 .
10 الترمذي، سنن الترمذي، ج5، ص90. باب ما جاء في كراهية قيام الرجل للرجل، رقم:2755 . قال أبو عيسى: "هذا حديث حسن".
11 الحاكم، المستدرك على الصحيحين، ج4، ص105، كتاب الأحكام، رقم: 7037 . قال الحاكم: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه".
12 ابن حنبل، مسند أحمد، ج3، ص480، رقم: 15983 . قال المنذري: "وإسناد أحمد حسن". انظر، المنذري، الترغيب والرهيب، ج3، ص124 .
13 استخدم هذا التعبير من قبل عدد من المفكرين منهم السيد محمد عبده، انظر، الكتابات السياسية ضمن الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده، تحقيق: محمد عمارة (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط2، 1979م)، ج1، ص717716. انظر، رضا، الإصلاح والإسعاد على قدر الاستعداد، مجلة المنار، مج 4، ج18، ص683682 .
من سبل منع الطغيان السياسي في القرآن الكريم (3 من 3) رقابة الأمة على الحاكم ماليزيا : د. عبدالرحمن اسبينداري
spendari@yahoo.com المفترض في الحاكم المسلم أن يكون عادلاً في حكمه، يشعر برقابة الله سبحانه عليه، وبأنه مسؤول عما يصدر عنه، مما يبعده عن اقتراف الظلم وممارسة العدوان على الرعية، وهذا الشعور أو الوازع الديني كان سبباً في عدل الخلفاء الراشدين، إلا أن الحاكم بشر مثل غيره يصدر عنه ما يصدر عن الآخرين، ويمر بحالات الضعف والغضب وما إلى ذلك مما قد يصدر عنه، لذا كان لزاماً على الأمة معاونته في الخير، ومراقبته وتقويمه.
هذه المراقبة هي المسماة بالرقابة الشعبية العامة، وهي مبنية على آيات قرآنية وأحاديث نبوية. وانطلاقاً من قول النبي {: "كلكم راعٍ، وكلكم مسؤول عن رعيته"(1)، فإن الحاكم ليس المسؤول الوحيد، وإنما كل فرد من أفراد الأمة مسؤول وراع، وقد فهم الصحابة هذا الأمر بجلاء، وانطلاقاً منه كانوا يراقبون الخلفاء وكيفية سيرهم للأمور، حتى إذا ما مال أحدهم قليلاً وقفوا له بالمرصاد.
ويتمثل دور الرعية أو الأمة ومشاركتها في الأمر العام كما سلف في أمرين هما: الإعانة والتقويم، أي إعانة وتأييد السياسات الصائبة الصادرة من السلطة، وفي مقابل ذلك رفض السياسات الخاطئة، وتقويم الاعوجاج والخلل والخطأ إذا ما بدر منها. وهو ما صرح به الصديق رضي الله عنه عندما تولى الخلافة حيث قال: "فإن ضعفت فقوموني، وإن أحسنت فأعينوني"(2).
هذه الرقابة المتمثلة في محوري الإعانة والتقويم تأخذ عدة خطوات، تبدأ بالنصيحة، وتنتهي بالعزل. أما النصيحة لولاة الأمر فقد بينها الرسول { في أحاديث كثيرة، منها "الدين النصيحة. قلنا لمن؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم"(3).
ومنها: "إن الله يرضى لكم ثلاثاً، ويسخط لكم ثلاثاً، يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم"(4).
والنصيحة مأمور بها في القرآن الكريم، ليس فقط مع الحاكم المسلم، وإنما حتى مع الطاغية الكافر، فإن القرآن يندب إليها لما لها من دور كبير في خلق أجواء يمكن فيها الأخذ والرد بين المصلح والحاكم وتحقيق النتائج المرتجاة، وهذا ما نجده واضحاً في قصة فرعون حيث أمر الله موسى وهارون عليهما السلام بالتوسل بالأسلوب اللين الذي هو لب النصيحة في الدعوة: اذهب إلى" فرعون إنه طغى" (17) فقل هل لك إلى" أن تزكى" (18) وأهديك إلى" ربك فتخشى" (19) (النازعات)، أما لماذا هذا الأسلوب فيبينه قوله تعالى: \ذهبا إلى" فرعون إنه طغى" 43 فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى" 44 (طه).(/6)
يقول الإمام الرازي: "إنه تعالى لما قال لهما فقولا له قولا لينا فكأنه تعالى رتب لهما ذلك الكلام اللين الرقيق، وهذا يدل على أنه لابد في الدعوة إلى الله من اللين والرفق وترك الغلظة، ولهذا قال لمحمد {: ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك (آل عمران:159)، ويدل على أن الذين يخاشنون الناس، ويبالغون في التعصب، كأنهم على ضد ما أمر الله به أنبياءه ورسله" (5).
وما من نبي إلا اتخذ من النصيحة الموجهة سبيلاً إلى إقناع المقابل ولا سيما مع ملأ القوم وحكامهم، فها هو نوح يخاطب الملأ الطاغي من قومه: لقد أرسلنا نوحا إلى" قومه فقال يا قوم \عبدوا الله ما لكم من إله غيره إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم 59 قال الملأ من قومه إنا لنراك في ضلال مبين 60 قال يا قوم ليس بي ضلالة ولكني رسول من رب العالمين 61 أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون 62 (الأعراف).
وها هو هود عليه السلام يخاطب الملأ الطاغي من قومه: وإلى" عاد أخاهم هودا قال يا قوم \عبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون 65 قال الملأ الذين كفروا من قومه إنا لنراك في سفاهة وإنا لنظنك من الكاذبين 66 قال يا قوم ليس بي سفاهة ولكني رسول من رب العالمين 67 أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين 68 (الأعراف).
والأمر نفسه مع صالح عليه السلام وموقفه من الرهط الطاغي: فتولى" عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين 79 (الأعراف).
وها هو شعيب عليه السلام يقول بعد أن قوبل بالرفض من ملأ قومه الطغاة: فتولى" عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم فكيف آسى" على" قوم كافرين 93 (الأعراف).
فإذا كان الحال مع الطواغيت الكفرة هكذا فكيف يكون مع الحاكم المسلم؟ لذا وجب بذل النصح له في بداية الأمر وعدم اتخاذ أي وسيلة أخرى، ما دامت النصيحة ممكنة. يذكر ابن كثير أنه: "وبينما الرشيد يطوف يوماً بالبيت، إذ عرض له رجل، فقال: يا أمير المؤمنين إني أريد أن أكلمك بكلام فيه غلظة. فقال: لا ولا نعمت عين، قد بعث الله من هو خير منك إلى من هو شر مني، فأمره أن يقول له قولاً ليناً"(6).
ويحبذ أن توجه النصيحة إلى الحاكم ولا سيما في المراحل الأولى بأسلوب غير مباشر حتى لا تثير في نفسه أي حساسية تمنعه من الامتثال للحق. أو تقدم له على شكل استفسار لتذكيره ما فاته من الحق. فقد يقدم الحاكم على فعل ظناً منه أنه الحق، وإن كان فيه إهدار لحقوق الآخرين، وبتذكيره قد يثوب إلى الصواب والحق.
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من القواعد الأساسية في الإسلام ووجوبه أوضح من أن يستدل عليه. فقد أوجب القرآن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ورتب عليهما الفلاح: ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون 104 (آل عمران).
وهو من صفات المؤمنين الصادقين قال تعالى: والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم 71 (التوبة).
وهو الصفة التي تفرق بين المسلم والمنافق، قال تعالى في وصف المنافقين: المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم نسوا الله فنسيهم إن المنافقين هم الفاسقون 67 (التوبة). وقال في وصف المؤمنين: والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم 71 (التوبة).
وخيرية الأمة الإسلامية منبثقة من التزامها بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون 110 (آل عمران).
وبين القرآن مدى التفاضل بين الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر وغيرهم، فقال تعالى: ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون 113 يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين 114 (آل عمران).
ثم بين أن ترك ذلك مجلبة للعنة: لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على" لسان داوود وعيسى \بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون 78 كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون 79 (المائدة)
ومن الأحاديث الدالة على وجوب ذلك قول النبي {: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان" (7).
ومنها، قول عبادة بن الصامت: "بايعت رسول الله على العسر واليسر والمكره والمنشط، وأن لا ننازع الأمر أهله، وأن نقوم أو نقول بالحق حيثما كنا لا نخاف في الله لومة لائم" (8).(/7)
ومنها ما رواه جابر رضي الله عنه عن النبي { أنه قال: "سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله"(9).
ومراقبة الإمام أصل في الإسلام شرعت حتى في العبادات مثل الصلاة، فيحق للمأموم أن يذكر الإمام أولاً بخطئه، ويصححه، وعلى الإمام ترك رأيه لصالح رأي المأمومين، وإن اعتقد صحة ظنه ورأيه، وهذا في الإمامة الصغري فكيف بالإمامة الكبرى؟.
وبناء على ما سبق فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يعد فرضاً لا يحق لأحد سواء كان حاكماً أو محكوماً منعه، وبذلك تكون رقابة الأفراد دائمة على الحكام كما قال الإمام النووي رحمه الله: "قال العلماء: ولا يختص الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر بأصحاب الولايات بل ذلك جائز لآحاد المسلمين. قال إمام الحرمين: والدليل عليه إجماع المسلمين، فإن غير الولاة في الصدر الأول والعصر الذي يليه كانوا يأمرون الولاة بالمعروف وينهونهم عن المنكر، مع تقرير المسلمين إياهم، وترك توبيخهم على التشاغل بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من غير ولاية"(10).
ويدل على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وسيلة لمنع الحاكم من الطغيان أن الرسول { صرح بأن عدم القيام بذلك مؤدٍ إلى ظهور الطغيان والتسلط في المجتمع: "لتأمرن بالمعروف، ولتنهن عن المنكر، أو ليسلطن الله عليكم شراركم، ثم يدعو خياركم، فلا يستجاب لهم"(11). فالتسلط والطغيان نتيجة حتمية لعدم قيام الأمة بدورها في مراقبة السلطة والحاكم حتى لا يخرج عن الشريعة الجامعة لكل معروف والناهية عن كل منكر.
ومن ذلك قول الرسول {: "إذا رأيت أمتي تهاب الظالم أن تقول له: أنت ظالم، فقد تودع منهم"(12).
قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: "يا أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية: يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم (المائدة:105)، وإني سمعت رسول الله { يقول: "إن الناس إذا رأوا ظالماً فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب"(13).
ومنها: "كلا والله لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يدي الظالم، ولتأطرنه على الحق أطراً، ولتقصرنه على الحق قصراً"(14).
ويظهر أن الخطاب هنا ليس موجهاً إلى فرد واحد، وإنما إلى جماعة المسلمين، فهي مكلفة بمراقبة الحاكم حتى إذا ما خرج عن جادة الحق منعوه وقوموه.
يقول الغزالي: "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو القطب الأعظم في الدين، وهو المهم الذي ابتعث الله له النبيين أجمعين، ولو طوي بساطه، وأهمل علمه وعمله لتعطلت النبوة، واضمحلت الديانة، وعمت الفترة، وفشت الضلالة، وشاعت الجهالة، واستشرى الفساد، واتسع الخرق، وخربت البلاد، وهلك العباد"(15).
فبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وضع القرآن أساساً متيناً لمقاومة الطغيان في المجتمع وفي نفسية كل مسلم، وقاعدة للتحرر من كل طغيان يلوح في الآفاق، والمسلم إن كان ملزماً بتغيير المنكر البسيط والنهي عنه، فمن باب أولى أن لا يقف مكتوف الأيدي وهو يرى طغيان الحاكم المؤدي إلى خراب البلدان وضياع الحقوق وإبطال الأحكام.
ويحبذ أن يكون هناك مجلس يقوم بالرقابة على أعمال المسؤولين بصورة عامة والحاكم بصورة خاصة. ولكن هذا لا يلغي قيام الأفراد كل في موقعه بأداء هذا الواجب.
لا طاعة إلا في معروف
وبعد أن تقوم الأمة بدورها في نصيحة الحاكم وتذكيره وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، تأتي مرحلة أخرى من المقاومة العملية أو ما عرف ب: عدم الطاعة إلا في المعروف، فقد رسم القرآن الكريم حدود الطاعة، وحددها بدائرة المعروف، فما خرج من دائرة المعروف لم تكن الرعية ملزمة بالأخذ به، وهذا الأمر واضح وصريح في صيغة بيعة المسلمين للرسول { في العقبة كما جاءت في كتب الحديث ومنها صحيح البخاري(16) وكان من شروطها ما جاء في قوله تعالى: ولا يعصينك في معروف (الممتحنة)، مع أن النبي { لم يكن ليصدر عنه إلا المعروف. فجاء ذلك من باب التأكيد لبيان أنه لا طاعة في المعصية مهما علت درجة الآمر. فإذا كان الحال هكذا مع الرسول { فكيف بغيره من أولي الأمر.
قال أبو السعود: "والتقييد بالمعروف مع أن الرسول { لا يأمر إلا به للتنبيه على أنه لا يجوز طاعة مخلوق في معصية الخالق"(17).
وينقل القرطبي عن ابن خويز منداد قوله: "وأما طاعة السلطان فتجب فيما كان لله فيه طاعة، ولا تجب فيما كان لله فيه معصية"(18).
وقد نهى النبي { عن طاعة العصاة من الأمراء في أحاديث كثيرة منها: ما أخرجه ابن ماجة عن عبد الله بن مسعود أن النبي { قال: "سيلي أموركم بعدي رجال يطفئون السنة، ويعملون بالبدعة، ويؤخرون الصلاة عن مواقيتها. فقلت: يا رسول الله إن أدركتهم كيف أفعل؟ قال: تسألني يا بن أم عبد كيف تفعل؟ لا طاعة لمن عصى الله"(19). فإذا كانت الطاعة مرفوضة لأمثال هؤلاء فكيف بالذين يقفون من الدين وأهله موقف الند والعداوة؟!
وقد ورد في سنن الترمذي أن النبي { قال: "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق"(20).(/8)
ومنها حديث معاذ بن جبل أن النبي {، قال: "ألا إن الكتاب والسلطان سيفترقان فلا تفارقوا الكتاب. ألا إنه سيكون عليكم أمراء يقضون لأنفسهم ما لا يقضون لكم. فإذا عصيتموهم قتلوكم. وإن أطعتموهم أضلوكم. قالوا: يا رسول الله كيف نصنع؟ قال: كما صنع أصحاب عيسى ابن مريم، نشروا بالمناشير وحملوا على الخشب. موت في طاعة الله خير من حياة في معصية الله"(21).
وبذلك يتبين لنا أن الأحاديث التي يستشهد بها البعض في وجوب السمع والطاعة، إنما هي في الأمور التي لا تخرج عن دائرة المعروف كما ورد ذلك في الأحاديث السابقة. أما إذا خرج عن دائرة المعروف فلا سمع ولا طاعة. وقد فهم الصحابة هذا الأمر لذا أكده الصديق رضي الله عنه في خطبته، فقال: "أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله، فلا طاعة لي عليكم"(22).
الهوامش
(1) صحيح البخاري، ج6، ص2611، كتاب الأحكام. باب قول الله تعالى "أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم"، رقم: 6719. صحيح مسلم، ج3، ص1459، باب فضيلة الإمام العادل وعقوبة الجائر والحث على الرفق بالرعية، رقم: 1829 .
(2) الأزدي، الجامع لمعمر بن راشد، تحقيق: حبيب الأعظمي (بيروت: المكتب الإسلامي، ط2، 1403ه)، ج11، ص336، رقم: 20702 . ابن هشام، عبدالملك، السيرة النبوية، تحقيق: طه عبدالرءوف سعد (بيروت: دار الجيل، ط1، 1411ه)، ج6، ص82 .
(3) صحيح مسلم، ج1، ص74، باب بيان أن الدين النصيحة، رقم: 55 . صحيح البخاري، ج1، ص30 31، باب قول النبي الدين النصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم.
(4) صحيح ابن حبان، ج8، ص182، ذكر الأخبار عما يجب على المرء من مجانبة الإكثار من السؤال، رقم: 3388. موطأ مالك، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي (مصر: دار إحياء التراث العربي، د. ط. ت)، ج2، ص990 . رقم: 1796 .
(5) تفسير الفخر الرازي (بيروت: دار الفكر، ط3، 1405ه، 1985م)، ج31، ص41 .
(6) ابن كثير، البداية والنهاية (بيروت: مكتبة المعارف، د. ط. ت) ج10، ص217 .
(7) صحيح مسلم، ج1، ص69، باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان رقم: 49 .
(8) ابن عبد البر، التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، تحقيق: مصطفى بن أحمد العلوي ومحمد عبد الكبير البكر (المغرب: وزارة عموم الأوقاف والشؤون الإسلامية، د.ط، 1387ه)، ج23، ص276 . قال ابن عبد البر: "وهذا هو الصحيح في إسناد هذا الحديث إن شاء الله".
(9) قال الحاكم: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه". الحاكم، المستدرك على الصحيحين، ج3، ص215، رقم: 4884 .
(10) شرح النووي على صحيح مسلم، ج2، ص23. وانظر قول الإمام الجويني في كتاب الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد، تحقيق: أسعد تميم (بيروت: مؤسسة الكتب الثقافية، ط1، 1405ه، 1985م)، ص311 .
(11) قال الهيثمي: "رواه الطبراني في الأوسط والبزار. وفيه حبان بن علي وهو متروك، وقد وثقه ابن معين في رواية. وضعفه في غيرها"، انظر، الهيثمي، مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (القاهرة بيروت: دار الريان للتراث دار الكتاب العربي، د. ط، 1407ه)، ج7، ص266 . انظر، الطبراني، المعجم الأوسط، تحقيق: طارق بن عوض الله بن محمد وعبد المحسن بن إبراهيم الحسين (القاهرة: دار الحرمين، د. ط، 1415ه) ج2، ص99 .
(12) مسند الإمام أحمد، ج2، ص190، رقم: 6784 . الحاكم، المستدرك، ج4، ص108، رقم: 7036 . وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه".
(13) قال أبو عيسى: "حديث حسن صحيح"، سنن الترمذي، ج5، ص256، رقم: 3057. مسند الإمام أحمد، ج1، ص7، رقم: 30 .
(14) سنن أبي داود، ج4، ص121، باب الأمر والنهي، رقم: 4336 .
(15) إحياء علوم الدين، تحقيق: أبو حفص سيد بن إبراهيم (القاهرة: دار الحديث، ط1، 1412ه، 1992م) ج2، ص477 .
(16) صحيح البخاري، ج4، ص1857، باب إذا جاءك المؤمنات يبايعنك، رقم: 4612 .
(17) أبو السعود، العمادي، إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم (بيروت: دار إحياء التراث العربي، د. ط. ت) ج8، ص240
(18) القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج5، ص259 .
(19) سنن ابن ماجة، ج2، ص956 . رقم: 2865 .
(20) سنن الترمذي، ج4، ص209. باب ما جاء لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. رقم: 33717 .
(21) قال الهيثمي: "رواه الطبراني، ويزيد بن مرثد لم يسمع من معاذ، والوضين بن عطاء وثقه ابن حبان وغيره، وبقية رجاله ثقات). الهيثمي، مجمع الزوائد، ج5، ص228، باب لا طاعة في معصية. انظر، الطبراني،، المعجم الصغير، تحقيق: محمد شكور محمود الحاج (بيروتعمان: المكتب الإسلاميدار عمار، ط1، 1405ه، 1985ه)، ج2، ص42، رقم: 749
(22) الأزدي، ج11، ص336، رقم: 20702 .(/9)
من سرق النور ؟!
د. مسفر بن علي القحطاني 15/6/1427
11/07/2006
نتفق أن النور هبة ربانية من الله –عزوجل- ونعمة لا تُقدّر بثمن (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها). هذا النور الأخّاذ نلتجئ إلى ضوئه عندما تبدأ العتمة, نبحث عنه في الظلمة لنرى الطريق الأفضل والأسلم, ونشعله عندما تختفي الأشياء عنا, أوتنعدم الرؤية الواضحة منا.
النور لا يمكن أن يحرم أحداً من إشعاعه، ولا يختص بأحد في ضيائه؛ لذا نحبه ونقترب منه بل ونتغزل به !.. وسعادتنا لا توصف للدفء والطاقة التي تمنحها أشعته للوجود, أوالحيوية التي يهبها للكائنات بخروجه علينا في إشراقة كل صباح ..
هذا النور.. لا يليق به أن يكون سلاحاً للحرب، أو معولاً للهدم، أو نقمة على الناس, لكنه بفضل بعض مثقفينا أصبح النور والضياء سيفا مضّاء؛ لا لقشع الظلمة بل لحرب الخصوم، وتصفية الحساب مع المخالفين.
فمن خلال قراءة بعض المقالات التي كُتبت حول التنوير العربي في صحافتنا المحلية, لفت انتباهي الاستعمال النافر لمفردة التنوير ذات الاشتقاق الرئيس من النور بكل صفاته السالفة, لكنها وظّفت أيدلوجياً بطريقة قاتمة، وبقوالب معينة؛ مَن وافقها استحق لقب المستنير، وإلا كان ماضوياً متخلفاً مستبداً, فأصبحت بالتالي اتجاهاً فكرياً ودينياً يقسم الناس بحدها القاطع كالسيف الفارق بيد أعمى لا يبصر حقيقة هذا النور اللاهب, وحتى الفنانون – كما قرأت في بعض تصريحاتهم - بدؤوا في تسويق هذه المفردة ربما في معناها الخاص جداً الذي لا يخرج عن رأي تبناه أحدهم حول فكرة فنية قد تكون أسمج من البحر الميت, لكن الهالة العظيمة لهذا المفهوم كانت إغراءً لا يقوم لاستعمال هذه المفردة المظلومة عند الفنانين فكيف بالمثقفين والفلاسفة أصحاب التشقيق والخوض في التفصيلات المملة.
وبالطبع إن المفهوم المقابل للتنوير أثناء الطرح والسجال هو التقليد والرجعية والتطرف والتخلف وغيرها من المفردات الظلامية, هذا ما قرأته في عدد من المقالات التي حملت عناوين صدامية مثل: "التطرف في مواجهة التنوير"، و "التنوير صراع ضد التخلف"، و "هل انتصر التنوير"، و"جدلية التراث والحداثة". كُتبت هذه المقالات وغيرها بلغة المعركة التي يستخدم فيها كل طرف أعتى ما لديه من الأسلحة لقصم ظهر خصمه؛ لأنها كُتبت في جو محموم من الخصومة والتنافر, وهنا لا أريد الانتصار لفريق على آخر؛ لأن حجم التطرف واقع عند الخصمين، فكل طرف يحمّل الآخر إخفاق الإصلاح الشامل في المنطقة، وكل تداعيات الضعف والانحسار في التغيير. فكما أني أرى أن هناك نوع إصابة لدى كل طرف, لكن الخطأ الذي أستنكره يعود إلى فرض التنوير بالإرهاب الفكري، والإنكار التام لأي مبادرة إيجابية في الإصلاح ما دام أنها صدرت من أحد الطرفين. في حين أن التنوير قضية تنمو مع الوعي الناضج المحفّز للفعل الحضاري كقاعدة مقررة في سنن التغيير والنهوض. و من المستحيل أن يُبنى الوعي المستديم في حس المسلم بمثل هذه الخطابات الإقصائية والتحديات الحزبية والانتقام من الآخر برد كل ما لديه من حق وباطل. وأعتقد جازماً أن التنوير المقترن بالتجديد في الخطاب والمعتد بالثوابت والمحترم للتراث بات ضرورة ملحة في مشهدنا الفكري والثقافي، وأي محاولة للاستحواذ والاقتناص للنور بطريقة حرب العصابات لن يزيدنا إلاّ تأخراً وظلام(/1)
من سرق النور ؟!
الكاتب: الشيخ د. مسفر بن علي القحطاني
نتفق أن النور هبة ربانية من الله –عزو جل- ونعمة لا تُقدّر بثمن (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها). هذا النور الأخّاذ نلتجئ إلى ضوئه عندما تبدأ العتمة, نبحث عنه في الظلمة لنرى الطريق الأفضل والأسلم, ونشعله عندما تختفي الأشياء عنا, أو تنعدم الرؤية الواضحة منا.
النور لا يمكن أن يحرم أحداً من إشعاعه، ولا يختص بأحد في ضيائه؛ لذا نحبه ونقترب منه بل ونتغزل به !.. وسعادتنا لا توصف للدفء والطاقة التي تمنحها أشعته للوجود, أو الحيوية التي يهبها للكائنات بخروجه علينا في إشراقة كل صباح ..
هذا النور.. لا يليق به أن يكون سلاحاً للحرب، أو معولاً للهدم، أو نقمة على الناس, لكنه بفضل بعض مثقفينا أصبح النور والضياء سيفا مضّاء؛ لا لقشع الظلمة بل لحرب الخصوم، وتصفية الحساب مع المخالفين.
فمن خلال قراءة بعض المقالات التي كُتبت حول التنوير العربي في صحافتنا المحلية, لفت انتباهي الاستعمال النافر لمفردة التنوير ذات الاشتقاق الرئيس من النور بكل صفاته السالفة, لكنها وظّفت أيدلوجياً بطريقة قاتمة، وبقوالب معينة؛ مَن وافقها استحق لقب المستنير، وإلا كان ماضوياً متخلفاً مستبداً, فأصبحت بالتالي اتجاهاً فكرياً ودينياً يقسم الناس بحدها القاطع كالسيف الفارق بيد أعمى لا يبصر حقيقة هذا النور اللاهب, وحتى الفنانون – كما قرأت في بعض تصريحاتهم - بدؤوا في تسويق هذه المفردة ربما في معناها الخاص جداً الذي لا يخرج عن رأي تبناه أحدهم حول فكرة فنية قد تكون أسمج من البحر الميت, لكن الهالة العظيمة لهذا المفهوم كانت إغراءً لا يقوم لاستعمال هذه المفردة المظلومة عند الفنانين فكيف بالمثقفين والفلاسفة أصحاب التشقيق والخوض في التفصيلات المملة.
وبالطبع إن المفهوم المقابل للتنوير أثناء الطرح والسجال هو التقليد والرجعية والتطرف والتخلف وغيرها من المفردات الظلامية, هذا ما قرأته في عدد من المقالات التي حملت عناوين صدامية مثل: "التطرف في مواجهة التنوير"، و "التنوير صراع ضد التخلف"، و "هل انتصر التنوير"، و"جدلية التراث والحداثة". كُتبت هذه المقالات وغيرها بلغة المعركة التي يستخدم فيها كل طرف أعتى ما لديه من الأسلحة لقصم ظهر خصمه؛ لأنها كُتبت في جو محموم من الخصومة والتنافر, وهنا لا أريد الانتصار لفريق على آخر؛ لأن حجم التطرف واقع عند الخصمين، فكل طرف يحمّل الآخر إخفاق الإصلاح الشامل في المنطقة، وكل تداعيات الضعف والانحسار في التغيير. فكما أني أرى أن هناك نوع إصابة لدى كل طرف, لكن الخطأ الذي أستنكره يعود إلى فرض التنوير بالإرهاب الفكري، والإنكار التام لأي مبادرة إيجابية في الإصلاح ما دام أنها صدرت من أحد الطرفين. في حين أن التنوير قضية تنمو مع الوعي الناضج المحفّز للفعل الحضاري كقاعدة مقررة في سنن التغيير والنهوض. و من المستحيل أن يُبنى الوعي المستديم في حس المسلم بمثل هذه الخطابات الإقصائية والتحديات الحزبية والانتقام من الآخر برد كل ما لديه من حق وباطل. وأعتقد جازماً أن التنوير المقترن بالتجديد في الخطاب والمعتد بالثوابت والمحترم للتراث بات ضرورة ملحة في مشهدنا الفكري والثقافي، وأي محاولة للاستحواذ والاقتناص للنور بطريقة حرب العصابات لن يزيدنا إلاّ تأخراً وظلاما(/1)
من شطحات الصوفية ومنهجهم قصيدة البردة
> الرئيسي > مقالات وأبحاث
من شطحات الصوفية في النَّبيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- ما تُسمَّى بقصيدةِ البُردةِ, وفيها يتضحُ منهجُ الصُّوفيةِ في النَّبيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- وسيتبين لنا ضلالُ الصُّوفيةِ من خلالِ ردودِ علماءِ أهلِ السُّنةِ على هذه القصيدةِ الشِّركيَّةِ .
يقول الشَّيخُ مُحمَّد بن عبد الوهَّاب: " في تفسير سورة الفاتحة " وأمَّا الملك فيأتي الكلام عليه ، وذلك أنَّ قولَهُ - تعالى - : {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} , وفي القراءةِ الأُخرى {مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ} فمعناه عند جميعِ المفسِّرين كُلِّهم ما فَسَّرهُ اللهُ به في قولِهِ : {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} سورة الانفطار الآيات: 17-19.
فَمَنْ عَرَفَ تفسيرَ هذه الآيةِ، وعَرَفَ تخصيصَ المُلكِ بذلك اليومِ - مع أنه سبحانه مالك كلِّ شيءٍ ، ذلك اليوم وغيره - عَرَفَ أنَّ التخصيص لهذه المسألةِ الكبيرةِ العظيمةِ التي بسبب معرفتِها , دَخَلَ الجنَّةَ مَنْ دَخَلَهَا ، وبسببِ الجهلِ بها دَخَلَ النَّارَ مَنْ دَخَلَهَا، فيالها من مسألةٍ لو رَحَلَ الرجلُ فيها أكثرَ من عشرينَ سنة لم يوفِّها حقَّها ، فأينَ هذا المعنى والإيمان بما صَرَّحَ به القُرآنُ ، مَعَ قولِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - :( يا فاطمة بنت محمد, سليني ما شئتِ من مالي ، لا أُغني عَنْكِ من اللهِ شيئاً ) البخاريُّ ، الفتح, كتاب الوصايا ، باب هل يدخل النِّساءُ والولدُ في الأقاربِ , رقم : (2753) (5/449) من قولِ صاحبِ البُردةِ:
ولن يضيقَ رسولَ اللهِ جاهُكَ بي ... *** ... إذا الكريمُ تحلَّى باسمِ مُنتقم
فإنَّ لي ذمةً منه بتسميتي ... *** ... محمَّداً وهو أوفى الخلقِ بالذِّممِ
إنْ لم تكنْ في معادي آخِذاً بيدي ... *** ... فَضْلاً وإلا فَقُلْ يا زلةَ القدمِ
فليتأمَّل مَنْ نَصَحَ نفسَهُ هذه الأبيات ومعناها ، ومن فُتِنَ بها من العبادِ، ومِمَّن يدَّعِي أنه من العُلماءِ , واختاروا تلاوتها على تلاوةِ القُرآنِ .
هل يجتمع في قلب عبد التصديق بهذه الأبيات والتصديق بقوله : {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} (19) سورة الانفطار .
وقوله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ -: ( يا فاطمة بنت محمد لا أغني عنك من الله شيئاُ) لا والله، لا والله, لا والله إلا كما يجتمع في قلبه أن موسى صادق، وأن فرعون صادق، وأن محمداً صادق على الحق، وأن أبا جهل صادق على الحق. لا والله ما استويا ولن يتلاقيا حَتَّى تشيبَ مَفَارِقُ الغِرْبانِ. راجع: تفسير سورة الفاتحة من مؤلفات الإمام محمد بن عبد الوهاب (5/13).
وقال العلامة المجدد عبد الرحمن بن حسن في البردة:
وقد ذكر "شيخ الإسلام"، عن بعض أهل زمانه: أنه جوَّز الاستغاثةَ بالرَّسُولِ-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ-في كُلِّ ما يُستغَاثُ فيه باللهِ.وصنَّفَ في ذلك مُصنَّفاً، ردَّهُ "شيخ الإسلام"، وردُّه موجودٌ بحمدِ اللهِ. ويقول: إنه يعلم مفاتيح الغيب، التي لا يعلمها إلا اللهُ. وذكر عنهم أشياء من هذا النمط. نعوذ بالله من عَمَى البَصيرةِ.
وقد اشتهر في نظمِ البُوصيريِّ قولُهُ:
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به ... *** ... سواك عند حلول الحادث العممِ !!
وما بعده في الأبيات، التي مضمونها: إخلاص الدعاء، واللياذ والرجاء, والاعتماد في أضيق الحالات، وأعظم الاضطرار لغير الله. فناقضوا الرَّسُولَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - في ارتكاب ما نهى عنه أعظم مناقضة ، وشاقوا الله ورسوله أعظم مشاقة ، وذلك أن الشيطان أظهر لهم هذا الشرك العظيم ، في قالب محبة النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - وتعظيمه، وأظهر لهم التوحيد والإخلاص ، الذي بعثه الله به في قالب تنقصه.
وهؤلاء أفرطوا في تعظيمه بما نهاهم عنه أشد النهي، وفرّطوا في متابعته. فلم يعبئوا بأقواله وأفعاله، ولا رضوا بحكمه ولا سلّموا له، وإنما يحصل تعظيم الرَّسُول-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ-بتعظيم أمره ونهيه. وهؤلاء عكسوا الأمر. فخالفوا ما بلَّغ به الأمة، وأخبر به عن نفسه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- فعاملوه بما نهاهم عنه: من الشرك بالله، والتعلق على غير الله، حَتَّى قال قائلهم:
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به ... *** ... سواك عند حلول الحادث العمم
إن لم تكن في معادي آخذاً بيدي ... *** ... فضلاً وإلا فقل: يا زلة القدم
فإن من جودك الدنيا وضرتها ... *** ... ومن علومك علم اللوح والقلم
فانظرْ إلى هذا الجهلِ العظيمِ، حيث اعتقد أنه لا نجاةَ له إلا بعياذِهِ ولياذِهِ بغيرِ اللهِ.(/1)
وانظر إلى هذا الإطراءِ العظيمِ، الذي تجاوزَ الحدَّ في الإطراءِ، الذي نَهَى عَنْهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- بقولِهِ: ( لا تُطروني كما أطرتِ النَّصارى ابنَ مريم،إنَّما أنا عبدٌ، فقولوا عبدُ اللهِ ورسولُهُ)أخرجه البخاريُّ كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله: واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها...(6/551) برقم (3445) وقد قال الله - تعالى- :{قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ}(50) سورة الأنعام.
فانظر إلى هذه المعارضة العظيمة للكتاب والسنة، والمحادَّة لله ورسوله. وهذا الذي يقوله هذا الشاعر هو الذي في نفوس كثير، خصوصاً ممن يدعي العلم والمعرفة، ورأوا قراءة هذه المنظومة ونحوها لذلك وتعظيمها من القربات، فإنا لله وإنا إليه راجعون. راجع: فتح المجيد لشرح كتاب التوحيد, باب ما جاء أن سبب كفر بنى آدم وتركهم دينهم هو الغلو, ( 1 / 381 ). و باب قول الله - تعالى - : {فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون} ( 2 / 693 ).
وقال العلامة المحدث سليمان بن عبد الله في كتاب تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد: "ومن بعض أشعار المادحين لسيدِ المرسلينَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- قول البوصيري:
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به ... *** ... سواك عند حلول الحادث العمم
ولن يضيقَ رسولَ اللهِ جاهُكَ بي ... *** ... إذا الكريمُ تحلَّى باسمِ مُنتقم
فإنَّ لي ذمةً منه بتسميتي ... *** ... محمَّداً وهو أوفى الخلقِ بالذِّممِ
إنْ لم تكنْ في معادي آخِذاً بيدي ... *** ... فَضْلاً وإلا فَقُلْ يا زلةَ القدم
فتأمل ما في هذه الأبيات من الشرك.
منها: أنه نفى أن يكون له ملاذٌ إذا حلَّت به الحوادث، إلا النَّبيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - ، وليس ذلك إلا لله وحده لا شريك له، فهو الذي ليس للعباد ملاذ إلا هو.
الثاني: أنه دعاه وناداه بالتضرع, وإظهار الفاقة والاضطرار إليه، وسأل منه هذه المطالب التي لا تطلب إلا من الله، وذلك هو الشرك في الإلهية.
الثالث: سؤاله منه أن يشفع له في قوله: (ولن يضيق رسول الله...) البيت...
وهذا هو الذي أراده المشركون ممن عبدوه ، وهو الجاه والشفاعة عند الله، وذلك هو الشرك، وأيضاً فإن الشفاعة لا تكون إلا بعد إذن الله فلا معنى لطلبها من غيره ، فإن الله تعالى هو الذي يأذن للشافع أن يشفع لا أن الشافع يشفع ابتداء.
الرابع: قوله: فإن لي ذمة... إلى آخره.
كذب على الله وعلى رسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - ، فليس بينه وبين من اسمه محمد ذمة إلا بالطاعة ، لا بمجرد الاشتراك في الاسم مع الشرك.
تناقض عظيم وشرك ظاهر، فإنه طلب أولاً أن لا يضيق به جاهه، ثم طلب هنا أن يأخذ بيده فضلاً وإحساناً، وإلا فيا هلاكه.
فيقال: كيف طلبت منه أولاً الشافعة, ثم طلبت منه أن يتفضل عليك، فإن كنت تقول: إن الشفاعة لا تكون إلا بعد إذن الله، فكيف تدعو النَّبيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - وترجوه وتسأله الشفاعة؟ فهلّا سألتها ممن له الشفاعة جيمعاً، الذي له ملك السموات والأرض، الذي لا تكون الشفاعة إلا من بعد إذنه، فهذا يبطل عليك طلب الشفاعة من غير الله.
وإن قلت: ما أريد إلا جاهه، وشفاعته، بإذن الله.
قيل: فكيف سألته أن يتفضل عليك ويأخذ بيدك في يوم الدين، فهذا مضاد لقوله - تعالى - : {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ}الانفطار: 17 - 19.فكيف يجتمع في قلب عبد الإيمان بهذا وهذا.
وإن قلت: سألته أن يأخذ بيدي، ويتفضل عليَّ بجاهه وشفاعته.
قيل: عاد الأمر إلى طلب الشفاعة من غير الله، وذلك هو محض الشرك.(/2)
السادس: في هذه الأبيات من التبري من الخالق - تعالى وتقدس - والاعتماد على المخلوق في حوادث الدنيا والآخرة ما لا يخفى على مؤمن، فأين هذا من قوله - تعالى - :{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} الفاتحة:5 , وقوله - تعالى - :{فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} التوبة:129، وقوله - تعالى - : {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً} الفرقان : 58 ، وقوله - تعالى- :{قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً}الجن:21-22. فإن قيل : هو لم يسأله أن يتفضل عليه ، وإنما أخبر أنه إن لم يدخل في عموم شفاعته فيا هلاكه . قيل : المراد بذلك سؤاله ، وطلب الفضل منه ، كما دعاه أول مرة وأخبر أنه لا ملاذ له سواه ، ثم صرح بسؤال الفضل والإحسان بصيغة الشرط والدعاء، والسؤال كما يكون بصيغة الطلب يكون بصيغة الشرط، كما قال نوح - عليه السلام - : {وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ}هود:47.
ومنهم من يقول: نحن نعبد الله ورسوله، فيجعلون الرَّسُول معبوداً.
قلت: وقال البوصيري:
فإن من جودك الدنيا وضرتها ... *** ... ومن علومك علم اللوح والقلم
فجعل الدنيا والآخرة من جوده، وجزم بأنه يعلم ما في اللوح المحفوظ ، وهذا هو الذي حكاه شيخ الإسلام عن ذلك المدّرس ، وكل ذلك كفر صريح .
ومن العجب أن الشيطان أظهر لهم ذلك في صورة محبته - عليه السلام - وتعظيمه ومتابعته ، وهذا شأن اللعين لابد وأن يمزج الحق بالباطل ليروج على أشباه الأنعام إتّباع كل ناعق، الذين لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجأوا إلى ركن وثيق ؛ لأن هذا ليس بتعظيم ، فإن التعظيم محله القلب واللسان والجوارح وهم أبعد الناس منه ، فإن التعظيم بالقلب : ما يتبع اعتقاد كونه عبداً رسولاً ، من تقديم محبته على النفس والولد والوالد والناس أجمعين. ....... فكيف بمن يقول فيه ؟ !
ويقول في همزيته:
اهذه علتي وأنت طبيبُ ... *** ... ليس يخفى عليك في القلب داء
وأشباه هذا من الكفر الصريح . راجع: كناب تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد ( ص 621 ) .
ويقول العلامة محمد بن على الشوكاني في البردة:
فانظر- رحمك الله تعالى - ما وقع من كثير من هذه الأمة من الغلو المنهي عنه المخالف لما في كتاب الله وسنة رسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- كما يقوله صاحب البردة :
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به ... *** ... سواك عند حلول الحادث العمم
فانظر كيف نفى كل ملاذ ما عدا عبد الله ورسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - وغفل عن ذكر ربه ورب رسولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - إنا لله وإنا إليه راجعون.
وهذا بابٌ واسِعٌ ، قد تلاعب الشَّيطانُ بجماعةٍ من أهلِ الإسلامِ حَتَّى ترقَّوا إلى خطابِ غيرِ الأنبياءِ بمثلِ هذا الخطابِ ، ودخلُوا من الشِّركِ في أبوابٍ بكثيرٍ من الأسبابِ. ومن ذلك قولُ مَنْ يقولُ مُخاطِباً لابنِ عُجَيلٍ :
هات لي منك يابن موسى إغاثة ... *** ... عاجلاً في سيرها حثاثة
فهذا محض الاستغاثة التي لا تصلح لغير الله لميت من الأموات قد صار تحت أطباق الثرى من مئات السنين.
وقد وقع في البردة والهمزية شيء كثير من هذا الجنس ، ووقع أيضاً لمن تصدى لمدح نبينا محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - ولمدح الصالحين والأئمة الهادين ما لا يأتي عليه الحصر، ولا يتعلق بالاستكثار منه فائدةٌ , فليس المراد إلا التنبيه والتحذير لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد قال الله: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} الذاريات : 55. راجع: الدر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد ( 59 -60 ).
وقال العلامة عبد الله بن عبد الرحمن أبابطين في كتابه " الرد على البردة " قوله :
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به ... *** ... سواك عند حلول الحادث العمم
ولن يضيقَ رسولَ اللهِ جاهُكَ بي ... *** ... إذا الكريمُ تحلَّى باسمِ مُنتقم
فإنَّ لي ذمةً منه بتسميتي ... *** ... محمَّداً وهو أوفى الخلقِ بالذِّممِ
إنْ لم تكنْ في معادي آخِذاً بيدي ... *** ... فَضْلاً وإلا فَقُلْ يا زلةَ القدم(/3)
مقتضى هذه الأبيات إثبات علم الغيب للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - وأن الدنيا والآخرة من جوده وتضمنت الاستغاثة به - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - من أعظم الشدائد ورجاءه لكشفها, وهو الأخذ بيده في الآخرة , وإنقاذه من عذاب الله ، وهذه الأمور من خصائص الربوبية والألوهية التي ادعتها النصارى في المسيح - عليه السلام - وإن لم يقل هؤلاء إن محمداً هو الله أو ابن الله , ولكن حصلت المشابهة للنصارى في الغلو الذي نهى عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - بقوله: ( لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله) 1 والإطراء هو المبالغة في المدح حَتَّى يؤول الأمر إلى أن يجعل المدح شيء من خصائص الربوبية والألوهية.
وهذه الألفاظ صريحة في الاستغاثة بالنَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - كقوله:
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به ... *** ... سواك عند حلول الحادث العمم
أي و إلا فأنا هالك، والنَّبيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - يقول في دعائِهِ:(( لا ملجأ منك إلا إليك)) أخرجه البخاريُّ, كتاب الدعوات باب إذا بات طاهراً(11/112) برقم(6311). وقوله:
إنْ لم تكنْ في معادي آخِذاً بيدي ... *** ... فَضْلاً وإلا فَقُلْ يا زلةَ القدم
فإن من جودك الدنيا وضرتها ... *** ... ومن علومك علم اللوح والقلم
أو شافعاً لي...... إلخ. ... ...
أي و إلا هلكت، وأي لفظ في الاستغاثة أبلغ من هذه الألفاظ وعطف الشفاعة على ما قبلها بحرف أو في قوله: " أو شافعاً لي " صريح في مغايرة ما بعد أو لما قبلها, وأن المراد مما قبلها طلب الإغاثة بالفعل والقوة. فإن لم يكن فبالشفاعة.
والناظم آلت به المبالغة في الإطراء الذي نهى عنه الرَّسُولُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - إلى هذا الغلو والوقوع في هذه الزلقة العظيمة ونحو ذلك قوله في خطابه للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - :
الأمان الأمان إن فؤادي ... *** ... من ذنوب أتيتهن هراء
هذه علتي وأنت طبيبي ... *** ... ليس يخفى عليك في القلب داء
فطلب الأمان من النَّبيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - وشكا إليه علة قلبه ومرضه من الذنوب, فتضمن كلامه سؤاله من النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - مغفرة ذنبه وصلاح قلبه، ثم إنه صرّح بأنه لا يخفى عليه في القلب داء فهو يعلم ما احتوت عليه القلوب. وقد قال - سبحانه - :{وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} (101) سورة التوبة. وقال - تعالى - :{وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ} (60) سورة الأنفال. وخفي عليه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - أمر الذين أنزل الله فيهم:{وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا} (107) سورة النساء. حَتَّى جاء الوحي, وخفي عليه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - أمر أهل الإفك حَتَّى أنزل الله القرآن ببراءة أم المؤمنين - رَضِيَ اللهُ عَنْهُا - وهذا في حياته فكيف بعد موته, وهذا يقول:" وليس يخفى عليه في القلب داء " يعني أنه يعلم ما في القلوب والله - سبحانه - يقول: {وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}(154) سورة آل عمران. وقال النَّبيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - : (إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إليّ ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع فمن قضيت له بحق أخيه فلا يأخذه فإنما اقطع له قطعة من النار) أخرجه البخاري كتاب الحيل باب إذا غصب جارية فزعم أنها ماتت..(12/355) برقم(6967). راجع: كتاب الرد على البردة للعلامة عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين (ت/1282هـ)(ص361- 363)(387-388).
وقال الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين - رحمه الله - في كتابه "القول المفيد على كتاب التوحيد " (1/218):
وقد ضَلَّ مَنْ زعم أن لله شركاء كمن عبد الأصنام,أو عيسى بن مريم - عليه السلام - ، وكذلك بعض الشعراء الذين جعلوا المخلوق بمنزلة الخالق؛ كقول بعضهم يخاطب ممدوحاً له:
فكن كمن شئت يامن لاشبيه له ... *** ... وكيف شئت فما خلق يدانيك
وكقول البوصيري في قصيدته في مدح الرَّسُول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - :
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به ... *** ... سواك عند حلول الحادث العمم
ولن يضيقَ رسولَ اللهِ جاهُكَ بي ... *** ... إذا الكريمُ تحلَّى باسمِ مُنتقم
فإنَّ لي ذمةً منه بتسميتي ... *** ... محمَّداً وهو أوفى الخلقِ بالذِّممِ
إنْ لم تكنْ في معادي آخِذاً بيدي ... *** ... فَضْلاً وإلا فَقُلْ يا زلةَ القدم(/4)
قال الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله - : وهذا من أعظم الشرك؛ لأنه جعل الدنيا والآخرة من جود الرَّسُول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - ، ومقتضاهُ أن الله جل ذكره ليس له فيهما شيء.
وقال - أي: البوصيري - " ومن علومك علم اللوح والقلم" يعني: وليس ذلك كل علومك؛ فما بقي لله علمٌ ولا تدبيرٌ ـ والعياذ بالله ـ. أ. هـ راجع: "القول المفيد على كتاب التوحيد " (1/218).
قال العلامة صالح بن فوزان الفوزان في كتابه إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد:
قوله تعالى ولا شفيعٌ أي : واسطة، يتوسط له عند الله، ما أحد يشفع له يوم القيامة إلا بإذن الله - سبحانه وتعالى - ، وبشرط أن يكون هذا الشخص ممن يرضى الله عنه ، هذه شفاعة منفيّة فبطل أمر هؤلاء الذين يتخذون الشفعاء, ويظنون أنهم يخلصونهم يوم القيامة من عذاب الله كما يقول صاحب " البردة ":
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به ... *** ... سواك عند حلول الحادث العمم
إنْ لم تكنْ في معادي آخِذاً بيدي ... *** ... فَضْلاً وإلا فَقُلْ يا زلةَ القدم
هذا على اعتقاد المشركين أن الرَّسُول - صلى الله عليه وسلم - يأخذ بيده ويخلصه من النار، وهذا ليس بصحيح، لا يخلصه من النار إلا الله - سبحانه وتعالى - إذا كان من أهل الإيمان.
راجع: إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد (1/241).
عن أنس - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - : أن أناساً قالوا: يا رسول الله ، يا خيرنا وابن خيرنا، وسيدنا وابن سيدنا، فقال: (يا أيها الناس قولوا بقولكم، ولايستهوينكم الشيطان، أنا محمد رسول ؛ عبد الله ورسوله، ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عَزَّ وجَلَّ). أخرجه أحمدُ في المسندِ(3/241) وصححه الألبانيُّ في غاية المرام ص(127).
فهذا الحديث يُستفاد منه فوائد عظيمة:
الفائدة الأولى: فيه التحذير من الغلوّ في حَقِّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - عن طريق المديح، وأنّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - إنّما يوصف بصفاتِه التي أعطاهُ الله إيَّاها: العبوديّة والرِّسالة، أمّا أن يُغالى في حقَّه فيوصف بأنّه يفرِّج الكُروب, ويغفر الذنوب، وأنه يستغاث به - عليه الصلاة والسلام - بعد وفاته، كما وقع فيه كثيرٌ من المخرِّفين اليوم فيما يسمّونه بالمدائح النبوية في أشعارهم: " البُردة " للبوصيري، وما قيل على نسجها من المخرفين، فهذا غلو أوقع في الشرك كما قال البوصيري:
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به ... *** ... سواك عند حلول الحادث العمم
إنْ لم تكنْ في معادي آخِذاً بيدي ... *** ... فَضْلاً وإلا فَقُلْ يا زلةَ القدم
فهذا غلوٌّ - والعياذ بالله - أفضى إلى الكفر والشِّرْك، حَتَّى لم يترُك لله شيئاً، كلّ شيء جعله للرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - : الدُّنيا والآخرة للرسول، علم اللوح والقلم للرسول، لا ينقذ من العذاب يوم القيامة إلا الرَّسُول، إذاً ما بقي لله - عَزَّ وجَلَّ - ؟
وهذا من قصيدةٍ يتناقلونها(2) ويحفظونها ويُنشدونها في الموالد.
وكذلك غيرُها من الأشعار، كلّ هذا سببه الغلوّ في الرَّسُولِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - .
وأمّا مدحُه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - بما وصفه الله به بأنّه عبدٌ ورسول، وأنه أفضل الخلق، فهذا لا بأس به، كما جاء في أشعار الصَّحابَة الذين مدحوه، كشعر حسان بن ثابت، وكعب بن زهير، وكذلك كعب بن مالك،وعبد الله بن رَوَاحة، فهذه أشعار نزيهة طيبة، قد سمعها النَّبيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - وأقرها؛ لأنها ليس فيها شيءٌ من الغلو، وإنما فيها ذِكْرُ أوصافِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - . راجع:إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد (2/312).
ويقول الشيخ الفوزان أيضاً: ففي قوله:"عبد الله" ردٌّ على الغُلاةِ في حَقِّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - . وفي قوله:"رسوله" ردٌ على المكذبين الذين يكذّبون برسالته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - ، والمؤمنون يقولون: هو عبد الله ورسوله.
هذا وجه الجمع بين هذين اللفظين، أن فيهما رداً على أهل الإفراط وأهل التفريط في حقه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - .
وفيه: ردٌّ على الذين غلو في مدحِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - من أصحاب القصائد، كقصيدة البُردة, والهمزية, وغيرهما من القصائد الشركية التي غلت في مدحه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - ،حَتَّى قال البوصيري:
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به ... *** ... سواك عند حلول الحادث العمم
إنْ لم تكنْ في معادي آخِذاً بيدي ... *** ... فَضْلاً وإلا فَقُلْ يا زلةَ القدم
فنسي الله - سبحانه وتعالى - . ثم قال:
إنْ لم تكنْ في معادي آخِذاً بيدي ... *** ... فَضْلاً وإلا فَقُلْ يا زلةَ القدم
يعني: ما ينجيه من النار يوم القيامة إلاّ الرَّسُول. ثم قال:
فإن من جودك الدنيا وضرته ... *** ... ومن علومك علم اللوح والقلم(/5)
الدنيا والآخرة كلها من وجود النَّبيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - ، أما الله فليس له فضل،هل بعد هذا الغلو من غلو؟؟.
واللّوح المحفوظ والقلم الذي كتب الله به المقادير هذا بعض علم النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - ، ونسي الله تماماً - والعياذ بالله - .
________________________________________
1 - سبق تخريجه.
2 - يقصد الصوفية.(/6)
من صفات الدعاة
رئيسي :الدعوة : الدعوة إلى الله عمل جليل، ومهمة شاقة، ولابد لمن يضطلع بهذا الواجب العظيم أن يتصف بصفات الدعاة المخلصين، وخصال المصلحين الصادقين، الذين لا يتوخون من دعواتهم إلا أمرًا واحدًا هو رضى الله عز وجل، ولا يصلح أن يتبوأ مقام الدعوة إلى الله إلا من اصطبغ بصبغة التقوى، وتنزّه عن المقاصد الدنيوية، وترفّع عما يختصم فيه أهل المادة وطلاب الدنيا، ثم لم يكن حظه من مُتع الحياة الدنيا التي مآلها للزوال إلا كحظ المسافر استظل تحت شجرة فهو يتحرى ساعة الرحيل عنها.
من صفات الدعاة:
التزام الداعي بما يدعو إليه : ومعناه: أن يطابق قول الداعي عمله، وأن يتمثّل ما يقوله عملاً وسلوكًا ومنهاج حياة، وأن لا يخالف في عمله بالجوارح والمقاصد ما يقوله بلسانه.
شرط هذا الالتزام:الالتزام الحق هو الذي اجتمع فيه شرطان: الإخلاص لله عز وجل، والمتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فمتى انتفى أحد هذين الشرطين لم يكن الالتزام صحيحًا .
أهمية الالتزام في حياة الدعاة:
? معلم بارز، بل أساس من أسس دعوات الرسل: ومن الأمثلة على ذلك قول نبي الله شعيب صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقومه : { وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ[88] } [سورة هود].
? التطابق بين القول والعمل سبيل النجاة يوم الحساب: فعن أسامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: [يُجَاءُ بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُهُ فِي النَّارِ فَيَدُورُ كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِرَحَاهُ فَيَجْتَمِعُ أَهْلُ النَّارِ عَلَيْهِ فَيَقُولُونَ أَيْ فُلَانُ مَا شَأْنُكَ أَلَيْسَ كُنْتَ تَأْمُرُنَا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَانَا عَنْ الْمُنْكَرِ قَالَ كُنْتُ آمُرُكُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا آتِيهِ وَأَنْهَاكُمْ عَنْ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ] رواه البخاري ومسلم .
? الداعي الملتزم يمضي قُدمًا في سبيل الدعوة، ويحقق ما لا يحققه المتهاون: ذلك أن الداعي الملتزم يدعو بطريقين: طريق البيان، وطريق القدوة العملية، والقدوة أبلغ من القول إقناعًا وأعمق تأثيرًا، فضلاً عن أن الملتزم يقع في القلوب موقع الرضا وتلك مزية لها أثرها البيّن في قبول الدعوة وفتح مغاليق القلوب أمامها.
? الدعاة يراعي في حياتهم ومدى التزامهم ما لا يراعي مثله في غيرهم: ولهذا ورد التشنيع والتحذير من زلة العالم .
فضل الالتزام:
? أثنى الله على الذين تطابق أقوالهم وأفعالهم، قال تعالى: { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ[33] } [سورة فصلت] . فالمدح في الآية على: الدعوة إلى الله،والعمل وفق هذه الدعوة وهو العمل الصالح الذي تحقق فيه الإخلاص لله والاتباع، ولزوم جماعة المسلمين، بترك الاختلاف والتفرق والتشرذم والتنازع . ومتى ترك الداعي شيئًا منها فقد قصر في حق نفسه وفي حق من يدعوه إلى الله، وقد ذم الله من تخالف أقوالهم أفعالهم، فقال: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ[2]كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ[3] } [سورة الصف]. وقال: { أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ[44] } [سورة البقرة].
? ومما فيه تنويه بفضل الالتزام والملتزمين:قوله تعالى: { مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ[97] } [سورة النحل].
فأهل الالتزام بالدين بأحكامه، وأخلاقه، وآدابه، لهم الحياة الطيبة في الدنيا، والنعيم المقيم في الآخرة، وكفى بذلك فضلاً .
سمات الالتزام:(/1)
? سمة الديمومة: فالتزام المسلم والداعي على الأخص ينبغي أن يتسم بسمة الدوام والثبات والاستقرار، فمتى داوم واستمر على الالتزام كان ذلك أدعى إلى الإخلاص لله؛ لأن من التزم لله، لا ليرائي، ولا ليرى مكانه؛ دام التزامه، واستقام، وكان التزامه في يسره كالتزامه في عسره، فيستوي عنده الرخاء والشدة، والسر والعلن، والمنشط والمكره، قال تعالى: { وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ[99] } [سورة الحجر]. واليقين هنا معناه الموت، أي : اعبد ربك حتى يأتيك الموت، وفيه دلالة على أن منهج المداومة والاستمرار في الالتزام بالدين . وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [اكْلَفُوا مِنْ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا وَإِنَّ أَحَبَّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَدْوَمُهُ وَإِنْ قَلَّ] رواه البخاري ومسلم . فالثبات على العبادة والدوام على الالتزام بالشرع من صفات الدعاة المصلحين .
? سمة الشمول :هذا الدين كامل مترابط، قال: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً[3] } [سورة المائدة]. وعلى هذا الفهم للدين وأنه كامل شامل مضى سلف الأمة الصالح . والمسلم مطالب بالالتزام الشامل بالدين، وذلك بالائتمار بما أمر الله ورسوله، وكذلك الانزجار عما نهى الله عنه ورسوله على قدر الوسع والطاقة.
وإذا كان من أخلاق الدعاة شمولية الالتزام بالدين القويم، فإن مما يعد قصورًا وتقصيرًا الالتزام الجزئي، والدعوة إلى جزء من الدين لا على سبيل التدرج بل على سبيل التعصب والتزام الرسم، وهذا ينافي شمولية الإسلام، فالدعوة الصحيحة الراشدة هي التي توافق منهج النبي صلى الله عليه وسلم ومنهجه يشمل كل مرافق الحياة ومهماتها بدءً من العقدية بتعليم من يجهلها، وتصحيح خطأ من ينحرف في فهمها، وتحقيقًا لكل ما تقتضيه مراتب الدين الثلاث: الإسلام والإيمان والإحسان، ثم تأسيس باقي شعب الإيمان وركائز الدين على هذا الأصل الأصيل.
? سمة الوسطية والاعتدال: الداعي المستبصر يتخذ من الوسطية منهاجًا في الدعوة، وفي الالتزام بما يدعو إليه دون غلو ولا تهاون، ودون إفراط ولا تفريط، ودون تكاسل ولا تنطع، يؤدي حق ربه، وحق نفسه وحق الخلق .
أثر التزام الداعي في نجاح الدعوة :
? في الالتزام دلالة بيّنة على صدق الداعي في دعوته، ومدى إيمانه بالذي يدعو إليه ويلتزم به، ومن بواعث الاستجابة له .
? الالتزام أسلوب في الدعوة بالقدوة، والدعوة العملية لا تقل أهمية عن الدعوة القولية، بل الناس لا تؤثر فيهم الأقوال بقدر ما تؤثر فيهم الأفعال .
? يستجلب التزام الدعاة ثقة الناس، فيرون في تصرفات الداعي أو العالم أو المفتي صورة مثلى لما يدعو إليه وينادي به.
? ومن آثار الالتزام في حياة الدعاة: أنه يستجلب حسن السمعة والسيرة، والناس مجبولون على حب الفضائل وأصحابها، والقبول حين يوضع في الأرض لصالحي الدعاة فقد كتب لهم التوفيق والتسديد إذ تتفتح لهم مغاليق القلوب.
الإخلاص لله عز وجل في الدعوة: أمر الله كل الرسل بالإخلاص: { وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [5] } [سورة البينة] . وأمر خاتم المرسلين بالإخلاص في آيات، منها:} فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ[2]أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ [3] } [سورة الزمر]. وحسبنا دلالة على أهمية الإخلاص؛ أنه عليه يتوقف قبول العمل.(/2)
ومن الأحاديث ذات الدلالة البينة على أهمية الإخلاص، وأنه مناط قبول العمل قَولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا قَالَ فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا قَالَ قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ قَالَ كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لِأَنْ يُقَالَ جَرِيءٌ فَقَدْ قِيلَ ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا قَالَ فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا قَالَ تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ قَالَ كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ عَالِمٌ وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ هُوَ قَارِئٌ فَقَدْ قِيلَ ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا قَالَ فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا قَالَ مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلَّا أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ قَالَ كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ هُوَ جَوَادٌ فَقَدْ قِيلَ ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّارِ] رواه مسلم . والمتأمل في هذا الحديث النبوي الجليل يجد أن الدعاة لا ينهضون بواجب الدعوة على الوجه الأتمّ إلا بهذه الأعمال الثلاثة الجليلة: الجهاد لإعلاء كلمة الله فهو ذروة سنام الإسلام نشرًا للدين ودفاعًا عن الدعوة وذودًا عن الدعاة وحماية لمكتسباتها، وتعلّم القرآن وتعليمه وهو عماد الدعوة ومصدرها الأول، والبذل والإنفاق، وبالإنفاق في وجوهه المشروعة يمضي بالدعوة قُدمًا إلى الأمام. فمتى حصل الإخلاص وتحقق في هذه الوجوه الثلاثة العظيمة بلغ الدعاة ذرى المجد والسؤدد في الدنيا والآخرة .
آفات ترك الإخلاص في حياة الدعاة: حين ينتفي الإخلاص فإنه يورث آفات توبق صاحبها، وتورده موارد الهلكة، وهذه الآفات تكون أنكى في مجال الدعوة لسعة بابها من جهة، وشمول آثارها من جهة أخرى . ومن هذه الآفات التي يتورط فيها من ترك الإخلاص:
? طلب العوض من الخلق .
? طلب رضا المخلوقين .
? الرياء والسمعة.
وهذه الآفات الثلاثة من أسباب هلاك العبد، وحبوط العمل، ودونك بعض تفصيل لكل واحدة من هذه الآفات وأثرها في مجال الدعوة إلى الله .
التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم : قال الله تعالى: { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ[21] } [سورة الأحزاب]. والتأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم معناه : تحري متابعته صلى الله عليه وسلم في كل دقيق وجليل من أمور الدين، وإذا كان هذا مطلب عامة المسلمين لا يسعهم إلا ذلك كما قال تعالى: { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ[36] } [سورة الأحزاب]؛ فهو في حق الدعاة ألزم وأوجب.
وحقيقة التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم إنما هي اتباع الوحي الذي تنزل عليه، واستمساك بالحق الذي جاء به ، والدعاة من ألزم الناس وأحوجهم إلى التمسك بهدي النبي صلى الله عليه وسلم، والتأسي به، والاقتداء في أقواله وأفعاله وتقريراته في سائر أمور المعاش والمعاد؛ لأن الدعاة إنما يدعون إلى ما دعا إليه النبي صلى الله عليه وسلم وإنما يسيرون على خطاه، ويترسمون منهجه، ويؤثرون الحق الذي جاء به على الأهواء والنزعات والتوجهات المغايرة لذلك، ومن كان على هذا المنوال فهو المتأسي حقًا وصدقًا، ومن كان على خلاف ذلك فليس على الحق، ولا هو من الدعاة الصادقين .
مجالات التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم في حياة الدعاة:
? التأسي به صلى الله عليه وسلم في تزكية النفس بصنوف العبادات المفروضة والمسنونة، البدنية والمالية: وهذا من الأولويات المهمة في الدعوة، حتى يصل الداعي بتزكية نفسه إلى مرتبة الانقياد المطلق لله، في كل أمر ونهي، فإذا سهل عليه قياد نفسه كانت دعوة غيره أسهل وأيسر .
? التأسي به صلى الله عليه وسلم ومتابعته في انتهاج الخلق الكريم والسلوك القويم .(/3)
? التأسي به صلى الله عليه وسلم في أساليب الدعوة، وطرائقها، ومراتبها، وغاياتها، وفقه مراحلها ومقاصدها ـ ومنه معرفة أحوال المدعوين، ومراتبهم، وتقدير ظروف الزمان والمكان، فأسلوبه صلى الله عليه وسلم ومنهجه في الدعوة أكمل أسلوب وأتم منهج، قال تعالى: { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [108] } [سورة يوسف]. ولا تكون الدعوة راشدة مثمرة إلا إذا وافقت هدي النبي صلى الله عليه وسلم. وأهم هذه الأولويات البدء بالدعوة إلى توحيد الله عز وجل والتأسيس على ذلك، ومحاربة كل أشكال وأنماط الشرك والخرافة والبدع، قال تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ[25] } [سورة الأنبياء]. وقد يبتلى بعض الدعاة بالتعصب لحزب أو شيخ أو مقصد دون نظر إلى منهج النبي صلى الله عليه وسلم ولا تبصر فيه، ولا تبصر بمقررات الدين وثوابته ومبادئه، وهذا بلاء عظيم يفرّق الكلمة، ويشتت الصفوف، ويبذر العداوة والبغضاء بين الدعاة .
أن يكون على بصيرة : قال الله تعالى: { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ[108] } [سورة يوسف]. والبصيرة في الدعوة: العلم العميق بالشرع ومقاصده، مع الاتصال الوثيق بالله، فمن كان عالمًا، قوي الصلة بالله؛ كان على بصيرة، والبصيرة بعد ذلك هي اليقين، والفطنة، وسعة الإدراك، والكياسة، والبرهان.
مجالات التبصر في الدعوة :
التبصر بموضوع الدعوة: وهو الدين بمراتبه الثلاث: الإحسان والإيمان والإسلام، كما في حديث جبريل عليه السلام فيقف على أركانها، وحدودها، وفروضها، ومستلزماتها، علمًا وعملاً ودعوة، وهذا من أهم ما يجب أن يتبصره الدعاة؛ لأن من يجهل ما يدعو إليه فقد ضل سعيه، وكان كحاطب ليل، وربما هدم وهو يروم البناء .
التبصر بأساليب الدعوة وطرائقها: ومناهج الإصلاح ومقاصده، والعلم بظروف الزمان، والمكان، والحال، والبيئة، وأحوال الناس، فلكل مقام مقال، ولكل حال مآل، والحكيم من الدعاة من يضع أقواله وأعماله مواضعها الحسنة بالأسلوب الأمثل، والمنهج العدل، والطريق الأقوم.
التبصر بأحوال المدعوين: وأخلاقهم وعوائدهم وطباعهم وأعرافهم، وما يصلح لهم وما يقبلون عليه ويتقبلونه، وما ينفرون عنه، فيعطي لكل الأحوال ما يلائمها من أسلوب ووسيلة، ويصف لكل ذي سقم دواءه من غير أن يكلف نفسه أو غيره الشطط من غير طائل ما دام في المكنة الوصول إلى القلوب من أيسر سبيل، ومن تأمل هدي النبي صلى الله عليه وسلم في مثل هذا؛ وجده أكمل هدي وأعدله .
التبصر بأخلاق الدعاة ما ينبغي أن يتحلوا به مما تشمله الأخلاق الإسلامية: كالرفق، والحلم، والأناة، والصبر، وسعة البال، ولين الجانب، وطول النفس، وإدامة المودة، والبشاشة، وإفشاء السلام، إلى غير ذلك من حميد الأخلاق وكريم الخصال .
التبصر بأهداف الدعوة الإسلامية، ومقاصدها العليا: وهي على الجملة إخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العالمين، ومن حمأة الشهوات والأهواء إلى نور التقوى، ومن حضيض المعاصي إلى رفعة الطاعة .
ومن فقه هذه المجالات، وتدبرها على هدي الكتاب والسنة، ودعا الناس إلى الله تعالى كان من أهل البصيرة والنور .
الصبر وتحمل المشاق في سبيل الدعوة : الصبر هو مكابدة النفس على الطاعات وكفها عن السيئات والاحتساب على البلاء.
ولا يخفى ما للصبر من أهمية بالغة في حياة المسلم عامة، وفي مسيرة الدعوة والدعاة خاصة، ويكفي دلالة على أهمية الصبر وفضله وعظيم مكانته: أنه مناط الأعمال كلها؛ إذ الأعمال إما طاعة أو معصية، وكل طاعة فإنما تتحقق بالصبر، وكل صبر على الطاعة فهو صبر عن المعصية؛ لأن ترك المعصية طاعة، وترك الطاعة معصية، ولهذا ذكر الله عز وجل في غير موضع من كتابه العزيز أنواعًا من الطاعات و القربات ثم سماها صبرًا تنويهًا بأن الصبر سبيل تحقيقها، من مثل قوله تعالى: { الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ[20]وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ[21]وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ[22]جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ ءَابَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ[23] } [سورة الرعد].(/4)
فذكر الله الوفاء بالعهود، وصلة الأرحام، وخشية الله، والخوف من يوم الحساب، والصبر لله عز وجل لا لشيء آخر، وإقام الصلاة، والإنفاق سرًا وعلانية، ودفع السيئة بالحسنة .. ثم سمى كل ذلك صبرًا لأنها لا تتم إلا به .
أنواع الصبر :
الصبر على طاعة الله عز وجل .
والصبر عن المعصية .
والصبر على الأقدار .
وأكمل هذه الأنواع الصبر على الطاعة، قال ابن القيم رحمه الله :'والصبر على أداء الطاعات أكمل من الصبر على اجتناب المحرمات وأفضل، فإن مصلحة فعل الطاعات أحب إلى الشارع من مصلحة ترك المعصية، ومفسدة عدم الطاعة أبغض إليه وأكره من مفسدة وجود المعصية' .
والصبر في حياة الدعاة يشمل هذه الأنواع الثلاثة، ونركز الحديث هنا على النوع الثالث من أنواع الصبر،، وهو الصبر على ما يلقاه الدعاة في سبيل الدعوة ولازم هذا الصبر .
لوازم الصبر في مجال الدعوة :
للصبر في مجال الدعوة وفي حياة الدعاة لوازم كثيرة، بتحققها يتحقق الصبر على أكمل وجوهه، ومن أهم لوازم الصبر :
تحمل عنت المدعوين وجحودهم وكيدهم وصدودهم: وكيد المناوئين ملازم لكل دعوة إصلاح، وهذا جلي في قول الله لرسوله صلى الله عليه وسلم : { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ[67] } [سورة المائدة] . والعصمة هنا هي: الحفظ والرعاية والتعهد، فمن بلّغ عن الله فلابد أن يكاد، وعليه بالتحمل وعدم الفتور عن الدعوة؛ لأنه لابد أن يصيبه ما يكره إما في النفس، أو المال، أو العرض، أو غير ذلك، وقال تعالى على لسان لقمان الحكيم: { يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ[17] } [سورة لقمان]. ولو أن الدعاة لم يتحملوا ما يصيبهم من أذى في سبيل الله؛ لم يستمروا في أداء واجبهم، فمتقضى الصبر: التحمل والثبات والاستمرار .
ترك العجلة في الوصول إلى ثمار الدعوة، وترك استعجال الاستجابة: فمن الثوابت الراسخة في مسائل الدعوة، ومما ينبغي أن يعيه الدعاة: أن على الدعاة أن يولوا جانب التبليغ وإيصال الحق للمدعو كل الاهتمام بإقامة الحجة وإيضاح الدليل والبرهان والاستمالة لا أن يشغلوا أنفسهم بغير ذلك؛ لأن الهداية بيد الله : { وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا...[99] } [سورة يونس] .
ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الناس في مكة وكان ذلك دأبه مع قلة المؤمنين يومئذ، وكانوا كما قال عمار رضي الله عنه:' رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا مَعَهُ إِلَّا خَمْسَةُ أَعْبُدٍ وَامْرَأَتَانِ وَأَبُو بَكْرٍ' رواه البخاري .
ومما يدل على أن ترك الاستعجال من لوازم الصبر: ماورد عَنْ خَبَّابٍ قَالَ: أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ فَشَكَوْنَا إِلَيْهِ فَقُلْنَا أَلَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا أَلَا تَدْعُو اللَّهَ لَنَا فَجَلَسَ مُحْمَرًّا وَجْهُهُ فَقَالَ: [قَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ يُؤْخَذُ الرَّجُلُ فَيُحْفَرُ لَهُ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُؤْتَى بِالْمِنْشَارِ فَيُجْعَلُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُجْعَلُ فِرْقَتَيْنِ مَا يَصْرِفُهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ عَظْمِهِ مِنْ لَحْمٍ وَعَصَبٍ مَا يَصْرِفُهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ اللَّهُ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مَا بَيْنَ صَنْعَاءَ وَحَضْرَمُوتَ مَا يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ تَعَالَى وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ وَلَكِنَّكُمْ تَعْجَلُونَ]رواه البخاري وأبوداود-واللفظ له- .
ويؤخذ من الحديث أن لله عز وجل سننًا نافذة لا تتخلف ولا تتبدل، وما على الدعاة إلا إبلاغ الحق والخير للناس لتكون لهم المعذرة إلى ربهم، والله يهدي ببركة هذه الدعوة من يشاء.
الاستمرار في الدعوة والمداومة عليها دون كلل ولا ملل ولا تذمر ولا تبرم: فدين هو الحق المبين وللحق غلبة وهيبة وقوة، تسكب في فؤاد الداعي أملاً لا ينقطع، فيكون أبعد الناس عن اليأس والإحباط، والدعاة وهم يرون الحق في قوته وظهوره وعلوه يستمدون من الله يقينًا فوق يقينهم؛ فإذا هم ماضون في الدعوة بعزيمة نافذة وكما قالت الرسل، وقد نالت منهم طوائف المكذبين الجاحدين فقالوا: { وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ[12] } [سورة إبراهيم] .(/5)
ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم ينال منه عتاة المشركين ومع ذلك يمضي في دعوته قدمًا مثابرًا محتسبًا صابرًا، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْكِي نَبِيًّا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ ضَرَبَهُ قَوْمُهُ فَأَدْمَوْهُ وَهُوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ وَيَقُولُ: [اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ] رواه البخاري ومسلم .
أثر الصبر في نجاح الداعي : للصبر أثره الحميد في نجاح الداعي وتحقق غايته وهي : دلالة الناس على الخير, وسبله، وصبر الداعي يكون في تحمل ما يلقاه من صدود وجحود، وما يكاد له في سبيل منعه، أو عرقلته من محاولات ودسائس، وما تنشر حوله من إشاعات وأكاذيب واتهامات، ولقد واجه النبي صلى الله عليه وسلم كل هذه الألوان الموحشة من كنود الناس وصدودهم وفجورهم، فصبر وصابر ورابط حتى بلغت دعوته الآفاق صلى الله عليه وسلم .
وكان عليه الصلاة والسلام حين يواجههم بالصبر الجميل، ويقابل إيذاءهم بالتحمل والحلم والاحتساب كان يصارحهم بذلك، وأنه ماض فيما هو فيه، وأن هذا العدوان لن يثنيه عن الحق الذي آمن به ! فبعد أن أغروه بزخرف الدنيا وزهرتها، وهم يودون صرفه عن الدعوة وشجونها قال لهم: [ما بي ما تقولون ما جئت بما جئتكم به أطلب أموالكم، ولا الشرف فيكم، ولا الملك عليكم ولكن الله بعثني رسولاً وأنزل عليّ كتابًا وأمرني أن أكون لكم بشيرًا ونذيرًا، فبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه عليّ أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم] السيرة لابن هشام.
وفي هذا منهاج للدعاة والسائرين في طريق الرسل عليهم الصلاة والسلام، وفيه بيان لما ينبغي أن يكون عليه الداعي في مضي العزيمة والحلم والاعتزاز بالحق، وأن الدعاة لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن الدعوة إلى الله، ولا تغريهم زخارف الدنيا، وفي هذا ولا ريب يكمن السر الذي تثمر به الدعوة .
لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قمة في صبره، قدوة في مصابرته، وتحمله وحلمه، فهو أصبر الناس على جفوة الناس وجحودهم، وأصبر الناس بعده هم أمثلهم طريقة، وأكثرهم عزيمة، وأقربهم إلى المنهاج النبوي، ومصداق ذلك ما ورد عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً قَالَ: [الْأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ يُبْتَلَى الْعَبْدُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَمَا يَبْرَحُ الْبَلَاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ وَمَا عَلَيْهِ مِنْ خَطِيئَةٍ] رواه ابن ماجة والترمذي والدارمي وأحمد .
ومن فوائد هذا الحديث: أن الابتلاء سنة في حياة المسلم، وفي حياة الدعاة على الأخص، قال تعالى: { الم[1]أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا ءَامَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ[2]وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ[3] } [سورة العنكبوت].
ومن فوائد الحديث أيضًا: أن البلاء يكفر السيئات، ويرفع الدرجات، وهذا هو مبتغى الدعاة، وعفو الله أوسع .إن الصبر كما أنه من عوامل نجاح الدعاة هو أيضًا زادهم وعدتهم، به تزكو نفوسهم وتطهر أفئدتهم، نسأل الله أن يجعلنا من أهل الصبر والإنابة .
الصدق : وهو من خصائص أهل الإيمان والتقوى، قال تعالى: { إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً[35] } [سورة الأحزاب]. فمن اتصف بهذه الصفات العظام وكانت لباسه وحليته فقد فاز .. نسأل الله أن يجعلنا منهم .
ولقد أمر الله عباده المؤمنين بأن يكونوا مع الصادقين، ويلازموا الصدق في كل الأحوال فهو سبيل النجاة من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [119] } [سورة التوبة].(/6)
والصدق طريق البر والجنة على عكس الكذب الذي هو طريق الفجور والنار، فعَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يَكُونَ صِدِّيقًا وَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا] رواه البخاري ومسلم.
مجالات الصدق في حياة الدعاة :
الصدق في القصد: ويستلزم إخلاص النية لله في الدعوة وفي كل طاعة وقربة، فلا يدعو لطلب جاه ولا محمدة ، ومتى دخل شيء من هذه الشوائب النية خرج الإخلاص المشروط لقبول العمل، ومتى حصل الصدق في القصد وتحقق الإخلاص؛ أثمر ذلك عزيمة صادقة وإرادة ماضية، فلا يتوانى الداعي الصادق عن المضي في إيصال الحق والخير للناس ينبغي بذلك وجه الله والدار الآخرة، يتعلم ويعلم، ويتوخى الحق أينما كان .
الصدق في القول: ويستلزم أن لا ينطق الداعي بالباطل أيًا كانت صورة هذا الباطل كذبًا أو شتمًا، أو سبابًا أو لعنًا، أو فحشًا، أو غيبة، أو نميمة، أو قول الزور .. وعلى الجملة فهو أبعد الناس عن آفات اللسان . هذا ما يمس حياة الدعاة وسيرتهم الذاتية .
الصدق في العمل: بموافقة القول العمل، وموافقتهما هدي الكتاب والسنة، و لا يدعو إلا على بصيرة، ومعرفة بالحق ودليله، وبعد تبصر وتفقه، فالدعوة لا تصح إلا على بصيرة .. ولا يعظ الناس إلا بالصادق من القصص والأمثال، ويبتعد عن الكذب والدجل والأحلام والرؤى التي لا يعرف مصدرها ولا صدقها ولا عدالة صاحبها ولا ثبوتها عنه .. فدين الله عز وجل مصدره الكتاب والسنة وفهم السلف .
أثر الصدق في نجاح الدعاة :
للصدق أثره البالغ في مسيرة الدعاة، إذ يظهر الصدق في كلام الداعي، وسمته، ولهجته، وحرارة عاطفته، فيؤثر ذلك في المدعوين، ويترك فيهم انطباعًا عميقًا بمصداقية الفكرة التي يدعو إليها ويؤمن بها . ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحدث الذين يلقونه أول مرة فيقولون : والله ما هذا بوجه كذاب ولا بكلام كذاب! وإذا كان المسلم مطالب بالصدق في الأقوال والأعمال والمقاصد فلا جرم أن الدعاة إلى الله تعالى وهم صفوة المسلمين، الصدق في حقهم ألزم وأوجب .
وللصدق أثره الحميد في التآلف والتوادد وتقارب القلوب، على عكس الكذب الذي يغرس الضغينة، ويرفع الثقة، ويورث الريبة بفعل التلون والتغير وعدم الثبات الذي يتصف به الكاذب، ومن هذا المنطلق كان من لوازم الصدق ترك كل آفات اللسان كالهمز واللمز والقيل والقال وكثرة السؤال . ومتى تآلفت القلوب وتصافت واجتمعت على محبة الله؛ سرت الدعوة في المجتمع سريان الماء في الزرع فأمدته بالحياة والنماء والبقاء، ونمى في المجتمع ـ كذلك ـ الإيمان واستوثقت عراه وارتفعت أعلامه .
والصدق يزرع في النفوس الثقة والطمأنينة، فيركن الناس إلى الدعاة الصادقين، ويثقون فيهم وبهم ويأمنونهم، وتقوية هذه الوشائج بين الدعاة والمدعوين من أهم أسباب نجاح الدعوة، ولا يتحقق ذلك إلا بالصدق . ومتى وثق الناس في الداعي لصدقه؛ فتحوا له القلوب فاستمعوا إليه إذا تحدث، وقبلوا إرشاده وتوجيهه إذا وجّه وأرشد، وتوجهوا إليه يسألون ويستفتون .. وحصل التواصل بينه وبينهم وهي نعمة لا تقدر بثمن ولم تحصل إلا بفضل الله، ثم بفضل الصدق، ونقاء الصفة، وخلو السيرة من مساوئ الأعمال والأخلاق ... نسأل الله الثبات في الأمر، والعزيمة في الرشد، والصدق في القول، والعمل، والمقصد .
من كتاب:'صفات الدعاة' للدكتور/ عبد الرب بن نواب الدين(/7)
من صفات القادة كما عرضها القرآن الكريم
أ. محمد العبدة 20/9/1423
25/11/2002
لا نبعد عن الصواب إذا قلت أن افتقاد الرجال القادة هو ما يعاني منه المسلمون، وخاصة في العقود الأخيرة، وقد شكل هذا الافتقاد أزمة إدارية – فكرية (1)
، وعندما ننبه على خطورة هذا الأمر والحاجة إلى قيادة تجمع بين العلم والعمل وترشد إلى الطريق الصحيح، فلا يعني أننا نؤيد نظرية من يقولون بتأثير الفرد الواحد. أو انتظار البطل الذي يقود الجموع، ما نقصده هو إيجاد الشخصية القيادية المؤهلة لتحمل الأعباء والتكاليف والمهمات الصعبة وعندها القدرة على فرز الأولويات والتعامل الذكي مع الواقع، شخصية مؤهلة إيمانياً وعقلياً وإدارياً، كما لا نؤيد من يقول إن الظروف غير مهيأة اليوم، وأن طبيعة المرحلة لا تنجب مثل هذه الشخصية، فهذا كلام محبط للآمال، فالتربية والإعداد والممارسة العملية وممارسة الشورى على حقيقتها، يمكن أن يأتي بهذه الشخصية.
وإذا كانت التربية بالقدوة من أساليب الإعداد الناجحة، فإن أعظم القادة الذين يُتأسى بهم هم رسول الله – صلى الله عليه وسلم- أكمل الخلق إيماناً وعلماً وعملاً، وهم هداة الناس إلى كل خير، وقادة الأمم إلى ما فيه صلاحهم، ولقد أثر القرآن في ذكر صفات هؤلاء الرسل، وذكر أخلاقهم وسجاياهم وأعمالهم وصبرهم، وأكد القرآن على أن جاذبية هؤلاء الرسل لا تنبعث من مغريات مادية، ولا جاء عريض أو لقب كبير ، وليس عندهم نفع يملكونه فيوزعونه، وليست لهم خزائن الأرض، ولا في أيديهم الأرزاق، عرض القرآن صفاتهم وجردهم من كل تلك المغريات، وواجه الأمم في ذلك، قال تعالى على لسان نوح – عليه السلام- ( ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك..)[هود: 31].
( وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ولولا أُنزل إليه ملك فيكون معه نذيراً أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها، وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلاً مسحوراً انظر كيف ضروا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا تبارك الذي إن شاء جعل لك خيراً من ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار ويجعل لك قصوراً )[ الفرقان 7-10].
جَنَّب الله الرسل وأبعدهم عن تلك المغريات، وكذَّب الذين يظنون أن الرسل يجب أن يكونوا من أهل المظاهر التي يفتخر الناس بها: ( وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم) [ الزخرف: 31] فجاذبية القائد تأتي من أخلاقه وأعماله وارتباطه بالله – سبحانه وتعالى-، لا يريد جزاءً ولا شكوراً ، لا يجمع الأتباع بالمغريات المادية أو بالمناصب يوزعها عليهم ( وبعض المعاصرين يستحدث مناصب وهمية ليرضي أتباعه) ولا تكون القيادة بالمداهنة ومحاولة استمالة الجموع وستر أخطائها، وإخفاء أغلاطها، وتجاهل مواضع ضعفها، فالقيادة التي تمارس هذه الأمور قيادة مزيفة لا تستطيع أن تخفي عوارها طويلاًن وسرعان ما تنفض عنها الجموع.
الرسل القادة في القرآن الكريم:
تحدث القرآن عن ذلك الهم الذي يحمله الرسول بين جنباته، وذاك الحرص الشديد على إيمان قومه، وهذا القلق الذي يقيمه ويقعده خوفاً عليهم ألاً يؤمنوا ( فعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين) [ الشعراء:3] ( فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً)[ الكهف: 6].
وقد مَنَّ الله على الناس أن بعث فيهم رسولاً منهم يعرفهم ويعرفونه ويتكلم بلسانهم، ومهمته أن يزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ( لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم)[ التوبة: 128] . كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم- رؤوفاً بالمؤمنين يصل قلبه بقلوبهم، وروحه بأرواحهم، يتقاسم وأصحابه السراء والضراء، إنها قيادة فيها حنان وعطف، وعندها علم بواقع الضعف والقوة عند البشر، وتعامل كلاً بما يناسبه، فهي رحيمة عادلة، كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم- يتفقد أصحابه ويتتبع أحوالهم ويسعى في حاجاتهم، وكانت الأَمَةُ من إماء المدينة تأخذ بيد النبي – صلى الله عليه وسلم- فتنطلق به حيث شاءت في سبيل قضاء حاجة لها. إنها سهولة الخلق ويسر الدين.(/1)
02 وفي الصفات التي رسمها القرآن لقادة الأمم، ومَنَّ بها على الأنبياء صفة الحكمة ( ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله)[ لقمان: 12] (ولقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة)[ النساء: 54] ( يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً)[ البقرة: 269] والحكمة في أصل معناها ترجع إلى المنع طلباً للإصلاح، فالحكيم هو الذي يصرف نفسه عن هواها، والحكمة هي وضع الشيء في موضعه وهي بذلك التعريف تشمل العلم والعمل، وحين ذكر الله – سبحانه وتعالى- في سورة الإسراء أصولاً من الأخلاق والأوامر والنواهي، عقَّب على ذلك بقوله: ( ذلك مما أوحى إليه ربك من الحكمة)[ الإسراء: 39]. إنها معرفة الحق وعمل الخير. ولون في الفطنة تنتهي بصاحبها إلى الرأي السديد، وبها يتغلب القائد على هواه، ولا يغلبه الحق، ولا تسنفزه غَيْرة من رؤوس تظهر حوله، وبالحكمة يتخلص القائد من المباغتات الطارئة، ويدبر للمواقف المتغيرة.
لا تلتمس هذه الحكمة عند أصحاب التفاصح في البيان ولا أصحاب الكلام النظري والتأمل المجرد، ولكنها تلتمس عند الذين يمارسون عملية تزكية النفس وتزكية الآخرين، ويقدرون على تناول الأمور بلطف وحسن تدبير، يدخلون البيوت من أبوابها، ويملكون الخارطات الصحيحة التي تريهم بوضوح الوجهة التي تريد. بل إن الغوص في التأمل النظري قد يؤدي إلى الشك والحذر وتضييع الفرص. أو إلى افتراضات غير واقعية، إن المتعمقين في أصناف العلوم ليسوا هم الأجدر بامتلاك الحكمة إذا لم يمارسوها عملياً، وكما قيل: " عندما تكبر الحكمة تتضاءل المعلومات، حيث تبتلع المبادئ الكثير من التفاصيل، فالتفاصيل تأتي أثناء ممارسة الحياة"(2)
3. أقام القرآن رسل الله في مقام القدوة (قد كانت لكم أسوة حسنة، إبراهيم والذين معه) [الممتحنة: 4]، "لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً" [الأحزاب:21].
"أراد الله سبحانه بذكر سيدنا إبراهيم أن يشعرنا بأن لنا في بناء الحق وهدم الباطل أصلاً عريقاً ونسباً طويلاً عريضاً، ومتى شعر الإنسان الصحيح الفطرة بزكاء الأصل تحركت فيه نوازع النخوة" (3).
وحيث قرر القرآن بشرية هؤلاء الرسل إنما أراد أن يتم الاقتداء بهم وأن يبطل حجة المعاندين المراوغين عن الحق، وبسبب هذه الأسوة، وهذا النموذج، كملت شمائل هؤلاء الرسل، وعظمت همتهم ونجدتهم، وألقى في نفوسهم الاستعداد لاحتمال الآلام والصبر على العظائم، فلا يبطرهم نصر، ولا يطمعون في حياة خالية من الشدائد، يطلبون الحق ولو ضل جميع الناس كما جاء في الحديث عن حذيفة بن اليمان – رضي الله عنه -، عندما سأل الرسول – صلى الله عليه وسلم – عن المسلم يلقى الشر قال له الرسول – صلى الله عليه وسلم – "تبقى على الحق ولو أن تعض على أصل شجرة" .
4. ومن صفات الرسل القادة التي ذكرها القرآن الكريم: تلك الثقة المطلقة بما يدعون إليه، لا يساور أحدهم شك فيما يعي إليه من أهداف، قلبه مطمئن مهما اعترض سبيله من عوائق، يجابه المخالفين ولو كانوا كثرة كاثرة، أما الذين يروعهم الخطر اليسير وتخلع قلوبهم لأي طارئ، وتشغلهم المراتب وتلهيهم المعاشات فهؤلاء لا يصلحون للقيادة ولا تصلح لهم، كان القرآن يطمئن الرسل والذين معهم أنهم منصورون (وكان حقاً علينا نصر المؤمنين) [الروم: 47] وهكذا يجب على القادة أن يحملوا أراهم التفاؤل والصبر، خاصة في ظروف كظروف المسلمين اليوم حيث تكالب الغرب عليهم في كل الوجوه، وإنه لمن الآفات المهلكة أن تضعف الثقة بنصر الله، وأن يشيع القائد في صفوف الجماعة روح اليأس والفشل.
5. ومن صفات القادة والرسل: الشجاعة، وهي في أعظم ميزات القائد، سواء في ذلك الشجاعة المادية أو المعنوية، وقد جاء في الحديث: "شر ما في المرء شح هالع وجبن خالع) ومن أعظم أنواع الشجاعة أن تجابه الجمع على إذا كنت تعتقد أنك على الحق وقد جابه موسى -عليه السلام- فرعون وقومه وهو وحيد وليس معه إلا أخاه هارون -عليه السلام-، وجابه الرسول – صلى الله عليه وسلم – قومه، وهو وحيد فريد في قلة قليلة، إن قرار شجاعاً في اللحظات الحرجة يبطل قلق المترددين وحيره الحائرين ويأتي النصر بإذن الله. (1) وهي ظاهرة عند غير المسلمين أيضاً
(2) ستيفن كوفي : إدارة الأولويات 100 والكلام للفيلسوف (وايتهد)
(3) آثار البشر الإبراهيم 1/394(/2)
من صفات الموعودين بالجنة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه وبعد.
فإنَّ غايةَ ما يرجوه المسلمُ من عبادته لربه سبحانه في هذه الدنيا، هو الفوزُ برضوانه تعالى وجنته، والنجاة من سخطه والنار، ومن علامة توفيقِ الله سبحانهُ لعبدهِ المؤمن، أن يدلهُ ويوفقهُ لأقرب الطرق وآكدها، لتحصيل هذه الغايةِ العظيمة، ولا شكَّ أنَّ الطريقَ إلى ذلك هو طاعتهُ سبحانهُ بإخلاصٍ ومتابعة، وترك معاصيهِ بإخلاصٍ ومتابعة؛ هذا على وجهِ الإجمال، أمَّا على وجه التفصيل والمفاضلةِ بين الأعمالِ الصالحةِ وأحبَّها إلى الله عزَّ وجل وأرضاها له، فإنَّ المستقرئُ لكتاب الله عز وجل، وما وردَ فيه من صفاتِ أهل جنته، ورحمته ورضوانه، ليجدُ شيئًا عجيبًا جديرًا بالتأمل والتدبر، ذلك أنَّ جُلَّ ما وردَ من الآيات التي يذكرُ فيها سبحانه ما أعدَّ لأوليائهِ من الجنَّة والرضوان، يسبقها في العادةِ صفات الموعودين بذلك.
وبالتأملِ في أوصافهم تلك، نجدها تنحصرُ في الغالبِ في المجاهدين والمهاجرين، والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، والصابرين على المحنِ والابتلاءات في طريق الدعوة والجهاد، والآيات في ذلك كثيرة، أذكرُ منها على سبيل المثالِ لا الحصر ما يلي.
الآية الأولى قوله تعالى : (( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)) (البقرة:218) .
الآية الثانية قوله تعالى : (( أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ )) (البقرة:214) .
الآية الثالثة قوله تعالى: (( أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ)) (آل عمران:142) .
الآية الرابعة قوله تعالى: (( وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ)) (آل عمران:157) .
الآية الخامسة، قوله تعالى: (( وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ َفرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ )) (آل عمران: 169 ـ 174) .
الآية السادسة قوله تعالى: (( فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَاباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ)) (آل عمران:195) .
الآية السابعة قوله تعالى: (( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ )) (لأنفال:74)
الآية الثامنة قوله تعالى : (( الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ )) (التوبة: 20 ـ 22).(/1)
الآية التاسعة قوله تعالى: (( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ )) (التوبة:71) .
الآية العاشرة قوله تعالى : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ )) (الصف:11) .
الآية الحادية عشرة قوله تعالى: (( إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْإنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ )) (التوبة:111).
والآيات في هذا كثيرة ، فهل من مُشمرٍ وبائعٍ نفسهُ ابتغاءَ مرضاة الله وجنته؟(/2)
من صفات طالب العلم*
أ. د .ناصر بن سليمان العمر
تتنوع شخصيات طلاب العلم وتتنوع معها الصفات الجبلية والمكتسبة، وفيها الحسن ومنها القبيح فهم بشر، بيد أن ثمت صفات إذا لم يتحل بها المرء فيبعد أن يكون بعدها طالب علم حقاً، ولعل من تلك الصفات ما يلي:
الإخلاص لله - تعالى - وذلك بأن يبتغي بعلمه وجه الله والدار الآخرة، لا أن يبتغي به الرياء، أو السمعة، أو عرضا من الدنيا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله تعالى لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا؛ لم يجد عَرْفَ(111) الجنة يوم القيامة"(2).
وعلى طالب العلم أن يقرن الإخلاص بتقوى الله ومراقبته، "واتقوا الله ويعلمكم الله" [سورة البقرة، الآية: 282].
الصبر وتحمل المشاق وسعة الصدر فإن العلم جهاد لا شهوة، وما أحسن ما قال الشاعر:
إذا كان يؤذيك حر المصيف
ويبس الخريف وبرد iiالشتا ...
ويلهيك حسن زمان iiالربيع
فأخذك للعلم قل لي iiمتى؟!
التواضع في طلب العلم، والحذر من الكبر والغرور، فإنه لا ينال العلم مستح ولا متكبر.
ومن لم يذق ذل التعلم iiساعة ... ... تجرع كأس الجهل طول حياته
التفرغ للعلم، والإقبال عليه، والانصراف إلى تحصيله؛ فإن العلم إذا أعطيته كلك أعطاك بعضه.
توقير العلماء، وحفظ مكانتهم، وعدم تجريحهم، أو انتقاصهم(3).
أن يكون شعار الطالب: "الحكمة ضالة المؤمن، أنى وجدها فهو أحق بها".
التأدب مع مشايخه ومدرسيه، وحسن الإصغاء والتلقي، ولباقة النقاش وإتقانه.
البعد عن الجدال والمراء العقيم، "لا جدال إلا بالحق".
___________________________
(*) مستل من محاضرة الشيخ العلم ضرورة شرعية بتصرف يسير.
- عرف الجنة: ريحها.
2- رواه ابن ماجة، المقدمة 1/252 وأحمد في المسند 2/338.
3- وهناك من جعل من انتقاص العلماء وتجريهم ديدنا له، وسلما لشهرته، وهذا ليس له من خلاق، وانظر رسالة المؤلف: لحوم العلماء مسمومة.(/1)
من صور الإعجاز العلمى فى القرآن الكريم " 1 "
د. محمود نجيب الأستاذ بكلية الطب
فى القرآن الكريم آيات عظيمة، تنطق بإعجاز الأسس التى ينبنى عليها خلق الكائن الحى، ولقد أثبت العلم بعد نزول القرآن الكريم بأكثر من ألف عام أن ما ورد بها هو حقائق علمية ثابتة، هى الآن ركائز علم الأحياء.. وهذه الآيات هى :
" ما ترى من خلق الرحمن من تفاوت ".. "31 – الملك"..
" ومن كل شئ خلقنا زوجين اثنين لعلكم تذكرون ".. "49 – الذاريات"..
" أم خلقوا من غير شئ أم هم الخالقون ".. "35 – الطور"..
" يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب ". "73 – الحج".
وهذه الآيات الكريمة أتت بالحقائق العلمية التالية :
· أولاً : إن خلق الكائنات الحية يسير على نمط واحد ونظام ثابت ليس فيه تفاوت.. ما هى بداية أى كائن حى؟.. يخلق الله تعالى منه زوجين، وتكون هذه هى البداية وتتعاقب الأجيال، جيلاً بعد جيل.. فهى سلسلة متصلة لا يحدث فيها انقطاع أو فجوة.. وبداية الإنسان كانت آدم وحواء، خلق آدم من طين ثم خلقت حواء من ضلع آدم ومنهما انحدرت البشرية.
ثانياً : الإنسان شأنه كسائر المخلوقات، وليس فى مقدوره أن يكون خالقاً لأى كائن حى آخر ولو كان ذبابًا، لأن الخلق هو قدرة اختص الله تعالى بها ذاته العلية، فالله هو الخالق وليس هناك خالق سواه سبحانه وتعالى.
وحين نزل القرآن الكريم كان الاعتقاد السائد منذ عهد "أرسطو"، أن الكائنات الحية البدائية – مثل الديدان والقواقع –تنشأ من المواد المتحللة العفنة، وأنه ليس للتكاثر فى هذه الكائنات البدائية أية علاقة بوجود ذكر وأنثى لتلك الكائنات، وهذه النظرية تعرف بنظرية "الخلق العفوى".. وأيضاً ساد اعتقاد أنه من الممكن أن تحمل الإناث من التعرض للرياح، وهناك أساطير روت أن هذا يحدث للنعاج وأنثى النمر وأنواع أخرى من الحيوانات، وامتد هذا الاعتقاد ليشمل أيضاً المرأة إذا تناولت أنواعاً من الفاكهة أو الأعشاب.. وقد سميت هذه النظرية "التوالد بدون لقاح".
· وبعد ميلاد السيد المسيح عليه السلام استند رجال الدين المسيحى إلى نظرية التناسل العذرى للرد على المتشككين.. وفى هذا الصدد قال القديس أوجستين: يطالب المتشككون دائماً أن نفسر لهم المعجزات بالمنطق، ونحن لا نستطيع ذلك، لأن تلك المعجزات تفوق فهم البشر.. إنهم يتصورون أننا نقول أكاذيب، ولكن على هؤلاء الأشخاص أن يفسروا لنا المعجزات التى نراها، فمثلاً فى حى "كابادوكيا" فى آسيا الصغرى، يتم تلقيح أنثى الفرس بواسطة الريح!.
إلا أنه فى القرن السابع عشر ظهرت أول بادرة على فساد هذا الرأى.. وحدثت هذه الثورة الإعلامية حين قام أحد الأطباء الإيطاليين بتجربة فريدة، فلقد قام الإيطالى "فرانسيكوريدى" بإحضار أربع قطع من اللحم والأسماك ووضع كل واحدة منها فى إناء، وأعاد نفس التجربة لكنه أغلق فتحة الإناء بالورق باحكام حتى لا يتسرب لها الهواء، وبعد ثمانية أيام تم فحص الأوانى فوجد قطع السمك واللحم التى تركت معرضة للهواء قد امتلأت بالديدان.. أما التى تم عزلها وحرمانها من الهواء فلم تكن بها دودة واحدة. ولكن لم يكن متأكداً ما إذا كان الهواء أم شئ يحمله الهواء هو السبب فى حدوث التعفن وظهور الديدان.. فأعاد التجربة، ولكن باستخدام الشاش – بدلاً من الورق – لإغلاق الأوانى وكانت النتيجة مطابقة لما حدث من قبل.
وعلى هذا فقد استنتج "ريدى" أن الديدان لا يخلقها تعرض اللحم للهواء. وتوصل إلى الحقيقة التالية: أن الهواء يحمل بيض الذباب وحين يتساقط على اللحم يجد الوسط الغذائى الملائم للنمو فيتم خروج الذباب من البيض.
" اللواء الإسلامي "(/1)
من صور التهرب من المسؤولية
مما لاشك فيه أن التطلع للصدارة والبحث عن المسؤولية أمر ذمه الشرع ونهى عنه، وهو دليل على نوع من الهوى في نفس صاحبه، أو إفراط في ثقته بنفسه واعتماده عليها، لذا فهو حين يفعل ذلك يوكل إلى نفسه، كما قال صلى الله عليه و سلم لعبدالرحمن بن سمرة –رضي الله عنه- »يا عبد الرحمن بن سمرة، لا تسأل الإمارة؛ فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فكفر عن يمينك وأت الذي هو خير«([1]).
وكان صلى الله عليه و سلم في سيرته العملية يتجنب تولية الذين يبدو منهم حرص على الولاية أو يسألونها، عن أبي موسى - رضي الله عنه - قال دخلت على النبي صلى الله عليه و سلم أنا ورجلان من قومي فقال أحد الرجلين: أمرنا يا رسول الله، وقال الآخر مثله، فقال:»إنا لا نولي هذا من سأله ولا من حرص عليه«([2]).
وأخبر أن الأمة ستحرص عليها وأنها ستكون خزياً وندامة فقال: »إنكم ستحرصون على الإمارة وستكون ندامة يوم القيامة فنعم المرضعة وبئست الفاطمة«([3]).
لذا دأب الصالحون والمخلصون على البعد عن تولي المسؤوليات والولايات لما يعلمون من أنها مغرم لا مغنم، وهذا أمارة خير بإذن الله عز وجل، لكن بعض الناس قد يمتد الأمر لديه فيؤدي إلى وقوعه في محظور آخر.
وكثيراً ما يحجم بعض الصالحين عن تولي المسؤوليات والأعباء الدعوية، يدفعهم الورع والبعد عن الشهرة – نحسبهم كذلك والله حسيبهم –، وهو مسلك حسن.
لكنه يتحول عند بعضهم إلى سلوك يسيطر عليه، فيعتذر عن تولي أي مسؤولية أو القيام بها، ويظن أن هذا أسلم له وأنه يعفيه من التبعة، وليس الأمر كذلك، فلو أنه جلس قعيد بيته واشتغل بشأنه الخاص أتراه يسلم من التبعة والأمانة؟
إن مسؤولية حمل الدين وتبليغه أمانة شرعية حملها الله تبارك وتعالى عباده، فقد أوجب عليهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل جعله مع الإيمان مناط خيرية هذه الأمة، ويرد في مواطن كثيرة ضمن صفات المؤمنين أنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وجعل النبي صلى الله عليه و سلم أضعف الإيمان أن ينكر المرء المنكر بقلبه، وأنه ليس وراء ذلك حبة خردل.
ومن يتأمل واقع الأمة اليوم وغلبة الجهل، وفشو المنكرات، وبعد الناس عن الدين فإنه لا يشك أن الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد غدت فرض عين على كل مسلم قادر، فضلاً عمن آتاه الله شيئاً من العلم والوعي والبصيرة.
وثمة أمر آخر هو أن كثيراً من هذه المسؤوليات والأعمال التي يحجم عنها هؤلاء ليس فيها مغنم في الدنيا ولا أمر يسعى إليه، بل هي تعاون على البر والتقوى، وأمر تطوعي خيري، بخلاف من يتولى ولايات المسلمين، ويتحمل تبعاتهم.
والأمر مناطه على القلب، فرب معتذر عن تحمل المسؤولية لينعم بفراغ الوقت فيزجيه كيف شاء وأين شاء، ويسلم من المشقة والتعب، فهذا فرار من العمل لا من الولاية والإمارة.
ورب معتذر من عمل وهو يخشى أن يبدو في توليه له ما يجهله الناس عنه من ضعف قدرته وعطائه؛ فيقل شأنه وقدره.
ورب معتذر ورعاً فهو مجتهد مخطيء له أجر واحد،أو مصيب له أجران.
لكن ما لا ينبغي الإخلال به: إصلاح القلب وتفقده وأنه المناط والأساس، والاجتهاد في العمل للدين والدعوة إليه، وأن يشعر المرء أنه إن أعفاه البشر من المسؤولية فسيلقى الله عز وجل ويسائله فما هو قائل؟
جعلنا الله هداة مهتدين، وحمانا من الهوى وحظوظ النفس؛ إنه سميع مجيب.
--------------------------------------------------------------------------------
([1]) رواه البخاري (7146) ومسلم (1652)
([2]) رواه البخاري (7149)
([3]) رواه البخاري (7148)(/1)
من طبائع الأشياء
د. عبد الكريم بكار 7/7/1424
04/09/2003
المعرفة هي صناعة الإنسان، والجهل داؤه، والعلم ترياقه.
من خلال الملاحظة وتراكم الخبرات والاستبصار والخيال وقراءة الأحداث واكتشاف العلاقات بين الأشياء ومعرفة سنن الله – تعالى- في الخلق من خلال كل ذلك نبني معارفنا، نكوّن انطباعاتنا، وننظم بالتالي مواقفنا وردود أفعالنا.
المعرفة عبارة عن معلومات، والعلم معارف منظمة ومبوبة. والعالم سواء أكان كبيراً أم صغيراً يشتغل على الجزئيات إدراجاً واستنباطاً على الكليات واستكشاف القوانين والوقوف على الملامح العامة، وشفوف بصناعة المفاهيم الكبرى وصياغة مناهج البحث ومناهج التفكير، وإذ كنا في حاجة إلى كل من العالم والمفكر؛ فإن على كل واحد منهما ألا يقلل من شأن الآخر بل عليه أن يعترف به، ويحاول الاستفادة من عطاءاته.
فقه السنن وفهم طبائع الأشياء، من الأعمال العظيمة التي يحق للمرء أن يغتبط، ويبتهج إذا حقق فيها نجاحاً عظيماً، لأن ذلك يدل على استقراء ممتاز للوقائع المتفرقة، كما يدل على شفافية عالية وخيال خصب قادر على ضم النظير إلى النظير، والخروج من سجن الجزئيات والرؤى الذرية المبعثرة.
وإن مما يؤسف له أن المهتمين بالفهم الكلي قليلون دائماً بسبب مشقة العمل في هذا المجال وحاجته إلى إمكانات ذهنية، قد لا تتوفر لدى كثير من الناس.
فهم طبائع الأشياء قد يحتاج إلى أن نهتم على نحو عميق بملاحظات النابهين جداً من كبار الاختصاصيين، ثم نحاول التفريع عليها وإضافة ما نمكن إضافته إليها. حين نعرف السنن التي تحكم مجالاً أو عملاً أو علاقة ما؛ فإن ذلك يجعلنا كمن يكتشف سبلاً عامة عريضة، تتفرع عنها دروب صغيرة. وآنذاك فإننا نستطيع التفريق بين المطرد والشاذ والمألوف وغير المألوف والطبيعي وغير الطبيعي؛ كما نستطيع التفرق بين المطَّرد والشاذ والمألوف وغير المألوف والطبيعي وغير الطبيعي؛ كما نستطيع أن نثمن المعلومات الواردة عن ذلك المجال، وأن نكتشف ما يمكن أن يكون قد دخلها من زيف وتزيد.
وأنا هنا أحاول أن أوضح بعض طبائع بعض المجالات المعنوية والحياتية؛ وينبغي أن يؤخذ كل ما أقوله هنا على أنه مقاربة واستشراف ليس أكثر.
1- المجال الفكري:
التفكير هو: اشتغال العقل على بعض المعلومات من أجل الوصول إلى أمور مجهولة. ومن طبيعة هذا المجال الآتي:
- صدور المفكر عن رؤية جانبية، إذ مهما كان العقل متيقظاً ومدرباً، ومهماً كان خياله واسعاً، وكانت معارفه عميقة وشاملة؛ فإنه لا يستطيع أن يحيط بكل الأمور المتعلقة بالقضايا التي يفكر فيها، أي أن المقدمات التي ننطلق منها إلى بلورة حكم أو الحصول على نتيجة معينة، ستظل مقدمات ناقصة. ولو أننا استشرنا أفضل مركز دراسات متخصص في مشروع من المشروعات أو مشكلة من المشكلات، لما صدر إلا عن رؤية جزئية. ورحم الله الإمام مالك بن أنس حين كان يستشهد عن إفتائه في مسألة من المسائل بقوله- سبحانه – (إن نظن إلا ظناً وما نحن بمستيقنين).
- وجود الأخطاء في المجال الفكري أمر طبيعي وكثير الانتشار، وذلك لأن العقل وهو يعمل على الوصول إلى بعض الرؤى والمحكات والأحكام... يُتيح الأخطاء والأوهام بسبب هشاشة المقدمات والأسس التي يبني عليها أو بسبب سوء التقدير لطبيعة العلاقة التي تربط بين الأسباب والمسببات والمقدمات والنتائج. وهذا يتطلب منا أن نكون دائماً يقظين للمنتجات الجانبية لعمل العقل، كما يجعلنا في حاجة دائمة لمراجعة طروحاتنا وأفكارنا.
- كثيراً ما يصاب المشتغلون بالقضايا الفكرية بالجفاف الروحي، ولست أعرف الأسباب الأكيدة لهذا، لكن ربما كان ذلك بسبب أن الإشراق الروحي يحتاج إلى جهد تعبدي عملي، على حين أن المشتغلين بالقضايا الفكرية يكونون عادة مشغولين بالتنظير واكتشاف الأسباب والعلل. وأحياناً يؤدي إدمان التنظير إلى شيء من الترهل الروحي بسبب أنه يجعل صاحبه أكثر تفهماً للواقع، وبالتالي أكثر خضوعاً له. وهذا يؤدي إلى انخفاض في درجة التسامح والذي يعد حجر الأساس في التفتح الروحي؛ وعلينا أن ننتبه إلى هذا.(/1)
- من أعمدة العمل الفكري الاختزال والتخبط، حيث يتشوق المفكر إلى استخلاص بعض القوانين والمقولات العامة من أكوام المعلومات والمعطيات الجزئية، وينتج عن هذا القيام بتحييد الكثير من الأقوال والمعلومات الموثوقة؛ فالبناء الفكري بطبيعته – كما هو شأن البناء التاريخي- هو بناء انتقالي. وأثناء عملية الانتقاء تتم الاستهانة بأمور ومعطيات قد تكون جوهرية وحيوية. هذا بالإضافة إلى أن المفكر بسبب اشتغاله بالأمور الكلية يزهد عادة بكل ما هو جزئي وفرعي. وأتصور أن علم (مقاصد الشريعة) لم يتم، ولم يتبلور بالشكل الكافي؛ لأن الذين اشتغلوا على إنضاجه لم يكونوا من المشتغلين بالفلسفة الكلية للتشريع، كما أن خبرتهم بفقه الأولويات كانت ضئيلة؛ مما جعل قدرتهم حيال دمج بعض النصوص الصحيحة في المرامي للشريعة السمحة محدودة في المجال الفكري يتألف العقل وتبرق اكتشافاته، وهذا يجعل المشتغلين بالفكر يشعرون بنوع من الوثوقية الزائدة، فيطلقون الأحكام في أحيان كثيرة من غير قدر كافٍ من الرؤية والتأمل. وكم عانينا من موجات النقد غير الأصيل وغير المحكم بسبب الإفراط في الثقة بما لدينا من أفكار ومفاهيم، هي في كثير من الأحيان تقبل الجدل والمراجعة.
2- المجال الروحي:
المكمن الحقيقي للذات الإنسانية، هو الروح والمشاعر والعواطف وليس العقل والأفكار والمفاهيم. وقد دلتنا الخبرة على أن المجال الروحي شديد الجاذبية، وهو يملك قدرة هائلة على جعل الناس يتجاوزون الضوابط والحدود التي يضعها العقل؛ بل تلك التي يضعها الشرع أيضاً، وإذا تأملنا في أقوال وسلوكات كل أولئك الذين حدثنا التاريخ عن إعزافهم في المسائل الوجدانية والروحية وفي قضايا الأحوال والمقامات والكرامات والتجليات والنفحات...؛ لوجدنا أنهم – إلا النذر القليل- قد استهلوا تجاوز النصوص الشرعية، أو صاروا إلى تأويلها على نحو لا يخلو من الفجاجة والتعسف .
إن المشاعر الجياشة التي قد يجدها بعض العباد كثيراً ما تقوم بدور المخدر أو المعطل لملكة العقل، والمعطل لدور النصوص والأحكام الشرعية في توجيه سلوك المسلم وضبط مقولاته. وهذا ليس خاصاً بالمسلمين ولا بأهل أية ملة من الملل، بل هو عام يشمل كل أو جلّ من يشتغل بالمسائل الروحية والوجدانية، وقد عانت الأمة كثيراً من أهل (الشطحات) الذين كانوا يلقون بالكلام على عواهنه استجابة للخواطر والوساوس والأوهام والرؤى المنامية. ومن هنا؛ فإن على كل من يهتم بالشأن الروحي أن يحرص الحرص كله على أن يظل في إطار المشروع، وألا يغضّ الطرف عن الرؤية الفقهية كما يصدر عنه من أقوال وأعمال.
المجال الروحي يوفر لكل من يدخله درجة عالية من الطمأنينة والسرور والانشراح؛ ولا عجب إذ إن الصلة بالله – تعالى- ومناجاته والتودد والتذلل إليه لا تأتي بغير هذا؛ لكن الملاحظ أن هذه الدرجة من الجور تدفع من يتمتع بها إلى الانطواء على نفسه والميل إلى العزلة والاستخفاف بما يجري في المحيط الخارجي من أحداث، وقد كان من الأدبيات المشهورة لدى العباد والزهاد أو طائفة منهم على الأقل أن من علامات ولاية الشخص أو من أسس الولاية الذكر والصمت والعزلة والجوع. ومن هنا؛ فإن المسلم مطالب إلى جانب تزكيته لنفسه وتطهيره لقلبه وصقله لروحه بألا يندفع من حيث لا يدري إلى تضييع الواجبات الاجتماعية والدعوية، وحتى لا يقع في هذه المصيدة؛ فإن عليه أن يتذكر أهدافه وواجباته.
3- المجال الوعظي الإرشادي:
هذا المجال كثيراً ما يعكس غيرة المسلم وخيريته، وحرصه على تبليغ الرسالة، وعلى استقامة المسلمين وتحسّن أحوالهم، وهو مجال مهم، وله دور حيوي في إبقاء الوعي الإسلامي متيقظاً ومنفتحاً على الأوامر والنواهي. من طبيعة العمل في هذا المجال دفع العاملين فيه إلى السحب من رصيد الحقيقة، وتجاوز البراهين والأدلة المتوفرة على حكم من الأحكام أو في قضية من القضايا، أو مقولة من المقولات؛ فحماسة الداعية للقضية التي يتحدث عنها وحرصه على إقناع الناس بما يقول يجعلانه لا ينتبه إلى أنه تجاوز القصد والاعتدال، وأنه صار يسلك مسالك مندوبي الدعاية والتسويق، والذين لا هم لهم سوي أن يبيعوا أكبر عدد من الزبائن بأعلى قدر من الأسعار.
الوعاظ والدعاة اليقظون والورعون جداً هم الذين يستطيعون النجاة من ذلك إلى حد بعيد، ولكن ربما بشكل غير مستمر. وظاهرة القصّاص في التاريخ تحكي في معظم الأحوال هذه الحقيقة، وقد وضع أقوام منهم بعض الأحاديث من أجل حث الناس على عمل ما يعتقدون أنه مهم لفلاحهم، ولما حُذَّر بعضهم من ذلك، وذُكِر لهم الحديث "ومن كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار" قالوا: نحن نكذب له لا عليه!.(/2)
السحب من رصيد الحقيقة يتجلى أحياناً في التهويل والمبالغة حين يُصوَّر خطأ من الأخطاء أو معصية من المعاصي على أنه كارثة الكوارث. وحين يُصوّر عمل من الأعمال النبيلة على أنه السفينة التي ستنقل الناس إلى بر الأمان. ويتجلى السحب من رصيد الحقيقة في أحيان أخرى في التعليلات الفاسدة والتحليلات السطحية والقول بغير علم؛ وهذا كثيراً ما يتم من غير وعي ولا إدراك، ومن هنا فإن المشتغلين بالوعظ في حاجة إلى طاقة هائلة من أجل ردع أنفسهم عن الانسياق خلف عواطفهم.
4- المجال التجاري:
يُثبت النظام التجاري يوماً بعد يوم أنه أقوى النظم الثقافية على الإطلاق، فإذا كان المرء طبيباً وتاجراً؛ فإن التجارة ستخطفه – في الغالب- من الطب، ويؤول أمره إلى أن يصبح تاجراً بمعنى من المعاني، وكذلك الشأن فيما لو جمع المهندس والمدرس والمزارع والموظف بين مهنته وبين التجارة. وإني أظن أن هيمنة التجارة على حياة الناس نابعة في الأساس من أنها تعيد بآفاق غير محدودة من الربح والثراء، وهذا ما يبحث عنه الإنسان الذي لا يملأ فمه إلا التراب. وقد ورد في الحديث أنه في آخر الزمان تفشو التجارة حتى إن المرأة لتشارك زوجها في التجارة، مما يدل على قدرة هذا النظام على اختراق كل العلاقات حتى العلاقة الخاصة القائمة بين الزوجين.
في المجال التجاري تكثر الأيمان ويكثر المديح للسلعة والتشكي من الخسارة فيما إذا بيعت بأقل من كذا أو كذا. وفي المجال التجاري يكون الغش والدعاية الكاذبة والإعلان المبالغ فيه، كما يكون فيه إخفاء العيوب، ويكثر بخس الناس أشياءهم، وكل ذلك استجابة لضغوط الشهوة إلى تكديس المال والتي تسيطر على نفوس البشر.
في زماننا تقوم العولمة على نحو جوهري على التجارة وعلى نشر الأخلاق والمفاهيم والتقنيات التي اعتمدها النظام التجاري، وهي في الغالب سيئة. ولهذا فإن مجال التجارة من أخطر المجالات على دين المرء وصدقه أمانته، وقد أثنى الله – جل وعلا- على أولئك الرجال الذين لا يشغلهم شاغل عن ذكر الله والقيام بواجباتهم، وخص البيع والتجارة لشدة تأثيرها في صرف الإنسان عن المسار الصحيح، فقال سبحانه : (في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله ...) الآية. وقد ورد أن ابن عباس – رضي الله عنهما- قال لأصحاب الكيل والميزان من التجار: " إنكم وليتم أمرين هلكت فيهما الأمم السابقة قبلكم".(1).
معرفة طبائع الأشياء تعني معرفة السنن التي سنها الله – تعالى- وبثها في الأنفس والموجودات؛ وهي معرفة مهمة جداً لفهم أنفسنا وفهم العالم من حولنا. والخروج عن هذه الطبائع يظل في كثير من الأحيان ممكناً، لكنه يحتاج إلى مجاهدة وإلى جهد استثنائي حيث السباحة عكس التيار، وحيث الخروج على المعروف والمألوف.
والله الهادي إلى سواء السبيل.
(1) قد ورد رفعه بإسناد فيه ضعف(/3)
من طفولة البشرية إلى رشد الإنسانية – 17
الأستاذ أنور الجندي
جاء الإسلام حركة تحرر في مواجهة الغزو الخارجي وحركة عدل اجتماعي في مواجهة الاستغلال وحركة شورى في مواجهة الاستبداد وأخوة عالمية في مواجهة التفرقة العنصرية.
وفي الفتح الإسلامي حذر الالإسلام من الغدر:
"لا تحرقن بيتاً ولا تعقرن شاة، ولا تقتلن وليداً ولا هرماً ولا امرأة".
وكان الرومان يبيدون كل عامر ويقتلون الأطفال والنساء والشيوخ. والإسلام أسبق شريعة قررت العدل الاجتماعي والشورى: لأنهم تقيم الحرية على حق الإنسان الذي لم يكن له حول ولا قوة، حيث لا تشرع الحرية والمسئولية ضرورية لا محيص عنها كما شرعتها من قبلها حكومات الأقدمين، وفي مجلس يزدجرد سأل الامبراطور سفير المسلمين: ما الذي جاء بكن؟ فقال: إن الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.
وأعظم عطاء الإسلام وذروة المعرفة فيه هي معرفة الله تبارك وتعالى ولذلك دعا الإسلام الإنسان إلى الفكر والذكر.
المعرفة بالله وأسمائه جل وعلا، ومعرفة عظمة ملكه المتمثلة في الطبيعة والكون ومعرفة عالم ما وراء المادة، والمعرفة بكتب الله ورسله واليوم الآخر.
والمعرفة طريق إلى الإيمان:
الإيمان: بقوة علوية تشرف على الإنسان من فوق وتمنحه الأسلوب المتوازن الشامل الذي يتعامل به مع جهازه الإنساني الضعيف.
والدين هو الذي كون حاسة "الخوف من الله" وخشية الله بما وضعه من مقاييس للفضائل والرذائل وتعهد بها النفس الإنسانية بالتربية والتقويم.
ويقوم الإسلام على مجموعة من الأصول العامة: عقيدة سليمة وعبادة صحيحة وكتاب منير "القرآن" وأسوة حسنة "الرسول" وشريعة عادلة وأخلاق إيجابية وتربية صالحة وجهاد في سبيل الله".
ولقد دعانا الحق تبارك وتعالى أن نتفكر في خلق الله لا في ذات الله فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في ذات الله فتهلكوا".
إن المسلم يبحث في الكون وآفاقه ولكن لا يحاول أن يبحث في الجوهر. عليه أن يبحث في الخصائص ولا يبحث إطلاقاً عن الماهية، ذلك لأنه لا يملك أدوات البحث فالعقل لا يمكن أن يستقل بمعرفة الله ولا أن يهتدي إليه إلا إذا صحب في تطوافه إلى تلك الغاية قلباً يتلقى عنه مدركاته.
ولقد أرسى القرآن العظيم قواعد الإسلام على وحدة الخالق ووحدة الخلق ووحدة النفس البشرية ووحدة الدين ووحدة الإنسانية ووحدة الكون ووحدة التشريع وحق الله تبارك وتعالى على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وعبادته إنما تتمثل في طاعة أمره وتجنب نواهيه.
"ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم".
إن الله تبارك وتعالى تكفل لمن يعتصم به أن يخرجه من كل ضائقة وكل أزمة ومن كل حيرة يقع فيها "ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب".
ومفهوم الإنسان الحق لاستخلاف الإنسان في الأرض وما له من إرادة محدودة يكون مسئولاً في حدودها يمكن الإنسان من إقامة الانسجام والوحدة والتوازن بينه وبين عناصر الكون كلها: من مجتمع وحياة وإنسان.
"وإدراك المسلم بأن الله تبارك وتعالى هو الذي خلق هذا الوجود كله وفق سنن ونواميس متفقة هو الذي وضع له هذا المنهج باعتباره أحد عناصر هذا الوجود يعطيه الثقة بأنه في نطاق هذا المنهج يمارس نشاطه مه حركة الوجود كله ووفق هذه الحركة بانسجام وتوافق لا يمكن أن يتحقق إلا في ظل هذا المنهج فهو والحالة هذه ليس ريشة في مهب الريح ولا جرماً انفلت عن مداره ولا يدري حتى يصطدم بغيره".
وإيمان المسلم بأن له إرادة واختياراً تجعله آمناً من الوقوع تحت سلطان الجبر الذي يقع فيه الماديون فيقتل منزع الإرادة منهم ويعطيهم الجرأة على فعل المنكر "وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها: قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون".
ولو لم يكن للإنسان إرادة واختيار لما كان محلاً للتكليف ولا موضعاً للحساب والجزاء، ولما توجه إليه من الله تعالى أمر ونهي.
أقام الإسلام نظاماً متكاملاً شاملاً للنفس والمجتمع تتمثل مقاصده الأساسية في نقاط محددة، وأساس الإسلام أنه نظام دنيوي أخروي في آن واحد، لا ينفصل فيه الدين عن الدنيا ولا المجتمع عن الشريعة ولا الأخلاق عن الحياة.(/1)
وقد أحيا الإسلام عقيدة إبراهيم عليه السلام واعترف بجميع الأنبياء والكتب السماوية المنزلة، ونظم أمور المجتمع ووضع تعاليمه في صيغة كلية وأصول عامة متكاملة مترابطة متفاعلة لا يجوز تجزئتها أو الأخذ بفرع منها دون الآخر، وأقر نظام الأسرة بالزواج وأعلن حقوق الأسرة ورفع مكانة المرأة وأبطل الرق وأعلن الزكاة وجعلها حقاً للفقراء. وقرر الإسلام أن العلاقة بين الله تبارك وتعالى والإنسان علاقة مباشرة دون أي وساطة وأكد الإيمان بالله وحده لا شريك له والإيمان بالبعث والجزاء والحساب وجعل طلب العلم فريضة ودعا إلى النظر والتماس الدليل والبرهان وحث على تنمية المدارك.
وأقام الإسلام شرعة الجهاد ونظم مفهوم المال الذي هو مال الله الذي آتاكم، والإنسان مستخلف لتوجيهه إلى الخير وصالح الجماعة وفي سبيل الله.
وقد حرر الإسلام الإنسان من الوثنيات جميعاً: عبادة الأصنام والدنيا والأبطال والخرافات والأساطير وألغى التفرقة بين العناصر والتعصب للجنس ودعا إلى المساواة والإخاء ووفق بين سلطة الحاكم وحرية المحكوم وأعلن احترام الملكية الفردية ووجهها إلى العمل النافع في مال الغني زكاة ودعا إلى التوفيق بين جانبي الإنسان وجانبي الحياة الروحي والمادي وأقام الإسلام الالتزام الأخلاقي وجعله مناط المسئولية والحساب.
وأقام قاعدة حرية الفكر، لا إكراه في الدين، وكفل لغير المسلمين حرية العقائد وحماية الأموال والتسامح.
وأطلق الإسلام العقل الإنساني من قيوده التي كانت تأسره حول المعابد وبين أيدي الكهنة فارتفع إلى الاعتقاد بحياة أخرى وراء هذه الحياة، واعترف بالنوازع البشرية وقرر حق الإنسان في مزاولتها ووضه له ضوابط ونظماً لتوجيهها الوجهة الصحيحة، وهذب من مداخل هذه النوازع ومخارجها بحيث لا تؤذي الفرد نفسه ولا تسيء إلى المجتمع كذلك وعاد الإسلام إلى الوحدة العالمية وجعل من شعيرة الحج منطلقاً إلى التقاء الأجناس والعناصر، وأقام الإخاء العالي وقضى على كل تفرقة لونية أو عنصرية وشجب العنصرية القائمة على الدم والأنساب ومنع التفاضل بهما وجعل تقدير الناس بالأعمال.
أعلن القرآن الكريم أن الله تبارك وتعالى لم يرسل إلى البشرية طوال التاريخ البشري إلا ديناً واحداً هو الإسلام: أي إسلام الإنسان وجهه لله والحكم لله وكل الأنبياء الذين بعثهم الله في أقطار مختلفة وفي شعوب مختلفة في العالم ما جاءوا إلا بنداء التوحيد والإسلام، وقد غيرت التفسيرات من أصل الأديان وبدلت، وحرفتها عن جوهرها الأصيل حتى جاء الإسلام يدعو البشرية من جديد إلى هذا الدين الحق، وقد جعل الله تبارك وتعالى كتابه محفوظاً من حيث النص مهيمناً على الكتب وجعل الإسلام خاتم الأديان وجعل رسوله صلى الله عليه وسلم خاتم الرسل وفرض على كل من شهد الإسلام أن يؤمن به.
وقد جاءت بشاراته في الكتب السابقة وكان كثير من المؤمنين يترقبون ظهور النبي محمد صلى الله عليه وسلم وترهص الدلائل التي بين أيديهم ببعثه ومطلع رسالته. والمسلمون يؤمنون بجميع من جاء قبل محمد صلى الله عليه وسلم من أنبياء ورسل وكتب وأن هذا الإيمان جزء أساسي من عقيدتهم لا يكمل إسلامهم بدونه وإن كانوا يتلقون الهداية من النبي محمد صلى الله عليه وسلم فقط لأن تعاليمه هي آخر التعاليم.
وكلام الله الذي بين دفتي المصحف هو كلام إلهي محض لم يمازجه شيء من كلام البشر، وهو محفوظ بلغته الأصلية ولغته هي إحدى اللغات الحية في العالم، ولم يطرأ أي تغير علىق واعدها ومبانيها ومعانيها وأساليبها ورسوم الكتابة بها.
وما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من الأخلاق والسلوك وما صدر عنه من الأقوال تم تدوينه وحفهظ بأصح ما يكون من الطرق وأن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم بموجب عقيدتنا جاءت لجميع العالم ولسائر الأزمان.
إن نظرة عميقة مستفيضة إلى بعض الوقائع والأحداث في حياة الإسلام الأولى من خلال تاريخ النبي محمد صلى الله عليه وسلم تكشف أبعاداً عريضة للدعوة الإسلامية لم تكن واضحة وضوحاً كافياً حتى جاءت هذه المرحلة من تاريخ الإسلام فألقت عليها ضوءاً كاشفاً. تعني هذه الوقائع ارتباط الدعوة الإسلامية التي جاء بها محمد بن عبد الله بميراث النبوة كله: إبراهيم وإسماعيل وموسى وعيسى يتجلى ذلك واضحاً في واقعة الإسراء بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس وصلاته إماماً بالأنبياء جميعاً قبل عروجه إلى السموات العلا هذا الارتباط بميراث موسى وعيسى دليل على صدق نبوة محمد وأنه جاء خاتماً لكل الرسائل والأنبياء وجاء كتابه خاتماً لكل الرسائل والأنبياء وجاء كتابه خاتماً لكل الكتب ومهيمناً عليها، وقد تحقق ذلك بعد سنوات قليلة عندما فتح المسلمون بيت المقدس وعقد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب لسكان القدس العهدة العمرية.(/2)
كذلك فقد جاءت فريضة الحج لتربط المسلمين بدين إبراهيم عليه السلام الذي أقام القواعد من البيت وإسماعيل وأهدى إلى أهل التوحيد تلك المناسك في منى وعرفات والمزدلقة وقد جاء محمد صلى الله عليه وسلم دعوة إبراهيم ومن نسل إسماعيل وسجل القرآن ذلك تسجيلاً رائعاً.
"إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي".
"ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين".
وهكذا ارتبطت دعوة التوحيد بين إبراهيم ومحمد عليهما الصلاة والسلام وجاء هذا الارتباط واضحاً في كل دين جاء به الأنبياء إذ حمل إليهم الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ولقد ذكرت التوراة والإنجيل كلاهما هذه النبوءة وسجلتها تسجيلاً: "ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل" ولقد أبان سيدنا عيسى بن مريم رسول الله إلى بني إسرائيل هذا الارتباط: "ومصدقاً لما بين يدي من التوراة ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد".
كل هذا يعطي مفهوماً واضحاً هو المسئولية الكاملة النهائية لكل ميراث النبوة والرسالة، والارتباط بين أنبياء الله ورسله على كلمة التوحيد يسلمها كل منهم إلى من بعده حتى تختتم بمحمد صلى الله عليه وسلم.
كذلك كشف القرآن عن عجز بني إسرائيل عن حمل الأمانة ولذلك نقلها الحق تبارك وتعالى إلى العرب: "قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء".
كذلك كشف القرآن عن عجز بني إسرائيل عن حمل عن أنع دين رشد الإنسانية وأن البشرية قد تجاوزت طفولتها، فقد جاءت رسالة الإسلام معجزة بيان خالد باق إلى يوم القيامة هو القرآن الكريم الذي تحدى به الحق تبارك وتعالى العرب والعجم أن يأتوا بمثله أو بسورة من مثله أو بآية واحدة، ولقد عجز البشر وما زالوا عاجزين إلى اليوم وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها عن هذا التحدي.
ولقد جاء الإسلام ليفصل بين تاريخين للبشرية: تاريخ ما قبل الإسلام كله وهو تمهيد لنزول الإسلام، وتاريخ العالم منذ الإسلام، ومنذ أن بزغ ضوء الإسلام وهو عنصر فعال ومؤثر في كل حدث من أحداث البشرية على وجه الأرض.
وقد حرر الإسلام البشرية من الوثنية وعبودية الإنسان في حضارات الفراعنة والفرس والهنود واليونان والرومان وحرر هذه المنطقة العربية التي توالت عليها أمواج الهجرات من قلب الجزيرة العربية خلال أكثر من خمسة آلاف سنة متوالية حتى جاء الإسلام فوسدت له العروبة والعربية ذلك السفح الممتد من العراق إلى الشام إلى مصر إلى أفريقيا وسرعان ما استجابت هذه الأمة كلها لكلمة الله في سنوات قليلة ونسيت تاريخاً إغريقياً رومانياً امتد أكثر من ألف سنة من سوريا إلى إسبانيا عبر شمال أفريقيا، منذ فتح الإسكندر الأكبر.
وفي يوم فتح مكة رفض رسول الله قول سعد بن عبادة: اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الحرمة وقال: "اذهبوا فأنتم الطلقاء".
وأعلن الإسلام دعوة إنسانية عالمية تخاطب الناس جميعاً فالناس كلهم من ذكر وأنثى وعباد الله وخلقه وقد استخلفهم تبارك وتعالى في الأرض، وجعلهم شعوباً وقبائل ليتعارفوا ومن آياته اختلاف ألسنتهم وألوانهم، والرسول صلى الله عليه وسلم رسول الله إلى العالمين "قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً".
وانداح المسلمون في أنحاء الأرض يعلنون كلمة الله ويقيمون دعوة الحق، ولا يعمدون إلى إفناء السكان الأصليين أو إجلائهم ولا يقيمون المستعمرات أو يضعون الحواجز بينهم وبين سكان المدينة التي انتقلوا إليها وهم كما يقول فتحي عثمان: مع سكان المدن المقيمين، والمهاجرين والوافدين سواء في الاعتبار الإنساني والحقوق القانونية.
ولقد واجه المسلمون النصر والهزيمة، انتصروا حين استمسكوا بكتاب الله تبارك وتعالى وحقه الذي بينه لهم وانهزموا حين تخلوا عنه "والحق تبارك وتعالى – كما يقول الأستاذ محمد قطب – حين يتعامل مع رسله وأنبيائه وأتباعهم من المؤمنين لا يتدخل من أجلهم فيخرق الناموس وينصرهم بالمشيئة على طريقة كن فيكون" وإنما يعودهم أن يكونوا أول الناس إيماناً بالقانون الاجتماعي وأكثرهم إدراكاً لسنن الحياة ونواميسها وأن يكونوا أحرص الناس على التوافق مع هذه السنن والنواميس فهو يبتلي رسوله صلى الله عليه وسلم بتكذيب الناس ولا يتدخل بالمشيئة المباشرة ليعفيه من أعباء الجهاد في سبيل دعوته وإنما يذكره بقانون الحياة وسنة الصراع بين الحق والباطل:
" ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبأ المرسلين". ويبين الله تبارك وتعالى علاقة المشيئة الإلهية بقوانين المجتمع فيقول: "ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض".(/3)
ولقد كشف الباحثون المنصفون عن هذا الدور الخطير الذي قام به الإسلام في "تحضير" البشرية ورفعها إلى درجة الإنسانية فيقول إيربري: إن الإسلام لم يكد ينزل على محمد في قلب جزيرة العرب حتى بدأ يغزو العالم بسرعة أذهلت المفكرين المحللين للتاريخ. وقد حاول المؤرخون المحدثون تعليل هذه الانتصارات الواسعة والفتوحات العظيمة بردها إلى عوامل اقتصادية أو حربية أو سياسية ولكن كل تلك التفسيرات ظلت عاجزة عن التعليل الصحيح فكان لابد من الرجوع إلى العامل المؤثر وهو الدين الجديد.
"إن بلاغة القرآن المعجزة مع بساطة تعاليم الإسلام التي جاءت في هذا الكتاب هي المفتاح لحل لغز أعظم "مد" في تاريخ الأديان ذلك أن الإسلام جاء يدعو إلى حياة منظمة جادة، حياة جماعة عاهدوا الهل أن يخضعوا لإرادته في كل أمر، وأن يجاهدوا في حمل كافة البشر على الإقرار بقدرته وملكوته.
حقاً، اختار محمد رسول الله الرفيق الأعلى، ولكن رسالته بقيت، حملها معهم المجاهدون إلى أطراف الأرض وكانوا جنداً وفي الوقت نفسه مبشرين بدعوة الدين الجديد. وأعلن أكثر من باحث غربي أن انتشار الإسلام كان أكبر خرقاً للعادة، يقول (م. روي) أن امبراطورية أغسطس الرومية بعد ما وسعها بطلها (تراجان) نتيجة فتوح عظيمة في سبعة قرون ولكنها لا تساوي المملكة الإسلامية التي أسست في أقل من قرن. إن امبراطورية الإسكندر لم تكن في اتساعها إلا كسراً من كسور مملكة الخلفاء الواسعة. أن الامبراطورية الفارسية قاومت الروم زهاء ألف سنة ولكنها غلبت وسقطت أمام سيف الله في أقل من عشر سنوات، وما تزال مسألة "لماذا انتصرت الجيوش الإسلامية القليلة العدد والعدة على الجيوش الضخمة" أكبر معضلة في تاريخ الإسلام وموضع دهشة الباحثين، حين استطاع بسرعة انتشاره المذهلة خلال فترة قصيرة أن يبسط جناحيه من حدود الصين إلى حدود فرنسا.
ويرجع ذلك في الرأي الأصدق إلى طبيعة العقيدة وجمعها بين الدنيا والآخرة والعقل والقلب وطابع العدل والرحمى والإخاء البشري وتحرير العقل الإنساني من الوثنية وتحرير الجسد البشري من العبودية.
فقد عرف الإسلام منذ يومه الأول بمرونته في مواجهة الحضارات والثقافات وإتاحة الفرصة لأهل البلاد في حكم أنفسهم، وحرية العبادة وعدم فرض العقيدة الإسلامية عليهم بالقوة، وكون الإسلام ليس ديناً فحسب ولكنه كان في مجمله منهج حياة ونظام مجتمع.
وقد أدى الإسلام دوراً حضارياً وثقافياً بالغ الخطورة خلال ألف سنة كاملة وإنساب إلى مختلف الثقافات والعقليات فمنها من تقبلته عقيدة ومنها من تقبلته ثقافة وحضارة، وهو الذي أنشأ بذرة الحضارة الحديثة حين قدم لها المنهج العلمي التجريبي.
لقد كانت الدولة وأصحاب الأديان يفرضون مذاهبهم وعقائدهم بالقوة، أما الإسلام فقد ترك لكل إنسان حريته في العبادة وأقام العدل وحمى معابد اليهود والنصارى ولم يحارب المسلمون أبداً في سبيل نشر الإسلام وإنما ردوا على عدوان من اعتدى عليهم أو وقف في طريق دعوتهم.
بماذا انتصر المسلمون؟
يقول ماكس مايرهوف في كتابه (العالم الإسلامي):
"يكاد يكون مستحيلاً أن نفهم كيف أن أعراباً منقسمين إلى عشائر ليس عندهم العدد والأعتدة اللازمة يهزمون في هذا الوقت القصير جيوش الرومان والفرس الذين كانوا يفوتونهم في الأعداد والعتاد وكانوا يقاتلونهم في كتائب منظمة، أن القول بالمراس الذي عرفه العرب للحروب والقتال والنظم والانقياد العام للقيادة فيه مغالطة كبيرة، فقد ثبت أن الروم والفرس كانوا راقين في النظام الحربي، وقد بلغت الدولة البيزنطية في بداية القرن السابع المسيحي زهوها وأوج قوتها، ودحر الروم الفرس وردوهم على أعقابهم عام 625 قبل زحف المسلمين على الشام باثنتى عشرة سنة فقط، وقد وقف 24 ألف مسلم في وجه الروم الذين كانوا أكثر من مائة وثمانين ألفاً".
ونقول: لقد كان الإيمان هو الموازن لفرق الكفة من ناحية العدد والعدة، فقد كان المسلمون يدخلون معاركهم وقد آمنوا بأن الحرص على الموت يهب الحياة وكانوا يقدمون أنفسهم وأرواحهم لله خالصة.
ولقد كان المسلمون رحماء في فتوحهم كرماء مع خصومهم أيضاً.
أين هذا مما يقوله مؤرخ الحروب الصليبية حين يقول: "إذا كنت تريد أن تعرف المعاملة التي لقيها أعداؤنا في بيت المقدس فيكفي أن تعلم أن أصحابنا كانوا يخوضون في بحر من الدماء حتى الركب ولم يستطع أحد من الكفار (المسلمين) الخروج سالماً ولم نعف عن أحد حتى النساء والأطفال".
أين هذا الذي فعله المسلمون مما فعله فيليب الثاني بأمر البابا عندما أصدر أمراً يقضي بطرد جميع المسلمين من إسبانيا وقبل أن يتمكن المسلمون من الفرار والنجاة بأنفسهم تم القضاء على ثلاثة أرباعهم بأمر الكنيسة والذين استطاعوا النجاةة من الموت أصدرت في حقهم محاكم التفتيش أمراً بالإعدام ثم القضاء على ثلاثة ملايين مسلم دون مبرر.(/4)
ومع ذلك فقد أعطى المسلمون حضارتهم ولم يبخلوا: يقول المؤرخ الكبير هونشو: لقد خرج الصليبيون من ديارهم لقتال المسلمين فإذا هم جلوس تحت أقدامهم يأخذون عنهم أفانين العلم والمعرفة، ولقد بهت أشباه الهمج عندما رأوا حضارة المسلمين التي رجحت حضارتهم رجحاناً لا تصح معه المقارنة بينهما.
وكان هناك جانب خفي على الغرب، هو أنهم لم يفهموا الإسلام فهماً صحيحاً فقد استقى الغربيون معارفهم عن الإسلام من مصدرين (كما يقول أدوين كالفرلي) أحدهما يتمثل في الشائعات التي روجها بعض المحاربين والتجار الغربيين وغيرهم، وألا يتمثل في المعلومات التي أذاعها الغربيون القليلون الذين اطلعوا على القرآن وغيره من كتب الإسلام، وقد ذخرت الشائعات التي روجت عن الإسلام بأخطاء كثيرة ما زال بعضها راسخاً في أذهان كثير من الغربيين ومن بين هذه الأخطاء أن المسلمين يعبدون محمداً وليس عسيراً أن يتقبل الغربي هذه الفكرة فكما أن بعض المسيحيين يعبودون المسيح، فكذلك يظن بعض الغربيين أن المسلمين يعبدون محمداً مؤسس دينهم الذي يطلق عليه الغربيون لهذا السبب اسم "المحمدية".
وقد كانت هذه الفكرة شائعة في أوربا قبل حروب الصليبيين وأثناءها ثم زادت رسوخاً ورواجاً عند عودة الصليبيين من حروبهم فقد حاول الدعاة من رجال الدين وقادة الجيوش العائدة أن يثيروا في نفوس الجنود بغض المسلمين فأخذوا يروجون الإشاعات المضللة عن معتقدات المسلمين وتقاليدهم وفي مقدمتها أنهم يعبدون محمداً نبيهم ووجدت هذه الإشاعات مرعى خصباً بين أولئك الجنود فأخذوا يتناقلونها ويرددونها مع الزيادة فيها ولاسيما أن أكثرهم كانوا أميين لا يقرأون ولا يكتبون حتى بلغتهم الأصلية، كما أنهم لم يختلطوا بالمسلمين ولم يكونوا يعرفون العربية، فلم يتح لهم أن يقرأوا أو يسمعوا شيئاً يذكر عن الإسلام والمسلمين، والعجيب أن هذه الفكرة الخاطئة ما زالت شائعة تجد الطريق ممهداً لترويجها ويروج كتاب (ماركوبولو) لهذه الفكرة الخاطئة بطريقة غير مباشرة. ففي الفصل الخامس منه يتحدث ماركوبولو عن العرب الذين يعبدون محمداً.
وهناك صحف غربية كثيرة لا تزال تقع في هذا الخطأ وتردده، وبعض المعاهد الغربية تلقن طلبتها هذه الفكرة ويرى أساتذها أن محاولة المسلم أن يطيع محمداً ويحاكيه في كل أفعاله ليس إلا عبادة في حين يقرر المسلمون جميعاً أنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الهل وفي حين أن طاعة المسلمين لمحمد ليست إلا طاعة لله الواحد الأحد الذي دعاهم إلى عبادته.
ويصور برناردشو موقف الغرب من الإسلام فيقول: "لقد عمد رجال الإكليروس في العصور الوسطى إلى تصوير الإسلام في أحلك الألوان والواقع أنهم كانوا يسرفون في كراهية محمد وكراهية دينه ويعدونه خصماً للمسيح أما أنا فأرى واجباً على أن يدعي محمد منقذ الإنسانية وأعتقد أن رجلاً مثله إذا تولى زعامة العالم الحديث لنجح في حل مشكلاته".
والواقع أن محمداً ودينه لم يكرها المسيح عليه السلام ولم يختصما معه بل آمنا به إيمانهم بكل أنبياء الله ورسله وكتبه وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتاً فجمله وحسنه إلا موضع لبنة في زاوية من زواياه، فكان الناس يطوفون بالبيت ويعجبون ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة؟ فأنا اللبنة وأنا خاتم المرسلين".
ولقد أنكر الغرب وإلى زمن قريب في مدى أربعة قرون فضل المسلمين على الحضارة العالمية، أما المسلمون فأنهم قد اعترفوا بما أفادوا من تراث الأمم، هذا الذي غربلوه ونخلوه في ميدان العلوم الطبيعية والرياضية فحسب أما في مجال الإنسانيات والعقائد وأسلوب العيش والأدب فإنهم لم يأخذوا من أحد واستهدوا فطرتهم وطبيعتهم وفي مجال العلوم استطاعوا أن ينشئوا المنهج العلمي التجريبي وكانوا منصفين دائماً لكل من عرفوا من علم واعترفوا بفضل من سبقهم في أي ميدان دون أن يجدوا في ذلك غضاضة، فقد علمهم دينهم: العدل والإنصاف من النفس وقد فعل الغرب ذلك كله ليصور المسلمين أمام أهليهم بصورة العاجزين عن الانبعاث مرة أخرى أو بصورة التابعين لحضارة العرب ورغبة في إحكام السيطرة والنفوذ على مقدراتهم، كما حاولوا إثارة الفتن القديمة والخلافات بين مختلف الوفود التي طويت مرة أخرى للتفريق بين المسلمين.
ومع ذلك فقد استعاد الإسلام وحدة الفكر من جديد وعرف أهداف الغزو والتغريب وقطع مراحل طويلة في التقدم الاجتماعي وفي التوسع السلمي فدخل بلاداً كثيرة وانتشر في مختلف القارات وأثلجت كلمة لا إله إلا الله ملايين الصدور التي كانت حائرة مضللة.(/5)
ووصف ذلك عدد من المؤرخين المنصفين فقال أحدهم أنه متى دخلت قبيلة من القبائل الوثنية في الإسلام اختفت عنها في الحال عبادة الشيطان وعبادة البشر وأكل لحم الإنسان وتقديم الضحايا البشرية وقتل الأولاد والسحر، وصاروا يرتدون الثياب وحلت فيهم النظافة وشعروا بالعظمة واحترام النفس وصار قرى الضيف عندهم من الواجبات الدينية وندر شرب المسكرات وحرم القمار والرقص المنافي للعفة وفوضى اختلاط الجنسين وصارت طهارة العرض من أعظم الفرائض وذهبت البطالة والكسل ودخل العمل والكد محلهما وتغلب النظام والرزانة على الشقاق وحرمت القسوة على الحيوان والعبيد، وتعلموا الشعور بالإنسانية واللطف والأخوة، وصدق الله العظيم إذ يقول:
"أفمن كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها".(/6)
من عالم الغيب
بقلم الدكتورعدنان علي رضا النحوي
مِنْ عالم الغيب ! منْ آفاقه انطلقت ... ... أشواقه ورؤاه والهوى الخَضِرُ
تموجُ أنوارها دفق الحياة بها ... ... وينتشي من نداها العود والزَّهرُ
وتنشرُ الأرض من أنفاسها أرجاً ... ... يُغني الحياة ويزكو عنده العُمُرُ
*** ... * ... ***
كمْ كانَ يَلْهثُ في دنياه يبحث عن ... ... حَرْفٍ وعنْ كَلمٍ يُجْلى به الخَبَرُ
يظلُّ يَسْألُ والآفاقُ مٌغلقةٌ ... ... أَمامَه ونواحي الأرض تنْحسِرُ
كأنَّما الليل ألقى من كلاكِلِهِ ... ... وضيّقَتْ دونه الآمالُ والصورُ
لولا انفراج من الرحمن أدركه ... ... لظلَّ في التيه لا نورٌ ولا بصرُ
*** ... * ... ***
فانظرْ حواليكَ آياتٌ مُبيّنةٌ ... ... لو شئتَ جالتْ على آفاقها الفكَرُ
حباكَ ربُّكَ قلباً كي تجولَ به ... ... ويرتقي في رؤى آياته النَّظرُ
وفِطرةً غرستْ فيها هِدايتها ... ... ما دام يحفظها من صدقك الذِّكَرُ
تصونها من هوى الآثام ! تغسلها! ... ... بتوبة وخطا يمضي بها الحذرُ
*** ... * ... ***
لمَّا صفتْ فطرة لله صَحَّ هوى ... ... فِيْها وصحَّ لديكَ العزمُ والأثرُ
هُنا تَفَتَّح ما قد ترتجيه وما ... ... تَجْلوه من حولكَ الآيات و العِبَرُ
تجلو لقلبكَ نورَ الحقِّ ! فانفرجتْ ... ... بصيرةٌ فرأتْ ما كان يُسْتترُ
عرفْتَ نهْجَ الهُدى فالزمْه ملتمساً ... ... درب النجاة وإلا حفَّكَ الخطرُ
*** ... * ... ***
... ... الرياض
2/1/1424هـ
6/3/2003م(/1)
من عبد الله بن حذافة إلى شباب المسلمين
استوقفني شاب مسلم اسمه عبد الله يرتفع الآذان وتقام الصلاة بجواره وهو غير عابئ بذلك النداء وكأنه موجه لغيره من أصحاب الديانات الأخرى وأطلقت بصري فإذا شاب آخر اسمه عبد الله وهو يهز رأسه طرباً ويهتز لحمه وعظمه على أنغام أصوات مغنٍ غربي! وقلبت إحدى المجلات فإذا بمن اسمه عبد الله وهوايته الرقص والموسيقى! وشرقت وغربت .. وتأملت فإذا الأمر أعظم من ذلك؟ عندها انطلقت استحث الخطا وأسابق الركب عبر أربعة عشر قرناً لأرى حال من كان اسمه عبد الله! فإذا أمة من الناس رفعوا للأمة رأساً وأعلوا للدين مناراً، ولا يزال التاريخ يردد جهادهم وصبرهم على صغر سن فيهم وحداثة دين منهم! لكن نتوقف مع شخص مرت به أحداث خطيرة ومواقف عظيمة وقابل رؤساء أعظم دول عصره، استقبله كسرى ملك الفرس وقيصر عظيم الروم وهو الرجل العربي الذي لا تهمه البرتوكولات ولا التقاليد الرسمية .. لا يعرف إلا شمساً محرقة وسماء صافية وخباءٍ في ظل شجرة يحوي كسرة خبز! أقبل ميمماً وجهه نحو إيوان كسرى وملك قيصر ففُتحت له الكنوز والخزائن! وألقت إليه الحضارة في حينه بركابها لكنه أبى أن يمتطيها وأعرض عن زينتها .. قاسمة كسرى ملكه الواسع وغناه الفاحش لكنه رفض! قدم له ابنته الفاتنة لكنه أشاح بوجهه وأبى! نعم رفض تمييع دينه وأبى ترك ملته وجانب الدنيا .. مؤمنٌ يستشرف الجنة ويسعى إلى نيلها! لننطلق نرى ما يقوله أصحاب السير عن هذا الرجل الفذ! مع إقامة الدولة الإسلامية في المدينة ولرغبة إخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ولتبليغ هذا الدين إلى أقصى الأرض .. في السنة التاسعة عشرة للهجرة بعث عمر بن الخطاب رضي الله عنه جيشاً لحرب الروم فيه وجوه الأمة ورجالها. وقد أفزع قيصر عظيم الروم هذا الزحف القادم من صحراء جزيرة العرب القاحلة وناله الرعب واستولى على قلبه الهلع. فأمر رجاله إذا ظفروا بأسير من أسرى المسلمين أن يأتوا به إليه ليرى حالهم ويسمع من أفواههم .. وكان ذلك الأسير الذي أخذ إلى ملك الروم هو عبد الله بن حذافة رضي الله عنه! .. لم يكن قيصر إلا رجلاً داهية وسياسياً محنكاً يعرف مواطن الضعف عند الرجال ويعلم محبة النفوس للدنيا .. تأمل قيصر في طلعة عبد الله بن حذافة وصلابة عوده وقوة شكيمته فبادره قائلاً: إني أعرض عليك أمراً .. أعرض عليك أن تتنصر فإن فعلت خليت سبيلك وأكرمت مثواك! إنه عرض مغر لأسير ينتظر الموت لكن القلوب تختلف والرجال تتباين .. كان الرد الفوري والحازم ممن عمر الإيمان قلبه: هيهات هيهات .. إن الموت لأحب إليَّ ألف مرة مما تدعوني إليه! تعجب قيصر وأعاد الكرة مرة أخرى بعرض آخر يسيل له لعاب الكثير .. قال له: إني لأرى فيك صفات الرجل الشهم العاقل .. فأجبني إلى ما أعرضه عليك .. فإن أجبتني أشركتك في ملكي وقاسمتك سلطاني! تعال أيها العربي - الذي أحرقت الشمس وجهه - أقاسمك مملكة الروم العظيمة وأزوجك ابنة سيد الروم الجميلة! عروض متتالية لرجل فقير مسكين رث الثياب مُجهد الخطوات .. لا يملك حفنة من الأرض مقيد بالسلاسل ومكبل بالقيود والموت يحوم فوق رأسه! فماذا كان جوابه في تلك اللحظات الفاصلة في حياته! قال عبد الله بن حذافة رضي الله عنه بثقة المؤمن بربه الراغب فيما عنده: والله لو أعطيتني جميع ما تملك، وجميع ما ملكته العرب على أن أرجع عن دين محمد طرفة عين ما فعلت! نعم ليس ملكك فحسب .. وليس تنصراً مستمراً .. بل رجوع طرفة عين ما فعلت! رأي قيصر أن هذا المؤمن لا تلين له قناة ولن تنفع معه وسائل الإغراء وطرق الترغيب .. فهب واقفاً وهو يصرخ متهدداً متوعداً: إذا أقتلك! قال ذلك والجلاد على رأس عبد الله والسيف مجرد من غمده .. وانتظر قيصر الجواب من عبد الله فإذا به يأتي كالسهم محمل بالإيمان والثبات: أفعل ما بدا لك! فأمر به فصُلب وقال لقناصته: ارموه قريباً من يديه وهو يعرض عليه التنصر! ولكن عبد الله والسهام تتخطفه أبى! فقال: ارموه قريباً من رجليه وهو يعرض عليه مفارقة دينه فأبى! عندها دعا قيصر بقدر عظيم فصب فيه الزيت ورفعه على النار حتى غلى الزيت وارتفع صوته وعبد الله ينظر ثم أتي بأسير من أسارى المسلمين، فأمر به أن يُلقى فيها فألقي أمام عين عبد الله .. فإذا لحمه يتفتت وينسلخ ويظهر عظمه .. عند هذا المنظر الرهيب والموقف العصيب التفت قيصر إلى عبد الله بن حذافة ودعاه إلى النصرانية والأحداث متسارعة والقدر تغلي .. لكن عبد الله كان أشد إباء لها من قبل فلم تلّن له قناة ولم تفت منه عضد! زاد حنق قيصر .. وقال ما هذا الرجل الذي أمامي أعرض عليه ملكي وابنتي فيرفض وأعرض بين يديه النار والقدر تغلي زيتاً فيأبى .. عندها أمر رجاله وقد تطاير الشرر من عينه: هيا ألقوا به مثل صاحبيه! حُمل عبد الله على عجل وارتفعت الأيدي لتلقي به في القدر .. فأبصر أحد رجال قيصر منه دمعة تحدرت .. فقال لقيصر فرحاً بالانتصار:(/1)
لقد بكى! وظن أنه قد جزع من ما يرى من الأهوال والشدائد ورضي بالعروض المقدمة إليه، فقال قيصر: ردوه عليَّ ! فملما ردوه إليه ومثل أمامه عرض عليه النصرانية فرفضها. فقال له متعجباً: ويحك ماذا أبكاك! قال عبد الله بن حذافة رضي الله عنه: أبكاني أني قلت في نفسي: تُلقى الآن في هذه القدر فتذهب نفسك، وقد كنت أشتهي أن يكون لي بعدد ما في جسدي من شعر أنُفس فتُلقى كلها في هذا القدر في سبيل الله. فتعجب الطاغية الظالم وقال: هل لك أن تُقبل رأسي وأطلق سراحك. فقال عبد الله وهو يرى أمة من المسلمين في الأسر: وعن جميع أسارى المسلمين كلهم! وافق القيصر وعبد الله يقول في نفسه: أتى الفرج لهؤلاء الأسرى .. نعم أقبل رأس الظالم ويطلق أسارى المسلمين .. دنا بعزة وهيبة وقبل رأس قيصر! وعندما وطأت قدما عبد الله بن حذافة المدينة النبوية كان الخبر قد سبقه إلى أهلها .. قال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو فرح مسرور بثبات عبد الله وقوة إيمانه: حقُّ على كل مسلم أن يقبل رأس عبد الله بن حذافة، وأنا أبدأ بذلك! فقام وقبل رأس عبد الله بن حذافة رضي الله عنه. يا عبد الله - هذا الزمن - دعنا نقبل رأسك وانطلق إلى المسجد مصلياً .. دعنا نقبل رأسك وكن ثابت الإيمان قوي الرسوخ! يا عبد الله دعنا نقبل رأسك وفك أسرك من رق الشهوات ومواطن الريب والخنا. دعنا نقبل رأسك مرات ومرات ولا تكن إمعة يسيرك الأعداء حيث شاءوا وهو ما نراه في مظهرك ومخبرك!
عبد الملك القاسم
[ من إصدارات دار القاسم ](/2)
من عجائب آخر الزمان !!
يحيى شاب عاقل! طيب القلب, حسن الخلقة و الخلق, رجل يتفجر رجولة, وحيوية, يعرفه كل من يعرفه بذلك! هادئ الطباع, لا صخَّاب في الأسواق ولا جعظري جواظ, وليس بالأكول, ولا الجموع المنوع... لكنه جاء يوماً في حالة كئيبة, تعلو مُحياه سحابة مظلمة, وألفاظه تخرج من فمه متناثرة غير مرتبة فقلت له:
- ما لك! أصابك سهمٌ أم بُليتَ بنظرةٍ؟ فما هذه إلا سجية من رُمي؟!
- قال: ما لي؟ وقعتُ في أزمة في هذا الزمن *** !
- قلت: لعلك راجعت إدارة الأحوال المدنية لإضافة مولودك الصغير, وطلبوا منك شاهدي عدل واثنين يزكيانهما وتصديقاً من عمدة البلد وتقسم لهم بالله العظيم على كتابه الكريم أن هذا المولود لك لا لأحدٍ غيرك ولدته أمه في المستشفى الفلاني في الساعة الفلانية بشهادة الشهود! عجبي.. وأن تلك الشهادة التي تكرم بها المستشفى لإثبات واقعة الولادة صادقة حقيقية غير مزورة, فلم يصدقوك! لأنهم يحسبون أنَّا نأتي بالأطفال من الشوارع لنتبنَّاهم لأننا نتمتع بفائض اقتصادي هائل لا ندري أين وكيف ولمن نصرفه!
أو لعلك طلبت تجديد بطاقتك الشخصية فطلبوا منك الإنتظار قرابة ستة أشهر حتى يبعثوها إلى أصل الملف في مدينتك التي استخرجتها منها في سالف الأزمان؟؛ فأصبحت اليوم تمشي بين الناس بلا هوية ولا بطاقة أحوال أي أنك (بدون) كما في أختنا الكويت.
أو لعلك طلبت تعديل مهنتك من (متسبب) إلى (موظف) وأعددت جميع ما يحتاجون من قَسمٍ على المصحف! وشهادة شاهدين, وصورتين شمسية حديثة من إنتاج هذا العام, وبعثت بصور الوثائق, واستمارة الطلب مزخرفة بتوقيعكم الفاضل, وتوقيعات الشهود, مع أحد الزملاء ليخدمك فيها؛ نظراً لانشغالك الشديد.. فحلفوا يميناً غموساً ألاَّ يقبلوها إلاَّ بحضور صاحبها ولو لم يأت إلاَّ في عام 1430هـ!
- قال: لا.. لم أذهب إلى إدارة الأحوال فالحديث عنها ذو شجون, وهناك أحوال وأهوال! ولديهم جهاز مظلوم حقاً اسمه (كمبيوتر) يتقاضى راتباً شهرياً ولا يعمل!
- قلت: إذن.. لعلك ابتُليت بشخص في شركة الإتصالات يبعث لك كل شهر فاتورة على عنوانك لهاتفٍ لا تعرف متى استخرجته, ولا تذكر له رقماً, ولم تلمس أزرارَه يداك الناعمتان ولم تُدخله بيتك.. والغريب في الأمر أن صورة من بطاقتك الشخصية وجدتَها تُزين ذلك الملف, وتوقيعكم الكريم في أسفل استمارة الطلب.
أو لعلك.. تتلقى كل شهر رسوماً لهاتفك الجوال الذي قضى نحبه منذ زمن بعيد؛ تُسمى رسوم الخدمة والتي لا تتوقف إلاَّ إذا توقفت عجلة الحياة وورث الله الأرض ومن عليها!.
أو ربما أردت السفر إلى خارج البلاد لإكمال دراستك العليا, ففوجئت بهم في المطار يشهرون بك على رؤوس الخلائق ويمنعونك من السفر حتى تقوم بتسديد فاتورة (بيجر) كان في حوزتك قبل الحرب العالمية الأولى, فتشاغلت عنه بالتكنولوجيا الحديثة, وهم لم يذكِّروك بشأنه منذ سنوات وآمادٍ بعيدة.. وتكرم مشكوراً (كمبيوتر) الجوازات بالقبض عليك متلبساً بالجرم العظيم..
- قال: لا...
- قلت: اصدقني القول:-
هل راجعت أحد مكاتب الاستقدام الأمينة, فاستقدمت خادمة, فاكتشفت أنها مريضة وأثبتَّ ذلك بتقرير طبي من أكبر المستشفيات الحكومية المعترف بها عالمياً.. فأردت إرجاع الخادمة؛ فلم يقبلها منك المكتب واتهمك بتزوير التقرير؟ ورماها في الشارع؛ فعثرت عليها دورية الشرطة فتكرمت مشكورة بإيصالها إلى مكتب مكافحة التسول لسجنها هناك على ذمة التحقيق؛ وتقدمت أنت بشكوى إلى مكتب العمل والعمال فلم ينصفوك, وإلى (...........) مكتب الأحوال الشخصية فأحالوا أوراقك إلى المحكمة لتمكث هناك أحقاباً تحت رحمة المواعيد البعيدة الأمد حتى تنقضي الثلاثة الأشهر المقررة لتجربة الخادمات؛ فتعود البيت بلا خُفيّ حُنين؛ فتخسر الخادمة ومبلغاً قدره (5600) ريال؛ ثم تقوم بترحيلها على كيسك الخاص... فلجأت أخيراً إلى تملق المتنفذين في الشرطة ليقنعوا صاحب الفخامة مدير مكتب الاستقدام الموقر- الذي تعاملت معه وراجعته شهراً ونصف دون فائدة- ليقنعوه بوجوب العودة إلى إنسانيته وآدميته والتنازل عن دعوى تزوير التقرير, ويقوم بتسفير الخادمة على حسابه الخاص لمرضها كما ينص عليه عقدهم المحترم الذي كل بنوده تصب في مصلحتهم فقط أما المواطن ففي ستين داهية! (والله يعوض عليك) كفافاً لا لك ولا عليك...
- قال: يا أخي.. لم يقع لي هذا.. و لا شيء منه..
- قلت: عرفتُ الآن..
هل نجح ابنك من الثانوية بتقدير ممتاز ومعدل 95,75% فوقف مثلما وقف حمار الشيخ رحمه الله (أعني الشيخ) في العقبة؛ فلم يُقبل في جامعة ولا كلية ولا مطعم ولا بقالة! لأنه لا يحمل بيده ورقة أخرى تسند تلك الشهادة.. بها توقيع يكاد يخرق الورقة من غلظته؛ لا يراه أحد إلاَّ قال:... أصبحنا وأصبح الملك لله!، حتى تمنيت أن ابنك لم ينجح ولم يحصل على هذا التقدير؟!...
- قال: يا أخي أنت اليوم في حالة مضحكة.. لم يحدث هذا ولا....(/1)
- قاطعته: قلت: إذن... المسألة أنك تخرجت أنت من الجامعة, جامعة (الإ…...................................) على قدر اسمها! بتقدير (جيد) لأنك أخفقت لوفاة والدك في أول فصل ولم يعذروك فلزمك العار حتى تخرجت بهذا التقدير.. فعطشت في طريق عودتك إلى منزلك, وجفَّ ريقك, ولم تكن تحمل معك محفظتك وبها نقودك, ومررت على بقالة وقدمت شهادتك للبائع.. تزخرفها كتابة بخط جميل يقول (بكالوريوس) فلم تسقك شربة ماء!...
فأردت أن تتقدم لنيل درجة الماجستير؛ فأصبحت أضحوكة في أروقة الجامعة...
ثم أردت أن تحفظ ماء وجهك؛ وتقدمت لوزارة المعارف لتكون معلماً محترماً.. فظنوك من مواليد عام 800هـ! وأتيت بمخطوطة في يدك تحتاج إلى من يفك رموزها.. ويحققها ويقابلها بأصلها.. ليعلم ما هي!, فخرجت وأنت مهموم مغموم.. فخطر على بالك أن ترفعها لتعطى رتبة على الكتف شعارها نجمة أو اثنتان وظننتَ أنها لا تزال تحتفظ بقيمتها التي كنت تذكرها قبل عقد من الزمان.. فقبلوها منك.. على شرط أن تلبس بدلة عسكرية نظيفة من كل شيء إلاَّ من حزام يشد وسطك لا غنى عنه!..
- قال: أمرك غريب.. مشكلتي.. اسمع بارك الله فيك سأقصها عليك..(/2)
من غزل الفقهاء
قال لي شيخ من المشايخ المتزمتين، وقد سقط إليه عدد من الرسالة، فيه مقالة لي في الحب.
مالك والحب، وأنت شيخ وأنت قاض، وليس يليق بالشيوخ والقضاة أن يتكلموا في الحب، أو يعرضوا للغزل؟! إنما يليق ذلك بالشعراء، وقد نزه الله نبيّه عن الشعر، وترفع العلماء وهم ورثة الأنبياء عنه، وصرح الشافعي أنه يزري بهم، ولولا ذلك كان أشعر من لبيد.
فضحكت، وقلت له.
أما قمت مرة في السحر، فأحسست نسيم الليل الناعش، وسكونه الناطق... وجماله الفاتن، فشعرت بعاطفة لا عهد لك بمثلها، ولا طاقة لك على وصفها؟
أما سمعت مرة في صفاء الليل نغمة عذبة، من مغنّ حاذق قد خرجت من قلبه، فهزّت منك وتر القلب، ومسّت حبّة الفؤاد؟
أما خلوت مرة بنفسك تفكر في الماضي فتذكر أفراحه وأتراحه، وإخوانا كانوا زينة الحياة فطواهم الثرى، وعهدا كان ربيع العمر فتصرم الربيع، فوجدت فراغا في نفسك، فتلفت تفتش عن هذا الماضي الذي ذهب ولن يعود؟
أما قرأت مرة قصة من قصص الحب، أو خبراً من أخبار البطولة فأحسست بمثل النار تمشي في أعصابك، وبمثل جناح الطير يخفق في صدرك؟
أما رأيت في الحياة مشاهد البؤس؟ أما أبصرت في الكون روائع الجمال؟ فمن هو الذي يصور مشاعرك هذه؟ من الذي يصف لذائذك النفسية وآلامك، وبؤسك ونعماءك؟ لن يصورها اللغويون ولا الفقهاء ولا المحدثون، ولا الأطباء ولا المهندسون. كل أولئك يعيشون مع الجسد والعقل، محبوسين في معقلهما، لا يسرحون في فضاء الأحلام، ولا يوغلون في أودية القلب، ولا يلجون عالم النفس... فمن هم أهل القلوب؟
إنهم الشعراء يا سيدي، وذلك هو الشعر!ـ
إن البشر يكدّون ويسعون، ويسيرون في صحراء الحياة، وقيد نواظرهم كواكب ثلاثة، هي هدفهم وإليها المسير، ومنها الهدي وهي السراج المنير، وهي الحقيقة والخير والجمال، وإن كوكب الجمال أزهاها وأبهاها، إن خفي صاحباه عن بعض الناس فما يخفى على أحد، وإن قصرت عن دركهما عيون فهو ملء كل عين، والجمال بعد أسّ الحقائق وأصل الفضائل، فلولا جمال الحقيقة ما طلبها العلماء، ولولا جمال الخير ما دعا إليه المصلحون. وهل ينازع في تفضيل الجمال إنسان؟ هل في الدنيا من يؤثر الدمنة المقفرة على الجنة المزهرة؟ والعجوز الشوهاء على الصبية الحسناء؟ والأسمال البالية على الحلل الغالية؟
فكيف يكون فيها من يكره الشعر (أعني الشعر الحق، الذي يجمع سمو المعنى، وموسيقى اللفظ، لا هذا الهذيان الذي نقرؤه الآن -الذي يدعونه الشعر الحديث- شعر الحدأثة أي الحدث الأكبر الذي لا يتطهر منه صاحبه إلا بالغسل)، وهو جمال القول، وفتنة الكلام؟ وهو لغة القلب فمن لم يفهمه لم يكن من ذوي القلوب. وهو صورة النفس، فمن لم يجد فيه صورته لم يكن إلا جماداً. وهو حديث الذكريات والآمال، فمن لم يذكر ماضيا، ولم يرج مستقبلا، ولم يعرف من نفسه لذة ولا ألما، فليس بإنسان.
من غزل الفقهاء
ومن قال لك يا سيدي إن الله نزه نبيه صلى الله عليه وسلم عن الشعر لأن الشعر قبيح؟ إنما نفى عنه أن يكون شاعرا كمن عرف العرب من الشعراء ورد عليهم قولهم: "إنه شاعر" لأن الشاعر يأتيه الوحي من داخل نفسه، والنبي يجيئه من السماء، وهذا الذي لم تدركه العرب، فقالوا قولتهم التي ردها الله عليهم!.ـ
وأين وجدت حرمة الشعر، أو مذمته من حيث هو كلام جميل، يصف شعورا نبيلا؟ إنما يقبح إذا اشتمل على الباطل، كما يقبح كل كلام يشتمل عليه.ـ
ومن أين عرفت أن العلماء قد ترفعوا عنه، والكتب مملوءة بالجيد من أشعارهم، في الحب والغزل ووصف النساء؟
أو ما سمعت بأن النبي صلى الله عليه وسلم أصغى إلى كعب وهو يهدر في قصيدته التي يتغزل فيها بسعاد… ويصفها بما لو ألقي عليك مثله لتورّعت عن سماعه… وتصاممت عنه ، وحسبت أن التقى يمنعك منه وذهبت تلوم عليه، وتنصح بالإقلاع عن قائله...ـ
وما سعاد غدة البين إذ برزت * * * كأنها منهل بالراح معلول
هيفاء مقبلة عجزاء مدبرة * * * لا يشتكي قصر منها ولا طول
وأن عمر كان يتمثّل بما تكره أنت.. من الشعر، وأن ابن عباس كان يصغي إلى إمام الغزلين عمر بن أبي ربيعة، ويروي شعره؟ وأن الحسن البصري كان يستشهد في مجلس وعظه، بقول الشاعر:ـ
اليوم عندك دلها وحديثها * * * وغدا لغيرك كفها والمعصم
وأن سعيد بن المسيب سمع مغنيا يغني:ـ
تضوع مسكا بطن نعمان إن مشت * * * به زينب في نسوة خفرات
فضرب برجله وقال: هذا والله مما يلذ استماعه، ثم قال:ـ
وليست كأخرى أوسعت جيب درعها * * * وأبدت بنان الكف للجمرات
وعالت فتات المسد وخفاً مرجّلا * * * على مثل بدر لاح في الظلمات
وقامت تراءى يوم جمع فأفتنت * * * برؤيتها من راح من عرفات
فكانوا يرون هذا الشعر لسعيد بن المسيب!.ـ
وما لي أدور وأسوق لك الأخبار، وعندنا شعراء كان شعرهم أرق من النسيم إذا أسرى، وأصفى من شعاع القمر، وأعذب من ماء الوصال، وهم كانوا أئمة الدين وأعلام الهدى.ـ
هذا عروة بن أذينة الفقيه المحدث شيخ الإمام مالك يقول:ـ(/1)
إن التي زعمت فؤادك ملها * * * خلقت هواك كما خلقت هوى لها
فبك الذي زعمت بها وكلاكما * * * يبدي لصاحبه الصبابة كلها
ويبيت بين جوانحي حبٌّ لها * * * لو كان تحت فراشها لأقلها
ولعمرها لو كان حبك فوقها * * * يوماً وقد ضحيت إذن لأظلها
وإذا وجدت لها وساوس سلوة * * * شفع الفؤاد إلى الضمير فسلها
بيضاء باكرها النعيم فصاغها * * * بلباقة فأدقها وأجلها
منعت تحيتها فقلت لصاحبي * * * ما كان أكثرها لنا وأقلها!
فدنا فقال ، لعلها معذورة * * * من أجل رقبتها، فقلت : لعلها
هذه الأبيات التي بلغ من إعجاب الناس بها أن أبا السائب المخزومي لما سمعها حلف أنه لا يأكل بها طعاما إلى الليل!.ـ
وهو القائل، وهذا من أروع الشعر وأحلاه، وهذا شعر شاعر لم ينطق بالشعر تقليدا، وإنما قال عن شعور، ونطق عن حب، فما يخفى كلام المحبين:ـ
قالت ( وأبثثتها وجدي فبحت به ): * * * قد كنت عندي تحب الستر، فاستتر
ألست تبصر من حولي؟ فقلت لها: * * * غطى هواك وما ألقى على بصري
هذا الشاعر الفقيه الذي أوقد الحب في قلبه نارا لا يطفئها إلا الوصال:ـ
إذا وجدت أوار الحب في كبدي * * * عمدت نحو سقاء الماء أبترد
هبني بردت ببرد الماء ظاهره * * * فمن لحر على الأحشاء يتّقد!؟
وهذا عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، أحد فقهاء المدينة السبعة الذين انتهى إليهم العلم، وكان عمر بن عبد العزيز يقول في خلافته: لمجلس من عبيد الله لو كان حيا، أحب إلي من الدنيا وما فيها. وإني لأشتري ليلة من ليالي عبيد الله بألف دينار من بيت المال، فقالوا: يا أمير المؤمنين، تقول هذا مع شدة تحريك وشدة تحفظك؟ قال: أين يذهب بكم؟ والله إني لأعود برأيه ونصيحته ومشورته على بيت المال بألوف وألوف. وكان الزهري يقول: سمعت من العلم شيئا كثيرا، فظننت أني اكتفيت حتى لقيت عبيد الله فإذا كأني ليس في يدي شيء!.ـ
وهو مع ذلك الشاعر الغزل الذي يقول:ـ
شققت القلب ثم ذررت فيه * * * هواك فليم فالتمام الفطور
تغلغل حب عشمة في فؤادي * * * فباديه مع الخافي يسير
تغلغل حيث لم يبلغ شراب * * * ولا حزن ولم يبلغ سرور
أفسمعت بأعمق من هذا الحب وأعلق منه بالقلب؟ ولم يكن يخفي ما في قلبه، بل كان إذا لقيه ابن المسيب فسأله: أأنت الفقيه الشاعر؟ يقول: "لا بد للمصدور من أن ينفث" فلا ينكر عليه ابن المسيب. وهو القائل:ـ
كتمت الهوى حتى أضر بك الكتم * * * ولامك أقوام ولومهم ظلم
ونمّ عليك الكاشحون و قبلهم * * * عليك الهوى قد نم لو نفع النم
وزادك إغراء بها طول بخلها * * * عليك وأبلى لحم أعظمك الهم
فأصبحت كالنهدي إذ مات حسرة * * * على إثر هند أو كمن سقي السم
ألا من لنفس لا تموت فينقضي * * * شقاها ولا تحيا حياة لها طعم
تجنبت إتيان الحبيب تأثما * * * ألا إن هجران الحبيب هو الإثم
فذق هجرها إن كنت تزعم أنه * * * رشاد ألا يا ربما كذب الزعم
ألا إن هذا هو الشعر!.ـ
واسمع يا سيدي أنشدك ما يحضرني من غزل الفقهاء، لا أستقصي ولا أعمد إلى الترتيب، وإنما أروي لك ما يجيئني، وما يدنو مني مصدره. هذا أبو السعادات أسعد بن يحيى السنجاري الفقيه الشافعي المتوفى سنة 622 هـ فاسمع من شعره ما ترقص منه القلوب، وتطرب الألباب: حلاوة ألفاظ، وبراعة معنى، وحسن أسلوب، قال من قصيدة له:ـ
وهواك ما خطر السلو بباله * * * ولأنت أعلم في الغرام بحاله
ومتى وشى واش إليك بأنه * * * سال هواك فذاك من عذاله
أوليس للكلف المعنى شاهد * * * من حاله يغنيك عن تسآله
جددت ثوب سقامه، وهتكت * * * ستر غرامه، وصرمت حبل وصاله
أفزلة سبقت له أم خلة * * * مألوفة من تيهه ودلاله
أوما سمعت شعر الشيخ الشهرزوري الصوفي هاك منه قوله:ـ
فعاودت قلبي أسأل الصبر وقفة * * * عليها فلا قلبي وجدت ولا صبري
وغابت شموس الوصل عني وأظلمت * * * مسالكه حتى تحيرت في أمري
وهاك قول ظهير الدين الأهوازي الوزير الفقيه، تلميذ أبي أسحق الشيرازي:ـ
وإني لأبدي في هواك تجلدا * * * وفي القلب مني لوعة وغليل
فلا تحسبن أني سلوت فربما * * * ترى صحة بالمرء وهو عليل
وقول أبي القاسم القشيري الإمام الصوفي العلم:ـ
لو كنت ساعة بيننا ما بيننا * * * ورأيت كيف تكرر التوديعا
لعلمت أن من الدموع محدثا * * * وعلمت أن من الحديث دموعا
والبيت الثاني من مرقصات الشعر.ـ
وكان مع ذلك علامة في الفقه والتفسير والحديث ومن فقهاء الشافعية الكبار، وهو صاحب الرسالة التي يعتدها الصوفية ككتاب سيبويه عند النحويين، ولا ينصرف الإطلاق إلا لها، ومن شعره:ـ
ومن كان في طول الهوى ذاق لذة * * * فإني من ليلى لها غير ذائق
وأكثر شيء نلته من وصالها * * * أماني لم تصدق كخطفة بارق
ومن شعر القاضي عبد الوهاب المالكي الفقيه المشهور المتوفى سنة 422 والمدفون في قرافة مصر، وصاحب الخبر المستفيض لما خرج من بغداد وخرج أهلها لوداعه وهم يبكون ويعولون وهو يقول: والله يا أهل بغداد، لو وجدت عندكم رغيفا كل يوم ما فارقتكم. ويقول:ـ(/2)
سلام على بغداد في كل موطن * * * وحق لها مني سلام مضاعف
فوا الله ما فارقتها عن قلى لها * * * وإني بشطي جانبيها لعارف
ولكنها ضاقت علي بأسرها * * * ولم تكن الأرزاق فيها تساعف
وكانت كخل كنت أهوى دنوه * * * وأخلاقه تنأى به وتخالف
ويقول فيها:ـ
بغداد دار لأهل المال طيبة * * * وللمفاليس دار الضنك والضيق
ظللت حيران أمشي في أزقتها * * * كأنني مصحف في بيت زنديق
وهو معنى جيد وتشبيه عجيب. وهو القائل:ـ
متى يصل العطاش إلى ارتواء * * * إذا استقت البحار من الركايا
ومن يثني الأصاغر عن مراد * * * وقد جلس الأكابر في الزوايا
وإنَّ ترفع الوضعاء يوما * * * على الرفعاء من إحدى الرزايا
إذا استوت الأسافل والأعالي * * * فقد طابت منادمة المنايا
ومن غزله الذي يتغزل فيه بلغة الفقه والقضاء، فيأتي فيه بالمرقص المطرب قوله:ـ
ونائمة قبّلتها فتنبهت * * * وقالت تعالوا واطلبوا اللص بالحد
فقلت لها إني (فديتك) غاصب * * * وما حكموا في غاصب بسوى الرد
خذيها وكفي عن أثيم ظلامة * * * وإن أنت لم ترضي فألفا على العد
فقالت قصاص يشهد العقل أنه * * * على كبد الجاني ألذ من الشهد
فباتت يميني وهي هميان خصرها! * * * وباتت يساري وهي واسطة العقد
فقالت ألم تخبر بأنك زاهد؟ * * * فقلت: بلى ما زلت أزهد في الزهد
وهاك القاضي الجرجاني مؤلف (الوساطة) علي بن عبد العزيز الفقيه الشافعي، الذي ذكره الشيرازي في طبقات الفقهاء صاحب الأبيات المعلمة المشهورة:ـ
يقولون: لي فيك انقباض، وإنما * * * رأوا رجلا عن موقف الذل أحجما
أرى الناس من داناهم هان عندهم * * * ومن أكرمته عزة النفس أكرما
وما كل برق لاح لي يستفزني * * * ولا كل من لاقيت أرضاه منعما
وإني إذا فاتني الأمر لم أبت * * * أقلب طرفي إثره متندما
ولكنه إن جاء عفواً قبلته * * * وإن مال لم أتبعه لولا وربما
وأقبض خطوي عن أمور كثيرة * * * إذا لم أنلها وافر العرض مكرما
وأكرم نفسي أن أضاحك عابساً * * * وأن أتلقى بالمديح مذمما
ولو أن أهل العلم صانوه صانهم * * * ولو عظموه في النفوس لعَظّما
ولكن أهانوه فهان ودنسوا * * * محياه بالأطماع حتى تجهما
أأشقى به غرساً وأجنيه ذلة؟ * * * إذن فاتباع الجهل قد كان أحزما
ويا ليت كل عالم ينقش هذه الأبيات في صدر مجلسه، وعلى صفحة قلبه، ويجعلها دستوره في حياته، وإمامه في خلائقه!.ـ
والأبيات الأخرى:ـ
وقالوا: توصل بالخضوع إلى الغنى * * * وما علموا أن الخضوع هو الفقر
وبيني وبين المال شيئان حرما * * * عليّ الغنى: نفسي الأبية والدهر
إذا قيل هذا اليسر أبصرت دونه * * * مواقف خير من وقوفي بها العسر
وله في هذا المعنى الشعر الكثير الجيد، أما غزله فسهل حلو ومنه قوله:ـ
ما لي وما لك يا فراق * * * أبداً رحيل وانطلاق
يا نفس موتي بعدهم * * * فكذا يكون الاشتياق
وقوله:ـ
قد برح الحب بمشتاقك * * * فأَوْلِهِ أحسن أخلاقك
لا تجفه وارع له حقه * * * فإنه آخر عشاقك
وهاك القاضي سوار (الأصغر) بن عبد الله من أهل القرن الثالث الذي يقول:ـ
سلبت عظامي لحمها فتركتها * * * عوارى في أجلادها تتكسر
وأخليت منها مخّها فكأنها * * * أنابيب في أجوافها الريح تصفر
إذا سمعت باسم الفراق ترعّدت * * * مفاصلها من هول ما تتحذر
خذي بيدي ثم اكشفي الثوب فانظري * * * بلى جسدي لكنني أتستر !
وليس الذي يجري من العين ماءها * * * ولكنها روح تذوب فتقطر
وهاك قاضي القضاة ابن خلكان المشهور، وكان يعشق ابن الملك المسعود بن المظفر، وكان قد تيمه حبه، قال القاضي التبريزي: كنت عنده في العادلية (دار المجمع العلمي اليوم) في بعض الليالي، فلما انصرف الناس من عنده قال لي: نم أنت ههنا. وألقى علي فروة، وقام يدور حول البركة، ويكرر هذين البيتين إلى أن أصبحنا فتوضأنا وصلينا، والبيتان هما:ـ
أنا والله هالك * * * آيس من سلامتي
أو أرى القامة التي * * * قد أقامت قيامتي
ولما فشا أمره، منع الملك ابنه من الركوب، فاشتد ذلك على ابن خلكان، فكان مما قال:ـ
إن لم تجودوا بالوصال تعطفاً * * * ورأيتم هجري وفرط تجنبي
لا تمنعوا عيني القريحة أن ترى * * * يوم الخميس جمالكم في الموكب
لو كنت تعلم يا حبيبي ما الذي * * * ألقاه من كمد إذا لم تركب
لرحمتني ورثيت لي من حالة * * * لولاك لم يك حملها من مذهبي
ومن البلية والرزية أنني * * * أقضي ولا تدري الذي قد حل بي*
قسماً بوجهك وهو بدر طالع * * * وبليل طرَّتك التي كالغيهب
لو لم أكن في رتبة أرعى لها * * * العهد القديم صيانة للمنصب
لهتكت ستري في هواك ولذ لي * * * خلع العذار ولو ألح مؤنبي
لكن خشيت بأن يقول عواذلي * * * قد جن هذا الشيخ في هذا الصبي
ـ((*بل البلية والله أن يكون قاضيا ويعشق الغلمان، هذا مع الثقة بدينه، وأنه لا يطلب حراما ولا يأتيه مختارا -غفر له الله))ـ
فارحم فديتك حرقة قد قاربت * * * كشف القناع بحق ذِيَّاك النبي
لا تفضحن بحبك الصبَّ الذي * * * جرعته في الحب أكدر مشرب(/3)
وله فيه شعر كثير جدا.ـ
ومن شعر محمد بن داوود الظاهري، مؤلف كتاب (الزهرة) في الحب، وكان فقيها على مذهب أبيه داوود وكان شاعرا:ـ
أنزه في روض المحاسن مقلتي * * * وأمنع نفسي أن تنال محرما
وأحمل من ثقل الهوى ما لو أنه * * * يصب على الصخر الأصم تهدما
ومن شعر أبي الفضل الحصكفي الفقيه الشافعي:ـ
أشكو إلى الله من نارين: واحدة * * * في وجنتيه وأخرى منه في كبدي
ومن سقامين: سقم قد أحل دمي * * * من الجفون وسقم حل في جسدي
ومن نمومين: دمعي حين أذكره * * * يذيع سري وواش منه بالرصد
ومن ضعيفين: صبري حين أبصره * * * ووده ويراه الناس طوع يدي
ولو ابتغيت الاستقصاء، وتتبعت المراجع، لجمعت من غزل الفقهاء كتابا، فأين هذا مما يزعمون أن الفقهاء كرهوا الشعر، وتنزهوا عنه؟
أما إنها لم تفل ألسنة علمائنا، ولم تكل أقلامهم، ولم تخفت أصواتهم، إلا حين أضاعوا ملكة البيان، وزهدوا في الأدب، وحقروا الشعر... فهل لعلمائنا عودة إلى ما هم أخلق به، وأدنى إليه، وأقدر لو أرادوه عليه؟! مع الديانة والصيانة وأنهم (يقولون ما لا يفعلون) وما لا يدفع إلى ما يأباه الدين.ـ(/4)
من غلبت آحادُه أعشارَه الشيخ الأمين الحاج محمد أحمد*
"كل عبادي يدخلون الجنة إلا من أبى"، قيل: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: "من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى" ......فضائل الله على هذه الأمة كثيرة، وآلاؤه عظيمة، من ذلك أن عوضها عن قصر أعمارها بالنسبة لمن سبقها من الأمم بكثرة مواسم الخير، وبمضاعفة الأجور والحسنات، وبرفع الحرج عنها، والآصار والأغلال التي كانت على من قبلها.من ذلك تضعيف الحسنات، وغفران الزلات، وتبديل السيئات حسنات.فمن جاء بحسنة واحدة فله أحد ثلاثة أمور:
إما عشر أمثالها.
وإما سبعمائة ضعف.
وإما إلى ما شاء الله.
لا فرق بين الإنفاق في سبيل الله وغيره، بل هناك أعمال يوفى أصحابها بغير حساب، كالصوم.ومن هَمَّ بحسنة ولم يعملها كتبت له حسنة، ومن هَمَّ بسيئة فعملها كتبت له سيئة، وإن تركها من أجل الله كتبت له حسنة.ومن اقترف سيئة فله أحد ثلاثة أمور كذلك:
إما أن تكتب له سيئة.
وإما أن يغفرها الله له.
وإما أن تستبدل له حسنة.
قال تعالى: "مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ".وقال: "مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ".وقال: "مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ".وقال: "إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ". وفي الخبر المرفوع: "الحسنة بعشر أمثالها أوأزيد، والسيئة واحدة وأغفر، فويل لمن غلبت آحادُه أعشارَه".آية البقرة السابقة تبين أن التضعيف إلى سبعمائة ضعف وإلى ما شاء الله خاص بنفقة الجهاد في سبيل الله، والخبر يوضح أن الزيادة على العشرة يشمل جميع أعمال الخير، وليس هذا على الله بعزيز.قال القرطبي رحمه الله: (ورد القرآن بأن الحسنة في جميع أعمال البر بعشر أمثالها، واقتضت هذه الآية أن نفقة الجهاد حسنتها بسبعمائة ضعف، واختلف العلماء في معنى قوله: "وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء"، فقالت طائفة: هي مبينة مؤكدة لما تقدم من ذكر السبعمائة، وليس ثم تضعيف فوق السبعمائة، وقالت طائفة من العلماء: بل هي إعلام بأن الله يضاعف لمن يشاء أكثر من سبعمائة ضعف. قلت: (وهذا القول أصح)
وقال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله: (فجزاء السيئة سيئة واحدة مثلها، وجزاء الحسنة على أقل التقديرات عشرة أمثال، فمن غلبت آحادُه عشراتِه فلا خير فيه، ولا يهلك على الله إلا هالك، لأن هذه الحنيفية السمحة التي جاء بها سيد ولد آدم عليه الصلاة والسلام، هيأ الله فيها طريق الجنة ويسرها تيسيراً عجيباً، رفع فيها الأثقال والآصار والتكاليف، من شق عليه السفر فليفطر، وليقصر الصلاة، ومن لم يقدر على الصلاة قائماً صلى قاعداً، وهكذا في أنواع التخفيف، فمع هذا فالحسنة تكتب له بعشر حسنات، والسيئة إنما تكتب عليه واحدة مثلها، ومن هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة، ومن هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه، بل قد تكون حسنة إن كان تركه لها لأجل ابتغاء مرضاة الله.
فهذه الآيات من أعظم المبشرات للمسلمين، لأن جميع حسناتهم عند الوزن الذي قال الله: "وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ"، إذا كانت حسنتك تضاعف عشر مرات، وسيئتك إنما تجازى بسيئة واحدة مثلها، ففي هذا أعظم البشارة للمسلمين، وعليهم أن يكثروا من الحسنات، ومن الحكم العظيمة وجوامع الكلم قوله صلى الله عليه وسلم: "واتبع الحسنة السيئة تمحها"). لقد كثر الله سبل دخول الجنة ويسرها حتى جعلها أقرب لأحدنا من شراك نعله لمن وفقه الله، وكذلك النار أقرب لأحدنا من شراك نعله لمن لم يلطف به ربه، وأتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني الكاذبة.فالسعيد من جد وشمَّر، وحاسب نفسه، وراقب حاله، وأكثر من الحسنات، وحذر من السيئات، واستعان على ذلك بكثرة التوبة والإنابة لرب الأرض والسموات، وعافاه الله من التسويف.اللهم إنا نسألك الجنة وما يقرب إليها من قول أوعمل، ونعوذ بك من النار وما يقرب إليها من قول أوعمل، والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، وصلى الله وسلم على من دل أمته على كل خير، وحذرهم ونهاهم عن كل شر، وعلى آله، وأصحابه، والتابعين لهم بإحسان، إلى أن تكتمل العدتان.(/1)
من فقه الأولين النصر ساعة صبر !!
* عبد الله فرج الله
النصر.. صبر ساعة، أو ساعة صبر، هذا ما أكده الأولون من سلفنا الصالح، الذين ذاقوا طعم النصر، بعد أن ساروا في دروبه، وخاضوا ميادينه، فهم وحدهم من يملك حق الكلام في «النصر» تنظيراً وتأطيراً، أما الذين لم يتذوقوا إلا طعم الهزائم، ولم يعيشوا «النصر» إلا من خلال الخطابات الجوفاء، والشعارات الزائفة، التي لا تسد جوعة، ولا ترجع مغتصباً، ولا تردع ظالماً،. فلا يحق لهم غير الصمت، وإن تجرءوا على الكلام أن يخرسوا.. فللذين انتصروا، فكان لهم في ميادين البطولات جولات وصولات، نصيخ السمع، ونحني الهامات، إجلالاً وإكباراً..
أما الذين غدا النصر عندهم خطبة رنانة، أو مقالة مطولة، أو قصيدة عصماء، أو مبادرة ذليلة، أو معاهدة تنازل، أو مؤتمر استجداء، نقول لهم : أخطأتم الطريق.. فلن يكون النصر أبداً ثمرة حرب «السلام والمبادرات والمؤتمرات» كما تزعمون، بل لن يكون السلام أو المبادرات أو المؤتمرات حرباً في يوم من الأيام، مهما روج لذل ك إعلامكم، وانطلقت به شياطينكم، وجعجعت به أبواقكم..
فالنصر -وهذا إيماننا المطلق- ساعة صبر، ويالها من ساعة، إنها أم الساعات، بله هي الساعات كلها، إنها كبرى الساعات وأعظمها، ساعة التضحيات الجسام، ساعة بذل الأرواح، ساعة الدماء النازفة، ساعة الجوع والحصار، ساعة الدموع والآلام، ساعة الوداع والفراق، ساعة الموت الزؤام، ساعة العصف والقصف، ساعة تهدم فيها البيوت، وتدك الحصون ، وتيتم الصبايا، وترمل النساء، وتثكل الأمهات.. إنها ساعة الزلزلة والخوف والهلع، ساعة تبلغ فيها القلوب الحناجر..
هذا هو ثمن النصر.. وهذا هو إيماننا، لا نصر بدون هذا كله، ومن ظن النصر غير هذا، فليبحث له عن مكان آخر، فليس في هذه الدنيا مكانه، وليس هذا الزمان زمانه..
فهنيئاً للقابضين على الحجر..
فهذه ساعة الصبر..
والنصر.. على مرمى حجر..
لا تسمعوا صوت الناعبين..
فالنصر مع الصبر
لكن بعد حين..
قسماً هذا هو اليقين..
قسماً هذا هو اليقين..
فالنصر العظيم هذه ساعته..
والتضحيات الجسام يا أهلنا هي ساحته(/1)
من فقه الائتلاف
د. سليمان بن حمد العودة*
يعيش العالم الإسلامي اليوم على قمم الحضارة والمدنية، ولكنه يعيش أيضاً في ظل أعتى الحروب القِيمية الطاحنة.
كان الإسلام بقوته والمسلمون بضعفهم أول مستهدف في هذه الحرب، إلاّ أن الناظر يعجب كيف يكون هذا بين تلك القوى الضخمة وما يُواجههم من إمكانات ضئيلة بالمقياس البشري، ولكن ما أن ينظر إلى الكفة الأخرى فيدرك جانب القوة عند المسلمين.. إن المسلمين وإن لم يملكوا العتاد والقوة فإنهم يملكون رصيداً هائلاً من القيم التي عادة ما تَرْجحُ بكفة الميزان.
من هنا كان العمل الإسلامي يتربع على كرسي القيادة في الصف الإسلامي، فلا عجب أن تعقد اللقاءات والمؤتمرات للتباحث في هذا الشأن، ومن الوعي والسبق أن يكون محور التباحث حول سبل الاتفاق وعوامل الافتراق في العمل الإسلامي.
العمل الإسلامي ــ كغيره من الأعمال ــ قائم على أساس بشري يعتريه ما يعتري أعمال البشر من القصور والتقصير.
ولإن كان العمل الإسلامي قد خطى خطوات فاعلة فيما مضى إلا أن التحديات المعاصرة تفرض مزيداً من التأمل وإعادة النظر مرة بعد مرة.
العالم اليوم بمؤسساته السياسية والاقتصادية يسعى حثيثاً نحو التكتل والتجمع ولو على أدنى مستوى من دواعي الشراكة، والعولمة أبرز مظاهر هذا التكتل، وسنة الله الكونية أن الاجتماع قوة والفرقة ضعف وخور، وقد كان يقال الكثرة تغلب الشجاعة، وأولى الناس بالاجتماع أهل الحق ليبلغوا ما أُمروا به من البلاغ وليقوموا بواجب الرسل الذين اتحدت كلمتهم (وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون) وهم أبناء علات أبوهم واحد وأمهاتهم شتى.
وهذا الإجماع والاجتماع العالمي على الإسلام، وهذه الفريات المتوالية على المسلمين وقيمهم، فرصة لجمع الشتات ووحدة الصف إذ أن الفرية التي لا تقتلك تقويك.
وقد كانت الآمال تولد من أرحام الآمال وقد قال الله فيما أنزل على عبده:
(فإن مع العسر يسراً إن مع العسر يسرا)، فجعل اليسر قرين العسر ولن يغلب عسر يسرين.
إن الدارس لتاريخ الأمم والشعوب يرى أنها مرت بنوبات فتور وركود، لكنها ما أن تتحد على كلمةٍ سواء حتى تستعيد عافيتها وعزها.
والمشروعات النهضوية هي أبنية ضخمة لا تتقيد بمحدودية عمر إنسان واحد، بل ولا حتى بلد واحد، فما لم تُعتمَد استراتيجية إكمالِ ما بُدِء وتحسين ما أُنشئ فستظل محاولات مبعثرة آيلة للسقوط في أي ظرف.
وحينما تتقاطع المشروعات الإسلامية تتحول مع الزمن من مهام البناء إلى مهام انتهاز الفرص للإجهاز على الخصم والإطاحة به، وأول خاسر في هذه المعركة القيم التي بنيت عليها تلك المشروعات، أما إذا تآلفت وتصالحت قام البنيان الشامخ وصارت أمة البنيان المرصوص..
ولقد حث الشارع على الاجتماع ونبذ الفرقة والخصام، ففي شعائر الدين الظاهرة تلحظ هذا المعنى بجلاء؛ فالصلاة والحج والصوم والجمعة والعيدين وغيرها قامت على الاجتماع والتوحد.
وحث الشارع على لزوم طاعة من ولاه الله الأمر، ورتب على الطاعة أجراً، وحذر أشد التحذير من شق هذه العصا، بل من مات مفارقاً للجماعة مات ميتةً جاهلية، أما إذا اشتدت الكروب وضاقت السبل فتأكد هذه الدعوة.. ألا ترى أن الله أكد في سورة الأنفال التي كان ابن عباس رضي الله عنه يقول: تلك سورة بدر أكد فيها على الاجتماع (يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم)، (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم).
وكان من أول المشروعات المحمدية في المدينة المؤآخاة التي تجاوزت حدود الحياة إلى الموت فكان التوارث بين الإخوة في الله مشروعاً ثم نسخ.
وكان أول عمل قام به محمد صلى الله عليه وسلم في المدينة بناء المسجد؛ ليكون المركز الإسلامي الذي ينطلق منه إشعاع النور والهدى.
إن التكتلات البشرية ــ أياً ما كانت ــ فهي تتمحور حول قاعدة من المسلمات التي لا تقبل الجدل، والله تعالى لما أمر بالاعتصام أمر بأن يكون ذلك بحبله (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا).
وأشد من تُلهبه نار الفرقة والافتراق هم الأتباع وهؤلاء هم السواد الأعظم وهم القيمة الفاعلة في أممهم.
وفي سبيل تحقيق هذا التوافق وتنميته لا بد من معرفة دواعي الافتراق ووضع اليد عليها، فصرف الدواء إنما يكون بعد تشخيص الداء. ومعرفتنا للأسباب هي في ذات الوقت علاج؛ لأننا متى ما شئنا أن نخلي الساقية من الماء فلنبادر إلى ما يمدّها فنوقفه.(/1)
والتجرد لله من الحظوظ والشهوات، خاصة ما خفي منها كحب الترأس والظهور، من أعمق الأسس في هذا الشأن، فلم يمنع عمر وكبار الصحابة رضوان الله عليهم أن يراجعوا الحق لما استبان لهم على لسان أبي بكر رضي الله عنه، ولما اختلف الصحابة في بدر وأمر الله بالإصلاح ثنَّى ذلك بصفات المؤمنين (إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون أولئك هم المؤمنون حقاً).
والولاء والبراء عقد شرعي لا يشترط فيه مطلق التوافق فالله سمى الطائفتين المقتتلتين باسم الإيمان، ثم أعقب تلك الآية بالأمر بالإصلاح بين الإخوة المؤمنين، وأمر هنا أيضاً بالتقوى.
إن كثيراً من الخلاف المسبب للافتراق خلافٌ حول مسائل يسع الخلاف فيها، ولا تعدُ أن تكون وجهات نظر قابلة للأخذ والرد، وهذا الحماس المفرط للاجتهادات يؤدي في أحيان كثيرة إلى شقاق وفرقة.
ولا بد في سبيل توحيد الصف من وجود قيادات علمية راشدة تكون محط ثقة فينفتل منها المختلفون بنفوس مرضية.
أيها الأخوة.. إنه إذا لم يمكن التوافق فلا أقل من السير في خطوط متوازية، إن لم تتفق فلا أقل من أن لا تتقاطع، وقاعدة الشريعة العامة أنه لا واجب مع العجز وأن التكليف بقدر الوسع.
إن إثارة فقه الائتلاف على مستوى المؤسسات والأفراد أمرٌ بات من ضروريات العمل الإسلامي ونحن اليوم بأمس الحاجة إلى تداول هذا الفقه وبكثافة.
وهنا أمر مهم إذ لا بد من التفكير بجدية في واقع الجيل الصاعد حيال فقه التوافق والاختلاف حتى لا تتكرر الأخطاء ولا نزال بحمد الله نرى نماذجاً لمشروعات جادة قامت على الاتحاد فأفلحت في مسيرتها وجنت ثمار زرعها.
ولا بد في هذا الصدد من تأمل هدي القرآن والسنة في الأمر بالعدل مع الصديق والعدو، ومن قراءة متأنية في السيرة النبوية وتراجم السلف وهدي العلماء في الائتلاف.
إن العدل سمةٌ مميزةٌ لشريعتنا، عاش في كنفها البرُّ والفاجرُ، والمسلمُ والكافرُ، كل هؤلاء بالعدل يُحكمون ولا يُظلمون، حتى وإن أبغضنا الكافر فنحن مأمورون بالعدل معه، ذلك توجيه ربنا في كتابه العزيز: (ولا يجرمنكم شنئان قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى).
قال ابن تيمية رحمه الله: وهذه الآية نزلت بسبب بغضهم للكفار، وهو بغض مأمورٌ به، فإذا كان البغضُ الذي أمر الله به قد نُهيَ صاحبه أن يظلم من أبغضه، فكيف في بغض مسلم بتأويلٍ وشبهةٍ أو بهوى نفس ؟ فهو أحقُّ أن لا يُظلم، بل يُعدل عليه(1).
لقد فاق المسلمون في تاريخنا المجيد غيرهم في العدل، وتجاوزوا بعدلهم أهل الملة من المسلمين إلى أهل الذمة من اليهود والنصارى، ويُذكر أن عمر بن عبدالعزيز رحمه الله كتب إلى واليه على البصرة يقول له: "ثم انظر من قِبَلك من أهل الذمة قد كَبُرت سِنُّه، وضعفت قوته وولّت عنه المكاسبُ، فأجرِ عليه من بيت مال المسلمين ما يصلحه وذلك أنه بلغني أن أمير المؤمنين عمرَ رضي الله عنه مرّ بشيخ من أهل الذمةِ يسألُ على أبواب الناسِ فقال: ما أنصفناك إن كنَّا أخذنا منك الجزية في شبيبتك ثم ضيّعناك في كِبرك، ثم أجري من بيت المال ما يصلحه"(2).
إن من مظاهر العدل قبول الحقِّ ممن جاء به، فالعبرة بالقولِ لا بالقائل، وفي قصة الشيطان مع أبي هريرة رضي الله عنه حين وكَّله الرسول صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان، ومجيء الشيطان إليه أكثر من مرة حتى علّمه أن يقرأ آية الكرسي إذا أوى إلى فراشه، وأنه بذلك يكون محفوظاً من الله ولا يقربه شيطانٌ حتى يصبح، في هذه القصة صدَّق الرسول صلى الله عليه وسلم القول وإن صدرَ من الشيطان حيث قال: ((أما إنه قد صدقك وهو كذوب))(3).
ومن فقه هذا الحديث وفوائده ــ كما قال ابن حجر رحمه الله ــ: إن الحكمة قد يتلقّاها الفاجرُ فلا ينتفع بها، وتؤخذُ عنه فينتفع بها، وإن الكافرَ قد يصدق ببعض ما يصدق به المؤمن ولا يكون بذلك مؤمناً، وبأن الكذّاب قد يصدُقُ(4).
وفي هذا الصدد يُذكرُ من وصايا ابن مسعود رضي الله عنه قوله لرجل قال له: أوصني بكلماتٍ جوامع، فكان مما أوصاه به أن قال: ومن أتاك بحقٍّ فاقبلْ منه وإن كان بعيداً بغيضاً، ومن أتاك بالباطل فاردُدْه وإن كان قريباً حبيباً(5).
إننا حين نفقدُ هذا الميزانَ في قبول الحقِّ قد نرفض حقاً، لأنه جاء من شخص نبغضه أو لا نهواه، أو لا نرتضي منهجه بشكل عام، علماً بأن قبول الحق الذي جاء به لا يعني موافقته في كل شيء، ولا الرضى عنه فيما يخطئُ فيه، وقد يضطرنا هذا الخلل في العدلِ في قبول الحقّ ورفض الباطل.. لقبول زلّة خطأٍ من شخصِ نحبه، ونرتضي منهجه علماً بأن رفضنا لهذه الزلَّة والخطأ منه، لا يعني بغضه ولا الانتقاص من قدره، ولا رفض بقية الحقِّ الذي جاء به.(/2)
إنه العدل الذي ينبغي أن نأخذ أنفسنا به، ونتمنى به أن يُجري الله الحقَّ على ألسنتنا وألسنة خصومنا، وكم هو عظيمٌ الإمامُ الشافعيُّ رحمه الله حين قال: "ما ناظرت أحداً إلا قلتُ: اللهمّ أجرِ الحقّ على قلبه ولسانه، فإن كان الحقُّ معي اتبعني، وإن كان الحقُّ معه اتبعته"(6).
وأين هذا يا مسلمون ممن يتمنون انحراف خصومهم، أو يرمون مخالفيهم بالباطل، ويتهمونهم وينفّرون الناس منهم، وهم مسلمون، بل قد يكونون علماء، وقد يكون ما معهم من الحق أكثر من خصومهم، فإلى الله المشتكى، وكم يتلاعبُ الشيطان أحياناً ببعض المحبين وكم يخطئُ هؤلاء وينسفون قواعد العدل وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، وكم نظلم أنفسنا ونظلم غيرنا بتصنيف هذا، وتجريح ذاك، واتهام ثالث وإشعال معارك وهمية بين نفرٍ من المسلمين، الكاسبُ الأول والأخير منها هم الأعداء المتربِّصون والخاسر الأكبر هم المعتدون الفاقدون للعدل والإنصاف..
وإن كانت الخسارة تعمُّ والفتنة تقع على المسلمين! وأين نحن من هذا الموقف البديع والعدلِ حتى مع غير المسلمين يقدمه لنا شيخُ الإسلام ابن تيمية بسلوكه العمليِّ، فهو حين سعى بإطلاق سراح أسرى المسلمين من التتار أصرَّ كذلك على إطلاق سراح المأسورين من أهل الذمة قائلاً لمسؤول التتر: "بل جميع من معك من اليهود والنصارى الذين هم أهل ذمَتنا، فإنا نفكُّهم ولا ندعُ أسيراً لا من أهل الملَّة ولا من أهل الذمة"(7).
فإذا أنصفَ هذا العالمُ الربّاني وعدلَ مع غير المسلمين، وكان سبباً لفكّ أسرهم، فماذا يقولُ من يسعى للوقيعة بإخوانه المسلمين ويتمنّى الضُّرَّ لهم بشكلٍ أو بآخر؟
إن من قواعد الائتلاف إنصاف عامة المسلمين وخاصتهم.. فكيف السبيلُ لهذا الإنصاف؟
إن مما لا شك فيه أن المسلمين ــ قديماً وحديثاً ــ يتفاوتون في مراتب الإيمان، فهناك من هم في الذروة من الإيمان، وهناك من هم في أدنى درجات الإيمان، وهناك طائفةٌ في الوسط بين هؤلاء وأولئك، ولكن الجميع تجمعهم رابطة الإسلام، وحسابهم على الله، وما لم يخرج المسلم من الملة، فإن له حقاً في الموالاة على قدر إيمانه.
وما من شك كذلك أن الفرقة الناجية من خيرة المسلمين، وهم أهل السنة والجماعة الذين قالوا وعملوا بالكتاب والسُّنة.
ولكن دائرة المؤمنين تتسعُ لتشملَ غيرَ الفرقة الناجية من عُصاة المسلمين ومن وجد عندهم نوع انحراف.. لكنهم في دائرة الإسلام.. وهذا ما نص عليه الشيخُ ابن تيمية رحمه الله حين قال: "وإذا قال المؤمن: ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، يقصد كل من سبقه من قرون الأمة بالإيمان، وإن كان قد أخطأ في تأويل تأوّله فخالف السنة، أو أذنب ذنباً، فإنه من إخوانه الذين سبقوه بالإيمان، فيدخل في العموم، وإن كان من الثنتين والسبعين فرقةً، فإنه ما من فرقةٍ إلا وفيها خلقٌ كثيرٌ ليسوا كفاراً، بل مؤمنون فيهم ضلالٌ وذنبٌ يستحقون به الوعيد كما يستحقه عصاةُ المؤمنين"(8).
أيها المؤتمرون: وفي سبيل الائتلاف بين المسلمين أرشدَ العلماءُ إلى عددٍ من القواعد والآداب لا بدَّ من مراعاتها والوقوف عندها، ومنها:
(1) أنهم لا يُخرجون مسلماً من الملّة إلا بتوفّر الشروط وانتفاء الموانع.
(2) ويرون أن الخطأ في الحكم بالإيمان أهونُ من الحكم بالكفر.
(3) وهم يتحفظون ويتحوّطون أكثر عند تكفير فردٍ بعينه أو لعنه.
(4) بل ولا يتسرعون في التكفير، وإن خطّأوا بدَّعوا أو فَسَّقوا.
(5) وفي مسائل الاجتهاد يرونَ أنه لا تأثيم ولا هُجران.
(6) وإذا لزمَ الهجرُ، فإنما هو للتأديب لا للإتلاف، وللشفاء لا للقتل.
(7) وهم يرون الأخذَ بالظاهر، والله يتولى السرائر، ويرون إجراءَ الأحكام على ظاهر الناس لا على القناعات القلبية، وفي هذا يقول الشاطبيُّ رحمه الله: "فإنَّ سيد البشر صلى الله عليه وسلم مع إعلامه بالوحي يُجري الأمورَ على ظواهرها في المنافقين وغيرهم، وإن علِمَ بواطنَ أحوالهم"(9).
ومما يعينُ على الإنصاف ويحقق الائتلاف، ألاّ يكون الموالاةُ والمعاداةُ خاضعةً للانتماء والحزبية الضيِّقة والطائفة والقرابةِ والهوى، بل تكون الموالاة للحق ومع أهل الحق.. والمعاداة للباطل وأهل الباطل.. مهما كان قربُهم وبعدُهم وانتماؤهم، وهنا يُنبِّه ابنُ تيمية على صنف يغضبونَ أو يَرضون لا بقصد أن تكون كلمةُ الله العليا، وأن يكون الدينُ كلُّ لله، بل يغضبون على كلِّ من خالفهم، وإن كان مجتهداً معذوراً ــ لا يغضب الله عليه ــ ويرضون عمن كان يوافقهم، وإن كان جاهلاً سيِّء القصد، فيفضي هذا إلى أن يحمدوا من لم يحمده الله ورسولُه، ويذموا من لم يذمَّه الله ورسوله، وتصير موالاتهم ومعاداتهم على أهواءِ أنفسهم، لا على دين الله ورسوله صلى الله عليه وسلم(10).(/3)
إن من أخطائنا ــ أننا نسرف في الثناء على من أحببنا ــ أو نُسرفُ في الذمِّ، بل الهجوم أحياناً على من أبغضنا وخالفنا، وقد يكون لهذا الذي أحببنا أخطاءُ ونغضُّ الطرف عنها، وقد يكون لهذا الذي أبغضنا حسناتٌ وإيجابياتٌ غَمطناه حقَّه فيها ولم ننصفه في ذكرها، والوسطية منزلةٌ بين الغلوِّ والجفاء، ولهذا قال العلماء: "وإذا اجتمع في الرجل الواحد خيرٌ وشرٌّ وفجورٌ وطاعة، وسنةٌ وبدعة، استحق من الموالاةِ والثواب بقدر ما فيه من الخير، واستحق من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر، فيجتمع في الشخص الواحد موجباتُ الإكرام والإهانةِ، فيجتمعُ له من هذا وهذا كاللص الفقير تُقطع يده لسرقته، ويُعطى من بيت المال ما يكفيه لحاجته"(11).
أيها العلماء والدعاة وطلبة العلم: وأنتم قدوةٌ لغيركم في تحقيق الائتلاف وردمِ فجواتِ الاختلاف وآثارها السيئة، وإذا كان الخلافُ وارداً في بعض مسائل العلم، وفي عددٍ من الاجتهادات والأمور الفرعية فينبغي أن يبقى حبلُ الودِّ متصلاً، فالخلاف في الرأي لا يفسدُ للودِّ قضية ــ كما يقال ــ وإذا كان الصحابة رضوان الله عليهم قد اختلفوا في بعض المسائل الاجتهادية فميزتهم أنهم كانوا مع ذلك أهلَ مودةٍ وتناصح، ومع تنازعهم في مسائل علميةٍ اعتقاديةٍ إلا أنهم حافظوا على بقاء الجماعةِ والألفة، كما قرر ذلك العلماء كالشاطبي وابن تيمية وغيرهم(12).
ومما ينبغي التفطن له ألا يُظن أن الاختلاف بين العلماء في بعض المسائل مؤشرٌ للشرور والفساد، بل قد يكون الاختلاف رحمةً وتوسعة، ومن فقه عمر بن عبد العزيز رحمه الله قوله: "ما يسرُّني أن أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا، لأنهم إذا اجتمعوا على قولٍ فخالفهم رجل كان ضالاً، وإذا اختلفوا فأخذ رجلٌ بقول هذا، ورجلٌ بقول هذا كان في الأمر سعةٌ"(13).
ونقل ابن تيمية أن رجلاً صنف كتاباً سماه "كتاب الاختلاف" فقال الإمام أحمدُ: سمِّه "كتاب السعة"(14).
ومع ذلك كلِّه فعلى العلماء والدعاة وطلبة العلم والوعاظ والمربين أن يسعوا إلى التأليف واجتماع الكلمة، ولو كان ذلك بترك فعل المستحبات ــ أحياناً ــ إذ أن مصلحة التأليف وجمعَ القلوب أولى وأعظمُ من فعل المستحبِّ أحياناً، وفي هذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ويستحبُّ للرجل أن يقصد إلى تأليف القلوب بترك هذه المستحبات، لأن مصلحة التأليف في الدين أعظمُ من مصلحة فعل مثل هذا، كما ترك النبيُّ صلى الله عليه وسلم تغييرَ بناءِ البيت، لما في إبقائه من تأليف القلوب، وكما أنكر ابنُ مسعود رضي الله عنه على عثمان رضي الله عنه، إتمام الصلاة في السفر ثم صلى خلفه مُتماً، وقال: الخلافُ شرٌ"(15).
وليس فقيهاً من فرَّق المسلمين بفعل سنةٍ، لأنه أخل بواجبٍ، ولهذا كان الشيخ رحمه الله يرشد الأئمة إلى جمع كلمة الجماعة ولو تنازل عن بعض ما يراه ويقول: "ولو كان الإمام يرى استحباب الشيء والمأمومون لا يستحبونه، فتركه لأجل الاتفاق والائتلاف كان قد أحسن"(16).
ومن قواعد الائتلاف استيعابُ المخالف، واستمالته للحقِّ بهدوء العبارة وحُسن المجادلة، وفتح الفرص المناسبة للحوار البنّاء، والوصول إلى نتائج طيبةٍ، أجل إن الله عزّ وجل وجّه رسوله صلى الله عليه وسلم في الحوار مع المشركين أن يقول لهم: (وإنا أو أياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين).
فالرسول صلى الله عليه وسلم على يقين أن ما عليه هو الحقُّ، وما عليه المشركون باطلٌ ولكنه أسلوبٌ من أساليب الحوار يُستمال به الخصمُ للحقِّ، ولا يقطع الطريقَ عليه لأول وهلةٍ.. وإذا أخطأنا في أساليب الحوار مع إخواننا المسلمين، ولم نُعطِ أيَّ فرصةٍ لإبداء وجهة نظر الطرف الآخر، فعلينا أن نقرأ في السيرة النبوية وسنجدُ فيها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحاور رمزاً من رموز الجاهلية ووتداً من أوتادِ قريش قال له: ((قل يا أبا الوليد اسمع)) ولا يبادره بسهام الحقّ ــ وهو الأعلى ــ حتى يقولَ له: ((أفرغتَ يا أبا الوليد؟)) إنه ليس ضعفاً ولا تزلفاً ولا نفاقاً، وإنما الرغبةُ في استمالته ودعوته للحق.. وقد كان شيءٌ من هذا.. ودخل في نفس الوليد شيءٌ من عظمة محمد صلى الله عليه وسلم وعظمة القرآن، حتى قالت قريش: والله لقد جاءكم الوليدُ بغير الوجهِ الذي ذهب به..
إنها ملَكةُ الحكمةِ في الدعوة، والمهارةُ في الحوار، والقدرةُ على الإقناع، وليست سفسطة، ولا جدلاً عميقاً، أو ترفاً فكرياً، ففرقٌ بين هذا وذاك!
ومما يعين على الائتلاف التحذيرُ من الباطل دون التصريح بالمبطلين، إلا إذا دعتِ الحالُ للتصريح؛ ذلك أن التعريف بالضلال تعرية لأهله، وقد يعودُ صاحب الضلال إلى الحقِّ إذا لم يُشهِّرْ به، والعلماءُ يقولون: ليس كلّ ما يُعلم مما هو حقُّ يُطلبُ نشرُه.. لا سيما إن كان نشرُه يثير فتنةً.(/4)
ومن سبل التأليف مخاطبة الناس بما ينفعهم وعلى قدر عقولهم وفي هذا يقول عليٌّ رضي الله عنه: ((حدِّثوا الناس بما يعرفون، ودعوا ما ينكرونَ، أتحبون أن يُكذَّب الله ورسوله)) وعن ابن مسعود رضي الله عنه: ((ما من رجل يُحدِّثُ قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنةً لبعضهم)).
ويُعدد الغزالي من وظائف المعلم المرشد: أن يقتصر بالمتعلِّم على قدْر فهمِه، فلا يُلقي إليه ما لا يبلغُه عقلُه فينفِّره، وكذلك قيل: كِلْ لكلِّ عبدٍ بمعيار عقله، وزنْ له بميزان فهمه، حتى تسلم منه، وينتفع بك، وإلا وقع الإنكارُ لتفاوت المعيار(17).
على أن مما يوقع في الفرقة والخلاف التعالمُ والتبجحُ بذكر المسائل العلمية لمن ليس من أهلها، أو ذكرُ كبار المسائل لمن لا يحتملُ عقلهُ إلا صغارها، فمثلُ هذا يوقعُ في مصائب ونفرةٍ وخلافٍ؛ كما قرر أهل العلم(18)، فليحذر منه.
ومن قواعد الائتلاف الإنصافُ بالموازنة بين المصالح والمفاسد، فإسلامُ كافرٍ على يد مبتدع أولى من بقاءِ الكافر على كفره وتوبةُ فاجرٍ بسماعه أحاديث ضعيفة خيرٌ من بقائه على فجوره.
والصلاة خلف المبتدع أولى من ترك الجماعة، بل يُستعان بالمبتدعة في تحصيل واجب عظيم، وتحتملُ مفسدةُ بدعتهم، وكذلك أخذ السلف بعض الأحاديث عن أهل بدعة القدر في البصرة حين لم يجدوها عند غيرهم من أهل السنة، بعد موازنتهم بين هجر الرواية عنهم زجراً لهم عن بدعتهم وبين مصلحة حفظ السّنة، وقررَ هذا ابن تيمية بقوله: "فلو ترك روايةُ الحديثِ عنهم لا ندرسَ العلمُ والسننُ والآثارُ المحفوظةُ فيهم".
بل رتب على ذلك قاعدة عامةً ومهمةً قال فيها: "فإذا تعذّر إقامةُ الواجبات من العلم والجهاد وغير ذلك إلا بمن فيه بدعةٌ مضرتها دون مضرةِ ترك الواجب، كان تحصيل مصلحة الواجب مع مفسدةٍ مرجوحةٍ معه خيراً من العكس"(19).
ومما يسهم في الائتلاف بين المؤمنين قابليةُ التنازل لمصلحة الجماعةِ، وإن كان المتنازلُ أحقَّ من غيره، وفي أحدِ غزواتِ المسلمين ــ ذات السلاسل ــ أمّرَ عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص رضي الله عنه، ثم بعث له مدداً من المهاجرين فيهم أبو بكر وعمر، وأمّر عليهم أبا عبيدة ابن الجراح رضي الله عنه، فلما وصل المددُ قال عمرو: أنا أميرُكم، فقال المهاجرون: بل أنت أميرُ أصحابك، وأميرنا أبو عبيدة، فقال عمرو: إنما أنتم مددٌ أمددتُ بكم، فلما رأى ذلك أبو عبيدة، وكان رجلاً حسنَ الخُلُق، ليّنَ الشيمة، متبعاً لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم محباً للتأليفِ والجماعة، سلَّم الإِمرة لعمرو وجمع الكلمة(20).
وحين يُوصي العلماء والدعاة وطلبة العلم بالحرص على الائتلاف ودفع الاختلاف بكلِّ وسيلة فلا يعني ذلك تميع الدين، أو السكوت عن الحق وكشف الباطل.. لكنه الأدبُ في الاختلاف والسعيُ بكلِّ وسيلة للائتلاف، وكم هو رائعٌ أن يدفعَ العلماءُ مفسدةَ فتنة العامة، بإظهار الودِّ وتقدير بعضهم لبعض، وعدم التنازع على مشهد من الناس، ومما يُذكر في ذلك أن الإمام أحمد، وإسحاق وعبد الرزاق خرجوا إلى المصلى في عيد الفطر ــ وكان أحمد وإسحاق يرون سُنيةَ التكبير لعيد الفطر، بينما لا يرى عبد الرزاق سنيةَ التكبير في عيد الأضحى، ولكن ما الذي حصل في المُصلَّى؟ لم يكبر أحمدُ وإسحاق مراعاة لاجتهاد عبد الرزاق، وعبد الرزاق عجب من عدم تكبيرهما، وقال: لو كبّرتما لكبِّرت معكما، مداراة لاجتهادهما، ودفعاً لفتنةِ العوام(21). وهكذا يحرص العلماء على توحيد المواقف أمام الناس، وإن اختلفت اجتهاداتهم في بعض المسائل.
ويُوصى العلماء وطلبة العلم ــ كذلك ــ في سبيل الائتلاف ودفع الاختلاف والفرقة بالسكوت أحياناً عن بعض المسائل غير المألوفة، لا سيما إذا كان الخلاف فيها جارياً، ونشرها بين الناس يحدث فتنةً لبعضهم، وهنا يرشد الشاطبي رحمه الله إلى ضابط لعرض المسائل الشرعية المثيرة ويقول: "وضابطه أنك تعرض مسألتك على الشريعة، فإن صحّت في ميزانها، فانظر في مآلها بالنسبة إلى حال الزمان وأهله، فإن لم يؤدِّ ذكرها إلى مفسدة فاعرضها في ذهنك على العقول، فإن قبلتها فلك أن تتكلم فيها، إما على العموم، إن كانت مما تقبله العقولُ على العموم، وإما على الخصوص، إن كانت غيرَ لائقةٍ بالعموم، وإن لم يكن لمسألتك هذا المساغُ فالسكوت عنها هو الجاري على وفقِ المصلحة الشرعية والعقلية"(22).
ومع هذه الوصايا للعلماء والدعاة وطلبة العلم يوصى عوامُّ المسلمين وغيرُ المتفقهين منهم بالثقة بأهل العلم، وتوسيع المدارك، وعدم العجلة بإصدار الأحكام، وعدم الفرح بالخلاف يقع بين العالمين، وبعدم التشكك في شيء من دين الله، إذ الخلاف يقع في فروع الدين لا في أصوله، وقد يكون في هذا الاختلاف رحمةٌ وسعةٌ، وحين يقع التنازع فلا بد من ردِّه إلى الله ورسوله وإلى ورثة الأنبياء عليهم السلام.(/5)
أيها المؤتمرون: كم نحن بحاجةٍ جميعاً إلى التفقه في الدِّين، ذلك التفقه الذي يجمع ويؤلف ويهدي ويرشد، وكم نحن بحاجة إلى أن نبلغ بديننا ما بلغ الليل والنهار، دون أن نهدرَ شيئاً من طاقاتنا في الوقيعة والخلاف بين المسلمين.. وإنني بهذه المناسبة أوصي بقراءة كتاب نافع ــ كذا أحسبُه والله حسيبنا جميعاً ــ هذا الكتاب صدر مؤخراً بعنوان "فقه الائتلاف وقواعد التعامل مع المخالفين بالإنصاف" ومؤلفه محمود محمد الخزندار، وهو من مطبوعات دار طيبة في الرياض، أسأل الله أن يجزل المثوبة لمؤلفه وأن ينفع به، وأن يعلّمنا جميعاً ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علَّمنا.
----------
(1) منهاج السنة: 5/127.
(2) أحكام أهل الذمة لابن القيم، تحقيق صبحي الصالح 1/38.
(3) رواه البخاري برقم 2311.
(4) الفتح 4/616 ح 2311.
(5) الأحكام في أصول الأحكام لابن حزم: 4/586، عن كتاب "فقه الائتلاف" محمود الخزندار ص98.
(6) عن فقه الائتلاف ص104.
(7) حياة شيخ الإسلام، محمد بهجت البيطار ص15، عن الرسالة القبرصية، فقه الائتلاف: 47.
(8) منهاج السنة: 5/240، 241 عن فقه الائتلاف: 186.
(9) الموافقات: 2/271، عن فقه الائتلاف: 199.
(10) منهاج السنة: 3/64.
(11) الفتاوى لابن تيمية: 28/209.
(12) الموافقات: 4/186، الفتاوى: 19/123.
(13) الفتاوى: 30/80.
(14) الفتاوى: 14/159، فقه الائتلاف: 27.
(15) الفتاوى: 22/407.
(16) الفتاوى: 22/268.
(17) الإحياء: 1/55، 56.
(18) الموافقات للشاطبي: 1/87.
(19) الفتاوى: 28/212، فقه الائتلاف: 248.
(20) ترجمة أبي عبيدة في سير أعلام النبلاء: 1/5 ــ 23.
(21) سير أعلام النبلاء: 12/214 ــ 221، ترجمة محمد بن رافع.
(22) الموافقات: 4/191 عن فقه الائتلاف، محمود الخزندار: 247.(/6)