اولا : قسم مذموم ويحرم فعله وممارسته وهو من كبائر الذنوب ويستحق مرتكبه العقوبة والذم وهو يكون على مستوى الدول والجماعات والأفراد وحقيقته الاعتداء على الآمنين بالسطو من قبل دول مجرمة أو عصابات أو أفراد بسلب الأموال والممتلكات والاعتداء على الحرمات وإخافة الطرق خارج المدن والتسلط على الشعوب من قبل الحكام الظلمة من كبت الحريات وتكميم الأفواه ونحو ذلك . ثانيا : إرهاب مشروع شرعه الله لنا وأمرنا به وهو إعداد القوة والتأهب لمقاومة أعداء الله ورسوله قال تعالى ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم ) فهذه الآية الكريمة نص في أنه يجب على المسلمين أن يبذلوا قصارى جهدهم في التسليح وإعداد القوة وتدريب الجيوش حتى يَرهبهم العدو ويحسب لهم ألف حساب وهذا أعني وجوب الإعداد للمعارك مع العدو أمر مجمع عليه بين علماء المسلمين سواء كان الجهاد جهاد دفع أو جهاد طلب لكن ينبغي أن يُعلم أن مجرد القوة المادية من سلاح وعدة وتدريب لا يكفي لتحقيق النصر على الأعداء إلا إذا انظم إليه القوة المعنوية وهي قوة الإيمان بالله والاعتماد عليه والإكثار من الطاعات والبعد عن كل ما يسخط الله من الذنوب والمعاصي فالمستقرئ للتاريخ يدرك صدق هذه النظرية قال تعالى ( كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين ) وقال تعالى ( لقد نصركم الله في موطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغني عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين ) ولما كتب قائد الجيش في غزوة اليرموك لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقال في كتابه : إنا أقبلنا على قوم مثل الرمال فأَمِدَّنا بقوة وأمدنا برجال فكتب له عمر رضي الله عنه : ( بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله عمر بن الخطاب إلى قائد الجيش فلان بن فلان أما بعد : فاعلم أنكم لا تقاتلون عدوكم بقوتكم ولا بكثرتكم وإنما تقاتلونهم بأعمالكم الصالحة فإن أصلحتموها نجحتم وإن أفسدتموها خسرتم فاحترسوا من ذنوبكم كما تحترسون من عدوكم ) .
والأمثلة التي تدعم هذه النظرية كثيرة في التاريخ منها معركة اليرموك اذ كان العدو متفوقا على المسلمين من حيث العدد والعدة ، حيث بلغ على حسب احدى الروايات مائة وعشرين ألف مقاتل من الروم مسلح بأسلحة حديثة كالمنجنيقات وقاذفات اللهب وغيرها ، وعدد المسلمين بضعة آلاف وعدتهم بدائية كالسيوف والرماح , ومع هذا انتصر المسلمون على اعدائهم لتحقق القوة المعنوية وهي الإيمان بالله والتوكل عليه .
هذا هو المفهوم الحقيقي للإرهاب لكن أعداء الله وأعداء رسله ودينه من الصليبية الحاقدة والصهيونية المجرمة لمفهوم الإرهاب عندهم معنى آخر فمفهوم الإرهاب عند هؤلاء الكفرة هو :
الإسلام والجهاد والإرهابيون هم المسلمون المجاهدون , لأجل هذا اجتمع كفار الأرض قاطبة على حرب الإمارة الإسلامية في الأفغان بحجة محاربة الإرهاب , على الرغم من أنه لا يوجد دليل بل ولا قرينة تربط العمليات التي جرت في أمريكا بهذه الإمارة الإسلامية ولا بأسامة بن لادن, والصليبيون والصهاينة يعلمون علم اليقين بأن العمليات التي جرت في نيويورك وواشنطن قامت بها عصابات صهيونية أو مسيحية متطرفة لكنهم رأوا النهضة الإسلامية في أفغانستان وأرهبهم تطبيق أحكام الشريعة في تلك الإمارة فخافوا أن يتسع المد الإسلامي في الدول المجاورة للأفغان فقاموا بهذه الحملة الإرهابية التي استعملوا فيها أنواع السلاح المحرم دوليا كالقنابل العنقودية والقنابل الانشطارية وغيرها التي قتلوا بها الآلاف من المدنيين من رجال ونساء وأطفال , وإن كل من يعرف شدة عداوة الكفار للإسلام والمسلمين لا يستغرب ذلك لأن الله سبحانه وتعالى يقول ( ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ) وإنما الذي يستغرب وقوف كثيرين من حكام العرب والمسلمين وبعض علماء المسلمين مع هؤلاء الكفرة وتأييدهم في حربهم للمسلمين في الأفغان من غير أن يقفوا على دليل يربط بين العمليات التي جرت في أمريكا وبين حكومة الطالبان ومن غير أن يفهموا معنى الإرهاب الذي تعنيه أمريكا وزميلاتها في الكفر .
إن كل من يقرأ ما كتبتُه في هذا الموضوع يظن أن الهدف الوحيد للصليبيين في شن غاراتهم على الأفغان القضاء على الإسلام والجهاد فقط .. والواقع أن هذا هو الهدف الرئيسي لهم لكن هناك أهداف أخرى يهدفون إليها من وراء هذه الحملة منها طمعهم في السيطرة على المنشآت النووية في هذه المنطقة كالمفاعلات النووية في باكستان , لأن امتلاك المسلمين للسلاح النووي يعد خطرا عليهم ويهدد مصالح الصليبية والصهيونية , وليس ببعيد عنا تدمير الصهيونية للمنشآت النووية في العراق وكذلك محاولتهم في الوقت الحاضر مع أمريكا بتدبير المؤامرة لضرب المفاعلات النووية الباكستانية .(/2)
ومن أهدافهم أيضا بسط النفوذ على حقول البترول في آسيا الوسطى وغير ذلك من أهدافهم القذرة التي يريدون بواسطتها بسط نفوذهم على العالم , وإلا فالعالم مليء من العصابات الإرهابية المنظمة في أمريكا الجنوبية كالعصابات المنظمة في البيرو والارجنتين وكلمبو وفي أمريكا الشمالية وفي أوربا في اسبانيا وإيطاليا وفي روسيا وفي غيرها , فلماذا لم يشنوا غاراتهم وحربهم على هذه البلاد التي توجد فيها هذه العصابات الإرهابية المجرمة المنظمة .أما من ناحية الارهاب الدولي فالصهيونية في فلسطين وأمريكا في افغانستان الصرب قبل ذلك في البوسنة والهرسك وكوسوفا .
هذا ونسأل الله أن يوفق جميع المسلمين للعمل بما في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وأن يجنبهم العمل بما يخالف تعاليم الشريعة المطهرة وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
أملاه فضيلة الشيخ
أ. حمود بن عقلاء الشعيبي
5/ 9 / 1422 هـ(/3)
معنى الحب في الله والبغض في الله
فضيلة الدكتور عبد العزيز بن محمد العبد اللطيف
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في كتابه (قاعدة في المحبة): (أصلُ الموالاة هي المحبة كما أنَّ أصلَ المعادة البغض، فإنَّ التحاب يوجبُ التقاربَ والاتفاق، والتباغضَ يوجبُ التباعدَ والاختلاف) [1]
وقال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن- رحمة الله عليهم-: (أصلُ الموالاة: الحب، وأصلُ المعاداةِ: البغض، وينشأ عنهما من أعمالِ القلوبِ والجوارح ما يدخلُ في حقيقةِ الموالاةِ والمعاداة؛ كالنصرةِ والأنس والمعاونة، وكالجهادِ والهجرةِ ونحو ذلك من الأعمال) [2].
وسئلَ الإمامُ أحمد- رحمة الله- عن الحب في الله، فقال: " ألاَّ تُحبه لطمعٍ في ديناه [3]
فمن خلالِ أقوال هؤلاءِ الأئمة ونحوهم، يتبيّن لنا أنَّ الحب والبغض أمرٌ قلبي، فالحب محله القلب، والبغض محلهُ القلب، لكن لا بد لهذا العمل القلبي أن يظهرَ على الجوارح، فلا يأتي شخصٌ يقول: أنا أبغض فلاناً في الله، ثم تجدُ الأنس والانبساط والزيارة والنصرة والتأييد لمن أبغضه في الله! فأين البغض في الله؟ فلا بد أن يظهرَ على الجوارح، فلو أبغضنا مثلاً أعداءَ الله من النصارى ومن اليهود، فهذا البغض محلهُ القلب، لكن يظهرُ على الجوارح من عدم بدئهم بالسلام مثلاً كما قال- صلى الله عليه وسلم -: ((لا تبدءوا اليهود والنصارى باليهود بالسلام)) أو من خلال عدم المشاركة في أعيادهم؛ لأنَّ هذه المشاركة من التعاون على الإثم والعدوان، والله يقول: ((وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإثْمِ)) (المائدة: من الآية2)
وكذلك الحب في الله، فإذا أحببنا عباد الله الصالحين، وأحببنا الأنبياء والصحابة وغيرهم من أولياء الله - تعالى -، فهذا الحبُ في القلب لكن له لوازم وله مقتضيات تظهرُ على اللسان وعلى الجوارح، فإذا أحببنا أهلَ الإسلام أفشينا السلام، كما قال- عليه الصلاة والسلام -: ((ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم، أفشوا السلام بينكم)).
كذلك النصيحة، فعند ما أرى أخاً لي من أهل الإسلام يُقصرُ في الصلاة، كأن يخل بأركانها أو واجباتها، فأنصحهُ، فهذا من مقتضى الحبِ في الله، فإذا عُدم ذلك فهذا يدل على ضعف الإيمان، فلو وجدنا رجلاً يقول: أنا أحب المؤمنين لكنه لا يسلّم عليهم، ولا يزورُ مريضهم، ولا يتبعُ جنائزهم، ولا ينصحُ لهم، ولا يشفقُ عليهم؛ فهذا الحب لا شك أنَّ فيه دخنٌ ونقص لا بد أن يتداركه العبد.
يقول الشيخ عبد الرحمن السعدي في فتاويه (إنَّ الله عقد الأخوة والموالاة والمحبة بين المؤمنين كلهم، ونهى عن موالاة الكافرين كلهم، من يهود، ونصارى، ومجوس، ومشركين، وملحدين، ومارقين وغيرهم، من ثبت في الكتاب والسنة الحكم بكفرهم، وهذا الأصل متفق عليه بين المسلمين، وكل مؤمن موحد تارك لجميع المكفرات الشرعية، فإنَّهُ تجب محبته وموالاته ونصرته، وكل من كان بخلاف ذلك فإنَّه يجب التقرب إلى الله ببغضه ومعاداته، وجهاده باللسان واليد بحسب القدرة، فالولاءُ والبراء تابعٌ للحب والبغض، والحب والغض هو الأصل، وأصلُ الإيمان أن تحبّ في الله أنبياءه وأتباعهم، وأن تبغض في الله أعداءه وأعداء رسله) [4]
وقد بيّن أهلُ العلم أن المؤمن تجبُ محبته وإن أساء إليك، والكافر يجبُ بغضه وعداوته وإن أحسن إليك.
فالمسلم وإن قصّر في حقك وظلمك، فيبغض على قدر المظلمة؛ لكن يبقى حق الإسلام وحق النصرة وحق الولاية.
ماذا يجب علينا تجاه المسلمين ممن خلطوا عملاً صالحاً وأخر سيئاً، فهم ليسوا من أولياء الله الصالحين، وليسوا من أعداء الله الكافرين؟
الواجبُ في حقهم أن نحبهم ونواليهم بقد طاعتهم وصلاحهم، وفي نفس الوقت نبغضهم على قدر معصيتهم وذنبهم.
فمثلاً: جارك الذي يشهد الصلوات الخمس، عليك أن تحبه لهذا الأمر، لكن لو كان هذا الجار يسمعُ ما حرم الله من الأغاني مثلاً، أو يتعاطى الربا، فعليك أن تبغضه على قدر معصيته، وكلما ازداد الرجل طاعةً ازددنا له حبّاً، وكلما زاد معصية ازددنا له بغضاً.
وقد يقول قائل: وكيف يجتمع الحب والبغض في شخص واحد؟ كيف أحب الشخص من جانب وأبغضه من جانب؟
أقول: هذا ميسر، فهذا الأب رُبما ضرب ابنه وآلمه تأديباً وزجراً، ومع ذلك يبقى الأصل أنَّ الأبُ يحبُ ابنه محبةً جبلية، فيجتمع الأمران.
وكذلك المعلم مع تلاميذه أو الرجل مع زوجته إذا زجرها، أو هجرها إذا كان الأمر يقتضي ذلك، لكن يبقى الأصل في ذلك محبتها والميل إليها، فإذا كان الشخصُ يجتمع في إيمانٍ مع ارتكابِ محرمات أو ترك واجبات ممَّا لا ينافي الإيمان بالكلية فإنَّ إيمانه يقتضي حبّه ونصرته، وعصيانهِ يقتضي عداوته وبغضه على حسب عصيانه.(/1)
ومما يبيّن هذا الأمر، ما جاء في هدى النبي- صلى الله عليه وسلم - فقد حقق- عليه السلام - الأمرين، والدليل ذاك الرجل الذي يشربُ الخمر في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واسمه عبد الله، وكان كثيراً ما يُؤتى به فيجلد، فأتي به في أحدِ المرات، فقال أحد الحاضرين: لعنهُ الله ما أكثر ما يُؤتى به، فقال- عليه السلام -: ((لا تلعنهُ، أما علمت أنَّه يحبُ الله ورسوله)) أو كما ورد في الحديث فمقتضى العداوة والبغضاء أن أقام عليه الحد فجلده، وفي نفس الوقت أيضاً، مقتضى الحب والولاء له، أن دافع عنهُ- عليه الصلاة والسلام - فقال: ((لا تلعنه)).
معاودة الكافرين:
هذه المسألة تغيبُ في هذا الزمان، بسبب جهل الناس، وتكالب قوى الكفر على إلغاء الولاء والبراء، وإلغاء ما يسمى بالفوارق الدينية.
قال الشيخ حمد بن عتيق (ت 1301هـ): (فأما معاداة الكفار والمشركين، فاعلم أنَّ الله أوجب ذلك وأكد إيجابه، وحرّم موالاتهم وشدد فيه، حتى أنَّه ليس في كتاب الله حكمٌ فيه من الأدلة أكثر وأبين من هذا الحكم بعد وجوب التوحيد وتحريم ضده).
وقال في موضع آخر: " وهنا نكتة بديعة في قوله: ((إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ)) (الممتحنة: من الآية4)، وهي أنَّ الله قدم البراءة من المشركين العابدين غير الله، على البراءةِ من الأوثان المعبودة من دون الله، لأنَّ الأول أهمُ من الثاني، فإنَّه قد يتبرأ من الأوثان، ولا يتبرأ ممن عبدها، فلا يكون آتياً بالواجب عليه، وأما إذا تبرأ من المشركين، فإنَّ هذا يستلزمُ البراءة من معبوداتهم [5]
فإذا علم هذا تبين خطأ وانحراف كثيرٍ من الناس، عند ما يقولون: نتبرأ من الكفر، ونتبرأ من عقيدة التثليث عند النصارى، ونتبرأ من الصليب، لكن عند ما تقول لهم تبرؤوا من النصارى. يقولون: لا نتبرأ منهم ولا نواليهم.
لوازم الحب في الله والبغض في الله:
أشرنا إلى أنَّ الحب في الله والبغض في الله، عملان قلبيان، لكن لهذا الحب لوازم مثل: النصح للمسلمين، والإشفاق عليهم، الدعاء لهم، والسلام، وزيارة مريضهم، وتشييع جنائزهم، وتفقد أحوالهم.
أما لوازم البغض فمنها: ألا نبتدئهم بالسلام، والهجرة من دار الكفرِ إلى دار الإسلام، وعدم التشبه بهم، وعدم مشاركتهم في الأعياد كما هو مبسوط في موضعه.
----------------------------------------
[1] قاعدة في المحبة (ص 387)
[2] الدرر السنية (2/157).
[3] طبقات الحنابلة (1/57).
[4] الفتاوى السعدية (1/98).
[5] النجاة والفكاك (ص 22).
10/3/1426 هـ
http://www.islamlight.net المصدر:(/2)
معنى العيد في الإسلام ...
أ.د. محمد إبراهيم الجيوشي ـ إسلام أون لاين ...
العيد في الإسلام يوم سرور وفرح وزينة، يحب الله أن تظهر فيه أثر نعمه على عباده، بلبس الجديد من الثياب، وتناول الطيب من الطعام بدون إسراف ولا مخيلة؛ فالله يقول: "يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ * قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ" (الأعراف: آية 31،32).
فالله –سبحانه- قد أحل الطيبات من الطعام واللباس في ذلك اليوم، ولكنه حدد ذلك بعدم الإسراف؛ حتى لا ينسى المسلمون المعنى الطيب من العيد، وهو شكر الله على إنعامه وتوفيقه، ويندفعوا في جلب المشقة على أنفسهم وعلى غيرهم من ذوي الدخول المحدودة بالإسراف في ألوان الطعام واللباس إسرافا يخرجهم عن حد المألوف المباح إلى دائرة المكروه والمحرم، وشكر الله -عز وجل- على نعمه يقتضي البعد عما حرم.
ولعل في ذلك توجيها إلى من ينسون الغاية من الأعياد في الإسلام؛ فيعكفون على ما حرم الله، ويستبيحون لأنفسهم المحرم من الطعام والشراب؛ فيقلبون نعمة الله نقمة، تعرضهم لغضب الله ونقمته وعذابه، ولعل المسلمين جميعا في يوم العيد على اختلاف مستوياتهم الفكرية والاجتماعية يعون هذا التوجيه الإلهي فيحرصون على جلال العيد وبهجته، ويبتعدون عن كل ما يشوب هذا الجلال من قول أو فعل أو سلوك، ولعل في ذلك التحذير ذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، وربما سرت عدوى الإقدام على الحرام في هذا اليوم إلى بعض فئاتنا من التشبه بالمجتمعات الغربية التي تتخذ من أيام أعيادها مناسبات تعبُّ فيها من الحرام، والتشبه بهؤلاء في هذا السلوك لا يليق بالمسلم الذي دعاه رسول الله –صلى الله عليه وسلم- أن يحافظ على شخصيته متماسكة القول والفعل والتعامل والسلوك حين قال: "لا تكونوا إمعة؛ تقولون: إن أحسن الناس أحسنا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطِّنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا وإن أساءوا فلا تظلموا".
وهذا التوجيه النبوي الكريم يدعونا إلى أن نتعرف على معنى العيد في الإسلام، وفي الأمم الأخرى، فقد جرى العرف عند الأمم من غير المسلمين أن تتخذ من الأيام ذات الأثر في تاريخها أعيادا، تذكرها بأحداث وقعت في ذلك اليوم قد تتعلق بيوم بناء أو انتصار أو ابتداء، أو إكمال، مما يتعلق بأمور الدنيا وأحداث السياسة والتاريخ، وقد تكون تخليدا لبطولة بعض رجالها المعاصرين.
ولكن أمر الأعياد في الإسلام مختلف اختلافا جذريا عن منهج الأمم الأخرى؛ لأن تشريع العيد في الإسلام ارتبط بالمواسم الدينية؛ فعيد الفطر مرتبط بانتهاء صيام رمضان، وعيد الأضحى مرتبط بموسم الحج، ويأتي عقب يوم عرفة الذي يُسمى يوم الحج الأكبر.
وبالنسبة لعيد الفطر وارتباطه بانتهاء صيام رمضان ففيه تذكير بنعمة البداية المنقذة لهذه الأمة؛ لأن شهر رمضان هو الذي أنزل فيه القرآن، والقرآن هو المنهج الإلهي الذي حدد الله فيه معالم الطريق السوي لقيام هذه الأمة، وهو بذلك يذكرنا بيوم البناء فناسب أن يكون الشهر الذي نزل فيه القرآن شهر صوم يشكل أحد أركان الإسلام؛ ليكون المسلمون على ذكر من نعم الله عليهم في ذلك الشهر، وناسب أن يتخذ اليوم الذي يلي ذلك الشهر يوم عيد تعبيرا عن الشكر له –سبحانه- على ما أنعم به علينا من إنزال القرآن الكريم في ذلك الشهر، وشكرا له سبحانه على توفيقه لنا أن التزمنا بأوامره واجتنبنا نواهيه، وتزكية لنفوسنا وتذكيرا لها بنعم الله عليها، وكذلك الحال في عيد الأضحى؛ فإنه يذكرنا بيوم إكمال وإتمام النعمة؛ لأنه يجيء بعد اليوم الذي أنزل الله فيه على نبيه –صلى الله عليه وسلم- الإعلان بإكمال الدين وإتمام النعمة وارتضاء الإسلام لنا دينا، حينما أنزل على رسوله الكريم –صلى الله عليه وسلم- في يوم عرفة من السنة العاشرة من الهجرة، وهو يقود موكب الحج الأعظم قوله سبحانه: "الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا". (المائدة: آية 3).
وحُقَّ لنا أن نحتفل كل عام بيوم الابتداء ويوم الانتهاء باتخاذهما عيدين: الأول عيد الفطر، والآخر عيد الأضحى.(/1)
وهناك قصة طريفة تروى لنا حول بداية الاحتفال بالعيد في الإسلام؛ ذلك أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما هاجر إلى المدينة المنورة وجد الأنصار (سكان المدينة) يحتفلون بيومين فلما سألهم عنهما قالوا: إن آباءهم كانوا يحتفلون بهما في الجاهلية. فقال: "إن الله قد أبدلكم بهما خيرا منهما: يوم الفطر ويوم الأضحى". وتأكيدا للمعنى الديني الذي يرتبط بالأعياد في الإسلام فأنت ترى أن هناك صلاة شُرعت خصيصا تؤدى في هذين اليومين تسمى صلاة العيد، ويصلون شكرا واعترافا بالنعم، وسؤال المزيد منها حلالا طيبا.
ومن المعاني الإنسانية ذات الأبعاد السامية في السلوك الإنساني أن الله شرع زكاة الفطر بين يدي العيد، وهي حق للفقراء في أموال الأغنياء، تؤدى إليهم قبل يوم العيد أو صبيحة ذلك اليوم قبل صلاة العيد؛ لتكون عونا للفقير كي يشارك بقية أفراد المجتمع في الإحساس بمعنى العيد، فلا يشعر بحرمان الحاجة، وقلة ذات اليد في ذلك اليوم الذي تغمر البهجة والسرور فيه قلوب الأغنياء، ولذلك يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "اغنوهم عن السؤال في ذلك اليوم".
ولا شك أن هذه إحدى اللمسات الإنسانية في التشريع الإسلامي -وما أكثرها- ليحقق للمجتمع استقراره وأمنه وأمانه، ويربطه برباط المودة والتعاطف بين الأغنياء والفقراء حتى يتحقق لهم الإحساس بالانتماء لأسرة واحدة، والشعور المشترك بين الجميع في السراء والضراء تحقيقا لقول النبي الكريم -صلوات الله وسلامه عليه-: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى".
ولهذه القيم وسواها كان عيد الفطر موسما من مواسم الخير العميم الذي تزف فيه الملائكة البشرى إلى المؤمنين، كما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إذا كان يوم عيد الفطر وقفت الملائكة على أبواب الطرق فتنادي: اغدوا يا معشر المسلمين إلى رب كريم يمن بالخير ثم يثيب عليه الجزيل، لقد أُمرتم بقيام الليل فقمتم، وأُمرتم بصيام النهار فصمتم، وأطعتم ربكم فاقبضوا جوائزكم، فإذا صلوا نادى منادٍ: ألا إن ربكم قد غفر لكم فارجعوا راشدين إلى رحالكم؛ فهو يوم الجائزة، ويُسمى ذلك اليوم في السماء يوم الجائزة".
ويرتبط يوم الأضحى بدلالات ذات أثر بعيد في حياة المسلمين؛ لأنها ترتبط بأحداث التضحية العظمى التي استعد للقيام بها أبو الأنبياء إبراهيم -عليه السلام- حينما أقدم على التضحية بابنه إسماعيل عليهما السلام إثر رؤيا رآها، ورؤيا الأنبياء حق؛ لأنها وحي من الله، ولم يحُل بينه وبين إتمام التضحية إلا الفداء الذي بعث الله به ليفتدي ابنه إسماعيل بعد أن اجتاز الامتحان بنجاح، وأخذ يشرع في تنفيذ الذبح بأنه استجابة لأمر الله سبحانه. ومَن هذا الابن؟ وما ظروف إنجابه؟ لقد رُزق به أبوه على كبر في السن، ولذلك فحينما نحتفل بعيد الأضحى المبارك فإنما نحيي هذه التضحية التي لم يعرف التاريخ لها مثيلا، ولنتعلم أن المؤمن يضحي في سبيل عقيدته بأغلى ما لديه من أموال وبنين، وقد سجل المولى سبحانه هذا الأمر الجليل في كتابه العزيز إشادة بأبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام، واستجابته لأمر الله، ورفعة لشأن ابنه إسماعيل الذي رضي بما أمر الله في شأنه، وقال: "يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ" (الصافات: آية 100)، وتقول الآيات من سورة الصافات مفصلة هذا الحدث الجلل: ".رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ*فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلاَمٍ حَلِيمٍ*فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ*فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ*وَنَادَيْنَاهُ أَن يَا إِبْرَاهِيمُ*قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ*إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاَءُ الْمُبِينُ*وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ" (الصافات: آية 100-107).(/2)
ومن الدلالات ذات القيمة الكبرى التي ترتبط بهذا الموسم العظيم التضحية الأخرى التي اشترك فيها أبو الأنبياء إبراهيم -عليه السلام- وزوجه هاجر ورضعيهما إسماعيل حينما هاجر إبراهيم بهما إلى مكان البيت الحرام، وتركهما هناك بدون زاد ولا أنيس، وتحمُّل السيدة هاجر -رضي الله عنها- ما تحملت حينما علمت أن هذا أمر من الله لما سألت إبراهيم -عليه السلام-: آلله أمرك بهذا؟ فلما أجاب بنعم، قالت في ثقة المؤمنة: "إذن لا يضيعنا". وقد لاقت وعانت من الشدائد ما عانت، وصبرت على الخطوب حتى أجرى الله لها زمزم لتشرب وتسقي وليدها، وما زال الملايين من الحجاج والمعتمرين الذين يفدون إلى بيت الله الحرام على مدى هذه الآلاف من السنين يشربون من زمزم، ويروون منها ظمأهم، ويتذكرون نعمة الله عليهم، وعلى أم العرب هاجر، وأبيهم إسماعيل -عليهما السلام-، والمناسك التي يؤديها المسلم يوم الأضحى، وقبله، وبعده؛ إحياء لذكرى هذه التضحيات الجسام، وتذكيرًا للمسلمين كي يعلموا أن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا. ...(/3)
معنى لا إله إلا الله وشروطها ...
...
06-03-2004
لا إله إلا الله هي كلمة التوحيد الخالص ، وهي أعظم فريضة فرضها الله على عباده ، وهي من الدين بمنزلة الرأس من الجسد .
وقد ورد في فضلها أحاديث منها :
ما رواه البخاري و مسلم من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( بني الإسلام على خمس ، شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، والحج ، وصوم رمضان ) .
وما رواه الترمذي وحسنه الشيخ الألباني عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( .. خير ما قلت أنا والنبيون من قبلي : لا إله إلا الله وحده لا شريك له . له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ) .
ومنها ما رواه البخاري في " الأدب المفرد " وصححه الشيخ الألباني عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إن نبي الله نوحا صلى الله عليه وسلم لما حضرته الوفاة قال لابنه : آمرك بلا إله إلا الله فإن السماوات السبع والأرضين السبع لو وضعن في كفة ووضعت لا إله إلا الله في كفة لرجحت بهن . ولو أن السماوات السبع والأرضين السبع كن حلقة مبهمة لقصمتهن لا إله إلا الله ) فهذه بعض فضائل هذه الكلمة العظيمة .
أما معناها فقال العلماء إنه : لا معبود يستحق العبادة إلا الله ، فهي تتكون من ركنين أساسيين ، الأول : نفي الألوهية الحقيقية عن غير الله سبحانه ، والثاني: إثبات الألوهية الحقيقية له سبحانه دون من سواه .
غير أنه ليس المقصود من دعوة الرسل مجرد التلفظ بالكلمة فحسب ، بل لا بد من توفر شروطها حتى تكون نافعة عند الله سبحانه وتعالى ، وقد ذكر العلماء من شروط لا إله إلا الله ما يلي :
1- العلم بمعناها : وذلك بأن يعلم الناطق بها معنى هذه الكلمة وما تضمنته من نفي الألوهية عن غير الله وإثباتها له سبحانه ، قال تعالى : { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إلا اللَّه } (محمد:19) .
2- اليقين : بمعنى ألا يقع في قلب قائلها شك فيها أو فيما تضمنته ، لقوله تعالى : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } (الحجرات:15) وقال صلى الله عليه وسلم : ( أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيهما إلا دخل الجنة ) رواه مسلم .
3- القبول لما اقتضته هذه الكلمة بقلبه ولسانه : والمراد بالقبول هنا هو المعنى المضاد للرد والاستكبار ، ذلك أن الله أخبرنا عن أقوام رفضوا قول لا إله إلا الله ، فكان ذلك سبب عذابهم ، قال تعالى : { إنا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ ( ) إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إلا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ } (الصافات:34 - 35 )
4- الانقياد لما دلت عليه : بمعنى أن يكون العبد عاملا بما أمره الله به ، منتهيا عما نهاه الله عنه ، قال تعالى : { وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الأمور } ( لقمان:22) ، قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما : " العروة الوثقى هي لا إله إلا الله " .
5- الصدق : ومعناه أن يقولها صادقا من قلبه ، يوافق قلبه لسانه قال تعالى : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخر وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ () يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ } (البقرة:8-9) .
6- الإخلاص : وهو إرادة وجه الله تعالى بهذه الكلمة ، قال تعالى : { وَمَا أُمِرُوا إلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ } (البينة : 5 ) .
7- المحبة لهذه الكلمة ولأهلها العاملين بها الملتزمين بشروطها ، وبغض ما ناقضها ،قال تعالى : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ } (البقرة:165) .
8- فهذا هو معنى هذه الكلمة ، وهذه هي شروطها التي بها تكون سبب النجاة عند الله سبحانه . وقد قيل للحسن إن أناسا يقولون : من قال لا إله إلا الله دخل الجنة . فقال : من قال : لا إله إلا الله فأدى حقها وفرضها دخل الجنة .
فلا إله إلا الله لا تنفع قائلها إلا أن يكون عاملا بها ، آتيا بشروطها ، أما من تلفظ بها مع تركه العمل بما دلت عليه ،فلا ينفعه تلفظه حتى يقرن بالقول العمل ، نسأل الله العلي العظيم أن يجعلنا من أهل لا إله إلا الله العاملين بها ولأجلها والله الموفق .(/1)
معوقات الدعوة المثالية والواقعية
إن من بين المعوقات التى تمنع الكثير من طيبى القلوب وحسنى النيه من متابعة تأييدهم ومشاركتهم للأعمال المؤثرة فى حياة البشر هو أنهم يعيشون حالة من التسامى مع الأفكار والمبادئ ويشعرون بجمالها وهى تحاور علىالورق أو تناقش فى الندوات والجلسات الممتعة لكنهاحين تخرج من حيز القول والإعتقاد إلى عالم التطبيق والحقيقة فإنهم يصابون بالصدمة النفسية إذا لم يكونوا يربطون بين جمال الأفكار المجردة وبين صورتها الواقعية والعملية وهؤلاء على الدوام يخسرون التأثير وكذلك يكثرون اللوم والتقريع حين يأتى شيخ ويتحدث عن حكمة وعظمة التشريع فى حد الزانى المحصن وأن الرجل أو المرأة يشدان إلى ثيابهما ويوضعان فى وسط الناس وتحضر لهما الحجارة فيقوم الناس برمى الزانى والزانية بهذه الحجاره حتى يتم موتهما هذا المنظر بكل إنفعالاته الواقعية، وبكل ما يحمل من مدلولات وتأثيرات على النفس، إذ عليك أن تتصور صراخ المحدودين ونزيف الدماء وصياح الناس، وتفوت النفوس فى رؤيتها لهذا الحدث، فهذا محب للمرجوم فهو يبكىعلى حالته، وقد تضطرب نفسه فيصاب بما يصيب أمثاله إن كان من ضعاف النفوس فى موقفه أمام هذه الأحداث فقد يشهق شهقة، وقد يرتفع عويله وصراخه فيقع منه الهذيان وقد يجتمع أطفال الزانيه أو أولاد الزانى فيبكون فقيدهم، مثل هذه الصور قد لايستطيع الشيخ الذى يتحدث عن عظمة التشريع وحكمته أن يواصل النظرإلى الحدث حتى نهايته، وقد لايطيق رؤية الدم وهو يخرج كالنافورة من رأس المرجومة فيصاب بالغثيان أو يخر صريع الغيبوبة، فهناك فارق كبير بين جمال الأفكار وبين واقعيتها حين يتحدث الناس عن الجهاد فى سبيل الله تعالى فهذه كلمة جميلة، وجميلة جدا الجهاد فى سبيل الله تعالى ولكن واقع الجهاد ليس جميلا كله فى كل أحداثه، فالجهاد ليس هو هذه الخطب الرنانة، وليس هو تلك الكلمات الجميلة وليس كله غنائم وسبايا، وليس كله نصر مؤزر، وليس كله خطب نارية، بل فيه موت الحبيب، وفيه جرح الصديق، وفيه تطايرالأشلاء وفقد المال، وفقد المعين وبمعنى آخر فيه جانب من المشقة، بل المشقة العظيمه، ثم فيه إختلاط الجنود وحصول الخصومات بين الناس، فهذا ضرب هذا، وهذا خاصم هذا، وهذا شط على هذا فهو حركة بشرية، وفيه أخطاء وإجتهادات وتأويلات بعضها يستساغ وبعضها ليس كذلك، فهناك حد فاصل بين جمال الفكرة وسموها وبين واقعيتها لو أخذنا تصور الناس وخيالهم لواقع الدولة الإسلامية لوجدنا أنها أقرب ماتكون إلى أذهانهم إلى عالم الأحلام، عالم ملئ بالصور الجميلة والفرشات الطائرة، والألوان الزاهية والسماء تنزل غيثها على الدوام، والضرع ملئ فى كل حين، والأعداء يخافون جانبنا لما يعلمون من نزول الملائكة معنا فىالقتال، فهم يتصورون دولة الإسلام التى لافقير فيها، ولامريض فيها وكل من طلب شيئا فهو بين يديه، ولكن لو نظرنا لدولة النبى صلى الله عليه? سلم لما وجدنا هذه الجنه، بل لوجدنا أن معاناة الصحابة رضى الله عنهم فى دولة الإسلام فى المدينة أشد من معاناتهم وهم فى مكة.(/1)
فهل حصل للصحابة رضى الله عنهم فى مكة ما حصل لهم فى غزوة الخندق إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا هنالك ابتلى المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا فى دولة الإسلام زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر، وإبتلاء كالزلزال بل هو الزلزال نفسه قارن بين هذه الصورة وبين الصورة التى يحاول رسمها مشايخ هذا الزمان لدولة الإسلام، فهم يعدون الناس بالدولة التى لاخوف فيها ولامشقة، بيت لكل إنسان، طعام لكل بطن، والناس يدخلون فى الإسلام لمجرد رؤيتهم لنا ولدولتنا، وعلى هذا فالناس يأتون إليناإلى جماعتنا لأن فى أذهانهم أننا الحزب الذي سيؤمن لهم من النعيم الدنيوى أكثر مما تؤمنه الأحزاب الأخرى لكن لو قلت لكم: إن ثلاثة من الخلفاء الراشدين ماتوا قتلا، وعلى يد أناس لم يحتاجوا لكثير من التخطيط لقتلهم فعمر بن الخطاب رضى الله عنه قتله عدو الله أبو لؤلؤة المجوسى وهو قائم فى صلاة الفجر، بين يدى شيوخ المسلمين وعلمائهم وقادتهم ورؤسائهم، عثمان بن عفان رضى الله عنه إنطلق الهوجاء وسيطروا على المدينة حتى دخلوا وهويقرأ القرآن على الخليفة الصائم رضى الله عنه وذبحوه فى بيته وهو يقرأ القرآن، على بن أبى طالب رضى الله عنه قتل فى وسط المسجد وهو قائم يدعو الناس إلى صلاة الفجر، وبين طائفة يأتيه ابن ملجم الخارجى، فيضرب هامته بالسيف بتصرف فردى وبإتفاق مع آخرين على قتل معاوية وابن العاص وهذا عصر الخلافة الراشدة وما أدراك ما بعده ولذلك علينا أن نقول: إن الذين يتصورون عالم الإسلام العملى حركة المرء المسلم فى الحياة هو عالم لايمت إلىعالم البشر، وهو خارج عن حركة الحياة برمتها هؤلاء واهمون ويعيشون تهويمات وخيالات فبمجرد اصطدامهم بالصورة الحقيقية لهذه الحياة ستجدهم ينقلبون على أنفسهم يعلنون إعتزالهم وعدم قدرتهم على تحمل هذه الحياة، إن العيش مع الكتب وبين الكتب ومع الأفكار والقلم والورق ليس هو الإسلام إنما الإسلام هو حركة الحياة حركة البشر الإنسان بما فيه من صواب وخطأ، فالصواب يقوى ويدعم، والخطأ يقوم ويصلح، فعالم الإسلام العملى فيه الصواب وفيه الظلم، فيه الصدق وفيه الكذب، وكل له مقامه فى الإسلام الإسلام يعترف بوجود الخطأ كونا ولا يلغيه فى الخلق والوجود ولذلك أنزل الله تعالى الحدود وأنزل العقوبات، وأنزل الأحكام والخطاب الربانى فى ذلك كله للمجتمع المسلم الموحد المجاهد وليس هو خطاب لغير المسلمين على الرغم أن عصر الفتنة بين على رضى الله عنه وخصومه عائشة ومعاوية رضى الله عنهما هو عصر نكل فيه أصحابه إلى الله تعالى، ولا نقول فيه إلا ماجاءنا عن رسول الله صلى الله عليه? سلم من أحكامه كقوله صلى الله عليه? سلم لعمار: تقتلك الفئة الباغية وغيره من الأحاديث، لكن لو حاولنا إستطلاع ورؤية الواقع عن قرب وهو عصر مبكر وقريب من القرون الخيرة بل هو منها لرأينا هو لا، ولرأينا من الأمورالتى تشيب لهولها الأطفال، أنظر الخوارج أربعة آلاف رجل مقاتل قرروا قتال على رضى الله عنه وثلاثة آلاف فى الكوفة قرروا عدم قتاله ولا القتال معه طلب منهم على رضى الله عنه أن نمضى إلى قتال عدونا وعدوكم معاوية، لكنهم يرفضون حتى يعلن إعترافه بالكفر والتوبة عنه فيقيم لهم على رضى الله عنه ملحمة فى النهروان بعد قتلهم عبد الله بن خباب بن الأرت وزوجته الحامل، فقتلهم ولم ينج منهم سوى400 رجل جريح معركة الجمل فى الخريبة قرب البصرة حسب رواية عمر بن شبة وهى معركة بين مسلمين بل بين القبائل نفسها مضر ضد مضر و ربيعة ضد ربيعة ويمن ضد يمن إخوان فى الدين والمنهج والنسب وقتل فيها طلحة والزبير المبشرين بالجنةمعركة صفين بين على ومعاوية رضى الله عنهما ، معركة حصل فيها مجزرة مع أن بعض الناس حرضوا على الصلح وقالوا من لثغور الشام بعد أهل الشام؟ من لثغور العراق بعد هلاك أهل العراق؟ من للذرارى والنساء، ألا تذكرون الأرحام؟ وبعيداعن ضعف الروايات التى ذكرت الهول فى القتلى لكن بلاشك أن القتل كان عظيما، ردة بعض النصارى بعد إسلامهم حتى قالوا: والله لديننا الذى خرجنا منه خيرمن دين هؤلاء الذى هم عليه ماينهاهم عن سفك الدماء وإخافة السبيل وأخذ الأموال "الطبرى" وقاتلهم على على الردة ثم بعد ذلك كله عام الجماعة، ثم حرب عبدالله بن الزبير، ثم…ثم
فهذا جانب من حركة الإنسان أى إنسان لاينبغى أن ينسى أو توضع عليه الأيدى لنفهم الناس أن حياة المسلم كلها قيام ليل وصيام نهار، وعفو متكرر، وعطاء متكرر وخير دائم حتى إصطبغت صورة الولى فى خيال الإنسان المسلم على هيئة الغاز المثالى الذى لا وجود له أنظر "المتهاجرون" أى من مات من الصحابة والتابعين وهو مهاجر لصاحبه حتى مات فى المعارف لابن قتيبة ص550(/2)
الولى هو إنسان… وهو… بشر المجاهد هو إنسان….وهو… بشر أما تصوير صورة الإسلام العملى وعالم الإسلام والمسلمين على صورة أفلام الكرتون أو عالم الجن والملائكة فهى صورة تهين الإسلام أكثر مما ترفعه إننا نقول هذا لأولئك القوم الذين يعطلون عظائم الأمور ويوقفونها لمجرد بعض الأمور الصغيرة فحساسيتهم أمام الأخطاء تجعلهم يضعون العصبة على عيونهم لحجبها عن رؤية الخير والفضل الإلهى، إن الجهاد فىسبيل الله تعالى حركة بشرية وحركة من أجل السلطان والملك، ففيه تتداخل كل انفعالات الإنسان، ومن دعا للسيف أو حرض علي السيف فلا ينتظر أن يناقشه الناس ويحاربوه بالخطب الرنانة والورق الصقيل بل عليه أن يحضر نفسه ليذوق حر السيف، هذه سنة الله تعالى وللذكر فإن الخلفاء الثلاثة الشهداء ما ماتوا بيد الكفار بل ماتوا بيد مسلمين فسقة مبتدعين فأبو لؤلؤة الفارسى ليس من أهل الشرك ومحاولة لإثبات مجوسيتة دونهما خرط القتاد وإن نسب إليها وأبو ملجم من الخوارج ولم يكفر أوائلهم إنما الخلاف فيمن أتى بعدهم والثائرون على عثمان بعض قادتهم صار من قادة جيش على رضىالله عنه، ولذلك من وضع رجله ويده فى هذا السبيل سبيل إعادة سلطان الله تعالى على الأرض بالجهاد فى سبيل الله تعالى، ووقف نفسه للتحريض ضد الطواغيت، وإزالة عروشهم، ودك طغيانهم فهذا رجل نهايته معلومة، وإن لم يحضر نفسه لذلك فهو رجل مستريح أى لاعقل له فهذا طريق نهايته إما برد العدل أو حر السيف نعم يسعك أن تنشئ مجلة أونشرة لتكون حزبا معارضا، وحزبا ترقيعيا تطلب الإصلاح وتنتظر الفرج بإخراج المساجين، أو موت ملك ليأتى غيره فربما يكون خيرا منه، فحينئذ أمرك سهل وهين، فأنت رجل سياسة وكلمة وملفك عندهم لايعدو أن تكون معارضامحترما أىتحترم حدود المعارضة السياسية أما وقد قلت: الجهاد والقتال فما عليك إلا أن ترتقب، فلست أنت بخير من أسلافك الأخيار ولست أنت بخير من أقرانك فليس عبد الله عزام عنك ببعيد، وليس الشيخ عمر عبد الرحمن عنك ببعيد وليس الشيخ أبو طلال القاسمى عنك ببعيد، وليس الشيخ أنور شعبان ببعيد و ليس أبو عبدالله أحمد عنك ببعيد، وليس سفرالحوالى وسلمان العودة عنك ببعيد وليس…!؟
القائمة طويلة ياعبدالله ويكفيك هذا فهذا أمر تشيب له الولدان، وليس له إلاالرجال ففكر كثيرا قبل أن تخوض، وأياك أن تقول لقد ورطونى، فما ورطك أحد، فنحن لم نضمن لك حصول الوزارة والمنصب ولم نضمن لك ملائكة تجاهد معك لايخطئون ولم نضمن لك مسدسا ينزل من السماء يعرف المؤمن من الكافر والسنى من البدعى، ولم نضمن لك نبيا قائدا يوحى إليه، فقد نقول لك اليوم قولا ونرجع عنه غدا، ونقول لك هذا ما رأينا، وما شهدنا إلا بماعلمنا وماكنا للغيب حافظين، فإن أردت الغازالمثالى أصعد القمر، فإن أعجز كف الكثير من الناس قد سلكوا سبيل السلامة وجلسوا كالعصافير مع أبنائهم فى أعشاشهم، يأكلون ويشربون ويرقبون الحياة من وراء زجاج بيوتهم، هذا فى وقت المدافع، فإذا سكنت سيخرجون علينا بمواعظهم العظيمة ليقولوا لنا: لقد قلنا وقد توقعنا… وقد أنذرنا….وقد… وقد..ألسنة طويلة نسأل الله تعالى قطعها سلقوكم بألسنة حداد أشحة على الخير إن الكثير من المقعدين يتقنون نقد لاعبى كرة القدم، ولكنهم أصحاب أصوات عالية فى قيادة المعركة على كرسى النظارة وهم يعرقون، ويتصببون عرقا وتبح أصواتهم لكنهم ليس لهم من اللعب إلا الوصف(/3)
معوقات الهداية ::
نافع الشمري
إن التوبة والإلتزام والهداية أمنية لكل نفس بشرية والعودة إلى الحق مطلب لكل العقلاء ولكن هناك عوائق قد تقف بين المرء وبين الهداية وهي لا شك حواجز ولكن يستطيع قوي الإرادة بإذن الله تجاوزها وتخطيها بشرط أن يملك القدرة والعزيمة القوية باستشعاره لعظمة خالقة_ جلّة قدرته_ وبتفكره في يوم معاده {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ مَن جَاء بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} (85) سورة القصص.
وإن الهداية للدين والحق أعظم نعمه أنعم الله بها على من شاء من عباده فهي أعظم مفقود عند من فقدها وخير مطلوب عند من يبحث عنها مع أن الحصول عليها ليس صعب المنال ولكنه يحتاج إلى صدق في التوجه إلى الله عز وجل ولا تتطلب المال والجاه فهي معروضة لكل أحد ولا ينالها إلا القليل:
يا سلعة الرحمن سوقك كاسد ولقد عرضتِ بأبخس الأثمان
فالهداية غالية على الأنفس المؤمنة والقلوب الحية, ولم لا؟
وثمرتها الجنة ورضى رب العالمين.
فالجميع يرغب في الهداية ولكن تحول بينهم وبينها عوائق وموانع قد يعرفها الإنسان وقد لا يعرفها وقد يقف عليها ولا يعرف طريق الخلاص منها.
وياأيها الإخوة فالأصل في الإنسان الخير والهداية فقد خلق الله الخلق لعبادته وهيئ لهم ما يعينهم عليها من رزقه.
قال تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ . مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ . إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ } سورة الذاريات.
إن النفس بفطرتها السليمة إذا تركت كانت مقرة لله ومحبة لله وتعبده ولكن يفسدها وينحرف بها عن ذلك ما يزين لها شياطين الإنس والجن لما يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا, وقال صلى الله عليه وسلم في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه " كل مولود يولد على الفطرة" وعند أحمد وغيره " خلقت عبادي حنفاء وأضلتهم الشياطين".
إذن فالأصل في الإنسان الهداية, لا طريق الغواية, فالهداية مطلب شرعي وطلبها واجب على كل عاقل راشد لا خيار له فيها لأنها الأصل الذي خلق من أجلها خلق الإنسان.
ولا يتصور الإنسان أن الهداية ستأتيه وهو في ضلاله وغوايته دون طلب لها وسعي للحصول عليها, لذا أرشد الرسول صلى الله عليه وسلم حفيده الحسن بن علي رضي الله عنهما فعن الحسن قال:" علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهن : الهم إهدني فيمن هديت" فعلى الإنسان العاقل أن يسعى للحصول على الهداية بالدعاء ومجالسة الأخيار ومجاهدة النفس وكل الوسائل المعينة على ذلك وأن يقضي على جميع العوائق والعقبات وكل ما يقف حائل بينه وبين التوبة والإنابة والعودة إلى الله قبل أن يداهمه الموت وعندها يندم ولات حين مندم.
أما معوقات الهداية أيها الأخوة فهي:
1. الأصدقاء:
فنحن نلمس جميعاً ما للأصدقاء من أثر في توجيه السلوك والطبائع المتباينة وبالاختلاط يتأثر الأصدقاء بعضهم ببعض وهناك من الشباب من يرغب في الهداية ولكن أصدقائه يقفون حائل دون تحقيق أمنيته بصور شتى وأساليب عديدة:
لعل أبرزها عدم إعطائه فرصة للتفكير حيث نجد أنهم يجتمعون يومياً ساعات طويلة بحيث لا يكون أمام الواحد منهم فرصة للتفكير في وضعه وما هو عليه من ضياع ولو تأخر عن الحضور تجدهم يجرون معه كافة طرق الاتصال وإرسال من يقوم بإحضاره وقد يجتمعون في مسجد وتلقى كلمة فيتأثر أحد الأصحاب بها ولكن بعضهم أو غالبهم لا يتيحون له الفرصة للاستفادة منها, ومنهم والعياذ بالله _ من إذا رأى صديقة قد تأثر بزيارة لمقبرة أو بكلمة ألقيت في مسجد بادر وأسرع بإسماعه أغنية ماجنة عقب ذلك ولا حول ولا قوة إلا بالله.
2. الغفلة والتسويف:
جميع الفطناء يتمنون الهداية ويحرصون عليها لما يعرفون عن آثارها الطيبة في الدنيا والآخرة ولكن هناك من لا يسعى لها ويقوم بتأجيلها وتسويفها ويغفل عن آثار هذه الغفلة: قال تعالى:{اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مَّعْرِضُونَ} (1) سورة الأنبياء.
فكم من مسلم كانت التوبة والهداية من الأمور التي يبحث عنها ويخطط لها ويتمناها ولكنه أجلها حتى غفل عنها ظناً منه أنها شيء كاسد في متناول يده متى ما أرادها.
إن تأجيل التوبة إلى أوقات الرجولة وزمن الشيخوخة أفكار تعشعش في عقول الشباب من ذكور وإناث فكم من شاب نزل الموت بساحته وهو في زمن الغفلة فنسأل الله السلامة والعافية.
3. المخدرات :
كم تنخر المخدرات في جسد الأمة وكم أضاعت عليها شبابها وما انتشرت في مجتمع إلا ظهرت فيه الرذيلة وغادرته الفضيلة فأصبح تعاطيها و إدمانها عائقاً عن التوبة و الهداية وكم من شاب قضت هذه السموم على آماله وطموحاته فكانت نتيجتها ضياع الدنيا و الآخرة ، قال تعالى { خسر الدنيا و الآخرة ذلك هو الخسران المبين } .
4. المقاهي :(/1)
عن طريقها يتعرف الشباب على القنوات الفضائية و الأفلام المنحرفة و البرامج المنحلة والأخلاق المدمرة والصحبة السيئة و إن من اعتاد ارتياد هذه الأماكن يصعب عليه التخلص منها والتفريط فيها بسهولة إلا بصدق مع الله سبحانه و تعالى .
5. السفر :
من اعتاد السفر إلى أماكن اللهو والرذيلة من أجل ممارسة البغاء ونبذ الفضيلة وتعاطي الخمور يصعب عليه الالتزام لشدة تأثيرها فيه وكثير من الناس لا يستطيعون كبح جماح شهواتهم ورغباتهم في السفر ولا يستطيعون خطم أنفسهم عن شهواتها أو مجاهدة أنفسهم بنبذ السفر وتركه وليس عندهم استعداد للتضحية بشيء لله سبحانه وتعالى .
6. القنوات الفضائية :
فكم من رجل أضاع عمره و أهدر وقته وصحته وماله بسبب هذه القنوات وكم من فتاة هتك عرضها بسببها و إن الإنسان الواعي يستمع لنصح الناصحين وتحذير العلماء والواعظين من خطر هذه القنوات ويتركها سريعاً بلا عودة ومتى ما صدقت النية كان العون من الله عز وجل .
7. الشهوة :
فهناك بعض الشباب لا يقدرون على كبح جماح شهواتهم فكلما اشتهت نفسه شيئاً أعطاها دونما محاسبة لها وكلما فكر في الهداية وجد أن الهداية ستقف حائلاً بينه وبين مايشتهيه و من ثم ترك التفكير في الهداية كلياً إلا من رحم الله تعالى و أعانه على نفسه .
8. كرة القدم :
أصبح غالب الشباب مفتونين بها و إذا فكر الشاب في الهداية والالتزام أصبحت الكرة عائقاً يحول دون ما يصبو إليه فإذا فكر في قراءة كتاب نافع أو حفظ آيات من القرآن تضارب ذلك مع موعد مباراة وكلما فكر في السفر إلى عمرة أو حج حال بينه وبينها موعد هام لمباراة بل و أكثر من ذلك التفريط في صلاة الجماعة و إنا لله و إنا إليه راجعون ولاشك أن هذا عائق ولكن قوي العزيمة مع الاستعانة بالله يتخلص منها بإذنه تعالى .
9. الأغاني :
فقد أولع الكثير من الناس بها وكلما فكر شاب أو شابة في الهداية والالتزام وجد هذا العائق يحول بينه وبين ما يريد فعليهم أن يعلموا أن الدنيا ليست دار مقر بل هي دار ممر و أن تحقيق رغبات النفس بما يغضب الرب تبارك وتعالى سيجعلهم يتعرضون لعذاب الله يوم القيامة نسأل الله السلامة والعافية .
10. الدخان :
فالكثير من الشباب يقف هذا السبب حائلاً يمنعه من الالتزام ويجعله لا يفكر في مصاحبة الأخيار استحياء من ارتكاب هذا المنكر ويرى أن الطريق الذي سيحرمه من معشوقه لا يناسبه ويستمر في ذلك حتى يأتيه اليقين وهو على ذلك وليعلم الشاب أن ترك الدخان من أسهل الأمور فهو يحتاج فقط إلى عزيمة وقوة إرادة وتوكل على الله سبحانه وتعالى .
11. الزوجة :
إن كثير من الشباب يرغبون حقيقة في الالتزام والهداية ولكن المشكلة في الزوجة فهي تغار من صديقتها وقد تكون بعيدة عن التديٌن أصلاً فلذا كلما فكر الزوج في الالتزام بادرته بطلباتها التي تعارض الالتزام كالسفر للخارج وما يصاحبه من زيارات لأماكن الاختلاط والدخول إلى أماكن مشبوهة إرضاءً لها أو تقليداً لصديقات السوء ، و إن من الشباب من يقبل على الزواج وكله أمل بأن تساعده زوجته على تغيير حالته فإذا بها تزيد الطين بلة وخاصة إذا كانت الزوجة تملك مالاً حيث يسقط بعض ضعاف النفوس وسط إغراءاتها المادية وبخاصة ونحن في زمن قد طغت المادة فيه على كثير من القيم والمبادئ والله المستعان .
12. الزوج :
حيث ابتليت بعض الفتيات بأزواج سيئي الأخلاق و أصحاب فجور وكلما فكرت الزوجة بالهداية والالتزام وجدت زوجها يحول بينها وبين هذا الطريق فهو يجبرها على مشاهدة الأفلام والاستماع إلى الأغاني ويسهرها عن الصلاة وذكر الله ويؤذيها برائحة الدخان أو الخمر والعياذ بالله ولاحول ولا قوة إلا بالله .
13. الأقارب :
ولعل هذا من أهم العوائق التي تقف حائلاً دون الالتزام و الهداية فنجد كثيراً من أبناء المسلمين يرغبون في التحول عن أوضاعهم والتخلص من واقعهم لكن تقف عقبة الأقارب دون ذلك فقد يكون الواحد معروفاً عند أقاربه وهو غير ملتزم ولهم حوله ملاحظات ولذا يصعب عليه التخلص منهم بل قد تجدهم يتضايقون عندما يرون عليه آثار التوجه نحو الدين والعياذ بالله ، فأهل الصدق وهم كثير _ ولله الحمد ـ استطاعوا أن يتخلصوا من هذا العائق فلا يكونوا أسبق منك إلى الجنة ، قال تعالى { وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات و الأرض أعدت للمتقين } .
14. البيئة :(/2)
لا شك أن البيئة السيئة لها أثر عظيم في عدم التوجه إلى الدين ، والبيئة تختلف من مكان لآخر فالمدرسة والعمل ومكان السكن كلها بيئة تؤثر في الإنسان فقد يُعرف عن إنسان مثلاً في أي من هذه البيئات الاستهتار وعدم المبالاة فيجد صعوبة في تغيير وضعه فعندما يفكر مثلاً في تقصير ثوبه تجد أصدقاءه في هذه البيئة ينفرون منه ويؤذنه ويتهمونه بالوسوسة والعياذ بالله ولذا يُحرج منهم ويعود إلى وضعه ، فعليه بالصبر والبحث عن الرفاق الصالحين والصدق مع الله قبل ذلك ، قال تعالى { ومن يتق الله يجعل له مخرجاً } .
15. المال :
قال تعالى { زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب و الفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحيوة الدنيا والله عنده حسن المئاب } .
أن الآيات و الأحاديث كثيرة في بيان فتنة المال فكم أضل المال من الناس فحب المال وزيادته وكسبه تقف حائلاً عند بعض الناس عن الهداية فعلى من كان هذا حاله أن يلجأ إلى الله ويصدق معه ويخلص النية له وسوف يعينه الله سبحانه وتعالى على ذلك .
16. المنصب :
يمتلك بعض الناس طموحاً غريباً و إصراراً عجيباً من أجل الوصول لأعلى المراكز ويضحي من أجل الرئاسة بالكثير ومن ثم إذا دخل في هذا المضمار واستسلم لهذا المنصب وجد نفسه مجبراً على التنازل عن كثير من الأمور الشرعية ليحافظ على منصبه ويرضي رؤساءه فيكون المنصب بذلك عثرة في طريقه إلى الالتزام والهداية والله المستعان .
17. الجهل :
يعتبر هذا المعوق من أعظم المعوقات لأن العلم نور والجهل ظلام فكلما ابتعد الإنسان عن طريق العلم ابتعد عن طريق الهدى والنور فالجاهل يسهل اصطياده ولذا وجب على كل مسلم أن يتعلم من دينه ما يساعده على فهمه بالصورة المطلوبة ، فكم حمى العلم من زلات وهفوات بتوفيق الله ، وكم أسقط الجهل في الهوى والشبهات والشهوات .
18.عدم بذل الجهد في التوبة :
فهناك من يعلم أنه على معصية ولكن عزيمته ضعيفة في التخلص من هذه المعصية ولو بذل الجهد لما وقع في الزلل والحل لمثل هذا استحضار عظمة الله سبحانه وتعالى وتذكيره بيوم القيامة والحساب والجزاء ، وقد جاء عن الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ أن ابنه عبدالله سأله : متى نرتاح يا أبي ؟ قال : عندما نضع أقدامنا في الجنة .فنسأل الله من فضله ، واعلم أن بذل الجهد لايستغرق إلا وقت قصير ثم تتعود النفس على ذلك ، فاصدق مع الله فسوف ترى منه الخير سبحانه .
19. حب النوم :
هناك من الناس من يحب النوم حتى أصبح مانعاً قوياً أمامهم من الالتزام فإذا فكر في أداء الصلاة في وقتها حال بينه وبينها النوم وعدم قدرته على مجاهدة نفسه ، و إذا أراد أن يقيم الليل في العبادة والذكر غلبه النوم وعند تفكيره في حضور المحاضرات أو قراءة الكتب أو حفظ القرآن كان له النوم بالمرصاد ، والحل هو أن يتعود على قلة ساعات النوم مستعيناً بالله وسوف يعينه الله على ذلك بإذن الله .
20. التعلق:
هناك من يرغب في الالتزام ولكن مشكلته أنه ربط مصيره بمصير محبوبه ومعشوقه فيقف هذا المحب عقبة في طريق الهداية والالتزام ، وهذا مانع يقف أمام بعض الرجال والنساء وعلى من ابتلي بهذا الأمر أن يعلم أن محبوبه لن ينفعه أمام الله فكيف تضحي برضى الله من أجل هذا ، فتب إلى الله وارجع إليه والتائب من الذنب كمن لا ذنب له .
21. إدمان الصحف والمجلات:
فبعضهم لايستطيع قراءة القرآن ولا كتاب مفيد فشهوة قراءة الصحف و المجلات تمنعه من ذلك ، ولا تطيق نفسه قراءة آية واحدة من القرآن أو كتاب صغير أو رسالة صغيرة ، وعلاج هؤلاء أن يستعينوا بالله وسوف يشرح الله صدورهم ويبدلهم خيراً من ذلك .
22. التهديد بآثار الماضي :
هناك من الشباب من يعاني من آثار سيئة في ماضيه حيث التقطت له صور مع عاهرات وساقطات أو في حفلات غنائية أو غير ذلك ، فعندما يفكر في الالتزام والتوبة يقف ماضيه عقبة في سبيله فقد يهدده أصدقاء الماضي بفضحه واتهامه بالنفاق وعندهم أدلة على ذلك فيستسلم خوفاً من الفضيحة في الدنيا وهذا العائق ليس عذراً ينفعك أمام الله و إذا حدث وقدر الله أن يفتضح أمرك فاعلم أن هذا ابتلاء من الله ليختبر مدى صدق توبتك وهدايتك ، وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل ... ) .
23. الشهرة :
ليعلم المسلم أن الشهرة مهما طالت فسوف تزول ، فالفنان عندما يكبر سنه سينساه الجمهور ، واللاعب أيضاً كذلك سوف ينسونه كما نسوا غيره لأن ماكان لغير الله فسوف يزول وينتهي ، فعلى من اشتهر وكانت شهرته في غير مرضاة الله أن يرجع إلى الله ويتوب إليه ويستغفره ويسلك الطريق الصحيح المستقيم إلى الله سبحانه وتعالى .
24 . الكمبيوتر :(/3)
وهو سلاح ذو حدين فمن استخدمه في الخير فهو خير ومن استخدمه في غير ذلك فعليه بتقوى الله وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ ) ، واعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرنا بأن المرء سيسأل يوم القيامة عن عمره وعن شبابه وماله وعلمه ، فبأي وجه ستلاقي ربك ؟ وما هو عذرك الذي سوف تحتج به عندما يسألك عن هذه الأوقات التي أضعتها ؟ قال تعالى : { وقفوهم إنهم مسئولون } .
هذا والله أعلم وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .(/4)
معول الهدم الاجتماعي
الشيخ يونس الزلاوي
الأخلاق السيئة لها معاول لهدم البيئة الاجتماعية الصالحة ، والمرتبطة بفضائل الأخلاق ومحاسن الأعمال ، وتحدث في المجتمع تصدع وخلل يقطع التواصل ، والترابط بين أفراده ولهذا من معاول الهدم للبيئة الاجتماعية إذا انتشرت فيها مساوي الأخلاق وفشت الفواحش كالزنا والربا وغير ذلك مما يغضب الله سبحانه وتعالى ، ويوجب البلاء والعذاب الإلهي للأمة .
• المعول الأول من معاول الهدم الاجتماعي ظهور الفواحش وانتشارها بين الناس .
إذا ظهرت و انتشرت هذه الفواحش والمنكرات كانت إذانا بنزول البلاء وغضب الله عز وجل قال صلى الله عليه وسلم في الزنا والربا : ( إذا ظهر الزنا والربا في قرية فقد أحلوا بأنفسهم عذاب الله ) رواه الحاكم في المستدرك .
وفي إهلاك قوم لوط عظة وعبرة قال تعالى: (( فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود * مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد )) {هود } ، وقال تعالى : ((وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ 80 إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ 81 وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ 82 فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ 83 وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَرًا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ 84)) {الأعراف } .
وكذلك جاء في عقوبة الربا قال تعالى : (( الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ 275 )) {البقرة} وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( درهم الربا أشد عند الله من ست وثلاثين زنية في الإسلام ) رواه أحمد .
ومن العجيب أن العلاج الذي قدمه النبي صلى الله عليه وسلم لمن أراد أن يفتك بالمجتمع من خلال ارتكابه لجريمة الزنا ، هو الارتباط الاجتماعي وذلك في الحديث الذي رواه أحمد وغيره بسند صحيح أن شابا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله أتأذن لي في الزنا فصاح الناس به ، فقال : ( اتركوه ، أدن مني ، فدنا منه فقال : أتحبه لأمك ؟ قال : لا ، جعلني الله فداك . قال : كذلك الناس لا يحبونه لأمهاتهم ، ثم قال له : أتحبه لابنتك ؟ قال : لا ، قال : كذلك الناس لا يحبونه لبناتهم حتى ذكر الأخت ، والخالات والعمات ، وهو يقول : لا ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : كذلك الناس لا يحبونه ثم وضع يده الكريمة على صدره ، وقال : اللهم طهر قلبه ، واغفر ذنبه ، وحصن فرجه ، فلم يكن بعد شيء أبغض إليه من الزنا ) .
تأمل في هذه المعالجة وسوف نأتي إليها بإذن الله عند الحديث عن مقالة فن الإصلاح الاجتماعي ولكن ألم تلاحظ أن النبي صلى الله عليه وسلم بداء بعلاج هذه القضية من خلال ، تنبيه الشاب إلى عدم هدم العلاقات الاجتماعية للمجتمع ، وبداء بأول نواه للمجتمع وهي الأم ، ثم البنت ، ثم الأخت ، ثم الخالة ، ثم العمة ، فمن ارتكب فاحشة الزنا فإنما قطع الصلة المرتبطة بكل هذه الأواصر الاجتماعية وأولها الأم هذا في الزنا ، فكيف ! والتعامل بالربا أعظم من ذلك كما ذكرت لك في الحديث .
• المعول الثاني من معاول الهدم الاجتماعي التباغض والتقاطع والتباعد .
إن التباغض والتقاطع والتنافر كل ذلك من معاول الهدم في النسيج الاجتماعي ، والتي تنتج من مساوئ الأخلاق وقد نهى الله عن التجسس على عيوب الناس ، وتطلب مساوئهم ، وكشف عوراتهم بقوله : (( ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا )) { الحجرات } فالذي اشتغل في البحث عن مساوئ الناس ، وإتباع عوراتهم ، وترك عيبه كان كالذباب الذي لا يعرج على المواضع السليمة من الجسد ، ولا ينزل عليها ، وإنما يقع على القروح فيدميها ، فالعاقل السعيد من نظر في عيبه ، وشغل بذلك عن عيوب غيره .(/1)
وكذلك من مساوئ الأخلاق التي تورث التباغض والتقاطع ، الغيبة وقد عظم الله أمرها فقال : (( ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه )) { الحجرات } ، وقال (( ويل لكل همزة لمزة )) {الهمزة} إنها من المعاول الرئيسة في هدم البيئة الاجتماعية ، فالغيبة بالقلب حرام كما هي باللسان ، وحرام إلا أن يضطر لمعرفته ، بحيث لا يمكنه التجاهل ، فحد الغيبة كما بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أن تذكر أخاك بما يكره إن بلغه أو سمعه ، وإن كنت صادقا سواء ذكرت نقصانا في نفسه ، أو عقله أو ثوبه أو في فعله أو في قوله أو في دينه أو في داره ، أو في ولده أو بشيء ما يتعلق به ، و استمع إلى رسول الله وهو يقول ( إن الله تعالى حرم من المسلم دمه وماله وعرضه ) .
وكذلك من الأخلاق السيئة التي تورث وتوقع العداوة والبغضاء فتهدم البيئة الاجتماعية شرب الخمر قال تعالى (( إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون )) المائدة فكل من انحرفت سلوكه بشيء من مساوئ الأخلاق كان معول من معاول الهدم في ترابط المجتمع وتلاحم الأمة نسأل الله أن يحفظ لنا مجتمعاتنا ويقيها من سوء الفتن ما ظهر منها وما بطن أمين .
• المعول الثالث من معاول الهدم الاجتماعي وهو الغش وكما سماه بعض العلماء الغش الاجتماعي .
بمعناه الواسع ، حيث يكون في الميزان وفي الحقوق والواجبات ، لا يحدث هذا إلا من الأخلاق السيئة ، ومن مظاهر الغش في مجتمعنا ، الغش في البيع والشراء ، الذي غالبا ما يهدم البيئة الاجتماعية المترابطة بين البائع والمشتري ، وكذلك الغش في الزواج بحيث تظهر الفتاة المخطوبة بمظهر حسن عندما يأتي الخاطب ، لخطبتها ، فيعطى كل الأوصاف الجيدة والجميلة ، ثم عندما يقع الفأس على الرأس يكتشف أنه قد خدع فيها وغش ، والعكس بالعكس ، وغيرها من المظاهر المشينة التي يبغضها الله ورسوله وكما جاء في الحديث ( لعن الله النامصة والمتنمصة والواشمة والمشتوشمة والواصلة والمصتوصلة والمتفلجات للحسن.. )) كل ذلك من أجل الحفاظ على البيئة الاجتماعية خالية من معاول الهدم .(/2)
معول هدم الاقتصاد
الشيخ يونس الزلاوي
يعتبر الاقتصاد من أهم دعائم وأسس بناء المجتمع واستقراره ، وفي تدنيه مدعاة إلي الانحراف ولهذا كان الحبيب يستعيذ من الفقر ، فقال : ( اللهم إني أعوذ بك من الكفر ، والفقر ، وعذاب القبر ) وأيضا قال ( اللهم إني أعوذ بك من الفقر والقلة والذلة ، وأعوذ بك من أن أظلم أو أظلم ) ومما لا شك فيه أن مساوئ الأخلاق لها أثر كبير في هدم البناء الاقتصادي خصوصا إذا كانت هناك أسباب تدعو إلى هذا الهدم ، ومن نظر إلى بلدنا الحبيب الذي لا نشك أنه يحمل كل مقومات البناء الاقتصادي الجيد ، وعنده العديد من الموارد التي بمكانها أن تحافظ عليه من كل الانحرافات التي تعصف به ، ولكن عندما لا يكون هناك توظيف صحيح ، والفساد مستشري في كل منحا من مناحي الحياة ، لا يكون هناك نمو اقتصادي ولو كانا هناك مال قارون .
ولذلك من أسباب هدم الاقتصاد أو قل معول من معاول هدم الاقتصاد :
1/ ضعف الدخل : ما يعاني منه الكثير من الموظفين في الدوائر الحكومية من التدني الملحوظ في الرواتب ، والتي لا تناسب مواكبة الحياة ، وكذلك تأخيرها عن مواعيدها بالأشهر ذوات العدد ، مما يؤثر على حياة الفرد ومعيشته ، فيجعله لقمة سائغة لشيطان يعبث بها كيفما شاء ، فترى الأخلاق السيئة ،من السرقة ، والكذب ، وعدم الأمانة ، وعدم المسؤولية ، وضياع الأوقات ، وقد يؤدي الأمر إلى أسوء من ذلك فتحصل الانحرافات الأخرى مثل المخدرات ، وشرب الخمر والزنا ، وغير ذلك من الانحرافات ، التي سبابها قلة الدخل ، وعدم القدرة على الوفاء بمتطلبات الحياة ، الناتج من ضعف الراتب ، الذي لا يناسب نوع المهنة التي يؤديها العامل أو الموظف .
2/ الرشوة : هذا المرض العظيم الذي يحطم كل شرايين الاقتصاد ويقضي عليها تماما ، ولقد حرم الله تعالى أكل الأموال بالباطل ، قال تعالى ( ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون ) البقرة
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال ( لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي ) ولا تقف الرشوة عند الحصول على مال أو منفعة ، وإنما تتعدى ذلك إلى الحصول على المركز أو العمل الذي يمكن به فرد وهو لا يستحقه ، وفي إشغال الوظائف بمن ليس جدير بها ، وإهدار للوقت وللطاقات والكفاءات ، وإضعاف للإنتاج بما ينعكس على اقتصاد الأمة .
وإسناد الأمور إلي غير أهلها ، وربما أضاعت الرشوة حقوق الأمة واقتصادها بتبديد أموالها ، فكم من المرتشين الذين أنيط بهم مسؤوليات وظيفية إدارية أو مالية ، يبددون مشاريع الأمة مقابل أموال ، وربما وزعت أدوية أو مطعومات منتهية الصلاحية بين أفراد المجتمع فأهلكتهم مقابل رشوة مالية ، وكبدت الدولة خسائر في الأموال والأنفس .
3/ إضاعة المال في غير محله : وهذا الأمر يسري على الدولة قبل الأفراد فإن ما نرهاه ونسمع عنه من إهدار الأموال في بلدنا الحبيب بدون حسيب ولا رقيب ، ما تشيب من رؤوس الولدان ، فهذا إن دل إنما يدل على السفه الحقيقي في عدم المحافظة ، والإسراف ، والفساد ، وقديما قالوا :
السفه التبذير للأموال - في لذت وشهوة حلال
فالذي يبذر أمواله في لذة وشهوة حلال يسمى عندهم سفيه فكيف به إذا كان يبذرها في غير ذلك ماذا يسمونه ، حقيقا لا أدري ، فكثير من أموال الفاسدين خلقيا تصرف وتبذل في المحرمات والمخدرات ونشر الفساد بين الناس ، ومما لا شك فيه أن في ذلك خطر عظيم على المجتمع والدولة من الناحية الاقتصادية .
4/ البطالة : من الأشياء التي تهدم الاقتصاد ، هذه البطالة التي غزت بلدنا وأثرت في كل شيء فيها وأصبح الشخص يبحث عن الربح السريع ، لسد احتياجاته ويعمل في ذلك بالقاعدة الميكيافلية التي تقول الغاية تبرر الوسيلة فتراه يتاجر في أرخص الأشياء ، والتي تدر ربحا طائلا مثل المخدرات ، والزنا وغير ذلك ، ولا يعبا بالهلاك الذي قد يحصل له ولمجتمعه من موجب هذه التصرفات الرخيصة والغير المسئولة ، وليس هناك رادع لا من دين ولا من قانون ، فتنتشر السرقة والقتل والإجرام بشتى أنواعه ، مما يهدم كل أركان الدولة وعلى رأسها الاقتصاد .(/1)
معيار تصحيح الخطأ
لا شك أ، تصحيح الخطأ أمر يسعى إليه كل امرئ جاد في حياته، حريص على تحقيق أهدافه؛ فضلاً عن المؤمنين الصادقين الذين يرون الخطأ يأخذ مدى أبعد من مجرد لوم الضمير وعتاب النفس.
لكن علاج الخطأ أحياناً يوقع في خطأ اًخر، ومن ثم فوقوع الخطأ ليس هو وحده المعيار الأوحد في تقبل مقولة من ينتقد واعتباره أنه على الحق، والسعي لإثبات وقوع الخطأ ليس منجياً للمنتقد ولاكافياً في سلامة موقفه المنتقِد.
وهاهو النبي صلى الله عليه و سلم ينكر على أصحابه في أكثر من موقف أسلوب تعاملهم مع الخطأ وعلاجهم له، ومن ذلك القصة المشهورة في الرجل الذي بال في المسجد، وقصة معاوية بن الحكم السلمي - رضي الله عنه – حين تكلم في الصلاة، وقصة الشاب الذي جاء يستأذن بالزنا فهمَّ به أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم وغيرها كثير.
وحين نتحدث عن أخطاء إخواننا فإن دراسة الظروف والأجواء التي ولدت الموقف الخاطئ أمر له أهميته في إعطاء الخطأ حجمه الطبيعي والمعقول، إضافة إلى إدراك البيئة وطبيعة المجتمعات التي يعيشها إخواننا.
ومن الأمور المهمة لتقويم أخطاء إخواننا أن نطبق المقياس والمعيار الشرعي في الحكم على الأعمال والمشروعات والبرامج؛ فمجرد كون الأمر لا يروق لنا، أو لم نألفه، أو لم يعجب فلاناً من الناس، أو حكم عليه بأنه غير مناسب.. مهما كان شأن هذا الشخص، كل ذلك ما لم يكن منطلقاً من جانب شرعي فلا يسوغ قبوله، فضلاً عن أن يكون سبباً في الحكم على إخواننا وإسقاطهم.
وأحياناً في تقويمنا للأعمال والبرامج الدعوية نفترض الكمال في البشر، فنريد فقيهاً متمكناً، وأن يكون في الوقت نفسه سياسياً ماهراً، واقتصادياً بارعاً، ومفكراً يدرك القضايا الساخنة في عصره ويعيها، وقيادياً يجيد فن الإدارة وتوجيه الناس وتفعيل الطاقات، إلى غير ذلك مما يصعب أن يتحقق في جماعة فضلاً عن فرد. ولماذا لا نقبل في فرد من الأفراد أن يتميز في ميدان من الميادين ولو على حساب ثغرة أخرى يسدها غيره؟
وحين يُلجئ إخواننا صراعُهم مع أعداء الله- تبارك وتعالى- إلى الوقوع في أخطاء وتجاوزات، فذلك وإن كان لا يسوغ منهم، ونبل مقصدهم لا يسوغ لهم ذلك، إلا أن من يتحدث عنهم ينبغي أن يتحدث عن الجميع، ولا يسوغ له أن يشن حملة ظالمة على إخوانه، ويدع الظالم الأكبر الذي يتربص بأهل الإسلام الدوائر، فظلمه وجوره وخطؤه لا يقارن بخطأ الدعاة.
بل الأدهى من ذلك أن يقف المنتقد في صف واحد مع أعداء الله في مواجهة إخوانه ورفاق دربه، وأن يسوغ للظالمين بطشهم وجورهم.
فمتى ندرك حق إخواننا علينا؟ ومتى نعي مسؤوليتنا عن نصرتهم وموالاتهم والوقوف معهم في صف وخندق واحد؟
كل ذلك لا يعني ألا نتحدث عن الأخطاء وألا ننتقد؟ بل هذا من النصح الواجب للمؤمنين، لكن ينبغي أن يكون في إطار ما يحقق المصلحة، وألا يخل ذلك بواجب الولاء والنصرة للمؤمنين.(/1)
مغالطات الأستاذ عبد العزيز القاسم حول القانون
20-8-2006
بقلم خالد بن عبدالله الغليقة
"...ممارسة العلماء ودراستهم للنظام القادم من الغرب وفي النهاية إقراره، كان منطلقاً من سيادة الشرع وعلى خلفية ومرجعية إسلامية بخلاف الحالة الثانية فهي وباعتراف القائمين عليها كان منطلقاً من سيادة القانون الوضعي وعلى خلفية ديانة مختلفة ومرجعية أوربية غربية..."
يقول المحامي عبدالعزيز القاسم، في برنامج تلفزيوني( 1 ) جواباً على سؤال :
" كيف يمكن أن يساهم الإسلاميون المتشددون في تعطيل الشريعة؟ " .
فيجيب :
(...قضية التشريع على سبيل المثال، لا يمكن أن تقول للناس: القوانين حرام وتترك الناس في فوضى في تعاملاتهم , وإذا تقدمت بوضع أنظمة محترماً أصول الشريعة أسهمت في تعميق الشريعة ، لا يمكن أن تكون الشريعة هي ترك الناس فوضى، كيف نحرم تعليم القانون مثلاً ؟ اللي هو..لم يُفتح قسم للقانون في جامعة الإمام على سبيل المثال إلا منذ 10 سنوات أو 15 سنة، ولم يُفتح بهذا الاسم، باسم آخر اسمه "السياسة الشرعية"، لكن تُدرس فيه القوانين الوضعية كما هي في فرنسا وغير فرنسا .
لماذا لم نطرح هذه القضية بوضوح ونعالج هذه القضايا ونفرق بين القانون المحرم والقانون المشروع ؟
لماذا نسمي القانون إذا صدر من الدولة نظاماً، ونطيعه ونأمر بطاعته ، وفي الوقت نفسه تصدر فتاوى بمنع استيراد كتب القانون، كما صدرت في الستينات مثلاً أو السبعينات ؟ أو فتاوى بتحريم الدراسة في القانون ، أو فتاوى حتى الآن بمنع تدريس القانون في بعض الجامعات).
هذا الكلام فيه مغالطة تاريخية ومنطق معكوس ويتبين ذلك من عدة أمور :
أولاً: المغالطة التاريخية:
قوله ( لا يمكن أن نقول للناس: القوانين حرام ونترك الناس في فوضى من تعاملاتهم ) .
في هذا الكلام نسبة التحريم لعلماء البلاد السعودية للقوانين مطلقاً وبشكل عام من دون تفصيل بين القوانين ومن دون مراعاة الزمن والحالة التي صدرت فيها تلك الفتاوى ، فبالنسبة للأمر الأول وهو أن العلماء حرموا القوانين مطلقاً بشكل عام وحرموها لذاتها لا لما تضمنته من مخالفات شرعية فهذا فيه جناية على الحقيقة يتبين ذلك بالأدلة التالية :
أولاً : أن العلماء لم يحرموا القوانين مطلقاً لذاتها ؛ بل حرموها لما تضمنته من مخالفات شرعية ودليل ذلك أنهم إذا علموا وعرفوا بعد الدراسة والتمحيص أن ذلك القانون ليس فيه مخالفة شرعية يقبلونه .
ومن أدلة ذلك ما ذكره الشيخ صالح الحصين عنهم في قضية النظام القضائي حيث قال: (نظام القضاء في المملكة هو نفسه يرجع في مصدره التاريخي إلى الفقه الغربي وقد اقتبس من بعض التقنينات العربية المقتبسة بدورها من التقنينات الأوروبية.
وقبل صدور هذا النظام عرض على هيئة كبار العلماء للمناقشة وكان عرضه على الهيئة مسبوقاً في أذهان عدد كبير من الأعضاء بجريدة طويلة دوّنها أحد العلماء من خارج المجلس تنتقد النظام في الجملة وتناقشه مادةً مادة حاكمةً على كثير من مواده بأنها مخالفة للشريعة أو غير موافقة لها. وقد درست الهيئة النظام وتداولت الرأي حوله مادةً مادة، وانتهت إلى الموافقة عليه دون تغيير عدا مادة واحدة جرى تعديلها صياغة وبقي مضمونها من دون تعديل) (2).
بل إن قبولهم للأنظمة التي على شكل مواد، سابقٌ لهذه الحادثة التي ذكرها الشيخ وهو قبولهم للتنظيم الأساسي للقضاء بالمملكة والذي صدر في سنة 1346هـ .
يقول الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن حسن آل الشيخ: (لقد جاء المرسوم الملكي الصادر في 4 صفر 1346هـ بخمسة فصول في أربع وعشرين مادة فقط، تضمنت ما يلي (3) :
الفصل الأول: تشكيل المحاكم، ووظائفها.
الفصل الثاني: هيئة المراقبة العامة، واختصاصاتها.
الفصل الثالث:أحكام خاصة بالإسراع بالبت في القضايا، وهي ما يعرف الآن بأصول وأحكام المرافعات.
الفصل الرابع: خاص بكتاب العدل.
الفصل الخامس: خاص بدوائر بيت المال.
مما يبين أن العلماء تبنوا هذا النظام المقنَّن، بل أشار بعض الباحثين المختصين إلى أن جملة هذه النظم أنشأت تحت إشراف المشايخ والعلماء .
فقد قال د.سعود الدريب في ترجمته للشيخ عبد الله بن حسن آل الشيخ: (...لقد أدرك الملك عبد العزيز أن نجاح هذه الحركة - حركة الإصلاح القضائي - يتوقف على اختيار الرجل القيادي الكفؤ لها، والمعروف والمقبول في الوسط الاجتماعي في المملكة، فاختار لها الرجل المعروف بعلمه وعدالته وتجاربه الناجحة " يعني الشيخ عبد الله بن حسن، وذلك في عام 1346هـ "...
وبعيد هذا الاختيار أصدر أول مرسوم في تاريخ القضاء في 4 صفر 1346هـ ) وهو النظام الذي ذكرتُه آنفاً، ثم علّق د.الدريب على هذه المسيرة بقوله: (...ومثل تركيز مسئوليات القضاء الشرعي سنة 1372هـ، ثم لسنة 1375هـ، وأنظمة كتاب العدل لسنة 1346هـ وجملة هذه النظم من اقتراح وإعداد رئاسة القضاة بإشراف وتوجيه الرئيس الشيخ عبد الله بن حسن) (4).(/1)
وكون د.سعود الدريب يشير إلى (جملة هذه النظم والقضايا) يدل على أن نشوء هذه الأنظمة والتراتيب - قانون القضاء - كانت موجودة سابقاً. والمعروف تاريخياً أن جملة هذه الأنظمة موجودة في النظام العثماني في الحجاز، والذي بدوره مأخوذ من النظام الأوروبي.
ومرةً أخرى هنا، العلماء يقبلون النظام (القانون)، ما دام لا يتعارض مع الشريعة الإسلامية.
ومما يوضح هذه القضية أكثر أن العلماء لما قبلوا هذا النظام ثم بعد ذلك تبين لهم أنه يشتمل على بعض المخالفات الشرعية كالمتضمنة في (نظام المرافعات)، سعوا إلى إلغائها لدى ولي العهد، كما في نص الأمر الصادر من حضرة صاحب السمو الملكي ولي العهد المعظم الأمير سعود بن عبد العزيز، برقم 19 في 24-1-1372هـ بالموافقة على هذه التعليمات وتنفيذها (أي النظام القضائي).
وهذا نصه:(..وبعد، فتسهيلاً لأعمال القضاء والمحاكم الشرعية في البلاد،فقد أعدنا النظر في النظم السابقة المعمول بها في رئاسة القضاء وفي المحاكم والإدارات الشرعية،فرأينا ضرورة إلغاء نظام المرافعات السابق، رغبة منا في تنفيذ الأحكام الشرعية حسبما يأمر به الشرع، بدون" تغيير"(5)أو تأخير أو تبديل،وإبداله بتعليمات إدارية من شأنها تنظيم(الأعمال الإدارية في الدوائر الشرعية..)(6)
الدليل الثاني: من أقوال العلماء في السعودية والذي يتضح منه التفصيل في حال القوانين وأن ذات القانون ليس عليه مآخذ ؛ إنما الملاحظة على مضمونه.
يقول الشيخ محمد ابن عثيمين - رحمه الله - في كتاب فتاوى العلماء الأكابر فيما أهدر من دماء في الجزائر:
(أما موضوع القوانين، فالقوانين يجب قبول الحق الذي فيها ؛ لأن قبول الحق واجب على كل إنسان ، حتى لو جاء بها أكفر الناس، فقد قال الله عز وجل: (وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها)، فقال الله تعالى: (قل إن الله لا يأمر بالفحشاء) الأعراف:28. وسكت عن قولهم: (وجدنا عليها آباءنا) ؛ لأنها حق، فإذا كان تعالى قَبِِِِِل كلمة الحق من المشركين فهذا دليل على أن كلمة الحق تقبل من كل واحد، وكذلك في قصة الشيطان لما قال لأبي هريرة: (إنك إذا قرأت آية الكرسي لمْ يزل عليك من الله حافظ ولا يقربك الشيطان حتى تصبح) قبل ذلك النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم (7) ، وكذلك اليهودي الذي قال: (إنا نجد في التوراة أن الله جعل السماوات على إصبع، والأرضين على إصبع - وذكر الحديث - فضحك النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حتى بدت أنيابه أو نواجذه؛ تصديقاً لقوله، وقرأ: (وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضتُه يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه) الزمر: 67 (8).
فالحق الذي في القوانين ـ وإن كان من وضع البشر ـ مقبول، لا لأنه قول فلان وفلان أو وضع فلان وفلان، ولكنه لأنه حق.
وأما ما فيه من خطأ، فهذا يمكن تعديله باجتماع أهل الحل " والعقد " (9) والعلماء والوجهاء، ودراسة القوانين، فيُرفض ما خالف الحق، ويُقبل ما يوافق الحق) أ.هـ (10).
المغالطة الثانية:
يقول القاسم: (كيف نحرم تعليم القانون مثلاً؟ لم يفتح قسم للقانون في جامعة الإمام على سبيل المثال إلا منذ 1 سنوات أو 15 سنة، ولم يفتح بهذا الاسم باسم آخر اسمه " السياسة الشرعية " لكن تدرس فيه القوانين كما هي في فرنسا وغير فرنسا، لماذا لا نطرح هذه القضية بوضوح ونعالج هذه القضايا. ونفرق بين القانون المحرم والقانون المشروع؟)
هذا الكلام فيه عدة مغالطات تاريخية:
أولاً: قضية (أن العلماء حرموا تعليم القانون) هنا أيضاً ؛ القاسم يعمم الحكم فيخطئ في حكمه على تاريخ العلماء مع تعليم القانون ولا يفصِّل، ولا أدري سبب ذلك وهل هو عدم فهمه للفتوى في هذه القضية مع وضوحها جداً أم أنه اعتمد على مغالطات آخرين استُلت من أدبيات الحرب الإعلامية والمغرضة على الدولة السعودية وحكامها وعلمائها ومنهجها منذ نشأت من مدعي الحضارة والتحضر والتقدمية زعموا (وبئس مطية الرجل زعموا) كما في الحديث.
وقد لخص الشيخ الأديب علي الطنطاوي رحمه الله هذا الانبهار وحال المنبهرين والذي كنا نتوقع أنهم اندثروا وتقلصت مساحة الانبهار بعدما تكشفت الأمور واتضحت الحقائق وانجلى الغبار والذي بيّن أن التقدميين لايمتطون فرساً كما أوهموا العامة بل يمتطون أتاناً.(/2)
يقول الشيخ علي الطنطاوي: (كثيراً ما كنت أناقش أناساً من المجددين فأذكر لهم كلمة خالدة لأحد عظماء الشرق فيقلبون شفاههم ويجعدون جباههم ويعرضون عنها ازدراءً لها "فأذكر لهم الكلمة" مثلها وفي معناها العام "الإفرنجي" فيسمعون ويخضعون ويهزون رؤوسهم إكباراً لها وإعجاباً بها ! وأنقل القاعدة الشرعية عن فقيه من فقهائنا فيأبونها، فإن نقلت هذه القاعدة عن فقيه إفرنجي قبلوها، ويحقرون العادة من عاداتنا، فإن علموا أن شعباً من شعوب أوروبا الراقية أو أمريكا قد اعتادها " عظّموها " كان الخير لا يكون خيراً لذاته إلا "بالماركة الإفرنجية"، والشر لا يكون شراً لذاته بل بالطابع الشرقي عليه).
نرجع إلى قضيتنا فنقول : إن العلماء لم يحرموا تعلم أو تعليم أو تدريس أو دراسة القانون بل المحرم في فتاويهم والممنوع هو تفضيلها على الشريعة أو الحكم بها وإليك بيان ذلك من فتاويهم:
"من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم فضيلة الشيخ أحمد بن ناصر بن غنيم زاده الله من العلم والإيمان وجعله مباركاً أينما كان آمين ..
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد: فقد وصلني كتابكم الكريم المؤرخ 3/5/1397هـ وصلكم الله بهداه ولم يقدر الله اطلاعي عليه إلا منذ خمسة أيام أو ستة، وقد فهمت ما تضمنه السؤال عن حكم من درس القوانين الوضعية أو تولى تدريسها هل يكفر بذلك أو يفسق؟ وهل تصح الصلاة خلفه؟
والجواب: لا ريب أن الله أوجب على عباده الحكم بشريعته والتحاكم إليها، وحذر من التحاكم إلى غيرها، وأخبر أنه من صفة المنافقين كما أخبر أن كل حكم سوى حكمه سبحانه فهو حكم الجاهلية، وبيّن عز وجل أنه لا أحسن من حكمه، وأقسم عز وجل أن العباد لا يؤمنون حتى يحكموا رسوله صلى الله عليه وسلم فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً من حكمه بل يسلموا له تسليماً، كما أخبر سبحانه في سورة المائدة أن الحكم بغير ما أُنزل كفر وظلم وفسق، كل هذه الأمور التي ذكرنا قد أوضح الله أدلتها في كتابه الكريم، أما الدارسون للقوانين والقائمون بتدريسها فهم أقسام:
(القسم الأول) من درسها أو تولى تدريسها ليعرف حقيقتها أو ليعرف فضل أحكام الشريعة عليها أو ليستفيد منها فيما لا يخالف الشرع المطهر أو ليفيد غيره في ذلك فهذا لا حرج عليه فيما يظهر لي من الشرع، بل قد يكون مأجوراً ومشكوراً إذا أراد بيان عيوبها وإظهار فضل أحكام الشريعة عليها، والصلاة خلف هذا القسم لا شك في صحتها، وأصحاب هذا القسم حكمهم حكم من درس أحكام الربا وأنواع الخمر وأنواع القمار ونحوها كالعقائد الفاسدة، أو تولى تدريسها ليعرفها ويعرف حكم الله فيها ويفيد غيره، مع إيمانه بتحريمها كإيمان القسم السابق بتحريم الحكم بالقوانين الوضعية المخالفة لشرع الله عز وجل وليس حكمه حكم من تعلم السحر أو علمه غيره؛ لأن السحر محرم لذاته لما فيه من الشرك وعبادة الجن من دون الله فالذي يتعلمه أو يعلمه غيره لا يتوصل إليه إلا بذلك أي بالشرك بخلاف من يتعلم القوانين ويعلمها غيره لا للحكم بها ولا باعتقاد حلها ولكن لغرض مباح أو شرعي كما تقدم .
( القسم الثاني ) من يدرس القوانين أو يتولى تدريسها ليحكم بها أو ليعين غيره على ذلك مع إيمانه بتحريم الحكم بغير ما أنزل الله ، ولكن حمله الهوى أو حب المال على ذلك فأصحاب هذا القسم لا شك فساق وفيهم كفر وظلم وفسق لكنه كفر أصغر وظلم أصغر وفسق أصغر لا يخرجون به من دائرة الإسلام ، وهذا القول هو المعروف بين أهل العلم وهو قول ابن عباس وطاووس وعطاء ومجاهد وجمع من السلف والخلف كما ذكر الحافظ ابن كثير والبغوي والقرطبي وغيرهم ، وذكر معناه العلامة ابن القيم رحمه الله في كتاب ( الصلاة ) وللشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن رحمه الله رسالة جيدة في هذه المسألة مطبوعة في المجلد الثالث من مجموعة ( الرسائل الأولى ) ،
ولا شك أن أصحاب هذا القسم على خطر عظيم ويخشى عليهم من الوقوع في الردة ، أما صحة الصلاة خلفهم وأمثالهم من الفساق ففيها خلاف مشهور، والأظهر من الأدلة الشرعية صحتها خلف جميع الفساق الذين لم يصل فسقهم إلى حد الكفر الأكبر ، وهو قول جم غفير من أهل العلم واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية .
والمعلمون للنظم الوضعية والمتعلمون لها يشبهون من يتعلمون أنواع الربا وأنواع الخمر والقمار أو يعلمونها غيرهم لشهوة في أنفسهم أو لطمع في المال مع أنهم لا يستحلون ذلك، بل يعلمون أن المعاملات الربوية كلها حرام، كما يعلمون أن شرب المسكر حرام والمقامرة حرام ، ولكن لضعف إيمانهم وغلبة الهوى أو الطمع في المال لم يمنعهم اعتقادهم التحريم من مباشرة هذه المنكرات وهم عند أهل السنة لا يكفرون بتعاطيهم ما ذكر ما داموا لا يستحلون ذلك كما سبق بيان ذلك.(/3)
( القسم الثالث ) من يدرس القوانين أو يتولى تدريسها مستحلا للحكم بها سواء اعتقد أن الشريعة أفضل أم لم يعتقد ذلك فهذا القسم كافر بإجماع المسلمين كفرا أكبر , لأنه باستحلاله الحكم بالقوانين الوضعية المخالفة لشريعة الله يكون مستحلا لما علم من الدين بالضرورة أنه محرم فيكون في حكم من استحل الزنا والخمر ونحوهما ، ولأنه بهذا الاستحلال يكون قد كذب الله ورسوله وعاند الكتاب والسنة ، وقد أجمع علماء الإسلام على كفر من استحل ما حرمه الله أو حرم ما أحله الله مما هو معلوم من الدين بالضرورة ومن تأمل كلام العلماء في جميع المذاهب الأربعة في باب حكم المرتد اتضح له ما ذكرنا .
ولا شك أن الطلبة الذين يدرسون بعض القوانين الوضعية أو المدخل إليها في معهد القضاء أو في معهد الإدارة لا يقصدون بذلك أن يحكموا بما خالف شرع الله منها ، وإنما أرادوا أو أريد منهم أن يعرفوها ويقارنوا بينها وبين أحكام الشريعة الإسلامية ليعرفوا بذلك فضل أحكام الشريعة على أحكام القوانين الوضعية ، وقد يستفيدون من هذه الدراسة فوائد أخرى تعينهم على المزيد من التفقه في الشريعة والاطمئنان إلى عدالتها .
ولو فرضنا أنه قد يوجد من بينهم من يقصد بتعلمها الحكم بها بدلا من الشريعة الإسلامية ويستبيح ذلك لم يجز أن يحكم على الباقين بحكمه؟ لأن الله سبحانه يقول : (وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) ويقول النبي صلى الله عليه وسلم : "لا يجني جان إلا على نفسه".
وبما ذكرنا يتضح لفضيلتكم أن القدح في إمامة الطلبة المذكورين والحكم بعدم صحة الصلاة خلفهم أمر لا تقره الشريعة ، ولا يقره أهل العلم ، وليس له أصل يرجع إليه ، وأرجو أن يكون ما ذكرته مزيلا لما وقع في نفس فضيلتكم من الشك في أمر الطلبة المذكورين في القسم الأول ، أو تفسيقهم أو تكفيرهم ، أما القسم الثاني فإنه لا شك في فسقهم ، وأما القسم الثالث فإنه لا شك في كفر أهله وعدم صحة الصلاة خلفهم .
وأسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يمنحني وإياكم وسائر إخواننا الفقه في دينه والثبات عليه، وأن يعيذنا جميعا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، ومن مضلات الفتن إنه سميع قريب، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته" أ.هـ كلامه رحمه الله (11).
ثانياً: يقول القاسم: (لم يفتح قسم للقانون في جامعة الإمام مثلاً وعلى سبيل المثال إلا منذ 10 سنوات أو 15 سنة).
التاريخ يبيّن خطأ هذا التاريخ فإذا كان الشيخ عبد العزيز ابن باز أصدر فتواه السابقة والتي يبارك فيها أقسام القانون التي في جامعة الإمام في معهد القضاء ومعهد الإدارة في تاريخه 3/5/1397 فهذا يدل على أن القاسم بعيد عن مسيرة دراسة القانون في السعودية وموقف علماء السعودية منه وغير مدرك نشأة وتاريخ الأقسام التي تدرس القانون مع أنه تخرج في نفس الجامعة التي أُنشأ فيها ذلك القسم (12).
المغالطة (الثالثة):
قوله: (قضية التشريع على سبيل المثال لا يمكن أن تقول للناس: القوانين حرام وتترك الناس في فوضى في تعاملاتهم، وإذا تقدمت بوضع هذه الأنظمة محترماً أصول الشريعة لا يمكن أن تكون الشريعة هي ترك الناس فوضى).
هل بالفعل الناس كانوا في فوضى من تعاملاتهم ؟
الذي يظهر لي أن هذا فيه تضخيم للحالة التي كان الناس فيها جداً جداً، بل الناس كانوا على تعاملات مأخوذة من الشرع وعرف وعادة لا تخالفان الشرع.
والقاسم لا أظنه يخالف أن هذين الأمرين استوعبا تعاملات الناس وتصرفاتهم في بداية تكوين الدولة السعودية الحديثة وهذه الحالة من تكريس الاعتماد على هذين الأمرين المصدرين لها ظرفها الاجتماعي والتاريخي فليس هناك فوضى أو بما يسمّى في عرف القانونيين " الفراغ الفقهي " الكبير والواضح.
ومرةً ثانيةً لا أظن القاسم يشك بأن هذين المصدرين كانا مضامين معترف بهما شرعاً وأيضاً قانوناً فهما بمثابة النظاميْن أو القانونيْن ينظمان تعاملات الناس.
يقول الشيخ صالح الحصين - والذي جمع بين العلم الشرعي والمعرفة القانونية - في بحثه في القانون الإداري تحت عنوان" مصادر القانون: 1- العرف. 2- الدين " فتحت المصدر الأول ، ألا وهو (العرف) يقول:
( توجد بعض العادات الاجتماعية التي يتعارف أفراد المجتمع على احترامها، وقد تصل هذه العادات إلى درجة من السيطرة والاستقرار والثبات في ضمير المجتمع إلى درجة أن تفرض السلطة العليا في المجتمع احترامها على الكافة بوسائل القوة التنفيذية، وحينئذ يصبح العرف أو العادة مصدراً من مصادر القواعد القانونية وتصبح هذه القواعد التي أنشأها العرف وثبتها واجبة الطاعة على الكافة تحكم شؤونها ويلزمها الانصياع لها.(/4)
وقد نصت بعض التشريعات على وجوب تطبيق القواعد العرفية إذا لم يوجد نص تشريعي خاص بالحالة موضوع التطبيق، ومن بين هذه التشريعات تشريعات البلاد العربية ( مصر - العراق - سوريا - ليبيا ) حيث تنص قوانين هذه البلاد المدنية في المادة الأولى منها على وجوب تحكيم القواعد العرفية عند عدم النص على قواعد خاصة بالحالات موضوع للتطبيق.
وللقواعد العرفية مجال كبير في النظام السعودي حيث قد قضت الظروف التاريخية والاجتماعية لعدم الوصول بالتشريع أو وضع القوانين إلى درجة تماثل حالة التشريع في البلاد الأخرى والقواعد العرفية في النظام السعودي تكسب مجالها الواسع باعتراف الشريعة الإسلامية بها كقواعد منظمة للسلوك الاجتماعي وكلنا يعرف القاعدة الشرعية التي تقول (إن المعروف عرفا كالمشروط شرطاً).
إن العرف قد لعب دوراً أكبر كمصدر للقواعد القانونية وقديماً كان هو المصدر الأعظم لهذه القواعد، ولكن المدنية بتقدمها وتقدم حركة التشريع أو التنظيم قد ساعدت على تحديد مجال العرف كمصدر للقواعد القانونية وحلت محلها مصادر أكبر أهمية).
وتحت عنوان (الدين)، يقول الشيخ:
(وفي بعض البلاد يسود الشعور الديني ضمائر أفراد المجتمع، وقد يكون الدين كالدين الإسلامي يعني بتنظيم السلوك الاجتماعي تنظيماً تفصيلياً وتختلط أحياناً السلطة المدنية بالسلطة الزمنية فتصبح القواعد التي ينشئها الدين وينظم الدين بها علاقات المجتمع قواعد لا تجد احترامها في الشعور الذاتي لأفراد المجتمع فحسب بل تجد احترامها بواسطة السلطة العليا المنظمة في المجتمع والتي تفرض بالقوة المادية طاعة تلك القواعد على كافة أفراد المجتمع.
والقانون أو النظام السعودي من بين القوانين والأنظمة القليلة في المجتمع المتدين التي يمثل فيها الدين أعظم الأهمية كمصدر من مصادر القانون بل أن المفروض إن لم تتمكن القواعد القانونية السائدة في المجتمع السعودي مستعدة من الدين مباشرة أن تكون على الأقل غير معارضة لقواعده وروحه, بل إن بعض هذه القواعد قد تدخل (التشريع) فصاغها في قوانين مكتوبة ومن أمثال هذه القواعد قانون أو نظام الزكاة) (13)
فعلى هذا نقول للأستاذ القاسم:
إذا تبين أن العرف من أكثر مصادر القانون والنظم كما في تشريعات بعض البلاد العربية فهذا يدل على أن تعاملات الناس في السعودية لم تكن فوضى بل كانت تسير وفق قانون اسمه (العرف)، وكما ذكر الشيخ صالح الحصين فإن اعتماد هذا المصدر في الحالة أو النظام السعودي أكبر وأكثر من غيرها من الحالات والنظم الأخرى، فضلاً عن كون هذا المصدر كسب رسوخاً بسبب اعتراف الشريعة الإسلامية به كمصدر للتنظيم كما في القاعدة الشرعية (إن المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً)، ولهذا أصدر الملك عبد العزيز رحمه الله باعتماد هذا الأمر وإمضاءه كما في النص التالي: " صدرت الإرادة السنية رقم (5)/9/2 في 13/7/1353هـ، وما لحقها برقم (5)/9/4 في 26/7/1353هـ الأحكام التي تتعلق بالمساقاة وإجارة النخيل والمسائل الإرثية والأوقاف يحكم فيها على مذهب أهل البلد التي فيها الدعوى، سواء كانوا أحنافاً أو شوافع أو غيرهم)، وعلق الدكتور سعود الدريب - وهو المختص في هذا المجال - في تأكيد هذا الأمر حيث قال: (وهذا موافقة للقاعدة الشرعية أن العادة محكمة، وأن المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً) (14).
أما من الجانب الديني ومما يدل على أن الناس لم يكونوا في فوضى في تعاملاتهم من جهة التشريع وأن لهم نظاماً يحكم بينهم ويسيرون عليه في تعاملاتهم ويتحاكمون إليه ولديهم قانوناً ملتزمين به في التقاضي والقضاء بينهم. يقول الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن حسن آل الشيخ رحمه الله في استعراض مسيرة حركة الإصلاح القضائي: (وأما الجانب الفقهي: فيتمثل بالقرار الصادر من هيئة المراقبة القضائية، برقم (3) وتاريخ (7/1/1347هـ) المقترن بالتصديق العالي بتاريخ (24/3/1347هـ) بالصيغة الآتية:
أ -أن يكون مجرى القضاء في جميع المحاكم، منطبقاً على المفتى به من مذهب الإمام أحمد بن حنبل؛ نظراً لسهولة مراجعة كتبه، والتزام المؤلفين على مذهبه ذكر الأدلة إثر مسائله.
ب - إذا صار جريان المحاكم الشرعية على التطبيق على المفتى به من المذهب المذكور، ووجد القضاة في تطبيقها على مسألة من مسائله مشقة ومخالفة لمصلحة العموم: يجري النظر والبحث فيها من باقي المذاهب بما تقتضيه المصلحة، ويقرر السير فيها على ذلك المذهب مراعاة لما ذُكر.
ويكون اعتماد المحاكم في سيرها على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، على الكتب الآتية:
أ - شرح المنتهى.
ب- شرح الإقناع.
فما اتفق عليه أو انفرد به أحدهما، فهو المتبع , وما اختلفا فيه ، فالعمل بما في المنتهى. فإذا لم يوجد بالمحكمة الشرحان المذكوران ، وإذا لم يجد القاضي نصَّ القضية في الشروح المذكورة، طلب نصَّها في كتب المذهب المذكور التي هي أبسط منها وقضى بالراجح (15).
ثانياً: المنطق المعكوس:(/5)
المنطق المعكوس في كلام القاسم وهو قوله (قضية التشريع على سبيل المثال لا يمكن أن تقول للناس: القوانين حرام وتترك الناس في فوضى في تعاملاتهم، وإذا تقدمت بوضع هذه الأنظمة محترماً أصول الشريعة لا يمكن أن تكون الشريعة هي ترك الناس فوضى).
الذي يفهم من هذا الكلام الدعوة إلى جلب القوانين لكن بشرط حذف ما يخالف الشريعة فيها وتطعيمها بالفقه الإسلامي، وهو الذي يفهم من قوله (احترام أصول الشريعة)، الذي أعرفه أن هذه الطريقة كانت مرحلة من المراحل التي مرت بالبلدان الإسلامية، وهو مرحلة الاستعمار والوصاية، أو في زمن الزحف القوي لإلغاء الشريعة ؛ وإحلال القوانين الأوربية فكان هناك من يريد أن يقوم بعملية (فرملة) لهذا الزحف القوي واحتواء الموقف، عن طريق القبول بالقوانين الغربية، والرضوخ للمرجعية الأوربية لكن بشرط احترام أصول وثوابت الشريعة الإسلامية.
لكن هناك من اعتذر لهؤلاء والذي كان على رأسهم د.عبد الرزاق السنهوري، فهناك من اعتذر لهم بأنهم يعيشون مرحلة الزحف القوي، وزمن إزاحة الشريعة بالكلية، فمن أولئك المعتذرين تلميذ السنهوري الدكتور توفيق الشاوي، إذ قال عنه في كتابه (سيادة الشريعة الإسلامية في مصر): (...فرغم إنه كان في ميدان التنفيذ العملي من الذين اتبعوا أسلوب التدرج والاعتدال ومراعاة مقتضيات الظروف التي تحيط بالعالم الإسلامي . فإنه عندما يكتب أو يؤلف كان يدافع عن سيادة مبادئ الشريعة ووجوب الالتزام بها التزاماً كاملاً شاملاً في جميع بلاد المسلمين).
وفي موضع آخر يقول: (وكل الذين يدعون لتطبيق الشريعة تطبيقاً كاملاً فورياً لا يقولون أكثر مما قاله السنهوري في مجال الفقه والدراسة. أما في مجال العمل والتنفيذ فإن السنهوري كان يعمل ما يستطيع عمله في الظروف القائمة، ولذلك اضطر إلى العمل التدريجي وسار في خطة الاعتدال، دون أن يتنكر لمبدأ وجوب الالتزام بالشريعة التزاماً كاملاً عندما يكون ممكناً، إنه يقر بوجود قوى خارجية تعترض على التطبيق الفوري للشريعة، ولم ينكر ذلك أو يتستر عليه، كما يفعل أدعياء الاعتدال والتدرج في الوقت الحاضر، الذين يتصدون لإخفاء واقع التدخل الأجنبي وينكرون وجود ضغوط خارجية وينسبون لأنفسهم ما يدعيه الاستعمار من تجريح للشريعة ونقد لأحكامها لكي يهدئوا من غضبة الشعوب على التدخل الأجنبي، وهم بذلك إنما يتصدون لحماية ذلك التدخل بإخفائه عن أعين الشعوب) (16).
ويقول الشاوي في معرض حديثه عن موقف السنهوري من القوانين المدنية التي كتبها للدول العربية مثل مصر والعراق والكويت وغيرها: (كان يعتبرها تشريعات مرحلية مؤقتة يجب تجاوزها إلى التطبيق الكامل للشريعة الإسلامية) (17).
ويؤكد مسألة الضغوط الخارجية للحيلولة دون تطبيق الشريعة تعليق الشاوي على كلام للدكتور جمال الدين محمود (نائب رئيس محكمة النقض) - في مقال له بالأهرام - عن الحقبة التي كتب فيها د.عبد الرزاق السنهوري القانون المدني لمصر في عام 1937م،قال جمال الدين: (وكان مستشار محكمة النقض ولفيف من أساتذة الأزهر قد طالبوا بالرجوع إلى الشريعة الإسلامية في إعداد القانون لاتصالها بشعور الأمة ودقتها الفنية، ثم أنها - على حد قولهم - أقرب الشرائع إلى "القانون الفرنسي" الذي استوردت منه نصوص القانون المدني المختلط والأهلي على السواء) (الأهرام 15/8/1985م).
ويعقب الشاوي على ما سبق قائلاً: (هذه العبارة تدل على أن هؤلاء المطالبين بتطبيق الشريعة الإسلامية كانوا في منتهى الحذر خشية أن يثيروا القوى الأجنبية على مصر بحجة أنها ابتعدت عن التشريع "العصري"،فأكدوا لها أن شريعتنا هي أقرب الشرائع إلى القانون الفرنسي) (18).
وممن يفهم منه الاعتذار لعبد الرزاق السنهوري، الشيخ صالح الحصين حفظه الله، إذ قال في رسالة رداً على سؤال حول حقيقة توجهات السنهوري، وهل كان يريد نقل القوانين الغربية إلى العالم الإسلامي؟ قال الشيخ: (...من الصعب الإخبار عن القصود والنوايا. ما أعرفه عن الدكتور عبدالرزاق السنهوري غفر الله له من محاضراته وكتبه وحلقات البحث التي كان يعقدها ويحضرها بضعة أشخاص كنت أحدهم أنه بعد دراسته للفقه الإسلامي دراسة واسعة وإدراكه - كما كان يقول دائماً - أن الفقه الإسلامي منظوراً إليه صناعةً بشريةً، سبق ما انتهى إليه علم القانون المعاصر في عدة نظريات فقهية.(/6)
على سبيل المثال نظريتا تحول العقد وانتقاص العقد اللتان توصل إليهما الفقه الجرماني حديثاً، وإنه لا يزال سابقاً في بعض النظريات المتصلة بالعقد، عندما كتب التقنين المدني المصري أفاد كثيراً من الفقه الإسلامي، في كتابته للتقنين المدني العراقي أفاد أكثر، وعندما طلبت منه دولة عربية بعد ذلك كتابة قانون مدني، أشار عليها باعتماد مجلة الأحكام (العثمانية) إذ كان يرى أن يكون لدول الجامعة العربية تقنين مدني واحد يكون مرتكزاً على الفقه الإسلامي ولكنه يرى أن يسبق ذلك دراسات وبحوث كافية لتحقيق هذه الغاية)(19).
ويذكر طارق البشري عن سيرة السنهوري: (كان الرجل منذ أوائل الثلاثينيات - مع دعوته للاستقلال القانوني والفقهي عن الغرب، حسبما سلفت الإشارة إليه من كتابته في عام 1934 - يشير إلى ما ينطوي عليه فقه الشريعة من إمكانات كبيرة ومن مرونة وقابلية للتطور. وإن هذا المورد هو أحد عناصر مشروعه للقانون المستقل. وقد ذكر هذا المعنى بعد ذلك في مجلة القضاء العراقية في آذار/مارس عام 1936م. ومما قاله: "ففي هذه الشريعة، عناصر لو تولتها يد الصياغة فأحسنت صياغتها، لصنعت منها نظريات ومبادئ لا تقل في الرقي والشمول، وفي مسايرة التطور، عن أخطر النظريات الفقهية التي نتلقاها اليوم عن الفقه الغربي الحديث" ).
ويتابع البشري في موضع آخر: (وخرج من هذه المرحلة يقول عن الفقه الإسلامي: إنه " لا تقل عراقته في ذلك عن عراقة القانون الروماني، وهو لا يقل عنه في دقة منطقه وفي متانة الصياغة وفي القابلية للتطور. وهو مثله صالح لأن يكون قانوناً عالمياً، بل كان بالفعل قانوناً عالمياً...هذه هي عقيدتي في الفقه الإسلامي، تكونت لا من العاطفة والشعور فحسب، بل تضافر في تكوينها الشعور والعقل، ومكن لها شيء من الدرس، وأكثر ما كان درساً للفقه الإسلامي عند وضع القانون المدني العراقي...فأتاح لي اطلاعي على نصوص الفقه الإسلامي - سواء كانت مقننة في "المجلة" ومرشد الحيران، أو كانت معروضة عرضاً فقهياً في أمهات الكتب، وفي مختلف المذاهب - أن ألحظ مكانة هذا الفقه وحظه من الأصالة والابتداع وما يكمن فيه من حيوية وقابلية للتطور..." ) (20).
ويقول البشري في موضع آخر: (وفي عام (1934م)، كتب السنهوري يدعو لتمصير القانون. قال: "علينا أولاً أن نمصر الفقه، فنجعله فقهاً مصرياً خالصاً، نرى فيه طابع قوميتنا، ونحس أثر عقليتنا. ففقهنا حتى اليوم لا يزال هو أيضاً، يحتله الأجنبي. والاحتلال هنا فرنسي، وهو احتلال ليس بأخف وطأة ولا بأقل عنتاً من أي احتلال آخر. ولا يزال الفقه المصري يتلمس في الفقه الفرنسي الهادي المرشد، لا يكاد يتزحزح عن أفقه أو ينحرف عن مسراه، فهو ظله اللاصق وتابعه الأمين...". وذكر أن أهم الوسائل لذلك، العناية بالشريعة الإسلامية، "شريعة الشرق ووحي إلهامه وعصارة أذهان مفكريه، نبتت في صحرائه وترعرعت في سهوله ووديانه...لو وطئت أكنافها وعبدت سبلها، لكان لنا من هذا التراث الجليل ما ينفخ روح الاستقلال في فقهنا وقضائنا وفي تشريعنا...) (21).
ويذكر الباقوري في مذكراته لمّا بث بعض المستغربين مزاعم حول القضاء الشرعي بأنه غريب ووافد على مصر، وألغيت حينها المحاكم الشرعية، دعا هذا الأمر الشيخ محمود شلتوت، والدكتور عبد الرزاق السنهوري إلى إعمال الفكر مع كبار الأزهريين لإنشاء معهد للفقه الإسلامي يتناول التشريعات التي تساير روح العصر، ولا تناقض أحكام الشريعة (22) (23).
ويستأنس أيضاً في تأييد ما سبق من حقيقة توجهات السنهوري ما ذكره جميل الحجيلان حول لقائه بالسنهوري في قصة تستحق السرد بكاملها، يقول الحجيلان: (في امتحان السنة النهائية لكلية الحقوق بجامعة فؤاد الأول، كان نصيبي أن أؤدي الامتحان الشفوي في القانون المدني أمام الدكتور عبد الرزاق السنهوري، والسيد سليمان حافظ رئيس مجلس الدولة آنذاك، كان ذلك في شهر مايو ، ما أزال أذكر صوته الجهوري وقسمات وجهه الخشنة المطلة من رأسه الكبير، وأنا وزملائي الثلاثة الآخرون ماثلون أمامهم مسكونون بخوف شديد، استوقفه اسمي "الحجيلان" فسألني دون مقدمات: هل أنت سعودي؟ قلت: نعم. قال، بكل جارحة صارمة جادة في وجهه، "لو كنتُ ابن سعود لقطعت رأسك.!". سألته، وقد أغرقتني المفاجأة في مزيد من الارتباك: لماذا يُقطع رأسي يا سيدي؟ قال: ما هذا العبث الذي أتيت فيه ! أمضيت أربعة أعوام تدرس القوانين الوضعية لتعود لبلد يحكم بالشريعة الإسلامية..وبذلك تكون عبئاً على وطنك..!(/7)
لا أذكر بماذا تمتم به الطالب ابن العشرين، فقد تجاوز الموقف قدراتي على المواجهة والاستيعاب. وجه إلي سؤالاً أجبت عليه باقتدار. ودار بأسئلته على الآخرين. استعصى سؤاله على زميلة كانت معنا. قال: هذا لك أتجيبين عليه أم أحوّله للسعودي؟ فقالت - والذاكرة لا تنسى أمراً كهذا - : اسأله فلن يستطيع الإجابة عليه. وكان أن أجبت عليه أيضاً باقتدار فقال لي العالم الكبير: برضه لو كنت ابن سعود لقطعت رأسك. قلت: لماذا يا معالي الباشا أنت مصر على قطع رأسي؟ فأجاب بضحكة مجلجلة: لأنك طالب نجيب.) (24).
وليس القصد من هذه النقولات الاعتذار للسنهوري أو تبيين منهجه في صناعة القوانين أو قصده فيها، لكن القصد هو أن نعرف أن رجلا بهذه القوة في المجالين الفقه والقانون؛ نراه يحاول أن يوضح عذره في وضع القوانين الأوربية ومزجها بالفقه الإسلامي، ونراه يحاول أن يجعل المرجعية للشريعة الإسلامية ويحاول أن تكون الدساتير العربية مستقلة عن الدساتير الغربية الوضعية، منبعثة من الثقافة العربية، الشرقية، الإسلامية، وجميع هذه المحاولات تصب في محاولة قطع الطريق على الزحف القانوني الأوربي القائم على تنحية الشريعة بالكامل وإقصاء القضاء والنظام الإسلامي.
الأمر الآخر ثناؤه على الفقه الإسلامي وعلى سبق فقهاء الإسلام لكثير من النظريات الفقهية.
الأمر الثالث:أن المستفاد من هذه النقولات أن السنهوري يصر ويتمنى تطبيق الشريعة بالكامل، لكن - بعد عدة خطوات - كما في إفادته من الفقه الإسلامي في القانون المدني المصري، ثم إفادته الأكثر في وضع القانون المدني العراقي. فمن خلال هذه الأمور نستطيع ـ على منهج المعتذرين ـ أن نقول أن السنهوري كان يحاول في زمن زحف القانون الأوربي القوي الشرس استيعابها ثم في مرحلة أخرى الزحف عليها - في مرحلة التدرج - بالفقه الإسلامي ونظريات فقهاء الإسلام، لكن بعد استخراجها ووضعها في قوالب قانونية كما في اهتمامه بإنشاء معهد للفقه الإسلامي، ومجلة ومؤلفات تعنى بذلك.
فإذا فهمنا مشروع السنهوري في محاولته للزحف على القانونيين بالفقه الإسلامي جاز لنا أن نقول إن المملكة العربية السعودية قد حققت أمنيته وغايته في تطبيق الشريعة الإسلامية وأن القوانين الوضعية لو أدخلت عليها لكانت عبئاً عليها كما قال للحجيلان .
فإذا فهمنا ذلك وعرفناه؛ نستطيع أن نقول للأستاذ عبد العزيز القاسم أن دعواك (وضع أنظمة محترماً أصول الشريعة)"منطق معكوس". فلو كان القاسم في محل الحجيلان فماذا سيكون رد السنهوري عليه؟! وإذا كان الحجيلان درس القوانين فقط، فما بال من يدعو إلى استيرادها وتطبيقها؟!
ومما يبين صحة نظرة السنهوري لمنهج الحكومة السعودية، وأنهم عند حسن ظنه تجاه القوانين الوضعية، ومما يوضح بعد نظره بأن الفقه الإسلامي أفضل ثمرة، وأوفر من الناحية الإيجابية في السعودية: النقلين التاليين.
الأول : هو قول الملك فيصل رحمه الله: (إذا أردنا لأمتنا وشعوبنا الخير، فإننا لسنا في حاجة لأن نستورد لأي بلد أو وطن أو أمة أية آراء أو أية عقائد، أو أية قوانين من الخارج. بل العكس فإن تلك الأمم نفسها تستفيد من شريعتنا وقواعدنا..) (25).
وكذلك قول كارل بروكلمان (المستشرق الألماني)، وكان يتحدث عن الملك عبد العزيز: (وطدت إدارته الأمن الذي لم تعرفه الجزيرة العربية من قرون، وأزال ما كان يسمى حق القبيلة في حماية المجرم والحيلولة دون إنزال العقاب به. وطبّق "القانون الجزائي" حسب تعاليم القرآن، تطبيقاً كاملاً. وعلى الرغم من أن في تلك العقوبات ما قد يعتبر قاسياً (26)بالنسبة إلى مقاييسنا، فقد جاءت النتائج باهرة، هي انعدام الجرائم الخطيرة في شبه الجزيرة العربية انعداماً يكاد يكون تاماً) (27).
تنبيه وتوضيح:
حتى لا يكون هناك تعارض ولا لبس بين دراسة وإقرار العلماء في السعودية (مجلس هيئة كبار العلماء) نظام عربي - غربي كما في نظام القضاء، كما حكى ذلك عنهم الشيخ صالح الحصين كما في بداية المقال، وبين مشروع السنهوري وغيره من جلب القوانين الوضعية وإدخال عليها بعض التعديلات من الفقه الإسلامي- نقول: الإجابة على ذلك هو أن ممارسة العلماء ودراستهم للنظام القادم من الغرب وفي النهاية إقراره، كان منطلقاً من سيادة الشرع وعلى قاعدة شريعة الله، وعلى خلفية ومرجعية إسلامية بخلاف الحالة الثانية فهي وباعتراف القائمين عليها كان منطلقاً من سيادة القانون الوضعي، وعلى قاعدة شريعة البشر، وعلى خلفية ديانة مختلفة ومرجعية أوربية غربية.
فالقاعدة والمرجعية والمنطَلَق لهم الأثر الكبير في الاستقلالية في وضع الأنظمة وفي التقاضي.(/8)
يقول الشيخ صالح الحصين في المادة التي كتبها لمعهد الإدارة (القانون الإداري): (والقانون أو النظام السعودي من بين القوانين والأنظمة القليلة في المجتمع المتدين التي يمثل فيها الدين أعظم الأهمية كمصدر من مصادر القانون بل إن المفروض إنْ لم تكن القواعد القانونية السائدة في المجتمع السعودي مستمدة من الدين مباشرة، أن تكون على الأقل غير معارضة لقواعده وروحه) (28).
ويقول أيضاً تعزيزاً لهذه الاستقلالية وعدم تقويم الأشياء تبعاً للثقافة الغربية في كلامه على التعزير بالجلد والتعزير بالسجن، والفرق بينهما:
(فإن ميل النظام القضائي لدينا إلى العدول عن التعزير بالجلد إلى التعزير بالسجن لا أجد له سبباً إلا غلبة الزخم الثقافي الغربي، ولا ينبغي أن يؤسس تقويم الأشياء على التراث الثقافي لشعب ما cultureوإنما يؤسس على العقل والمنطق والتجارب العملية) (29).
ومما يوضح الاستقلالية في النظر الفقهي وفي وضع الأنظمة وعدم النقل من القوانين الغربية - من دون حاجة لها أو لعدم موافقتها للشريعة - وجود أنظمة احتيج إليها مؤخراً في المملكة العربية السعودية.
فقد أصدرت هيئة كبار العلماء نظام (الشرط الجزائي) بعد الحاجة لهذا الشرط ، فقامت الهيئة بدراسته وإقراره، فجاء مشابهاً لما في القوانين الغربية.
يقول الشيخ صالح الحصين: (ظلت المحاكم تستعصي على قبول فكرة الشرط الجزائي في عقود المقاولات والتوريد، مع شيوع هذا الشرط في التطبيق العملي؛ الأمر الذي ينبئ عن وجود حاجة حقيقية لتضمين العقود هذا الشرط. وقد بحثت هيئة كبار العلماء الشرط الجزائي بحثاً متعمقاً، واطلعت على دراسات مستفيضة حوله، وتبين لها أن الحكم بعدم شرعية هذا الشرط في العقود، ربما لا يتفق - في ضوء الظروف المتغيرة - مع روح العدل، ولا يستجيب للمصلحة العامة، فصدر قرارها متبنياً حكماً مشابهاً لحكم القاعدة القانونية المعروفة في التقنينات المدنية العربية (المصرية والسورية والليبية) في الموضوع) (30).
فواضح من هذا النص أن الهيئة لم ينقلوا القانون من دون دراسة مستفيضة، بل واضح اجتهادهم في إصدار ذلك النظام.
ويقول الأستاذ طارق البشري: (عندما عدلت تشريعاتنا من الأخذ عن الشريعة الإسلامية إلى الأخذ عن القوانين الغربية الأوربية، فرنسية أو إنجليزية أو غيرها، لم يكن قصد النفوذ الغربي من ذلك - في ظني - استبدال أحكام محددة في القانون المدني أو التجاري بأخرى، فقد كان ذلك ممكناً في إطار حاكمية الشريعة الإسلامية بما تسع من تعدد وتنوع في الاجتهادات والمذاهب والآراء، ولم يظهر أن مسعى من ذلك جرت محاولته قبل إدخال القوانين الأجنبية، ولا أن هذه القوانين الغربية أدخلت بعد اليأس من محاولات تجديد الشريعة الإسلامية..لم يظهر أي من ذلك.
إنما كان القصد في ظني هو العدول عن الإطار المرجعي الشرعي إلى إطار مرجعي آخذ عن الغرب وقوانينه، بما يقضي على استقلالنا التشريعي ويكرس التبعية للغرب في نظمنا التشريعية واجتهادات قضائنا ومفتينا وشراح القوانين عندنا.
وهذا ما حدث، فقد صرنا بعد أن كنا نقول قال الله وقال الرسول، صرنا نقول قال قانون نابليون وقال القانون الروماني من قبله، وبدل أن نستدل بمالك والشافعي وأبي حنيفة وابن حنبل، صرنا نستدل بـ"بلاتيول" "دوجي" "اسمان" "كابيتان"..إلخ، وبدل أن نلجأ لفتاوى الهندية ومبسوط السرخسي، صرنا نلجأ "لداللوز" وأحكام النقض الفرنسية) (31).
ومما يوضح الفرق بين الحالين؛هو إعجاب السنهوري بالنظام في المملكة بجانب حرصه ورغبته في استقلال القانون المصري عن التبعية للغرب، فهذا يدل على أنه يرى أن هناك فرقاً شاسعاً بين الحالتين والمنطلقين والمرجعيتين والقاعدتين.
القضية الأخرى التي يحسن التنبيه عليها حتى لا يحصل تعارض ولبس في قضية التدريس لمادة القانون والتي باركها الشيخ عبد العزيز ابن باز - رحمه الله - وقام بعض العلماء بالتدريس لمادة الفقه في هذه الأقسام كالشيخ عبد الله الركبان، فقد درس الفقه في قسم القانون في معهد الإدارة، وكالشيخ صالح الحصين فقد وضع مادة (القانون الإداري) في نفس القسم.(/9)
فهذه المباركة وهذا الرضا وتلك الممارسة منهم، لا شك أنها مشروطة بشرط مهم وأساسي ورئيس، هو أن يدرس القانون من خلال النظرة الشرعية إليه، وهو أنه قانون وضعي بشري خاضع للخطأ وغير معصوم عن الزلل وغياب المصلحة، ويدرس لمعرفة فضل شريعة الله المعصومة، والتي لا يعتريها الباطل ولا النقص ولا يتطرق إليها الخطأ أو تتهم بأنها غير صالحة، كما قال الشيخ ابن باز رحمه الله في فتواه: (..ولا شك أن الطلبة الذين يدرسون بعض القوانين الوضعية أو المدخل إليها في معهد القضاء أو في معهد الإدارة لا يقصدون بذلك أن يحكموا بما خالف شرع الله منها ، وإنما أرادوا أو أُريد منهم أن يعرفوها ويقارنوا بينها وبين أحكام الشريعة ليعرفوا بذلك فضل أحكام الشريعة على أحكام القوانين الوضعية، وقد يستفيدون من هذه الدراسة فوائد أخرى تعينهم على المزيد من التفقه في الشريعة والاطمئنان إلى عدالتها) (32).
ومن الفروق بين الحالتين - حالة تدريس القانون في المملكة العربية السعودية والتي باركها الشيخ عبد العزيز ابن باز وبين حال التدريس في كليات الحقوق أو أقسام القانون والتي أسسها السنهوري وكره العمل بها في السعودية - أن تدريس القانون في السعودية كان يتم بوصاية مسبقة وغلبة من الشريعة،بخلاف الحالة الأخرى، فالوصاية فيها والغلبة لما نُص عليه في القانون الوضعي.
ومما اتفق عليه علماء الاجتماع أن المغلوب يتبع الغالب عادة، ويتشبه ويقتدي به (33).
ومن الفروق كذلك، في الحالة السعودية يدرس القانون والعين فيها فاحصة،وبنظرة ناقدة تبين عوار المنهج الوضعي وأفضلية الشريعة وعصمتها، وفي الحالة الثانية تدرس القوانين الوضعية بقطيعة معرفية مع الشريعة الإسلامية، وبحيادية متجردة عن أولوية الشريعة وأفضليتها وعصمتها.
ومن الفروقات كذلك أن الحالة الأولى في السعودية يُدرس القانون الوضعي مع دراسة عميقة للفقه الإسلامي ومكثفة لأحكام الشريعة، بخلاف الحالة الثانية التي يُدرس فيها من الفقه الإسلامي النزر اليسير، وقليلٌ من أحكام الشريعة.
وأخيرا :
يتبين لنا حجم المغالطات في حق كبار علمائنا، فلا هم تركوا الناس في فوضى عند تحريمهم للقوانين، بل وضعوا الأنظمة على شكل مواد، وانتقوا من القوانين الوضعية بوصاية وسيادة ومرجعية مطلقة من الشريعة على تلك القوانين، من خلال أقوالهم وأفعالهم.
ولم يحرموا دراسة القانون، كما تبين مما سبق، بل شجعوا على دراستها لعقد المقارنة مع الشريعة الإسلامية، مع تأكيد أسبقية وعلو وشرف الشريعة الربانية وأنه لا يمكن تجاوزها، وكانت الفتوى سابقة للفترة التي زعم الأستاذ القاسم أن القانون قد سُمح بتدريسه في حينها.
وكذلك لم يكن الناس في فوضى في تعاملاتهم، إذ منذ عهد الملك عبد العزيز رحمه الله (أي منذ تأسيس الدولة) والناس يقرؤون في الصحف الأوامر الملكية باعتماد بعض الأنظمة التي تسهل تنظيم المعاملات بينهم وفق الشريعة الإسلامية.
وفي الوقت الذي تطبق فيه الشريعة الإسلامية في السعودية، نرى من القاسم مطالبات بالرجوع إلى مراحل أولية مرت بها البلدان العربية الأخرى عند كتابتها للقانون، علماً أن كاتبها (د.عبد الرزاق السنهوري) كان يرغب ـ وفق بعض تصريحاته وشهادة بعض من حوله ـ أن ينتهي القانون المدني في الدول العربية إلى ما وصلت إليه المملكة العربية السعودية، والقاسم يريد أن تنتهي السعودية إلى ما بدأت به الدول العربية.
وقد استدللت على ما سبق بما توافر لدي من الأدلة والحجج، ليتجلى لنا البون الشاسع بين النقد وبين المغالطات، وكم تمنينا أن يكون النقد بنّاءً، قائمٌ على التوضيح والتبيان للأخطاء، لا على جلد الذات ومحاسبتها بما لم تقترف وما لم تفعل !.
الهوامش :
( 1 ) قناة العربية ، مقابلة في برنامج (إضاءات) .
( 2 ) منتدى الفيصل ، مجلة الفيصل ، عدد 246، ص 26.
( 3 ) عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ، لمحات حول القضاء في المملكة العربية السعودية، عالم الفوائد ، ط2: 1421هـ، ص 11- 111.
( 4 ) د. سعود بن سعد الدريب، مقال بعنوان (عبد الله بن حسن آل الشيخ)، مجلة الدارة، العددان 3 و4 (عدد تذكاري بمناسبة مرور مائة عام على تأسيس المملكة العربية السعودية)، 5 شوال 1419هـ، السنة الرابعة والعشرون، ص 11- 12.
( 5 ) وردت خطاً في النص المنقول منه (تغير).
( 6 ) د. محمد عبد الجواد محمد، التطور التشريعي في المملكة العربية السعودية 1397هـ، مطبعة جامعة القاهرة والكتاب الجامعي : 1977، ص 144.
( 7 ) رواه البخاري (3275) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
( 8 ) أخرجه البخاري (4811)، ومسلم (2786) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
( 9 ) كتبت خطأً بدون الواو.
( 10 ) جمع/ عبد المالك الرمضاني، فتاوى العلماء الأكابر، مكتبة الفرقان : عجمان، ط2: 1422هـ، ، ص 174-175.
( 11 ) من مجموع فتاوى الشيخ ابن باز ( 2 / 325 - 331 ) باختصار، من موقع صيد الفوائد ، صفحة الشيخ سليمان الخراشي.(/10)
( 12 ) بالعودة إلى الوراء لنرى تاريخ تدريس القوانين في المملكة، نجد أن قسم القانون في جامعة الملك سعود قد أنشئ في عام 1399-1400هـ (صحيفة الحياة، الأربعاء 17ربيع الآخر 1426هـ، العدد 15394، ص3)، ومن قبل تم إنشاء معهد الإدارة العامة في 1380هـ، وقد وقفتُ على مواد دراسية في القانون طبعت لأجل تدريسها في المعهد، وأقدمها كان في عام 1382هـ (انظر كتاب معهد الإدارة العامة..نشأة وتطور، ط 1422-2001م، ص24، 15).
( 13) صالح الحصين، القانون الإداري، ص4 - 5.
(14) د. سعود بن سعد آل دريب، التنظيم القضائي في المملكة العربية السعودية في ضوء الشريعة الإسلامية ونظام السلطة القضائية - رسالة لنيل درجة الدكتوراة في السياسة الشرعية من المعهد العالي للقضاء في جامعة الإمام محمد بن سعود، 1419هـ ، سلسلة مشروع وزارة التعليم العالي لنشر ألف رسالة علمية (15)، ص 293.
(15) عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ، لمحات حول القضاء في المملكة العربية السعودية، عالم الفوائد ، ط2: 1421هـ، ص 17- .
(16) توفيق الشاوي، سيادة الشريعة الإسلامية في مصر، الزهراء للإعلام العربي، القاهرة: 1407-1988م - ط1. ص 128.
(17) المرجع السابق، ص129.
(18)المرجع السابق، ص35.
(19)رسالة شخصية محفوظة، أرسلت بتاريخ 16/5/1426هـ.
(20)طارق البشري، الوضع القانوني المعاصر بين الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي، القاهرة: دار الشروق. - ط1: 1417- 1996م، ص24.
(21) المرجع السابق، ص2.
(22) حسن الباقوري ، مذكرات، ص143.
(23)مع التحفظ تجاه الدعاوى تلك، لكن القصد من هذا النقل هو بيان محاولات الخروج من الورطة في مواجهة المد الأوربي لإزاحة الشريعة الإسلامية من الوجود.
(24)جميل الحجيلان، مقال بعنوان "لو كنتُ ابن سعود لقطعتُ رأسك..! " ، صحيفة الشرق الأوسط، 2/1/2004م.
(25) أحمد حسن دحلان، دراسة في السياسة الداخلية للمملكة العربية السعودية، جدة: دار الشروق.- ط2: 1405-1984م.
(26)وجهة نظر شخصية للمستشرق، لا تعبر عن وجهة نظر الكاتب.
(27) ساعد العرابي الحارثي، الملك عبد العزيز..رؤية عالمية، دار القمم للإعلام ـ ط1: 1415-1994م، ص219.
(28) صالح الحصين، مادة (القانون الإداري)، ص5.
(29)صالح الحصين، منتدى الفيصل مع معالي الشيخ صالح الحصين، مجلة الفيصل، عدد246، ذو الحجة1417- أبريل / مايو 1997م، ص31.
(30) المرجع السابق، ص26.
(31) طارق البشري، الوضع القانوني المعاصر بين الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي، ص123.
(32) من مجموع فتاوى الشيخ ابن باز ( 2 / 325 - 331 ) باختصار، مرجع سابق.
(33)ومما يؤكد ذلك شهادة جميل الحجيلان، بأن العمل بالقانون الوضعي يكرس التبعية للغرب، قوله: (كان الوطن في حاجة للمدرس والمهندس والطبيب. لم يكن في حاجة لقانونيين في دولة أقامت وجودها على الإسلام، نظام حكم وحياة، وأنا أعود لبلادي بفكر قانوني استجمعت أصوله من تشريع غربي، وبيئة غربية لا يجمعنا بها جامع من عقيدة أو موروث لأصبح بذلك عبئاً على وطني، كما كان ينذر به ويخشاه العالم الكبير..! " يقصد السنهوري " )، انظر مقال جميل الحجيلان (عندما قال لي الدكتور السنهوري: لو كنتُ ابن سعود لقطعتُ رأسك..!)، مرجع سابق.(/11)
مغذيات الإيمان
محمد البقمي
الإيمان : هو اعتقاد بالجنان وقول باللسان وعمل بالأركان يزيد بالطاعة وينقص بالعصيان .
الإيمان يشمل الإعمال الظاهرة والباطنة ..والدليل قوله صلى الله عليه وسلم ( الإيمان بضع وسبعون شعبة فأعلاها قول لا إله إلا الله ، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ، والحياء شعبة من الإيمان ).
قال البخاري رحمه الله : " لقيت أكثر من ألف من العلماء من الأمصار فما رأيت أحدا منهم يختلف في أن الايمان قول وعمل يزيد وينقص ".
ثمرات الإيمان :
1- أن الاتصاف بوصف الإيمان تحقيق للغاية التي خلق العبد من أجلها ، قال تعالى :{وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون }.
2- أن الإيمان مصدر الطمأنينة والسعادة والحياة الطيبة ، قال تعالى :{ من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبه ولنجز ينهم أجرهم بأحسن ماكانوا يعملون}.قال تعالى: {إن الأبرار لفي نعيم . وإن الفجار لفي جحيم}.
قال ابن القيم رحمه الله : الأبرار في النعيم في الدنيا وفي القبر وفي الدار الآخرة ، والفجار في جحيم في الدنيا وفي القبر وفي الآخرة ".
3- الإيمان سبب حفظ الله تعالى للعبد ومدافعته عنه وكشفه لكربته وإزالته لهمه وغمه قال سبحانه وتعالى : {إن الله يدافع عن الذين آمنوا}.
وقال تعالى :{ ومن يتق الله يجعل له مخرجا . ويرزقه من حيث لايحتسب . ومن يتوكل على الله فهو حسبه . إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا }.
وقال سبحانه : {ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا}.
4- أن فيه تسلية للعبد عند حصول المكاره والشدائد ، فيعلم المؤمن أن ما أصابه بقضاء الله وقدرة.
5- الرفعة في الدنيا والآخرة ، وعلى قدر الإيمان تكون الرفعة ، قال تعالى : يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات)
6- الثبات أمام الفتن والمغريات ، فإن المؤمن إذا رسخ إيمانه وعلا يقينه ، فإنها لاتؤثر فيه الشهوات ولا تهزه المغريات.
ينقسم أهل الإيمان إلى ثلاث مراتب :
قال تعالى :{ ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق للخيرات بإذن الله }.
أ - السابقون المقربون : هم الذين قاموا بالواجبات وتركوا المحرمات والمكروهات وفضول المباحات.
ب - المقتصدون : هم الذين قاموا بالواجبات وتركوا المحرمات ولديهم تقصير في تحقيق المستحبات وموافقتهم لبعض المكروهات .
ت - الظالمون لأنفسهم : هم الذين تركوا بعض الواجبات وفعلوا بعض المحرمات .
إن الإيمان يزيد وينقص ويقوى ويضعف ، والدليل قوله تعالى : { ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم } ، قال تعالى {ويزداد الذين آمنوا إيمانا }.
قوله سبحانه : {الذين قال لهم الناس إن الناس جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل}.
أسباب زيادة الإيمان
1- معرفة أسماء الله الحسنى وصفاته العلى ، قال ابن رجب رحمه الله : " أفضل العلم ، العلم بالله وهو العلم بأسمائه وصفاته وأفعاله التي توجب لصاحبها معرفة الله وخشيته ومحبته وهيبته وإجلاله وعظمته والتبتل إليه والتوكل عليه والصبر عليه والرضى عنه والانشغال به دون خلقه .
قال صلى الله عليه وسلم : ( إن لله تسعة وتسعين اسما مئة إلا واحد من أحصاها دخل الجنة).
2- كثرة تلاوة القرآن مع التدبر والتأمل :
قال تعالى { وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا }.
قال ابن القيم رحمه الله " قراءة آية بتفكر وتفهم خير من قراءة ختمه بغير تدبر وتفهم وأنفع للقلب وأدعى لحصول الإيمان وذوق حلاوة القرآن ".
3- تأمل السيرة النبوية له صلى الله عليه وسلم .
4- التأمل في آيات الله الكونية :
قال تعالى : { أولم يتفكروا في ملكوت السماوات والأرض } وقال سبحانه : { إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولى الألباب }.
وقال جل وعلا :{ وفي أنفسكم أفلا تبصرون }
5- التفكر في ألآء الله ونعمه .
6- التفكر في حقارة الدنيا وفنائها ، قال تعالى :{ اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما }الآية.
قال علي رضي الله عنه : ارتحلت الدنيا مدبرة وارتحلت الآخرة مقبلة ولكل واحدة منهما بنون ،فكونوا من أبناء الآخرة ، ولا تكونوا من أبناء الدنيا ، فإن اليوم عمل بلا حساب وغدا حساب بلا عمل .
7- كثرة ذكر الله عز وجل :
قال تعالى { الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب}.
قال صلى الله عليه وسلم [مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مثل الحي والميت ]
وقال ابن تيمية رحمه الله : الذكر للقلب مثل الماء للسمك ، فكيف حال السمك إذا فارق الماء؟".
8- سؤال الله عز وجل ، أي سؤاله الهداية والإيمان جاء في الحديث القدسي: يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهد وني أهدكم )(/1)
9- حضور مجالس الذكر ، كان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون : اجلس بنا نؤمن ساعة . فدل على أن مجالس الذكر تزيد الإيمان .
10- مجالسة الصالحين.
11- الاجتهاد في التحقق في مقام الإحسان في عبادة الرحمن سبحانه .
12- الإحسان إلى الخلق بالقول والفعل.
13- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قال تعالى : { ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين }.
14- الاجتهاد في الأعمال الصالحة .القلبية واللسانية والمتعلقة بالجوارح.
15- توطين النفس على ما ينافي الإيمان من شعب الكفر والنفاق والفسوق والعصيان .
هذا والله أعلم وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين(/2)
مع الآية الكريمة ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا
" ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير (32) جنات عدن يدخلونها يحلّون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير (33) وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور ( 34) " [ سورة فاطر ]
...
...
بقلم الدكتور عدنان علي رضا النحوي
... ...
...
نجد في كتب التفسير اختلافاً غير قليل في فهم هذه الآيات الكريمة وأكثر ما دار حوله الخلاف مفهوم الكلمات التالية : " ثمّ أورثنا الكتاب " ، " الذين اصطفينا من عبادنا " ، والضمير في كلمة " منهم " ، وفي كلمة " يدخلونها " ، وكذلك في مفهوم الأصناف الثلاثة : " ظالم لنفسه " ، " مقتصد " ، " سابق بالخيرات " . وفي الحقيقة فإن هذه الكلمات هي مفاتيح فهم هذه الآيات .
يذكر ابن كثير في تفسيره لهذه الآيات بعض الأحاديث التي فيها ضعف أو غرابة ، ومع ذلك فهو يقول : " يشدُّ بعضها بعضاً " . ويورد الأحاديث أو الأقوال الموقوفة على بعض الصحابة للآراء المختلفة . فتأخذ نماذج من ذلك :
فعن عوف بن مالك رضي الله عنه عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال : أمتي ثلاثة أثلاث ، فثلث يدخل الجنة بغير حساب ولا عذاب ، وثلث يحاسبون حساباً يسيراً ثم يدخلون الجنة ، وثلث يمحَّصون ويكشفون ثم تأتي الملائكة فيقولون وجدناهم يقولون لا إله إلا الله وحده . ويقول الله تعالى : صدقوا ، لا إله إلا أنا ! أدخلوهم الجنّة بقولهم لا إله إلا الله وحده واحملوا خطاياهم على أهل النار ... " . وقال عنه غريب جداً . ويروي هذا الحديث الطبريُّ في تفسيره أثراً عن ابن مسعود . ويذكر آثاراً موقوفة على ابن عباس رضي الله عنهما أن هذه الأصناف الثلاثة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم كلهم مغفور لهم . ويذكر أيضاً عن ابن عباس أثراً آخر يقول فيه : " فمنهم ظالم لنفسه هو كافر " . ويروي الرأي نفسه عن عكرمة وغيره . وعن مجاهد أنه قال : " فمنهم ظالم لنفسه هم أهل المشأمة . وعن ابن عباس وقتادة والحسن : " وهذه الأقسام الثلاثة كالأقسام المذكورة في أول سورة الواقعة وآخرها . وعند الإمام أحمد عن الوليد بن العيزار أنه سمع رجلاً من ثقيف يحدّث عن رجل من كنانة عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في هذه الآية : " هؤلاء كلهم بمنزلة واحدة في الجنّة " ! وقال عنه حديث غريب . وعند الطبري هذا أثر موقوف على كعب ومحمد بن الحنفية وأبي إسحق السبيعي .
ويورد الطبري الأثر الموقوف على ابن عباس بأن الأصناف الثلاثة هم من أمة محمد وهم مغفور لهم . ويورد في قول آخر : أن الظالم لنفسه هو المنافق وهو في النار ، والصنفان الآخران في الجنة . ويروي ذلك أيضاً عن قتادة والحسن وغيرهما . وروى أن قتادة قال : " كان الناس ثلاثة منازل في الدنيا ، وثلاثة منازل عند الموت ، وثلاثة منازل في الآخرة . أما في الدنيا : فمؤمن ومنافق ومشرك . وأما عند الموت فكما في آخر سورة الواقعة ، وأما في الآخرة فكانوا أزواجاً ثلاثة كما في أول سورة الواقعة .
وعند ابن عطية لا يكاد يخرج عن هذه المعاني إلا أنه قال عن " الذين اصطفينا " يريد بهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم . ثم يقول : " وكأنّ اللفظ يحتمل أن يُرادَ به جميع المؤمنين من كل أمّة . " وهذا المعنى هو الذي سنوضحه في دراستنا هذه . ويقول : " إلا أن توريث الكتاب لم يكن إلا لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ، وكأن الله ورّثها الكتاب الذي كان في الأمم قبلهم . "
ولا تخرج كتب التفسير الأخرى عن ذلك . ولكنَّ هذه الصورة المعروضة في هذه الأراء تضطرب مع شدّة الاختلاف وضعف الأحاديث وتناقض الأثار التي لم ترفع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، مما يوحي أن معظم هذه الآراء ووجهات نظر ذاتيّة لا تحمل الحجة القاطعة الجامعة .
من أجل ذلك نحبّ أن نقف مع هذه الآيات الكريمة لنقدّم تصوّراً مبنيّاً على ترابط الآيات مع ما سبقها وما تلاها ومع نهج السورة كلها ، ولنبيّن تناسقها مع نهج القرآن الكريم والآيات في سور أخرى ، وقواعد الإيمان والتوحيد .
نعود أولاً إلى سورة فاطر لندرس نهجها وما تطرقه من موضوعات مترابطة ، كانت هذه الآيات موضوعاً من موضوعاتها متناسقة معها .
فالسورة تتحدث أولاً عن فضل الله على الناس جميعاً ، مما يوفّر لهم السبيل ليؤمنوا ولا يكذّبوا الرسل ولا يتبعوا الشيطان . وتُبْرِزُ السورة كذلك بعض آيات الله في الكون مبثوثة للناس كافّة ، ويتكرر الخطاب إلى" الناس " في أكثر من موقع ، نأخذ مثلاً منها :
" يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغنيُّ الحميد . إن يشأ يذهبكم ويأتِ بخلق جديد . وما ذلك على الله بعزيز . " [ فاطر : 15ـ17 ](/1)
ثمّ تعرض السورة امتداد رسالة الله إلى عباده على مرّ القرون ، ديناً واحداً ، تختم رسالاته بالنبيّ الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم :
" إنا أرسلناك بالحق بشيراً ونذيراً وإن من أُمّة إلا خلا فيها نذير . فإن يكذّبوك فقد كذّب الذين من قبلهم جاءتهم رسلهم بالبيّنات وبالزُّبُرِ وبالكتاب المنير . " [ فاطر : 24ـ25 ]
ويتأكد هذا المعنى في آيات كثيرة وسور أخرى من كتاب الله ، حتى يكون قاعدة رئيسة في التفكير الإيماني والتصور . وتتأكد حقيقة أخرى في كتاب الله هي أن جميع الرسل مسلمون دينهم هو الدين الواحد ، هو الإسلام الذي لا يقبل الله سواه ، وأن المسلمين أمة واحدة على مدى الدهر ، تعبد رباً واحداً ، وتدين بدين واحد ، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتسارع في الخيرات ، وأن رحمة الله وفضله يَعُمّان المؤمنين جميعهم ، من الأنبياء والمرسلين ، ومن اتبعهم وصدّقهم . ومن يدرك من أتباع أيّ نبيًّ ورسول نييّاً ورسولاً آخر فعليهم أن يتبعوه ليصدق إيمانهم . وتأتي الآيات الكريمة في كتاب الله لتؤكد هذه الحقيقة :
" إنّ هذه أمتكم أمّة واحدة وأنا ربكم فاعبدون . " [ الأنبياء : 92 ]
" وإنّ هذه أمتكم أمّة واحدة وأنا ربكم فاتقون . " [ المؤمنون : 52 ]
ثم تعرض سورة فاطر خصائص الصادقين المتقين من هذه الأمة الممتدة ، عرضاً تؤكده آيات وسور أخرى . ولنتدبَّرْ الآيات من سورة فاطر بهذا الخصوص :
" إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرّاً وعلانية يرجون تجاره لن تبور ليوفيهم أُجورَهم ويزيدهم من فضله إِنه غفور شكور . "
إن هذه الآيات لا تتعلَّق بزمن معيّن أو رسول واحد . إنها تمتدُّ مع امتداد رسالة الله وكتبه المنزلة لتشمل جميع من يتلون كتاب الله ويقيمون الصلاة وينفقون مما رزقهم الله سرّاً وعلانيّة . وان مغفرة الله ورحمته ، وفضله وثوابه ، لا ينحصر في زمن معيّن . فالله رب المؤمنين جميعاً ، يغفر لهم ويرحمهم برحمته الواسعة ، ويوفيهم أجورهم ، إلا من مَات على الشرك . ولقد سبق آيات أخرى في كتاب الله توضح هذه الخصائص مع الصادقين من أهل الكتاب :
" ليسوا سواءً من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون . يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين . وما يفعلوا من خير فلن يُكْفَروه والله عليم بالمتقين ." [ آل عمران : 113ـ115 ]
فهذه الآية الكريمة تفرّق بين أمتين من أهل الكتاب :
أمّة صدّقت رسولها الذي جاءها بالحق ، ثم آمن من أدرك منهم محمداً صلى الله عليه وسلم به وبرسالته ، وأمّة أخرى لم تؤمن لا برسولها ولا بمحمد صلى الله عليه وسلم .
ثم تربط السُّورة رسالة محمد صلى الله عليه وسلم بسائر الرسالات السابقة ، ليكون مصدّقاً لها ومهيمناً عليها . وكلٌ نبيّ ورسول يكون مصدّقاً لمن سبقه من الأنبياء والرسل ، وكتابه يكون مصدّقاً للكتب قبله :
" والذي أوحينا إليك من الكتاب هو الحقّ مصدّقاً لما بين يديه إن الله بعباده لخبير بصير . " [ فاطر : 31 ]
وتأخذ كلمة " كتب " ، و " الكتاب " معاني متعدّدة في القرآن الكريم . فهي تأتي في أكثر من مئة وثلاثين آية في سور متعدّدة . فمن معانيها : " الكتاب الذي أُنْزِل على الرسل السابقين ، و " القرآن الكريم الذي أُنْزِل على محمد صلى الله عليه وسلم " و " وما كتبه الله وقدّره وحكم به " ، وكذلك " ما هو في الكتاب الأول عند الله سبحانه وتعالى ، الكتاب الذي لا يُبَدَّل ولا يُغَيَّر " ، وكذلك " أمّ الكتاب " . ونأخذ قبسات من القرآن الكريم لبعض هذه المعاني :
" ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين . " [ البقرة : 2 ]
" وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان لعلكم تهتدون ." [ البقرة :53 ]
" وما من غائبة في السماء والأرض إلا في كتابٍ مبين. " [ النمل :75 ]
" يمحوا الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب ." [ الرعد : 39 ]
" قال الذي عنده علمٌ من الكتاب .... . " [ النمل : 40 ]
" ... والمؤمنون بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ... ."[ الأحزاب : 6 ]
" كتاب مرقوم . يشهده المقرّبون . " [ المطففين : 20، 21 ]
ومن الواضح أن معنى " والذي أوحينا إليك ... " هو القرآن الكريم ، وأما كلمة " من الكتاب " هنا قد تعني الكتاب الأول عند الله الذي يضم الكتب كلها .
ونأتي الآن إلى الآيات الكريمة موضع الدراسة هنا : " ثمّ أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا ... " ! ولقد دار خلاف بين أهل التفسير ، كما ذكرنا حول مفهوم هذه الآية . ونودّ أن نطرح التصور الذي يقوم على أساس النهج الذي عرضناه .
فكلمة " أورثنا " وردت في كتاب الله في أكثر من موضع ، لتعطي المعنى الممتد إلى كل من أنزل الله عليه الكتاب وجعل على الذين اتبعوه مسؤولية الالتزام والتبليغ فنأخذ قبسات من ذلك تضيء لنا المعنى .(/2)
" ولقد آتينا موسى الهدى وأورثنا بني إسرائيل الكتاب . هدى وذكرى لأولي الألباب . " [ غافر : 53ـ54]
" فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب .... " [ الأعراف : 169 ]
" وما تفرّقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شكًّ منه مريب . " [ الشورى :14 ]
وكلمة " الذين اصطفينا من عبادنا " نجدها ممتدّة كذلك في القرآن الكريم إلى كل من اصطفاه الله فأنزل عليه الوحي والكتاب . ففي سورة النمل تعرض الآيات بعض قصص الأنبياء مع أقوامهم : موسى ، وداود ، وسليمان ، وصالح ، ولوط ، عليهم السلام ثمّ عقّب القرآن الكريم بقوله سبحانه وتعالى :
" قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى آلله خير أم ما يشركون . " [ النمل : 59 ]
فالاصطفاء هنا ممتد مع الأنبياء والرسل ، كما ذكرت الآية الكريمة . والله يصطفي من خلقه ما يشاء :
" الله يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس إن الله سميع بصير."
[ الحج : 75 ]
والصالحون من أتباع الرسل ممتدون كذلك في مختلف الرسالات كما رأينا في الآية من سورة آل عمران ، وكما نرى في الآية التالية من سورة الأعراف وهي تتحدث مع الآية السابقة لها عن أهل الكتاب :
" والذين يمسّكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين . "
[ الأعراف : 170 ]
وهذه الخصائص التي وردت هنا ، وفي سورة آل عمران ، هي نفسها التي وردت في الآيات (29ـ32) من سورة فاطر .
والفئات الثلاثة المذكورة في الآية من سورة فاطر :" فمنهم ظالم لنفسه "، " ومنهم مقتصد " ، ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله " ، كُلها موجودة في أتباع الرسالات السابقة ، الرسالات التي جاءت بدين واحد هو الإسلام .
فالآية الكريمة من سورة فاطر : " ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه .... " ، تتحدث عن جميع من ورثوا الكتاب ممن اصطفاهم الله من عباده ، كما بيّنا في الأدلة من الآيات التي سبق ذكرها ، ممن آمنوا بالرسل واتبعوهم .
وفي سورة " ص " ، تستعرض الآيات قصص بعض رسل الله وأنبيائه الذين أورثوا الكتاب والذين اصطفاهم الله ، ثم تعقّب الآيات على ذلك بقوله سبحانه وتعالى :
" إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار . وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار ."
[ ص : 46ـ47 ]
فهؤلاء الأنبياء والرسل جميعاً اصطفاهم الله وأورثهم الكتاب وحملوا رسالة الله ، فآمن بهم أناس واتبعوهم ، وكفر بهم آخرون . فكان فيهم هذه الفئات الثلاث : ظالم لنفسه ، ومقتصد ، وسابق بالخيرات . وهؤلاء عسى أن يكونوا ناجين عند الله إِلا من مات مشركاٍ . والله أعلم بعباده ، وهو اعلم بمن مات مشركاً ، أو بما ارتكبوا من ذنوب وآثام ، وبمن يستحق المغفرة من عباده ، يغفر لمن يشاء ويعذّب من يشاء . فالأمر لله وحده ، لا يملك أحد من البشر أن يصدر شهادات بالمغفرة أو بدخول الجنة . ولكننا نقول بما علمنا الله من أحكام عامة لا ندري على من تنطبق من خلقه . ويؤكد هذا الشمول لمعنى الآية الكريمة من سورة فاطر ، قوله سبحانه وتعالى :
" إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الأخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم لا خوف عليهم ولا هم يحزنون . "
[ البقرة : 62 ]
وكذلك قوله سبحانه وتعالى في سورة المائدة :
" إن الذين آمنوا والذين هادوا والصائبون والنصارى من آمن بالله واليوم الأخر عمل صالحاً فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون . " [ المائدة : 69 ]
أما قوله سبحانه وتعالى : " فمنهم ظالم لنفسه ... " ، فإن معنى الظلم موضح في آيات كثيرة ، تحدّد مستوى الظلم ونوعه ، أو تتركه عاماً كما في هذه الآية . وللتيسير نضعها في إطارين : الأول من ارتكب معصية أو إثماً . فهؤلاء على حالين : مقيم على المعصية والإثم حتى مات دون توبة ، أو مقلع عن المعصية بالتوبة والعمل الصالح . فالحالة الأولى أصحابها مرجون لأمر الله ، وأما الحالة الثانية فقد وعدهم الله بالمغفرة إن علم في قلوبهم صدق التوبة . أما الإطار الثاني : فهو من مات مشركاً فلا مغفرة له . والشرك ظلم عظيم ، والنفاق ظلم عظيم ، والمنافقون في الدرك الأسفل من النار :
" وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بُنيَّ لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم . " [ لقمان : 13 ]
" إن الله لا يغفر أن يشرك به و يغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثماً عظيماً . " [ الناس : 48 ]
ونؤكد أن ما نعلمه من الكتاب والسنة حكم عام ، لا ندري كيف يكون حال هذا العبد أو ذاك يوم القيامة بين يدي الله . فالأمر لله ، هو وحده يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور . ويظل المؤمن بين الخشية والرجاء .
وكلمة " ثمَّ " في قوله سبحانه وتعالى : " ثُمَّ أورثنا الكتاب ... " يمكن أن تعني العطف أكثر منها للترتيب ، كما في قوله سبحانه وتعالى :
" فإلينا مرجعهم ثمّ الله شهيد على ما يفعلون . " [ يونس : 46 ](/3)
فالله شهيد على ما فعلوه في الدنيا ، وكأن المعنى : " فإلينا مرجعهم والله شهيد على ما يفعلون . " .
و نخلص من ذلك ، على أساس هذا العرض ، أن الآيات الكريمة :
" ثمّ أورثنا الذين اصطفينا من عبادنا ..... " تعرض حقيقة ربّانيّة ثابتة مع جميع العصور ومع جميع الرسل ومن اتبعهم . فمن الذين اتبعوهم من هو ظالم لنفسه ، ويشمل الظلم جميع أنواعه ، فمنه ما يغفر الله عنه إن شاء ، فله الأمر ، ومنه ما لا يغفره الله إذا مات صاحبه عليه ، وأكبره الشرك ، والأمر يومئذ لله يغفر لمن يشاء و يعذّب من يشاء ، على حكمة لله بالغة وعدل حق لا ظلم معه أبداً ، على ميزان رباني قسط .
ثم تأني الآية الكريمة : " جنات عدن يدخلونها يحلّون فيها ... " ! فمن هم أولئك الذين يدخلونها ؟ ! فلا بد أن تنسجم هذه الآية الكريمة مع سائر الآيات الكريمة في كتاب الله ، مما هو متعلق بهذا الموضوع ، ومع الأحاديث الشريفة . فجميع الأصناف أو الفئات الثلاث يحتاجون إلى رحمة الله ومغفرته حتى يدخلوا الجنّة . فلا أحد يدخل الجنّة بعمله فقط ، ولكن بعمله ينال رحمة الله ومغفرته فيدخل الجنّة . والمعنى جليّ بالنسبة للفئتين الثانية والثالثة ، فإنهم بعملهم ينالون رحمة الله ومغفرته ، فيدخلون الجنّة . أما الصنف أو الفئة الأولى :
" فمنهم ظالم لنفسه " ، فأمره مختلف لأنه يعتمد على نوع الظلم الذي ظلم به نفسه ، كما بيّنا قبل قليل . ولا نستطيع أن نقول إن " فمنهم ظالم لنفسه " ، من أمة محمد صلى الله عليه وسلم وحدهم هم المفغور لهم ، ولا نستطيع أن نقول إن هذه الفئات الثلاث هي في أمة محمد صلى الله عليه وسلم وحدها ، فكلهم موجودون في أتباع الرسالات السابقة ، وكلهم ينالون رحمة الله ومغفرته على ميزان رباني حق عادل ، ورحمة الله ومغفرته عامة لعباده المؤمنين في مختلف العصور .
وإذا تميّزت رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وتميّز أصحابه وتميّزت أمته ، فذلك في أمور غير هذه ، غير الرحمة والمغفرة ودخول الجنة ، فذلك له ميزان عام لجميع المؤمنين من عباد الله من أتباع الرسالات كلها . محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين وإمامهم وسيدهم ، ورسالته جامعة مهيمنة مصدّقة لما سبقها ، وأصحابه رضي الله عنهم حملوا الرسالة مع نبيّهم وآزروه وما خذلوه ، وخصائص أخرى كثيرة لا مجال لتعدادها هنا ، إلا أن رحمة الله ومغفرته عامّة لعباده كلهم في جميع العصور إلى يوم القيامة على ميزان قسط لا ظلم معه .
ونود الآن أن نطبق هذه الآيات الكريمة على واقعنا . وبصورة خاصة كيف نفهم : " فمنهم ظالم لنفسه ... " في واقع المسلمين اليوم من أمّة محمد صلى الله عليه وسلم . فهل كل من ظلم نفسه اليوم من أمة محمد مغفور له مهما كان نوع الظلم ؟ !
إن عدد المنتسبين إلى الإسلام اليوم يقرب من المليار ، على أحوال شتىّ من درجات الظلم أو الاقتصاد أو المسارعة في الخيرات . فمن المنتسبين إلى الإسلام اليوم من لا يعرفون الإسلام ، ولم يتدبّروا منهاج الله ، ولم ينهضوا لطلب العلم منه كما أمرهم الله ورسوله ، ومنهم من يقضي حياته كلها لا يصلّي ولا يصوم ، ومنهم من يوالي العلمانيّة بشعار الإسلام ، ويتبنّى أفكارهم المخالفة للإسلام صراحة ، ومنهم من يدعو إلى العلمانيّة وما يتبعها بدلاً من الدعوة إلى الله ورسوله ، ومنهم المنافقون ، ومنهم مرتكبو الآثام والمعاصي والداعون لها والناشرون للفتنة والفساد في الأرض ، ومنهم من يوالي أعداء الله ويقف في صف الكافرين في صورة جليّة .
فلننظر إلى عدد المصلين في المساجد حتى لو امتلأت ، فإنهم لا يمثلون إلا نسبة قليلة من المنتسبين إلى الإسلام .
والآيات الكريمة التي تتحدّث عن هذه الفئات ، إنما تتحدّث عن أمّة مسلمة واحدة في صف واحد كالبنيان المرصوص . فما هو حكم الإسلام في التمزّق الحالي بين المسلمين ، وما حكمه في من رضي به أو ساهم في بقائه ولم ينهض لإزالته ؟ ! أين هي الأمّة المسلمة المتراصّة التي تطبّق فيها هذه الآيات الكريمة . إن الأمة المسلمة الواحدة هي أمة محدّدة الخصائص العمليّة المتوافرة في الواقع فإذا انتفت هذه الخصائص فكيف تكون الأمة المسلمة الواحدة ؟ ! . وتدبر هذه الآيات الكريمة :
" كنتم خير أمة أُخْرِجَتْ تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو آمن أهل الكتاب لكان خيراً لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون " .
[ آل عمران : 110 ]
" إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البريّة ."
[ البيّنة : 7 ]
وآيات أخرى كثيرة تبيّن خصائص الإيمان وخصائص الأمة المسلمة الواحدة التي هي خير أمة أخرجت للناس ! أين هي الأمة المسلمة الواحدة بهذه الخصائص ؟ وكذلك :
" ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون . " [ آل عمران : 104 ](/4)
وأين اليوم هذه الأمة المسلمة الواحدة ؟ ! وهل واقع المسلمين اليوم يكشف عن هذه الأمة وعن خصائصها الربانيّة ، أم يكشف عن صورة أخرى تمثلها الآية الكريمة التالية :
" ولا تكونوا كالذين تفرَّقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البيّنات وأولئك لهم عذاب عظيم . يوم تبيضّ وجوه وتسودّ وجوه فأما الذين اسودّت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون . "
[ آل عمران : 105 ـ 106 ]
وكذلك قوله سبحانه وتعالى :
إنّ الذين فرّقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون . " [ الأنعام : 159 ]
ألا نرى كيف انتشرت العصبيات الجاهليّة وغُرِسَتْ في قلوب كثير من المنتسبين إلى الإسلام ؟ ! ألا نرى مظاهر الوهن والذلّة وضياع ديار المسلمين والحكم بغير ما أنزل الله ، وانتشار الزنى والخمر والفاحشة بصورة علنيّة ؟ !
فما حكم من ظلموا أنفسهم وكانوا في صنف من هذه الأصناف ، ثم ماتوا على ما هم عليه ؟ ! هل كلّ هؤلاء مغفور لهم لأنهم منتسبون إلى الإسلام ، وهل يكفي الانتساب للنجاة من النار ؟ !
كم من الأحاديث الشريفة تبين أن من يصلّي لن تفيده عند الله صلاته وقد علم الله ما في قلبه من نفاق أو شرك أو فساد ؟ ! وكذلك حال بعض الصائمين ؟ !
من بين المنتسبين إلى الإسلام من يصدّون عن سبيل الله ، وينحرفون عن الصراط المستقيم انحراف نهج ، ويؤولون آيات الله تأويلاً على غير ما أُنزلت له .
أن أنواع الأمراض في واقع المسلمين أكثر من أن تحصرها هذه الكلمة الموجزة . لكنها أمراض خطيرة تنذر بخطر كبير في الدنيا والآخرة ، وقد يكون بينها الشرك بجميع أنواعه أو ببعض أنواعه ، مما يعلمه الله في صدور الناس .
لسنا بحاجة اليوم إلى أن نطمئن الناس بعامة أنهم مغفور لهم لأنهم منتسبون إلى أمة محمد صلى الله عليه وسلم . إننا بحاجة إلى " الوقفة الإيمانية " الصريحة الواضحة ، الوقفة التي دعونا لها منذ أكثر من ثلاثين عاماً دعوة إلحاح ومازلنا ندعو لها ، حتى نعرف أمراضنا بجلاء ، ونضع العلاج قبل فوات الفرصة . إن الواقع خطير ، فلا حاجة لنا إلى أن نخدَّر الناس بأكثر مما هم مخدّرون به . واجبنا هو تنبيه الناس إلى حقيقة الأمراض ، وإلى أبواب العلاج والتوبة عسى الله أن يغفر لنا(/5)
مع الآية الكريمة ثم أورثنا الكتاب الذين
" ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير (32) جنات عدن يدخلونها يحلّون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير (33) وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور ( 34) " [ سورة فاطر ] ...
بقلم الدكتور عدنان علي رضا النحوي ... ...
...
نجد في كتب التفسير اختلافاً غير قليل في فهم هذه الآيات الكريمة وأكثر ما دار حوله الخلاف مفهوم الكلمات التالية : " ثمّ أورثنا الكتاب " ، " الذين اصطفينا من عبادنا " ، والضمير في كلمة " منهم " ، وفي كلمة " يدخلونها " ، وكذلك في مفهوم الأصناف الثلاثة : " ظالم لنفسه " ، " مقتصد " ، " سابق بالخيرات " . وفي الحقيقة فإن هذه الكلمات هي مفاتيح فهم هذه الآيات .
يذكر ابن كثير في تفسيره لهذه الآيات بعض الأحاديث التي فيها ضعف أو غرابة ، ومع ذلك فهو يقول : " يشدُّ بعضها بعضاً " . ويورد الأحاديث أو الأقوال الموقوفة على بعض الصحابة للآراء المختلفة . فتأخذ نماذج من ذلك :
فعن عوف بن مالك رضي الله عنه عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال : أمتي ثلاثة أثلاث ، فثلث يدخل الجنة بغير حساب ولا عذاب ، وثلث يحاسبون حساباً يسيراً ثم يدخلون الجنة ، وثلث يمحَّصون ويكشفون ثم تأتي الملائكة فيقولون وجدناهم يقولون لا إله إلا الله وحده . ويقول الله تعالى : صدقوا ، لا إله إلا أنا ! أدخلوهم الجنّة بقولهم لا إله إلا الله وحده واحملوا خطاياهم على أهل النار ... " . وقال عنه غريب جداً . ويروي هذا الحديث الطبريُّ في تفسيره أثراً عن ابن مسعود . ويذكر آثاراً موقوفة على ابن عباس رضي الله عنهما أن هذه الأصناف الثلاثة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم كلهم مغفور لهم . ويذكر أيضاً عن ابن عباس أثراً آخر يقول فيه : " فمنهم ظالم لنفسه هو كافر " . ويروي الرأي نفسه عن عكرمة وغيره . وعن مجاهد أنه قال : " فمنهم ظالم لنفسه هم أهل المشأمة . وعن ابن عباس وقتادة والحسن : " وهذه الأقسام الثلاثة كالأقسام المذكورة في أول سورة الواقعة وآخرها . وعند الإمام أحمد عن الوليد بن العيزار أنه سمع رجلاً من ثقيف يحدّث عن رجل من كنانة عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في هذه الآية : " هؤلاء كلهم بمنزلة واحدة في الجنّة " ! وقال عنه حديث غريب . وعند الطبري هذا أثر موقوف على كعب ومحمد بن الحنفية وأبي إسحق السبيعي .
ويورد الطبري الأثر الموقوف على ابن عباس بأن الأصناف الثلاثة هم من أمة محمد وهم مغفور لهم . ويورد في قول آخر : أن الظالم لنفسه هو المنافق وهو في النار ، والصنفان الآخران في الجنة . ويروي ذلك أيضاً عن قتادة والحسن وغيرهما . وروى أن قتادة قال : " كان الناس ثلاثة منازل في الدنيا ، وثلاثة منازل عند الموت ، وثلاثة منازل في الآخرة . أما في الدنيا : فمؤمن ومنافق ومشرك . وأما عند الموت فكما في آخر سورة الواقعة ، وأما في الآخرة فكانوا أزواجاً ثلاثة كما في أول سورة الواقعة .
وعند ابن عطية لا يكاد يخرج عن هذه المعاني إلا أنه قال عن " الذين اصطفينا " يريد بهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم . ثم يقول : " وكأنّ اللفظ يحتمل أن يُرادَ به جميع المؤمنين من كل أمّة . " وهذا المعنى هو الذي سنوضحه في دراستنا هذه . ويقول : " إلا أن توريث الكتاب لم يكن إلا لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ، وكأن الله ورّثها الكتاب الذي كان في الأمم قبلهم . "
ولا تخرج كتب التفسير الأخرى عن ذلك . ولكنَّ هذه الصورة المعروضة في هذه الأراء تضطرب مع شدّة الاختلاف وضعف الأحاديث وتناقض الأثار التي لم ترفع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، مما يوحي أن معظم هذه الآراء ووجهات نظر ذاتيّة لا تحمل الحجة القاطعة الجامعة .
من أجل ذلك نحبّ أن نقف مع هذه الآيات الكريمة لنقدّم تصوّراً مبنيّاً على ترابط الآيات مع ما سبقها وما تلاها ومع نهج السورة كلها ، ولنبيّن تناسقها مع نهج القرآن الكريم والآيات في سور أخرى ، وقواعد الإيمان والتوحيد .
نعود أولاً إلى سورة فاطر لندرس نهجها وما تطرقه من موضوعات مترابطة ، كانت هذه الآيات موضوعاً من موضوعاتها متناسقة معها .
فالسورة تتحدث أولاً عن فضل الله على الناس جميعاً ، مما يوفّر لهم السبيل ليؤمنوا ولا يكذّبوا الرسل ولا يتبعوا الشيطان . وتُبْرِزُ السورة كذلك بعض آيات الله في الكون مبثوثة للناس كافّة ، ويتكرر الخطاب إلى" الناس " في أكثر من موقع ، نأخذ مثلاً منها :
" يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغنيُّ الحميد . إن يشأ يذهبكم ويأتِ بخلق جديد . وما ذلك على الله بعزيز . " [ فاطر : 15ـ17 ]
ثمّ تعرض السورة امتداد رسالة الله إلى عباده على مرّ القرون ، ديناً واحداً ، تختم رسالاته بالنبيّ الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم :(/1)
" إنا أرسلناك بالحق بشيراً ونذيراً وإن من أُمّة إلا خلا فيها نذير . فإن يكذّبوك فقد كذّب الذين من قبلهم جاءتهم رسلهم بالبيّنات وبالزُّبُرِ وبالكتاب المنير . " [ فاطر : 24ـ25 ]
ويتأكد هذا المعنى في آيات كثيرة وسور أخرى من كتاب الله ، حتى يكون قاعدة رئيسة في التفكير الإيماني والتصور . وتتأكد حقيقة أخرى في كتاب الله هي أن جميع الرسل مسلمون دينهم هو الدين الواحد ، هو الإسلام الذي لا يقبل الله سواه ، وأن المسلمين أمة واحدة على مدى الدهر ، تعبد رباً واحداً ، وتدين بدين واحد ، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتسارع في الخيرات ، وأن رحمة الله وفضله يَعُمّان المؤمنين جميعهم ، من الأنبياء والمرسلين ، ومن اتبعهم وصدّقهم . ومن يدرك من أتباع أيّ نبيًّ ورسول نييّاً ورسولاً آخر فعليهم أن يتبعوه ليصدق إيمانهم . وتأتي الآيات الكريمة في كتاب الله لتؤكد هذه الحقيقة :
" إنّ هذه أمتكم أمّة واحدة وأنا ربكم فاعبدون . " [ الأنبياء : 92 ]
" وإنّ هذه أمتكم أمّة واحدة وأنا ربكم فاتقون . " [ المؤمنون : 52 ]
ثم تعرض سورة فاطر خصائص الصادقين المتقين من هذه الأمة الممتدة ، عرضاً تؤكده آيات وسور أخرى . ولنتدبَّرْ الآيات من سورة فاطر بهذا الخصوص :
" إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرّاً وعلانية يرجون تجاره لن تبور ليوفيهم أُجورَهم ويزيدهم من فضله إِنه غفور شكور . "
إن هذه الآيات لا تتعلَّق بزمن معيّن أو رسول واحد . إنها تمتدُّ مع امتداد رسالة الله وكتبه المنزلة لتشمل جميع من يتلون كتاب الله ويقيمون الصلاة وينفقون مما رزقهم الله سرّاً وعلانيّة . وان مغفرة الله ورحمته ، وفضله وثوابه ، لا ينحصر في زمن معيّن . فالله رب المؤمنين جميعاً ، يغفر لهم ويرحمهم برحمته الواسعة ، ويوفيهم أجورهم ، إلا من مَات على الشرك . ولقد سبق آيات أخرى في كتاب الله توضح هذه الخصائص مع الصادقين من أهل الكتاب :
" ليسوا سواءً من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون . يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين . وما يفعلوا من خير فلن يُكْفَروه والله عليم بالمتقين ." [ آل عمران : 113ـ115 ]
فهذه الآية الكريمة تفرّق بين أمتين من أهل الكتاب :
أمّة صدّقت رسولها الذي جاءها بالحق ، ثم آمن من أدرك منهم محمداً صلى الله عليه وسلم به وبرسالته ، وأمّة أخرى لم تؤمن لا برسولها ولا بمحمد صلى الله عليه وسلم .
ثم تربط السُّورة رسالة محمد صلى الله عليه وسلم بسائر الرسالات السابقة ، ليكون مصدّقاً لها ومهيمناً عليها . وكلٌ نبيّ ورسول يكون مصدّقاً لمن سبقه من الأنبياء والرسل ، وكتابه يكون مصدّقاً للكتب قبله :
" والذي أوحينا إليك من الكتاب هو الحقّ مصدّقاً لما بين يديه إن الله بعباده لخبير بصير . " [ فاطر : 31 ]
وتأخذ كلمة " كتب " ، و " الكتاب " معاني متعدّدة في القرآن الكريم . فهي تأتي في أكثر من مئة وثلاثين آية في سور متعدّدة . فمن معانيها : " الكتاب الذي أُنْزِل على الرسل السابقين ، و " القرآن الكريم الذي أُنْزِل على محمد صلى الله عليه وسلم " و " وما كتبه الله وقدّره وحكم به " ، وكذلك " ما هو في الكتاب الأول عند الله سبحانه وتعالى ، الكتاب الذي لا يُبَدَّل ولا يُغَيَّر " ، وكذلك " أمّ الكتاب " . ونأخذ قبسات من القرآن الكريم لبعض هذه المعاني :
" ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين . " [ البقرة : 2 ]
" وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان لعلكم تهتدون ." [ البقرة :53 ]
" وما من غائبة في السماء والأرض إلا في كتابٍ مبين. " [ النمل :75 ]
" يمحوا الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب ." [ الرعد : 39 ]
" قال الذي عنده علمٌ من الكتاب .... . " [ النمل : 40 ]
" ... والمؤمنون بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ... ."[ الأحزاب : 6 ]
" كتاب مرقوم . يشهده المقرّبون . " [ المطففين : 20، 21 ]
ومن الواضح أن معنى " والذي أوحينا إليك ... " هو القرآن الكريم ، وأما كلمة " من الكتاب " هنا قد تعني الكتاب الأول عند الله الذي يضم الكتب كلها .
ونأتي الآن إلى الآيات الكريمة موضع الدراسة هنا : " ثمّ أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا ... " ! ولقد دار خلاف بين أهل التفسير ، كما ذكرنا حول مفهوم هذه الآية . ونودّ أن نطرح التصور الذي يقوم على أساس النهج الذي عرضناه .
فكلمة " أورثنا " وردت في كتاب الله في أكثر من موضع ، لتعطي المعنى الممتد إلى كل من أنزل الله عليه الكتاب وجعل على الذين اتبعوه مسؤولية الالتزام والتبليغ فنأخذ قبسات من ذلك تضيء لنا المعنى .
" ولقد آتينا موسى الهدى وأورثنا بني إسرائيل الكتاب . هدى وذكرى لأولي الألباب . " [ غافر : 53ـ54]
" فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب .... " [ الأعراف : 169 ](/2)
" وما تفرّقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شكًّ منه مريب . " [ الشورى :14 ]
وكلمة " الذين اصطفينا من عبادنا " نجدها ممتدّة كذلك في القرآن الكريم إلى كل من اصطفاه الله فأنزل عليه الوحي والكتاب . ففي سورة النمل تعرض الآيات بعض قصص الأنبياء مع أقوامهم : موسى ، وداود ، وسليمان ، وصالح ، ولوط ، عليهم السلام ثمّ عقّب القرآن الكريم بقوله سبحانه وتعالى :
" قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى آلله خير أم ما يشركون . " [ النمل : 59 ]
فالاصطفاء هنا ممتد مع الأنبياء والرسل ، كما ذكرت الآية الكريمة . والله يصطفي من خلقه ما يشاء : " الله يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس إن الله سميع بصير." [ الحج : 75 ]
والصالحون من أتباع الرسل ممتدون كذلك في مختلف الرسالات كما رأينا في الآية من سورة آل عمران ، وكما نرى في الآية التالية من سورة الأعراف وهي تتحدث مع الآية السابقة لها عن أهل الكتاب : " والذين يمسّكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين . " [ الأعراف : 170 ]
وهذه الخصائص التي وردت هنا ، وفي سورة آل عمران ، هي نفسها التي وردت في الآيات (29ـ32) من سورة فاطر .
والفئات الثلاثة المذكورة في الآية من سورة فاطر :" فمنهم ظالم لنفسه "، " ومنهم مقتصد " ، ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله " ، كُلها موجودة في أتباع الرسالات السابقة ، الرسالات التي جاءت بدين واحد هو الإسلام .
فالآية الكريمة من سورة فاطر : " ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه .... " ، تتحدث عن جميع من ورثوا الكتاب ممن اصطفاهم الله من عباده ، كما بيّنا في الأدلة من الآيات التي سبق ذكرها ، ممن آمنوا بالرسل واتبعوهم .
وفي سورة " ص " ، تستعرض الآيات قصص بعض رسل الله وأنبيائه الذين أورثوا الكتاب والذين اصطفاهم الله ، ثم تعقّب الآيات على ذلك بقوله سبحانه وتعالى :
" إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار . وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار ." [ ص : 46ـ47 ]
فهؤلاء الأنبياء والرسل جميعاً اصطفاهم الله وأورثهم الكتاب وحملوا رسالة الله ، فآمن بهم أناس واتبعوهم ، وكفر بهم آخرون . فكان فيهم هذه الفئات الثلاث : ظالم لنفسه ، ومقتصد ، وسابق بالخيرات . وهؤلاء عسى أن يكونوا ناجين عند الله إِلا من مات مشركاٍ . والله أعلم بعباده ، وهو اعلم بمن مات مشركاً ، أو بما ارتكبوا من ذنوب وآثام ، وبمن يستحق المغفرة من عباده ، يغفر لمن يشاء ويعذّب من يشاء . فالأمر لله وحده ، لا يملك أحد من البشر أن يصدر شهادات بالمغفرة أو بدخول الجنة . ولكننا نقول بما علمنا الله من أحكام عامة لا ندري على من تنطبق من خلقه . ويؤكد هذا الشمول لمعنى الآية الكريمة من سورة فاطر ، قوله سبحانه وتعالى :
" إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الأخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم لا خوف عليهم ولا هم يحزنون . " [ البقرة : 62 ]
وكذلك قوله سبحانه وتعالى في سورة المائدة :
" إن الذين آمنوا والذين هادوا والصائبون والنصارى من آمن بالله واليوم الأخر عمل صالحاً فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون . " [ المائدة : 69 ]
أما قوله سبحانه وتعالى : " فمنهم ظالم لنفسه ... " ، فإن معنى الظلم موضح في آيات كثيرة ، تحدّد مستوى الظلم ونوعه ، أو تتركه عاماً كما في هذه الآية . وللتيسير نضعها في إطارين : الأول من ارتكب معصية أو إثماً . فهؤلاء على حالين : مقيم على المعصية والإثم حتى مات دون توبة ، أو مقلع عن المعصية بالتوبة والعمل الصالح . فالحالة الأولى أصحابها مرجون لأمر الله ، وأما الحالة الثانية فقد وعدهم الله بالمغفرة إن علم في قلوبهم صدق التوبة . أما الإطار الثاني : فهو من مات مشركاً فلا مغفرة له . والشرك ظلم عظيم ، والنفاق ظلم عظيم ، والمنافقون في الدرك الأسفل من النار : " وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بُنيَّ لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم . " [ لقمان : 13 ]
" إن الله لا يغفر أن يشرك به و يغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثماً عظيماً . " [ الناس : 48 ]
ونؤكد أن ما نعلمه من الكتاب والسنة حكم عام ، لا ندري كيف يكون حال هذا العبد أو ذاك يوم القيامة بين يدي الله . فالأمر لله ، هو وحده يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور . ويظل المؤمن بين الخشية والرجاء .
وكلمة " ثمَّ " في قوله سبحانه وتعالى : " ثُمَّ أورثنا الكتاب ... " يمكن أن تعني العطف أكثر منها للترتيب ، كما في قوله سبحانه وتعالى :
" فإلينا مرجعهم ثمّ الله شهيد على ما يفعلون . " [ يونس : 46 ]
فالله شهيد على ما فعلوه في الدنيا ، وكأن المعنى : " فإلينا مرجعهم والله شهيد على ما يفعلون . " .
و نخلص من ذلك ، على أساس هذا العرض ، أن الآيات الكريمة :(/3)
" ثمّ أورثنا الذين اصطفينا من عبادنا ..... " تعرض حقيقة ربّانيّة ثابتة مع جميع العصور ومع جميع الرسل ومن اتبعهم . فمن الذين اتبعوهم من هو ظالم لنفسه ، ويشمل الظلم جميع أنواعه ، فمنه ما يغفر الله عنه إن شاء ، فله الأمر ، ومنه ما لا يغفره الله إذا مات صاحبه عليه ، وأكبره الشرك ، والأمر يومئذ لله يغفر لمن يشاء و يعذّب من يشاء ، على حكمة لله بالغة وعدل حق لا ظلم معه أبداً ، على ميزان رباني قسط .
ثم تأني الآية الكريمة : " جنات عدن يدخلونها يحلّون فيها ... " !
فمن هم أولئك الذين يدخلونها ؟ !
فلا بد أن تنسجم هذه الآية الكريمة مع سائر الآيات الكريمة في كتاب الله ، مما هو متعلق بهذا الموضوع ، ومع الأحاديث الشريفة . فجميع الأصناف أو الفئات الثلاث يحتاجون إلى رحمة الله ومغفرته حتى يدخلوا الجنّة . فلا أحد يدخل الجنّة بعمله فقط ، ولكن بعمله ينال رحمة الله ومغفرته فيدخل الجنّة . والمعنى جليّ بالنسبة للفئتين الثانية والثالثة ، فإنهم بعملهم ينالون رحمة الله ومغفرته ، فيدخلون الجنّة . أما الصنف أو الفئة الأولى :
" فمنهم ظالم لنفسه " ، فأمره مختلف لأنه يعتمد على نوع الظلم الذي ظلم به نفسه ، كما بيّنا قبل قليل . ولا نستطيع أن نقول إن " فمنهم ظالم لنفسه " ، من أمة محمد صلى الله عليه وسلم وحدهم هم المفغور لهم ، ولا نستطيع أن نقول إن هذه الفئات الثلاث هي في أمة محمد صلى الله عليه وسلم وحدها ، فكلهم موجودون في أتباع الرسالات السابقة ، وكلهم ينالون رحمة الله ومغفرته على ميزان رباني حق عادل ، ورحمة الله ومغفرته عامة لعباده المؤمنين في مختلف العصور .
وإذا تميّزت رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وتميّز أصحابه وتميّزت أمته ، فذلك في أمور غير هذه ، غير الرحمة والمغفرة ودخول الجنة ، فذلك له ميزان عام لجميع المؤمنين من عباد الله من أتباع الرسالات كلها . محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين وإمامهم وسيدهم ، ورسالته جامعة مهيمنة مصدّقة لما سبقها ، وأصحابه رضي الله عنهم حملوا الرسالة مع نبيّهم وآزروه وما خذلوه ، وخصائص أخرى كثيرة لا مجال لتعدادها هنا ، إلا أن رحمة الله ومغفرته عامّة لعباده كلهم في جميع العصور إلى يوم القيامة على ميزان قسط لا ظلم معه .
ونود الآن أن نطبق هذه الآيات الكريمة على واقعنا . وبصورة خاصة كيف نفهم : " فمنهم ظالم لنفسه ... " في واقع المسلمين اليوم من أمّة محمد صلى الله عليه وسلم . فهل كل من ظلم نفسه اليوم من أمة محمد مغفور له مهما كان نوع الظلم ؟ !
إن عدد المنتسبين إلى الإسلام اليوم يقرب من المليار ، على أحوال شتىّ من درجات الظلم أو الاقتصاد أو المسارعة في الخيرات . فمن المنتسبين إلى الإسلام اليوم من لا يعرفون الإسلام ، ولم يتدبّروا منهاج الله ، ولم ينهضوا لطلب العلم منه كما أمرهم الله ورسوله ، ومنهم من يقضي حياته كلها لا يصلّي ولا يصوم ، ومنهم من يوالي العلمانيّة بشعار الإسلام ، ويتبنّى أفكارهم المخالفة للإسلام صراحة ، ومنهم من يدعو إلى العلمانيّة وما يتبعها بدلاً من الدعوة إلى الله ورسوله ، ومنهم المنافقون ، ومنهم مرتكبو الآثام والمعاصي والداعون لها والناشرون للفتنة والفساد في الأرض ، ومنهم من يوالي أعداء الله ويقف في صف الكافرين في صورة جليّة .
فلننظر إلى عدد المصلين في المساجد حتى لو امتلأت ، فإنهم لا يمثلون إلا نسبة قليلة من المنتسبين إلى الإسلام .
والآيات الكريمة التي تتحدّث عن هذه الفئات ، إنما تتحدّث عن أمّة مسلمة واحدة في صف واحد كالبنيان المرصوص . فما هو حكم الإسلام في التمزّق الحالي بين المسلمين ، وما حكمه في من رضي به أو ساهم في بقائه ولم ينهض لإزالته ؟ ! أين هي الأمّة المسلمة المتراصّة التي تطبّق فيها هذه الآيات الكريمة . إن الأمة المسلمة الواحدة هي أمة محدّدة الخصائص العمليّة المتوافرة في الواقع فإذا انتفت هذه الخصائص فكيف تكون الأمة المسلمة الواحدة ؟ ! . وتدبر هذه الآيات الكريمة :" كنتم خير أمة أُخْرِجَتْ تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو آمن أهل الكتاب لكان خيراً لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون " . [ آل عمران : 110 ]
" إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البريّة ." [ البيّنة : 7 ]
وآيات أخرى كثيرة تبيّن خصائص الإيمان وخصائص الأمة المسلمة الواحدة التي هي خير أمة أخرجت للناس ! أين هي الأمة المسلمة الواحدة بهذه الخصائص ؟ وكذلك :
" ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون . " [ آل عمران : 104 ]
وأين اليوم هذه الأمة المسلمة الواحدة ؟ ! وهل واقع المسلمين اليوم يكشف عن هذه الأمة وعن خصائصها الربانيّة ، أم يكشف عن صورة أخرى تمثلها الآية الكريمة التالية :(/4)
" ولا تكونوا كالذين تفرَّقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البيّنات وأولئك لهم عذاب عظيم . يوم تبيضّ وجوه وتسودّ وجوه فأما الذين اسودّت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون . "[ آل عمران : 105 ـ 106 ]
وكذلك قوله سبحانه وتعالى :
إنّ الذين فرّقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون . " [ الأنعام : 159 ]
ألا نرى كيف انتشرت العصبيات الجاهليّة وغُرِسَتْ في قلوب كثير من المنتسبين إلى الإسلام ؟ ! ألا نرى مظاهر الوهن والذلّة وضياع ديار المسلمين والحكم بغير ما أنزل الله ، وانتشار الزنى والخمر والفاحشة بصورة علنيّة ؟ !
فما حكم من ظلموا أنفسهم وكانوا في صنف من هذه الأصناف ، ثم ماتوا على ما هم عليه ؟ !
هل كلّ هؤلاء مغفور لهم لأنهم منتسبون إلى الإسلام ، وهل يكفي الانتساب للنجاة من النار ؟ !
كم من الأحاديث الشريفة تبين أن من يصلّي لن تفيده عند الله صلاته وقد علم الله ما في قلبه من نفاق أو شرك أو فساد ؟ !
وكذلك حال بعض الصائمين ؟ !
من بين المنتسبين إلى الإسلام من يصدّون عن سبيل الله ، وينحرفون عن الصراط المستقيم انحراف نهج ، ويؤولون آيات الله تأويلاً على غير ما أُنزلت له .
أن أنواع الأمراض في واقع المسلمين أكثر من أن تحصرها هذه الكلمة الموجزة . لكنها أمراض خطيرة تنذر بخطر كبير في الدنيا والآخرة ، وقد يكون بينها الشرك بجميع أنواعه أو ببعض أنواعه ، مما يعلمه الله في صدور الناس .
لسنا بحاجة اليوم إلى أن نطمئن الناس بعامة أنهم مغفور لهم لأنهم منتسبون إلى أمة محمد صلى الله عليه وسلم . إننا بحاجة إلى " الوقفة الإيمانية " الصريحة الواضحة ، الوقفة التي دعونا لها منذ أكثر من ثلاثين عاماً دعوة إلحاح ومازلنا ندعو لها ، حتى نعرف أمراضنا بجلاء ، ونضع العلاج قبل فوات الفرصة . إن الواقع خطير ، فلا حاجة لنا إلى أن نخدَّر الناس بأكثر مما هم مخدّرون به . واجبنا هو تنبيه الناس إلى حقيقة الأمراض ، وإلى أبواب العلاج والتوبة عسى الله أن يغفر لنا . ...
==================(/5)
محاذير
قبل أن نجيب على السؤال 'هل أبناؤنا في أزمة حقيقية أم عابرة؟'
على الآباء والأمهات أن ينتبهوا إلى المحاذير الآتية:
[1] 'ابني لا يمكن أن يفعل هذا':
هذه العبارة هل هي حصيلة عناية تربوية مخلصة صادقة مستمرة لسنوات طويلة قبل هذه الأزمة، وسهر الليالي وانشغال للفكر. أم هي ناشئة من العبارة نفسها من أن ابني أنا لا يفعل هذا؟ فهو ابني. وعندما نبحث عن مستند للعبارة السابقة لا نجد إلا العبارة نفسها تسند نفسها ويا له من سند واهٍ يسقط عند أول دليل دامغ أو شبهة قوية.
[2] 'لقد ربينا أبناءنا جيدًا، نحن واثقون تمامًا أنهم سيحسنون التصرف'.
إن الثقة المطلقة لا تصح إلا في التعامل مع رب العالمين ـ تبارك وتعالى ـ أما في التعامل بين البشر فقد اصطلح على تسمية من يفعل ذلك بأنه يثق بالآخر 'ثقة عمياء' وهذا الوصف كاف لبيان حقيقتها.نحن نحذرك كذلك من أن تتحول إلى موسوس لكن أيها الأباء والأمهات 'التوازن التوازن' هو معيار الحياة التي خلقها رب العالمين ـ تبارك وتعالى ـ وضمن لمن راعى سنة التوازن في حياته النجاح والفلاح في الدنيا والآخرة.ـ إذن فالمطلوب في هذه المرحلة لمن أحسنوا حقيقة تربية أبنائهم أن يثقوا بحسن التربية لكنهم لا يغفلون عينًا بصيرة حريصة غير متربصة، وقلب داعٍ بالهداية والثبات والحفظ، وتعامل سريع مع المواقف المختلفة بهدوء أو غضب محسوب، ومرونة حسب ما يقتضيه الموقف وتواجد مستمر للتوجيه والإشارة.
[3] 'أبناؤنا لا يعانون من أزمة الآن':
هل استعددتم للمنحنيات والمنعطفات الخطرة في حياة أبنائنا وبناتنا الآتية؟ أم أننا نتعامل بمنطق اللحظة الراهنة وبعد وقوع الأزمة أو الموقف الذي نحار في التصرف فيه؟ هل راعيت أيها الأب أن ابنك على وشك الدخول في سن البلوغ فتنبهت لمعالم المرحلة واستعددت بالإجابة على الأسئلة والتدخل لشرح التغيرات المتعلقة بجسده ونفسيته، وأعنته عليها؟ هل انتبهت أيتها الأم أن ابنتك على أبواب التعرض لأول حيض لها فشرحت لها أنه سيحدث، حتى لا تصدم، وإذا حدث كيف تتعامل معه؟ثم قبل ذلك وبعده كيف تنظر لنفسها عند حدوث هذا الحدث الهام في حياتها؟
[4] احذر ثورة البركان:
دعنا أيها الأب أيتها الأم لا ننتظر البركان حتى يثور، فالبركان لا يثور فجأة ولكن يكون على علامات سابقة، ولكن هل من متابع؟فلا تخبرني أن ابنك أو ابنتك ليسا في أزمة وأنت بعيد عنهما لا تراهما إلا في اليوم مرة عند نومهم؟ أو ربما تمر الأيام والليالي لا تراهم إلا في المناسبات.
ليس اليتيم من انتهى أبواه هم الحياة وخلفاه ذليلاً
إن اليتيم الذي تلقى له أمًا تخلت أو أبًا مشغولاً
ونحن هنا بحاجة للتحديد الدقيق من أين تنشأ المشكلة؟ حتى يمكن حلها بسهولة ووضوح بإذن الله تعالى.(/1)
محن ومنح !!
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد الله رب العالمين .. والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين .. سيدنا وحبيبنا محمد وآله وصحبه أجمعين ..
المحن والابتلاءات ملازمة للإنسان منذ خلقه الله حتى تقوم الساعة، ومحنة الإنسان الفرد تبدأ معه منذ ولادته وهو يكافح ظروف الحياة القاسية المختلفة حتى وفاته، قال الله تعالى: ( يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه) ، وقال سبحانه: ( تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير، الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً).
لذا كان للابتلاء في حياة الإنسان غاية وهدف وحكمة، فالابتلاء امتحان للإنسان في طريق تكامله وارتقائه، إن اجتازه المرء بنجاح وكفاءة فاز برضا الله سبحانه وما أعد لعباده الصالحين، وإن تعثرت به الطريق ولم يستقم كما أمر ولم يفهم دوره في الحياة وحاد عن جادة الحق فإنه سينزل به إلى الحضيض ويخسر الدنيا والآخرة.
إن الحوادث والأيام بما تحمل من متاعب ومصاعب وشدة وعسر، وكذا من أفراح وأتراح، ولين ويسر، كلها محطات امتحان للإنسان ليرى أيشكر أم يكفر، ولا بد للمؤمن أن يعي أبعاد مسيرته الشاقة، ويعي ما وراء ما يمر به من محن وابتلاءات لكي يواصل دربه السامي بوعي وبصيرة وصبر واستقامة دون تلكؤ أو ضعف.
إن الأمم الحية بإيمانها هي وحدها التي تلجئها المحنة إلى ربها ..
وتنقطع عند الشدة اليه سبحانه ..
وكلما اشتدت الأمور ازدادت إيماناً بوعد ربها ونصره .. وصبراً على بلائه وسعياً في جهاد أعدائه ..
إن وقت الشدة هو المحك الرئيسي للإيمان ..
وعندما تشتد بالأمة المحن ..
فان هذا بالذات هو وقت اللجؤ إلى الله سبحانه ورجاه ..
والتوكل عليه ..
والصبر على بلائه والعمل بما أمرنا به من مجاهدة أعدائه ..
وهذا هو الوقت الذي يتميز فيه صاحب الإيمان الصادق من الكاذب ..
التوكل على الله حق التوكل هو أحد أسباب النصر المبين .. فالفرق بيننا وبين عدونا هو في هذه النقطة بالذات ..
أننا نرجو الله وهم لا يرجوه سبحانه .. وفي هذا - إن التزمناه - السبب المؤدي الى نصرنا ..
وخذلان عدونا .. فاننا وعدونا نتشابه في المعاناة .. (إن تكونوا تألمون فانهم يألمون كما تألمون) .. ولكن نتميز عليه بما نرجوه من الله رب العالمين : (وترجون من الله ما لا يرجون ) . فالذي يضعف عن مواجهة عدو الله وعدوه ..
إنما بسبب ضعف في إيمانه وتوكله على ربه ..
وهو إذ يقطع التوكل بالله سبحانه وهو المهيمن على كل شيء ..
فانه يتكل على قوى تبدو له قوية ومقتدرة لكنه لا يحصل من بعدها إلا على الخيبة والخسران .. لذلك ليس سراً أن نرى جهود المستسلمين تنتهي الى الخيبة واليأس ..
وليس سراً أن نرى جهود المؤمنين الراجين لله تُكلل بالنصر والظفر .. ولو بعد حين ..
ومعلوم أن اختبار الله تعالى للعباد تارة بالمسار ليشكروا، وتارة بالمضار ليصبروا، فصارت المحنة والمنحة جميعاً بلاء، فالمحنة مقتضية للصبر، والمنحة مقتضية للشكر، والقيام بحقوق الصبر أيسر من القيام بحقوق الشكر، فصارت المنحة أعظم البلائين، قال تعالى: ( ونبلونكم بالشر والخير فتنة) .
إن الابتلاء والاختبار سنة إلهية، ولابد للإنسان من أن يمر بحالة من حالات الاختبار، والابتلاء الفردي أو الجماعي، وعليه أن يعد نفسه، ويهيئها لذلك الاختبار، فلا يفاجأ، ولا يركن الى الدنيا ومغرياتها.
قال تعالى: ( الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً وهو العزيز الغفور). ( أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا هم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين) .
فالحياة ساحة اختبار ومجال للكشف عن حقيقة النفس ومحتوى الذات، ليعرف الصادق من الكاذب ، فيبدون على حقيقتهم من غير حجاب ولا ستار وعند ذلك يأخذ كل ذي حق حقه إن خيراً فخير وإن شراً فشر.
إن حياة الرخاء والسعة والاستقرار تغطي حالة الضعف، وتستر نواقص الإنسان وخفاياه الكامنة، وتظهر حين المحنة، وفي ساعة العسرة والشدة والاختبار الصعب ..
وقضية الصبر والجهاد وحمل الرسالة هي من أكثر التكاليف والابتلاءات والوسائل قدرة على اختبار صدق الإنسان واخلاصه لله سحبانه، وذلك لما تحتاجه هذه المهمة الصعبة من صبر وثبات وتضحية بالمال والنفس والأهل والراحة ومنح الحياة، واستعداد لتحمل التشريد والقتل والتعذيب والأذى والحرب النفسية والدعائية... الخ.
والقرآن يصور بعض ذلك في نصوصه، ويتحدث عن الصبر والجهاد والابتلاء، فيقول سبحانه وتعالى: ( ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو اخباركم) .
( ولبنلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين، الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون) .
( لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين اوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيراً وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور) .(/1)
إن محنة الجهاد والهجرة والجوع والتشريد والخوف والارهاب والحملات الدعائية المضادة والحرب النفسية التي يشنها الظالمون المستبدون، إن هي إلا عملية تنقية واختبار وتمحيص للنفوس والكشف عن هوية الإنسان وفرز الصادق من الكاذب، والمخلص من غيره، ( هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاَ شديدا) .
الابتلاء طريق ناح فيه نوح، ورمي في النار إبراهيم الخليل، وأضجع للذبح إسماعيل، وبيع يوسف بدراهم معدودة، وذهبت من البكاء عين يعقوب، وذبح الحصور يحي، وضني بالبلاء أيوب، وأدميت قدما رسول الله صلى الله عليهم جميعاً وسلم.
فإذا أبتلي المسلم فليحمد الله رب الأرض والسماء فإن هذا طريق الأنبياء والصالحين الأتقياء ..
أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الصالحين ثم الأمثل فالأمثل. وقد قضى الله أن العسر يتبعه يسر نعم إن الشدائد مهما تعاظمت وامتدت لا تدوم ..
بل إنها أقوى ما تكون اشتداداً وامتداداً واسوداداً أقرب ما تكون انقشاعاً وانفراجاً وامتداداً فيأتي العون من الله والإحسان عند ذروة الشدة والامتحان وهكذا نهاية كل ليل غاسق فجر صادق :
فما هي إلا ساعة ثم تنقضي ويحمد غب السير من هو سائر
فالزم يديك بحبل الله معتصماً *** فإنه الركن إن خانتك أركان
والله تعالى أعلم وأحكم ..(/2)
مكّة المكرّمة والمدينة المنوّرة
بقلم الدكتورعدنان علي رضا النحوي
لَهَفَةٌ لم تَزلْ مع العمر أنْدَا ... ... ء شَبابي وَوَشْوَشَاتِ مِهادِ
كم تطلّعتُ أرْقُبُ الأُفْقَ ، والأفْـ ... ... ـقُ نَدِيُّ العَطاء والإمْدَادِ
دفْقَة النُّورِ فيه تملأ دُنْيَا ... ... ي وتُحيْيْ عَزيْمتي وفؤادي
*** ... * ... ***
أيُّ نُورٍ سَرى يَرُدُّ ظَلاماً ... ... عَنْ دُرُوبي وعَنْ هَوايَ الصَّادي
فإذا مكّةٌ أمامي نُورٌ ... ... مِنْ جَلالِ الهُدَى ومن مِيلادِ
وإذا الكعْبَة النَّديَّةُ تَغْنَى ... ... بَيْنَ سَعْي العُصُور والآمَادِ
واللّيَالي تطوفُ والأمَلُ الحُلْـ ... ... ـوُ وخَفْقُ القُلُوبِ والأكْبَادِ
وإذا زَمْزَمٌ يُرَوِّي اللِّيَاليْ ... ... مَدَداً دافِقاً بغيْر نَفَادِ
لهف نفسي وأنْتِ لؤلؤة الكَوْ ... ... نِ والْماسَةٌ وَكفُّ جَوَادِ
وإذا طِيبَةٌ يَفيضُ عَليها الـ ... ... ـوَحيُ تغْنَى بِوثَبةِ وجِهادِ
والنبي الأمين أحمْدُ يُهْدي ... ... آيَةَ الدَّهر مُْجِزاتٍ بَوادي
حَسْبُكِ اليومَ أنَّ فِيك نَبيّاً ... ... وجَلالاً من طيبهِ والرَّشادِ
فانْثُرا المجْدَ واملأ كُلَّ أفقٍ ... ... من هُداه ونُوره الوَقَّادِ
عَبَقاً يملأ الحَياةَ ويُغْني ... ... كُلَّ دارٍ شذى ونَفْحة هَادِ
يا لهذا الحَلالِ ! نورٌ وعِطرٌ ... ... مُزِجاً في غِنىً نَدِيِّ الرفَّادِ
فَصِلاَ الأرضَ و الزَّمانَ وأجْيَا ... ... لاً ، وجُودا بآيَةٍ وبزادِ
وبنُورٍ يَشُقُّ مِنْ ظُلْمَة اللّيـ ... ... ـلِ ويَزوْيْ الظَّلامَ عَنْ أنجادِ
النُبُوّاتُ والرِّسَالاتُ والوَحْـ ... ... ـيُ ونُورٌ يَمُوجُ مِلءَ البَوادِي
لَهْفَ نَفْسي !أرضَ الرَّسالات جُودِي ... ... بحَنين العُصورِ والأمْجَادِ
كَمْ نَبِيٍّ مَشَى بأرْضِك يدعو ... ... ونَبِي سَعَى إلَيْكِ وهادي
*** ... * ... ***
أشرَقَتْ مَكَّة ، وطيبةُ عِطرٌ ... ... بَينَ ساعٍ وطائفٍ أو شَادي
بين شَوْقٍ مُموَّجٍ وحَنينٍ ... ... ودُعاءٍ مِنْ صَامِتٍ ومُنَادي
فانْشُرا النُّورَ ،وانثرا الطيبَ ، جُودا ... ... يالسِحْرِ العطاءِ من أجْوادِ
*** ... * ... ***
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
· من ديوان عبر وعبرات .(/1)
ملأ الظالمون أرضَك يا دارُ
بقلم الدكتورعدنان علي رضا النحوي
يَا دِيارَ الإسلام ! أَنى تَلَفَّـ ... ... ـتُّ تَجَرَّعْتُ غُصَّةً وَجُزُوعا (1)
وخِيامُ اللّجُوءِ تَقْذِفُها الآفا ... ... قُ ! تَرمي أَفْواجَها والجُموعَا
غَصَّتِ الدَّرْبُ والشّعابُ ومَاج الـ ... ... ـمَوْتُ فِيها جَمَاجِماً وضُلُوعَا
* * ... ... * *
أَيْنَ لُبْنانُ ؟ ! والدَّماءُ التي كا ... ... نَتْ تُنَادِي وَمَا تُلاقي سَمِيعا
فَجَّرَ المُجْرِمونَ فيها البَرَاكِيـ ... ... ـنَ فَمَادَتْ زلازِلاً وصُدُوعا
يَالهَوْلِ الإجرام ! صَبَّ على السَّا ... ... حاتِ دَمْعاً مُرَوَّعاً ونجيعَا
* * ... ... * *
يا رَوابي الأَفْغَان قصِّي عَلينَا ... ... وأَعيدي المَلاَمَ والتّقْريعا
كمْ شَقِيٍّ بَغَى عَلَيْك فَوَلَّى ... ... راضِياً بالإِيابِ عَنْكِ قَنُوعا
آيَةٌ مِنْ مَلاحِمٍ يَسْطعُ الصُّـ ... ... ـبْحُ عَلَيْها كما رأَيتِ سُطُوعَا
* * ... ... * *
يا حَنينَ الأَقْصَى ! وَيالَهْفَةَ الشّو ... ... قِ ! وَيَا خفْقَةً تَهزُّ الضُّلُوعا
الحَمامُ الذَّي عَهِدْنَاهُ فِيهِ ... ... غَابَ يَرْجُو مَع الحَنينِ رُجُوعَا
لم تَزَلْ أَنَّةُ اللّجُوء تُدَوِّي ... ... بَيْنَ أَحْنَائِنا دَويّاً فَظيعا
* * ... ... * *
الهَوَانُ الذَّليل خَلَّى رُبَاها ... ... عن خُطىَ أَهْلِهَا حِمىً مَمْنوعَا
لا يَزَال الغَرِيبُ يَضْربُ في الأَرْ ... ... ضِ ليلقَى أُصُولَهُ والفُروعاَ
حِين يَلْقَى حِماهُ في أُمَّةِ الإِسْ ... ... ـلاَم تُغْني رُبُوعَها والجُموعَا
يا ظِلالَ الزَّيتُون ! أَيْنَ حديث الأَمْـ ... ... ـسِ ؟ ! هَاتِ الحديثَ و التْرجِيعَا
أَيْنَ عِطرُ اللّيمون يَنْشُر تَاريـ ... ... ـخاً ويَرْوِي مَلاَحِماً وصَنيعَا
وطُيوفُ الأَقْصىَ تُنادِي : أَبَيْنَا ... ... أَنْ نَسُومَ الدِّيارَ أَو أَنْ نَبيعَا
* * ... ... * *
أَيْنَ يا قَلْبُ أَسكُب الدّمْع ؟ ! أَنَّى ... ... طُفْتُ أَلْقَى مَذَلَّةً وخُنُوعا
أَعلى دَجْلةٍ أَصُبُّ دُمُوعي ... ... وأُعِيدُ الأَحْزان والتّقْرِيعا
يالهولِ المُصَابِ فيها وقلبي ... ... لم يَزلْ راجفاً يَدُقُّ هلُوعا
* * ... ... * *
أَم على النِّيل ؟ ! كَمْ أَرادوكَ يا نِيـ ... ... ـلُ جَنيّاً يُرَاوِدُ التَّطويعا
وَأَرادُوكَ أَنْ تَضِيع مَعَ الشِّرْ ... ... كِ وتأبى عَلَيْهِمُ أَن تَضيعا
* * ... ... * *
أَم على الشّام والعَدُوُّ حوَالَيْـ ... ... ـها يَمدُّ السّكِّينَ والتقطيعا
يا رُبى الشام ! يالعْهدِك ياشَا ... ... مُ أَطلتِ الفراقَ والتّودِيعا
* * ... ... * *
أَم على الهِنْد ؟! لهفَ نَفْسي ! تَراهُمْ ... ... نَزَعوا للفسادِ فيها نُزُوعا
مَلأوا الأرْضَ مِنْ جَرَائِم هِنْدُو ... ... سٍ وسِيخٍ وصَدَّعوا تصدِيعا
وأَحَاطوا بالمُسْلِمين وهَزّوا ... ... مِنْ قناةٍ وجَمّعوا تَجْمِيعا
هَدَمُوا المسْجِدَ الغَنِيّ بأَمْجا ... ... دٍ فأَهْوَى التَّارِيخُ مِنْهُ خُشوعا
لمْ يُرَاعُوا للمُسْلِمينَ يَدَ الإِحْـ ... ... ـسَانِ فِيهِمْ ولمْ يَهَابُوا الجُمُوعا
مَسْجدُ البابريّ أَصْبَحَ ذِكري ... ... لهَوانٍ ، وغُصّة ودُموعَا
* * ... ... * *
يا " لِكَشْمير " والدِّمَاءُ عَلَيها ... ... صَبَغّتْها رِيعاً يَموجُ فريعَا (2)
كُلَّ يَومٍ تمُرُّ فِيها اللّيَالي ... ... وصَرِيعٌ يَرْثي عَلَيْها صرِيعَا
أُمَّةٌ تَدْفَعُ الكتائِبَ لِلحـ ... ... ـقِّ وتحْيِي جِهَادَها المَشْروعا
* * ... ... * *
يالأَرْض " الصُّومَالِ " يَجْرِفُها المَوْ ... ... تُ فَتَلْقَى به الهَلاَكَ المُريعَا
جُنّ في أَرْضِها الشَّيَاطينُ بالمَكْـ ... ... ـرِ فَصَبُّوا الفَنَاءَ والتَّجْوِيعَا
* * ... ... * *
كُلُّها سَاحَةٌ يُخَيّمُ فِيهَا الليّـ ... ... ـلُ يَطْوي فَضَاءَها و الرُّبوعا
الضَّلالُ البَعيدُ والمكْرُ والمَوْ ... ... تُ ظلالٌ يَرُوعُها تَرْويعَا
وَظَلامُ السُّجُون يَطْوي أَنيناً ... ... وصراخاً من الضّحَايا مُريعا
بَيْنَ آلاتِه تُمَزَّقُ أَجْسَا ... ... مٌ وتأبى نفوسُهَا أَن تُطيعا
سَاحَةٌ يَلْعَبُ الشَقِيُّ عَلَيها ... ... مُجْرِماً ضَلَّ أَو سَفيهاً خلِيعَا
مَلأَ الظّالِمونَ أَرضَكِ يادا ... ... رُ وكَانَتْ حمىً أَبَرَّ منيعا
* * ... ... * *
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
· ملحمة البوسنة والهرسك .
(1) جزع : جزعاً وجزوعاً وهو ضد الصبر .
(2) الريع : المرتفع من الأرض(/1)
ملومُكُما يَجلُّ عن الملام
المتنبي
ملومُكُما يَجلُّ عن الملامِ
ذَرانيـ والفَلاةَ بِلا دَلِيلٍ
فإِنِّيـ أستَرِيحُ بِذِي وهذا
عُيُونُ رَواحِلي إن حِرتُ عَيني
فَقد أردُ المياهَ بِغَيرِ هادٍ
يُذمُّـ لمُهْجَتي رَبّي وسيفي
وَلا أُمسِيـ لأهل البُخلِ ضيفًا
ولمَّا صارَوُدُّ الناسِ خبًا
وصِرتُـ أشكُّـ فيمَن أصطَفّيهِ
يُحبُّ العاقلونَ على التَصافِي
وآنفُـ مِنـ أخِي لأَبِي وأَمّي
أرَى الأجدادَ تغلبُها كَثيرًا
وَلَستُـ بِقانِعٍ من كُلِّ فَضلٍ
عَجِبتُـ لِمنَ لهُ قَدٌّ وحَدٌّ
ومَنـ يِجِدُ الطَرِيقَ إلى المعَالِي
ولمـ أرَ في عُيوبِ الناس شَيئًا
أقَمتُ بِأرضِ مِصرَ فَلا ورَائي
ومَلَّنِي الفِراشُ وكانَ جَنْبي
قَلِيلٌـ عائِدي سقمٌ فُؤّادِي
عَلِيلُـ الجِسمِ مُمتَنِعُ القِيامِ
وَزائرَتيـ كأنَّـ بِها حَياءً
بذَلتُـ لَها المَطَارِفَ والحشَايا
يضيقُ الجِلدُ عن نَفَسي وعنها
كأنَّـ الصُبحَ يَطرُدُها فتَجرِي
أُراقِبُـ وَقْتَها من غَيرِ شَوقٍ
ويَصدُقُ وَعدُها والصِدقُ شَرٌّ
أبِنْتَـ الدَهرِ عِندِي كُلَّ بِنتٍ
جَرَحتِـ مُجرَّحاً لم يَبقَ فيهِ
ألا يا لَيتَ شِعرَ يَدِي أتمسِي
وهلـ أرمِي هَوايَ بِراقِصاتِ
فرُبَّتما شَفَيتُ غَلِيلَ صَدري
وَضاقَتْـ خُطة فَخَلصْتُ مِنها
وفارَقتُـ الحبَيبَ بِلا وَداعٍ
يَقُولُـ لِيَ الطَبِيبُ أكلتَ شَيئا
وما فيـ طبِّهـ أني جَوادٌ
تعوَّدَ أنْـ يُغبِّرَ في السَرايا
فأُمسِكَـ لا يُطالُ لَه فيَرعَى
فإن أمرض فما مَرِضَ اصطِباري
وإنـ أسلَمـ فما أبقَى ولكِنْ
تَمَتَّعْـ منـ سُهادٍ أو رُقادٍ
فإنـ لِثالِثِ الحالَينِ مَعنًى ... ووَقعُـ فَعالِهِ فَوقَ الكَلامِ
ووَجهيـ والهَجِيرَ بِلا لِثامِ
وأتعَبُـ بِالإناخةِ والمُقامِ
وكُلُّـ بُغامِـ رازحةٍ بُغامي
سوَى عَدّيـ لَها بَرقَ الغَمام
إذا احتاجـ الوَحِيد إلى الذِمامِ
وَلَيسَـ قِرًى سوَى مُخّ النَّعامِ
جزَيتُـ على ابتسامٍ بابِتسامِ
لِعِلميـ أنه بَعض الأنامِ
وحُبُّـ الجاهلِينَ على الوسام
إذا ما لمـ أَجِدهُـ مِن الكِرامِ
على الأولادِ أخلاقُـ اللِّئَامِ
بِأنـ أُعزَى إلى جَدٍّ هُمامِ
ويَنبُو نَبوة القَضِمِ الكَهامِ
فَلا يَذَرُ المطَيَّ بِلا سَنامِ
كنَقصِ القادِرِينَ على التَّمامِ
تخُبُّـ بِي الرِكابُ وَلا أمامي
يَمَلُّـ لِقاءَهُـ في كُلِّ عامِ
كثِيرٌ حاسدي صَعبٌ مرامي
شَدِيدُ السكر من غَيرِ المُدامِ
فَلَيسَـ تَزورُ إِلا في الظلامِ
فعَافَتها وبَاتَت في عظامي
فتُوسعهُـ بأنواعٍ السَّقامِ
مَدامِعُها بِأربَعةٍ سجامِ
مراقَبةَ المُشوقِ المُستَهامِ
إِذا ألقاكَـ في الكُرَب العِظامِ
فَكَيفَ وَصَلْتِ أنتِ مِنَ الزحامِ
مكانُـ للسيُوفِ ولا السِّهامِ
تَصَرفُـ فيـ عِنانٍ أو زِمامِ
مُحَلاةِ المقَاوِدِ بِاللُّغامِ
بِسيرٍ أو قَناةٍ أو حُسام
جَلاصَـ الخَمرِ من نَسجِ الفِدامِ
ووَدَّعتُـ البِلادَ بِلا سلامِ
وَداؤُكَـ فيـ شَرابِكَ والطعامِ
أضرَّ بجِسمهِ طُولُ الجَمامِ
ويَدخُلَـ منـ قَتامٍ في قَتامِ
ولا هُوَ فيـ العلِيقِ وَلا اللِجامِ
وإنـ أُحَممْ فما حُمَّ اعتِزامي
سَلِمتُ منَ الحِمامِ إلى الحِمامِ
وَلا تَأمُلـ كرًى تَحتَ الرِجامِ
سِوَى مَعنى انتِباهِكَ والمنَامِ(/1)
مواكب بدر
بقلم الدكتورعدنان علي رضا النحوي
طَوِّفي حَيْثُ شِئتِ هذي المَغَاني
زَهَرَتْ بالقَصيدِ والمهْرَجَانِ
يا لَنَفْح الإِيمان يَنْشُرُ طِيباً
مِنْ فَعَالٍ ورَفّةً مِنْ بَيَانِ
يا لَنُورٍ يَشُقُّ مِنْ ظُلْمةِ اللّيْـ
ـلِ وَيَسْري بَينَ الضُلُوع الحَوَانَي
يَا لَهَا خَفْقَةٌ مِنَ الكَبِدِ الحَـ
ــرَّى وَدَفْقٌ مِنْ رَحْمَةٍ وَحَنانٍ
أَسْعِفينَا فكمْ ضَلَلْنا و تاهَتْ
في الدَّياجير خُطْوةُ الإِنسانِ
أَسعِفينَا بآيةٍ مِنْ بَيَانٍ
شَعَّ مِنْ جَوهَرٍ كَرِيم المَعَاني
كُلُّ حُرِّيَةٍ تَمُوتُ إذا لَمْ
تَكُ حُرِّيَّةً لصدقِ لِسَانِ
كُلُّ حُسنٍ يَمُوتُ فِينا إِذا لمْ
يَكُ أَغْلاهُ آيَةً مِنْ بَيَانِ
* * *
* * *
كمْ سَقَطْنا وَمَا نهضنا فَأْهْوتْ
بَيْنَ أَوْحالنا خُطَا الفُرْسَانِ
كمْ خَنَقْنَا عَلى الحَنَاجرِ أَصْوَا
تاً فماتَتْ في غُصَّةٍ وَهَوَانِ
الحُرُوفُ الخَرْسَاءُ ذُلٌّ ومَوتٌ
دُفِنَتْ بَيْنَ مُجْرمٍ وَجَبَانِ
لَهْفَةُ الشَوْق لَمْ تَزَلْ تَتَعَالَى
بَيْنَ أَحْنائِنَا ، وصَفْوُ الأمَاني
أَسعِفِينَا بِرَوْعَةِ الحَرْفِ يَجْلُو
عِزّةً أو يُعِيدُ مِنْ إِيمانِ
* * *
* * *
كمْ عَدُوٍّ تَرَاهُ يَقْتُلُ فِينَا
وَمْضَةَ الحَرْف من هُدًى وجِنانِ
يَالِذُلّ الإِنْسَانِ يَطْرَحُه الكُفْـ
ــرُ شَتِيتَ الأهْوَاءِ والأشجانِ
يَا عَبيداً يَسُوقُها السوطُ في الأرْ
ضِ فَتَمضِي هُناكَ كالقِطْعَانِ
سَرَقُوا الوَمْضَةَ الغَنِيَّة لكنْ
أشرقتْ رغم ذاك منها اليدانِ
سرقوا العطر ثمَّ ولَّوْا ولكن
نَثَرَتْهُ الخُطا بِكُلِّ مَكَانِ
كُلَّمَا أَوغَل الجبَانُ بِظُلمٍ
جَعَل اللهُ فُرْجةً مِنْ أَمَان
* * *
* * *
يَا لِذُلِّ العَبيدِ تَرْكَعُ في دُنـ
ـيا " أَبُولُّو " في زحمَةِ الأوِثانِ
كُلَّ يَوْمٍ لهُمْ إِلهٌ جَديدٌ
يا لِذُلّ الأَرْبَابِ والعُبْدَانِ
نَحَتُوه مِنَ الخُرَافَةِ والجَهْـ
ـل وصَاغوهُ مِنْ هوىً فَتّانِ
كُلَّ يَوْمٍ لَهْمُ مَذاهبُ شتَّى
مِنْ ضَلالِ اليُونانِ والرُّومَانِ
ثُمَّ سَمَّوهُ فلسَفَاتٍ وفِكْراً
بين جُورِ الضَّلالِ والبُهْتَانِ
فِتْنَةٌ أشْعَلَتْ أَبَالسةُ الأَرْ
ض لَظَاهَا تَمُدُّ مِنْ نِيرَانِ
فَدَعُوهَا يَا قوم ! أَيُّ فَسادِ
لِبُناةِ الأَجْيَالِ والأَوْطانِ
لا تُرَاعي يَا نَفْسُ ! هُم جُبَناءٌ
مَا أَذَلَّ الجَبَانَ عِنْدَ الجَبانِ
* * *
* * *
ها هُنا نَفْحَةُ النُّبُوَّة مِنْ بدْ
رٍ وهذي مَلاحِمُ الفُرْقانِ
ها هُنا تُصْنَعُ الرّجَالُ وتُبْنَى
أُمَّةٌ بينَ آيَةٍ وَسِنَانِ
يَا لَبَدْرٍ ! وَيَا لَمَعْرَكَةٍ تَمْـ
ـضي مضيَّ الدُّهُورِ و الأزْمَانِ
يَنْحَنِي عِنْدَها الزّمَانُ فَيَلْقَى
شُعَلاً مِنْ عَزائِمِ الإِيمانِ
في مَيَادِيِنهَا تَمُوجُ اللَّيالي
و دَوِيٌ مِنْ أيَةٍ و أَذَانِ
والتْطامُ الزُّحُوفِ ، حَمْحَمةُ الخَيْـ
ــلِ ، نِداءُ الرَّحمن للإِنْسانِ
عَبْقَريُّ الجِهَادِ مِنْ عَزْمةِ الشّوْ
قِ ، ومِنْ مُهْجَةٍ ، ومِنْ إِحْسَانِ
عَبَقُ المجْدِ كُلُّهُ في الثَّنَايَا
في ذُراً أشْرَقَتْ وفي وُدْيانِ
كُلُّ شِبْرٍ مُضَمَّخٌ بِدِماءٍ
كُلُّ سَاحٍ زَهْوُ الرُّبى والمَغَاني
ها هُنَا يُرْفَعَ القَصِيدُ ويُبْنى
أَدَبٌ مُلْهِمٌ وفيضُ مَعَاني
أَدَبٌ يَرْتَوي البَيَانُ لَدَيِه
مِنْ حَديثِ الرَّسُول ، مِنْ قرْآنِ
هُو نَبْعٌ مِنَ الهِدَايةِ ، فَيضٌ
مِنْ وَفَاءٍ ، وخَفْقَةٌ مِنْ جَنَانِ
* * *
* * *
طَابَ ليْ عِطرُها ! فَكَمْ رَفَّ مِنْها
عَبَقُ الصِّدْق أَو شَذَا الإِحْسَانِ
خَشَعَتْ أَضْلُعي لآيَتِها الكبْـ
ـرَى وإِشْراقِ جَوْلةٍ وطعَانِ
هَاجَني الشّوْقُ مِنْ هَوىً فَتلـ
ــفَّتُّ ! ونَادَيْتُ : أَيْنَ عَزْمُ البَاني
أَيْنَ أَمْجَادُ أُمَّتي ؟ ! كيف تَرْضَـ
ـون " أبُولّو" ودعوةً مِنْ هَوَانِ
ها هُنَا تَزْخَرُ البُطُولاَتُ في التَّا
ريخ مِنْ صَادِق الوَفَاءِ و حَانِ
فَتَنَاوَلتُ مِنْ هُنَاكَ مِنَ التّا
ريخ ، مِنْ رَوضَةٍ وَمِنْ بُسْتَانِ
جَوْهَرَ المجْدِ أَوْ لآليءَ فَتْحٍ
أَوْ عُقُوداً مَنْظُومَةً مِنْ جُمَانِ
وَوُرُوداً تَفَتَّحَتْ وَزُهُوراً
عَبَقَتْ بالشَّذَا ، ونَفْحَ جِنَانِ
فَإِذَا كُلُّها تَجَمَّعُ آياً
في فُؤادٍ حَانٍ وفي وِجْدَانِ
لَمْحَةٌ تَجْمعُ الفَرَائِدِ مِنْ بَدْ
رٍ ومِنْ وثْبَةٍ وزَهْو يَمَانِ
لا تَغِيبي عَنَّا مَيَادينَ بَدْرٍ
أَطْلِقي مِنْ مَواكبٍ وعِنانِ
وَثبِي يا مَوَاكِبَ الحَقِّ طُوفي
بَينَ نَصْرٍ وبَيْن صِدْقِ الأمَاني
وَاصْدُقي الله واطْلُبي الجَنَّة لا الدُّنـ
ـيَا ولا زُخْرُفَ الحَياةِ الفاني
إِنَّ أَعْلَى البَيَانِ دَفْقُ دِمَاءٍ
فَجّرَتْها مَوَاقِعُ الإِيمانِ
كُلُّ حَرْفٍ يَصُوغُه دَمُ حُرٍّ
هُوَ نُورٌ يَسْري مَعَ الأزْمانِ
* * *
* * *
لَفتةٌ مِنْكَ يا أَخي رفَّ منْها الـ
ـشَوْقُ للحقِّ أو نَقَيُّ الأماني(/1)
لفْتةٌ حُلْوةُ ومَدْرَسَةٌ كُبْـ
ــرى ودارٌ مَشْدُودةُ الأركانِ
وكَأَنّي أَرَاكَ قمْتَ ! تَلَفَّـ
ـتَّ ! ونَادَيْتَ يَا رِجال البَيانِ
انْهَضُوا ! أَدركوا البَيَانَ وصُونُوا
لغة الحَقِّ مِنْ عَدُوٍّ جَانِي
ودَعي أُمَّتي مَذَاهِبَ يُونا
نٍ وأَوْهَام جَاهِلٍ مُتَوانِ
وانْهضي ! هذه مَدْارِسُ بَدْرٍ
أطلِقي مِنْ مواكِبِ الفُرسانِ
كِمْ رَمَى الحِقْدُ والتّحاسُدُ فينا
خَيْلنا في مَتَاهَةٍ وَهَوَانِ
لَكَ مِنّي تَحِيَّةٌ يا أخي أَحْـ
ـمَدُ ! صفْوُ الدُّعَاءِ والإِحسانِ
* * *
* * *
17/9/1408هـ
13/5/1988م ... ... ...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
· ديوان مهرجان القصيد(/2)
مفاتح الغيب الخمسه
نسعى فى طلب العلم والمعرفه , وكلا منا يختار ما يناسبه ويهواه فيلقى بنفسه فى بحر هذا العلم وينهل منه ما قدر الله له أن ينهل ,نقضي الليالي والأيام ونحن نتعلم ونتعلم ونترك أوطاننا وذوينا ونحتمل الغربة وأعبائها كل ذلك من اجل طلب العلم والمعرفه , نحتمل السهر والتعب وكل ما يعترضنا من ظروف الحياه لنصل إلى غايتنا ومبتغانابحور العلم كلها متاحه مباحه تنادى طلابها ليغوصوا فى أعماقها ويستخرجوا كنوز لؤلؤها ومرجانهافنحصد الشهادات والدرجات العليا ونتقن اللغات فنزداد ثقة بأنفسنا ويزداد احترام المجتمع لنا. علم واحد لم ولن نعلمه أو نتعلمه علم واحد ألويل والثبور وعظائم الأمور لمن تجرأ عليه أو ادعاه وهذا العلم هو علم الغيب الذي يحوى خمس مفاتح , إن تأملناها وجدنا أنها تحوى الحياة الدنيا من مبتداها وحتى منتهاها قال الرسول صلى الله عليه وسلم مفاتح الغيب خمس : ( إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ )( لقمان } صحيح .البخارى , كتاب التفسير 4627وقال صلى الله عليه وسلم{ مفاتح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله :
لا يعلم أحد مايكون فى غد , ولا يعلم أحد مايكون فى الأرحام ولا تعلم نفس ماذا تكسب غدا , وماتدرى نفس بأى أرض تموت , ومايدرى أحد متى يجىء المطر} صحيح البخارى , كتاب الاستسقاء 1039
ألمفتاح الأول -علم الساعة
قال الرسول صلى الله عليه وسلم ( بعثت أنا والساعة هكذا ) . ويشير بإصبعيه فيمد بهما , ( صحيح البخارى 6503 )
علم الساعة غيب لنا و لمن قبلنا ولمن بعدنا من الأمم, منذ أن بدأ الخالق جل وعلا خلقه وحتى يأذن بقيامها فمهما رأينا من أشرطها وعلاماتها ومهما ظننا و استشعرنا, سيبقى علمهاعند علام الغيوب
لا يعلمهاإلا هو الواحد الأحد الفرد الصمد , أما علمنا نحن فهو يقتصر على اليقين بأنها قادمه
لا محاله.قال تعالى: ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ) الأعراف
( إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِن ثَمَرَاتٍ مِّنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ
يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ ) ( فصلت)
المفتاح الثانى- نزول الغيث
قد يقول قائل بأن العلم قد تطور وقد أصبح بالإمكان رصد ما سيكون من نزول مطر ورياح وما إلى ذلك من توقعات نعلم بها كيف سيكون يومنا وما بعده من أيام, فنرد عليه قوله بأن العلم مهما تقدم ومهما تطور, فإنه لم ولن يستطيع أن يحدد هذا الأمر , وإلا لما رأينا من أرواح تزهق وحرائق تندلع
بسبب أمطار ورياح وأعاصير , لو استطاع العلم أن يعلم ما هو كائن فى علم الغيب لما رأينا الأرض
تنشق وتبتلع من عليها ومن فيها , ولما رأينا البحار تهيج وتموج وتجعل منا نحن من أدعى العلم رزقا
سهلا سائغا ينزل فى بطن الحوت.
علم البشر يكسر و يصهر و يتلاشى أمام علم الخالق , فلا أحد يعلم جنود ربك إلا هو عالم الغيب
والشهادة علام الغيوب.
قال تعالى:(اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاء كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ) الروم
( هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءتْهَا
رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنِّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ) يونس
المفتاح الثالث -معرفة ما فى الأرحام
مرة أخرى قد يقول قائل, بأن العلم قد تقدم وتطور وأصبح بالإمكان معرفة مافى الأرحام ذكر أم أنثى؟ بل وأننا قد وصلنا إلى أبعد من ذلك بكثير.
فنرد عليه قوله ونقول, من منا سيعلم إن كان حمل هذه الأنثى سيكتمل أم أنه ذاهب كأن لم يكن؟
قال تعالى:( اللّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ )( الرعد)(/1)
من يعلم ماذا قدر لهذا الجنين من صحة وعافيه؟ لا أحد يعلم, وإلا لما رأينا هؤلاء الأطفال ممن خرجوا إلى الدنيا وهم مرضى أو مشوهين أو معاقين , تتقطع لهم ولذويهم نياط القلوب ولا نملك إلا أن
نحمده جل وعلا على ما أعطى ورزق,وأن نرى قدرته سبحانه وتعالى بأن يخلق ما يشأ.
هذا مبلغ علمنا أذكر أم أنثى؟ أم علمه جل وعلا فماله من حدود فهو الذى يعلم أينا شقي وأينا
سعيد فسبحانه علام الغيوب
قال تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ ) الأعراف
المفتاح الرابع -لا تدرى ماذا تكسب غدا أو ما يكون فى غد
هذا المفتاح يشمل حياتنا منذ ان يمنحنا إياها خالقنا ومولانا,وحتى نسلب إياها,كلنا يتمنى
ويطمح ويعمل, ونفسه تريد وقلبه يريد نرسم أمالا عريضه ونبى أحلاما شاهقه تأخذنا فوق السحاب
فنركض خلفها نلهث فى تحقيقها,نبكى ونضحك ونتألم, كل هذا ونحن لا نعلم شيئا مما كتب
لنا فى هذا لطريق الذى نمشيه فكلنا يريد ولكن الله يفعل ما يريد نحدث أنفسنا ونقول,غدا سوف أفعل وسوف أعمل , وعندما أبلغ من العمر كذا سوف أفعل كذا و كذا ,و هكذافى كل ساعة نقول بعد ساعه وغدا وعندماونحن فى الحقيقة لا نعلم ماذا سيكتب لنا بعد ثانية واحده,فما بين غمضة عين وانتباهها يغير الله من حال إلى حال.
لذلك توجب علينا أن لا ننوى إلا عملا يرضى الله تعالى,وتوجب علينا أن نسبق أو نتبع أي قول لعمل بالمشيئه فما شاء الله كان ومالم يشا لم يكن.
قال تعالى: (وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً (23) إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً )(24)) الكهف
المفتاح الخامس -ما تدرى نفس بأى أرض تموت
قال تعالى: (أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِ اللّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ فَمَالِ هَؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً ) ( النساء)
تتجلى فى هذا المفتاح نهاية كل حى وهو الموت الذى لا بد أن نلا قيه ,ولكن متى وأين فعلمه عند
علا م الغيوب.
نعيش فى أوطاننا ونسكن فى منازلنا وقد يتخيل للكثير منا أن الموت سيأتيه وهو فى منزله مدثرا فى فراشه ولكن هيهات هيهات أن نعلم أى طريق وأى أرض وأى بلاد الله ستكون فيها هذه النهايه ,بل وكيف ستكون؟
فهذا الذي خرج من منزله لقضاء حاجة من حوائج الدنيا آو ألآخره قد ذهب إلى غير رجعة لهذه
الدنيا,وهذاالذى أراد أن يبدأ حياته قد عاد إلى خالقه فى يوم عرسه وهنائه.
وقد نستشعر فى بعض الأحيان بالخوف وبأن الموت سيأتينا من هنا فنهرب ونركض ونذهب بأرجلنا إلى المكان الذى ينتظرنا فيه ملك الموت ليقبض أرواحنا بإذن خالقه وخالقنا جل وعلا.
قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللّهُ مُوتُواْ ثُمَّ
أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ) (البقره)
وبالرغم من كل هذا نرى وللأسف الشديد الكثير من ضعاف النفوس ممن يلجؤن إالى هؤلاء المحتالين
المخادعين الذين افتروا على الله الكذب وزعموا بأن لهم القدرات والمعجزات مما يجعلهم يعلمون الغيب فصدقوهم واستفتوهم وسألوهم فى كل أمور حياتهم, فى القلب وأحواله , فى المال والأعمال وفى كل صغيرة وكبيره.
فكيف بالله عيك تسأل بشرا مثلك لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا؟؟؟
قال الرسول صلى الله عليه وسلم (من أتى عرافا لم يقبل له صلاة أربعين يوما ) (رواه مسلم 2230 )
وروى عن السيده عائشه أنها قالت: قلت يا رسول الله أن الكهان كانوا يحدثوننا بالشيء فنجده حقا قال: (تلك الكلمه الحق يخطفها الجنى فيقذفها فى أذن وليه , ويزيد فيها مائة كذبه ) (صحيح مسلم122-2228)
وروى عنها أيضا إنها قالت: (من حدثك أن محمدا صلى الله عليه وسلم رأى ربه فقد كذب , وهو
يقول : ( لاتدركه ألأبصار , ومن حدثك أنه يعلم الغيب فقد كذب , وهو يقول ( لا يعلم الغيب إلا
الله ) ( صحيح اليخارى-7380)
علم الغيب بحره عميق فلا تلجه أبقى حيث أنت وأرسل البصيرة قبل البصر تتأمله وتغوص فى أعماقه وعندهاستوقن بأن الأمر كله يرجع للذى ليس كمثله شئ,فسبحانه وتعالى علام الغيوب.
(عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً ) الجن
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
بقلم أختكم
إيمان غازى فتيحى(/2)
مفاتيح التربية البناءة
الدليل العملي للآباء والمعلمين
عرض: د. بسام داخل
bdakhel@hotmail.com
المؤلف: رونالد موريش
المترجم: د. عبد اللطيف خياط, أستاذ اللغة الإنجليزية في جامعة أم القرى سابقا.
الناشر: دار الثقافة للجميع – دمشق الطبعة الأولى عام 2001
Secrets of Discipline: 12 Keys for Raising Responsible Children
by Ronald G. Morrish
المترجم: أتوقع أن يحدث هذا الكتاب الصغير تغيراً في عقول كثير من الآباء والأمهات والمعلمين يعدل أضعاف أضعاف حجمه. فهو ثورة على الطريقة الشائعة في التربية التي كونت جيلاً أصم آذانه عن سماع الكبار.
إن بيوتنا تتأرجح بين تطرفين: فالتربية الحديثة تترك الطفل الغر المسكين يبحث عن طريقه وحده, مع قلة خبرته, والقديمة تحاول سحب كل ما لدى الطفل من إرادة ونزوع نحو الاستقلال.
كل الأطراف يحتاجون إلى هذا الكتاب حاجتهم إلى الطعام والشراب, ونحن نحمل مسؤولية إخراج هذا الجيل.
القسم الأول: لقد مضى عهد الانضباط
الفصل الأول: هل تشعر بالإحباط (تجاه أطفالك)؟؟ من مظاهر ذلك
- كثرة المساومة لتحصل على القليل من التعاون
- قلة الاحترام
- ميلهم إلى العدوانية, وخاصة داخل المدرسة
- انخفاض مستوى التعليم
- عدم الالتزام بالنظام....... فما هو السبب؟؟؟
من العجيب أن كثيرا من المشكلات المتعلقة بالتعليم تكمن داخل النظام التربوي نفسه
تغير معنى النظام – نظرة إلى الوراء
كان النظام حتى الستينات يراد ف الطاعة واحترام السلطة بلا سؤال..ولكن شعرنا بالقلق لنقص الاستقلال..
فجاءت نصيحة علماء النفس: إعطاء الأطفال بلا حساب مع عدم طلب خدمات منهم, واعتبار العنف والغضب تعبيرات طبيعية صحية. والنتيجة إن الطفل يرى نفسه محور الكون, ويجب أن تلبى طلباته.
وفي الثمانينات وما بعد, صارت القضية الأساسية هي إعطاء حرية الاختيار للأطفال, على أنها تهيئهم للحياة ولحمل المسؤولية, حيث يلاقون نتيجة اختيارهم, فيتعلمون من أخطائهم. أما دور الكبار فهو تشجيع الاختيارات الجيدة, ومكافأتها, وتثبيط السيئة منها. وأصبح ذلك أساس نظام التربية السائد حاليا في أكثر البيوت والمدارس. وهي سبب المشكلة!!
الفصل الثاني: خيارات حيثما اتجهت
فنظام التربية الشائع يترك للأطفال اختيار سائر أمورهم, من طعام أو لباس أو نشاطات, أوحتى موعد ذهابهم للنوم.
وقد ظهرت طريقة الاكتشاف لدعم هذا النظام: والتي ترى أن أفضل طريقة لتعلم المعاني الجديدة هي أن يكتشفوها بأنفسهم, لا بالتلقين المباشر, وذلك لتنشئة أطفال مستقلين يتمتعون بدافعية ذاتية. ولكن! هل هذه الطريقة تعلّمهم فعلا تحمّل المسؤولية, و دروس الحياة المهمة من خلال خبراتهم الشخصية؟؟
مثل قصة راعي إبل عليه أن يسير بها رغم الظروف الطبيعية وتقلب مزاجها, دون أن تخسر من أوزانها. وليس لديه خبرة في الطريق أو حاجة الإبل لأحذية, فإن سار بها بدون أحذية أصبحت عرجاء, وتباطأت, وهاجمه اللصوص.
حكمة: الشقي من اتعظ بنفسه والسعيد من اتعظ بغيره.
ومعلوم خطر المخدرات والمسكرات, وآثار ترك الدراسة إلى آخر العمر!!
فهل نترك أولادنا يتعلمون هذه الدروس بعد وقوعهم فيها ؟؟ إن حرية الاختيار تجعلهم عرضة لاختيار سلوك لا يتسم بحمل المسؤولية ويعادي المجتمع, بالإضافة إلى أن هذا النظام لا يهتم بتعليمهم المهارات التي يحتاجونها ليصبحوا حاملين للمسؤولية متعاونين منتجين.
إن طريقة الاكتشاف جيدة في وقت المرح, وتعليم الكمبيوتر. أما تعليم النظام فلا يمكن أن يتم بهذه الطريقة. فكيف إذن؟
العوامل الثلاثة لتعليم النظام:
1- التدريب على الطاعة
وخاصة الأطفال في أعوامهم الأولى حيث يكونون اندفاعيين, يلحّون أن تلبى طلباتهم فوراً, ولذلك يجب أن يُعلمّوا احترام السلطة والكبار, وحدود الممنوع والمسموح.
2- تعليم المهارات المتعلقة بتحمل المسؤولية والتعاون
- كيف يعمل ويلعب مع الآخرين
- كيف ينظم المهام المطلوبة
- إدارة الوقت
- تكوين أهداف شخصية
- ضبط النفس وحل الخلافات
وهذه المهارات يتعلمها بشكل منظم وبأساليب مناسبة, من تلقين مباشر, وممارسة, وتصحيح ومراجعة. ويُوجّه إلى استخدامها في التفاعل مع الأحداث. وهذا يتطلب منا صبرًا وتصميماً.
3- إدارة الخيارات
بإعطائهم حرية الاختيار بشكل تدريجي ليتخذوا قراراتهم, ويتعلموا من خبرتهم الشخصية, مع توجيههم لمراعاة حقوق الآخرين وحاجاتهم.
وسيتبين في القسم الأول من الكتاب خطأ نظام التربية الشائع في اعتماده على حق الاختيار للأطفال كأسلوب غالب للتربية, دون تدريب أو تعليم(العامل الثالث فقط). أما الأقسام الثلاثة الباقية فهي عن العوامل الثلاثة لتعليم النظام. وخلال ذلك يبين مفاتيح التربية البناءة الإثني عشر.
الفصل الثالث: ما هي حدود خيارات الأطفال؟
هل سنعطي الأطفال الحرية ليتشاجروا ؟ أو يكونوا فظين ؟ أو يرسبوا في المدرسة ؟؟ هل لهم الخيارات في المسموح والممنوع؟.(/1)
ومن جهة أخرى, هل نساومهم على عمل الواجبات فنقول للطفل مثلاُ:
إذا لم تهدأ فسوف نعود إلى ا لبيت... إذا كان سلوكك جيدا فسوف أعطيك بسكوته.
إذا تحدثت بهذه الطريقة فسوف أرسلك إلى غرفتك.. إذا تشاجرتما فسوف تذهبان إلى غرفة المدير.
العبارة الأخيرة مثلاً لا تنهي الشجار. إنها جملة شرطية, تقول إذا كنت لا تمانع من الذهاب إلى غرفة المدير فان المشاجرة هي خيار مفتوح لك لحل المشكلات.
المشكلة في ذلك أن الطفل قد يجد أن العقوبة يمكن تحمّلها مقابل ما يحصل عليه من منفعة. وعندما توجّه أطفالك إلى فعل شيء, فإنهم يقفون ليحسبوا المنافع والأضرار, ثم يفعلون ما بدا لهم, حتى ولو كان خطأً.
@المفتاح الأول: لا تعط الطفل مطلقا مجالاً للاختيار حينما
يصل الأمر إلى حدود المسموح والممنوع
قل للطفل مثلا: "أدّ واجبك.. الشجار ممنوع."...
لا تساوم من أجل تطبيق النظام ولا تقلها بصيغة التوسل, أو المحاورة, ولا تعرض جوائز أو تهدد بعقوبات. بل اطلب بصيغ حازمة لاشك فيها, مع تكرارها في الحديث يوميا. أما صيغة إذا فعلت كذا كان كذا, فهي في الأمور التي للطفل الخيار فيها.
الفصل الرابع: وسائل الأطفال للتغلب على النظام
إن التعليم السائد يجعل الأطفال كأنهم في مباراة, يتعلمون كيف يتغلبون على النظام, ويفعلون ما يريدون, بوسائل:
الإحجام: فيقول:" أنا لا أرغب, هذا ممل.". إن الأمر يستأهل الانتظار, حتى يرى ما لدى الطرف الآخر, من مكافآت أو عقوبات, وهل تستحق الجهد ؟؟ يريد أن يساوم الكبير على الطاعة, وينتظر فربما يقرر الكبير القيام بالمهمة بنفسه, أو زيادة المكافأة.
المناعة: بإبداء عدم الاكتراث بالنتائج من عقوبات أو مكافآت. فيُغضب الكبار دون أن يكون لهم أي سلطة عليه. فيقول:
"أرسلوني إلى الغرفة فأنا لا أبالي", "لا يهمني عدم الخروج اليوم ", "لا مانع من إعطائي درجة ضعيف". بل يبدي مناعة حتى ضد الثناء, فإن قلت له: " جيد يا سعيد !!",يجيب: "كان بإمكاني عمل أحسن".
الانسلال: بعمل ماهو ممنوع وقت انشغال الكبار أو غيابهم. لأنه من الممتع الانطلاق بلا رقيب.
الإنكار: بأن ينكر تورطه في سلوك شائن , ويلصقه بغيره , حتى يُتعب الكبير في البحث.
العكس: فحينما لا ينالون ما يرغبون, يبدون غضبا جامحا, ويصرخون.. لإحراج والديهم أو المدرسين.
التخويف: وخاصة عند المراهقين. باستخدام أسلوب التحدي والتهديد. فيضطر الكبار للتوقف عن فرض النظام
متى أصبح الحصول على أي شيء يحتاج إلى صفقة؟؟
إن ظهور الصفات السابقة عند الأطفال يحيّر الكبار في كيفية فرض النظام, فيسيرون في طريق خطر!!
وهو المزيد من الجوائز أو العقوبات! وهي الوسيلة التي أثبتت فشلها من البداية! قد يستجيب الأطفال لبعض الوقت, ثم تصبح لديهم مقاومة.
@المفتاح الثاني: إذا ساومت من أجل الطاعة اليوم
فسوف تتوسل للحصول عليها غداً
وربما ستدفع النقود من أجل الخدمات المنزلية, والدرجات في المدرسة.. تزداد مع الزمن حتى يصل البعض إلى تقديم سيارة!..كذا تزداد العقوبات, وقد يصل الأمر ببعضهم أن يحرم الطفل من الخروج لفترات طويلة .
إن نظام التعليم السائد باستخدامه للمكافآت والعقوبات قد يعلّم الأطفال نظام قيم بعيد عما أردتَ. إنه يجعلهم يوازنون المنافع والمضار بالنسبة لهم بالذات, بدون النظر إلى حقوق الآخرين وحاجاتهم. إنهم يبنون قراراتهم على مقدار تحملهم للعقوبات الناتجة عن سلوكهم. انه يربي على الاستغلال وليس على تحمل المسؤولية. وهذا نتيجة إعطاء الأطفال حرية الاختيار, وكان يجب قبلها أن نعلمهم الخطأ والصواب, وندربهم على احترام السلطة.
الفصل الخامس: أطفال في خطر(بحاجة إلى عناية خاصة)
هناك أطفال بحاجة لعناية خاصة بسبب معاناتهم في حياتهم. منهم أطفال أيتام, أو نشؤوا في أسر مفككة, فهؤلاء لا يبالون بالمكافآت أو العقوبات لما لاقوه في حياتهم.
كذلك هناك أطفال اندفاعيون, أو عندهم اضطراب ونقص في الانتباه. فهؤلاء يتصرفون قبل أن يفكروا, فكيف نترك لهم الخيار وهم بحاجة لإطار يحدد سلوكهم.
الفصل السادس:رسالة إلى "عزيزتي آن"الخبيرة السلوكية
أرسلتها أم "الغاضبة". تعيش مع ابنتين تتميزان بالذكاء وكثير من القدرات, عمرهما 12و14 سنة. تشكو الأم من كثرة الفوضى. وقد حاولت معهما شتى الوسائل لتنظيم غرفتهما, من صراخ, إلى تهديد بألا تشتري لهما, أو تقطع عنهما المصروف. مع وعود بمكافآت, دون جدوى. وفي أحد الأيام قررت أن تتوقف عن الصراخ علّهما تتعبان, فازدادت الأمور سوءاً. وهي تطلب النصيحة قبل إصابتها بالجنون!
أجابت الخبيرة السلوكية آن:انك لا تستطيعين فعل شيء حول الفوضى, وإنما حول نفسك. أغلقي باب الزريبة, واحلفي ألا تدخليها حتى تكبر ابنتاك, وتغادرا منزلك إلى الجامعة أو الزوج..هذه الخطة قد لا تجعلهما تنظفان الغرفة, ولكن سيتحسن الضغط عندك, وجو المنزل يصبح مريحاً. وهذا أهم من تنظيم الغرفة.(/2)
تلك إجابة نظام التربية السائد. إذا كنت لا تمانعين في غرفة فوضوية, وتودين ترك أبنائك أحراراً, فهذا قرارك. إن الموضوع الحقيقي للرسالة حول الطاعة. وكانت نصيحة الخبيرة أن عليها ألا تضع أملاً في الطاعة. لقد سمح نظام التربية السائد للأطفال أن يتخذوا قرارات ليست من حقهم, وأرغمنا على الاعتماد على المكافآت والعقوبات. وانتهى الأمر بإرغامنا على التغاضي عن التحدي عندما يرفضون أوامرنا.
والسؤال ماذا يمكن أن تفعل الأم عندما يزداد التحدي, بتغيبهما عن المدرسة, أو البقاء خارج المنزل, أو تناول المسكر أوالمخدر في المنزل؟ إن التحدي في الأمور الصغيرة يمكن أن يتحول إلى الكبيرة, انه لا يذوب ولكنه ينمو بسرعة. من الضروري إذن تعليم الأطفال احترام الكبار وقواعد الحياة, ولن تفيد المساومة أو التهديد أو الإهمال.
القسم الثاني: درّبهم على الطاعة
الفصل السابع: نفكر أو لا نفكر(هل الطاعة موضوع للتفكير, أم يقوم بها آلياً)
لماذا يقف قائد السيارة عند الإشارة ؟ للسلامة؟ لا, وان كانت الإشارة وضعت لذلك. إن السائق غالباً لا يفكر عند الوقوف. لأن ذلك أصبح عادة.
فطاعة الأنظمة الأساسية يجب أن تصبح عادة, وعملية لا تفكير فيها. وأكثر الأنظمة التي تحكم الحياة اليومية تقوم على تعويد الناس الطاعة آليا.
وعلينا تدريب الأطفال على إتباع التعليمات بحكم العادة.
@المفتاح الثالث: الأطفال الذين أُحسن تدريبهم يكونون قد أحسن تعويدهم
تعليمات صغيرة تتجمع لتكوّن عادة الطاعة. ومنذ عمر سنتين, مثلاً:
طفلة: أريد أن أشرب. الأم: عفوا؟ الطفلة: هل تسمحين أن تعطيني ماء للشرب؟
الأم: حسنا تفضلي. ماذا تقولين؟ الطفلة: شكرا.هذا الحوار فيه عدة دروس في الطاعة وفي آداب السلوك.
وهكذا بالتكرار و كثرة التدريبات تصبح الطاعة في الجزء غير المفكر من الدماغ, وخاصة في الخدمات المنزلية والواجبات المدرسية.
التعلم من الخبراء(التدرب على القيادة)
كيف نتدرب على قيادة السيارة؟ بطريقة الاختيار؟ بالمكافأة والعقاب؟ تصّور مدربا يقول بعد أول درس: اخرجوا الآن وحدكم, ومن لم يصدم سأعطيه مكافأة!!
كيف يحصل التدريب إذن؟
يوضح أولا أنظمة المرور, ثم يخرج مع المتدرب لأنه يحتاج للإشراف القريب. يعطي تعليمات تفصيلية عن أدق الأمور... وإذا أخطأ في أي حركة, فان المدرب يتوقف, ويجعله يعود إلى حركات سابقة للتصحيح.
إذن لابد من التدريب على الطاعة بالإشراف المباشر, والطاعة في أمور صغيرة, وتصحيح الأخطاء مع التكرار
المطلوب إحداث سلوك روتيني فربط الحزام والنظر إلى المرآة روتيني, كذا العادات الحسنة عند الطفل يجب أن تصبح روتينية, مثل طاعة التعليمات المتعلقة بالسلامة, و طاعة التعليمات التي فيها تقبّل تحّمل المسؤولية, وأدب الحديث والسلوك, والأعمال الروتينية للاستعداد للنوم, وللذهاب للمدرسة, وترتيب مكانه وحاجاته...
التدريب عن طريق اللعب كما في الأعمال الجماعية من إنشاد وتصفيق, فيبدأ الكبير ويتابعه الصغير, فذلك يُدخل في عقله الطاعة الآلية.
مثال: طفل عمره 7سنوات يشاهد التلفاز, أمه عندها زائرة, تقول له:"بقي للنوم ربع ساعة"..ثم بعد قليل" حان وقت النوم". وحالاً يطفئ التلفاز, ويبدأ بالاستعداد للنوم من تنظيف الأسنان إلى ارتداء لباس النوم...وبعد دقائق ينادي أمه وهو في السرير, فتذهب الأم إليه تداعبه قليلاً في فراشه, وتحدثه عن أعمال الغد, وتقبله قبلة النوم ثم تعود إلى صديقتها. فهذه الأم عودت طفلها على نوم روتيني. إن ذلك يأخذ وقتا طويلاً وجهدا كبيراً, ولكنه مهم جداً ومريح بعد.
نحن بحاجة إلى أعمال روتينية
كل منا يرغب أن يمضي جزءً من حياته في أمور روتينية لا تتطلب تفكيراً, وإذا أمضى جل يومه في التفكير يتبرم ويتوتر. بل إن البعض يحب أن يتحول عن التفكير لفترة استرخاء قصيرة, يعود بعدها إلى قدرة التركيز والمهمات التفكيرية. والأطفال أيضاً بحاجة إلى هذه الراحة العقلية, فإذا لم نهتم بالأعمال الروتينية, فسيبقى عقلهم في حالة انتباه وتفكير في المنزل والمدرسة, وهذا يؤدي إلى التوتر والقلق وعدم الإنتاج. وفي المدارس الحديثة لا طابور, ولا تدريبات مشتركة, ولا ترديد أناشيد بصوت واحد.
لمحات سريعة
- يجب أن يعلم الطفل أي الأمور من اختياره, وأيها للكبار.
- الخدمات المنزلية وهذه الخدمات مهمة لتعلّم المسؤولية,قد تكون ثقيلة على الطفل فليعملها كأعمال روتينية, مع صرف تفكيره لأمر يحبه مثل سماع نشيد..ويجب أن يقوم بها بلا شروط أو مقابل.
- كلمة"لا" تعني "لا": ولكن كثيراً من الآباء يمكن أن يغيروا رأيهم, فيتعلم الأطفال البكاء والرجاء والغضب, للحصول على ما يريدون. لذلك عليك أن تتمسك بها.(/3)
- الكتلة الحرجة: تكون في التفاعلات المتسلسلة داخل القنبلة.ويمكن تطبيقها هنا. فالطاعة لاتترسخ إلا حينما يكون أكثر الناس طائعين. والباقون يمكن توجيههم أو معاقبتهم. أما إن زادوا عن عدد معين, فإن التفاعلات المتسلسلة تبدأ, فيتضاعف عددهم حتى يصبحوا أغلبية. لذا لا تدع المخالفين يزدادون, أوقف ذلك من البداية.
- هل التدريب علي الطاعة يجعل الأطفال سلبيين. لا إلا إذا كان مبالغاً فيه. والمطلوب توازن الأجزاء الثلاثة في تعليم النظام.
الفصل الثامن: جعل السلطة حقيقة واقعة
أي يجب فرض الأنظمة وقواعد السلوك عملياً, لا بالكلمات وحدها.
@المفتاح الرابع: قواعد السلوك تستحق الوجود وتستحق أن يُفرض تطبيقُها
وفرض الأنظمة كان يعتمد لفترة طويلة على العقوبة, كمنع الخروج أو الرحلات..وهذه تؤدي أحياناً إلى عناد الطفل فتستخدم عقوبات أشد. فما السبيل إذن لفرض النظام؟؟
1ابدأ بأمور صغيرة
مدرب السيارة يوقف المتدرب حتى على خطأ صغير, ثم يصرّ على الإعادة حتى يطبقه بشكل صحيح.
هل نهمل الأخطاء الصغيرة ؟ النظام الصحيح ألا نهملها ولا نعاقب عليها. فالسلوك الذي تهمله يعني أنك تسمح به. أما التحدي إذا أهملته يزداد.وإذا كان السلوك لجذب الانتباه فيمكن إهماله.
هل نستخدم العقوبات لتعديل السلوك؟. ماهو أشد منها هو
2الإصرار
والصبر ومتابعة الطفل حتى يفعل المطلوب, بدون خيار. " افعل الآن", " ستقوم بما طلبته منك"..
إن المربي الجيد نادراً ما يحتاج إلى التهديد. سحنته ولهجته وتصرفاته تغني عن ذلك. إذا احتاج الأمر خذ بيد الطفل واجعله يقوم بالعمل, ولا تسمح أن يقوم بأي عمل آخر قبل الانتهاء منه. لا صياح ولا مساومة.
3دور العقوبة المهم
لا تؤتي ثمارها إلا أن تكون نادرة, , ولا تظن أن العقوبة تعلّمه التعاون والمسؤولية. دورها المهم أن تعلمه أن "لا" تعني "لا". يكفي إخراج الطفل دقيقتين لتصله الرسالة.
العقوبات الشديدة
عندما تكون المخالفة شديدة. فإذا أحضر مثلاً سلاحاً إلى المدرسة, فيمكن حرمانه من المدرسة لفترة ما. لاتكن عقوبتك ناجمة عن الغضب كيلا تظلمه. وطوال فترة العقوبة ابق على صلة مع الطفل لمراقبة حالته العقلية. إذا طردته إلى غرفته, فاجعله يقوم ببعض الخدمات ليشعر أن عقوبته ليست للأبد, وأنه سيخرج منها أحسن حالاً.أشعره أنك تحبه وتريده أن يكون أحسن.
ما الذي يعطيك السلطة؟
لأنك الكبير "الراعي والمسؤول", تعرف المطلوب والمسموح والممنوع, وتعرف المهارات التي يحتاجونها ليكونوا متحملين للمسؤولية. هذا دورك كأب أو معلم. اطلب الاحترام ولا تبحث عن الشعبية. ربما يقدرونك حين يكبرون.
ومفهوم الطاعة لا يعارض حقوق الأفراد, فكل منا ملتزم بطاعة قواعد وقوانين كثيرة في الحياة, مثل قواعد المرور, واحترام ملكية الآخرين.. وذلك لنشعر بالأمن والسلامة.
الفصل التاسع: مع الأم الغاضبة من جديد
- لنحاول حل مشكلة هذه الأم. ولنتذكر بعض القواعد: إشراف قريب مباشر, تعليمات مباشرة, ابدأ بالأمور الصغيرة. على الأم أن تصطحب ابنتيها إلى الغرفة(إشراف مباشر), ثم تقول:"يالندا أرجو أن تأخذي هذا الكتاب, وتضعيه على الرف وشكراً", ".....هذه الدمية...", وهكذا بقية الحاجات. وتشارك الأم ابنتيها بعد أن تكونا قد نفذتا بعض التوجيهات, لتقديم نموذج لتعاون الأسرة في الأعمال الكبيرة, وليس صفقة."إذا عملتما النصف سأكمل النصف الآخر" "إذا عملتما نصف ساعة نأخذ راحة". فالصفقات تحرم الطفل من بيئة ايجابية.
إيجاد بيئة ايجابية مريحة
يخشى كثير من الآباء من عدم احترام الأطفال للسلطة. وهنا بعض طرق لاكتسابها.
- الاحترام ذو اتجاهين فعليك احترام حقوق الطفل وحاجاته أولاً. وخاصة المراهق.
- كن القدوة الحسنة للسلوك الذي تريد. مع ملاحظة أنّ هناك أموراً خاصة بالصغار مثل النوم مبكراً, التدخين.
- أعط أوامر صغيرة, لتقليل فرص عدم الطاعة
- الترتيب عمل ممل, فليكن القيام به بشكل روتيني, ولنجد أموراً أخرى يشتغل بها كتناول مشروبات خفيفة أوالإستماع .
- تحديد وقت للتوقف, نصف ساعة مثلاً.
- استخدم السلطة بحكمة, ولا تبالغ في العقوبات.
إعطاء الأطفال ما يحتاجون
هل نمنح مكافأة عند عمل صحيح, وعقاباً عند فعل سيء ؟؟ نقول "لا" عكس نظام التعليم السائد.
يهمنا حاجة الأطفال أكثر من اهتمامنا بما يستحقون.لا تحرم الطفل من الكمبيوتر, لأنه مهارة يحتاجها, وكذا الرحلات المدرسية النافعة, كعقوبة على تقصيره.
كما لا يجوز خروج الوالدة من المتجر(السوبرماركت) تاركة الطفل, كعقاب على سلوك خاطئ, لأن الطفل بحاجة إلى الأمان.
القسم الثالث: علمهم المهارات
الفصل العاشر: تثبيت المهارات
مثال في تعليم الرياضيات: مدرس يعلم جدول الضرب. 3×4 - الطفل 8 . يأمر المدرس الطفل بالوقوف إلى الجدار دقيقتين. بعد قليل يسأله شيئاً آخر, فيخطئ فيعاقبه أيضاً... هل هذا يعّلم الرياضيات, أم يجعله يكرهها؟؟.(/4)
في نظام التربية السائد, كلما يبدي الطفل فظاظة يعاقب بالخروج أو التأخير في الانصراف أو خسارة الأشياء المحبوبة. وهذه العقوبات لن تعلم الطفل الكياسة.
يجب أولاً أن تشرح للطفل العملية, وتعطيه أمثلة تحلها أنت, ثم تطرح سؤالاً وتجعله يحاول حتى يعطي إجابة صحيحة, ثم تعطيه تمارين حتى تتأكد من رسوخ المهارة. ثم تعود إليها مرة بعد مرة, لتتأكد أنه لم ينسها.
ليس هناك فرق
بين تعليم الرياضيات, وقيادة السيارة, والتدريب على الكياسة وزيادة الانتباه...
@المفتاح الخامس: إن الطريق إلى تعلم الناشئ سلوكاً محدداً هو أن نعلمه ذلك السلوك
الإعادة والتكرار والإصرار
في حالة السلوك الخاطىء، لا تعنف الطفل وإنما اجعله يعيد السلوك بشكل صحيح. ولا تقل له إذا فعلت مرة أخرى فسيحصل كذا. فإذا تكلم بفظاظة, مره أن يتكلم ثانية بكياسة, يعيده مرات حتى يترسخ. إن أهم أداة هي الإصرار, أن يدرك أن عليه التنفيذ بدون شك أو خيار.
تذكر:الطفل الذي لم نعلمه كيف يتصرف تصرفاً لائقاً, فإنّه لن يتصرف تصرفاً لائقاً.
ماذا تفعل إذا رفض؟
ابدأ بتكرار التعليمات, واجعل لهجتك أكثر جدية هذه المرة. وإذا رفض تقوده بيده للعمل. وإذا بقي رافضاً. فاستخدم أية عقوبة صغيرة, ليدرك أن الأمر جدي. ثم أعده ليقوم بالمهمة. فالعقوبة لاتربي, وإنما تجب الممارسة الفعلية والإعادة.
ماذا تفعل بحضور الضيوف؟؟
حتى لا يحاول التفلت من النظام, يمكن إفهامه قبل, بالاتفاق على حركة معينة ترمز إلى أن عليه أن يعيد سلوكه ليكون لائقاً, مثل فتل إصبعك بحركة دائرية.
ممارسة أعمال مسلية
يبتكر المربي مشاهد تمثيلية ليتعلم الأطفال السلوك اللائق في المواقف المختلفة, مثل في المطعم, في المتجر, الاستعداد للمدرسة...
الفصل الحادي عشر: التوقيت الصحيح محور النجاح
التدريب أولاً
تصور ابنك يتدرب على القفز, وفي يوم العرض طلب منه مدربه القيام بقفزة جديدة, ليظهر مهارته أمام الجمهور. طبعاً سيصاب بصدمة!! إن وقت تقديم العرض هو أسوأ وقت للتدرب على مهارة جديدة, ويجب أن يسبقه تدريب طويل.
فالتدرب على الرياضيات يتم قبل الاختبار بفترة, وتدرب كابتن الطائرة على مواجهة الأزمة قبلها أيضاً..
وهكذا في التربية, يجب تعليم المهارات قبل وقت الحاجة, عادة الإيواء إلى الفراش مثلاً تعلّم ظهراً, وتراجع مرة في الخامسة وأخرى في السابعة, لتطبق وقت النوم. وعادة الذهاب إلى المتجر, تعلّم بطريقة تمثيلية, ثم بزيارة تجريبية دون شراء...
@المفتاح السادس: ما يتدرب عليه الناشئ اليوم هو ما يمارسه غداً.
أهمية التذكير
ماذا يفعل المدرب يوم البطولة؟ يراجع مع المتدرب النقاط الأساسية. وقبل دخول المتجر, تسأل الأم: "هل تذكر المطلوب في المتجر", الطفل:"لا آخذ شيئاً في يدي, لا أركض, لا ألح في طلب الأشياء". وإذا كان صغيراً, فيمكن أن تقولها الأم, ويجيب: "نعم".
سجلوا ملاحظات:
إذا خالف التعليمات في المتجر, يكفي"لا", ثم الأخذ بيده إلى السلوك الصحيح. لا تهديد ولا محاضرة. سجلوا ملاحظة لزيادة التدريب فيما بعد.
الفصل الثاني عشر: في غياب الرقيب
عوّد أطفالك منذ الصغر أن يضبطوا سلوكهم بأنفسهم حتى في غيابك.
خبرة ملهمة في ضبط النفس
قالت معلمة صف ثالث ابتدائي:" سأخرج عشر دقائق, استمروا في هدوء. ماذا تحتاجون؟؟"
قال أحدهم:" ضبط سلوكنا بأنفسنا". المعلمة "كيف؟", أحدهم" نتصرف كأنك معنا".
إنها دربتهم من أول يوم أن يظهروا أحسن ما عندهم , وهي قريبة. ثم تبتعد خطوة خطوة حتى آخر الصف, وفي كل مرة تطلب السلوك نفسه. ثم تخرج فترة قصيرة, تزاد تدريجياً. وإذا أخطأ تلميذ, تسأله:"لم؟هل كنت ستتصرف هكذا لو كنت بجوارك؟"."لا".لماذا تحتاج أن أكون بجوارك حتى تتخذ القرار الصحيح.
البحث عن الاستقلال
التصرف بحرية مطلب الأطفال, ولكنهم يحتاجون أن ينمو لديهم مفهوم متوازن للاستقلال يراعي حقوق الآخرين.
@المفتاح السابع: ليس الاستقلال أن تفعل ما يحلو لك, ولكن الاستقلال أن تفعل ماهو صحيح بملء إرادتك
ابدأ في سن مبكر
- منذ أول خطوه, يمكن أن يفهم أن"لا" تعني "لا". علمه أنك إذا خرجت من الغرفة, فإن المنع يبقى. وأصّر على أن يلعب الأطفال ويتحدثوا بطريقة مناسبة, سواء كنتَ في الغرفة أم لا.
- استخدم سؤال:"هل كنت ستفعل الشيء نفسه لو كنتُ بجوارك؟".
- عندما يكبر الأطفال, حافظ على الانضباط والاستقلال المتوازن حتى المراهقة.
- عندما يحصل على رخصة قيادة, ويستحق حمل المسؤولية. أصرّ على أن يخبرك متى يذهب ومتى يعود.
- "صحيح أنك بلغتَ 18سنة, ولكن هذا لا يعني أنك لا تخبرني متى تذهب, وأين تذهب؟ في الماضي كنت تخبرني لأنني أطلب ذلك. استمر في إخباري حتى لا أقلق. هذا هو الاستقلال الحقيقي".
- لو تركته دون تواصل فربما عاد إليك بمصيبة.
القسم الرابع: إدارة الخيارات
الفصل الثالث عشر:خيارات وخيارات(/5)
الأم:"ما رأيك في هذا الأمر؟", الطفل:" لا يهمني ذلك". الأم: "حسناً يابني, إنك لاتهتم, ولكني أهتم, ولذلك فأنا أتخذ القرار. وعندما تهتم بالنتائج سيكون القرار لك". فالقرار في يد الوالدين ريثما يصبح الأطفال على نضوج يكفي لاتخاذ قراراتهم بأنفسهم.
@المفتاح الثامن: اجعل القرارات ذات المسؤولية في الأيدي ذات المسؤولية
وخطأ التربية السائدة, أنها أعطت القرار للأطفال, ليتحملوا المسؤولية من خلال نتائج أعمالهم قبل أن يكونوا أهلاُ لذلك, ولنتوسع هنا في بعض النواحي المتصلة باتخاذ القرار, مثل الخدمات المنزلية, والواجبات الدراسية, وأدب المعاشرة.
الخدمات المنزلية
القرارات المتعلقة بها في يد الكبار حتى يكبر الأطفال ويدركوا أهميتها وينضجوا, بحيث يقومون بها من تلقاء أنفسهم. وهذه الخدمات مهمة لتعليمهم مهارات تنظيمية, وتعليمهم العناية بممتلكاتهم, وأهمية النظافة للصحة..
لا تعلق هذه الأعمال على المصروف, فالمصروف يعطى ليتعلم الطفل كيف يتصرف بالمال.
الدرجات الدراسية(وعلاقتها بالواجبات)
في نظام التربية السائد, الطالب الذي ُينقص الواجب, ُتنقص درجاته, ليهتم أكثر!! إن الذي لا يهتم لن تؤثر عليه النتيجة. لذلك يقول: " أعطني درجة منخفضة فهذا لا يهمني ".
لا تجعل القرار بيد الطفل فلا تقل له: " أعطيتك درجة منخفضة, لعل الأفضل أن تحسّنه, ثم تعيده".
لكن قل:"إن هذا العمل ليس مقبولاً, وعليك أخذه وعمله ثانية, ولن أكتب الدرجة حتى تعيده". فالدرجات ليست مكافأة أو عقوبة, وإنما مقياس لاستيعاب التلميذ.
الكياسة وحسن المعاشرة
تلقينها للأطفال ضروري وليست اختيارياً, فهي أساس العلاقات والتعاون بين الناس. والقرار فيها للكبار ريثما يدرك الصغار أهميتها.
معالجة التقلبات في نمو الطفل (فترة المراهقة)
سببها الهرمونات أو ضغط الأقران أو الاضطرابات العاطفية. ويرافقها عادة إهمال الأمور الملحة, وعلى الوالدين سحب بعض الحرية من المراهق في اتخاذ القرار بصفة مؤقتة, ريثما يعود للسلوك الصحيح.
الفصل الرابع عشر: العلاقة (الحب)
الطفل ينظر إلى النظام من خلالك. فإن كانت العلاقة معه سلبية اعتبره تحكماً.
@المفتاح التاسع: إن أقوى طرق تعليم النظام أن تخاطب القلب وليس العقل
فالطفل يريد إدخال السرور على أبويه, وأن يجلب أنظارهم وتقديرهم, ومستعد لممارسة ضبط النفس لتجنب إغضابهم, وتؤلمه العقوبة أكثر إن كانت من محب. وهذه ست طرق لكسب علاقات حميمة:
1- ركز على الجوانب الإيجابية: فالعتاب طوال الوقت يفسد العلاقة. والمدرسة عندنا ترسل فقط رسائل بالأخطاء.
2- امسح الماضي:علمهم بدء صفحة بيضاء كل يوم. وتحدث عن خطة اليوم, وكيف تنجح اليوم.
3- لا تتراجع فيما يخص تطبيق النظام: مع ما فيه من قيود لا يحبها الأطفال. لا تتردد, وتبحث عن الشعبية.
4- قدم جوائز مجانية للطفل: في أوقات عصيبة تبدو الواجبات ثقيلةً, ولا بأس أحياناً من أن تؤدي جزءً من واجب طفلك. وتضع له ورقة: " لقد أخرجتُ القمامة ", لهذه الكلمة وقع بليغ على نفس الطفل. وليست رشوة.
5- كن رائداً لطفلك (قدوة): فهو يتعلم من أفعالنا أكثر من توجيهاتنا. فعلاقة ايجابية معه تعطيه مثالاً على الاهتمام بحقوق الآخرين وحاجاتهم. واستمع إلى وجهة نظره باهتمام, واثن عليه عندما يستحق. ولا تستعمل الإهانة, ولا توبخه أمام أقرانه. ولكن لا تنس تنبيهه أمام الضيوف لإعادة السلوك, بحركة أو إشارة يفهمها.
6 - لا تنبذ الأطفال بل انبذ سلوكهم :أقسى شيء على الطفل إشعاره أنه غير مرغوب. فلا تطلق عبارات سلبية, م مثل" ليس فيك خير, أنت طفل سيء"...
الفصل الخامس عشر: تقدير الذات أم تدليل الذات
نظام التربية السائد ولّد ظاهرة الطفل الذي يرى نفسه مركز الكون, الطفل الذي يأخذ ولا يعطي. والنتيجة جيل من الأطفال المدللين المزعجين. ويرد الآباء بزيادة التهديد بالعقوبة, أو عرض مكافآت.
الدافعية
يقول التربويون:لابد من إيجاد الدافعية لكي يسلك الأطفال السلوك المناسب. ولايمكن أن تجعل الطفل يقوم بواجباته, مالم تحصل عنده رغبة. وهذا هراء!!
إن من أهم ملامح تعليم النظام السليم أن تجعل الأطفال يقومون بأعمال لا يرغبون بها. وأن تعلمهم كبح رغباتهم التزاماً بالنظام كما يفعل الكبار. والإنسان يحتاج أن يرغم نفسه على اكمال الأعمال, وإن كان لا يحب ذلك.
الدوافع شيء عظيم ! ولكن نظام التعليم لا يجوز أن يعتمد على الدافعية, فالعالم مليء بأشياء تعجبنا وأخرى لا تعجبنا. ولابأس أن تحاول إيجاد أعمال تسر, فهذا يقلل مرات المواجهة.
لا تستخدم المال لدفعه للعمل, واستخدم التحدي بأن ينهي في وقت محدد,أو التنافس مع طفل آخر
المكافآت(والعقوبات)
هي ذات نفع عظيم , فكل إنسان يحتاج إلى من يلاحظ إنجازه, وينوه به, ولكن المكافآت يجب أن تكون داعمة للتدريب والتعليم الجيد, وليست بديلاً عنه.(/6)
وأهم مكافأة حسن علاقتك بهم, وأهم عقوبة عدم رضاك عن سلوكهم. أعط من وقتك لأطفالك, وابدِ اهتماماً بنشاطهم واكتشافاتهم, واحرص على ملاحظة صادقة.
وعندما تعطيه هدية مادية مثل اللاصقات أو البسكويت, فقدّم أكثر من قطعة, ليعطي غيره. فذلك يجعل الآخرين يتمنّون نجاح الطفل الأول.
الثناء
هو أكثر المكافآت استخداماً. وزيادته قد تؤدي إلى التواكل. وادخار الثناء لحين يستحق, يُسرّع من نضوج الطفل, وصحته النفسية. أفضل المدرسين يواجهون التلميذ بعمل أعلى قليلاً مما يتصور الطفل أنه في حدود طاقته. وبذلك يبقى الطفل في تحد وسعي للوصول للمستوى المطلوب.
حوافز لا رشاوي
ما الفرق؟ إذا كان بإمكانه التخلص من العمل, ورفض المكافأة, فهي رشوة. وإذا كان عليه القيام بالعمل حتى ولو رفضها, فهي حافز. مثلاً تقول له" نظف الحديقة ولك 5 ريالات", " شكراً لا أريد مالاً", "إذن نظف الحديقة".
لامكافأة على عمل ناقص
مثلاً طفل سنتين يركّب صورة.. فيصفق إشعاراً بإنجازه. فيشاركه الكبير تصفيقه. يعيدها ثانية. وفي الثالثة يشرع في العمل ولا ينجزه. فعلى الكبير ألا يصفق له. لأنه سيضع في ذهنه أن عملاً ناقصاً يكفي للتصفيق. ولا حاجة لجهد أكثر.
تقدير الذات
كثير من الكتاب يؤكدون على تقدير الذات على أنها لجعل الأطفال ناجحين وحاملين للمسؤولية. ولكن كثيراً من الطرق المتبعة تؤدي به أن يصبح مدللا ً لذاته. ومنها البرامج الدراسية التي لا رسوب فيها. ومنها السماح له أن يُظهر غضبه بلا قيد. وعدم انتقاد الطفل قد يؤدي إلى غياب الشعور بالخجل, فلا يمارس ضبطاً ذاتياً لأفعاله, " لقد شعرت أنه يسرني أن أفعل هذا ففعلته", تبريراً لفعلته.
@المفتاح العاشر:احذر من تدليل الذات المتخفي تحت قناع تقدير الذات
إن تقدير الذات ينبغي أن يكون له جذور في الواقع العملي, فيعكس قدرته على حل المشكلات, وتطوراً في علاقاته وتعاونه مع الآخرين. لذلك ساعد الطفل على اكتساب تقدير النفس الحقيقي باكتساب المهارات لذلك. وعلّمه نظرة متوازنة لنفسه ليكتسب الثقة الهادئة, فهي العلامة الحقيقية لتقدير الذات.
الفصل السادس عشر: مخطط بسيط يٌقلل الصراعات
إن نظام التعليم السليم لا يقوم على ردود الأفعال ومعالجة الزلات, بل يقوم على الوقاية من الزلات. وكل دقيقة ننفقها في منع الخطأ توفر ساعات في الإصلاح.
@المفتاح الحادي عشر: الوقاية خير من العلاج
1امتصاص النشاطات للفراغ الفراغ مفسدة فلا يبقى الأطفال دون عمل, في المدرسة أو المنزل. املأ وقتهم بالمفيد من قراءة, وحل أحاجي.. وفي الرحلات الطويلة ليكن لدينا صندوق للنشاطات, محتوياته مثيرة ومجهولة, وهذا أفضل من وعد الأطفال بشيء ممتع حين الوصول.
2التخطيط المبكر للنشاطات الأطفال وخاصة الإندفاعيين قد يواجهون صعوبات عند الخروج للّعب, وقد يتورطون في سلوكيات ضارة. لذلك أصرّ عليهم أن يخبروك قبل ماذا يريدون أن يلعبوا, ومع من, وأين, وإلى متى؟..
3هيّء الجو قبل التغيير من نشاط إلى آخر تحدث مشكلات عند الانتقال من نشاط إلى آخر أقل إثارة. فاحرص على تنبيه الأطفال:" بقي دقيقتان". وساعدهم على إعادة الألعاب إلى أماكنها.
4أوقف النشاطات قبل حدوث المشكلات حين يكون الأطفال في نشاط طويل نسبياً, كزيارة متحف, يملّ الأطفال فتظهر مشكلات, فيوقف المربي النشاط عقوبةً, بينما الحكيم يوقف النشاط قبل المشكلة.
5أتسمح لي:لاتملّ من تعليم الأطفال كلمات الكياسة. وخاصة" أتسمح لي", فلها أهمية خاصة, إنها اعتراف بسلطة الكبير.
6هل هناك مشكلة عدم انتباه؟ الحياة المتسارعة تؤدي إلى شرود الذهن. أما الطفل كثير الشرود, فأجلسه إلى جوار آخر حسن الإنتباه. وإذا أعطيته عملاًً فقسمه إلى أقسام لا يتجاوز كل منها 10دقائق. واجعله يكرر تعليماتك.
الفصل السابع عشر:حل المشكلات
نتعامل مع أكثرها شيوعاً
الكذب والسرقة
أساس المشكلة شعور الطفل بنفعهما له, والتهديد لا يفيد, ولكن دربه على أعمال تربي الثقة. كلما طلب الطفل عمل شيء أو الذهاب إلى مكان, فأصرّ أن يكون تحت المراقبة, ليس عقاباً له. وسوف يضجر ويطلب الحرية, فابدأ بإعطائه حرية محدودة للتجربة, فإذا ثبت أنه استحقها فزدها قليلاً..فهذا يعلمه قيمة الثقة.
وإذا تكرر سلوك السرقة أو الكذب, فقد تحتاج بعض العقوبة, ولكن لا تعتمد عليها, فقد يتخفّى الطفل.
الواجبات المدرسية
دور المعلم التأكد من دقة الواجب وإكماله, ولا ينفع خصم الدرجات, بينما دور الوالدين الإشراف وإيجاد البيئة المريحة.وإذا كان لا يقوم بالواجب بمبادرة منه, فيجب متابعة ذلك. وأول خطوة هي تعيين وقت للدراسة, فإن لم يكن هناك واجب, فالتحضير للغد.
النزاعات(/7)
الصغيرة منها مشهد يومي. فلا تتدخل إلا في حالة الصغار(أقل من أربع), وبأقل حد من المناقشة. أما الكبار فإنهم يستطيعون إنهاء النزاع. فإذا اضطررت للتدخل, فامر الطفلين أن يذهبا إلى مكان محدد, لإنهائه ثم العودة. ولا تسألهما عن الحل,إلا إذا شعرت أن أحدهما خضع للتهديد, فأعدهما إلى مكان النقاش.
وتذكر أن الأطفال لايتعلمون مهارة حل النزاعات بأنفسهم, بل عليك أن تجلس معهم عدة مرات لتعليمهم.
نوبات الغضب الجامح
قد تصدر من الصغار لعجزهم عن التعبير, وتختفي بعد الرابعة. فإذا استمرالغضب فهو يستخدمه سلاحاً للضغط. فلا تستجب ولا تهدد ولكن أصرّ على موقفك بهدوء, وإذا قبلت صفقة فإنك تعزز عنده عودة الغضب.
وبيّن لأولادك في وقت الهدوء أن من طلب بأدب ينظر في طلبه, ومن طلب في غضب لن ينظر في طلبه.
المقاطعات
علّم أولادك متى تكون المقاطعة غير مقبولة. وإذا قاطعك فأشر إليه بيدك, ولا تكلمه ولا تنظر إليه, فالنظر معناه الإذن بالكلام. ولاتنس أن تسأله فيما بعد ماذا كان يريد أن يقول.
الإغاظة
إذا كانت دون قصد, فيجب أخذها بروح مرحة, فإن زادت وجب ايقافها. وإن كانت بقصد الإهانة فيجب منعها تماماً, كيلا تؤدي إلى العراك.
الفصل الثامن عشر:حان وقت الانطلاق
إن استعداد أولادنا لتحمل المسؤولية و ليكونوا متعاونين منتجين, يعتمد على نجاحنا في تربيتهم. ويجب أن نفرق جيداً بين تعليم النظام والعقوبة. والمهمّة ليست سهلة’
إن تحريك الجبال يأخذ وقتاً
إن أسلوب التعليم السائد مريح ومتناسب مع عالم الوجبات السريعة, ولكنه لا يؤدي المهامّ المطلوبة. على عكس نظام التعليم الصحيح. فالتعليم والإشراف يستغرقان وقتاً, وكذا بناء علاقات إيجابية.
إذا كنت تعلّم أولادك أن أداء الواجب مقدّم على الرغبة, فالتزم به في سلوكك. وتنازل مثلاً عن بعض برامج التلفاز. إن وضع الطفل في فراشه بحب واهتمام, يستغرق وقتاً أطول. فاترك أريكتك وسر مع الطفل, واستخدم الأفعال بدل الأقوال, والسلطة بدل التهديد.
تَسَلَّم القيادة
لا مساومة ولا صفقات للحصول على الطاعة والتعاون. ولا نعامل الأطفال على أنهم أكفاء لنا, ونطبق الديمقراطية. فليس دور الأطفال وضع الأنظمة, وإنما احترام دورنا كمصدر للسلطة.
أصرّ على حدوث تقدم
إن نظام التربية السائد بتركه الخيار للطفل, يجعله أقل التزاماً وكياسة يوماً بعد يوم. وبالإمكان أن يكتسب الأطفال الاستقلال مع بقائهم مؤدبين شريطةً أن تصرّ على ذلك.
@المفتاح الثاني عشر:إن التعليم الناجح للنظام لا يأتي دون بذل الجهد الكافي.
الخطوات الأولى من أين نبدأ؟ من سن مبكرة
- لا تحاول تغيير كل شيء دفعة واحدة, ابدأ بتغييرات متواضعة, وأضف إليها تغييرات أخرى بعد نجاحك.
- طبق طريقة إعادة السلوك: عند أي تصرف فظ أوقفهم, وأصرّ على أن يعيدوا السلوك بطريقة مؤدبة. إذا ركضوا على الدرج مثلاً, أعدهم ليمشوا مشية متزنة.
- في الخدمات المنزلية: أعط تعليمات صغيرة, وقسّم العمل إلى أجزاء, يفصل بينها فاصل يحبه الطفل.
- علّم أطفالك سلوكاً جيداً, سيحتاجونه في القريب. علّمهم مثلاً الإجابة على الهاتف.
- تذكّر, وأنت تمارس هذه المهمة الضخمة تحقيق التوازن بين الجوانب الثلاثة للنظام.
- يحتاج أبناؤك إلى التعليم الكافي للحصول على المهارات اللازمة والمواقف الصحيحة لتحمّل المسؤولية.
- ويحتاجون أن يعطوا القدرة على الاختيار والاستقلال, وذلك بما يتناسب مع ما لديهم من قدرة على اتخاذ القرار.
وفي الختام جزى الله المترجم على ترجمته الواضحة. وكنا نتمنى لو انه أعطى نبذة عن المؤلف ومركزه العلمي ومهامه التربوية, ومدى تقبل الأوساط التربوية لآرائه, وهل هناك كتب تربوية أخرى لها نفس وجهة النظر. وهل للمؤلف كتب أخرى. كما أنه لم يوضح دوره في الكتاب , هل هو تلخيص أم اختيارات منه, حيث ذكر على الغلاف أنه بتصرف. بل إنه لم يدرج اسم الكتاب ومؤلفه باللغة الإنجليزية ودار النشر وتاريخه. وقد استطعت أن أجده في موقع Amazon.com(/8)
مفاتيح الفاتحة (1-2)
الكاتب: الشيخ د.علي بن عمر بادحدح
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ، وبفضله تضاعف الحسنات، وبمنته تتنزل الرحمات، وبعفوه تمحى السيئات، له الحمد سبحانه وتعالى ملئ الأرض والسماوات، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه، هو أهل الحمد والثناء لا نحصي ثناء عليه هو كما أثنى على نفسه، فله الحمد في الأولى والآخرة، وله الحمد على كل حال وفي كل آن، حمدا يوافي فضله وإنعامه، وينيلنا رحمته ورضوانه ويقينا سخطه وعذابه، ونلقى به أجرا ويمحو به عنا وزراً، ويجعله لنا عنده ذخراً .
والصلاة والسلام التامان الأكملان على المبعوث رحمة للعالمين، خاتم الأنبياء والمرسلين سيد الأولين والآخرين، إمام المتقين وقائد الغر المحجلين إلى جنات النعيم، نبينا محمدا الصادق الوعد الأمين وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين ،،،، أما بعد ..
سلام الله عليكم ورحمته تعالى وبركاته، ونسأل الله جل وعلا أن يفتح علينا فتوح العارفين، وأن يفتح علينا فتحا تطمئن به قلوبنا وتسكن به نفوسنا، وترشد عقولنا، وتحسن به أقوالنا، وتصلح به أعمالنا، وتخلص به نياتنا، إنه سبحانه وتعالى ولي ذلك والقادر عليه .
مفاتيح الفاتحة ...عبر محاضرات متتالية في تلك المنازل والمدارك العظيمة ، وكلها مستمدة من الفاتحة وراجعة إليها ومستفادة منها، ولعلنا في هذا المقام اليسير في وقته نقدم بأنه لا يمكن أن يوفى مثل هذا الموضوع حقه، وحسبنا أن نقف وقفة أولى مع عظمة هذه الفاتحة لنرى أنها عظمة بلا حدود، ومن ثم يتكشف لنا أن الوقوف عند كل ما تستدعيه من المعاني والكشف عما فيها من أسرار فضلا عن التحقق بما فيها من الواجبات والإرشادات أمر ليس بالسهل اليسير إلا على من يسره الله له، وليس بما يمكن أن يسجى فيه القول أو يرسل فيما دون أن يكون أفضل وأكمل وأعظم في استناده إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وكلام أهل العلم.
فضل سورة الفاتحة
روى البخاري في صحيحه من حديث أبي سعيد المعلى رضي الله عنه: أنه كان يصلي في المسجد فناده النبي صلى الله عليه وسلم فلم يجب، ثم أتم صلاته وذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: ما سمعت ندائي، قال: بلى يا رسول الله ولكني كنت أصلي، قال: ألم تسمع قول الله جل وعلا : { يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحيكم } .
ثم قال له : ( لأعلمنك - أو لأعلمنّك - أعظم سورة من القرآن قبل أن تخرج من المسجد ) ، قال: فأخذ بيدي فجعلت أتباطؤ فقلت: يا رسول الله إنك قلت لأعلمنك أعظم سورة في القرآن فقال صلى الله عليه وسلم : ( نعم ، {الحمد لله رب العالمين} هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته ) .
فهذا نص ظاهر واضح في عظمة هذه السورة، وأنها أعظم ما في القرآن، وكلنا يعلم أن القرآن هو أعظم كلام لأنه كلام الرحمن سبحانه وتعالى، وهذا مما قال العلماء : " إنه يجوز فيه التفاضل بين بعض القرآن وبعضه الآخر كما ورد في مثل هذا الحديث وغيره " .
وروى الترمذي كذلك من حديث أُبي بن كعب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( ما أنزل في التوراة ولا في الإنجيل مثل أم القرآن وهي السبع المثاني وهي مقسومة بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل) قال الترمذي: حسن غريب، ورواه النسائي كذلك.
وفي مسند الإمام أحمد من حديث أُبيّ رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لي: ( أتحب أن أعلمك سورة لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها ؟! ) ، قلت: بلى يا رسول الله، فسألته قلت: ما هي، قال : ( ما تقرأ في صلاتك ؟! ) ، فقلت:{الحمد لله رب العالمين} قال : قرأتها حتى ختمتها، فقال: ( هي هذه ) .
لا شك أننا نقف متحيرين مبهورين أمام عظمة كلام الله رب العالمين وعظمة هذه الفاتحة المخصوصة بهذا التعظيم في كل ما أنزل الله عز وجل في كتبه العظيمة على رسله وأنبياءه عليهم صلوات الله وسلامه، وهذا القول في عمومه، فإن جئنا إلى بعض التفاصيل وجدنا أن للفاتحة كذلك من الفضائل والخصائص ما هو جدير بالعناية والاهتمام وما هو ملفت للعظمة المتناهية لهذه السورة.
فقد روى البخاري أيضا من حديث أبي سعيد الخدري قال: كنا في مسير لنا فجاءت جارية فقالت: إن سيد الحي سليم - أي لديغ لدغته حيه - وإن نفرنا غيّب - أي الناس من أهلنا غائبون - فهل منكم من راق، قال: فقام رجل لا نأبه برقيته - يعني ليس معروفا بأنه راق وكذا - قال: فرقاه فبرأ، فأمر - أي هذا السيد من القوم - بثلاثين شاة وسقاه لبنا - طبعا لما جاء انتبه الصحابة، الرجل ذهب ورقى وشفي المريض وجاء بالشياه - فقالوا: أكنت تحسن رقية - يعني عندك خبرة بالرقية وكذا - قال: لا إلا بأم الكتاب .. ما عندي غير الفاتحة، قرأها فبرئ المريض.(/1)
ولذا من أعظم الرقى الرقى بالفاتحة، وقال النبي صلى الله عليه وسلم عندما علم الخبر واستأذنه الصحابة هل يجوز لهم أن يأخذوا ذلك؟ قال: ( ما كان يدريه أنها رقية ) فأثبت النبي صلى الله عليه وسلم أنها رقية وأن الرجل لم يكن يدري لكنه وافق ما كان فيه شفاء في هذه السورة على وجه الخصوص والقرآن كله شفاء، ثم قال عليه الصلاة والسلام : (اقسموا واضربوا لي منها بسهم ) .
وروى مسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: ( بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم عنده جبريل إذ سمع نقضاً من فوقه، فرفع بصره إلى السماء فقال - أي جبريل - : هذا باب قد فتح من السماء ما فتح قط، قال: فنزل منه ملك ما نزل من السماء قط، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك، فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة لن تقرأ حرفا منهما إلا أوتيته .
أي ما فيهما من الدعاء إذا قرأته آتاك الله مسألتك وأجاب دعاءك، ونحن نعرف ختام الفاتحة {اهدنا الصراط المستقيم} وختام سورة البقرة فيها دعاء بالرحمة والنصر كما هو معلوم .
وكذلك روى مسلم الحديث المشهور من رواية أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رب العزة والجلال أنه قال: ( قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فإذا قال عبدي: {الحمد لله رب العالمين} قال الله: حمدني عبدي، فإذا قال: {الرحمن الرحيم} قال: أثنى علي عبدي، فإذا قال: {مالك يوم الدين} قال: مجدني عبدي، فإذا قال: {إياك نعبد وإياك نستعين} قال: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قال: {اهدنا الصراط المستقيم} - أي إلى آخر السورة - قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل ) .
هل نرى كم هي العظمة في هذه السورة التي نكررها كل يوم على أقل تقدير سبع عشرة مرة، بعدد ركعات صلاة الفريضة، وهي في حقيقة الأمر تقرأ أكثر من ذلك، في الصلوات والسنن والتطوعات الكثيرة، وتقرأ كذلك في الأذكار .
ومما ذكره البزار في المناقب العلية في مناقب ابن تيمية وهو من تلاميذه قال:
" كان يبقى بعد الفجر إلى ما بعد شروق الشمس، وسئل في مرة من المرات ما يقول في هذا الوقت، فأخبر أنه يقرأ الفاتحة ويكررها " .
وما من شك أن الفاتحة بتعظيمها وبما ورد من فضلها وبما سنذكر الآن كذلك من أسماءها وخصائصها، سورة عظيمة ينبغي لنا أن نحرص على تلاوتها، واليوم لنا وقفات يسيرة مع وجوه عظمتها في مفاتيحها التي تفتح لنا أمورا عظيمة وتلج بنا إلى أعظم أسس ديننا وأعظم ما تصلح به حياتنا وأعظم ما تكون به نجاتنا يوم القيامة بإذن الله سبحانه وتعالى .
ذكر أهل العلم أسماء كثيرة لسورة الفاتحة، وكثرة الأسماء كما يقولون دليل على شرف المسمى، من هنا كان للنبي صلى الله عليه وسلم أسماء كثيرة وقال عن نفسه صلى الله عليه وسلم : ( أنا النبي الخاتم والعاقب والحاشر الذي يحشر الناس على عقبه ..) إلى آخر ما ورد عنه عليه الصلاة والسلام .
وهذه السورة فيها أسماء كثيرة، منها أنها أطلقت وأطلق عليها اسم الصلاة، لأنه ورد فيها هذا الحديث الذي ذكرناه ( قسمت الصلاة بيني وبين عبدي ) .
ولأنه قد ورد حديث النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا صلاة لمن لم يقرأ بأم الكتاب أو بفاتحة الكتاب ) .
وكما قال عليه الصلاة والسلام : ( من صلى صلاة لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج ) ؛ أي ناقصة ، فكأن قوام الصلاة تلاوة الفاتحة وهي ركن من الأركان التي لا تصح الصلاة إلا به .
ومن الأسماء كذلك أم الكتاب، والأم هو المقصد والمقصود بأم الكتاب : أي أن الفاتحة جمعت مقاصد القرآن كله في آياتها، وهذا هو جوهر حديثنا الذي أفاض فيه الإمام ابن القيم رحمه الله في مقدمة مدارج السالكين الذي شرح به منازل السائرين وبين أن المنازل التي يرجوها الناس ويحرصون عليها سواء من منزلة التوبة أو الخوف أو الرجاء أو الاعتصام أو الرحمة أو الذكر أو غيرها، كلها مندرجة ومنبثقة ومتضمنة في الفاتحة، وهي مشتملة عليها كلها .
ومنها أيضا أم القرآن، وهذا كذلك مما ذكره بعض أهل العلم .
ومنها أنها سميت المثاني {ولقد آتيناك سبعاً من المثاني}
وهنا قولان لأهل التفسير: أن المراد بها الفاتحة كما مر بنا في حديث الترمذي الذي أوردناه آنفا، و{سبعا}: لأنها سبع آيات بإجماع، على خلاف على جعل البسملة آية، أو جعل الآية الأخيرة مقسومة إلى آيتين.
وبعض أهل العلم، قال : " المقصود بها السبع الطوال " .
أي التي في أول القرآن، لكن هذا فيه نص كذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، أما لم سميت المثاني؟
قال: لأنها تثنى في كل ركعة، أي تكرر، وإما لأنها اشتملت على الثناء على الله سبحانه وتعالى بما هو أعظم ثناء ورد في كتاب الله سبحانه وتعالى، وقيل كذلك : لأنها استثنيت لهذه الأمة ولم تنزل على أمة قبلها مثلها كما ورد في الأحاديث التي أشرنا إليها.(/2)
ومن أسماءها كذلك الوافية، وسر هذه التسمية كما قال سفيان بن عيينة قال : " لأنها لا تتنصف ولا تحتمل الاختزال ولو قرأ من سائر السور نصفها في ركعة ونصفها الآخر في ركعة لأجزأ، ولو نصفت الفاتحة في ركعتين لم تجزئ " .
يمكن أن تقرأ أي سورة تقسمها قسمين إلا الفاتحة لا بد أن تقرأ كاملة.
ومنها الكافية، وذكر يحيى بن أبي كثير أنها تكفي سواها، وتكفي عن سواها، ولا يكفي سواها عنها، فهي كالمرجع الأساس المهم.
هذه المقدمة أردت بها أن أعتذر لكم أننا لا نستطيع أن نُوفي ونوفّي هذه السورة حقها في هذا المقام القصير اليسير ومع قلة العلم والبضاعة المزجاة، لكننا سنقف وقفات أحسب أن فيها عدة أمور:
الأول: لفت النظر والانتباه إلى عظمة ما جاءت به هذه السورة من المعاني.
والأمر الثاني: الوقوف والمعرفة لبعض المعاني التي ربما كثير من الناس ليس مطلعا عليها ولا عالما بها.
والثالث كذلك: النظر إلى عظمة القرآن وبلاغته وإعجازه وكيف يشتمل على الأصول العظيمة والمعاني الواسعة في الألفاظ الوجيزة والكلمات والعبارات القليلة.
المفتاح الأول : مفتاح التوحيد
وهذه السورة جمعت كل أنواع التوحيد ومعانيه بأكمل وأتم وأوفى ما يحتاج إليه، فعلى سبيل المثال أو للتنبيه وللجمع، ورد في هذه السورة الأسماء العظيمة لله عز وجل الدالة على هذه المعاني، الله، بداية باسم الله، أليس كذلك؟ ثم الرب، {الحمد لله رب العالمين} ثم {الرحمن الرحيم} وهي الرحمة، ثم الملك {مالك يوم الدين} قال ابن القيم : وهذه ترجع إليها كل أسماء الله وصفاته سبحانه وتعالى " .
فالله يتضمن ما سيأتي كلامنا عنه موجزا في توحيد الألوهية، والرب يشتمل على ما فيه دلالة توحيد الربوبية، والرحمة والملك تشتمل على ما يندرج تحته توحيد الأسماء والصفات، فجاء التوحيد كاملا في هذه الآيات كما سنورد بعضا منه.
ثم أيضا هنا هذه المعاني أيضا مشتملة على أو متضمنة للحمد، لأن الله عز وجل قال: {الحمد لله رب العالمين} والحمد يتضمن مدح المحمود بصفات كماله ونعوت جلاله مع محبته والرضا عنه مع الخضوع والاستجابة له، وهذه الأسماء كما قلنا تدل على هذه المعاني.
ثم هناك تأمل ينبغي الانتباه له، تأمل ارتباط الخلق والأمر بهذه الأسماء التي جماعها في "الله" الدال على الألوهية، والرب الدال الربوبية، والرحمن الدال على الأسماء والصفات، فهي التي ينشأ عنها الخلق، وهي التي يترتب عليها الأمر والثواب والعقاب، فالله عز وجل رب كل شيء ومليكه والقادر عليه والمتصرف فيه لا يخرج عن ربوبيته شيء.
وعندما نقول {الحمد لله رب العالمين} نستحضر هذه المعاني، أي معاني الربوبية، فالله خالق الخلق ومدبر الأمر ومصرف الكون ومنزل الكتاب ومجري السحاب وواهب الأرزاق ومقدر الآجال، كل شيء في الكون حركة وسكنة ومنّة ونعمة لله سبحانه وتعالى، فالرب هو المالك وهو السيد جل وعلا، وهو المربي بنعمه سبحانه وتعالى، وهو الموفي لهذه النعم على كمال ما عليه من أسمائه وصفاته سبحانه وتعالى، ولو وقفنا مع معنى الربوبية، لهان لنا الأمر في أقل الخلق وأدناه، لو نظرنا إلى أقل المخلوقات لرأينا فيها من عجائب الخلق ودقة الصنع وعظمة الخالق ما الله سبحانه وتعالى به عليم على حد ما قال القائل:
يا ما من يرى مد البعوض جناحها *** في ظلمة الليل البهيم الأليلِ
ويرى مناط عروقها في نحرها *** والمخ في تلك العظام النحّلِ
كيف هذه البعوض التي لا نكاد نراها فيها عروق وفيها دورة دموية وتغذية وكذا وكذا وكذا، وعلى ما قال القائل أيضا في بعض وجوه عظمة الخالق سبحانه وتعالى وتصرفه في كل شيء جل وعلا كما قال:
يا مدرك الأبصار والأبصار لا *** تدري له ولكنهه إدراكا
أتراك عين والعيون لها مدى *** ما جاوزته ولا مدى لمداك
إن لم تكن عيني تراك فإنني *** في كل شيء أستبين علاك
ثم يخبر عن عظمة قدرة الله ونفاذها في الخلق
قل للطبيب تخطفته يد الردى *** يا شافي الأمراض من أرداك
قل للمريض نجا وعوفي بعد ما *** عجزت فنون الطب من عافاك
قل للصحيح يموت لا من علة *** من بالمنايا يا صحيح دهاك
قل للبصير وكان يحذر حفرة *** فهوى بها من ذا الذي أهواك
بل سائل الأعمى خطا بين الزحام *** بلا اصطدام من يقود خطاك
قل للجنين يعيش معزولا بلا راع *** ولا مرعى ما الذي يرعاك
قل للوليد بكى وأجهش بالبكى *** لدى الولادة ما الذي أبكاك
وإذا ترى الثعبان ينفث سمه *** فاسأله من ذا بالسموم حشاك
اسأله كيف تعيش يا ثعبان أو *** تحيى وهذا السم يملأ فاك
واسأل بطون النحل كيف تقاطرت *** شهدا وقل للشهد من حلاك
بل سائل اللبن المصفى كان بين *** دم وفرث ما الذي صفاك
وإذا رأيت الحي يخرج من حنايا *** ميت فاسأله من ذا الذي أحياك
قل للهواء تحسه الأيدي ويخفى *** عن عيون الناس من أخفاك
قل للنبات يجف بعد تعهد *** ورعاية من بالجفاف رماك
وإذا رأيت البدر يسري ناشرا *** أنواره فاسأله من أسراك(/3)
واسأل شعاع الشمس يدنو وهو *** أبعد كل شيء ما الذي أدناك
إلى آخر ما هو معلوم
فهذه كلها مدرجة في هذا الشطر من الآية {الحمد لله رب العالمين} كل شيء يندرج في هذه الكلمة، فالله عز وجل صاحب الربوبية، وله سبحانه وتعالى الألوهية التي تأتينا هنا في مواضع شتى أولها في البسملة {بسم الله} وكذلك في الحمدلة {الحمد لله} وكذلك في العبادة والاستعانة ولنا حديث عنها خاص {إياك نعبد وإياك نستعين}، وبهما أي بهذين الأمرين يختلف الناس، فكثير من الناس يقرون بالربوبية ثم يفترق الناس، فمنهم بعد أن يقر بالربوبية يمتثل، فيعبد ويخضع ويتقرب لله عز وجل، ومنهم من ينحرف في ذلك فيشرك أو يجحد أو يكفر والعياذ بالله.
ثم أسماء الله عز وجل الحسنى، وذِكر الرحمن والرحيم والملك لا شك أنه من أعظم تلك الأسماء والصفات، وهنا وجوه مهمة نقف عندها، وليس حديثنا مضطردا في معنى التوحيد ولا في معنى الإيمان ولا في ما ينبغي التنبه له مما ينبغي معرفته من مما يلزم من صحة الاعتقاد وغير ذلك، لكننا نورد المعاني الكبرى التي بها تعظيم هذه السورة وتعظيم هذه المعاني فيها.
فهنا {الرحمن الرحيم} هذان الاسمان مشتقان من الرحمة، وكلاهما عظيم في دلالته، والرحمة أصلا عظيمة لأنها سبقت غضب الله عز وجل، ولأن الله عز وجل عندما تحدث عن رحمته عظمها فقال : {وسعت رحمتي كل شيء}
وعندما ننظر إلى الرحيم والرحمن نجد عدة جوانب:
الأول: أن الرحمن أوسع معنى في الرحمة من الرحيم، ومن هنا قال بعض أهل العلم: " الرحمن رحيم الدنيا والآخرة، والرحيم مختصة بالدنيا " .
وقال بعضهم:
" الرحيم رحمة تخص عباده المؤمنين والرحمن أوسع منها فتخص المؤمنين وغير المؤمنين " ؛ أي من الرحمة الواسعة التي يرحم الله بها العباد والبهائم والمخلوقات والكون كله بل وما ينعم به حتى على الكافرين، من نعم طعامهم وشرابهم وحياتهم وحركتهم وغير ذلك .
ثم ننظر أيضا إلى معنى آخر، وهو أن الرحيم اسم لله عز وجل لكنه غير مختص به، فيطلق على الإنسان لكن مع تعظيم الله عز وجل وتفرده في أسمائه وصفاته، لكن الرحمن اسم مختص بالله لا يطلق على غيره من خلقه مطلقا، فهنا ما يكون في الدنيا والآخرة وما يكون في الإنسان وما يكون للرحمن، وكذلك معنى الرحمة الواسع يتممه معنى الملك، وأحيانا يغلب على الناس أن صاحب الملك ليست عنده رحمة، وأن صاحب الملك عنده سلطان وقهر، وأنه عنده بطش وقدرة، وهذه طبيعة الملك، فاجتماع الملك والرحمة دليل عظمة لله سبحانه وتعالى، وكذلك دليل على الأمرين العظيمين اللذين يحتاج إليهما الناس وهو أمر التسليم لله لأنه المالك سبحانه وتعالى وأمر الالتجاء إلى الله لأنه الرحيم الذي يتعرض الناس لرحمته ويسألونه إياها سبحانه وتعالى .
فحينئذ من هذه المعاني نستطيع أن ننظر إلى عظمة ما جاء في هذه الفاتحة من الدلالة على أنواع التوحيد كلها، وهذه الربوبية متعلقة بما هو من الله عز وجل للخلق، فهو الذي خلقهم ورزقهم ويدبر أمرهم، والألوهية هي اللازم من الخلق لله، فهم الذين يعبدونه ويستغيثونه ويستعينون به .. إلى آخره، قال :
"والرحمة بينهما فكذلك رحمة منه لعباده ورحمة من العباد يتعرضون بها لرحمته سبحانه وتعالى فيما يتراحمون به بينهم "
قال ابن القيم:
" الرحمة التعلق وسبب الذي بين الله وبين عباده، فالتأليه منهم له والربوبية منه لهم والرحمة سبب واصل بينه وبين عباده بها –أي بهذه الرحمة- أرسل الله إليهم الرسل وأنزل عليهم الكتب " .
فهذه ومضة ما زلنا في رحابها أي في رحاب مفتاح التوحيد، لأنها تضمنت من معاني التوحيد كذلك، إثبات المعاد وجزاء العباد في قوله {مالك يوم الدين}، فإن قلنا {مالك يوم الدين} فمعنى ذلك أن يوم الدين وهو يوم الجزاء والحساب أمر مسلم به وأن الإيمان به متضمن بالإيمان بأن الناس فيه يحاسبون إن خيرا فخيرا وإن شرا فشرا { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره } ، فهذا معنى من المعاني المهمة .
وأيضا قد نعجب إذا قلنا إن الفاتحة متضمنة كذلك للنبوة والرسالة، والإيمان بها واستشعار نعمة الله سبحانه وتعالى بها، ولقد ذكر ابن القيم وجوها كثيرة بلغ بها نحو ثمانية أوجه تدل على أن الفاتحة متضمنة للإيمان بالنبوة والرسالة، منها :(/4)
قوله {الحمد لله رب العالمين} فكونه رب العالمين قلنا له، يدبر أمور الناس وليس تدبير أمورهم بطعامهم وشرابهم ومعاشرهم، بل هو قبل ذلك بماذا ؟ بهدايتهم وإرشادهم، فلا يليق بالرب المالك السيد سبحانه وتعالى أن ينسى خلقه أو يتركهم هملا وإنما دلالة ربوبيته العظيمة التي فيها منته على خلقه أنه أرسل إليهم الرسل والأنبياء لأن هذا هو اللائق بكمال الربوبية، ثم قوله {لله رب العالمين} الله " أي المألوه أي المعبود ولا طريق إلى معرفة عبادته إلا من طريق رسله، قد يجد الإنسان في فطرته الحنين أو التوجه إلى الخضوع لله عز وجل، وإلى التذلل له، لكن كيف يعبده بأي أنواع العبادة كيفية أقوالها، كيفية أفعالها، ذلك لا سبيل إلى معرفته إلا من طريق الرسل وما أنزل الله عليهم من الكتب، وكذلك قوله: {الرحمن الرحيم} فرحمته تمنع إهمال عباده واقتضت إرسال الرسل إلى غير ذلك،
قال ابن القيم رحمه الله :
" فاقتضاء الرحمة لما تحصل به حياة القلوب والأرواح أعظم من اقتضاءها لما تحصل به حياة الأبدان والأشباح ".
إذا كان ينزل القطر وينبت الشجر وينضح الثمر وييسر للناس الطعام والشراب ليجدوا رزقهم ويعيشوا حياتهم ويجعل لهم من الماء كل شيء حي، فأولى وأعظم في حقه عز وجل ربوبية وألوهية ورحمة أن يتدارك الخلق بالرسل والأنبياء وما نزل عليهم من كتبه وشرائعه وأحكامه وذُكر يوم الدين الذي يدين الله عز وجل به العباد ويحاسبهم فيكون عقاب ويكون ثواب، ولا يكون ثواب ولا عقاب إلا بعد إقامة الحجة والحجة بالرسل والأنبياء كما قال جل وعلا: { رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل } .
وقوله كذلك : { إياك نعبد وإياك نستعين } داخل في هذا المعنى كما قلنا
إذاً هذا المفتاح الأول وقد أوجزت القول فيه، فيه هذه المعاني المتعلقة بالتوحيد تعظيما لله عز وجل بمعرفة ربوبيته وقصدا للخضوع له سبحانه وتعالى بالقيام بحق ألوهيته وتمجيدا له سبحانه وتعالى بمعرفة أسمائه وصفاته والثناء عليه بها عز وجل، واستسلاما ويقينا بالرجوع إليه والحساب بين يديه والثواب والعقاب وفق أعمال الناس وكذلك من خلال ما جاءت به الرسل والأنبياء .
المفتاح الثاني: مفتاح الحمد والذكر
{الحمد لله رب العالمين} وأريد أن ننبه إلى أن هذه المفاتيح مستنبطة، فلن نستطيع أن نسير في السورة بترتيب لأن المعنى الواحد مبثوث في الآيات المختلفة كما سار حتى في الحمد، الحمد والذكر تبدأ السورة بقوله {بسم الله الرحمن الرحيم} والجار والمجرور أي الذي هو الباء والاسم اسم الله، لا بد له من متعلق، بسم الله، بسم الله ماذا؟ إن جئت تأكل فقلت بسم الله، فالتقدير في لغة العرب : بسم الله آكل، إن جئت تخرج من بيتك وتقول بسم الله، أي بسم الله أخرج، كل صنيع تصنعه تبدأ فيه بسم الله يكون مرتبطا بهذا الفعل، ما معنى بسم الله ؟
هذا فيه جوانب عظيمة جدا بالنسبة للإنسان:
الأول:
ذكر الله عز وجل ذكرا يشتمل على اليقين والاعتراف بقدرته وملكه وجبروته وحوله وقوته، أنت الآن تأكل وتستطيع أن تأكل لكنك تقول : بسم الله، أي بسم الله آكل، فالأصل أن حولك وقوتك إذا لم يشأ الله حتى لو وجدت أسباب القدرة فلن يتحقق لك المراد، حتى تدرك أن قوتك وحولك وقولك ليس بنافعك شيئا ما لم تستعن بالله ..
إذا لم يكن عون من الله للفتى *** فأول ما يقضي عليه اجتهاده
إذا قلت أنا صنعت وأعددت وهيأت كل شيء وسيكون كذا وكذا، ولم تذكر اسم الله، فربما حرمت كل ما أعددته ولم يؤت ثمرة ولم يصل بك إلى مقصود ولم تحقق به مراداً .
الثاني:
طلب العون
كأنك تقول عند كل بسم الله، ربي أعني على ما أنا مقبل عليه، احفظني فيما أنا مقبل عليه، لأن هذا المعنى أيضا مستشعر في هذه البسملة، فكأنك تطلب عون الله عز وجل ورحمته وتسديده وتوفيقه وحفظه ورعايته وكلاءته عز وجل في هذه الكلمة، ولذلك عندما نقول الفاتحة، فعلا هي تفتح لك كل شيء، ونحن إذا تأملنا في كثير من الأذكار الواردة عن المصطفى صلى الله عليه وسلم فإننا واجدون أنها تبدأ بالبسملة، أليس كذلك؟ ماذا نقول عند طعامنا بسم الله، عندما نستيقظ، باسمك اللهم نحيا، وباسمك نموت، عندما نخرج من المنزل نقول: بسم الله، عندما .. كثير من الأذكار مصدرة بسم الله، حتى يبقى الإنسان متذكرا لله عز وجل.
الثالث:(/5)
معنى الاستعانة وارد كما قلنا لكن معنى الأنس بالله سبحانه وتعالى عظيم، الاستعانة: إن كنت ضعيفا طلبت القوة لكنك أحيانا معك قوة ومع ذلك تطلب قوة الأقوى، على أقل تقدير أن تستشعر أنه معك، أنك ذكرته، أنك لم تنسه، أنه في قلبك دائما التعلق به والتشوق إليه والاستعانة به والتوكل عليه والإنابة إليه حينئذ تمتلئ نفسك بالعظمة الإيمانية التي يستشعر فيها الإنسان أنه موصول الحبل بالله سبحانه وتعالى وأنه ممدود الأسباب بأسباب السماء، وأنه بسم الله يفتح كل أمر وأنه يذلل له كل صعب وأنه ينجح بإذن الله عز وجل في كل مقصد، ليس بمجرد الاستعانة بل حتى بهذه الراحة النفسية والطمأنينة القلبية والمعاني الإيمانية التي يستشعرها عندما يستشعر أن الله سبحانه وتعالى معه.
لا شك أن الإنسان إذا ذهب في أمر مهم هل يذهب وحده؟ أو في مناسبة مهمة، الذي يذهب مثلا للزواج، يذهب وحده وإلا يأخذ معه أهله ووالده، هو يعقد الزواج، أليس كذلك؟ لو ذهب وحده وعقد الزواج يصح أو لا يصح؟ هل يأخذ أباه لكي يعينه في شيء، يأخذ بيده فيوقع أو ينطق بلسانه، لم يأخذ الناس معه؟ يستأنس بهم، يفرح بمرافقتهم، يزداد حبورا وسرورا بمعيتهم، ولذلك عندما نذكر اسم الله دائما نستشعر هذه المعاني.
عندما قال النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الغار ومعه أبو بكر، وأبو بكر يقول يا رسول الله لو نظر أحدهم إلى موضع قدميه لرآنا، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم بلسان اليقين والإيمان: (ما ظنك باثنين الله ثالثهما )
والله عز وجل يقول: {لا تحزن إن الله معنا} .
استشعار المعية في هذه البسملة شيء عظيم، وإن جئنا إلى الحمد فهو أيضا باب عظيم، لأنه كما قال أهل العلم: الحمد هو الثناء الكامل، والكمال لله، ونحن علّمنا رسول الله عليه الصلاة والسلام أننا لا نستطيع أن نحصي ثناء على الله عز وجل، لذلك قال : ( لا نحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك ) .
والله عز وجل حمد نفسه في كتابه، بل جعل فاتحة هذه الفاتحة بعد البسملة، {الحمد لله رب العالمين}
وحمد الله لنفسه، ذكر أهل العلم فيه معاني عظيمة، قالوا: "إنه حمد نفسه لأنه سبحانه وتعالى عظيم وأشار بحمده إلى عظمته في ذاته وأسمائه وصفاته، وأيضا حمد نفسه ليعرف الناس والخلق باستحقاقه للحمد فإذا حمد نفسه كان المخلوقين المربوبين المرزوقين المنعم عليهم أحق بأن يحمدوه سبحانه وتعالى، وأعظم الحمد أن نحمد الله بما حمد به نفسه " .
ثم انظروا كذلك إلى أمر مهم وهو أن الله جل وعلا يحب الحمد كما ورد في صحيح مسلم : ( إن الله يحب العبد إذا أكل الأكلة أن يحمده عليها وإذا شرب الشربة أن يحمده عليها ) .
ولذلك هنا الله عز وجل يقول في الحديث : (حمدني عبدي) من المستفيد؟ أنت المستفيد، لكن الله عز وجل أخبرنا بأن ذكره وحمده مما يحبه من عبده، ولذلك السنة النبوية والقرآن بين لنا في هذه السورة ما كان يعلمنا إياه رسول الله صلى الله عليه وسلم بتقديم الحمد والثناء لله عز وجل بين يدي الدعاء، قبل أن تدعوا فاثني على ربك واحمده، الحمد لله خالق السماوات وخالق الأرض، وكذا وكذا، كما ورد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في الرجل الذي أكثر من الثناء فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنه دعا بالدعاء باسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى .
هذا الحمد عظيم، والوقوف عند كل الآيات والمعاني يصعب ..
روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "قد علمنا سبحان الله ولا إله إلا الله، فما الحمد لله "
أراد معاني جميلة وعظيمة، فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه في هذه الرواية : "الحمد لله كلمة رضيها الله لنفسه " وفي رواية أخرى : " كلمة أحبها الله لنفسه ورضيها لنفسه وأحب أن تقال له " .
فما أعظم هذه الكلمة !
وفي رواية ابن أبي حاتم وابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : " الحمد لله هو الشكر لله والاستخذاء له والإقرار له بنعمه وهدايته وابتداءه " وغير ذلك ..
وروى النسائي وابن ماجه من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( أفضل الذكر لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء الحمد لله ) قال الترمذي: حديث حسن غريب .
وفي سنن ابن ماجة من حديث ابن عمر رضي الله عنه: ( أن عبدا من عباد الله قال: يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، فعضلت بالملكين - اللذين يكتبان أثقلاها - فلم يدريا كيف يكتبانها فصعدا إلى السماء فقالا يا رب إن عبدك قال كلمة عظمنا بها كيف نكتبها فقال الله عز وجل: وهو أعلم بهم: ما قال عبدي، فقالوا قال: يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، فقال: اكتباها كما قال عبدي حتى يلقاني فأجزيه بها ) .
وهذا من عظمة الحمد وفيه مقالات كثيرة ودلالات عظيمة، يضيق المقام عن حصرها أو ذكرها .(/6)
وأختم فيها بسبق الحمد لأن الله عز وجل سبق حمد الناس بحمده لنفسه ولذلك صدر هذه الصورة في أول القرآن العظيم في أعظم كتبه في أعظم سورة من سور هذا القرآن بالحمد فقال: كأنما يقول قبل أن يحمدني أحدا من العالمين وحمدي نفسي لنفسي لأنه سبحانه وتعالى حمد نفسه بلا علة، وحمد المخلوقين فيه شوب بالعلل، لأنه خلقهم لأنه أعطاهم لأنه رزقهم، وحمده لنفسه لكثرة نعمه على عباده، ومن هنا ورد الرواية : ( من شغل بذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين ) والحديث رواه الترمذي .
المفتاح الثالث: مفتاح العبادة
وكل هذه المفاتيح، كما نقول أيها الأخوة، كل واحد منها عظيم، إذا قلنا التوحيد فهو أعظم سر، إذا قلنا الحمد والذكر لله عز وجل، فأي شيء أعظم منه والنصوص فيه كثيرة، وإذا قلنا العبادة فهي -سبحان الله- أعظم شيء كذلك، قبل أن نتكلم عن العبادة سبقت لنا هنا عبادتان فيما ذكرناه عبادة القلب مرت أو لم تمر بنا فيما ذكرناه من التوحيد والربوبية والألوهية والأسماء والصفات، وعبادة اللسان كذلك مرت بنا في الحمد والذكر، حمدلة أو بسملة، ثم جاء قوله عز وجل: {إياك نعبد وإياك نستعين}
العبادة مأخوذة من الذلة من حيث المعنى اللغوي، فيقولون: طريق معبد أي مذلل موطأ للناس.
وهي كما ذكر ابن كثير في تفسيره: " التوجه لله عز وجل بجميع كمال المحبة والخضوع والخوف لله جل وعلا " .
هنا مواقف: الأول قدم المفعول على الفاعل وكرره يعني قال {إياك نعبد} ما قال نعبدك أو نعبد الله إنما قال {إياك نعبد} وكرر {إياك}، ذكر أهل العلم في هذا معنيان :
الأول: الاختصاص
والثاني: الاهتمام
أما الاختصاص: فكأن القول: {إياك نعبد} ولا نعبد أحدا سواك، {وإياك نستعين} ولا نستعين بأحد سواك، وأما الاهتمام فجاء في التكرار ما قال إياك نعبد ونستعين، للتعظيم في كلا الأمرين، وسنذكر الآن الوجوه المختلفة .
ثم وجه آخر لطيف من معاني التفسير، لاحظوا أن الكلام الأول على سبيل الإخبار {الحمد لله رب العالمين * الرحمن الرحيم * مالك يوم الدين } .
ثم تحول الكلام على سبيل الخطاب، كأنا نحن نخاطب الله نقول : { إياك نعبد وإياك نستعين } .
لماذا ؟
قال ابن كثير كلاماً جميلاً قال: " لما أثنى على الله عز وجل فكأنه اقترب وحضر بين يدي الله تعالى " .
لما حمد الله لما أثنى على الله فكأنه صار قريبا من ربه فصار في موضع المناجاة والمخاطبة فخاطب مولاه فقال: {إياك نبعد وإياك نستعين}
وهذا المعنى الذي أشرت إليه عندما تكلمنا عن البسملة وعن الحمد، وقلنا عظمة هذه البسملة والحمد في التقرب إلى الله والاستعانة بالله، والأنس بالله والتبرؤ من الحول والقوة إلا الله عز وجل حينئذ فعلا يكون الإنسان على غرار ما ورد في الحديث القدسي عن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال : ( حتى إذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي عليها، ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه ) .
إذا كنت مع الله على هذا النحو توحيدا له وذكرا له وحينئذ فعلا يكون الإنسان في هذا المقام.
ثم نأتي لموقف ثالث قال {إياك نعبد} والحديث في السورة فيه هذه النون الدالة على الجمع وأنت تصلي وحدك الآن لما لم تقل إياك أعبد، قال: {إياك نعبد} ذكر هنا أهل التفسير وجوها قالوا : " المراد جنس العبادة والعباد كلهم والمصلي فرد منهم " .
فكأنه يدرك.. أولا فيه إشارة لصلاة الجماعة، وثانيا لو صلى منفردا، هو يصلي منفرد ولكن الملايين الذين يصلون كذلك في ذلك الوقت وفي تلك اللحظة وكلهم يعبد الله ويستعين به فكأنه يستشعر هذا.
والأمر الذي ذكروه ثانياً وهو أمر دلالته عظيمة وجليلة فإنهم قالوا : " الإنسان إذا وحد الله وذكر الله وعبد الله ارتفع مقامه وعلا قدره وشرفت منزلته حتى صح أن يقول نعبد ولا يقول أعبد " .
فيقولون هو في شرف في الصلاة فيقول نعبد، خارج الصلاة انتهى ذلك الشرف باعتبار تعظيم هذه السورة وتعظيم معانيها ودلالاتها، ولذلك لفظ العبودية في القرآن ورد في حق النبي صلى الله عليه وسلم على وجه الخصوص وفي غيره على وجه التعظيم، لما قال الله عز وجل : { سبحان الذي أسرى بعبده ليلا } .
ما قال بنبيه ولا برسوله بل قال بعبده، في هذا الموطن الذي بلغ فيه النبي صلى الله عليه وسلم المكان والمنزل الذي لم يبلغه ملك مقرب ولا نبي مرسل، الذي خص به صلى الله عليه وسلم دون سائر الخلق أجمعين، سماه فيه بعبده، لأن عبوديته الكاملة هي التي أوصلته إلى تلك المنزلة العالية، لنعرف شرف العبودية على حد قول القائل:
ومما زادني شرفا وتيها *** وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي *** وأن صيرت لي أحمد لي نبيا(/7)
وأيضا قالوا في هذا المعنى: أنه فيه مناسبة للتواضع، عندما تقول: إياك أعبد، كأنما أنت تقول لله أنا أعبدك، كأنما فيه شيء من التعالي والتعظيم، وكأنما هذا العبد يقول إنه سيعبد الله ويوفي حق عبادته، لكن عندما يقول {نعبد} يقول أنا وغيري وكل الخلق يعبدونك وعبادتهم دون حقك يا أعظم من عبد، وأكرم من سئل وأعظم من أعطى سبحانه وتعالى، فهذا أيضا معنى لطيف كأنه كما قال ابن كثير رحمه الله : " فيه تعظيم نفسه من جعله وحده أهلا لعبادة الله تعالى الذي لا يستطيع أحدا أن يعبده حق عبادته ولا يثني عليه بما يليق به سبحانه وتعالى " ولذلك جاءت به هذه المعاني كلها ..
لماذا عندنا نعبد ونستعين؟ كلاهما عبادة، لكن الأولى المقصود بها العبادة المنشأة المبتدئة من العبد فيما فرض عليه، كأن تقوم فتصلي أو تبادر فتصوم أو تذهب فتحج ..
والاستعانة هي العبادة التي تحتاج إليها ولا تسعى إليها في البداية، كأن يصيبك مرض فتستعين بالله في شفاءه، المرض جاءك بعبادة التضرع بعبادة الذل، بعبادة الافتقار إلى الله عز وجل، كأن تكون في مسير فيأتيك عدو فتحتاج إلى الاستعانة بالله عز وجل في النصر عليه، فحينئذ هذه الاستعانة هي الأمور التي تعرض للمرء فيحتاج فيها إلى تحقيق عبوديته بتبرئه من حوله وقوته واستعانته بربه سبحانه وتعالى .
وهذا يكفي لأنه لو أطلنا لقصر بنا الحديث عما نريد توفيته والوقت أوشك أن ينتهي.
المفتاح الرابع: الهداية والاستقامة
وهذا أمر عظيم وهو المقصود الأعظم في هذه الحياة كلها، ولذلك نحن نكرره كل يوم كل صلاة {اهدنا الصراط المستقيم} .
سائل يسأل فيقول لماذا هذا التكرار ؟ هل هذا الأمر لا يحصل بالمرة الواحدة؟ أو بالدعوات المتكررة دون أن تكون في كل صلاة في كل فاتحة ؟
طبعا نحن كلنا يعرف أن الهداية في جملتها نوعان:
1- هداية البيان والإرشاد .
2- هداية التوفيق والإلهام .
هداية البيان والإرشاد هي هداية معرفة وعلم، هذا حق هذا باطل، هذا خير هذا شر هذا نافع هذا ضار، لكن التوفيق والإلهام، من الذي يعمل بالخير من الذي يأخذ النافع ويترك الضار، هذا أمر آخر، لذلك جاء الرسل والأنبياء بهداية البيان والإرشاد، وهم مثلوا هداية التوفيق والإلهام، حية واقعة في حياة الناس .
لكن الرسل والأنبياء لم يكرهوا أحدا على الإيمان ولم يجبروا أحدا على الطاعة ولا يستطيع أحدا أن يصنع ذلك إنما هو البيان والترغيب والترهيب والدعوة والتكرار، أي هداية نسأل الله عز وجل في هذا الدعاء، أي هداية نسأله؟ الأولى أم الثانية؟ الاثنتين معا، هل الأولى ليست ظاهرة؟ هل نحن لم تبلغنا الرسالة ولم تأتنا آيات القرآن ولم تأتنا سنة النبي صلى الله عليه وسلم، حتى كأننا لا زلنا نحتاج إلى بيان، الجواب كل بحسبه، يخفى علينا من الحق كثيرا أو لا؟ يغيب عنا من العلم كثير أو لا؟ بل بعض العلم يرد علينا فيه إشكالات بعد أن نكون قد علمناه، ربما أعلم حكما من أحكام الحج، فإذا ذهبت إلى الحج عرضت لي عوارض أليس كذلك؟ فأحتار أصلي {اهدنا الصراط المستقيم} لا زالت باقية مفعولها باقي والحاجة إليها في العلم الذي لا نعلمه وفي فهم العلم الذي قد نعرفه ولا نفقهه وغير ذلك كله أيضا وارد، أما الهداية الثانية فهي هداية أعظم لأنه كما قال ابن القيم قال: " كم من العلم لا نعرفه وكم من العلم تقصر هممنا عن العمل به، وكم مما نعمل نتركه " .
الصور كثيرة ولو كل واحد منا قاس نفسه لعلم أنه.. ليس في كل فرض {اهدنا الصراط المستقيم} يمكن ينبغي أن يكون {اهدنا الصراط المستقيم} هذه في كل لحظة لأنه في بين فينة وأخرى يغيب عنه من هذه الهداية ويفتقر إليها بشكل أو بآخر، وهذا أمر ظاهر وبين، والكلام فيه يطول .
الهداية كذلك تنتظم أمرين مهمين بالنسبة لنا، هداية الدنيا وهداية الآخرة، الهداية يوم القيامة كما قال إلى طريق الجنة أي المقصود بها المرور على الصراط وجوازه إلى الجنة، ومن هنا جاء القول جامعا للأمرين في إعجاز عجيب {اهدنا الصراط المستقيم} الصراط المستقيم المعرفة والحق والهدى في الدنيا، وكذلك {اهدنا الصراط المستقيم} أيضا المقصود الصراط المستقيم لأن ابن القيم يقول: "الصراط وصف هنا بأوصاف جميلة جدا في هاتين الكلمتين : أولا التعريف في كلا المعنيين مع الإضافة .. كلاهما يدل على عدة أمور أن هذا الطريق هو أقصر الطرق، وكثير ما يريد الناس الاختصار فيذهبون يمينا ويسارا فيطول بهم الطريق " .
وأيضا قال: " هو الموصل إلى المقصود لأنه لا يكون مستقيما إلا ويوصل إلى المقصود خاصة في آخر الأمر " .
قال ابن القيم رحمه الله في هذا المعنى الذي نتحدث فيه : " انقسم الناس بحسب معرفة الحق والعمل به إلى هذه الأقسام الثلاثة لأن العبد إما أن يكون عالما بالحق أو جاهلا به، والعالم بالحق إما أن يكون عاملا بموجبه أو مخالفا له فأصبح الناس ثلاثة: عالم بالحق وعامل به وعالم بالحق غير عامل به وجاهل بالحق أصلا فهو غير عامل به " .(/8)
ننتبه هنا إلى جملة من الأمور، العالم بالحق العامل به هو الموصوف بـ {صراط الذين أنعمت عليهم}
الذين أنعم الله عليهم عرفوا الحق وعملوا به، ومع كون هذا كافيا في أداء المعنى إلا أنه كمل هذا المعنى وتم بالنفي بعد الإثبات، {غير المغضوب عليهم} وهم الذين عرفوا الحق وجحدوه فلم يعملوا به .
{ولا الضالين} الذين ضلوا عن معرفة الحق ابتداء، والأولون هم اليهود والتالون هم النصارى، والمقصود جملتهم وإلا فمن اليهود من اهتدى ومن النصارى من اهتدى وأسلم، والمقصود جملة ما كانوا عليه مع رسلهم وأنبيائهم فإن اليهود علموا وعرفوا وكذلك مع رسول الله عليه الصلاة والسلام علموا وعرفوا ثم جحدوا وكفروا .
والنصارى ضلوا وأدخل عليهم اليهود من الانحراف والزيغ ما فسد به أصل معرفتهم حتى فسد عندهم أصل المعرفة بالله فانتقلوا من أصل التوحيد الذي جاء به عيسى عليه السلام إلى التثليث الذي عليه أكثرهم .
ثم معنى آخر من المهم الانتباه إليه وهو جلي لأننا نقرن فيه بين شيئين متلازمين في جهتين متضادتين، الهدى معه السعادة، والضلال معه الشقاوة، ولذلك تأمل الهداية والنعمة ماذا قابلها؟ الغضب والضلالة، ولذلك إذا جئنا في هذه المقابلة وجدناها كذلك مضطردة في القرآن كما في قوله عز وجل: {أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المهتدون}
وفي قوله عز وجل : { أولئك لهم الأمن وهم مهتدون }
لاحظ النعمة مع الهداية، وفي الوقت نفسه كذلك {ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم } . وقوله عز وجل: { فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى } .
فهذه مقابلة مهمة، ويستحق منا ذلك أن نجعل مفتاح النعمة وحده لولا ضيق الوقت .
ثم أيضا ننتبه إلى التوحيد والإفراد في الهداية، والتعدد والتشتت في الضلال؛ لأن الله عز وجل ما ذكر الصراط إلا مفردا وأما غيره فذكر مجموعة ولذلك قال : { وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله } .
وهذا مطّرد كذلك في كتاب الله عز وجل .
وجه من الوجوه الجميلة أيضا قال: {اهدنا الصراط المستقيم} ثم عرفه {صراط الذين أنعمت عليهم}
كان يكفي أن يقول : صراط الله عز وجل، لم قال ذلك قال: "لأن من طبيعة النفس وحشة التفرد والأنس بالرفقة" .
فكأنه يقول اهدني ويكون معي غيري، لأن هذه المعية فيها إعانة وفيها تشجيع أليس كذلك؟ وفيها أنس وفرح عندما تكون وحدك نعم الحق أحيانا قد يكون أصحابه قلة، لكنه لو كان وحده لثقل عليه الأمر وشق، وربما اعترضته العوارض من النفس المثبطة والشيطان الموسوس والدنيا المتزينة والأعداء المخذلون إلى غير ذلك، لكن كما قال الله عز وجل : { أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا }
فكأنه يقول اهدني مع هؤلاء، وقال : "هذا هو سر دعوة النبي صلى الله عليه وسلم (اللهم اهدني فيمن هديت)" .
يكفي هداية نفسه، اهدني مع الناس حتى يكون هناك مهتدين كثر فأستأنس بهم وأستعين بصحبتهم على الثبات على هذه الهداية والمضي على طريقها .
وفي هذه الآية والدعوة تميز مهم للغاية وهي أن هذه الأمة الخاتمة متميزة ليست كغيرها من الأمم، بل قد جعل الله لها وحباها ما اختصها به من الأمم كما حبا نبيها صلى الله عليه وسلم ما اختصه به من بين الرسل والأنبياء، كما حبا كتابها ما اختصها به من بين الكتب السابقة كلها، ولذلك لا يمكن ولا يقبل ولا يكون من تمام الهداية ولا يكون من كمال النعمة أن تكون أمة الإسلام مشابهة أو موافقة أو متابعة لغيرها من الأمم السابقة، بل حقها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( نحن الآخرون السابقون يوم القيامة ) .
أي نحن الآخرون زماناً السابقون يوم القيامة فضلاً وكثرة في دخول الجنة كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم وقال عليه الصلاة والسلام : ( إن اليهود والنصارى ضلوا فاختاروا السبت واليهود اختاروا الأحد وجاء المسلمون فسبقوهم واختاروا الجمعة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نحن الآخرون السابقون بيد أنا أوتينا الكتاب من بعدهم ) .
فلذلك لا بد أن يفتخر ويعتز كل مسلم بإسلامه واتباعه وانتسابه لمحمد صلى الله عليه وسلم وانتهاجه واعتصامه لنهج القرآن الكريم، ليس عند أمة من الأمم اليوم كتاب محفوظ ولا عند أمة من الأمم رسول معصومة سيرته قد وجدت في كل جوانب الحياة، عيسى عليه والسلام لم يكن حاكما عليه الصلاة والسلام، موسى عليه السلام لم نعلم من قصته ولا من شأنه مع زواجه ومع أبناءه شيء إلى غير ذلك مما اختص به النبي عليه الصلاة والسلام .
لذلك اليوم الذي يضن المسلم نفسه كغيره من الناس، فهو على خطر عظيم وفي خطأ كبير، لا بد أن يعلم أنه على الحق وأن غيره يحتاج إلى الحق الذي عنده، وأنه عنده النور الذي يفتقر إليه من يعيشون في الظلمات وإذا عرف المسلمون ذلك انتدبوا لدورهم وعرفوا كيف يحققون قول الحق جل وعلا : {كنتم خير أمة أخرجت للناس } .(/9)
أي أنتم الذين تكونون شهداء على الناس { وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا } .
وهذا التمييز ظاهر في قوله : { اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين } .
ونكتفي بهذا وفي الفاتحة من المفاتيح ومن الدلالات ما هو أكثر من ذلك وبعضه جدير أن يكون منفرداً وحده سيما الكلام عن الدعاء أو عن الهداية وغيرها(/10)
مفاتيح القلوب
الاحد :25/12/2005
(الشبكة الإسلامية)
الشبكة الإسلامية >> المركز الإعلامي >> الأسرة >> زوج .. وزوجة
الزواج ليس بيتًا صغيرًا ينعزل فيه العروسان عن العالم، إنه ارتباط أسرتين، كما هو رباط بين فردين، وحتى ينجح هذا الارتباط؛ هناك عدة مفاتيح ومهارات إذا أتقنها كل عروسين.. ظللتهما الدعوات الصالحة من أهليهما، وأغلقا بابًا واسعًا؛ تتسلل منه الخلافات والمنغصات.
خبراء فنون التعامل وكسب الآخر يرشدون الأزواج والزوجات إلى هذه المهارات:
نسيان الإساءة:
نسيان الإساءة من فضل الله على عباده، وهى نعمة رزقهم الله إياها، فعلى العروسين أن ينسيا أى إساءة، فينسى الإنسان إساءة المسيئين، وجفوة الجافين، ويسمو ليصل إلى أمر أعظم من النسيان، وهو الصفح والغفران.
ومن أراد راحة البال وحُسن العاقبة والمآل، فليحاول نسيان ما يلقاه من الآخرين، وليبدأ صفحة جديدة مع من قصروا فى حقه.
المرونة والحكمة:
أجواء الأسرة الجديدة غريبة عليكما، لذا يجب أن يكون التعامل مع أفراد الأسرة فيه ذكاء وفطنة؛ حتى لا تتوتر العلاقات وتنقطع، ولتحافظا دائمًا على شعرة معاوية ، كما تقول الحكمة «لو كان بينى وبين خصومى مقدار شعرة؛ ما انقطعت أبدًا، فإن هم شدوا أرخيت، وإن هم أرخوا شددت».
فن « لا»
إن قضاء حاجات الآخرين وتلبية مطالبهم، ومجاملتهم فى المواقف والمناسبات، وحُسن ضيافتهم، كلها أمور مطلوبة، ولكن لكل شيء حدودًا لا ينبغى تجاوزها، وحتى لا تكلفى نفسك ما لا تطيقين؛ تعلَّمى فن الاعتذار وقول كلمة (لا)، ولكن بتأدب فى قولها، فلا تقوليها وأنت غاضبة، أو بصوت مرتفع، أو منفر، بل قوليها وأنت مبتسمة، وبأسلوب رقيق مؤدب، وأشعرى من قلت له: (لا) بأنك متألمة؛ لأنك لم تستطيعى تلبية المطلوب.
الهدية
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «تهادوا؛ فإن الهدية تذهب وحر الصدور» (رواه الترمذى)، فالهدية تؤلف القلوب، وتعمق أواصر المحبة والمودة بين الناس، وكلما كانت الهدية بلا مناسبة، ومما يرغب فيه المهدى إليه ويحبه كانت أوقع، فاجعلا الهدية رسول حب بينكما وبين أسرة كل منكما، جربا ولن تندما.
الآباء جسر إلى الأبناء
حماتك وحموك أقصر طريق إلى قلب زوجك والعكس، فالإنسان يعتبر إكرام والديه إكرامًا له، وإهانتهما إهانة له، فإذا أراد كل زوج وفاقًا مع شريكه، فليحب أبويه ويحترمهما، ولا يتحدث عنهما بسوء مهما كانت الأسباب حتى لا يدق مسامير فى نعش الزواج.
نحلة لا ذبابة
تقف النحلة على الزهور لتمتص الرحيق وتخرج العسل، ولا تقف الذبابة إلا على القاذورات، وكأنها تتتبع زلات الناس وعوراتهم وتتصيد أخطاءهم، ولو أراد الإنسان إحصاء عيوب أى شخص لوجد العديد من الأخطاء، ولكن هذا ليس شيم الكرام - والانشغال بعيوب النفس أولى لإصلاحها وإعفائها من عقوبة الغيبة وتتبع العورات.
حفظ الأسرار
حفظ السر أهم ما يحقق الثقة بين الناس، وإفشاؤه يهدم جسور هذه الثقة، فليكن كل من الزوجين مستودع سر أسرة الآخر، خاصة الأب والأم، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا حدث الرجل رجلاً بحديث ثم التفت فهو أمانة»، وجملة «السر فى بئر» التى نرددها جميعًا من مفاتيح القلوب.
القناعة
ولماذا أنا ؟ تساؤل يجب ألا يردده الزوجان أبدًا، وهما يقارنان نفسيهما بالآخرين، فلماذا شقتى غرفتان، وشقة فلان ثلاثة ؟
ولماذا أركب «الميكروباص» وسيارة فلان أحدث طرازًا ؟ وغير ذلك أسئلة تتردد فى النفس، ولكن آثارها تبدو فى التعامل مع الآخرين، وفى نظرات الحسد وعباراته التى تنطلق رغمًا عن قائلها.
القناعة مع الأخذ بأسباب الارتقاء بعيدًا عما لدى الآخرين سر من أسرار السعادة والوفاق.. جرباه.
ابتسامة النقد
بعض الناس يعتبرون أنفسهم آلهة لا يراجعون ولا ينقدون - هؤلاء يخسرون الكثير فى علاقاتهم الاجتماعية، وينفرون الناس منهم، والفطن هو من يعتبر النقد دفعة والمعارضة - مكسبًا حتى لو صدرت عن نفس حاقدة.. المهم موضوع النقد والمعارضة، فقد يكون صاحبه محقًا، فابتسما فى مواجهة النقد، ووسعا صدريكما له، فلا معصوم سوى النبى صلى الله عليه وسلم ، وملاطفة الحماة أو معارضة أخت الزوج - أو والد الزوجة ليست جرائم إلا إذا أراد الزوجان اعتبارها كذلك - وهما فى هذه الحالة خاسران.
نقد السلوك لا نقد الشخص
شتان بين «أنت أخطأت» و«ما فعلته ليس مقبولاً»، فنقد السلوك لا الشخص فن ورسالة موجزة توصل معانى إيجابية للمنقود، أهمها: «إننى أحبك وأحترمك، ولا أرفضك، بل لى تحفظ على سلوك صدر منك»،
فالآخرون يصبحون أفضل إن لم يشعروا برفض غيرهم لهم، ويجدون فى إرشادهم إلى السلوك الصائب، بدلاً من صب نيران النقد الهدام على رءوسهم، أفضل حافز للتغيير.(/1)
________________________________________
مفاتيح القلوب
رئيسي :أخلاق :الأربعاء20 رمضان 1425هـ -3نوفمبر 2004 م
الحمد لله، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله، وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد،،،
فربما تجد المرء لا يميل إلى المرء، أو لا يحبه، فتسأله: لم لا تميل إلى فلان أو توده؟ فيقول لك:قلبي لا يرتاح إليه.. وفي كثير من الأحوال تكون المعادلة هي مفتاح القلوب، فربما يكون القلب معرضاً منقبضاً عن إنسان، فإذا تغيّرت المعاملة إلى معاملة فيها حسن وفيها عون ونفع؛ فإن ذلك يحوِّل ما في القلب ويهيئه للتقبل، ويفتح الأبواب للمحبة والمودة، وما ينبغي أن يكون بين أهل الإيمان، وموضوعنا عن بعض الأمور اليسيرة، والأعمال الهينة غير العسيرة التي تبذر بذور المحبة في القلوب، وتفتح مغاليق أبوابها، وتذلل الطريق إليها، وتفرش الورود والندى فيما بين قلوب أهل الإيمان، حتى تأتلف وتمتزج بماء المحبة والإخاء .
ولا شك أن أعظم إنسان عمل في استمالة القلوب وآلفها هو النبي صلى الله عليه وسلم، والفضل في ذلك والمنة لله سبحانه، فقد امتنّ الله على رسوله بنعمة تأليف قلوب أصحابه ومحبتهم له كما قال عز وجل:{ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ[63]}[سورة الأنفال].
هذه المنة يذكرها الله عز وجل في سياق الامتنان على الرسول عليه الصلاة والسلام، والناظر في حال المصطفى عليه الصلاة والسلام في أخلاقه وشمائله؛ يجده في جميع مناحيه نوع من تأليف القلوب، واستجلاب المحبة، وإدامة المحبة، ونحن ذاكرون إن شاء الله في هذا الدرس بعض مفاتيح القلوب:
المفتاح الأول: الابتسامة وطلاقة الوجه: ولا شك أن هذه الابتسامة لها أثرها العظيم، و الابتسامة التي نريدها هي ابتسامة المشاعر الصادقة، والمحبة الخالصة، وقد ورد عن النبي عليه الصلاة والسلام ما يبين أثر الابتسامة وأهميتها، فقد قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [تَبَسُّمُكَ فِي وَجْهِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ]رواه الترمذي. و الابتسامة لها أثرها القلبي والنفسي في تقارب القلوب وتآلف النفوس؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد قال في شأن النفوس: [لَا تَحْقِرَنَّ مِنْ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ]رواه مسلم. طلق أي متهلل ب الابتسامة ودلائل الفرح والسرور، وهذا أيضاً يدل على أن هذه الابتسامة معروف يُبذل، وأن هذه الابتسامة ليست شيئًا هينًا، قال عليه الصلاة والسلام: [لَا تَحْقِرَنَّ مِنْ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ]رواه مسلم. فهي من المعروف اليسير الذي له أثر بإذن الله كبير .
إعلانات رَوْحية مبوَّبة:
الإعلان الأول: هذه الابتسامة كأنها نوع من إعلان القبول والرضا بلقاء هذا الذي تبسمت في وجهه .
الإعلان الثاني: هي إظهار للمحبة والمودة .
الإعلان الثالث: هي دعوة للمزيد فإنك إذا تبسمت في وجهه أقبل عليك وسلم وصافح، وعانق وكان ضيفاً عليك، أو دعوته للزيارة، لكن إذا رآك من أول الأمر عابس الوجه قال: الكتاب من عنوانه هذا، كأنك تقول له: لا تتقدم، ولا تأتي، ولا تتكلم، وليس لك عندنا مقام ولا رغبة، ولا أي وجه من وجوه الاستقبال، أو الإحسان .
ولذلك ترى دائماً بعض الناس إذا كان من طبعه عدم التبسم ودوام التجهم أن الناس ينفرون منه وقل أن تجد له صديقاً أو رفيقاً فإذا سئل الناس قالوا يا أخي هذا رجل صعب كأنه يقول لك لا تأتي إليّ، ولا تتعامل معي لمجرد هذا التجهم، وترك التبسم .
ونحن نسأل: كم هو الجهد الذي تبذله والتعب الذي تعانيه لكي تبتسم في وجه أخيك؟! لا تكلفك الابتسامة مالاً تخرجه من جيبك، ولا وقتاً تضيعه من وقتك، ولا جهداً ترهق به بدنك.. ابتسامة كما يقال: لا تكلف شيئاً، ومع ذلك بعض الناس يبخلوا بها، فمن بخل بما لا خسران عليه فيه فهو أشد الناس بخلاً ولا شك، ولذلك يقول بعض الذين كتبوا في 'علم النفس والمعاملات الإنسانية': إن الابتسامة لا تكلف شيئاً، ولكنها تعود بالخير الكثير، إنها تغني أولئك الذين يأخذون، ولا تفقر أولئك الذين يمنحون'. فإذا لم يكن عندك مال تعطيه فأعط من بشاشة وجهك، فهذا الذي ينبغي أن يكون من الإنسان لأخيه المسلم.
المفتاح الثاني: التحية والسلام: فبعد الابتسام يأتي السلام، والسلام في الأصل السلامة، فمعنى السلام: هو التأمين والإقرار بالسلام، فإذا قلت للإنسان: السلام عليكم، يعني اطمئن، فلن يأتيك شر فأنت في أمن وسلامة، ولا شك أن هذا معنى مهم، وله أثره الكبير في تآلف ومحبة القلوب.(/1)
والسلام تحية من الله، وسنة من سننه صلى الله عليه وسلم، فعن ابن عمر:' إِذَا سَلَّمْت فَأَسْمِعْ- يعني: إرفع صوتك حتى تسمع غيرك- فَإِنَّهَا تَحِيَّة مِنْ عِنْدَ اللَّه'رواه البخاري في الأدب المفرد. ولم يكن السلام معروفاً في الجاهلية وإنما السلام جاء من شعائر الإسلام، وفيه الفضل والثواب العظيم، فأولى الناس عند الله مَنْ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِاللَّهِ مَنْ بَدَأَهُمْ بِالسَّلَامِ] رواه أبوداود والترمذي وأحمد. فإذا كنت تريد أن تكون الأولى عند الله، والمقدّم؛ فلتكن البادئ لأهل الإسلام بالسلام.
ومن أعظم ما ورد في فضائل التحية والسلام: حديث أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [لَا تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا أَوَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ] رواه مسلم. فإذاً السلام يؤدي إلى المحبة، والمحبة هي من دلائل الإيمان، والإيمان هو مفتاح الجنة.
فهذه فضائل عظيمة تدلنا على الآثار النفسية، وعلى الآثار في الأجر والمثوبة، ولا شك أنك إذا تبسمت ثم سلمت؛ فإن ذلك كما قلنا يزيد من عقد المحبة، ويسهم بقوة في إزالة الجفوة، أو الصد والإعراض، كما أنه أيضاً يُسلم إلى ما بعده فمن سلم صافح، ومن صافح عانق، ومن عانق تحدث ومن تحدث دعا فتفضل، ومن تفضل وأكرم وأضاف إلى غير ذلك مما تتسلسل به العلاقات التي تزيد المحبة والمودة، ومن ثم عرف الصحابة أثر هذه التحية فيما يتعلق بفتح القلوب وغسلها وتنظيفها:
فقال عمر رضي الله عنه: ' ثلاث يصفين لك ود أخيك: أن تسلم عليه إذا لقيته وتوسع له في المجلس وتدعوه بأحب الأسماء إليه'.
والسلام كما قلنا مثل الابتسامة لا يكلف لا مال، ولا تعب ولا جهد، سلم وأكثر من السلام حتى يشيع السلام .
المفتاح الثالث: الهدية والهبة: والهدية:'ما يعطى بقصد إظهار المودة، وحصول الألفة والثواب للأقرباء، أو الأصدقاء، أو العلماء، أو من يحسن الظن به' .
بمعنى أنها تقدم لا يراد بها بدل، وليست هي في مقابل ثمن، أو سلعة، أو نحو ذلك، بل هي ما يقدم بلا عوض بقصد إظهار المودة وحصول الألفة، ومن ثم كانت الهدية مفتاحاً للقلوب، وقد قال القائل في هذا:
هدايا الناس بعضهم لبعض تولد في قلوبهم الوصال
وتزرع في الضمير هوى وودًا وتلبسهم إذا حضروا جمالًا
وهذا أمر ظاهرٌ لا إشكال فيه؛ لأن له معناه وأثره المشهود في طبائع النفوس وسجيتها؛ فإن النفس والقلب لا شك يتأثران بالهدية؛ امتنانًا من صاحبها، وشكرًا له، ومودة ومحبة له، وإضافة لذلك ؛ فإننا نرى دلائل الشرع تؤيد هذا وتؤكده؛ لما في حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: [تَهَادَوْا تَحَابُّوا] رواه البخاري في الأدب المفرد. وهذا من جوامع كلمه عليه الصلاة والسلام لخّص فيه الفعل وأثره : [تَهَادَوْا تَحَابُّوا] أي: اجعلوا بينكم التهادي وتبادل التهادي؛ يحصل بينكم أو يقع لكم أصول المحبة فيما بينكم بإذن الله عز وجل.
وليست الهدية ذات أثر في إيجاد المحبة فقط بل لها أثر بإذن الله في إزالة الجفوة، وفي مسح ما قد يكون من غضب أو ضغينة؛ فإن الإنسان ربما يخطئ على أخيه، فيقع من أثر الخطأ نوع جفوة، أو بعض غضب، أو قليل من شحناء، أو بغضاء، فإذا بادر إلى الهدية، فكأنها لسان حال الاعتذار، وكأنها جلاء ما في القلب من الأقذار والأكدار.
حالات الهدية مع المحبة:
1- استنباط المحبة قبل وجودها:وذلك في الغالب يكون في أوائل العلاقة؛ فإنك تتعرف على إنسان أو تحل ساكناً جديداً، فتبادر القوم، أو يبادرك جيرانك بالهدية؛ ليستنبطوا المحبة، ويغرسوا بذرتها، فتكون بداية لما يأتي بعدها من علاقات، ومعاملات، وإحسان وإكرام، ونحو ذلك .
2- لإظهار المودة: بمعنى أنه قد تكون بينك وبين أخ لك علاقة قوية، وصلة وطيدة، وزيارة متبادلة، والحب بينكم عامر، ولكنك تريد أن تعبر له عن أن محبتك له ومكانته في نفسك عظيمة، فكأن هذا دليل على ما يلمسه من معاملتك وعلاقتك به، وهي- وإن كانت المودة في القلب والمحبة- فإنها بتأكدها وإظهارها .
3- درء الضغينة، وإزالة الجفوة: وذلك إذا وقعت.
وحسبك بهذه الأغراض أثرا في القلوب والنفوس .
ولكي تؤتي الهدية ثمارها المرجوة نقف هذه الوقفة مع بعض التوجيهات والوصايا في الهدايا.
توجيهات ووصايا:
أولاً: الإهداء عند الابتداء: إذا تعرفت على أخ لك ؛ فإنك ما تزال تريد أن يكون بينك وبينه علاقة ولقاء وحديث ومناقشة ومزاورة وربما يطول الوقت حتى تحصل الألفة التامة، لكن كما يقولون:' الهدية مرسول الحب' . فابعث له بهديتك تكون لك رسولاً وما يأتي بعدها يزيدها إن شاء الله.
ثانيًا: الإهداء للأصدقاء والأحباء: فالإهداء للأصدقاء تجديد عهد، واستمرار وود .(/2)
ثالثاً: تحيّن المناسبات للإهداء: ولا شك أن هذا فيه مراعاة لما يدخل الفرصة مضاعفاًً على النفوس، فيكون له أثر أكبر إضافة إلى الربط بين الهدية ومناسبتها، وفيه أيضاً إشعار باهتمامك بهذا الأخ وكأنك تتابع أخباره وأحواله، وهناك مناسبات عديدة والهدية تكون مع ربطها بمناسبتها جميلة ومؤثرة ولها أثرها الكبير .
رابعاً: البعد عن التكلف: فليست الهدية في قيمتها المادية، أو ضخامتها، وإنما في معناها ومغزاها وفي رمزها الذي كما قلنا إنها تطوي وتختصر معاني كثيرة، ورسائل عديدة، فلا ترى القليل من الهدية قليلا لا يستحق أن يهدي، بل قد قال النبي عليه الصلاة والسلام: [إِذَا طَبَخْتَ مَرَقَةً فَأَكْثِرْ مَاءَهَا وَتَعَاهَدْ جِيرَانَكَ]رواه مسلم. ولو من المرق .. ولا شك أنه لكي تدوم الهدايا لابد من البعد عن التكلف.
خامساً: قبول الهدية: وإن كانت قليلة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم ضارباً من نفسه القدوة لغيره: [لَوْ دُعِيتُ إِلَى ذِرَاعٍ أَوْ كُرَاعٍ لَأَجَبْتُ وَلَوْ أُهْدِيَ إِلَيَّ ذِرَاعٌ أَوْ كُرَاعٌ لَقَبِلْتُ]رواه البخاري.
قَالَ اِبْن بَطَّال في تعليقه على هذا الحديث:' أَشَارَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام بِالْكُرَاعِ وَالْفِرْسِن إِلَى الْحَضّ عَلَى قَبُول الْهَدِيَّة وَلَوْ قَلَّتْ لِئَلَّا يَمْتَنِعَ الْبَاعِثُ مِنْ الْهَدِيَّة لِاحْتِقَارِ الشَّيْء , فَحَضَّ عَلَى ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّأَلُّفِ' .وقال ابن حجر أيضاً في هذا الحديث:' وَأُشِيرَ بِذَلِكَ إِلَى الْمُبَالَغَة فِي إِهْدَاء الشَّيْء الْيَسِير وَقَبُوله لَا إِلَى حَقِيقَة الْفِرْسِن لِأَنَّهُ لَمْ تَجْرِ الْعَادَة بِإِهْدَائِهِ أَيْ لَا تَمْنَعُ جَارَة مِنْ الْهَدِيَّة لِجَارَتِهَا الْمَوْجُود عِنْدهَا لِاسْتِقْلَالِهِ بَلْ يَنْبَغِي أَنْ تَجُودَ لَهَا بِمَا تَيَسَّرَ وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا فَهُوَ خَيْرٌ مِنْ الْعَدَم' .
وفي الحديث كما قال ابن حجر:' الحث على التهادي ولو باليسير؛ لأن الكثير قد لا يتيسر في كل وقت' . فإذا قبل النبي صلى الله عليه وسلم مثل هذه الهدايا، فكيف لا يقبلها عامة أمته وهم دونه عليه الصلاة والسلام ؟!
المفتاح الرابع: الزيارة والضيافة: والضيافة سيكون فيها طلاقة وجه، وسيكون فيها تحية وسلام، وسيكون فيها مصافحة ومعانقة، وكل ذلك مما ذكرنا من مفاتيح القلوب، فكأن الضيافة يجتمع بها كل ذلك.
المفتاح الخامس: السماحة: والسماحة تشتمل على معنيين:
أولًا: بذل ما لا يجب تفضلاً وهو الجود والكرم .
ثانياً: التسامح مع الغير في المعاملات . يعني أن يكون سمحاً.
وإذا قيل: فلان سمح فهذا يعني أنه ممن يُؤلف ويحب، ويمكن أن تتعرف عليه بسهولة، وأن تتعامل معه من غير تكلف، وأن تطلب منه من غير حرج... إلى آخر ذلك من الليونة والسهولة في المعاملة، والسماحة أصلاً من تشريعات الإسلام ؛ فإن الإسلام دين سمح قد قال الله عز وجل:{ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ...[185]}[سورة البقرة]. وسماحة الإسلام ظاهرة في أمور كثيرة.
وفي حديث ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الْأَدْيَانِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟ قَالَ: [الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ]رواه البخاري-تعليقا- وأحمد .
والمقصود بالسمحة أي: التي لا ضيق فيها وشدة، وفيها يسر وسهولة، والسماحة ولين المعاملة وغض الطرف أمر مقدَّر له الأجر الكبير، وهو أيضاً مما يؤلف القلوب عليك ويجمعها حولك؛ فإن الإنسان بطبعه لابد أن يخطئ فلابد أن يقع بينه وبين أخيه بعض ما قد يكون سبباً للعتب واللوم، فإذا كان سمحاً يغض الطرف، ويغضي عن الزلل والهفوة، ويسارع إلى الصفح والعفو، فلا شك أن هذا مما يستديم المودة، ويبقي الألفة، وأما إذا كنت تدقق على كل غلط، فتحسب كل كلمة، وتتابع كل حركة، وتقف على كل سكنة، فلا شك أنك ستكون رجلاً صعباً.
السماحة في البيع والشراء: كما قلت ورد في ذلك أجر عظيم، من هذا ما ورد في حديث طويل، وفيه: [ ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ انْظُرُوا فِي النَّارِ هَلْ تَلْقَوْنَ مِنْ أَحَدٍ عَمِلَ خَيْرًا قَطُّ قَالَ فَيَجِدُونَ فِي النَّارِ رَجُلًا فَيَقُولُ لَهُ هَلْ عَمِلْتَ خَيْرًا قَطُّ فَيَقُولُ لَا غَيْرَ أَنِّي كُنْتُ أُسَامِحُ النَّاسَ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَسْمِحُوا لِعَبْدِي كَإِسْمَاحِهِ إِلَى عَبِيدِي] رواه الإمام أحمد، وصححه بعض أهل العلم .
السماحة إذا هوت: بل هو وصف لرسول الله عليه الصلاة والسلام ذكَرته عائشة كما في صحيح مسلم قالت فيه:' وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا سَهْلًا إِذَا هَوِيَتْ الشَّيْءَ تَابَعَهَا عَلَيْهِ' يعني: إذا رغبت في شيء يوافقها عليها.(/3)
ولا يكون-كما يقولون- صلباً قاسياً لا يلين ولا ينقاد، ولذلك السماحة لها أبواب كثيرة .. السماحة مع الأهل في البيت الرجل مع زوجته بعض الناس يريد أن يجعل البيت ثكنة عسكرية، تمشي بالأوامر، وتنضبط بالعقوبات، وتلتزم باللوائح، هذا لا يكون في حياة يومية فيها أخذ ورد، ورضا وغضب، وأنس وانقباض، لابد أن تكون هناك مرونة أن يكون الإنسان كما يقولون: سهلاً مرناً، ولذلك نجد هذا المعنى في النداء القرآني:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ[14]}[سورة التغابن].
السماحة في المعاملات: السماحة في المعاملات، وخاصة فيما يقع بين الناس من الأخذ والرد، وما قد يكون من التجهم أو الغضب، والله عز وجل قد قال:{...وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا[63]}[سورة الفرقان]. يعني: قالوا قولاً يسلمون فيه من الإثم، ولا يتمادون فيه مع من أخطأ، أو جهل، أو غضب. فهذا من السماحة، نوع من الصدق والعفو والصفح والإعراض عن الذنب، والتجاوز عنه، والصفح أعظم من العفو؛ لأن الصفح إزالة أثر الذنب من النفس، أما العفو فهو إسقاط العتب واللوم دون أن يرجع الحب ويبقى في النفس ما يبقى، فقد يعفو الإنسان ولا يصفح، أما إذا أصفح، فإنه قد عفى وأزال الآثار الباقية في النفس، وقد قال عز وجل:{... فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ[85]}[سورة الحجر].
وقد قالوا: السماح رباح. و تربح علاقة خاصة إذا كان الخطأ قد وقع.
السماحة عند التمكن:ومن جميل ما يقال عن معاوية رضي الله عنه أنه قال:' عليكم بالحلم والاحتمال حتى تمكنكم الفرصة فإذا جاءتكم الفرصة عليكم فإذا أمكنتكم فعليكم بالصفح وبالافضال' .
ففي كلا الحالين أمر تألف به النفوس وتترابط به القلوب.وهذا من آثار السماحة والعفو، وهذا كما قلنا يدل على هذه المعاني التي نحن بصددها من تأليف القلوب وجمعها ومحبتها، ولا شك أن السماحة من هذه الأمور؛ لأن عوارض الحياة كثيرة في هذا الشأن، فنسأل الله عز وجل أن يجعلنا من المتخلقين بهذه الصفات،وأن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
من محاضرات:'مفاتيح القلوب' للشيخ/ علي بن عمر بادحدح(/4)
مفارقات هذا العصر
لدينا أبنية أكثر ضخامة من ذي قبل ، و أعصاب أقل هدوءاً ؛
طرقات أعرض ، و وجهات نظر أضيق ؛
نحن نصرف الكثير و نملك القليل ؛
نشتري أكثر و نستمتع أقل .
لدينا منازل أكبر من السابق ، و عائلات أقل عدداً ؛
لدينا وسائل راحة أكثر ، و وقت أقل ؛
لدينا مؤهلات أكثر ، و حكمة أقل ؛
لدينا علم أكثر ، و محاكمة أضعف ؛
لدينا خبراء أكثر ، و مشاكل أكثر ؛
لدينا طب كثير ، و حياة أقل جودة .
نحن نصرف بشكل أكثر تهوراً ، نضحك قليلاً ، نقود بسرعة كبيرة ، نغضب بشدة و بسرعة ، نتأخر دوماً ، نتعب كثيراً ، نقرأ بسرعة شديدة ، نشاهد التلفزيون كثيراً ، و نصلي قليلاً .
لقد أكثرنا ممتلكاتنا ، غير أننا أقللنا قيمتنا .
نحن نتحدث بغزارة ، نحب سريعاً ، و نكذب كثيراً .
تعلمناً كيف نصنع أشياء حيوية ، لا كيف نصنع الحياة ؛
أضفنا سنين للحياة ، و لم نضف حياةً للسنين .
طرقنا جميعاً المسافة إلى القمر ذهاباً و إياباً ، لكننا نجد صعوبة في اجتياز الشارع للتعرف على الجار الجديد
غزونا الفضاء الخارجي ، لا فضاء الروح ؛
صنعنا أشياء أكبر ، لكنها ليست أفضل ؛
قمنا بتعطير الهواء ، لكننا لوثنا الروح ؛
شطرنا الذرة ، و لم نشطر الأحكام المسبقة ؛
نقرأ كثيراً ، و نتعلم قليلاً ؛
نخطط أكثر ، و ننجز أقل .
تعلمنا كيف نندفع سريعاً ، لا كيف ننتظر ؛
لدينا دخل أعلى ، و أخلاق أقل ؛
طعام أكثر ، و سكون أقل ؛
اطلاع أشد ، و أصدقاء أقل ؛
جهد أكبر ، و نجاح أقل .
نصنع حواسب أكثر و أكبر لخزن كميات أكبر من المعلومات و إنشاء نسخ أكثر ، لكننا أقل تواصلاً ؛
أصبحنا أطول كماً ، و أقصر نوعاً .
إنه زمن الأطعمة السريعة و الهضم البطيء ؛
رجال طوال ذوي طباع ضئيلة ؛
مكاسب ضخمة ، و علاقات ضحلة .
إنها أزمنة السلام العالمي ، و الصراعات العائلية ؛
أوقات فراغ أطول ، و متع أقل ؛
أنواع طعام أكثر ، و غذاء أقل .
إنها أيام الدخل المزدوج ، و الطلاق السريع ؛
المنازل الأوسع ، و البيوت المهدمة ؛
إنها أيام الأسفار السريعة ، و الأنسجة المخصصة للاستعمال مرة واحدة ، و النشرات اللاأخلاقية ، و الإقامة لليلة واحدة ، و الأجسام السمينة ، و الحبوب التي تقوم بكل شيء من البهجة و الهدوء حتى الموت .
إنه زمان فيه الكثير على واجهات العرض ، و لا شيء في المخازن .(/1)
مفاسد ظاهرة وأقدار نافذة وحكمة ربانية قادمة
الكاتب: الشيخ أ.د.عبد الله قادري الأهدل
زرت كثيرا من الدول في العالم شرقيه وغربيه، ومنها دول أوربا الغربية، والولايات المتحدة الأمريكية، وكندا و بعض الدول تكررت زياراتي لها، وكتبت مذكراتي عن تلك الزيارات، وسميتها: "سلسلة في المشارق والمغارب".
وكنت أرى أن الفرصة المتاحة للمسلمين في الغرب لنشر الدعوة إلى الله في ظل قوانين تلك الدول، مغرية و مسهلة لنشاطهم وتوطين دينهم في ذلك المجتمع، مع ما فيه من معوقات اجتماعية وثقافية وتشويه إعلامي وتعليمي لهذا الدين ومع وجود أحزاب وجمعيات شديدة الحقد على الإسلام والمسلمين، تود وتطالب دولها بطرد المسلمين من بلادهم إن لم يتأقلموا مع عادات الغرب وتقاليده.
أقول: مع ذلك كله كنت أرى الفرصة ـ في ظل القوانين النافذة هناك ـ سيكون لها تأثير كبير في انتشار الإسلام في الغرب.
إذ كان المسلمون قادرين على إنشاء مدارس ومعاهد وكليات وجامعات ومساجد ومراكز إسلامية، وأوقاف مؤسسات مالية، ومطابع ومكتبات ووسائل إعلامية محدودة ـ في أول الأمر ـ وقد تتسع فيما بعد.
وقد تمكنوا فعلا من إنشاء بعض تلك المرافق في كثير من البلدان الغربية، فشيدوا المساجد بجوار الكنائس أو حولوا بعضها إلى مساجد، وبنوا المدارس وكونوا الجمعيات الخيرية والطلابية وأنشأ بعضهم الأوقاف، وأقاموا الكليات وانتشر طلابهم في المدارس والكليات والجامعات الرسمية والمراكز العلمية والتخصصات الدقيقة.
ولم يكن ينقصهم لنشر دينهم بقوة إلا اجتماع كلمتهم واعتصامهم جميعا بحبل الله والإرادة القوية والوسائل المادية.
وأصبح الدين الإسلامي في بعض تلك البلدان في المرتبة الثانية بعد النصرانية التي هي دين شعوبها ودولها، بل إن بعض الدول اعترفت بالإسلام رسميا وترتب على ذلك معاملة أهله معاملة رسمية في فتح المدارس وإعاناتها.
وكانت الأحزاب الحاكمة وكثير من المحاكم المدنية ـ مع خوفها من قوة انتشار الإسلام ـ تمنع المتشددين من العدوان على المسلمين ومرافقهم.
وكانت الجمعيات الإسلامية الخيرية تجمع الأموال في المساجد لمساعدة المسلمين في بلدانهم، وقد أشرت إلى أنواع الإمكانات المتاحة لنشر الإسلام في مذكراتي الخاصة بالدول الغربية، في أوربا والولايات المتحدة وكندا وأستراليا واليابان، ولخصتها في محاضرتي التي ألقيتها في قاعة المحاضرات الكبرى في الجامعة الإسلامية والتي طبعت في رسالة صغيرة بعنوان: "الدعوة إلى الإسلام في أوربا"
ولقد كان الحوار يدور بين رجال الدعوة والتعليم المسلمين حول كيفية تقوية توطين الإسلام في الغرب، وأذكر أن بعض كبار موظفي الجامعة الإسلامية تحدث معي في هذا الموضوع معجبا بالفرص المتاحة لها لتوطين الإسلام في البلدان الغربية في ظل القوانين المعمول بها هناك.
ولقد قصر المسلمون في البلدان الإسلامية ومنها غالب الدول العربية، في مساعدة أبنائنا في الغرب بالمال الذي يمكن من يريد منهم العمل لنشر الإسلام بالطرق القانونية السلمية المدنية المتاحة، التي كانت ستجعل المسلمين يتغلغلون في صفوف الغربيين ساسة وإعلاميين واقتصاديين حتى يصبحوا قوة لا يستهان بها تأخذ حقوقها كاملة وتدافع عن حقوق بلدانها مع نشر دينها.
واغتنم تلك الفرص اليهود فكونوا الجمعيات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وتكاتفوا فيما بينهم وخططوا للتغلغل في صفوف الغربيين، حتى وصلوا إلى ما وصلوا إليه من القوة التي مكنتهم من السيطرة على وسائل الإعلام وعلى مسيرة الاقتصاد والتحكم في الكتل التشريعية والتنفيذية وكثبر من المرافق العامة، وبخاصة في أمريكا التي رأوا فيها المسلمين يتكاثرون ومراكزهم تتوسع وتنتشر ووعيهم يقوى وتنظيمهم يتقدم، فأرعبهم ذلك وخافوا من أن يأتي يوم يجدون فيه المسلمين ينافسونهم في هذا البلد الذي استأثروا به وجنوا في ما لم يجنه منه أهله.
وكان كثير من قادة أمريكا يستجيبون لهم ويدعمونهم سياسيا ودبلوماسيا وإعلاميا واقتصاديا وعسكريا، ولكنهم لم يصلوا في دعمهم لهم إلى تغيير قوانينهم تغييرا يمكنهم من البطش بالمسلمين في داخل أمريكا راعية الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان.
ولكن ذلك كله وغيره مما تمناه اليهود كما يظهر ذلك من كتاب اليهودي الحاقد "نتنياهو" في كتابه "استئصال الإرهاب" حصل بعد أحداث نيويورك، فقد غيرت أمريكا قوانينها وداست بأقدامها على الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، فاعتدى قادتها على المسلمين في داخلها وخارجها واحتلوا بلدانهم وخربوا ديارهم واغتصبوا مواردهم وعاثوا في الأرض فسادا، وأصبح المسلمون يتلقون الإذلال والظلم في بلدانهم وفي بلدان الغرب.(/1)
بل أصبح بعض حكام المسلمين المناهضين للإسلام ودعاته يعتدون هم ومن شايعهم من المنافقين الذين ملئت قلوبهم حقدا على هذا الدين يهاجمون صميم الإسلام ومناهجه وأحكامه وأخلاقه، مناصرين لقادة الصليبيين واليهود الجدد، باسم الإرهاب والإرهابيين، وينسون عدوان الدول الغربية واليهود على الإسلام والمسلمين في العراق وأفغانستان وفي قلب الوطن الإسلامي :"فلسطين" وقدسها وأقصاها.
مفاسد لا حصر لها حلت بهذه الأمة وزلزلت أركان دولها وشعوبها، هذه المفاسد كان قادة الصليب واليهود الصهاينة عازمين عليها بابتكار أي وسيلة يتذرعون بها كما فعلوا في حربي الخليج السابقتين.
ولكن أحداث نيويورك التي اعترف بها شباب القاعدة ـ والله أعلم أكانوا مستقلين بفعلها أم سهل لهم ارتكابها بدون علم منهم من يريد إحداثها ليقضي بها مآربه ـ ولكن تلك الأحداث مهما كان أمرها عجلت بهذه المفاسد وغيرها، وهي بلا شك مما نفذ بها قدر الله الذي لا يكون شيء في الكون إلا عن بمشيئته القدرية المطلقة التي لا راد لها غيره، فإنه وحده الذي يقول للشيء: كن فيكون.
ونحن نعلم أن لله تعالى حكمة في كل ما قدره ويقدره في الكون، قد نعلم بعضها ويخفى علينا بعضها، وقد لا نعلم شيئا منها.
والذي يبدوا لنا من حكمته في هذه الأحداث وما ترتب عليها من مفاسد الأمور الآتية:
الأمر الأول: أن تصرفات بعض المسلمين التي لم تبن على فقه دقيق في دين الله ومعرفة لما يترتب عليها من مصالح أو مفاسد، من أسباب الفتن والمصائب التي لا تخص الفاعل بل تعمه وتعم غيره، كما قال تعالى:
((واتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)) [الأنفال 25]
الأمر الثاني: أن بعض الشباب لم يفهموا من معنى الجهاد إلا حمل السلاح واستعماله ضد الأعداء كيفما كانت العواقب، فكان من آثار هذا الفهم ما حصل من فتن وشرور على المسلمين، ولو أنهم فهموا الجهاد بمعناه الشامل، وأن بعض أنواعه السلمية في بعض الظروف أفضل من الجهاد بالسلاح، مثل التعليم والإعلام وإعانة الدعاة والمفكرين في البلدان الإسلامية وفي الغرب بما يجعلهم ينشرون الإسلام بالدعوة والقدوة الحسنة بين تلك البلدان، وما شابه ذلك مما كانت الفرص متاحة له لكان لذلك شأن عظيم ولأقبل كثير من الغربيين على تفهم الإسلام والدخول فيه، واستوطن الإسلام والمسلمون في الغرب بدون مضايقة ولا فتن.
الأمر الثالث: أن كثيرا من المسلمين ابتعدوا عن تطبيق دينهم في بلدانهم، وحاربه بعضهم حربا لا هوادة فيها، واختلفوا فيما بينهم واقتتلوا بالسلاح فسلط الله تعالى عليهم عدوهم فغزاهم في عقر دارهم وسيطر عليهم وأفقد هم سيادتهم على أرضهم لينبههم على تقصيرهم بهذا التأديب الذي لا يرفعه عنهم إلا بعودتهم إليه واجتماع كلمتهم على الحق والتزام العدل والتقوى، وبالعمل الدءوب على امتلاك القوة التي أمرهم الله بها لرفع راية دينه ودفع العدوان عنها.
الأمر الرابع: أن اليهود وأذنابهم من قادة الصليبيين الجدد، قد طغوا في الأرض وتجبروا بما آتاهم الله تعالى من بركات السماء والأرض ، فاغتروا بها واستعملوها في معصيته في أنفسهم وفي العدوان على غيرهم، وأصبحوا يقولون بلسان حالهم وقالهم: ((فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً...)) [فصلت (15)]
فأراد الله تعالى أن يستدرجهم من حيث لا يعلمون، فيريهم أنه هو أشد منهم قوة، وأن قوتهم التي آتاهم قد تكون وبالا عليهم في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى في تمام آية فصلت السابقة: ((أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ))
وقال تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ)) [الأنفال (36)]
ونحن على ثقة أن قول الله تعالى حق لا بد أن يتحقق، لأن قوله صدق ووعده لا يتخلف، لأنه على كل شيء قدير، ولكنه تعالى قد يمهل ولا يهمل، كما قال تعالى: ((فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) [القلم]
وفي مصير الأمم السابقة من عاد وثمود وقوم نوم نوح وغيرها عبرة لغيرها من الأمم الحاضرة واللاحقة، كما قال تعالى: ((وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37) [ق]
وفي مملكتي فارس والروم عبرة.(/2)
وفي عصرنا الحاضر شهدنا كيف كانت المملكة المتحدة التي اعتدت على العالم في مشارق الأرض ومغاربها، وقد قيل فيها آنذاك: "الدولة التي لا تغيب عنها الشمس".
وقبل سنين شهدنا كيف مزق الله "الاتحاد السوفييتي" شر ممزق، فأصبح بعد غروره وتجبره لا قيمة له في الأرض أمام من هو أقوى منه.
وهؤلاء قادة الصليب الجدد ينفقون الأموال ويصنعون أسلحة الموت ويحاولون أن يسودوا العالم بالظلم والعدوان من فيتنام واليابان إلى أمريكا الجنوبية، وبخاصة بلدان المسلمين وأخص منها الدول العربية، ملأت جيوشها وأسلحتها البر والبحر والجو، ولم يبق بلد في الأرض خليا من عدوانهم.
وهاهم هؤلاء القادة المعتدون يعظون شعوبهم التي بدأت تنكر عليهم ظلمهم بالصبر على ظلم الشعوب بقتل أنفسهم فيها بدون هدف إلا تحقيق رغبة فراعنة العصر، الذين يقبعون في ظلال البيت الأبيض متنعمين وفي حدائقهم الغناء يلهون ويلعبون.
وجيوشهم يبيعون أنفسهم بثمن بخس من الدولارات فيقتلون الناس ظلما وإلى جهنم يحشرون، تلهبهم شدة شمس العراق وتتفجر فيهم براكين قنابل أحرار المجاهدين الذين يأبون أن يبيتو على ضيم.
ارتفع غضب شعوبهم عليهم وأعلنوا عن ذلك بمظاهراتهم التي قد ترتفع فتصل إلى أكثر مما وصلت إليه مظاهراتهم في حرب فيتنام، وسمع العالم إحدى الأمهات التي قتل ابنها في العراق، وهي مرابطة في خيمتها بجانب مزرعة رئيس العدوان، وهي تصرخ في الفضائيات:
"حسنا يا سيادة الرئيس فقد عصيناك".
فما حصل من بعض المسلمين من مخالفة سنن الله الكونية والشرعية من حمل السلاح بدون تأن ولا روية ولا تفكير في العواقب المترتبة عليه، قد نفذت به الأقدار الربانية.
وما حصل لبعض المسلمين الذين ابتعدو عن دين الله وحاربوا تطبيقه، ولم يعدوا العدة التي يدفعون بها عدوان المعتدين، وما حصل من غرور وبطر وعدوان من أعداء الله من اليهود والنصارى الذين ذاقوا بعضا من وبال أمرهم، وسيذوقون غيره، هو بعض من حكمة الله، وهناك حكم أخرى قد لا تظهر لنا اليوم ولكنها ستظهر غدا لمن بقي على قيد الحياة:
((فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً)) [فاطر (43)](/3)
مفاهيم تهم الداعية المغترب
عبد الرزاق الكندي
الحمد لله وحده .. والصلاة والسلام على رسول الله .
أما بعد : فقد تحدثنا في الحلقتين الماضيتين عن وحدة الكلمة ،وعن مفهوم التعاون فيما اختلفنا فيه،واليوم نواصل الحديث عن فقه المرحلة.
فقه المرحلة
معنى المصطلح :
إن مصطلح فقه المرحلة ليس بدعاً من القول فالمراد بالفقه الفهم والفطنة لغة,والفهم لأحكام الشرع العلمية والعملية وهو المراد بالفقه في النصوص الشرعية .
وأما المرحلة فأصلها المسافة التي يقطعها الراحل – المسافر – بالإبل المحملة في يوم وليلة ، ومعلوم أن ذلك يختلف باختلاف طبيعة المكان الذي يسير فيه فالمسافة التي يقطعها في السهل غير التي يقطعها في الجبال والهضاب- بنفس الزمن- كما أن لكل مرحلة ركوبها وفي صحيح مسلم أن رسول الله صلىالله عليه وسلم حين دفع من عرفات كان يسير العنق –والعنق المشي برفق-فإذا وجد فجوة نص- أي سار سيراً شديداً-(1)والمراد بالمرحلة في المصطلح طبيعة الوضع الذي يعيشه الداعية في زمان أو مكان ما .
شرعية المصطلح :-
من المعلوم أن الدعاة إلى الله يقطعون المراحل المختلفة وكل مرحلة تحتاج إلى فقه خاص في حاجياتها وترتيب أولوياتها وطريقة السير ووسائله فلابد من إدراك أن ما لا يجوز في مرحلة قد يجوز في أخرى والعكس .
وقد دلت النصوص الشرعية على فقه المرحلة – أي أنّ لكل مرحلة وضعاً خاصاً منح الشارع المكلف فيه مرونة في التعامل معه- فمن ذلك ما رواه أحمد والترمذي وأبو داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: نهى أن تقطع الأيدي في الغزاة (2).وقد كتب عمر-رضي الله عنه-إلى الناس أن لا يجلدن أمير جيش ولاسرية رجلاً من المسلمين حداً وهو غازٍ,حتى يقطع الدرب قافلاً,لئلا تلحقه حمية الشيطان فيلحق بالكفار(3).ومع أن القطع من الحدود التي لا يتساهل الشارع في إقامتها لكن الظرف الذي تعيشه الجماعة المسلمة في الحرب فيه من الإشكالية ما جعل تأخير إقامة الحد خشية الفتنة واللحاق بالعدو أمراً مشروعاً,فأعطى الشارع المحارب حصانة فترة الحرب حتى تنتهي ويرجع إلى دار الاسلام0
ومما يدل على شرعية المصطلح أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى أبا دجانة يختال في مشيته بين الصفين يوم أحد قال إنها مشية يبغضها الله إلا في مثل هذا الموضع(4) , وهذا يدل على تقدير النبي صلى الله عليه وسلم لحساسية الموقف وأن للظروف الخاصة فقهها الخاص, وفي قصة قتل كعب بن الأشرف دلالة أخرى على شرعية المصطلح فقد روى البخاري ومسلم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من لكعب بن الأشرف فإنه آذى الله ورسوله ، فقام محمد بن مسلمة فقال : يا رسول الله أتحب أن أقتله ؟ قال : نعم قال : فأذن لي أن أقول شيئاً, قال : قل
(5).قال الحافظ ابن حجر : وقد ظهر من سياق ابن سعد للقصة أنهم استأذنوا أن يشكوا منه – أي من النبي - ويعيبوا رأيه ولهذا جاء في روايته أن محمد بن مسلمة قال لكعب :" كان قدوم هذا الرجل علينا من البلاء, حاربتنا العرب ورمتنا عن قوس واحدة "(6)ففي هذا الحديث دلالة واضحة على المرونة التي منحها الشارع الحكيم للمكلف عند التحرك الميداني, وقد سئل الشيخ ابن عثيمين- رحمه الله- أهي رخصة لمحمد بن مسلمة أم للمسلمين عامة ؟ فأجاب بل هي رخصة لكل من يستطيع أن يحقق للإسلام مصلحة عظيمة(7).ومن الأدلة إقرار النبي صلى الله عليه وسلم لسلوك علي والزبير والمقداد – رضي الله عنهم – مع المرأة التي حملت كتاب حاطب بن أبي بلتعة – رضي الله عنه – إلى المشركين ، حيث هددوها تهديداً جازماً بتجريدها من ملابسها إذا لم تخرج الكتاب(8),مع أن ذلك كان بعد فرض الحجاب, والأصل أن أعراض
المسلمين مصونة بأصل الشرع ولكن الموقف يتيح التحرك بمساحة أوسع
والأدلة على شرعية فقه المرحلة كثيرة والمقال إشارات للداعية المغترب .
العمل بفقه المرحلة :
إذا تقررت شرعية المصطلح أدرك الداعية في أرض الغربة وغيرها أن الشارع الحكيم يمنحه من المرونة في العمل الميداني ما يجعله يقطع المراحل على بصيرة دون مصادمة للسنن الكونية أو الشرعية مدركاً الحرب الشرسة الدائرة على الإسلام بكل مذاهبه وتياراته(9).
فمثلاً من فقه المرحلة– للداعية المغترب- ألاّ يستعدي الفرق والمذاهب المخالفة لأهل السنة في جزئيات أو كليات بل ولا يستعدي بعض الملل الكفرية التي تجمعه بها مصالح مشتركة في مواجهة من هو أكفر منها – وهذا لا يعني إقرارها, بل تُربى الأجيال على الطريق القويم والصراط المستقيم وعدم الخلط بين تحقيق مبدأ الولاء والبراء ومراعاة الحال زماناً ومكاناً ودرء المفاسد الكبرى,وبينهما خيطٌ رفيع يوفق إليه من سلمت فطرته وفقه دينه, وإنما أعني عدم الاستفزاز والمواجهة- فهذا شيخ الإسلام سكت عن أهل البدع زمن حرب التتار وهو من هو غيرة على الإسلام والمسلمين, بل هذا القرآن الكريم يقر فرح المؤمنين بانتصار الروم على الفرس ويسميه نصر الله كما في سورة الروم(10)(/1)
ومن فقه المرحلة – للداعية المغترب- الاستفادة من القوانين الجاهلية لحماية الدعوة فقد استفاد من حماية عمه أبي طالب له, ودخل في جوار المطعم بن عدي وهو كافر,
ومن فقه المرحلة أيضاً- في بعض الظروف- قبول قيادة الناصحين للإسلام وإن كانوا على بدعه- ما لم تكن مكفرة- وقد قاتل كثير من السلف تحت قيادة من كان معروفاً ببدعة, وهذا يختلف باختلاف المرحلة التي يعيشها الداعية, فما يسعه في مرحلة قد لا يسع غيره .
وإدراك فقه المرحلة يذهب العتب بين الدعاة أفراداً وجماعات, ويُوجد التعاذر والتغافر.
ولا يُشكل على ما تقرر أن الدين قد اكتمل, فإن فقه المرحلة من كمال الدين وتمام النعمة.
الكلمة لمن :
إن المرونة التي منحها الشارع الحكيم للداعية عند التحرك الميداني ليست مرسلة لكل من آنس من نفسه اشتغالاً بالدعوة إلى الله فالأمر بالغ الخطورة, حيث إن فيه موازنة وفقه,وفيه حلال وحرام وليس حكماً واحداً على حال ثابتة, فالكلمة فيه لأهل العلم المدركين طبيعة التحرك الميداني .
وأخيراً :
وأنت في أرض الغربة اعلم أنه قد سبقك إلى الميدان كثير من الدعاة والمصلحين أسسوا المراكز الإسلامية وقعّدوا للعمل الدعوي, منهم من هو من أهل فقه المرحلة فاجتهد أن تبني فوق بناء من سبق.
أسأل الله أن يلهمنا جميعاً الرشد والسداد
والله يرعانا ويرعاك
وإلى لقاء قادم بإذن الله تعالى .
--------------------
(1) -صحيح مسلم كتاب الحج باب 47/حديث رقم 283
(2) - أحمد حديث 1969وأبو داود كتاب الحدود 2/441 والترمذي حديث رقم 1450والحديث وإن كان فيه مقال فإن إجماع الصحابة على ذلك يقويه وقد نقل إجماعهم ابن قدامة في المغني 13/173
(3) - عبد الرزاق في المصنف 5/197
(4) - الطبراني6/109
(5) - البخاري كتاب المغازي /باب قتل محمد بن مسلمة ,ومسلم كتاب الجهاد والسير باب قتل كعب بن الاشرف حديث رقم1801
(6) - انظر فتح الباري 7/338
(7) - راجع شرح الشيخ أبن عثيمين-رحمه الله-لصحيح مسلم في كتاب الجهاد والسير/باب قتل كعب بن الاشرف
(8) - البخاري/كتاب المغازي-باب غزوة الفتح وما بعث به حاطب بن أبي بلتعة حيث رقم42743
(9) - عدا تلك المذاهب الباطنية التي تعد طابوراً خامساً لأعداء الله, كالقاديانية والبهائية ونحوها .
(10) - الآيات 1-5 من سورة الروم .(/2)
مفسدات الأخوة
رئيسي :أخلاق :الاثنين 1 صفر 1425هـ - 22 مارس 2004م
كم تصبح الحياة قاسية حين ينضب معين الأخوة، وتجف ينابيع الحب في الله، وإذا حلِّت الأنانية وحب الذات محل الأخوة عند ذلك يعيش الفرد حياة نكدة، ويشعر بعزلة قاسية عن مجتمعه.
كثير من الناس يمارس ألوانًا من مفسدات الأخوة، فيتفنن في إبعاد الآخرين عنه، تارة يشعر بذلك، وتارة لا يشعر بذلك، فيعيش عزلة نفسية يتجرعها في الدنيا.
وانطلاقًا من هذا نحاول أن نتكلم عن مفسدات الأخوة في الله، ولكن قبل ذلك لا بد أن نقوم بجولة في رياض السنة لنقتطف بعض الأحاديث الثابتة عن الأخوة في الله، والحب في الله، ونزينها ببعض أقاويل سلف الأمة، وقبل ذلك يقول سبحانه وتعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ...[10]}[سورة الحجرات] .وذكر من نعيم أهل الجنة المعنوي:{ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ[47]}[سورة الحجر]. فإن الذي ينغص ويفسد جو الإخوة أن يكون في القلوب غلٌ وحقدٌ وحسدٌ، ينكد على الإنسان عيشته في الدنيا.
وذكر صلى الله عليه وسلم في حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: [... وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ...] رواه البخاري ومسلم. وفي الحديث القدسي: [قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمُتَحَابُّونَ فِي جَلَالِي لَهُمْ مَنَابِرُ مِنْ نُورٍ يَغْبِطُهُمْ النَّبِيُّونَ وَالشُّهَدَاءُ]رواه الترمذي وأحمد.
وفي الحديث القدسي الآخر يقول: [حَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَحَابِّينَ فِيَّ وَحَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَزَاوِرِينَ فِيَّ وَحَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَبَاذِلِينَ فِيَّ وَحَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَوَاصِلِينَ فِيَّ] رواه مالك وأحمد.
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [أَنَّ رَجُلًا زَارَ أَخًا لَهُ فِي قَرْيَةٍ أُخْرَى فَأَرْصَدَ اللَّهُ لَهُ عَلَى مَدْرَجَتِهِ مَلَكًا فَلَمَّا أَتَى عَلَيْهِ قَالَ أَيْنَ تُرِيدُ قَالَ أُرِيدُ أَخًا لِي فِي هَذِهِ الْقَرْيَةِ قَالَ هَلْ لَكَ عَلَيْهِ مِنْ نِعْمَةٍ تَرُبُّهَا قَالَ لَا غَيْرَ أَنِّي أَحْبَبْتُهُ فِي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ فَإِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكَ بِأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَبَّكَ كَمَا أَحْبَبْتَهُ فِيهِ] رواه مسلم.
أما أقوال السلف:
فيقول محمد بن المنكدر -لما سئل ما بقي من لذته في هذه الحياة؟- قال: 'لقاء الإخوان وإدخال السرور عليهم'.
وقال الحسن: 'إخواننا أحب إلينا من أهلينا؛ إخواننا يذكرونا بالآخرة، وأهلونا يذكرونا بالدنيا'.
وسئل سفيان: ما ماء العيش؟ قال: 'لقاء الإخوان'. وقيل:'حلية المرء كثرة إخوانه'. وقال خالد بن صفوان: 'إن أعجز الناس من يقصر في طلب الإخوان، وأعجز منه من ضيع من ظفر بهم'..
تأمل هذه الأقوال الجميلة: آيات الله، وأحاديث الرسول، وأقوال سلف الأمة، وانظر إلى الواقع؛ يعطيك دليلاً على واقعيتها ومصداقيتها.. فمن الذي أعانك على الالتزام والدخول في عالم الهداية؟ من الذي يثبتك على طريق الاستقامة في خضم هذه الفتن؟ من الذي تبث إليه همومك؟ من الذي يقف معك عند النكبات والأزمات؟ لذلك قال عمر:'لقاء الإخوان جلاء الأحزان'.
إذاً كيف يطيب لعاقل أن يقطع أواصر الأخوة ليعيش حياة الهموم والغموم بعيدًا عن فضائل الأخوة في الله ونتائجها العظيمة؟!
مفسدات الأخوة:
هناك مفسدات كثيرة نذكر منها:
أولاً: الطمع في الدنيا بما في أيدي إخوانك: قال صلى الله عليه وسلم: [ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا يُحِبَّكَ اللَّهُ وَازْهَدْ فِيمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ يُحِبُّوكَ] رواه ابن ماجة. فلا شك أن الذي يتطلع لما في يدك لا تحبه، والذي يشعرك بالزهد في ما بين يديك تجله، وتجعل له تقديرًا لائقًا به، لذلك لا ينبغي للعاقل أن يتطلع لما في أيدي الناس.
وإذا ألمت بك مصيبة؛ فاطلب مشورة أخيك، ولا تطلب منه حاجتك، فهو إن كان يعزك ويعرف قدرك؛ فسينبري لمساعدتك، ولا حاجة للطلب وإراقة ماء الوجه.
ثانيًا:المعاصي، وتضييع الطاعات: فإذا نضبت ساعة الصحبة من الذكر والعبادة، أو التناصح والتذكير والتعليم؛ فإن الجفاف ينزل في هذه الصحبة والعلاقة بسبب قسوة القلب والملل؛ حيث ينفتح باب الشر، بل أبواب الشر، فينشغل كل واحد بأخيه، وصدق رسول الله عندما قال: [الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ مَا تَوَادَّ اثْنَانِ فَفُرِّقَ بَيْنَهُمَا إِلَّا بِذَنْبٍ يُحْدِثُهُ أَحَدُهُمَا]رواه أحمد.(/1)
لذلك ذكر ابن القيم رحمه الله في 'الجواب الكافي': 'من آثار المعصية وحشة يجدها العاصي مع إخوانه' . لذلك تجد المنتكسين الذين بدأوا في مسلسل الضعف يتحاشون لقاء الإخوان، فالمعاصي قطعت العلائق؛ لأنه قطع الصلة بالله، فانقطعت الصلة مع أحببته في الله.
وانظر وتفقد قلبك هل تشعر براحة وانشراح صدر حين تلقى إخوانك الجادين، أم تتوارى وتشعر بالحرج، راقب نفسك، حاسب نفسك.
أما أصحاب المعاصي والمنكرات فعلائقهم مادية تراهم في يوم في ضحك وجلسات وسفرات، ثم تنقلب إلى عداوة؛ لأنها ما بنيت على تقوى، ثم يكون لهم الخزي والعار يوم القيامة:{ الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ[67]}[سورة الزخرف] . أخوة في الله في الدنيا، وتواصل في الجنان {...إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ[47]}[سورة الحجر] .
ثالثًا: عدم التزام الآداب الشرعية في الحديث: فقد ترك لنا النبي منهجًا راقيًا، يبني علاقاتنا، ويزكي نفوسنا، ويهذب مشاعرنا، ويصفي علاقاتنا، من ذلك:
اختيار أطايب الكلام في محادثة الإخوان: قال سبحانه:{ وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا[53]}[سورة الإسراء] . يسميه الناس الآن الاصطياد في الماء العكر، يلقي كلمة ما قصد بها شراً، لكن تحتمل معاني، هذه فرصة الشيطان: يقصدك.. تنقصك.. يرمي إلى كذا.. هل يقصد كذا؟
لذلك وجب على المتحابين أن ينتقوا أطايب الكلام كما ينتقون أطايب الطعام، وقديمًا قال النبي: [...الْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ...]رواه البخاري ومسلم. وقال سبحانه موجهًا إلى خفض الصوت مع الإخوان:{...وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ[19]}[سورة لقمان].
تكلم بالكلمة التي تسمع أخيك، أما أن تتطاول بالكلام وترفع صوتك فأنت تقطع علاقاتك من حيث تشعر أو لا تشعر.
وبعض الناس -حتى ولو لم يكن مثاراً ولم يكن في حالة غضب- لم يتعود على الكلام المهذب، ديدنه رفع الصوت، والسباب والشتم، والاحتقار والسخرية، فيزرع العداوات، ويقضي على العلاقات.
رابعًا:كذلك من الآداب التي نحتاجها في بناء علاقاتنا وتصفية علائقنا: الإصغاء إلى المتحدث والإقبال إليه بالوجه في الكلام والسلام: لذلك قال أحد السلف 'إن الرجل ليحدثني بالحديث أعرفه قبل أن تلده أمه، فيحملني حسن الأدب على الاستماع إليه حتى يفرغ'.
وقال الشاعر:
وتراه يصغي للحديث بسمعه وبقلبه ولعله أدرى به
أدرى بالحديث ومراميه، ومع ذلك يعطي أدبًا في فن الاستماع.. بينما بعض الناس بمجرد أن يسمع كلمة، تراه يقول أنا أفهم هذا.. أنا مر عليّ هذا.. كأنه يقول: أنت جاهل، فقدرك أن تكون مستمعًا !
خامسًا:المبالغة في المزاح إلى حد الجرأة خاصة مع أهل الفضل: لذلك قالوا: 'كثرة المزاح تجرأ السفهاء، وتسقط الهيبة' مزاح، نكتة سخيفة، تعليقة لا قيمة لها.. لا يا أخي، لم يكن النبي بهذا الشكل، كان مزحه خفيفًا، وملائمًا، وكثير من الناس تقطعت علاقاتهم بسبب مزحة ثقيلة، أو تعليقة سخيفة، أليس كذلك؟
سادسًا:المراء والجدال: قد تنقطع العلاقة المتينة بسبب جدال عقيم، داخلته حظوظ النفس، وبتغريرٍ من الشيطان يدافع عن عقيدته ووطنه، وهو في الحقيقة يدافع عن ذاته وكبريائه، بسبب بروز طبائع العناد والمكابرة، فلا يبقى معها مكان للأخوة، ولا تقدير للعِشرة.
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول: [إِنَّ أَبْغَضَ الرِّجَالِ إِلَى اللَّهِ الْأَلَدُّ الْخَصِمُ]رواه البخاري ومسلم. كثير الخصومة.. افتعال المعارك الكلامية.. حب الجدال والمناظرة وإظهار الرأي.. هذا أبغض الناس إلى الله.
وقال صلى الله عليه وسلم: [مَا ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدًى كَانُوا عَلَيْهِ إِلَّا أُوتُوا الْجَدَلَ...]رواه الترمذي وابن ماجة وأحمد.
إذن من علامات الخذلان وضياع الهداية أن يؤتى الإنسان الجدل، كأنه ينتصر لقضية وهو ينتصر لنفسه، وكل هذه الأدوات، وهذه الحجج موظفة لنفسه.
أما الجدال بالتي هي أحسن لبيان الحق للجاهل والمبتدع، فلا بأس به، لكن إذا خرج الجدال عن إطاره المشروع، وبدأت حظوظ النفس تتسلل، وظهر لك أن الخصم جدلي مقيت لا يريد حقاً، إنما يرد مشاغبة، فانسحب بلطف، فالجدال الذي من أجل إظهار النفس لا طائل من ورائه، ولا شك أنه دليل على ضعف الإيمان، وقلة التربية.
فهذا الجدال قد يذهب بالأخوة يرتفع صوته ويشق على أخيه.. لماذا؟ يريد أن يثبت أمام الناس أنه أقوى حجة، فيقطع علاقة متينة؛ لأنه أورث الجدل.
سابعًا:من مفسدات الأخوة: النجوى: أشياء بسيطة في ظاهرها لكن لها معانٍ عميقة لمن يفكرون في بناء العلاقات الصحيحة، المؤسسة على كتاب الله، وسنة رسوله:{ إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا...[10]}[سورة المجادلة].(/2)
ما معنى النجوى؟ يفصلها النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول: [ إِذَا كُنْتُمْ ثَلَاثَةً فَلَا يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ صَاحِبِهِمَا فَإِنَّ ذَلِكَ يُحْزِنُهُ] رواه البخاري ومسلم-واللفظ له- .
قال العلماء:إن الشيطان يوسوس له ويقول له: إنهم يتكلمون فيك، ويستهدفونك في كلامهم، فاشترط العلماء طلب الإذن قبل المناجاة إن كان هناك حاجة. بل قال بعضهم: إذا ظهرت على الأخ أمارات الريبة، فأبن له أطراف الموضوع إن كان سائغًا، حتى تطيب نفسه بأنه ليس له علاقة بالحديث، وأنه لن يذكر من بعيد، ولا قريب. . آداب نبوية لمن أراد أن يبني الأخوة على أسس صحيحة، وهكذا الأخ ينبغي عليه إذا ظن به ظناً أن يستعيذ بالله من الظنون السيئة.
من خطبة:'مفسدات الأخوة' للشيخ / سعد الغنام(/3)
مفطرات الصيام المعاصرة
الكاتب: الشيخ د.نايف بن أحمد الحمد
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وبعد فقد اطلعت على كتاب ( مفطرات الصيام المعاصرة ) للشيخ د. أحمد بن محمد الخليل فألفيته كتابا نافعاُ جمع فيه – حفظه الله – جملة من المسائل الطبية المعاصرة (النوازل) وهل هي من مفسدات الصيام أو لا، ونظرا لأهمية هذه المسائل وكثرة السؤال عنها فقد اختصرته مع تصرف وزيادات يسيره لعل الله تعالى أن ينفع به الجميع وهذه المسائل هي :
- بخاخ الربو : ذهب العلامتان ابن باز وابن عثيمين – رحمهما الله تعالى – واللجنة الدائمة إلى أنه لا يفطر لأن البخاخ يتبخر ولا يصل إلى المعدة و إنما يصل إلى القصبات الهوائية وقياساً على المضمضة والسواك .
- الأقراص التي توضع تحت اللسان لعلاج بعض الأزمات القلبية : ولا يدخل إلى الجوف شيء من هذه الأقراص فإنها لا تفطر .
- منظار المعدة : ذهب جمهور العلماء إلى أن من أدخل شيئاً إلى جوفه أفطر ولو كان غير مغذ قال ابن عباس رضي الله عنهما ( إنما الفطر مما دخل وليس مما خرج ) رواه البيهقي 4/261 وحسنه النووي وابن حجر .
وذهب بعض المالكية وشيخ الإسلام ابن تيمية الى أن ما دخل الى المعدة لا يفطر إلا ما كان طعاماً أو شراباً , واختار شيخنا ابن عثيمين – رحمه الله – إن المنظار لا يفطر إلا إذا وضع مع المنظار مادة دهنية مغذية تسهل دخول المنظار فهنا يفطر الصائم بهذه المادة لا بدخول المنظار لأنه لا يفطر إلا المغذي , وهو مذهب الحنفية حيث اشترطوا استقرار الداخل في الجوف وأن لا يبقى منه شيء في الخارج بينما المنظار لا يستقر في الجوف ويبقى طرفه في الخارج .
- قطرة الأنف : ذهب العلامتان ابن باز وابن العثيمين رحمهما الله تعالى إلى أنها تفطر واشترط ابن باز : إن وجد طعمها في حلقة . واشترط ابن عثيمين : إن وصلت إلى المعدة لحديث ( وبالغ بالاستنشاق إلا أن تكون صائماً ) رواه أبو داود (142) والنسائي (87) وصححه ابن حبان من حديث لقيط بن صبرة رضي الله عنه . وذهب بعض المعاصرين إلى أنها لا تفطر لأنها ليست أكلا ولا شربا ولا بمعناهما ولأن الواصل منها أقل بكثير من المتبقي من المضمضة.
- غاز الأكسجين : لا يفطر لأنه ليس أكلا ولا شرباً ولا بمعناهما .
- بخاخ الأنف : ( حكمه حكم بخاخ الربو ).
- البنج: وهو أنواع:
1- التخدير عن طريق الأنف بمادة غازية لا تفطر لان المادة الغازية ليست جرما.
2- التخدير الصيني ( الإبر ) لا تفطر لعدم دخول أي مادة إلى الجوف .
3- التخدير بالحقن فان كان تخديراً موضعياً فلا يفطر لعدم دخول شيء الى الجوف .
4- التخدير الكلي: وفيه أمران :
الأول : فقدان الوعي :- أن يفقده جميع النهار فالجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة – أن من أغمي عليه جميع النهار فصومه غير صحيح لحديث ( يدع طعامه وشرابه وشهوته ) البخاري (1795) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه فأضاف الإمساك الى الصائم أما المغمى عليه فلا يصدق عليه ذلك .
- أن لا يستغرق فقدان الوعي كل النهار فذهب مالك إلى عدم صحة صومه وذهب الشافعي وأحمد إلى صحة صومه وهو الأقرب للصواب لأنه لا دليل على بطلان صومه.
الثاني: قد يرفق مع البنج مادة مغذية فان حصل ذلك بطل الصيام ولو لم يستغرق جميع النهار.
- قطرة الأذن: إن لم يوجد خرق في الطبلة ولم يصل شيء إلى الحلق فالصيام صحيح وإن وجد طعمها أفطر عند جمهور العلماء.
- غسول الأذن: غالباً أنه يحتوي على قدر كبير من الماء فان كانت الطبلة مخرقة ووصل إلى الحلق أفطر عند الجمهور أما إن لم يصل شيء إلى الحلق فلا يفطر.
- قطرة العين : اختار العلامتان ابن باز وابن عثيمين أن قطرة العين لا تفطر لأنها ليس منفذاً للأكل والشرب وهو مذهب الحنفية والشافعية في الكحل .
- الحقنة الجلدية أو العضلية : لا تفطران لأنها ليست أكلا ولا شرباً ولا بمعناهما وهو اختيار العلامتان ابن باز وابن عثيمين رحمهما الله تعالى .
- الحقنة الوريدية المغذية : تعتبر من المفطرات لأنها في معنى الأكل والشرب .
- المراهم واللصقات العلاجية : لا تفطر لأنها ليست أكلا ولا شرباً ولا بمعناهما .
- منظار البطن : بحيث يدخل منظار من خلال فتحة صغيرة في جدار البطن لاستئصال المرارة او تشخيص بعض الأمراض وهذه المسألة تقاس على الجائفة وهي الجرح في البطن يصل إلى الجوف فقد ذهب المالكية وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية إلى أنها لا تفطر لان المسلمين كانوا يجرحون في الجهاد فلو كانت الجائفة مفطرة لبين لهم .
- الغسيل الكلوي : اختار شيخنا العلامة ابن باز رحمه الله تعالى ـ أنه مفطر لأن غسيل الكلى يزود الجسم بالدم النقي كما أنه قد يزود بمادة مغذية وهو مفطر آخر فاجتمع مفطران .
- الغسول المهبلي والتحاميل والمنظار المهبلي : ذهب المالكية والحنابلة إلى أن المرأة إذا قطرت في قبلها مائعاً لا تفطر بذلك .(/1)
- الحقنة الشرجية : الجمهور من الأئمة الأربعة يرون أنها تفطر لأنها تصل إلى الجوف , واختار شيخ الإسلام ابن تيمية وهو مذهب الظاهرية أنها لا تفطر لأن الحقنة الشرجية لا تغذي بل تستفرغ ما في البدن كما لو شم شيئاً من المسهلات وهو اختيار العلامة ابن عثيمين إن كانت المادة دواءً وليست مغذية .
- التحاميل : لا تفطر وهو اختيار العلامة ابن عثيمين رحمه الله تعالى لأنها تحتوي على مادة دوائية وليس فيها سوائل وليست أكلاً وشرباً ولا بمعناهما .
- التبرع بالدم : يقاس على الحجامة من قال بأنها تفطر يفطر بذلك وإلا فلا واختيار العلامتان ابن باز وابن عثيمين أنه يفطر .
- أخذ عينه من الدم للتحليل: لا يفطر لأنه قليل.
والله تعالى أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه .(/2)
مفقودات
شعر : أحمد مطر
زارَ الرئيسُ المُؤتمنْ
بعضَ ولاياتِ الوطنْ
وحينَ زارَ حَيَّنا
قالَ لنا :
هاتوا شكاواكم بصدقٍ في العَلَنْ
ولا تخافوا أحداً .. فقد مضى ذاك الزمنْ
فقالَ صاحبي " حسنْ " :
يا سيدي
أينَ الرغيفُ واللبنْ ؟
وأينَ تأمينُ السكنْ ؟
وأينَ توفيرُ المِهنْ ؟
وأين منْ
يوفرُ الدواءَ للفقيرِ دونما ثمنْ ؟
يا سيدي
لم نَرَ منْ ذلكَ شيئاً أبداً
قال الرئيسُ في حَزَنْ :
أحرقَ رَبّي جَسدي
أكَلُّ هذا حاصلٌ في بَلدي ؟!!
شكراً على صِدْقكَ في تنبيهنا يا ولدي
سوفَ تَرَى الخيرَ غداً .
وبعدَ عامٍ زارَنا
ومَرَّةً ثانيةً قالَ لنا :
هاتوا شكاواكُمْ بصدقٍ في العَلنْ
ولا تخافوا أحداً
فقدْ مَضى ذاك الزَّمَنْ
لمْ يَشتكِ النّاسُ !!
فَقُمتُ مُعلناً :
أينَ الرغِيفُ واللبنْ ؟
وأينَ تأمينُ السكنْ ؟
وأينَ توفيرُ المِهَنْ ؟
وأينَ مَنْ
يُوَفِّرُ الدَّواءَ للفقيرِ دونما ثَمَنْ ؟
معذرةً ياسيدي
... وأينَ صاحبي " حَسَنْ " ؟؟!!
مفقودات
شعر : أحمد مطر
زارَ الرئيسُ المُؤتمنْ
بعضَ ولاياتِ الوطنْ
وحينَ زارَ حَيَّنا
قالَ لنا :
هاتوا شكاواكم بصدقٍ في العَلَنْ
ولا تخافوا أحداً .. فقد مضى ذاك الزمنْ
فقالَ صاحبي " حسنْ " :
يا سيدي
أينَ الرغيفُ واللبنْ ؟
وأينَ تأمينُ السكنْ ؟
وأينَ توفيرُ المِهنْ ؟
وأين منْ
يوفرُ الدواءَ للفقيرِ دونما ثمنْ ؟
يا سيدي
لم نَرَ منْ ذلكَ شيئاً أبداً
قال الرئيسُ في حَزَنْ :
أحرقَ رَبّي جَسدي
أكَلُّ هذا حاصلٌ في بَلدي ؟!!
شكراً على صِدْقكَ في تنبيهنا يا ولدي
سوفَ تَرَى الخيرَ غداً .
وبعدَ عامٍ زارَنا
ومَرَّةً ثانيةً قالَ لنا :
هاتوا شكاواكُمْ بصدقٍ في العَلنْ
ولا تخافوا أحداً
فقدْ مَضى ذاك الزَّمَنْ
لمْ يَشتكِ النّاسُ !!
فَقُمتُ مُعلناً :
أينَ الرغِيفُ واللبنْ ؟
وأينَ تأمينُ السكنْ ؟
وأينَ توفيرُ المِهَنْ ؟
وأينَ مَنْ
يُوَفِّرُ الدَّواءَ للفقيرِ دونما ثَمَنْ ؟
معذرةً ياسيدي
... وأينَ صاحبي " حَسَنْ " ؟؟!!(/1)
مفهوم ((الفتنة))
الكاتب: الشيخ أ.د.سعود بن عبدالله الفنيسان
يكثر إطلاق لفظ (الفتنة) عند بعض الدعاة وكثير من العامة على (السكوت) – عدم إنكار المنكر – فرحت أتأمل آيات القرآن الكريم التي وردت بلفظ (الفتنة) ، ثم استعرضت ما استطعت من كتب السنة لعلي أجد تفسيراً للفتنة بـ (السكوت) أصلاً ومستنداً من اللغة أو الشرع، وألخص لك أخي القارئ ما وجدته بهذا الخصوص فأقول:
تكرر لفظ الفتنة (60)مرة في (35) سورة من سور القرآن الكريم استعملت في أكثر من (20) معنى ليس فيها (السكوت)، وإليك هي:
1-بمعنى الابتلاء والامتحان: كقوله تعالى: (ألم ( 1 ) أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ( 2 ) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ(3) [العنكبوت] وقوله: (وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ) [الدخان: 17]
2-بمعنى الشرك: كقوله تعالى: (وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ..... وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) [البقرة: 191]. وقوله: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ) [البقرة: 193].
3-بمعنى الكفر: كقوله تعالى: (لَقَدِ ابْتَغَوُاْ الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُواْ لَكَ الأُمُورَ) [التوبة: 48] وقوله: (وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ) [الحديد: 14].
4-بمعنى العذاب: كقوله تعالى: (فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ) [العنكبوت : 10] وقوله: (وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خاصة) [الأنفال : 25].
5-بمعنى: الخلاص والتخليص: وكقوله تعالى عن موسى عليه السلام: (وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً ) [طه : 40].
6-وبمعنى الإحراق: كقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ) [البروج: 10].
7-وبمعنى القتل كقوله تعالى: (.... إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ) [النساء: 101] وقوله: (فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ) [يونس: 83].
8-وبمعنى الميل والصد عن الحق: كقوله تعالى: (وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ) [المائدة : 49] وقوله: (وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ) [الإسراء : 73].
9-وبمعنى الضلال: كقوله تعالى: (مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ) [الصافات: 162] وقوله: (وَمَن يُرِدِ اللّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللّهِ شَيْئاً) [المائدة: 41].
10-وبمعنى الاعتذار والمعذرة: كقوله تعالى: (ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَاللّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ) [الأنعام: 23].
11-وبمعنى الجنون: والمفتون هو المجنون كقوله تعالى: (فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ) (القلم : 5 ) (بأيكم الْمَفْتُونُ) [القلم : 6].
12-وبمعنى الفجور أو الحب والعشق للنساء: كقوله تعالى عن المنافقين: (وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ) [التوبة : 49]. نزلت لما قال الجد بن قيس ومن معه يعتذرون للرسول صلى الله عليه وسلم عن الخروج في جيش العسرة قال: يا رسول الله لقد عرف قومي أني رجل مغرم بالنساء وإني أخشى إن رأيت بنات بني الصفر (يعني الروم) ألا أصبر عنهم فلا تفتني بالخروج.
13- 14- وبمعنى المال والولد: كقوله تعالى: (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) [التغابن : 15] وسمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلاً يتعوذ من الفتن فقال: أتسأل ربك ألا يرزقك أهلاً ولا مالاً يعني هذه لأنه نفور من الفتن وهذا التفسير وارد عن النبي صلى الله عليه وسلم وجمهور الصحابة.
15-بمعنى السحر: كقوله تعالى في قصة الملكين: (وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ) [البقرة: 102].(/1)
16- بمعنى التأويل الباطل: كقوله تعالى: (فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا)[آل عمران:7].
17- وبمعنى المصيبة: كقوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ..) [الحج: 11].
18- 19- بمعنى الفاتن الذي يفتن الناس عن دينهم أو بعضه، ويطلق على الشيطان كما في حديث {أفتّان أنت يا معاذ} وحديث {المسلم أخو المسلم يتعاونان على الفتان} بفتح الفاء وضمها.
20-الفتنة في القبر حين وقعها كحديث {فيَّ تفتنون وعني تسألون}.
21-تطلق على الفتن حين وقوعها كقوله تعالى: ( أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ) [التوبة: 49]. وحديث: {إني أرى الفتن تتقاطر على بيوتكم، أو قال منازلكم، كتقاطر المطر} ومنه يقال فتنة كذا وكذا فتنة الحياة والممات وفتنة المسيح الدجال، وكما يقال فتنة ابن الزبير وفتنة الحجاج وفتنة الخوارج.
وجميع معاني الفتنة يرجع إلى معنى الابتلاء والامتحان، وقد جاء في الحديث في صحيح مسلم عن أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:{ستكون أمراء فتعرفون وتنكرون، فمن عرف بريء ومن أنكر سلم ولكن من رضي وتابع قالوا أفلا نقاتلهم قال: لا. ما صلوا}.
وهكذا رواه الإمام أحمد في مسنده بلفظ { لكن من رغب وتابع، قالوا أفلا نقاتلهم قال: لا ما صلوا بكم الخمس} في هذا الحديث، الناس أمام المنكرات لا سيما في آخر الزمان ثلاثة أصناف: صنف عرف المنكر فلم يقع فيه فبريء من الإثم بمخالفة الناس، وصنف عرفه فأنكره فسلم من الإثم والتبعة، وصنف رضي المنكر وأحبه في قلبه أو تابع أهله على فعله، وقُدم من عرف وبريء لأن هذه الصفة أكثر وجوداً في آخر الزمان من غيرها.
ولفظ (من عرف بريء أي سكت وأنكر المنكر بقلبه فقد سلم من إثمه وعاقبته فتبين مما سبق أن (السكوت والسلامة) لا يدخلان في معنى الفتنة في دلاله الشرع بحال وكيف يكون ذلك السكوت مأذوناً فيه يثاب فاعله إذا خشي على نفسه من إنكاره بالفعل أو القول .. وقد ألف عدد من أهل العلم مؤلفات خاصة بالصمت والسكوت ولزوم البيوت خاصة في زمن الفتن، فكيف يكون السكوت في هذه الحال فتنة؟ ورد أن كعب بن مالك رضي الله عنه قال: (العافية عشرة أجزاء تسعة منها في السكوت).(/2)
مفهوم «التعددية الديمقراطية» وعلاقته بالأقليات
ما يشاع في وسائل الإعلام من أحاديث عن التعددية الديمقراطية، لا يخرج كله من مشكاة واحدة، فهذا المفهوم في دول الغرب له واقع مختلف عما يراد له في الدول العربية، أو حتى في البلدان الإسلامية على وجه العموم.
ـــــــ
فالتعددية في الغرب هي تعددية حزبية حقيقية، وتعني التعددية في البرامج السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، وهذه التعدديات هي تعددية في الفكر السياسي، الذي يخضع لأنظمة الحكم الرأسمالية الديمقراطية المتبناة في البلدان الغربية، فلا علاقة لهذه التعددية بالقبلية والعشائرية، أو بالأعراق والطوائف، كما ولا علاقة لها بالأديان والمذاهب، بل تسير في أجواء المبدأ الرأسمالي الذي تسود القناعة به في بلاد الغرب لتثبيت هذا المبدأ وتقوية التمسك به وتطبيقه.
وبالمقابل فالتعددية الديمقراطية التي يريدها الغرب، وبخاصة أميركا، للبلاد الإسلامية، ليست تعددية في أجواء المبدأ الإسلامي الذي تسود القناعة به في بلاد المسلمين، ولا لتثبت هذا المبدأ وتقوية التمسك به وتطبيقه، بل إن التعددية المقترحة في البلاد الإسلامية تعني التعددية القبلية والشعوبية، وتعني كذلك التعددية المذهبية والطائفية، وإثارة الفرقة والتجزئة في بلاد المسلمين
فتعددية الغرب عنصر من عناصر قوة مبدئها وزيادة التمسك به، ومن عناصر قوة الدول، ووحدتها، وتماسك مجتمعاتها، وتجانسها، بينما التعددية المرادة في البلاد الإسلامية هي عنصر من عناصر محاربة مبدئها، ومن عناصر ضعفها، وتخلخلها، وهشاشة مجتمعاتها، وسهولة تفتيتها.
وتركيز أميركا على فكرة التعددية (كما تريده هي لبلادنا) لم يأت من فراغ، وليس من باب الصدفة تضمين هذه الفكرة في جميع مشاريع الإصلاح الأميركية للشرق الأوسط، فيبدو أن أميركا وجدت في هذه الفكرة ضالتها، لأن فيها من الخداع والجاذبية الموهومة ما يمكنها من إعادة صياغة منطقة الشرق الأوسط صياغة جديدة، على وجه يجعلها منطقة تابعة لها ولا تختلف كثيراً عن جمهوريات الموز في أميركا اللاتينية التي تعتبر كمزارع لشركاتها الاحتكارية.
لذلك ليس غريباً أن تركز أميركا على ما تسميه حقوق الأقليات للإثنيات والمذاهب. وعلى سبيل المثال لا الحصر، نجد أن أميركا تظهر حرصاً زائفاً على الأقلية الكردية، فتحتضنها، وتمدها بكل أسباب القوة، وتتباكى على ما أصابها من لأواء في حلبجة، ونجدها كذلك تذرف دموع التماسيح على شيعة العراق لأنهم –كما تزعم- حُرموا من حقوقهم في العهود السابقة والتي سيطر فيها على العراق حكام من السنة، وكأن حكام البعث، ومن سبقهم من قوميين وملكيين، كانوا يحكمون العراق حكماً مذهبياً!.
وكذلك لم يكن مستغرباً أن تركز أميركا، ومن ورائها أوروبا، على إبراز الهوية الأمازيغية في دول المغرب العربي، وأن تحتضن الأقليات الأوزبكية والطاجيكية في أفغانستان، وأن تعمل على إثارة الأقلية القبطية في مصر، وأن تؤازر الأقليات المسيحية والوثنية في جنوب السودان، وأن تثير الضغائن والمنازعات بين الأقليات والدول تحت ذريعة التعددية، بينما هي في واقعها صورة جديدة من صور القاعدة المشهورة فرق تسد.
لقد مارست أميركا لعبة التعددية هذه بإتقان ودهاء شديدين، فأوهمت الشعوب بأن في التعددية خلاص لها من الدكتاتورية، واستغلت تفوقها بعد سقوط منافسها الدولي السابق الذي كان يتمثل في الاتحاد السوفياتي، وركَّزت على الأقليات وتعددها لتسيطر على الدول بأسلوب جديد، فرعت الأقليات ودعمتها، وتحالفت معها لتستخدمها كرأس حربة تحقق بها مصالحها الاستعمارية.
فمثلاً ساندت في أريتريا أسايس أفورقي وهو نصراني من قبيلة اليتجراي، وهي من الأقليات في أريتريا، ودعمته إلى أبعد الحدود، بالرغم من خلفيته الاشتراكية اليسارية، ومنحته دولة في سرعة قياسية، كان من الصعب إيجادها، أو تصور وجودها بمثل هذه السهولة، ثم أسندته في حربه مع أثيوبيا، ومكنته من ترسيم الحدود معها، وتثبيت هذه الدولة الفتية في القرن الأفريقي، وبعد ذلك دعمته في قمع رفاقه السابقين في الثورة لكونهم ينتمون إلى خط العروبة والاشتراكية، وظاهرته ضد الأكثرية العربية المسلمة في البلاد التي كان يتوقع لها أن تكون دولة عربية، وأن تدخل في جامعة الدول العربية. وقام أفورقي بعد أن حصل على هذا الغطاء الأميركي بمحاربة العرب والمسلمين في اليمن، حيث غزا جزر عربية يمنية، وفي السودان حيث دعم مجموعات متمردة، وفي داخل أريتريا حيث حارب اللغة العربية والحضارة الإسلامية، وتحالف مع إسرائيل، واتخذ منها أنموذجاً يقتدى به. وتم القيام بكل هذه الأعمال المشينة، والتي يعتبر القيام بها بمثابة تمرد على الواقع، وخروج عن الصف، وانسلاخ من جسم المنطقة، تم القيام بكل هذه الأعمال بمظلة أميركية وتحت شعار التعددية.(/1)
ومثلاً دعمت أميركا جون قرنق في جنوب السودان وهو من قبيلة الدينكا، وهي أقلية من عدة أقليات في جنوب السودان، الذي يجمع العرب والوثنيين والمسيحيين والأفارقة في نسيج هادئ تحت سيطرة العرب والمسلمين منذ قرون. فضخمت أميركا دور قرنق، ومدته بكل أسباب القوة، حتى صار ممثلاً لكل أهل الجنوب بمختلف أقلياته، وربما ستستمر في دعمه ليصبح في المستقبل رجل السودان الأول والأقوى، وذلك بعد الفراغ من مؤامرة تقسيم الثروة والسلطة، علماً بأن هذا الرجل تسبب في مقتل وتشريد الملايين من السودانيين.
ومثلاً قوَّت أميركا مركز رئيس أوغندا يوري موسيفيني، وهو من أقلية التوتسي، لدرجة أن أصبحت أوغندا، تحت رئاسته، أهم دولة في وسط أفريقيا. وعندما جاء بوش إلى القارة الأفريقية انطلق من أوغندا، واستطاع موسيفيني، بفضل هذا الإسناد الأميركي، أن يساهم في تغيير رؤساء الكونغو، ورواندا، وبوروندي، والإتيان برؤساء معظمهم من التوتسي، وبذلك تحولت أوغندا إلى قطب الرحى في منطقة أفريقيا الاستوائية، والتي ما كانت لتصل إلى كل هذا النفوذ، لولا دعم أميركا لأقلية التوتسي وللرئيس موسيفيني، الذي كان له دور مشبوه في مذابح الهوتو والتوتسي، التي بلغ ضحاياها ما يقارب المليونان.
وأما في الصومال، فأميركا عندما لم تجد فيه أقليات عرقية أو مذهبية، لجأت إلى تمزيقه عن طريق إشعال الفتن والحروب الأهلية، بين أمراء الحروب الذين قاموا بدور الأقليات، وبذلك تم التآمر على الصومال بحرمانه من الدولة والاستقرار، لمدة زادت عن الإثنتي عشرة سنة، فقسمته إلى خمسة أقاليم هي: أرض الصومال، والصومال بوند، وصومال حسن صلاد والعاصمة مقديشو، بالإضافة إلى إقليم أوغادين الذي سلخته أثيوبيا عن الصومال.
وأخيراً في أفغانستان، فقد رأينا كيف استخدمت أميركا قبائل الطاجيك والأوزبيك لمحاربة الأكثرية البشتونية، فحل في أفغانستان ما حل من احتلال، وخراب، ودمار، وهلاك للبشر.
هذه أمثلة حقيقية على استخدام أميركا لورقة التعددية في هذه البلدان والتي أنتجت التفتت والتدمير، والمذابح والتشريد، وهذه هي الحصيلة الأولى فقط للسياسة التعددية التي انتهجتها أميركا، خلال العقد الأول من عصر الهيمنة الأميركي على العالم.
والظاهر أن أميركا قد استمرأت هذه اللعبة، وبدأت بتطويرها بديباجة الديمقراطية لتسهيل تسويقها، وأصبحت التعددية بفضل الإعلام الأميركي هي النغمة الأكثر عزفاً على لحنها، من قبل صنّاع السياسة الأميركية، وصارت جزءاً جوهرياً من أطروحاتها الإصلاحية. فإذا كانت هذه هي التعددية الديمقراطية المصممة لبلادنا، وهذا هو حصادها، فما هو موقف الحكومات والنخب السياسية العربية والإسلامية منها؟
إن موقفها –وبكل أسف- يتجاوب مع هذه الأكذوبة الأميركية عن التعددية المذهبية والقبلية والأقليات والطوائف، وتجاوبهم معها ناشئ بسبب التبعية والخوف من فقدان الكرسي. وإن موقف كثير من النخب السياسية الفاعلة في هذه الدول، سواء من الحكومات أم من المعارضة، هو موقف إنهزامي أناني يتعاطى مع هذه الأطروحات الأميركية، لا بوصفها مقنعة أو صحيحة، وإنما بوصفها أمراً واقعاً يستوجب الخنوع. وما يجري في العراق اليوم يعتبر أحدث نموذج لهذه الأطروحات الأميركية، حيث لم تكتف أميركا ورجالها في مجلس الحكم، وفي غير مجلس الحكم، من تقسيم العراق على أساس عرقي بين العرب، والأكراد، والتركمان، والأشوريين، بل وقسموه أيضاً على أساس مذهبي بين السنة والشيعة، وهذا كله يُبرَّر بذريعة التعددية الديمقراطية!!
إن هذه العدوى نراها اليوم تنتقل بسرعة إلى مناطق جديدة مثل أكراد سوريا، وشيعة الجزيرة العربية، وهذا هو أول القَطر الأميركي لهذه التعددية البغيضة، ولا ندري إلى أين سينتهي المطاف بها.
إن التعددية الديمقراطية المصممة لبلادنا هي داء أميركي عضال لا بد من علاجه، وعلاجه الوحيد الناجع الشافي يتمثل في دواء الإسلام، بوصفه فكراً وعقيدةً ونظام حياة، لا فصل فيه بين الدين والحياة، ولا بين العبادة والسياسة، وهو العلاج الوحيد الذي لا يختلف عليه أتباع مذهب، أو أبناء عرْق، أو حتى أهل ذمة، لأنه ينصف الكل، ويعدل مع الكل، ويوحد ولا يفرق، ويُغلِّب العفو والتسامح على العصبية والعنصرية، ويجعل قاعدة «لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأعجمي على عربي إلا بالتقوى» هي الأساس في النظر إلى الرعية، ويجعل الاخوة بين أفراد المجتمع تقوم على أساس اخوة العقيدة بدلاً من اخوة القبيلة مصداقاً لقول الحق وهو أصدق القائلين: { إنما المؤمنون إخوة } قرآن كريم
أحمد الخطيب - بيت المقدس(/2)
مفهوم الأسرة في الإسلام
المفهوم اللغوي :
تُعَرِّف كتبُ اللغة(1) أسرةَ الرجل (بأنهم رهطه الذين يتقوَّى بهم) .
ورهط الرجل : (أهله ، وقومه ، وقبيلته ، وعشيرته) وتُقَدَّرُ عدة الرهط عادةً ، بما فوق الثلاثة، ومادون العشرة ، وتضيف بأن أصل الأسرة هو الشد بالقيد ، ومنه يقال أُسِرَ الرجل إذا أوثق بالقيد وهو الإسار .
ويعرف الناس جميعًا بالبداهة أن الأسرة تتكوّن من والدين هما المرأ وزوجه ، ومن أولادهم وذوي قرباهم : من جدين وجدتين وأعمام وعمات وأخوال وخالات وأبنائهم جميعًا .
وعلى هذا ، فإن الأسرة هي هذا المجتمع الذي يوكل إليه أمر التقيد بالأعراف الاجتماعية ، والتزام العادات والتقاليد الحضارية ، واتباع القيم الدينية ، والأخلاقية ، ونقل مفهوماتها السامية نقية صافية إلى الأجيال المتعاقبة عبر العصور .
المفهوم الإسلامي :
ولأمر مالم يرد لفظ (الأسرة) بهذا الاستعمال في القرآن الكريم ، ولا في السنة النبوية المطهرة ، إلا أننا نجد المفهوم متداولاً فيهما بألفاظ أخرى ، لعلها تكون هي المفاتيح الموفقة للبحث الطريف في محاور الموضوع المطروق ، والمناهج المعجزة المفيدة في فتح كنوزه ، وإثراء جوانبه إثراءً يزيدها الاستقراء والتحليل إشراقًا وعمقًا ، كلما ازداد المرأ فيها إمعانًا وفكرًا .
يبين القرآن الكريم للناس في الآيات الأولى من سورة النساء أن المجتمع الإنساني ، بعشائره ، وقبائله، وأقوامه ، وأممه وشعوبه ، ذو أصل واحد، ومنشأ واحد ، عنه يصدرون ومن وحدته يتفرقون منبثين في أطراف الأرض ، رجالاً كثيرًا ونساء . يجمعهم جامع التقوى عن طريق الإيمان بالله ، كما تجمع بينهم آصرة الرحم .
?يَآ أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوْا رَبَّكُمُ الَّذِيْ خَلَقَكُمْ مِنْ نَّفْسٍ وَّاحِدَةٍ وَّخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيْرًا وَّنِسَآءً وَّاتَّقُوْا اللهَ الَّذِيْ تَسَآءَلُوْنَ بِه وَالأَرْحَام. إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيْبًا?(2) .
فلعل الناس بعامة ، والمسلمين منهم بخاصة ، يحنون إلى وحدة المنشأ ، ويرجعون إلى أصل الخلق، إذا ما تشعبت بهم الأحوال ، وتشابهت عليهم الطريق .
?يَآ أَيُّهَا النَّاْسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَّأُنْثاى، وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوْبًا وَّقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوْا . إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ ، إِنَّ اللهَ عَلِيْمٌ خَبِيْرٌ?(3).
التعارف : غير التناكر ، التعارف : تعايش وتكامل . التعارف : سبيل إلى الوحدة ، ورجوع إلى الأصل وميل إلى الحس الخلقي الكريم ، والتزام بالوازع الديني القويم ، واختبار للتقوى الجامعة .
?فَاتَّقُوْا اللهَ حَقَّ تُقَاتِه ، وَلاَتَمُوْتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُوْنَ? .
من أجل ذلك ، حرص الإسلام الحرص كله على صيانة هذه الرابطة الإنسانية من عبث العابثين، نواة أولية لكل الوحدات ، بذرة طيبة منها يتكاثر الخير والإيمان ، والصلاح ، خلية وطنية منها يتناسل التعارف والتوادد بين الناس على تقوى من الله ورضوان .
الزواج في الإسلام :
الزواج في الإسلام رابطة مقدسة من روابط وحدة المجتمع الإسلامي .
وقد أحكم الإسلام صياغة نظام الأسرة المسلمة أحسن أحكام شرعي وأدقه ، وأتقن تشريعاتها خير إتقان وأكمله ، وتوج ذلك كله بنظام (الزواج) علاقة شرعية مقدسة ، وآية من آيات الله المحكمة لقوم يتفكرون .
?وَمِنْ آيَاتِه أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوآ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَّوَدَّةً وَّرَحْمَةً ، إِنَّ فِيْ ذالِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُوْنَ?(4).
إن من آيات الله للناس هذه الرابطة الربانية المجتمعية ، التي تجمع المرء بزوجه ، سكنًا كل منهما لصاحبه ، ومودة ورحمة ، سكنًا يتساكنان فيه ، ومودة يتوادان بها ، ورحمة يتراحمان بها : فلا مفرق لما جمع الله منذ الأزل ، ولامشتت لما وحد الله منذ الخلق الأول .
لهذا فصل الله سبحانه وتعالى أحكام الأسرة في كتابه العزيز فروعًا وأصولاً ، وتولت السنة المطهرة بيان نظمها وتأصيل مقاصدها في نفوس المسلمين ، فلا يملك الذين يخالفون عن أوامرها المقدسة لها تبديلاً ولاتحويلاً .
?فَلْيَحْذَرِ الَّذِيْنَ يُخَالِفُوْنَ عَنْ أَمْرِه أَنْ تُصِيْبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيْبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيْمٌ?(5).
وأنه لمن حسن طالع المسلمين في هذا العصر، وفي كل عصر ، أن تبقى هذه الرابطة لدى عامة الناس وخاصتهم أمرًا إسلاميًا مؤكدًا ، وشرعًا دينيًا مخلدًا ، وخلقاً حضاريًا ممجدًا ، على الدوام والاستمرار .
وانه لبشير خير ، وطالع يسر أن تسلم هذه المؤسسة ، وهي أم المؤسسات ، من عاديات الزمان وسوءات التطور ، لتتدعم بسلامتها بقية المؤسسات الإسلامية الأخرى وتتقوى .(/1)
وحريّ بالشباب الإسلامي ، في مشارق الأرض ومغاربها ، أن يعقل هذا المقصد النبيل ، ويتبناه ، وينشره في الآفاق العليمة والاجتماعية ، الخاصة منها والعامة ، ويتعامل مع النصوص الإسلامية المنظمة لقضايا الأسرة تعامل صدق وإيمان ، إنه إن فعل ذلك فتحت له النصوص القرآنية كنوز خفاياها ، وألهمته بتقواها علمًا ويقينًا، وفتحًا مبينًا ، لعلّ الله تعالى ينفعه به وأمته ووطنه والناس أجمعين .
بناء وحدة المجتمع
حفاظاً على كيان الأسرة المسلمة في شخص الوالدين وبيانًا للدور العظيم المناط بهما تجاه الأجيال ، قرن المولى الكريم أمر وحدانيته تعالى ، وعدم الإشراك به سبحانه مباشرة في الكتاب العزيز بالاحسان إلى الوالدين وذوي القربى .
?وَاعْبُدُوْا اللهَ وَلاَ تُشْرِكُوْا بِه شَيْئًا ، وَّبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ، وَّبِذِِي الْقُرْباى?(6).
وجعل النبي صلى الله عليه وسلم (الجنة تحت أقدام الأمهات)(7).
لقد رفع الإسلام من قيمة الركيزتين الأساسيتين اللتين تقوم عليهما الأسرة المسلمة (وهما الوالدان) ؛ ليكونا أهلاً لبناء وحدة المجتمع الإسلامي ، والحفاظ على كيانه الروحي والفكري ، وتثبيت مقوماته الدينية والاجتماعية ، وتوريث قيمه الإنسانية والحضارية للأجيال ، وتبليغها للناشئة خير بلاغ ، وعرضها عليهم أحسن عرض. وأبقاه على الزمان ، تربية وتنشئة، خلقًا وممارسة ، علمًا وعملاً . قال الله تعالى في سورة الطور : ?وَالَّذِيْنَ آمَنُوْا وَاتّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيْمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ ، كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِيْنٌ?(8).
في مسلسل إيماني لا انقطاع فيه ، وفي تواصل قدسي لاتوقف معه وفي استمرار حضاري يمتد أثره الحميد عبر الأجيال ، ليعمل عمله الدائم في حياة الأفراد وحياة الجماعات .
وإذ يكل الإسلام الحنيف أمر هذه الرسالة العظيمة إلى الوالدين بصفة خاصة وإلى (الأسرة) بصفة عامة ، فإنه يفعل ذلك تثبيتًا لمكانتها في المجتمع وتعظيمًا لشأنها ، وتركيزًا لسلطتها فوق السلطات عند غياب بقية السلطات ، اعتمادًا على مكانتها الرئيسية في تكوين المجتمعات ، وتحميلاً لها لواجب تلقي أمانة السماء وشرف تبليغ الرسالة إلى الأجيال .
يقضي واجب تلقي الأمانة على الأسرة النظر في القرآن الكريم ، وتأمل آياته المعجزات ، وفهم مقاصد الشريعة الغراء ، لكي تتمكن من شرف التبليغ ، بالحكمة والموعظة الحسنة ، عن طريق التربية والتعليم ، والتوعية والتأصيل ، ولكي تتحمل الأجيال الرسالة ، وتتصدى لتبليغ الأمانة ، في دورية وتوال واتصال : ?ذُرِّيَّةٌ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ?(9) ?فَمِنْهُمْ مَنْ قَضاى نَحْبَه وَمِنْهُمْ مَنْ يَّنْتَظِرْ?(10) في إيمان وصمود ، وصدق ويقين.
يدعو الأجيال إلى وحدة الأمة
وإذ تلتقي الأجيال على محبة القرآن الكريم وتعظيم شأنه ، والاحتكام إلى حكمه ، تتعلم من بين ما تتعلمه فيه من خير ، أن تحتذي النماذج القرآنية وتتخذها قدوة وإماماً ، تستلهم الأسرة المسلمة في أعماقها إعجاز آي القرآن الكريم ، وصوره الخالدة المتجدة عبر العصور ، تأمر الأجيال بعبادة الله ، كما تأمرهم بالتقوى مؤكدة في كل حال على وحدة (أمتكم) أمة الإسلام .
فقد جاء في القرآن المبين في سورة (المؤمنون): ?وَأَنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً ، وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُوْنِ?(11) ولا تملك الأجيال ، مع هذا التأكيد القرآني إلا السمع والطاعة والعمل الصادق على تحقيق أمر الله .
وجاء في سورة (الأنبياء) ?إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَّاحِدَةً وَّأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوْنِ?(12) يلحظ في كلتا الآيتين هذا الاستعمال البليغ لكلمة الأمة التي جردت عن التعريف المعهود في غالبية الاستعمالات (ال) ، واختير تعريفها (بكم) ياشباب الإسلام ، فلتكونوا أهلاً لهذا التعريف والتشريف !.
من أخوة الدم والعصبية إلى أخوة الإيمان بالله
تقرأ الأسرة المسلمة هذه الآيات القرآنية ، وتحفظها وترددها في إيمان وخشوع ، وعزم على تحقيق إعجازها ، وفهم مقاصدها ، وفاء بواجب تلقي الأمانة ، وقياسًا بشرف تبليغ الرسالة إلى الأمة الإسلامية وإلى الإنسانية جمعاء .
?وَاعْتَصِمُوْا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيْعًا ، وَّلاَتَفَرَّقُوْا ، وَاذْكُرُوْا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً ، فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوْبِكُمْ ، فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِه إِخْوَانًا ، وَكُنْتُمْ عَلى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا ، كَذالِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُوْنَ?(13).(/2)
وغير بعيد عن ذاكرتنا ، حاضرة في خلدنا تلكم الصور الإنسانية الخالدة التي آخى فيها النبي عليه الصلاة والسلام بين المهاجرين والأنصار ، إخوة في الله حلت محل أخوة الدم والعصبية والقبيلة والعشائرية ، لتحل محلها أخوة العقيدة والفكر والإيمان .
وبذلك شيد الإسلام صرحًا آخر من صروح الوحدة الإسلامية في التآزر والتناصر ، والتوادد ، متساميًا بآصرة الأخوة والنبوة والنسب ، متعاليًا بها إلى رابطة التدين والأخوة في الله : ?لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُوْنَ?(14) ، ?وَفِيْ ذالِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُوْنَ?(15).
نماذج قرآنية للأسرة المسلمة :
القرآن الكريم كله نموذج ناطق لما ينبغي أن يكون عليه المسلم الحق فيما بينه وبين نفسه ، وفيما بينه وبين أسرته وفيما بينه وبين أمته ، مثلاً للخير يحتذى ، وأسوة حسنة للصلاح تقتدى ، وخير داعية إلى التماسك والتآلف والوحدة والاعتصام بحبل الله ، اختار من هذه النماذج الرائعة ، وكل القرآن الكريم روعة وجلال وسماء وبهاء ، نموذجًا مستخلصًا من قول الله تعالى في سورة البقرة : ?وَإِذِ ابْتَلى إِبْرَاهِيْمَ رَبُّه بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ: إِنِّيْ جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ، قَالَ : وَمِنْ ذُرِّيَّتِيْ قَالَ: لاَيَنَالُ عَهْدِيْ الظَّالِمِيْنَ?(16).
هذه الإمامة على الناس ، يعطاها إبراهيم عليه السلام من ربه عز وجل ، فتهفو نفسه الكبيرة إلى أن يطلب (الإمامة) من ربه لذريته محبة منه فيها ، وتعظيمًا لقدرها وتكريمًا .
(كتاب "دعوة الحق" العدد 156 ، رابطة العالم الإسلامي ، مكة المكرمة).
* * *
الهوامش :
(1) تنظر في هذا الصدد بخاصة الكتب اللغوية التالية :
1- مختار الصحاح للرازي .
2- أساس البلاغة للزمخشري .
3- المعجم الوسيط للجنة من العلماء المنتمين لمجمع اللغة العربية في القاهرة .
(2) الآية الأولى من سورة النساء ، وهي سورة مدنية وتُقْرأ كلمةُ (تَتَسَآءَلُوْنَ) في المشرق برواية حفص : (تَسَآءَلُوْنَ) .
(3) الآية 13 من سورة الحجرات ، وهي سورة مدنية .
(4) الآية 21 من سورة الروم ، وهي سورة مكية .
(5) الآية 63 من سورة النور ، وهي سورة مدنية .
(6) الآية 36 من سورة النساء ، وهي سورة مدنية .
(7) انظر الجامع الصغير للحافظ السيوطي ص 495 رقم 3643 رواه أحمد والنسائي وابن ماجه .
(8) الآية 21 من سورة الطور، وهي سورة مكية وتُقْرَأ كلمةُ (ذُرِّيَّاتِهِمْ) في المشرق برواية حفص (ذُرِّيَّتَهُمْ) ألته ماله وحقه، كضرب : بألته أي نقصه . ما ألتناهم من عملهم : ما نقصناهم. اُنظر ص 45 (معجم ألفاظ القرآن الكريم) المجلّد الأول، الطبعة الثانية، الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر 1390هـ = 1970م.
(9) الآية 34 من سورة آل عمران ، وهي سورة مكية .
(10) الآية 23 من سورة الأحزاب ومن سورة مدنية .
(11) الآية 52 من سورة المؤمنون ، وهي سورة مكية وتقرأ كلمة وأن (في المشرق) برواية حفص بكسر الهمزة هكذا (وإنَّ) .
(12) الآية 92 من سورة الأنبياء ، وهي سورة مكية .
(13) الآية 103 من سورة آل عمران ، وهي سورة مدنية .
(14) الآية 61 من سورة الصافات ، وهي سورة مكية .
(15) الآية 26 من سورة المطففين ، وهي سورة مكية .
(16) الآية 124 من سورة البقرة ، وهي سورة مدنية .(/3)
مفهوم الأمة
لماذا لا نستفيد منه؟
د. محمد العبدة 21/3/1425
10/05/2004
جاء الإسلام -وهو خاتم الرسالات - إلى البشرية كلها؛ أسودها وأبيضها، عربها وعجمها، ودخلت في دائرته شعوب وحضارات متعددة مختلفة، اندمجت في تصوراته وثقافته؛ ذلك لأن تشريعاته موافقة للفطرة، يألفها الناس ويتقبلونها دون مشقة أو تكلف، ومن المفاهيم التي أكد عليها القرآن في موضوع تجمع البشر كوحدة تصلح عليها حالهم مفهوم: الأمة وهو مصطلح يرجع أساسه إلى الدين والعمل الصالح أي هو ديني سياسي إذا صح التعبير، أو هو: «ما يبلغ إليه الاعتقاد الإسلامي حيثما كان؛ فهو لا يحدد بمكان ولا بنسب ولا قبيلة ولا موطن»(1). والأمة لا تكون بأن يعيش أفراد على رقعة أرض واحدة، ولا التكلم بلغة واحدة؛ بل أن يلتقي أفرادها على هدف واحد «فالاجتماع يقتضي نصاً من خارج، يتساوى الجميع في ظله، فيوحِّد ويضبط ويشرع، وتنفسح آفاقه فوق روابط الدم والجغرافية والاقتصاد»(2).
إن أي تجمع على غير هذه الأسس سيفترق الناس عليه؛ لأنه سيبنى على العصبيات والمصالح الضيقة. والحقيقية أن مفهوم الأمة في الإسلام مرحلة جديدة في الاجتماع البشري.
لم يهدم الإسلام الروابط الطبيعة بين البشر، ولكنه تجاوزها ووسع معناها وأحكم الربط فيما بينها؛ فوحدة الأسرة، ووحدة القبيلة والوطن، كلها اعتبرها الإسلام، وجاءت أحكامه مهتمة بالأسرة، وجعل من القبيلة رابطة رحم ونسب وليست عصبية جاهلية، وجاءت الوصية برعاية حقوق الجار كرابطة وطنية، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحن إلى موطنه الأول: مكة، كما أحب موطنه الثاني: المدينة.
ولكن هذه الروابط ليست غاية، بل هي مؤدية وخادمة للرابطة الكبرى (الأمة) وإذا كانت هذه الروابط تعارض مفهوم الأمة، أو تعود عليه بالانخرام والانحلال، فلا شك أن رابطة الأمة تنسخ هذه الروابط الجزئية.
مصطلح الأمة في القرآن الكريم:
ذكر هذا المصطلح في القرآن على عدة أوجه، منها:
1 - بمعنى: الرجل الجامع للخير، الذي يُقتدى به: (إنَّ إبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً) [النحل: 120].
2 - بمعنى: الدين والملة: (إنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً) [الأنبياء: 92] . وقوله تعالى: (إنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ) [الزخرف: 22].
3 - بمعنى: القوم، كقوله تعالى: (وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ) [القصص: 23].
4 - أهل الإسلام خاصة: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) [آل عمران: 110] (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) [البقرة: 143].
5 - بمعنى: الزمن أو السنين: (وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إلَى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ) [هود: 8] وقوله تعالى: (وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ) [يوسف: 45](3).
وإذا أخذنا مصطلح: "أهل الإسلام وخاصته" فسوف نجد أننا أمام أمة (من دون الناس) لها خصائصها ورسالتها. والمهاجرون والأنصار الذين ذُكروا في صحيفة المدينة كأمة من دون الناس، أصبحوا جزءاً من الأمة الإسلامية، أمة التعارف، بما تضم من شعوب وقبائل، والوطن الإسلامي الأول الذي تكوَّن في المدينة إنما استمد حقيقته من كيان الأمة التي أسسها محمد صلى الله عليه وسلم في مكة والمدينة بالتوحيد والأخلاق والهجرة والمؤاخاة. وليست الأمة هي التي استمدت حقيقتها من الوطن وحدوده الترابية. لقد أعطى الإسلام للعرب بهذا المفهوم بُعداً عالمياً بعد أن كانت العصبية القبيلة هي التي تحركهم.
بعض خصائص هذه الأمة:
1 - إذا كانت الأمم الأخرى تجتمع على أسس قومية : عرقية، أو جغرافية واقتصادية؛ فإن جامعة المسلمين أسمى من هذه الأمور والذي يجمعها هو الدين، وهنا يتساوى الناس كلهم، لا تعصب للألوان والأشكال والأعراق. وهذه الأمة موحدة ولو فرقتهم التقسيمات السياسية وأصبحوا دولاً شتى.
2 - وهي أمة مجتباة، الله -سبحانه وتعالى- هو الذي أخرجها: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) [آل عمران: 110] وقال تعالى: (هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إبْرَاهِيمَ) [الحج: 78].
3 - وهي أمة وسط، والوسط هنا هو الخيار والأفضل، لما تميزت به شريعتها وإنما جعل الخيار وسطاً؛ لأن الأطراف ربما يتسارع إليها الخلل، أما الأوساط فهي محمية محوطة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية مبيناً فضل الأمة الإسلامية وميزتها في تعليقه على حديث «إنه كان في الأمم قبلكم مَحدَّثون(4)؛ فإن يكن في هذه الأمة فعمر بن الخطاب»: «جزم بأنهم كائنون في الأمم قبلنا، وعلق وجودهم في هذه الأمة بـ (إن) الشرطية، مع أنها أفضل الأمم، لاحتياج الأمم قبلنا إليهم (المُحدَّثون) واستغناء هذه الأمة عنهم بكمال نبيها ورسالته، فلم يحوج الله الأمة بعده إلى مُحدّث ولا ملهم ولا صاحب كشف ولا منام»(5).(/1)
4 - وهي أمة تحمل رسالة للناس، وليس كل همها العيش والتمتع بلذائذ الحياة الدنيا؛ فقد ذم الله اليهود لرضاهم بأي حياة (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ) [البقرة: 96]. ومما يعين الأمة الإسلامية على التشرف بحمل هذه الرسالة، ما تتصف به من اتزان وإنصاف وعدل بين الناس، علمها إياه القرآن وسيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم.
5 - إذا كانت الأمم الأخرى بحاجة لوقت طويل حتى تمتزج عناصرها، وتأتلف قواها، ويعيش أهلها تحت سماء واحدة، ويخضعوا لتأثير بيئة واحدة، وينقادوا لنظام واحد، فإن الأمة الإسلامية نشأت مرة واحدة، ولم تأخذ وقتاً طويلاً لينصهر أفرادها في بوتقة واحدة. يقول المؤرخ (روزنثال): «إن نمو المدنية الإسلامية من أروع الأحداث في تاريخ الفكر الإنساني، وسيبقى مثار أعظم الإعجاب، ولعلها كانت معجزة من حيث حدوثها بسرعة عجيبة لدرجة أنها كملت بعد بدئها بوقت قصير...»(6).
هل الأمم إلى زوال؟
إن بعض الكتَّاب المعاصرين الذين يؤيدون ويشيدون بما يطرح على الساحة الثقافية والاقتصادية باسم (العولمة) هؤلاء يرون انهيار سد الثقافات والعقائد والأفكار والقوميات أمام طوفان العولمة، وهم ينعون نهاية الأمم؛ لأن الأمم حسب تعريفهم هي القوميات، و (الأمة - القومية) شيء لا حقيقة له على أرض الواقع حسب قولهم، فاللغة التي يظن أنها من أقوى دعائم القومية ليست رابطاً قوياً، والمطبعة هي التي نشرت الثقافة واللغة، وتحت لواء القومية والتعصب الأعمى سيق الملايين إلى ساحات القتال في الحرب العالمية الثانية؛ ذلك لأن القومية العنصرية تقوم على كراهية الآخرين.
إن أصحاب العولمة يريدون فتح الحدود أمام كل الثقافات وكل ما ينتجه الغرب خاصة، دون قيد أو شرط، حتى لا تبقى لأمة من الأمم خصائص تتميز بها. ولكن مفهوم الإسلام للأمة باق؛ لأنه يقوم على أساس راسخ ثابت هو الرابطة الدينية والتضامن العقدي؛ فالفرد المسلم يشعر أنه جزء من كيان عضوي كبير، وهذا الكيان اتحاد تلقائي لا يحتاج لدولة تنشره وتشجعه؛ فالمسلم أخو المسلم لا يخذله ولا يسلمه.
الأمة والمؤسسات:
إن تركيز القرآن الكريم على مصطلح الأمة، يبين ما لها من أهمية، وأنها هي الأصل؛ فالمؤسسة السياسية قد تتعرض لهزات وتجزُّؤ كما تعرضت له الخلافة العباسية في بغداد، وقد تزول الدولة ولكن الأمة تبقى تاريخياً كإطار عام يجمع المسلمين في شتى أوطانهم، فقد بقيت الأمة من خلال المؤسسات الوسطى (بين الفرد والدولة) هذه المؤسسات التي تتجاوز الدولة (المتغيرة دائماً) مثل مؤسسة التعليم والتضامن الأسري والمسجد والثروة. وقد كان من اهتمامات ابن تيمية وابن خلدون البحث عن السبل التي تحرر المؤسسات الوسطى من هيمنة الدولة لم يكن ابن تيمية يتطلع إلى صلاح الدين يعود ثانية، فراح يدعو إلى الإصلاح الاجتماعي الداخلي؛ لأن تدخُّل الدولة في المؤسسات جعلت النفس الإنسانية تكسل عن اكتساب الفضائل، يقول الشيخ رشيد رضا مشجعاً أن يكون أمر التعليم بيد مؤسسات: «إن أمر التربية لا يجوز أن يُترك إلى الأفراد ولا إلى الحكومات؛ لأن المدارس للأفراد دكاكين لكسب المال، وللحكومات معامل لسبك العمال»(7). فالمدارس تخدم أحياناً نعرات وعصبيات محلية إقليمية أو مذاهب رأسمالية أو اشتراكية، ويمكن للأمة أن تقوم بمدارس تخدم المفهوم الإسلامي الحضاري.
إن العلماء - ولهم دورهم الكبير- ما تزال الأمة تنظر إليهم باحترام، وما يزال المسلم يتوجه إلى العالِم يسأله عن شؤون حياته، وهل هذا شرعي أو غير شرعي، حلال أم حرام؟ الدولة أو الحكومة هي تنظيم إداري للمجتمع، والقاعدة الأساسية هي الأمة؛ لأن الفرد أمام الدولة قد يكون ضعيفاً متخوفاً ومؤسسات الأمة من جمعيات ومنظمات توفق بين الفرد والعمل العام، وخاصة أن الدولة الحديثة قد توغلت على الفرد فأصبح إما منساقاً دون أن يشعر بالوسائل الإعلامية القوية التي تسيره حيث أرادت، وإما منسحقاً تحت ضغط العيش اليومي والخوف الأمني. إن كثرة الجمعيات والمؤسسات ومراكز البحوث العلمية والدعوية مما يضطر المؤسسة السياسية لأن تعترف بحجمها، بل إلى تقليص دورها. والتجمعات إذا كان هدفها التعاون على الخير؛ فهذا مما يؤيده الإسلام ويشجعه كما جاء في الحديث: «خيركم المدافع عن عشيرته ما لم يأثم». وكما جاء في حديث: «انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً. قال أحد الصحابة: يا رسول الله! أنصره مظلوماً؛ فكيف أنصره ظالماً؟ قال: تمنعه من الظلم؛ فذلك نصرك إياه». وروى مسلم عن جابر قال : «أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بسبع، ونهانا عن سبع: أمرنا بعيادة المريض، واتباع الجنائز، وتشميت العاطس، وإبرار القَسَم، وإجابة الدعوة، ونصر المظلوم، وإفشاء السلام...» أليس هذا من تضامن الأمة وتعاونها على الخير؟(/2)
إن عدم الاهتمام بمفهوم (الأمة) وعدم إيجاد اللحمة والتجانس بين أفرادها جعلها تعيش في فقر اجتماعي؛ فالمثقف والأمي، والغني والفقير، والكبير والصغير، لا يوجد اتصال قوي فيما بينهم. وكأن كل فرد أو أسرة جزيرة منفصلة عن الأخرى، وكأن الفرد ليس مواطناً في أمة ودولة، بل مقيماً على أرض هو وأفراد آخرون، والقوة والتغيير إلى الأفضل إنما يأتيان من الجهود المتصاعدة ومن خلال سائر طبقات ومؤسسات المجتمع.
(1) محمد الطاهر بن عاشور: أصول النظام الاجتماعي في الإسلام 208.
(2) رضوان السيد: مفاهيم الجماعات في الإسلام/ 14 ط 1، بيروت 1984م والنص من خارج: هو القرآن والسنة.
(3) انظر: يحيى بن سلام، التصاريف، ط تونس 1979م.
(4) المُحدَّث: هو الذي يُحدَّث في سره وقلبه بالشيء فيكون كما يُحدث به.
(5) ابن القيم: مدارج السالكين 1/ 39.
(6) علم التاريخ عند المسلمين/ 45 بيروت مؤسسة الرسالة 1983م.
(7) مجلة المنار، م 17/ 8 ويقصد بالعمال: الموظفين.(/3)
مفهوم الإرهاب في الإسلام
إبراهيم الأزرق*
مقدمة:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على قائد الغر المحجّلين، نبي الهدى والملحمة والرحمة، المبعوث بالكتاب والسيف والحكمة، ثم أمّا بعد:
فإنّ الحرب التي يشنها دعاة الباطل على دعاة الحق قديمة، ولها صورٌ شتى، ومن أخطرها حرب الكلمة التي يسعوْن من خلالها إلى زعزعة المفاهيم في الأذهان وقلب الموازين في العقول، وأي فرق بين ميْتٍ وبين من سُلب روح الوحي؟!
أيّ حياة فيمن سُلِب قلبه الحياة؟! فأصبح لا يعرف معروفاً ولاينكر منكراً، اغتيل من حيث لا يحتسب! اغتالته الكلمة؟!
إنّ الحروب الإعلامية الكلامية حروب طاحنة فاتكة؛ ولذا تولّى كِبرها أكابر المجرمين جيلاً بعد جيل، وقديماً قال فرعون: ((ذروني أقتل موسى وليدعُ ربه إني أخاف أن يبدّل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد))!! [سورة غافر: 36]
"أليست هي بعينها كلمة كل طاغية مفسد عن كل داعية مصلح؟ أليست هي بعينها كلمة الباطل الكالح عن وجه الحق الجميل؟ أليست هي بعينها كلمة الخداع الخبيث لإثارة الخواطر في وجه الإيمان الهادئ؟ إنه منطق واحد يتكرر كلما التقى الحق والباطل، والإيمان والكفر، والصلاح والطغيان، على توالي الزمان واختلاف المكان؛ والقصة قديمة مكررة تعرِض بين الحين والحين" [في ظلال القرآن لسيد قطب - رحمه الله -: 5/3078]. تارة رمي بتبديل الدين، والخروج عن إسلام المعتدلين! وتارة رمي بالإفساد والإرهاب، أو الأصولية والوصولية والتطرف. ((كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلاّ كذباً)) [سورة الكهف: 5].
وإنْ تعجب فعجبٌ من يهود! أخذوا قول فرعون، فألقوه على أشباه موسى! ((يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلاّ أن يتمّ نوره ولو كره الكافرون)) [سورة التوبة: 32] . وهذا دأب اليهود في الماضي والحاضر.
فإذا أمعنت النظر في الحرب الإعلامية، على القيم والمفاهيم الإسلامية، وجدت أن اليهود هم الذين يقودونها، وإليك هذه الإحصائيات:
- شركة CNN الإخبارية التي تملكها شركة Time Warner يرأسها (جيرالد ليفن) اليهودي.
- شركة ABC جزء من شركة Eisner's Disney Company كل مدراء الإنتاج فيها يهود ومنهم (بوب ريتشبلوم)، (فيكتور س نيوفلد)، (ريك كابن).
- شركة CBS الإخبارية جزء من شركة Westinghouse Electric Corporation، الرئيس التنفيذي لها: (إريك أوبر)، وقد اشترت شركة CBS شركة VIACOM التي يرأسها اليهودي (سومنر ريدستون).
- شركة MBC الإخبارية تملكها شركة General Electric ورئيس MBC هو اليهودي (أندرو لاك).
- شركة The Newhouse التي تمتلك ستاً وعشرين جريدة، و ثنتي عشرة محطة تلفزة، وسبعاً وثمانين محطة للكابلات، وأربعاً وعشرين مجلة يملكها الأخوان اليهوديان (صمويل) و(دونالد نيوهاوس).
- شركة Newyork Times التي تمتلك ثنتي عشرة مجلة، و سبعَ إذاعات ومحطات تلفزة، ومحطات للكابلات، وثلاث دور نشر، يملكها اليهودي (آرثر أوتش).
- جريدة The Washington post يملكها اليهودي (دونالد جراهام).
- جريدة The Wall Street Journal مملوكة لشركة Daw Jones & Company التي يرأسها اليهودي (بيتر آر. كان)[عن موقع مجلة العصر الإلكترونية http://www.alasr.ws]، وغيرها كثير.
والواجب علينا إزاء هذه الحرب الإعلامية التي يشنها اليهود أن نكون حذرين، فلا نأخذ عنهم ما يزخرفون من قيم ومفاهيم، ونتفطّن إلى ما يشوّهون منها، فلا ننبذ كل ما ينبذون، وللأسف فإن وسائل الإعلام العربية تَعِلُّ من القوم وتنْهَل، وتلقي الكلام على عواهنه، تحسبه هيناً وهو عند الله عظيم، لا تفكر في مدلوله، وفي من وضعه، وفي مغزاه عند من وضعه، فتكون عاقبة هذا النقل الببغاوي:
[1] تثبيت مفاهيم دخيلة.
[2] وزعزعة مفاهيم أصيلة.
مثال الأول، دعوى المساواة التي صُور للناس أن الدين قائم عليها، ثم نادى أدعياؤها بالتسوية بين الذكر والأنثى، والبر والفاجر، والعالم والجاهل، تحت دعوى دعوة الإسلام للمساواة!(/1)
"وأخطأ على الإسلام من قال: إن الدين الإسلامي دين المساواة؟ بل دين الإسلام دين العدل، وهو الجمع بين المتساويين، والتفريق بين المتفرقين، ومن أراد بالمساواة العدل فقد أصاب في المعنى وأخطأ في اللفظ. ولهذا كان أكثر ما جاء في القرآن نفي المساواة ((قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون)) [سورة الزمر: 9]، ((هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور)) [سورة الرعد: 16]، ((لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعدُ وقاتلوا)) [سورة الحديد: 10]، ((لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله)) [سورة النساء: 95]، ولم يأتِ حرفٍ واحد في القرآن يأمر بالمساواة أبداً، إنما يأمر بالعدل" [شرح العقيدة الواسطية للعلامة ابن عثيمين - رحمه الله -: 189 بتصرّف يسير]; .ومثل دعوى المساواة، دعوى الديمقراطية، ودعوى الوحدة الوطنية، والدعاوى القومية، ومزاعم الحريات الفردية، والحقوق الإنسانية:
[البيتين نسبهما ابن خلدون في مقدمته لابن شرف هكذا، انظر المقدمة: 113، ولهما روايات أخرى]
ومثال الثاني: الإرهاب، وهو مادة هذا البحث.
الإرهاب لغةً:
الإرهاب: مصدر أرهب، يُرْهِبُ، إرهاباً، جذره رهب، قال في القاموس:"رَهِبَ كعلِم رَهْبَة ورُهْباً بالضم وبالفتح وبالتحريك، ورُهْباناً بالضم ويحرك: خاف ... وأرهبه واسترهبه: أخافه" [القاموس المحيط للفيروزآبادي: 118، انظر مختار الصحاح للجوهري:109، ومعجم العين للخليل: 4/47، والمغرب: 354، والمصباح المنير: 241]، "والراهب: اسم فاعل من رهب إذا خاف، وهو مختص بالنصارى" [المطلع على أبواب المقنع: 1/211]; . وبذلك يبدو أن هذه المادة يدور معناها على: الخوف.
قال عنترة:
والمعنى تخاف.
وللأعشى:
أي يخاف.
ولطرَفة بن العبد:
أي أخاف الليل.
أمّا المصدر إرهاب، فقد جاء عندهم في نحو كلمة ابن حيّوس: محمد بن سلطان ابن محمد الغنوي، في قصيدته:
قال:
غير أن هذا لا يعني أن رهب مرادف لخاف، فاختلاف مباني الألفاظ عند العرب دليل اختلاف بين معانيها، ولو كان يسيراً، قال الطوفي: "إن العلماء كثيراً ما يفرقون بين المعاني والدلالات باختلاف الحروف، كقولهم البيض كله بالضاد إلاّ بيظ النمل فإنه بالظاء" [شرح مختصر الروضة: 1/14]; ، قال ابن قتيبة: "وقد يفرقون بين المعنيين المتقاربين بتغيير حرف في الكلمة حتى يكون تقارب ما بين اللفظين كتقارب ما بين المعنيين، كقولهم للماء الملح الذي لا يشرب إلاّ عند الضرورة: شروب، ولما كان دونه مما يتجوز فيه: شريب، وكقولهم لما ارفضّ على الثوب من البول إذا كان مثل رؤوس الإبر: نضح ... فإن زاد على ذلك قيل له نضخ...، وكقولهم للقبض بأطراف الأصابع: قبص، وبالكف: قبض..." [تأويل مشكل القرآن: 53-54 باختصار]; ، إلى آخر ما ذكر من أمثلة.
والشاهد أن اختلاف مباني الألفاظ يدل على اختلاف معانيها، ولهذا قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ:"الوجل والخوف والخشية والرهبة ألفاظ متقاربة غير مترادفة، قال أبو القاسم الجنيد، الخوف: توقع العقوبة على مجاري الأنفاس. وقيل الخوف: اضطراب القلب وحركته من تذكر المخوف. وقيل الخوف: قوة العلم بمجاري الأحكام. وهذا سبب الخوف لا أنه نفسه. وقيل الخوف: هرب القلب من حلول المكروه عند استشعاره. والخشية أخص من الخوف، فإن الخشية من العلماء بالله، قال الله تعالى: ((إنما يخشى الله من عباده العلماء)) [سورة فاطر: 28]فهي خوف مقرون بمعرفة.. فالخوف حركة، والخشية انجماع وانقباض وسكون، فإن الذي يرى العدو والسيل ونحو ذلك له حالتان:
إحداهما: حركة للهروب منه وهي حالة الخوف.
والثانية: سكونه وقراره في مكانه لا يصل إليه فيه، وهي الخشية، ومنه: انخش الشيء، والمضاعف والمعتل أخوان، كتقضى البازي وتقضض.
وأما الرهبة: فهي الإمعان في الهرب من المكروه، وهي ضد الرغبة التي هي سفر القلب في طلب المرغوب فيه. وبين الرهب والهرب تناسب في اللفظ والمعنى، يجمعهما اشتقاق الأوسط الذي هو عقد تقاليب الكلمة على معنى جامع، وأما الوجل: فرجفان القلب وانصداعه لذكر من يخاف سلطانه وعقوبته أو لرؤيته، وأما الهيبة: فخوف مقارن للتعظيم والإجلال وأكثر ما يكون مع المحبة والمعرفة. والإجلال تعظيم مقرون بالحب" [مدارج السالكين لابن القيم:549-550] .
قال ابن منظور : ".. وفي الحديث: السلطان ظل الله ورمحه، استوعب بهاتين الكلمتين ما على الوالي للرعية: أحدهما الانتصاف من الظالم، والإعانة، لأن الظل يُلجأ إليه من الحرارة والشدة، والآخر إرهاب العدو"، ثم علل فقال: "ليرتدع عن قصد الرعية وأذاهم فيأمنوا بمكانه من الشر" [لسان العرب، مادة رمح: 2/452] .
وتبيّن من ذلك أن الإرهاب تخويفٌ يبعث على الإمعانٍ في الهرب من المكروه؛ والإمعان في الهرب من المكروه قد يكون بكفٍّ وانحباسٍ عن فعل، ويكون بابتغاء الأسباب التي تجنّب المكروه ويكون بها الهروب منه.(/2)
ولذا سُمِّي قدع الإبل عن الحوض وصرفها عنه إرهاباً [القاموس: 118، وانظر أيضاً معجم مقاييس اللغة لابن فارس: 2/447].
الإرهاب شرعاً:
جاءت مادة (رهب) في نصوص الشريعة متعلقةً بأمور أربعة:
الأول: عبادة المؤمنين لله رب العالمين، في معرض الطلب والخبر.
الثاني: معاملة المؤمنين لأعداء الله من الكفار والمنافقين، جاءت في معرض الأمر والخبر.
الثالث: حمل الناس على أمر نهى عنه الشرع، جاءت في معرض النهي والذم.
الرابع: القيام بأفعالٍ معينة، إمعاناً في الهرب ممن لا يوصف بأحكام المكلفين.
أما الأول: فالخبر في نحو حكاية الله عن كوكبةٍ من أنبيائه: ((إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغباً ورهباً وكانوا لنا خاشعين)) [سورة الأنبياء: 90].
والمعنى أنهم "يتعوّذون بنا من الأمور المرهوب منها من مضارّ الدارين" [تيسير الكريم الرحمن للعلامة عبد الرحمن السعدي - رحمه الله -: 530]، أو يكون المعنى أنهم يسارعون في الخيرات رغباً فيما عند الله ورهباً مما عنده [ونحواً من هذا نقله ابن كثير عن الثوري في التفسير: 3/193].
وعلى كلا المعنيين لا يخرج مفهوم المادة عن المعنى اللغوي، الذي هو خوف يقودهم إلى تعوذ من مخوف إمعاناً في الهرب، أو هو خوف يقودهم إلى المسارعة في الخيرات إمعاناً في الهروب من المكروه.
وأمّا الطلب: ففي نحو قوله تعالى: ((وإيّاي فارهبون)) [سورة البقرة: 40] بعد أن أمرهم بالوفاء بالعهد "أمرهم بالسبب الحامل لهم على الوفاء بعهدهم وهو الرهبة منه تعالى" [تيسير الكريم الرحمن: 50] الرهبة من أن ينزل بهم ما أنزل بمن كان من قبلهم من آبائهم من النقمات التي عرفوا من مسخ وغيره [وهذا قول ابن عباس، انظر تفسير القرآن العظيم لابن كثير: 1/83].
وعلى هذا يكون مفهوم المادة متعلقاً بمعناها اللغوي، فالرهبة: خوف من الله يبعث على فعل أمره واجتناب نهيه، طلباً للسلامة من عقابه.
ويتبين من الخبر والطلب أن رهبة المؤمنين لله رب العالمين عبادة يجب أن تقوم في نفوسهم، بل يجب أن يفردوا الله بها، فإن قوله تعالى: ((وإياي فارهبون)) "هو من قولك زيدٌ رهبته، وهو أوكد في إفادة الاختصاص من إياك نعبد" [الكشاف للزمخشري - رحمه الله -: 1/276].
تنبيه: ذكر بعض الفقهاء المصدر المتعدي (إرهاب) عند ذكر التغليظ في القسم، كالتحليف على المصحف أو الأمر بالقيام عند القسم واستقبال القبلة، قال في الشرح الكبير (لا باستقبال القبلة إلاّ أن يكون فيه إرهاب ..) [انظر حاشية الدسوقي على الشرح الكبير: 4/228]، ولا يخرج هذا عن ذكر المادة في معرض عبادة المؤمنين لله رب العالمين، إذ المعنى إلاّ أن يكون فيه استدعاء للرهبة من الله عند الحالف.
وأما الثاني: وهو ذكر مادة رهب متعلقة بمعاملة المؤمنين لأعداء الله من الكفار والمنافقين: فالخبر فيه من نحو قول الله تعالى: ((لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله ذلك بأنهم قوم لا يفقهون)) [سورة الحشر: 13]، "رهبة: مصدر رهب المبني للمفعول، كأنه قيل أشد مرهوبية" [الكشاف: 4/85]، "أي يخافون منكم أكثر من خوفهم من الله" [تفسير القرآن العظيم: 4/340]، "وهذا يكشف عن حقيقة القوم الواقعة، ويقرّر في الوقت ذاته الحقيقة المجردة، ويمضي يقرّر حالة قائمة في نفوس المنافقين الذين كفروا من أهل الكتاب تنشأ من حقيقتهم السابقة، ورهبتهم للمؤمنين أشد من رهبتهم لله، ((لا يقاتلونكم جميعاً إلاّ في قرى محصنة أو من وراء جدر بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون))، وما تزال الأيام تكشف حقيقة الإعجاز في تشخيص حالة المنافقين وأهل الكتاب حيثما التقى المؤمنون بهم في أي زمان وفي أي مكان بشكل واضح للعيان، ولقد شهدت الاشتباكات الأخيرة في الأرض المقدسة بين المؤمنين الفدائيين وبين اليهود مصداق هذا الخبر بصورة عجيبة، فما كانوا يقاتلونهم إلاّ في مستعمرات محصنة في أرض فلسطين، فإذا انكشفوا لحظة واحدة ولّوا الأدبار كالجرذان حتى لكأن هذه الآية نزلت فيهم ابتداءً، وسبحان العليم الخبير!" [تفسير الظلال: 6/3529].
وهنا نلحظ كذلك علاقة المعنى اللغوي بمفهوم الإرهاب الشرعي، فقيام الخوف بنفوسهم قادهم إلى هروب من مباشرة القتال إلاّ في قرى محصنة أو من وراء جدر، وهو شبيه بما جاء في كلمة الأعشى السابقة [وبلدة يرهب الجوّاب دلجتها...حتى تراه عليها يبتغي الشيعا - فهو أمعن في الهروب من الانفراد في المسير، فابتغى الشفيع والشيع].(/3)
وأما الطلب: ففي نحو قول الله عزوجل: ((وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يُوَفَّ إليكم وأنتم لا تظلمون)) [سورة الأنفال: 60]، "أي وأعدوا لأعدائكم الكفار الساعين في هلاككم وإبطال دينكم كل ما تقدرون عليه من القوة، العقلية والبدنية، وأنواع الأسلحة ونحو ذلك مما يعين على قتالهم ... ومن ذلك الاستعداد بالمراكب المحتاج إليها عند القتال، ولهذا قال الله تعالى: ((ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم))، وهذه العلة موجودة فيها في ذلك الزمان وهي إرهاب الأعداء، والحكم يدور مع علته، فإذا كان شيء موجود أكثر إرهاباً منها... كانت مأموراً بالاستعداد بها والسعي في تحصيلها، حتى أنها إذا لم توجد إلاّ بتعلم الصناعة وجب ذلك، لأن ما لا يتم الواجب إلاّ به فهو واجب، وقوله: ((ترهبون به عدو الله وعدوكم)) ممن تعلمون أنهم أعداؤكم" [تيسير الكريم الرحمن: 324-325 باختصار] ، ((وآخرين من دونهم لا تعلمونهم)) قيل: بنو قريظة، وقيل: فارس، وقيل: الشياطين التي في الدُّور. قال ابن كثير ـ رحمه الله ـ: "وقال مقاتل بن حيان، وعبدالرحمن بن زيد بن أسلم: هم المنافقون، وهذا أشبه الأقوال، ويشهد له قوله تعالى: ((وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم)) [سورة التوبة: 101]"، وبهذا تعمُّ الآية كل مُبْدٍ للعداوة ومخفيها؛ فـ"لابد للإسلام من قوةٍ ينطلق بها في الأرض لتحرير الإنسان... وأول ما تصنعه هذه القوة في حقل الدعوة أن تؤمِّن الذين يختارون هذه العقيدة على حريتهم في اختيارها ... والأمر الثاني: أن ترهب أعداء هذا الدين، فلا يفكروا في الاعتداء على دار الإسلام التي تحميها تلك القوة. والأمر الثالث: أن يبلغ الرعب بهؤلاء الأعداء ألا يفكروا في الوقوف في وجه المد الإسلامي وهو ينطلق لتحرير الإنسان كله في الأرض كلها.. والأمر الرابع: أن تحطم هذه القوة كل قوة في الأرض تتخذ لنفسها صفة الألوهية، فتحكم الناس بشرائعها هي وسلطانها ولا تعترف بأن الألوهية لله وحده ومن ثمّ فالحاكمية له وحده سبحانه" [في ظلال القرآن: 3/1543].
"وقد عقد الإمام العزّ بن عبد السلام فصلين: الأول: في تخويف أهل الحرب وإرهابهم، والثاني: في الاستعداد لقتالهم بما يرهبهم" [موسوعة نضرة النعيم: 3829، بتصرف يسير].
قال ابن حزم: "قال تعالى: ((وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم))، ففرضَ علينا إرهابهم" [المحلّى: 5/419]. ودعا إلى إرهاب أعداء الله نبينا صلى الله عليه وسلم، قال بعض أهل السير عند ذكر غزوة حمراء الأسد، أن النبي صلى الله عليه وسلم ندب إلى طلب العدو إرهاباً لهم [الفصول في سيرة الرسول: 151، وانظر كذلك السيرة النبوية لابن كثير: 3/97].
وقال القرطبي ـ رحمه الله ـ :" قال محمد بن الحسن: لو حمل رجلٌ واحد على ألفٍ رجل من المشركين وهو وحده، لم يكن بذلك بأسٌ، إذا كان يطمع في نجاةٍ أو نكاية عدوٍّ.."، إلى أن قال: "وإن كان قصده إرهاب العدو ليعلم صلابة المسلمين في الدين فلا يبعُد جوازه، وإذا كان فيه نفعٌ للمسلمين وتلِفَتْ نفسه لإعزاز دين الله وتوهين الكفر فهو المقام الشريف الذي مدح الله به المؤمنين.." [تفسير القرطبي: 2/364، فانظر كيف جعل العمليات الاستشهادية إرهاباً لأعداء الله، وكيف جعله مقاماً شريفاً مدح الله به المؤمنين].
ومما يدلُّ على أن إرهاب أعداء الله مقام شريف ومقصد شرعيّ تسويغ كثير من أهل العلم أفعالاً منهياً عنها في أصلها؛ لعلة تحقيق إرهاب أعداء الله، ومنها:
- رفع الصوت فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم. سوّغه بعض أهل العلم في حال الحرب بعلة إرهاب العدوٍّ، ومثّلوا له بفعل العباس صلى الله عليه وسلم يوم حنين [انظر تفسير القرطبي: 16/307].
- الخيلاء في الحرب، ولبس الحرير، واستعمال الذهب في السلاح، كالمسمار في السيف، رخّص فيه بعض الفقهاء وقالوا: "لأن المقصود من السلاح قتال العدو وإرهابه، فجاز أن يُحلّى بما يفيد إرهاب العدوِّ، وخيلاء المسلم تكميلاً لهذا المقصود، ولذا جاز لبس الحرير حين القتال.." [شرح العمدة: 4/312].
- صبغ الشعر بالسواد لأجل إرهاب العدوِّ، قال في الزبد: "وحرّموا خضاب شعر بسواد لرجل وامرأة لا للجهاد"، وأفاد الشراح أن العلة إرهاب العدو [شرح زبد ابن رسلان:1/40، وانظر كذلك إعانة الطالبين: 2/339].
- ما ذكره بعض الفقهاء من منع أكل لحوم الخيل، قالوا لأنه آلة إرهاب العدوّ [الهداية شرح البداية: 4/68، وانظر حاشية ابن عابدين: 6/305].
- استحباب خروج النساء لصلاة العيدين، علّله بعض الفقهاء بما فيه من تكثير سواد المسلمين، فيكون فيه إرهاب العدو [سبل السلام: 2/66].(/4)
وبصرف النظر عن تلك الأفعال وحكمها الشرعي، الذي يخالف فيه من يخالف، إلا أن الشاهد من ذكر كلام أهل العلم هو اعتبارهم لقصد إرهاب أعداء الله، وهذا ما لم يخالفهم فيه مخالف، وإنما خولف باعتبار طريق الإرهاب هذا شرعياً أم لا، فالخلاف في الوسيلة لا الغاية [ونظير هذا ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه اقتضاء الصراط المستقيم بعد أن سرد جملة من أقوال الفقهاء في مسائل يرون فيها مخالفة الكفار وأهل البدع؛ إذ قال رحمه الله: "وليس الغرض هنا تقرير أعيان هذه المسائل، ولا الكلام على ما قيل فيها بنفي ولا إثبات، وإنما الغرض ما اتفق عليه العلماء من كراهة التشبه بغير أهل الإسلام". اقتضاء الصراط المستقيم: 2/401.].
ومما سبق يمكن القول بأن إرهاب أعداء الله هو: كل فعل شرعي يبعث خوفاً يردع أعداء الله عن السبق بالاعتداء أو التمادي فيه.
ويتبين كذلك أن إرهاب من ظهرت عداوتهم ومن كان دونهم من أهل الكفر مطلب شرعي يجب أن نسعى لتحقيقه، غير أن إرهاب كل عدو بحسبه، فالمهادن والذمي والمستأمن والمعاهد إرهابهم بإعداد العدد وما يحصل به النكال لهم إن نقضوا عهدهم أو انتهت مدتهم. وأما المحارب فإرهابه بإعمال تلك العُدد وكل ما تحصل النكاية به إلا ما منعه الشارع، من نحو قصد غير المقاتلة وغير أولي التدبير استقلالاً، أو التمثيل بقتلى الكافرين ابتداءً. ومن العجائب في هذا الباب ما ذكره ابن المقري، قال: "قيل وكان من إرهاب طارق لنصارى الأندلس وحيله أن تقدم إلى أصحابه في تفصيل لحوم القتلى بحضور أسراهم وطبخها في القدور يرونهم أنهم يأكلونها، فجعل من انطلق من الأسرى يحدث من وراءهم بذلك فتمتلئ منه قلوبهم رعباً" [نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب: 92]. وأما المنافق فإرهابه بما يحصل للحربيين وغيرهم من مظهري المخالفة للشريعة فيعتبر بما يقع لهم.
العلاقة بين رهبة المؤمنين لربهم وإرهابهم لعدوهم:
إن من حقق رهبة الله عز وجل، لن يرهب أعداء الله مهما جمعوا ((الذين قال لهم النّاس إن النّاس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل)) [سورة آل عمران: 173]، بل فوق ذلك جُعلت له الرهبة في صدور أعدائه ونصر بالرعب، وكانت رهبته لله عز وجل إرهاباً، وقد بدا جلياً فَرَق أعداء الله عند ظهور شعائر الدين وقيام شرائعه، وبلغ بهم الحال أن يسموا المتمسكين بدينهم من شباب الإسلام -وإن لم يقاتلوا- إرهابيين.
وبالمقابل من خلا صدره من رهبة الله وخشيته، ألقيت الرهبة في صدره من عباد الله المؤمنين ((لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله)) والتعليل: ((ذلك بأنهم قوم لا يفقهون))، ومن عدم فقههم عدم رهبتهم لله الواحد القهار الذي يقول: ((سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينِّزل به سلطاناً)) [سورة آل عمران: 151] ، فمن لم يكن إفراد الله بالرهبة دِينه، كان عرضة لأن يرهب من دُونَه. ويشهد لهذا قول الخليل -عليه السلام- ((وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينِّزل به عليكم سلطاناً فأي الفريقين أحقُّ بالأمن إن كنتم تعلمون. الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون)) [سورة الأنعام: 81-82] .(/5)
الأمر الثالث الذي جاءت مادة رهب متعلقة به وهو حمل الناس على أمر نهى عنه الشرع ففي نحو قول الله عز وجل: ((فلمّا ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم)) [سورة الأعراف: 116]، قال ابن الجوزي ـ رحمه الله ـ: "أي أخافوهم، وقال الزجاج: استدعوا رهبتهم حتى رهبهم الناس"[زاد المسير: 3/240]، وقال أبو البقاء العكبري: "واسترهبوهم أي طلبوا إرهابهم، وقيل هو بمعنى أرهبوهم مثل قرَّ واستقر" [التبيان في إعراب القرآن: 1/282]، وفي معاني القرآن: "استدعوْا منهم الرهبة" [معاني القرآن للنحاس: 3/63]، ونحوه قول الشوكاني: "أدخلوا الرهبة في قلوبهم" [فتح القدير: 2/232]؛ فاسترهبوهم بمعنى أرهبوهم [انظر تفسير البغوي: 2/187، والثعالبي: 2/43]، فهذا إرهاب باطل، ومثله كل فعل يستدعي رهبةً في قلوب الناس بغير حق، ولهذا قال ابن القيم -رحمه الله- في منع أهل الذمة من ركوب الخيل: "فلا يجوز أن يمكّنوا من ركوبها إذ فيه إرهاب المسلمين" [أحكام أهل الذمّة: 3/1303]. ولا يخالف هذا ما قُرِّر من أن المؤمنين يجب أن يفردوا ربهم بالرهبة، كما قال سحرة فرعون: ((فاقضِ ما أنت قاضٍ إنما تقضي هذه الحياة الدنيا))، والمؤمن الحق لا يخشى أحداً إلا الله فتراه يمعن في الهرب مما يسخط الله عز وجل، بخلاف غيره، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (ألا لا يمنعنّ أحدكم رهبة الناس أن يقول بحق إذا رآه أو شهده فإنه لا يقرب من أجل ولا يباعد من رزق أن يقول بحق أو يذكِّر بعظيم) [حديث أبي سعيد رواه الإمام أحمد في المسند: 11082، بسند حسن، وفيه عنعنة الحسن عن أبي سعيد، إلاّ أنه قد توبع على ذلك]، ومثل هذا الإرهاب محرّم من جهة فعله ومن جهة الاستجابة له، ولهذا كان من استجاب لإرهاب السحرة مذموماً لانصرافه عن الحق، وهو ما عبّر عنه القرآن بقوله: ((فاستخف قومه فأطاعوه))، أما نبي الله موسى عليه السلام فلم يحمله الخوف إلى رهبة بل ألقى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون.
الأمر الرابع الذي جاءت مادة رهب متعلقة به:هو القيام بأفعال معينة إمعاناً في الهرب ممن لا يوصف بأحكام المكلفين، فهاهنا دفعت الرهبة المؤمن إلى إمعان الهرب بفعل أو ترك لا يخالف الشرع. وهي في حقيقتها رهبة لله ومراقبة لأمره ونهيه وليست استجابة لمراد من قصد الإرهاب، فلا يوقع الفعل إرهاباً حقيقياً في نفس المقصود به يحقق مراد الفاعل، كما جاء عند البيهقي وغيره من عرض النار على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (فجعلت أتأخر رهبة أن تغشاكم) [السنن الكبرى للبيهقي: 3/324. ورواه أحمد في المسند: 14600، وأصله عند مسلم: 904 في كتاب الكسوف، والحديث صحيح ورجاله ثقات، وفيه عنعنة محمد بن مسلم بن تدرس (أبو الزبير) عن جابر وقد رواه عنه غيره]، ومثله أيضاً ما جُبلت عليه نفوس البشر من رهبتها للسباع وما يؤذي من الدواب والهوام.
وقد تطلق الرهبة على الخوف الذي يقع في النفس، ولكن الاستجابة (الإمعان في الهرب) قد تتخلّف، وتكون الرهبة هنا بمعنى الخوف، ونحوه ما جاء في حديث أبي موسى الأشعري لمّا كان عند القَعْدة في الصلاة قال رجل من القوم: "أُقرت الصلاة بالبرِّ والزكاة"، فلما قضى أبو موسى الصلاة وسلّم انصرف فقال: "أيُّكم القائل كلمة كذا وكذا؟"، قال: فأرمّ القوم، ثم قال: "أيُّكم القائل كلمة كذا وكذا؟"، قال: فأرمّ القوم، فقال: "لعلك يا حِطّانُ قلتها"، قال: "ما قلتُها، ولقد رَهِبتُ أن تبكعني بها" [رواه مسلم في كتاب الصلاة، باب التشهد في الصلاة، ورواه غيره]، وكما في حديث رضاعِ الكبير [الحديث أصله عند مسلم: 1453، وقد جاء بهذه اللفظة المذكورة عند أحمد: 25121 بسندٍ صحيح رجاله ثقات] عند أحمد: "قال: فمكثت سنةً أو قريباً منها لا أُحدِّث به رهبةً..".
ومما سبق نخلص إلى ما يلي:
- واجب علينا ملء الصدور رهبة من الله عز وجل.
- واجب علينا إرهاب أعداء الله ومن كان دونهم من الكافرين.
- إن إرهاب أعداء الله هو كل فعل شرعي يبعث خوفاً يردع أعداء الله عن السبق بالاعتداء أو التمادي فيه [زعم بعضهم أن لا إرهاب في الإسلام، وهذه مجازفة يردها ما سبق بيانه].
- واجب علينا ألا نَرهَب إلا الله، فلا يحدث فينا صنيع الكافرين ولا تخويف الشياطين لأوليائهم إرهاباً.
- كل فعل غير شرعي يقصد به تخويف يحمل على إمعان في الهرب، ليحقق مراد فاعله هو إرهاب مذموم باعتبار الفعل وفاعله، على المسلم ألا يستجيب له برهبة.
- إذا كان الفعل إرهاباً فلا يلزم أن تكون استجابة المقصود بالإرهاب رهبة، بل قد تكون فعلاً يراعى فيه الشرع ولا يحقق مراد الفاعل فلا يُذم.
- إن الإرهاب المتعلق بما لا يوصف بأحكام المكلفين أو بمن لا تشغل ذمته لا يوصف بحكم، والرهبة الناتجة عنه قد تكون جِبِلّيّة جائزة أو مشروعة.(/6)
- إن ما يقود إلى ترويع المسلمين، أو ردع غير الحربيين بما يُردع به الحربيون، أو معاملة الحربيين بما لا تجيزه الشريعة، ليس إرهاباً شرعياً بل الشرع يُحرّمه، وإن كان فيه معنى الإرهاب اللغوي، ولكنه شرعاً لا يُسمّى إرهاباً، بل يسمّى ظلماً أو جرماً أو بغياً أو تعذيباً أو عدواناً أو تخويفاً ونحو ذلك. لأنه إنما ذُمّ للزيادة عن الإرهاب المشروع بالتمادي في التعدي بما لم يأذن به الشرع. ومما يدلّ عليه ما جاءت به نصوص الشريعة من نهي عنه ووصف له مثل:
- حديث السائب بن خلاد رضي الله عنه خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه قال: (من أخاف أهل المدينة ظلماً أخافه الله، وكانت عليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يُقْبَل منه عدلٌ ولا صرف) [رواه الإمام أحمد: 16130 من حديث السائب بن خلاّد وإسناده صحيح. وروى نحوه ابن حبان عن جابر في صحيحه، وصحّحه السيوطي في الجامع، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد وقال: رجال أحمد رجال الصحيح]. فسمّاه ظلماً وإخافة.
- حديث أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لقد أُخِفتُ في الله وما يُخاف أحد،..) [حديث صحيح رواه ابن ماجه في مقدمة السنن، باب فضل سلمان وأبي ذر والمقداد، بسندٍ رجاله ثقات وروى نحوه الترمذي أيضاً: 2472 في كتاب صفة القيامة والرقائق، وقال: حسن صحيح].
أما النهي عن التعدّي على غير الحربيين بظلم أو عدوان، فقد جاءت فيه آثارٌ كثيرة، من نحو تحريم خفر ذمة الله أو قتل المعاهدين والمستأمنين، غير أنها لم تُسَمِّ ذلك إرهاباً، ومن ذلك حديث هشام بن حكيم بن حزام، قال: مرّ بالشام على أناس، وقد أقيموا في الشمس، وصُبَّ على رؤوسهم الزيت، فقال: ما هذا؟ فقيل: يُعذَّبون في الخراج. فقال: أما إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: "إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا" [ مسلم كتاب البر والصلة، باب الوعيد الشديد لمن عذب النّاس بغير حق، انظر شرح النووي: 16/167. ورواه غيره] فسماه تعذيباً.
والواجب على المسلمين أن لا يتلقوا عن الكافرين مصطلحاتهم وما بنوا عليها من أحكام، بل الواجب أن ينظروا في مصطلح القوم وما عنَوْا به؛ ليقرِّروا المصطلح الشرعي المناسب للفعل، ومن ثَمَّ يُذمُّ أو يُمدح ذلك الفعل وفقاً للمصطلحات الشرعية.
فالإرهاب عند الكفار مذمومٌ، وفي نصوص الشرع محمودٌ بل واجبٌ مفروضٌ كما نصَّ عليه ابن حزم، ولا يسمى البغي والظلم والتعذيب في الاصطلاح الشرعي إرهاباً، وإن كان إرهاباً في اصطلاح الكفار.
فالواجب على المسلمين ـ ولاسيما أهل الإعلام ـ أن ينظروا في الفعل فإن كان إرهاباً شرعياً مدحوه وأثنوا عليه، وإن كان بغياً أو ظلماً أو عدواناً أو تعذيباً بغير حق سموه باسمه الشرعي وذموه.
الإرهاب اصطلاحاً: [المراد بالمعنى الشرعي للكلمة هو ما يراد بها في نصوص الشرع. أما المعنى الاصطلاحي فيُقصد به لفظٌ اصطلح عليه أهل فنٍّ أو جماعة للدلالة على مرادهم]
إن معنى الإرهاب في نصوص الشريعة واضحٌ كما سبق بيانه، غير أن المصطلح الدولي للإرهاب ليس له تعريف واضح ومقبول لدى جميع الدول.
واللفظ الغربي لكلمة إرهاب هو Terrorism مأخوذ من Terrorize بمعنى يُرهب أو يُروّع أو يُكرِه على أمر بالإرهاب [المورد لمنير البعلبكي: 960]. وقد شاع استخدام هذه الكلمة في الدول الغربية إبان الثورة الفرنسية 1789م، واستحدثت الكلمة الفرنسية Le terrorisme [مجلة البيان عدد 116 صفحة 32 - بتصرف -]، وقد قامت الثورة الفرنسية على النظام الملكي الذي دأب على ترويع الناس وقمعهم من أجل استعبادهم [Il était une fois la France vingt siécles ?histoire: 164].
وقد حاول بعض الباحثين الغربيين أن يضعوا تعريفاً اصطلاحياً لهذه الكلمة، ولعلّ من أدقها تعريف (جورج لي فاسر) بأنه: "الاستعمال العمدي والمنتظم لوسائل من طبيعتها إثارة الرعب بقصد تحقيق أهداف معينة" [مجلة البيان العدد 116 الصفحة 33]، وهذا التعريف مع دقته يوضح السبب الذي جعل من الإرهاب مصطلحاً فضفاضاً وغير بيِّن المعالم في عين من ينظر إليه بعين نفسه لا بعين غيره، ويكمن ذلك في إشارة التعريف إلى أن الإرهاب يكون بقصد تحقيق أهداف معينة، هي أهداف سيئة، وإلاّ لو كانت نبيلة فلا يسمى ذلك إرهاباً. ولذلك كان ما يقوم به الأفغان من إيواء المجاهدين إرهاباً لما تضمنه العمل من تحقيق أهداف معينة سيئة في نظرهم! ومثل ذلك قل في الكشميريين والشيشانيين والفلسطينيين وغيرهم ممن يثيرون الرعب العمدي والمنظم لتحقيق أهداف سيئة.
أما الأحداث التالية فليست إرهاباً وفق عقائد وأيدولوجيات من ارتكبها:
- مذبحة الهنود الحمر في أمريكا التي قال عنها المؤرخ الأمريكي (ديفيد ستارند): "إنها أكبر مذبحة جماعية في تاريخ العالم".
- تدمير مدينتي هيروشيما ونجازاكي الذي أسفر عن أكثر من ربع مليون قتيل من المدنيين.(/7)
- تدمير مدينة (فينية) الفيتنامية وتسويتها بالأرض وقتل مئات الألوف من سكانها.
- قصف ملجأ العامرية في بغداد وهدمه على من فيه من المدنيين، وتدمير مصنع الشفاء للأدوية في السودان.
- إسقاط الطائرتين المدنيتين الإيرانية والليبية، وقتل مئات الركاب ممن كانوا على متنيهما.
- التسبب في مقتل أكثر من مليون ونصف طفل عراقي بسبب الحصار لأكثر من عشر سنوات بحجة إسقاط النظام.
- مذبحة دير ياسين سنة 1948م والتي قتل فيها أكثر من 250 شخصاً ذبحاً من الأبرياء العزل، والتي تمت بقيادة مناحيم بيغن [الحائز على جائزة نوبل للسلام مناصفة مع (السادات)!]. وقد تمَّ على إثر ذلك تشريد مئات الألوف من الفلسطينيين وبناء مستوطنة يهودية مكان المدينة.
- مذابح (صبرا وشاتيلا) التي قُتل فيها أكثر من 3000 من الفلسطينيين أكثرهم من النساء والشيوخ والأطفال [والتي تمت بأوامر رئيس الوزراء اليهودي شارون وتحت إشرافه].
- وما زالت مذابح اليهود مستمرة وقد قتل أكثر من ألف مسلم منذ بدء انتفاضة الأقصى حتى الآن، أما الجرحى والمعوّقون فيقدّر عددهم بأكثر من ثلاثين ألفاً.
وأخيراً ما نشهده الآن من عدوان على بلاد الأفغان بدعوى الردّ على تلك الغارات [التي شُنت على أمريكا في 11/سبتمبر/2001م] فبرغم ما يصحبه من قتل أبرياء ـ يقرون به ـ وتهديم مساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً، وتدمير مستشفيات على من فيها من المرضى وممرضيهم والأطباء، وبالرغم من أن وسائلهم تثير الرعب إلاّ أنها بقصد تحقيق أهداف نبيلة! تتحقق المصالح الدنيوية أو الدينية! فلا يعدون ذلك إرهاباً! بل حرباً على الإرهاب! [ولا عجب من دعواهم هذه، ولكن أن يوافقهم المسلمون فيها ويصدروا لها الفتاوى تلك لعمر الله قاصمة الظهر! وقد كنا نحسب أن في الزوايا خبايا وأن في الرجال بقايا، فلا حول ولا قوة إلاّ بالله.]
وخلاصة القول:
أنه بسبب التباين في مقاييس السوء والنبل والحسن والقبح يبدو مصطلح الإرهاب فضفاضاً عند من ينظر إليه بعقيدة وأيديولوجية تختلف عن عقيدة وأيديولوجية الطرف الآخر. وسيظل هذا المصطلح فضفاضاً مختلفاً في إنزاله على حوادث وأناسي كثيراً ما لم تتحد الأيديولوجيات والأفكار والعقائد، ودون ذلك خرط القتاد.
وقد بدا جلياً أن هذه الأيديولوجيات قد تتفاوت لدى الشعوب الغربية أو المنبثقة عنها -رغم اتفاقهم على نقاط كثيرة منها، وهذا ما جعل اسحق رابين يقول عام 1993م [22/أبريل/1993م بمناسبة افتتاح متحف المحرقة اليهودية، وقد حضر الافتتاح عدد من رؤساء أوربا شرقيها وغربيها!] "إننا لسنا متأكدين بعد من أن الرئيس (كلنتون) وفريقه يدركان تماماً خطر الأصولية الإسلامية، والدور الحاسم لإسرائيل في محاربتها، إن مقاومتنا ضد الإرهابيين المسلمين القتلة مقصود منها إيقاظ العالم الذي يرقد في سبات عميق على حقيقة أن هذا خطر جاد وحقيقي يهدد السلام العالمي" [مجلة البيان العدد 118: 74].
غير أن دول الغرب والشرق أكدت له في التاسع عشر من يونيو 1994م في اجتماع اسطانبول الذي شارك فيه أربعون وزيراً للخارجية والدفاع في الدول الغربية وفيهم وزراء حلف شمال الأطلسي الذي يضم كافة الدول الأوربية الشرقية والغربية وكذلك ضم الاجتماع روسيا!! [علماً بأن الناتو أنشئ ليكون وسيلة دفاعية ضد ما كان يعرف بالاتحاد السوفيتي وذلك في 4/أبريل/1949م] وقد كان محور الاجتماع "يدور حول وضع خطة لمواجهة الخطر القادم بعد زوال الشيوعية، وبعد عشرات الاجتماعات التي عقدت بين الوزراء الأعضاء في الحلف، كُلف الأمين العام للحلف (ولي كلايسون) رسمياً بإعداد ورقة عمل للحلف عن خطر الأصولية الإسلامية، لكونها تشكل التهديد الأخطر بعد زوال الشيوعية" [مجلة البيان عدد 118: 79].
إن مصطلح الإرهاب قد يكون غير محكم عند الغربيين تجاه بعضهم نظراً للتفاوت الذي يرد على مصالحهم التي تحكمها أيديولوجياتهم وعقائدهم، فلا عجب أن يكون الإيرلنديون والانفصاليون البروتستانت إرهابيين في نظر الغربيين الكاثوليك لا في نظر غيرهم!!
غير أنهم متفقون على أن الانفصاليين الإسلاميين "المجاهدين" إرهابيون، أنّ إبادتهم ومن وقف معهم أو عاش بجوارهم قصدٌ نبيلٌ يبرر ما يتخذ ضدّهم وليس بإرهاب!!
ولأجل ذلك قيل: الإرهابي في نظر البعض محارب من أجل الحرية في نظر الآخرين!
ومما تقدم يظهر أن الذي يتحكم في تعريف الإرهاب عند الغربيين عاملان؛ أولهما: الغايات والمقاصد، وثانيهما: الوسائل، أما الأولى فتختلف من دين إلى دين ومن عقيدة لأخرى، ومثلها الثانية، فلئن كانت الغاية لا تبرر الوسيلة عندنا، فالميكافيليون يرون أنها تبررها!
إخوة الإسلام..
التعقيب على ورقة ((مفهوم الإرهاب في الإسلام))
الشيخ محمد الأمين إسماعيل:
[1] أكثر ما يؤثر في حياة المسلمين (الإرهاب الإعلامي).
[2] ضرورة مواجهة الإعلام الغربي ببيان العلماء حقيقة المفاهيم الشرعية.(/8)
[3] من صور الإرهاب الغربي والأمريكي: محاباة اليهود الظالمين وربط الإسلام بكل التهم الكاذبة (تفجير أكلاهوما), وإظهار الغطرسة والغرور في إذلال كل الشعوب.
[4] أثر اليهود في السياسة الأمريكية والبريطانية, وكان ثمرة ذلك تمكين اليهود من أرض فلسطين المسلمة, واستخدام الفيتو ضدّ كل قرار لإدانة اليهود.
[5] التنبيه إلى خطورة حشد مؤتمرات السلام (كامب ديفيد - أوسلو - مؤتمر مدريد) التي كانت استسلاما لليهود وتسليما لحقوق المسلمين في فلسطين إلى اليهود و في المؤتمر الأخير بـ (شرم الشيخ) خرج اليهود بإدانة صريحة للمجاهدين (الإرهابييّن).
[6] سرد لجرائم اليهود الكثيرة والتي لم تُعَدَّ إرهاباً عند الأمريكيين. فالإرهاب عند هؤلاء هو ما يفعله المسلمون.
د. إسماعيل حنفي:
[1] الحذر من الحرب الكلامية التي يشنها اليهود المسيطرون على أكثر وسائل الإعلام.
[2] طبيعة اليهود في تحريف الكلم عن مواضعه وتلاعبهم بالألفاظ (ليّاً بألسنتهم وطعناً في الدين). كما فضحهم القرآن في قولهم (راعنا) يقصدون الرّعونة. وهم الذين كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم (السام عليكم).
[3] (تُرهبون به عدو الله وعدوكم) الإرهاب يعني في المصطلحات العسكرية (الرَّدْع).
[4] لا بدّ من بيان أنّ أمريكا دولة حربية وكذلك من حالف اليهود على المسلمين.
[5] حرب المصطلحات قديمة. فقد وصفوا النبي صلى الله عليه وسلم بأنه (ساحر) و(كاهن) و(كاذب).
[6] القرآن والواقع يُثبتان أنّ اليهود وحلفاءهم أشدّ الناس جُبناً وخوفاً ورُعباً.
[7]كل ما يؤدي إلى تخذيل الكفار عن المسلمين وردعهم فهو مشروع. ونحن مطالبون بإعداده شرعا كما قال الله تعالى: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدوّ الله وعدوّكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم).(/9)
مفهوم الإستراتيجية
وما هي إستراتيجية المعارضة العراقية ؟
تطور مفهوم وتعريف كلمة إستراتيجية عبر مختلف عصور التاريخ العسكري وفقاً لأختلاف وتطور التقنية العسكرية في كل عصر عن الآخر ، ووفقاً لتباين المدارس الفكرية والسياسية لكل قائد أومفكر ، ومن هنا تنبع الصعوبة لتقديم تعريف جامع مانع لكلمة إستراتيجية ، لأنه لايوجد تعريف موحد متفق عليه حتى الآن لهذه الكلمة ، لأن الأستراتيجية تتطور تبعاً لتطور الأقتصاد والسياسة والعلوم ، وتستفيد من أحدث ماتوصلت إليه العلوم والتكنولوجيا عند إعداد
واستخدام القوات المسلحة في الحرب . لذلك نجد أن لكل دولة خلال فترة معينة إستراتيجية عسكرية خاصة بها تتوقف على العوامل الأقتصادية والسياسية والعسكرية والجغرافية ، وأن أية إستراتيجية فعالة يجب أن تبنى على الخبرة والأستفادة من دروس الماضي وأن تصاغ وتوضع في إطار مناسب للمستقبل .
وكلمة إستراتيجية مشتقة أصلاً من الكلمة اليونانية ( Strategos ) وكانت تعني فن قيادة القوات .
واليك تعريف الإستراتيجية لمفكرين سياسيين وعسكريين من المدرستين الغربية والشرقية وكذلك لمفكرين عرب .
المدرسة الغربية
1- كلاوزفيتز : يعرف الإستراتيجية بأنها فن إستخدام الأشتباك من أجل هدف الحرب .(1)
وقد عاب الكاتب العسكري البريطاني ليدل هارت (2) على تعريف كلاوزفيتز للإستراتيجية ومن عيوبه أنه يدخل هذه الفكرة في حقل السياسة أو في أعلى مستوى لقيادة الحرب ، وهذه أمور تتعلق بمسؤولية الدولة لابحدود عمل القادة العسكريين الذين تستخدمهم السلطة الحاكمة ليقوموا بإدارة العمليات وتنفيذها ، والعيب الآخر هو تحديده لمعنى الإستراتيجية فيما يتعلق بإستخدام المعارك فقط ، أي تكريس كل الأعتبارات والأمكانيات في الحرب للبحث عن المعركة التي تحقق الحل الحاسم بقوة السلاح .
2- ليتريه: هي فن إعداد خطة الحرب وتوجيه الجيش في المناطق الحاسمة والتعرف على النقاط التي يجب تحشيد أكبر عدد من القطعات فيها لضمان النجاح في المعارك .(3)
3- مولتكه : الأستراتيجية هي مجموعة من الوسائل التي تستخدم لإدراك وتحقيق الوصول الى غرض محدد . (4)
4- كراسة التدريب المشترك البريطانية الصادرة عام 1902 م تعرف الإستراتيجية بأنها فن التخطيط لحملة ما وتوجيهها، وهي الأسلوب الذي يسعى إليه القائد لجر عدوه الى المعركة(5)
5- فون درغولتز : هي التدابير الواسعة التي تستخدم في تحريك القوات الى الجهة الحاسمة في أكثر الظروف ملائمة ويمكن أن يسمى علم القيادة .(6)
6- فوش : هي فن حوار الإرادات التي تستخدم القوة لحل خلافاتها .(7)
7- ليدل هارت: هي فن توزيع واستخدام مختلف الوسائط العسكرية لتحقيق هدف السياسة(8) وسرعان ما أدرك ليدل هارت بأن تعريفه هذا لم يحط بجميع المفاهيم المتزايدة بأستمرار في عددها وحجمها ، لذلك يرى الجنرال بيرغالوا أن ليدل هارت أضاف أخيراً الى تعريفه السابق (أن التعبية هي التطبيق العملي للإستراتيجية في مستوياتها الدنيا ، وإن الإستراتيجية هي التطبيق العملي للإستراتيجية العامة في مستوى أدنى ).(9)
8- ريمون أرون : هي قيادة وتوجيه مجمل العمليات العسكرية ، أما الدبلوماسية فهي توجيه العلاقات مع الدول الأخرى على أن تكون الإستراتيجية والدبلوماسية تابعتين للسياسة .(10)
9- أندريه بوفر : هي فن إستخدام القوة للوصول الى أهداف السياسة .(11)
10- ايوريه : أن محتوى الإستراتيجية والتعبية واحد ، وأن كلمة إستراتيجي هي صفة لبعض المستويات في إدارة الحرب أو الحركات العسكرية وأن إدارة الحرب التي تقع مسؤوليتها على عاتق حكومة الوطن هي عملية إستراتيجية .(12)
11- بييرغالوا : هي فن المزج بين الفكرة السياسية والوسائل المتاحة لإرغام الخصم – أو الخصوم – على القبول بالغاية أو الغايات المتوخاة .(13)
12- أما المفهوم الأمريكي فقد عرف دليل ضباط أركان القوات المسلحة الأمريكية لعام 1959 الإستراتيجية بأنها (فن وعلم إستخدام القوات المسلحة للدولة لغرض تحقيق أهداف السياسة العامة عن طريق إستخدام القوة أو التهديد بإستخدامها .(14)
بعد أن إستعرضنا جملة من التعاريف الغربية للإستراتيجية سنتناول الآن التعريف الإشتراكي لها :
المدرسة الشرقية
1- لينين : الإستراتيجية الصحيحة هي التي تتضمن تأخير العمليات الى الوقت الذي يسمح فيه الإنهيار المعنوي للخصم للضربة المميتة بأن تكون سهلة وممكنة.(15)
2- ماوتسي تونك : هي دراسة قوانين الوضع الكلي للحرب .(16)
3- كوزلوف : هي عملية خلق الوسائل العسكرية التي تمكن السياسة من الحصول على أهداف .(17)
4- كرازيلفكوف : إن الإستراتيجية العسكرية تعتمد مباشرة على السياسة وتخضع لها ، وخطط الحرب الإستراتيجية يتم تصميمها على أساس الأهداف التي تحددها السياسة .(18)(/1)
5- سوكولوفسكي : تمثل الإستراتيجية العسكرية مجموعة من المعارف النظرية التي تعالج قوانين الحرب كصراع مسلح دفاعاً عن مصالح طبقية محددة . وتدرس الإستراتيجية في ضوء التجارب العسكرية والأوضاع السياسية والعسكرية والطاقات الأقتصادية والمعنوية ، وأساليب تصريف الحروب ، ووجهات نظر العدو المحتمل وأوضاع الحرب المقبلة وطبيعتها وطرائق الإعداد لها وتسيير دفتها وفروع القوات المسلحة ، وأسس استخدامها الإستراتيجي بالإضافة الى أسس الحرب المادية والتقنية وتظل في الوقت نفسه مجال النشاط العملي للقيادة السياسية والعسكرية العليا في القيادة العامة ومقرها ، والمتعلق بفن إعداد البلاد للحرب وتصريف الصراعات المسلحة في ظل أوضاع تاريخية محددة .(19)
المدرسة العربية
1- المدرسة المصرية : تعرف الإستراتيجية على أنها أعلى مجال في فن الحرب وتدرس طبيعة وتخطيط وإعداد وإدارة الصراع المسلح وهي أسلوب علمي نظري وعملي يبحث في مسائل إعداد القوات المسلحة للدولة واستخدامها في الحرب معتمداً على أسس السياسة العسكرية كما انها تشمل نشاط القيادة العسكرية العليا بهدف تحقيق المهام الإستراتيجية للصراع المسلح لهزيمة العدو .(20)
2- المدرسة العراقية : تعرفها على أنها فن اعداد وتوزيع القوات المسلحة واستخدامها أو التهديد باستخدامها ضمن أطار الإستراتيجية العامة لتحقيق أهداف السياسة .(21)
3- ويمكن تعريفها بأنها فن وعلم في تهيئة وتوزيع واستخدام القوات المسلحة أو التهديد بها لغرض تحقيق أهداف السياسة العليا .
القاسم المشترك
من الواضح أن القاسم المشترك الأعظم بين التعريفات المختلفة للإستراتيجية هو أنها علم وفن ينصرفان إلى الخطط والوسائل التي تعالج الوضع الكلي للصراع الذي تستخدم فيه القوة بشكل مباشر أو غير مباشر من أجل تحقيق هدف السياسة الذي يتعذر تنفيذه عن غير ذلك السبيل .
القواعد العامة
هناك مجموعة من القواعد العامة التي تحكم لعبة الإستراتيجية يمكن إيجازها في المبادئ التالية (22) :-
1- قوة التحشد .
2- الحصول على المبادأة .
3- تحقيق المفاجأة .
4- الأقتصاد في القوى .
5- المحافظة على حرية العمل .
6- خفة الحركة .
7- بساطة المخطط الإستراتيجي .
8- تحقيق التعاون والتنسيق بين جميع الأطراف .
9- توحيد القيادة .
كما أن هناك ثمانية مبادئ (23)على كل قائد عسكري أو سياسي أن يضع هذه المبادئ نصب عينيه حتى لايعطي للعدو فرصة إعادة صفوفه وترتيب أوضاعه ، وهذه المبادئ هي :
1- مطابقة الهدف مع الإمكانيات .
2- الأحتفاظ بالهدف ماثلاً أمامه دائماً مع تعديل المخطط تبعاً للظروف .
3- أختيار منطقة الهجوم الأقل توقعاً من قبل العدو .
4- أستثمار خط المقاومة الأضعف عند العدو ما دام يؤدي الى هدف ينتج عن إحتلاله الوصول الى الهدف العام .
5- وضع خط عمليات يؤدي الى أهداف متناوبة .
6- مراعاة المرونة سواء في المخطط أو التشكيلة بحيث يتلائمان مع الظروف .
7- لاتلقوا بكل ثقل إمكانياتكم في عمل إذا كان عدوكم محترساً .
8- لاتجددوا الهجوم على نفس الخط أو بنفس الشكل بعد أن فشلتم في المرة الأولى .
الإستراتيجية العليا
تقع الإستراتيجية العليا (24) في قمة الإستراتيجيات وتخضع مباشرة للسلطة السياسية ومهمتها التعريف بكيفية إدارة الحرب الشاملة ووضع الغايات لكل من الإستراتيجية السياسية ، والأقتصادية ، والعسكرية ، والثقافية – التي تؤلف المكونات الأساسية للإستراتيجية العليا – وتأمين التنسيق بينها جميعاً .
وتعتبر الإستراتيجية العليا من أختصاص القيادة السياسية أو رؤساء الدول والحكومات بمعاونة رؤساء الأركان العامة والمستشارين ومجلس الدفاع الأعلى .
ويستخدم تعبير الإستراتيجية العليا لشرح فكرة السياسة خلال التنفيذ وإيضاح دورها الفعال في توجيه وتنسيق جميع إمكانيات الدولة لتحقيق الأهداف الوطنية . وعليه فهي (فن وعلم تطوير وأستخدام القوى السياسية والدبلوماسية والأقتصادية والمعنوية والعسكرية للدولة أثناء السلم أو الحرب لتحقيق الغايات والأهداف السياسية ) (25) .
ان مدى الإستراتيجية محدد بالحرب ولكن الإستراتيجية العليا تنظر الى ماوراء الحرب ونحو السلم الذي سيعقبه ، ولاتكتفي بتحقيق التنسيق بين مختلف وسائط الحرب فقط بل عليها أن تنظم استخدامها أيضاً بغية تجنب تقويض حالة السلم المقبلة من أجل أمن الأمة وأزدهارها .
ان على الإستراتيجية العليا أن تقدر وتضاعف الأمكانيات الأقتصادية والقدرة البشرية بقصد دعم الوحدات المقاتلة ، علاوة على دعم القوى المعنوية .(/2)
أنَّ أهمية تقوية إرادة الرجال وشخصيتهم تعادل أهمية الحصول على القدرة المادية ، وهي تتولى أيضاً تنظيم وتوزيع الأدوار والقوى بين مختلف المرافق والصناعة . كما علينا أن ندرك أن القدرة الحربية عامل واحد من عوامل الإستراتيجية العليا التي يدخل في حسابها قوة الضغط المالي أو السياسي أو الدبلوماسي أو التجاري أو المعنوي ، وكلها عوامل هامة لأضعاف إرادة الخصم .
مسالك الإستراتيجية العليا
تطبق الإستراتيجية العليا بأحد الشكلين التاليين :
1- الإستراتيجية المباشرة : حيث تعتبر القوة العسكرية الأداة الرئيسة لتحقيق الأهداف الوطنية ، ولاتستثنى إستخدام عناصر القوة الأخرى الى جانب القوات العسكرية ، فالعناصر السياسية والأقتصادية والثقافية تشكل أجزاء مكملة للقوة العسكرية ومجموعها يحدد لنا مفهوم الإستراتيجية المباشرة . ويعطى عامل السرعة فيها أهمية كبرى وذلك لعدم أفساح المجال للعدو بترتيب وضعه والرد علينا وبالتالي أجباره على الخضوع لإرادتنا .
ويمكن تحقيق هذه الإستراتيجية في أحد الصور التالية :
أولاً: إستراتيجية مباشرة تستهدف الحصول على النصر العسكري نتيجة الأشتباك مع قوات العدو الرئيسة المباشرة ، وقد طبق الأتحاد السوفيتي هذه الإستراتيجية في الحرب العالمية الثانية .
ثانياً: إستراتيجية مباشرة تستهدف الحصول على النصر العسكري ليس عن طريق الألتحام المباشر ولكن بعمل يؤدي الى الأخلال بتوازن العدو وأزعاجه ومباغتته كمهاجمة مؤخرته أو أجنحته أو النقاط الضعيفة في جبهته أو قطع خطوط مواصلاته أو قطع طرق إنسحابه أو ضرب مراكز قيادته أو التقدم من إتجاهات غير متوقعة .
وقد طبق الألمان هذه الإستراتيجية في الحرب العالمية الثانية ، كما طبقتها إسرائيل في عمليات عام 1948 ، و1956 ، و1967 .(26)
ثالثاً: إستراتيجية مباشرة تبحث في تحقيق الهدف عن طريق التهديد بإستخدام القوة ، وقد استخدمتها الولايات المتحدة في أزمة الصواريخ بكوبا .
2- الإستراتيجية غير المباشرة : وهي تبحث في تحقيق الأهداف بوسائط غير عسكرية بالدرجة الأولى وبالإنهاك العسكري بالدرجة الثانية إذا أقتضت الضرورة.
أي بمعنى أنها تبحث عن الحسم عن طريق إستخدام الوسائل النفسية ، كالدعاية والإشاعة ، وتسميم السياسة والأقتصاد ، والضغط الدولي ، والتفتيت الداخلي وغيرها.
وتستهدف كذلك تدمير معنويات العدو والحفاظ على معنويات الأصدقاء ، وتستخدم أسلوب الحرب الثورية ، وتخضع لثلاث مراحل :
أ- الحفاظ على الأمل وخلق الثقة بالنصر مهما طال الصراع .
ب- تثبيط همم العدو حتى يتحقق الحسم النفسي .
ت- ردع العدو ومنعه من إستخدام وسائل العسكرية المتفوقة .
أن السبب الذي يدعو إلى إستخدام إستراتيجية غير مباشرة هو إنتظار الأنقلاب في ميزان القوى ، ويتم الحصول على هذا الأمر بإنهاك وسائط العدو ، علماً بأن وخزات الأبر المتعاقبة تضعف العدو أكثر من الصدمات الكبيرة ذات النتائج غير الحاسمة ، على أن يكون إنهاك العدو خلال هذه الوخزات أكبر من إنهاك قواتنا ، وذلك بتدمير تموين العدو أما بغارات أو هجمات محلية تؤدي الى إفناء بعض وسائطه أو تكبيدها خسائر كبيرة ، مما يدفعه الى القيام بهجمات غير مجدية ، ويجبره على اتخاذ وضع ممتد أكثر مما تتحمل قواته مع إنهاك قدرته المادية والمعنوية .
ويمكن تحقيقها بأحد الصور التالية :
أولاً: استخدام الأساليب السياسية أو الدبلوماسية أو الأقتصادية لتحقيق الأهداف (27) وقد طبقها هتلر عند أحتلاله النمسا وجيكوسلوفاكيا .
ثانياً: اللجوء الى أسلوب حرب العصابات طويلة الأمد ، كما حدث في الجزائر وفيتنام (28).
ثالثاً: فتح جبهات ثانوية في أرض العدو أو في أقاليم دول تابعة أو مؤيدة له بعيداً عن جبهة القتال الرئيسة ، وقد طبقت بريطانيا هذه الإستراتيجية في الحرب العالمية الثانية بفتح جبهة شمال أفريقية .
رابعاً: إثارة الفتنة داخل دولة العدو بحيث يؤدي الى إقتتال مواطنيه وأضعافه من الداخل (29) وهذا ما طبقته إسرائيل في لبنان لغرض ضرب الحركة الوطنية والثورة الفلسطينية .
خامساً: الإستيلاء على هدف جزئي بسرعة كبيرة بفضل المباغتة وتفوق القوات ثم التظاهر بالتوقف قبل القيام بعملية أخرى ، ثم تكرار ذلك بصورة متتالية (30) وقد طبقت اسرائيل ذلك عام 1948 بعد الهدنة الأولى .
طبعاً يكون العامل النفسي في الإستراتيجية غير المباشرة مسيطراً وسائداً كما تزداد أهمية عامل الوقت الى حد كبير ويتقلص عامل القوة فيها ، إلا أنه يبقى ماثلاً .
نماذج إستراتيجية
توضع الخطة الإستراتيجية حسب الأمكانات المتيسرة للخصمين وبموجب أهمية سبب
وهدف النزاع وإليك هذه النماذج (31):-(/3)
1- إذا كانت قدراتنا قوية جداً أو أن الصدام المتوقع يؤدي الى إستخدام أمكانات دول حليفة قوية وكان سبب النزاع صغيراً ، فأن مجرد التهديد بهذه الوسائل كافياً لأجبار الخصم على قبول الشروط المفروضة عليه أو جعله يتراجع عن إدعاءاته وتطلعاته وهذا ماحدث عندما هدد الأتحاد السوفيتي بضرب لندن وباريس بالصواريخ أثناء العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 .
2- إذا كان سبب النزاع صغيراً وكانت الأمكانات محدودة لاتحقق تهديداً فعالاً ، فأن الحل الحاسم يتم من خلال أعمال مخادعة وضغوط سياسية ودبلوماسية وأقتصادية ، وهذا ما استخدمه هتلر حينما ألغى أتفاقية التعويضات وإعادة تسليح الجيش الألماني .
3- اذا كانت حرية العمل العنيف محدودة والوسائل المتيسرة محدودة أيضاً وكان الهدف كبيراً ، فأن تحقيق النتيجة الحاسمة يتم بسلسلة من الأعمال المتعاقبة بقوات محدودة وعمليات محلية تتخللها أعمال ضغط مباشر وغير مباشر وهذا ماحدث في فيتنام مؤخراً .
4- اذا كان مجال حرية العمل العنيف كبيراً ولكن الوسائل المتيسرة ضعيفة لاتكفي للحصول على نتيجة عسكرية حاسمة ، عندئذ يمكن اللجوء الى إستراتيجية الصراع طويل الأمد الذي يرمي الى إستنزاف العدو وانهاكه مادياً ومعنوياً بحرب شاملة تعتمد على حرب عصابات عامة في كل مكان ، ويستخدم هذا في حروب التحرير كما حدث في ثورة الجزائر .
5- اذا كانت القدرة العسكرية قوية بشكل كاف فأن النتيجة الحاسمة تتم بالعمل العسكري الذي يتخذ شكل صراع عنيف قصير الأمد يؤدي الى تدمير القوى المعادية في ميدان المعركة أو إحتلال كل أو بعض أراضي الخصم لأجباره على قبول الشروط المفروضة عليه وهذا ما حدث في عدوان حزيران 1967 .
وأخيراً هذه النماذج لاتشمل كافة نماذج الإستراتيجية ، وأن أختيار النموذج الصحيح عملية تتطلب تقدير موقف مفصل يتضمن دراسة وتحليل كافة العوامل العسكرية والجغرافية والسياسية والنفسية والعقلية لدى الخصمين ثم التوصل الى النموذج الملائم للحالة المطلوبة .
بعد أن انتهينا من مفهوم الإستراتيجية والإستراتيجية العليا يمكننا الآن من وضع الخطوط الرئيسية لإستراتيجية المعارضة في الوقت الحاضر:
الإستراتيجية السياسية : تقوم المعارضة بعدة مشاريع في الوقت الحاضر وتسعى لتحقيق الباقي في المستقبل القريب منها:
1- تحرك المعارضة في الخارج على المحورين الأقليمي والدولي بتصعيد مختلف أشكال الضغط السياسي على النظام العراقي .
2- فضح النظام في سجله الأسود حول حقوق الإنسان في العراق .
3- حضور دائم للمعارضة في المحافل الدولية والمؤتمرات لفضح مايقوم به النظام في الداخل.
4- تضييق دائرة تحرك النظام من خلال مطالبة المعارضة الأمم المتحدة بإنشاء جيب آمن في الجنوب مثلما موجود في الشمال .
5- تفعيل مشروع محاكمة صدام حسين ونظامه كمجرمي حرب .
6- تسعى المعارضة بتشكيل حكومة في المنفى تحضى باعتراف ومساندة إقليمية ودولية لإحداث تغيير في العراق .
7- تمسك الأكراد بإقليم كردستان في الشمال والثبات فيه والدفاع عنه وتأسيس إدارة محلية على أرضه .
الإستراتيجية العسكرية : وتقوم المعارضة بالأعمال التالية:
1- الهجوم على أهداف محدودة بأستخدام عنصر المباغتة .
2- القيام بعمليات التعرض والتخريب بصورة تكاد تكون مستمرة .
3- خلق جو من التوتر الى أجهزة النظام وخصوصاً في المنطقة الجنوبية والمجاورة للمنطقة الآمنة في الشمال لأبقاء أجهزته الأمنية والعسكرية مرهقة وخلق شعور لديها بأنها معرضة دائماً للهجوم .
4- توسيع قواعدها المتحركة داخل العراق واستخدام الحرب النفسية بالدرجة الأولى.
5- ادخال شباب الجالية العراقية الموجودة في الخارج في دورات عسكرية لتهيئتهم وألحاقهم بالثوار .
6- الأعتماد على الحركات الليلية وتنفيذ عمليات هجوم ضد أجهزته الأمنية والعسكرية .
7- توسيع وتطوير قواعدها العسكرية خارج العراق .
الإستراتيجية الإعلامية : ولديها:
1- الوسائل المطبوعة: أصدار الصحف والمجلات والكتب والنشرات واللافتات والملصقات .
2- الوسائل المرئية : وتشمل المعارض والمهرجانات والندوات والمسرحيات ....وغيرها .
3- الوسائل الصوتية : الإذاعة وماتبثه من برامج مختلفة وأناشيد وطنية ولقاءات ومحاضرات وأحاديث .......الخ.
4- الوسائل الصوتية المرئية : التلفزيون وكذلك الأستفادة من الأقمار الصناعية الموجهه الى العراق سواء منها العالمية أو العربية من خلال اللقاءات والحوار والمناقشات وغيرها.
5- المؤتمرات الصحفية وما يتخلل هذه المؤتمرات من حديث عن جرائم النظام ومايقوم به من ظلم ضد الشعب العراقي .
6- الأجتماعات وتعقد حسب المناسبات المختلفة .
7- المؤسسات المختلفة : الأستفادة من تجمع الناس في المساجد والحسينيات والمدارس والمؤسسات الثقافية والرياضية في تعليمهم وتثقيفهم وإطلاعهم على جرائم النظام بحق شعبهم ووطنهم .
8- تأسيس وتنفيذ قناة فضائية مستقلة خاصة بالمعارضة .
الهوامش(/4)
1- كلاوزفيتز – عن الحرب – المؤسسة العربية للدراسات والنشر-ترجمة سليم شاكر الإمامي– ص175 و245 – بيروت – 1997 م .
2- ليدل هارت – الاستراتيجية وتاريخها في العالم- ص397 ترجمة الهيثم الأيوبي – دار الطليعة – بيروت – الطبعة الاولى –1967م .
3- ليتريه (1801-1881) فيلسوف وعالم لغوي فرنسي .
4- ادور ميد ايرل – رواد الاستراتيجية الحديثة – الجزء الثالث – ص231 –مكتبة النهضة المصرية – ترجمة اللواء الركن محمد عبد الفتاح ابراهيم – 1956م .
5- الجنرال باليت – اصول المعرفة العسكرية – ص35 - الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر – ترجمة مصطفى الجمل – 1971م .
6- كولمار فرايهر فون درغولتز – جنرال الماني شارك في الحرب العالمية الاولى – توفي في العراق ودفن في بغداد .
7- اكرم ديري – آراء في الحرب – ص27 – دار اليقظة العربية – 1972م.
8- ليدل هارت – الاستراتيجية وتاريخها في العالم – ص399 .
9- الجنرال بيير غالوا – استراتيجية العصر النووي – ص6 - ادارة التوجيه المعنوي في الجيش السوري – ترجمة العقيد الركن محمد سميح السيد – 1968م .
10- ريمون ارون كاتب عسكري فرنسي .
11- الجنرال بوفر – مدخل الى الاستراتيجية العسكرية – ص28- دار الطليعة – ترجمة اكرم ديري والهيثم الأيوبي – الطبعة الثانية – 1970م.
12- ايوريه – جنرال فرنسي معاصر كان قائداً عاماً للقوات الفرنسية.
13- الجنرال بيير غالوا – المصدر السابق – ص8 .
14- اكرم ديري والهيثم الايوبي – نحو استراتيجية عربية موحدة – دار اليقظة العربية - ص27 و 28 .
15- ليدل هارت – نظرة جديدة الى الحرب – ص25 - الدار القومية للطباعة والنشر- ترجمة اكرم ديري – 1965م .
16- ماوتسي تونك – ست مقالات عسكرية – ص9 - دار الشعب للنشر – بكين – الطبعة الاولى – 1968م .
17- العقيد كوزلوف – ضابط سوفيتي .
18- الجنرال كرازيلفكوف – ضابط سوفيتي- مجلة السياسة الدولية – موضوع الاستراتيجية السوفيتية في العصر النووي – للدكتور اسماعيل صبري مقلد – العدد 7 – 1967 – ص35
19- المارشال سوكولوفسكي- ضابط سوفيتي كان رئيساً للأركان العامة للقوات المسلحة السوفيتية – الاستراتيجية العسكرية السوفيتية – ص46 – عالم الكتب – بيروت – ترجمة خيري حماد .
20- محاضرات الاستراتيجية العسكرية لكلية الحرب العليا – ص12 .
21- احمد داود سليمان – نظريات الأستراتيجية العسكرية الحديثة – ص42 – الطبعة الاولى – 1988م .
22- الموسوعة العسكرية- ج1 ص67 – المؤسسة العربية للدراسات والنشر – بيروت – 1981م .
23- ليدل هارت – الاستراتيجية وتاريخها في العالم – ص413 .
24- ويطلق عليها عدة تسميات أخرى كالأستراتيجية العظمى ، أوالعامة ، أوالشاملة ، أوالكبرى ، أو الوطنية ، أو القومية وذلك حسب رأى المدارس الفكرية لدول العالم .
25- كما عرفها ليدل هارت في كتابه : الإستراتيجية وتاريخها في العالم – ص400 (هو توجيه وتنسيق كل امكانيات البلاد أو اعضاء الحلف بغية الحصول على الهدف السياسي للحرب ).
26-الدكتور محمد فاروق الهيثمي – في الإستراتيجية الاسرائيلية-منظمة التحرير الفلسطينية- مركز الابحاث – 1968 – ص50 .
27-اللواء محمد جمال الدين محفوظ – المدخل الى العقيدة والاستراتيجية العسكرية الاسلامية – الهيئة المصرية العامة للكتاب – 1976 – ص97 .
28-الدكتور بطرس بطرس غالي – الابعاد الجديدة للأستراتيجية الدولية – مجلة السياسة الدولية – العدد / 5 –1966 – ص89 .
29-المصدر نفسه – ص90 .
30-الجنرال بوفر – مدخل الى الاستراتيجية العسكرية – ص167-170 .
31-نفس المصدر – ص35-40 .
عبدالاله العنزي
27-08-02(/5)
مفهوم الإسلام
الكاتب: الشيخ د.علي بن عمر بادحدح
الدعوة هي بيان الإسلام وتبليغه والتدليل على ربانيته وكماله وإظهار محاسنه. والإسلام هو جوهر الدعوة ومنهجها وغايتها ومن هنا فلا بد من معرفته وفهمه، فالإسلام هو الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والخلوص من الشرك. وهذه الكلمات تعلمناها وحفظناها صغاراً، والحقيقة أن تأملها واستيعابها يمثل قاعدة إيمانية وقناعة فكرية ووجداناً قلبياً وتسليماً نفسياً وإذعاناً سلوكياً، إن دلالة هذه الكلمات هي الخضوع الإنساني التام للإله الواحد، والإتباع المطلق لشريعته وأحكامه، وذلك يعني أن يكون الإنسان المسلم خاضعاً للخالق المدبر كما خضع الكون كله في كواكبه السائرة ونجومه الزاهرة { أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً وإليه ترجعون } إنه « لا مناص للإنسان حين يبتغي سعادته وراحته وطمأنينته باله وصلاح حاله من الرجوع إلى منهج الله في ذات نفسه وفي نظام حياته وفي منهج مجتمعه، ليتناسق مع النظام الكوني كله» ذلك النظام الذي انتظم في الإسلام والاستسلام والخضوع للقدرة الإلهية والتسخير الرباني، « والفطرة البشرية في أصلها متناسقة مع الكون، مسلمة لربها إسلام كل شيء وكل حي فحين يخرج الإنسان بنظام حياته عن ذلك الناموس لا يصطدم مع الكون فحسب، إنما يصدم بفطرته التي بين جنبه فيشقى ويتمزق، ويحتار ويقلق » [ الظلال 1/421،422] .
وهذا الفهم مهم لقوة اعتقاد المسلم وتشبثه بإسلامه لأنه يدرك أن يتوافق بالاستسلام والخضوع مع الكون كله. ومن تمام الفهم اليقين بأن الإسلام دين الله جل وعلا.
{إن الدين عند الله الإسلام} قال الرازي في تفسيره (7/225): « وأما الإسلام ففي معناه في أصل اللغة ثلاثة أوجه : الأول: أنه عبارة عن الدخول في الإسلام أي في الانقياد والمتابعة قال تعالى { ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلم} أي من صار منقاداً لكم ومتابعاً لكم ، والثاني : من أسلم أي دخل في السلم كقولهم: أسني وأقحط واصل قولهم السلم والسلامة ، والثالث لابن الأنباري : المسلم معناه المخلص لله في عبادته من قولهم سلم الشيء لفلان أي خلص له فالإسلام معناه إخلاص الدين والعقيدة لله تعالى » .
وهذا يظهر أن الانقياد لأمر الله ومع التسلم التام هو الدين عند الله، وهو الذي ارتضاه، وهو دين المرسلين من لدن نوح عليه السلام الذي قال لقومه: {أمرت أن أكون من المسلمين} ومروراً بإبراهيم الذي قال: {وأنا أول المسلمين} وكذا سائر الأنبياء والمرسلين وإيضاحاً لاشتمال الإسلام على جملة تلك المعاني نمضي مع ابن تيمية في كلماته الجامعة المانعة حيث يقول عن الإسلام : « وهو يجمع معنيين أحدهما: الانقياد الاستسلام، والثاني: إخلاص ذلك وإفراده، وعنوانه قوله: (لا إله إلا الله) وله معنيان أحدهما: الدين المشترك وهو عبادة الله وحده لا شريك له الذي بعث به جميع الأنبياء، والثالث: اختص به محمد صلى الله عليه وسلم من الدين والشرعة والمنهاج، وهو الشريعة والطريقة، وله مرتبتان: إحداهما من القول والعمل: وهي المباني الأركان الخمسة.
والثانية: أن يكون ذلك الظاهر مطابقاً للباطن، وهذا أعم من الإيمان فكل مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمناً، وبالتفسير الثاني يقال {إن الدين عند الله الإسلام} » [ مجموع الفتاوي 7/239،235 ] .
وبهذا الفهم تتسع الدائرة من حيث المعنى، فمن موافقة الكون في الاستسلام، تأتي موافقة صفوة الخلق من الرسل والأنبياء في هذا الإسلام والاستسلام، فيغدو المسلم منسجماً مع فطرته متوافقاً مع الكون، ثم يكون امتداداً لسلسة نورانية من الرسل وأتباع الرسل، فهم عريق في النسب الديني، وجذوره ضاربة في أعماق التاريخ، وفكرة ومعتقده مستبدل للنبوات، ومؤمن بالأنبياء، ومستيقن بتوحيدهم في التوحيد وسلامتهم بالإسلام.
{قولوا آمنا بالله وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون} فهو إذاً مستبطن لكل الديانات وجميع الشرائع باعتبار إيمانها برسلها واعتقاده بإسلامها وإن لم يعرف تفاصيل تشريعاتها، وهذا يجعله أحق بهؤلاء الرسل والأنبياء من أتباعهم الذين، حرفوا وبدلوا، أو قدسوا وألهموا، أو غدروا أو قتلوا، وهو بذلك درة الكائنات، ومقدم المخلوقات، ووارث الرسالات(/1)
مفهوم الإيمان كما جاء في القرآن (7/10)
د. علي محمد الصلابي 24/6/1426
30/07/2005
لا ريب أن مفهوم الإيمان عندما نصل إليه من خلال القرآن وتوضيح سيد الأنام عليه أفضل الصلاة والسلام هو الوسطية بعينها في هذا الباب، وهو الاستقامة والاعتدال؛ لذلك حرصت على إيضاح مفهوم الإيمان كما جاء في القرآن والسنة خصوصاً، وأن الناس قد وقعوا في الإفراط والتفريط لبعدهم عن الوحيين الكتاب والسنة.
في حد الإيمان وتفسيره
حدود الأشياء وتفسيرها الذي يوضحها، تتقدم أحكامها: فإن الحكم على الأشياء فرع عن تصورها، فمن حكم على أمر من الأمور – قبل أن يحيط علمه بتفسيره، ويتصوره تصوراً يميّزه عن غيره – أخطأ خطأ فاحشاً.
أما حد الإيمان وتفسيره، فهو: (التصديق الجازم، والاعتراف التام بجميع ما أمر الله ورسوله بالإيمان به، والانقياد ظاهراً وباطناً؛ فهو تصديق القلب واعتقاده المتضمن لأعمال القلوب وأعمال البدن. وذلك شامل للقيام بالدين كله) (1)
ولهذا كان الأئمة والسلف يقولون: الإيمان قول القلب واللسان، وعمل القلب واللسان والجوارح. وهو: قول وعمل واعتقاد يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية فهو يشمل عقائد الإيمان، وأخلاقه، وأعماله فالإقرار والاعتراف بما لله تعالى من الأسماء الحسنى، والصفات الكاملة العليا، والأفعال الناشئة عن أسمائه وصفاته. هو من أعظم أصول الإيمان وكذلك الاعتراف بما لله من الحقوق الخاصة – وهو: التألّه والتعبّد لله ظاهراً وباطناً – من أصول الإيمان والاعتراف بما أخبر الله به عن ملائكته وجنوده، والموجودات السابقة واللاحقة، والإخبار باليوم الآخر، كل هذا من أصول الإيمان, (2)
وكذلك الإيمان بجميع الرسل – صلوات الله وسلامه عليهم – وما وُصفوا به في الكتاب والسنة من الأوصاف الحميدة ، كل هذا من أصول الإيمان.
كما أن أعظم أصول الإيمان : الاعتراف بانفراد الله بالوحدانيّة والألوهية، وعبادة الله وحده لا شريك له، وإخلاص الدين لله، والقيام بشرائع الإسلام الظاهرة، وحقائقه الباطنة، كل هذا من أصول الإيمان، ولهذا رتب الله على الإيمان دخول الجنة والنجاة من النار، ورتب عليه رضوانه والفلاح والسعادة، ولا يكون ذلك إلا بما ذكرنا: من شموله للعقائد وأعمال القلوب، وأعمال الجوارح. لأنه متى فات شيء من ذلك: حصل من النقص وفوات الثواب، وحصول العقاب – بحسبه بل أخبر الله تعالى: أن الإيمان المطلق تُنال به أرفع المقامات في الدنيا: وأعلى المنازل في الآخرة، فقال تعالى: (والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصد يقون...) (3)
والصدّيقون هم أعلى الخلق درجة بعد درجة الأنبياء: في الدنيا، وفي منازل الآخرة. وأخبر في هذه الآية: أن من حقق الإيمان به وبرسله، نال هذه الدرجة، ويفسر ذلك ويوضحه ما ثبت في الصحيحين صلى الله عليه وسلم قال: "إن أهل الجنة ليتراؤون أهل الغرف في الجنة، كما تراؤون الكوكب الشرقي أو الغربي في الأفق، لتفاضل ما بينهم، فقالوا: يا رسول الله، تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم، قال : بلى والذي نفسي بيده – رجال آمنوا بالله، وصدقوا المرسلين"(4)
وإيمانهم بالله وتصديقهم للمرسلين: في ظاهرهم وباطنهم في عقائدهم وأخلاقهم وأعمالهم، وفي كمال طاعتهم لله ولرسله. فقيامهم بهذه الإيمان العام الشامل، وما يتبعه: من الانقياد والاستسلام، وأثنى على من قام به، فقال في أعظم آيات الإيمان: ( قولوا: آمنا بالله وما أُنزل إلينا، وما أُنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط، وما أوتى موسى وعيسى، وما أوتى النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم، ونحن له مسلمون) (5)
فأمر الله عباده بالإيمان بجميع هذه الأصول العظيمة والإيمان الشامل بكل كتاب أنزله الله، وبكل رسول أرسله، وبالإخلاص والاستسلام والانقياد له وحده – بقوله : (ونحن له مسلمون).
كما أثنى على المؤمنين – في آخر السورة – بالقيام بذلك، فقال: (آمن الرسول بما أُنزل إليه من ربه والمؤمنون، كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله، وقالوا: سمعنا وأطعنا، غفرانك ربنا وإليك المصير) (6)
فأخبر: أن الرسول ومن معه من المؤمنين، آمنوا بهذه الأصول ولم يفرقوا بين أحد من الأنبياء، بل آمنوا بهم: أن يحقق لهم ذلك وأن يعفو عن تقصيرهم ببعض حقوق الإيمان، وأن مرجع الخلائق كلهم ومصيرهم إلى الله يجازيهم بما قاموا به حقوق الإيمان، وما ضيعوه منها كما قال تعالى عن أتباع الأنبياء – عيسى وغيره – إنهم قالوا: (ربنا آمنا بما أنزلت، واتبعنا الرسول: فاكتبنا مع الشاهدين) (7)
فآمنوا بقلوبهم، والتزموا بقلوبهم، وانقادوا بجوارحهم، وسألوا الله أن يكتبهم مع الشاهدين له بالتوحيد وأن يحقق لهم القيام به: قولاً، وعملاً، واعتقاداً.(/1)
وقال تعالى: (إنما المؤمنون الذين إذا ذُكر الله وجلت قلوبهم، وإذا تُليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون، والذين يقيمون الصلاة، ومما رزقناهم ينفقون، أولئك هم المؤمنون حقاً، لهم درجات عند ربهم، ومغفرة، ورزق كريم) (8)
فوصف الله المؤمنين بهذه الصفات المتضمنة للقيام بالإيمان به إيماناً: ظهرت آثاره في عقائدهم وأقوالهم وأعمالهم الظاهرة والباطنة، وأنه – مع ثبوت الإيمان في قلوبهم – يزداد إيمانهم كلّما تُليت عليهم آيات الله، ويزداد خوفهم ووجلهم كلما ذُكر الله، وهو في قلوبهم وسرهم، متوكلون على الله، ومعتمدون في أمورهم كلها عليه، ومفوضون أمورهم إليه، وهم مع ذلك يقيمون الصلاة فرضها ونفلها: يقيمونها ظاهراً وباطناً، ويؤتون الزكاة، وينفقون النفقات الواجبة والمستحبة. ومن كان على هذا الوصف فلم يبق من الخير مطلباً، ولا من الشر مهرباً. ولهذا قال: (أولئك هم المؤمنون حقاً) ، الذين يستحقون هذا الوصف على الحقيقة، ويحققون القيام به ظاهراً وباطناً ، ثم ذكر ثوابهم الجزيل – المغفرة المؤدية لزوال كل شر ومحذور، ورفعة الدرجات عند ربهم، والرزق الكريم المتضمن من النعم ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
وقال تعالى: (قد أفلح المؤمنون: الذين هم في صلاتهم خاشعون، والذين هم عن اللغو معرضون، والذين هم للزكاة فاعلون، والذين هم لفروجهم حافظون، إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين، فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون، والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون، والذين هم على صلواتهم يحافظون، أولئك هم الوارثون، الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون) (9)
ففسر الله الإيمان – في هذه الآيات بجميع هذه الخصال، فإنه أخبر بصلاح المؤمنين، ثم وصفهم بقوله: (الذين هم في صلاتهم خاشعون) إلى آخر الآيات المذكورة – فمن استكمل هذه الأوصاف فهو المؤمن حقاً. ومضمونها: القيام بالواجبات الظاهرة والباطنة، واجتناب المحرمات والمكروهات. وبتكميلهم للإيمان استحقوا ورثة جنات الفردوس التي هي أعلى الجنات، كما أنهم قاموا بأعلى الكماليات.
وهذه صريحة في أن الإيمان يشمل عقائد الدين وأخلاقه، وأعماله الظاهرة والباطنه. ويترتب على ذلك: أنه يزيد بزيادة هذه الأوصاف والتحقق بها، وينقص بنقصها، وأن الناس في الإيمان درجات متفاوتة بحسب تفاوت هذه الأوصاف. (10)
ولهذا كانوا ثلاث درجات: سابقون مقربون، وهم الذين قاموا بالواجبات والمستحبات، وتركوا المحرمات والمكروهات، وفضول المباحات، ومقتصدون، وهم: الذين قاموا بالواجبات، وتركوا المحرمات، وظالمون لأنفسهم، وهم: الذين تركوا بعض واجبات الإيمان، فعلوا بعض المحرمات، كم ذكرهم الله بقوله: (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا، فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد، ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله، ذلك هو الفضل الكبير). (11)
وقد يعطف الله على الإيمان، والأعمال الصالحة أو التقوى أو الصبر، للحاجة إلى ذكر المعطوف ، لئلا يظن الظان أن الإيمان يُكتفى فيه بما في القلب، فكم في القرآن من قوله (12) : (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات) ثم ذكر خبراً عنهم. والأعمال الصالحات: من الإيمان، ومن لوازم الإيمان. وهي التي يتحقق بها الإيمان. فمن ادعى أنه مؤمن وهو لم يعمل بما أمر الله به ورسوله من الواجبات، ومن ترك المحرمات فليس بصادق في إيمانه، وهذا من وسطية القرآن واستقامته واعتداله وحكمته في هذا الباب .
كما يقرن بين الإيمان والتقوى، في مثل قوله تعالى : (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون) (13)
فذكر الإيمان الشامل لما في القلوب: من العقائد والإرادات الطيبة، والأعمال الصالحة، ولا يتم للمؤمن ذلك حتى يتقى ما يسخط الله من الكفر والفسوق والعقبات ولهذا حقق ذلك بقوله: (وكانوا يتقون)
كما وصف الله بذلك خيار خلقه، بقوله: (ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزيّنه في قلوبكم، وكرّه إليكم الكفر والفسوق والعصيان، أولئك هم الراشدون، فضلاً من الله ونعمة، والله عليكم حكيم). (14)
فهذه أكبر المنن أن يحبب الله الإيمان للعبد، ويزينه في قلبه، ويذيقه حلاوته، وتنقاد جوارحه للعمل بشرائع الإسلام، ويبغّض الله إليه أصناف المحرمات، والله عليم بمن يستحق أن يتفضل عليه بهذا الفضل، حكيم في وضعه في محله اللائق به, كما ثبت في الصحيح – من حديث أنس رضي الله عنه – أنه صلى الله عليه وسلم قال:( ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب الله إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يرجع عن دينه، كما يكره أن يُقذف في النار) (15)(/2)
فذكر أصل الإيمان الذي هو محبة الله ورسوله، ولا يُكتفى بمطلق المحبة، بل لابد أن تكون محبة الله مقدمة على جميع المحاب ،وذكر تفريضها: بأن يحب لله، ويبغض لله فيحب الأنبياء والصديقين، والشهداء والصالحين؛ لأنهم قاموا بمحاب الله واختصهم من بين خلقه، وذكر دفع ما يناقضه وينافيه، وأنه يكره أن يرجع عن دينه أعظم كراهة، تقدر أعظم من كراهة إلقائه في النار.
وأخبر في هذا الحديث: أن للإيمان حلاوة في القلب، إذا وجدها العبد سلته عن المحبوبات الدنيوية، وعن الأغراض النفسية، وأوجبت له الحياة الطيبة، فإن من أحب الله ورسوله لهج بذكر الله طبعاً – فإن من أحب شيئاً أكثر من ذكره – واجتهد في متابعة الرسول، وقدّم متابعته على كل قول، وعلى إرادة النفوس وأعراضها. من كان كذلك . فنفسه مطمئنة مستحلية للطاعات، قد انشرح صدر صاحبها للإسلام، فهو على نور من ربه، وكثير من المؤمنين لا يصل إلى هذه المرتبة العالية (ولكل درجات مما عملوا...). (16)
وكذلك في الصحيحين – من حديث أبي هريرة – أنه صلى الله عليه وسلم قال: "الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق. والحياء شعبة من الإيمان) (17) وهذا صريح: أن الإيمان يشمل أقوال اللسان، وأعمال ألجوارح، والاعتقادات والأخلاق، والقيام بحق الله، والإحسان إلى خلقه. فجمع في هذا الحديث بين أعلاه وأصله وقاعدته – وهو قول: لا إله إلا الله، اعتقاداً، وتألّهاً، وإخلاصاً لله– وبين أدناه، وهو: إماطة العظم والشوكة، وكل ما يؤذي عن الطريق فكيف بما فوق ذلك: من الإحسان وذكر الحياء ، - والله أعلم - لأن الحياء به حياة الإيمان، وبه يدع العبد كل فعل قبيح كما به يتحقق كل خلق حسن، وهذه الشعب – المذكورة في هذا الحديث – هي جميع شرائع الدين الظاهرة والباطنة.
وهذا – أيضاً – صريح في أن الإيمان يزيد وينقص بحسب زيادة هذه الشرائع والشعب واتصاف العبد بها أو عدمه، ومن المعلوم أن الناس يتفاوتون فيها تفاوتاً كبيراً، فمن زعم أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص فقد خالف السنة مع مخالفته لنصوص الشارع كما ترى (18) والانقياد لحكم الله ورسوله من علامات الإيمان قال تعالى: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم، ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت، ويسلموا تسليماً) (19)
فأقسم تعالى أنهم لا يؤمنون حتى يحكموا رسوله، ولا يبقى في قلوبهم حرج وضيق من حكمه وينقادوا له انقياداً، وينشرحوا لحكمه. وهذا شامل في تحكيمه في أصول الدين، وفي فروعه، وفي الأحكام الكلية، والأحكام الجزئية. (20)
وفي صحيح البخاري عن أنس مرفوعاً: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه".(21)
وذلك يقتضي أن يقوم بحقوق إخوانه المسلمين الخاصة والعامة، فإنه من الإيمان, ومن لم يقم بذلك ويحب لهم ما يحب لنفسه، فإنه لم يؤمن الإيمان الواجب، بل نقص إيمانه بقدر ما نقص من الحقوق الواجبة عليه.(22)
وفي صحيح مسلم من حديث العباس بن عبد المطلب(23) رضي الله عنه قال – قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً" (24) والرضا بذلك يقتضي الفرح بذلك، والسرور بربوبية الله له، وحسن تدبيره وأقضيته عليه، وأن يرضى بالإسلام ديناً، ويفرح به، ويحمد الله على هذه النعمة التي هي أكبر المنن؛ إذ رضي الله له الإسلام ووفقه له، واصطفاه له. ويرضى بمحمد- صلى الله عليه وسلم – نبياً؛ إذ هو أكمل الخلق، وأعلاهم في كل صفه كمال، وأمته وأتباعه أكمل الأمم وأعلاهم، وأرفعهم درجة في الدنيا والآخرة.
فالرضا بنبوة الرسول ورسالته، واتباعه من أعظم ما يثمر الإيمان، ويذوق به العبد حلاوته، قال تعالى: (لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته، ويزكيهم، ويعلمهم الكتاب والحكمة,وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين) (25)
قال تعالى (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم). (26)
فكيف لا يرضى المؤمن بهذا الرسول الكريم الرؤوف الرحيم، الذي أقسم الله أنه لعلى خلق عظيم، وأشرف مقام للعبد انتسابه لعبودية الله، واقتداؤه برسوله، ومحبته واتباعه، وهذا علامة محبة الله، وباتباعه تتحقق المحبة والإيمان.
قال تعالى: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم...) (27)
وفي صحيح مسلم من حديث سفيان بن عبد الله الشقفي – قال قلت : يا رسول الله ، قل لي في الإسلام قولاً، لا أسال عنه أحداً بعدك. قال: (قل آمنت بالله ثم استقم). (28)
فبين النبي صلى الله عليه وسلم – بهذه- الوصية الجامعة – أن العبد إذا اعترف بالإيمان قولاً وعملاً، فعلاً وتركاً -: فقد كمل أمره، واستقام على الصراط المستقيم ، ورُجي له فلاح الدارين.(/3)
وبعد هذا العرض الموجز لمفهوم الإيمان كما جاء في القرآن، ووضحته أحاديث سيد ولد عدنان عليه أفضل الصلاة والسلام يتضح لنا مفهوم الإيمان بعيداً على من أنكره جملة كالملاحدة، أو انحرف في فهم حقيقته كالفلاسفة، أو حرّفوه عن أصله كاليهود أو ضلّوا عن تصوّر معانيه والوقوف على ماهيته كالنصارى، وبذلك يتضح لنا مفهوم الإيمان ووسطية واستقامة واعتدال القرآن الكريم في عرضه.
وابتعدت عن أقوال من وقع في البدع في حقيقة هذا الجانب من المعتزلة والأشاعرة والخوارج والمرجئة و الجهمية، واكتفيت بقول واعتقاد أهل السنة والجماعة الذين هم الصحابة رضي الله عنهم، وكل من سلك نهجهم من خيار التابعين رحمة الله عليهم أجمعين، ثم أصحاب الحديث ومن تبعهم من الفقهاء جيلاً فجيلاً إلى يومنا هذا، ومن اقتدى بهم من العوام في شرق الأرض وغربها رحمة الله عليهم (29) وقد بين النبي -صلى الله عليه وسلم- أن النجاة لا تكون إلا لمن كان على ما كان عليه رسول الله وأصحابه ومن تابعهم إلى يوم الدين. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ( .... وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة كلهم في النار إلا واحدة، قالوا وما هي يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي) (30)
|1|2|3|4|5|6|7|
--------------------------------------------------------------------------------
الهوامش:
1-التوضيح والبيان لشجرة الإيمان للسعدي ص (9)
2-انظر: التوضيح والبيان لشجرة الإيمان ص (10)
3-سورة الحديد آية (19)
4-أخرجه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في صفة الجنة (ج4 /ص 105)
5-سورة البقرة آية 136
6-سورة البقرة ، آية 285
7-سورة آل عمران آية 53
8-سورة الأنفال آية 2-4
9-سورة المؤمنون آية 1 إلى 11
10-انظر: التوضيح والبيان ص (16)
11-سورة فاطر آية 32
12-سورة البقرة آية 277 يونس آية (9)
13-سورة يونس آية 62 ، 63
14-سورة الحجرات آية 7-8
15-رواه البخاري، كتاب الإيمان، باب حلاوة الإيمان ( ج1 / 11 ) رقم 14
16-من سورة الأنعام آية 132
17-رواه مسلم شرح النووي، كتاب الإيمان باب الحياء شعبه من شعب الإيمان ( ج2/6)
18-انظر: التوضيح والبيان ص (23)
19-سورة النساء آية 65
20-انظر: التوضيح والبيان ص 23
21-رواه البخاري، كتاب الإيمان، باب الإيمان أن تحب لأخيك ( ج1 / 11 )
22-انظر: التوضيح والبيان ص (24)
23-هو العباس بن عبد المطلب بن هشام بن عبد مناف بن قصي القرشي ابو الفضل عم النبي -صلى الله عليه وسلم- اسلم قبل عام الفتح وقدمه عمر في صلاة الاستسقاء وتوفي عام 32 هـ .
24-رواه مسلم ، كتاب الإيمان، باب من رضي بالله وبالإسلام وبمحمد ديناً( ج1 /62)
25-سورة آل عمران آية 164
26-سورة التوبة آية 128
27-سورة آل عمران آية 31
28-مسلم ، كتاب الإيمان، باب جامع أوصاف الإسلام (ج1 /65)
29-انظر: الفصل في الملل والأهواء والنحل( ج2/113)
30-رواه الترمذي: كتاب الإيمان، باب ما جاء في افتراق هذه الأمة (ج5 /26) رقم الحديث 2641 وحسّنه.
==========(/4)
مفهوم الاتفاق في العمل الإسلامي
د. يحيى عبد الله*
الحمد لله القائل: (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أو حينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه).
والصلاة والسلام على سيدنا محمد، الذي وجَّه أمته في أدائهم شعيرة من شعائر الإسلام بعد الشهادتين وهي الصلاة أن تُسوى الجماعة صفوفها ولا تختلف، كما جاء في السنن: ((لتسوُّن صفوفكم أو ليخالفن الله بين قلوبكم))؛ إشعاراً بالوحدة والتكامل، ووجَّه على أن يلين الناس في أيدي إخوانهم ولا يتأبَّوا, وأن الجماعة المسلمة توجِّه قياداتها ولو في داخل الصلاة حيث يقول المأموم لإمامه إن نسي أو أخطأ: "سبحان الله" وهذا إن دلَّ فإنما يدلُّ على أن المؤمنين كلهم يسيرون تحت سلطان الله الشرعي طوعاً وإذعاناً لله رب العالمين، كما يسيرون تحت سلطان الله القدري من جملة المنظومة الكونية.
وعليه فمن كانت معه حجة الشرع فهو الأعلى والأجدر بالطاعة، وجانبه هو الموصوف بالقوة والعزة سواء أكان تابعاً أو متبوعاً (إن الذين يحادون الله ورسوله أولئك في الأذلين كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز).
ولا تقدُّم بين يدي الله ورسوله في بيئة المؤمنين فالحق ضالة المؤمن.
وعلى آله وصحبه الذين آمنوا به وعزروه ونصروه، واتبعوا النور الذي أنزل معه؛ ففقهوا عن الله مراده، وميَّزوا بين الثوابت والمتغيرات، وحفظوا للأخوة الإسلامية حقها، حتى إن علياً رضي الله عنه قال في حق الخوارج الذين ناصبوه العداء وقد سئل عن كفرهم: "من الكفر قد فروا"، واستطاعوا إحداث معايير تستوعب متطلبات عصرهم، فلم تكن النصوص التي حفظوها والعمل الذي ورثوه مكبِّلاً لهم، بل فتح أمامهم أبواب المقاصد والغايات مشرعة؛ فولجوا فيها على بصيرة، فكانوا أهلاً لحفظ التراث والقدرة على المعاصرة، وإن أدب الخلاف عندهم و إسداء النصح والتعامل مع المخالف في الرأي، والقدرة على التجاوز سمة منهجهم، ولذلك لما خفي هذا الأدب على بعض المتأخرين وظن التنوع تضاداً انبرى البصراء لرد الأمة نحو منهج السلف في الخلاف، ومن ذلك ما كتبه شيخ الإسلام ابن تيمية بعنوان "رفع الملام عن الأئمة الأعلام".
وعليه فإن من الممكن التعامل على أساس: من لم يكن ضدي فهو معي، أعني جمع الطاقات أو تحييد بعضها للاستفادة في مرحلة الدفع العام، وأما البناء الداخلي فله حديثه الخاص به فمن المطلوب أن يستسلم الناس وإن لم يؤمنوا. ومن المعلوم أنه لا تعارض بين الصفوية والجماهيرية في العمل الإسلامي؛ لأن القرآن يتحدث عن الصفوة بمميزاتها، كما يتحدث عن الجماهيرية وعللها ومشكلاتها وكيف التعامل معها.
فما جاء في قوله تعالى: (محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً..) يجدر أن يكون حديثاً عن الصفوة، كما إن فحوى قوله تعالى: (إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان تواباً) منذر باستعداد آخر وتعامل مغاير لما يتعامل مع الصفوية؛ ولذلك تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع أهل مكة بالعفو و الصفح وقبلهم على علاتهم، وأعطى الأموال الضخمة يوم حنين للأعراب، فكان هذا التصرف داعياً للاستفهام والاستيضاح، فكان الموقف المشهور من الأنصار, وكيف أبان النبي صلى الله عليه وسلم السبيل بألطف السبل، واطمأن الناس بعد إيضاح السبيل، فبالصفوية يكون الثبات وبالجماهيرية يكون الانتشار, فالذين يعتنون فقط بالجماهيرية يفتقدون الرجال القدوة, والذين يعتمدون الصفوية يفقدون الانتشار ولذلك ينبغي اعتماد الأسلوبين.
فإذا استبان الهدف للجماعات الإسلامية فلا يعوزهم شيء من الاتفاق نحو تحقيق الهدف, وسيرة المسلمين حافلة بالعبر، ومقاصد الدين تدعو لتحقيق أولى المصلحتين ودرء أعظم المفسدتين، وما التردد من الاتفاق بعد سبر أحوال المسلمين وهجمة أعدائهم عليهم إلا بسبب الجهل بأدوات الفهم بالشرع، أو جهل مقاصده, أو اتباع الهوى.
وبناء على ما تقدم فإن المؤسسات الدعوية لو تبيَّنت طريقها، وأحكمت أدوات الفهم لنصوص الدين وللواقع الظرفي، وأخلصت سرائرها لله رب العالمين؛ فلا تجد إشكالاً في الاتفاق مع الحفاظ على الخصائص النوعية.
وإن طبيعة النصوص الشرعية تقتضي اختلاف التنوع، وكذلك طبيعة البشر والظروف الزمانية والمكانية كذلك، وعليه فإن الاعتراف بالتنوع والتكيُّف معه هو الوضع الطبيعي.(/1)
وبناءً على هذه المقدمة فإن الصحوة الإسلامية بشعبها المختلفة ينبغي أن تصلح أوضاعها الداخلية: من طبيعة عملها، وأوضاع أفرادها، وأدوات فهمها، وطرح برامجها، ووضوح مؤسساتها، وأهلية قادتها، وآلية الرقابة والتسديد لعملها، وفهم واقع أمتها. فإن إصلاح ذلك كفيل بأن يمنحها الفهم لإجادة المدافعة الإيجابية؛ لأن الذي لا يدافع لا ينمو، وفي سبيل ذلك ينبغي الحفاظ على الأهداف والأنظمة أكثر من الحفاظ على الأفراد؛ فعند ذلك يحصل الاتفاق على الكليات، وتسود روح المنافسة على الخير، وتبقى الحكمة ضالة المؤمن، وعليه فلا غرابة إن ركزت الورقة في الأوضاع الداخلية أكثر من العلاقات التكاملية, لأن الثانية نتيجة تلقائية لرشد الأولى.
وإذا لم تأخذ الصحوة الإسلامية بالأسباب الكفيلة لإحداث الاتفاق فإن الأماني والأحلام المجردة لا تزيد المتشبث بها إلا تيهاً وضلالاً، يقول الله عز وجل: (ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم وحصيد وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيءٍ لما جاء أمر ربك وما زادوهم غير تتبيب). فزيادة التتبيب جاء من طلبهم الشيء بالأسباب التي لا توصل إلى المقصود.
العموم والخصوص
لابد للتجمعات الدعوية أن تراعي خصوصيات الزمان والمكان واختلافات المجتمع تقدماً وبطأً، وأن توفِّق بين متطلبات المحل ورعاية حق الأخوة في الدين عالمياً، وأن ترجح ما هو أولى إن اقتضى الأمر وضاقت القُدَر عن التجاوب على الصعيدين في آن واحد. وعليه فإنه حُقَّ للإسلاميين في كل بلد أن يراعوا خصوصياتهم الظرفية، وأن يضعوا أقدامهم على صعيد واقعهم المعين؛ ليمكنوا صروح العلا على أرض صلبة، دون افتتان بتقليد عالمي يقطعهم عن أصول التحديات الفعلية التي يتغذى بها الإيمان ويتعين إزاءها التكليف.
وحقيق للإسلاميين أن لا يقعوا فرائس للعصبية التي تفتنهم بخصوصياتهم الظرفية والمحلية.
ففي دين التوحيد يلزم التوازن بين المرحلية الزمانية والاتصال الأبدي، وبين المحلية المكانية والامتداد الأرضي، أو بين النسبية حسب ظروف الزمان والمكان و المطلقية خلوداً أو وجوداً(1).
وقال عمر بخيت: "إن الضرورة تقتضي أن تنحصر جهود الجماعات الإسلامية في أطوارها الأولى في البلد الذي نشأت فيه؛ لأنه لا يمكن لها من الناحية الواقعية أن تبعثر جهودها الضئيلة على بلدان أخرى بعيدة عن مكان نشأتها، وغريبة عن تجاربها في الحياة، كما اتسمت بذلك دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم في مطلع أمرها بما وجَّهته من عناية خاصة بأم القرى وما حولها"(2).
إن اختلاف المجتمعات الإسلامية يحدد نوع الاستجابة المناسبة لتحديد الواقع، ويعرض على كل حركة إسلامية تعاملاً مخصوصاً مع خصوصيات مجتمعها وابتكار الوسائل المناسبة لذلك، دون تقليد لتعاملات أخرى في واقع مغاير، أو نقل لوسيلة غير مناسبة دون تكييف أو تحوير، وانشغال بشأن المسلمين العام عن واجباتها المتعينة التي يتغذى بها الإيمان ويتعيَّن إزاءها التكليف، فقد يكون هم المجتمع الاقتصاد لكونه فُتح له باب الغنى، أوهمه قضايا المعيشة والتنمية والعدالة، أو مثقلاً عن النهوض بقيادات دينية تقليدية تري كل الجديد دخيلاً والتجديد تغييراً للدين، أو كان معوزاً بولاءات عرفية أو عرقية، أو مفتوناً بقيادات لا دينية مادية تستخف بالغيب وتركن إلى الأدنى، وقد يكون في المجتمع فساد في انتمائه للملة في عقيدته أو عبادته أو خلقه من جراء نقص في بنائه الديني وتلقيه للرسالة بصورة منحرفة عن ما هي عليه أو طارئ أدخل عليه العلة والانحراف.
أو يكون المجتمع محافظاً متديناً في خاصة حياته لا يكاد ينقصه إلا النظام الإسلامي العام والشريعة الحاكمة.
أو يكون المجتمع قائماً بعاطفة دينية جياشة بالطاقات لم يواكبها علم أو فكر يرسم لها قنوات المسير الحكيم، وأعوزها انتظام أو قياد يحفظها من التبدد شتاتاً والشقاق شيعاً.
وقد تكون السلطة السياسية في بلد التيار الدعوي قائمة بمشروعية منتسبة إلى الدين الإسلامي تجامل التيار الإسلامي صدقاً أو سماحة من حيث هو دعوة وخلق، ثم تتحامل عليه غيرة وفزعاً من حيث هو مشروع للتغيير.
وقد تكون السلطة ذات انتماء إلى الدين وأهله، ولكن يحملها إرهاب العدو الخارجي على التحامل على الدعوة والدعاة؛ فتستجيب رغبة في البقاء في السلطة، ورهبة من بطش العدو، أو فقدان السلطة.
إن المتتبع لواقع المجتمعات الإسلامية المعاصرة المهتم بأمور المسلمين يستطيع إدراك هذه الخصوصيات وغيرها الكثير، والمغزى من الإلحاح على هذه الخصوصيات هو مغزى عملي يلزم كل جماعة أن تشتغل بابتلاء معين حتى توفِّيه حقه ثم تتقدم لاستكمال كمالات الإسلام الشاملة حسب أولوياتها اللازمة والميسورة(1).(/2)
فإذا فقهت كل حركة أن كل أهل بلد لهم خصوصياتهم ولهم ظروفهم وابتلاءاتهم يكون التباين في الأولويات والوسائل من اختلاف التنوع، وأن ذلك هو الاستجابة لأمر الله في هذا الواقع الذي يجب عليها مواجهته، وأن الانشغال بغيره وإن كان موافقاً لما عليه جماعة أخرى في موقع آخر هو الاختلاف بعينه؛ لأنه مخالف لما يريده الله عز وجل من هذه الجماعة وإن كان ما هم عليه في حد ذاته طاعة بغض الطرف عن الزمان والمكان.
وعليه فإن معرفة ما هو واجب لكل جماعة في أي موقع من المواقع والاستجابة للقيام بهذا الواجب لكون الضرورة الشرعية والفريضة الواقعية تقتضي ذلك لهو من أهم الوسائل المبصِّرة لإدراك مفاهيم الاتفاق في العمل الإسلامي.
وهذا الأمر يمكن تأصيله بما حفلت به السيرة من عناية المصطفى صلى الله عليه وسلم ـ في مطلع الدعوة ـ بأم القرى وما حولها وبما أمر به القرآن الكريم حملة العلم بإنذار قومهم، وأمره للمؤمنين بقتال اللذين يلونهم من الكفار وغير ذلك من الأدلة التي تعتبر الأقرب أحق بالمعروف من غيره.
ومن سنة الله عز وجل أن الرسالات تدرجت من القومية إلى العالمية، ومن ذلك مرحلية تطور رسالة محمد صلى الله عليه وسلم الذي بُعث للناس كافة ولكن لم يؤمر في السياحة في البسيطة قاطبة لينشر الدعوة فيها رقيقة وإنما أوصي في بسط الدعوة بخطاب الإطار المحلي الأقرب فالأقرب دون تجوز ولا تحيز: عشيرته فأهل مكة فالعرب فمن حولهم.
وأوصي في تطبيق نظام الدين ببناء المركز الأمكن في المدينة تقتصر ولايته على المؤمنين المهاجرين إليه دون غيرهم وتؤسَس فيه قاعدة للدين متينة منيعة، ثم تمتد لتتوطد في جزيرة العرب قاطبة ثم تبشر بالدعوة المرسلة إلي سائر تخوم الأرض لتفتح الأمصار وتمكِّن الدولة.
وبالاعتبار المصلحي فإن تصويب الخطاب أولاً إلى واقع محلي معيَّن أبلغ في الدعوة وأحكم في التنظيم وقد يكون هو الحد المستطاع أو المقدور من ناحية تأمين الدعوة في وجه ابتلاءات التعويق والكيد.
وعليه فإن تباين الخطاب الديني ولامركزية الصف المسلم من ضمانات نشوء حركة إسلامية فاعلة آمنة وأيضا ضمانة من ضمانات عدم الاستئصال.
وإذا كان الخالق الحكيم قد أرسل كل رسول بلسان قومه ليتفاعل معهم ويفقهوا عنه فإنه يتعسر على الدعاة أن يبلِّغوا إلا بلسان قومهم، ولسان القوم شامل لكل ما أحاط بهم من مكونات شخصياتهم المعينة، تلكم هي الخلفية الفكرية التي ينبغي أن تنطلق منها الحركة الدعوية في قضية التكامل مع مثيلاتها وبه يتم النفوذ إلى واقع الناس والاستجابة لمتطلباتهم وهو السبيل في إيصال البلاغ المبين.
المسلمات والمفاهيم والغايات
المسلمات: الإنسان كائن مكلَّف
إن الإنسان جعله الله خليفة في الأرض؛ منحه السيادة فيها وأناط صلاحها وفسادها بصلاحه هو وفساده، فهو الكائن الذي سُخِّرت له الموجودات (وسخَّر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه).
وخُلِق هو من أجل عبادة الله عز وجل وعمارة الأرض (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)، (هو أنشأكم من الأرض و استعمركم فيها) وتأسيساً على هذه الحقيقة تنبثق اعتبارات ذات قيمة على مستوى التصور والمنهج أو على مستوى الواقع التطبيقي أهمها:
(1) أن الإنسان سيد هذه الأرض ومن أجله سخر كل شيء، فهو أعظم من كل شيء من الماديات ولا يجوز استعباده أو استذلاله لأجل توفير قيمة مادية، فدوره هو الدور الأول وهو الذي يقود اتجاه الحياة وليس قوى الإنتاج أو علاقات الإنتاج وإن كان هذا لا يعني إغفال أثر القوى المادية على الإنسان(1).
(2) أن تحديد ماهية الإنسان في كونه كائناً مكلَّفاً يعطي البعد الغيبي وضعه الحقيقي ويجعل الوحي أساس حركة الإنسان ومنهجه؛ ذلك أن التركيز على الطبيعة الحيوانية للإنسانية يؤدي إلى الاقتصار على المنهج التجريبي الحسي كطريق للمعرفة وينفي وجود الوحي أو الغيب كمصدر رئيس لمعرفة الإنسان وحركته(2).
وعليه فإن الظاهرة البشرية يتم تناولها من منهجية التوحيد، فمفهوم الاستخلاف لا يقوم إلا على أساس التوحيد كمفهوم ومنهج يعد هو رباط جميع المفاهيم الإسلامية وجوهرها والناظم بينها بصورة تجعلنا نستطيع الحديث عن تكامل مفهومي ومن ثم تكامل منهجي داخل منظومة المفاهيم الإسلامية.
إن اتخاذ التوحيد قاعدة للعلم والحركة والتطور يرتب العديد من النتائج:
(1) وجود معيار مستقل عن البشر يؤمنون بصدقه وصلاحيته:
إن التوحيد يعني إقرار البشر بالألوهية لله والعبودية لأنفسهم وهذا الإقرار يستلزم الخضوع والطاعة لله ومن ثمَّ فهناك مصدر واحد يتلقى منه البشر التصور الصادق الشامل لحقيقة الوجود الإنساني وغايته، وينبثق عنه النهج القويم الذي يتطابق مع تصميم الكون وحقيقة حركته واتجاهه ويدخل الناس في السلم كافة مع هذا الكون ومع بعضهم البعض(3).(/3)
وهذا لا يعني إلغاء الفكر البشري لأن الله يقول: (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط) فالقياس الصحيح والعقل الراجح من الميزان. بل يعني زيادة فعاليته وترشيده وذلك من خلال الآتي:
(أ) إن التوحيد يجعل الإنسان يجمع كل الحقائق ويفتح عقله.
(ب) إن التوحيد يجعل الإنسان يدرك أن الحقيقة موجودة ومتاحة وليس هناك شيء خارج عن التفسير ويجعل الإنسان يسعى وراء الحقيقة إلى نهايتها.
(ج) إن التوحيد يجعل الإنسان يرفض كل ما يتنافى مع الحقيقة أو مع الواقع حيث إن الله واحد والحقيقة واحدة ويرفض التناقض.
(د) يجعله ينفتح لكل جديد بحثاً عن الحقيقة (الحق ضالة المؤمن).
فاقتضت طبيعة الرسالة الإسلامية الخاتمة الوقوف في شؤون الحياة الدنيا المتطورة والمتغيرة عند الكليات والمقاصد والغايات دون الفروع والجزئيات والقوانين التفصيلية والنظم والتنظيمات التي تركت لإبداع العقل المسلم في ضوء المقاصد والكليات الدينية ووفق المصلحة الشرعية(4).
أما الأمور ذات الطبيعة الثابتة فقد شرعت لها قواعد تفصيلية دائمة، اتساقاً مع طبيعتها ومقاصد الشرع منها.
وفي ضوء هذه القاعدة يمكن أن تتعدد المذاهب في الأمور المتغيرة؛ ذلك أن تحديدها يخضع لتفاعل فقه الشريعة مع فقه الواقع، وذلك يدل على أن فقه الواقع دائماً في تغيُّر ويلزم منه تغيُّر الحكم.
لكن التغير والتعدد هنا ليس كمثيله في الفكر الغربي فالتغير هنا محكوم بأصول ومبررات تستوجبه في ضوء مصلحة العباد.
أما في ظل افتقاد المعيار فإن الحق يخضع للمصلحة الموهومة حيث يحدثنا القرآن عن فرعون الذي يهدي قومه سبيل الرشاد (قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد).
وفي نفس الوقت يخاف فرعون من موسى يظهر في الأرض الفساد (وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد).
هنا نجد أنه في ظل غياب المعيار الإلهي تخضع الأمور للنسبية المطلقة فالتخريب والبغي واستنزاف موارد الشعوب سُمِّي عند مفكري أوربا استعماراً بما يعنيه هذا اللفظ من دلالات التعمير وهذا المعنى منتشر في القرآن كثيراً كما في قوله تعالى: (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون)، (قالوا يا شعيب ما نفقه كثيراً مما تقول وأنا لنراك فينا ضعيفاً ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز)، (قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء إنك لأنت الحليم الرشيد).
إذا غاب المعيار الإلهي تنقلب الأمور ويصبح الظلم وضعاً سليماً، وإن محاولة تغييره هو الوضع غير المألوف وغير الرشيد(1).
(2) التكامل والشمول:
طبقاً لمفهوم التوحيد الذي يعني في أحد معانيه الوحدة والدمج؛ فإن منهجية تناول الظاهرة البشرية المنطلقة من هذا المفهوم ستكون شاملة تجمع شتات الظاهرة وتعطي لكل جانب وضعه الطبيعي دون تحيُّز مسبق. وينصرف الشمول إلى الأبعاد التالية:
(أ) الشمول على مستوى جوانب الظاهرة، حيث لا يترجح جانب على آخر دون مرجِّح، وقد أكد ابن خلدون على أن الإسلام هو النظام الوحيد الذي يستطيع ـ ما إن تمسك به ـ أن يحقق ذلك التوازن دون انزلاق عن الصراط المستقيم.
(ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير).
(ب) تكامل الظاهرة على المستوى التاريخي انطلاقاً من الأمر القرآني الداعي للاعتبار والنظر والتفكر في السنن التاريخية السابقة؛ لأن المنهجية الإسلامية المرتكزة على حقيقة التوحيد تدرك أهمية البعد التاريخي للظاهرة بحيث ينشأ نوع من التشابه بين هذه الفترات رغم تباعدها إما لأنها تتطابق في تحقيق السنن واتباع الشريعة أو إنها تفترق عن المعيار ومن ثَمَّ يكون البعد التاريخي ذا أهمية في تحديد أبعاد الظاهرة وطرائق حلها أو تقويمها.
(ج) التكامل على مستوى الدمج بين الغيب والواقع فحقائق الوحي تؤخذ في الاعتبار العلمي أو الحركي تماماً بل وأكثر من حقائق الواقع حيث الأولى تحكم الثانية وتحدد كيفية التعامل معها، وهذا ينبئ عن أن الظاهر لا يعبِّر عن الحقيقة كلها، ومن ثم كان ما عند الله هو علم اليقين أما ما تدركه العقول المنبتة عن هدى الله فجاء الحديث عن علمهم في القرآن مبدلاً عن عدم العلم كما في قوله تعالى: (ولكن أكثر الناس لا يعلمون يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا).
فيعلمون الثاني بدل من الأول المنفي.
- إنّ عنصر الغيب يعطي الإنسان قدرات فوق قدراته المعهودة، فلذلك إذا تقرب العبد إلى الله فأحبَّه كان سمعه الذي يسمع به الخ..، وقال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح ((صدق الله وكذب بطن أخيك اسقه عسلاً)).
- والتكامل المؤدي إلى الدمج يتسم بالوسطية، والتوازن والوسطية لاتعني الوسط بين نقيضين كما هي عند أرسطو ولا إنتاج ثالث من نقيضين كما هي عند ماركس (synthesis).(/4)
وإنما هي وسطية تجمع بين المتصور أنه نقائض ومضادات في توازن وسياق متناغم فالله ـ سبحانه ـ من أسمائه الحسنى: الرافع والخافض والظاهر والباطن والأول والآخر والمعز والمذل والنافع والضار، الخ..
كل ذلك دون ما الحديث عن شيء نقيض شيء كما أنه سبحانه (هو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج وجعل بينهما برزخاً وحجراً محجورا ً)، (مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان).
فحمل التقابل على التناقض باطراد إنما هو اختزال للمفهوم؛ لان التقابل قد يكون عاملاً من عوامل الدافعية المحقِّقة للرقي وسبب من أسباب التوازن والبقاء وعدم الاضمحلال والفساد، فيكون التقابل بهذا المعنى من أفضال الله على العالمين.
المفاهيم:
المفهوم جزء من المنهج وأداة له يستبطن مقولاته ويعكس مضامينه، كما أنه نظرية بالقوة ومحور النظرية بالفعل، المفهوم مقدمة للحركة ووسيلة للدفع والتدافع، ثم إن كانت الصحوة الإسلامية المباركة تسعى لتحقيق غاياتها عبر مفاهيم تطرحها وتتفاعل من خلالها؛ فإن عليها أن تستنبط مفاهيمها من مصادرها وأن تفرز الأصيل عن الدخيل المنابذ لمفاهيمها من نظريات التنمية من مختلف المدارس اللبرالية بشقيها، وليس المطلوب من الاستنباط والغرز مجرد عمل مرحلي يعمل ويكون عاصماً إلى الأبد؛ إنما هو عمل مستمر يستصحب الحياة والعمل للدارين، قال الله عز وجل: (ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عباداً لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون).
فقد قرن قوله (تعلمون) بما يدل على التعلم والتعليم للغير ثم المدارسة المستمرة، وبذلك تتحقق الربانية التي يكون بها الاستخلاف بمفهومه الصحيح، حيث يتم عملياً ما يدل على ملكية الله المطلقة للكون، فالله هو الذي يملك الكون ملكية أصيلة وكل مالك دونه ملكيته معارة خاضعة لشروط المالك (وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه).
وإذا صار العمل التطبيقي على هذا المنوال دلَّ على عبودية القائم به عبودية مطلقة لله رب العالمين دخولاً في السلم كافة وهروباً من اتباع سبل الشيطان.
ويلزم من تحقيق الاستخلاف بالانقياد لله رب العالمين وجود منهج وشرعة يسير عليها المستخلف، وهذا المنهج والشرعة هما القرآن والسنة ـ الشرعة كما روى عن ابن عباس ما ورد في القران الكريم والمنهاج ما ورد في السنة(1).
إن الإقرار بملكية الله المطلقة وعبودية الإنسان ولزوم منهج يهدي إلى الرشد لن تكتمل فعاليتها إلا إذا كان هناك حساب على التصرف وجزاء مترتب عليه، وهو ما يتمثل في العقيدة الإسلامية في الإيمان باليوم الأخر والجنة والنار، ومن ثم فإن ترسيخ هذه العقيدة في الإنسان تجعل للفعل والتصرف غاية محددة يهدف إليها سواء بالحصول على الجنة أو الابتعاد عن النار، ودون هذه العقيدة يصبح الالتزام بالشرعة والمنهج دون ضابط أو مقصد أو غاية.
ولذلك اعتبر القرآن من الروادع مراقبة الله الذي يجازي عباده بما يعملون، وبطش السلطان لمن خالف النظام واعتدى، والرأي العام الذي يسبب ضغطاً اجتماعياً عالياً، قال الله تعالى (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون).
الغايات:
إن غاية الإنسان طبقا للمفهوم الإسلامي تشمل جميع أبعاد حياته، فلا تقف عند إطار الدنيا فقط، بل الغاية الحقيقية هي الآخرة (وإن الدار الآخرة لهي الحيوان)، كما إنها لا تقتصر على إشباع حاجاته المادية فقط (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له).
بالإضافة إلى أنها تحقق العدل بين الأجيال حيث لا إلغاء لدور أي فرد من أفراد المجتمع و إنما يعرف كل جيل دوره ورسالته في تعمير الأرض وتحقيق العبادة لله وموضعه في إطار أمته التي تمتد من آدم عليه السلام حتى آخر مسلم على ظهر الأرض ولا تحدد بإطار زمني أو إقليم أو مكان وإنما تحددها العقيدة وإسلام الوجه لله رب العالمين. اقرأ سورة الأنبياء إلى قوله تعالى (إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون).
وبناءً على هذه الوحدة المستمدة من التوحيد المتجاوزة للزمان والمكان؛ فإن لكل أمة حساباً جماعياً عند الله إلى جانب الحساب الفردي لكل إنسان، مما يجعل مسئولية الأمة تقع على عاتق كل فرد من أبنائها فيما يطلق عليه (فروض الكفاية) إلى جانب (فروض العين) فشعور كل إنسان أنه محاسب على أمته وسلوكها وأوضاعها كما يحاسب على نفسه يضبط غاية الاستخلاف ويحافظ على ديمومتها ولا يخضعها للمصلحة الجماعية أو الفردية المنقطعة عن المصلحة الشرعية ويضبط قواعد التعامل بين مجتمع الاستخلاف، إنها لا تخرج عن غاية أساسية وغايتين فرعيتين تمثلان عائداً أو مردوداً أو جزاءً لتحقيق الغاية الأساسية، فالغاية الأساسية للإنسان هي تحقيق العبادة لله والغاية الفرعية أو العائد والمردود هي تحقيق الحياة الطيبة في الدنيا والفوز بالجنة في الآخرة.(/5)
إذا علمت ذلك فإن تحقيق الاتفاق في العمل الإسلامي رهين بالتشبث بالهدف الذي خلقنا من أجله بمعرفة المسلمات والمفاهيم والغايات الدافعة نحو تحقيق الأهداف التي من أجلها قامت.
وهنا يجدر بنا أن نعطي لمحة باختصار عن المؤسسات التي من خلالها يتم الأداء للعمل الدعوى لا من حيث بناؤها ووظائفها تفصيلاً ولكن من حيث شرعية بقائها أو عدم اعتبارها.
الوسائل المؤسسية أو التنظيمية
تلزم الشريعة الإسلامية المجتمع المسلم بعدة فروض يقسمها الفقهاء إلى فروض العين وفروض الكفاية. وبغض النظر في التفصيل عن المذكور يمكن القول بأن البعد المؤسسي في المجتمع يدخل في إطار القيام بفروض الكفاية، وتلتزم المؤسسة ابتداءً بتحقيق هذا الفرض الكفائي وتدور معه وجوداً وعدماً، وقد برز الشكل المؤسسي لهذه الفروض عندما اتسع المجتمع وكان من غير المقبول أن تترك هذه الأمور دون وجود من يقوم بها ويجري مقاصد شرع الله فيها.
ومن هنا جاءت المؤسسات الإسلامية كاستجابة تنظيمية لتفاعل فقه الشريعة مع الواقع الإسلامي وذلك يجعل مفهوم المؤسسية يقوم على مجموعة أسس أو خصائص أو مقوِّمات وتحكمه عدة معايير وضوابط تحدد سير المؤسسات وطريقة عملها.
خصائص مفهوم المؤسسية في الإسلام:
(1) أن المؤسسة تنشأ مستندة إلى قيمة أو قائمة على تطبيق حكم معين تدور معه وجوداً وعدماً حيث ارتبط لفظ التأسيس في القرآن بقيمة التقوى وأن البناء الذي يؤسس على التقوى هو الأجدر بالبقاء (لا تقم فيه أبداً لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم والله لا يهدى القوم الظالمين).
فالمؤسسة تقوم أساساً على تحقيق قيمة دينية، فبمدى تحقيق القيمة يكون تقييمها وتقويمها وبه تستحق شرعية البقاء أو العدم، فخروجها عن مبرر وجودها ملزم لهدمها، ذلك أن المؤسسات ليست إلا ذرائع موصلة للمقاصد من حيث استجلاب المنفعة أو دفع المفسدة، وهنا نجد عملية بناء المؤسسات أو هدمها واستبدالها بأخرى تتم بصورة تلقائية في إطار مفهوم (اعتبار المال)([1]).
وإن ارتباط المؤسسة بالقيمة يحرِّرها من قيود الشكل ولذلك اعتبر القرآن الفرد الذي يقوم بأعباء الجماعة مؤسسة (وإبراهيم الذي وفى)، (وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماماً)، (إن إبراهيم كان أمة).
(2) إن النظرة الإسلامية تدلُّ على أنه لا توجد مؤسسات دائمة ومطلقة بطبيعتها و إنما هناك قيم وفروض كفائية ملزمة.
ومن ثم يكون هناك قدر من التنوع في إطار وحدة القيمة والتعدد في إطار وحدة الهدف والمقصد وهذا ما يعطي النظم الإسلامية حيوية وفعالية وتنوعاً بحيث تستجيب لمعطيات كل العصور والأقاليم ولا يكون هناك نوع من الجبرية والإلزام في إيجاد مؤسسات بعينها.
المعايير والضوابط التي تحكم المؤسسات الإسلامية:
أهم هذه المعايير تتلخص في الآتي:
(1) الشورى بمعناها الصحيح: لا مجال للحركات الإسلامية أن تناقش إلى الآن بأن الشورى ملزمة أو معلمة ويستدلون بآثار عن السلف ناسين أو متناسين قول السلف في قيادة الجماعة بأن يكون من أهل الاجتهاد المطلق إن وجد وإلا فأمثل مقلِّد.
(2) العدل في أفرادهم الذين ينضوون تحت المظلة قبل غيرهم. وعدم العدل هو الذي ترك شحاً في أن تخرج قيادات مؤهلة وفاعلة.
(3) المسئولية كما فصلها الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث ((كلكم راع)).
(3) الخضوع للضوابط الشرعية وإلا فقدت القيادة مبرر وجودها كما تفقد المؤسسة عند عدم الالتزام بالقيمة التي أُنشأت من أجلها.
(4) المراقبة بكل أطرها سواء الذاتية أو غيرها وتمكين مؤسسات الرقابة وعدم عرقلتها.
إن كتب النقد الذاتي ومشكلات الدعوة ونحوها حافلة بالأمراض القاتلة التي أثقلت كاهل الصحوة الإسلامية، وعليه فإن تربية التلقين بدل التكوين من أهم أسباب التخلف والتمزق والتعصب، فهي من الأدوات التي وسَّعت الشقة بين العاملين وكانت مانعاً من موانع الاتفاق؛ لأن أفراد المؤسسة المعينة لا ينظرون إلى الآخر إلا من منظور الملقن(1).
معايير التقييم:
سبق الحديث عن القيم التي تبنى عليها المؤسسات، وأن مدى تحقيق القيمة هو معيار شرعية المؤسسات، ولكن الحكم بأن المؤسسة تحقق قيمتها أو لا تحققه فإن هذا يحتاج إلى سبر للأجزاء التي تحققت ثم قياسها بالزمن الذي استهلك مما قدر من الزمن للخطة العامة، وعلى هذا فإننا في حاجة إلى ذكر المعايير التي يعتبرها المهتمون بالعلوم الاستراتيجية والتنظيمية صالحة للحكم على التنظيمات وتقييمها بغض النظر عن التفاصيل والخصوصيات. هذه المعايير هي:
أولاً: معيار المرونة:
فكلما كان مستوى المرونة عالياً كان ذلك أدعى لنجاح التنظيم والمرونة أنواع:(/6)
- مرونة وظيفية تتعلق بأهداف التنظيم ووظائفه بأن يكون التنظيم قادراً على تغيير بعض أهدافه المرحلية ووظائفه العملية التي تم إنجازها أو تعذر، واستبداله بما هو أهم في الظروف الجديدة أو أيسر من حيث الإنجاز.
- مرونة إجرائية تتعلق ببنية التنظيم وإجراءاته الداخلية ذات الصلة بتغيير قادته واتخاذ قراراته ويتمتع بأسلوب مرن يفتح باب الصعود إلى القيادة والنزول منها بناءً على معايير موضوعية لا شخصية ودون انقطاع في المسيرة أو تمزق في الصف وقادر على اتخاذ القرارات دون تلكؤ أو عرقلة.
- مرونة عملية تتمثل في تعاطي التنظيم مع التحديات المتغيرة بأسلوب متغير دون جمود على الأساليب السابقة حتى لو أثبتت جدواها في الماضي.
ثانياً: معيار التماسك:
فكلما كان تماسك التنظيم أقوى كان ذلك قرينة على نجاحه وإمكانية صموده أمام التحديات، ويتطلب ذلك قدراً كبيرا ًمن الإجماع الداخلي حول أمور جوهرية ثلاثة:
- طبيعة التنظيم ورسالته لا على مستوى الهدف الأسمى فذلك أمر سهل بل على مستوى الأهداف المرحلية والوسائل الفعالة لتحقيق تلك الأهداف.
- قيادة التنظيم هيكلاً وصلاحيات وأشخاصاً، وتلك هي الشرعية الداخلية التي تعتبر أكبر ضامن للتماسك وأعظم حامٍ للوحدة.
- وسائل حلِّ الخلافات الداخلية طبقاً لترتيبات متفق عليها بحيث يمكن احتواء تلك الخلافات سواء تعلقت بالتوجه أو بالمسيرة أو بالقيادات بأسلوب مرن لا ينُتج انشقاقاً في الهيكل أو تعثراً في المسيرة أو انحرافاً في الوجهة
ثالثاً: معيار الاستقلالية:
والمراد به أن تكون المؤسسة ذات كيان معنوي بحيث لا يتوقف وجودها أو فاعليتها على غيرها فإذا استطاع أفراد أو فئة أو طبقة أو قبيلة أن توجه المؤسسة طبق أهدافها الخاصة أو كانت أهدافها موازية لأهداف المؤسسة فقد فقدت المؤسسة معيار الاستقلالية.
رابعاً: معيار التركيب:
المراد به مضاعفة الهياكل وتنوعها وتشعبها، ويشمل التركيب التمايز بين البناء والوحدات التنظيمية والفصل بينها هرمياً ووظيفياً وجغرافياً مع التكامل والتوازن فيما بينها باستناد بعضها إلى بعض وتحكم بعضها في بعض، فالتركيب يساعد التنظيم على بناء هويته الذاتية المستقلة عن الأشخاص وتوطيد استقراره واستمراره وتأكيد شخصيته الاعتبارية التي لا تتوقف في وجودها ولا في مسيرتها على وجود زعيم مؤسس أو جيل رائد.
وقد لا يروق التركيب التنظيمي للقادة الذين يميلون إلى الاستبداد والهيمنة فيبقون تنظيماتهم في حال من السذاجة يمكنهم من التحكم فيها، ولكن هؤلاء بقدر ما يخدمون سلطتهم الشخصية على المدى القريب فانهم يضعفون التنظيم كمؤسسة على المدى البعيد.
خامساً: معيار الاستيعاب:
إن الغاية من بناء أي تنظيم الإحساس بالحاجة إلى تنسيق جهود جماعية وتصويبها نحو هدف مشترك وتجنب تبديد الجهود أو تضاربها أو تناسخها بسبب التوارد على نفس المكان دون تنسيق.
فإذا استطاع التنظيم أن يستوعب أعضاءه وينسِّق بين جهودهم بحيث يجد كل منهم مكانه المناسب دون إحساس بالغبن والتهميش أو استئثار رفقاء الدرب بأمور التنظيم من دونه دلَّ ذلك على انه يسير
في الاتجاه الصحيح.
سادسا: معيار الإيجابية:
والمراد به أن يحافظ التنظيم على زمام المبادرة في شؤونه, ويتفاعل بإيجابية مع تطورات مجتمعه, فذلك هو المدخل الوحيد إلى نمو التنظيم نمواً طبيعيا ًدون طفرات مباغتة غير محسوبة، ويحميه من الجمود والبقاء على هامش المجتمع وتستلزم الإيجابية قدراً من الواقعية تشجع الخير مهما لابسه من غبش, وتتعايش مع الشر من أجل تغييره دون يأس من الناس أو تسرع غير منضبط.
ولا تترك فراغاً يعين عوامل الشر والسلبية على التمكن والرسوخ, وتؤمن بالجهد الدؤوب مهما كان متواضعاً وبالعمل الصامت المؤثر وبالسير المتدرج في تحقيق الغايات المبتغاة.
ولا يتم هذا إلا باستيعاب عوامل القوة والضعف في المجتمع، وجوانب التقدم والقصور في المسيرة ووسائل الاكتساب والتأثير وعوامل التسريع بالتغيير، مع انتباه لأي ثغرة تفتح واستغلال لكل فرصة تسنح([2]).
إن الأقوال آمال ما دامت بمعزل عن الأفعال، وهذه الأفعال التي نريد أن تكون وفق رؤيتنا لا كما يفرضه عدو الصحوة الإسلامية، فتوجيه الملامة للعدو والقيام بمشاريع الانفعال بما يحدثه العدو فينا يفقدنا الاستراتيجية، قال الله عز وجل: (وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم إنا عاملون وانتظروا إنا منتظرون، ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه وما ربك بغافل عما يعملون).
ملخص الورقة
بعد ما تقدم من الحديث نختم القول بتلخيص محاور الورقة باختصار:
(1) يتحتم الاتفاق شرعاً إن التقت الجماعات في ثلاثة أسس:
(أ) وحدة الغاية (ب) وحدة الاعتقاد (ج) وحدة أدوات الفهم لدين الله.
(2) يمكن الاستفادة من المخالف في الثلاثة إذا لم يعلن العداء ومن باب أولى الموافق في البعض وهذا ضروري في مرحلة الدفع العام.(/7)
(3) لابد من الجمع بين الصفوية والجماهيرية وبين المحلية والعالمية تجاوباً مع طبيعة دين الإسلام.
(4) معرفة مشكلات كل مجتمع يسهِّل الالتقاء مع الآخرين ويعين على فهم فقه التنوع.
(5) إن تصويب الخطاب إلى الواقع المحلي أبلغ في الدعوة وأحكم في التنظيم وآمنُ من كيد العدو والاستئصال.
(6) إحكام المسلمات والمفاهيم والغايات مرشد إلى المطلوب ومن ثم تتبين ضرورة الاتفاق.
(7) المؤسسات في المفهوم الإسلامي هي استجابة تنظيمية لتفاعل فقه الشريعة مع الواقع، وهي لا تقوم إلا على أساس تحقيق فرض من الفروض الكفائية، وعليه فإن شرعية بقائها أو هدمها رهين بتحقيق القيمة التي قامت هي من أجلها أو عدم تحقيقها.
وإن الإصرار على مؤسسة بعينها وإن لم تحقق الغرض الذي أنشأت من أجله مضاد لحيوية النظام الإسلامي الذي يستجيب لمعطيات كل العصور فعدم التعصب لأي شكل من أشكال المؤسسات معين على الاتفاق في الهدف.
(8) تنوع الرسالات المختصة بأقوامهم وتدرج دعوة النبي صلى الله عليه وسلم رغم عالميتها والسيرة العملية لدعوة النبي صلى الله علية وسلم وصالحي الأمة من بعده تدل دلالة واضحة على أن الاتفاق من العاملين فريضة شرعية و ضرورة واقعية.
(9) إن الإصرار على إبراز نقاط الخلاف و تضخيمها والبعد عن الاتفاق سببه الجهل بأدوات الفهم للشرع أو جهل مقاصده أو اتباع الهوى.
(10) إن قادة العمل الإسلامي يتحملون القسط الأكبر من عدم الاتفاق لعدم أهلية بعضهم للقيادة أو ضعف الشورى والشفافية أو هلهلة المؤسسات قصداً أو عدم إتاحة فرصة لصعود قيادات جديدة أو حرق أصحاب المبادرات الجريئة داخل المؤسسات ونحو ذلك من الأمراض التي تجب محاربتها وإفساح السبيل أمام الصادقين.
(11) إن طلب الغايات من غير أخذ للأسباب التي توصل إلى تلك الغايات لا تزيد أصحابها إلا بعداً وتيهاً عن مقاصدها.
هذا واسأل الله قصد السبيل أن يهدينا.
(1) أولويات العمل الإسلامي في ثلاثة عقود قادمة ص 7 ــ 8.
(2) نقلا عن مكي: حركة الإخوان المسلمين في السودان ص 146.
(1) انظر أولويات العمل الإسلامي، الترابي.
(1) انظر في ظلال القرآن سيد قطب ا/ 21 -22.
(2) انظر موقف الفكر الإسلامي من الحضارة الحديثة ص 116، إبراهيم الكيلاني.
(1) نظريات التنمية السياسية المعاصرة، نصر محمد عارف، ص 205.
(1) المفردات للراغب، مادة شرع ونهج.
([1]) انظر التحديد السياسي والخبرة الإسلامية، سيف الدين عبد الفتاح ص339.
(1) راجع كتاب الأمة العدد 47، 48 بعنوان التوحيد والوساطة في التربية الدعوية.
([2]) انظر الحركة الإسلامية في السودان، محمد بن المختار الشنقيطي، ص 9 = 12.(/8)
مفهوم الاتفاق في العمل الإسلامي الشيخ. مدثر أحمد إسماعيل*
الحمد لله الذي جعل لنا ديناً قويماً، وهدانا صراطاً مستقيماً، وأرسل إلينا رسولاً رؤوفاً رحيماً صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين جاهدوا في سبيل الله جهاداً عظيماً.
أما بعد..
فإن قضية التأليف بين فصائل الأمة، والسعي في إصلاح ذات بينها وجمع شملها على الحق والهدى، ورأب صدعها والتقريب بين فئاتها المتنازعة من أعظم أصول الإسلام، ومن أفضل أبواب الخير، وضرب من ضروب الجهاد في سبيل الله، والأمة لم تؤت من ثغرةٍ مثل ما أتيت من جانب فرقتها وتنازعها والصراع بينها، فاستحقت وعيد الله: (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم).
معنى الاتفاق في اللغة
الاتفاق من مادة وفق، والوفاق: الموافقة، والتوافق:الاتفاق والتظاهر.
قال ابن سيده: وفق الشيء ما لاءمه.
ومنه الموافقة، تقول وافقت فلاناً في موضع كذا أي صادفته، ووافقت فلاناً على أمر كذا أي اتفقنا عليه معاً(1).
مفهوم الاتفاق في الشريعة الإسلامية
الاتفاق والتعاون على البر والتقوى مبدأ شرعي، وواجب عام بين المسلمين بنص القرآن الكريم، قال الله (تعالى): (وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى) [سورة المائدة: 2]، والبر إذا اقترن بالتقوى يقصد به ما تعدى نفعه إلى المسلمين من الأعمال المشروعة. والتقوى تختص بما يقتصر نفعه من الأعمال الصالحة على خاصة الإنسان. وبهذا تحوي دلالات الآية مجالاً خصباً يتسع لكل عمل صالح يتحقق نفعه وخيره بالاتفاق والتعاون على مستوى الفرد والأمة.
فالاتفاق والتعاون أمران مطلوبان، أوجبهما الشرع ولا يستغني عنهما في الواقع، والاختلاف غير المذموم أمر واقع أقره الشرع ضرورة وفطرة، وبعض الناس يغيب عنه منهج الإسلام الوسط في أمور شتى من بينها الاتفاق والتعاون حال الاختلاف؛ وحجم وطبيعة ذلك الخلاف الذي يوجب الإسلام الاتفاق والتعاون رغم وجوده، وذلك المطلب الشرعي المهم هو المحور الذي تدور حوله هذه الدراسة التي نرى أنها تكون مجالاً للنقاش الموضوعي بين ذوي الاختصاص، والله نسأل للجميع التوفيق والسداد.
إنّ موضوع الاتفاق بين المسلمين موضوع قديم حديث، ينبغي على الأمة ألا تمل طرحه؛ لما له من أهمية في بناء كيانها؛ فالموضوع يستقي أهميته من عدة جوانب:
الجانب الأول: تركيز القرآن الكريم والسنة النبوية على هذه القضية، واعتبارها هدفاً وغاية من غايات هذا الدين وأصلاً من أصوله.
والجانب الثاني: هو المنظور التاريخي، الذي يتمثل في بيان دور هذه الوحدة في بناء حضارة الإسلام المجيدة؛ فالحديث عن الاتفاق حديث عن عوامل بناء دولة الإسلام في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم والتي تمثلت في المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار.
أما الجانب الثالث: فهو منظور الواقع، الذي يتمثل في حاجة المسلمين في هذا الزمان إلى هذا الاتفاق حتى يستعيدوا ريادتهم في قيادة الأمم، فالحديث عن الاتفاق بأشكاله وصوره المتنوعة هو حديث عن مستقبل الإسلام، وحديث عن الحضارة الإسلامية المقبلة؛ إذ لن يتسنى للمسلمين في زماننا هذا استعادة هويتهم وشهادتهم على الناس إلا باتفاقهم.
ما هو الاتفاق الذي يريده الشرع ويدعو إليه؟
إننا إذ ندعو إلى الاتفاق في واقع المجتمعات الإسلامية نسعى إلى تحقيقه ضمن مفهومه الشرعي الواسع والشامل بكل أشكاله وألوانه،فنريد:
الفكرية أو التصورية: وتعني اتفاق الأمة على الأسس المنهجية في أصول الإيمان وأصول الأحكام. أما الإيمان فيتضمن الإيمان بالله وما يجب له من حق العبودية والطاعة، والإيمان بألوهيته وربوبيته وأسماءه وصفاته، والإيمان بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والإيمان بالقدر خيره وشره وبسائر أمور الغيب، أمّا أصول الأحكام فتتضمّن المحكم من العبادات والمعاملات والسياسة الشرعية.
ونريد الوحدة الثقافية: والتي تعني اتفاق الأمة على الآليات التي يتم من خلالها إنجاز الأمور النظرية علمياً في أرض الواقع.
ونريد الوحدة السياسية: والتي تعني وجود كيان سياسي واحد تتوجه إليه أنظار المسلمين كافة، والذي يشكل المرجعية لتمكين منهج الله في واقع الناس.
ونريد الوحدة الوجدانية: والتي تمثل المشاركات العاطفية التي يحس بها المسلمون تجاه بعضهم، فيفرح المسلم لفرح إخوانه المسلمين، ويحزن لأحزانهم، ويتألم لآلامهم. بهذه الوحدة وبمفهومها الواسع، قام الكيان الحضاري للأمة الإسلامية في عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
السبيل إلى الاتفاق:(/1)
(وَاعْتَصِمُوا?لقد أرشد الله تعالى إلى سبيل الاتفاق، فقال سبحانه: بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً..) [سورة آل عمران: 103]، فالسبيل هو الاعتصام بحبل الله المتين، والتمركز حول العقيدة الإسلامية، واعتبار نصوص الوحيين هما المرجعية في تحديد الغايات، والمنطلق، والمسيرة (آليات العمل)، للوصول إلى الأهداف المرسومة. وإن هذه الأمة لن تجتمع حتى تتوحد نظرتها العقدية، وفق فهم السلف الصالح، وتختط منهجاً يتفق ونهج النبي صلى الله عليه وسلم، مع مراعاة أوجه التغيير ومواكبة تطورات الزمان والمكان، يقول تعالى: إنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ?( فَاعْبُدُونِ) [سورة الأنبياء: 92]. وإننا بقدر ما نؤمن بحاجة الأمة إلى التغيير الفاعل في واقعها للخروج من أزمتها الراهنة بقدر ما نؤمن بأن العامل الأمثل للتغيير هو (تغيير الذات): (إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ) [سورة الرعد: 11]، ومن مقتضيات تغيير الذات: التعالي عن معاني الحقد والتحاسد والبغض والكره للمسلمين، وتخلية النفس من شوائب الازدراء والسخرية لأفراد المجتمع المسلم. وبالمقابل فإنه ينبغي تحلية النفس بالمعاني النبيلة، والمعاني السامية: بمعاني الحب والود والعطف والشعور بالرحمة والرأفة نحو المسلمين، وتبني قضاياهم وهمومهم، والسعي على ضعافهم ببذل المعروف والمال، والصبر على إيذائهم والدعاء وبذل النصيحة لهم، فإن هذا بمجموعه يولِّد مجتمعاً مترابطاً متماسكاً متآخياً، وهي الحالة التي أشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم بحالة الجسد الواحد في قوله: ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)). وحينما شرع الله سبحانه وتعالى الاتفاق ودعا إليه، ووجَّه المسلمين نحوه، شرع ما يؤدي إلى تحقيقه ويعين عليه، ويعمل على صيانته. فشعائر الإسلام كل منها رمز للاتفاق، فشرع صلاة الجماعة التي يصلي فيها المسلمون ضمن حركات متناسقة تنساب كأنها أمواج البحر، لا يشوبها تضارب أو تضاد، وبألفاظ واحدة، خلف إمام واحد، متجهين إلى قبلة واحدة، يدعون إلها واحداً، وشرع الزكاة التي تمثل أكبر مظاهر التكافل الاجتماعي في الإسلام، والتي تظهر فيها معاني التراحم والتعاطف، وشرع الصيام الذي تظهر فيه معاني الشعور نحو الآخرين، والحج الذي يمثل بحق المؤتمر العالمي الإسلامي السنوي، الذي يظهر فيه المسلمون بمظهر واحد يلبون نداء رب واحد.
إن بعض الغربيين يستغربون جدًا أن تتكلم الشعوب العربية لغة واحدة، ويفهم كل منهم عن الآخر، ويشتركون في شعائر وعبادات يومية وموسمية يكون الاتفاق في أدق تفاصيلها: في الأذان والإقامة، ومواقيت الصلاة، وعددها وعدد ركعاتها، وسرها وجهرها، وكذا الجمعة وخطبتها، وكذا الصوم والزكاة، والحج وما فيه من الاتفاق في المواقيت الزمانية، وورود كل الحجيج إلى المشاعر المقدسة، ومع ذلك يكون بينهم هذا التفرق والتناحر!
لا شك أن الذي يمنع المسلمين من الاتفاق أو التفاهم هو ضعف النظر في العواقب وعدم الانتباه لما يحيط بالمسلمين من أخطار.
لماذا تقام تكتلات كبيرة لأعداء الإسلام، ونحن نمارس هواية التشرذم والتفرق ونكثر من عدد اللافتات والعناوين؟ أيقيم أعداء الإسلام دولاً طويلة عريضة على أفكار وكتب من اختراع بشر، بل هي من حثالة أفكار البشر، وكتاب الله بين أيدينا؟ وتفسيره بين ظهرانينا؟ وهو حبل الله المتين، وهو العروة الوثقى لا انفصام لها، ويبقى المسلمون على حالهم المزرية هذه؟
ألا يحق لنا أن نطمع بمطلب متواضع من العاملين في حقل الدعوة الإسلامية وهو التفكر بما يدور حولهم؟ وأن يتفق المسلمون فيما بينهم على تذليل الصعاب، على قدر ما يمكنهم الاتفاق؟ وأن يرتضوا لأنفسهم ما رضيه لهم الله ورسوله في مجال الأصول: كتاب الله والسنة الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم، وإجماع الصحابة؟
فواقع المسلمين في هذه الأيام يضطرهم للمطالبة بالحد الأدنى من الاتفاق والتعاون والتنسيق، بدلاً عن التشهير والتمزيق، فنحن نمر بفترات حرجة لا نحتاج إلى التعاون والتنسيق بل إلى الانصهار في عمل كبير يعيد للمسلمين عزتهم وكرامتهم، ويشعرهم بالثقة المفقودة، يعيد إليهم الأمل والرجاء، إننا نحتاج إلى إنكار للذات بالدرجة الأولى، وإعمال الفكر في مستقبل المسلمين والإسلام، وتأتي الخطوة التالية بالعمل الدؤوب الذي لا يعرف الراحة، وإيجاد البرامج الجادة التي توحد ولا تفرق.(/2)
إن الساعات الحاسمة في التاريخ هي الساعات التي تتحول فيها الأمة كلها إلى (ورشة عمل)، كلٌّ له مكانه وكل له مكانته، يشعر كل فرد أنه يشارك في البناء بل إنه ضروري لهذا البناء، هكذا قام المجتمع الإسلامي الأول عندما شارك المسلمون كلهم في بناء المسجد بمن فيهم قائد هذا المجتمع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعندما استقبل الأنصار إخوانهم المهاجرين وتنازلوا عن شطر أموالهم، ونفَّذوا هذا عملياً ولم يكتفوا بالأدبيات والكلام عن الأخوة الإسلامية أو (يجب علينا أن نبني مسجداً!).
لا شك أنّ الخطوة الأولى هي الاتفاق المخلص والتعاون الصادق، ولكن كم نتمنى أن يتلو هذه الخطوة خطوات. فإحياء الأمة ودعوتها إلى استئناف دورها الخيري لا يتأتى إلا بأعمال كبيرة، وأرجو أن لا تقف طموحاتنا عند الحد الأدنى والذي إذا استمر لا ينتج إلا الضعف، وتمر السنون دون أن نحقق عملاً كبيراً يرضي الله ويغيظ أعداء الإسلام ويشفي صدور قوم مؤمنين.
أين الولاية والنصرة؟
من المبادئ الأساسية في الدعوة الإسلامية: التعاون والتناصر والتناصح بين المؤمنين. وتطبيق مبدأ الأخوة تطبيقاً عملياً لا يتأتى بدون تلك المعاني، ورب العزة يقول في كتابه الكريم: (إنّما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ومن يتولَّ الله ورسوله والذين آمنوا فإنّ حزب الله هم الغالبون) [سورة المائدة: 55 ــ 56 ]، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول ــ كما في الصحيحين من حديث أبي موسى رضي الله عنه: ((المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً))، ويقول ــ كما في الصحيحين من حديث النعمان بن بشير: ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر)).
ونحن الإسلاميين بحاجة إلى أن نسأل أنفسنا بصدق:
سؤال تجيب عنه أحوالنا:
هل يوالي بعضنا بعضاً، وينصر بعضنا بعضاً حتى يوالينا الله وينصرنا على أعدائنا؟
سؤال يجيب عنه واقعنا:
هل نعادي الأعداء حقاً، ونطيع أمر الله بالإعداد والاستعداد لهم؟
سؤال يجيب عنه المستضعفون منّا:
هل نؤدي واجب النصرة لإخواننا ضد أعدائهم وأعدائنا بما يرفع الكرب عنهم والإثم عنا؟
سؤال سيعاد علينا يوم بعثنا.
إن هذه التساؤلات وغيرها ستظل تتهاوش في فضاء واقعنا المؤلم، حتى نضع لها إجابات بالعمل قبل القول، وبالحركة مع التنظير، وبالإتقان المقترن بالنية؛ فالتحديات التي تواجه الإسلاميين اليوم وقبل اليوم، وفي الغد وبعد الغد، تفرض عليهم أن يكونوا على مستوى المرحلة، وعلى مستوى المسؤولية، وعلى مستوى الأمانة.
من أخص صفات أولياء الله أنهم يوالون من والى الله، ومن ذلك أن نكون نحن الإسلاميين أفراداً وجماعات كالبنيان المرصوص كما يحب الله؛ فأين رصّنا؟ بل أين بنياننا؟ أين الذلة على المؤمنين مع العزة على الكافرين؟ أين فريضة التعاون على البر والتقوى؟ أين سجية التراحم والتناصح والتسامح؟ أين إخباتنا وخشوعنا وضراعتنا إلى الله ومجافاة الهجوع بالدعاء والرجاء؟
أين دعمنا للصامدين الصابرين الذين يدافعون نيابة عنا، ويخففون الإثم عن كواهلنا، ويدفعون الشر عن أبوابنا؟
أين وأين؟ نتساءل وحق لنا أن نتساءل: ألسنا مكلفين قبل سائر المكلفين بحمل أعباء هذا الدين؟ وحماية جنابه من شرور الأعداء الظالمين؟ أعداؤنا استعدوا بالدين الباطل لنا، فأين استعدادنا بالدين الحق لهم؟ أعداؤنا يطرقون أبوابنا وبأيديهم توراة وإنجيل محرفان؛ فهل أوصدنا تلك الأبواب، وصددنا ذلكم الطغيان وبأيدينا السُّنَّة والقرآن؟
متى نتصارح.. حتى نتصالح؟
الأمة جريحة، ولكن أخشى أن نكون أخطر جراحها، ولو صلحنا لأصلح الله حالها بنا، ولأنزل النصر عليها إكراماً لسعينا وعملنا وجهادنا، ولغيَّر ما بها وبنا بتغييرنا لأنفسنا (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً) [سورة آل عمران: 103]، يا الله ماذا لو اعتصمنا بحبل الله (جميعاً) ماذا يكون حالنا؟ إننا سنكون كل شيء ولن يقف أمام اعتصامنا بالله أي شيء.
نحن أمام مسؤوليات جسام تستدعي تجييش أمة، وإعداد شعوب، وترتيب طاقات، وحشد إمكانات، نحن أمام عدو عادٍ وعاتٍ متجبر مزود بأحدث وأخطر سلاح، ومدعوم من أخبث وأطغى القوى، ومجهز بأمكر وأكبر الخطط. لنغتنم اللحظة، ولننتهز الفرصة، ولنوحد صفوفنا أمام التحديات والمحن؛ فتلك فريضة الوقت.. ولنطهر قلوبنا من البغضاء والشحناء والإحن؛ فتلك أمانة المرحلة.. ولننظر بعين المسؤولية إلى خطورة الواقع؛ فتلك رسالة الساعة، ورسالتنا بوصفنا مصلحين في الأمة، لن يؤديها غيرنا، مهما تمنينا على الله الأماني.
من المفترض أن يقود الشعوب الإسلامية العلماء والدعاة، وإذا كانوا غير مؤهلين لذلك ولم يستطيعوا الجلوس على مائدة الحوار والتفاهم ومدّ جسور التعاون ويتوجوه بالاتفاق والتكامل فلمن تترك الساحة؟(/3)
إن الأصل أن يضيف بعضنا ما صنع من خير ولو قليلاً إلى جانب ما صنع إخوانه، لا أن ينزع بعضنا من الآخرين ما أنجزوه ليلقي به في تُرَعِ الضياع والضعف والضعة التي تصب جميعاً في نهر يحيا به الأعداء. ومع كل ذلك فالإسلاميون هم أولياء الله على الرغم مما يسرق الشيطان من كمال ولايتهم، فلا نعرف لله ولياً إن لم يكن أولياؤه هم عُمَّارَ المساجد، ومقيمي الصلوات، والباذلين للجود، والداعين إلى التوحيد، والمعلمين الخير للناس. ولكن أولياء الله بشر ممن خلق، يضعفون ويقوون، ويجتمعون ويتفرقون، ويطيعون ويعصون، ولذلك فهم يُنصَرون ويُهزمون، ويَعِزُّون ويذلون، بمقدار ما أخذوه من أسباب الولاية وأركان الهداية، وعوامل النصرة وموجبات العزة،ولا بد لنا أن نقيس قدر ولايتنا بما يتحقق فينا من ثمرات الولاية.
فمتى يتعصب الإسلاميون لبعضهم؟ متى يتعصب الإسلامي للإسلامي لمجرد أنّه إسلامي؟ متى يمتنع الإسلاميون ببعضهم من تسلط أعداءهم؟ وأين وصيته صلى الله عليه وسلم ((المسلمون يد واحدة على من سواهم ويسعى بذمتهم أدناهم))؟ لو تدبرنا القرآن لوجدنا أنه ذكر قصص الأنبياء وكيف امتنعوا بأقوامهم أو قبائلهم عصبية من أذى الكفار، قال تعالى حاكياً عن شعيب عليه السلام وقومه: (قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِّمَّا تَقُولُ وإنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً ولَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ ومَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ) [سورة هود:91]. فهذه الآية تنبئنا أن الكفار لم يستطيعوا الوصول إلى شعيب بالأذى،خوفاً من قبيلته. وكذلك ذكر تعالى في صالح وقومه (قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وإنَّا لَصَادِقُونَ) [سورة النمل: 49]، فهم يخافون من أولياء صالح عليه السلام ــ عشيرته الأقربين ــ ولو فعلوا به سوءً لفعلوه سراً، ولحلفوا لهم أنهم ما فعلوا شيئاً، وقال تعالى مخاطباً نبينا عليه الصلاة والسلام: (ألم يجدك يتيماً فآوى) أي آواك إلى عمك أبي طالب، قال الشيخ الشنقيطي رحمه الله تعالى معلقاً على هذه الآيات: "وهو دليل على أن المتمسك بدينه قد يعينه الله ويعزه بنصرة قريبه الكافر، ولهذا لما كان نبي الله لوط عليه السلام ليس له عصبة ظهر هذا فيهم لقوله تعالى: (قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إلَى رُكْنٍ شَدِيد) [سورة هود: 80]"(1). وهناك فرق بين الموالاة والمداهنة، وبين أن يعرض قريب أو صديق خدماته ومساعدته لمسلم ويستفيد المسلم من هذا لدفع ظلم أو تخفيف ضرر، ويبقى الأصل هو عدم موالاة الكفار وزجر أهل الفسوق والبدع، وكل هذا يحتاج لفقه في الدعوة واستقامة على الطريق.
شرعية العمل الجماعي:
لا شك أن العمل الجماعي واجب شرعي، ولا شك أن ما هو مطلوب من الجماعات من إنجازات لا يقدر فرد أو أفراد متفرقون أن يقوموا به، ومن هنا فليس من الإنصاف أن ننكر العمل الجماعي من خلال جماعات أهل السنة العاملة في الساحة الإسلامية، ولا أن يتخلى الأفراد عن جماعاتهم التي يتعاونون معها، ولكننا نريد من الجميع أن يدركوا أن ولاءهم لجماعاتهم يكون في إطار ولائهم للجماعة الأم: جماعة أهل السنة والجماعة، وأن لا يقدموا المصلحة المتوهمة لجماعتهم الصغيرة على المصلحة الشرعية الحقيقية للجماعة الكبيرة. فلا ترفع أسماء ورايات يدعى الناس إليها، ويترك الأصل الذي ينبغي الدعوة إليه، ولا تكون هذه الأسماء داعية للتعصب لشخص دون رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تكون هذه الأسماء هي ما يعقد عليها الولاء والبراء، بل الموالاة والمعاداة تكون على الإسلام، والدعوة تكون إلى جماعة أهل السنة، وليس إلى جماعة فلان أو طريق فلان، فنحن في أمسِّ الحاجة إلى دعوة مفتوحة عالمية لكل الأمة، والله عز وجل قد أنعم علينا وكفانا باسم الإسلام: (هُوَ سَمَّاكُمُ المُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ).(/4)
نقول لكل العاملين المخلصين: لا يمتهد السبيل للقبول المرحلي بتعدد فصائل العمل الإسلامي، ألاّ إذا كان تعدد تنوع وتخصص، بأن اتفقت هذه الجماعات فيما بينها على أن تتكافل في أداء فروض الكفاية. فهذه كتيبة تعمل على المحافظة على السنة تخريجاً وتحقيقاً، وتسهر على بيانها للناس درساً وتصنيفاً. وهذه كتيبة تهتم بتصحيح عقائد الأمة ومحاربة البدع والخرافات. وهذه كتيبة تحيي في الأمّة فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتحثها على القيام بها. وهذه كتيبة تعمل على إحياء فريضة الجهاد وتقدم لها أمثلة في الفداء والتضحية. وهذه كتيبة تعمل على مقارعة المبطلين من الحكام وجبابرة السياسة، وتسعى إلى أن ينفذ صوت الإسلام على تلك المواقع، وأن تنتزع منها ما يمكن انتزاعه لمصلحة الأمّة. وهذه كتيبة تسعى لدعوة العوام وإخراجهم من بيئة الغفلة إلى بيئة الذكر ومن بيئة المعصية إلي بيئة الطاعة. ولو كان الأمر على هذا النحو، وتمّ الاتفاق بين هذه الجماعات على ذلك وقسموا العمل فيما بينهم على هذا النحو، وكفّوا ألسنتهم عن التقاذف بالتهم والمناكر، وجمعتهم المجالس للتنسيق والتعاون وتبادل الرأي، وجددوا مفهوم الأمّة في العمل الإسلامي، ودعوا إلى نبذ التعصب والتحزب الجاهلي الذي يربط الولاء باسم أو رسم دون الكتاب والسنة؛ لو فعلوا ذلك لهدوا إلى سواء السبيل( ).
إن الأعمال الكبيرة لا يقوم بها فرد وإنما تقوم بها مجموعات متعاونة تعمل حسب خطة تكاملية مدروسة، ولن نستطيع الوصول إلى أهدافنا عبر أفراد، بل مجموعات منظمة تضمن استمرار العمل وتعطيه الفاعلية، فتعالوا نجتمع معاً لنكون مجتمعاً من صفوة المجتمعات وصفوة الأفراد.
هل نحن مستعدون؟وهل نحن جادون؟
نعم! هل نحن مستعدون لليوم الذي سنجد أنفسنا فيه وجهاً لوجه مع اليهود وأعوانهم؟ والسؤال عن الاستعداد هنا ليس سؤالاً عن الاستعداد بالسلاح والعتاد؛ فهذا أمر له ظرفه وطبيعته، ولكن السؤال عن الاستعداد بحيازة أسلحة النصر الربانية.
بمعنى آخر: هل الإسلاميون وهم جزء من الأمة على حال تستحق نصر الله؟
هل لنا من أفعالنا وأقوالنا وأحوالنا ما نستنزل به رحمات الله وتأييده الذي يؤيد به أولياءه؟ أم أننا ما زلنا نحتفظ كبقية الأمة بحقوق الفشل، وعلى رأسها التنازع والتدابر والتنافر؟ ماذا يبقى بأيدي الإسلاميين عندما ينزع بعضهم عن بعض أسباب القوة والاحترام ويرفضوا مبدأ الاتفاق والتعاون؟ لن يبقى إلا الفشل.. ثم الفشل ثم الفشل! حيث يكون هذا الفشل هو الإنجاز الأكبر، وعندها فما على أصحاب هذا (الإنتاج) إلا أن يتقاسموه فيما بينهم، فهو ثمرة طبيعية للأنانية وحبّ الذات.
الاختلاف الفقهي هل ينافي الاتفاق؟
إن الاختلاف من طبيعة البشر ولا يمكن التخلص منه في العادة، قال الله (تعالى): (وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ) [سورة هود: 118 ــ 119]، قال الشاطبي: "فتأملوا رحمكم الله كيف صار الاتفاق محالاً في العادة"( ).
فاشتراط رفع الخلاف لحصول التعاون كاشتراط المستحيل، وهذا فيه تعطيل مبدأ التعاون الذي دلت على مشروعيته نصوص كثيرة من الكتاب والسنة.
إن الاختلاف الفقهي وتعدد الآراء ووجهات النظر ضمن إطار الدليل الشرعي وضمن ضوابط الشريعة، وفي إطار مسوغات وحجج مقبولة؛ لا يناقض الاتفاق، ولا يجعله محالاً؛ بل على العكس من ذلك؛ فإنه يسانده يعاضده. يقول شيخ الإسلام ابن تيميه: "فالمذاهب والطرائق والسياسات للعلماء والمشايخ والأمراء إذا قصدوا بها وجه الله تعالى دون الأهواء، ليكونوا مستمسكين بالملة والدين الجامع الذي هو عبادة الله وحده لا شريك له واتبعوا ما أنزل إليهم من ربهم من الكتاب والسنّة بحسب الإمكان بعد الاجتهاد التام هي لهم من بعض الوجوه بمنزلة الشرع والمناهج للأنبياء، وهم مثابون على ابتغائهم وجه الله وعبادته وحده لا شريك له وهو الدين الأصلي الجامع، كما يثاب الأنبياء على عبادتهم الله وحده لا شريك له يثابون على طاعة الله ورسوله فيما تمسكوا به من شرعة رسوله ومنهاجه، كما يثاب كل نبي على طاعة الله في شرعه ومنهاجه"( ).(/5)
وتعتبر هذه القضية ميزة تتحلى بها الأمة المحمدية؛ لأن الإسلام يمثل الدين الخاتم الصالح والمصلح لكل زمان ومكان، فجاءت نصوص الوحيين تحمل في طياتها إمكانية تعدد الأفهام لمراعاة التغير على مر العصور، ولمواكبة التطورات والتغيرات المستحدثة. فإن الاختلاف يصبح مذموماً، إذا كان بعيداً عن ضوابط الشرع، وبما يؤول إليه من التشرذم والتحزب والتناحر والتحاقد، ومما تجدر الإشارة إليه أن وجود تيارات إسلامية في الساحة الإسلامية، ليس من الاختلاف والفرقة المشار إليها في الحديث: ((تفرقت اليهود على إحدى وسبعين أو اثنتين وسبعين فرقة، والنصارى مثل ذلك، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة..))( )، بل هو من تعدد الآراء والاجتهاد وتنوع آليات العمل ووسائله مع الاتفاق على القواعد العامة والمبادئ الكلية، ما دامت تلك الاتجاهات في إطار الاختلاف التنوعي لا اختلاف التضاد. "والأصل في ذلك كله أنّ الحركات الإسلامية اليوم بمثابة الجيوش التي ينبغي أن تنتظم فيها الأمّة كلها على اختلاف نحلها ومشاربها لدفع فتنة الكفر والردة ودرء خطرهما عن دار الإسلام. فهي البديل عن الدولة الإسلامية التي كانت تجند المسلمين كافة إذا داهم العدو دار الإسلام، ولا تحجب أحداً ممن ثبت له عقد الإسلام من الاشتراك في هذا الجهاد ولا تمنعه من الغنيمة والفيء ما يده مع المسلمين"( ).
إنّ قبول التعاون مع وجود الخلاف الذي لا يقتضي التفرق لا يعني بالضرورة المطالبة بأعلى صور الاتفاق والتعاون؛ بل المطالبة بدرجة منهما يتحقق فيها الواجب والمندوب، ويزول معها المحذور والمكروه، فإن أعلى صور الاتفاق والتعاون محمودة، ولكنها عزيزة الوجود خاصة وقد بَعُدَ الناس عن نهج النبوة. ومع تخطئة مبدأ: "ترك التعاون مع وجود الاختلاف"، يلزم التنبيه إلى ما يقابله، وهو: أنه لا يدعى إلى التعاون مع كل مخالف بلا شرط وقيد فإن الأصل عدم التعاون مع وجود اختلاف جذري يقتضي التفرق والمفاصلة، كما هو الحال مع أصحاب المبادئ العلمانية أو الاشتراكية أو البعثية أو الفرق الباطنية؛ لأن هذا تعاون على غير البر والتقوى، تقدم فيه المصالح النفعية، وتهضم فيه مبادئ إسلامية وتعطل فيه أحكام شرعية.
لا يعرف كثير من الناس إلا حالتين: إما التعاون الشامل، والوحدة الكاملة، أو التنازع والخصومة والمواجهة، وهذا التصور صورة من صور الجهل وضيق النظر وغياب الحكمة وقلة المعرفة بقواعد الشريعة وأحكامها، فما لا يُدرك كله لا يُترك جله، وقد يُعذر بعض العامة والجهلة على هذا القصور، ولكن اللوم والتثريب يقع على من بيده زمام الأمور والطاعة والتوجيه لفئام من الناس. كيف يحجّر سبل التعاون الواسعة؟ ويحرم غيره من الانتفاع مما شرع الله من المحبة والألفة والتعاون والتقارب والتسامح والعفو والتواضع والإحسان إلى الخلق بإصلاح ذات البين؟
والذين ولاَّهم الله أمر أمتنا المبتلاة يعلمون ذلك ولكنهم لا يعملون، والظاهر أن جعبتهم ما تزال ملأى بالمزيد من التفريط في حق الأمة، والتوريط لها في مزيد من المحن والنكبات، ولا أمل ــ بعد الله ــ إلا في قيادة اعتبارية للأمة الإسلامية، من علمائها ودعاتها، وعامليها ومجاهديها، تكون بديلة للقيادات الشوهاء الرعناء على المدى القريب والبعيد، وهذا لن يكون إلا بأن يصبح الإسلاميون على مستوى رضا الله.
وختاماً أذكر بأمر مهم(/6)
إن هذه التحديات العظمى التي تستهدف الإسلام والمسلمين لن تزول بنفسها، ولن تذوب بذاتها؛ بل إن حكمة الله تعالى تأبى أن تتعطل سُنة الأسباب لمجرد أن المسلمين مسلمون، والكافرين كافرون: (وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْض) [سورة محمد: 4]، وفي الوقت نفسه، فإن الله تعالى، خالق الأسباب ومسبباتها، يشترط علينا لكي يسخِّر لنا الأسباب أن نسخر له أنفسنا، ونعبِّدها له متبعين لرضوانه، مبتعدين عن كل ما لا يليق بأولياء يطلبون النصرة وضعفاء يستنزلون التأييد. وعندها ــ أي عند إتباع رضوان الله ــ فلا علينا لو اجتمع علينا من بأقطارها (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) [سورة آل عمران: 173ــ174]، نعم (وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ). نعم (وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ)، فمن المخاطَبُ بتلك الآيات؟ أهم اللادينيون العلمانيون؟ أهم اللهاة اللاعبون؟ أهم الطغاة الظالمون؟ أهم السكارى والحيارى والعرايا وبقية أصحاب البلايا؟ أهم الهائمون في الطرقات أو المنغمسون في الشهوات؟ ليسوا هؤلاء! وإن كانوا عن التوبة غير محجوزين، ولكن الخطاب يستهدف قلوب المخبتين، ويستشرف وجوه وعيون الوعاة الهداة المستمسكين بالدين، ولو كانوا في غفلة أو مشغلة صارفة، أو في فرقة أو خصومات عارضة؛ فأولئك الأولياء الذين يخوفهم الشيطان بالأعداء، فمن يكون أولئكم إلا أنتم أيها الإسلاميون؟(/7)
مفهوم التسامح بين الإسلام والغرب (1)
إنّ الرأسمالية التي سادت العالم بأكمله، وملكت الدنيا واكتسحت بسطوتها الكون، فَعَنَتْ لها وجوه ونُكست رؤوس، هي حضارة مولعة بتزوير الحقائق، ومغرمة بإخفاء الوقائع، فلا يعنيها طلب الصدق، ولا يشغلها إحقاق الحقّ وإبطال الباطل بقدر ما يعنيها ويشغلها مقدار الدماء التي مُصّت، وكمية الثروات التي نُهبت، والمنفعة التي حصّلت.
كم يلذ للرأسماليين، ويَطيب لهم، مدح حضارتهم بكلّ صفة حميدة، ومكرمة نبيلة، وشَميلة محمودة، وخلّة حسنة. وكم يكره هؤلاء أنْ تنتقد ثقافتهم، وأنْ تردّ حضارتهم، وأنْ تجتنب طريقتهم في العيش. إنّه سلوك من تعالى وتكبّر، وصنيع من طغى وتجبّر.
إن حماة الحضارة الغربية يعيّرون الإسلام بالتعصّب وعدم قبول الآخرين، مع أن الحقيقة على النقيض مما يدّعون، وهو ما سنثبته في هذا المقام، ونسلط الضوء عليه ونجلّيه، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حيى عن بينة.
مفهوم مصلطح التّسامح في الغرب
إنّ مصطلح التّسامح (Toleration) من المصطلحات التي كثر استعمالها اليوم، وهو يُطلق ويراد به: "قبول اختلاف الآخرين، سواء في الدين أم العرق أم السياسة، أو عدم منع الآخرين من أن يكونوا آخرين، أو إكراههم على التخلي عن آخريتهم".
أو هو: "موقف يتجلى في الاستعداد لتقبل وجهات النظر المختلفة فيما يتعلّق باختلافات السلوك والرأي دون الموافقة عليها. ويرتبط التسامح بسياسات الحرية في ميدان الرقابة الاجتماعية، حيث يسمح بالتنوع الفكري والعقائدي على أنه يختلف عن التشجيع الفعال للتباين والتنوع.." (معجم مصطلحات العلوم الاجتماعية ص462).
وتشير الفقرة الأولى من المادة الأولى في إعلان "المبادئ حول التسامح" الذي صدر عن الدول الأعضاء في اليونسكو في السادس عشر من نوفمبر عام 1995م، إلى أن التسامح يعني "احترام وتقدير التنوع الثري لثقافات العالم، وقبول مختلف أنماط وأساليب التعبير لدى الجنس البشري"، وأنه يُشجع على "المعرفة والانفتاح والتواصل وحرية التفكير والضمير والعقيدة" وأنه يقر بالتالي مبدأ "التوافق والتناسق في الاختلاف" كما أنه "ليس مجرد واجب أخلاقي فحسب، بل هو أيضا مطلب سياسي وقانوني مثلما هو قوة تساعد على تحقيق السلام، وتسهم بذلك في إحلال ثقافة السلام محل ثقافة الحرب".ويقابل التّسامح التّعصب (Intolerance)ويقال أيضا في اللغة الغربية (Fanatisme).
نشأة فكرة التّسامح في أوروبا
نشأ فكر التّسامح في أوروبا في آخر عصر نهضتها وبداية ما يسمى عندهم بالتنوير، كحلّ للصراع الدامي فيها بين المذاهب الدينية النصرانية؛ الكاثوليك والبروتستانت. يقول المؤرخ البروفيسور برنارد لويس في ندوة نُظّمت في فندق كونرار، تحت رعاية وزارة الخارجية والمجلس الأوروبي وجمعية الخمسمائة سنة، تحت عنوان (العنصرية واللاسامية):" إن فكر التسامح قد ولد في النصرانية على أثر الحروب الدينية في أوروبا، والتي راح ضحيتها آلاف النصارى نتيجة الصراع الدموي بين الكاثوليك والبروتستانت، فالتسامح وهو الذي يعني فصل الدين عن أعمال الدولة، وباختصار هو العلمانية التي وُجِدت لحلّ مشكلة النصرانية. فهذه المشكلة لم تنشأ في البلاد الإسلامية؛ لأن الناس المنتسبين لأديان مختلفة في البلاد الإسلامية وجدوا إمكانية العيش هناك بصداقة وأخوّة وبدون صراع ونزاع.." (جريدة تركيا الصادرة في منتصف يناير / 1995م).
لقد رأى جمع من مفكري أوروبا أنّ الحلّ للصراع بين مختلف التيارات الدينية النصرانية يكمن في التسامح. فكتب المفكرون في معالجة الأمر، منهم جون لوك (John Locke) في رسالته الشهيرة عن التّسامح (La Lettre sur la tolérance1689). وأصدر بعض الحكّام "مراسيم سياسة التسامح" كمرسوم "نانت" في عام 1598م، الذي َمنح به ملك فرنسا هنري الرابع رعاياه الكالفينيين الحقّ في الممارسة الحرّة لديانتهم.
ثمّ تطوّر فكر التسامح في الغرب ليشمل كلّ الناس بغضّ النظر عن دينهم. ففي سنة 1740م كتب فريدريك الكبير ملك فرنسا، رداً على سؤال الإدارة الحكومية حول هل بوسع الكاثوليكي أن يكتسب الحقوق المدنية: "إن كل الأديان جيدة بالتساوي، وحسب الناس الذين يعلنون إيمانهم بها أن يكونوا صادقين. ولو أراد الأتراك والوثنيون أن يجيئوا إلينا ويقطنوا في بلدنا لبنينا لهم المساجد والمعابد. فكل امرئ في مملكتي حرٌّ في أن يؤمن بما يريد، وحسبه أن يكون صادقاً."
وهكذا اعترفت بريطانيا رسمياً بالتسامح المذهبي تجاه الكاثوليك في سنة 1829م، ثم تجاه اليهود سنة 1842م، والملحدين سنة 1888م.
رأي الإسلام في مصطلح التّسامح(/1)
إن منهج الإسلام في التعامل مع المصطلحات الأجنبية – إذا سلّمنا بأجنبية مصطلح التسامح - هو النظر في معانيها ومدلولاتها، فإذا كان المصطلح الأجنبي يفيد معنى من المعاني الموجودة لدى المسلمين، أو له واقع عندهم، قُبل. وأما إذا كان المصطلح يفيد ما يخالف ما عند المسلمين، أو لا يوجد له واقع عندهم، رُدّ.
ولما كان مصطلح التسامح يفيد من حيث الأساس الذي بني عليه، والأصل الذي تفرّع منه، معنى قبول الآخرين أي قبول من يخالفك في المذهب، والدين، والعرق، واللون، وعدم منعهم من أن يكونوا آخرين أو إكراههم على التخلي عن آخريتهم، وكان معنى قبول الآخرين مما لا يخالف الإسلام، ومما له واقع لدى المسلمين -كما سيأتي بيانه مفصلاً- فإننا لا نرى مانعاً شرعياً من استعمال المصطلح.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإنّنا لا نرى مصطلح التسامح من المصطلحات الأجنبية الغربية الدخيلة على الثقافة الإسلامية والمفردات الشرعية. والواقع أنّ هناك العديد من الألفاظ التي قد يُتصوّر كونها غربية، وهي في حقيقتها عالمية موجودة في كلّ الثقافات البشرية ومستعملة عند البشر كلّهم. من ذلك، لفظة العدل، والحرّية، والجمال، والخير، والشرّ، والحُسن، والقبح، وغيرها من الألفاظ التي اتفق البشر على استعمالها، فجَرت على ألسنتهم، ووجدت في ثقافاتهم مع خلاف في المفهوم منها والمعنى المراد بها.
والتسامح فضيلة أدركتها البشرية، واحتاجت إليها لتسيير معاملاتها، وتسهيل ديمومة علاقاتها. فهي، شأنها شأن بقية الفضائل الأخرى كالصدق، والأمانة، والشجاعة، والعفة، والجود، وغير ذلك، مما وجدت عند كلّ البشر، فاتّصفوا بها، وجعلوها خُلقا حسنا يُمدح المتحلّي بِها.
إلاّ أنّ درجة الإلتزام بالفضائل متفاوتة بين البشر، فتجدها عند أحدهم ولا تجدها عند الآخر، وتظهر في جماعة ولا تظهر في الأخرى، وهذا عائد إلى الدافع إلى الالتزام بها والمقصد منها، وهو ما يختلف فيه البشر بوصفهم الفردي والجماعي؛ لاختلاف عقائدهم، والمفاهيم المنبثقة عنها المنظمة للسلوك الفردي والجمعي.
وقد كان التسامح في أوروبا إبّان سيطرة الكنيسة على الحياة فيها معدوماً، مما أنتج الحروب الطائفية فيها، والقتل، والتعذيب، والحرق، والمقصلة. فكان من الطبيعي أن يدعى إلى التسامح كحلّ للمشكلة تُحقن به الدماء، وتُطفأ به نار الفتنة في المجتمع.
بناء عليه، فإنّ الغرب لم يبتدع مصطلح التسامح، ولم يبتدع مدلوله ومعناه، وكلّ الذي فعله هو أنّه أظهره وأبرزه واعتنى به، فأصّل له وفرّع عنه، فكان منه المقبول، ومنه المردود عليه.
تحقيق واقع قبول الآخر
التسامح هو قبول الآخر. وهو من المعاني المجرّدة التي لا تمثّل واقعاً ولا تضبِط أمراً حسياً، ولا ينتج عنها أيّ التزام أو مسؤولية، شرعية كانت أو قانونية وضعية؛ لذلك كان لا بدّ من ضبط المعنى بتحديد موضوع القبول وواقعه الذي ينصبّ عليه.
وقد ذهب رجال الفكر والقانون في الغرب إلى اعتبار العرق واللّون والدّين والانتماء الفكري والسياسي والطبقة الاجتماعية والجنس موضوع القبول.
فهم قد انطلقوا من أنّ الآخر الذي هو الإنسان بوصفه الفردي والجماعي يتميّز عن أخيه الإنسان في الاعتبارات المذكورة آنفاً. وبناء على هذا الواقع عندهم الذي تبلور في أذهانهم تدريجياً منذ عصر النهضة إلى يومنا هذا، صاغوا مفهوم التسامح وقنّنوه وجعلوه قيمة بشرية وقانوناً عالمياً ملزماً.
ولما كان الإنسان هو مركز البحث والأساس فيه وبناء على نظرتنا إليه يتحدّد مفهوم التسامح، كان لزاماً علينا من هذا المنطلق أن نُلقي بنظرة فاحصة عميقة على الإنسان، نحدّد من خلالها ماهيته، وما يميّزه عن غيره من بني الإنسان بوصفه الفردي والجماعي.
والنظرة العميقة إلى الإنسان تري أنّ فيه غرائز وحاجات عضوية تدفعه إلى السلوك في الحياة من أجل إشباعها، ولديه عقل ينظّم له عملية الإشباع وكيفيته. والملاحظ لدى كلّ ذي عقل سليم أنّ الإنسان من حيث هو إنسان لا يختلف عن أخيه الإنسان في غرائزه وحاجاته العضوية. فالجوع، والعطش، والخوف، والتقديس، والرغبة في ممارسة الجنس، والإنجاب، وغير ذلك، كلّها مظاهر الغريزة والحاجات العضوية، نجدها عند الأسود والأبيض، وعند العربي والأوروبي، وعند المؤمن والملحد، لا فرق في ذلك بينهم. والملاحظ أيضا عند كلّ ذي عقل سليم أنّ الإنسان يختلف عن أخيه الإنسان في كيفية الإشباع، أي في النظام الذي يسير عليه في عملية إشباع غرائزه وحاجاته العضوية، وفي الأشياء محلّ الإشباع. فنجد الخنزير عند أحدهم مما يجوز إشباع الجوع به، وعند الآخر مما لا يجوز، ونجد الزنا عند أحدهم مما يجوز، وعند الآخر مما لا يجوز.(/2)
بناء عليه، فإنّ النظرة العميقة إلى الإنسان ترينا أنّ الغرائز والحاجات العضوية، وما نتج عنها من مشاعر وأحاسيس ودوافع، مما يشترك فيه البشر قاطبة لا فرق فيه بينهم البتة، وأنّ النظام الذي ينظّم عملية الإشباع لدى البشر والمفاهيم الضابطة لسلوكهم عن الأشياء محلّ الإشباع وكيفيته مما يختلف فيه البشر ولا اشتراك فيه بينهم. وبعبارة أخرى فإنّ المشترك بين البشر هو ما جبلوا عليه وكان فيهم خِلقة، أي هو الفطرة أو ما يسميه الغربيون "الطبيعة"، والمختلف بينهم الذي يميّزهم أفراداً وجماعات هو المكتسب لديهم الناشىء عن تفاوت الرؤى إلى الأمور والأشياء. فالرغبة في التملك، والرغبة في ممارسة الجنس والتقديس، والحاجة إلى الأكل والشرب، فطرة في البشر يستوون فيها ولا يتميز بها أحدهم عن الآخر. والعقائد والأنظمة والمقاييس والأفكار مكتسبة عند الإنسان، يتميّز بها أحدهم بوصفه الفردي أو الجماعي عن الآخر.
ومما يضاف إلى ما يتميّز به إنسان عن أخيه الإنسان، العرق واللون والجنس. فهذه الأمور الثلاثة وإن كانت غير مكتسبة عند الإنسان إلاّ أنّها مما يتميّز بها إنسان عن آخر. فالمغولي غير الأوروبي من حيث العرق، والأسود غير الأبيض من حيث اللون، والذكر غير الأنثى من حيث الجنس.
تحقيق معنى قبول الآخر
معنى قبول الآخر هو الموافقة والرضا. وهو أيضا من المعاني المجرّدة التي تحتاج إلى ضبط واقع وتمثيل حسّي حتّى تدرك، وتتصوّر، ويصبح بإمكان العقل البشري فهمها. وهذا لا يتأتى إلاّ ببيان الموضوعات التي ينصبّ عليها القبول أي ببيان ما يراد الموافقة عليه والرضا به.
والبديهي، أنّ قبول إنسانٍ الآخرَ أو رفضه ينصبّ على ما يجعل هذا الآخر مختلفاً عن ذاك الإنسان ومغايراً له، ولا ينصبّ على ما يشترك فيه الاثنان ولا يتميّز به أحدهما عن الآخر.
ذلك، أنّ الإنسان من حيث الفطرة وأصل الخلقة هو الإنسان، لا فرق فيها بين شخص وآخر، ذكراً كان أو أنثى، أسودَ كان أو أبيض، عربياً كان أو أوروبياً. فالغرائز والحاجات العضوية هي هي عند جميع البشر. فلا ترد هنا مسألة القبول أو الرفض، بل لا ترد هنا مسألة الآخر، لأنّ الآخر هو المقابل لك المختلف عنك بسمات وميزات جعلته بالنسبة لك كياناً منفصلاً قائم الذات.
وعليه فإنّ قبول الآخر أو رفضه يكون في الأمر الذي ميّزه عن أخيه الإنسان، وهو كما مرّ معنا منه ما هو مكتسب كالأفكار، ومنه ما هو غير مكتسب ولا إرادة للبشر في اختياره كالعرق واللون والجنس. فالإنسان يولد أوروبياً أو أميركياً، أو يولد أبيض أو أسود، أو يولدا ذكراً أو أنثى، دون إرادته واختياره.
والموافقة المرادة هنا، إمّا أن تكون على وجود الآخر أي توافقه على حقّه في الوجود بوصفه الفردي أو الجماعي، وإمّا أن تكون على مطلب للآخر كالعيش معك، وإمّا أن تكون على ما جَعل الآخر في نظرك آخرَ، أي توافق على تميّزه عنك بأفكاره وعقيدته ولونه وعرقه وجنسه وغير ذلك.
والرضا المراد هنا، إمّا أن يكون رضا بالآخر بالرغم مما هو عليه، أي ترضى بالآخر كما هو بسماته التي ميّزته عنك، وإمّا أن ترضى له ما هو عليه، وإما أن ترضى عمّا هو عليه.
هذا هو معنى قبول الآخر، وهذا هو المراد منه المتبادر إلى الذهن حين بحث المسألة، فما هو حكم الإسلام في هذا؟ وما هي المعاني التي اعتبرها الإسلام، وما هي المعاني التي لم يعتبرها؟
والجواب على هذا يقتضي منّا التفصيل التالي:
قبول من خالفك في العرق واللون
لم يعتبر الإسلام المخالفة في العرق واللون بين البشر في أيّ شيء، فكلّ الناس عند الله عزّ وجلّ، وفي نظر نظام الإسلام وقانونه، سواسية، لا فرق بين عربي وأعجمي، وبين تركي وأوروبي، أو بين أسود وأبيض، وبين أصفر وأحمر، إلاّ بالتقوى التي هي العمل بطاعة الله سبحانه وتعالى، رجاء رحمته ورضوانه، ومخافة عصيانه وعقابه. قال الله تعالى: ? يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ? [الحجرات 13] وقال: ? وَمِنْ ءَايَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ ? [الروم 22].
وقد أرسل الله عزّ وجلّ محمّدا (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الناس كافة، رحمة للعالمين، فقال سبحانه: ? وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ? [سبأ 28] وقال: ? وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ? [الأنبياء 107].(/3)
وقد دعا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الناس جميعاً إلى الإسلام، فدخلوا فيه أفواجاً؛ دخل فيه سلمان الفارسي، وكان من الصحابة الأولين، ومن المقرّبين من نبي الرحمة (صلى الله عليه وآله وسلم) حتّى قال فيه (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما يروى عنه: «سلمان منا آل البيت». وولاّه عمر بن الخطّاب المدائن. ودخل فيه بلال الحبشي الأسود، وكان من الأوّلين ومن المقرّبين، وهو مؤذن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وإمام المؤذنين. ودخل فيه صهيب الرومي، وكان هو الآخر من الأولين المقربين، وهو إمام المضّحين بأموالهم ونفوسهم في سبيل الله. ذلك أنه لما أسلم بمكة، وأراد الهجرة منعه الناس أن يهاجر بماله، وإن أحب أن يتجرد منه ويهاجر فعل، فتخلص منهم وأعطاهم ماله، فأنزل اللّه سبحانه فيه قوله: ? وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ? [البقرة 207]. ودخل فيه أبو المنذر أبي بن كعب اليهودي، وكان سيّداً من سادات القرآن حفظاً وتفسيراً. أخرج الشيخان عن أنسٍ قال: قال رسول اللّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) لأُبيّ بنِ كَعْبٍ: «إن الله أمرني أن أقرأ عليك: ? لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا ? (سورة البينة) قال: وسماني لك؟ قال: نعم» قال فبكى (فرحاً بهذا الشرف).
إنّ التمييز العنصري القائم على العرق واللون مما حرّمه الإسلام، واعتبره عصبية جاهلية منتنة. عن جُبَيْرِ بنِ مُطْعِمٍ أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبية، وليس منا من مات على عصبية». (أبو داود) وعن جُنْدُبِ بن عبدِ اللّهِ الْبَجَلِيّ. قال: قال رسول اللّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم): «من قاتل تحت راية عمّيّة، يدعو عصبية، أو ينصر عصبية، فَقِتْلَةٌ جاهلية» (مسلم).
وأما في الغرب، فإنّه وإن كانت هناك جملة كبيرة من القوانين التي تمنع التمييز، وتقاومه، إلاّ أنّها لم تلامس عقلية الكثيرين من الغربيين ونفسيتهم. فحوادث التمييز العنصري القائم على العرق واللون أكثر من أن تعدّ في المجتمع الغربي، وسجون الولايات المتحدة وفرنسا، ونشأة الأحزاب القومية في أوروبا، أكبر شاهد على ذلك. وفي خطاب للرئيس الأميركي السابق، كلينتون، في جامعة كاليفورنيا عام 1997م قال فيه، ما يعدّ شهادة تاريخية عن وضع التمييز العنصري في أميركا دعيّة الحرية: "لقد ولدنا بإعلان استقلال أكد أننا جميعا خلقنا متساوين، ودستور يكرّس العبودية، خضنا حرباً أهلية دموية من أجل إلغاء العبودية، ولكننا بقينا وبحسب القانون لمدة قرن غير متساوين. عبرنا القارة قدماً باسم الحرية، وبينما كنّا نصنع ذلك طردنا الأميركيين الأصليين من الأرض. نرحب بالمهاجرين، ولكن موجة جديدة منهم شعرت بلسع التمييز".
إنّ نجاح الإسلام في إذابة الفروق، فرق العرق واللون، في المجتمع الإسلامي يعود إلى إيمان معتنقيه بأنّه الحقّ من ربّ العالمين، وأنّ التمييز حرام يعاقب عليه الله يوم القيامة. فالإسلام يغرس في نفوس أتباعه فكرة "كلّكم من آدم، وآدم من تراب" فلا فرق بين البشر إلاّ بالتقوى.
وأمّا فشل الغرب في القضاء على النزعة العنصرية في مجتمعه، فيعود إلى أنّ القانون لا يلتزم به قناعة فيه، وإيمانا بأنّه الحقّ، إنما خوفاً من العقاب الدنيوي. لذلك، فإنّ الكثيرين في الغرب يبطنون التمييز، ويعتقدون أفضليتهم على الآخرين لمجرّد كونهم ولدوا بيضاً أو أوروبيين. وكلّما سنحت الفرصة بإظهار قناعتهم أظهروها، والشاهد عليه ما لاقاه اليابانيون في أميركا أثناء الحرب العالمية الثانية من اضطهاد، وما يلاقيه السود من تمييز عنصري، حتى إنّ غور فيدال قال خلال حرب الخليج" بأنه ليس شديد القلق من صدّام؛ لأنه ليس أسوأ من شرطة لوس أنجلوس. وكان أفراد من شرطة لوس أنجلوس صُوّروا لتوّهم على شريط فيديو وهم ينهالون بالضرب على مشبوه أسود." (نقلا عن كتاب «ساعتان هزتا العالم» ص70 لفريد هاليداي)، والشاهد أيضا ما يلاقيه المسلمون من تحقير ومهانة، وتمييز بعد أحداث 11/9/ 2001م بناء على قانون "التعبئة ضدّ الإرهاب" المدعوم بقانون من قبله هو قانون "الأدلة السرّية".
السيد أحمد إدريس المشهداني
مفهوم التسامح بين الإسلام والغرب (2)
إنّ الرأسمالية التي سادت العالم بأكمله، وملكت الدنيا واكتسحت بسطوتها الكون، فَعَنَتْ لها وجوه ونُكست رؤوس، هي حضارة مولعة بتزوير الحقائق، ومغرمة بإخفاء الوقائع، فلا يعنيها طلب الصدق، ولا يشغلها إحقاق الحقّ وإبطال الباطل بقدر ما يعنيها ويشغلها مقدار الدماء التي مُصّت، وكمية الثروات التي نُهبت، والمنفعة التي حصّلت.(/4)
كم يلذ للرأسماليين، ويَطيب لهم، مدح حضارتهم بكلّ صفة حميدة، ومكرمة نبيلة، وشَميلة محمودة، وخلّة حسنة. وكم يكره هؤلاء أنْ تنتقد ثقافتهم، وأنْ تردّ حضارتهم، وأنْ تجتنب طريقتهم في العيش. إنّه سلوك من تعالى وتكبّر، وصنيع من طغى وتجبّر.
إن حماة الحضارة الغربية يعيّرون الإسلام بالتعصّب وعدم قبول الآخرين، مع أن الحقيقة على النقيض مما يدّعون، وهو ما سنثبته في هذا المقام، ونسلط الضوء عليه ونجلّيه، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حيى عن بينة.
قبول من خالفك في الجنس
إنّ ما يسمّى بقضية المرأة، من القضايا التي يعتمدها الغرب في نشر حضارته، ونقض حضارة الآخرين، وعلى وجه الخصوص الحضارة الإسلامية. فالغرب يدّعي أنّه يحترم المرأة ويكرمها؛ فتبنّى فكرة تحريرها، ونادى بحقّها في الحياة والمجتمع، وطالب بمساواتها بالرجل. ولقد خفي عن الغرب أنّ الدعوة لتحرير المرأة اعتراف باستعباده لها، والدعوة لإعطائها حقوقها اعتراف بهضمه لحقوقها، والمطالبة بمساواتها بالرجل اعتراف بأنّها ناقصة عنده.
نعم، فحينما تبنّى الغرب مثل هذه الأفكار، فقد صرّح ضمنا بأنّه مقصّر في حقّ المرأة ومضيّع لحقوقها، وحينما تنصّ الدساتير الغربية على تمتّع الرجال والنّساء بحقوق متساوية فإنّها تفضح حقيقة وضع المرأة في المجتمعات الغربية؛ لأنّ تقنين المساواة في الحقوق مع تخصيص كلّ نوع بالذكر دليل على التفرقة بينهما. فلو كانت هناك مساواة حقيقية بين الرجل والمرأة في الغرب، لاكتفى المشرّع الغربي بقوله في الدستور "جميع النّاس متساوون أمام القانون ويتمتّعون بحقوق متساوية"، لكن وجود نظرة الدّون إلى المرأة دفعت المشرّع الغربي إلى التنصيص على المساواة مع تخصيص النوعين بالذكر.
علاوة على هذا، فإنّ القول بالمساواة بين شيئين يعني التفرقة بينهما ابتداءً، أي النظر في الشيئين كشيئين منفصلين لا علاقة لأحدهما بالآخر، ثمّ الحكم عليهما بعد النظر المنفصل بتساويهما لوجود ما يجمع بينهما؛ لذلك فإنّ المساواة باعتبارها حكماً لاحقاً تشير إلى حكم سابق يفيد الفصل والتمييز بين شيئين. وهذا يدلّ على أنّ حكم الأصل عند الغربيين هو التمييز بين الرجل والمرأة.
ثمّ إنّ المساواة تقتضي سبق المثال الذي يقاس عليه؛ لذلك فمساواة المرأة بالرجل، تعني جعل الرجل المثال الذي يقاس عليه والأساس الذي يُنطلق منه، وهذا يعني بديهياً أنّ المشرّع الغربي قد راعى الرجل في التشريع ابتداءً ثمّ ألحق به المرأة؛ لذلك فإنّ أصل التشريع الغربي منصبّ على الرجل، وليس منصباً على الإنسان كإنسان هو الرجل والمرأة.
وقد يظنّ بعض النّاس أنّ الغرب حقّق ما يدّعيه من مساواة بين الرجل والمرأة، وأنّه ضمن للمرأة حقّها كلّه، غير أنّ هذا الظنّ ليس في محلّه، فلازال الغرب منشغلاً بالمسألة ذاتها التي مضى عليها عقود من الزمن. وها هو البرلمان الألماني -مثلاً- يعدّل في 30 يونيو 1994م المادة الثالثة من دستوره فينصّ على ما يلي: «تقوم الدولة بتشجيع ودعم التطبيق الفعلي للمساواة بين النساء والرجال، وتعمل على إزالة المساوي الموجودة». (مجلة ألمانيا DEUTSCHLAND العدد 5 شهر 10 سنة 1995 ص14).
وهذا التعديل الدستوري لا يدلّ على مجرّد اعتراف فقط بعدم تحقّق المساواة بين النساء والرجال، بل هو بمثابة التنصيص الدستوري على ذلك، فإذا نصّ الدستور في سنة 1994م، على العمل على التطبيق الفعلي للمساواة، فإنّه ينصّ ضمناً على عدم وجودها ويؤرّخ لذلك.
والأصل في فكرة المساواة التي يتبنّاها الغرب، الوضع المشين الذي كانت عليه المرأة في المجتمع الغربي، ذلك أنّ المرأة كانت مهضومة الحقوق، معزولة عن حركة المجتمع، لا يُلتفت إليها ولا يُلقى لها بال، فلمّا طالبت بحقوقها، اتّخذت فكرة المساواة كطريق لتحقيق مطالبها، ونودي بالتسامح معها.
ونظرة الاحتقار إلى المرأة في الغرب ليست نصرانية فقط، تقوم على ادّعاء الكنيسة بأنّ المرأة كائن بين الإنسان والحيوان، بل هي نظرة الكثيرين من فلاسفة الغرب منذ قديم الزمن. ففي تصوّر أرسطو مثلا (ت322 ق.م): «المرأة من الرجل كالعبد من السيد، وكالعمل اليدوي من العمل العقلي، وكالبربري من اليوناني. والمرأة رجل ناقص، تركت واقفة على درجة دنيا من سلّم التطوّر...» (قصة الفلسفة، ول ديورانت ص97).
وفي الأمثال الدارجة الأوروبية، وهي مما تفضح حقيقة نظرة الرجال إلى المرأة، فإنّ المرأة «ذات شعر طويل وعقل قصير». وبلغتهم كما هو دارج عندهم يقولون بالفرنسية: Long cheveux, courte cervelle.
وبالألمانية: lange haare, kurzer verstand.
وبالإنجليزية: Women have long hair and short brains.(/5)
ولازال هذا التصوّر سائداً في المجتمع الغربي، يبطنه الرجال ولا يفصحون عنه، ومع ذلك فإنّه يظهر في مظاهر متعدّدة، منها: أنّ أجر المرأة العاملة أقلّ بـ30% من أجر الرجل العامل، وأنّ 72 % من العاملات تعرّضن لتحرّش جنسي أثناء عملهنّ، وأنّ حوالي 70% من المتزّوجات تعرّضن للضرب من أزواجهن، وأنّ حوادث الاغتصاب تفوق العدّ، ففي أميركا مثلاً تغتصب امرأة ما بين كلّ ثلاث أو خمس دقائق.
وقد أخطأ الغرب حينما جعل المرأة مشكلة، وجعل طريق حلّها فكرة المساواة، ذلك أنّ المرأة نصف المجتمع -كما يقال- وصنو الرجل، فلا يتصوّر وجود مجتمع بدون نساء، ولا حياة بدون مشاركتهنّ، فكان من الخطأ أن ينظر إليهنّ نظرة مغايرة للرجال، ومن الخطأ أن يبحث في وجودهنّ وموقعهنّ في الحياة ودورهنّ في المجتمع كمشكلة خاصّة بهنّ.
فلقد خلق الله تعالى الإنسان امرأةً ورجلاً في فطرة معيّنة تمتاز عن الحيوان، فالمرأة إنسان، والرجل إنسان، ولا يختلف أحدهما عن الآخر في الإنسانية، ولا يمتاز أحدهما عن الآخر في شيء من هذه الإنسانية. وقد هيّأهما الله لخوض معترك الحياة بوصف الإنسانية، وجعلهما يعيشان حتما في مجتمع واحد، وجعل بقاء النوع متوقّفاً على اجتماعهما، وعلى وجودهما في كلّ مجتمع. فلا يجوز أن يُنظر لأحدهما إلاّ كما يُنظر للآخر، بأنّه إنسان يتمتّع بجميع خصائص الإنسان ومقوّمات حياته. فقد خلق الله في كلٍّ منهما طاقةً حيويةً، هي نفس الطاقة الحيوية التي خلقها في الآخر، فجعل في كلٍّ منهما الحاجات العضوية كالجوع والعطش وقضاء الحاجة، وجعل في كلّ منهما غريزة البقاء وغريزة النوع وغريزة التدّين، وهي نفس الحاجات العضوية والغرائز الموجودة في الآخر، وجعل في كلّ منهما قوّة التفكير، وهي نفس قوّة التفكير الموجودة في الآخر. فالعقل الموجود عند الرجل هو نفس العقل الموجود عند المرأة إذ خلقه الله عقلاً للإنسان، وليس عقلاً للرجل أو المرأة. قال الله تعالى: ?وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي ءَادَمَ ?[الإسراء 70].
وحين جاء الإسلام بالتكاليف الشرعية التي كلّف بها المرأة والرجل، وحين بيّن الأحكام الشرعية التي تعالج أفعال كلّ منهما، لم ينظر إلى مسألة المساواة أو المفاضلة بينهما أية نظرة، ولم يراعها أية مراعاة. وإنما نظر أنّ هناك مشكلة معيّنة تحتاج إلى علاج، فعالجها باعتبارها مشكلة معيّنة بغضّ النظر عن كونها مشكلة لامرأة أو مشكلة لرجل. فالعلاج هو لفعل الإنسان أي للمشكلة الحادثة، وليست المعالجة للرجل أو المرأة؛ ولهذا لم تكن مسألة المساواة أو عدم المساواة بين الرجل والمرأة موضع بحث. وليست هذه الكلمة موجودة في التشريع الإسلامي، بل الموجود هو حكم شرعي لحادثة وقعت من إنسان معيّن، سواء أكان رجلاً أم امرأةً.
فالإسلام حين جعل للمرأة حقوقاً وجعل عليها واجبات، وجعل للرجل حقوقاً وجعل عليه واجبات، إنما جعلها حقوقاً وواجبات تتعلّق بمصالحهما، ومعالجات لأفعال باعتبارها فعلاً معيّناً لإنسان معيّن. فجعلها واحدة حين تقتضي طبيعتهما الإنسانية جعلها واحدة، وجعلها متنوعة حين تقتضي طبيعة كلّ منهما هذا التنوع.
ومن هنا نجد الإسلام لم يفرّق في دعوة الإنسان إلى الإيمان بين الرجل والمرأة. وجعل التكاليف المتعلّقة بالعبادات من صلاة وصوم وحج وزكاة واحدة من حيث التكليف، وجعل الأخلاق والاتصاف بها للرجال والنساء على السواء، وجعل أحكام المعاملات من بيع وإجارة ووكالة وغير ذلك واحدة للرجال والنساء، وأوجب التعلّم والتعليم بلا فرق بين الرجال والنساء. وهكذا شرّع الله الأحكام المتعلّقة بالإنسان كإنسان، وجعلها واحدة للرجال والنساء. قال تعالى: ?مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ?[النحل 97].
وأمّا حين تكون هذه الحقوق والواجبات، وهذه التكاليف الشرعية تتعلق بطبيعة الأنثى بوصفها أنثى، أو تتعلّق بطبيعة الذكر بوصفه ذكراً، تكون هذه الحقوق والواجبات، أي هذه التكاليف، متنوعةً بين الرجل والمرأة؛ لأنها لا تكون علاجاً للإنسان مطلقاً، بل تكون علاجاً لهذا النوع من الإنسان الذي له نوع من الطبيعة الإنسانية مختلف عن الآخر، فكان لا بدّ أن يكون العلاج لهذا النوع من الإنسان، لا للإنسان مطلقاً. ولذلك، خصّ الإسلام المرأة بأحكام تتعلّق بأنثويتها، كأحكام الحيض والنفاس، وجعل لها حقّ الحضانة دون الرجل، وجعل العمل لكسب المال مباحاً لها، فرضاً على الرجل، ولم يوجب عليها القتال وأوجبه على الرجل.
قبول من خالفك في الفكر(/6)
إنّ الاختلاف بين البشر طبيعي، فلكلٍّ منهم عقيدته، ونظامه، ودينه، وطراز حياته، ونمط عيشه، ووجهة نظره، ومقياس أعماله، وأفكاره، السياسية منها والاقتصادية والاجتماعية، وغير ذلك. فمن الصعب، إن لم نقل من المستحيل، أن يجتمع البشر قاطبةً على رأي واحد وعقيدة واحدة ودين واحد. قال تعالى: ?وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ، إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ ?[هود 118-119].
لذلك، فإنّ الإسلام يقرّ بوجود هذا الاختلاف بين البشر في عقائدهم وأفكارهم وأديانهم، ولا يرى إمكانية جمع الناس على فكر واحد. قال تعالى: ?وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ?[يوسف 103] وقال سبحانه: ?المر تِلْكَ ءَايَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ ?[الرعد 1].
هذا هو واقع البشر، وواقع اختلافهم في الفكر الذي لا يمكن نكرانه أو تحاشيه. والسؤال هو: ما هي الأحكام المترتّبة على هذا الواقع؟ وكيف يتعامل الإسلام معه؟ والجواب على هذا في النقاط التالية:
1 - إنّ الإسلام، وإن أقرّ اختلاف الفكر بين البشر، أي اعترف بوجوده باعتباره واقعاً قائم الذات لا يمكن نكرانه، لا يرضى به ولا يرضى عنه. فكلّ فكر غير فكر الإسلام وغير الفكر المبتنى على عقيدته والمنبثق عنها، يعتبر في نظر الإسلام باطلاً لا حقّ فيه. قال الله تعالى: ?إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ?[آل عمران 19] وقال: ?وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ?[آل عمران 85]. وقال سبحانه: ?فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ?[يونس 32]. وقال الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): «مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدّ» (رواه مسلم).
فالإسلام، وإن وافق على وجود الخلاف بين البشر، فإنّه لا يوافق على ما خالفوا فيه ولا يقبله. وبعبارة أخرى فإنّ الإسلام يقبل واقع اختلاف البشر في الفكر إلاّ أنّه لا يقبل الفكر الذي خالفه فيه إنسان ما، ولا يرضى عنه ولا يرضى له ذلك؛ وهذا أمر بديهي لأنّ الإنسان الذي قبل الإسلام وأسلم، قبله لأنّه الحقّ عنده، ورفض ما سواه من مبادىء وعقائد لأنّها باطل عنده. وبغضّ النظر هنا عن مسألة النسبية التي يُدندِن حولها الغرب، إذ إنّ الرأسمالي رأسمالي قطعاً أو نسبياً، فذاك لا يغيّر من واقع كونه رأسمالياً، ولا يغيّر من واقع كونه لا يقبل الإسلام لأنّه باطل عنده. وكلّ ما في الأمر أنّه يرى الرأسمالية نسبياً هي الحقّ، والإسلام نسبياً هو الباطل، وهذا يعني أنّ الرأسمالية عنده حقّ والإسلام باطل؛ لذلك آمن بالرأسمالية وكفر بالإسلام، والنتيجة أنّه لا يقبل فكر الإسلام.
وقد يقال هنا: صحيح أنّ الرأسمالي لا يقبل فكرك كمسلم، ولكنّه يرضى ذلك. والجواب هو، إن أريد بقولهم يرضى ذلك أي يرضى مخالفتي له في الفكر، فإنّ رضاه أو عدم رضاه لا يغيّر من واقع وجود المخالفة شيئاً. ثمّ إنّ المخالفة في الفكر مسألة طبيعية وواقع محتوم لا مناص منه. وكون الرأسمالي يرضى مخالفة المسلم له، أو المسلم يرضى مخالفة الرأسمالي له، مسألة ليس لها أيّ بعد عملي أو أثر في ممارسة كلّ منهما لما تبناه من فكر.
أمّا إن أريد بقولهم يرضى ذلك أي يرضى لي الفكر الذي خالفته فيه، فإنّ هذا هو الأنانية بعينها والخداع بذاته. فكيف يرضى لي ما لم يرضه لنفسه. أيرضى لنفسه الرأسمالية ويرضى لي الإسلام؟ أيرضى لنفسه الحقّ ويرضى لي الباطل؟ أنّى يكون هذا؟ لقد علّمنا الإسلام، نحن المسلمين، أن نرضى لغيرنا ما نرضاه لأنفسنا من خير، وأن لا نرضى لغيرنا ما لا نرضاه لأنفسنا من شرّ. فسبحان الله ما أبعد البون وأوسع الخرق، وما أُمامَةُ من هِنْد.
وقد يقال أيضاً: ولكنّ الرأسمالي يقبلك كإنسان له فكره المتميّز عنه المخالف لما عنده. والجواب هو، إن صحّ هذا، فلا إشكال فيه.
2 - إنّ الإسلام، وإن أقرّ اختلاف الفكر بين البشر، فهو من منطلق الرحمة بهم، وإرادة الخير لهم، شرّع وجوب دعوتهم إلى الإيمان به، عقيدةً ونظاماً، وترك ما يعبدون ويعتقدون، ورتّب على ذلك فضلاً كبيراً، وأجراً عظيماً. قال نبي الرّحمة (صلى الله عليه وآله وسلم): «فَوَاللّهِ لأَنْ يَهْدِيَ اللّهُ بِكَ رَجُلاً وَاحِداً خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النّعَمِ» (متفق عليه).(/7)
وأخرج البخاري في صحيحه حادثة تبيّن أنّ المقصد من الدعوة الخير للبشر، والرحمة بهم. عن أنس (رضي الله عنه) قال: «كان غلام يهودي يخدم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فمرض، فأتاه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يعوده، فقعد عند رأسه، فقال له: (أسلم). فنظر إلى أبيه وهو عنده، فقال له: أطع أبا القاسم، فأسلم، فخرج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو يقول: الحمد لله الذي أنقذه من النار» وفي رواية عند محمد بن الحسن في "كتاب الآثار" قال الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): «الحمد للّه الذي أعتق بي نسمة من النار».
وقد أراد الإسلام أن يكون دخول غير المسلمين فيه عن قناعة ورضا تامين بأنّه الحقّ المنزّل من ربّ العباد جلّ جلاله. قال الله سبحانه: ?لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ?[البقرة 256]. وقال: ?وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ?[يونس 99].
لذلك، فإنّ الإسلام لا يُجوّز إكراه من كفر به على الدخول فيه، سواء أكان الإكراه على ذلك مادياً أم معنوياً.
وقد حدّد الإسلام أسلوب دعوة الناس إلى الدخول فيه بالدليل القاطع والبرهان الساطع، والكلام البليغ المؤثّر في النفوس بتلطّف ولين دون مخاشنة وتعنيف. قال الله تعالى: ?وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ?[النحل].
ومن أروع الأحكام التي شرعها الإسلام مصداقاً لرحمته وإرادته الخير بالبشرية كلّها، حكم "جوار العلم". قال تعالى: ?وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ ?[التوبة 6].
فإذا أراد أحد الناس، من غير المؤمنين بالإسلام، أن يتعرّف على الإسلام، فيسمع القرآن والسنّة، وتفسيرهما وشرحهما، وعلومهما وقواعد فهمهما، ويرى التطبيق العملي لذلك في الدولة والمجتمع، فإنّه يدخل في جوار الله ورسوله، وفي ذمة المسلمين وأمانهم حتّى يتمّ له المراد. فإن آمن بعدها وأسلم فحسن، وإن أبى الإيمان والدخول في الإسلام ردّ إلى مأمنه سالماً. فلله ما أروع هذا التشريع وأرقاه!
ومن هذا المنطلق فإنّ دولة الخلافة القادمة -بإذن الله تعالى- ستجير من شاء العلم بالإسلام وتعطيه الأمان؛ وذلك لأنّ الإسلام حريص على إنقاذ البشرية من الجهل الذي تتخبّط فيه، والظلم الذي تعانيه، فهو يريد إخراج الناس من ظلمات الكفر والإلحاد إلى نور الإيمان والإسلام. قال الله تعالى: ?يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ يَهْدِي - كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ?[المائدة 15-16].
3 - بناءً على قبول الإسلام واقع الاختلاف في الفكر بين البشر، وعدم إكراههم على التخلّي عن عقيدتهم ودينهم، فإنّ الإسلام يقبل مطلب الآخرين ممن هم على غير عقيدته ودينه بالعيش في مجتمعه ودولته، وبين المسلمين في حمايتهم ورعايتهم، فلهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين.
وقد قبل الإسلام أن يعيش الآخر بين المسلمين دون أن يتخلّى عن دينه، ودون أن يلزمه بذلك أو يشترط عليه ذلك، فهو بذلك يحافظ له على خصوصيته، ويصون له كينونته المتميّزة، أي يضمن له بقاءه آخرَ كما شاء لنفسه ذاك. جاء في ميثاق المدينة: «... وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين [يريد (صلى الله عليه وآله وسلم) أَنهم بالصُّلْح الذي وقع بينهم وبين المؤمنين كجماعة منهم كلمَتُهم وأيديهم واحدة]، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم، إلا من ظلم وأثم، فإنه لا يُوتِغُ إلا نفسه وأهل بيته...» (سيرة ابن هشام).(/8)
إنّ البشرية لم تعرف أعظم من المسلمين سماحة، يوفون بالعهد، ويصونون الأمان، ويحفظون الجوار، ويحسنون لمن اختار العيش بينهم. وها هي شهادة ليدي لوسي دف جوردون (Lady Lucie Duff-Gordon) وهي امرأة جاءت إلى مصر للاستشفاء وعاشت فيها وبخاصة في الصعيد لمدة سبع سنوات، ما بين نوفمبر 1862م ويوليو 1869م . وكانت ترسل رسائلها بانتظام إلى زوجها، ثم نُشرت رسائلها هذه منذ سنوات قليلة تحت عنوان (Letters from egypt) كتبت تقول في رسالة إلى أمّها بتاريخ 3 ديسمبر 1862م: «إنّ الشيء الذي يسترعي الانتباه أكثر من غيره هنا هو روح التسامح التي ألمسها في كل مكان. فالناس هنا يكتفون بأن يقولوا لي: إن هذه إذن هي عوائدكم. ثم لا يعطون الأمر بعد ذلك أية أهمية، كما أن المسلمين والمسيحيين يرتبطون حقاً بروابط الصداقة... لازلت أنتظر أن أرى ذلك التعصب الذي يتكلم (الأجانب) عنه كثيراً، ولكنني لم أر حتى الآن أي علامة من علاماته...».
ويقول برنارد لويس: «... فهذه المشكلة لم تنشأ في البلاد الإسلامية؛ لأن الناس المنتسبين لأديان مختلفة في البلاد الإسلامية وجدوا إمكانية العيش هناك بصداقة وأخوّة وبدون صراع ونزاع...».
قبول من خالفك في الحالة الاجتماعية
الطبقية هي تنظيم اجتماعي يقوم على انقسام الناس إلى طبقات. والطبقة هي مجموع الأشخاص الذين تجمع بينهم صفة معيّنة، كطبقة الأغنياء وطبقة العمال.
والطبقية موجودة في المجتمعات الغربية، فذوو الجاه والنفوذ والمال يمثلون طبقة مختلفة عن عامة الناس، قد يطلق عليها "البرجوازية" أو "المجتمع الراقي (High society)".
ولهذه الطبقة "الراقية" في المجتمع الغربي عاداتها وتقاليدها وأخلاقها التي تميزها عن بقية الناس في المجتمع. فهم يأكلون ويمشون ويضحكون ويلبسون ويعيشون بصفة عامّة ضمن آداب معيّنة خاصّة فيهم، يسمونها بالإتيكيت (etiquette) لا يشاركهم فيها الآخر.
ووجود الطبقية في المجتمع الغربي مسألة حتمية ناشئة عن وجود النظام الرأسمالي الذي يكدّس الثروة في يد قلّة من الناس، وما يتبع ذلك من تحالف مع السياسة والنفوذ. يقول ف. ويليام إنغدال في كتابه (قرن من الحروب): «قبل أن يخرج كارل ماركس بنظريته عن صراع الطبقات، فإنّ الليبرالية البريطانية قد تطوّرت لفكرة المدينة المنقسمة بين ما سُمِيَ (الطبقات العليا والطبقات السفلى)... ولقد قام والتر ليبمان بتعريف هذا الانقسام بطريقة حديثة تناسب قرّاءه الأمريكيين. فلقد قسّم المجتمع إلى أكثرية هي جمهور غبي، تقوده (الطبقة الخاصّة) من النخبة وهم كما وصفهم ليبمان، الرجال ذوو المسؤولية، وهؤلاء هم الذين يقررون المصلحة العامة للجميع، وتصبح هذه النخبة هي البيروقراطية المخلصة، والتي تخدم مصالح أصحاب المصالح والثروة الخاصّة. لكن هذه الحقيقة من العلاقة بينهما يجب أن لا تذاع للجمهور الغبي؛ لأنهم سوف لن يتفهموا الأمر. وعلى هذا الجمهور أن يتوهم بأنه يمارس قوته الديمقراطية، وعلى النخبة أن يكونوا هم صنّاع هذا الوهم». ( نقلاً عن إمبراطورية الشرّ الجديدة، عبد الحي زلوم ص210).
والإسلام لا يقرّ الطبقية من أي نوع كانت، ولا يعترف بها، ويحارب وجودها في المجتمع. فالناس كلّهم سواسية لا فضل لأحدهم على الآخر إلاّ بالتقوى؛ لذلك لا يوجد في الإسلام أخلاق "الطبقة الراقية" وأخلاق "العامّة"، ولا يوجد التفريق والتمييز بين الغني والفقير، وبين الحاكم "الأمير" والناطور "الغفير"، فكلّهم عند الله عزّ وجلّ، وأمام القانون سواسية، عن عائِشةَ (رضي الله عنها) أنّ قُرَيْشاً أَهَمّهُمْ شَأْنُ المرْأَةِ الْمخزُومِيّةِ التِي سَرَقَت. فَقالُوا مَنْ يُكَلّمُ فيهَا رسولَ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقَالُوا مَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إلاّ أسَامَةُ بنُ زَيْدٍ حِبّ رسولِ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فكلّمَهُ أُسَامَةُ. فقَالَ رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «أَتَشْفَعُ فِي حَد مِنْ حُدودِ الله؟ ثُمّ قَامَ فَاخْتَطَبَ فَقال: إنّمَا أَهْلَكَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ أَنّهُمْ كَانُوا إذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشّرِيفُ تَرَكُوهُ. وإذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الحَدّ. وأيْمُ الله لَوْ أنّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا» (الترمذي).(/9)
وروي عن أنس أن رجلاً من أهل مصر أتى عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) فقال: يا أمير المؤمنين! عائذ بك من الظلم، قال: عذت معاذاً؟ قال: سابقت ابن عمرو بن العاص فسبقته، فجعل يضربني بالسوط ويقول: أنا ابن الأكرمين، فكتب عمر إلى عمرو يأمره بالقدوم ويقدم بابنه معه، فقدم، فقال عمر: أين المصري؟ خذ السوط فاضرب، فجعل يضربه بالسوط ويقول عمر: اضرب ابن الأكرمين. قال أنس، فضرب، فوالله لقد ضربه ونحن نحب ضربه، فما أقلع عنه حتى تمنينا أنه يرفع عنه، ثم قال عمر للمصري: ضع السوط على صلعة عمرو، فقال: يا أمير المؤمنين! إنما ابنه الذي ضربني وقد استقدت منه، فقال عمر لعمرو: مذ كم تعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟ قال: يا أمير المؤمنين! لم أعلم ولم يأتني.
ولقد علّم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أصحابه المقياس الصحيح في الحكم على الناس، فبيّن لهم، وبيّن للمسلمين من بعدهم أنّ أساس التفاضل طاعة الله عزّ وجلّ وتقواه، وأنّ المرء يعدّ فاضلاً إذا كان عند الله تعالى كذلك. وأمّا المقاييس البشرية المبنية على النظر إلى الحالة الإجتماعية للشخص فلم يعتبرها الإسلام أساس التفاضل. عن أبي ذر الغفاري (رضي الله عنه) قال: «قال لي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): يا أبا ذر انظر أرفع رجل في المسجد. قال: فنظرت فإذا رجل عليه حلة. قال: قلت: هذا. قال: قال لي: انظر أوضع رجل في المسجد. قال: فنظرت فإذا رجل عليه أخلاق. قال: قلت: هذا. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لَهَذا عند الله أَخْيَرُ يوم القيامة من ملء الأرض من مثل هذا» (رواه أحمد).
وعن أَبِي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) أَنّ رَسُولَ اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «رُبّ أَشْعَثَ مَدْفُوعٍ بِالأَبْوَابِ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَىَ اللّهِ لأَبَرّهُ» (رواه مسلم).
وروي عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ قال: أَتَى النَّبِيَّ (صلى الله عليه وآله وسلم) رَجُلٌ، فَكَلَّمَهُ، فَجَعَلَ تُرْعَدُ فَرَائِصُهُ، فَقَالَ لَهُ: «هَوِّنْ عَلَيْكَ. فَإِنِّي لَسْتُ بِمَلِكٍ، إِنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ تَأْكُلُ الْقَدِيدَ» (رواه ابن ماجه) وهذا من تواضعه (صلى الله عليه وآله وسلم) ورحمته بالناس ورأفته بهم.
السيد أحمد إدريس المشهداني
مفهوم التسامح بين الإسلام والغرب (3)
إنّ الرأسمالية التي سادت العالم بأكمله، وملكت الدنيا واكتسحت بسطوتها الكون، فَعَنَتْ لها وجوه ونُكست رؤوس، هي حضارة مولعة بتزوير الحقائق، ومغرمة بإخفاء الوقائع، فلا يعنيها طلب الصدق، ولا يشغلها إحقاق الحقّ وإبطال الباطل بقدر ما يعنيها ويشغلها مقدار الدماء التي مُصّت، وكمية الثروات التي نُهبت، والمنفعة التي حصّلت.
كم يلذ للرأسماليين، ويَطيب لهم، مدح حضارتهم بكلّ صفة حميدة، ومكرمة نبيلة، وشَميلة محمودة، وخلّة حسنة. وكم يكره هؤلاء أنْ تنتقد ثقافتهم، وأنْ تردّ حضارتهم، وأنْ تجتنب طريقتهم في العيش. إنّه سلوك من تعالى وتكبّر، وصنيع من طغى وتجبّر.
إن حماة الحضارة الغربية يعيّرون الإسلام بالتعصّب وعدم قبول الآخرين، مع أن الحقيقة على النقيض مما يدّعون، وهو ما سنثبته في هذا المقام، ونسلط الضوء عليه ونجلّيه، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حيى عن بينة.
فرية معاداة السامية
بغضّ النظر عن الخلفية التاريخية والسياسية لفكرة معاداة السامية، وبغضّ النظر عن كونها نشأت كنتيجة لاضطهاد أوروبا لليهود، فإننا نتناول فكرة معاداة السامية من زاويتين هما:
أوّلا: إذا افترضنا حسن النية في فكرة معاداة السامية، باعتبار أنّ اليهود لاقوا الويلات على أيدي الأوروبيين، شرقيين كانوا أم غربيين، فظهرت فكرة التسامح معهم، ودعي لقبولهم ومنع التمييز العنصري في حقّهم، فإنّ الإسلام كما أسلفنا القول، يحرّم التمييز قبل ظهور هذه الدعوة، ويعتبر اليهود بشراً شأنهم شأن البقية. فلا فرق بينهم وبين العرب أو الأوروبيين أو الترك.
ولقد كانت نظرة المسلمين إلى اليهود، ولا زالت، كبشر يتساوون مع غيرهم في الإنسانية، لذلك لم تشهد المجتمعات الإسلامية التي عاش فيها اليهود، وفرّوا إليها من ظلم الأوروبيين واضطهادهم لهم أيّ حادثة من حوادث التمييز العنصري في حقّهم. فقد عاشوا بين المسلمين، ولازالوا إلى هذه اللحظة، رغم المسألة الفلسطينية، يعيشون بينهم في اليمن، وتونس، والمغرب، ومصر وغيرها من بلاد المسلمين، محترمين في أنفسهم وأموالهم وأعراضهم.(/10)
وعليه، فإنّ الحديث عن معاداة السامية لا يشمل المسلمين الذين يحرّم دينهم التفريق بين البشر على أساس العرق، وإنما يشمل غيرهم من الذين يرون أنفسهم فوق البشر لعرقهم ولونهم الذي لم يختاروه. وحينما عبّر شكسبير في «تاجر البندقية» عن ألم اليهودي مما يلاقيه من عنصرية، قائلاً ساخراً: «... ولماذا؟ لأني يهودي؟ ولكن، أليس لليهودي عيون، أليس لليهودي أياد، وأطراف، وحواس، ومشاعر، ورغبات؟...» إنما عبّر عن صورة يعيشها في مجتمعه وليس في مجتمعنا.
وأما حقيقة الصراع بين المسلمين واليهود اليوم، فهو صراع سياسي لا دخل للعرق فيه عند المسلمين. فاليهود اغتصبوا أرضاً إسلاميةً بمباركة الغرب، هي أرض فلسطين، وأقاموا فيها دولة غصباً عن المسلمين.
واليهود هم من يمارس العنصرية والتطهير العرقي في فلسطين، بقتلهم الرجال والأطفال، وتدمير البيوت، وتهجير السكان، وبناء المستوطنات. ولقد بالغ اليهود في تمييزهم، ولا سيما في عهد شارون، حتى قال واحد منهم، هو يوسي ساريد زعيم حزب ميرتس (Mertez party): «إنني كيهودي وإسرائيلي أشعر بالخزي لأنني أعيش في بلد يحكمه وزراء عنصريون يؤمنون بسياسة الترحيل».
وقال القسيس الجنوب أفريقي ديزموند توتو (Desmond Tutu) الحائز على جائز نوبل، واصفاً الوضع في فلسطين، فيما نشرته صحيفة الغارديان اللندنية في عددها الصادر يوم الاثنين 29/4/2002م تحت عنوان: (التمييز العنصري في الأرض المقدّسة) (Apartheid in the Holy Land): «... لقد صعقت وأصابتني الكآبة لدى زيارتي للأرض المقدسة. لقد ذكرني ما رأيت بما عانيناه نحن السود في جنوب أفريقيا. شهدت بأم عيني الإذلال الذي يتعرّض له الفلسطينيون على نقاط التفتيش والحواجز، وهم يتعرضون للذل والمهانة، ويعانون مثلنا عندما كان رجال الشرطة البيض الشبان يحولون دون تجولنا وخروجنا من بيوتنا...».
ثانياً: إنّ معاداة السامية تتعلّق بالعرق، أي معاداة اليهود لأنّهم يهود. وأمّا نقد التصرّفات اليهودية، وفضح أفكار بعضهم الهدّامة، وأفعالهم الخبيثة في عرف البشر قاطبة، فإنّه لا يتعلّق بالعرق، ولا يشمل دعوة انتقاص منهم، أو نظرة دون إليهم لأنهم من عرق غير عرق الآخر.
فألفاظ تستعمل عند المسلمين مثل، اليهود قوم بهت، وقتلة الأنبياء، ومفسدون في الأرض، ويخونون العهد ولا يوفون بالذمة، كلّها تتعلّق بوصف أفعال اليهود الباطلة وتصرّفاتهم الخبيثة التي قاموا بها ولا زالوا يقومون بها. فهي لا تتعلّق بعرق اليهود، ولا تستنكره، ولا تحقّره، ولا تنتقص منه، وأنّى يكون ذلك وعلماء الأنثروبولوجيا يجعلون العرب واليهود من أصل واحد، والإسلام يحرّم التمييز العنصري.
وقد بيّن القرآن الكريم أنّ السبب في غضب الله تعالى على اليهود أفعالهم، من ذلك قوله تعالى: ? وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ? [البقرة 61] وقوله: ? وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ? [المائدة 64].
وقد حوى الإنجيل والتوراة ألفاظا وعبارات تصف اليهود بالأفاعي، وبيت المردة، وقتلة الأنبياء، وغير ذلك من العبارات التي لو ذكرها مسلم لحوكم بتهمة معاداة السامية. ونذكر جملة من الأقوال مما ورد في التوراة في وصف اليهود ليتدبّر فيها كلّ عاقل ونزيه:
1- استمعي أيتها السماوات، وأنصتي أيتها الأرض، فإن الرب قد تكلم. إني ربيت بنين وكبَّرتهم لكنهم تمردوا عليَّ، عرف الثور مالكه، والحمار علف صاحبه، لكن إسرائيل لم يعرف وشعبي لم يفهم، ويل للأمة الخاطئة الشعب المثقل بالآثام، ذرية أشرار وبنين فاسدين، إنهم تركوا الرب واستهانوا بقدُّوس إسرائيل وارتدوا على أعقابهم.
علام تُضرَبون أيضاً إذا ازددتم تمرداً ؟ الرأس كله مريض والقلب كله سقيم. من أخمص القدم إلى الرأس، لا صحة فيه بل جروح ورضوض وقروح مفتوحة لم تعالج ولم تعصب ولم تُلَيَّن بدهن). [أشعياء 1 : 1- 6](/11)
2- كيف صارت المدينة الأمينة [القدس] زانية ؟ لقد كانت مملوءة عدلاً، وفيها كان بيت الرب، أما الآن فإنما فيها قَتَلة. فِضَّتك صارت خبثاً، وشرابك مزج بماء. رؤساؤك عصاة وشركاء للسراقين، كل يحب الرشوة ويسعى وراء الهدايا ، لا ينصفون اليتيم، ودعوى الأرملة لا تبلغ إليهم،فلذلك قال السيد رب القوات عزيز إسرائيل: لأثأرن من خصومي وأنتقمن من أعدائي. وأرد يدي عليك، وأحرِقَ خبثك كما بالحرض وأنزع نفاياتك كلها). [أشعياء 1: 21-25].
3- آثامكم فرقت بينكم وبين إلهكم، وخطاياكم حجبت وجهه عنكم، فلا يسمع لأنّ أكفكم تلطخت بالدم وأصابعكم بالإثم، ليس من مدع بالبر ولا محكم بالصدق، يتكلمون على الخواء وينطقون بالباطل، يحبلون الظلم ويلدون الإثم، ينقفون بيض الحيات وينسجون خيوط العنكبوت. وبيضهم من أكل منه يموت، وما كُسر منه انشق عن أفعى، خيوطهم لا تصير ثوباً ولا يكتسون، بأعمالهم إثم، وفعل العنف في أكفهم، أرجلهم تسعى إلى الشر وتسارع إلى سفك الدم البريء، أفكارهم أفكار الإثم، وفي مسالكهم دمار وتحطيم، لم يعرفوا طريق السلام ولا حق في سبيلهم، قد جعلوا دروبهم معوجة، كل من سلكها لا يعرف السلام، لذلك ابتعد الحق عنا، ولم يدركنا البر، نترقب النور فإذا بالظلام ، والضياء فإذا بنا سائرون في الديجور، نتحسس الحائط كالعميان، وكمن لا عينين له نتحسس، نعثر في الظهيرة كما في العتمة، ونحن بين الأصحاء كأننا أموات...
لأن معاصينا قد كثرت تجاهك، وخطايانا شاهدة علينا، لأن معاصينا معنا وآثامنا. قد عرفنا العصيان والكذب على الرب، والارتداد من وراء إلهنا، والنطق بالظلم والتمرد والحيل بكلام الكذب، والتمتمة به في القلب...
على حسب الأعمال هكذا يجزي، فالغضب بخصومه والانتقام لأعدائه ويجزي الجزر الانتقام. [أشعياء 59 : 2 – 18].
4- يا ابن الإنسان : إني مرسلك إلى بني إسرائيل إلى أناس متمردين قد تمردوا عليّ. فقد عصوني هم وآباؤهم إلى هذا اليوم نفسه. فأرسلك إلى البنين الصلاب الوجوه، القساة القلوب، فلا تخف منهم، ولا تخف من كلامهم، لأنهم يكونون معك عُليقاً وشوكاً، ويكون جلوسك بين العقارب. من كلامهم لا تخف، ومن وجوههم لا ترتعب، فإنهم بيت تمرد [حزقيال 2 : 3].
الجهاد في الإسلام
الجهاد في الإسلام هو "قتال الكافرين لإعلاء كلمة الله". فليس هو بحرب مقدّسة كما يقول الغربيون عن سوء قصد وتضليل، وذلك لما في كلمة "الحرب المقدّسة" من ذكريات مريرة، ومعان سلبية مغروسة بأعماق الغربيين، تعود إلى القرون الوسطى أيّام سيطرة الكنيسة على الفرد والدولة والمجتمع.
والحرب ظاهرة طبيعية شهدتها كلّ المجتمعات والدول والأزمان. يقول بكيت دي جو فينيل: «إنّ الحرب تبدو وكأنها أمر عارض في نظر ذاك الذي يكتفي بتأمل الزمن الذي يعيش فيه، إنما بالنسبة للإنسان الذي يعيش متأملاً مسار الأزمان جميعاً فسيجدها النشاط الأساسي الذي تمارسه الدول». (نقلاً عن صدى الحداثة ص199 لرضوان جودت زيادة)، والأمر غير الطبيعي هو ما يفعله الغرب بقيادة أميركا من عقد تحالفات، ومحاولة جرّ العالم كلّه للدخول في الحرب، وهو أمر قد يسبب حرباً عالمية ثالثة لا تتحملها البشرية التي عانت ويلات الأولى والثانية.
إنّ الغرب يهاجم الإسلام، لتضمّنه الجهاد الهجومي، حتّى كرّه البشر في الإسلام، وأصبح هذا الدين الحنيف السمح في نظر العالم صنو الإرهاب، والوحشية والبربرية. ولقد تجاهل العالم، أنّه في الوقت الذي تُهاجم فيه فكرة الجهاد في الإسلام، تُطوّر أميركا أسلحة الدمار الشامل، وتحتلّ أرض المسلمين، وفي الوقت الذي يُهاجم فيه القرآن لاحتوائه آيات القتال ينشد الفرنسيس لامارسياز (la Marseillaise) يدعون فيها للقتال، ويتمنون فيها سبع مرّات: أن يتدفق دم غير طاهر في ساحاتهم:
Aux armes citoyens !
Formez vos bataillons !
Marchons, marchons
Qu'un sang impur Abreuve nos sillons !
والحقيقة، أنّ الغرب يريد من المسلمين نزع السلاح، وتسليم البلاد والعباد له. فحتّى القتال من أجل تحرير الأرض يعتبره الغرب من المسلمين إرهاباً. فقتال المسلمين الروس في الشيشان إرهاب. وقتال المسلمين أميركا في أفغانستان إرهاب. وقتال المسلمين الأميركان والإنجليز في العراق إرهاب. وقتال المسلمين اليهود الصهاينة في فلسطين إرهاب. وقتال المسلمين الهندوس في كشمير إرهاب.
فماذا بقي إذن للمسلمين من قتال لا يسمّى في عرف الغرب بالإرهاب. لم يبقَ إلاّ قتالهم لبعضهم بعضاً!
إنّ الجهاد طريقة الإسلام في حمل الدعوة، مثلما الاستعمار الذي منه الاستعمار العسكري طريقة نشر الرأسمالية، أو بالأحرى فإنّ الاستعمار العسكري الترابي هو طريقة الرأسمالية لنهب البشرية واستغلال ثرواتها، وهو ما تسير عليه أميركا الآن.(/12)
إنّ المسلمين يعلنون صراحة، ودون خجل أنّ الجهاد بشقّيه الهجومي والدفاعي من الإسلام؛ وذلك لثقتهم بهذا الدين السمح، وبتشريعه العادل. فهل يعلن الغرب أنّ الاستعمار طريقته؟
إنّ الإسلام شرع القتال لإزالة الحواجز المادية التي تمنع الناس من رؤيته في الواقع مطبقاً ينعم الخلق بعدالته. وأمّا قتال الغرب فيعلل بالأمن القومي والمصالح الحيوية ومقاومة الإرهاب. وكلّ ذي عقل يعلم أنّه لحرب الإسلام ولنفط المسلمين.
قال لورنس كورب، مساعد وزير الدفاع في عهد الرئيس السابق لأميركا ريجان، أثناء حرب الخليج في سنة 1991م: «لو كانت الكويت تنتج الجزر لما اكترثنا بالأمر». وقال هاليداي: «ماذا يريد الناس في الغرب؟ الإجابة بسيطة. إنهم يريدون المال. وهذا ما تمثله العولمة. إنها تعني تحويل العالم أجمع الى سوق هائلة ومعمل إنتاج صناعي». (ساعتان هزتا العالم ص99)، والإسلام حين شرع القتال ضبطه بضوابط كثيرة، فيها من السماحة والرحمة ما يبيّن حقيقة القصد منه، الذي هو خير البشرية وليس استعمارها ونهب خيراتها.
عن سليمان بن بريدة، عن أبيه. قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، إذا أمّر أمير على جيش أو سرية، أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيراً. ثم قال «اغزوا باسم الله وفي سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا. وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال (أو خلال). فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكفّ عنهم. ثم ادعهم إلى الإسلام. فإن أجابوك فاقبل منهم وكفّ عنهم. ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين. وأخبرهم أنهم، إن فعلوا ذلك، فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين. فإن أبوا أن يتحولوا منها، فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين، يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين. ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين. فإن هم أبوا فسلهم الجزية. فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكفّ عنهم. فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم...». (رواه مسلم).
فأوّل شروط القتال الدعوة إلى الإٍسلام بأسلوب بيّن يقيم الحجة والبرهان على من أريد قتالهم. فإن دخلوا في الإسلام بطلت الحرب، فهم من المسلمين لهم ما لنا وعليهم ما علينا.
فإن أبوا الإسلام ورضوا الجزية، كفّ عنهم وقُبل منهم. والجزية هي قدر رمزي من المال يؤخذ مرة في السنة من الرجال البالغين، ولا يؤخذ من الأطفال، والنساء، والمعسرين، وهي مقابل حمايتهم ودخولهم في أمان الدولة الإسلامية.
فإن أبوا إلاّ القتال قوتلوا. علما أنه ليس القتال لأجل القتال ما يحرّك الجيوش الإسلامية، إنما من أجل أداء الرسالة السمحة التي تخرج الناس من الظلمات إلى النور؛ لذلك فإنّ الجيوش الإسلامية عبر تاريخها لم تغتصب النساء، كما فعل الصليبيون والروس والفرنسيس والصرب وحلفاء الأميركان في أفغانستان، ولم تقتل الأطفال والنساء والشيوخ والبهائم، ولم تحرق البلاد كما يفعل الغرب اليوم.
ولقد ضرب صلاح الدين الأيوبي المسلم الكردي مثلاً عظيماً في سماحة الإسلام وقوته وعزته، وسيسير على منواله جيش الخلافة القادمة بإذن الله، وهذا، رغم ما فعله الصليبيون في بيت المقدس من قتل واغتصاب وحرق وتدمير.
وهذه شهادة بعض المستشرقين والمؤرخين من الغرب:
يقول استيفن سن: «إن السلطان قد سمح لعدد كبير بالرحيل دون فدية». ويروي أستانلي لين بول: «إن السلطان قد قضى يوماً من أول بزوغ الشمس إلى غروبها وهو فاتح الباب للعجزة والفقراء تخرج من غير أن تدفع الجزية».
ويقول المؤرخ الإنجليزي (مل): «ذهب عدد من المسيحيين الذين غادروا القدس إلى أنطاكية المسيحية فلم يكن نصيبهم من أميرها إلا أن أبى عليهم أن يضيفهم، فطردهم فساروا على وجوههم في بلاد المسلمين، فقوبلوا بكل ترحاب». ولقد خرج البطرك "ستانلي" بأمواله وذخائره الكثيرة دون أن يصرف منها شيئاً في فداء الفقراء والمساكين، فقيل لصلاح الدين «لم لا تصادر هذا فيما يحمل، وتستعمله فيما تقوي به أمر المسلمين؟» فقال: «لا آخذ منه غير العشرة دنانير ولا أغدر به»، وفي ذلك يقول ستانلي لين بول: «قد وصل الأمر إلى أن سلطاناً مسلماً يلقي على راهب مسيحي درساً في معنى البر والإحسان».
إنّ هذه الروح السمحة، والأخلاق النبيلة هي أخلاق الإسلام وآدابه في التعامل مع البشر في السلم والحرب. قال الله سبحانه وتعالى: ? وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ? [البقرة 190].
مفهوم التسامح بين الإسلام والغرب (4)(/13)
إنّ الرأسمالية التي سادت العالم بأكمله، وملكت الدنيا واكتسحت بسطوتها الكون، فَعَنَتْ لها وجوه ونُكست رؤوس، هي حضارة مولعة بتزوير الحقائق، ومغرمة بإخفاء الوقائع، فلا يعنيها طلب الصدق، ولا يشغلها إحقاق الحقّ وإبطال الباطل بقدر ما يعنيها ويشغلها مقدار الدماء التي مُصّت، وكمية الثروات التي نُهبت، والمنفعة التي حصّلت.
كم يلذ للرأسماليين، ويَطيب لهم، مدح حضارتهم بكلّ صفة حميدة، ومكرمة نبيلة، وشَميلة محمودة، وخلّة حسنة. وكم يكره هؤلاء أنْ تنتقد ثقافتهم، وأنْ تردّ حضارتهم، وأنْ تجتنب طريقتهم في العيش. إنّه سلوك من تعالى وتكبّر، وصنيع من طغى وتجبّر.
إن حماة الحضارة الغربية يعيّرون الإسلام بالتعصّب وعدم قبول الآخرين، مع أن الحقيقة على النقيض مما يدّعون، وهو ما سنثبته في هذا المقام، ونسلط الضوء عليه ونجلّيه، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حيى عن بينة.
من يكره من؟
بكلّ بساطة، وفي كلمتين، علّل الغرب، وخاصّة الأميركان منهم، أحداث 11/9/2001م بقولهم: «إنّهم يكرهوننا». إنّ صنّاع القرار وحكومة الظلّ والقلّة المتنفّذة والإعلام الكاذب في الغرب يلعبون بمشاعر الشعب المنغمس في الرغبات المادية والملذات الدنيوية، وذلك بعبارات عاطفية، وكلمات منمّقة محبّبة إليه، كالحرّية والديمقراطية. إنّهم يفسرون له مجرى الأحداث الجسام التي يمرّ بها العالم بأكمله، بقولهم إنّ المسلمين يحسدوننا على حضارتنا ونمط عيشنا وحرّيتنا وديمقراطيتنا.
لقد خفي عن هذا الشعب المسكين الذي صدّق الفرية أنّ المسلمين لا يحسدون الغرب على إلحاده، وصليبيته، وماديته، ونفعيته، وميكيافيليته، وتفكّك الروابط الأسرية، وانتشار الجريمة المنظمة وغير المنظمة، وحرّية الشذوذ الجنسي، وديمقراطيته المزورة التي أوصلت بوش الصغير إلى الحكم.
يقول نعوم تشومسكي: «بأنّ العالم لا يكره أميركا لأنها تدافع عن قيم الديمقراطية والحرية الفردية والرأسمالية، وإنما لأنها تعيق الديمقراطية والتنمية الاقتصادية في هذا العالم من خلال دعمها المستمر لأنظمة مستبدة بل وحتّى إرهابية» (نقلاً عن صدى الحداثة ص145 لرضوان جودت زيادة).
إنّ الحبّ والكره مبنيان على الأعمال والتصرّفات، فما هي هذه الأعمال التي تجعل المسلم يحبّ الغرب ويتعشّقه؟ هل يذكر الغرب ما فعله في القدس حين دخلها مستعمراً؟ ألم يذبّح الصليبيون المسلمين بل نصارى المشرق واليهود حتّى سالت الدماء كالأنهار، «وتوزعت أوصال البشر في أنحاء المدينة وشوهدت القطع من الروؤس والأيادي والأرجل متفرقة»؟ ( أنظر: أجندة جرائم فرنسا فيما وراء البحار، لجاك مورال). ألم ينصب محاكم التفتيش والتعذيب لمسلمي الأندلس ويهودها؟ ألم يعذّب الفرنسيس أهالي الجزائر حتّى الموت؟ ألم يفنِ الرجل الأبيض الهنود الحمر في بلدهم أميركا؟ ألم يحرق الأميركيون الفيتنام؟ ألم يدمّر الروس بلداً كان اسمه الشيشان؟ من اغتصب النساء وقتل الأطفال وباع أعضاءهم؟ ألم يتآمر الغرب مع الصرب في ذبح مسلمي البوسنة؟ حتى إنّ الكاتبة الأميركية سوزان سونتاغ قالت متهمة أوروبا: «إنّ وزراء الثقافة في المجموعة الأوروبية يتسترون على أكبر جريمة قتل جماعي في تاريخ أوروبا تقع تحت سمع وبصر الجميع، إنّ أجهزة التلفزيون تنقل كلّ ما يحدث في سراييفو لحظة بلحظة ومع ذلك لم يتحرّك أحد لمنع هذه الجريمة التي تقع في قلب أوروبا» (نقلاً عن صحيفة الحياة 14\11\1993م).
ألم يدمّر الأميركان أفغانستان، واحتلوها من أجل نفط بحر قزوين؟ ألم يستعمر الأميركان العراق من أجل نفطه؟ تقول (إيه أم روزنثال): «إنّ أي أميركي يعرف ألف باء السياسة يعلم تماماً أنّ الولايات المتحدة لا تحارب من أجل الديمقراطية (ضدّ العراق)، لأنّه ليست هناك ديمقراطية في العالم العربي. ولا تحارب من أجل الكويت.. لا، لقد تحرّكت الولايات المتحدة نحو الحرب لمنع العراق من السيطرة على ثروة هي الوقود الأساسي للصناعة، وقد تعني الفرق بين الحياة الاقتصادية وبين الاندثار». (الهيرالد تريبون 27\08\1990).
إنّ التاريخ والواقع المعيش يشهدان على الغرب بأنّه يسعى ولا زال يسعى لاستغلال الشعوب ونهب خيرات البلدان وسرقة الثروات من خلال الاستعمار بشكليه القديم أو الجديد. فمتى نهضت أمّة استعمرها الغرب؟ ومتى تقدّم بلد دخله الغرب؟ فهل أنهض الإنجليز الهند؟ أم هل أنهض الهولنديون، ومن بعدهم الأميركيون، إندونيسيا؟
أمّا الإسلام، فهدفه قناعة الشعوب برسالته، فهو يفتح البلدان لفتح القلوب والعقول لدين الله، فلا يسرق ثروات البشر وينهب خيرات البلاد بل يبقيها لأهلها ويحميها لهم، ويسعى لإنهاضهم والتقدّم بهم، فلهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين؛ لذلك نهض الإسلام بالأندلس وجزر إيطاليا في عصر ظلام أوروبا.(/14)
يقول المستشرق إستانلي لين بول في كتابه (حكم المسلمين في إسبانيا): «لم تنعم الأندلس طوال تاريخها بحكم رحيم عادل كما نعمت به في أيام الفاتحين العرب».
ويقول ديورانت في (قصة الحضارة): «وبلغت بلاد آسية الغربية تحت حكم المسلمين درجة من الرخاء الصناعي والتجاري لم تصل إليها بلاد أوروبا قبل القرن السادس عشر». فما قام به المسلمون كما تقول الفيلسوفة الألمانية زيغريد هونكة: «لهو عمل إنقاذي له مغزاه الكبير في تاريخ العالم».
إنّ الغرب هو الذي يكره الإسلام والمسلمين، وهو الذي يعاديهم ويحتلّ أرضهم، وهو الذي كما قيل في الأمثال: يضرب ويبكي ويسبق ويشتكي. إنّه ينادي للحوار ولكنه يجهزّ للحرب، ويدعو للتسامح واحترام الحضارات ولكنه يعمل على القضاء على الإسلام، ويقول إنّه يحبّنا ولكنه يخفي الحقد بقلبه.
تقول كارين آرمسترونغ (Armstrong) في كتابها (محمد: سيرة نبي): «لدينا في الغرب تاريخ طويل من الحقد والعداء تجاه الإسلام، ولكن هذه الكراهية مازالت تزدهر وتكبر على جانبي المحيط الأطلسي، ولا شيء يمنع الناس من مهاجمة هذا الدين حتى وإن كانوا لا يعلمون عنه شيئاً».
وفي تصريح لوكالة فرانس براس بعيد أحداث 11/9/2001م قال البروفسور باتريس برودور من كنيكتيكات كوليدج: «إنّ الموقف المتشكك الذي يبديه المجتمع الأميركي تجاه المسلمين من أصل شرق أوسطي أو جنوب آسيوي متأصّل بصورة أعمق وأكثر شمولية من مجرد المواقف النمطية». وأوضح للوكالة: «أنّ الأميركيين طوروا مفهوماً لديانتهم هو يهودي مسيحي لكنه ليس يهودياً مسيحياً مسلماً بعد... وأنّ الثقافة الشعبية الأميركية ما زالت متأثرة بروح الحروب الصليبية التي تجعلهم يرون في الدين الإسلامي مصدر تهديد...».
ويقول الكاتب والمحلل السياسي الأيرلندي فريد هاليداي «... وأن يكون هناك شيء اسمه «معاداة الإسلام» فهذا صحيح بلا أدنى ريب. وليس من الصعب العثور على أمثلة حديثة العهد في الصحافة البريطانية. ويمكن أن نرى اتجاهات مماثلة في أماكن أخرى: في الدنمارك جعل حزب الشعب مثل هذا العداء بنداً مركزياً في برنامجه. وفي عام 1998 أنتجت هوليوود فيلم «الحصار»، الذي يركّز على الإرهاب الإسلامي على نقيض لافت... ولعل المثال الأسطع على معاداة المسلمين اليوم نجده في الهند. فإن حزب جاناتا خاض الحملة من أجل إعادة انتخابه في عام 1997م على أساس ثلاث قضايا معادية للمسلمين: إعادة بناء معبد أيوديا وإلغاء التشريعات القانونية الخاصة بالمسلمين وإنهاء الوضع الخاص لمقاطعة كشمير. وتتبع قضايا أخرى. إعادة تسمية بومباي كناية بآلهة هندية وإعادة كتابة كتب التاريخ منطقاً مماثلاً...» (ساعتان هزتا العالم ص41).
أكذوبة التسامح الغربي
لقد ظهر الغرب على حقيقته، وانكشف ما كان يخفيه في صدره من دكتاتورية، وقسوة، ووحشية في التعامل مع الآخرين الذي يخالفونه في العقيدة والدين والفكر.
ولقد ظهر أنّ نظريات التسامح، والنسبية (relativism) والتعدُّدية (pluralism) التي يتبجّح بها الغرب ويدعو المسلمين إلى تبنيها، ليست إلاّ نظريات مثالية لا واقع لها، فهي عبارات حبر على ورق يؤولها كما يشاء ويلوي عنقها كما يشاء ويغيّرها متى يشاء، إنّها زمزمة فلاسفة لا وجود لفكرهم، ولا أثر لآرائهم على أرض الواقع الغربي.
إنّ قول فولتير: «حتى ولو كنت أخالفك الرأي فإنني مستعد للنضال معك حتى الأخير لكي تقول ما تريد».
أو قول باستور «أيا تكن جنسيتك أو لون جلدك قل لي أين تتألم كي أعالجك».
أقوال سحرت عشّاق الحضارة الغربية لعقود من الزمن، لكنّها لا معنى لها ولا واقع؛ لأنّ النسبية الغربية والتعدّدية والديمقراطية حصرت في حكمة بوش الصغير: «إمّا معنا وإمّا ضدنا».
فحينما نادى بوش الصغير بعد أحداث 11/9/2001م بحرب صليبية، وحينما أعلن شرودر الألماني بأنّ الهجوم على أميركا هو هجوم على الحضارة الغربية التي افتخر بها وندد بمحاسنها كحقوق الإنسان وحرية الأديان التي لا توجد في البلدان الإسلامية، وحينما قال برلسكوني الإيطالي بأنّ الحضارة الغربية أعلى من الإسلام وأرقى، هل قالوا قولهم هذا إيماناً بالنسبية والتعددية؟.
يقول المفكر المعروف إيرفنغ فتشر: «إن لشعوب النصرانية كل مسوغ في أن تكون خجلة من عدم تسامحها الديني والأيديولوجي في العصور السالفة. ويقيناً ليس لهم الحق في أن يشيروا بإصبع الاستهجان إلى الآخرين.» ونحن بدورنا نقول: ما الفرق بين العصور السالفة واليوم؟
ما الفرق بين الحرب الصليبية التي أسالت دماء المسلمين واليهود أنهاراً في بيت المقدس (أورشليم)، وبين الحرب الصليبية كما قال بوش الصغير على أفغانستان؟
ما الفرق بين احتلال مصر وتونس والجزائر وغيرها من بلاد المسلمين على يد الفرنسيس والإنجليز وبين احتلال العراق في سنة 2003م على يد الأميركان والإنجليز؟(/15)
ما الفرق بين محكمة التفتيش المسيحية الإسبانية التي نصبت للمسلمين واليهود، وبين قفص «غوانتنامو» الذي يعامل فيه المسلمون كالحيوانات؟
هل من التسامح، والتعددية الثقافية، أن تراقب المساجد ويقهر الأئمة فيها ويضغط عليهم، وتمنع الكثير من المدارس الغربية المسلمات المحجبات من دخولها إلاّ بعد نزع اللباس الشرعي؟
هل من التسامح، والديمقراطية، أن تمنع حركات إسلامية سياسية تتبنى الفكر في عملها وترفض العنف، كحزب التحرير، من النشاط في بعض دول الغرب؟
هل من التسامح أن تغلق بعض الجمعيات الخيرية، وتصادر أموالها بتهمة مساعدة الإرهاب؟
هل من التسامح، واحترام الحضارات، أن تغيّر مناهج التعليم في بلاد المسلمين كالباكستان بما يناسب الأميركيين؟
يقول فولتير: «... إنّ الذي له شطحات ورؤى، الذي يعتبر الأكاذيب حقائق، والتخيّلات تنبؤات، فهو حماسي. وأمّا الذي يدعم جنونه بالقتل فهو متعصّب...».
ويقول: »هناك متعصّبون دماؤهم باردة، إنّهم القضاة الذين يحكمون بموت أولئك الذين ليس لهم من جريمة سوى أنّهم لا يفكرون مثلهم».
إنّه تعريف للتعصّب يصدق على بوش، ورامسفيلد، وعلى أولئك الذين يتبنون عقيدة الأمن القومي الأميركي «الذين حكموا على ملايين المسلمين بالموت، لا لشيء سوى أنّهم مسلمون يؤمنون بدينهم، ويمتلكون ثروة عظيمة حباهم الله وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا { بها. قال تعالى: الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ - بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ إِنَّ الَّذِينَ - وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ [البروج 8-10]. } عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ
إنّ التسامح الذي هو قبول الآخر الذي يخالفك لا يمكن أن يعدّ فضيلة إلاّ عندما يمكن للمرء أن لا يكون متسامحاً. والغرب قد ضيّع على نفسه فرصاً كثيرةً يثبت فيها للمسلمين تسامحه، وديمقراطيته، وصدق إيمانه بأفكاره. فبعد أحداث 11/9/2001م ذهل المسلمون من ردّة فعل الغربيين العنيفة معهم، التي لم تقتصر على الاعتداءات عليهم وعلى أمكنة عبادتهم، بل جلبت معها قوانين جديدة للمساجد وللهجرة وغير ذلك مما يُقيّدهم، وينغّص عليهم حياتهم. علما أنّهم أخذوا بجريرة من لا ناقة لهم فيها ولا جمل.
فمتى يكون الغرب متسامحاً؟ عندما يبدّل المسلمون دينهم، ويعتقدون العلمانية والرأسمالية أي عندما يتحوّل المسلمون إلى غربيين؟ هل هذا هو التسامح؟
ماذا يعني قولهم لا تسامح، ولا ديمقراطية مع غير الديمقراطيين؟ ويلهم، وهل يكون التسامح في عرف العقلاء إلاّ مع الآخرين المخالفين؟ ويلهم أليس هذا بإكراه للمسلمين على قبول الفكر الغربي؟
إنّ الغرب بمقولته هذه، وعمله بها، يكشف عن حقيقة هي: أكذوبة التسامح الغربي.
القرآن أقوى من الغرب
قامت فرنسا أيام احتلالها للجزائر بتجربة عملية من أجل القضاء على القرآن في نفوس شباب الجزائر، فقامت «بانتقاء عشر فتيات مسلمات جزائريات، أدخلتهنّ الحكومة الفرنسية في المدارس الفرنسية، وألبستهنّ الثياب الفرنسية، ولقنتهنّ الثقافة الفرنسية، وعلمتهنّ اللغة الفرنسية، فأصبحن كالفرنسيات تماماً.
وبعد أحد عشر عاماً من الجهود، هيأت لهنّ حفلة تخرج رائعة، دعي إليها الوزراء، والمفكرون، والصحفيون…ولما ابتدأت الحفلة، فوجئ الجميع بالفتيات الجزائريات يدخلن بلباسهنّ الإسلامي الجزائري...
فثارت ثائرة الصحف الفرنسية وتساءلت: ماذا فعلت فرنسا في الجزائر إذن بعد مرور مائة وثمانية وعشرين عاماً!؟ أجاب لاكوست، وزير المستعمرات الفرنسى: وماذا أصنع إذا كان القرآن أقوى من فرنسا؟!» (نقلا عن كتاب: قادة الغرب يقولون: دمّروا الإسلام أبيدوا أهله ص35 الأستاذ جلال العالم).
إننا اليوم نقول: القرآن أقوى من الغرب.
فسينتصر الإسلام وتقوم دولة الخلافة التي ستملأ الأرض عدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً. وساعتها، لن نقول للغربيين الوافدين
على دار الإسلام، المريدين للعيش مع المسلمين في ظلّ دولة الخلافة، ورحمة نظامها، وسماحة دينها، «لا إسلام مع غير المسلمين» قياساً على مقولة الغرب «لا ديمقراطية مع غير الديمقراطيين»، بل سنقول لهم: دار الإسلام ترعى المسلمين وغيرهم، فانطلقوا في دارنا، تحت حمايتنا، ولكم ما لنا وعليكم ما علينا.
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ { قال الله تعالى: لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا وَعَدَ اللَّهُ - اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ [المائدة 8-9]. } عَظِيمٌ
[انتهى]
بقلم: السيد أحمد إدريس المشهداني(/16)
مفهوم التَّجديد وتجديد التديُّن
د. عبد الله الزبير عبد الرحمن*
أحمد الله العظيم أنْ هدانا إلى خير دين وأقوم شريعة، لا اعوجاج فيها ولا التواء، بل استقامة على الطريق المستقيم، واعتدال على النهج القويم، وثبات على أرسخ القواعد وأعدل الأمور، كلما تسرَّب إلى جنباتها ما يضعفها، بُعث من يعيد لها نقاهتها ونقاءها، فتبقى محروسة بحفظ الله تعالى، وقد قال عن دستورها: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)(1 ).
وأشهد ألاَّ إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، أرسله الله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، اللهم فَصَلِّ وسلِّم وبارك عليه وعلى آله الطاهرين، وأصحابه الغر الميامين، ومن اتبعوهم بإحسانٍ إلى يوم الدين. أما بعد،،،
فإنَّ دين الحق الذي ارتضاه الله تعالى لعباده، وأرسل به خير رسله، وختم بشرعته ورسالته الرسالات والشرائع، يجب أنْ يبقى كاملاً محفوظاً، تاماً محروساً، لا يَخْلَق ولا يبلى، ولا ينقص، يحتكم إليه العالمون، وتُضبط به أمورهم وشؤونهم حتى لا يبقى في الزمان أمرٌ ولا شأن، إلاَّ الحساب والجزاء يوم الدين.
ولهذا اقتضت كلمة الله البالغة، ورحمته الواسعة، ومقتضى ربوبيته وألوهيته، أنْ يبعث في الناس مجوِّدين، يجلَّون دينه من صدأ التخلِّي، وينقونه من شوائب الصد عنه، ويحمونه من سطو الساعين إلى إضعافه وإخماد جذوته بفضل الكريم المنَّان.
غير أنَّ مصطلح (التجديد) لم يعد كما كان في عهود الازدهار العلمي والعلو الفكري مفهوماً معلوماً، بل شابَهُ ما شاب مصطلحاتنا الإسلامية من الدَّخَل والدَّخَن والتشويه، فاحتاج مفهوم التجديد إلى التجويد والتبيين والإيضاح، فكانت هذه المباحث.
ولقد أردتُ بها التركيز على جانب تجديد السلوك التعبُّدي والتديُّن الفردي، أرصد مظاهر الخلل في التديُّن، وأُظْهِر العلل في المتدينين، أعرضها على ميزان الكتاب والسُّنَّة ليتبيَّن أهلها مدى حاجة أحوالهم إلى التجديد، فجاء البحث في ثلاثة مباحث على النَّحو الآتي:
المبحث الأول: في مفهوم التجديد عموماً.
المبحث الثاني: في المفهوم الخاطئ للتجديد.
المبحث الثالث: في تجديد التديُّن والالتزام.
المبحث الأول: مفهوم التجديد
المطلب الأول: أصل التجديد ووضعه اللُّغوي(2 )
التجديد في أصله اللُّغوي: مأخوذ من جدَّد الشيءَ، وتجدَّد الشيءُ، إذا صيَّره جديداً أو صار جديداً.
والتجديد فيه طلب واستدعاء، إذ التاء للطلب، فيكون تجديد الشيءِ يعني طلب جِدَّتِه بالسعي والتوسّل إلى ما يجعله جديداً. والجديد نقيض الخَلَق والبِلى، وضدّ القديم بمعنييه ـ القديم زماناً، والقديم بقاءً، وهو التقادم ـ، فيُقال: بلي بيت فلان ثمّ أجَدَّ بيتاً مِنْ شَعْر.. ويُقال لليل والنهار: الجديدان، لأنهما لا يبليان أبداً.
ومن معاني التجديد في أصل اللُّغة: التعظيم والإجلال، ومنه قوله تعالى: (وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا)( 3)، أي عظمته وجلاله وغناه. ومن معانيه كذلك الوسطية، ويقولون: جادّة الطريق أي سواء الطريق ووسطه.
ومن هنا ندرك أنَّ التجديد لا يعني بحال الإتيان بجديد منقطع عما كان عليه الأمر أولاً، ولكن يعني:
• أنَّ الشيء المجدَّد قد كان في أول الأمر موجوداً وقائماً، وللناس به عهد.
• وأنَّ هذا الشيء أتت عليه الأيام، فأصابه البِلَى وصار قديماً خَلِقاً.
• وأنَّ ذلك الشيء قد أُعيد إلى مثل الحالة الأولى التي كان عليها قبل أنْ يبلى وَيَخْلَق ( 4).
ولهذا يقولون: جدَّد بيته، أي: رمَّمه، وأعاد طلاءه، وأحكم إثبات النوافذ، وغيّر مظهره، الذي بدا فيه التقادم وبان عليه التصدّع، ولا يعني تجديد البيت هدَّه من الأساس وإعادة بنائه طوبة طوبة.
ويوضّح أكثر هذا المعنى قول أحد المصلين: جدّدت وضوئي، وهو لا يريد بذلك الوضوء من جديد بعد انتقاضه، فهذا لا يُسمَّى تجديداً، وإنما يريد بتجديده إعادة جدته كسباً لأثره في المصلِّي، تزويداً له بالنشاط للأداء المتقن الخاشع بسببه.
وكذلك قولك لأحد المتعاهدين: جدّدْ العهد، فهو لا يعني أنْ عهدك قد انتقض، بقدر ما يعنون أنه تقادَمَ إلى درجة أوشك معه المتعاهدون يتخلون عن ملزماته ويتساهلون في التزام بنوده.
فالتجديد ـ إذاً ـ لا يستلزم إقامة شيء جديد على أنقاض القديم، ولا يعني رفض القديم كله بحسبان نفود صلاحه، وأنه صار سلباً غير نافع يجب إلغاؤه والإتيان بجديد مغاير منقطع عنه أصلاً ووصفاً.
ولكن حقيقة ما يعنيه التجديد هو إعادة الأمر إلى ما كان عليه أولاً، وهو نوع من الإجلال لذلك الأمر وتعظيم له، على خلاف ما يعتقده كثير من سامعي هذا المصطلح ومطلقيه.
المطلب الثاني: المفهوم الاصطلاحي للتجديد(/1)
ما تقرَّر من أصل التجديد ووضعه اللُّغوي، وما أوضحناه من مراده استلزاماً لمفهومه الوضعي؛ ما تقرَّر هناك: هو ما استصحبه العلماء حين اصطلحوا للتجديد، كلفظ شرعي ورد في نصوص الشارع الحكيم، وفي قول رسوله الأمين صلى الله عليه وسلم .
فيقول العلقمي في معنى التجديد: "معنى التجديد إحياء ما اندرس من العمل بالكتاب والسُّنَّة والأمر بمقتضاهما، وإماتة ما ظهر من البدع والمحدثات"( 5).
وقيل معناه: "تبيين السُّنَّة من البدعة، وإكثار العلم ونصرة أهله وكسر أهل البدعة"(6 ).
قال الحاكم: "سمعت أبا الوليد حسان بن محمد الفقيه يقول غير مرة: سمعت شيخاً من أهل العلم يقول لأبي العباس بن سريج: أبشر أيها القاضي! فإنَّ الله مَنَّ على المسلمين بعمر بن عبد العزيز على رأس المائة، فأظهر كل سُنَّة وأمات كل بدعة".
ومعنى التجديد الاصطلاحي يظهر أكثر بتعريف أبي الأعلى المودودي ـ رحمه الله تعالى ـ إذ يرى أنَّ المجدِّد هو: "كل من أحيا معالم الدِّين بعد طموسها، وجدَّد حبله بعد انتقاضه..( 7).
فيكون التجديد: إحياء معالم الدِّين بعد طموسها، وتجديد حبله بعد انتقاضه.
والطموس لم يكن للدِّين، وإنما كان لمعالمه، ولا يريد بالطموس انتهاءه بالكلية من قلوب الناس وحياتهم، ولكن أراد به عدم ظهوره في جوانبه كلها. كما أنه ـ رحمه الله ـ لم يُلصِقْ الانتقاض بالدين، بل ألصقه بحبل الدِّين، وحبل الدِّين وسيلة التمسك به، من شعائر، ومشاعر، ونُسُك، وارتباط الوجدان بالمشاهدة، والمراقبة، والصدق، والتوكل، واستمساك العروة الوثقى، توجهاً بالنفس، وتوجيهاً بالدعوة.
فالتجديد في مراد العلماء ـ إذاً ـ يصدق في أمور:
أولها: إحياء ما اندرس من العلم والعمل.
وثانيها: الأمر بمقتضى الكتاب والسُّنَّة عند غياب الأمر بهما أو التساهل في الاستمساك بمقتضاهما.
وثالثها: تبيين السُّنَّة وتمييزها عن البدعة إذا اختلطتا وتمازجتا، فلو لم يقوَ الناس أو يقتدروا على التمييز بينهما لتمكَّن الجهل وتفشَّت الشُّبهة.
ورابعها: إماتة ما ظهر من البدع والمحدثات، بنشر العلم والدعوة به وإكثاره، ونصرة أهله، وكسر أهل البدع والمحدِثين.
وخامسها: إحياء معالم الدِّين بعد ما أصابها الطموس، بعوامل القسوة وطول الأمد، كما أصيب أهل الكتاب منهما، وقد أخبر الله عنهم في قوله تعالى: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ)( 8).
وسادسها: ربط حبل الدِّين وتوثيقه في وسائله ووسائطه التعبدية والخلقية والوجدانية، إذا أوشك أنْ ينتقض، استمساكاً بعروة الدِّين الوثقى، وحفاظاً على أسبابه المثلى، التزاماً وثباتاً.
وهذا كله هو ما فعله الذين أخبر عنهم النبي الكريم في الخبر الصحيح من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ قَالَ: (إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا)( 9).
وذلك كله مقصود المصطفى صلى الله عليه وسلم ، حين يطلب على حرص النبوة إصلاح الذات، وتنقية القلب، وتزكية النفس من رواسب طول الأمد، وتراخي الرباط الإيماني في قوله صلى الله عليه وسلم : (جَدِّدُوا إِيمَانَكُمْ) قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَكَيْفَ نُجَدِّدُ إِيمَانَنَا؟ قَالَ: (أَكْثِرُوا مِنْ قَوْلِ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ)(10 ).
ولعله المراد من جهود الطائفة القائمة على الحق للاستمساك بعروة الدِّين الوثقى، وإبقاء شعائره وشرائعه صافية نقية دون تغبّر أو تغيّر بجهود الطائفة الظاهرة بالحق على الحق كما في حديث ثَوْبَانَ رضي الله عنه قَال:َ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : (لا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ..)( 11).
المبحث الثاني: التجديد والمفهوم الخاطئ له
لم يأخذ التجديد ـ كمصطلح شرعي؛ ورد على لسان الشرع، ونطق به العلماء والدعاة والمفكرون كثيراً، في أوساط فكرية ودعوية ومحافل علميّة، حقَّه من الفهم الصحيح له، بل تجاوزت به فئات من النَّاس عن المراد الحق منه، إلى معانٍ تناقض مطلوب الشرع، وتنقضّ على ثوابت الدِّين وحقائقه بالإلغاء أو المحو أو التهوين أو التذويب.(/2)
فكثيرون ارتبط في أذهانهم معنى للتجديد، ليس هو المعنى الذي أُطلق عليه، بل هو معنى ـ حسب فهمهم ـ لم يقم على أصول العلم الشرعي، ولم يستصحب الثابت الحق الذي لا يجوز المساس به بحال، فظنوا أنَّ للتجديد رجالاً يجدِّدون للأُمَّة أمر هذا الدِّين؛ وأنَّ التجديد يكون بالتغيير لكل وجهٍ موجود في العصر، وبالنسخ لكل شكل يُتَعَبَّد به الله تعالى في أوانهم، وبالتبديل لكل أصل يقوم عليه الدِّين ـ علماً وسلوكاً ـ في زمانهم، ظناً منهم أنَّ التجديد هو: التبديل، والنسخ، والإلغاء، والتغيير بإطلاق، فيخوضون بهذا المفهوم المعكوس الحروب ضد ما ثبت من دين أو تديُّن، ويقودون الحملات الشرسة على كل ما استقر من حال أو شكل لدعوة أو عبادة، دون تمييز وتفريق بين ما يجوز فيه ذلك وما يُمنع، وبين ما يستحق التبديل أو التغيير وما لا يستحق، وبين الذي يصلح للأُمَّة تغييره وتبديله وبين ما يضرها إذا غُيِّر أو بُدِّل، فكل هذا تبديد لا تجديد، ويتبيَّن ذلك من خلال المطالب الآتية:
المطلب الأول: التجديد لحقائق الدِّين
فلا تجديد في حقائق الدِّين بحال، إلاَّ إذا قُصد بتجديدها إزالة الغبار العالق بها، وما أُدخل فيها من الشُبَهِ، وتعلق بها من الخرافات والخزعبلات، فتنقية حقائق الدِّين من هذه العوالق، وتصفيتها من الدخن والوهن وكل ما أصابها يكون من صميم التجديد.
أما محاولات الجهَّال ومن تربَّى على أفكار المتشككين والمستشرقين، وأقام عود قلبه على حب الملحدين، وأصاب عقله ونفسه أمراض الجدة والتغيير المطلق، فمحاولات أولئك ومن اتبعهم بشبر لتغيير حقائق الدِّين الثابتة، وسعيهم المستميت في صياغتها على وفق ما ترسّخ عندهم من أفكار وضلالات اليهود وخرافات النصارى التي تربوا عليها في مراحل التبعية وسنّيها العجاف؛ لا يكون تجديداً أبداً؛ وإنما هو تبديد لثوابت العقيدة الحقّة، وجوازم الدِّين التي لا تقبل التبديل، ولا التغيير، ولا النسخ.
فهؤلاء في الحقيقة، تلامذة الأحبار والرهبان من اليهود والنصارى، اتخذوهم أرباباً من دون الله، وما حَرَّف أصول الديانة عند اليهود إلاَّ الأحبار، وما حَرَّف حقائق الدِّين عند النصارى إلاَّ الرهبان، فمَنْ كان هؤلاء مفكريه وأساتذته لا شك اتبعهم في التحريف والتبديل!!.
المطلب الثاني: التجديد في نصوص الشرع
ولن يكون التجديد ممكناً يوماً لنصوص الشرع، من آيات الكتاب العزيز وأحاديث الرسول الكريم، إلاَّ إذا أُريد بذلك: صياغة أصول النظر فيها، وتطوير مسالك الاستنباط لمعانيها، وتسهيل طرائق استخراج الأحكام منها، حتى يقدر كل من حصّل قسطاً من أدوات النظر فيها الوصول إلى المطلوب الشرعي أو الاقتراب منه.
أما إذا أُريد بتجديد نصوص الشرع من الكتاب والسُّنَّة: الاستغناء عنها اعتماداً على العقل وتقديماً له عليها، فهذا مذهبٌ رفضته جماهير الأُمَّة وعلماؤها ومجدِّدوها من أهل السُّنَّة من قديم، حين ظهر المعتزلة يبالغون في تقديم العقل على النصّ، ويطّرحون ما أوصل نصّ الشرع إذا وُجد معنى عقلي مقابل، بل ربما ردّوا نصوص الشرع في مقابل المعنى العقلي.
فالهشاميّة( 12) منهم أكثروا من هذا الباب يخالفون القرآن بعقولهم، فقالوا:
• إنَّ الله تعالى لا يؤلف بين قلوب المؤمنين، بل هم المؤتلفون باختيارهم، مع أنَّ الله تعالى قال في ذلك صراحة: (مَا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ)( 13).
• إنَّ الله تعالى لا يحبِّب الإيمان إلى المؤمنين ولا يزينه في قلوبهم، مع أنه تعالى صرَّح بذلك فقال: (حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ)( 14).
• إنَّ الله تعالى لا يطبع، ولا يختم، ولا يسدّ، ولا يجعل شيئاً من ذلك في القلوب، مع أنه عزّ وجلّ يصرِّح بكل ذلك فيقول في الختم: (خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ.. )( 15)، ويقول في الطبع: (بَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً)(16 )، وقال: (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ)(17 )، وقال: (أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ)( 18).
• إنَّ الله تعالى لم يخلق الكافر، لأن الكافر: كفر وإنسان، والله تعالى لا يخلق الكفر، مع أنَّ الله تعالى صرَّح بذلك فقال: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)( 19).(/3)
كما أنّ التجديد لا يمكن أنْ يكون في نصوص الشرع: بتقديم المصلحة المجردة عن الأصل المنقطعة عنه ـ ولا شاهد لها منه تقاس عليه ـ على نص الشرع عند المخالفة والمعارضة، وقد ظَنَّ بعض الناس صحة ذلك، فنادوا به يزعمون أنهم يجدِّدون به الدِّين، بشبهة أنَّ الإسلام يعد المصلحة، وأنه ما جاء إلاَّ لجلبها ودرء المفسدة المقابلة لها، فنشطوا يؤخرون النصوص من أجل المصلحة، ويردونها أخذاً بالمصلحة وتقديماً لها، وهذا طريقٌ رفضه الناس حين نُصبتْ على مدرجة الشرع، وقد صرَّح بسلوكها الطوفي( 20) يزعم أنَّ رعاية المصلحة أقوى أدلة الشرع، وأنَّ نصوص الشرع إذا خالفتها وجب تقديم رعاية المصلحة عليها! ليتسع الخرق على الناس، يفتئت على الشرع من هبَّ، ويعطّل نصوصها من دبَّ، كلما أعجزه العلم عن إدراك المراد أو الوصول إلى المطلوب( 21). فهذا كله ليس بتجديد مقبول، وليس هو الذي بشَّر به الشرع الأُمَّة ببعث رجالها من أجله.
المطلب الثالث:التجديد والابتداع
وإنَّ الذي بين التجديد والابتداع، هو ما بين الضدّين من تخالف وتضاد وتعاكس، فلا يمكن أنْ يكون التجديد من الابتداع، بل هما ضدّان متعاكسان:
• الابتداع قطع عن الأصل، والتجديد إعادة للأصل وربط به.
• الابتداع اختراع في أصول الدِّين وفروعه بلا دليل، والتجديد إرجاع لأصول الدِّين وربط لفروعه بالدليل.
• الابتداع طمس لحقائق الدِّين ومعالمه، والتجديد إحياء لتلك المعالم بعد طمسه، فأنَّى يجتمعان، وكيف لهما أنْ يلتقيا؟ فلا يمكن أنْ يكون تجديد الدِّين بالابتداع فيه يوما ما.
المطلب الرابع:التجديد بالجديد
ويخطئ الكثيرون حين يظنون أنَّ التجديد لا يكون إلاَّ بإتيان جديد غير مسبوق في تاريخ التديُّن، أو باختراع عبادة يرون أنها تناسب العصر أو الناس أو الحال، أو بإنشاء أوامر جديدة وتعاليم لم يشر إليها نصٌّ أو استدلال، واهمين أنَّ البقاء على كل قديم جمود قاتل، وأنَّ الثبات على الأصول تقليد مذموم، وأنَّ استصحاب الماضي تعصب خاسر، وينهض لذلك بدوافع رافضة للقديم بمجرد كونه قديماً، وهؤلاء هم الذين سخر منهم الرافعي ـ رحمه الله تعالى ـ حين دخل معركته معهم [تحت راية القرآن] وقال: "إنهم يريدون أنْ يجدِّدوا الدِّين، واللُّغة، والشمس، والقمر". وهؤلاء هم الذين رَدَّ عليهم محمد إقبال حين قال: "إنَّ الكعبة لا تُجَدَّد بجلب حجارة لها من أوربا".
وهم الذين أشار إليهم أحمد شوقي في قصيدته عن الأزهر :
ولو استطاعوا في المجامع أنكروا ** من كل ساعٍ في القديم وهدمه
من مات من آبائهم أو عمِّرا ** وإذا تقدّم للبناية قصّرا(22 )
المبحث الثالث: تجديد التديُّن والالتزام
التديُّن الذي يطلبه الشرع لم يكن يوماً ما ذلك الشكل المتبلِّد على صورة واحدة في كل حين، لا يقدر صاحبه أنْ يتجاوزها اعتقاداً منه أنه عابد لله تعالى على أعلى درجة مما لا يستطيع مثلها أحدٌ غيره. ولم يكن الالتزام المطلوب في شريعة الإسلام تصلُّباً وجموداً على حالة واحدة لا تتبدّل، وإنْ كان التبديل مراداً لها، فذلك كله خروج عن مراد الشارع في التديُّن والالتزام.
وليس التديُّن الذي يطلبه الشرع ـ كذلك ـ صوراً تُلتزم حيناً وتُهمل أحياناً في تساهل متعمّد، وانحلال عن ملزماته بأدنى الحيل والأسباب والدواعي، فذلك برهانٌ على قلة الرقيب النفسي، وسرعة ذوبان الارتباط، وانعدام استشعار المراقبة لله الرقيب.
لم يكن التديُّن المقصود في شريعة الله تنازعاً بين أهل التساهل المفرِّطين، الذين لا يرعون له حرمة ولا يرون فيه إلزاماً، وبين أهل التشدُّد المتطرّفين، الذين لا يرون فيه فسحة من اختيار، أو تفاوتاً في الطلب، أو تيسيراً في الأداء، أو رعاية للأحوال من الضعف والقوة، والانشغال والتفرغ، والمرض والصحة، والحاجة والضرورة، والمشقة والكلفة، وغير ذلك مما رعاه الشرع وجعله سبباً للتخفيف على المكلَّفين والتيسير على العابدين.
فهذان الطرفان من أهل التديُّن ليسا مرضيين، وكل منهما تجاوز الحدّ المرغوب المحبوب الذي يجده المستقريء للشرع المحكم. فطرف التساهل مكروه، وطرف التشدُّد مرفوض، والتديُّن الصحيح لا يعرف التساهل في الدِّين ولا التشدُّد فيه.
لا تساهل بل تيسير:
فالتساهل لا يقرّه الإسلام لمن التزم شعائره، بل التساهل شرّ التديُّن، والمتساهل شرّ العُبَّاد، فهو لا يعبِّر إلاَّ عن استهوان المتدين بما يتعبَّد الله به، واستصغار شأن العبادة لله تعالى كما طلبه وأراده جَلَّ شأنه. ولم يكن المتساهل في أي شأن ـ ديني أو دنيوي ـ إلاَّ منبوذاً، مكروهاً، موصوماً بالشر والهوان.
فالتديُّن لا يقبل التساهل في ملزماته ومطلوباته بحال.. ولهذا اشتد وعيد الله عزَّ وجَلَّ على المتساهل المفرِّط في عباداته الذي يستهين بأمرها، ويتهاون في أدائها والالتزام بها:(/4)
• فالمتساهل في صلاته لا يقيمها بأركانها، ولا يتوفر لها بشروطها، ولا يحافظ على أوقاتها، بل يسهو عنها ويضيعها، هذا العابد موعود بالويل والثبور، وإنْ كان مصنَّفاً في المصلين، يقول تعالى: (فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون )( 23).
• والمتساهل في الصوم الواجب، والمفرِّط فيه لا يبالي إنْ أفطر في رمضان، بلا عذر ولا مرض ولا رخصة معلومة؛ مؤاخذٌ ملوم، ففي حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : (مَنْ أَفْطَرَ يَوْماً مِنْ رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ رُخْصَةٍ وَلاَ مَرَضٍ لَمْ يَقْضِ عَنْهُ صَوْمُ الدَّهْرِ كُلِّهِ وَإِنْ صَامَهُ)( 24).
• والتساهل في الحج والإفراط في أدائه والتهاون فيه بلا عذر مانع؛ يعد استقلالاً بالفريضة، واستهانة بالمنسك الركن، وقد جاء في حديث أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : (مَنْ لَمْ يَمْنَعْهُ عَنِ الْحَجِّ حَاجَةٌ ظَاهِرَةٌ أَوْ سُلْطَانٌ جَائِرٌ أَوْ مَرَضٌ حَابِسٌ فَمَاتَ وَلَمْ يَحُجَّ؛ فَلْيَمُتْ إِنْ شَاءَ يَهُودِيّاً وَإِنْ شَاءَ نَصْرَانِيّاً)( 25).
فالتساهل مرفوض غير مقبول عند أهل التديُّن البتة.
ولكن! خلط الكثيرون بين ما هو تساهل وبين ما هو تيسير، وحكموا على أقوام ميسِّرين بأنهم قوم يتساهلون في التزامهم وتعبُّدهم، وهم في الحقيقة ميسِّرون.. والتيسير على النفس في الطاعات والعبادات التزاماً في النفس وإفتاءً للغير ليس بمنكر ولا محظور، بل هو مرغوب محبوب مطلوب طلب ندب واستحباب، إنْ لم يكن طلب إلزام وإيجاب!!.
فمن سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم مما التزم به في خاصته، سُنَّة تأسٍّ وأصل اقتداء، وكان نهجاً ثابتاً في تعبُّده وتديُّنه التيسير على نفسه ما وجد إليه خياراً، فإنَّ أم المؤمنين عائشة ـ رضي الله عنها ـ تخبر كما في الصحيحين: (مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم َ بَيْنَ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا أَيْسَرُ مِنَ الآخَرِ إِلاَّ اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْماً)( 26).
وكان أمره صلى الله عليه وسلم لخلفائه في الدعوة والفتوى والعلم التيسير على الناس، يقول لهم كما في حديث أنس رضي الله عنه : (يَسِّرُوا وَلا تُعَسِّرُوا، وَبَشِّرُوا وَلا تُنَفِّرُوا)( 27).
هذا في الدعوة ، وقد أمر بالتيسير كذلك في الفتوى، كما في حديث أبي موسى رضي الله عنه ، قَالَ: (بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمُعَاذاً إِلَى الْيَمَنِ فَقَالَ: (ادْعُوَا النَّاسَ وَبَشِّرَا وَلا تُنَفِّرَا وَيَسِّرَا وَلا تُعَسِّرَا) قَالَ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَفْتِنَا فِي شَرَابَيْنِ كُنَّا نَصْنَعُهُمَا بِالْيَمَنِ، الْبِتْعُ: وَهُوَ مِنَ الْعَسَلِ يُنْبَذُ حَتَّى يَشْتَدَّ. وَالْمِزْرُ: وَهُوَ مِنَ الذُّرَةِ وَالشَّعِيرِ يُنْبَذُ حَتَّى يَشْتَدَّ. قَالَ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ أُعْطِيَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ بِخَوَاتِمِهِ فَقَالَ: (أَنْهَى عَنْ كُلِّ مُسْكِرٍ أَسْكَرَ عَنِ الصَّلاةِ)( 28).
وكذلك يأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنْ يُراعى التيسير ويُنتهج في التعليم كما يُراعى ويُنتهج في الدعوة والفتوى، فيقول كما في حديث ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ: (عَلِّمُوا، وَيَسِّرُوا وَلا تُعَسِّرُوا، وَإِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْكُتْ)( 29).
والقرآن يثبت أنْ مِنْ مراد الله عَزَّ وجَلَّ ومقاصده في تشريع العبادات والشعائر مراعاة التيسير في إقامتها والالتزام بها.
ففي تيسير فريضة الصلاة وتوابعها يصرح تعالى أنه مريد للتيسير ولا يقصد التعسير بحال، فيقول في آخر آية المائدة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ) ينبّه في آخرها على مقصد التيسير في التشريع فيقول: (مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ)( 30).
وفي تيسير فريضة الصيام يصرح تعالى أنه مريد للتيسير فيها فيقول : (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)( 31).(/5)
وفي تيسير فريضة الحج يصرِّح ربُّ العزة أنه مريد للتيسير كذلك فيقول: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ …)( 32).
وقوله تعالى: (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ) على ما قال الجمهور أي: مِمَّا تيسّر مما يسمّى هَدْياً( 33).
وفي تيسير أمر الدِّين كله يقول تعالى ( هُوَ اجْتَبَاكُمْ، وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ ..) الآية( 34).
فالتيسير مقبول ومحبوب ومرغوب، ولا يرادف التساهل لا في المعنى ولا في الحكم، فالتديُّن مطلوب فيه التيسير، ومكروه فيه التساهل، وأهل التديُّن والالتزام لهم التيسير ولا يجوز لهم التساهل.
لا تشدُّد بل استمساك:
وفي المقابل، لا يقرّ الإسلام أهل الالتزام بشعائره وآدابه التشدُّد في التزامهم، إنَّما يطالبهم بالاستمساك بعروة الدين الوثقى تديُّناً وإيماناً.
فالتشدُّد تعبير رافض لسماحة الدِّين ويسر التشريع، وقد أرادهما الرب المعبود لدينه وشريعته. وهو كذلك إلزام للنفس بما لم يلزمها الشرع، وسدّ لباب الاختيار فيما يخيّر فيه العبد، إذ يحمل معنى المبالغة في إجهاد النفس وإلزامها، والمغالاة والتجاوز لحدّ المعقول في الأقوال والأفعال( 35).
ومع ذلك فالتشدُّد لا يأتي بخير، والمتشدِّدُون ما أكثر ما يغلبون على التزامهم فلا يقدرون على الثبات والاستمرار، ولا على المداومة للطاعة فيما تشدَّدُوا فيه وتعمقوا، فينقلب أكثرهم عن حال التشدُّد إلى حال التساهل، وينحدرون من أعالي الالتزام إلى أسافل الانحلال والانسلاخ، وينقلب على وجهه ليكون من الغاوين.
هذا المعنى نجده في قول النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وهو يقابل بين التيسير والتشدُّد: (إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلاَّ غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَأَبْشِرُوا وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ)( 36).
ولإلغاء منطق التشدُّد من قاموس التعبُّد يرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى التيسير مع السداد والمقاربة، فيقول في رواية النسائي: (إِنَّ هَذَا الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلاَّ غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَأَبْشِرُوا وَيَسِّرُوا، وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدَّلْجَةِ)( 37).
وهاهو صلى الله عليه وسلم يرى التشدُّد في أحد أصحابه وهو يكثر الركوع والسجود بدرجة يظن من رآه أنه يرائي لا يخلص، فينبّه عليه الصلاة والسلام إلى القصد وعدم المبالغة والمغالاة في العبادة.
• قَالَ بُرَيْدَةَُ الأَسْلَمِيُّ رضي الله عنه : (خَرَجْتُ ذَاتَ يَوْمٍ لِحَاجَةٍ، فَإِذَا أَنَا بِالنَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلاة وَالسَّلامُ يَمْشِي بَيْنَ يَدَيَّ، فَأَخَذَ بِيَدِي، فَانْطَلَقْنَا نَمْشِي جَمِيعاً، فَإِذَا نَحْنُ بَيْنَ أَيْدِينَا بِرَجُلٍ يُصَلِّي يُكْثِرُ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : (أَتُرَاهُ يُرَائِي؟) فَقُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. فَتَرَكَ يَدِي مِنْ يَدِهِ ثُمَّ جَمَعَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَجَعَلَ يُصَوِّبُهُمَا وَيَرْفَعُهُمَا، وَيَقُولُ: (عَلَيْكُمْ هَدْيًا قَاصِداً، عَلَيْكُمْ هَدْيًا قَاصِداً، عَلَيْكُمْ هَدْياً قَاصِداً، فَإِنَّهُ مَنْ يُشَادَّ هَذَا الدِّينَ يَغْلِبْهُ)( 38).
• ولم يرض نبي الله صلى الله عليه وسلم التشدُّد من أحد ولو كان هذا الأحد هو أقرب الناس إليه، وإنما ينهى عنه ويرشد إلى الأصوب الأوفق لشرع الله، ولو كان التشديد على النفس محبوباً لرضيه لزينب رضي الله عنها، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَرَأَى حَبْلاً مَمْدُودًا بَيْنَ سَارِيَتَيْنِ فَقَالَ:(مَا هَذَا الْحَبْلُ؟) فَقَالُوا: لِزَيْنَبَ تُصَلِّي فَإِذَا فَتَرَتْ تَعَلَّقَتْ بِهِ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : (حُلُّوهُ، لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ نَشَاطَهُ فَإِذَا فَتَرَ فَلْيَقْعُدْ)( 39).
فالتشدُّد في الطاعات والعبادات منبوذ، ومكروه، ومرفوض في الشرع كالتساهل.(/6)
ولكنَّ كثيراً من عوام الأُمَّة المتساهلين، ومَنْ لا علم لهم بحقائق التشريع ومناهجه، وأصحاب الأغراض المنغمسين في الشهوات والمحبوسين في غيابت الشبهات، وفريقاً من الحريصين على الشرف والجاه، والعابدين للعروش والسلطان، يرمون المستمسكين بعروة الدِّين الذين لا يفرِّطون في عروة من عرى الإسلام بالتشدُّد والتنطع، وهم إنما يقيسونهم على حالهم حين أحسنوا الظن بأنفسهم، وهم متساهلون مفرطون في الواجبات والفرائض والأركان يهدمونها ركناً ركناً، ولا شكّ أنَّ من كان هذا حاله فسيرى المتمسك الملتزم متشدداً متنطعاً.
هؤلاء يجب أنْ يتنزهوا عن التساهل في الالتزام والطاعة، ويسارعوا دون تباطؤ أو تراخ إلى الالتزام والاستمساك بكل مطلوب ملزم، من غير تجاوز للحدّ، وانطلاق لطرف الغلو والتنطع الذي يعني التشدُّد في غير مواضع التشديد. فإنَّ التديُّن آن له أنْ يُجدَّد بتزيينه بالتيسير والاستمساك، ونفي خبث التشدُّد والتساهل عنه، وجزى الله شيخنا أحمد علي الإمام ـ حفظه الله تعالى ـ طالما ردَّد لترسيخ هذا المعنى العميق مقولته الذهبية: [نحن قوم لا نعرف التساهل في الدِّين ولكن نعرف التيسير فيه، ولا نعرف التشدُّد في الدِّين ولكن نعرف الاستمساك فيه].
الاختلال في الالتزام والتديُّن:
إنَّ الكثيرين ممن راقهم التزامهم، وعدَّوا أنفسهم أكثر العباد تديُّناً، يختل تديُّنهم والتزامهم في أحوال كثيرة، فلا يستطيعون أنْ يرتبوا ما التزموه من عبادات أو غيرها، بل يرتبك حالهم في كل مرة فيُقدَّم ما حقه التأخير، ويؤَخَّر ما شأنه التقديم. ينكر المباح على غيره ويترك الواجبات، ويأبى أنْ يأتي المستحب ولكنه يأتي المحرمات، ولا يرى التخيير في الجائز ثم يغشى المكروهات، وهكذا.
• فإنَّ منهم مَنْ لا يفرِّط بحال عن إدراك الجماعة في المسجد، يُعَدُّ له كل عدة، ويستعد مع النداء أو قبله، بل يصرّ إصراراً شديداً على الصلاة في الصف الأول ما حيي، وكل ذلك لا يتعدى الاستحباب والندب ـ وهو طيّب مطلوب محبوب وغاية في الالتزام والطاعة ـ ولكنه مع ذلك يؤذي جاره، وهو محرَّم عليه غير جائز له.
• ومنهم مَنْ يُدخل الليل في النهار، ويستظهر الأحاديث والآثار برواتها، يجتهد في الإحاطة بأحوال رجال الأسانيد، ويعرف عنهم تفاصيل حياتهم، وكونهم ثقات أو ضعافاً، ولا يملّ من ضبط متون السنن، وتجده يلحن في القرآن لا يجوِّد آية من سورة.
• ومنهم من يستكثر الأحاديث ويفني عمره في حفظها واستظهارها، ثم يستقل فقهها ولا يكاد يفقه جملة مما يحفظ ويستظهر، وإنْ قيل برّر فقال: "الفقه أقوال الرجال، والحديث قول الرسول صلى الله عليه وسلم ، فلا أنشغل بقول الرجال عن قول الرسول"، ومن بعد ذلك تراه يسيء فهم ما يحفظه، ويتجرأ على أنْ يفتي بغير علم ولا ملكة اجتهاد، وينازع الأئمة الفقهاء ويستصدر الأحكام بهواه، إذ هو ليس بفقيه يتملك أدوات الاجتهاد ليستعين بها.
ومما ذكره العلماء من إساءة فهم الأحاديث ممن اشتغل بجمعها واستظهارها، واستغرق في ذلك عمره :
[1] ما ذكره ابن الجوزي من أنَّ بعض المحدثين روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى أنْ يسقي الرجل ماءه زرع غيره، فقال جماعة ممن حضر: قد كنَّا إذا فضل عنا ماء في بساتيننا؛ سرَّحناه إلى جيراننا، ونحن نستغفر الله تعالى.
قال ابن الجوزي معلِّقاً على ذلك: "فما فهم القارئ ولا السامع ولا شعروا أنَّ المراد وطء الحبالى من السبايا"( 40).
والحديث أخرجه أبو داود في سننه عَنْ رُوَيْفِعِ بْنِ ثَابِتٍ الأَنْصَارِيِّ قَالَ: قَامَ فِينَا خَطِيباً قَالَ: أَمَا إِنِّي لا أَقُولُ لَكُمْ إِلاَِّ مَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ يَوْمَ حُنَيْنٍ، قَالَ: (لا يَحِلُّ لامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ يَسْقِيَ مَاءَهُ زَرْعَ غَيْرِهِ، يَعْنِي: إِتْيَانَ الْحَبَالَى)( 41). وهذا تفسير الراوي، وهو واضح في أنَّ المراد إتيان الحبالى من السبايا.
[2] ما ذكره الخطابي ـ رحمه الله تعالى ـ، قال: "كان بعض مشايخنا يروي الحديث أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الحلق قبل الصلاة يوم الجمعة، بإسكان اللام، قال: "وأخبرني أنه بقي أربعين سنة لا يحلق رأسه قبل الصلاة. قال: فقلت له: إنما هو الحلق جمع حلقة، وإنما كره الاجتماع قبل الصلاة للعلم والمذاكرة، وأمر أنْ يشتغل بالصلاة وينصت للخطبة. قال: قد فرّجت عليّ " وكان من الصالحين"( 42).
والحديث أخرجه ابن ماجة في سننه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدِّه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أنْ يُحلَّق في المسجد يوم الجمعة قبل الصلاة"( 43).
وظاهر الخبر أنَّ المراد التحلُّق لا الحلْق.(/7)
[3] ما أخرجه ابن عبد البر بسنده عن عبيد الله بن عمرو أنه قال: "كنت في مجلس الأعمش فجاءه رجل فسأله عن مسألة فلم يجبه فيها، ونظر فإذا أبو حنيفة، فقال: يا نعمان! قل فيها، قال: القول فيها كذا، قال: من أين؟ قال: من حديث حدثتناه، فقال الأعمش: نحن الصيادلة وأنتم الأطباء"( 44).
فعن أمثال هؤلاء كان يحيى بن يمان يقول: "يكتب أحدهم الحديث ولا يتفهّم ولا يتدبّر ، فإذا سئل أحدهم عن مسألة جلس كأنه مكاتَبٌ"( 45).
ويقول ابن الجوزي في "تلبيس إبليس" عن هؤلاء وأمثالهم: "إنّ( 46) قوماً استغرقوا أعمارهم في سماع الحديث والرحلة فيه، وجمع الطرق الكثيرة، وطلب الأسانيد العالية والمتون الغريبة، وهؤلاء على قسمين: قسم قصدوا حفظ الشرع بمعرفة صحيح الحديث من سقيمه، وهم مشكورون على هذا القصد، إلاّ أنَّ إبليس يلبس عليهم بأنْ يشغلهم بهذا عما هو فرض عين من معرفة ما يجب عليهم، والاجتهاد في أداء اللازم والتفقه في الحديث، فإنْ قال قائل: فقد فعل هذا خلق كثير من السلف، كيحيى بن معين، وابن المديني، والبخاري، ومسلم، فالجواب: أنَّ أولئك جمعوا بين معرفة المهم من أمور الدِّين والفقه فيه، وبين ما طلبوا من الحديث، وأعانهم على ذلك قصر الإسناد وقلة الحديث، فاتسع زمانهم للأمرين، فأما في هذا الزمان؛ فإنَّ طرق الحديث طالت والتصانيف فيه اتسعت، وما في الكتاب في تلك الكتب، وإنما الطرق تختلف، فقلَّ أنْ يمكن أحدٌ أنْ يجمع بين الأمرين، فترى المحدّث يكتب ويسمع خمسين سنة، ويجمع الكتب ولا يدري ما فيها، ولو وقعت له حادثة في صلاته لافتقر إلى بعض أحداث المتفقهة الذين يترددون إليه لسماع الحديث منه، وبهؤلاء تمكن الطاعنون على المحدثين فقالوا: زوامل أسفار لا يدرون ما معهم. فإنْ أفلح أحدهم ونظر في حديثه فربما عمل بحديث منسوخ، وربما فهم من الحديث ما يفهم العامي الجاهل وعمل بذلك، وهو ليس بالمراد من الحديث... قال: وقد رأينا في زماننا من يجمع الكتب، منهم ويكثر السماع، ولا يفهم ما حصّل، ومنهم من لا يحفظ القرآن، ولا يعرف أركان الصلاة، فتشاغل هؤلاء على زعمهم بفروض الكفاية عن فروض الأعيان، وإيثار ما ليس بمهم على المهم من تلبيس إبليس"( 47).
وفي هذا أيضاً يقول ابن عبد البر: "أما طلب الحديث على ما يطلبه كثير من أهل عصرنا اليوم، دون تفقه فيه ولا تدبُّر لمعانيه؛ فمكروه عند جماعة أهل العلم"( 48).
وإنْ كان هذا في عصرهم الزاهر؛ فيكون أشدّ كراهة طلبه على ما يفعله أهل عصرنا اليوم، لتفشي الجهالة، وضعف الفهوم، واختلال الأولويات، وما يجب تقديمه وما يستحق تأخيره.
ومن مظاهر اختلال التديُّن في كثير من أهله، أنَّ بعضهم لا يفرِّط في المندوبات، ولا يسهو عن المستحبات لا توقيتاً ولا إكثاراً، ومع ذلك يواقع المحرمات ويرتكب الكبائر ولا يبالي!!.
فهذا رجل عابد متنسك، حين تراه يقوم الليل كأحسن الخاشعين، ويتلو القرآن في جوف الليل كأحسن العابدين، لا تظن فيه سُوءاً ولا تصدق أنه يرتكب إثماً من الصغائر بلَهَ الكبائر، ولكنه مع أنه قَوَّام بالليل يصلي ويتلو؛ لا يتورع عن ارتكاب الكبائر، ولا يمسك يده عن سرقة أموال الناس، ويسيئ إلى من يحسن إليه، فكيف يستقيم التديُّن لأمثال هذا؟.
روى مالك في الموطأ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ: "أَنَّ رَجُلاً مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ أَقْطَعَ الْيَدِ وَالرِّجْلِ قَدِمَ فَنَزَلَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، فَشَكَا إِلَيْهِ أَنَّ عَامِلَ الْيَمَنِ قَدْ ظَلَمَهُ، فَكَانَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ فَيَقُولُ أَبُو بَكْرٍ: وَأَبِيكَ مَا لَيْلُكَ بِلَيْلِ سَارِقٍ، ثُمَّ إِنَّهُمْ فَقَدُوا عِقْداً لأَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ، امْرَأَةِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَطُوفُ مَعَهُمْ وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِمَنْ بَيَّتَ أَهْلَ هَذَا الْبَيْتِ الصَّالِحِ، فَوَجَدُوا الْحُلِيَّ عِنْدَ صَائِغٍ زَعَمَ أَنَّ الأَقْطَعَ جَاءَهُ بِهِ فَاعْتَرَفَ بِهِ الأَقْطَعُ أَوْ شُهِدَ عَلَيْهِ بِهِ، فَأَمَرَ بِهِ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ فَقُطِعَتْ يَدُهُ الْيُسْرَى، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: "وَاللَّهِ لَدُعَاؤُهُ عَلَى نَفْسِهِ أَشَدُّ عِنْدِي عَلَيْهِ مِنْ سَرِقَتِهِ"( 49).
ومن مظاهر اختلال الدِّين: الاندفاع بلا ارتياب في ارتكاب المحرمات، مع التردد في العمل بالمعفوات، والتفريط في الأمر العظيم الخطير، مع التحرّج والتوقّف في الأمر اليسير.
فانظر إلى هؤلاء الذين ما تورَّعوا ولا توقَّفوا ولا تحرَّجوا عن قتل الحسين بن علي ـ رضي الله عنهما ـ ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم وريحانة الجنَّة، ثم تراهم يتحرّجون ويتوقّفون في قتل الذباب، وإصابة الثوب بدم البعوض!!. فأي التزام هذا وأي تديُّن يختل لهذه الدرجة؟(/8)
أخرج البخاري وغيره عَنِ ابْنِ أَبِي نُعْيمٍ قَالَ: "كُنْتُ شَاهِدًا لابْنِ عُمَرَ وَسَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ دَمِ الْبَعُوضِ، فَقَالَ: مِمَّنْ أَنْتَ؟ فَقَالَ: مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ. قَالَ: انْظُرُوا إِلَى هَذَا يَسْأَلُنِي عَنْ دَمِ الْبَعُوضِ وَقَدْ قَتَلُوا ابْنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، وَسَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (هُمَا ـ أي الحسن والحسين ـ رَيْحَانَتَايَ مِنَ الدُّنْيَا)( 50).
وبعض أهل السلطان لا يغفر لمن يسبه أدنى سبٍّ، ولا يعفو عمن يتكلم فيه غير الذي يرضاه، بل يؤاخذه بأدنى شبهة متهماً إيّاه بالخروج عليه، والبغي على سلطانه، والسعي للإطاحة بحكمه بغياً، والتمرد على سياسته، والخيانة له ولدولته.. أما إذا سُبَّ الله عز وجل علناً!! أو سُبَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم !! أو سُبّ دين الله وشرعه، وسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم !! فلا شيء، لأن الناس أحرار، وحرية التعبير مكفولة لكل أحد، وقد قيل بإحسان في مثل ذلك:
يُقادُ للسجن مَنْ سَبَّ الزَّعيمَ ** ومَنْ سَبَّ الإلهَ فإنَّ النَّاس أحرارُ
خاتمة:
بحمد الله تعالى وكرمه وتوفيقه كان استعراض ما أردنا عرضه لتبيُّن مواضع الخلل في تديُّن كثير منا، وتشخيص علل المتدينين في سلوكهم التعبدي، وأحوالهم في ترتيب أولويات العبادة وفي أعظم ما يرضي الإله الكريم جلّ وعلا.
ولقد توصّل البحث إلى بعض غاياته من مقاصد إجرائه، وأهداف كتابته، ومرامي دراسته، ومما توصّل إليه:
[1] أنَّ التجديد لم يكن يوماً ما في أصل وضعه اللُّغوي مراداً به التبديد، وانقطاع الأمر الذي يراد به التجديد عن أصوله ومنابعه، بل التجديد حينما اصطلح عليه الشرع كان مراداً منه على الدوام طلب جِدَّة الشيء ليصير جديداً كما كان أول الأمر.
[2] كثير من المنتسبين إلى أهل الفكر أخطأوا فهم التجديد فحملوه إلى معاني التبديد، وجعلوه يدلُّ على التخلّي عن ملزمات الدِّين، والانقطاع عن روابط التواصل في الأُمَّة المحمدية الحاملة لدين الحق والرسالة الخاتمة في العالمين، فأساءوا إلى الدِّين وهم يحسبون أنهم يحسنون إليه، فكان جهدهم هباءً، وسعيهم ضلالاً، وقولهم زوراً وبهتاناً، غير أنَّ عدول الأُمَّة من علمائها نفوا عن التجديد سوء تأويلهم، وضلال فكرهم.
فلا يعني التجديد تغيير الحقائق الدِّين، ولا يعني الإتيان على نصوص الشرع بالتحريف والوضع، ولا يعني الإتيان في الدِّين بجديد ولا يعني أبداً الابتداع فيه.
[3] من مظاهر الخلل في تديُّن كثيرٍ من النَّاس التساهل في الدِّين أو التشدُّد فيه، وكلاهما نقيض التجديد، ولقد أكثر المتساهلون في الإساءة للدِّين، وغالى المتشدِّدُون في حمل أنفسهم وغيرهم على حرف التديُّن، فكان حال الفريقين إلى حاجة بيّنة للتجديد.
والله تعالى أسأله القبول والرضا والتوفيق إلى خير دينه، والبعث لهذه الأُمَّة من يُجَدِّد لها دينها.
وصلى الله على رسولنا الحبيب، وعلى آله وصحبه، والتابعين لهم بإحسان، ورضي الله عن مجدِّدي الأُمَّة فجزاهم الله عنا خير الجزاء.
.. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ..
قائمة بمراجع البحث
[1] النهاية في غريب الحديث: لابن الأثير، تحقيق طاهر الزاوي ومحمود الطناحي، دار إحياء الكتب العربية، بدون.
[2] لسان العرب: لابن منظور الإفريقي، دار صادر، توزيع مكتبة الرشد.
[3] مفهوم تجديد الدِّين: بسطامي محمد سعيد، دار الدعوة الكويت، ط/1، 1405هـ ـ 1984م.
[4] سنن أبي داود بشرح عون المعبود: للآبادي، دار الفكر، 1979م.
[5] موجز تاريخ تجديد الدين: أبو الأعلى المودودي، ترجمه إلى العربية محمد كاظم سباق، دار الفكر، ط/3، 1387هـ ـ 1968م.
[6] مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني: دار صادر ـ بدون.
[7] صحيح الإمام البخاري بشرح فتح الباري: تحقيق وترقيم محمد فؤاد عبد الباقي ومحب الدين الخطيب، دار الريان للتراث،
ط/1، 1407هـ ـ 1986م.
[8] مناهل العرفان: لمحمد عبد العظيم الزرقاني، خرَّج أحاديثه أحمد شمس الدين، دار الكتب العلمية، بيروت، ط/1، 1409هـ، 1988م.
[9] الملل والنحل: لأبي الفتح محمد بن عبد الكريم الشهرستاني، تحقيق محمد سيد كيلاني، طبعة 1387هـ، 1967م.
[10] ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية: د. محمد سعيد رمضان البوطي مؤسسة الرسالة، ط/4، 1402هـ ـ 1982م.
[11] المصلحة في الشريعة الإسلامية: نجم الدين الطوفي
ود. مصطفى زيد، دار الفكر العربي.
[12] فقه الدعوة ملامح وآفاق: عمر عبيد حسنة، سلسلة كتاب الأُمَّة ـ العدد [19].
[13] تفسير القرآن العظيم: للحافظ عماد الدين بن كثير، دار الأندلس، حائل، ومكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة، 1413هـ، 1993م.
[14] موطأ الإمام مالك بشرح الزرقاني: دار الفكر، بيروت، (بدون).(/9)
[15] شرح النووي لصحيح مسلم (المنهاج): لمحي الدين النووي، تحقيق خليل مأمون شيحة، دار المعرفة، بيروت، توزيع كنوز المعرفة، ط/1، 1414هـ، 1994م.
[16] المستدرك على الصحيحين: للإمام أبي عبد الله الحاكم النيسابوري، تحقيق مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، ط/1، 1411هـ، 1990م.
[17] سنن الترمذي: لأبي عيسى أبي سورة، مراجعة وتصحيح صدقي العطار، دار الفكر، بيروت، 1414هـ ـ 1994م.
[18] سنن الدارمي: لأبي محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدرامي، تحقيق وتعليق د. مصطفى ديب البغاء، دار القلم، دمشق، ط/2، 1417هـ، 1996م.
[19] سنن النسائي.
[20] تاريخ بغداد: الخطيب البغدادي، دار الكتب العلمية، بيروت، بدون.
[21] سنن الدرامي.
----------
الهوامش:
(1) سورة الحجر، الآية (9).
(2) يراجع: ابن منظور: لسان العرب، 3/108 وما بعدها، وأبو بكر الرازي: مختار الصحاح، ص 40، وابن الأثير: النهاية في غريب الحديث، 1/244ـ245.
(3) سورة الجن، الآية (3).
(4) انظر: بسطامي محمد سعيد: مفهوم تجديد الدِّين، دار الدعوة، الكويت، ط/1، 1405هـ، 1984م، ص 14-15.
(5) الآبادي: عون المعبود شرح سنن أبي داود، دار الفكر، 1979م، 11/391.
(6) المرجع السابق نفسه، 11/361.
(7) أبو الأعلى المودودي: موجز تاريخ تجديد الدِّين، ترجمه إلى العربية محمد كاظم سباق، دار الفكر، ط/3، 1387هـ ـ 1968م.
(8) سورة الحديد، الآية (16).
(9) أخرجه أبو داود في كتاب الملاحم برقم 3740. وأبو عمر الداني في الفتن، 1/45، والحاكم في المستدرك، 4/522، والبيهقي في معرفة السُّنن والآثار، ص 52، وصحَّحه الألباني في سلسلته برقم 599، 2/150. وقال العلقمي في "شرح الجامع الصغير": "اتفق الحُفَّاظ على أنه حديث صحيح". وقال ابن القيم: "وممن نص على صحته من المتأخرين= =أبو الفضل العراقي وابن حجر، ومن المتقدمين الحاكم في "المستدرك" والبيهقي في "المدخل". ويراجع: عون المعبود، أول كتاب الملاحم، 11/385.
(10) أخرجه الإمام أحمد في مسنده، مسند المكثرين برقم 8353، دار صادر، 2/359.
(11) أخرجه البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسُّنَّة، بَاب قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : (لا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ يُقَاتِلُونَ، وَهُمْ أَهْلُ الْعِلْمِ)، ومسلم في كتاب الإمارة برقم 3544، والترمذي في الفتن برقم 2155.
(12) هم أصحاب هشام بن عمرو الفُوَطي، من فِرَقِ المعتزلة التي بالغت في القدر، وهم ممن أنكروا أنَّ الجنة والنَّار مخلوقتان، وغير ذلك من البدع التي وقعوا فيها. راجع: المِلَل والنِّحل، لأبي الفتح محمد بن عبد الكريم الشهرستاني، تحقيق محمد سيد كيلاني،
طبعة 1387هـ ـ 1967م، 1/72 وما بعدها.
(13) سورة الأنفال، الآية (63).
(14) سورة الحجرات، الآية (7).
(15) سورة البقرة، الآية (7).
(16) سورة النساء، الآية (155).
(17) سورة محمد، الآية (16).
(18) سورة النحل، الآية (108).
(19) سورة التغابن، الآية (2).
(20) هو: سليمان بن عبد القوي الطوفي، حنبلي في الفقه، اشتهر بالرفض والتشيع، كما ذكر ذلك ابن الجوزي في: "ذيل طبقات الحنابلة"، 2/366 و377، وابن العماد في: "شذرات الذهب"، 6/239.
(21) انظر: د. محمد سعيد رمضان البوطي: ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية، مؤسسة الرسالة، ط/4، 1402هـ ـ 1982م، ص 202-215. ونجم الدين الطوفي، ود. مصطفى زيد: المصلحة في الشريعة الإسلامية، دار الفكر العربي، ص 15-35 من ملحق الكتاب.
(22) يوسف القرضاوي، مقابلة معه ضمن كتاب الأُمَّة، "فقه الدعوة ملامح وآفاق"، عدد [19]، تحرير الأستاذ/عمر عبيد حسنة، 2/165-166.
(23) سورة الماعون، الآيتان (4ـ5).
(24) أخرجه الترمذي، كتاب الصوم، باب ما جاء في الإفطار متعمّداً، برقم 723، وأبو داود، كتاب الصوم، باب التغليظ في من أفطر عمداً، برقم 2396، وابن ماجة، كتاب الصيام، باب ما جاء في كفارة من أفطر يوماً من رمضان، برقم 1672.
(25) أخرجه الدارمي في سننه، كتاب المناسك، برقم 1719.
(26) أخرجه الشيخان: البخاري، كتاب الأدب، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم : )يَسِّرُوا وَلا تُعَسِّرُوا(، برقم 6126، ومسلم، كتاب الفضائل، باب مباعدته صلى الله عليه وسلم للآثام، برقم 77.
(27) أخرجه الشيخان: البخاري، كتاب العلم، برقم 69، وفي كتاب الأدب برقم 6125 بلفظ: (وَسَكِّنُوا وَلا تُنَفِّرُوا)، ومسلم في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، برقم 3262، بلفظ: (بَشِّرُوا وَلا تُنَفِّرُوا وَيَسِّرُوا وَلا تُعَسِّرُوا)، وأبو داود في كتاب الأدب برقم 4835.
(28) أخرجه مسلم في كتاب الأشربة برقم 3731.
(29) أخرجه أحمد في مسند بني هاشم برقم 2029.
(30) سورة المائدة، الآية (6).
(31) سورة البقرة، الآية (185).
(32) سورة البقرة، الآية (196).
(33) راجع: تفسير ابن كثير، 1/220.
(34) سورة الحج، الآية (78).(/10)
(35) وراجع معنى التشدُّد في: لسان العرب، مادة (شدد)، 3/234–236. وانظر: شرح النووي لصحيح مسلم، 16/437.
(36) صحيح البخاري، كتاب الإيمان، برقم 39.
(37) سنن النسائي، كتاب الإيمان وشرائعه، برقم 4948.
(38) مسند الإمام أحمد، مسند الأنصار، برقم 21885، ومسند البصريين، برقم 18950.
(39) أخرجه النسائي، كتاب قيام الليل وتطوع النهار، برقم 1625.
(40) ابن الجوزي: تلبيس إبليس، ص 115.
(41) أخرجه أبو داود في سننه، كتاب النكاح، برقم 2158.
(42) تلبيس إبليس نفسه.
(43) سنن ابن ماجة، كتاب إقامة الصلاة والسُّنَّة فيها، برقم 1133.
(44) ابن عبد البر: جامع بيان العلم وفضله، برقم 1736، 2/360.
(45) جامع بيان العلم نفسه، برقم 1737.
(46) هذا تصرف من الباحث، وفي الأصل: "من ذلك أنَّ قوماً ..".
(47) راجع بتوسع: ابن الجوزي: تلبيس إبليس، مرجع سابق، ص 114ـ117.
(48) جامع بيان العلم وفضله، 2/355.
(49) أخرجه مالك في الموطأ، كتاب الحدود، برقم 1581.
(50) أخرجه البخاري والترمذي وأحمد: صحيح البخاري، كتاب الأدب، برقم 5994، وسنن الترمذي، كتاب المناقب، برقم 3770، وقال: "هذا حديث صحيح"، ومسند الإمام أحمد، مسند المكثرين من الصحابة، برقم 5672 و5904.(/11)
مفهوم الجهاد
د.عبد العزيز القاري 3/3/1424
04/05/2003
الجهاد في اللغة بذل الجهد والوسع والطاقة، من الْجُهْد بمعنى الوُسع، أو من الْجَهْد بمعنى المشقة، كلا المعنيين في الجهاد .
وفي الشرع، أو في اصطلاح القرآن والسنة، يأتي بمعنى أعم وأشمل، يشمل الدِّين كله؛ وحينئذ تتسع مساحته فتشمل الحياة كلها بسائر مجالاتها، ولهذا يُسمى حينئذ " الجهاد الأكبر "، وله معنى خاص هو القتال لإعلاء كلمة الله، وهذا يشغل مساحة أصغر من الأولى، ولهذا سُمِّيَ "الجهاد الأصغر " وهو يشبه في هذا " الإيمان " و " الإسلام " لكل منهما معنى خاص ومعنى عام .
الجهاد بمعناه العام يشمل حياة الفرد والمجتمع كلها، بجوانبها المختلفة الفكرية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، والصراع فيه يشمل أعداء كثيرين، يشمل النفس وشهواتها، والهوى، ووساوس الشياطين كلِّهم؛ شياطين الجن والإنس، ووساوس هؤلاء الشياطين على نوعين: نوع هدفه زرع الشبهات، وآخر هدفه اتباع الشهوات؛ ومكافحة الأول بنشر العلم والعقيدة الصحيحة، ومقاومة الثاني بنشر الفضائل والأخلاق الحميدة وموعظة الناس لتقوية إيمانهم.
وكلُّ من هذا وهذا من الجهاد الأكبر؛ خاصة أن أهل الشبهات وأهل الشهوات أصبحوا اليوم يستخدمون مختلف الوسائل المؤثرة: الإعلامية، والتعليمية، والاقتصادية، وفي غالب الأحيان يتم ذلك بدعم وتخطيط من أهل السياسة والحكم والتنفيذ.
انظر إلى مدى اتساع هذه الجبهة، أليس مصارعة كل ذلك سياسياً وإعلامياً، وتعليمياً، مصارعتُهُ بالدعوة، أكبر من المصارعة العسكرية ؟ إن الجهاد بـ " الكلاشنكوف " هو أسهل أنواع الجهاد ، لكنه أكثرها خطراً.
ولذلك فإن تسمية الأول بـ " الجهاد الأكبر " صحيح المعنى، تدل عليه نصوص الكتاب والسنة، وإن لم يصح الحديث الوارد فيه بخصوصه (1) .
إن حصر مفهوم " الجهاد " في القتال خطأ في فهم الكتاب والسنة، فإن الجهاد فيهما جاء بمعنى القتال، وجاء بمعنى أكبر من ذلك وأشمل :
قال تعالى: ( فَلاَ تُطِعِ الكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً ) [ 52/الفرقان] .
قال ابن عباس رضي الله عنهما: ( وجاهدهم به ) أي القرآن (2).
فالجهاد الكبير هنا ليس هو القتال، إنما هو الدعوة والبيان بالحجة والبرهان وأعظم حجة وبيان هو هذا القرآن، إنه حجة الله على خلقه، ومعه تفسيره وبيانه الذي هو السنة.
وقال تعالى: ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الكُفَّارَ وَالمُنَافِقِينَ . . ) [ 73/التوبة ].
في هذه الآية ليس المراد بجهاد المنافقين القتال، لأن المنافقين يظهرون الإسلام يتخذونه جُنَّةً، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يقاتلهم بل عاملهم بظواهرهم وحتى من انكشف كفره منهم كعبدالله بن أبي بن سلول لم يقتله سياسة منه ، صلى الله عليه وسلم وقال:( لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه ) (3) ولكن جهاد المنافقين يكون بالوسائل الأخرى، مثل كشف أسرارهم ودواخلهم وأهدافهم الخبيثة، وتحذير المجتمع منهم، كما جاء في القرآن .
وقال تعالى : ( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَ إِنَّ اللهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ ) [ 69 / العنكبوت]
لا شك أن المراد بالجهاد هنا مفهومه الشامل المتضمن نوعيه الأكبر والأصغر، نقل ابن كثير عن ابن أبي حاتم بإسناده عن عباس الهمداني قال في تفسير هذه الآية : " الذين يعملون بما يعلمون يهديهم الله لما لا يعلمون ) (4).
فتفسير الآية إذن: ( الذين جاهدوا فينا ) أي جاهدوا في ذات الله أنفسَهم وشهواتِهِم وأهواءَهم وجاهدوا العراقيلَ والعوائقَ، وجاهدوا الشياطين، وجاهدوا العدو من الكفار المحاربين، فالمقصود الجهادُ في معترك الحياة كلِّها، وفي حلبةِ الصراع الشاملِ.
وفي السنة النبوية بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أنواع الجهاد بمفهومه الشامل فقال: ( ما من نبي بعثه الله في أمةٍ قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحابٌ يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنه تَخْلُفُ من بعدهم خُلُوفٌ يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يُؤْمَرون فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن؛ وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل)(5).
المراد بجهاد القلب هنا هو بغضهم وبغض حالهم، التي هي عقيدة الولاء والبراء؛ بدونها لا يصير الإنسان مؤمناً ؛ سمى النبي صلى الله عليه وسلم فعلَ القلب هذا جهاداً، كما سمَّى فعل اللسان جهاداً، ومن باب أولى أن يسمي فعل اليد جهاداً؛ أليس هذا مفهوماً شاملاً للجهاد ووسائله؟
عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: جاء رجل للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: أجاهد ؟ قال:(ألك أبوان ؟) قال: نعم، قال: (ففيهما فجاهد) (6).(/1)
انظر كيف سمَّى بِرَّ الوالدين ورعايتَهُمَا جهاداً في هذا الموقف، فكلٌّ جهادُهُ بحَسَبِِه، وهذا الرجل كان والداه بحاجة إليه ، وهو مشتاق للخروج مع النبي صلى الله عليه وسلم والجهاد معه، فبين له صلى الله عليه وسلم أن جهاده هو رعاية أبويه.
وأمثلة هذا من السنة كثيرة يسمي فيها بعض العمال الصالحة جهاداً أو يجعلها بمنزلة الجهاد؛ كقوله صلى الله عليه وسلم: (الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله)(7)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (الحج جهاد والعمرة تطوع)(8)، وقوله صلى الله عليه وسلم في النساء: (جهادكن الحج)(9) وقوله صلى الله عليه وسلم: (المجاهد من جاهد نفسه)(10).
وهذا كله يوضح مدى اتساع دائرة الجهاد، وأنها ليست محصورة في القتال، بل هي مرتبطة بمجالات الحياة كلها.
وهكذا حتى عندما يكون هناك قتال صحيح مع العدو، فإن جهاد كل واحد بحسبه، الطبيب بخبرته الطبية، وأهل الإغاثة بإغاثتهم، وأهل الإعلام بإعلامهم، وأهل الأموال بأموالهم، ويبقى في بقية البلد يقومون بشؤونها ويخلفون المجاهدين في أهليهم بالخير والرعاية والحراسة، وتستمر عجلة الحياة .
عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من جَهَّزَ غازياً في سبيل الله فقد غَزَا، ومن خَلَفَهُ في أهلِهِ بخيرٍ فقد غَزَا) (11).
بعض الناس نظر إلى الجهاد نظرة ضيقة فحصره في جانب القتال، وهذا قصور في فهم الشرع وفي فهم نصوص الكتاب والسنة.
إن من أشد آفات الحركات الإسلامية فتكاً، جزئية النظر والفهم للدين، كلٌّ أَخَذَ جانباً واستغرق فيه حتى صار لا يرى غيره، أصيب بالعمى عن رؤية غير ما هو فيه، وقد يستفحل هذا الداء فلا يرون في الميدان أحداً غيرهم فيتصرفون حينئذٍ على أنهم الذين يمثلون وحدهم المسلمين، وأنهم وحدهم الذين يحملون الراية، وعلى الآخرين أن يتبعوهم وينقادوا إليهم.
ومن أسباب هذا الداء الانغلاق على أنفسهم ، والجهل بواقع مجتمعهم وبواقع المسلمين، والجهل بالحركات الإسلامية وبرجال الدعوة وعدم التواصل والتحاور معهم، وعدم التواصل والتحاور مع العلماء، مع أنهم في أمس الحاجة إلى علماء الدعوة، وذلك لقلة بضاعتهم في الفقه في الدين.
مثلاً: " الجهاديون " أخذوا جانباً من الدين هو القتال في سبيل الله، واستغرقوا فيه حتى صاروا لا يرون غيره، وظنوا أن القتال هو الحل لكل مشكلات الأمة وأنه الواجب الأساسي، و"الاستراتيجية " الوحيدة، والفريضة الغائبة، وأصابهم نفس الداء فلم يعودوا يرون غير ذلك .
و" التحريريون " أخذوا جانباً آخر هو " الخلافة " وصار تنصيب " الخليفة " هَدَفَهُم الوحيد، ورأوا في ذلك حلاً لجميع مشكلات الأمة، وأصابهم العمى عن ما سوى ذلك ، أجَّلوا تطبيق الشريعة حتى يُنَصَّبَ الخليفةُ، كالروافض الذين كانوا قد علَّقُوا تطبيقَ الشريعة حتى يخرج صاحب السرداب، حتى جاءهم " الخميني " فَأَنْهَى هذا الانتظار، واقتبس من فقه أهل السنة فكرة " ولاية الفقية " وأنشأ لهم بذلك دولة في هذا العصر. .
وأغرب من كل هذه الحركات الإسلامية : " التبليغيون " الذين حصروا الدين في جانب واحد هو " الخروج للتبليغ " وأَلْغَوْا في سبيل ذلك كلَّ ما سواه أو جَمَّدُوه ، أَلْغَوْا " الجهاد " بمعنى القتال، وأَلْغُوا حتى عملية " التعلُّم " واعتبروا صرف الأوقات في طلب العلم ترفاً ومشغلة عن الدعوة، وانغلقوا على ما عندهم ولم يعودوا يرون غيره، أصابهم العمى عن بقية الدين.
وهناك حركات اختارت العمل السياسي، فعلقت عليه آمالها، وحصرت فيه برامجها، فخاضت الانتخابات، وأقامت التحالفات حتى مع الشياطين، ومارست المناورات السياسية بكل صورها.
والعجيب أن أحداً من هؤلاء وأولئك لا نية عندهم أبداً لمراجعة ما هم عليه وتقويمه، لا تقويمَ للعمل ولا للخطط ولا للبرامج فما بالك بالمناهج، كلٌّ جَمَدَ على ما عنده ، وعجيبٌ من حركات نشأت للتغيير فإذا بها هي نفسها تصاب بالداء الذي أرادت معالجته.
يقول أبو الحسن الندوي رحمه الله : " .. السبب في ذلك أن هذه الحركات فقدت عنصر النمو والقدرة على استعراض المحيط وطبيعة العصر وقضاياه المتجددة، والقدرة على التطبيق بين المنهج الإصلاحي وواقع الحياة ومتطلباته ومن الحقائق أن الإسلام استطاع أن يساير كل زمن ويثبت جدارته لقيادة المجتمع البشري والتطبيق بين تعاليمه وحاجات العصر؛ لوجود العلماء والقادة الذين لم يفقدوا قط النمو الفكري والذكاء الممتاز والقدرة على الاجتهاد واستنباط الأحكام من الأصول الدينية ومصادر الشريعة الأولى في كل زمان ومواجهة كل تحد في عصرهم ومصرهم، وتحقيق كل ما يطلبه الزمان وتحتاج إليه الأمة بقدرة فائقة وعبقرية باهرة، ولم يغمضوا عيونهم عن واقع الحياة ولم يصموا آذانهم عن نداء العصر فبقي هذا الدين حياً خالداً مقبولاً سائغاً قادراً على قيادة المجتمع وترشيده . ." (12).(/2)
إن فقدان الحركات الإسلامية القدرة على فهم الدين فهماً شاملاً كاملاً، مع جمودهم على ما عندهم، وفقدانهم الرغبة في المراجعة والتقويم، كل ذلك يشكل خللاً خطيراً.
وأخطر منه ضعف القيادات، أكثر هذه القيادات التي تقود هذه الحركات قليلة البضاعة من الفقه بالدين، ليسوا من العلماء ولم يتلقوا العلم من العلماء، ومع ذلك لا يتواصلون مع العلماء ولا يشاورونهم، العلم شرط في الولاية فإذا تولى الجاهلُ القضاء مثلاً وكان شرط العدالة متوفراً فيه، قال بعض الفقهاء يصح قضاؤه إذا كان يستشير الفقيهَ فيفتيه فيحكم بفتواه (13).
قد يُقَال: هل تُلْغَى كلَّ تلك الحركات من الساحة ؟
كلا، فهي موجودة ولا يستطيع أحد إلغاءها، وموجود غيرها، كحركة الإخوان المسلمين، والجماعة الإسلامية بالهند وباكستان، والمدارس الديوبندية في الهند والباكستان، وموجود السلفيون بمختلف أشكالهم وأسمائهم، فالساحة تعج بالتيارات والحركات، والمدارس والاتجاهات، والأفكار والاجتهادات؛ وهذا من خصائص هذا الدين، أنه يشجع على التفكير ويحث على الاجتهاد، ويجتهد المجتهدون فيصيبون ويخطئون، وقد يجتهد من لا أهلية له ولا علم، من يستطيع أن يمنعه ؟
المقصود أن هذا الاختلاف في نمط التفكير من المجتهدين يدل على الحيوية الفكرية إذا كان من العلماء: كسيد قطب، وأبي الأعلى المودودي، وأبي الحسن الندوي، وعبد الحميد باديس، ومحمد بن عبد الوهاب، وكعلماء المدرسة الديوبندية في الهند وباكستان؛ فإنهم أصحاب دعوة كبرى اعتمدت على العلم والتربية، ولذلك نشروا المدارس ونجحوا في ذلك نجاحاً كبيراً، اسهموا بذلك مع الجماعة الإسلامية في الحفاظ على الهوية الإسلامية هناك، وكعلماء تركيا الذين اعتمدوا نفس هذا الأسلوب. .
من يظن أنه وحده في الساحة فهذا أول علامات الجهل، لا ننكر على أحد أن ينزل في الساحة ويدلي بدلوه، ولكن بشرطين:
أولهما: أن يوقن انه ليس وحده في الساحة، وأنه ليس وحده الذي يحمل الراية ، وأن يتواضع لإخوانه ويتواصل معهم، لو كان هناك تواصل بين هذه الحركات وتحاور لربما حققوا شيئاً من التكامل والتنسيق.
ثانيهما: أن يكف شره عن الآخرين، ولا يخرب عليهم، فبعض من في الساحة يتصرف على أنه وحده الذي يمثل الأمة – هكذا بدون تفويض – فيقترف من الأعمال الخطرة، أو المقولات الشاذة ما يعود ضرره على الأمة كلها، دون أن يستشير أحداً، يستبد في الرأي، ويستبد في الفعل، ويلغي حق الآخرين في الرأي والمشورة، بل إن بعضهم ربما ألغى كل من في الساحة غيره وأخرجهم من الدعوة، وربما من الملة .
ومع ذلك فإننا نرى من حقنا ومن حق الآخرين أن نناقش من في ساحة الدعوة والجهاد ن ونُقوِّم مناهجهم وأعمالهم وأفكارهم ونسدي لهم النصح، وعلينا وعلى الآخرين أن تتسع صدورنا للنقد البنَّاء، وأن نعطي الفرصة للمجادلة بالتي هي أحسن.
إن الدعوة والجهاد بحاجة إلى ذلك، وجميع الحركات الإسلامية التي في ساحة الدعوة أو في ساحة الجهاد هي بأمس الحاجة إلى ذلك.
ومن يرفض ذلك ويرى نفسه فوق النقد، ولا يرى أنه بحاجة إلى المراجعة والتقويم، ولا بحاجة إلى نصح الآخرين فقد أشبه أهل البدع والأهواء، الذين ملؤا تاريخ أمتنا وشغبوا عليها في مسيرتها، وكانوا من أسوأ العوائق أمام تقدمها، ومن أبرز عوامل ضعفها وتضعضع كيانها.
المقالة التالية
(الدعوة وقضاياها)
(1) انظر " الأسرار المرفوعة " للملا علي القاري / الحديث رقم 480، 481 / طبعة دار الكتب العلمية ببيروت / 1405هـ .
(2) تفسير ابن كثير [ 3/337 ] .
(3) نفس المصدر [ 4/393 ] .
(4) تفسير ابن كثير [ 3/ 439 ، 440 ] طبعة عبد الشكور بمكة المكرمة 1384 هـ .
(5) مسلم [في الإيمان/ص70].
(6) متفق عليه: البخاري [ 10 / 403] ومسلم [ 4 / 1975 ] .
(7) البخاري في النفقات [ 7 / 80 / الحلبي بمصر ] .
(8) ابن ماجة [ 2 / ص995 ] وانظر النسائي [ 5 / ص 113-115 ] .
(9) البخاري في الجهاد [ 4 / 93 / الحلبي ] .
(10) الترمذي في فضائل الجهاد [ 4 / 165 / الحلبي ] .
(11) متفق عليه: البخاري في الجهاد [ 4 / 32 / الحلبي ] ومسلم في الإمارة [ الحديث رقم 135/ واللفظ له ] .
(12) رسالة " ترشيد الصحوة الإسلامية " طبعة رائي بريلي – الهند / ص24 .
(13) فتح القدير للكمال بن الهمام ( 5 / 456 ) طبعة بولاق 1316 هـ .(/3)
مفهوم الرعوية بين الراعي والرعية
"أبو موسى" ـ بيت المقدس
الوعي العدد 146
بعد غياب دولة الإسلام، تلاشى عند الأمة مفهوم من أكثر المفاهيم أهمية إذ ساهم غيابه في قبول الأمة ما آلت إليه من واقع مرير، عطل فيه الحكم بما أنزل الله، وشتت شملها وولي أمرها غير أهله. هذا المفهوم هو مفهوم الرعوية، وأبسط صوره، أن تدرك الأمّة أن الحاكم ما هو إلا راعٍ لها، عليه أن يرعى شؤونها كافة، ما دقّ منها وما جل، دون تهاون أو تقصير، وإلا حاسبته وأمعنت في محاسبته، وأن يدرك الحاكم من جانبه أنه راع عليه رعاية شؤونها الداخلية والخارجية، ما تعلق منها بالجماعة، وما تعلق بالفرد، وأنه مسؤول عن هذه الرعاية. يحاسب عليها أمام الأمة في الدنيا، ثم أمام الله عز وجل في الآخرة.
- صلى الله عليه وسلم -يقول الرسول : «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته... والإمام الذي على الناس راع وهو مسؤول عن رعيته»،
للأمة وترسخ فيها قرونا عديدة. ورغم ما- صلى الله عليه وسلم -هذا ما علمه الرسول طرأ عليه في بعض العهود من تشويش واضطراب، إلا أنه بقي ماثلا بين الراعي والرعية، إلى أن غاب الحكم بما أنزل الله فغاب معه وحل محله مفهوم المواطنة، فالعلاقات بين الناس لا تقوم على أخوة الإيمان، ولكن على كونهم يسكنون بقعة معينة من الأرض، ويحكمهم حاكم واحد، وترتفع فوق رؤوسهم رايات الوطن، لا راية الإسلام. وابتليت الأمة بحكام ما هم برعاة بل لا يصلحون رعاة لربضة غنم، لأنهم خانوا الله ورسوله وأماناتهم، وأوردوا الأمة المهالك، وأكلوا فيئها وأسلموها لأعداء الله، ولم يرقبوا فيها إلاًّ ولا ذمة، ولم يساووا بين الناس في الحقوق والواجبات، وقرَّبوا بعضهم من الأنصار، وأذلوا غيرهم من المعارضين. ولعل كثرتهم في ذاتها مصيبة ولو حكموا بما أنزل الله، لأن الأمر يتعلق براع واحد لا عدة رعاة، وهذا جانب مهم من جوانب مفهوم الرعوية،
:- صلى الله عليه وسلم -لقوله «إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما»، ولإجماع صحابته رضوان الله عليهم من بعده على ذلك.
في ظل هذه الأجواء المفعمة بالظلم والاستبداد، وتغييب الإسلام، والغزو الثقافي، وانقطاع الأمة عن تاريخها وحضارتها، اضمحل مفهوم الرعوية عندها، فغدت لا ترى لها حقاً على هؤلاء الحكام في رعاية شؤونها، وفي محاسبتهم، وهذا مشاهد محسوس لا يحتاج لفضل بيان، غير أنه لا بد من الإشارة إلى ظاهرتين يتجلى فيهما هذا الأمر،
أولاهما: شيوع المؤسسات والجمعيات، التي يقوم عليها أفراد أو جماعات أو أطراف أجنبية، ترعى شؤون الفقراء والمحتاجين والمرضى والأيتام أو شؤون الناس التعليمية وغير ذلك، وتوجه الناس في قضاء حاجاتهم إليها، بعد غياب الدولة عن قيامها بتقديم هذه الخدمات للأمة، والتي هي من أوليات واجبات الحاكم.
وثانيتهما: الابتهاج والعرفان بالجميل الذي تبديه الأمة عند التفات الحاكم إلى بعض الحالات: كإطعام فقير، أو إيواء عاجز أو يتيم، أو تطبيب مريض أو غير ذلك، وتسميتها، أو قبولها تسمية ذلك، بحالة إنسانية وليست حالة رعوية، وكأن الحاكم تصدق عليها من ماله أو مال أبيه، وكأنها لا حق لها عليه.
وفي الوقت نفسه لا تتحرك لمحاسبته إن قصر في رعاية شؤونها، أو فرَّط في حقوقها، أو خان الأمانة التي أوكلتها إليه، وكأن هذا هو الأصل في الحاكم.
بعيداً عن الإطالة والاستطراد في وصف الواقع المؤلم، نريد أن نعرض صورة لرعاية شؤون الأمة في الإسلام كما صورتها خطبة لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، نتلوها بتعقيب يبرز بعض عناصرها، تاركين للقارئ فرصة المقارنة الأمينة بين واقع حاكم يحكم بما أنزل الله، وواقع حكام طواغيت يصدون عن سبيل الله.(/1)
يقول أبو يوسف رحمه الله في خراجه: حدثني محمد بن إسحاق قال حدثي من سمع طلحة بن معدان العمري قال:خطبنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه فحمد الله وأثنى عليه وذكر أبا بكر فاستغفر له ثم قال: «أيها الناس إنه لم يبلغ ذو حق- صلى الله عليه وسلم -ثم صلى على النبي في حقه أن يطاع في معصية الله، وإني لا أجد هذا المال يصلحه إلا خلال ثلاث: أن يؤخذ بالحق، ويعطى في الحق، ويمنع من الباطل، وإنما أنا ومالكم كولي اليتيم، إن استغنيت استعففت، وإن افتقرت أكلت بالمعروف، ولست أدع أحداً يظلم أحداً، ولا يعتدي عليه حتى يضع خده على الأرض، وأضع قدمي على الخد الآخر حتى يذعن للحق، ولكم عليّ أيها الناس خصال أذكرها لكم فخذوني بها: لكم عليّ لا أجتبي شيئا من خراجكم ولا مما أفاء الله عليكم إلا من وجهه، ولكم علي إذا وقع في يدي أن لا يخرج مني إلا في حقه، ولكم عليّ أن أزيد في أعطياتكم وأرزاقكم إن شاء الله وأسد ثغوركم، ولكم عليّ أن لا ألقيكم في المهالك ولا أجمركم في ثغوركم، وقد اقترب منكم زمان قليل الأمناء كثير القراء، قليل الفقهاء كثير الأمل، يعمل فيه أقوام للآخرة يطلبون به دنيا عريضة تأكل دين صاحبها كما تأكل النار الحطب، ألا كل من أدرك ذلك منكم فليتق الله ربه وليصبر، يا أيها ولا يأمركم أن تتخذوا { الناس إن الله عظم حقه فوق حق خلقه، فقال فيما عظم من حقه: ألا وإني لم أبعثكم } الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون أمراء ولا جبارين، ولكن بعثتكم أئمة الهدى يهتدى بكم فأدرّوا على المسلمين حقوقهم ولا تضربوهم فتذلوهم، ولا تحمدوهم فتفتنوهم، ولا تغلقوا الأبواب دونهم فيأكل قويهم ضعيفهم، ولا تستأثروا عليهم فتظلموهم، ولا تجهلوا عليهم، وقاتلوا بهم الكفار طاقتهم، فإذا رأيتم بهم كلالة فكفوا عن ذلك، فإن ذلك أبلغ في جهاد عدوكم، أيها الناس إني أشهدكم على أمراء الأمصار، أني لم أبعثهم إلا ليفقهوا الناس في دينهم ويقسموا عليهم فيئهم ويحكموا بينهم، فإن أشكل عليهم شيء رفعوه إليّ».
هذه هي خطبة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، دستور دولة في سطور معدودات، وهي تقطر بلاغة وفقها وعدلا فلله درّه حاكما وعالما وخطيبا بليغا، ويا لله لمنابر المسلمين اليوم كيف غدّت مناخ أقوام عجم القلب واللسان.
نقول وبالله التوفيق:
1 ـ مجمل خطبته رضي الله عنه تقول بأن عمر الحاكم يريد أن يعرّف الأمّة بحقها عليه وعلى أمرائه وولاته، فها هو يرسم سياسته على الملأ، ويوصي أمراءه أمام الناس، وفي ذلك ضمان لاستقامته واستقامتهم، وتعزيز ثقة الأمة بنفسها، وتجنيبها الخنوع والاستكانة والاستخذاء والجهل، وتفعيل لدورها في القوامة على الحاكم، ألا تراه يقول: «ولكم علي أيها الناس خصال أذكرها لكم فخذوني بها، لكم علي كذا ولكم علي كذا وكذا...» ولا نراه توانى في تبصير الأمة بحقها في محاسبته إن قصر أو خالف، فلا يسعه إلا أن يقول: «فخذوني بها».
2 ـ يبصر رضي الله عنه الناس بالأساس الذي يقوم عليه في رعايته شؤونهم، والذي بلزومه يستحق طاعتهم فيجعله مقدمة خطبته إذ يقول: «أيها الناس إنه لم يبلغ ذو حق في حقه أن يطاع في معصية الله» ... فسبحان الله ما أبلغه في التذكير بحقه من الطاعة ومتى يستحقها على الأمة، فكأني به يريد أن يقول: أطيعوني ما التزمت كتاب الله وسنة رسوله في رعاية شؤونكم، ولم يغفل رضي الله عنه أن يذكرهم بالحكم بما أنزل الله مرة أخرى في سياق خطبته، ولكن بأسلوب آخر يكتفي فيه بذكر الآية الكريمة، قال تعالى: { ?ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون ? فالحكم } بما أنزل الله من أعظم حقوق الله على عباده، فلا يُتخذ الله ربا إلا بالتزام أوامره ونواهيه وتحكيم شرعه، ولا يخفى عليكم الفرق بين مدلول الألوهية والربوبية، فاقتضى المقام ذكر هذه الآية.
3 ـ يحدد عمر الأسس التي تقوم عليها سياسته المالية، ولا يقصد بالمال هنا النقد بل كل ما يتمول به منقولاً أو غير منقول، ولا يخفي ما للمال من أهمية في الحكم إذ هو أحد ركائز رعاية الشؤون، يقول عمر: «وإني لا أجد هذا المال يصلحه إلا خلال ثلاث: أن يؤخذ بالحق ويعطى بالحق. ويمنع من الباطل»(/2)
فكما أن لملكية الفرد أسبابا مشروعة في تحصيلها وتصريفها، وهناك أوجهاً باطلة يمنع صرفه وتنميته فيها كالربا والشركات المساهمة والإسراف أو التبذير، فكذلك ملكية الدولة لها أسباب تحصل بها لا يجوز تجاوزها، ولها أوجه تنفق فيها جعلها الشرع كل ما فيه مصلحة للمسلمين أفرادا وجماعات، وهناك وجوه يحرم صرفها فيها، كالتبذير من قبل الحاكم أو من ينوب عنه، أو تمكين العدو منه فقول عمر «أن يعطى في الحق» ليس مرادفا لقوله «ويمنع من الباطل»، وبما أن الحاكم يكون دائما مظنة إساءة التصرف فيها، والاستئثار بها نراه رضي الله عنه يقول: «وإنما أنا ومالكم كولي اليتيم إن استغنيت استعففت، وإن افتقرت أكلت بالمعروف» فيقيد رضي الله عنه حقه في هذه الأموال الذي هو عوض له عن تعطيله عن السعي لكسب رزقه، وتفرغه لشؤون الحكم، يقيده بأمرين هما: الحاجة «إن افتقرت» وبالمعروف. ويعود عمر ليؤكد هذه الخصال الثلاث التي لا يصلح المال إلا بها في ثنايا خطبته في موضوع تذكير الناس بحقوقهم «لكم علي أن لا أجتبي شيئا من خراجكم ولا مما أفاء الله عليكم إلا من وجهه، ولكم علي إذا وقع في يدي أن لا يخرج مني إلا في حقه»، فهذا المال، مال الدولة، هو مال المسلمين ولكن تدبيره وتصريفه للخليفة، والخليفة مقيد فيه بأحكام الشرع في وجوه جبايته ووجوه صرفه، ثم يحدد رضي الله عنه مصارف هذا المال في ثلاثة: «ولكم علي أن أزيد في أعطياتكم وأرزاقكم إن شاء الله وأسد ثغوركم»
وهذه المصارف الثلاثة هي ركائز الكيان الإسلامي: الأمة، الدولة، الجيش
فالأعطيات تكون لعامة المسلمين وأفرادها ولا يخفى ما في ذلك من محاربة للفقر وسد لحاجاتهم، وتمكين من استغلال ثروات البلاد وغير ذلك، أما الأرزاق فهي لموظفي الدولة وعمالها وللجند، وفي ذلك مصلحة عظيمة هي تمكين هذا الجهاز من القيام بمهامه الرعوية، أما سد الثغور فهو أمر متعلق بحمل الدعوة وحفظ الكيان، ولا تسد الثغور إلا بإعداد القوة رجالا وعتادا، وهذا أيضا من أعظم الوجوه التي تصرف فيها الأموال.
4 ـ ويضع عمر سياسة أمنية تضمن قوة الجبهة الداخلية وتماسكها، لا تقوم على تشكيل عشرات الأجهزة الأمنية والاستخبارية، التي تتجسس على الناس، وتنكل بهم، بل تقوم على منع التظالم بين الناس، فتحفظ بها نفوسهم وأموالهم وأعراضهم وكراماتهم، ما يصلح حال البلاد الاقتصادية والسياسية والعلمية وغيرها. يقول رضي الله عنه: «ولست أدع أحدا يظلم أحدا ولا يعتدي عليه حتى أضع خده على الأرض وأضع قدمي على الخد الآخر حتى يذعن للحق»، ولضمان ذلك في باقي الأمصار وأطراف الدولة يوصي عمر ولاته وأمراءه بأن لا يغفلوا عن هذا الأمر «ولا تغلقوا الأبواب دونهم فيأكل قويهم ضعيفهم»، يقول في رسالة بعث بها إلى أبي عبيده وهو بالشام «... ثم ادن الضعيف حتى تبسط لسانه ويجترئ قلبه وتعهد الغريب فإنه إذا طال حبسه ترك حاجته وانصرف إلى أهله ...»
وكتب إلى أبي موسى الأشعري أن سوِّ بين الناس في مجلسك وجاهك حتى لا ييأس ضعيف من عدلك، ولا يطمع شريف في حيفك.
5 ـ ثم يرسم رضي الله عنه سياسة جهادية يجملها في أمرين:
التمويل: إذ جعل الإنفاق على - الجند وسد الثغور أحد المصارف الرئيسة لأموال الدولة يقول: «ولكم علي أن أزيد في أعطياتكم وأرزاقكم إن شاء الله وأسد ثغوركم».
المحافظة على القوة البشرية التي - هي مادة الجهاد، »ولكم علي أن لا ألقيكم في المهالك»، وعدم تكليف الجنود أكثر من طاقتهم «ولا أجمركم في ثغوركم» والتجمير هو جمعهم في الثغور وحبسهم عن العود إلى أهلهم ، ويقول موصيا أمراءه: «وقاتلوا بهم الكفار طاقتهم، فإذا رأيتم بهم كلالة فكفوا عن ذلك، فإن ذلك أبلغ في جهاد عدوكم».1
ـ ثم يلتفت عمر إلى الولاة والأمراء بعد فراغه من ذكر واجباته، فيبصرهم كيف يسوسون الناس، ويحدد مهماتهم على الملأ، ولا يغفل عن تحديد مرجعيتهم في كل أمر يشكل عليهم: أما السياسة التي يرسمها لهم فقد أجملها رضي الله عنه في أمور هي:
أ ـ حفظ حقوق الناس وتمكينهم منها بسهولة ويسر، «فأدرّوا على المسلمين حقوقهم» فلا يخفي ما في كلمة «أدروا» من معان عظيمة تتراوح بين الكثرة واليسر والسهولة في إيصال المسلمين إلى حقوقهم.
ب ـ رعايتهم النفسية وحفظ كرامتهم وعزتهم: «ولا تضربوهم فتذلوهم» «ولا تحمدوهم فتفتنوهم ولا تجهلوا عليهم».
ت ـ رعايتهم الأمنية بمنع التظالم فيما بينهم والقوامة على علاقاتهم بعضهم ببعض «ولا تغلقوا الأبواب دونهم فيأكل قويهم ضعيفهم».
ث ـ حفظ أمولهم «ولا تستأثروا عليهم فتظلموهم».
ج ـ صيانة الروح الجهادية فيهم: «قاتلوا بهم الكفار طاقتهم، فإذا رأيتم بهم كلالة فكفوا عن ذلك، فإن ذلك أبلغ في جهاد عدوكم».
أما مهماتهم فثلاث:
أ ـ تعليم الناس أمور دينهم «لم أبعثهم إلا ليفقهوا الناس في دينهم».
ب ـ رعاية شؤونهم الاقتصادية: «ويقسموا عليهم فيئهم».(/3)
ج ـ القضاء: أي رعاية العلاقات بين الناس «ويحكموا بينهم» أما مرجعيه هؤلاء الولاة والأمراء فهو عمر بن الخطاب أي الخليفة «فإن أشكل عليهم شيء رفعوه إلي».
7 ـ لم ينس رضي الله عنه أن يذكرهم بأمور دينهم ويرشدهم إلى الطريق الصحيح، في مواجهة الفتنة ولا فتنة في نظر عمر أشد من قلة الأمانة أو - صلى الله عليه وسلم -تضييعها وأولى الناس بحفظ أماناتهم هم الأمراء والعلماء يقول رسول الله : «صنفان من الناس إذا صلحا صلح الناس وإذا فسدا فسد الناس: الأمراء والعلماء»
، ثم كثرة القراء وقلة الفقهاء، حيث يسود الجهل بأمور الدين،
ثم كثرة الأمل حيث تقعد الأمة عن الجهاد والتضحية بالأنفس والأموال وتصبح نهبا لأعدائها مستباحة حرماتها، وتحجم عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويعمل فيها حكامها بالإثم والعدوان، فيذلونها ويوردونها موارد الهلاك، وفي مثل هذه الأجواء لا بد أن يظهر أقوام يعملون للآخرة ظاهرا يطلبون بعملهم هذا الدنيا، وهؤلاء هم علماء السلاطين باعوا دينهم بدنيا الحكام،
يقول عمر رضي الله عنه «اقترب منكم زمان قليل الأمناء كثير القراء قليل الفقهاء وكثير الأمل يعمل فيه أقوام للآخرة يطلبون به دنيا عريضة تأكل دين صاحبها كما تأكل النار الحطب ...».
فماذا أوصاهم عمر بل ماذا أوصانا، فما تحدث عنه هو زماننا، يقول: «ألا كل من أدرك ذلك منكم فليتق الله ربه وليصبر»،
إذن يوصينا ابن الخطاب بلزوم أمرين هما التقوى والصبر، أما التقوى فالتزام أوامر الله ونواهيه، وأول أوامر الله وأولاها بالالتزام في هذا الزمان هو السعي للتغيير، من أجل حفظ الأمانة الضائعة، وهي الحكم بما أنزل الله والسعي لتفقيه الناس في أمور دينهم، ولا يكون ذلك إلا بجيش من الفقهاء والمجتهدين وحمل الدعوة الإسلامية إلى العالم، والتي لا تكون إلا بالجهاد. والجهاد وكثرة الأمل أمران متباينان لا يلتقيان البتة، فالتقوى إذن ليست اعتزال الناس والقعود عن العمل للتغيير، ولا أدل على ذلك من اقترانها بالصبر، إذ الصبر ليس صبرا على الطاعة أو عن المعصية أو على البلاء في النفس والمال والولد فقط، بل هو أيضا صبر على العمل للتغيير «الإصرار»، وصبر على الأذى الذي يقتضيه مثل هذا العمل في مثل هذا الزمان فلا يخفى ما يلقاه أهل التقوى في زماننا هذا من أذى ومطاردة وقمع وتنكيل وما سلاحهم في مواجهة ذلك إلا الصبر. يقول تعالى? والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر ? وفي الختام، هذه هي الصورة الحقيقية لحكامنا وأمرائنا، وهكذا تكون الرعاية فقط وإن كنت قد أسأت التعليق على خطبتكم يا ابن الخطاب فأستغفر الله، ثم أستميحك عذرا فأنا من أبناء الزمان الذي وصفت، وأدعوا الله أن يرضى عنك ويرضيك، ويقيض لنا حاكما يعمل فينا بعملك ويحمل الأمانة كما حملت، ?وما ذلك على الله بعزيز { ?(/4)
مفهوم السعادة من منظور إسلامي
د. عبد الله حسن زروق*
مقدمة : إن الشخص العادي عادة ما يصدر حكمه على سعادة غيره بظواهر ذلك الشخص، فهو عادة يحكم على شخص بأنه سعيد إذا كان منطلق الأسارير مبتسماً ضاحكاً ، وقد يحكم عليه مثلاً بالسعادة ، لأن له مسكاناً جميلاً أو زوجة جميلة أو سيارة فخمة، أو لأنه سافر إلى معظم البلدان، أو لأنه ترقى إلى وظيفة ذات مرتب كبير، أو حصل على درجة علمية رفيعة . أما الشخص المتعمق فيعلم أن هذه العلامات قد تكون كاذبة، وقد لا تكفي للحكم بالسعادة وقد تكون سبباً للتعاسة ، فالإنسان قد تكون له زوجة جميلة أو وظيفة عالية ولكن لا يكون سعيداً. لأجل ذلك فهو يبحث عن أسباب أكثر ثباتاً، كطمأنينة البال ، فيشترط أن يشعر بالقناعة والرضا وسكون النفس ويقول : ينبغي أن لا ننظر في الحكم على سعادة الفرد إلى ظواهر تصرفاته وسلوكه السطحي فقط ، بل علينا أن نسبر غور ما بداخله.
كذلك نجد أن بعض علماء النفس يتعمقون في وضع المعايير التي بموجبها يمكن الحكم على الفرد بالسعادة ، ولقد أورد بعضهم علامات للسعادة سنذكر منها بعضها عند الحديث عن علاقة علم الصحة النفسية بمفهوم السعادة منها "تقبل الفرد الواقعي لحدود إمكانياته واستمتاع الفرد بعلاقاته الاجتماعية ، ونجاحه في عمله ورضاه عنه.. وإقباله على الحياة بوجه عام…"
وما يسميه البعض لحظات سعادة كقدوم مولود أو نجاح ابن أو شفاء مريض أو لحظة انتصار أو لحظة براءة أو لحظة تكريم وثناء واعتراف بفضل أو إنجاز او لحظة ابتكار واكتشاف يرى البعض الأخر أنها لحظات سرور وفرح لا ينبغي أن يوصف صاحبها بالسعادة ، لأن السعادة كما يرون أكثر ثباتاً ودواماً وشمولاً . فما هي السعادة وما حقيقتها ؟ وهل هي الغاية القصوى للإنسان ؟ وهل هي موضوعية أم ذاتية ؟ وما هي مقوماتها ووسائلها وخصائصها ؟ وهل هي ممكنة ؟ وهل يمكن أن توجد كاملة صافية ؟ هذا الأسئلة تمثل إشكالية مفهوم السعادة .
قبل محاولة طرح هذه الإشكاليات والأسئلة نود أن نقدم لهذا البحث بالحديث عن أهمية مفهوم السعادة في مجال العلوم الاجتماعية وبإعطاء لمحة لمفهوم السعادة عند ارسطوطاليس وابن مسكويه وبنتام ومل.
أهمية الدراسة :
إن البحث في مفهوم السعادة بحث مهم ، ويحتل مكانه خاصة في علوم مختلفة كعلم الأخلاق ، وعلم النفس ، ويتصل بعلم التربية والقانون ، وبالعلوم السياسية ، وبعلم الاقتصاد وبنظرية صنع القرارات ، فهذه العلوم يبحث بعضها مباشرة في مفهوم السعادة كعلم الأخلاق وعلم النفس "خاصة علم الصحة النفسية" والبعض يبحث في مفاهيم مشابهة كمفهوم المنفعة والقيم والإشباع.
السعادة والصحة النفسية :
إن مفهوم السعادة من أهم المفاهيم التي يبحث فيها علم الصحة النفسية ،بل إن هذا العلم عادة ما يعرف على أساس أنه يهدف إلى تحقيق السعادة للإنسان ، فتعرف الصحة النفسية مثلاً بأنها تستهدف معونة كل فرد وتدريبه على العيش السعيد المنتج في بيئة اجتماعية، وكذلك تعتبر السعادة مقياساً للصحة النفسية "الصحة النفسية للفرد تقاس بمدى قدرته على التأثير في بيئته وقدرت على التكليف مع الحياة بما يؤدي بصاحبها إلى قدر معقول من الإشباع الشخص والكفاءة والسعادة " [1]وما يذكر عن مؤشرات الصحة النفسية هو نفس ما يذكر عن مؤشرات السعادة .ومن هذه المؤشرات تقبل الفرد الواقعي لحدود امكاناته واستمتاع الفرد بعلاقاته الاجتماعية ، ونجاح الفرد في عمله ورضاه عنه.. والإقبال على الحياة بوجه عام ، وكفاءة الفرد في مواجهة احباطات الحياة اليومية .. وإشباع الفرد حاجته ودوافعه .. وإثبات اتجاهات الفرد . . والاتزان الانفعالي .. وتصدر الفرد لمسئولية أفعاله وقراراته . إن اتجاهات علم النفس المختلفة من سلوكية وتحليلية وغيرها لها آراء مختلفة عن الصحة النفسية، ومن ثم عن أسباب سعادة الإنسان ، ولا نستطيع ذكر الاتجاهات ولكن سنأخذها بعين الاعتبار عند الحديث عن مفهوم السعادة .
مفهوم السعادة والاقتصاد:
في المجال الاقتصادي يفسر الاقتصاديون عادة سلوك المستهلك عندما يريد تحديد خطته الإنفاقية بقوله : إن الإنسان يرغب في الحصول على المجموعة السلعية التي تحقق له أكبر قدر من المنفعة . ويعرفون المنفعة كما يعرفها "بنثام" بأنها هي التي تخلق الإشباع والسعادة، والإشباع عند الاقتصاديين مسألة ذاتية ليس لها معايير موضوعية وتختلف من شخص إلى آخر ؛ فقدر المنفعة الناتج من الاستهلاك سلعة معينة يختلف من شخص إلى شخص ؛ وذلك لاختلاف أذواق المستهلكين . فالاقتصادي يهتم برغبات الناس الفعلية ويفترض سيادة المستهلك.(/1)
إن الفرضية القائلة بأن معايير الإشباع ذاتية – غير مسلم بها على إطلاقها . وسيأتي الحديث عن ذاتية وموضعية معايير السعادة ، وعلى أية حال فإن البحوث الاقتصادية في اعتقادي ليست ذات قيمة كبيرة في تحديد مفهوم السعادة، بخلاف الحال بالنسبة لبحوث علم النفس والأخلاق ، بل أنها تعتمد على هذه البحوث في هذين المجالين.
مفهوم السعادة والقانون والسياسة:
لم يكن أثر "بنتثام" في مجال الاقتصاد فقط ؛ ولكن كان أثره السياسي في مجال القانون والتشريع والسياسية ؛ فقد أسس القانون والتشريع على أساس المنفعة ، وكان لأفكاره هذه أثر كبير في الفكر المعاصر . واعتبر مبدأ المنفعة العامة معياراً لنقد القوانين وإصلاحها وإنشائها . وهذا يعني أن تبرير القوانين والتشريعات يكون بالنتائج التي تترتب على تطبيقها، فإذا كانت القوانين والتشريعات تؤدي إلى سعادة المجتمع وتخدم مصالحه فهي مقبولة ؛ وإذا لم تكن كذلك فهي مرفوضة . وقديماً أشار ابن مسكويه إلى العلاقة بين مفهوم السعادة والسياسية بقوله "ينبغي أن نعلم أن كل إنسان معد نحو فضيلة ما ، إليها أقرب وبالوصول إليها أحرى لذلك تعتبر سعادة الواحد من الناس غير سعادة الآخر ، لأجل هذا يجب على مدبر المدن أن يسوق كل إنسان إلى سعادته التي تخصه "[2].
مفهوم السعادة وعلم الأخلاق:
يحتل مفهوم السعادة مكانه كبيرة في علم الأخلاق المعياري "Normative Ethics" فهو أساس ما يعرف بأخلاق الفضيلة "Virtue Ethics" وقد نما هذا الاتجاه نمواً مطرداً في الآونة الاخيرة ،وكذلك يمثل مفهوم السعادة الأساس لنظرية المنفعة العامة إلا أن الفيلسوف "أسس الأخلاق على مفهوم الواجب والنية الحسنة وأسسها راولز" "Rawls" على مفهوم العقد.
لمحة تاريخية :
سنتحدث في هذه اللمحة التاريخية عن مفهوم السعادة عند ارسطوطاليس وعند ابن مسكويه وفي الفكر الحديث عند "بنتام" "ومل" ولكننا لا نهدف في هذه اللمحة إلى استقصاء آراء كل هؤلاء الفلاسفة ، وسنكتفي بعرض أفكارهم الأساسية.
مفهوم السعادة عند أرسطوطاليس:
تناول "أرسطوطاليس" مفهوم السعادة في كتاباته الفلسفية بالدراسة والتحليل ولقد أهتم الدارسون قديماً وحديثاً بما كتبه أرسطوطاليس عن هذا المفهوم وشرحوه وعلقوا عليه ، ولكنهم اختلفوا في فهمهم لمفهوم السعادة عنده وأعطوه تفسيرات عدة وأقرب هذه التفاسير لمقاصده أنه : عد السعادة الغاية القصوى للإنسان ، وأنها مطلوبة لذاتها لا لشيء آخر ، وأنها تامة ومكتفية بذاتها وأنها تحوي الخير الأقصى وجديرة بالاختيار [3].
ولكنه ليس من الواضح قوامها هل هو شيء واحد أو أشياء مختلفة ، ففي الكتاب الأول المسمى "بالأخلاق النوخوماخية" ذكر أن قوامها يعتمد على أمور كثيرة أهمها الفضائل الخلقية ، والفضائل العقلية ؛ ولكنه ذكر في الكتاب العاشر أن قوامها واحد وأنها تطابق التأمل الفلسفي وحده . [4] ويرى أرسطوطاليس أن حدوث المصائب العظيمة للشخص تسلب صفة السعادة عنه ولا تسلب المصائب الصغيرة هذه الصفة عنه .[5]
مفهوم السعادة عند ابن مسكويه:
قال ابن مسكويه إن السعادة أفضل خير وهي تمام الخيرات وغايتها ؛ ولكنها تحتاج في مرتبتها الأولى من هذا التمام إلى أشياء في البدن وخارج البدن ؛ أما إذا بلغ الإنسان المرتبة العليا من السعادة فإنه لا يحتاج معها إلى شيء أخر .[6]
واستعرض رأيين متقابلين عن السعادة : رأي نسبه إلى ارسطو ، والآخر نسبه إلى فيثاغورس وبقراط وأفلاطون ثم خلص في النهاية إلى رأي أعتمده [7] وقد ذكر ابن مسكويه في بداية حديثه ن آراء أرسطوطاليس رأيه القائل : بأن للسعادة مقومات لو اجتمعت في شخص صار السعيد الكامل ومن حصل له بعضها كان حظه من السعادة حسب ذلك ؛ وهذه المقومات هي : صحة البدن من سلامة الجوارح والحواس، واعتدال المزاج، والثروة والأعوان وان تحسن أحدوثته بين الناس وينتشر ذكره بين أهل الفضل ويكثروا الثناء عليه، وأن يكن ناجحاً محققاً أهدافه ومقاصده، وأن يكون جيد الرأي صحيح الفكر سليم الاعتقادات [8] واخبرنا ابن مسكويه أن ارسطوطاليس علل هذا الرأي بقوله "إنه يعسر على الإنسان أن يفعل الأفعال الشريفة بلا مادة مثل اتساع اليد وكثرة الأصدقاء وجودة البخت"
ثم أورد الرأي الآخر الذي نسبه إلى أفلاطون ومن وافقه والذي أجمعوا فيه على أن قوام السعادة في قوى النفس الخلقية التي هي الحكمة والشجاعة والعفة والعدالة وأجمعوا على أن هذا الفضائل كافية للسعادة ، ولا يحتاج معها إلى غيرها من فضائل البدن ولا ما هو خارج البدن ولم يضره في سعادته أن يكون سقيماً [9] ثم ذكر أن "المحققين من الفلاسفة يحقرون أمر البخت ولا يؤهلون الأشياء خارج النفس لاسم السعادة ؛ لأن السعادة شيء ثابت لا متغير ، وأنها أرفع الأمور وأشرفها ولا يجعلون لما دون العقل والفضيلة فيها نصيباً"[10](/2)
وذكر لأرسطوطاليس رأيا آخر قال فيه : إن السعادة في التخلق بأوصاف الله التي يحي الإنسان فيها حياة التأمل والنظر والفكر . وحاول أن يحل التعارض بين رأي ارسطوطاليس بأن ذكر أن الرأي الأول يمثل المرتبة الدنيا من السعادة والرأي الثاني المرتبة العليا.
يقول ابن مسكويه : "فالسعيد من الناس يكون في إحدى مرتبتين: إما مرتبة الأشياء الجسمانية : متعلقاً بأحوالها السفلى بها ، وهو مع ذلك يطالع الأمور الشريفة بأحثاً عنها مشتاقاً إليها متحركاً نحوها مغتبطاً بها . وإما أن يكون في مرتبة الأشياء الروحانية متعلقاً بأحوالها العليا سعيداً بها ، وهو مع ذلك يطالع الأمور البدنية ـ معتبراً بها ناظراً في علامات القدرة الإلهية ودلائل الحكمة البالغة مقتدياً بها ناظماً لها مفضياً للخيرات عليها"[11] .
"يتعلق الإنسان في المرتبة الأولى بأحواله الجسمانية ، وهو في المرتبة الثانية يتحرر منها لما توفر له من حكمة ، فهو في المرحلة الثانية لا يفعل إلا ما أراده الله منه، ولا يختار إلا ما قربه إليه، ولا يخالفه إلى شيء من شهواته الرديئة . وهو الذي يرى جسمه وماله وجميع خيرات الدنيا التي هي من السعادات التي في بدنه والخارجة عنه كلها كلا عليه : إلا في ضرورات يحتاج إليها لبدنه الذي هو مربوط به لا يستطيع الإنحلال عنه ، إلا عند مشيئة خالقه. "[12]
ثم ذكر ثلاث مراتب للسعادة هي :-
1. مرتبة يلبي فيها الإنسان رغبات البدن والحس ولكن باعتدال .
2. مرتبة لا يكثر فيها برغبات الجسد وشهوات النفس إلا بما تدعو إليه الضرورة .
3. المرتبة العليا مرتبة الفضيلة الإلهية المحضة التي لا يطلب فيها حظاً من الحظوظ الإنسانية ولا ما تدعو إليه الضرورة ، فتكون أفعال الإنسان كلها أفعالاً إلهية اوهذه الأفعال هي خير محض ، وأن يكون فعله لا يطلب به حظاً ولا مجازاة ولا عوضاً ، ويكون فعله عين غرضه ، أي : ليس يفعل ما يفعله من أجل شيء غير ذات الفعل ؛ لنفس الفضيلة ولنفس الخير لا لاجتلاب منفعة ولا لدفع مضرة ولا للتباهي وطلب الرياسة ومحبة الكرامة ؛ فهذا غرض الفلسفة ومنتهى السعادة ؛ إلا أن الإنسان لا يصل إلى هذه الحالة حتى تفني إرادته كلها التي بحسب الأمور الخارجية ؛ وتفني العوارض النفسانية ؛ وتموت الخواطر التي تكون عن العوارض ؛ ويمتلئ سعاراً إلهياً وهمة إلهية ؛ معرفة إلهية ؛ ويوقن بالأمور الإلهية .[13]
والسعيد لا يخرجه من حد السعادة ولو ابتلى ببلايا أيوب ، ومهما ترد عليه من النكبات والنوائب وأنواع المحن والمصائب لا يلحقه ما يلحق غيره من المشقة ، فهو يقدر علي ضبط نفسه ولا تخرجه عن حد السعادة البتة . وقال ابن مسكوية : إن المراتب كثيرة بعضها فوق بعض ، وأسباب اختلاف مراتب الناس في السعادة يرجع الي اختلاف طبائعهم وعاداتهم وفهمهم وعلمهم وهمهم وجدهم وشوقهم ومعاناتهم[14] .
إن ما قاله ابن مسكويه عن حقيقة السعادة كلام عميق وجذاب ويحتاج الي وقفة تأمل ونظر . وإن حديثه عن السعادة ، على الرغم مما فيه من أفكار ثاقبة يحتوي على بعض المثالب التي سنكتشف عنها ، فنظرية ابن مسكويه في السعادة كنظرية أرسطوطاليس يمكن أن تصنف على أنها نظرية للسعادة غالبة Dominant أي نظرية تغلب جانباً معيناً من الجوانب التي تسبب السعادة ، فهي تغلب جانب الفكر والتأمل بوصفها سبباً للحصول على السعادة ، فلكي يكون جانب الفكر والتأمل الجانب الغالب في حياة الانسان عليه ان يجاهد رغباته ودواعي نفسه حتى تموت ويتحكم في إرادته حتى تفنى بالكلية ، هذا الفناء الذي قال به ابن مسكويه شبيه بالفناء الذي عبر عنه ابن تيمية ووصفه بفناء الإرادة ومعنى فناء الإرادة ـ الذي هو فناء الأنبياء والصالحين ـ هو أن تفنى إرادة الانسان فيصير لا يحب إلا ما يحب الله ولا يريد إلا ما يريد الله ، فهو طائع الله طاعة مطلقة ، لكن هل يمكن أن تموت كل دواعي طباع الانسان البدنية وتصير حياته حياة فكر وتأمل صرفة ؟ وهل يمكن أن يصير مخلوقاً يعيش بالفكر والنظر ؟ وهل يمكن أن يفعل الانسان ـ كما ذكر ابن مسكويه لأجل الفعل ذاته لا لأجل غرض يناله من هذا الفعل ؟ لقد ذكر الغزالي أن القول بوجوب إماتة دواعي طباع الانسان البدنية بالكلية : غلط وقع لطائفة ظنوا أن المقصود من المجاهدة قمع هذه الصفات بالكلية ومحوها وهيهات .. وليس المطلوب إماطة ذلك بالكلية ، بل المطلوب ردها الي الاعتدال الذي هو وسط بين الافراط والتفريط ([15]) . وذكر أن هذه الدواعي ضرورية لحفظ النفس والنسل ، وهذا الرأي موافق للسنة النبوية ولرأي أرسطوطاليس ، وذكر الغزالي أيضاً أن من أدعى انتفاء الغرض عنده فقد ادعى الصفة الإلهية .
مفهوم السعادة في فلسفة بنتام ومل:(/3)
سنشير بطريقة موجزة الي مفهوم السعادة عند بنتام "Bentham" ومل “Mill” " وسنترك التعقيدات والتغيرات التي طرأت على مفهوم السعادة في الفلسفة المعاصرة لحين نقاش مفهوم السعادة " يقول هذان الفيلسوفان بما يسمى بنظرية المنفعة العامة في الأخلاق .
تقول هذه النظرية : إن مقياس حسن الافعال وقبحها ووجوب فعلها أو تركها يكون بما يترتب عليها من سعادة ، وما تؤدي إليه من شقاء وألم ، ويرى بنتام أن السعادة هي اللذة ويعتقد ان اللذات تتفاضل . ولقد اخترع حسابا للتفضيل بين اللذات ، فقال: تفضل لذة على لذة أخرى أما لشدتها وقوتها أو لمدتها أو لأنها يقينية الحدوث أو لقربها الزمني أو لخصوبتها أو لصفائها أو لامتدادها ، فكلما كانت اللذة قوية وشديدة فضلها صاحبها على التي هي أقل قوة وشدة ، وكلما طالت مدتها فضلها صاحبها على اللذة التي تحدث لمدة قصيرة ، وكذلك إذا كانت اللذة متيقناً حدوثها ، فهي تفضل على اللذة التي يتوقع حدوثها في زمن قريب في المستقبل على اللذة التي يتوقع حدوثها في زمن بعيد في المستقبل واللذة ذات الخصوبة ، أي : التي تأتي بلذة غيرها ، تفضل على اللذة التي لا تأتي بغيرها ، فمثلاً لذة القراءة تفضل على لذة مشاهدة مباراة كرة قدم ، لأن لذة القراءة تأتي بلذة غيرها وهي لذة النجاح : فاللذة غير الخصبة تستهلك نفسها ، أما اللذة الصافية فتفضل على اللذة غير الصافية ، واللذة الصافية هي اللذة التي لا يسبب النشاط المتصل بها ألما ويعني "بنتام" بامتداد اللذة عدد الذين يستمتعون باللذة . فكلما كان عدد المستمتعين باللذة كبيراً فضلت على اللذة التي عدد المستمعين بها أقل .
وهناك مشكلات تتصل بحساب اللذات هذه "لا نود مناقشتها" وتفترض أن اللذات يمكن أن تقارن ، وأنها لا تختلف بالنوع ، أما "مل" فقد قبل فرضية إمكان مقارنة اللذات ، ولكنه قال باختلافها في النوع ، فقد فرق بين اللذات من حيث النوع ، فقال إن هناك لذات عليا "ومثالها لذة المعرفة ولذة التذوق الفني" ولذات سفلى "ومثالها لذة البطن والفرج" .
مفهوم السعادة:
يعرف البعض حال السعادة بضدها ويقولون : بضدها تتميز الاشياء ، والأحوال التي ضد السعادة كثيرة منها : الألم والهم والغم والضيق والكرب والعسر والحسرة والإكتئاب والحزن والقلق والقنوط والتوتر والضجر والملل والسأم والخوف والإحباط والأسف والخزي والعار والوحدة والغربة والشعور بالحقارة والدونية والشك والتشاؤم، فالسعادة عندهم خلو الانسان من هذه الأحوال ، ويعرف هذا المفهوم للسعادة بالمفهوم السلبي مقابل المفهوم الايجابي ، وهو كون حال المرء في غبطة وسرور وبهجة وابتهاج وارتياح وانشراح ولذة أو طمأنينة واستقرار بال أو رضا أو قناعة . ولقد تعددت المفاهيم المتقابلة للسعادة فهنالك مفهوم للسعادة يجعل من الضروري أن تكون السعادة ممتدة حتى تشمل حياة الفرد كلها وكل جوانبها ، ومفهوم للسعادة يصف حال الفرد متلبساً بها متحققة له ، ومفهوم يشير الي أنها ستتحقق له في المستقبل ، فهي الآن بالقوة وأن شروطها ستتحقق بالفعل ، وبهذا المعنى نصف الرجل التقي الصالح الذي يمر بأحوال إبتلاء وحزن بأنه سعيد ، لما سيؤول إليه حاله في الآخرة ، وهنالك تقسيم شائع بين الدارسين([16]) لمفهوم السعادة وهو السعادة بالمعنى الذي استخدمه أرسطوطاليس “Eudacmnia” ومعناها المعاصر ، فالمعنى الأول يشير الي شعور باللذة يصاحب نشاطاً يتصف بالفضيلة والمعنى الثاني مجرد شعور باللذة يتمثل في حاله سيكولوجية معينة . وهناك نظرة تعد السعادة أمراً ذاتياً “Subjective” ولكنها تشترك بالإضافة لتحقيق رغبات الفرد أن يكون ما تحقق يتفق مع معايير الحياة الطيبة التي يلزم الشخص نفسه بها . وهذه النظرة تختلف عن النظرة التي تعد معايير السعادة موضوعية وخارج الذات [17]وهنالك معنى رابع نسبة ابن مسكويه إلى أفلاطون وهي حال تتصف بها النفس ، ولو كانت لا تشعر بلذة ومبتلاة بأعظم البلايا، وابن مسكويه كما تقدم عرف السعادة تعريفات عدة ، كل تعريف يمثل مستوى أدنى تلبي فيه رغبات البدن والحس ولكن بإعتدال، بالإضافة إلى الالتزام بالفضيلة .
مستوى أوسط لا يكترث فيه الفرد برغبات الجسد وشهوات النفس ؛ إلا ما تدعو إليه الضرورة .
والمرتبة العليا في الدنيا هي مرتبة الفضيلة الإلهية المحضة وحالة فناء الإرادة ؛ وفي هذه الحالة لا يتأثر الإنسان بالابتلاء ويؤدي الفعل لذات الفعل لا لحظ ناتج عنه.
ومستوى رابع يمثل سعادة الآخرة الصافية التي لا تشوبها شائبة وذكر ابن مسكويه أن هنالك سلسلة متصلة "Continumum" من مستويات السعادة(/4)
ولقد عرف سيد محمد نقيب العطاس السعادة بطريقة مماثلة لتعريف ابن مسكويه ؛ فجعل لها ثلاثة مستويات لم يكن من ضمن هذه المستويات مجرد الشعور باللذة ؛ فجعل المستوى الأول متصلاً بالأحوال السيكولوجية والدنيوية والتي يمكن وصفها بأنها عواطف وأحاسيس يتم إشباعها عن طريق السلوك القويم المتناغم مع الفضيلة ؛ والمستوى الثاني هو مستوى التحمل واختبار استقامة الفرد في السراء والضراء وفي هذا المستوى تضمحل احتياجات الفرد ، والمستوى الثالث تمثله السعادة في الآخرة وقمة سعادة هذا المستوى رؤية الله سبحانه وتعالى [18]
سنذكر بعض الملاحظات المختصرة على هذه التعريفات ، فالتعريف المعاصر للسعادة – بانها مجرد أحاسيس وعواطف -تعريف ذاتي لا يقصى الأحاسيس والشعور الناتجة عن النشاطات الهابطة ، ولا يلتزم هذا التعريف بوجوب موافقة شعور الفضيلة ، وتعريف مرتبة الفضيلة المحضة مثالي قد لا تتحقق أحواله في واقع الأمر . أما تعريف السعادة المتحققة في الحياة الآخرة بأنها سعادة مطلقة أمر جائز جاءت به الأخبار الصحيحة ، وسوف نرد على اعتراضات جان كزانوف التي تتخيل وجود سعادة مطلقة ، أما تعريف السعادة – بأنها حال يمكن أن يتصف به الفرد في حال التحمل الذي قد يصبه ألم والذي يخلو من الشعور باللذة – فإنه يصعب قبوله.
والتعريف الذي نختاره والذي هو موافق للسنة هو التعريف الأول : الذي تلبي فيه رغبات البدن والحس باعتدال ؛ بالإضافة للالتزام بالفضيلة.
السعادة والغاية القصوى للإنسان :
الغاية القصوى هي الغاية التي يطلبها الإنسان لذاتها ؛ وليست وسيلة لغيرها إذا سألنا طالباً وقلنا له : لماذا تريد أن تذاكر؟ يقول لأنجح وأتحصل على شهادة جامعية وإذا سألناه: لماذا تريد الشهادة الجامعية ؟ يقول لأني أريد أن أجد وظيفة .
ويرى ابن حزم أن الذي يطرد الهم – حقيقة – العمل للآخرة . إن ما نشاهده من سلوك كثير من الناس يؤيد نظرية ابن حزم هذه إلى حد كبير ؛ فإن الطالب يعود من الدراسة وله هم قضاء الواجبات واستذكار الدروس وهم النجاح ؛ والكبار لهم هموم العمل وتوفير حاجات الأسرة والقيام بواجبات الصلات الاجتماعية والمحافظة على الصحة وتحسين أوضاعهم المالية والأدبية وغيرها من أسباب طرد هموم الدنيا والآخرة، فهم عادة لا يفكرون في الأشياء التي تجلب لهم اللذة والسعادة ؛ ولكن يفكرون في طرد وقضاء الحاجات ؛ هذا لا يعني أن تحقق هذه الأغراض لا يصاحبه لذة وشعور بالرضا والسعادة، ولا يعني – وهنا قد نخالف ابن حزم – أن جانبا مما نقوم به من نشاط قد نؤديه بغرض اللذة والمتعة . من ناحية أخرى فإنه قد تكون لبعض الناس كالدعاة والمصلحين وغيرهم هموم تشغل جل تفكيرهم فلا تدع لهم مجالاً للتفكير في الحصول على متع الحياة والناس يختلفون’ فيرى بعضهم أننا يجب أن نوجه الطاقات في مؤسسات الدولة – الطبية والاجتماعية والاقتصادية والتعليمية وفي الجمعيات الخيرية والإصلاحية لطرد هموم الناس أكثر من جلب اللذات لهم ’ فنحارب المرض والفقر والجهل والإدمان ونحل مشكلات الأسرة والشباب الخ …
صحيح – كما ذكر ابن حزم – أن ما يشغل معظم الناس طرد الهموم عن أنفسهم أكثر من جلب المنافع لها ’ لكننا – كما ذكرنا – نجد بعض الناس يخطط ويهدف إلي تحقيق لذاته ’ كما أن معظم الناس يهدف في أوقات حياته إلى تحقيق لذات معينة مثلا باختيار مكان لقضاء عطلته السنوية أو قضاء عطلة نهاية الأسبوع ’ ولكننا نجد بعض الناس كالدعاة والمصلحين والمجاهدين لا يعيرون أمر جلب اللذات بالاً فنجد أحدهم لا يأكل إلا إذا شعر بالجوع والضعف ’ ولا يذهب لينام إلا إذا شعر بالتعب والنعاس.
وأخيراً هنالك سؤال يمكن طرحه وهو هل هدف الإنسان هو نيل السعادة سواء كان ذلك بمفهومها الإيجابي أو السلبي؟ على الرغم من أن مفهوم السعادة مفهوم فضفاض .فإنه من الصعب أن نصف شخصاً بالسعادة دون أن يحس بشعور إيجابي من لذة أو متعة أو ارتياح ، ومن الصعب أن نصفه بالسعادة وهو في حالة ألم وعناء إلا إذا اعتبرنا ما سيؤول إليه حاله ’ ولكن من ناحية أخرى فإن الإنسان قد يسعى لتحقيق قيمة خلقية أو دينية تحت ظروف ألم ومشقة ومعاناة مثل قيمة العدالة ’ وقد يريد تحقيق العدالة من أجل العدالة ذاتها.(/5)
ولا ينبغي أن يقال إنه فعلها ليزيل عن نفسه عدم الرضا الناتج من عدم تحقيقهاأو أن يقال إن عدم الرضا إذا لم يفعلها يكون أكبر من المعاناة الناتجة من فعلها . ولا يقال أنه فعلها لما لم يجد راحة في تحقيقها. وقد يلزم من فعل الفضيلة في واقع الأمر راحة ومن عدم فعلها ألم ، ولكن ليس بالضرورة أن يكون هذا قصد الفاعل ولا هدفه من تحقيقها. إن كان سببه الذي يعنيه هو تحقيق فضيلة العدالة في ذاتها لما لا يلزم عنها من نتائج. والغريب أن ابن مسكويه قد أشار إلى هذا المعنى ، ولكنه عده ضمن مراتب السعادة ، وكذلك عده محمد نقيب العطاس معنى من معاني السعادة، إلا أن آخرين قد اشترطوا في السعادة شرط اتفاقها مع الفضيلة، بالإضافة إلى ذلك انتاجها لذة وهذا الذي اعتمدناه.
هل معايير السعادة موضوعية أم ذاتية ؟
هناك من يرى أن معايير السعادة موضوعية ومن يرى أن معاييرها يجب ان تكون ذاتية ، فالقائلون بالمعايير الذاتية للسعادة يرون أن الحكم على شخص بالسعادة يجب أن يكون بمعرفة ذلك الشخص وشعوره ، فإذا اعتقد وشعر بالسعادة فإنه يكون في الحقيقة سعيداً بغض النظر عن رأينا فيه.
أما القائلون بموضوعية معايير السعادة فيرون أن الإنسان قد يعتقد أنه سعيد، ولكن يكون في حقيقة الأمر غير سعيد؛ فشعوره بالسعادة ليس مبرراً كافياً لكي نطلق عليه صفة السعادة، لأنه قد يكون غالطاً أو مخدوعاً .
واعترض بعض القائلين بأن معايير السعادة ذاتية على القائلين بموضوعيتها بحجج عدة منها أنها كانت سبباً في التدخل في حياة الآخرين وسلب حرياتهم والتعدي على إنسانيتهم والسيادة على ذواتهم ، وأنها نوع من الاستعلاء الزائف، وتمثل الموضوعية عند كثير من فلاسفة ما بعد الحداثة ضيق الأفق والتعصب والعنصرية والعرقية والغرور والسطحية وعدم الأمانة العلمية والتسلط والهمجيةوعدم التسامح
ويقولون إن الفرد أقدر الناس على معرفة رغباته وما يسعده وأن التدخل في شئونه بحجة إسعاده كثيراً ما يقود إلى تعاسته وحرمانه ، ولا حق لأحد أن يقول لغيره هذا يسعدك على الرغم من أن الآخر لا يشعر بأن هذا الشيء يسعده.
ويقولون أيضاً إذا كان هنالك ما يسعد الناس فاذكروه لنا بالتحديد وبينوا لنا لماذا أختلف الناس حول السعادة ؛ فمنهم من يراها في الأمور الروحية ؛ ومنهم من يراها في الأمور العقلية ؛ومنهم من يراها في الأمور الحسية ؛ إن بعض أصحاب اتجاه الذاتية لبراليون وبعضهم نسبيون وبعضهم لا عقلانيين.
نقول في الرد على الذاتيين ، وبالله التوفيق ، ليس ضرورياً أن يناقض القول بالموضوعية التسامح والحرية ، أما القول بأن الناس اختلفوا حول ماهيتها فهو ليس بحجة ، لأنه من الممكن أن يكون من بين المختلفين من هو على حق، أما المطالبة بتحديد الأشياء التي تسعد الناس ؛ فطلب معقول ، ولكن قد تكون الإجابة عنه صعبة . سنجيب عن هذا السؤال ضمن ذكر الحجج التي تعضد القول بالموضوعية عموماً.
إن للإنسان طبيعة معينة تميزه عن غيره من المخلوقات ، وإن هنالك نشاطات وأفعالاً تناسب هذه الطبيعة ونشاطات لا تناسبها ، وهذه الطبيعة تجعل للإنسان حاجات ومطالب .. وتجعله بالضرورة يصبو لتحقيق هذه الحاجات ويكون في حالة توتر مادامت لم تحقق له ، وعند تحققها يزول توتره ويحس بالرضا
هنالك لذات تحصل من نشاطات هابطة كتناول المخدرات والممارسات الجنسية القبيحة والتلذذ بضرر أو تعذيب الآخرين ولا يجد ممارسوها غضاضة في ممارستها .
يمكن مقارنة اللذات والسعادة ؛ فهنالك طريقة حياة ونشاطات تحدث سعادة أعظم من طريقة حياة أخرى . والدليل على ذلك أن الفرد إذا جربها سيفضلها ويحكم على أنها أعظم من غيرها.
هنالك أشياء يكاد يجمع الناس على أنها من أسباب السعادة مثل الصحة والمحبة والصلاة الحسنة بالآخرين.
على الرغم من أن للسعادة معايير موضوعية إلا انه لا يجوز وصف شخص بأنه سعيد دون أن يشعر هو بالسعادة.
مقومات السعادة وأسبابها :
تعرف السعادة بأنها رضا عام عن الحياة بتحقق الرغبات والأهداف والمقاصد أو بتحقق الذات ، وهذا الرضا يتمثل في الرضا عن الحياة الاقتصادية ، ومعناها تحقق الضروريات والحاجات والكماليات والشعور بالصحة والرضا عن الحياة الأسرية والعلاقة الزوجية ،والرضا عن العمل والعلاقات الاجتماعية الصادقة، ورضا الفرد عن سلوكه وتصرفاته الأخلاقية والدينية وأداء الواجبات المتصلة بهما والرضا عن الوضع السياسي والاجتماعي عامة، والأمن على النفس والعرض والمال والأمن العقدي بزوال الجهل والشكوك والأوهام والثبات على بعض المعارف عن الكون والإنسان والمجتمع .
الحياة الاقتصادية : تحقق الضروريات والحاجات والكماليات بالأكل والشرب والملبس والمسكن وسبل التنقل والعلاج والتعليم ووسائل الترفيه وقضاء وقت الفراغ . وفي حديث الرسول صلى الله عليه وسلم إشارة إلى هذا النوع من مقومات السعادة "أربعة من السعادة : المرأة الصالحة والمسكن الواسع والجار الصالح والمركب الهنيء "[19](/6)
الصحة : إن من أهم مقومات السعادة الصحة فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو الله أن يسلمه من عوائق السعادة والأمور السلبية كالمرض والفقر ، فكان من دعائه (اللهم عافني في سمعي، اللهم عافني في سمعي ، اللهم عافني في بصري ، اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر ، لا إله إلا أنت).[20]
والصحة عبارة عن سلامة الجوارح والحواس والخلو من الأمراض والعاهات وعدم الضعف والعجز ؛ كما أن من أهم مقومات السعادة الضرورية الصحة العقلية والنفسية .[21]
العلاقة الزوجية : يقول الله تعالى : (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (الروم:21) يقول الرسول صلى الله عليه وسلم "الزواج من سنتي فمن رغب عن سنتي فليس مني"[22] "هلا بكراً تلاعبها وتلاعبك" [23] "تزوجوا الولود الودود" [24]إن المتزوجين أكبر سعادة – بوجه عام – من العزاب والأرامل والمطلقين [25] .
ولكن ليس ما يسعد الزواج ؛ ولكن نوعية الزواج . والرجال يحصلون على إشباع أكثر من الزواج إذا ما قورنوا بالنساء . [26]ومما يساعد على السعادة الزوجية استعداد الزوجين للمساعدة العملية والصحية وكثرة الوقت الذي يقضيه الزوجان معاً، والاتفاق على المسائل المشتركة كالأمور المادية والبحث عن الحلول للمشاكل التي تطرأ على العلاقة والدعم المتبادل.[27]
الصداقة والإخاء: الإخاء ضروري لحياة الفرد ولبناء المجتمع ومؤسساته ، وضروري للبناء الحضاري للأمة الإسلامية ، وعليه تعتمد سعادة الفرد والمجتمع.فالإنسان لا يمكن أن يحقق ذاته ورغباته إلا في جماعة ولا يستطيع تحقيق القيم الخلقية إلا في جماعة ، وقد قيل الإنسان كثير وقوي بإخوانه وأصدقائه . وإن كل شخص محتاج إلى صديق عند حسن الحال وسوء الحال ، فعند سوء الحال محتاج إلى معونة الإخوان وتسليتهم عند الهموم ، فالأخ يبث همومه لأخيه ، فينفس عنها ، وعند حسن الحال يفرح بهم ويأنس بهم ، فالأخ زينة الإنسان يجد في حبه للآخرين وعونه لهم سعادة لا تدانيها سعادة ، لأنه يشعر بأنه سبب سعادتهم وتخفيف آلامهم ، يقول صلى الله عليه وسلم "ثلاثة من كن فيه وجد حلاوة الإيمان ، أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله " [28] قال الغزالي : الأخوة محبة والمحبة تتبع المؤاءمة والموافقة ، وإن أخوة الإسلام تنتج من العقيدة والفكر المشترك ومن وحدة الهدف والغاية ولعل أول ما يوفره الأصدقاء بعضهم لبعض التحسين الفوري للحالة المعنوية بالمساعدة العملية والدعم الاجتماعي في صورة تعاطف أو نصائح والمشاركة في الأنشطة[29] فالإسلام يحث على السلام عليه إذا لقيه ؛ وعيادته إذا مرض ويتفقده ؛ ويواسيه ؛ وينصحه ؛ ويدافع عنه ، كما يحث على الدعاء والوفاء والإخلاص له وإظهار المحبة له "أن يخبره إذا أحبه أنه يحبه" فاكتساب الأصدقاء والحفاظ عليهم يعتمد على القدرة على التدعيم وأداء الالتزام والمجاملة والتعبير عن المحبة.[30]
السيرة الحسنة بين الناس : إن من الأمور التي تدخل السعادة والرضا في نفس الإنسان؛ السمعة الحسن والسيرة الطيبة بين الناس، لكن المؤمن لا يبتغي ابتداء من أعماله ثناء الناس عليه، ولكن ثناء الناس عليه قد يلزم من أفعاله دون قصد منه لذلك ،وواجب على أفراد المجتمع الثناء على المحسنين منهم . ويختلف مفهوم السيرة الحسنة عن مفهوم الشهرة والصيت التي يعبرون عنها بأنها شعور الشخص باعتراف الناس بما قدم من أعمال واللذة الناتجة ، والتي باعثة للعمل ، فإذا ساعد الفقراء فإنه يفعل ذلك لكي يقال إنه شخص محسن، وإذا ألقى حديثاً أو كتب كتاباً أو بحثاً فإنه يريد أن يقال إنه عالم أو مفكر أو أديب أو غيرها من عبارات الثناء والمدح ، وقد تصل رغبة الإنسان لنيل المكانة والشرف إلى حبه العلو والسيطرة والحصول على القوة والنفوذ ؛ هذه الرغبات كاذبة ومنحرفة وينهي عنها الدين ، فالإسلام ينهي عن التطلع إلى الشهرة والصيت وحب العلو ويحث أن يكون العمل لله .
لقد انتشر بين المسلمين طلب الشهرة والصيت والمكانة ، وصارت حظوظ الدنيا هي التي تدفع معظمهم للعمل ، وعلى هذا نربي ابناءنا وإلى هذا تهدف معظم وسائل أعلامنا ومؤسساتنا ،ولكي نتغلب على هذا الداء العضال نحتاج إلى جهاد للنفس كبير وإلى تربية أبنائنا وأنفسنا لكي نخلص العمل لله، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم "من سمع سمع الله به ومن يرائي يرائي الله به[31] " ويقول "إن الله تعالى يحب العبد التقي الغني الخفي".[32]
وفي القرآن : (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (القصص:83) .(/7)
العمل: يعتمد الرضا عن العمل على العلاقات الإنسانية داخل التدرج الوظيفي ، فالمرؤوسون يكونون أكثر سعادة في ظل أساليب معينة من الإشراف ، وخاصة تلك التي تتصف بالتقدير من جانب المشرف والتشجيع على المشاركة في اتخاذ القرار ، ومما يسبب عدم الإرتياح في العمل ممارسة المشرفين على العمل ضغوطاً من أجل مزيد من العمل أو عندما يعطون أوامر تلقائية دون استشارة العاملين .[33] ومن أسباب الرضا عن العمل الأجر المجزي والمقدرة والكفاءة على أدائه والرغبة فيه .
وكذلك تعتمد السعادة على حسن العلاقة بين الفرد والأقارب والجيران والأطفال والآباء والناس، والشعور بالنجاح والإنجاز يؤدي إلى السعادة ؛ وكلما حقق الإنسان أهم رغباته ازدادت سعادته، ولكن إذا قارنا سعادة الأفراد بعضهم ببعض فإن الرضا بالحال قد يكون في مستوى أدنى من الإنجاز ؛ فمستوى الحياة ونوعيتها والإنجاز الذي يحققه الفرد يحدد قوة السعادة وشدتها ؛ فقديماً قال سقراط : أريد أن أكون سقراطاً غير راض من أن أكون حيواناً راضياً . فنوعية الحياة تؤثر في مستوى السعادة ؛ لكن هنالك تعقيداً في هذه العلاقة ، لأن نوع النشاط نفسه قد يحدث سعادات متفاوته باختلاف الأشخاص ، لأن بعض التجارب تحتاج إلى من يتذوقها ، ويحدث ذلك عادة بممارستها والتعود عليها ، وقد يحتاج إلى نوع من المجاهدة والصبر عليها في بداية الأمر. وقد اختلف المفكرون في النشاط الذي يحدث أعظم قدر من السعادة ؛ فمنهم من رأى السعادة في تحقيق اللذات الحسية ، ومن رآها في قمع الشهوات بالكلية والزهد في الحياة المادية حتى يحيا حياة روحية خالصة ، ومنهم من يرى السعادة في حياة الفكر والتأمل والنظر ، لكن السعادة في اعتقادنا لا تقتصر على جانب واحد من حياة الإنسان ؛ فإنها تشمل كل جوانب حياته المادية والعقلية والروحية والسلوكية والذوقية ، فجانب الحياة المادي ينبغي أن يشمل ما هو ضروري وحاجى وكمالي، ويتحقق الجانب النفسي من حياة الإنسان مثلاً بصحته النفسية بزوال الخوف والشعور بالأمن والطمأنينة ووجود علاقات اجتماعية للفرد وصداقات ؛ وذلك بمشاركته للآخرين أفراحهم وأتراحهم ومشاركتهم له في ذلك وفي محبته لهم، ومحبتهم له وتتمثل الصحة النفسية في الإتزان الإنفعالي والعاطفي ؛ وذلك بتجنب الغضب والحسد والحقد مثلاً وأن يتجنب كل عاطفة رذيلة، وألا تخلو نفسه من العواطف المناسبة في المواقف المثيرة لتلك العواطف، بأن يتسم بالرحمة والشفقة والمحبة وغيرها من العواطف النبيلة .
ويشمل جانب الحياة الذوقية تذوق الجمال والفن والأدب ويعد هذا الجانب من الحياة عادة جانباً كمالياً ، ويختلف الناس في السعي لتحقيقه وطلبه . ويتمثل جانب الحياة العقليةفي التأمل والفكر والنظر وسعي الإنسان لإكتساب العلم والمعرفة ورغبته في الكشف عن الحقائق وفي حل المسائل والمعضلات والمشكلات وغوامض الأموروفي زوال الشكوك والتخلص من التيه الفكري والحيرة؛ إنها الرغبة في الأمن العقدي والمعرفة ، النافعة واللذة المصاحبة لتلك المعرفة وأعلى مراتب الأمن العقدي هي معرفة الله ومعرفة ما شرع وأخبر.
وهنالك المقومات الروحية التي تشمل العبادات الظاهرة كالصلاة والصوم والحج والزكاة والعبادات الباطنية كالإيمان وإخلاص النيه والتوجه بالعمل لله سبحانه وتعالى وما يتبع تلك العبادات والطاعات من أحوال وتجارب ولذات وما يشعر به المؤمن من متعة وطمأنينة وأنس ورضا نتيجة لذلك . * فلا ينبغي أن يركز الإنسان على الجانب الروحي دون المادي ولا المادي دون الروحي ولا العقلي أو الذوقي دون الجوانب الأخرى ، لأن الإنسان يحتاج إلى تلبية كل الجوانب الأخرى ، لأن الإنسان يحتاج إلى تلبية كل الجوانب ، فإن الإنسان لا يمكن أن يحيا حياة عقلية أو ذوقية بحته ؛ فمن المجرب والمشاهد أنه إذا نال من إحداها معيناً فإنه قد يمله ويكون عائد الاستمتاع به متناقضاً . ولقد نهى الرسول e الصحابة الذين أرادوا ترك الأكل والنوم والزواج .وإن طبيعة الإنسان تحتم عليه تلبية كل الجوانب .من ناحية أخرى فإن الناس متفاوتون في رغبتهم وتذوقهم لجانب دون جانب ؛ كما أن بعض الجوانب قد يكون أكثر لذة ومتعة من الجوانب الآخرى .فقد ذكر أحد العباد عن جانب العبادة مقارناً له بجانب الثروة والماديات فقال: لو علم الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف .وقد يحتاج الإنسان إلى شيء من الممارسة والتعود حتى يتذوق جانباً من الجوانب.(/8)
ويشمل الجانب الأخلاقي والسلوكي التزام الإنسان بالقيم الأخلاقية كالصدق والعدل والإحسان والطهارة والعفة والشجاعة والأمانة والرحمة ؛ إن الالتزام بهذا الجانب يحدث رضى وسعادة في نفس صاحبه ويحدث آثاراً حسنة في حياته وحياة غيره من الناس .كما أن من مقومات السعادة أن يعيش الإنسان في مجتمع فاضل تتحقق فيه قيم معينة كقيم التكافل والأخوة والمحبة والرحمة والشورى والعدل والطهارة والوحدة والنجدة والتناصح والتآزر والتناصر والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيثار والإيمان والحرية والتقوى والعلم والمعرفة وغيرها من القيم النبيلة .
ولكن مهما حقق الإنسان من مقومات الحياة المادية والذوقية والروحية والسلوكية والعقلية والنفسية ، ومهما حقق من رغبات وأهداف ، ومهما حقق من نجاح ، فإنه لن يشعر بالسعادة إذا لم يصاحب ما حقق وأنجز شعور بالرضا والقناعة ؛ لأن مطالب الإنسان قد لا تنتهي ؛ ولأن الإنسان قد يهتم بتحقيق أمر يرى فيه قمة سعادته كالحصول على درجة علمية معينة أو الزواج من فتاة معينة ؛ ولكنه عندما يحصل على مقصوده تقل رغبته فيه ولا يحس بسعادة وهو حاصل له، ولكن الإنسان القانع الراضي يحس بالنعم التي أنعم الله بها عليه فيكون سعيداً بذلك.
وسائل السعادة :
إن مقدرة الفرد على تحقيق رغباته وأهدافه ومقاصده لا تعتمد فقط على سعيه وجهده ؛ ولكنها تعتمد أيضاً على قدراته وعلى الظروف المحيطة به . من ناحية أخرى فإنه السعي يتطلب*.
-اكتساب العلم بما يسعد
محبة الإنسان لما علم
معرفة الأسباب التي تحقق ما علم وأحب
السعي لتحقيق هذه الأسباب
الصبر ومجاهدة النفس في السعي لتحقيق هذه الأسباب.
قال ابن القيم "ومعلوم أن كمال العبد هو بأن يكون عارفاً بالنعيم الذي يطلبه والعمل الذي يوصل إليه ، وأن يكون مع ذلك فيه إدارة جازمة لذلك العمل ومحبة صادقة لذلك النعيم ، وإلا فالعلم بالمطلوب وطريقه لا يحصل إن لم يقترن بذلك العمل ، والإرادة الجازمة لا توجب وجود المراد إلا إذا لازمها الصبر "(/9)
على المسلم أن يسعى بشتى الوسائل لنيل السعادة ويرجو الله ويدعوه أن يتم له ذلك في الدنيا والآخرة ، وفي الدعاء (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) (البقرة:201) وعلى الإنسان أن يسعى بالفكر والروية قبل العمل ، وعليه أن يكتسب المعرفة ، يقول ابن القيم "إن الإنسان قد يحب الضار وقد يحب النافع" إن النافع يعلم بالشرع والعقل ، ولكن أصدق الطريقين إليه الشرع لخفاء صفات الأفعال وأحوالها ونتائجها ، وأن العالم بذلك على التفاصيل ليس هو إلا الرسول صلى الله عليه وسلم فأعلم الناس وأصحهم عقلاً ورأياً واستحساناً من كان عقله واستحسانه وقياسه موافقاً للسنة .* وأن يبذل الجهد والمثابرة والصبر ، يقول الله تعالى : ()يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (البقرة:153) وأن يقابل إحباطات الحياة وإبتلاءاتها بروح عالية ما وسعه ذلك ، وأن يكون أمله في الله كبيراً "ولا يقنط من رحمته" )يَابَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) (يوسف:87) وأن يكون في حال رجاء دائم في أن يحقق الله له خيري الدنيا والآخرة ( فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ)(النساء: من الآية104) وأن يستشير في أموره أهل الرأي والمشورة وأن يستخير الله عندما يقدم على أي أمر من الأمور فإذا أخذ بالأسباب توكل على الله وأقدم ولم يتردد وكان قوى الإرادة والعزيمة ؛ وأن يلح ويكثر من الدعاء (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (البقرة:186) ولقد وردت أدعية كثيرة يجدها القارئ في كتب الأذكار المختلفة . ومن أسباب السعادة لزوم الاستغفار قال صلى الله عليه وسلم : "من لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجاً ومن كل ضيق مخرجاً ".* إن ما يؤلم الإنسان وينقص سعادته اقترافه الذنوب وشعوره بالذنب ، لكن المؤمن يزول منه هذا الشعور عندما يقرأ قول الله تعالى : )(َلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (التوبة:104) فالله سبحانه و تعالى يمدح التائبيين المستغفرين ويعدهم بالمغفرة : (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (آل عمران:135) ومن أسباب السعادة الإيمان بالله والتوكل عليه يقول الغزالي "إن التوكل هو ثمرة التوحيد وهو عبارة عن اعتبار المؤمن أنه لا فاعل إلا الله واعتقاده أن الله متصف بتمام العلم وتمام القدرة على كفاية العباد وأنه يتصف بتمام العناية والعطف والرحمة ". * ولا يعنى بالتوكل ترك السعي.
وإذا قرر الإنسان وعزم بعد التروي والمشورة والاستخارة فلا يتردد ويتوكل على الله ويشرع في تنفيذه ما عزم عليه قال تعالى : ( وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ)(آل عمران: من الآية159) ومن أسباب السعادة الطموح قدر المقدرات وترقية المقدرات .(/10)
ينبغي على الفرد معرفة مقدراته وإمكاناته ومحاولة استثمارها ، وعليه ألا يتطلع إلى تحقيق أهداف لا تتناسب مع هذه المقدرات والإمكانيات ، فإن ذلك سوف يشعره بالإحباط والفشل . ولكن هذا لا يعني ألا يجتهد ويسعى إلى تحسين مقدراته بالعلم والتدريب وغيرها من الوسائل فالحياة الخالية من الطموحات والأهداف والرغبات حياة خاملة ومملة ؛ فينبغي ألا يكون الإنسان في حالة طموح كاذب ، أو حالة خمول معقد ، ومن أسباب السعادة والنجاح الالتزام بقدر الطاقة ، فينبغي للفرد ألا يلتزم بالقيام بأعمال كثيرة لا يستطيع الوفاء بها كلها، أو أعمال يمكنه القيام بها ولكن ترهقه وتؤثر في حسن أدائه لها، أو تجعله يقصر في واجبات أخرى ، فالإنسان عادة يقبل ويلزم نفيه بالقيام بأعمال كثيرة فوق طاقته إرضاء لمن يطلب مساعدته أو رغبة منه في تحقيق أكبر عدد من الأهداف في أقل زمن ممكن ، ومن أسباب السعادة تنويع الأهداف فيحسن للفرد أن ينوع من أهدافه وغاياته ولا يجعل له هدفاً واحداً ، لأنه قد يفشل في تحقيق هذا الهدف . فإذا نوع من أهدافه في أقل زمن ممكن . ومن أسباب السعادة تنويع الأهداف فيحسن للفرد أن ينوع من أهدافه وغاياته ولا يجعل له هدفاً واحداً ، لأنه قد يفشل في تحقيق هذا الهدف . فإذا نوع من أهدافه وحدث أن فشل في واحد منها فإنه قد ينجح في تحقيق هدف آخر ، فإن في ذلك سلوى عظيمة له "علماً بأن الأهداف الأساسية قد لا تتغير".
ومن أهم أسباب السعادة تكيف الفرد مع الظروف والمجتمع الذي يعيش فيه ، وهذا التكيف بالنسبة للمسلم محكوم بقواعد الإسلام السمحة ، فليس للمسلم أن يتكيف مع أي مجتمع وبأي شكل من الأشكال ، وليس على حساب المبادئ والقيم والمثل الإسلامية .
إن من أهم أسباب السعادة كذلك مقدرة الفرد على التوفيق بين رغباته وأهدافه . ويمكن أن يتم هذا التوفيق بأن يكون له نظام لدرء التعارض بين رغباته وأهدافه وواجباته . وهذا قد يكون بالتخلي عن بعضها أو بوضعها في ترتيب بحسب أوليتها ، أو أن يجمع بينها بطريقة من الطرق . فالفرد قد يرى من الواجب عليه إرضاء أسرته وخدمتها وصرف جل وقته في ذلك ، وقد تكون له رغبة في الوقت نفسه في تحقيق طموحاته الشخصية ، وقد يرى أنه من الواجب عليه خدمة مجتمعه ، أو تحقيق مبادئ وأهداف معينة في الحياة وقد تتعارض هذه الواجبات والرغبات والأهداف مع بعضها .
إن أفضل طريقة لدرء التعارض بين الرغبات والواجبات هي الاحتكام لقوانين الشريعة الإسلامية، وإلى داعي العقل فيما لم يرد فيه نص شرعي ؛ فإذا عجز عقله استشار أهل الرأي والاختصاص والحكمة ، فإذا صعب اتخاذ قرار معين يقرأ دعاء صلاة الاستخارة .[34] فيقدم على ما يجد نفسه تميل إليه متوكلاً على الله سبحانه وتعالى .فالإنسان قد لا يستطيع أن يهتدي 4في كثير من الأمور بعقله وتجاربه إلى أختيار بديل من بين البدائل المختلفة لقلة المعلومات ، أو لصعوبة تقييم الموقف ، أو لشعور قوى في نفسه يدعوه إلى فعل أمرين متناقضين ، أو لغيرها من الأسباب ؛ إما إذا كانت هنالك جهة يثق في حكمتها وجميل اختيارها فإنه سيلجأ إليها وهو راض . وهذا اللجوء يزيل القلق ويخفف من الصراع الناتج من اتخاذ القرار.
أما إذا كان النزاع بين رغبات النفس وواجبات الدين ؛ فإن الإنسان يحتاج للتغلب على النزاع الناشئ في نفسه إلى مجاهداتها ؛ وقد يعاني الفرد في البداية الطريق ، ولكن النفس تسكن وتسعد بطاعة ربها وتوكلها واعتمادها عليه ورضاها بما أوجب وحكم (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ )(الأحزاب: من الآية36).
لا شك أن معرفة حكم الله قد تحتاج في بعض الحالات إلى جهد كبير وقد يقع الامر المراد معرفة حكم الله فيه تحت نصوص قد يبدو أنها متعارضة ؛ فيحتاج المجتهد إلى التوفيق بينهما ، ولكن سلواه قول الرسول صلى الله عليه وسلم :""إذا حكم الحاكم فاجتهد فاصاب فله أجران وإذا حكم واجتهد ثم أخطأ فله أجر.[35]
تجدر الإشارة هنا إلى أنه كلما كانت النفس مستقرة على فعل الخير ولا صراع في داخلها كان ذلك أفضل ، ولكن من ناحية أخرى فإن الذي تنازعه نفسه لفعل الشر ويختار الخير أفضل سعيد ؛ باعتبار ما سيؤول إليه حاله في الآخرة ، وباعتبار أنه إذا تجاوز هذه الحالة واستقرت نفسه على فعل الخير سعيد سعادة حقيقة ، إن التخلص من صراع النفس بالاستجابة لدواعي الشهوة والرغبة الحرام "والمدمرة في حقيقة الأمر"أو إزالة الصراع بغرض التكيف مع المجتمع الذي يمارس الحرام ، قد يحدث راحة ، ولكنها تكون راحة زائفة وكاذبة وفي مستوى أدنى الحياة الروحية والخلقية التي يقاوم الإنسان فيها دواعي الشهوة والهوى . إن رفض دواعي الشهوة رفضاً كاملاً حلالاً كانت أم حراماً ورفض التكيف مع المجتمع مهما كان كان والتنطع في التعامل معه أمر غير طبيعي وغير سليم.(/11)
فإن المؤمن يجب أن تستقر نفسه في امر إشباع رغباته وعلاقاته بأفراد مجتمعه على ما تسمح به الشريعة الإسلامية وما تتطلبه ، إن من أهم أسباب الصراع النفسي عند كثير من شباب المسلمين وشيبهم جهلهم بأحكام الشرع وعدم معرفتهم بما هو مشروع وحلال من شهوات النفس ورغباتها وماهو حرام ، علاج هذا هو التفقه في الدين ومعرفة أحكام الشرع.
ومن أسباب السعادة أن ينظر الإنسان إلى محاسن الآخرين ويغض النظر عن مساوئهم قال رسول الله : "لا يفرك مؤمن مؤمنة إن كره منها خلقاً رضى منها آخر" لأنه إذا تتبع عوراتهم ونقائضهم لم تنم بينه وبينهم محبة وتصعب عليه معايشتهم ، هذا لا يعني عدم إسداء النصح لهم ولا يعني ترك أمرهم بالمعرف ونهيهم عن النكر.
ومن أسباب السعادة : أن ينظر الفرد إلى من دونه وليس لمن فوقه، وإلى ما حقق وليس إلى ما لم يحقق، وتذوق نعم الله التي لا تحصى، وشكر الله على تلك النعم ( لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ )(ابراهيم: من الآية7). وعلى الفرد ألا يؤخر عمل اليوم لغد ، وأن يفرغ من واجباته أولاً بأول فالإنسان عادة إذا واجهه عمل صعب أو غير محبب أخره لغد ، لأن النفس عادة تخلد إلى الراحة ، ولكن تأخير ما لابد منه يزيد من مشكلاته ومصاعبه خاصة إذا ظهرت له أعمال أخرى تحتاج إلى وقت وجهد كبير ، فعليه بالصبر والمجاهدة حتى ينجز ما ينبغي عليه عمله . ومن أسباب السعادة تعود النظام والحفاظ على الصحة وصدق الالتزام والشجاعة والمرونة والتفاؤل والثقة بالنفس ووضوح الهدف وقوة الدوافع الداخلية والتحكم في السلوك والشعور بالمسئولية . وعلى الرغم من أننا ذكرنا عدداً لا بأس به من العوامل المساعدة على تحقيق السعادة ، ولكن كان ذلك دون استقصاء لكل العوامل والأسباب.
دور الجماعة والدولة في سعادة الفرد:
كان تركيزنا فيما سبق من حديث على الدور الذي يمكن أن يقوم به الفرد في تحقيق السعادة ، ولقد كانت الحلول والنصائح التي قدمناها موجهة للفرد.
لا شك أن للفرد دوراً كبيراً في تحقيق السعادة لنفسه ولغيره ، ولكن من ناحية أخرى لا يخفى ما للجماعة والدولة من دون الضروريات من المأكل والمشرب والملبس والمركب والزواج والعلاج وغيرها من ضروريات الحياة وحاجتها وكمالياتها، ولا شك أن المجتمع الذي يقوم على أساس من العقيدة الصحيحة ، والذي يوفر الأمن لأفراده ، والذي تسوده روح العدالة والحرية والمساواة والتعاون والمحبة والتكافل والتساند والإحسان والرحمة والشفقة والعفة والطهارة والفضيلة والعمل والبذل والتضحية والعزة والكرامة والشورى وغيرها من قيم الإسلام ومثله وفضائله ، وتنفي فيه الرذيلة ، وينتفي فيه الظلم والتفرقة والعنصرية والحسد والأنانية والبغض والغل والانتهازية والتكبر والاستعلاء والاستغلال ، لا شك أن هذا المجتمع يخلق للفرد حالة أمنية واقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية وعقدية وتؤدي إلى سعادته . وهذا الحالة تتهيأ للفرد من كل المجتمع الإسلامي.
إمكانية السعادة:
تعتمد إمكانية السعادة على تعريفها وعلى إمكانية حدوث أسبابها ؛ فالسعادة قد تعرف بطرقة يلزم منها استحالة تجريبية ؛ فإذا عرفنا السعادة بأنها صافية وغير مشوبة بالهموم والغموم والآلام فإنه سيكون من المستحيل تحققها في الدنيا ، فالسعادة الصافية غير ممكن حدوثها في الدنيا ، ونعني بالسعادة الصافية السعادة بمعنى تحقق الراحة الكاملة والمتعة الكاملة والمتعة الكاملة وتحقيق جميع الرغبات وإنتفاء جميع الاحزان والهموم والمتاعب والآلام والأمراض والمصائب والمكدرات.
وتحقق السعادة يعتمد على تحقق أسبابها ، وهناك ثلاثة أنوع من أسباب السعادة : استعداد الفرد وما يملك من مقدرات لنيل السعادة ، والظروف الخارجية التي تؤثر في نيل السعادة ، وسعى الفرد لتحقيقها .والاستعداد فيه ما هو مكتسب وفيه ما هو غير مكتسب ؛ فالاستعداد غير المكتسب قد يكون استعداد جسمياً أو عقلياً أو نفسياً ، والاستعداد المكتسب هو الذي يكتسبه الفرد بإرادته وجهده وسعيه . والظروف الخارجية فيها ما يمكن أن يتحكم فيه ظروفهم واستعداداتهم مواتية لنيل السعادة وبعض الناس تكون استعداداتهم وظروفهم غير مواتية لنيل السعادة . فالاستعدادات والظروف أقدار ، فالسؤال هل يمكن للفرد أن يتحكم فيها بإرادته وبسعيه مهما كانت استعداداته وظروفه . أن السعادة شيء داخلي لا يؤثر فيها عامل خارجي ، وتخضع لإرادة الإنسان ، فالإنسان يمكنه أن يتغلب على كل مشكلة وكل صعوبة تواجهه ويقبل كل مكروه يقع عليه ؛ إنه يمكن أن يرضي بالفقر والحرمان والأمراض والآلام مهما كانت . وسنناقش هذه المسألة عند الحديث عن مفارقة الرضا وعند الحديث عن مفهوم الإبتلاء.
خصائص السعادة :
اعتماداً على ما تقدم ذكره يمكن ذكر بعض خصائص السعادة بإيجاز على النحو التالي:
- إن للسعادة معايير موضوعية يمكن بموجبها الحكم على سعادة الأفراد والجماعات .(/12)
- تتحقق السعادة بأمور متنوعة "مادية ، نفسية ، عقلية ، روحية ، ذوقية ، وسلوكية" .
- تتصل السعادة بكيان الإنسان كله وحياته كلها.
- تتحقق السعادة بالتزام الفرد والمجتمع بنظام وقيم معينة .
- يخضع تحقيق السعادة لظروف وعوامل خارج إرادة الإنسان.
- تعرض الأفراد لهذه العوامل والظروف يختلف من فرد إلى فرد.
- يمكن أن يسيطر الإنسان على هذه الظروف والعوامل إلى حد ما ، لأن الإبتلاء قد يكون فوق قدرته وطاقته في التحمل ؛ ولا يعني هذا تحمل الابتلاء والتضجر منه.
معتقدات خاطئة عن السعادة
المال والسعادة :
يرى كثير من الناس أن السعادة تتحقق بجمع المال ، فبالمال يمكن للإنسان أن يحصل على متع الحياة ولذاتها ، لكن هذا الرأي لا يقوى للاختبار ، لأن في جمع المال والحفاظ عليه مشقة ،وكذلك تنتج مشكلات مختلفة عند إنفاقه . يقول ابن القيم عن المال "إنه مقرون بالخوف والحزن فصاحبه حزين قبل حصوله خائف بعد حصوله "وقال إن هنالك نصباً في تحصيله وجمعه وضبطه وقال : "إن غني المال يستدعى الإنعام على الناس والإحسان إليهم فصاحبه إما أن يسد على نفسه الباب وإما يفتحه ، فإن سده على نفسه اشتهر عند الناس بالبعد عن الخير والنفع فابغضوه وذموه واحتقروه .. وإذا عرف من الخلق أنهم يمقتونه ويبغضونه ولا يقيمون له وزناً تألم قلبه غاية التألم وأحضر الهموم والغموم والأحزان .. وإن فتح باب الإحسان والعطاء فإنه لا يمكنه إيصال الخير والإحسان إلى كل أحد ؛ فلا بد من إيصاله إلى بعض دون الآخر، وهذا يفتح عليه العداوة والمذمة من المحروم والمرحوم أما المحروم فيقول كيف جاد على غيري وبخل علي؛ أما المرحوم فإنه يتلذذ ويفرح بما حل له من الخير والنفع فيبقي طامعاً مستبشراً لنظيره على الدوام، وهذا قد يعتز غالباً فيفضي ذلك إلى العداوة الشديدة والمذمة . فالمال لا يحصل إلا بالمشاق والآلام . ولتعلق القلب بالمال وحفظه وحراسته ؛ فإن صاحبه لا يصبح إلا مهموماً ولا يمسى إلا مغموماً ، فهو بمنزله عاشق مفرط المحبة قد ظفر بمحبوبه والعيون من كل جانب ترشقه ؛ فأي عيش ولذة لمن هذه حالة وقد علم ان أعداءه وحساده لا يفترون عن سعيهم في التفريق بينه وبين معشوقه . إن لذة الغني بماله مقرونة بخلطة الناس ؛ وإن لم يكن إلا خدمة وأزواجه وسراريه وأتباعه ، إذ لو انفرد الغني بماله وحده من غير أن يتعلق بخادمه أو زوجه أو أحد من الناس لم يكتمل انتفاعه بماله ولا التذاذه به، وإذا كان كمال لذته بغناه موقوف على اتصاله بالغير ، فذلك منشئ الآفات والآلام ؛ ولو لم يكن إلا اختلاف الناس وطبائعهم وإراداتهم ؛ فقبيح هذا حسن هذا ، ومصلحة ذلك مفسدة هذا ، ومنفعة هذا مضرة هذا ، وبالعكس فهو مبتلى بهم ، فلا بد من وقوع النفرة والتباغض والتعادي بينهم وبينه ، فإن إرضاءهم كلهم محال . وهو جمع بين الضدين،وإرضاء بعضهم وإسخاط غيرهم سبب الشر والمعاداة . وكلما طالت من جانب الغني بالمال . أما إذا لم يكن فيه فضيلة لهم فإنهم يتجنبون مخالطته ومعاشرته فيستريح من أذى الخلطة إنما حصلت من جانب الغني بالمال . أما إذا لم يكن فيه فضيلة لهم فإنهم يتجنبون مخالطته ومعاشرته فيستريح من أذى الخلطة والعشرة .[36]
ولكن المال يمكن أن يكون سبباً في السعادة إذا أحسن الإنسان التصرف فيه وأنفقه في سبيل الله ، عن أبي هريرة رضى الله عنه "أن فقراء المهاجرين أتوا الرسول صلى الله عليه وسلم فقالوا : ذهب أهل الدثور بالدرجات العلا والنعيم المقيم يصلون كما نصلى ويصومون كما نصوم ولهم فضل أموال يحجون ويعتمدون ويجاهدون ويتصدقون فقال: ألا أعلمكم شيئاً تدركون به من سبقكم وتسبقون به من بعدكم ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثلما صنعتم قالوا بلى يا رسول الله قال : تسبحون وتحمدون وتكبرون خلف كل صلاة وثلاثين قال أبو صالح الراوي عن ابي هريرة رضى الله عنه لما سئل عن كيفية ذكرهن قا ل: يقول سبحان الله والحمد لله والله أكبر حتى يكون فيهن كلهن ثلاثاً مرة "[37] قال صلى الله عليه وسلم : نعم المال الصالح للرجل الصالح . المال إبتلاء يجب تحمله بحسن التصرف فيه . فإذا اعتبر هدفاً في ذاته تسبب في الكثير من البلايا والهموم والغموم والآلام والمال سبب في إدخال السرور إلي نفوس المحتاجين وبذاك يكون سبباً في إدخال السرور علي منفقه .
العلم والسعادة :-(/13)
يري ابن القيم أن العلم بخلاف المال يحدث لذة وسعادة حقيقية ، ولكني أري انه مثل المال قد يحدث لذة أو ألماً لان لذة العلم مشوبة كذلك، لان العلم يتحصل عليه الإنسان بالمعاناة كما هو الحال بالنسبة للمال، وقد يكون للعالم حساد ومعارضون يفسرون كلامه بطريقة غير صحيحة وغير منطقية وغير منصفة، فيحرف فيقول أنه قال كذا وكذا دون أن يكون قال ذلك، وهذا يحزنه وقد ينتقد كلامه من ليس أهلاً للنقد ، وقد يتحامل عليه النقاد وينتقدونه نقداً غير عادل، وقد يفضل عليه في من هو أقل منه علما،ً وقد يجره علمه إلي السجن والضرب كما حدث لكثير من العلماء، إن العلم مسئولية فالعالم إن تحدث أو كتب يخاف الخطأ، وإن سكت وكتم يخاف عقوبة الكتمان، إن العلم واسع ولا حدود له والعمر قصير قد يصرف الإنسان وقته في علم "كما حدث لبعض العلماء" ويتبين له أن صرف في علم لا يفيد كثيراً، وهنالك مشكلات تتعلق بالنشر، فقد تنشر ما لا يستحق النشر ولا ينشر ما يستحق النشر، وقد تمنح الدرجات والتقريرات والجوائز لعلماء لا يستحقونها ولا تمنح لمن يستحقونها، وغيرها من الأسباب التي تكدر التلذذ بالعلم ولكن من جعل علمه لخدمة المسلمين ولمرضاة الله ووطن نفسه علي ذلك فأنه يسعد بعلمه .
من ناحية أخرى فأنه لا شك أن العلم سبب من أسباب سعادة المجتمع وركن يعتمد عليه قوامه وبه تكون قوته العسكرية والاقتصادية والثقافية والإعلامية .
أسباب السعادة الآخري :-
كذلك إذا نظرنا إلي الأسرة الزوج والزوجة والأولاد بوصفها من اسباب السعادة نجد انها قد تكون سبباً من أسباب المعاناة: معاناة الأنفاق علي افرادها والسهر علي راحتهم وقضاء حوائجهم، بالإضافة إلي هذا فإن صاحب الأسرة قد يواجه مشكلة تربية الأولاد وضمان مستقبلهم، وغيرها من المشكلات وما يتصل بها من إبتلاءات، ولكن إذا وفق الإنسان في أسرته فأنها لا تصفو لأحد، وهكذا في جميع مسببات السعادة الدنيوية فانها لا تصفو لأحد قلما توجد سعادة صافية إلا في الدار الباقية حيث لا هموم ولا أحزان ولا أكدار يقول الله تعالي : (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ) (فاطر:34) ما بعد السعادة :
الابتلاء والسعادة :-
إن الدنيا دار إبتلاء فالله سبحانه وتعالي يبتلي الناس فيها بأصناف شتي من الإبتلاءات بالهموم والغموم والآحزان والهزائم والقتل وبما يكرهون أنه يبتليهم مؤمنين كانوا أم غير مؤمنين يقول تعالي : (وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً) (النساء:104) (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) (آل عمران:185) ويقول تعالي : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) (البقرة:214) ويقول تعالي : (إِنَّا خَلَقْنَا الإنسان مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً) (الإنسان:2) ويقول تعالي : ( وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) (البقرة:49) وضرورة من ضروريات الحياة "ولكنه ليس سبباً كافياً " فالعلم من الأمور التي يجد فيها بعض الناس سلوى عظيمة وملجأ جميلاً من تعب الحياة ومشقاتها وفيه متعة وترويح وبه تزول شكوك الإنسان وظنونه وحيرته والشبهة التي ترد عليه .(/14)
إن أفضل العلم عظيم في نبال الإنسان العليا يوم القيامة )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (المجادلة:11) لكن السعادة المتصلة بالعلم لا تصفو إلا إذا اراد به صاحبة ثوابه ومرضاته بالإضافة إلي ما ذكرنا فالعلم سبب من أسباب سعادة ) : (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) (آل عمران:152) :(إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمّاً بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (آل عمران:153) فالمؤمن يبتلي بالمكارة للتمحيص والإختبار والتطهير من الذنوب والصقل وأذا صبروأحتسب يجد الجزاء الأوفى في الآخرة ،أى كرباً بعد كرب قتل من قتل من اخوانكم وعلو عدوكم عليكم وما وقع في أنفسكم من قول قتل نبيكم فكان متتابعاً عليكم غماً بغم [38]
وافضل البشر رسول الله وجد من اذى الكفار 0ما وجد ففي غزوة احد إصيبت رباعية رسول الله صلي الله عليه وسلم ويحزن لتكذيب الكفار ومكرهم به قال تعالي : (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ) (الأنعام:33) ولقد تقدم أنه شرع الدعاء وورد عنه صلي الله عليه وسلم، فالمؤمنون تصيبهم المكارة من أمراض وغيرها ففي حديث إبي سعيد الخدرى رضي الله عنه : دخل رسول الله صلي الله وسلم المسجد سفي غير وقت الصلاة فإذا برجل به يقال له ابو أماماة جالسا فيه فقال يا ابا إمامة مالي اراك جالساً في المسجد في غير وقت الصلاة قال هموم لزمتني وديون يا رسول الله قال صلي الله عليه وسلم (افلا اعلمك كلاماً إذا قلته اذهب الله همك .. إلي اخر الحديث )
يقول بعض الناس : أن الإنسان قد يصل إلي درجة في العبادة لا يشعر فيها الإ باللذة ومتعة دائمة . هذا امر ينافى ما ذكرناها من ادلة إن المؤمن الذى تكون له أسرة وعمل واطفال يود تربيتهم والعناية بهم، الذى يتعامل مع الناس بالبيع والشراء وانواع المعاملات، والذى يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر والذى يجاهد في الكفار والمنافقين، لابد ان يجد عنتاً ومشقة في ذلك ولابد ان يجد ما يكره من الأعراض أو المخالفة أو الأذى، والمؤمن الذي يحزن إذا تفوق الكفار علي المسلمين في القوة والعتاد – وهو الحال اليوم ويحزن لأذلال المسلمين والبطش بهم، ويحزن لموالاة بعض المسلمين للكفار، ويحزن لكيدهم بعضهم بعضا،وإذ تصورنا أن المسلم اليوم قد لا يحزن لحادثة من حوادث الدنيا ومما يجد فيها من مكاره، فان المؤمن يخاف من مصيره ٍفي الآخرة يخاف من الحساب وهول العقاب وشدته، ومن الصراط والميزان يقول الله تعالي : ( وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ) (المؤمنون:60) إى يتصدقون وقلوبهم خائفة يظنون أن ذلك لا ينجيهم من عذاب الله لأنهم راجعون وسبب الوجل هو أنهم يخافون ألا يقبل منهم ذلك علي الوجه المطلوب [39]
السلوى :-
سلوى المؤمن تشتمل علي في رجائه رفع البلاء ورجائه ثواب الآخرة يقول تعالي : (وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً) (النساء:104) )وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (آل عمران:139) يقول تعالي : )إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) (آل عمران:140) ،و الله عز وجل وعد المؤمن إما الشهادة أو الفوز بالجنة وإما النصر لكن سلوى المؤمن إنه ما من شئ يصيبه إلا كتب اله له اجراً يقول صلي الله عليه وسلم "ما من شئ(/15)
يصيب المؤمن حتى الشوكة تصبيه إلا ما كتب الله بها حسنة أو حطت عنه خطيئة[40] وقال صلي الله عليه وسلم "ما يصيب المؤمن من وصب ولا تعب سقم ولا حزن حتى الهم يهمه إلا كفر به من سيئاته " [41]ومن سلوى المؤمن آن الله يلطف بعباده ويخفف البلاء عنهم يقول الله تعالي : ( إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ) (لأنفال:11) ومن سلوى المؤمن هنالك دواعي للرضا بالابتلاء، ذكر منهم إبن القيم الجوزية ستين داعياً نذكر بعضها ونترك التفصيل عند الحديث عما سميناه بمفارقة الرضا إن من دواعي الرضا إن الابتلاء قدر من أقدار الله وان الله يبتلي المؤمنين بحسب درجاتهم اشد الناس بلاء الأنبياء ثم الصالحين[42] والمؤمن يرضى لانه مفوض والمفوض بكل ما اختاره[43] له من فوض إليه ولا سيما إذا علم انه جاهل بعواقب الأمور وسيده أعلم بمصلحته وبما ينفعه [44] والمؤمن يرضى البلاء لانه يعلم بأنه إذا رضي انقلبت الأمور في حقه نعمة ومنحة وخف عليه حمله واعين عليه، وإذا سخط تضاعف عليه وثقل كله ولم يزد إلا شدة، فلو أن السخط يجدي عليه شيئاً لكان له فيه راحة أنفع له من الرضا[45]، ومن سلوى انه يرجو رفع البلاء في الدنيا وثواب الآخرة فيشعر بنفحات السعادة تتحلل أوقات الألم والهم والحزن.
مفارقة الرضا : -
يقول إبن القيم الجوزية "وليس من شرط الرضا ألا يحس بالآلم والمكاره بل أن لا يعترض علي الحكم ولا يسخطه ولهذا أشكل علي بعض الناس الرضا بالمكروه وطعنوا فيه، وقالوا هذا ممتنع عن الطبيعة وإنما الصبر وإلا فكيف يجتمع الرضا والكراهة وهما ضدان. وأعطى حلاً لهذه المفارقة فقال " والصواب إنه لا تناقص بينهما وإن وجد التألم وكراهة النفس له لا ينافي الرضا كرضاالمريض بشرب الدواء الكريه، ورضا الصائم في اليوم الشديد الحر بما يناله من ألم الجوع والظمأ ورضى المجاهد بما يحصل له في سبيل الله من ألم الجراح وغيره "[46]
الرضا رضي بمكروه وبشيء غير محبب للنفوس والشيء غير المحبب للنفوس كالآلام والهم والغم، إذن فالرضي رضى بشيء لا يرضى به الإنسان لكن إذا عرفنا بأنه رضي بمكروه لغيره، فأن ما هو مكروه لغيره قد لا يكون مكروهاً له، والمكارة إبتلاءات يبتلي بها المؤمن، ولا يمكن أن يبتلي المؤمن بما يحب، والحل الذي أشار إليه إبن القيم أنه يرضي به لآجل محبوب كرضا المريض بالدواء لكي يجد نعمة العافية، فرضا المؤمن المبتلي بالآلم والهم والغم يكون لآجل اللذة والمتعة والسعادة التي يجدها في الآخرة، فهو يرضى بقدر الله تعالي ويصبر ويحتسب رجاء ثواب الله في الآخرة، فسعادة المؤمن يتمنى ويرجو زوال المكروه في الدنيا، لذلك دعا الرسول صلي الله عليه وسلم لزوال المكاره، وشرع ذلك وشرع التداوي، ووردت أدعية كثيرة عنه صلي الله عليه وسلم يدعو بها الصحابة والصالحون : قد يستثني بعض المتصوفة من ذلك، فقد كانوا يتمنون المكارة لكي يجدوا ثواب الآخرة " وتجدر الإشارة إلى أن المعاناة كانت سبباً في إبداعات ومساهمات عظيمة في تاريخ البشر، وأن المعاناة في كثيرمن الأحيان يتبعها إنجاز و تتبعه سعادة ورضى .
سعادة الآخرة:(/16)
إن السعادة في الإسلام تشمل سعادة الدنيا وسعادة الآخرة وسيتضح أن السعادة الحقيقية هي سعادة الآخرة . وهذا البحث يهتم في المقام الأول بسعادة الدنيا – إمكانياتها ومقوماتها وأسبابها – لأجل ذلك سيكون حديثنا عن سعادة الآخرة موجزاً . إن الحديث عن وجود سعادة الآخرة يحتاج إلي برهان وجود الجنة كما وصفها القرآن الكريم وكما وصفتها السنة الشريفة . على هذا الأساس عندما يقال عن إنسان إنه سعيد قد يقصد بذلك سعيد الدنيا ’ لأنه حقق ما يريد ’ وقد يقصد به أنه سيكون سعيداً أي ستؤول حاله إلي حال سعيدة ’ فقد نصف شخصاً مثلاً بأنه سعيد ’ لأنه سينتقل إلي مكان وبلد يكون عيشه فيها سعيداً ورغداً . وكذلك يقال عن المؤمنين الصالحين إنهم سعداء" في عالم الذر وفي علم الله أو هم أجنة في بطون أمهاتهم " لماسيؤول إليه حالهم في الأخرة من النعيم المقيم واللذة والمتعة الدائمة . ويقال عن الكفار أشقياء لما سيؤول إليه حالهم من العذاب الأبدي . والقرآن وصف سعادة الآخرة ووصف فيها لذات حسية ومعنوية مع الفارق مقارنة بلذات الدنيا . ذكر جان كزنوف في معرض نقده لمفهوم السعادة في الإسلام كلاماً قال فيه : إن القرآن يصف نعيم الجنة التي فيها سعادة المسلم بأنه يحوى لذات حسية ويصف هذا النعيم بأنه دائم والحياة فيه خالدة فقال ناقداً لصورة النعيم التي وردت في القرآن"إن الخلود يبعث على الملل[47] وهل تعرفون شهوات لا يؤول أمرها إلي الغثيان ’ ولا سيما عندما ينالها أصحابها بدون كفاح وعندما يكفى أن يمدوا أيديهم للحصول عليها.. أي ملل نشعر به إذا ما قدمت إلينا باستمرار وإذا لم يتح لنا الوقت لاشتهائها ’ ولكن لا بد أن تجرى الأمور على هذا النحو في جنة النعيم ’ وذلك لانكم لو أدخلتم إليها الانتظار والحرمان لكنتم على درب الألم’’. [48] نقول أن سعادة الجنة ينالها أصحابها بكفاح في الدنيا مثلهم مثل عامل كد وتعب أثناء العام وحصل بعد ذلك على عطلته السنوية وقضاها في فندق مريح . ومما يزيد سعادة الفرد أنه إذا كان في الماضي يكد ويتعب وصار له حاضر سعيد ’ فإن سعادته تزداد بتذكره عناء الماضي (إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين)’(الحمد الله الذي أذهب عنا الحزن)’(لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب). وإذا كان في الحاضر شقياً وفي الماضي سعيداً فإن شقاوته في الحاضر تزداد بتذكره الماضي .(إن الخاسرين الذي خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين).
وقال: "إن أوجه الشهوات من النساء والشراب والأكل إنما جعلت لإرضاء ذوق العربي "[49] لكن تنبه الكاتب بعض الشيء لما قد يكون رداً على اعتراضاته ’ فقال قد يقال "لا تحكموا على الفردوس بأذواقكم وأحكامكم الأرضية".[50] لا تتحدثوا عن الملل والسأم والقلق ’ لكن جان كزنوف لا يعجبه هذا الرد فيعترض عليه بقوله :"إننا سنكون أمام أوصاف للجنة لا تخاطب الخيال والحساسية".[51]
نقول رداً على هذا الكاتب أن القرآن ذكر لذات حسية ولذات معنوية، والملذات الحسية التي ذكرها القرآن مثل لذة أكل الفاكهة وشرب الخمر والاستمتاع بالنساء ’ وليست فواكه الجنة وخمرها ونساؤها كفواكه الدنيا وخمرها ونسائها، إنها وصفت بهذه الصورة – والله أعلم – لكي يدركها الإنسان ’ ولكي يكون لديه إحساس بها يولد حافزاً للعمل لنيلها . ولكن القرآن لم يكتف بوصف الجنة بهذه الطريقة إنما وصفها بأوصاف الكمال ’ فقال عز من قائل (لهم مايشاءون فيها ولدينا مزيد)(ق:35). وللإنسان أن يطلق لخياله العنان في تصور ما بها من نعيم، وكذلك يصفها الرسول صلى الله عليه وسلم بأن فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر . كما أن الملذات التي وردت في القرآن في وصف لذات الجنة ليست حسية فقط – مع أنني لا أرى مبرراً للتقليل من قدر هذه الملذات الحسية وعدم اعتبارها لذات تؤدي إلي سعادة حقيقة – فالقرآن يصف أصحاب الجنة بأنهم (على سرر متقابلين)(الصافات:44). يستمتعون بلذة الصحبة والمحادثة . إن إلذ الأمور في الجنة وأكثرها بهجة ومتعة النظر إلى وجه الله الكريم قال تعالى :(للذين أحسنوا الحسنى وزيادة)(يونس:26). قيل "الحسنى" :نعيم الجنة "وزيادة": النظر إلى وجهه الكريم . ويقول الله تعالى(ورضوان من الله أكبر)(التوبة:72)’ عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله يقول لأهل الجنة : يا أهل الجنة ’ فيقولون : لبيك ربنا وسعديك والخير في يديك ’فيقول :هل رضيتم ’ فيقولون ربنا وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعطه أحداً من خلقك ’ فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك ’ قالوا: ربنا وأي شيء أفضل من ذلك’ قال: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبداً.(/17)
إن جان كزنوف ظن خطأ أن أهل الجنة يصيبهم الملل والأم ’ وأن الخلود قد ينتج منه الرغبة في زواله ’ لكن القرآن يثبت أن أهل الجنة لا يريدون زوال ما هم فيه من نعيم يقول تعالى:(خالدين فيها لا يبغون عنها حولاً)(الكهف:108). وهذا أمر متصور عقلاً’ وكذلك يمثل وجوداً لأن العليم الخبير أخبر عنه . إن لذات الدنيا مشوبة بالألام والهموم والأحزان ’ ولكن لذات الجنة خلاف ذلك يقول تعالى (لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون)(الصافات:47) ’ يقول تعالى (وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن)(فاطر:34). لأجل ذلك لا يريد الإنسان زوالها.
إن المشكلة التي أثارها الكاتب هنا هي مشكة الحديث عن عالم مغاير ووجود مغاير للعالم الذي نعيش فيه. ولقد بحث هذه المشكلة علماء المسلمين عندما واجهتهم مشكلة فهم صفات الله سبحانه وتعالى. وفي اعتقادي أن اللغة يمكن أن تتخطى عالم الشهادة وتتحدث عن عالم الغيب والعالم العلوي.
---------------------------------------------
[1] عبد السلام عبد الغفار ،مقدمة في الصحة النفسية ، القاهرة ، دار النهضة ، ص 20.
[2] تهذيب الأخلاق ، ابن مسكويه ، ص 72 ، حققه ابن الخطيب ، المطبعة المصرية ومكتبتها ، ص 72.
[3] Happiness and the limit of Satisfaction , Deak w,Hudson Row man & Little field pubishers , inc , Lodon , 1996, P. 64.
[4] Moral comcepts ed , By Joel Feinherg, , Oxford, Oxford University press, 1969, p,49 .
[5] Concepts of Happiness, Richard Krut , Philosophical Review , 87.No.2(April 1979), p 171
[6] تهذيب الأخلاق ، ابن مسكويه ص 90.
[7] المصدر نفسه ، ص 90-92.
[8] المصدر نفسه ، ص 90
[9] المصدر نفسه ، ص 90
[10] المصدر نفسه ، ص 90
[11] المصدر نفسه ، ص 95
[12] المصدر نفسه ، ص 97
[13] المصدر نفسه ، ص 90
[14] المصدر نفسه ص 98 .
([15] )احياء علوم الدين ، أبو حامد الغزالي ج3 دار الكتب العلمية ، بيروت 1986 ص 62.
([16]) the oxford Companion to philosophy , ed Ted Honderech , p 332-33. Happiness and Limits of Satisfaction
[17] two Concepte of Happiness p. 176.
[18]
[19] أخرجه ابن حبان في صحيحه ج 9 حديث رقم ، 4032 عن سعد بن أبي وقاص .
[20] فتح البارئ شرح صحيح البخاري ، ج9 ، ص 104.
[21] تتمثل الصحة النفسية في أن يكون الإنسان خالياً من الأمراض العصبية كالقلق النفسي والعصاب القهري والوسواس والفزع وخالياً من الأمراض الذهانية كالفصام والبرونيا ، وتشمل الكآبة والهوس الدوري والكآبة الذهانية وغيرها والأمراض الذهانية العضوية كالهذيان وذهان إلتهابات المخ وذهان الصرع وذهان الكحول وغيرها ويكون خالياً من أمراض التخلف العقلي والأمراض السايكوسوماتية والإضطرابات السايكلوجية والاجتماعية وغيرها.
[22] جاء في الترمذي في جامعة كتاب 9 باب النكاح من سنن المرسلين ، 5/421.
[23] جاء في ابن حبان في صحيحه حديث رقم 6518 عتن جابر بن عبد الله.
[24] أخرجه ابن حبان في صحيحه عن أنس بن مالك الجزء التاسع حديث رقم 4028، وحديث رقم 4056، وعن معقل بن يسار 19 حديث رقم 4057.
[25] سايكولوجية السعادة ، مايك أرجابل ، ترجمة فيصل عبد القادر يونس ، عالم المعرفة الكويت ، 1987م.
[26] المصدر نفسه ، ص 31.
[27] المصدر نفسه ، ص 31
[28] أخرجه البخاري في كتاب الإيمان حديث رقم 15 وأخرجه مسلم في الإيمان حديث رقم 60 ، أخرجه الترمذي في الإيمان حديث رقم 2548.
[29] المصدر نفسه ، ص 33
[30] المصدر نفسه ، ص 33
[31] انظر صحيح ابن حبان عن جدب البجلي ، ج2 ، حديث رقم 406.
[32] جاء في الموطا بمثله ، كتاب 56 حديث 25224 ما جاء في التقي .
[33] سايكولوجية السعادة مايكل ،ص 38.
[34] المؤنم يستخر الله في كل أمر صعب عليه الاختيار أم لم يصعب ، قال جابر بن عبد الله رضى الله عنهما : كان رسولالله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كما يعلمنا السورة من القرآن ، يقول "إذا هم أحدكم بأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل : اللهم أني استخيرك بعملك واستقدرك بقدرتك وأسالك من فضلك العظيم فإنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب ، اللهم إن كنت تعلم هذا الأمر .. ويسمى حاجته – خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري أو قال عاجل أمري وآجله – فاقدره لي ويسره لي ثم بارك لي فيه ، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري أو عاجله وآجله – فاصرفه عني وأصرفني عنه وأقدر لي الخير حيث كان ثم أرضني به " رواه البخاري : 7/162.
[35] حديث متواتر المعنى أخرجه أحمد والشيخان وأصحاب السنن إلا الترمزي ، وانظر : الاجتهاد في الشريعة الإسلامية، ص 169.
[36] مفتاح دار السعادة ، ابن قيم الجوزية ، ص 120-122.(/18)
[37] متفق عليه ، زاد مسلم في رواية : (فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : سمع إخوتنا أه لالأموال ما فعلنا ففعلوا مثله ؟ فقال ص : ذلك فضل الهل يوتيه من يشاء " الدثور : هو المال الكثير )
[38] تفسير بن كثير لجزء الأول : 417
[39] زبدة التفسير من فتح القدير مختصر من تفسير الشوكاني محمد سليمان عبد الله الأشقر ص 541
[40]أخرجه البخارى في المرضى رقم 5209 وأخرحه مسلم في البر والصلة والأدب حديث رقم 4664 أخرجه الترمزى في الجنائز حديث رقم 888 واخرجه بن احمد حنبل في ج 39/6 وأخرجه مالك الموطا رقم 1496.
[41] أخرجه البخارى في المرض رقم 5210 وأخرجه مسلم في البر والصلة والأدب حديث رقم 2694 واحمد بن حنبل في المسند ج 3/303 . 335 . 4022.
[42] جامع الأصول في أحاديث الرسول صلي الله عليه وسلم حديث رقم 431 .
[43] إبن القيم الجوزية ، مدراج السالكين الجزء الثاني ص 214
[44] المصدر نفسه .
[45] المصدر نفسه ص 315
[46] مدراج السالكين ، الجزء الثاني غبن القيم الجوزية ص 210
[47] السعادة والحضارة ’جان كزانوف ’ ترجمة عادل العوا مطبعة جامعة دمشق ’ دمشق ’ 1972 ’ ص5.
[48] المصدر نفسه ’ ص5.
[49] المصدر نفسه ’ ص 36.
[50] المصدر نفسه ’ ص 14.
[51] المصدر نفسه ’ ص 5.(/19)
مفهوم الدين
بين الحقيقة والتحريف !
د.عدنان علي رضا النحوي
كلمة " الدين " كلمةٌ عمّت الشرق والغرب والتاريخ البشري واللغات المختلفة ، والأمم والشعوب كلٌّ يدَّعي أن له ديناً ثم يعرض دينه الذي لديه .
ولكن هذه اللفظة في اللغات الأخرى غير العربيّة لها معنى خاص يختلف كلّ الاختلاف عن المعنى الذي تحمله هذه الكلمة في اللغة العربيّة . ومع ضغط الغزو الغربيّ على العالم الإسلامي ، غزواً فكريّاً وعسكريّاً ، تأثر كثير من المسلمين بالفكر الغربي ومصطلحاته ومدلولاتها ، واختلطت المعاني في كثير من الأذهان ، وحسب الكثيرون أن كلمة " Religion " في الإنجليزيّة مثلاً ، وأمثالها في لغات أخرى ، تحمل نفس معنى كلمة " دين " في الإسلام وفي اللغة العربية . ولكنّ الحقيقة هي أن هنالك فرقاً واسعاً جداً بين كلمتي " دين " و" Religion ".
كلمة " دين " في اللغة العربيَّة تحمل عِدَّةَ معانٍ وردت كلها في القرآن الكريم : الجزاء ، المكافأة ، ومنه : يوم الدين ، ومنه اسم الله سبحانه وتعالى الدّيان . والدين : الملك ، الحكم ، السلطان ، الطاعة ، والمدينة : الأمّة ، المدين : العبد ، والدين : الجمع .
والكلمة الإنجليزية " Religion " لا تحمل إلا معنى الطقوس ، ولا تحمل المعاني التي تحملها كلمة " الدين " ، فمن الخطأ أن نترجم كلمة " Religion " بـ " دين " ، فالفرق واسع ، ولا يوجد لدى غير العرب لفظة تعادل كلمة " دين " والإسلام دينٌ يحمل جميع المعاني السابقة ، لتجتمع كلها في المعنى الرئيس لكلمة دين : منهج كامل قام للحياة كلها ، الدنيا والآخرة :
( ... الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً ... )
[ المائدة : 3]
فمن مسؤولية المسلمين جميعاً أن يبيّنوا للعالم كله ما هو الإسلام الذي ارتضاه لعباده ، وما معنى كلمة دين ، وكيف أنها لا تُترْجم ولكن تشْرح معانيها ، ليكون الشرح جزءاً من التعريف بدين الإسلام ، الدين الذي يجمع أمور الحياة كلها: الاجتماعية ، والتربوية ، والنفسيّة ، والاقتصادية ، والسياسية ، والتشريع الكامل ، والحكم ونظامه ، والدولة وسلطانها ، والمسؤوليات للفرد والأسرة والأمة كلها ، وجميع التكاليف التي نزل بها الوحي الكريم على محمد r ، والشعائر ، والعبادة كلها ، والأمانة ، والعمارة ، والخلافة ، وتعاون الشعوب على أساس إقامة دين الله ، الإسلام ، والدعوة إلى الله ورسوله وتبليغ الإسلام وتعهّد الناس كافة عليه ، لإخراجهم من الظلمات إلى النور ، ومن النار إلى الجنّة بإذن الله تعالى ، وجهاداً في سبيل الله ، وسائر المسؤوليات التي وضعها الله أمانة في عنق الأمة المسلمة :
( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ )
[ آل عمران :110]
ومن أهم المسؤوليات التي كلّف الله بها عباده أن يحملوا هذا الدين دعوة وبلاغاً وتعهّداً وجهاداً في سبيل الله حتى تكون كلمة الله هي العليا في الأرض كلها . فهذه هي حقيقة الأمانة والعبادة والخلافة والعمارة التي خَلَقَ الله الإنسان للوفاء بها في هذه الحياة الدنيا من خلال ابتلاء وتمحيص ، ومن خلال عهد وميثاق ، ليُحاسَب عليها الناس يوم القيامة .
إنّ هذا الدين الإِسلامي جاء لهذه الغاية ، ليحَدِّد مُهمَّة الإِنسان في الأرض ، والغاية التي خَلقَه الله منها .
والناحية الأخرى التي ترتبط بهذه القضيّة هي أن الله سبحانه وتعالى ، وهو الواحد الأحد ، ما كان ليبعث لعباده أدياناً مختلفة يتصارع الناس عليها ، حين يريد الله من عباده كلهم أن يؤمنوا إيماناً واحداً ليدخلوا جميعاً في طاعته ورحمته ما أطاعوا والتزموا . فالدين عند الله واحد هو الإسلام ، دين جميع الأنبياء والرسل الذين ختموا بمحمد r .
( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ )
[ آل عمران :19]
أما المصطلح الذي شاع بين الناس : " الأديان التوحيدية السماوية " ، وما شابهه ، فهو مصطلح خاطئ متناقض ، لا يتناسب مع معنى التوحيد ولا معنى الألوهية ، ولا معنى الدين ، فالدين عند الله دينٌ واحد هو الإسلام .(/1)
ومن ذلك نرى أنه خارجَ دين الله ، خارجَ التوحيد ، قد توجد أديان يصنعها البشر ، إِما من عند أنفسهم أو من تحريف دين الله مع الزمن . وهذه الأديان غير التوحيدية يمكن أن نضعها كلَّها في إطار " دين غير توحيدي "، لا يدعو إلى الله ورسوله ، ولا يتبنّى الوحي المنزّل من عند الله على رسله الذين ختموا بمحمد r، خاتم الأنبياء والمرسلين . فهنالك إذاً دين الله ، دين التوحيد ، دين واحد جاء برسالات متعدّدة مع الرسل والأنبياء ، ودين غير دين الله :
( قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ . لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ . وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ . وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ . وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ . لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ )
[ الكافرون :1ـ6]
مفاصلةٌ وحسمٌ في الدين والمعتقد ، لا مجال فيه للمراءاة أو المجاملات أو المساومات : دين الله دين واحد هو الإسلام ، ودين الكافرين ، ولا يوجد أديان متعددة ، إلا في نطاق دين الكافرين !
وعند الخروج عن هذا التصوّر يضطرب الفكر ويختلط ، وتضطرب التصورات ، وتخرج أفكار ومصطلحات !
فحوار الأديان مثلاً مصطلح غريب حسب ما يُطْرَح في واقعنا اليوم ، وغريب من حيث كلمة " الأديان " ! والله يقول : دين واحد ! أفنكذّب الله سبحانه وتعالى ! وغريب من حيث كلمة " حوار " ، ففي الإسلام دعوةٌ وبلاغ لتبليغ الدين الحق الواحد ، وتعهُّد الناسِ عليه ، كما أمر الله ! فلا حاجة لحوار الأديان ، فالأديان معروفة ، وأصحاب كلّ دين يدعون إلى دينهم ولا يحاورون حوله . ولكن الحوار يمكن أن يدور حول طريقة التعامل لا حول الدين نفسه ، ويظل الإسلام يدعو الناسَ كافة إلى الإسلام بوضوح وجلاء !
ولما كان اليهود والنصارى قد حرّفوا رسالة أنبيائهم ، فخرجوا بذلك عن الدين الواحد للأنبياء والرسل جميعهم ، سماهم الله " أهل الكتاب " إقراراً بأن الله أنزل على إبراهيم الصحف ، وعلى موسى التوراة ، وعلى عيسى الإنجيل ، من عند الله رسالات متعدّدة لدين واحد هو الإِسلام ، دين جميع الرسل والأنبياء .
هذا ما نصّ عليه القرآن الكريم والسنة في سور متعددة ، وآيات متعددة ، وأحاديث واضحة ، نصّاً صريحاً بيّناً لا خلاف فيه ولا تحتمل التأويل . وإذا كان هناك اختلاف فهو في الرسالات من حيث بعض التشريع ، فقد كان كلُّ نبيٍّ يرسل إلى قومه خاصّة ، يبلّغهم دين الإسلام ، دين التوحيد الواحد ، ويضع لهم من التشريع ما يحتاجه كل قوم . ولما جاء النبيّ الخاتم بمثل ما أتى به الأنبياء والرسل من الدين والتوحيد ، مصدِّقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه ، بأن جمع التشريع كله تشريعاً ربّانيّاً واحداً للبشريّة كلها إلى يوم القيامة ! تشريعاً كاملاً وتامّاً وكافياً !
لا بدَّ من تثبيت هذا المفهوم في قلوب المسلمين وفي قلب كل مسلم ، ليعي المسلم حقيقة دينه ومداه ومستواه ، فلا يأخذه الضعف أو الجهل إلى أن يلهث وراء العلمانيّة والديمقراطية والحداثة ، حتى يَعيا ويسقط دون أن يكسب الدنيا ولا الآخرة ، ولا رضا أهل الديمقراطية إلا رضا استدراج مؤقت ، ولا رضا الله !
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن الرسول r قال : ( مثلي في النبيين كمثل رجلٍ بنى داراً ، فأحسنها وأكملها ، وترك فيها موضع لبنة لم يضعها ، فجعل الناس يطوفون بالبنيان ، ويعجبون منه ، ويقولون : لو تمَّ موضع هذه اللبنة ، فأنا في النبيين موضع تلك اللبنة ) [ أخرجه أحمد والشيخان والترمذي ](1)
فالدين ، من حيث الواقع والحقيقة ، والعقل ، هو الحقيقة الكاملة لهذا الكون كلِّه ، مشهدِه وغيبِه ، دنياه وآخرتِه ، خلقِه كله ، خالقُه الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة ، خالق كل شيء ، له الملك كله ، وله الأمر كله وله الحمد كله . من هنا يُصبح الدِّين رسالةَ الأنبياء والرُّسل على مرِّ الزمن ، خُتموا كلُّهم بالنبيّ الخاتم محمّد r، وخُتمت الرسالات بالكتاب والسنّة كما جاءا باللغة العربية ، ليكون كتابُ الله منهج حياة كامل تام للإنسان ، للبشرية .
ومن خلال هذا المنهج الرَّباني الكامل يبيّن الله لعباده كلِّهم مهمّة الإنسان في هذه الحياة الدنيا ، المهمّة التي خلقه الله للوفاء بها ، ولتكون جزءاً رئيساً من هذا الدين العظيم ، ليعرف كلُّ إنسان أنَّ الله سبحانه وتعالى هو الذي خلقه ، وهو الذي كلَّفه بمُهمَّةٍ عظيمةٍ يقوم بها في الدنيا من خلال ابتلاءٍ وتمحيص ، ومن خلال عهد وميثاق ، فتكون الطريق أمام الإنسان في هذه الحياة الدنيا مشرقةً جليّةً، يمضي المؤمنون بذلك على صراط مستقيم واحد ، ممتدٍّ إلى الدار الآخرة .
لذلك يعيش المؤمن في هذه الحياة الدنيا مطمئنَّاً راضياً ، واعياً لمهمته وتكاليفه الربَّانيَّة التي سيحاسَب عليها يوم القيامة بين يدي الله ، يوم يضع الموازين القسط فلا تظلم نفسٌ شيئاً ، ثمَّ يمضي الإنسان إما إلى جنَّة أو إلى نار .(/2)
هذا هو الدين الحق الذي يبيّن للإنسان كلَّ ما يحتاجه حتى ينجو من فتنة الدنيا ومن عذاب الآخرة .
نعم ! هذا هو الدين الذي جعله الله رحمةً منه لعباده ، وفضلاً منه عليهم ، وهدى ونوراً . فلا تجد فيه تناقضاً بل تماسكاً ، وتجده ميسَّراً للذكر لمن ملك بفضل الله مفتاحين يفتحان له كتاب الله بإذن الله وبهدايته . هذان المفتاحان هما : إتقان اللغة العربية وصفاء الإيمان وصدقه . (1) فإذا توافرا عند أي إنسان فإنَّ كتاب الله تعالى يُفتح له بهداية من الله . ولهذين المفتاحين آيات وأحاديث تدل عليهما وتبين أثرهما في تيسير القرآن للذكر :
( وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا خَسَاراً )
[ الإسراء : 82]
( وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ ) [ فصلت : 44 ]
فلا يُعقل أبداً أن يكون الدين طقوساً تؤدَّى على صورة ما ، تنفصل بعد ذلك عن واقع الحياة الدنيا وأحداثها وميادينها ، ثمَّ يصبح الإنسان بعد هذا الانفصال هو الذي يقرر، يعبد العقل حيناً ، أو ما يسمّيه عقلاً ، أو يعبد الأهواء والشهوات ، أو يعبد المصالح المتضاربة المتنافسة ، أو يعبد الأوثان وما يوحي به شياطين الإنس والجن .
هذا هو الدين ! منهج حياة متكامل ، يصل الدنيا بالآخرة ، ليصبح عمل المؤمن الصادق كلُّه عبادةً صادقةً لله ، أكلُه وشربُه وسعيُه ، وجهادُه ، ورضاه وغضبُه ، وحبُّه وكراهيتُه ، وعلمُه ، وعملُه ، كلُّه عبادةً خالصةً لله إذا صدقتْ النيَّة لله ، وإذا خضع العمل كلّه لشرع الله ، شرطان لا يُغني أحدهما عن الآخر ، شرطان يجب أن يعملا معاً في وقت واحد .
هذا هو الدين ! نجاةٌ في الدنيا والآخرة . بدونه يصبح الناسُ وُحُوشاً ، يفتك بعضهم ببعض ، ويهلك بعضهم بعضاً . لا تقوم بينهم عدالة ولا أمانة ، ولا حُرِّية ولا مساواة ، إلا من حيث الشعارات يطلقها المجرمون الوحوش ، ليزيّنوا بها باطلهم ، وليفتحوا بها ثروات الأمم لينهبوها ، وليستأثر المجرمون الوحوش بخيراتها ، ويَدَعُو الناس فقراء عالة عليهم !
هذا هو الدين الحق ، دين الله ، دين الإسلام ، الدين الذي يقيم الحقَّ في الأرض بين الناس ، ويقيم العدل الصادق الأمين ، ويقيم الحريَّة المنضبطة لتوفّر الحريّة المنضبطة ، لتحقّق المساواة العادلة بين الناس .
وبغير هذا الدين الحق لا تقوم عدالة أبداً ، ولا حريّة ، ولا مساواة ، فهذا كلّه يقيمه شرع الله .
كثير من الناس غاب عنهم التصوّر السليم للدين ، ولمهمته في الحياة ، فاضطربت تصوّرات الناس ، أو بعض الناس اضطراباً واسعاً . فمنهم من جعل من الدين ومن معنى العبادة الطقوس والشعائر فقط . ومنهم من نادى بعزل الدين عن السياسة والحكم ، أو عزل السياسة والحكم عن الدين . ومثل هذه التصوُّرات ابتدأت في الغرب على أثر اصطدام النصرانية بالوثنية ، ثمَّ اصطدام الكنيسة برجال العلم وبالدولة والحكام ، ثمَّ أخذت تمتدُّ إلى العالم الإسلامي بين المسلمين، حين انتشر الجهلُ بالكتاب والسنَّة واللغة العربيَّة ، وقويت دعاية الغرب وغزوه الفكري والعسكري .
ومن أهمِّ التصوّرات الدينية التي غابت عن الناس معرفة الإنسان لمهمته في الحياة الدنيا ، وللتكاليف الربّانيّة التي أمره الله بالوفاء بها ، والتي سيحاسَب عليها بين يدي الله يوم القيامة . نسي الناس هذه المهمة الحقيقية ولهثوا وراء مصالحهم الدنيوية حتى يوافيهم الأجل وهم لم يوفوا بعهدهم مع الله ولا بالأمانة ولا بالعبادة ولا بحق الخلافة في الأرض .
وإذا كان القرآن الكريم قد أوجز مهمة الإنسان التي خلقه الله للوفاء بها في الحياة الدنيا بمصطلحات أربع : العبادة والأمانة والخلافة والعمارة ، فإنه مع هذا الإيجاز فصَّل المهمّة تفصيلاً كاملاً ، ثمَّ جمعت المهمة كلها في نشر دين الله في الأرض ، ودعوة الناس كافَّة إليه ، حتى تكون كلمة الله هي العليا وشرعه هو الأعلى . ومن أجل تحقيق ذلك شرع الله القواعد والوسائل والأساليب وفصّلها حتى يتيسَّر للإنسان الوفاء .
فمعرفة الدين وفهمه ، وفهم تصوُّراته كاملةً سليمةً من مصدره الحق ـ المنهاج الربَّاني ـ ، أمرٌ أساسيٌّ في حياة الإنسان . وبغير هذا الفهم والعلم والالتزام يهلك الإنسان .
إنها مهمّة الإنسان المؤمن ، الإنسان الداعية الصادق ، أن يوفي بالأمانة بالتبليغ والتعهد وإخراج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم ، ومن الهلاك إلى النجاة . وإن أي امتداد للفتنة وسوء فهم هذا الدين ، يحمل المسلمون مسؤوليّته عن ذلك ، ويحمل الدعاة والعلماء مسؤولية أكبر .(/3)
إنَّ البلاغ والبيان ، والتعهد والبناء ، والقوة والإعداد ، مهمة كبيرة والتقصير بها إثم كبير ، فلا يُشْغَلنَّ الدعاة عنها بزخارف الدنيا وزينتها ، فَيَهْلَكُوا ويُهْلِكُوا . إنَّ هذا الدين هو الحياة ، هو النور ، هو الهدى :
( أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ )
[ الأنعام : 122 ]
(1) صحيح الجامع الصغير وزيادته : رقم : 5857 .
(1) يراجع : كتاب : " حتى نتدبَّر منهاج الله " للكاتب.(/4)
مفهوم الفرح في التصور الإسلاميّ
د. جمال بادي 16/12/1425
27/01/2005
يتنسّم المسلمون هذه الأيام نَفَحات عيد الأضحى المبارك في أيام مباركات تُؤدّى فيها أعظم شعائر هذا الدين، ألا وهي شعيرة حجّ بيت الله الحرام؛ فهذه الأيام أيام فرح وحبور وغبطة وسرور.
فالإيمان وشعائر الإسلام من أعظم أسباب سعادة المسلم وفرحه، ويمكن ملاحظة علامات هذا الفرح في وجوه الحجاج وعباراتهم، كما يمكن ملاحظته في سلوك المسلمين في كل مكان أيام العيد. وحق لكل مسلم ومسلمة أن يفرحوا بأداء مناسك دينهم تقرباً إلى الله تعالى وتذلّلاً إليه. يقول الله –تعالى- في كتابه الكريم: (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون) [سورة يونس: 58].
ويمكن تقسيم الفرح في التصور الإسلامي بناءً على ما ورد في تفسير الآية الكريمة السابقة إلى الأنواع الآنية:
* أعظم الفرح إطلاقا هو الفرح بالله رباً وخالقاً وإلهاً معبوداً لا يستحق العبادة إلا هو وحده لا شريك له، فرح يُعلن عند قبول الإسلام والدخول فيه، كما يُعلن مع إشراقة وإطلالة كل يوم من الأيام عند استيقاظ المؤمن من نومه، وهي أول الكلمات التي يستقبل بها المؤمن نهاره الجديد بقوله - كما أرشدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : "رضيت بالله ربًا". ويكرر هذا الإعلان المصحوب بالإذعان والتسليم في كل عبادة وصلاة وذكر وتسبيح وتهليل. وهو ما يكرره الحاج إلى بيت الله الحرام عند أول شروعه في الحج ويستمر في تكراره إلى آخر أدائه مناسكه بقوله: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك". وهو ما يكرّره كل مؤمن ومؤمنة في تكبيراته وتهليلاته في أيام العيد بقوله: "الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد". ويدخل في هذا الفرح، الفرح بأسماء الله -عزّ وجلّ- الحسنى وبصفاته العلا، إيمانًا وإثباتًا وتنزيهًا وتعظيمًا وتعبدًا ودعاءً. كما يدخل في هذا النوع من الفرح، الفرح بكتاب الله تعالى القرآن الكريم، والإيمان بما جاء فيه من الأخبار والعقائد، وقبوله دستوراً خالداً وهدياً قويماً، والتسليم لهيمنته والامتثال لأحكامه والعمل بمحكمه، والإيمان بمتشابهه، وتقديمه على ما سواه. ومن فروع الفرح بالله رباً الفرح بنعمه التي لا تُحصى، وأهمها نعمة الأمن والاستقرار والعافية والعقل والعلم النافع والرزق والستر والتوفيق والتسديد. بل كل فرح هو فرع لهذا الفرح!
* · الفرح بمحمد نبيًا ورسولاً ومعلمًا ومربيًا وهاديًا وقائدًا ومثالاً وقدوةً، فرحٌ يُعلن صباح كل يوم مع رجوع الروح عند الاستيقاظ من النوم بقول المؤمن والمؤمنة: "رضيت بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد -صلى الله عليه وسلم- نبيًا ورسولاً". كما يكرر هذا القول عند غروب شمس كل يوم، ويكرر هذا الفرح مرات في الأذان والتشهد والصلاة والتسليم عليه -صلى الله عليه وسلم-. ومن أهم فروع هذا الفرح، الفرح بسنته -صلى الله عليه وسلم-، وحبّها وتعلّمها والعمل بها والدعوة إليها ونصرتها والذبّ عنها في توسط واعتدال ومراعاة للظروف والأحوال. مع إنصاف للمخالف وعدل معه دون خصومة ولجاجة، ودون غلوّ وإفراط يفسد و لايصلح.
* الفرح بالإسلام ديناً، والفرح بالانتماء إليه، والفخر بذلك والإحساس والشعور بهذا الأمر، وإعلانه بشتى الطرق المباحة. ويدخل في هذا الفرح، الفرح بعظمة هذا الدين وهيمنته، والفرح بمبادئ الإسلام كتقريره للحرية والعدل والشورى والمساواة والأخوة، والفرح بمحاسنه كربانيته وثبات عقائده وشموله وواقعيته ومرونته وتوازنه. ومن مقتضيات هذا الفرح المحافظة على صورة الإسلام نقية ناصعة لا تشوبها شائبة وإزالة كل شبهة من طريقها. ومن مقتضيات هذا الفرح حب المسلمين والاهتمام بأحوالهم وأمورهم ومساعدتهم ونصرتهم فيما يقدر عليه، ومنه أيضا ضد هذا ألا وهو بغض أعدائهم ومناوأتهم.
* الفرح بشعائر الإسلام كالفرح بأعياده والتي أهمها شهر رمضان، ويوم الجمعة، والأيام العشرة الأولى من ذي الحجة، ويوم عرفة وليلة القدر، ويوم عاشوراء، وعيد الفطر، وعيد الأضحى المبارك. وقد يكون إظهار الفرح بالذكر والتهليل كأيام التشريق، وقد يكون بذبح الأضاحي، والأكل والشرب وجميل اللباس كأيام عيد الأضحى الأربعة، وقد يكون الفرح بالصوم والطاعة كيوم عرفة وعاشوراء، وقد يكون بالدعاء والابتهال والمناجاة كيوم عرفة والساعة الأخيرة من يوم الجمعة. ويدخل في هذا النوع من الفرح تعظيم شعائر الإسلام فتُقام وتُطَبّق، كما يدخل فيه تعظيم حرمات الله –تعالى- فلا تُنتهك.
* الفرح بانتصار الإسلام وازدهاره وانتشاره وقبوله بإقبال الناس عليه ودخولهم فيه أفراداً وجماعات من كل عرق ولون وجنس وبلد. وتجديد الفرح بانتصاراته الماضية وتذكرها والتذكير بها، وأخذ العبر والدروس منها. ومن مقتضياته الدعوة إليه بالحسنى ووفق ما يرضيه سبحانه من منهج وسطي.(/1)
* ومن الفرح بالإسلام الفرح بحسن حال أهله عندما يكون حالهم حسناً، والفرح بنجاحهم، وسؤددهم، ورقيّهم، ومن مقتضيات هذا الفرح السعي لتحقيق هذا الحال الحسن والنجاح والتقدم بكل السبل والوسائل النافعة المتاحة. ومن مقتضياته السعي لإصلاح ذات بينهم وتوحيد صفوفهم وجمع كلمتهم على الخير والحق والهدى.
ويقابل هذا الفرح بأنواعه السابقة المذكورة، مفهوم آخر مكمّل ومتمّم له ألا وهو الحزن وهو أقسام أيضا أهمها:
* الحزن لمحارم الله إذا انتُهِكت، وشعائره إذا عُطّلت، وواجبات دينه إذا أُهملت أو قصر فيها، والحزن للمعاصي إذا ارتكبت والنواهي إذا غُشيت، وللذنوب إذا اقترفت. ومن مقتضيات هذا الحزن التواصي بالحق، والتواصي بالصبر والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر بلا منكر.
* الحزن لحال المسلمين إذا أصابهم ما يسوؤهم، وحلّ بهم ما يحزنهم من الكرب أو الخطوب أو العدوان أو المرض أو غير ذلك من الكربات والمحن والبلايا والفتن. ومن مقتضيات هذا الحزن السعي لنجدتهم والذبّ عنهم، وإغاثة مكروبهم ونصرة ضعيفهم والإحسان إلى محتاجهم وفقيرهم ومد يد العون ليتجاوزوا محنتهم. ومنها إزالة الغمّ والهمّ عنهم بمواساتهم ومبادلتهم الشعور بحزنهم وحثهم على الصبر. ومنها دعاء الله –تعالى- لهم بتفريج كُرُباتهم.
* ومن فروع الحزن لحال المسلمين التألم لما آل إليه حالهم في هذا الزمان من الضعف والهوان والذّلة وقلة الحيلة وتسلط الأعداء عليهم وعلى بلادهم وخيراتهم.
* الحزن لحال المسلمين إذا تأخروا عن ركب الحضارة والتقدّم والعمران، ومن مقتضياته السعي بكل ما نملك لإزالة عوارض هذا التأخر وحل مشاكله ودفع تداعياته وتقليل مآلاته السلبية على المدى القصير والبعيد على السواء.
* الحزن على حال المسلمين إذا ما تنابذوا وتدابروا وتباغضوا واختلفوا وتنافروا وتنازعوا وتصارعوا أو اقتتلوا. ومن مقتضيات هذا الحزن السعي في إزالة كل أسباب هذا الأمر بإصلاح ذات البين والتقريب بين المتنافرين.
وعلى كل مؤمن ومؤمنة أن يدركوا بأن القيام بهذه الأعمال القلبية من الفرح أو الحزن، والقيام بمقتضياتها من الأعمال والأفعال إنما هي واجبات شرعية ضرورية متحتمة، وهي صور مختلفة لعبادة الله –تعالى- وتوحيده والتقرب إليه سبحانه.(/2)
مفهوم المصرفية الإسلامية بين النظرية والتطبيق د. فكري كباشي الأمين*
أصبحت فكرة إنشاء المصارف التي تعمل وفق قواعد وأحكام الشريعة الإسلامية ( البنوك الإسلامية ) حقيقة واقعية بعد انعقاد المؤتمر الثاني لوزراء مالية الدول الإسلامية الذي تم بمدينة جدة في أغسطس 1974م ، ولقد تمخض عن ذلك الاجتماع صدور القرار التاريخي بالموافقة على إنشاء البنك الإسلامي للتنمية بجدة كبنك مملوك لمجموعة من الحكومات الإسلامية ، ويهدف البنك الإسلامي للتنمية إلى دعم التنمية الاقتصادية والتقدم الاجتماعي لشعوب الدول الأعضاء وكذلك المجتمعات الإسلامية مجتمعة ومنفردة وفقا لمبادئي الشريعة الإسلامية ، وتشمل وظائفه المساهمة في رؤوس أموال المشروعات وتقديم القروض للمؤسسات والمشاريع الإنتاجية في الدول الأعضاء والذين بلغ إجمالي عدد عضويتهم حتى تاريخه (53) دولة ، بالإضافة إلى قيام البنك بتقديم المساعدة المالية لهذه الدول لتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية ، ويساهم البنك أيضا في تنمية التجارة الخارجية للدول الأعضاء ويساعد على تعزيز التبادل التجاري بينها وبخاصة في السلع الإنتاجية ، وتقديم المساعدة الفنية لها والعمل على ممارسة أنواع النشاط الاقتصادي والمالي والمصرفي في الدول الإسلامية طبقا لاحكام وضوابط الشريعة الإسلامية .
ومن أهم المميزات التي تتمتع بها المصارف الإسلامية والتي تنفرد بها عن سائر البنوك الأخرى , هي أن فكرتها مستمدة من الشريعة الإسلامية فهي تقوم على أساس نبذ التعامل بالفائدة بين البنك وعملائه أخذا وعطاء , وبذلك يتم التعامل وفقا لما أنزله الله سبحانه وتعالى والسنة الشريفة .
وهناك منهجان واضحان لممارسات العمل المصرفي الإسلامي ، ففي كثير من البلدان حيث لم تلزم حكومات تلك البلاد بإلغاء الفائدة ، ولذلك اصبح مألوفاً أن تجد في كثير من بلدان العالم الإسلامي أن تعمل المصارف الإسلامية جنباً إلى جنب مع البنوك القائمة على الفائدة ، بينما تنتهج بلاد أخرى منهجاً مغايراً كما في كل من باكستان وإيران حيث تسعى تلك البلدان إلى إزالة نظام التعامل بالفائدة على نطاق النظام الاقتصادي كله , أما في السودان فان الأمر مختلف كلياً حيث تعايشت المصارف الإسلامية مع البنوك القائمة على الفائدة لمدة طويلة إلى أن اختارت الحكومة أخيرا وفي مطلع التسعينات التحول الكلي باتجاه العمل بالنظام المصرفي الإسلامي الشامل ، وفي ماليزيا يجري تطوير نظام مختلط على المستوى الرسمي ، حيث يتم تشجيع نظام نوافذ المصرفية الإسلامية في البنوك التقليدية بالإضافة إلى إنشاء وتأسيس بعض المؤسسات المالية الإسلامية المستقلة, وتعمل السلطات النقدية على الاعتراف بكل النظامين المصرفيين التقليدي والإسلامي وتعمل على تنظيمها والتوافق بينهما .
ولقد شهدت المصارف الإسلامية في الفترة من 1980م –1986م نمو نسبي كان في معظم الحالات افضل من معدل نمو البنوك الأخرى , ونتج عن ذلك زيادة نصيب المصارف الإسلامية من إجمالي الودائع , ومما يعكس نجاح العمل المصرفي الإسلامي قيام كثير من البنوك التجارية التقليدية بتزويد عملائها بخدمات مالية إسلامية في كثير من الدول ، بل أن بعضها اعتمد على انتهاج استراتيجية انتشار فروع متعددة للقيام بالمعاملات الإسلامية في مناطق تجمع المدخرات ، وبالتأمل للوضع الراهن للعمل المصرفي الإسلامي نجد انه هنالك حوالي تسعين مصرفا ومؤسسة مالية إسلامية في القطاع الخاص منتشرة في العالم العربي والعالم الإسلامي والأوربي ، حيث أنشئت بنوك في بنجلاديش وماليزيا وموريتانيا ولوكسمبورج ولندن وكوبنهاجن وجنيف ، بخلاف تلك الموجودة في باكستان وإيران ، والسودان حيث تمت اسلمة النظام المصرفي برمته .
وفي عام 1996م كانت هذه المؤسسات المالية الإسلامية تدير حوالي 28 بليون دولار أمريكي وقد بلغ إجمالي أصولها 31 بليون دولار أمريكي وتنتشر هذه المؤسسات في عدد من البلدان والقارات .
وكما أسلفت فان المصارف الإسلامية تسعى إلى التخلي عن سعر الفائدة واتباع قواعد الشريعة الإسلامية كأساس للتعامل بينها وبين عملائها ويمكن تلخيص الخصائص الأساسية لهذه البنوك في الآتي : ـ
أولاً: ـ استبعاد التعامل بالفائدة وهذه خاصية رئيسية لاعتبار البنك مصرفا إسلامياً والمبدأ الأساسي في الإسلام تحريم الربا .
ثانياً : ـ توجيه الجهد نحو التنمية عن طرق التوجه نحو الاستثمار ، فالمصرف الإسلامي لا يقر التعامل بالفائدة ، ولكن في ذات الوقت يحتاج إلى استرداد كل نفقاته وكذلك تحقيق بعض الربح ، ولذا فقد يعمل على تحقيق ذلك عن طريق الآتي : ـ
أ - الاستثمار المباشر أي قيام المصرف الإسلامي ذاته للقيام بعبء توظيف الأموال في مشروعات تجارية وزراعية أو صناعية تدر علية عائداً.(/1)
ب- الاستثمار بالمشاركة بمعنى مساهمة المصرف الإسلامي في رأس المال للمشروع الإنتاجي ويصبح البنك شريكا في ملكية المشروع وفي إدارته والإشراف علية، وبالتالي يكون شريكا في الربح والخسارة ويتم ذلك بالنسبة التي يتفق عليها الشركاء.
جـ - ربط التنمية الاقتصادية بالتنمية الاجتماعية ، إذ ينظر البنك وفق المفهوم الإسلامي إلى التنمية الاجتماعية باعتبارها أساساً لا تؤتي التنمية الاقتصادية ثمارها إلا بمراعاته .
وتتكون مصادر التمويل في المصارف الإسلامية من مصادر داخلية وأخري خارجية ، تتمثل مصادر التمويل الداخلية في راس المال المدفوع والاحتياطات المختلفة ، في حين تتكون المصادر الخارجية من الودائع بأنواعها المختلفة سواء كانت ودائع جارية أو ودائع لأجل .
وهناك بعض الاختلاف الجوهري بين المصارف الإسلامية والبنوك التجارية التي تتعامل بالفائدة ، فرأس المال المدفوع في المصرف الإسلامي يجب أن يسلم بكامله للبنك ولا يجوز أن ينقص منه شيئاً كدين لدى أصحاب رأس المال بعكس الحال في البنوك التجارية ، كما أن المصرف الإسلامي يعطي أهمية أكبر للودائع الآجلة بالنسبة لهيكل الودائع الكلي على عكس البنوك التجارية التي تعطي الأهمية الأكبر للودائع تحت الطلب الأمر الذي يمكن من توظيف اكبر قدر من الموارد المتاحة لدية في النشاط الاقتصادي .
أما كيفية استخدام المصارف الإسلامية لهذه الموارد تتمثل في الاستثمار المباشر والاستثمار بالمشاركة في رأس مال المشروعات على أساس صفقة معينة أو مشاركة متناقصة أو من خلال صيغ المرابحة ، وعموما حاليا انتشرت المصارف الإسلامية في عدد من الدول , ويعتبر الاختلاف الأساسي بين البنوك التجارية والبنوك الإسلامية يدور حول سعر الفائدتين الدائنة والمدينة كمصدر مهم من مصادر تحقيق الأرباح بالإضافة إلى استثمارات المحفظة ، فان المصارف الإسلامية نتيجة إلى ارتكازها على مبدأ تحريم التعامل بالفائدة أخذاً وعطاء ، فإنها تتجه صوب الاستثمار المباشر أو بالمشاركة مع الغير، ويوجد فرق كبير بين الطبيعة الإقراضية والطبيعة الإستثمارية فالقرض يكون محكوما عند منحه بضمانات عينية كافية يقوم بفرضها البنك على العميل لضمان استرداد أمواله ، أما في الاستثمارات فان البنك هو الذي يتولى مهمة البحث عن الإستثمارات وهو الذي يقوم بدراسة الجدوى الاقتصادية للمشروعات الجديدة ، وقد يقوم بعملية الاستثمار بمفرده أو بالمشاركة ويتحمل نتيجة الإستثمار إن كانت ربحاً أو خسارة
، وتجدر الإشارة إلى أن المصرف الإسلامي في طبيعته بنك استثمار إلا أنه يختلف تمام الاختلاف عن بنوك الاستثمار المعروفة في الأسواق المالية العالمية فبنك الاستثمار التقليدي يتعامل بالفائدة أيضا ، ولذلك نجد أن المفهوم المصرفي للبنك الإسلامي كبنك استثمار يختلف عن المفهوم المصرفي الذي يعمل وفقه بنك الاستثمار التقليدي .
وباستقراء قوانين إنشاء ونظم تأسيس عدد من المصارف الإسلامية يمكن القول بان أنشطة البنك الإسلامي متعددة تجمع ما بين أنشطة البنوك التجارية والبنوك المتخصصة وبنوك الاستثمار والأعمال وشركات التجارة الداخلية والتصدير والاستيراد وشركات الاستثمار المباشر وتوظيف الأموال .
وكذلك من أهم الخصائص التي تتميز بها المصارف الإسلامية عن سائر البنوك الأخرى , أنها بنوك اجتماعية في المقام الأول تسعى إلى تحقيق التكافل الاجتماعي ليس فقط من حيث قيامها بجمع الزكاة وصرفها في مصارفها الشرعية ولكن في كيفية توزيع عائد الأموال المستثمرة بعدالة.
وغالباً ما تتم ممارسة المسئولية الاجتماعية للمصارف الإسلامية من خلال استراتيجية البنك وسياساته ، فالنظر إلى التنمية الاقتصادية منفصلة عن التنمية النفسية والاجتماعية لا يستقيم في المصارف الإسلامية لان هدفها هو تعظيم العائد الاجتماعي للاستثمار أو تعظيم العائد الإسلامي للاستثمار وليس العائد المباشر للاستثمار .
مما سبق يتضح جلياً أن المحور الأساسي لاختلاف المصارف الإسلامية عن البنوك التجارية هو مزاولة النشاط المالي والمصرفي دون الدخول في عمليات ربوية .
وتنحصر المصادر الرئيسية لموارد المصارف الإسلامية في الودائع تحت الطلب والودائع الاستثمارية حيث يلتزم المصرف الإسلامي بالمحافظة على الودائع تحت الطلب مع الالتزام بردها في حال طلبها من قبل المودع مع عدم وجود أرباح أو إيرادات على هذا النوع من الودائع ، وبالنسبة للودائع الاستثمارية لدى البنك الإسلامي فهي تعطي أرباح للمودعين اعتمادا على نوع الحساب الاستثماري ومدته واحتمالات المخاطرة .
وعموما يمكن القول أن المصارف الإسلامية تعتبر تجسيد للنظام الاقتصادي الإسلامي فهي ليست مجرد مؤسسات مالية وسيطة , ولكنها اكبر من ذلك بكثير فهي مؤسسات مالية واقتصادية واستثمارية وتجارية وخدمية .(/2)
وقد أثبتت البحوث التي أجريت في العقدين الماضيين أن العمل المصرفي الإسلامي كأسلوب من أساليب الوساطة المالية يتميز بالجدوى والكفاءة ، وأنشئت أبان هذه الفترة العديد من البنوك الإسلامية في أوساط اقتصادية واجتماعية متباينة وفي الآونة الأخيرة بدا الكثير من المصارف التقليدية ، ومن بينها بعض المصارف الغربية الرئيسية متعددة الجنسيات استخدام أساليب العمل المصرفي الإسلامي .
وكما أسلفت هناك بعض الاختلافات الجوهرية بين المصارف الإسلامية والبنوك التجارية التي تتعامل بالفائدة ، فرأس المال المدفوع في المصرف الإسلامي يجب أن يسلم بكامله للمصرف ولا يجوز أن ينقص منه شيئا كدين لدي أصحاب رأس المال بعكس الحال في البنوك التجارية ، ولذلك يعتبر الإختلاف الأساسي بين البنوك التجارية والمصارف الإسلامية يدور حول الفائدة التي يتحملها العميل لوحده في البنوك التجارية سواء نجح المشروع أو فشل بعكس الحال في المصارف الإسلامية التي لا تتنصل عن تحمل عبء مسئوليتها في المخاطرة، وهذا يقودنا إلى تبين الاختلاف الجوهري بين النظامين فيما يتعلق بخلق الائتمان .
فان المصرف الإسلامي باعتباره لا يتعامل بالفائدة لذلك نجد أن عملية خلقه للإئتمان سيكون في نطاق لا يضر بالاقتصاد القومي ، ولقد أطلق مصطلح الإئتمان على النقود الورقية بحسب أن قيمتها التبادلية أعلى من قيمتها السوقية وحالياً راجت النقود في التعامل بين الناس دون قيد ، فبحكم مشاركة البنوك الإسلامية الفعلية في الإنتاج فان النقود تتداول بين المصرف وعميلة مع ظهور الإنتاج وتختفي مع استهلاك ذلك الإنتاج لتعود مرة أخرى للمصرف ، وكقاعدة عامة فإن حجم الإنتاج الحقيقي يظل معادلاً تماماً لحجم الإئتمان فلا تتأثر مستويات الأسعار ، ولا يحدث تضخم بسبب الزيادة في الكتلة النقدية يضاف إلى ذلك أن نظام المشاركة يربط المصارف الإسلامية بمشروعات الإنتاج والتوزيع في الاقتصاد القومي ربطاً وثيقاً , ولهذا يحمي الإسلام المال الموظف في الشركات الإسلامية من أن يؤكل بالتضخم , أو عدم صرف حق الشريك في القلة والفائدة ، ويعتبر ذلك وفق المفهوم الإسلامي من قبيل أكل المال بالباطل ، ولقد عبر عن ذات الفهم بمعنى آخر كل من د.وليم بويز و د. مايكل ملفين بجامعة (إريزونا ) بالولايات المتحدة الأمريكية في مؤلفهما ( الاقتصاد ) حيث افردا حيزاً لتناول مفهوم البنوك الإسلامية ولقد ذكرا بان :
( The growth of mutually profitable investment opportunities
Suggest that Islamic banks are meeting both the dictates Muslim
Depositors and profitability requirements of modern bank ) .
وهنا يتضح المفهوم الأساسي للبنوك الإسلامية الذي يؤكد حق كل شريك في أرباح الحيازة جنباً إلى جنب مع أرباح التشغيل ، بالإضافة إلى المحافظة على سلامة رأس المال فان هذا يحمي مال كل شريك من التضخم ، وذلك لان لكل شريك الحق في القلة والفائدة جنبا إلى جنب مع الأرباح الصافية ، فإذا كان الشريك مؤسس كان له الحق في القلة والفائدة مع رأسماله وأرباحه ، وإذا قرر الشريك في التمويل المؤقت فض الشراكة وتصفيتها كان له حق رأسماله وأرباحه
والقلة الناتجة عن ارتفاع الأصول المتداولة مدة شراكته ، وفي اعتقادي أن تلك تعتبر قمة الشفافية في الحفاظ على حقوق عملاء المصارف خاصة والمتعاملين مع النظام المصرفي بصفة عامة .
وباستعراض سريع للأوضاع في السودان نجد أنه وبعد إلغاء سعر الفائدة في عام 1984م , والذي يعتبر من أكثر الأدوات أهمية في إدارة السياسة النقدية في ظل النظام الرأسمالي التقليدي , فإن السياسة النقدية في السودان وفي ظل النظام الإسلامي استخدمت هوامش المرابحات ونسب المشاركات كأدوات بديلة , وذلك لتحقيق أهداف سياسة البنك المركزي للتحكم في الكتلة النقدية والتمويل , ويمكن تحقيق تلك الأهداف عن طريق الوسائل العامة للسياسة النقدية المعروفة لدى البنوك التقليدية بالإضافة إلى الوسائل الأخرى المطبقة في النظام الإسلامي والتي تقوم على مبدأ المغامرة والمشاركة في الربح والخسارة ، وبعد توقيع اتفاقية السلام ووفق بنودها الأساسية فإنه سوف يتم تطبيق نظامين مصرفيين في السودان ، إحدهما إسلامي في الشمال والآخر تقليدي في الجنوب ، على أن يعمل بنك السودان على تطوير النظامين بغرض تنظيم سياسة مالية واحدة والإشراف على تطبيقها .(/3)
ويسعدني أن اقترح على النافذين في الحركة الشعبية ، بأن يمنحوا أنفسهم مساحة حرة لكي يعيدوا التفكير في أمر النظام المصرفي الذي سيتم إقراره واعتماده بجنوب السودان ، وعلى الأقل بأن يسمحوا للبنوك التجارية التقليدية التي سيتم إنشائها بالجنوب للقيام بتزويد عملائها بخدمات مالية إسلامية كالتوجه الذي تبنته كثير من المصارف الرئيسية متعددة الجنسيات في بعض الدول الغربية كما أسلفت ، خاصة وأن جنوب السودان يحتاج فعلياً إلى توجيه الجهد نحو التنمية عن طريق الإتجاه نحو الإستثمارات المباشرة للقيام بعبء توظيف الأموال في مشروعات تجارية وزراعية وصناعية هذا بالإضافة إلى تحقيق العائد النقدي ، مما يعزز الحاجة إلى خلق النظام المصرفي الذي يكون شريك في الربح والخسارة ، باعتبار أن المصارف الإسلامية ووفق توجهاتها ومبادئها الأساسية لا تتنصل إطلاقاً عن تحمل عبء مسئوليتها في المخاطرة .
و أتمنى أن يؤخذ هذا الاقتراح مأخذ الجد ، ويوضع على طاولة النقاش العلمي الموضوعي الهادي والهادف من جانب القادة والمختصين داخل أروقة الحركة الشعبية من دون تعصب أو تزمت , وليضعوا نصب أعينهم تحقيق المصلحة العامة لمواطني جنوب السودان ، مستهدين في ذلك بالتوجيهات الصريحة والتي نص عليها في ( اتفاق نيفاشا ) على أن تستتبع مسؤولية البنك المركزي الأساسية والتفويض الممنوح له العمل على استقرار الأسعار ، والمحافظة على معدلات تبادل مستقرة ونظام مصرفي سليم بالإضافة إلى إصدار العملة النقدية و أوراق البنكنوت ، وكما ذكرت أن البحوث التي أجريت في العقدين الماضيين أثبتت أن العمل المصرفي الإسلامي كأسلوب من أساليب الوساطة المالية يتميز بالجدوى والكفاءة ، وأنشئت إبان هذه الفترة العديد من البنوك الإسلامية في أوساط اقتصادية واجتماعية متباينة وفي الآونة الأخيرة بدأ الكثير من المصارف التقليدية ، ومن بينها بعض المصارف الغربية الرئيسية متعددة الجنسيات إستخدام أساليب العمل المصرفي الإسلامي .
ولذلك ينبغي اعادة التفكير في أمر النظام المصرفي الذي سيتم إقراره واعتماده بجنوب السودان ، وعلى الأقل بان يسمحوا للبنوك التجارية التقليدية التي سيتم إنشائها بالجنوب للقيام بتزويد عملائها بخدمات مالية إسلامية كالتوجه الذي تبنته كثير من المصارف الرئيسية متعددة الجنسيات في بعض الدول الغربية كما أسلفت ، خاصة وان جنوب السودان يحتاج فعلياً إلى توجيه الجهد نحو التنمية عن طريق الاتجاه نحو الاستثمارات المباشرة للقيام بعبء توظيف الأموال في مشروعات تجارية وزراعية وصناعية هذا بالإضافة إلى تحقيق العائد النقدي ، مما يعزز الحاجة إلى خلق النظام المصرفي الذي يكون شريكاً في الربح والخسارة ، باعتبار أن المصارف الإسلامية ووفق توجهاتها ومبادئها الأساسية لا تتنصل إطلاقا عن تحمل عبء مسئوليتها في المخاطرة ، و إن أخذ الأمر مأخذ الجد ، ووضع على طاولة النقاش العلمي الموضوعي الهادىء والهادف من جانب القادة والمختصين داخل أروقة الحركة الشعبية من دون تعصب أو تزمت , وليضعوا نصب أعينهم تحقيق المصلحة العامة لمواطني جنوب السودان ، مستهدين في ذلك بالتوجيهات الصريحة والتي نص عليها في ( اتفاق نيفاشا ) على أن تستتبع مسئولية البنك المركزي الأساسية والتفويض الممنوح له العمل على استقرار الأسعار ، والمحافظة على معدلات تبادل مستقرة ونظام مصرفي سليم بالإضافة إلى إصدار العملة النقدية و أوراق البنكنوت ، وخلال هذه السانحة سأتناول بإيجاز الملامح الأساسية لنشاط البنوك الإسلامية والذي يمكن حصره في عدة محاور رئيسية ويمكن إبرازها فيما يلي :-
أولا : النشاطات التمويلية :-
ومن أهم النشاطات الاستثمارية لدى البنوك الإسلامية في الوقت الحاضر ما يعرف بالمشاركة والمضاربة والمرابحة والبيع المؤجل والتمويل التاجيري ويمكن توضيح ذلك فيما يلي :-
1- المشاركة : وتتم عن طريق اشتراك البنك الإسلامي مع طرف آخر لإنشاء مشروع استثماري يشترك الطرفان في إدارته وتمويله , وكذلك يتشاركان في أرباحه وخسائره بنسب متفقة مع حصة المشاركة في راس المال .
وتقسم الشراكة في الفقه الإسلامي إلى نوعين رئيسين هم (شركة الأملاك) وهي عبارة عن اشتراك شخصين أو اكثر في عين تمت ملكيته بإرث أو وصية أو هبة أو شراء ، أما النوع الآخر من الشراكة هو (شركة العقود) والتي تتم عندما يتفق عدد من الشركاء في أداء وتنفيذ نشاط محدد بالتراضي بينهما على نسب يتفقوا عليها ويتم إثبات تلك النسب في عقد شراكه ويسجل رسميا .
2- المضاربة : والمضاربة يمكن أن تعتبر نوع من أنواع المشاركة ولكن الاختلاف هنا هو أن أحد الطرفين يقدم المال ويكون حكمه حكم الشريك الموصي , والآخر يقوم بأداء العمل ويسمى الشريك المضارب , وان هذا النوع من الاستثمار كان موجوداً قبل الإسلام فمن المعروف أن الرسول صلى الله عليه وسلم ضارب بأموال السيدة خديجة رضي الله عنها قبل البعثة .(/4)
ويمكن تقسيم العائد من أرباح تلك المضاربة بين المضارب ( الشريك بالعمل ) وبين صاحب المال بنسب عادلة يتفق عليها مسبقا بين الطرفين , وفي حالة عدم تحقيق أرباح أو تحقيق خسائر يتحمل صاحب المال الخسائر ويخسر الشريك العامل جهده فقط ، ولا يمكن مطالبته بدفع خسائر ما لم تكن ناتجة عن إهمال متعمد أو سوء نية مثبت .
وأيضا تنقسم المضاربة إلى قسمين مضاربة مطلقة وأنها لا تكون محكومة بشروط فيما يتعلق بنوع النشاط أو المدة ، والنوع الآخر هو المضاربة المقيدة وهذه تكون في العادة محكومة بشروط تملى عادة من قبل الشريك الممول حماية لماله .
3- المرابحة: المرابحة عبارة عن عقد بين البنك وأحد عملائه حيث يقوم بموجبة البنك بشراء سلعة معينة سواءاً من الداخل أو من الخارج , ومن ثم يبيعها إلى العميل بسعر التكلفة مضافا إليه مبلغ معين كأرباح للبنك .
4- التأجير التمويلي : وهو من أحد أنواع التجارة يتم فيه اتفاق البنك مع أحد عملائه على شراء البنك للأصل ومن ثم تأجيره للعميل لمدة طويلة مقابل دفع العميل لعدد من الأقساط متفق عليها ، وفي نهاية المدة المتفق بين البنك وعميلة عليها تعود ملكية الأصل إلى البنك ، ومن الممكن إدراج نص في عقد الإيجار يعطي العميل الخيار في شراء الأصل بعد انتهاء مدة الإيجار .
5- عقد السلم : عقد السلم هو اتفاق بين طرفين على يقوم أحدهم بتقديم رأس المال إلى طرف آخر ليتولى القيام بالعمل مقابل صيغة يرتضيها الطرفان ، ومعظم عقود السلم تطبق في النشاط الزراعي ولقد جاء ذكر بيع السلم في قانون المعاملات المدنية السوداني الذي صدر في 1984م مستمدا أصوله و أحكامه من الشريعة الإسلامية .
ثانيا : قبول الودائع :-
تقوم البنوك الإسلامية بقبول الودائع وفق الأسس والضوابط التي تتفق ومبادي الشريعة الإسلامية فهي تتولى فتح حسابات الودائع الجارية لعملائها ، كما تقوم بفتح حسابات استثمارية لاستثمارها بما تجيزه الشريعة الإسلامية من معاملات وبمعنى آخر بدون معدل فائدة محدد مسبقا كما هو الحال في البنوك الأخرى , وإنما يتم الاستثمار على أساس حصة متفق عليها من الأرباح .
ثالثا :- الاستثمارات :-
لقد برزت أخيرا الحاجة لتحويل الأموال من المدخرين المسلمين إلى المستثمرين لأنه في أغلب الأحيان لا يتمتع المدخرون بالقدرة على استغلال الفرص الإستثمارية المربحة ، على شرط أن يتم استثمار تلك الأموال وفقاً قواعد ومبادىء الشريعة الإسلامية وتجنب شبهة الربا ، وتقوم البنوك الإسلامية بدور الوساطة المالية من خلال تعزيز عملية الادخار والاستثمار ، وتتم هذه العملية عن طريق التمويل المباشر من خلال أسواق الأسهم أو من خلال القيام بدور الوساطة المالية في هذه الأسواق.
وتتضح أهمية الوساطة المالية من حقيقة أن ثلثي الاستثمارات الجديدة تمر من خلال هذه العملية في معظم البلدان ، فالناس يحتاجون إلى الخدمات المصرفية وبما أن الفائدة محظورة فان الاقتصاديات الإسلامية تقف إمام تحدي كبير يتمثل في إيجاد وسائل بديلة للقيام بالوظائف المصرفية المختلفة .
ويعتبر العلماء المسلمون أن كسب أرباح من خلال القيام بدور الوساطة يعتبر مهنة صحيحة بالرغم من تداخل مفهوم الوساطة المالية مع إنتاج وتبادل السلع الحقيقية والخدمات .
رابعا :- أوجه النشاط الثانوي للبنوك الإسلامية :-
لا تختلف اوجه النشاط الثانوي للبنوك الإسلامية عن اوجه النشاط الثانوي للبنوك التجارية من حفظ الأمانات وشراء وبيع أوراق مالية لحساب الغير بشرط أن تكون تلك الشركات تعمل وفق أحكام الشريعة الإسلامية .
وكذلك تحصيل الأموال نيابة عن العملاء ما عدا خصم الكمبيالات الذي لا تجيزه الشريعة الإسلامية , و إدارة ممتلكات العملاء نيابة عنهم وكذلك النصح والإرشاد في المسائل المالية وتقديم خطابات الضمان ، وفتح الاعتمادات المستندية وقبول التأمينات وإصدار الشيكات وكذلك إعطاء شهادات وكشوف للعملاء والقيام بأبحاث اقتصادية ونشرها .
خامسا:- التجارة المحلية والاستيراد والتصدير:-
تقوم البنوك الإسلامية بممارسة بعض الأنشطة التجارية من خلال شراء السلع لحساب البنك وبيعها سواء في الداخل أو في الخارج.(/5)
... مفهوم النمو الاقتصادي ومقوّماته
إن مادة النون والميم والياء أصبحت اليوم جذراً لأهم المصطلحات الاقتصادية التي يتناولها الباحثون الاقتصاديون والسياسيون في شتى المجتمعات.
فمن هذه المادة نرى مصطلحات: النمو، والتنمية، والدول النامية، والدول الأقل نموّاً، إلى آخر تلك المصطلحات.
ويعتبر النمو الاقتصادي من أهم الأهداف السياسية للحكومات في مختلف بلدان العالم، سواء المتقدمة منها أو المتأخرة. وتعتبر برامج التنمية الاقتصادية من أهم أطروحات الأحزاب المتطلعة إلى الحكم، وعلى أساسها يقاس نجاح الحكومات أو إخفاقها، كما تجري على أساسها محاسبة الحكام من قبل شعوبهم.
======================================
ولم تعد التنمية الاقتصادية مجرد قيمة يدعى الناس إليها ويُشَجّعون عليها فحسب، بل أصبحت الشغل الشاغل للهيئات التشريعية والمجالس التنظيمية في البلاد. ومن ثَمَّ أصبحت مناقشة الميزانية، وأسعار العملات، ومعدلات النمو، والتضخم، والبطالة من أهم أعمال مجالس الشعوب وكافة الدوائر الحاكمة.
وعلى أساس هذا المصطلح جرى تصنيف دول العالم إلى دول العالم الأول، والثاني، والثالث كما جرى تصنيفه إلى دول متقدمة، ودول نامية، ودول أقل نموّاً. وعلى أساسه أيضاً تقوم إحصاءات لحساب ما يعرف بالدخل القومي للبلاد المختلفة، وبه يتم تحديد متوسط دخل الفرد سنويّاً.
ولأهمية مفهوم النمو الاقتصادي وأثره في قوة الدول وتقدمها في معترك الحياة الدولية كان لابد من وضع تعريف دقيق له؛ كي يجري بناء الأبحاث الاقتصادية عليه.
وعند إرادتنا وضع تعريف للنمو الاقتصادي علينا أن ندرك أن ثمة فارقاً بين مفهوم النمو في الاقتصاد الرأسمالي، ومفهومه في الاقتصاد الإسلامي نظراً لاختلاف القاعدة الفكرية التي يبنى عليها كلا المفهومين.
ففي الاقتصاد الرأسمالي ينظر إلى التنمية والنمو على أنها هي حل المشكلة الاقتصادية الرئيسة، وهي مشكلة الندرة النسبية للسلع والخدمات بإزاء حاجات الإنسان المتجددة.
ومن ثَمَّ يكون تعريف النمو الاقتصادي عند الرأسماليين هو: الزيادة في إنتاج السلع والخدمات لتكفي الحاجات الكلية في المجتمع وتفيض عنها؛ كي تحقق مستوى أعلى من الرفاهية. والاقتصاد الرأسمالي ينظر إلى النمو على مستوى المجتمع، لا على مستوى الأفراد ويعالج الزيادة في الإنتاج الكلي وفي الدخل القومي، لا في إنتاج كل فرد ومقدار دخله.
وبناءً على ذلك يجري حساب معدلات النمو بناءً على: حساب الإنتاج الكلي الذي ينتجه المجتمع كلّه والدخل الناتج عن هذا الإنتاج، وبناءً على حساب الميزان التجاري وما يحققه من عجز أو فائض في الدخل الكلي، ثم بناءً على هذه الحسابات الكلية يجري تقدير افتراضي لدخل الفرد ومقدار كفايته أو رفاهيته، وهو تقدير يبعد كثيراً عن الواقع نظراً لسوء التوزيع. فيقدر مثلاً أن هذا المجتمع متوسط دخل الفرد فيه خمسة آلاف دولار سنويّاً، وهذا المجتمع ألف دولار وهكذا. وبناءً على هذه المحددات وضعت المنظمات الرأسمالية الدولية تعريفات للدول النامية والدول الأقل نموّاً؛ فقالت مثلا عن الدول "الأقل نموّاً" والتي تُمْنَح مزايا خاصة في اتفاقات التجارة الدولية: هي الدول التي لا يزيد متوسط دخل الفرد فيها عن 1000 دولار سنويّاً.
أما تعريفات "النمو"، أو"التنمية الاقتصادية" بناء على القاعدة الفكرية الإسلامية فإنَّ الاقتصاد الإسلامي لا يجعل التنمية ـ رغم أهميتها ـ هي القضية الاقتصادية الأولى، ولا حل المشكلة الاقتصادية الرئيسة؛ لأن المشكلة الاقتصادية في الإسلام ليست هي الندرة النسبية للموارد، وإنما هي الكفاية الإشباعية من الحاجات الضرورية لدى جميع أفراد الرعية بغض النظر عن وفرة الموارد أو ندرتها. والكفاية لا يُنظر إليها باعتبار المجموع أو باعتبار متوسط الدخل، وإنما يُنظر فيها إلى الأفراد فرداً فرداً، ويتم حلها عن طريق تنظيم توزيع الثروة من خلال الزكاة، ومن خلال رعاية الدولة للفقراء والمساكين.
فإذا استقرينا نصوص الشريعة الإسلامية المتعلقة بالاقتصاد نجدها تُكثر من التشديد على كفاية الفقراء، والمساكين، والغارمين، والمحتاجين بشكل يدلل على أن هذه هي المشكلة الرئيسة، وليست الندرة أو زيادة الإنتاج أو النمو.
وليس معنى ذلك أن الاقتصاد الإسلامي يحط من شأن النمو الاقتصادي وزيادة الإنتاج، ولكنه يجعلها في المرتبة الثانية من الأهمية بعد تحقيق الكفاية والحياة الكريمة لجميع أفراد الرعية.(/1)
فإذا ما حققت الدول تلك الكفاية وجدنا أن الإسلام قد أوجب عليها النمو الاقتصادي ولكن بمفهوم يختلف عن مفهوم الرأسماليين؛ فقد أمر الله تعالى الدولة الإسلامية على سبيل الوجوب بالإعداد لقتال الكفار قال تعالى: { وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم } (الأنفال/60) والإعداد هنا يشمل حتماً القوة المادية وهي تقدر بقيمة اقتصادية، ورباط الخيل ينطبق على كافة وسائل الحرب من تقانة عسكرية، وآلات، ومعدات، وهذه كلها تحتاج إلى فائض في خِزانة الدولة يتوجّب على الدولة توفيره، وثمة نص آخر يأمر المسلمين أن لا يكون للكفار سلطان عليهم، { ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً } (النساء) وهذا النص عام، يشمل بعمومه السلطان الثقافي والعسكري؛ فيتطلب ـ من ثَمَّ ـ من الدولة تحقيق النمو الاقتصادي الذي يحقق هذه المنافسة.
فإذا كان الاقتصاد الرأسمالي ـ كما ألمحنا ـ يعرّف "النمو" بأنه: "زيادة الإنتاج للرفاهية" ولرفع مستوى المعيشة عند مجموع الأفراد، لا عند آحادهم فإن الاقتصاد الإسلامي يعرفه بأنه زيادة دخل الدولة لتحقيق القوة اللازمة لنشر الدعوة ومواجهة الدول الأخرى، أما رفاهية الأفراد وتنمية ملكهم فإن الإسلام يشجع الأفراد عليها من خلال الحث على العمل وتحبيب الغنى والإنفاق والنهي عن المسألة، وينحصر دور الدولة في الإشراف، وتمكين الناس من تنمية ممتلكاتهم.
الآثار الاقتصادية لمفهوم التنمية الرأسمالي
لا شك أن القيادة الفكرية الرأسمالية مخفقة باعتبارها عقيدة تفصل الدين عن الحياة، وهذا الإخفاق من الطبيعي أن لا ينتج سوى معالجات فاسدة لمشكلات الإنسان.
فالنظر إلى مشكلة الندرة النسبية وجعلها هي محور الدراسات الاقتصادية، والنظر إلى زيادة الإنتاج الكلي والدخل القومي، وجعلها هي الحل الأساسي للمشكلة الاقتصادية ـ كل هذا أدى بالاقتصاد الرأسمالي إلى سوء توزيع الثروة، وإلى طبقية المجتمعات الرأسمالية، وجعل كل نمو أو زيادة في الدخل إنما يصب في جيوب الأغنياء؛ لأن الدولة عندما تهمل تنظيم التوزيع وتتركه للناس زاعمة أن ميكانيكية العرض والطلب ستقوم به على خير وجه، فإن الواقع الذي يحدث حتماً هو أن ثمة قانوناً غير عادل يحكم هذه المسألة، وهو قانون القوة، فالأقوى ماليّاً أو عقليّاً أو جسديّاً يكون أقدر من غيره على حيازة الثروة.
ولهذا نجد المجتمعات الرأسمالية كلما ازدادت غنىً ازدادت أعداد الفقراء فيها؛ ففي أميركا عام 1998 أُعْلِنَ أنه يوجد 20 مليون مواطن بلا مأوىً، وفي عام 2000 بعد تحقيق فائض تاريخي في ميزان المدفوعات الأميركي أُعلِن أنه يوجد بها 35 مليون مواطن بلا مأوىً، وهؤلاء المواطنون فاقدو المأوى لم تناقش الحكومة الرأسمالية إنفاق سنتٍ واحد عليهم من ذلك الفائض المهول، في حين جرى التفكير في إنفاقه على حماية التجارة الأميركية، وحماية حقوق الملكية الفكرية التي تضمن احتكار المنتجات الأميركية للأسواق المختلفة، وحماية المصالح الاستراتيجية الأميركية. وبالتدقيق في هذه المصارف نجد أنها كلها تدور حول تنمية الدخل الكلي المتمثل في تنمية ثروة الشركات الكبرى وهو يؤدي إلى زيادة ثروة الأغنياء وزيادة الفجوة بين الطبقات ومن ثَمَّ إلى زيادة أعداد الفقراء.
فإذا بحثنا في آثار مفاهيم التنمية الاقتصادية الرأسمالية في العالم المتقدم وجدنا أن التنمية لا تغني الفقراء حتى إذا تحققت تلك التنمية بمعدلات واسعة، بل إنها قد تزيدهم فقراً بسبب سوء توزيع الثروة، لكن فضل التنمية الوحيد عندهم هو في زيادة الأغنياء غنى وقوة وسيطرة، ليس على بلادهم فحسب، وإنما على مستوى العالم، فالنمو الرهيب الذي حدث لأميركا في الآونة الأخيرة زادها قوة وعربدة واحتكاراً للتقانة، وهي كلها مزايا مسخرة طبعاً لصالح أصحاب الشركات الكبرى، إذ إن أثر التنمية على الدول المتقدمة هو أن التنمية تقوي الدولة والأغنياء، ولا تنفع الفقراء.
فإذا انتقلنا ببحثنا إلى الدول المتخلفة، نجد أن التنمية الرأسمالية لا تنفع الفقراء ولا حتى الأغنياء وأنها تزيد الدولة والمجتمع فقراً.
والسبب في ذلك أن الاقتصاديين والحكام في البلاد النامية يرون أن التنمية تمر بمراحل ثلاث:
l المرحلة الأولى: مرحلة إنتاج السلع: وفي هذه المرحلة تعتمد الدول النامية على استيراد آلات الإنتاج واستيراد التكنولوجيا من الدول المتقدمة، وتستخدمها في إنتاج السلع التي تسد احتياجات السوق المحلية.
l المرحلة الثانية: التوسع في إنتاج السلع لكفاية السوق المحلي: وفيها المزيد من الاعتماد على التكنولوجيا المستوردة لتحقيق فائض إنتاجي في السلع؛ لكي يصدر إلى الأسواق الخارجية ليحقق فائضاً في الدخل القومي ليستغل في المرحلة الثالثة.
l المرحلة الثالثة: استغلال الفائض في الميزان التجاري والذي ينتج عن تصدير السلع المنتجة محلياً وتسخير هذا الفائض من أجل إنتاج الآلات نفسها وإنتاج التقانة.(/2)
وهذه التنمية الوهمية ما هي إلا تسويق لتقانة الدول المتقدمة، وحيلولة دون منافستها في إنتاجها، وتؤدي إلى مزيد من التبعية الاقتصادية.
في ظل هذه التنمية الوهمية يستحيل على الدول النامية تحقيق فائض في الميزان التجاري؛ لأن أسعار التقانة المستوردة أغلى كثيراً من أسعار السلع المنتجة محليّاً، كما أنها تؤدي بالدول النامية إلى هيكلة إنتاجها على أساس إنتاج السلع، فيكون من المتعسر تحويل الهيكلة الإنتاجية بعد ذلك إلى هيكلة تنتج التقانة لما في ذلك من خسارة مالية كبيرة بالنسبة لتلك الدول.
والواقع المحسوس يؤكد أن الدول التي خضعت أو أُخْضِعَت لمشاريع التنمية الرأسمالية بمفهومها المرحلي لم تخرج من ربقة التبعية منذ أكثر من خمسين عاماً وحتى اليوم، وأنها تزداد اعتمادا على التكنولوجيا المستوردة والآلات المصنعة في الدول المتقدمة.
لهذا السبب فإن التنمية بمفهومها الرأسمالي لا تزيد الدول النامية إلا فقراً، ولا تنفع الفقراء ولا الأغنياء، وليست في صالح الدولة، ولا في صالح الشعوب.
مشروعات التنمية في البلاد الإسلامية
المقصود بالبلاد الإسلامية تلك التي أغلب سكانها مسلمون، وكانت تعيش يوماً ما في ظل الحكم الإسلامي الذي أسقط عام 1924، وهي كلها تصنف ضمن ما يسمى بالبلاد النامية. ولا يقصد بالنامية التي نمت بالفعل، وإنما يقصد الآخذة في النمو، أو بالمعنى الأدق المتّبعة للمشروعات التنموية المقترحة من قِبَل المؤسسات الرأسمالية الدولية.
وهذه البلاد الإسلامية عن بكرة أبيها تنفذ بشكل جاد عدة مشروعات تنموية تَعِدُ الناس من خلالها بأن يخرجوا من عنق الزجاجة، وأن يلحقوا بالعالم المتقدم، وهذه الدعوة ليست عند التدقيق سوى تخدير للشعوب من أجل المزيد من الانتظار... والغرب الكافر الحاقد على الإسلام والمسلمين المحارب لدينهم لا يعد المسلمين في هذه المشروعات إلا غروراً...
وإذا كنا قد تبينا فساد التنمية الاقتصادية بمفهومها الرأسمالي، وآثاره الخطرة على المجتمعات ولا سيما المتأخرة ـ فقد كان هذا بياناً نظريّاً، وهذا البيان النظري لابد أن نتبعه بنظرة تطبيقية لما يجري من مشروعات تنموية في العالم الإسلامي؛ فإذا أنعمنا النظر في التشريعات والقرارات المتخذة من قبل الحكومات نجد المشروعات التالية:
1) فتح المجال للاستثمار الأجنبي: حيث يزعم حكام البلاد الإسلامية أن الاستثمار الأجنبي سيحقق جذباً للتكنولوجيا وللعملة الأجنبية، كما سينشئ مشروعات كبرى سوف توفر فرص عمل للشباب العاطلين.
والحقيقة أن المستثمر الأجنبي يدخل السوق المحلية ليوفر تكلفة منتجاته باستغلال الأيدي العاملة الرخيصة مقابل تلك الباهظة الأجرة في البلدان المتقدمة، كما يستغل السوق المحلية في تسويق منتجاته دون جمارك حيث سيوضع عليها شعار صنع في مصر، أو في السعودية، أو في أي بلد من بلادنا.
كما أن هذا المستثمر الأجنبي يستغل ما يمنح له من امتيازات لن يُمْنَحَها إذا أنتج في الخارج ثم صدّر بضاعته إلى هذه البلاد.
وهذا المستثمر لن يسمح بتسريب التقانة أو بتعليمنا كيف نستغني عنه، وأقصى ما يعلمنا هو كيفية استعمال آلاته الإنتاجية.
أما ما ينتظر من ثمار المشروعات العملاقة فإنه معظمه سيصب في جيب ذلك المستثمر ويؤول الفتات إلى العاملين المحليين.
أما مشكلة العملة الأجنبية (الصعبة) فهي لا تُحَلّ بواسطة المستثمر الأجنبي؛ لأنه علاج لنتيجة المشكلة لا لسببها، أما السبب فهو يتعلق بكون الواردات أعظم من الصادرات ومن ثم فهو يتعلق بالصناعة لا بدخول المستثمر الأجنبي وأمواله.
وأما فرص العمل المنتظرة من رأس المال الأجنبي فهي مع محدوديتها لا تحل مشكلة الفقر في المجتمع؛ لأن القضية هي كيف نوفر الدخل المناسب لجميع أفراد الرعية، وهي مشكلة سوء توزيع لا مشكلة زيادة دخل أو زيادة فرص عمل.
2) الدخول في المنظمات والهيئات الدولية: ففي زعم حكام العالم الإسلامي أن العزلة عن التعامل مع دول العالم غير ممكنة اليوم، ولا سبيل للحاق بركب التقدم إلا بالدخول في المجتمع الدولي، ومن ثم هرعوا جميعاً إلى الانضمام إلى منظمة التجارة العالمية، وقبلها إلى صندوق النقد، وإلى البنك الدولي... ولا يخفى على ذي لب أن هذه المؤسسات تعمل لخدمة الدول المتقدمة، واتفاقاتها جميعاً تعمل على فتح أسواق الدول المتخلفة أمام بضائعها، وخفض رسوم الجمارك عليها، وزيادة نفوذ رأس المال الأجنبي والدول العظمى في هذه البلاد.
3) حوافز الاستثمار: يزعم حكام بلادنا الإسلامية أن المستثمرين المحليين هم الأمل في التنمية الاقتصادية؛ لذا لابد من رعايتهم وتحفيزهم على الاستثمار في بلادهم حتى لا يخرجوا بأموالهم لاستثمارها في الخارج.(/3)
وهذا التحفيز يكون من خلال دعم مشروعاتهم، وخفض الضرائب عنهم، ومنحهم مختلف المزايا والتيسيرات؛ وبهذا انقلب الوضع: فأصبحت الضرائب تؤخذ عنوة من الفقراء وتقتطع من رواتب صغار الموظفين قبل قبضها، في حين يعفى منها الأغنياء، بل تبذل لهم أموال الدولة في صورة دعم وتسهيلات، وكأن الزكاة في ظل هذا النظام قد وجبت على الفقير في صالح الغني. والمقابل ـ إن نجحت مشروعات هؤلاء المستثمرين ـ أن يزدادوا غنىً وطبقيّة كما هو في الدول المتقدمة، ويزداد الفقراء فقراً وعوزاً.
أما مسألة جذبهم حتى لا يخرجوا بأموالهم فهذا حل غير عملي، أولاً لأن جذب الاستثمار في ذاته ليس غايةً، بل الغاية هي الاكتفاء الذاتي زراعيّاً وصناعيّاً. وثانياً لأن جذب الاستثمار يكون بالتحول إلى دولة تقانية تقوى على المنافسة، وهذا لن يتم إلا بالتخلي عن مراحل التنمية المشار إليها آنفاً.
ومن الناحية العملية نجد أن استثمارات العالم العربي في البنوك الأجنبية في تزايد مطّرد. وجدير بالذكر أن حكام تلك البلاد الذين يرفعون شعار جذب الاستثمار أكثر الناس استثماراً للأموال بالخارج.
4) تحديد النسل: في ظل عجز حكام العالم الإسلامي عن مواراة سوأة أنظمتهم، وفي جو قد شحن بفكرة صعوبة أو استحالة تحقيق الاكتفاء الذاتي، قد عمدوا إلى إيهام الشعوب أن مجرد توفير القوت لهم ـ وبلادهم أكثر بلاد العالم غنىً بالموارد ـ قد بات شبه مستحيلٍ، وأن السبب في ذلك لا يرجع إلى فساد النظام الرأسمالي المطبق، ولا إلى فساد الحكومات وامتلائها بالنفعية والرشوة، بل يرجع لكثرة النسل.
وبغض النظر عن تجاوب الرأي العام مع هذه الدعوى فإن فيها صرفاً شديداً لأنظار الناس عن السبب الحقيقي للأزمات الاقتصادية.
5) مشروعات السلام: يزعم حكام العالم الإسلامي زعماً تردده وسائل إعلامهم ليل نهار، وهو أن الدمار الاقتصادي الحادث في بلادهم سببه ما كان في الماضي من حروب وصراعات سياسية داخلية أو خارجية، وأن السلام والاستقرار هما أساس التنمية.
وهذا الزعم يقصد به صرف الأذهان عن السبب الحقيقي للدمار الاقتصادي، كما يقصد به تثبيت حكم هؤلاء الحكام بإيهام الناس أن العمل ضدهم سيؤدي إلى مزيد من الفقر، كما يقصد به أيضاً تمرير مشروعات السلام المحرّمة توسلاً إلى الناس بالوعود بالرخاء المزعوم.
وبعيداً عن الهدف من وراء هذه المزاعم فإن الواقع والتاريخ يكذبها؛ فالواقع يشهد كيف أن أكثر الدول حرباً تتمتع برخاء اقتصادي، كدولة يهود، وأميركا، ولا سيما دولة يهود فهي في حالة حرب دائمة في الخارج، وفي حالة عدم استقرار في الداخل. وأما التاريخ فنجده يشهد بذلك أيضاً؛ فتاريخ الدولة الإسلامية يؤكد أنها لم تخل من فتن داخلية، وجهاد، وحرب خارجية، ورغم ذلك كانت غالباً على درجة من الغنى كبيرة، وأن أشد حالات فقرها أقل بكثير مما هو في الواقع المعاصر.
6) توسيع الرقعة المزروعة: من جملة هذه الحلول التنموية الترقيعية، فكرة أن المشكلة هي كثافة السكان مع نقص الموارد وعدم كفاية القوت، وأنها السبب في الخلل، ومن ثم لابد من البحث عن مصدر آخر لزيادة القوت... وأكبر مثال على ذلك ما تقوم به الحكومة المصرية من مشروع توشكى، واستصلاح الصحراء بها، ومد فرع من النيل إليها، بناء على زعم أن الوادي الضيق قد ضاق بأهله وأصبح لا يفي بقوتهم ولابد من الخروج منه.
والفكرة لا يعاب فيها استصلاح الأرض، ولكن الذي يعاب هو سوء فهم المشكلة الاقتصادية، فالقوت ليس قليلاً، وإنما أكثره يصدر بأبخس الأثمان بغية الحصول على العملة (الصعبة) لشراء التقانة المحتكرة من قبل الغرب. وأن الحل ليس في توشكى ولا في استصلاح صحراء مصر كلها طالما أن البلاد مُسيطَر عليها من قبل الاحتكاريين الاستعماريين في الغرب، ولا مخرج من الأزمة الاقتصادية إلا بنبذ المشروعات الغربية الرأسمالية وتطبيق الإسلام.
جدير بالذكر أن مشروعاً كهذا في مصر وإن كان غير مدعوم بثقة الناس إلا أنه يستهلك الرأي العام ويصرفه عن التفكير الصحيح.
هذا بعض ما يدار من مشروعات تنموية في البلدان الإسلامية، وكلها تقوم على الفكرة الرأسمالية التي تعتقد في الندرة النسبية للموارد، وفي أن حاجات الناس أكثر، ومن ثم لابد من زيادة الموارد بغض النظر عن توزيعها.
التنمية الاقتصادية المثلى والحل الصحيح
حتى لا يكون ما سبق هو نوع من النقد الهدّام أو الرفض للرفض، نسوق هذه الأفكار إلى المخلصين من المسلمين ليعملوا لها من أجل إصلاح الحال الاقتصادي الفاسد في البلاد الإسلامية، بل في العالم بأسره. وهذا الحل يقوم على الأسس التالية:
1) القيادة الفكرية الإسلامية هي وحدها الصحيحة، وهي وحدها القادرة على حل مشكلات الإنسان بحلول صحيحة منبثقة عن كتاب الله وسنة رسوله وما أرشدا إليه من أدلة شرعية.(/4)
2) النظرية الاقتصادية الإسلامية طُبّقت بنجاح منذ أقام الرسول - صلى الله عليه وسلم - الدولة بالمدينة حتى سقطت في مطلع القرن العشرين، وهي وإن أسيء أحياناً تطبيق بعض الأحكام فيها إلا أنها كانت في أكثر الأحوال تتمتع برخاء اقتصادي وصناعي وثقافي يتناسب مع وضع الدولة الأولى في العالم. وأما ما يروى من الإسراف في جمع الضرائب أحياناً من قبل العباسيين والعثمانيين والمماليك فلا يبلغ معشار ما يجبى اليوم من ضرائب في العالم المتقدم أو المتأخر، وإنه وإن كان لا مبرر اليوم للضرائب الباهظة، لكنه بالنسبة لتلك الدولة الإسلامية يبرره ما كانت فيه من حروب مستمرة وفتوحات. كما أنه رغم الضرائب يندر أن تروى أخبار للدولة الإسلامية تشبه جائعي الدول المتقدمة أو المتأخرة. اللهم إلا في حالات المجاعات أو الحروب.
3) فلسفة النظرية الاقتصادية في الإسلام تقوم على الكفاية أولا للمحتاجين من بيت المال ومن الزكاة، وهذا ليس تشجيعاً على البطالة كما يزعم المرجفون، بل هو حق للفقير، وهو في أساسه حماية للغني من خوف الفقر وتشجيع له على المغامرة واستغلال رأس ماله في المجتمع باطمئنان.
4) سر التنمية الاقتصادية هو في صناعة الآلات وامتلاك تقانتها، لا في استيرادها واستخدامها في إنتاج السلع، وجدير بالذكر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أرسل في فترة مبكرة من الدولة الإسلامية صحابيين يتعلمان صناعة الأسلحة في جرش اليمن.
وسر القوة التقانية هو في امتلاك التقانة العسكرية؛ لأنها أساس التقانة المدنية وأساس النهضة الاقتصادية بعامة للأسباب التالية:
أ ـ أغلى الآلات المستوردة هي الأسلحة، فإذا أنتجناها وفرنا أموالاً طائلة تنفق دون داع في شراء هذه الآلات.
ب ـ الأسلحة هي آلات قتال تستخدم في الحرب، أما في حالة السلم فإن أكثر هذه الآلات تستخدم في الحياة المدنية، ومن ثم فإن من يتقدم في هذه يتقدم في تلك بالضرورة. وجدير بالذكر أن أوائل الصناعات المدنية الكبرى في عصرنا هذا قد أنتجت للاستخدام الحربي أولاً، وعلى رأس هذه الصناعات: السيارات، وأجهزة الكمبيوتر، وشبكة الإنترنت.
ج ـ الإسلام حرّم أن يسبقنا الكفار في القوة العسكرية بشكل يجعل لهم سلطاناً علينا. { ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً } (النساء).
وأوجب الإعداد المستطاع { وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم } (الأنفال/60) ومن ثم تصبح التقانة العسكرية واجبة في حقنا نحن المسلمين.
5) امتلاك التقانة لا يحتاج كما يزعم الانهزاميون إلى عقود طويلة، بل هو فقط يحتاج إلى تمويل، والمال موجود عند المسلمين رغم الفقر المشاهَد، وذلك لأن المشكلة هي مجرد سوء توزيع؛ كما أن أخذ المال من المسلمين لإقامة واجب شرعي كهذا يعتبر أخذاً مشروعاً بشرط أن يؤخذ من الأغنياء. ويجدر بالذكر أن المسلمين إذا دعوا إلى الإنفاق في سبيل الله وإلى امتلاك تكنولوجيا عسكرية فإنهم يبذلون أموالهم عن رغبة وسعادة، وليس أدل على ذلك من تظاهرات الفرحة التي قام بها الباكستانيون عند إنتاج القنبلة النووية واستعدادهم لتحمل الفقر في سبيل ذلك.
6) التقدم الاقتصادي يستلزم تطبيق النظام الاقتصادي في الإسلام كله باعتباره أحكاماً من عند اللّه، وهذا بدوره يستلزم تطبيق كافة أحكام الإسلام وعلى رأسها نظام الخلافة.
7) لابد من نبذ الأفكار والمشروعات الرأسمالية الاستعمارية، وطرد النفوذ الغربي من بلادنا، وعدم اللهاث وراء المعالجات المحرّمة بحجة المصلحة والضرورة.
8) الخطوة العملية الأولى في كل هذا هي العمل مع التكتل الصحيح لإقامة دولة الخلافة الراشدة لتطبيق أحكام الإسلام في الحكم والاقتصاد والاجتماع وغيرها...
{ وعد الله الذين ءامنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذين ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون شيئاً ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون } (النور) قرآن كريم
أبو شريف ـ مصر ...(/5)
مفهوم الوسط وأثره في ائتلاف الصف الإسلامي
د. بسطامي محمد خير*
مدخل:
المنهج الوسط هو سمة هذه الأمة المسلمة ، وهو منهج الطائفة القائمة بالحق الظاهرة عليه . ولهذا المنهج الوسط المعتدل في العلم والعمل والدعوة مقومات خاصة وخصائص مميزة. ويحاول هذا البحث أن يستقريء معالم هذا المنهج في العلم والعمل والدعوة ، ويبين أثره في ائتلاف الصف الإسلامي .
ومن أبرز هذه المعالم :
الإعتصام بأصول اليدن وكلياته التي تلقتها ألأمة بالقبول
وإرجاع الأمور العلمية والعملية إلى مصادرها وأهل العلم والخبرة بها
والجمع بين السلفية والمعاصرة
والشمول في أخذ الدين كله دون تجزئة بعضه عن بعض
والبصر والفقه بالأولويات والتقديم والتأخير
ومعرفة مواطن الرفق والتيسير دون تقصير أو تحريف ومواضع الشدة والحزم دون تنطع أو غلو
والصدع بالرأي بعد التحقق من صحته دون محاباة أو خشية
والقوة والقدرة على تغيير الواقع بأفضل السبل دون تعد على الحقوق أو ركون إلى الظلم
والحوار بالحسنى مع الولاء للحق والتحرر من التعصب للأشخاص والمذاهب والطوائف
والعدل والإنصاف في الحكم على الناس عوامهم وعلمائهم وحكامهم وإنزالهم منزلتهم مؤيدين أو مخالفين
وللاعتصام بالوسط في حياة المسلمين آثار متعددة منها:
استقامتهم على الحق
وجمع كلمتهم ولم شتاتهم والتقريب بين طوائفهم وفرقهم
وتوجيه همتهم إلى الهموم الكبرى والمشكلات العظمى
وتقديم صورة مشرقة ونماذج حسنة للإسلام ترغب في الخير وتحض عليه وتشهد به على العالم كله أنه هو الحق والعدل والخير.
مقدمة
الوسط من أهم سمات الأمة المسلمة ومن خصائصها الأساسية ، التى أثبتها الله عز وجل لها وعرّفها وميّزها بها ، حين قال: (وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً)[1] . وهذه الآية هى الأصل في تحديد مفهوم الوسط ، ومنها انبثقت مقوماته . وقد اصطبغت بخاصية الوسط التى وجه إليها القرآن القرون الماضية والأجيال المتقدمة من المسلمين ، فكانوا بذلك خير أنموذج للحضارة والتمدن ، وخير قادة وأئمة للبشرية علميا وعمليا . ثم تغيرت الحال وتبدلت وضعفت صبغة الوسط بين المسلمين أفرادا وجماعات، وضاعت ملامحها في عصرنا الحاضر ، بل غاب مفهومها عن كثير من الناس حتى صارت توصف بها جماعات هم أحق بأضدادها . ثم تعقدت المشكلة حين تأثر المسلمون بمفاهيم الغرب للوسط ، وشاعت بينهم مسمياتها ، فصارت الأمور مختلطة مختلة مضطربة .
ولما كان مصطلح الوسط بمعناه الإسلامي مفهوم جامع شامل لأصول وقواعد كثيرة ، وهويحدد وظيفة المسلمين العظيمة في هذا العالم ودورهم الكبير في هذه المعمورة ومكانتهم الرئيسية بين البشر ، وينيط بهم مهمة القيام بالشهادة على الناس بالحق والعدل ، يحاول هذا البحث المختصر أن يبين معنى الوسط هذا، ويستقرئ سماته ومعاييره ، ويسعى لتقرير قواعده ومبادئه ، ويستلهم آثاره المتعددة الحميدة لمن اعتصم بها ، خاصة في مجال الاستقامة على الحق وائتلاف الصف وجمع الكلمة ، والتقريب بين جماعات الأمة وتياراتها ومدارسها ، في الفكر والدعوة والعمل .
ونسأل الله السداد والصواب وبه نستعين وعليه نتوكل .
معنى الوسط
للوسط معان متقاربة دلت عليها شواهد كثيرة ، وبالنظر فيما ورد عنها والتأمل في استعمالاتها يتضح أن المصطلح يعود إلى ثلاثة معان أساسية متقاربة .
الأول أن كلمة وسَط بفتح السين تجيئ اسما لما يكون جزءا من شئ بين طرفين له . تقول مثلا قَبَضْت وسَط الحبْل وكسرت وسَط الرمح وجلست وسَط الدار . ولاحظ ابن منظور في لسان العرب أن وسَط جاءت على نفس وزن نقيضها طرَف ، كما ورد ذلك في كثير من الكلمات الأخرى نحو جَوْعانَ وشَبْعان وطويل وقصير[2]. وأما كلمة وسْط بسكون السين فهي تختلف عن وسَط بالفتح في أمرين ، الأول أنها ظرف بمعنى بيْن وليست اسما ، قال الشاعر:
والثاني: أن وسَط بالفتح يكون بعضا من الشئ المضاف إليه ، تقول مثلا وسَطُ رأْسِه صُلْبٌ لأَن وسَطَ الرأْس جزء منها . أما وسْط بالسكون فلا تكون جزءا مما تضاف إليه مثل قولك وسْطَ رأْسِه دُهن ، لأن الدهن ليس من الرأس .[3](/1)
فالمعنى الأصلى لكلمة وسَط بالفتح يدل على كون الشئ نصفا بين طرفين ، سواء كان ذلك في الحسيات من جهات ومقادير وغيرها أو كان في المعاني . ومن الأحاديث التى استعمل فيها هذا المعنى بوضوح ما رواه الترمذي عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (الْبَرَكَةُ تَنْزِلُ وَسَطَ الطَّعَامِ فَكُلُوا مِنْ حَافَتَيْهِ وَلَا تَأْكُلُوا مِنْ وَسَطِهِ)[4] ، فجعل للطعام وسطا وهو ما كان نصفا بين جوانبه . ومن استعمال الكلمة ومشتقاتها في هذا المعنى قول الله تعالى: (فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ)[5] ، يعنى بأوسط ما كان بين الرفيع والدنئ في نوع الطعام اوفي كثرته وقلته . فقد ذكر القرطبي أن معنى أوسط هنا "منزلة بين منزلتين ونصفاً بين طَرفين ، وروى عن ابن عباس قال: كان الرجل يَقُوت أهله قُوتاً فيه سَعة وكان الرجل يَقُوت أهله قُوتاً فيه شدَّة؛ فنزلت: ( مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ ). قال القرطبي: وهذا يدل على أن الوسط ما ذكرناه وهو ما كان بين شيئين.[6] ولهذا جاء في الصحاح في اللغة للجوهري أنه يقال شيءٌ وَسَطٌ، أي بين الجيِّد والرديء.
وبهذا المعنى الأصلى فسر قول الله تعالى (وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً ) . قال الطبرى: وأرى أن الله تعالى ذكره إنما وصفهم بأنهم وسط لتوسطهم في الدين، فلا هم أهل غلوّ فيه ، ولا هم أهل تقصير فيه ولكنهم أهل توسط واعتدال فيه، فوصفهم الله بذلك، إذ كان أحبّ الأمور إلى الله أوسطها.[7] ووافق كثير من المفسرين الطبري فيما رجحه في معنى الآية ، منهم القرطبي الذي قال: " ولما كان الوسط مجانِباً للغلوّ والتقصير كان محموداً؛ أي هذه الأمة لم تَغْل غُلوّ النصارى في أنبيائهم، ولا قَصّروا تقصير اليهود في أنبيائهم."[8] وقال الرازي أيضا: ": يجوز أن يكونوا وسطاً على معنى أنهم متوسطون في الدين بين المفرِط والمفرِّط والغالي والمقصر في الأشياء لأنهم لم يغلوا كما غلت النصارى فجعلوا ابناً وإلهاً ولا قصروا كتقصير اليهود في قتل الأنبياء وتبديل الكتب وغير ذلك مما قصروا فيه."[9]
والمقصود أن معنى وسّط الذي جاء في صفة الأمة المسلمة هو القصد والتوازن ، والبينية والبعد عن طرفي الإفراط والتفريط أو الغلو والتقصير أو التشدد والتساهل .
الثاني: من معانى الوسط قريب الصلة بمعناه الأصلى ، وهو أن الكلمة أصبحت تدل على الأحسن والأفضل ، لأن وسَط الشئ غالبا أحسن مكان فيه ، مثال ذلك أن وسَط الوادي خير مكان فيه وأكثره كلأ ومرعى ، ووسَط الدابة للركوب خير من أطرافها لتمكن الراكب فيه[10] . وفي الصحاح: واسِطةُ القلادة الجَوْهَرُ الذي هو في وَسطِها وهو أَجودها[11]. وقال أبن عاشور في تفسيره: صار معنى النّفاسة والعزّة والخيار من لوازم معنى الوسط عرفًا، فأطلقوه على الخيار النفيس كناية[12] .
وجاء في حديث مرسل (خيرَ الأمُور أوْساطِها)[13] ، ومن تعليقات ابن الأثير على هذا الحديث قوله: "كُلَّ خُصْلة مَحْمُودة فَلَها طَرَفان مَذْمُومَان ، فإن السَّخَاء وَسَط بين البُخْل والتَّبْذِير، والشَّجَاعة وسَط بين الجُبْن والتَّهَور. والإنسان مَأمُور أن يَتَجَنَّب كلَّ وَصْف مَذموم ، وتجنبه بالتَّعَري منه والبعد عنه ، فكلما ازداد منه بعداً ازداد منه تَعَرِّياً ، وأبْعد الجِهات والمقادِير والمَعَاني من كل طرفين وسَطَهُما ، وهو غَايَة البُعد عنهما ، فإذا كان في الوَسَط فقد بَعُد عن الأطراف المَذْمُومة بقدر الإمكان."[14]
ومن استعمالات القرآن لهذا المعنى للوسط قول الله تعالى: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى)[15]، والوسطى مؤنث الأوسط ، وسُمِّيت الصلاة الوسطى لأنها أفْضَل الصلاة وأعْظَمها أجراً ولذلك خُصَّت بالمُحافَظَة عليها ، وإن اختلف في تعيينها ومعنى توسطها ، ففى رأي أنها وَسَط بَين صلاتَي اللَّيْل وصَلاتَي النَّهار ولذلك قيل هي العَصْر وقيل الصُبْح ، وقيل وسط النهار وهي الظهر ، وقيل وسط بين الطول والقصر وهى المغرب.[16]
وأخذ بهذه الخيرية في معنى الوسط جمع من العلماء في تفسير قول الله تعالى: (وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً ) ، واختاره ابن كثير فقال: والوسط هاهنا الخيار والأجود ، كما يقال قريش أوسط العرب نسبا ودارا أي خيرها ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وسطا في قومه أي أشرفهم نسبا ، ومنه الصلاة الوسطى التي هي أفضل الصلوات[17] . واستدل الرازي لمن قال أن هذا القول أولى في تفسير الوسط بأنه موافق لوصف الأمة بالخيرية[18] في قول الله تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ)[19] .(/2)
الثالث: من معانى الوسط أنه العدل ، وقد ثبت في حديث صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في قول الله تعالى (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) ، قَالَ "وَالْوَسَط الْعَدْل" ، رَوَاهُ الْبُخَارِيّ وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَهْ عن أبي سعيد الخدري . وعلّق ابن حجر على تفسير العدل بالوسط أنه لا ينافي تفسير الوسط بمعانيه الأخري فقال: " لا يلزم من كون الوسط في الآية صالحا لمعنى التوسط أن لا يكون أريد به معناه الآخر كما نص عليه الحديث ، فلا مغايرة بين الحديث وبين ما دل عليه معنى الآية"[20] . ونقل هذا المعنى في تفسير الوسط عن عدد من الصحابة والتابعين منهم أبوهريرة وابن عباس وأبو سعيد ومجاهد وقتادة . قال الرازي: إنما سمي العدل وسطاً لأنه لا يميل إلى أحد الخصمين، والعدل هو المعتدل الذي لا يميل إلى أحد الطرفين[21].
واستُدِل لهذا المعنى من الشعر بقول زُهَيْر :
وَقَالَ آخَر :
لَا تَذْهَبَن فِي الْأُمُور فَرَطًا
لَا تَسْأَلَن إِنْ سَأَلْت شَطَطَا
وَكُنْ مِنْ النَّاس جَمِيعًا وَسَطَا
وبمعنى العدل فسر الأوسط أيضا في قول الله تعالى: (قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ)[22] ، قال ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وعكرمة، ومحمد بن كعب، والربيع بن أنس، والضّحاك، وقتادة: أي أعدلهم وخيرهم . وقال القرطبي: أي: أمثلهم وأعدلهم وأعقلهم[23] .
والخلاصة: أن الوسط جاء في الأصل لما انتصف بين طرفين ، ولأن أحسن الأشياء أوسطها كان الوسط بمعنى الأحمد والأجود والأفضل والخيِّر ، وما كان خيرا فهو عدل. وعلى هذا فإن معانى الوسط متقاربة وليست متنافية كما قال الرازي[24] .
ومع أن مصطلح الوسط كلمة جامعة تتسع لمفاهيم كثيرة من التوسط والتوازن والقصد والخير والاعتدال، إلا أنه من الأمور الإضافية . والمراد من الوسط الذي هو سمة أساسية من سمات الأمة المسلمة ، المفهوم الإسلامي له . إذ أن معنى الوسط يختلف باختلاف الدين والثقافة والحضارة . فما كان وسطا من وجهة نظر الثقافة الغربية مثلا فليس هو الوسط من وجهة نظر الإسلام ، إذ أن لكل ثقافة معاييرها ومنهجها في تحديد الوسط . وأحسب أن هذا ينطبق على كثير من المفاهيم الأخرى مثل العدل والمساواة والحرية وغيرها . فلا بد إذا لتحديد معنى الوسط بمفهومه الإسلامي تحديدا دقيقا من اعتبار ضوابط الإسلام وموازيينه . وقد أوضح الله تعالى الصلة بين الصراط المستقيم والوسط[25] حين قال: (يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ )[26] ، ثم قال (وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ويَكُونُ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدا ) . فقد فسر كثير من المفسرين أن المقصود بقوله تعالى (وكذلك ) يعنى أنعمنا عليكم بجعلكم أمة وسطاً، مثل ما سبق إنعامنا عليكم بالهداية إلى الصراط المستقيم . فتكون هداية الأمة المسلمة إلى الصراط المستقيم وخصها بأكمل الشرائع وأقوم المناهج وأوضح المذاهب ، هو الأساس الذي يقوم عليه اتصافها بالوسط علما وعملا . ومن أحسن المواضع التى تستبين منها الصلة بين الصراط المستقيم والوسط قول الله تعالى في سورة الفاتحة: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ) . فدل ذلك على أن الصراط المستقيم هو طريق المنعم عليه ممن علم الحق وعمل به ، وهو وسط بين طريق من علم الحق ولم يعمل به فكان مغضوبا عليه ، وطريق الضال الذي جهل الحق أصلا ولم يهتد إليه .[27] وفي هذا المعنى قال ابن كثير أن صراط الذين أنعمت عليهم "هم أهل الهداية والاستقامة والطاعة لله ورسله ، وامتثال أوامره وترك نواهيه وزواجره ، غير صراط المغضوب عليهم وهم الذين فسدت إرادتهم فعلموا الحق وعدلوا عنه ، ولا صراط الضالين وهم الذين فقدوا العلم فهم هائمون في الضلالة لا يهتدون إلى الحق ."[28] ومما ينبغى التنبيه عليه أن وصف الأمة المسلمة بسمة الوسط لا يعنى أن كل من انتسب للإسلام فهو وسط ، بل وصف الوسط لا يتحقق إلا لمن قام بحقوقه التى سنوضح مقوماتها فيما بعد ، وقد كان للصحابة والرعيل الأول من السلف المقام المعلى من ذلك ، ولا يخلو كل عصر من جماعة هذه صفتهم ، حسب ما جاء من آحاديث في الطائفة الظاهرة ، ومنها حديث الذى رواه مسلم عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك)[29].
وظيفة الشهادة على الناس(/3)
أوضح قول الله تعالى: (وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ويَكُونُ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدا ) ، أنه قد انيط بالمسلمين بسبب كونهم وسطا مهمة عظيمة وهى الشهادة على الناس بالحق والعدل ، مثل ما كان الرسول صلى الله عليه وسلم شهيدا عليهم بذلك . ولا بد من النظر في معنى هذه الشهادة وبيان حقيقتها . أما معنى الشهادة في اللغة فيكفي أن ننقل هنا ما بينه الرازي عنها حين قال:
" الشهادة والمشاهدة والشهود هو الرؤية يقال: شاهدت كذا إذا رأيته وأبصرته، ولما كان بين الإبصار بالعين وبين المعرفة بالقلب مناسبة شديدة لا جرم قد تسمى المعرفة التي في القلب: مشاهدة وشهوداً، والعارف بالشيء: شاهداً ومشاهداً، ثم سميت الدلالة على الشيء: شاهداً على الشيء لأنها هي التي بها صار الشاهد شاهداً، ولما كان المخبر عن الشيء والمبين لحاله جارياً مجرى الدليل على ذلك سمي ذلك المخبر أيضاً شاهداً، ثم اختص هذا اللفظ في عرف الشرع بمن يخبر عن حقوق الناس بألفاظ مخصوصة على جهات مخصوصة ."[30]
فالشهادة إذن هي العلم بالشئ ومعرفته والإخبار عنه والدلاله عليه والاحتجاج له . فالمسلمون شهداء بالحق بسبب معرفتهم به وهداية الله لهم إليه ، وبسبب إخبارهم للناس عنه وبيانهم له والاحتجاج له ، وبسبب حكمهم على الناس خيرهم وشرهم بالعدل وتقويم آرائهم وأعمالهم .
وقد دلت الآثار على أن شهادة المسلمين هذه حادثة وحاصلة في الدنيا ، كما أنها أيضا واقعة وكائنة في الآخرة . أما الشهادة في الدنيا فقد دل عليها ما رواه أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: "مُرَّ بِجَنَازَةٍ فَأُثْنِيَ عَلَيْهَا خَيْرًا ، فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَجَبَتْ وَجَبَتْ وَجَبَتْ . وَمُرَّ بِجَنَازَةٍ فَأُثْنِيَ عَلَيْهَا شَرًّا ، فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَجَبَتْ وَجَبَتْ وَجَبَتْ . قَالَ عُمَرُ: فِدًى لَكَ أَبِي وَأُمِّي ، مُرَّ بِجَنَازَةٍ فَأُثْنِيَ عَلَيْهَا خَيْرٌ فَقُلْتَ وَجَبَتْ وَجَبَتْ وَجَبَتْ ، وَمُرَّ بِجَنَازَةٍ فَأُثْنِيَ عَلَيْهَا شَرٌّ فَقُلْتَ وَجَبَتْ وَجَبَتْ وَجَبَتْ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ خَيْرًا وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ وَمَنْ أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ شَرًّا وَجَبَتْ لَهُ النَّارُ ، أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ .[31] وأما الشهادة في الآخرة فقد دل عليها حديث أبي سعيد الخدري ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يدعى نوح يوم القيامة ، فيقول لبيك وسعديك يا رب . فيقول: هل بلغت؟ فيقول نعم ، فيقال لأمته هل بلغكم؟ فيقولون ما أتانا من نذير. فيقول من يشهد لك فيقول محمد وأمته فتشهدون أنه قد بلغ ، ويكون الرسول عليكم شهيدا ، فذلك قوله جل ذكره ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا) ، والوسط العدل .
وقد أشار بعض المفسرين الأوائل لمعنى الشهادة على الناس المقصودة في الآية ، ولكن قد فصّلها تفصيلا وافيا بعض المعاصرين . وخلاصة أقوال الأوائل ذكرها أبوحيان في تفسيره في البحر المحيط حين قال:
" وفي شهادتهم هنا أقوال: أحدها: ما عليه الأكثر من أنها في الآخرة، وهي شهادة هذه الأمة للأنبياء على أممهم الذين كذبوهم، وقد روي ذلك نصاً في الحديث في البخاري وغيره . وقيل: الشهادة تكون في الدنيا. واختلف قائلوا ذلك، فقيل: المعنى يشهد بعضكم على بعض إذا مات، كما جاء في الحديث من أنه مر بجنازة فأثنى عليها خيراً، وبأخرى فأثنى عليها شرًّا، فقال الرسول: " وجبت " يعني الجنة والنار، " أنتم شهداء الله في الأرض " ثبت ذلك في مسلم. وقيل: الشهادة الاحتجاج، أي لتكونوا محتجين على الناس، حكاه الزّجاج. وقيل: معناه لتنقلوا إليهم ما علمتموه من الوحي والدين كما نقله رسول الله صلى الله عليه وسلم."[32]
ومن المعاصرين الذين فصلوا معنى الشهادة سيد قطب في تفسيره في ظلال القرآن ، قال:
" إنها الأمة الوسط التي تشهد على الناس جميعا ، فتقيم بينهم العدل والقسط ; وتضع لهم الموازين والقيم ;وتبدي فيهم رأيها فيكون هو الرأي المعتمد ; وتزن قيمهم وتصوراتهم وتقاليدهم وشعاراتهم فتفصل في أمرها ، وتقول:هذا حق منها وهذا باطل . لا التي تتلقى من الناس تصوراتها وقيمها وموازينها . وهي شهيدة على الناس ، وفي مقام الحكم العدل بينهم . . وبينما هي تشهد على الناس هكذا ، فإن الرسول هو الذي يشهد عليها ; فيقرر لها موازينها وقيمها ; ويحكم على أعمالها وتقاليدها ; ويزن ما يصدر عنها ، ويقول فيه الكلمة الأخيرة ."[33]
معالم الوسط(/4)
قد اتضح مما سبق أن الوسط مصطلح جامع يشمل كل خير وعدل ويجافي كل تطرف مذموم . ولا شك أن الإسلام كله من هذه الزاوية هو دين الوسط ، وكما أن الله عز وجل قد عبر عن الإسلام بوصف الصراط المستقيم ، ووصف دين الحق ، وغير ذلك من الأوصاف ، فالصفات والتعابير مختلفة ولكن المسمى واحد . فكذلك الوسط والإسلام ما هما إلا وصفان ولفظان لنفس الشئ . وينتج من ذلك أن مقومات الوسط ومعاييره هي هي مقومات الإسلام ومعاييره سواء بسواء . وقد حاول بعض العلماء النص على بعض معالم الوسط هذه أوتعدادها ، منهم شيخ الإسلام ابن تيمية وسيد قطب والشيخ ناصر العمر والشيخ عبد الرحمن عبد الخالق ، ولكن ما ذكروه لا يعدو أن يكون أمثلة لما رأوه من وسطية الإسلام ، وكل منهم يعبر عن الوسط ببعض صفاته ، وليس على سبيل الحصر والاستقصاء . فابن تيمية مثلا نظر إلى وسطية الإسلام مقارنة باليهودية والنصرانية ، وعدد هذه الوسطية في مسأئل من العقيدة والشريعة ، منها صفات الله ومكانة الأنبياء والرسل والعلماء والأولياء ، ومنها مسألة النسخ والتشريع والتحليل والتحريم ، ثم ختم بقوله (وهذا باب يطول وصفه ) ، إذ أنه لم يذكر إلا بعضا من مظاهر الوسط في الإسلام ، فكان مما قال:(/5)
" ملة الإسلام وسط في الملل ، فالمسلمون وسط في أنبياء الله ورسله وعباده الصالحين ؛ لم يغلوا فيهم كما غلت النصارى فاتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون ، ولا جفوا عنهم كما جفت اليهود ؛ فكانوا يقتلون الأنبياء بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس وكلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم كذبوا فريقا وقتلوا فريقا . بل المؤمنون آمنوا برسل الله وعزروهم ونصروهم ووقروهم وأحبوهم وأطاعوهم ولم يعبدوهم ولم يتخذوهم أربابا كما قال تعالى : { ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون } { ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون } . ومن ذلك أن المؤمنين توسطوا في " المسيح " فلم يقولوا هو الله ولا ابن الله ولا ثالث ثلاثة كما تقوله النصارى ولا كفروا به وقالوا على مريم بهتانا عظيما حتى جعلوه ولد بغية كما زعمت اليهود بل قالوا هذا عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول وروح منه . وكذلك المؤمنون " وسط في شرائع دين الله " فلم يحرموا على الله أن ينسخ ما شاء ويمحو ما شاء . ويثبت كما قالته اليهود كما حكى الله تعالى ذلك عنهم بقوله : { سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها } وبقوله : { وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقا لما معهم } . ولا جوزوا لأكابر علمائهم وعبادهم أن يغيروا دين الله فيأمروا بما شاءوا وينهوا عما شاءوا كما يفعله النصارى كما ذكر الله ذلك عنهم بقوله : { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله } . قال { عدي بن حاتم رضي الله عنه قلت : يا رسول الله ما عبدوهم ؟ قال : ما عبدوهم ؛ ولكن أحلوا لهم الحرام فأطاعوهم وحرموا عليهم الحلال فأطاعوهم } . والمؤمنون قالوا : " لله الخلق والأمر " فكما لا يخلق غيره لا يأمر غيره . وقالوا : سمعنا وأطعنا ؛ فأطاعوا كل ما أمر الله به . وقالوا : { إن الله يحكم ما يريد } . وأما المخلوق فليس له أن يبدل أمر الخالق تعالى ولو كان عظيما . وكذلك في صفات الله تعالى : فإن اليهود وصفوا الله تعالى بصفات المخلوق الناقصة ؛ فقالوا : هو فقير ونحن أغنياء . وقالوا : يد الله مغلولة . وقالوا : إنه تعب من الخلق فاستراح يوم السبت . إلى غير ذلك . والنصارى وصفوا المخلوق بصفات الخالق المختصة به فقالوا : إنه يخلق ويرزق ؛ ويغفر ويرحم ويتوب على الخلق ويثيب ويعاقب . والمؤمنون آمنوا بالله سبحانه وتعالى ليس له سمي ولا ند ولم يكن له كفوا أحد وليس كمثله شيء . فإنه رب العالمين وخالق كل شيء وكل ما سواه عباد له فقراء إليه { إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا } { لقد أحصاهم وعدهم عدا } { وكلهم آتيه يوم القيامة فردا } . ومن ذلك أمر الحلال والحرام . فإن اليهود كما قال الله تعالى : { فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم } فلا يأكلون ذوات الظفر ؛ مثل الإبل والبط . ولا شحم الثرب والكليتين ؛ ولا الجدي في لبن أمه . إلى غير ذلك مما حرم عليهم من الطعام واللباس وغيرهما ؛ حتى قيل : إن المحرمات عليهم ثلاثمائة وستون نوعا . والواجب عليهم مئتان وثمانية وأربعون أمرا وكذلك شدد عليهم في النجاسات حتى لا يؤاكلوا الحائض ولا يجامعوها في البيوت . وأما النصارى فاستحلوا الخبائث وجميع المحرمات وباشروا جميع النجاسات وإنما قال لهم المسيح { ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم } ولهذا قال تعالى : { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } . وأما المؤمنون فكما نعتهم الله به في قوله : { ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون } { الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون } . وهذا باب يطول وصفه ."[34]
أما سيد قطب فقد عدد وسطية الأمة في أمور منها التوازن بين مطالب الروح والجسد في التصور والاعتقاد ، وبين الثبات والجمود والتطور والانفلات في التفكير والشعور، وبين سوط السلطان ومراقبة الضمير في التنظيم والتنسيق ، وبين الفردية والجماعية في الارتباطات والعلاقات، وبين الشرق والغرب في والمكان ، وبين طفولة البشرية ورشدها العقلى في الزمان . فقال:(/6)
" وإنها للأمة الوسط بكل معاني الوسط سواء من الوساطة بمعنى الحسن والفضل ، أو من الوسط بمعنى الاعتدال والقصد ، أو من الوسط بمعناه المادي الحسي . .
(أمة وسطا). . في التصور والاعتقاد . . لا تغلو في التجرد الروحي ولا في الارتكاس المادي . إنما تتبع الفطرة الممثلة في روح متلبس بجسد ، أو جسد تتلبس به روح . وتعطي لهذا الكيان المزدوج الطاقات حقه المتكامل من كل زاد ، وتعمل لترقية الحياة ورفعها في الوقت الذي تعمل فيه على حفظ الحياة وامتدادها ، وتطلق كل نشاط في عالم الأشواق وعالم النوازع ، بلا تفريط ولا إفراط ، في قصد وتناسق واعتدال .
(أمة وسطا). . في التفكير والشعور . . لا تجمد على ما علمت وتغلق منافذ التجربة والمعرفة . . . ولا تتبع كذلك كل ناعق ، وتقلد تقليد القردة المضحك . . إنما تستمسك بما لديها من تصورات ومناهج وأصول ثم تنظر في كل نتاج للفكر والتجريب ; وشعارها الدئم:الحقيقة ضالة المؤمن أنى وجدها أخذها ، في تثبت ويقين .
(أمة وسطا). . في التنظيم والتنسيق . . لا تدع الحياة كلها للمشاعر ، والضمائر ، ولا تدعها كذلك للتشريع والتأديب . إنما ترفع ضمائر البشر بالتوجيه والتهذيب ، وتكفل نظام المجتمع بالتشريع والتأديب ; وتزاوج بين هذه وتلك ، فلا تكل الناس إلى سوط السلطان ، ولا تكلهم كذلك إلى وحي الوجدان . . ولكن مزاج من هذا وذاك .
(أمة وسطا). . في الارتباطات والعلاقات . . لا تلغي شخصية الفرد ومقوماته ، ولا تلاشي شخصيته في شخصية الجماعة أو الدولة ; ولا تطلقه كذلك فردا أثرا جشعا لا هم له إلا ذاته . . إنما تطلق من الدوافع والطاقات ما يؤدي إلى الحركة والنماء ; وتطلق من النوازع والخصائص ما يحقق شخصية الفرد وكيانه . ثم تضع من الكوابح ما يقف دون الغلو ، ومن المنشطات ما يثير رغبة الفرد في خدمة الجماعة ; وتقرر من التكاليف والواجبات ما يجعل الفرد خادما للجماعة ، والجماعة كافلة للفرد في كافلة للفرد في تناسق واتساق .
(أمة وسطا). . في المكان . . في سرة الأرض ، وفي أوسط بقاعها . وما تزال هذه الأمة التي غمر أرضها الإسلام إلى هذه اللحظة هي الأمة التي تتوسط أقطار الأرض بين شرق وغرب ، وجنوب وشمال ، وما تزال بموقعها هذا تشهد الناس جميعا ، وتشهد على الناس جميعا ; وتعطي ما عندها لأهل الأرض قاطبة ; وعن طريقها تعبر ثمار الطبيعة وثمار الروح والفكر من هنا إلى هناك ; وتتحكم في هذه الحركة ماديها ومعنويها على السواء .
(أمة وسطا). . في الزمان . . تنهي عهد طفولة البشرية من قبلها ; وتحرس عهد الرشد العقلي من بعدها . وتقف في الوسط تنفض عن البشرية ما علق بها من أوهام وخرافات من عهد طفولتها ; وتصدها عن الفتنة بالعقل والهوى ; وتزواج بين تراثها الروحي من عهود الرسالات ، ورصيدها العقلي المستمر في النماء ; وتسيربها على الصراط السوي بين هذا وذاك ."[35]
وسيرا على هذا المنوال سنذكر هنا بعض مقومات الوسط وخاصة تلك التى لها أثر في ائتلاف الصف الإسلامي وتقاربه ، وسوف يِتناول الحديث معالم في مجالات العلم والعمل والدعوة .
من معالم الوسط في العلم
يعيش المسلمون اليوم حياة مضطربة متقلبة متناقضة ، تتشابك فيها ألوان متنافرة وتختلط فيها أشتات من مختلف الثقافات والعادات والتقاليد من الشرق والغرب . فمن ناحية هناك موروثات عهود الانحطاط من جهل وتقليد وعصبية وفوضى ، ومن ناحية هناك أهواء العصر من انحلال ومادية وهوس بسفاسف الأمور . ولعل كل ذلك أثر من آثار اضطراب المعايير والموازيين التي تحدد للناس مناهج حياتهم وغاياتها . ومما لاشك فيه أن الدين كله قائم على مبدأ الوسط والعدل والقسط ، وكل هذه المبادئ تقتضى وضع كل شئ موضعه دون زيادة ولا نقص ولا إفراط ولا تفريط . قال تعالى: " لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَاب وَالْمِيزَان لِيَقُومَ النَّاس بِالْقِسْطِ " (الحديد: 25) . وقال: "وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ " (الرحمن: 7-9) . والميزان هو المعيار الذي يقوّم به الحق والعدل وتعرف به حقائق الأشياء و توزن به مقاديرها وقيمها ، فيوضع كل شئ موضعه فتقوم حياة الناس بالقسط في كل جانب من جوانبها . هذا الميزان هو مودع في فطر الناس وفي العقول السليمة وهو مبين في كتاب الله وعلى لسان رسوله . وفقه هذا الميزان أمر هام لإقامة حياة متوازنة تعرف لكل شئ حقه فتوفيه له وتنزل كل شئ منزلته .(/7)
منهج العلم: ومن أجل أن يتبين الحق والعدل والوسط الذي تقوم به حياة الناس بالقسط ، فلا بد من من منهج علمي سليم تتمايز به حقائق الأشياء وتوزن به التصورات والأفكار والقيم والمناهج . والقرآن والسنة قد أوضحا هذا المنهج أحسن توضيح . من ذلك أنه لا بد لكل حقيقة أن تثبت بدليل وبرهان من عقل أو حس أو خبر . قال تعالى: "وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ"[36] . وقال: "وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا"[37] . ولا يعتمد في اثبات الحقائق على الحدس والخرص والظنون . قال تعالى: "وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا"[38] . وعند التفكر في الحقائق ينبغي أن يتجرد النظر من هوى الأنفس إذ أن التفكير بالعاطفة يصرف عن الحق ، قال تعالى: "إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى"[39] .
ومن أكبر أسباب اضطراب حياة المسلمين تأثرهم بالمناهج العلمية والفكرية الجاهلية . فقد روى البخاري في صحيحه عن أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَأْخُذَ أُمَّتِي بِأَخْذِ الْقُرُونِ قَبْلَهَا شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ ، فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَفَارِسَ وَالرُّومِ؟ فَقَالَ: وَمَنْ النَّاسُ إِلَّا أُولَئِكَ"[40] . فقد أثرت الفلسفة اليونانية ورهبانية الهند على المسلمين فحطتهم من تفوقهم العلمى والحضارى ، وأثرت مادية الغرب المعاصرة على كثير من اتجاهات المسلمين الحاضرة ، وحولتهم قردة مقلدين لها في كل صغيرة وكبيرة دون نقد ولا تمحيص ، وغشتهم بعلمانيتها وعصرانيتها ونظرتها للحداثة . والمنهج الإسلامي السليم لا بد له من أن يتجرد من كل ذلك الغبش والركام .
الثابت والمتغير: ومن آثار الحداثة بمفهومها الغربي على تفكير المسلمين المعاصرين خلطهم بين الثابت والمتغير والدائم والمتطور في الدين ، وتشوش عليهم بسبب ذلك فهم بعض القواعد الفقهية ، من مثل تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان ، وإعمال مبدأ المصلحة ومقاصد الشريعة . وقد ظهرت بين الناس فئة يصدق عليهم وصف "فقهاء بلا حدود" ، يفتون في أعقد المسائل وقد لا يحسن أحدهم إعراب بسم الله الرحمن الرحيم . وقابلتهم فئة أخرى جمدت على كل موروث ومنقول ، دون نقد ولا تمحيص . والوسط بين تفريط أولئك وإفراط هؤلاء ، وكثير من قضايا العصر تحتاج إلى دقة في الفهم وضبط لأحكام الاجتهاد ، ولا يصلح للتصدي لها إلا أهلها ومن يأتيها من أبوابها عن دراية وعلم بأسس الشريعة ، وبصيرة وإدراك تمييز بين متطلبات العصر وأهوائه ، حتى يحسن بذلك الجمع بين االأصالة والمعاصرة وبين السلفية والتجديد .
العصبية: وافتراق الأمة شيعا وأحزابا متناحرة ما هو إلا أثر من إطراح المنهج العلمي السليم الذي عليه جماعة المسلمين ، وبسبب العصبية والبغي والظلم بين هذه الفرق تتأجج نار الفرقة والإنقسام ، ولو ردوا التنازع إلى المنهج العلمي السليم لاهتدوا إلى الحق ، كما قال الله تعالى: " كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ "[41] . وموقف المسلم من هذه الفرق أن يكون رائده الحق والحجة والدليل، ولا شك أن الحق في الأمور الكلية والأصول واحد ولا يتعدد ، أما الأمور الجزئية فالتعدد فيه مندوحة ، والمجتهد المخطئ سواء في الكليات والأصول أو الجزئيات والفروع معذور مأجور . فليأخذ المرء من كل طائفة بأحسنها ولا يتعصب لشخص أو مذهب أو طريقة ، وليجتهد الكل في الإعتصام بأصول اليدن وكلياته التي تلقتها ألأمة بالقبول ، وإرجاع الأمور العلمية والعملية إلى مصادرها وأهل العلم والخبرة بها ، إذ كل قوم أعلم بصناعتهم .(/8)
الوسط السياسي: والسياسة من المجالات التى شغل بها أكثر الناس ، ودخلت كل بيت وصارت حديث كل مجلس وكثر فيها الاختلاف والتنازع ، مع أن الامر فيها قريب سهل . وأكثر ما يدخل على الناس من الخطأ فيها يكون سببه أمران . الأول أن السياسة في عصرنا تتبع أساليب الغربين من مكر وخديعة وكذب ، ولا يتسنى لكثير من الناس معرفة الحقيقة التى تضيع بين دعايات السياسين وأبواقهم الإعلامية الضخمة التى تفعل في الناس فعل السحر . الامر الثانى الذي قد يفوت على بعض الإسلاميين أن السياسة قليلا ما تقوم على نصوص شرعية محكمة بل تعتمد على المصالح المرسلة . والمصالح أمر واسع ، وإن اختلف حولها الناس فالاختلاف فيه مندوحة . فالسياسة لا ينبغي أن تصادم نصا أو أمرا معلوما من الدين ، أو تعارض مقاصد الشرع وقواعده ، ولكن ما وراء ذلك عفو فيه متسع لاستعمال الرأي والعقل وموازنة المصالح والمفاسد . وممن شرح هذه القضية الإمام ابن القيم في حديثه عن السياسة الشرعية ، ورده على من قال لا سياسة إلا ما وافق الشرع . وإن كان جل حديثه عن استعمال السياسة في العقوبات الشرعية ، إلا أنه عام في كل سياسة . يقول ابن القيم:
"السياسة ما كان فعلا يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد ، وإن لم يضعه الرسول صلى الله عليه وسلم ولا نزل به وحي . فإن أردت بقولك إلا ما وافق الشرع أي لم يخالف ما نطق به فصحيح ، وإن أردت لا سياسة إلا ما نطق به الشرع فغلط وتغليط للصحابة ، فقد جرى من الخلفاء الراشدين من القتل والتمثيل ما لا يجحده عالم بالسنن ، ولو لم يكن إلا تحريق عثمان المصاحف فإنه كان رأيا اعتمدوا فيه على مصلحة الأمة ، وتحريق علي رضي الله عنه الزنادقة في الأخاديد وقال:
ونفى عمر لنصر بن حجاج .
وهذا موضع مزلة أقدام ومضلة أفهام ، وهو مقام ضنك ومعترك صعب، فرط فيه طائفة فعطلوا الحدود وضيعوا الحقوق ، وجرءوا أهل الفجور على الفساد وجعلوا الشريعة قاصرة لا تقوم بمصالح العباد ، محتاجة إلى غيرها وسدوا على نفوسهم طرقا صحيحة من طرق معرفة الحق والتنفيذ له وعطلوها ، مع علمهم وعلم غيرهم قطعا أنها حق مطابق للواقع ، ظنا منهم منافاتها لقواعد الشرع ، ولعمر الله إنها لم تناف ما جاء به الرسول وإن نافت ما فهموه من شريعته باجتهادهم .
والذي أوجب لهم ذلك نوع قصير في معرفة الشريعة وتقصير في معرفة الواقع ، وتنزيل أحدهما على الآخر . فلما رأى ولاة الأمور ذلك وأن الناس لا يستقيم لهم أمرهم إلا بأمروراء ما فهمه هؤلاء من الشريعة ، أحدثوا من أوضاع سياساتهم شرا طويلا وفسادا عريضا ، فتفاقم الأمر وتعذر استدراكه ، وعز على العالمين بحقائق الشرع تخليص النفوس من ذلك واستنقاذها من تلك المهالك . وأفرطت طائفة أخرى قابلت هذه الطائفة فسوغت من ذلك ما ينافي حكم الله ورسوله
وكلتا الطائفتين أتيت من تقصيرها في معرفة ما بعث الله به رسوله وأنزل به كتابه ، فإن الله سبحانه أرسل رسله وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط ، وهو العدل الذي قامت به الأرض والسموات . فإذا ظهرت أمارات العدل وأسفر وجهه بأي طريق كان فثم شرع الله ودينه . والله سبحانه أعلم وأحكم وأعدل أن يخص طرق العدل وأماراته وأعلامه بشيء ، ثم ينفي ما هو أظهر منها وأقوى دلالة وأبين أمارة فلا يجعله منها ولا يحكم عند وجودها وقيامها بموجبها . بل قد بين سبحانه بما شرعه من الطرق أن مقصوده إقامة العدل بين عباده وقيام الناس بالقسط فأي طريق استخرج بها العدل والقسط فهي من الدين وليست مخالفة له . فلا يقال إن السياسة العادلة مخالفة لما نطق به الشرع ، بل هي موافقة لما جاء به بل هي جزء من أجزائه ، ونحن نسميها سياسة تبعا لمصطلحهم ، وإنما هي عدل الله ورسوله ظهر بهذه الأمارات والعلامات ."[42]
والأمرالوسط في السياسة الاشتغال بما يفيد الناس ويهمهم ، وعدم تضييع الأوقات في ما لا علاقة له بمصالح الناس المباشرة ، وتوجيه الهمة للهموم الكبرى والمشكلات العظمى ، والتغاضى عن صغائر الأمور وسفاسفها ، وطرح الإشاعات والقيل والقال ، عملا بقول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي وغيره عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله "من حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه". واتباعا لقول الله تعالى: ( وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا) . قال ابن كثير عن الأية أنها " إِنْكَار عَلَى مَنْ يُبَادِر إِلَى الْأُمُور قَبْل تَحَقُّقهَا فَيُخْبِر بِهَا وَيُفْشِيهَا وَيَنْشُرهَا وَقَدْ لَا يَكُون لَهَا صِحَّة"[43] .
من معالم الوسط في العمل(/9)
سيقتصر الحديث هنا على ثلاثة معالم في ميدان العمل: الشمول في أخذ الدين كله دون تجزئة بعضه عن بعض ، والبصر والفقه بالأولويات والتقديم والتأخير، ومعرفة مواطن الرفق والتيسير دون تقصير أو تحريف ومواضع الشدة والحزم دون تنطع أو غلو.
الشمول: العمل مصداق العلم ولا ينفصل أحدهما عن الآخر إلا كان شقاء وبلاء ، فالعلم بلا عمل كالعمل بلا علم ، كلاهما انحراف وتطرف ، والوسط أن يكون العلم قائد العمل والعمل دليل العلم وبرهانه. ويتنوع العمل الصالح ويتعدد ، وله ميادين كثيرة ومجالات شتى ، ويخطئ كثير من الناس حين يحصرون الدين في مجال دون مجال أو ميدان دون ميدان ، بل العمل الإسلامي يشمل كل جوانب الحياة ، وهذا معنى قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِين)[44]، والسِّلم هنا المقصود به الإسلام ، ومعنى الآية كما ذكر الطبري: "اُدْخُلُوا فِي الْإِسْلَام كَافَّة ... فَإِنْ قَالَ : فَمَا وَجْه دُعَاء الْمُؤْمِن بِمُحَمِّدٍ وَبِمَا جَاءَ بِهِ إلَى الْإِسْلَام ؟ قِيلَ : وَجْه دُعَائِهِ الْأَمْر له بِالْعَمَلِ بِجَمِيعِ شَرَائِعه ، وَإِقَامَة جَمِيع أَحْكَامه وَحُدُوده ، دُون تَضْيِيع بَعْضه وَالْعَمَل بِبَعْضِهِ . وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ مَعْنَاهُ ، كَانَ قَوْله { كَافَّة } مِنْ صِفَة السِّلْم"[45] . وروى مسلم عن سلمان قال قيل له "قد علمكم نبيكم صلى الله عليه وسلم كل شيء حتى الخراءة" ، قال فقال أجل[46] .
ولكن مما لاشك فيه أن شمول الفهم للإسلام غير شمول العمل ، إذ أن العمل في أي ميدان يكون حسب الاستطاعة ، لحديث أبي هريرة رضى الله عنه في البخاري ومسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم"[47]. ومن ثَمَّ تتنوع أعمال الخير حسب مقدرات الناس ومؤهلاتهم ، وأنواع الخير وطرقه وأصنافه كثيرة ، فمن فتح له منها باب فليجتهد فيه وليتخصص فيه . ومن هذا المنطلق لا لوم على كثير من جماعات المسلمين أو أفرادهم أن يختص كل منهم بنوع من الخير، ويصبح ذلك سمة مميزة لهم دون غيرهم ، ولا بأس أن يشتغل بعض الناس ببعض الجزئيات ، إذ كثيرا ما لا يستطيع كل الناس أن يسبقوا في أنواع الخير ، ويكمل المسلمون بعضهم بعضا جماعات كانوا أو أفرادا . وإن كان لا شك أن من تكاملت فيه خصال الخير فردا أو جماعة ، وبلغ في ذلك الشمول أنه يفوق غيره في الفضل والمكانة والخيرية . وليس أدل على ذلك من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم في أبواب الجنة . فقد روى مسلم عن أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ نُودِيَ فِي الْجَنَّةِ يَا عَبْدَ اللَّهِ هَذَا خَيْرٌ فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّلَاةِ وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الْجِهَادِ وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّدَقَةِ وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الرَّيَّانِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا عَلَى أَحَدٍ يُدْعَى مِنْ تِلْكَ الْأَبْوَابِ مِنْ ضَرُورَةٍ فَهَلْ يُدْعَى أَحَدٌ مِنْ تِلْكَ الْأَبْوَابِ كُلِّهَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَعَمْ وَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ "[48] .(/10)
ترتيب الأولويات: والأخذ بمبدأ الشمولية في العمل الصالح لا تنافي اعتبار أولوياته وتقديم مهماته ، فإن لكل وقت وظرف وحال ما يليق به من العمل الصالح . وترتيب أولويات العمل من الضرورات التى يحتاج إليها كل عامل ، ذلك أن الواجبات أكثر من الأوقات ، وكثير من الناس يقصر في هذه الناحية فيقع في إفراط أو تفريط ، والوسط أن يعطى كل وقت ما يلائمه من واجب . فالفروض العينية واجب مشترك على كل الناس ، وكل من تعين عليه واجب كفائى عليه الإهتمام باتيانه وتقديمه على ما سواه ، وكثير من التفريط يأتي من الاشتغال بفرض مع تضييع فرائض أخرى أو الاشتغال بالنوافل والسنن مع التفريط في الفروض ، كمن يشتغل بكسب عيشه على حساب حقوق أهله وأولاده أو من يشتغل بمصالحه الخاصة على حساب مصلحة المسلمين العامة . وفي الحديث الصحيح "وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه "[49] . ولابن القيم في ذلك كلمة جامعة إذ يقول: "إن أفضل العبادة العمل على مرضاة الرب في كل وقت بما هو مقتضى ذلك الوقت ووظيفته فأفضل العبادات في وقت الجهاد الجهاد وإن آل إلى ترك الأوراد من صلاة الليل وصيام النهار بل ومن ترك إتمام صلاة الفرض كما في حالة الأمن . والأفضل في وقت حضور الضيف مثلا القيام بحقه والإشتغال به عن الورد المستحب وكذلك في أداء حق الزوجة والأهل . والأفضل في أوقات السحر الإشتغال بالصلاة والقرآن والدعاء والذكر والإستغفار . والأفضل في وقت استرشاد الطالب وتعليم الجاهل الإقبال على تعليمه والإشتغال به . والأفضل في أوقات الأذان ترك ما هو فيه من ورده والإشتغال بإجابة المؤذن . والأفضل في أوقات الصلوات الخمس الجد والنصح في إيقاعها على أكمل الوجوه والمبادرة إليها في أول الوقت والخروج إلى الجامع وإن بعد كان أفضل . والأفضل في أوقات ضرورة المحتاج إلى المساعدة بالجاه أو البدن أو المال الإشتغال بمساعدته وإغاثة لهفته وإيثار ذلك على أورادك وخلوتك . والأفضل في وقت قراءة القرآن جمعية القلب والهمة على تدبره وتفهمه حتى كأن الله تعالى يخاطبك به فتجمع قلبك على فهمه وتدبره والعزم على تنفيذ أوامره أعظم من جمعية قلب من جاءه كتاب من السلطان على ذلك . والأفضل في وقت الوقوف بعرفة الإجتهاد في التضرع والدعاء والذكر دون الصوم المضعف عن ذلك . والأفضل في أيام عشر ذي الحجة الإكثار من التعبد لا سيما التكبير والتهليل والتحميد فهو أفضل من الجهاد غير المتعين . والأفضل في العشر الأخير من رمضان لزوم المسجد فيه والخلوة والإعتكاف دون التصدي لمخالطة الناس والإشتغال بهم حتى إنه أفضل من الإقبال على تعليمهم العلم وإقرائهم القرآن عند كثير من العلماء . والأفضل في وقت مرض أخيك المسلم أو موته عيادته وحضور جنازته وتشييعه وتقديم ذلك على خلوتك وجمعيتك . والأفضل في وقت نزول النوازل وأذاة الناس لك أداء واجب الصبر مع خلطتك بهم دون الهرب منهم فإن المؤمن الذي يخالط الناس ليصبر على أذاهم أفضل من الذي لا يخالطهم ولا يؤذونه . والأفضل خلطتهم في الخير فهي خير من اعتزالهم فيه واعتزالهم في الشر فهو أفضل من خلطتهم فيه فإن علم أنه إذا خالطهم أزاله أو قلله فخلطتهم حينئذ أفضل من اعتزالهم . فالأفضل في كل وقت وحال إيثار مرضاة الله في ذلك الوقت والحال والإشتغال بواجب ذلك الوقت ووظيفته ومقتضاه"[50] .(/11)
التيسير والرفق: ومن معالم الوسط في العمل اليسر والرفق ، فإن شرائع الدين كلها قائمة على مراعاة الطبيعة البشرية والغرائز الفطرية ، وتكليف كل امرئ حسب طاقته وجهده ، والدفع به في طريق البناء والكمال دون كبت لمشاعره وغرائزه ودون انفلات وجموح . وقد أبانت آيات وأحاديث كثيرة ضرورة الأخذ بالرخص في مواضعها والعزائم في مواضعها ، واتباع الرفق والتيسير ورفع الحرج دون تقصير أو تحريف ودون تنطع أو غلو . منها قول الله تعالى: (هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ)[51] . ومنها حديث مسلم عن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هلك المتنطعون قالها ثلاثا"[52] ، والمتنطعون – كما قال النووي - هم المتعمقون الغالون المجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم . ومنها حديث أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنْ الدُّلْجَةِ"[53] . وعقب اِبْن الْمُنِير على هذا فقال: "فِي هَذَا الْحَدِيث عَلَم مِنْ أَعْلَام النُّبُوَّة ، فَقَدْ رَأَيْنَا وَرَأَى النَّاس قَبْلنَا أَنَّ كُلّ مُتَنَطِّع فِي الدِّين يَنْقَطِع ، وَلَيْسَ الْمُرَاد مَنْع طَلَب الْأَكْمَل فِي الْعِبَادَة فَإِنَّهُ مِنْ الْأُمُور الْمَحْمُودَة ، بَلْ مَنْع الْإِفْرَاط الْمُؤَدِّي إِلَى الْمَلَال ، أَوْ الْمُبَالَغَة فِي التَّطَوُّع الْمُفْضِي إِلَى تَرْك الْأَفْضَل ، أَوْ إِخْرَاج الْفَرْض عَنْ وَقْته كَمَنْ بَاتَ يُصَلِّي اللَّيْل كُلّه وَيُغَالِب النَّوْم إِلَى أَنْ غَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ فِي آخِر اللَّيْل فَنَامَ عَنْ صَلَاة الصُّبْح فِي الْجَمَاعَة ، أَوْ إِلَى أَنْ خَرَجَ الْوَقْت الْمُخْتَار ، أَوْ إِلَى أَنْ طَلَعَتْ الشَّمْس فَخَرَجَ وَقْت الْفَرِيضَة" . ومنها حديث ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله تبارك وتعالى يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه "[54] .
من معالم الوسط في الدعوة
يتناول الحديث هنا خمسة محاور من معالم الوسط في الدعوة: الصدع بالرأي بعد التحقق من صحته دون محاباة أو خشية ، والعدل والإنصاف في الحكم على الناس عوامهم وعلمائهم وحكامهم وإنزالهم منزلتهم مؤيدين أو مخالفين ، والحوار بالحسنى مع الولاء للحق والتحرر من التعصب للأشخاص والمذاهب والطوائف والأحزاب ، والتعاون في الحق والعدل والخير مع كل الناس ، والقوة والقدرة على تغيير الواقع بأفضل السبل دون تعد على الحقوق أو ركون إلى الظلم .
الصدع بالحق: فمن أولى التوجيهات القرآنية في الدعوة قول الله تعالى: (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ)[55]، والصدع هو الجهر بالحق في بيان قوى نافذ ، لا يحلق في عالم المثل والأحلام ولا يلين لضغوط الواقع . فقد خاطب القرآن واقع العرب أولا وعالج مشكلاتهم وعقائدهم وقيمهم ، وخاطب من خلال ذلك البشر كافة وأرسى المبادئ والقواعد الثابتة لكل عصر ومكان . ولأن الحق قد يواجه واقعا صعبا فإن الداعية معرض لإإغراء التنازل والتوافق والمهادنة عن بعضه من أجل مسايرة الناس وطمعا في استمالتهم ، ولهذا كان من توجيهات الله سبحانه لرسوله قوله (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ)[56] ، وقوله: (وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا )[57] . فمن الوسط في الدعوة الخطاب المناسب للمخاطبين باللسان الذي يفهمونه والمصطلحات المتداوله بينهم والواقع الثقافي والاجتماعى الذي يعيشونه ، لكن دون مداهنة ولا ركون .(/12)
الإنصاف في الحكم على الناس: والخطاب الإسلامي في معالجته للواقع وبيانه للحق ، يحتاج للإنصاف في تقويم المواقف والحكم على أقوال الناس وأعمالهم ، عامتهم وخاصتهم ، وخاصة حين التصدي لتقويم العلماء والحكام والجماعات والطوائف . والشهادة على الناس كما تبين في صدر البحث هى وظيفة الوسط وغايته . ولا تنال هذه المكانه من تقويم الناس والحكم عليهم إلا بالعدل والإنصاف وهو الوسط ، الذي أمر الله به حتى مع الأعداء حين قال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [58]. ومما فسر به الطبري هذه الاية قوله: " يعني بذلك جل ثناؤه : يا أيها الذين آمنوا بالله وبرسوله محمد ، ليكن من أخلاقكم وصفاتكم القيام لله ، شهداء بالعدل في أوليائكم وأعدائكم ، ولا تجوروا في أحكامكم وأفعالكم ، ولا يحملنكم عداوة قوم على ألا تعدلوا في حكمكم فيهم وسيرتكم بينهم ، فتجوروا عليهم من أجل ما بينكم وبينهم من العداوة . ومن النماذج في ذلك التى ضربها الله لنا مثلا في القرآن حين نقد أهل الكتاب فأنصفهم ، وقال أنهم ليسوا سواء فمنهم المجرم والشرير وفيهم المحسن الخيِّر ، وأبان معايبهم ونواقصهم ولم ينس ما فيهم من خير فذكره وأشاد به[59] . فليست مهمة الداعية لذع الناس وجمع عيوبهم وفضحها ، ونسيان ما لهم من فضل وما فيهم من خير ، بل مهمة الداعية الإصلاح والقول لمن أحسن أحسنت وللمسيئ أسأت صديقا كان أو عدوا وموافقا أو مخالفا . وقد ذكر مسلم في أول صحيحه تعليقا عن عائشة رضي الله عنها قالت : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننزل الناس منازلهم .
الحوار بالحسنى: ومن الوسط في الدعوة الحوار والجدال الحسن ، وهو من طرق الدعوة التى أمر الله بها حين قال: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)[60] . والجدل الحسن هو الذي يكون الغاية منه إظهار الحق ولو كان ظهور ذلك على لسان الخصم . ومما جاء في أدب الحوار ما قاله الغزاليّ أبو حامد : ( التعاون على طلب الحق من الدّين ، ولكن له شروط وعلامات ؛ منها أن يكون في طلب الحق كناشد ضالّة ، لا يفرق بين أن تظهر الضالّة على يده أو على يد معاونه . ويرى رفيقه معيناً لا خصماً . ويشكره إذا عرَّفه الخطأ وأظهره له ) . ومن مقولات الإمام الشافعي المحفوظة : ( ما كلمت أحداً قطّ إلا أحببت أن يُوفّق ويُسدّد ويُعان ، وتكون عليه رعاية الله وحفظه . وما ناظرني فبالَيْتُ ! أَظَهَرَتِ الحجّةُ على لسانه أو لساني )[61] . ومن حسن الحوار الولاء للدليل والدور معه حيث دار ، إذ الحق مع الدليل والبرهان نقلا أو عقلا ، ولهذا كان من قواعد الحوار: " إن كنت ناقلاً فالصحة ، وإن كنت مدَّعيّاً فالدليل" ، ومن كان رائده الدليل لم يتعصب لشخص أو جماعة أو طائفة . ومن حسن الحوار التواضع وخفض الجناح والسكينة والوقار، ولين الكلام وغض الصوت فإن رفع الصوت رعونة وإيذاء[62] .(/13)
التعاون في الخير: وجماع هذا المعلم من معالم الوسطية ما قاله الله تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) ، والمقصود منه أن الله عز وجل يأمر في هذه الآية البشرية جمعاء والمسلمون خاصة ، أن المعاونة والتناصر والمساعدة والاجتماع والتحالف يكون في الخير والمنافع والمصالح ولا يكون في الشرور والباطل والمضار . فإن كثيرا من الأعمال لا تتم بحهود فرد وإنما تحتاج إلى جهد جماعى وتعاون بين محموعات كثيرة أو قليلة من الناس . فهذه الجهود الجماعية بين البشر لا يصلح أن تجتمع على الإثم والعدوان بل ينبغى أن تجتمع على البر والتقوى . وهذا التعاون يحتاج إلى عدة أمور حتى يؤتي ثماره في ميدانين ميدان العلم وميدان العمل . فمن الناحية العلمية والنظرية لا بد من وضوح معانى الخير والبر ومعانى الشر والإثم والعدوان . ذلك أن هذه المعانى يغشاها كثير من التلبيس والطمس كما نرى في عصرنا الحاضر حين يسمى الشر بغير اسمه ويزين ويجمل كأنه خير ويسمى الخير بغير اسمه ويشوه ويعتم حتى يبدو للناس المنكر معروفا والمعروف منكرا . وقد قال الله تعالى " وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ " . وقد جاء في الحديث الصحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: إن الإسلام بدأ غريبا، و سيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء قيل : من هم يا رسول الله ؟ قال : الذين يصلحون إذا فسد الناس . فمفاهيم الاسلام ومفاهيم الخير والبر غريبه تخفى حتى على المسلمين فما بالك بغيرهم . وقد قال ابن تيمية إن الإسلا م في غربته يحتاج إلى بيان وتوضيح مثل ما احتاج أولا .
أما من الناحية العملية فقد َقَالَ اِبْن خُوَيْز مَنْدَاد فِي أَحْكَامه : وَالتَّعَاوُن عَلَى الْبِرّ وَالتَّقْوَى يَكُون بِوُجُوهٍ ; فَوَاجِب عَلَى الْعَالِم أَنْ يُعِين النَّاس بِعِلْمِهِ فَيُعَلِّمهُمْ , وَيُعِينهُمْ الْغَنِيّ بِمَالِهِ , وَالشُّجَاع بِشَجَاعَتِهِ فِي سَبِيل اللَّه , وَأَنْ يَكُون الْمُسْلِمُونَ مُتَظَاهِرِينَ كَالْيَدِ الْوَاحِدَة ( الْمُؤْمِنُونَ تَتَكَافَأ دِمَاؤُهُمْ وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ وَهُمْ يَد عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ ) , وَيَجِب الْإِعْرَاض عَنْ الْمُتَعَدِّي وَتَرْك النُّصْرَة لَهُ وَرَدّه عَمَّا هُوَ عَلَيْهِ . يعنى أن كل فرد يعين الحق والخير بما يستطيع وبما عنده من قدرة بالعلم وبالجاه وبالمال وهكذا .
وقد كان الناس في الجاهلية الأولى يتعاونون ويتناصرون على أساس العصبية والولاء وكان شاعرهم يقول:
وغزية قبيلة فالولاء لها والعصبية لها حتى في الغواية والضلالة وليست للحق والرشد . وهذه هى أيضا حال الجاهلية المعاصرة ، فالولاء والتناصر ليس على أساس البر والتقوى إنما على أساس المصالح المادية والعصبيات القومية والعرقية والحزبية والطائفية . فالعمل بقاعدة وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ، يقتضى نبذ هذه العصبيات ، العصبية للجنس والعصبية للوطن والعصبية للجماعة ، كل هذه عصبيات جاهلية والمسلم عصبيته للبر والتقوى وعصبيته ضد الإثم والعدون ، حتى ولو كان من جماعته وحزبه أو من قوميته وجنسيته . وقد روى البخارى وأحمد عَنْ أَنَس قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه - صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " اُنْصُرْ أَخَاك ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا قِيلَ يَا رَسُول اللَّه هَذَا نَصَرْته مَظْلُومًا فَكَيْفَ أَنْصُرهُ ظَالِمًا قَالَ تَمْنَعهُ مِنْ الظُّلْم فَذَلِكَ نَصْرُك إِيَّاهُ " . هذه هى العصبية الإسلامية الصحيحة . وقد جاء في حديث موقوف صيحيح "لا تكونوا إمعة؛ تقولون : إن أحسن الناس أحسنا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطنوا أنفسكم : إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساءوا فلا تظلموا".(/14)
والعمل بقاعدة وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان يقتضى أن يكون هذا بغض النظر عن الداعي للبر والتقوى حتى ولو كان غير مسلم . فقد قال الله تعالى أولا: ( وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآن قَوْم أَنْ صَدُّوكُمْ عَنْ الْمَسْجِد الْحَرَام أَنْ تَعْتَدُوا ) ، يعنى لا تحملكم عداوة الكفار وأفعالهم الشنيعة من صدكم عن المسجد الحرام عام الحديبية أن تعتدوا وتتجاوزوا العدل معهم ، ثم قال (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ). وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم عن حلف الفضول الذي كان في الجاهيلة " لقد شهدت مع عمومتي حلفا في دار عبد الله بن جدعان ما أحب أن لي به حمر النعم، رواه الإمام أحمد بسند صحيح وجاء في رواية مرسله ولو دعيت به في الإسلام لأجبت. فمن العمل بقاعدة وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان أنه يمكن للسلمين أن يتعاونوا حتى مع غير المسلمين على أمور الخير والبر ومصالح الإسلام وأن يعقدوا معهم الاتفاقات ويشاركوهم في المؤتمرات والمنظمات التى تقصد الخير . وهكذا ترون أن قاعدة وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان قاعدة هامة وشاملة ونافعة .
منهج التغيير الوسط: التمكن من تغيير الواقع والنجاح في ذلك يقتضى أمران وصف الله تعالى بهما منهج الانبياء في قوله: (وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ)[63] ، فنسب لهم خصلتان: قوة علمية نظرية من فقه وبصيرة ونظر وعقل وفكر سديد ، وقوة عملية تحول الفكر والنظر إلى واقع وفعل مشهود محسوس . وهذه القدرة على تغيير الأفكار والتصورات والقيم وتغيير العادات والمألوفات والأعمال كلها تحتاج إلى بصيرة نافذه بطرق التغيير ومنهجه . ومن ملامح ذلك القاعدة والسنة الإلهية التى قررها قول الله عز وجل (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ)[64] ، وهي توضح أن تغيير الواقع وتحسين الظروف المادية التى يعيشها الناس من رخاء وأمن وصحة وتمكين ونصر وغير ذلك ، كلها لا تحدث إلا إذا أحسن الناس إيمانهم وإسلامهم وعبوديتهم لله عز وجل . ولهذا فإن التغيير الإسلامي الحقيقي هو الذي يتجه إلى تغيير تدين الناس وتزكية أخلاقهم وإحسان صلتهم بربهم ، وهذا أولى الأولويات وما يكون من اهتمام بتنمية حياة الناس المادية فهو أمر مصاحب لتزكية النفوس وإصلاح القلوب عملا بقول الله تعالى: (فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ* أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ)[65] .
وطرق تغيير الواقع تتنوع وتتعدد حسب الطاقة والقدرة ، وحسب الظرف والحال ، وتبدأ من كراهية النفس وضيقها بالظلم والمنكرات ، وهذا واجب مشترك بين كل الناس ، وتتدرج إلى التغيير بالخطاب واللسان والكتابة والبيان والطرق السلمية المختلفة . ويحتاج التغيير باليد والقوة إلى فقه وبصر وموازنة المصالح والمضار ، تضعه في مواضعه التى شرعها الإسلام ، وتراعى في استعمال القوة العدل وحفظ الحقوق . فمنهج التغيير الإسلامي وسط بين الركون إلى الظلم ، وبين التعدي على الناس وظلمهم حقوقهم . أما الركون فمذموم من الله لقوله فيه (وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ)[66] ، والركون معناه الرضا بالشئ والسكون والميل إليه والاستناد والاعتماد عليه ، وفسره اِبْن زَيْد فقال : الرُّكُون هُنَا الْإِدْهَان وَذَلِكَ أَلَّا يُنْكِر عَلَيْهِمْ .[67] أما العدوان فمذموم من الله أيضا وفيه نصوص كثيرة معروفة ، وقد قص علينا القرآن الكريم توبة نبي الله موسى لما وكز عدوه فقضى قال سبحانه: (وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم)[68] .
آثر الوسط في ائتلاف الصف الإسلامي
لعل هذه الكلمات المختصرات في بيان معنى الوسط ومقوماته في العلم والعمل والدعوة ، قد أوضحت أهمية سمة الوسط وما فيها من مدلولات كثيرة جامعة . والمتأمل في هذه المعالم يمكنه أن يستنتج منها ثمراتها الطيبة المباركة ، وخيرها الكثير العميم . ومن ذلك الاستقامة على الحق ،(/15)
وجمع الكلمة ولم شتات جماعات المسلمين وتياراتهم المختلفة ، وتوجيه همتهم إلى الهموم الكبرى والمشكلات العظمى ، وتقديم صورة مشرقة ونماذج حسنة للإسلام ترغب في الخير وتحض عليه وتشهد به على العالم كله أنه هو الحق والعدل والخير.
وائتلاف الصف الإسلامي هو من أهم آثار التحلى بالوسط والبعد عن التطرف والانحراف . ذلك أن البغى والظلم هو سبب الفرقة والاختلاف كما دلت على ذلك آيات كثيرة ، ومما هو مشاهد مجرب في واقع الناس وتاريخ الاسلام القريب والبعيد . ومن توجيهات القرآن في ذلك قول الله تعالى: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)[69] . ومن تعليقات سيد قطب على البغي الذي هو سبب الاختلاف قوله: " فالبغي . . بغي الحسد . وبغي الطمع . وبغي الحرص . وبغي الهوى . . هو الذي قاد الناس إلى المضي في الاختلاف على أصل التصور والمنهج ; والمضي في التفرق واللجاج والعناد . وهذه حقيقة . . فما يختلف اثنان على أصل الحق الواضح في هذا الكتاب , القوي الصادع المشرق المنير . . ما يختلف اثنان على هذا الأصل إلا وفي نفس أحدهما بغي وهوى , أو في نفسيهما جميعا . . فأما حين يكون هناك إيمان فلا بد من التقاء واتفاق ."[70]
والوسط يعنى العدل ونبذ البغي ، بكل صور ذلك مما أوضحته السطور السابقة في هذا البحث ، من منهج علمي سليم تكون غايته الدليل والبرهان لا العصبية للآراء والشخصيات والجماعات ، ومن حوار بالحسنى دون شطط ولا تطرف ، ومن تعاون على الخير والحق والمصلحة العامة مع كل أحد ولو كان غير مسلم فما بالك بالمسلم ، ومن انصاف في الحكم على الناس على اختلاق مراتبهم ، ومن تقديم المهمات والاولويات والهموم الكبرى على المصالح الصغيرة والمكاسب العاجلة الرخيصة .
والخلاصة أن الوسط وصف جامع مانع ، يعلو بمن تحقق به إلى مكانة سامقة من الخير والحق والعدل ، ويجعله أهلا لقيادة الناس والشهادة عليهم .
والحمد لله أولا وآخرا .
------------------------------------------
[1] سورة البقرة:143
[2] مادة وسط في لسان العرب لابن منظور .
[3] هذا هو الأصل وإن كان من الجائز أن يقع كلا من الكلمتين مكان الأخرى على جهة الاتساع والخروج عن الأصل . (أنظر لسان العرب ) .
[4] سنن الترمذي
[5] المائدة: 89 .
[6] تفسير القرطبي
[7] تفسير الطبري .
[8] تفسير القرطبي
[9] تفسير الرازي
[10] لسان العرب لابن منظور
[11] يقال واسِِط ووسَط كما يقال يابِس ويَبَس .
[12] تفسير ابن عاشور
[13] قال الزين العراقي في كتابه تخريج ما في الإحياء من الأخبار عن الحديث أنه مرسل معضل . (3/71 ، 3/119 ) .
[14] غريب الحديث لابن الأثير مادة وسط
[15] البقرة: 238 .
[16] انظر تفسير القرطبى .
[17] تفسير ابن كثير
[18] تفسير الرازي
[19] سورة آل عمران: 110 .
[20] فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر العسقلاني في كتاب التفسير باب قول الله تعالى: "وكذلك جعلناكم أمة وسطا" .
[21] تفسير ابن كثير والطبري والقرطبي والرازي .
[22] سورة القلم: 28 .
[23] تفسير ابن كثير والقرطبي والطبري .
[24] تفسير الرازي
[25] انظر الوسطية في ضوء القرآن الكريم للشسخ ناصر العمر ص 59 ، وهو كتاب شامل في موضوع الوسطية .
[26] البقرة: 142
[27] كتاب مدارج السالكين لابن القيم ، طبع دار الكتاب العربي، بيروت ، سنة 1973 ، 13|1 .
[28] تفسير ابن كثير سورة الفاتحة آية 7 .
[29] صحيح مسلم كتاب الإمارة .
[30] تفسير الرازي
[31] رواه مسلم في كتاب الجنائز ورواه البخاري والترمذي وأبوداود وأحمد .
[32] تفسير البحر المحيط لأبى حيان التوحيدى سورة البقرة: 143 .
[33] في ظلال القرآن لسيد قطب سورة البقرة: 143 .
[34] الوصية الكبرى لابن تيمية من الفتاوى الكبرى كتاب مجمل اعتقاد السلف .
[35] في ظلال القرآن لسيد قطب ، سورة البقرة آيه 143 .
[36] الأعراف: 179.
[37] الإسراء: 36 .
[38] النجم: 73 .
[39] النجم: 23 .
[40] صحيح البخاري ، كتاب الإعتصام بالكتاب والسنة .
[41] البقرة: 213 .
[42] الطرق الحكمية في السياسة الشرعية لابن القيم الجوزية ، تحقيق محمد جميل غازي ، مطبعة المدنى ، القاهرة ، د.ت. ص: 17-19.
[43] تفسير ابن كثير سورة النساء: 83 .
[44] البقرة:208 .
[45] تفسير الطبري البقرة: 208 .
[46] صحيح مسلم كتاب الطهارة .
[47] صحيح البخاري كتاب الاعتصام باكتاب والسنة
[48] صحيح مسلم كتاب الزكاة باب من جمع الصدقة وأعمال الخير .(/16)
[49] رواه البخاري عن أبي هريرة كتاب الرقاق باب التواضع
[50] كتاب مدارج السالكين للإمام ابن القيم ، دار الكتاب العربي ، بيروت ، 1: 89-88 ،
[51] الحج: 78 .
[52] انظر شرح صحيح مسلم للنووي كتاب العلم باب هلك المتنطعون ، والحديث رواه أيضا أبوداود في كتاب السنة باب لزوم السنة .
[53] رواه البخاري في كتاب الإيمان باب الدين يسر . والمشادة هي المغالبة والمقاواة ، والسداد هو الصواب والتوسط في الأمور ، والغدوة هي السير أول النهار والدلجة هي السير أول الليل يعنى استعينوا على مداومة العمل بإيقاعه في أوقات النشاط . انطر فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر في شرح الحديث وتعليق ابن المنير عليه .
[54] رواه الطبراني في الكبير والبزار ورجال البزار ثقات وكذلك رجال الطبراني . انظر مجمع الزوائد ومنبع الفوئد لأبي بكر الهيثمى ج/3 باب الصيام في السفر .
[55] الحجر: 94 .
[56] القلم: 9 .
[57] الاسراء: 74 .
[58] المائدة: 8 .
[59] أل عمران: 110-115 .
[60] النحل: 125 .
[61] منقول من أصول الحوار وآدابه في الإسلام لصالح بن عبدالله بن حميد عن إحياء علوم الدين للغزالى ج/1 .
[62] ملخص من نفس المصدر .
[63] ص: 45 .
[64] الرعد: 11 .
[65] البقرة: 200-202 .
[66] هود: 113 .
[67] تفسير القرطبى ، سورة هود آية 113 .
[68] القصص: 15 .
[69] البقرة: 213 .
[70] في ظلال القرآن لسيد قطب سورة البقرة آية 213 .(/17)
مفهوم الوطن والبيعة والإمام الواجب الطاعة .. للشيخ / حامد العلي حفظه الله
العنوان الأصلي للمقال (الدفاعْ عَنْ عَقيدَة الموحّدين ، وَردْ باطلِ المُفْسِدين ، فيِ تَعبيِدِ النّاس للْـ"وطنيّة" ، وتَشْويهِ مَعْنى البَيْعةِ الشّرعيّةِ ، وَإِمامةِ المُسْلِمين) لكن عنوان الموضوع لايستوعب حروف العنوان الأصلي لذلك وجب التنويه
--------------------------------------------------------------------------------------------
(الدفاعْ عَنْ عَقيدَة الموحّدين ، وَردْ باطلِ المُفْسِدين ، فيِ تَعبيِدِ النّاس للْـ"وطنيّة" ، وتَشْويهِ مَعْنى البَيْعةِ الشّرعيّةِ ، وَإِمامةِ المُسْلِمين)
حامد بن عبدالله العلي
الحمدُ للهِ الذي نَصر الإسلامَ بحولِهِ وقوتِهِ ، واستَعْمَل في ذَلكَ أولياءَه وخيرتَه ، وأدالَ على الصهاينةِ والصليبييّن ، فأرَانَا فِيهِم عَجَائِبَ قُدْرتِِه ، وأَظْهَرَ بَشائِرَ الفرَجِ عَلى يَدِ جُنْدِه وصَفْوتِه ، وَرَفَع رايَةَ الإسلامِ بِفْضْلِهِ ، ونِعْمَتِه ، وَقَمَعَ كيدَ الأعْداءِ بِبَطْشِه ، وَنِقْمَتِه .
الحَمْدُ لله وفاءً لنعمِهِ ، واسْتجْلاباً لمزيدِهِ ، وَقياماً بِحقّهِ ، والصلاةُ والسّلامِ عَلى الرّحمْةِ المُهداةِ ، وَالنّعْمَةِ المُسْداةِ ، حامِلِ لواءِ النّصرِ المُبين ، سيّدِ وَلدِ آدَمَ المصُطْفَى عَلى العَالمين ، مُحَمّد بنِ عَبْدالله وَعَلى آلهِ وصَحْبِهِ أَجمعين ،،
وَحُقّ لأَهل الإسْلامِ أنْ يَسْتبشرُوا مِنْ هَذه السّاعةِ بِنصرِ اللهِ تَعالى ، فَمَا بَعدَ هَذا العِزّ والظُّهور ، وَانْدِحَارِ الصّهايِنةِ مِنْ غزّة ، وَانْكِسارِ الصّليبيّن فيِ العِراقِ بالذل والعَاثُوُر ، وَرُجوعِ القوّةِ والهَيْمَنة لجُنْدِ طَالبانِ في أَفْغَانِسْتانِ ، إِلا إِعْلانِ النصْرِ المُؤَزّرِ ، وَالمجْدِ المُظَفّرِ ، تَحْتَ رَايةِ لاَ إِلَهَ إِلاّ الله ، وَاللهُ أَكْبَرْ ،،
وهذه آيات الهزيمة على وجوه الأعداء لائحة ، وعلى ألسنتهم بادية واضحة ، لاتخفى منها خافية ، ولا تستر منها فاضحة .
غير أنه يجب أن ننبّه اليوم على أمر في غاية الأهمية ، وهو أن هذه الأمة قد أثبتت في تاريخها ، أنْ قد أودع الله فيها من القوة المعنوية ، والطاقة الإيمانية ، والجلد في الجلاد ، والصبر عند ملاقاة أهل الكفر والعناد ، مايمكنها من إلحاق الهزيمة ، بكل من غزاها ، وجميع من عاداها ، فهي على دحر الأعداء مهما بلغت قوتهم ، وعظم مكرهم ، قادرة بقوة الله ، منتصرة بحول الله ، منصورة بنصر الله ،،
هذا إذا قام فيها من حقق التوحيد ، الذي هو حق الله على العبيد ، واهتدى بهداية الوحي المجيد ،
ولهذا يجب أن ننقح المفاهيم المغلوطة الدخيلة على الإسلام ، ونزيّف المزيف منها ، ونوضّح السديد ،
غير مغترين بكثرة الخائضين في الباطل ، القائلين على الله بغير علم ، الكاذبين على دينهم ، المفترين عليه بغير الحق ، الصائلين على دلائل الكتاب والسنة ، الساعين بالفساد فيها ، المبتغين لها عوجا ، الناكبين عن الصدق .
هذا وقد كثر اللغط ، واختلط العدل بالشطط ، في ثلاثة مفاهيم مهمة ، قد أدّى الخلط فيها إلى فساد عريض ، فاختلط الحق بالباطل ، واغتر بكثرةِ المبطلين الغرّ والجاهل ، وهي :
مفهوم الوطن ،
والبيعة ،
والإمام الواجب الطاعة ،،
ولما كانت هذه المفاهيم غاية في الخطورة ، إذ قد ينبني عليها سلامة العقيدة ، وحفظ رسالة الأمة ، وصون دينها ، وتوجهها الحضاري ،،
فالأمّة إن جعلت الوطن وثنا يعبد من دون الله ، وشريعة تحادّ شريعة الله ، وجعلت بيعة الإمامة الشرعية ، وسيلة لتسلط المفسدين على رقاب المسلمين بإسم الدين ، وجعلت السلطة بيد الخائنين ، زاعمة أنها هداية الكتاب المبين ، فأيّ بقاء لها بعد هذا ، فقد تُودّع منها إلا أن يتداركها الله برحمته ،،
وفيما يلي بيان الحق ، مصدوعا به بغير خفاء :
الوطن في الأصل هو الأرض التي يستوطنها الإنسان ، كما في لسان العرب ( المنزل الذي تقيم به ) ، لكنه قد يُطلق اليوم على النظام السياسي الحاكم بقوانين على حدود جفرافيّة وشعب ، أيْ الدولة ، وكثيرا ما يخُلط بين مفهوم الوطن ، ومفهوم الدولة ، وثمة خلط آخر بين النظام والدولة ،
وغالبا في بلادنا العربية يفرض النظام الحاكم نفسه أنّه الدولة كلها ، ويختزل الشعب ، فلا قيمة له ـ مالم يكن رقيقا للنظام فقيمته على قدر رقّه ! ـ إلاّ في الخطابات السياسية !! ويجعل القوانين تابعةً للنظام الحاكم ، والحدود السياسية ملكُه الشخصي !! ثم يخلط بين مفهوم الوطن ومفهوم النظام الحاكم ، فيجعل الخيانة للنظام الحاكم ، خيانة للوطن ، وخيانة للدولة ، بينما يكون هو خائنا للوطن والدولة والشعب معا ، أما خيانة الدين فتلك السابقة دائما ، والتي لزم منها كل هذه الخيانات !!(/1)
والخلاصة أن المفهوم السياسي للوطن في الإعلام العربي والخطاب السياسي ـ غالبا ـ ينتهي إلى أنه الكذبة الكبرى التي اصطلح الجميع على إستعمالها للوصول إلى أطماعه الخاصة ، الحزب الحاكم يستعملها مادامت توصله إلى أطماعه ، وطبقة التجار كذلك ـ إن كانت ثمة طبقات تجار خارج السلطة التنفيذية ـ مادموا يحصلون على الصفقات الكبرى ، والأحزاب الساعية للسلطة يمتطون هذا المفهوم للوصول إلى السلطة .
ولهذا ينكشف الأمر عندما يتخلى الزعيم عن الأرض هاربا عندما يفقد سلطته ، وتعيش الأحزاب السياسية خارج الوطن ، وهي تتاجر سياسيا بشعاره ، ويُخرج التجار أموالهم ليهربوا إليها عندما تتهدد مصالحهم التجارية في الوطن ، بينما كانوا يجعلون الأرض سوقا استثماريا فحسب ، ويبقى فيها الشعب المسكين الذي كان مخدوعا بهذه الكذبة ، حبّ الوطن ، إنه حقا زمن الزيف والخداع .
لقد أصبح مفهوم الوطن ـ معذرة ـ كالعاهرة التي يزنون بها جميعا ، ويستر الجميع على الجميع ، وقوّادها هو الأطماع الشخصية لكل فئة !
ثم إنّه من الواضح أن علاقة الإنسان بالأرض إنما هي تبع لغريزة البقاء بحثا عن الغذاء ، الطعام والماء ، لايمكن أن يكابر الإنسان فيدعي خلاف ذلك ، ولهذا فهو يهاجر من أرضه إن لم تمدُّه بأسباب البقاء ، مدفوعا بغريزته .
وعلى أية حال فهذا كلّه وصف للواقع العجيب ، في هذا المفهوم الغريب !
أما الإسلام فإنّه :
1ـ يجعل الأرض تابعة للعقيدة ،ولهذا يقسّم الإسلام الأرض إلى : دار إسلام ، ودار كفر ، فالأرض التي تعلوها أحكام الله تعالى ، هي وطن لكل مسلم ، إتباعاً لعقيدته ، وضدها هدف للمسلمين لإعلاء كلمة الله تعالى عليها بالجهاد ، فالأرض كلها لله يورثها من يشاء من عباده ، وقد أمرنا أن نُعلي في الأرض كلّها كلمة الله تعالى .
2ـ أرض المسلم الأصليّة هي الجنة ، كان فيه أبونا آدم وأمّنا حواء ، فأخرجتهما المعصية ، ويُردّ إليها وبنوه ، بطاعة الله تعالى وعبادته ، قال تعالى ( وأورثنا الأرض نتبوء من الجنّة حيث نشاء ) ، ولهذا فحتّى ذلك الوطن ، إنما يرتبط مفهومه بالعقيدة التي أصلها أنّ عبادة الله تعالى هي السبب الحقيقي لكلّ خير وفلاح في الحياة ، وهي هدفها الأعظم ، والضدّ بالضد .
ونحن في هذه الأرض السفلية غرباء ، نقضي فيها زمنا يسيرا ، لايَكاد يُذكر ، في عمر الحياة الدنيا ، أمّا في عمر الحياة الأبدية فلا شيء البتة ، ثم نرجع إلى أوطاننا ، وفي الحديث ( كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل ) رواه البخاري.
3ـ لما كان دين الإسلام هو الأصل ، والأرض تبع ، وجب على المسلم الهجرة من الأرض التي لايمكنه أن يعبد فيها ربّه ، ويظهر دينه ، فالهجرة سنّة الأنبياء ، ( إني مهاجر إلى ربّي سيهدين ) ، ولهذا هاجر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من مكّة إلى حيث يقيمون دينهم ، قال تعالى ( إنّ الذين توفّاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيمن كنتم قالوا كنّا مستضعفين في الأرض ،قالوا : ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها ) وقال تعالى (يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون ) .
4ـ تقديم حبّ الأرض ـ أو القومية أوالعشيرة أو النظام السياسي ..إلخ ـ على نصرة الدين ، شرك بالله ـ تعالى عما يشركون ـ وهو من شرك الأنداد ، قال تعالى ( ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله ) وقد بيّن القرآن المحابّ التي تتخذ أندادا مع الله ، في سورة التوبة قال تعالى ( قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحبَّ إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربّصوا حتى يأتي الله بأمره والله لايهدي القوم الظالمين ) .
وإلفُ الإنسان للأرض التي يعيش عليها أمر فطري مباح ، كما يحبّ أهله ، و قومه ، وكراهيته التغرب عن أرضه كذلك ،ولاتثريب عليه أن يتمسك بمحابّه ، ويدافع عنها مالم يخالف شريعة الله ، غيرَ أن كلّ محبوب للإنسان يجب أن يكون بعد حبّ الله ، ورسوله ، ونصر دينه .
5ـ أرض المسلمين ومنها التي عليها يدٌ عادية من نظام مرتد ، أو كافر أصلي محتل ، يجب تخليصها بالجهاد ، لادفاعا عن مجرد الأرض ، بل لأنها أرض المسلمين ، وعن نسبتها إلى العقيدة ، ولإقامة شريعة الله فيها ، فهذا هو الأصل الذي يُجاهد من أجله ، وقتال المسلم دون أرضه التي يملكها من جنس القتال دفاعا عن ماله .
وثمة فرق كبير بين الحدود السياسية لنظام ، وبين المال الخاص ، والحدود السياسية الشرعية تابعة في الأصل لمفهوم سيادة الأمة بكلمة الله على الأرض ، وتُقسّم بناء على ذلك دار الإسلام ، ودار الكفر كما بينا ، وليست تابعة لسلطات الأنظمة ،فالنظام يزول ، أو يُزال ، ويأتي غيره ، والأمة برسالتها باقية ، وأرضها المحكوم عليها بشريعتها حق عام لها ، لايملكها أحد كائنا من كان .(/2)
6 ـ ومن قاتل لكي ينصر نظاما سياسيا لايخضع لأحكام الشرع ، أودفاعا عن الحدود التي يسيطر عليها هذا النظام ، فهو يقاتل تحت راية جاهلية عمياء ، سواء سماه دفاعا عن الوطن والأرض وغير ذلك ، ومن غرر المسلمين بأن أفتاهم بغير هذا ، فقد أوردهم دكادك النار ، وهو قائدهم إليها ، وبئس الورد المورود .
7- جميع الحدود السياسية التي تفرّق الأمة ، حدودٌ جاهلية ، وجعلها أساسا لأحكام الولاء ، والجهاد ، والإمامة ، والبيعة ، ضلال مبين ، وسبب في ضعف المسلمين ، وتسلط الكافرين ، ويجب على الأمة السعي لإزالتها ، وإلى نظم الإمة في خلافة واحدة تحكمها ، وترك السعي لذلك تفريط فيما هو من أعظم واجبات الدين .
أما البيعة على الإمامة فهتي عقد شرعي ، ينوب فيه الإمام عن الأمّة في تنفيذ أحكام الله ، ولهذا نص الحديث ( اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة ما أقام فيكم كتاب الله ) رواه البخاري .
ولهذا مضت السنة أن يُنَصّ في البيعة على هذا الشرط ، كما في الصحيح أيضا قول عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه لعثمان رضي الله عنه : أبايعك على سنة الله ورسوله والخليفتين من بعده.
ويكون له مقابل قيامه بهذا الواجب الطاعة ، وهو واجب الرعيّة مقابل واجب الإمام ، فإن لم يأت الإمام بوفاء ما بويع عليه ، فلم يقم بواجب إقامة الشرع ، ونصره وحفظ الدين ، ومصالح المسلمين ، انفسخ العقد كسائر العقود الشرعية .
وإنما يبايعه أهل الحل والعقد ، وعليهم واجب النظر في استمرار صحة البيعة ، والرقابة والمحاسبة على الإمام ( السلطة التنفيذية ) ، وهذا الذي يطلق عليه في العصر نظام فصل السلطات ، وهو في الأصل نظام إسلامي ، هدفه ضمان بقاء الدولة في نفع الجماعة ومصلحتها العامة ، ومنعها من استغلال آلة الدولة لمنفعة خاصة
وقد عُطّل في البلاد الإسلامية ، فأصبح الحاكم مطلق السلطة ، واخضع العلماء المزيفون الناس لسلطته المطلقة بخطاب ديني مزيّف ليس هو مذهب أهل السنة ، وإنما مذهب الطمع والجشع ، أو الخوف والجزع ، فانتشر في ديار الإسلام الظلم ، وانتهكت حقوق الرعيّة ،
وأقامه غيرهم فكفوا يد البغي بينهم ، وضمنت رعاياهم بقاء الدولة راعية لحاجاتهم ، موفرة لمصالحهم .
ومقتضى البيعة على الكتاب والسنة أن يكون إماما للمسلمين لايفرق بينهم ، لأن أساس الإمامة والدولة في الاسلام ، ملّيُّ قائم على الدين ، بحيث يجمع المسلمين على ولاء الإسلام ، وعلى إقامته ، وحفظه ، ونصرة المسلمين ، وليس أساسه وطنياً قائما على معنى الوطنية العلماني العصري الذي يجمع المنتسبين إلى رابط الوطنية ، التي تقدم على الدين ، في صورة من صور الشرك والوثنية المعاصرة.
أما طرق إنعقاد البيعة فهي الاختيار والاستخلاف ، ولايكون عقد البيعة شرعيا إلا بعقد أهل الحل العقد بيعة الإمامة بالشروط الشرعية ، والمتغلب إن توفرت فيه الشروط بايعوه وصحت إمامته بذلك .
والإمام الواجب الطاعة في الإسلام :
هو الذي ينصبه أهل الحل والعقد ، من أهل العلم ، وذوي الرأي والرشد ـ أو يستخلف ـ ويبايعونه على أن يكون إماما للمسلمين ، لايفرق بينهم ، في جنس ، ولا أرض ، ولا قومية ولاقبليّة ، ولايخضع لأحكام الكافرين ، ولايدين لأحكامهم والقوانين ، ولايواليهم من دون المؤمنين ، بل يقطع أيديهم العادية على أرض الإسلام وأهله ، وينزل بهم في ديارهم رايات الجهاد ، بجيوشه وبأسه ،،
وقد قال الإمام أبويعلى الحنبلي في الأحكام السلطانية :
" ويلزم الإمام من أمور الأمّة عشرة أشياء :
أحدها : حفظ الدين على الأصول التي أجمع عليها سلف الأمة ، فإن زاغ ذو شبهة عنه ، بيّن له الحجة ، وأوضح له الصواب ، وأخذه بما يلزمه من الحقوق والحدود ، ليكون الدين محروسا من الخلل ، والامة ممنوعة من الزلل.
[ أما مسائل الإجتهاد ( التعددية الثقافية ) ، واختلاف الآراء في السياسات ( التعددية السياسية ) فهي في حيز المباحات مادامت خارج دائرة الأصول المجمع عليها ]* .
الثاني : تنفيذ الأحكام بين المتشاجرين ، وقطع الخصام بينهم ، حتى تظهر النصفة ، فلا يتعدى ظالم ، ولايضعف مظلوم .
الثالث : حماية البيضة ، والذب عن الحوزة ، ليتصرف الناس في المعايش ، وينتشروا في الأسفار آمنين .
الرابع : إقامة الحدود لتصان محارم الله تعالى عن الإنتهاك ، وتحفظ حقوق عباده من إتلاف واستهلاك .
[ ونصب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للأخذ على يد المفسدين ، وقطع دابر المجرمين ] **
الخامس : تحصين الثغور بالعدة المانعة ، والقوة الدافعة ، حتى لاتظفر الأعداء بغرة ، ينهكون بها محرما ، ويسفكون فيها دما لمسلم أو معاهد .
السادس : جهاد من عاند الإسلام بعد الدعوة ، حتى يسلم أو يدخل في الذمة .
السابع : جباية الفيء والصدقات على ما أوجبه الشرع نصا واجتهادا من غير عسف.
الثامن : تقدير العطاء ، وما يستحق في بيت المال من غير سرف ، ولاتقصير فيه ، ودفعه في وقت لاتقديم فيه ولا تأخير .(/3)
التاسع : إستكفاء الأمناء وتقليد النصحاء فيما يفوضه إليهم من الأعمال ، ويكله إليهم من الأموال لتكون الأعمال مضبوطة ، والأموال محفوظة .
العاشر : أن يباشر بنفسه مشارفة الأمور ، وتصفح الأحوال ، ليهتم بسياسة الأمة وحراسة الملة ، ولايعول على تفويض تشاغلا بلذة أو عبادة ، فقد يخون الأمين ويغش الناصح ، وقد قال تعالى ( ياداود إنا جعلناك خليفة في الأرض ، فاحكم بين الناس بالحق ، ولاتتبع الهوى ) فلم يقتصر سبحانه على التفويض دون المباشرة ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " كلكم راع وكلكم مسوؤل عن رعيته " .
وإذا قام الإمام بحقوق الأمة ، وجب عليه حقان :الطاعة ، والنصرة ، مالم يوجد من جهته ، ما يخرج به عن الإمامة "
وتأمل قوله " إذا قام الإمام بحقوق الأمة وجب عليه حقان ، الطاعة ، والنصرة مالم يوجد من جهته مايخرج به عن الإمامة "
فطاعة السلطة ، ليست مطلقة ، بل هي بعد قيامها بحقوق الأمة، فالأمة هي الأصل ، فالسلطة منها وإليها ، والإمام نائب أو وكيل عنها ، إن أدى إليها حقها ، وإلا فليس له حقوق ، ولا كرامة له ولانعمة عين بعد تضييع حقوق الأمة ، وأعظم حقها صيانة دينها ، وحمل أمانة رسالتها الإسلامية في داخلها ، وإلى خارجها .
وقد وضع القرآن العظيم أصل البيعة الشرعية التي يصيربها الإمام ولي أمر المسلمين ، وهي قوله تعالى : ( وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا ) .
فوليّ الأمر ، هو الذي إن تنازعنا وإياه في شيء ، رد إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، لا إلى سلطان شريعة كافرة ، ولاإلى هيئة دولية مارقة ، ولا إلى سياسة جائرة .
هذا نص الكتاب العزيز ، فمن حاد عنه ، فإنما هو في شقاق ، عافنا الله وإياكم من مرض القلب والنفاق.
والله أعلم وهو حسبنا ونعم الوكيل ، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا
-----------
* ، ** زيادة من كاتب المقال ، ليست من كلام الإمام أبي يعلي رحمه الله
__________________(/4)
مفهوم وعاء الزكاة وما جدَّ فيه
د. عبد الله الزبير عبد الرحمن*
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن وآلاهم واتَّبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين..أمَّا بعد:
فأوعية الزكاة هي مواعينها التي يجب أن يتبيَّنها العاملون في جباية الأموال المستحقة للفقراء والمساكين ولابن السبيل والغارمين وغيرهم من أصناف المستحقين للزكاة، إذ بدون التعرُّف عليها، وعلى عناصرها، ومواصفاتها، وشروطها التي تجب بها الزكاة فيها؛ قد يقع خطأ كثير، وتعدٍ على الحقوق، وتعسُّف في الأخذ والإجباء.
ولهذا اهتم ولاة أمر الزكاة في بلادنا بهذه الأوعية، وخصصوا لها ورقة تعرض مفهومها وما جدَّ فيها من أموال مستحدثة يمكن إلحاقها بأشباهها وأمثالها، وبالتالي تُكثِر أموال الفقراء والمساكين، وتُسهِم في إضعاف الفقر وتلاشيه من مجتمع المسلمين.
لذا استجبنا للكتابة في هذا الموضوع المهم على قلة الزاد ووهن الراحلة، وقد عرضت له من خلال أربعة مباحث، أولها: مقدِّمة تعريفية للوعاء ووعاء الزكاة في اللغة والشرع والاصطلاح، وثانيها: في ضمّ وعاء كبير جديد بقيَ خارج أيدي ولاة أمر الزكاة، وهو وعاء زكاة الأبدان، وثالث المباحث: بحث أصولي عن تحديد الأصل في الأوعية، هل التوسيع والإلحاق، أن التضييق والاقتصار على المنصوص، مع تفريعات ما يترتب على هذا الأصل، ورابع المباحث وآخرها: فيما جدَّ من أوعية واستحدث من أموال يمكن إلحاقها بأوعية الزكاة.
أسأل الله تعالى أن يتقبَّل هذا العمل خالصاً لوجهه، وأن يعين به بيان الحق، ويُعبِّد به طريق الخير والصلاح للأمة وولاة أمرها، والحمد لله رب العالمين.
المبحث الأول
مفهوم وعاء الزكاة
الوعاء في الوضع اللغوي:
الوعاء في أصل اللغة من وَعَىَ يَعِي وَعْيَاً، يأتي بمعاني الحفظ، والجمع، والإمساك، والإدخال، والتوثيق، والاستيعاب، والولاية، والظرف، والمصدر([1])، والوعاء الظرف على شيء من الخصوص([2]).
ولعلَّ استخدام هذه اللفظة كمصطلح خاص لمصادر الزكاة، كان لمعنى الظرف والمصدر والجمع والاستيعاب والإدخال، فهذه معاني تصدق في عمليات جمع الزكاة، وتحديد مصادرها وأنصبتها، واستيعاب أموالها، وإدخال كل ما تجب فيه الزكاة من مال ظاهر وباطن.
الوعاء في الاستعمال الشرعي:
لقد وردت مادة الوعاء في القرآن والسُّنَّة بمعانٍ قريبة لأصل الوضع اللغوي، ومن ذلك:
في القرآن الكريم:
ـ قوله تعالى (وجمع فأوعى)([3]) والمعنى هنا الإمساك([4]).
ـ وقوله تعالى (فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه)([5]).
والوعاء هنا: ما يُحفظ فيه المتاع ويصونه([6]).
ـ وقوله تعالى (والله أعلم بما يوعون)([7]) من الإمساك([8]).
ـ وقوله تعالى (لنجعلها لكم تذكرةً وتعيها أُذُنٌ واعية)([9]) أي: حافظة سامعة عاقلة([10]).
في السُّنَّة الشريفة:
ـ حديث ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعاً: (نضَّر الله امرءاً سمع مقالتي فوعاها فحفظها وبلَّغها) الحديث([11]).
ـ حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أنه قال: حفظتُ من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين من العلم، فأمَّا أحدهما فبثثته، وأما الآخر فلو بثثته قُطع هذا البلعوم([12]).
وهنا الوعاء بمعنى الظرف([13]).
الوعاء في الاصطلاح الفقهي:
لم يكن مشهوراً لدى الأقدمين استخدام هذا المصطلح فيما استُعمل فيه عند المتأخرين، حيث صار عند الفقهاء يُراد به: مصدر الزكاة التي تؤخذ منه وتُجمع، وتُتَحصَّل، وهو المراد بالأموال التي تجب فيها الزكاة.
المبحث الثاني:
وعاء الزكاة بين الأبدان والأموال
من المشهور عند الفقهاء أن الزكاة على نوعين([14]):
النوع الأول: زكاة الأموال، وهي التي عرفوها بأنها إخراج مال مخصوص من مال مخصوص بلغ نصاباً لمستحقه .. أو بأنها أخذ شيء مخصوص من مال مخصوص، على أوصاف مخصوصة([15]). فهي الزكاة التي تجب في الأموال وفيه قول الله تعالى (خذ من أموالهم صدقةً تطهِّرهم وتزكيهم)([16]).
أمَّا النوع الثاني: فهي زكاة الأبدان، وهي زكاة الفطر([17])، وهي الزكاة التي تجب على الأشخاص والأفراد ولا تتوقف على المال، ولذلك لم يعتبر الغنى فيها ولا حولان الحول لغرض النماء، وإنما اعتبر الشخص والأشخاص وأعدادهم وأنواعهم، وهكذا فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في حديث ابن عمر ـ رضي الله تعالى عنهما ـ قال: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير على العبد والحر والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين([18]). وعن عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض زكاة الفطر من رمضان على كل نفس من المسلمين حر أو عبد أو رجل أو امرأة أو صغير أو كبير، صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير([19]).(/1)
ومن المعروف لدى عامة الفقهاء ـ سابقين ولاحقين، قدامى ومحدثين، السلف والخلف ـ أن وعاء الزكاة لا يتكون إلا من المال، وأقصد الزكاة المأمور بأخذها من الأغنياء وبردها على الفقراء، وهي الزكاة التي يلي أمرها ـ جبايةً وصرفاً ـ ولاة الأمور والحكام. فالمال هو الوحيد الذي عُرف عند عامة الفقهاء أنه يمثِّل مصدر هذه الزكاة ووعائها. ولم يكن للأبدان اعتبار ولا مكان في أوعية الزكاة، مع أنها وعاء لزكاة واجبة فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين مرةً في العام القمري على الأبدان والأشخاص، هي زكاة الفطر.
فهل يعني ذلك أن الأبدان لا تصلح بأي حال أن تكون من أوعية الزكاة؟ وهل يجب أن تبقى زكاة الفطر في منأى عن ولاية الدولة وأمر الحُكَّام، لا تخضع لولايتهم لا تنظيماً ولا تقسيماً؟
والجواب: أنه قد استقر حال المسلمين عبر قرون عديدة على أن تكون زكاة الفطر في منأى عن الولاية العامة، وعن أيدي الحُكَّام وولاة الأمر، وبقيت خارج الزكاة التي يلي أمر جبايتها وصرفها الولاة والحكام، لتكون زكاة شخصية يقوم بأمرها الأفراد، يخرجونها ويقسمونها في مصارفها ولمستحقيها بأنفسهم دون أي مساع من الدولة في التدخُّل لتنظيمها جبايةً وصرفاً.
ولا أدري هل بحث الفقهاء هذه المسألة من هذا الوجه، وفصَّلوا فيها ووصلوا إلى رأي يمنع تدخُّل الدولة الإسلامية والحكومة المسلمة في تولِّي أمرها؟ أم أنهم رأوا أنها قضية مسلَّمة لا تحتاج إلى بحث، ولا إلى نظر أو تجديد نظر، مسايرة لحال الأمة، وتحكيماً للواقع، واعتماداً عليه اعتباراً له؟ لا أدري!! .. غير أني لمحت للشيخ الدكتور"يوسف القرضاوي" في فقه الزكاة إشارة إلى نوع ما أريد الكلام عليه وإقراره والدعوة إليه، وذلك في معرض التعليل لجواز إخراج زكاة الفطر من بعد نصف الشهر على أنه أيسر على الناس، فدعَّم ذلك بقوله: "وخاصة إذا كانت الدولة هي التي تتولى جمع زكاة الفطر، فقد تحتاج إلى زمن لتنظيم جبايتها وتوزيعها على المستحقين، بحيث تشرق شمس العيد وقد وصل إليهم حقهم، فشعروا بفرحة العيد وبهجته كما يشعر بها سائر الناس" أ هـ([20]).
والذي نريد أن نبحث عنه ونصوِّب الكلام عليه هو: هل الأبدان يمكن أن تكون وعاءً للزكاة العامة التي تتولى أمرها الدولة أم لا؟
والبحث في هذه المسألة على النحو الآتي:
الذي نتصوَّره مما يمكن أن يبرز من آراء تجاه هذه القضية، أن يكون الناس على رأيين:
ـ رأيٌ يقرّ الواقع والحال الذي مضى على المسلمين هذه القرون، فيقول إنَّ الأبدان ليست وعاءً للزكاة، وأنها تبقى بعيداً عن الدولة وولايتها، وتستمر خاصةً بالمُزكِّي ومحيطه ومعارفه من المستحقين.
ـ ورأيٌ يمكن أن يطالب الواقع بالتغيُّر، ويطالب المسلمين أن يُخضِعوا زكاة الفطر إلى سلطان الحاكم وولاة الأمر، وأن يعتبروا الأبدان من عناصر وعاء الزكاة ومكوِّناته. وتفصيل ذلك كما يلي:
الرأي الأول:
يمثِّل هذا الرأي عامة الفقهاء خاصة من المتأخرين والمعاصرين، حيث يرون أن الأبدان والرقاب والرؤوس لا تكون وعاءً للزكاة، كما أن زكاة الفطر لا يلي أمرها الحاكم وولي الأمر، وإنما هي زكاة شخصية يقوم بأمرها الأفراد جبايةً وصرفاً.
ويمكن الاستدلال لهذا الرأي بأمور، منها:
أولاً: إنَّ وجوب وفرضية زكاة الأموال مقطوعٌ فيه وخلاف بين العلماء في ذلك، بينما زكاة الأبدان [الفطر] غير مقطوع بفرضيتها ووجوبها، وقد ذهب بعض العلماء إلى سنيتها وعدم وجوبها، كابن اللبَّان من الشافعية، وبعض متأخري المالكية، وبعض الظاهرية، والأصم من المعتزلة، وغيرهم([21]). فكيف تكون زكاة الفطر كزكاة المال ؟ وكيف تعتبر الأبدان من أوعية الزكاة وزكاتها غير مفروضة كالأموال ؟
والجواب على هذا الاستدلال من وجوه:
الوجه الأول:
إن جماهير العلماء قد أكدوا فرضية زكاة الفطر ووجوب إخراج زكاة عن الأبدان، وقد ذهب إلى وجوب زكاة الفطر الأئمة الأربعة وأئمة المذاهب الأربعة وأئمة الظاهرية، فأكثر أهل العلم على أنها واجبة([22]). وما اتفق عليه الأكثرون وجماهير علماء الأمة، لا يُرك لشواذ.
الوجه الثاني:
أمَّا ما رُوِيَ عن ابن اللَّبان من الشافعية، فقد ردَّ عليه أئمة المذهب الشافعي، فقال النووي عنه: "هذا شاذ منكر بل غلط صريح"([23]).
ـ وما رُوِيَ عن أشهب، فقد ذكر ابن عبد البر عن أشهب أنه قال: سألت مالكاً عن زكاة الفطر أواجبة هي ؟ قال: نعم([24]). فكيف يُنقل عن أشهب أنه قال بسنيتها ؟ ولعلهم أرادوا ما قاله ابن أبي زيد في الرسالة: "زكاة الفطر سنة واجبة" فإنه إنما فسَّرها قائلاً: زكاة الفطر سنة واجبة فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم الله صلى الله عليه وسلم على كل كبير أو صغير، ذكر أو أنثى، حر أو عبد من المسلمين([25]).(/2)
ـ ومما ذُكر عن بعض متأخري المالكية من العراقيين، فلعلهم خرَّجوه مذهباً للأصل الذي عليه أبو بكر الأبهري ـ رحمه الله ـ في أن أوامر الله تعالى تقتضي الوجوب، وأوامر النبي صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم تقتضي الندب([26]). فجعلوا ذلك مذهباً فقهياً مخرَّجاً على مذهبه الأصولي، والتخريج على المذهب ليس بمذهب على التحقيق.
وما نُسب إلى ابن علية والأصم، فقد ذكر النووي ضعف الرواية عنهما([27]).
الوجه الثالث:
إن كثيراً من العلماء نقلوا الإجماع على فرضية وجوب زكاة الفطر، ومنهم ابن المنذر، وإسحاق بن راهوية، والبيهقي.
ـ قال ابن المنذر: "وأجمعوا على أن صدقة الفطر واجبة"([28]).
ـ وقال البيهقي: "وقد أجمع العلماء على وجوب صدقة الفطر"([29]).
ـ وقال إسحاق بن راهوية: "هو الإجماع"([30]) وفي رواية عنه: هو كالإجماع من أهل العلم([31]).
ـ وقال ابن هبيرة: "واتفقوا على وجوب زكاة الفطر على الأحرار المسلمين"([32])، ونقل هؤلاء الإجماع في المسألة يضعف الخلاف ويجعله شذوذاً، والشاذ الذي لا يسنده الدليل، مردود، إذ الدليل مع الجماهير هو:
الوجه الرابع:
ففي البخاري ومسلم عن ابن عمر ـ رضي الله تعالى عنهما ـ قال: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير على العبد والحر، والذكر والأنثى، والصغير والكبير من المسلمين، وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة([33]).
ـ وعند البخاري عن نافع أن عبد الله قال: أمر النبي صلى الله عليه وسلم بزكاة الفطر صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير([34]).
فهناك فرض، وهنا أمر، وكل منهما يفسِّر الآخر، فالأمر يقتضي الوجوب، والفرض بمعنى الوجوب، فثبت المطلوب.
الوجه الخامس:
أنها زكاة دخلت في مسمى الزكاة، فتدخل في عموم الزكاة التي أمر الله بها وتوعَّد مانعيها بالعذاب الشديد([35]).
ثانياً: أن زكاة الفطر إنما فُرضت في أول التشريع، ثم نُسخت فرضيتها بعدما أوجب الله تعالى زكاة الأموال، ودليل ذلك حديث قيس بن سعد بن عبادة، قال: أمرنا رسول صلى الله عليه وسلم بصدقة الفطر قبل أن تنزل الزكاة، فلما نزلت الزكاة لم يأمرنا ولم ينهنا ونحن نفعله([36]).
والجواب من وجوه:
الوجه الأول: أن الحديث في سنده مقال، لأن فيه أبا عمار عريب بن حميد وهو مجهول لا يُعلم حاله في الجرح والتعديل([37]).
الوجه الثاني: على فرض صحة الحديث؛ فليس فيه دليل نسخ، فلا تستقيم الدعوى بنسخ وجوب الفطر، لأنه مأمور به ولا يزال، فقد سبق الأمر به ووجوبه ولم يصرح بإسقاطه، فالوجوب باق، ونزول فرض لا يوجب سقوط فرض آخر([38]).
وبهذا يكون هذا الرأي مرجوحاً لا يعتمد عليه ولا يستند إليه لضعفه ومرجوحيته. فما هو الرأي الثاني ؟
الرأي الثاني:
أنه يجب أن تخضع زكاة الفطر لولاية الدولة الإسلامية والحكومة المسلمة، وأن تكون جبايتها وصرفها بتقدير الحاكم وولي الأمر، وأن ذلك مسئولية سلطانية عامة، واعتبار الأبدان والرؤوس والرقاب، من عناصر وعاء الزكاة ومكوِّناته.
والذي يظهر أن هذا الرأي ليس عليه عامة الفقهاء، ولم يشتهر عن جماهيرهم بقدر ما يبدو أن يكون رأياً مستجداً ونظراً مجداً، بل الصحيح نظراً مجدداً.
وهو الذي نتبنَّاه وندعو إليه الناس ونطالب به جملة أمور تصلح أن تكون أدلة ترجِّح هذا الموقف، وتقوِّي الرأي. وأظهرها ما يلي:
الأمر الأول:
أنها زكاة سبق الأمر بها من الشارع قبل الأمر بزكاة الأموال، ورعاها صاحب السنة باعتباريه [النبوة والإمامة]، وقد ثبت عدم سقوط الأمر بها كما لم يسقط وجوبها بإيجاب الزكاة على الأموال، فتبقى كزكاة الأموال تحت سلطان الحاكم وولايته.
الأمر الثاني:
أنها داخلة في نصوص الأمر بإيتاء الزكاة التي فُسِّرت من بعد على خصوص زكاة الأموال، وحُملت عليها خاصة، مع عدم ظهور الدليل الذي خُصصت به هذه النصوص بزكاة الأموال، فكل آية فيها الأمر بإيتاء الزكاة، يدخل فيها الأمر بزكاة الفطر.
وهذا الذي فهمه أئمتنا ـ رحمهم الله تعالى ـ فها هو الإمام مالك ـ رحمه الله ـ يُسأل من تفسير قوله تعالى (وآتوا الزكاة)([39]) أهي الزكاة التي قُرنت بالصلاة ؟ فيقول: "هي زكاة الأموال كلها من الذهب، والورق، والثمار، والحبوب، والمواشي، وزكاة الفطر" وتلا قول الله تعالى (خذ من أموالهم صدقةً تُطَهِّرهم وتزكيهم)([40]).([41])
وفي رواية عنه: "أن الزكاة المقرونة بالصلاة تدخل فيها زكاة الفطر"([42])
وصحح هذا القول الباجي ـ رحمه الله ـ واستدل على ذلك بقوله تعالى (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة)([43]) لأن اللفظ يصح بتأويله لها، وهو من ألفاظ العموم، فيجب أن يُحمل على هذه الزكاة وغيرها، إلا ما خصَّه الدليل([44]).(/3)
بل إن المشهور أن الله تعالى سماها زكاةً، وأنزل لها وللحث عليها وإيعاد من التزمها بالفلاح والخير، فثبت أنها زكاة لا تخرج عن غيرها في أمر توليها، وذلك هو قوله تعالى (قد أفلح من تزكَّى. وذكر اسم ربه فصلى)([45]).
ـ قال قتادة وعطاء وأبو العالية: "نزلت في صدقة الفطر"([46]).
ـ ورُوي عن أبي سعيد الخدري وابن عمر رضي الله عنه أن ذلك في صدقة الفطر([47]).
ـ وكان عمر بن عبد العزيز ـ رحمه الله ـ يأمر الناس بإخراج صدقة الفطر ويتلو هذه الآية([48])... وكان رحمه الله يخطب الناس على المنبر يقول: "قدِّموا صدقة الفطر قبل الصلاة، فإن الله يقول (قد أفلح من تزكَّى. وذكر اسم ربه فصلى)"([49]).
ـ قال ابن العربي: "وكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بها ويخرجها"([50]).
ـ وأخرج البزار وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم في الكُنى وابن بردويه والبيهقي في سننه عن كثير بن عبد الله عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كان يأمر بزكاة الفطر قبل أن يصلي صلاة العيد، ويتلو هذه الآية، وفي لفظ: سُئل النبي صلى الله عليه وسلم عن زكاة الفطر فقال (قد أفلح من تزكَّى) قال: (هي زكاة الفطر)([51]).
فلفظ الزكاة ـ إذن ـ تشمل زكاة الأبدان مع زكاة الأموال، وقد رُوي عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ لمَّا سُئل عن الآية السابقة (قد أفلح من تزكَّى)، قال: "هي للزكاة كلها والصدقات كلها"([52]).
وهذا يعني أن الزكوات كلها في مقام واحد من حيث الإيجاب، ومن حيث الجباية والصرف، وغير ذلك مما يقيمها ويبقيها ويرعاها ... فثبت مطلبنا.
الأمر الثالث:
أن سنة النبي صلى الله عليه وسلم جعلت أمر زكاة الفطر من الولاية العامة، كزكاة الأموال تماماً في الجباية والجمع والتقسيم والصرف، وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته ـ رضوان الله عليهم ـ كانوا يجمعون زكاة الفطر ويضعونها في مكان يخصصونه لها، يوكلون عليها وعلى حفظها أحدهم، وكل ذلك يؤيد ما ذهبنا إليه وما دعونا له.
ففي صحيح البخاري من كتاب الوكالة وكتاب فضائل القرآن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: وكَّلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان، فأتاني آت فجعل يحثو من الطعام، فأخذته وقلت: والله لأرفعنَّك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: إني محتاج وعليّ عيال ولي حاجة شديدة. قال: فخليت عنه. فأصبحت فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا أبا هريرة ! ما فعل أسيرك البارحة ؟) قال: قلت يا رسول الله شكا حاجة شديدة وعيالاً، فرحمته، فخليت سبيله. قال: (أما إنه قد كذبك، وسيعود) فعرفت أنه سيعود لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه سيعود، فرصدته، فجعل يحثو من الطعام، فأخذته، فقلت: لأرفعنَّك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: دعني فإني محتاج وعليّ عيال، لا أعود، فرحمته، فخليت سبيله، فأصبحت، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا أبا هريرة ! ما فعل أسيرك ؟)) قلت: يا رسول الله شكا حاجةً شديدة وعيالاً فرحمته، فخليت سبيله. قال: ((أما إنه قد كذبك، وسيعود)) فرصدته الثالثة، فجعل يحثو من الطعام، فأخذته، فقلت: لأرفعنَّك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا آخر ثلاث مرات، إنك تزعم لا تعود ثم تعود، قال: دعني أعلِّمك كلمات ينفعك الله بها. قلت ما هنَّ ؟ قال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي (الله لا إله إلا هو الحيُّ القيوم) حتى تختم الآية، فإنك لن يزال من الله عليك حافظ، ولا يقربنَّك شيطان حتى تصبح. فخليت سبيله، فأصبحت فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما فعل أسيرك البارحة ؟) قلت: يا رسول الله ! زعم إنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها، فخليت سبيله. قال: (ما هي ؟) قلت: قال لي إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم الآية، وقال لي: لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أما إنه قد صدقك وهو كذوب تعلم، من تخاطب مذ ثلاث ليال يا أبا هريرة ؟ قال: لا، قال: (ذاك شيطان)([53]).
وهذا دليل واضح بل وصريح في أن أمر زكاة الفطر كان أمراً عاماً ولم يكن أمراً خاصاً، يقوم بأدائها كل واحد على طريقته ودون الجمع العام.
فلم لا نجدد أمر الدين في إخضاع جمع وتصريف زكاة الفطر إلى الولاية العامة كزكاة الأموال ؟ ولم لا نضم زكاة الأبدان (الفطر) إلى أوعية الزكاة مع الأموال ؟
الأمر الرابع:
ما يؤيد ويؤكد أن السنة ماضية على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام هي أن زكاة الفطر يقوم بجمعها وتقسيمها الإمام والوالي، وما يؤكد ذلك حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الذي أخرجه ابن بردويه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقسم الفطرة قبل أن يغدو إلى المصلَّى يوم الفطر([54]).
الأمر الخامس:(/4)
أن زكاة الفطر كانت تُجمع ويتولى جمعها من يُكلَّف بها، وكان ذلك هو الحال الذي استقر عليه أمر الصحابة ـ رضوان الله ـ عليهم، فقد روى نافع عن ابن عمر ـ رضي الله عنهم ـ: أنه كان يبعث بزكاة الفطر إلى الذي تُجمع عنده قبل الفطر بيومين أو ثلاثة([55]).
وهو واضح أن زكاة الفطر كانت تُجمع، وكانت يوكل بها أحدهم يُعلم عنه ويُعرف، وهذا ما ندعو إليه. وخير من تُجمع عنده زكاة الفطر، هو من تُجمع عنده زكاة المال، فتُوحَّد ولاية كل الزكوات [زكاة الأموال وزكاة الأبدان].
فإذا ثبت كون الأبدان من أوعية الزكاة مع الأموال نصياً وسنياً؛ فإن ما يحققه ذلك من منافع ومصالح شرعية عظيمة للرعية والدولة، يؤكِّد وجوب تبعية زكاة الفطر للدولة ويرجوه.
ومما يحققه:
أ. العدالة في قسمة ما يُجمع من الزكاة ـ طعاماً ومالاً ـ حيث تُقسَّم الحصيلة على المساكين وأهل الحاجات والعوز بالسوية، وبحسب حال الفقر فيهم والمسكنة وشدة الحاجة والعوز. وفي حال تولِّي الأفراد قسمة فطرتهم، فإنه سيغيب هذا العدل، وقد يُعطى المحتاج أقل من حاجته، ويُعطى غيره أكثر من حاجته، ويغنى بعضهم، ويُحرم آخرون. ولا شك أن تحقيق العدالة بالصورة الأولى، أولى وأحرى بل وأوجب على العلماء والحُكَّام.
ب. قد لا يوجد في بعض الأزمنة فقراء ولا مساكين يحتاجون إلى أخذ زكاة الفطر، وهذا جائز عادةً ومتوقع، وفي صحيح البخاري من حديث حارثة بن وهب رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (تصدَّقوا فإنه يأتي عليكم زمان يمشي الرجل بصدقته فلا يجد من يقبلها، يقول الرجل: لو جئت بها بالأمس لقبلتها، فأما اليوم فلا حاجة لي بها)([56]) .. وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى يكثر فيكم المال، فيفيض، حتى يهم رب المال من يقبل صدقته، وحتى يعرضه فيقول الذي يعرضه عليه: لا إرب لي)([57]).
فإذا وُجد هذا الحال في الرعية؛ فهل يتوقف الصائمون والمكلَّفون عن أداء زكاة الفطر ؟ وإلى من يعطون إذا دفعوا زكواتهم ؟ فإنهم لن يجدوا من يأخذها.
ولذلك إذا كانت الدولة هي التي تقوم بجباية وجمع زكاة الفطر وبصرفها في مستحقيها، فإنها وإن لم تجد المسكين الذي يُعطى أو الفقير الذي يُغنى، يمكنها صرفها إلى المصالح العامة التي يدرك نفعها كل الناس في الدولة.
لكل هذا وغير هذا ندعو المؤتمر لاتخاذ قرار يجعل زكاة الفطر من أوعية الزكاة والتسوية بين الزكاتين [الأموال والأبدان] في ولايتها وفي جمعها وجبايتها، وفي تولِّي أمر قسمتها وصرفها. ولن نعجز في اتخاذ التدابير وتدبير الإجراءات الكفيلة بتسليك أمر زكاة الفطر كما يُفعل بأختها زكاة المال. والله تعالى الموفِّق إلى الحق والصواب.
المبحث الثالث
وعاء الزكاة بين التوسيع والتضييق
إن أول شيء يجب أن يقرره الفقهاء في هذا العصر: الأصل الشرعي الذي يقوم عليه تحديد الأوعية الزكوية، هل الأصل التوسيع في أوعية الزكاة أم الأصل التضييق فيها ؟ والتضييق يعني الاقتصار على الأموال التي جاءت النصوص الصريحة بتسميتها وتعيين الزكاة فيها، ويعني التوسيع تجاوز هذه الأموال وضم غيرها إليها وإلحاقها بها واعتبار كل مال صالحاً لأن يكون وعاءً للزكاة تجب فيه وتُجبى منه وتؤخذ من أصحابه نصيباً معلوماً.
مواقف الفقهاء من توسيع وتضييق الأوعية:
وقد كان الفقهاء من هذه المسألة على موقفين: موقف يضيِّق الأوعية على المنصوص والمصرح .. وموقف يتوسَّع في الأوعية ويضم إليها غير المنصوص عليها.
أولاً: مذهب التضييق:
وتضييق أوعية الزكاة ومصادرها على المنصوص عليه منها، اشتهر به ابن حزم، وتبعه في ذلك الشوكاني ـ رحمهم الله تعالى ـ.
فابن حزم يصرِّح بالتوقف عند الذي نصَّ عليه الشرع وأوجب فيه الزكاة من الأموال، فقال: "مسألة: ولا تجب الزكاة إلا في ثمانية أصناف من الأموال فقط، هي: الذهب، والفضة، والقمح، والشعير، والتمر، والإبل، والبقر، والغنم: ضأنها وماعزها، فقط"([58]).
وأنكر الشوكاني على من ذهب مذهب التوسيع في إيجاب الزكاة من العلماء فقال: "وقد توسَّع كثير من أهل العلم في إيجاب الزكاة في أموال لم يوجب الله الزكاة فيها، بل صرَّح النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الأموال بعدم الوجوب كقوله: (ليس على المسلم صدقة في عبده ولا فرسه)"([59]). وقد كان للصحابة أموال وجواهر وتجارات وخضروات، ولم يأمرهم صلى الله عليه وسلم بتزكية ذلك ولا طلبها منهم، ولو كانت واجبة في شيء من ذلك لبيَّن للناس ما نزل إليهم([60]).
وقد أقاما مذهبهما على أصل وفرع:
أما الأصل فوجهان:
أ. أن الزكاة تكليف شرعي، والأصل براءة الذمم من التكاليف إلا ما جاء به نص، حتى لا نُشرِّع في الدين ما لم يأذن به الله([61]).
ب. أن الزكاة عبادة، والعبادات الأصل فيها التوقيف والحظر ما لم يأتِ النص بالإذن والتشريع. والنص اقتصر على هذه الأموال التي ورد فيها ولم يأذن بغيرها.
وأما الفرع فدليلان:(/5)
أ. فإن مال المسلم حرام أخذه إلا بحقِّه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يحل مال امرئٍ مسلم إلا بطيبة من نفسه)([62])
ب. أن النبي صلى الله عليه وسلم صرَّح في بعض الأموال بعدم الوجوب كقوله: (ليس على المسلم صدقة في عبده ولا فرسه)([63]).
ثانياً: مذهب التوسيع:
والتوسيع في أوعية الزكاة والأموال التي تجب فيها، هو الظاهر من موقف الجمهور من المذاهب الأربعة، ومن مواقف السلف من التابعين وغيرهم، على تفاوت فيما بينهم.
ـ فالحنفية يرون إيجاب الزكاة في كل ما يخرج من الأرض مما يُقصد بزراعته النماء([64]).
ـ وقال داود وجمهور الظاهرية: الزكاة في كل ما أنبتت الأرض وفي كل ثمرة وفي كل الحشيش وغير ذلك لا تحاش شيئاً([65]).
ـ والشافعية يقولون: كل ما عُمل منه خبز أو عصيدة، ففيه الزكاة([66]).
ـ وهو الظاهر من مذاهب جماهير السلف من الصحابة والتابعين رحمهم الله تعالى ورضي عنهم([67]).
الترجيح والاختيار:
والرأي الذي نختاره ونعتمده ونراه يحقق المصالح الشرعية للعباد ويوافق المقاصد الشرعية في الزكاة وتدعمه الأدلة الشرعية بظواهرها وعمومها، وبنى على أساسه الفقهاء مواقفهم وفتاويهم، هو الرأي الذي يوسِّع أوعية الزكاة. وما يرجّح ذلك جوانب، أظهرها:
الجانب الأول: جانب المقاصد الشرعية:
فمقصود الشارع من إيجاب الزكاة في ثلاثة أمور:
ـ الأمر الأول: مقصوده في المال المزكَّى، لينمِّيه ويطهِّره ويجعل فيه حقاً لله يؤخذ لمن لا مال له، وهذا لا شك يحتاج إلى جعل كل مال خاضعاً للزكاة لتحقيق هذا المقصود الشرعي، فتطهيره بأخذ شيء منه .. وتنميته لأن صاحبه سيستثمره حتى لا تأكله الصدقة، وما يؤخذ منه يمثل حق الله فيه ليعطى للفقير.
ـ الأمر الثاني: مقصود الشارع في رب المال المزكِّي ليزكيه ويطهره من الشح والبخل، ويخرجه من دائرة هواه ليكون عبداً لله اختياراً كما هو عبد الله اضطراراً، وهذا المقصود يتحقق حين يؤخذ من كل ماله نصيب زكاةً وصدقةً لغيره، فيستجيب ويطيع.
ـ الأمر الثالث: مقصود الشارع في الفقير، لتُسد خلته، وتُقضى حاجته، ويُستل من قبله الغل لأرباب المال الأغنياء، وكل ذلك مطلوب على السعة.
فكان التوسيع في أوعية الزكاة موافقاً لمقصود الشارع في الزكاة.
الجانب الثاني: جانب المصالح الشرعية:
فالمصالح التي تتحقق بالتوسُّع في أوعية الزكاة لا تخفى على الناس، فكلما توسَّعت أوعية الزكاة، كلما زادت حصيلة الزكاة، كلما زال الفقر وزاد الغنى، ولا يشك أحد أن هذا مصلحة شرعية واجبة الجلب والتحصيل.
وكلما اتسعت دائرة الإيجاب، كلما تمكَّن الناس من إقامة المصالح العامة، ودرء المفاسد العامة من رد العدوان على الأمة، وإعداد القوة اللازمة لحماية البيضة، وسد الخلات، وقضاء الحاجات لذوي الحاجات.
وكلما توسَّع الناس في إيجاب الزكاة، كلما ازدادوا تكافلاً وترابطاً، فيتحقق مطلوب الشارع في الأمة (وكونوا عباد الله إخواناً)..
وكل ذلك مصالح شرعية عظيمة تستحق التحصيل ولو أدَّى ذلك إلى شيء من لحوق الضرر الخاص بأرباب المال مما يُهدر مثله في الشرع، والضرر العام يُزال بالضرر الخاص، والمصالح الراجحة مقدَّمة على المفاسد المرجوحة، والمصالح العظيمة أولى في الجلب من درء المفاسد القليلة.
الجانب الثالث: جانب الأدلة الشرعية:
والأدلة الشرعية تسند هذا الاتجاه وتؤيده ..
أمَّا من الناحية الأصولية، فإنَّ الزكاة عبادة معلولة معقولة المعنى، فيمكن إجراء القياس في مسائلها وأحكامها، وما علمت علته فالحكم يدور معها.وبهذا يسقط الاستدلال بأن الزكاة عبادة توقيفية تحتاج في كل شيءٍ إلى نصٍ خاص.
وأمَّا من الناحية الفقهية؛ فالاستدلال على توسيع مصادر الزكاة من وجوه:
1. أن الأمر بإيتاء الزكاة وأخذها موجَّه إلى عموم المال، ومن ذلك:
ـ قوله تعالى (خُذْ مِنْ أموالهم صدقةً)([68])، وهذا عام في كل مال.
ـ قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل رضي الله عنه: ((أعلمهم أن الله افترض عليهم صدقةً في أموالهم تُؤخذ من أغنيائهم وتُرد على فقرائهم))([69]).
2. أن الشارع صرَّح بأنه ما من مال إلا وفيه الزكاة، وذلك في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من آتاه الله مالاً فلم يُؤدِ زكاته، مثل له يوم القيامة شجاعاً أقرع له زبيبتان يطوِّقه يوم القيامة ثم يأخذ بلهزمتيه، يعني شدقيه، ثم يقول: أنا مالك، أنا كنزك)) الحديث([70]). والحديث واضح في أن كل مال يجب أن تؤدَّى زكاته، وهذا عين المراد بالتوسيع في إيجاب الزكاة، فقد وسَّع الشارع وعمم كل مال.
3. أنه صلى الله عليه وسلم يرغِّب في أداء الزكاة من كل مال ولم يخص شيئاً منه دون غيره في حديث ابن مسعود رضي الله عنه إذ قال: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فسلَّطه على هَلَكَته في الحق، ورجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها)([71]). وعلى هذا فالواجب أن تكون القاعدة في الأوعية:(/6)
[كل مال يصلح للنماء والاتِّجار فهو وعاء للزكاة]
ما يتخرَّج على هذه القاعدة:
أ. ترجيح كون المال وعاءً من أوعية الزكاة، عند التردد والتعارض، وترجيح جانب الإدخال في الأوعية عند الاختلاف.
ب. تفسير الشبهة للإيجاب لا المنع.
ج. إلحاق ما يمكن إلحاقه من مال بأوعية الزكاة بكل أوجه الإلحاق من الأقيسة والاستصلاحات وغيرها.
وما يترتب على توسيع الأوعية أمور كثيرة، أُنبِّه إلى بعضها وهي:
1. التغافر والتساهل في تحقق الحول، واعتبار قربان الحول حولاً، وعدم التشدد في حول الربح باعتبار أن حول الربح حول أصله([72]).
2. موت رب المال قرب وقت الأداء لا ينقل المال للورثة حتى تخرج الزكاة من رأس المال، فتجب الزكاة من رأس المال قبل قسمة التركة، بل وتُقدَّم على مؤن التجهيز، وهو قول المالكية والشافعية، وهو قول أحمد وإسحاق وأبي ثور وداود، وهو قول جماعة من التابعين كعطاء والحسن البصري والزهري وقتادة وغيرهم([73]). وهو الذي أخذ به قانون الزكاة لسنة 2001م حيث جاء في المادة [36ـ3] "في حالة وفاة صاحب المال الواجب زكاته، تؤخذ الزكاة من التركة قبل توزيعها"([74]).
3. حمل الأحاديث المصرِّحة بعدم وجوب الزكاة في بعض الأموال على المتفق عليه من المال الذي لا تجب فيه الزكاة، والمتفق عليه مما لا يدخل في أوعية الزكاة من الأموال، هي الأموال التي تتخذ للتقنية، وعلى هذا تؤول الأحاديث الناطقة بعدم الوجوب كحديث الصحيحين: ((ليس على المسلم صدقة في عبده ولا فرسه))([75])، ولذلك أوجب جمهور الفقهاء الزكاة في الخيل المتخذة للتجارة.
ـ قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "نأخذ من أربعين شاةً شاة ولا نأخذ من الخيل شيئاً؟! خذ من كل فرس ديناراً، فضرب على الخيل ديناراً ديناراً([76]).
ـ وكان عثمان يصدق الخيل([77]).
ـ والحنفية جعلوا في الخيل السائمة زكاة، أما المتخذة للاتِّجار فقد نقلوا الإجماع في وجوب الزكاة فيها([78]).
ـ وهو ظاهر قول المالكية([79]).
ـ وهو قول الشافعية حيث اشترطوا عدم اتخاذها للاتِّجار فقالوا: هذا إذا لم تكن للتجارة، فإن كانت لها وجبت زكاتها([80]).
فيؤول الحديث على أن المقصود بالخيل المتخذة للركوب والقنية دون الاتجار، ويؤيد هذا التأويل حديث أنواع الخيل وفيه: (ورجل ربطها تغنياً وتعففاً ثم لم ينس حق الله في رقابها ولا ظهورها فهي لذلك ستر)([81]) كما يؤيده القياس وهو أن الخيل السائمة حيوان مقصود به النماء والنسل فأشبه الإبل والبقر([82]).
4. النظر في المال دون النظر إلى صاحب المال في إيجاب الزكاة، فالزكاة في المال، فإذا تحقق في المال ما يدخله في أوعية الزكاة، فلا اعتبار لرب المال، سواء كان حاضراً أو غائباً، أو كان عاقلاً أو مجنوناً، سواء كان مكلَّفاً أو صبياً.
ولذلك تجب الزكاة في:
أ. مال الصبي، عند الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة، وهو قول جماعة من الصحابة: عمر، وعلي، وابن عمر، وجابر، والحسن بن علي، وعائشة، ومن التابعين طاووس، وعطاء، وجابر بن زيد، ومجاهد، وابن سيرين، وربيعة وغيرهم([83]).
ب. مال المجنون، وهو مذهب جميع من سبق([84]).
ج. مال العبد: وهو قول عطاء وأبي ثور، وقال به داود، وهو المروي عن عمر رضي الله عنه.([85])
د. مال المكاتب: وهو مذهب داود وأبي ثور، وأوجب أبو حنيفة العشر في زرعه دون بقية ماله([86]).
هـ. المال المغصوب والمسروق والمجحود والضال (الضائع) والمدفون في محل، أوجب فيه الزكاة المالكية والشافعية في أصح الأقوال وأشهرها، والحنابلة في المشهور([87]).
5. الدَّين لا يسقط الزكاة بالكلية، وعلى القاعدة في توسيع الأوعية، يضيّق اعتبار الديون المانعة من الزكاة والمقللة لها:
ـ فالدين الذي لا يستغرق النصاب ولا ينقصه، لا يمنع الزكاة بلا خلاف.
ـ إن كان له ما يقابل به الدين ـ ولو مالاً لا زكاة فيه كعروض قنية ـ يجعل الدين في مقابلة المال الذي لا زكاة فيه وتجب الزكاة في غيره كما قال مالك وأبو عبيد والحنابلة في قول، وهو مقتضى قول الشافعي، لأنه مالك لمال زائد عن مبلغ دينه فوجبت عليه زكاته([88]).
ـ وإن كان له نوعان من المال زكويان، كدراهم وإبل، بحيث لو جعل الدين في مقابلة أحدهما أنقص النصاب، ولو جُعل في الآخر لم ينقص النصاب، جُعل في مقابل ما لا ينقص النصاب، لأن ذلك أحظ للفقراء والمساكين، وتوجب الزكاة([89]).
ـ وإن كان الدين على معترف به مأمول القبض؛ وجبت زكاته في الحال وإن لم يقبضه، باعتباره قادراً على أخذه في الغالب، على مذهب عثمان وابن عمر رضي الله عنهم، ومن التابعين جابر وطاووس والنخعي والحسن والزهري وقتادة وحمَّاد، وهو قول الشافعي وإسحاق وأبي عبيد.
أو يزكيه عند قبضه على مذهب الآخرين([90]).
ـ ودين الحرث لا يسقط الزكاة عند أبي حنيفة ومالك والشافعي في الجديد، والأوزاعي وأحمد في رواية([91]).
ـ ودين الماشية لا يسقط الزكاة عند مالك والشافعي في الجديد، وأحمد في رواية، وهكذا([92]).(/7)
6. الوقف لا يمنع الزكاة بالكلية إلا إذا كان على جهة عامة كالفقراء، أو اليتامى، أو المساجد، أو الجهاد والرباط في سبيل الله، أو القناطر، أو المدارس، ونحو ذلك، فهذه الأوقاف لا زكاة فيها.
أمَّا الأوقاف إذا كانت على جهة معيَّنة، سواء كان على واحد أو جماعة معينين؛ فالزكاة منها تؤخذ، ونفى النووي الخلاف في ذلك([93]).
فكل هذا وغير هذا من قضايا الخلطة والبدل وتأخر الأداء والجهل بالزكاة، وشُبه التحايل، وغيرها، مما يترتب على قاعدة التوسيع في أوعية الزكاة بحيث أن يكون السعي للأخذ والإيجاب، والتفسير والتأويل، والترجيح يكون لصالح الإيجاب.
والله تعالى أعلم
المبحث الرابع
ما جدَّ في أوعية الزكاة
(الأموال المستحدثة)
كثير من الفقهاء والعلماء في عصرنا تنبَّهوا إلى كثير مما جدَّ من الأموال التي يمكن إلحاقها بأوعية الزكاة، وقد كُلِّف بعض الباحثين في هذا المؤتمر للبحث في بعض هذه الأموال للوصول إلى تحديد ما يصلح أن يكون وعاءً للزكاة وما لا يصلح. وعلى ما اعتراني من ضيق الوقت وتنازع المشغلات، أنبِّه إلى بعض الأموال التي يمكن أن تثير نقاشاً وتفتح خواطر الشيوخ والعلماء، وتصوِّب أنظارهم لتحديد كونها صالحة لأخذ الزكاة منها أو غير صالحة، مع تبنِّي الرأي الخاص للباحث فيها، وهي:
1. أنعام الاستنساخ:
أصبح الاستنساخ واقعاً وحقيقة، وقد استُنسخ ضأن [الدولي] بشحم ولحم وجسم وصوف، فلا يفرق بينه وبين غيره من الضأن والشياه ...
فهل تصلح الأنعام المستنسخة أن تكون من أوعية الزكاة؟ وأن تؤخذ منها الزكاة؟ على قاعدة من يرى أن الأصل التضييق في أوعية الزكاة وأموالها، والاقتصار على ما جاءت النصوص بتحديده منها، يخرّج أنه لا تجب الزكاة في الأنعام المستنسخة ولا يصح.
وعلى قاعدة من يذهب إلى التوسيع في أوعية الزكاة ويرى صحة إلحاق الأنعام المستنسخة بغيرها من الأنعام.
وهو الذي نراه ونرجِّحه، لقاعدة التوسيع التي رجحناها.
وعليه فكيف يمكن إلحاق [الضأن الدولي] بأنعام الزكاة؟
الرأي: إلحاق أنعام الاستنساخ بالمتولِّد والنتاج من الأنعام.
وقد قسَّم الفقهاء المتولد والنتاج إلى:
1. المتولد والنتاج مباشرة، كالمتولد من فحول الظباء وإناث الغنم، أو عكسه، ففي هذا وقع الخلاف بينهم:
ـ فذهب الشافعية والمالكية في المشهور وداود إلى عدم وجوب الزكاة فيه مطلقاً.
ـ وذهب أبو حنيفة ومالك إلى التفصيل، فقالا: إن كانت الإناث غنماً وجبت فيها الزكاة، وإن كانت ظباءً، فلا([94]).
2. المتولد والنتاج بواسطة أو أكثر، فالمالكية يوجبون الزكاة فيه بلا خلاف بينهم([95]). والضأن [الدولي] أشبه بالنتاج بواسطة أو المتولد مباشرة، بجامع الاستفادة من الجينات في الحالين.
والفتوى: وجوب الزكاة فيه تخريجاً على مذهب المالكية في المتولد والنتاج بواسطة، وعلى مذهب أحمد الموجب بإطلاق.
والله تعالى أعلم
2. ما جدَّ من المعادن:
وقد جدَّ من المعادن وعلى أنواعها من الجامدة والسائلة الكثير، كالكروم الذي يدخل في صناعة الأسلحة، والبوتاسيوم، والفحم الحجري، وكذلك البترول، وغيرها، فإنها جميعاً لا تخرج عن كونها معادن، فتأخذ حكم المعادن في وجوب الزكاة وفي مقاديرها وأنصبتها وشروطها، مع الترجيح لكل ما يؤدي إلى توسيع مواعين الزكاة واوعيتها.
ولكن الذي يحتاج إلى تكييف:
1/ أن أغلب هذه المعادن تدخل في سلطان الدولة، فهي من أموال الدولة، وأموال الدولة لا تجب فيها الزكاة لأنها ملك بيت المال ولا مالك له معيَّن، وينتفع بها الجميع بما فيهم الفقراء والمساكين وجميع أصناف المستحقين للزكاة، ولهذا قيل: لا تجب الزكاة في مال فئ ولا في خُمس غنيمة، لأنه يرجع إلى الصرف في مصالح المسلمين([96])، وعليه فلا زكاة في البترول ولا في غيرها من المعادن المستحدثة، إن كان جميعها في مال الدولة.
2/ قد يُنقِّب عن هذه المعادن شركات استثمارية خاصة كانت أو عامة، فتخرج بنصيب من هذه المعادن، فعلى هذه الشركات خاصة الزكاة دون الحكومة.
3/ وإن كانت هذه الشركات لغير المسلمين، فلا تؤخذ منها الزكاة، ولكن يؤخذ منها نصيب على قدر الزكاة أو أزيد، تخصص لمنافع الفقراء والمساكين والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وابن السبيل.
4/ إن كانت الدولة هي التي تنقِّب بغرض الاتِّجار والاستثمار، وأن يكون العائد والريع والفائدة والربح لاستمرار الاتجار وازدياد عائده، فالزكاة منها تؤخذ، لأنَّ كل مال كان للاتجار فهو وعاء للزكاة، بخلاف ما إذا كان العائد من الاتجار مقرر أن يخصص في المنافع العامة وخدمات الرعية، ففي هذه الحالة لا يخضع مال الدولة إلى زكاة. والله تعالى أعلم.
3. نتاج المعادن وما يلحق بها:(/8)
وبعض نتاج المعادن أصبحت اليوم من الأموال النامية، بل تدر أرباحاً عظيمة، وفوائد كبيرة، ويعمل في استثمارها والاتجار فيها الشركات الكبرى، وأغنى الأغنياء، وأصحاب المليارات، وأشير إلى نوعين من أنواع نتاج المعادن، هما: نتاج المعادن الجامدة، وهي المعروفة بالطاقة، ونتاج المعادن السائلة وهي المعروفة بالغاز.
أولاً: نتاج المعادن الجامدة [الطاقات]
أصبح الإنسان في هذه العصور يستفيد كثيراً من الطاقات الشمسية، والطاقة المائية، والطاقة الحرارية، والطاقة الكيميائية بشكل واضح، يستفيد منها كسلعة، ويستفيد منها في شكل خدمات.
وما ينتج من هذه الطاقات من المعادن هي تقريباً الطاقة الكيميائية والطاقة الحرارية والطاقة الكهربائية، ولكن يصعب إلحاقها بالمعدن، لأنها وإن استحالت عن المعادن، فقد صارت شيئاً آخر غير المعدن، فعناصر ومكوِّنات المعدن فيها منعدمة أو شبه منعدمة، مع أنها في الأصل نتجت عن تفاعلات كيميائية، لكنها أصبحت شيئاً غير المعدن.
وكذلك غير هذه الأنواع الثلاثة، من الطاقة الشمسية، والطاقة المائية، ليست ناتجة في الحقيقة من المعدن، ولكننا ألحقناها بالنتاج من المعادن لتشباهها جميعاً في أغراضها وثمارها وفوائدها وما استحالت إليه من كونها أصبحت طاقة بقطع النظر عن أصلها.
غير أنها جميعاً من جهة ريعها ونفعها أشبه بالمستغلات لأنها تصبح كالأصل الثابت الذي يدرُّ دخلاً وتتجدد منفعته([97]).
وطالما كانت كذلك، وهي في الحقيقة مال يصلح للنماء والاتجار فيه، فهي وعاء للزكاة تعامل معاملة المستغلات، فيُنظر إلى ريعها ومنفعتها.
هذا إذا كانت هذه الطاقات تُستغل تجارياً واستثمارياً، وتستثمر فيها الشركات والأفراد من غير الحكومة، أمَّا إذا كانت لا تستغلها إلا الدولة ولغرض خدمات الجمهور بحيث لا تدر له إلا ما يقابل الخدمات وتغطية التكاليف، فلا زكاة فيها. والله تعالى أعلم.
ثانياً: نتاج المعادن السائلة:
ونتاج المعادن السائلة أقصد به الغازات وأشهرها والمنتفع بها غالباً:
ـ غاز البيوتان، وهو ما يُعرف بالبوتغاز، وهو المستخدم في الطباخات ونحوها.
ـ وغاز الإيثين، وهو ما يُعرف بغاز الإستيلين أو الستلين، وهو المستخدم في اللحامات ونحوها.
وهذه الغازات في أصلها منتجات كيميائية تُستخلص أو تُنتج من تكرير البترول البتروكيميائية.
فإذا أردنا أن نلحقها بالمعادن؛ فقد استحالت إلى غير المعدن، ولا يوجد فيها إلا الضئيل الذي لا يؤثر في حقيقتها من نسب المعادن غالباً، ولهذا من العسير إلحاقها بالمعادن.
وإذا أردنا أن نلحقها بالمستغلات، فكذلك عسير، لأن المستغلات أصلها باق وريعها هو المباع المُستغل، والغاز يُباع ولا يعود أصله ولا يبقى، بل يُستهلك أصله.
ولذلك أرى أن أقرب المواعين الزكوية التي يمكن إلحاق الغاز به هو عروض التجارة، لأنها تُباع وتُستهلك، فتؤخذ منها الزكاة مع قطع النظر عن أصلها ومادتها.
والله تعالى الموفِّق إلى الصواب وإلى الحق وهو يهدي السبيل. وأستغفر الله العظيم من كل خطأ وخطيئة، ومن كل زلل وإساءة، وأسأله أن يتقبَّل عملي هذا كله، وأن يجعله صالحاً، وألا يجعل لأحد فيه شيئاً.
وصلى الله وسلم على رسول الله وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسانٍ إلى الدين.ج
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
(1) القاموس المحيط للفيروزآبادي، ص 1731، لسان العرب لابن منظور، ج15، ص 396ـ397.
(2) لسان العرب، الموضع نفسه.
(3) سورة المعارج: 18.
(4) تفسير القرطبي، م9، ج19، ص 263. وانظر: ابن كثير، ج4، ص 418.
(5) سورة يوسف: 76.
(6) تفسير القرطبي، م5، ج9، ص 205.
(7) سورة الانشقاق: 23.
(8) انظر: تفسير ابن كثير، ج4، ص 489.
(9) سورة الحاقة: 12.
(10) انظر: تفسير ابن كثير، ج4، ص 412.
(11) أخرجه الترمذي في كتاب العلم برقم (2667)، ج4، ص 299، وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله، برقم (164) و(167)، ج1، ص 48ـ49.
(12) أخرجه البخاري، كتاب العلم برقم (120)، ج1، ص 261 بفتح الباري.
(13) انظر: فتح الباري، ج1، ص 261.
(14) انظر: القوانين الفقهية لابن جزي، ص 67.
(15) المجموع شرح المهذب، ج5، ص 288.
(16) سورة التوبة: 103.
(17) وقد أطلق عليها الإمام مالك ـ رحمه الله ـ هذا الاصطلاح فقال عن زكاة الفطر: إنما هي زكاة الأبدان كما في الاستذكار لابن عبد البر، ج9، ص 353. وأطلق عليها الكاساني اسم زكاة الرأس كما في بدائع الصنائع، ج2، ص 69. وبعضهم يسميها زكاة الرقاب [يُنظر: فقه الزكاة، ج2، ص 918]. وقد قيل في وجه إضافتها للفطرة أنها من الفطرة وهي الخلقة لتعلقها بالأبدان، وقيل لوجوبها بالفطر، راجع حاشية الصاوي على شرح الصغير، ج1، ص 672، والمجموع شرح المهذب، ج6، ص 85.
(18) متفق عليه.
(19) أخرجه مسلم في كتاب الزكاة.
(20) فقه الزكاة، القرضاوي، ج2، ص 955.(/9)
(21) انظر: المجموع شرح المهذب، ج6، ص 85، الاستذكار لابن عبد البر، ج9، ص 350، بداية المجتهد ونهاية المقتصد، لابن رشد، ج2، ص 129.
(22) راجع: الاستذكار، ج9، ص 349ـ350، المجموع، ج6، ص 85ـ86، بدائع الصنائع، ج2، ص 69، المغني، ج2، ص 646ـ647، الإفصاح عن معاني الصحاح لابن هبيرة، ج1، ص 179.
(23) نقل عنه القرضاوي مصرِّحاً به في فقه الزكاة، ج2، ص 920.
(24) الاستذكار، ج9، ص 349.
(25) الرسالة، مع كفاية الطالب الرباني، لأبي الحسن بن خلف المصري، ج1، ص 318.
(26) انظر: مفتاح الوصول إلى بناء الفروع على الأصول، لابن التلمساني، ص 29.
(27) المجموع، ج6، ص 86.
(28) الإجماع، لابن المنذر، ص 13، فقرة 106.
(29) المجموع، ج6، ص 86.
(30) الاستذكار، ج9، ص 349.
(31) المغني، ج2، ص 646، شرح النووي لصحيح مسلم، ج7، ص 61.
(32) الإفصاح عن معاني الصحاح، لابن هبيرة، ج1، ص 179.
(33) صحيح البخاري، كتاب الزكاة، أبواب صدقة الفطر، ومسلم في باب زكاة الفطر على المسلمين.
(34) البخاري، باب صدقة الفطر صاعاً من تمر.
(35) فقه الزكاة، ج2، ص 920.
(36) أخرجه النسائي في كتاب الزكاة، باب صدقة الفطر قبل نزول الزكاة، ج5، ص 49، برقم 2506، وابن ماجه في كتاب الزكاة، باب فرض صدقة الفطر، برقم 1828، والبيهقي في السنن، ج4، ص 159.
(37) المجموع، ج6، ص 86.
(38) انظر: المجموع، ج6، ص 86، الاستذكار، ج9، ص 349.
(39) سورة البقرة: 43.
(40) سورة التوبة: 103.
(41) الاستذكار لابن عبد البر، ج9، ص 349.
(42) مشروع الفقه المالكي بالدليل، باب الزكاة من كتاب الشرح الصغير، د. بدوي عبد الصمد ومحمد العربي بوضياف، دار البحوث للدراسات الإسلامية وإحياء التراث، دبي، ص 275، عن النوادر والزيادات، ج2، ص 300ـ301، المقدِّمات، ج1، ص 333.
(43) سورة البقرة: 43.
(44) المنتقى شرح الموطأ، للباجي، ج2، ص 185ـ186.
(45) سورة الأعلى: 14.
(46) فتح القدير، تفسير للشوكاني، ج5، ص 516. تفسير القرطبي (الجامع لأحكام القرآن) م10، ج20، ص 20.
(47) تفسير القرطبي، الموضع السابق. وفتح القدير، ج5، ص 518.
(48) تفسير ابن كثير، ج4، ص 502.
(49) أحكام القرآن، لابن العربي، ج4، ص 1920.
(50) المصدر نفسه. وانظر: التسهيل لعلوم التنزيل، لابن جزي، ج2، ص 194.
(51) فتح القدير للشوكاني، ج5، ص 518، وكثير بن عبد الله ضعيف غير أنه يشهد له ما أخرجه ابن بردويه عن أبي سعيد الخدري رضى الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (قد أفلح من تزكَّى. وذكر اسم ربه فصلَّى. ثم يقسم الفطرة قبل أن يغدو إلى المصلَّى يوم الفطر) راجع فتح القدير نفسه.
(52) فتح القدير، الموضع السابق.
(53) البخاري، كتاب الوكالة، باب إذا وكَّل رجلاً فترك شيئاً فأجازه الموكل فهو جائز، برقم 2311، ج4، ص 568ـ569، بفتح الباري، وفي كتاب فضائل القرآن، باب فضل سورة البقرة مختصراً، برقم 5010، ج8، ص 672، بفتح الباري.
(54) فتح القدير للشوكاني، ج5، ص 518.
(55) أخرجه مالك في الموطأ، كتاب الزكاة، باب وقت إرسال زكاة الفطر، ج1، ص 285.
(56) أخرجه البخاري، كتاب الزكاة، باب الصدقة قبل الرد، برقم 1411، ج3، ص 330، بفتح الباري.
(57) البخاري، كتاب الزكاة، برقم 1412، نفس الموضع السابق.
(58) المحلى لابن حزم، ج4، ص 12، فقرة 640.
(59) أخرجه البخاري، كتاب الزكاة، برقم 1463، ومسلم في كتاب الزكاة برقم 982.
(60) الدراري المضية شرح الدرر البهيَّة للشوكاني، ج1، ص 335ـ336.
(61) القرضاوي، عوامل نجاح مؤسسة الزكاة في التطبيق المعاصر، ص 10.
(62) أخرجه أحمد والدارقطني والبيهقي والحاكم وابن حبان، وبعض الروايات صحيحة، انظر: نيل الأوطار للشوكاني، ج5، ص 316ـ317.
(63) سبق تخريجه.
(64) أنظر: بدائع الصنائع، ج2، ص 57ـ65، المحلى لابن حزم، ج4، ص 14، الفقه الإسلامي وأدلته، د. وهبة الزحيلي، ج2، ص 805، القوانين الفقهية لابن جزي، ص 72، عوامل النجاح في مؤسسة الزكاة للقرضاوي، ص 10.
(65) المحلى، ج4، ص 16.
(66) المحلى لابن حزم، ج4، ص 13.
(67) راجع أقوالهم فيما تجب فيه الزكاة في المحلى، ج4، ص 16ـ20.
(68) سورة التوبة: 102.
(69) أخرجه البخاري في كتاب الزكاة، برقم 1395، ج3، ص 307، بفتح الباري من حديث بعْث معاذ إلى اليمن.
(70) البخاري، كتاب الزكاة، برقم 1403، ج3، ص 314، بفتح الباري.
(71) البخاري، كتاب الزكاة، برقم 1409، ج3، ص 325 بفتح الباري.
(72) انظر: الشرح الصغير مع حاشية الصاوي، ج1، ص 626ـ627.
(73) انظر: الشرح الصغير، ج1، ص 607، المجموع شرح المهذب، ج5، ص 301ـ302.
(74) قانون الزكاة لسنة 2001م، سلسلة بحوث الزكاة (15)، ص 24.
(75) سبق تخريجه.
(76) المحلى لابن حزم، ج4، ص 32.
(77) المحلى نفسه.
(78) انظر: بدائع الصنائع، ج2، ص 34.
(79) راجع: الشرح الصغير، ج1، ص 627، وحاشية الصاوي، ج1، ص 589.
(80) المجموع، ج5، ص 303.(/10)
(81) البخاري، كتاب الشرب والمساقاة، برقم 2371، ج5، ص 56 بفتح الباري.
(82) بداية المجتهد، ج2، ص 70ـ71.
(83) انظر: المجموع، ج5، ص 295ـ296، الشرح الصغير، ج1، ص 589، القوانين الفقهية لابن جزي، ص 68، كشف القناع، ج2، ص 169.
(84) المصادر السابقة نفسها.
(85) المجموع، ج5، ص 296.
(86) المجموع نفسه.
(87) انظر: الشرح الصغير، ج1، ص 622ـ623، وص 588، المجموع، ج5، ص 305ـ307، المغني، ج2، ص 639، كشف القناع، ج2، ص 174.
(88) المغني، ج2، ص 635ـ636، وانظر: المجموع، ج5، ص 311.
والملاحظ أن كثيراً من أصحاب التجارات الكبرى، والمصانع والمتاجر العظيمة، يدَّعون أنهم مدينون، وهم يملكون من العمارات الشاهقة والمباني العالية والمصانع الكبيرة والآلات والسيارات، فقط لأنها تعتبر من الأصول الثابتة وعروض القنية، فمثال هؤلاء أرى أن يطبَّق فيهم هذا الرأي، وأن تُجعل ديونهم في مقابل أصولهم الثابتة وقنياتهم، تقديماً لحظ الفقراء والمساكين، ولقدرتهم على التعويض ولو بزمن، بخلاف الفقير والمسكين وظهور حاجته وعجزه عن الكسب أو التعويض.
(89) المغني نفسه، والمجموع نفسه.
(90) المغني نفسه.
(91) الشرح الصغير، ج1، ص 647، والمجموع، ج5، ص 308ـ309، والمغني، ج2، ص 634ـ635، بداية المجتهد، ج2، ص 114ـ115، الإفصاح عن معاني الصحاح لابن هبيرة، ج1، ص 170، حاشية ابن عابدين، ج2، ص 5ـ6، بدائع الصنائع، ج2، ص 10.
(92) المصادر نفسها سوى البدائع وحاشية ابن عابدين.
(93) راجع: المجموع، ج5، ص 456ـ457، وص 304ـ305.
(94) انظر: المجموع شرح المهذب، ج5، ص 304، والشرح الصغير، ج1، ص 593.
(95) حاشية الصاوي على الشرح الصغير، ج1، ص 593.
(96) مطالب أُولي النهى، ج2، ص 16 عن فقه الزكاة، ج1، ص 132.
(97) عرَّفها القرضاوي بأنها: الأموال التي لا تجب الزكاة في عينها، ولم تُتَّخذ للتجارة، ولكنها تُتخذ للنماء، فتغل لأصحابها فائدةً وكسباً بواسطة تأجير عينها، أو بيع ما يحصل من إنتاجها. (فقه الزكاة، 1/458)، وجاء تعريف المستغلات في قانون الزكاة السوداني لسنة 2001م بأنها: هي كل أصل ثابت يدر دخلاً وتتجدد منفعته، القانون، ص 22، المادة [33].(/11)
مقابلة النعم و دفع النقم بالشكر
السؤال
فضيلة الشيخ أنا أردني مقيم في السعوديه حصل معي أكثر من حادث سيارة في فترة بسيطه وأرغب في ذبح فديه فهل يجوز أن أبعث بقيمتها الى والدي في عمان ليقوم هو بذبح الفديه عني وتوزيعها للفقراء وهل يجوز ان يأكل أهلي منها وشكرا
الجواب :
أقول مستعيناً بالله تعالى
إنّ شكر الله تعالى على نعمه الدينيّة و الدنيويّة واجب ، و هو من دواعي تواتر النعم و زيادة النعيم ، قال تعالى : ( و إذ تأذن ..... )
و قال صلى الله عليه و سلّم : ( أفلا أكون عبداً ............)
و قد امتنّ الله عليك بالسلامة و المعافاة ممّا قُدّر عليك من الحوادث و المصائب ، فأحسَنتَ في عزمك على شكر هذه النعمة العظيمة بالتقرّب إلى الله تعالى بذبيحة تُطعِمُهاالفقراء و المساكين ، و هذا حَسَنٌ في حدّ ذاته ، و لكنّي ألفت نظرك إلى جملة أمور متعلّقة بالموضوع :
• أوّلها : أنّ الله تعالى لم يشرع لنا تعبّده بعبادةٍ مخصوصة شكراً على نعمة امتنّ بها علينا ، أو نقمةٍ صرفها عنّا و عافانا منها ، و لم يَرِد تخصيص عبادة دون عبادةٍ في مثل هذه الحال عن النبيّ صلى الله عليه و سلّم أو السلف الصالح رضوان الله عليهم أجمعين .
• و ثانيها : أنّ التزامك بذَبحَ ذبيحة في الحال التي ذكرتها ليس من السنّة في شيء ، بل قد يكون أقربَ إلى البدعة إذا اعتقدتَ مشروعيّته أو فضله على ما سواه ، من العبادات المشروعة .
• و ثالثها : أنّه يرجى لك الثواب إن تقرّبت إلى الله تعالى بشكر نِعمه ، و مقابلتها بالطاعات ، سواء كان ذلك بالذبح ، أو التصدّق ، أو الصلاة ، أو الصيام ، أو غير ذلك من وجوه الخير ، و من أفضلها و آكدها في هذه الأيّام مدّ يد العون لإخواننا المجاهدين ، سواءٌ منهم من كان في أفغانستان أو كشمير أو الشيشان ، أو فلسطين ، أو غيرها من ديار الإسلام ، فإن كنت مقتدراً فساهم في تجهيزٍ غازٍ ، أو خلافته في أهله بخير مع الدعاء لأهل الثغور في كلّ زمانٍ و مكان ، و هذه من أجلّ القُرُب إلى الله تعالى و أفضلها ، و و ثق في ثواب الله عليها ، و مقابلة فاعلها بما هو أهله سبحانه و تعالى ، فقد قال في الحديث القُدسي من تقرّب ..........
و على كلّ حال فإن وجبت عليك ذبيحة بنذرٍ ، أو ألزمت نفسك بها تطوّعاً و صدقةً كما يظهر من سؤالك فلا فرق بين ذبحها في بلد إقامتك أو بلدك الأصلي أو غيره من بلاد المسلمين ، فالأمر واسعٌ إن شاء الله .
و الله المسؤول أن يتقبّل منّا و منك ، و أن يحفَظَنا من بين أيدينا و من خلفنا ، و الحمد لله ربّ العالمين .(/1)
مقابلة مع رمضان!!
المصدر/المؤلف: موقع صيد الفوائد
ضيف جديد يطل علينا في برنامجكم المحبوب، البرنامج الأول في العالم الإسلامي، برنامج (شهر بقرب الحبيب) الذي نستقبل فيه ضيفاً مميزاً لطالما انتظرناه بشوق وحنين منذ أحد عشر شهراً، ضيفاً يزورنا بسرعة خاطفة، ويتركنا بعد أن يبث الفرح والسرور في قلوب الصغار والكبار.
واستغلالاً لهذه المناسبة أحببنا أن نستقبل هذا الضيف ونسأله عن حفل الاستقبال وعن الأهداف التي ينوي تحقيقها خلال فترة إقامته.
السؤال الأول: في البدء نشكرك على تكرمك بقبول دعوتنا، خاصة أنك وصلت البارحة فقط، وقد حظيت، كما شهدنا، باستقبال كبير شارك فيه أكبر حشد من الناس جاءوا من أنحاء العالم كافة؟
الجواب: أنا أيضاً سعيد جداً بمشاركتي معكم في هذا البرنامج، وسعيد أيضاً بالحفاوة التي لقيتها عند وصولي، وإن كان هذا الأمر غير جديد علي فأنا وبفضل الله أستقبل كل عام بمثل هذه الحفاوة والتكريم، وأعداد المستقبلين والحمد لله كل عام في تزايد.
السؤال الثاني: إن قدومك السنوي أمر اعتدت عليه منذ أربعة عشر قرناً ونيف، وفي كل مرة تأتي بها تلقى القبول والترحيب الكبير من الناس، ما سر هذا الأمر يا ترى؟
الجواب: الأمر بسيط جداً، فكل مسافر يغيب فترة طويلة ثم يعود يستقبل بحفاوة من قبل ذويه، فهم من جهة يشتاقون إليه، ومن جهة أخرى يطمعون بالهدايا الثمينة التي يحملها إليهم، فالمسافر لا يعود إلى وطنه خالي اليدين.
السؤال الثالث: ولكن هناك فرق كبير بين الهدايا التي يأتي بها المسافر العادي والهدايا التي تأتي بها أنت؟
الجواب: طبعاً، فلا يمكن المقارنة بين العطر والثوب والكتاب وبين مغفرة الله ورضوانه وتصفيد الشياطين والراحة والسكينة وغير ذلك من الهدايا التي أجلبها معي... أليس كذلك؟
السؤال الرابع: طبعاً، طبعاً... لا مجال للمقارنة، ولكن دعني أسألك عن رأيك في الأشخاص الذين يستقبلونك؟
الجواب: هناك اختلاف واضح في نوعية الأشخاص الذين يستقبلونني، هناك اختلاف في صدقهم، في أعمالهم، في علومهم وفي تصرفاتهم، فبعضهم يلازمني طوال الشهر ويرافقني ليلاً نهاراً، وبعضهم يلازمني خلال النهار فقط، ويتركني في الليل ليلتفت إلى ما تبثه له الفضائيات والمحطات المحلية من برامج ومسلسلات فاسدة، مما ينعكس عليه حرماناً من التمتع التام بصحبتي..
السؤال الخامس: ما هو برأيك السبب في هذا الاختلاف بين الفريقين، مع أن ثوابتهما ومصادرهما واحدة؟
الجواب: يعود السبب في هذا الاختلاف إلى فهم كل فريق للسبب الحقيقي لمجيئي المتكرر، ففيما أدرك الفريق الأول أن مجيئي لم يكن يوماً بهدف السياحة والراحة والكسل، وإنما هو تشمير لسواعد الجد، وهجران للنوم والراحة في الليل والنهار، وهجران للأهل والولدان، وانقطاع عن الملذات والشهوات، وإكثار من الصدقات وفعل الخيرات.
فهم الفريق الآخر مجيئي بأنه مجرد رحلة سياحية، وأنه دعوة للكسل والخمول، وإقامة الولائم ودعوات للطعام، والمشاركة في السهرات وحفلات الرقص والطرب وفجور.
السؤال السادس: ما أكثر ما يفرحك وأكثر ما يحزنك خلال إقامتك؟
الجواب: الأمور التي تسعدني كثيرة وكذلك الأمور التي تحزنني كثيرة ايضاً... وإذا أحببت أعرض لك بعضاً منها... فمن الأمور التي تسعدني:
- استقبال الأطفال الذين لم يبلغوا الحلم، حتى أن بعضهم قد يجاهد ويلازمني طوال الوقت مع أنه غير ملزم بذلك.
- استقبال الأحباء الجدد الذين لم أكن أجدهم سابقاً بين المستقبلين، أجدهم وهم يتلهفون لمجيئي، يستقبلونني بحلّتهم وزيّهم الجديد، حتى أن بعض النساء ألحظهن مرتبكات بزيّهن وحجابهن الذي يتوجن به رؤوسهن لمجرد وصولي.
- امتلاء مساجد الله بالمصلين، وخاصة عند ساعات الفجر الأولى وفي صلاة التراويح، ومن أكثر ما يسعدني في هذا الأمر هو وجود المصلين الشباب والصغار الذين هم أمل هذه الأمة ومستقبلها.
- التعاطف والتعاون بين أبنائي حيث تكثر الصدقات والخيرات والعطف على الفقراء والمساكين، مما يجعل جميع الناس يسعدون لقدومي... وهناك أمور أخرى أيضاً لا يسع المجال لذكرها.
أما الأمور التي تحزنني فهي أكثر بكثير وأذكر منها:
- غربة كثير من أبنائي وابتعادهم عني حتى أن البعض منهم لا يعرف حتى بموعد وصولي.
- التشرذم والتفكك الذي أجده بين أبنائي حيث يحاول كل واحد منهم أن يستأثر بي ويحاول أن يكيد لأخيه.
- السجن والأسر الذي وقع ببعض أبنائي، مما جعلهم يعانون التعذيب والاعتقال والظلم، ومع ذلك يحرصون على استقبالي من داخل زنازينهم ومعتقلاتهم، يوجهون إلي رسائل الترحيب ويخبرونني بأنهم على العهد باقون، وأن الظلم الذي يعانون منه زادهم قرباً وحباً لي.
- الإسراف والتبذير في الولائم والحفلات التي يحاول القائمون عليها استغلال فترة إقامتي من أجل تحقيق أهداف سياسية أو مصالح شخصية، كل هذا دون مراعاة لحال بعض الفقراء الذين لا يجدون ما يسدّون به رمقهم..(/1)
- التبدّل والتحول الذي يظهر على بعض أبنائي بعد فترة من وصولي، أو بعد رحيلي، فيفقدون حماسهم الذي استقبلوني به، ويعودون لما كانوا عليه مسوَّفين بذلك التوبة، غير مدركين أنهم قد لا يلتقون بي في السنة القادمة.
السؤال السابع: الحقيقة أن الحوار الممتع معك لا ينته، ولكننا للأسف ملزمون بوقت محدد، كلمة أخيرة توجهها لأبنائك وأحبائك؟
الجواب: أنصح كل أبنائي بالعودة الصادقة إلى الله عز وجل الذي أعزهم بالإسلام، كما أنصحهم بالاستفادة من فترة وجودي، فصحيح أنني أتيت البارحة فقط، ولكني سرعان ما أغادرهم، وأنصحهم بالصبر على البلاء الذي يصبّ عليهم صباً من قبل أعداء لا يخافون الله، وأحثّهم أخيراً على الوحدة والتكاتف من أجل إعادة العزة لهذا الدين الحنيف.
في الختام، لا يسعنا إلا أن نشكر ضيفنا الكريم على هذه المقابلة الشيقة، وإلى اللقاء القريب في السنة القادمة إن شاء الله تعالى.(/2)
مقارنة بين الاسلام والمسيحية
أولاً : ان الاسلام يدعو إلى توحيد الله في ذاته وصفاته ، ويقول : إنه هو وحده مستحق للعبادة لا غيره : (( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ ))
بينما نجد المسيحية تدعو إلى عقيدة التثليث : الإله الأب ، والإله الابن ، والإله الروح القدس ، وتقول : إن الثلاثة جميعاً يستحقون العبادة .
ثانيا : ان المسيح في الاسلام ما هو إلا رسول كريم من عند الله سبحانه وتعالى ، بينما هو الله في المسيحية .
ثالثاً : ان المسيح في الاسلام جاء ليخرج بني اسرائيل من الضلال إلي الهدى ويدعوهم إلي عبادة الله وحده ، أما في المسيحية فإنه جاء ليقتل ويموت على الصليب كفارة عن خطيئة آدم .
رابعاً : الإسلام يدعو إلى الإيمان والعمل مصداقاُ لقوله سبحانه وتعالى : (( مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ . )) البقرة : 62
أما المسيحية فإنها تدعو إلي الايمان بالإله الابن وترك الاعمال وخاصة الطائفة الإنجيلية ، متبعين قول بولس : إِذْ نَعْلَمُ أَنَّ الإِنْسَانَ لاَ يَتَبَرَّرُ بِأَعْمَالِ النَّامُوسِ، بَلْ بِإِيمَانِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ، آمَنَّا نَحْنُ أَيْضاً بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ، لِنَتَبَرَّرَ بِإِيمَانِ يَسُوعَ لاَ بِأَعْمَالِ النَّامُوسِ. لأَنَّهُ بِأَعْمَالِ النَّامُوسِ لاَ يَتَبَرَّرُ جَسَدٌ مَا. [ غلاطية 2 : 16 ]
خامساً : ان الاسلام يؤكد على ان الله سبحانه وتعالى غفور رحيم يقبل توبة العباد فهو القائل في كتابه العزيز (( : وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ )) أما المسيحية فإنها تؤمن بأن الله لم يعفو عن آدم ولم يشفق على ابنه حتى انتقم منه بالصلب .
سادساً : ان الروح القدس في الاسلام هو الملك جبريل الذي أيد الله به المسيح عليه السلام أما المسيحية فإنها تزعم بأن الروح القدس هو الله .
سابعاً: يصرح القرآن الكريم بأن المسيح عليه السلام كان وجيهاً في الدنيا والآخرة أما في الانجيل فنجده ذليلاً مهاناً بين اليهود فقد قاموا بضربه ولكمه وجلده والبصق عليه . . . [ متى 26 : 67 ] و [ لوقا 22 : 63 ] .
ثامناً : يؤمن أهل الاسلام بأن الله أبطل مكر اليهود فلم يمكنهم من قتل المسيح . أما المسيحية فإنها تعلن بأن اليهود جلدوا المسيح وصلبوه .
تاسعاً: جاء في القرآن الكريم ان الحواريين لبوا دعوة المسيح ونصروه : سورة الصف الآية 14 . أما الانجيل فإنه يحكي أن الحوارين هربوا وتركوا المسيح مرقس [ 14 : 50 ]
عاشرا: ذكر القرآن الكريم على لسان المسيح عليه السلام (( إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ )) ( المائدة : 118 )
أما الانجيل فإنه يحكي بأن المسيح كان يدعو على الفريسيين والصدوقيين بالهلاك والدمار والشتم . . . كقوله لهم يا أولاد الافاعي ويا أغبياء ويا خبثاء ( راجع أخلاق المسيح _ الصفحة الرئيسية )
الحادي عشر : إن الأنبياء والرسل في نظر الاسلام من عباد الله الصالحين المعصومين من الكبائر . أما في المسيحية فإن الانبياء أخس من الناس العاديين فمنهم من زنى ، ومنهم من عبد الاوثان ومنهم من شرب الخمر وتعرى أمام الناس . . ( راجع صفات الانبياء والمرسلين في الكتاب المقدس )
الثاني عشر: القرآن الكريم يعلن بأن الله سبحانه وتعالى ليس كمثله شيىء يقول الله سبحانه وتعالى : (( فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجاً يَذْرَأُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِير ُ)) (الشورى:11)
أما الكتاب المقدس فقد جاء فيه ان الله يشبه الانسان [ تكوين 1 : 26 ]
الثالث عشر : القرآن الكريم يعلن بأن الله لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد : (( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ (4) ))
بينما المسيحية تؤمن بأن الله نزل الي الارض وعاش في رحم إمراة ثم خرج من فرجها في صورة طفل مولود .
المصدر: المسيحية في الميزان http://alhakekah.com/i(/1)
مقارنة بين شيخ الإسلام ابن تيمية وابن عربي
مقارنة بين الصديق والزنديق
بقلم/ عبد الرحمن عبد الخالق
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وبعد..
مدخل:
عمد د. محمد عبد الغفار في مقاله بالقبس عدد 11831 المؤرخ في 12/5/2006 إلى عقد مقارنة جائرة بين شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وبين ابن عربي قائلاً: 'كنا سابقًا يخوفوننا من اسم ابن عربي كثيرًا، وكنت أتحاشى كُتبه، حتى ملكت بعض كتبه فوجدت نفسي أقف أمام طود عظيم، عقلاً وثقافة شرعية'، وقال عن ابن تيمية: 'إنه عالم من العلماء، وإن الخلاف حوله أعظم من الخلاف حول ابن عربي'.
ولما كان تقديم ابن عربي - وهو أكبر زنديق عرفه تاريخ الإسلام بل تاريخ الإنسانية في كل عصورها - على هذا النحو من رجل يحمل درجة في الشريعة، ومن قبل دعا الناس إلى التصوف المعتدل – في زعمه - وافتخر بأنه يدرس كتاب شرح الحكم العطائية لابن الرندي، ومعلوم أن مؤلف العطائية على خطا ابن عربي.
من أجل ذلك كان لابد لمن حمّله الله أمانة العلم والكتاب أن يذبوا عن الدين, وأن يبينوا الحق للناس، وإلا كانوا مسئولين أمام الله عن السكوت والكتمان، ومن أجل ذلك أقول:
كيف يجمع بين ابن تيمية وابن عربي؟!
هل يصح أن يجمع بين شيخ الإسلام ابن تيمية وبين ابن عربي، فنجعل هذا عالمًا وذاك عالمًا، وكلاهما قد اختلف الناس فيه، وخلاف الناس حول ابن تيمية أشد كما يقول د. عبد الغفار؟!
كيف يقرن بين إمام من أئمة الهدى وعلم من أعلامهم, الذي لم يترك بدعة في الدين منذ ظهور البدع وإلى زمانه إلا وبينها ودحضها, ومن ذلك بدع الخوارج، والمرجئة، والقدرية، والزنادقة، والجهمية بكل تفريعاتهم وخلوفهم، والمتصوفة، والمشركين من عبدة القبور والأولياء والاتحادية، وأهل الوجود، وكل ذلك في مجلدات ضخمة، حيث لم يجعل لهم حجة إلا ودحضها، ولا شاردة ولا واردة إلا وبينها، ولا شبهة إلا أجاب عنها، وظل يدافع عمره عن دين الإسلام بالقلم واللسان، والسيف والسنان، ولم يترك دينًا من أديان الباطل إلا ورد على أصحابه؛ فرد على النصارى، ورد على الفلاسفة والدهرية ومنكرة الصانع. وأفتى المسلمين في كل مشارق الأرض ومغاربها في نوازلهم وأحداثهم وخلافاتهم وأقضيتهم أعظم فتاوى وجدت في الإسلام إلى يومنا هذا؟!!
وغاية ما نقمه عليه مخالفوه من الفتيا قوله بإيقاع طلاق الثلاث واحدة إن كانت في مجلس واحد, وقوله بمنع شد الرحال إلى قبور الأنبياء والصالحين, وعند التحقيق يتبين أن الحق والصواب معه.
فكيف يقرن من عاش عمره يدافع عن دين الإسلام ويذب عنه كل عقائد الباطل، وبين كافر زنديق لم يترك عقيدة من عقائد الكفر إلا وأدخلها إلى الإسلام، وألبسها من الآيات والأحاديث ما يروجها على عقول أمثاله من أهل الزندقة والنفاق.
فابن عربي جمع كل عقائد المشركين والوثنيين واليهود والنصارى والزنادقة الذين سبقوه, واستطاع هذا الخبيث أن يجمع هذا كله ويؤلف بينه، ويلبسه لباس الإسلام, فيحمل آيات القرآن وأقوال الرسول صلى الله عليه وسلم في ثعلبية ماكرة، وعبارات ملتوية خبيثة، يعجز عنها كل شياطين الإنس والجن!!
فهل يسوِّي بين ابن تيمية وابن عربي إلا جاهل بحاله، أو من هو على شاكلة ابن عربي؟!
ابن عربي أكبر زنديق عرفه تاريخ الإسلام.. بل تاريخ الإنسانية كلها:
قد كان في تاريخ الإسلام كفار حاربوه كأبي جهل وأبي لهب وكفار الفرس والروم، واليهود، والنصارى، ومن قبلهم قوم نوح، وعاد، وثمود، وفرعون، وقد كان في تاريخ الإسلام زنادقة أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر، ونقلوا عقائد الكفار وألبسوها لباس الإسلام؛ كالحلاج، وابن الراوندي، وعبد الكريم الجيلي، وابن الفارض، والتلمساني، وابن سبعين، وعبد العزيز الدباغ، وابن المبارك السلجماسي وغيرهم وغيرهم، ولكن أحدًا من هؤلاء لم يكن كابن عربي قط، ولم يبلغ شأوه ودرجته في الكفر والزندقة والمروق من الدين، فإن الكفار الأصليين وأعظمهم فرعون الذي قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} لم يجعل ربًا للناس جميعهم إلا نفسه، وقال لموسى عليه السلام: {لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ}، وأما ابن عربي فقد جعل كل موجود في الوجود هو الله، بجميع درجات الوجود, وحتى الشياطين والنجاسات – تعالى الله سبحانه وتعالى عما يقول هذا الأفاك – ونستغفر الله من حكاية قول هذا المجرم الخبيث، فأين كفر فرعون من كفر هذا الخبيث؟! وكل الذين أشركوا بالله عبدوا معه إلهًا أو إلهين أو ثلاثة أو مائة من الأصنام والأوثان والكواكب، وأما هذا المجرم فقد جعل كل معبود عبد هو الله لا غير، وأن كل من عبد شيئًا فلم يعبد إلا الله... فأين كفر المشركين من كفر هذا المجرم الخبيث؟!!(/1)
وكل الزنادقة الذين كانوا في تاريخ الإسلام أوّلوا بالتأويل الباطني نصًا أو أكثر من القرآن، وهذا الخبيث لم يترك آية في كتاب الله ولا حديثًا من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا حملها على عقائد الكفار جميعًا, وعقيدة وحدة الوجود على الخصوص [انظر أمثلة ذلك في ثنايا المقال].
وإن كل الزنادقة الذين كذبوا على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم لم يكذبوا كما كذب هذا الأفاك الذي ادعى أنه يتلقى عن الله من اللوح المحفوظ بغير واسطة, وأما النبي محمد صلى الله عليه وسلم يتلقى عن الله بواسطة وهو جبريل، وأنه لذلك أفضل من الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن محمدًا خاتم الأنبياء صلوات الله وسلامه عليه، وأما هو فخاتم الأولياء، وجعل خاتم الأولياء يعني نفسه أفضل من خاتم الأنبياء.
والزنادقة الذين كذبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد افتروا عليه في وضع بعض الأحاديث أو تأويل بعض منها، وأما هذا المجرم الخبيث فقد ادعى بأن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي سلمه كتاب فصوص الحكم يدًا بيد, وهو أعظم كتاب في الكفر والزندقة ظهر في الأرض إلى يومنا هذا..
وعامة الزنادقة الذين مروا في تاريخ الإسلام لاحقتهم اللعنة، وذاقوا حد السيف، ولكن هذا الخبيث بثعلبية ماكرة والتفاف خبيث ومظاهرة مريديه استطاع أن يفلت من القتل على الزندقة، ووجد من المجرمين من يطبل له ويزمر، ويرفعه فوق مصافّ الأنبياء والمرسلين، فضلاً عن جميع علماء المسلمين.
ولقد وجدت فيه دوائر الكفر ضالّتهم المنشودة لهدم الإسلام, بل لهدم جميع الأديان، فنشروا تراثه لهدم تراث الإسلام، واعتنوا بكتاباته.. ومن أجل ذلك كانت فتنة ابن عربي من أعظم الفتن التي مرت بالمسلمين.
ولذلك كانت المقارنة بين شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وابن عربي هي مقارنة بين الصديق والزنديق، بين إمام من أئمة الهدى والصدق والإيمان، وإمام من أئمة الضلال والكذب والكفر
عامة علماء الإسلام قالوا بكفر ابن عربي وزندقته
أقوال أهل العلم في ابن عربي:
1- قال العز بن عبد السلام: 'هو شيخ سوء كذاب، يقول بقدم العالم ولا يحرم فرجًا' [سير أعلام النبلاء 23/48].
وقال أيضًا: هو شيخ سوء كذاب، فقال له ابن دقيق العيد: وكذاب أيضًا؟ قال: نعم؛ تذاكرنا بدمشق التزويج بالجن، فقال: هذا محال؛ لأن الإنس جسم كثيف والجن روح لطيف، ولن يعلق الجسم الكثيف الروح اللطيف. ثم بعد قليل رأيته وبه شجة، فقال: تزوجتُ جنية فرزقت منها ثلاثة أولاد، فاتفق يومًا أني أغضبتها فضربتني بعظم حصلت منه هذه الشجة وانصرفت, فلم أرها بعد هذا.اهـ. [ميزان الاعتدال 5/105].
2- قال الحافظ ابن حجر: وقد كنت سألت شيخنا سراج الدين البلقيني عن ابن عربي, فبادر بالجواب: هو كافر.اهـ. [لسان الميزان4/318].
3- أما الإمام الذهبي فقد قال عن كتاب 'فصوص الحكم': 'ومن أردأ تواليفه كتاب الفصوص, فإن كان لا كفر فيه فما في الدنيا كفر'.اهـ. [سير أعلام النبلاء 23/48].
4- تقي الدين السبكي كما في 'مغني المحتاج للشربيني 3/61': 'ومن كان من هؤلاء الصوفية المتأخرين كابن عربي وغيره فهم ضلال جهال خارجون عن طريقة الإسلام, فضلاً عن العلماء, وقال ابن المقري في روضه: إن الشك في كفر طائفة ابن عربي كفر'.
5- القاضي بدر الدين بن جماعة: 'حاشا رسول الله صلى الله عليه وسلم يأذن في المنام بما يخالف ويعاند الإسلام – يشير إلى زعم ابن عربي أنه تلقى كتاب الفصوص من الرسول مكتوبًا - بل ذلك من وسواس الشيطان ومحنته وتلاعبه برأيه وفتنته.. وقوله في آدم: إنه إنسان العين، تشبيه لله تعالى بخلقه، وكذلك قوله: الحق المنزه، هو الخلق المشبّه إن أراد بالحق رب العالمين، فقد صرّح بالتشبيه وتغالى فيه.. وأما إنكاره ما ورد في الكتاب والسنة من الوعيد: فهو كافر به عند علماء أهل التوحيد.. وكذلك قوله في قوم نوح وهود: قول لغوٍ باطل مردود وإعدام ذلك، وما شابه هذه الأبواب من نسخ هذا الكتاب، من أوضح طرق الصواب، فإنها ألفاظ مزوّقة، وعبارات عن معان غير محققة، وإحداث في الدين ما ليس منه، فحُكمه: رده، والإعراض عنه'' [عقيدة ابن عربي وحياته لتقي الدين الفاسي ص 29، 30].(/2)
6- قال نور الدين البكري الشافعي: 'وأما تصنيف تذكر فيه هذه الأقوال ويكون المراد بها ظاهرها فصاحبها ألعن وأقبح من أن يتأول له ذلك, بل هو كاذب فاجر كافر في القول والاعتقاد ظاهرًا وباطنًا, وإن كان قائلها لم يرد ظاهرها فهو كافر بقوله ضال بجهله، ولا يعذر بتأويله لتلك الألفاظ, إلا أن يكون جاهلاً للأحكام جهلاً تامًا عامًا, ولا يعذر بجهله لمعصيته لعدم مراجعة العلماء والتصانيف على الوجه الواجب من المعرفة في حق من يخوض في أمر الرسل ومتبعيهم, أعني معرفة الأدب في التعبيرات, على أن في هذه الألفاظ ما يتعذر أو يتعسر تأويله، بل كلها كذلك، وبتقدير التأويل على وجه يصح في المراد فهو كافر بإطلاق اللفظ على الوجه الذي شرحناه'. [مصرع التصوف ص/144].
7- قال ابن خلدون: 'ومن هؤلاء المتصوفة: ابن عربي، وابن سبعين، وابن برّجان، وأتباعهم، ممن سلك سبيلهم ودان بنحلتهم، ولهم تواليف كثيرة يتداولونها، مشحونة من صريح الكفر، ومستهجن البدع، وتأويل الظواهر لذلك على أبعد الوجوه وأقبحها، مما يستغرب الناظر فيها من نسبتها إلى الملّة أو عدّها في الشريعة، وليس ثناء أحد على هؤلاء حجة ولو بلغ المثني عسى ما يبلغ من الفضل؛ لأن الكتاب والسنة أبلغ فضلاً أو شهادة من كل أحد، وأما حكم هذه الكتب المتضمنة لتلك العقائد المضلة وما يوجد من نسخها في أيدي الناس مثل الفصوص والفتوحات المكية لابن عربي.. فالحكم في هذه الكتب وأمثالها إذهاب أعيانها إذا وجدت بالتحريق بالنار والغسل بالماء حتى ينمحي أثر الكتاب'. [مصرع التصوف ص 150].
8- قال نجم الدين البالسي الشافعي: 'من صدّق هذه المقالة الباطلة أو رضيها كان كافرًا بالله تعالى يراق دمه ولا تنفعه التوبة عند مالك وبعض أصحاب الشافعي، ومن سمع هذه المقالة القبيحة تعين عليه إنكارها'. [مصرع التصوف ص146].
9- قال المفسر أبو حيان الأندلسي عند تفسيره لقول الله: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ}: ومن بعض اعتقاد النصارى استنبط من أقر بالإسلام ظاهرًا وانتمى إلى الصوفية حلول الله في الصور الجميلة، ومن ذهب من ملاحدتهم إلى القول بالاتحاد والوحدة: كالحلاج والشعوذي وابن أحلى وابن عربي المقيم في دمشق.اهـ.
10- قال الشيخ شمس الدين محمد بن يوسف الجزري الشافعي: 'الحمد لله، قوله: فإن آدم عليه السلام، إنما سمّي إنسانًا: تشبيه وكذب باطل، وحكمه بصحة عبادة قوم نوح للأصنام كفر، لا يقر قائله عليه، وقوله: إن الحق المنزّه: هو الخلق المشبّه، كلام باطل متناقض وهو كفر، وقوله في قوم هود: إنهم حصلوا في عين القرب، افتراء على الله وردّ لقوله فيهم، وقوله: زال البعد، وصيرورية جهنم في حقهم نعيمًا: كذب وتكذيب للشرائع، بل الحقّ ما أخبر الله به من بقائهم في العذاب.. وأمّا من يصدقه فيما قاله، لعلمه بما قال: فحكمه كحكمه من التضليل والتكفير إن كان عالمًا، فإن كان ممن لا علم له: فإن قال ذلك جهلاً: عُرِّف بحقيقة ذلك، ويجب تعليمه وردعه ما أمكن.. وإنكاره الوعيد في حق سائر العبيد: كذب وردّ لإجماع المسلمين، وإنجاز من الله عز وجل للعقوبة، فقد دلّت الشريعة دلالة ناطقة، أن لا بدّ من عذاب طائفة من عصاة المؤمنين، ومنكر ذلك يكفر، عصمنا الله من سوء الاعتقاد، وإنكار المعاد. [عقيدة ابن عربي وحياته لتقي الدين الفاسي ص31،32].
11- قال الحافظ العراقي: 'وأما قوله فهو عين ما ظهر وعين ما بطن، فهو كلام مسموم ظاهره القول بالوحدة المطلقة، وقائل ذلك والمعتقد له كافر بإجماع العلماء'. [مصرع التصوف ص64].
12- قال أبو زرعة ابن الحافظ العراقي: 'لا شك في اشتمال 'الفصوص' المشهورة على الكفر الصريح الذي لا شك فيه، وكذلك فتوحاته المكية، فإن صحّ صدور ذلك عنه، واستمر عليه إلى وفاته: فهو كافر مخلد في النار بلا شك'. [عقيدة ابن عربي وحياته لتقي الدين الفاسي ص60].
وممن أفتى بكفره من علماء الإسلام أيضًا: شهاب الدين التلمساني الحنفي، وابن بلبان السعودي، وابن دقيق العيد، وقطب الدين القسطلاني، وعماد الدين الواسطي، وبرهان الدين الجعبري، والقاضي شرف الدين الزواوي المالكي، والمفسر الشافعي ابن النقاش، وابن هشام النحوي, وقد كتب على إحدى نسخ الفصوص:
هذا الذي بضلاله ضلت أوائل معْ أواخر
من ظن فيه غير ذا فلينأ عني فهو كافر
وأيضًا الشمس العيزري، وابن الخطيب الأندلسي، وشمس الدين الموصلي البساطي المالكي، وبرهان الدين السفاقيني، وابن تيمية، وابن خياط الشافعي، والمقري الشافعي، وعلاء الدين البخاري الحنفي.
الإمام ابن حجر يباهل على ضلال ابن عربي فيهلك مباهله:(/3)
قال السخاوي في ترجمة شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر العسقلاني: ومع وفور علمه - يعني شيخه الحافظ ابن حجر - إلى أن قال: 'وعدم سرعة غضبه، فكان سريع الغضب في الله ورسوله, واتفق كما سمعته منه مرارًا أنه جرى بينه وبين بعض المحبين لابن عربي منازعة كثيرة في أمر ابن عربي، أدت إلى أن نال شيخنا من ابن عربي لسوء مقالته. فلم يسهل بالرجل المنازع له في أمره، وهدَّده بأن يغري به الشيخ صفاء الذي كان الظاهر برقوق يعتقده، ليذكر للسلطان أن جماعة بمصر منهم فلان يذكرون الصالحين بالسوء ونحو ذلك.
فقال له شيخنا: ما للسلطان في هذا مدخل، لكن تعالَ نتباهل؛ فقلما تباهل اثنان، فكان أحدهما كاذبًا إلا وأصيب. فأجاب لذلك، وعلَّمه شيخنا أن يقول: اللهم إن كان ابن عربي على ضلال، فالعَنِّي بلعنتك، فقال ذلك. وقال شيخنا: اللهم إن كان ابن عربي على هدى فالعنِّي بلعنتك. وافترقا. قال: وكان المعاند يسكن الروضة 'وسط القاهرة'، فاستضافه شخص من أبناء الجند جميل الصورة، ثم بدا له أن يتركهم، وخرج في أول الليل مصممًا على عدم المبيت، فخرجوا يشيعونه إلى الشختور 'قارب'، فلما رجع أحسَّ بشيءٍ مرَّ على رجله، فقال لأصحابه: مرَّ على رجلي شيء ناعم فانظروا، فنظروا فلم يروا شيئًا. وما رجع إلى منزله إلا وقد عمي، وما أصبح إلا ميتًا. وكان ذلك في ذي القعدة سنة سبع وتسعين وسبعمائة، وكانت المباهلة في رمضان منها. وكان شيخنا عند وقوع المباهلة عرَّف من حضر أن من كان مبطلاً في المباهلة لا تمضي عليه سنة. [الجواهر والدرر 3/1001-1002], وكذلك نقل قصة المباهلة صاحب العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين 2/198.
محمد الغزالي: الفتوحات المكية ينبغي أن تسمى الفتوحات الرومية:
قال الشيخ محمد الغزالي رحمه الله: 'إنني ألفت النظر إلى أن المواريث الشائعة بيننا تتضمن أمورًا هي الكفر بعينه. لقد اطلعت على مقتطفات من الفتوحات المكية لابن عربي فقلت: كان ينبغي أن تسمى الفتوحات الرومية! فإن الفاتيكان لا يطمع أن يدسَّ بيننا أكثر شرًا من هذا اللغو.. يقول ابن عربي في الباب 333 بعد تمهيد طويل: 'إن الأصل الساري في بروز أعيان الممكنات هو التثليث! والأحد لا يكون عنه شيء البتة! وأول الأعداد الاثنان، ولا يكون عن الاثنين شيء أصلاً، ما لم يكن ثالث يربط بعضها ببعض, فحينئذ يتكون عنها ما يتكّون، فالإيجاد عن الثلاثة, والثلاثة أول الأفراد. [...لم أقرأ في حياتي أقبح من هذا السخف، ولا ريب أن الكلام تسويغ ممجوج لفكرة الثالوث المسيحي، وابن عربي مع عصابات الباطنية والحشاشين الذين بذرتهم أوروبا في دار الإسلام أيام الحروب الصليبية الأولى؛ كانوا طلائع هذا الغزو الخسيس، ولكن ابن عربي يمضى في سخافاته فيقول – عن عقيدة التثليث-: من العابدين من يجمع هذا كله في صورة عبادته وصورة عمله، فيسري التثليث في جميع الأمور لوجوده في الأصل!! ويبلغ ابن عربي قمة التغفيل عندما يقول: إن الله سمى القائل بالتثليث كافرًا أي ساترًا بيان حقيقة الأمر فقال: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ}, فالقائل بالتثليث ستر ما ينبغي أن يكشف صورته، ولو بيّن لقال هذا الذي قلناه!! واكتفى الأحمق بذكر الجملة الأولى من الآية، ولم يُردفْها بالجملة الثانية: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ} وذلك للتلبيس المقصود! هذا الكلام المقبوح موجود فيما يسمَّى بالتصوف الإسلامي! وعوام المسلمين وخواصهم يشعرون بالمصدر النصراني الواضح لهذا الكلام. [تراثنا الفكري في ميزان الشرع والعقل ص 60 – 61].
والعجب بعد ذلك أن د. محمد عبد الغفار لما سئل عمن يكفّرون ابن عربي قال: 'هذا هو التطرف وبذور الإرهاب' [الأنباء 18/3/2006].
نماذج من كفر ابن عربي:
وحدة الوجود أعظم عقيدة في الكفر, وهذه العقيدة التي لم تعرف الأرض أكفر ولا أفجر منها, والتي فصّلها هذا الخبيث في كتابه الفصوص، قد نثرها وفرقها في موسوعته الكبيرة الفتوحات المكية, والتي تقع في أربع مجلدات كبار كبار.
* بدأها في مقدمته بقوله: 'ولما حيرتني هذه الحقيقة أنشدت على حكم الطريقة للحقيقة:
الرب حق والعبد حق يا ليت شعري من المكلف
إن قلت عبد فذاك ميت وإن قلت رب أنى يكلف
فهو يطيع نفسه إذا شاء بخلقه...' إلخ.
* ثم فرق هذه العقيدة الكفرية في كتابه هذا قائلاً: 'وأما عقيدة خاصة الخاصة في الله تعالى... جعلناه مبددًا في هذا الكتاب لكون أكثر العقول المحجوبة تقصر...'. [الفتوحات 47].
* وقال هذا الأفاك فيما قال: إن الله لا ينزَّه عن شيء، لأن كل شيء هو عينه وذاته، وأن من نزهه عن الموجودات قد جهل الله ولم يعرفه، أي جهل ذاته ونفسه... قال: 'اعلم أن التنزيه عن أهل الحقائق في الجانب الإلهي عين التحديد والتقييد؛ فالمنزِّه إما جاهل وإما صاحب سوء أدب'. [الفصوص 86].(/4)
* وقال في وصف نوح: لأن الدعوة إلى الله مكر بالمدعو، {وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً} صلى الله عليه وسلم: 'فأجابوه مكراً كما دعاهم, فقالوا في مكرهم: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً}. فإنهم لو تركوهم جهلوا من الحق على قدر ما تركوا من هؤلاء. فإن للحق في كل معبود وجهًا يعرفه من يعرفه ويجهله من يجهله. {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا} أي حكم, فالعالم يعلم من عَبَد وفي أي صورة ظهر حتى عُبِد، وإن التفريق {إِلَّا إِيَّاهُ} والكثرة كالأعضاء في الصورة المحسوسة والقوى المعنوية في الصورة الروحانية، فما عبد غير الله في كل معبود'. [الفصوص 72].
* ولما جعل هذا الخبيث قوم نوح الذين عبدوا الأصنام لم يعبدوا إلا الله, وأنهم بذلك موحدون حقًا فلذلك كافأهم الله الذي هم نفسه, فهي التي خطت بهم {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ} وذاته بأن أغرقهم في بحار العلم في الله. قال: {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} في عين الماء {فَأُدْخِلُوا نَاراً} فغرقوا في بحار العلم بالله، فكان الله عين أنصارهم فهلكوا فيه إلى الأبد {فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَاراً}. [الفصوص 73].
* وقال أيضاً: 'ومن أسمائه العلي: على من، وما ثم إلا هو، فهو العلي لذاته أو عن ماذا؟! وما هو إلا هو، فعلوه لنفسه، ومن حيث الوجود فهو عين الموجودات, فالمسمى محدثات هي العلية لذاتها وليس إلا هو'. [الفصوص 76].
* وقال: ومن عرف ما قررناه في الأعداد، وأن نفيها عين إثباتها، علم أن الحق المنزه هو الخلق المشبه، وإن كان قد تميز الخلق من الخالق. فالأمر الخالق المخلوق، والأمر المخلوق الخالق. كل ذلك من عين واحدة، لا، بل هو العين الواحدة وهو العيون الكثيرة. فانظر؛ والولد عين أبيه. فما رأى يذبح سوى نفسه: {قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} ماذا ترى, وفداه بذبح عظيم، فظهر بصورة كبش من ظهر بصورة إنسان. وظهر بصورة ولد: لا، بل بحكم: فما نكح سوى نفْسِهِ. اهـ. ] {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} ولد من هو عين الوالد. [الفصوص 78].
* وقال أيضًا: 'فالعلي لنفسه هو الذي يكون له الكمال الذي يستغرق به جميع الأمور الوجودية والنسب العدمية, بحيث لا يمكن أن يفوته نعت منها، وسواء كانت محمودة عرفًا وعقلاً وشرعًا أو مذمومة عرفًا وعقلاً وشرعًا. وليس ذلك إلا لمسمى الله تعالى خاصة'. [الفصوص 79].
* وهذا الخبيث لا يكذب الرسل فقط في إخبارهم عن الله والغيب، بل يكذب ويكابر في المحسوس, فإنه بما زعم في وحدة الوجود وأنه ليس إلا الله، مدعيًا أنه هو عين المخلوقات، وبذلك لا يكون هناك فارق بين الملك والشيطان والمؤمن والكافر، والحلال والحرام، ومن عبد الشمس والقمر، ومن كفر بعبادة الشمس والقمر... بل ادعى كذلك أن الجنة والنار كليهما للنعيم، وأن أهل النار منعمون كما أهل الجنة، قال:
وإن دخلوا دار الشقاء فإنهم على لذة فيها نعيم مباين
نعيم جنان الخلد، فالأمر واحد وبينهما عند التجلي تباين
يسمى عذابًا من عذوبة طعمه وذاك له كالقشر والقشر صاينُ
ولا يخجل هذا الأفاك من وصف الرب الإله سبحانه وتعالى بكل صفات الذم تصريحًا لا إجمالاً وتلميحًا وفحوى... فهو يصف الجماع بل الوقاع نفسه أنه دليل هذه الوحدة، فالله عنده هو الطيب والخبيث – تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا – فيقول: والعالم على صورة الحق والإنسان على الصورتين.
وقال: 'ولما أحب الرجل المرأة طلب الوصلة, أي غاية الوصلة التي تكون في المحبة، فلم يكن في صورة النشأة العنصرية أعظم وصلة من النكاح، ولهذا تعم الشهوة أجزاءه كلها، ولذلك أُمِرَ بالاغتسال منه، فعمت الطهارة كما عم الفناء فيها عند حصول الشهوة. فإن الحق غيور على عبده أن يعتقد أنه يلتذ بغيره، فطهره بالغسل ليرجع بالنظر إليه فيمن فني فيه؛ إذ لا يكون إلا ذلك. فإذا شاهد الرجل الحق في المرأة كان شهودًا في منفعل، وإذا شاهده في نفسه - من حيث ظهور المرأة عنه - شاهده في فاعل، وإذا شاهده في نفسه من غير استحضار صورة ما تكوَّن عنه كان شهوده في منفعل عن الحق بلا واسطة. فشهوده للحق في المرأة أتم وأكمل؛ لأنه يشاهد الحق من حيث هو فاعل منفعل، ومن نفسه من حيث هو منفعل خاصة.
فلهذا أحب صلى الله عليه وسلم النساء لكمال شهود الحق فيهن؛ إذ لا يشاهد الحق مجردًا عن المواد أبدًا، فإن الله بالذات غني عن العالمين، وإذا كان الأمر من هذا الوجه ممتنعًا، ولم تكن الشهادة إلا في مادة، فشهود الحق في النساء أعظم الشهود وأكمله'. [الفصوص 217].
بين شيخ الإسلام ابن تيمية وابن عربي [3/3]
رئيسي :التراجم :الاثنين 23جمادى الأولى 1427هـ – 19يونيو 2006م
لا يزكي ابنَ عربي إلا جاهل بحاله، أو من هو على دينه
بقلم/ عبد الرحمن عبد الخالق
أسلوب ابن عربي في كتاباته:(/5)
وبنى ابن عربي كتاباته كلها على الثعلبية والمكر والخداع, وذلك بتحريف الكلم عن مواضعه تحريفًا معنويًا للقرآن الكريم والحديث الشريف، والكذب وادعاء العلم الإلهي، والرؤى، والاطلاع على ما لم يطلع عليه أحد من الخلق سواه، مع ادعائه العلم والدين والتقوى والصدق، وقد لا يوجد على البسيطة كلها من هو أكذب منه. ووالله إني عندما أقرأ كتابه وأقارن بين ما قاله إبليس في أول أمره عندما امتنع عن السجود لآدم، واستكبر وأبى, فلعنه الله إلى يوم القيامة, { وإن عليك لعنتي إلى يوم يبعثون, } وبين هذا الكذاب الأفاك الذي قال عن الله وفي الله ما لم تقله اليهود والنصارى ولا مشركو العرب والعجم, فأرى أن إبليس في وقت لعن الله له، كان أخف ذنبًا وجرمًا، وإن كان قد أصبح بعد ذلك هو محرك الشرك كله وباعثه، وابن عربي وأمثاله وإن كانوا غرسًا من غراس إبليس اللعين, فإنهم قد فاقوا بكفرهم وعنادهم وعتوهم وقولهم العظيم على الله ما لم يقله إبليس، فإن إبليس كان يفرّق بين الخالق والمخلوق، وبين الرب الإله القوي القاهر، وبين المخلوق الضعيف الفقير المحتاج إلى إلهه ومولاه، وأما ابن عربي هذا ومن على شاكلته فقد جعلوا إبليس وجبريل والأنبياء والكفار والأشقياء، وكل هذه المخلوقات هي عين الخالق, وأنه ليس في الوجود غيره، يخلق بنفسه لنفسه، وأنه ليس معه غيره، وأن الكفر والإيمان، والحلال والحرام، والأخت والأجنبية، وإتيان النساء، وإتيان الذكور شيء واحد، وكل هذا عين الرب وحقيقته وأفعاله - فتعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا - ونستغفره سبحانه وتعالى من ذكر أقوالهم ونقل كفرهم، ولكننا نفعل ذلك لأن هؤلاء المجرمين هم عند كثير من الحمقى المغفلين والزنادقة المخادعين هم عندهم أولياء الله الصالحين.
وقد قام علماء المسلمين الصادقين في كل وقت يردون إفك هؤلاء المجرمين.
ابن تيمية يرد على إفك ابن عربي وعقيدته وحدة الوجود:
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - فيهم: 'حتى يبلغ الأمر بأحدهم إلى أن يهوى المردان، ويزعم أن الرب تعالى تجلى في أحدهم، ويقولون: هو الراهب في الصومعة؛ وهذه مظاهر الجمال؛ ويقبل أحدهم الأمرد، ويقول: أنت الله. ويذكر عن بعضهم أنه كان يأتي ابنه، ويدعي أنه الله رب العالمين، أو أنه خلق السماوات والأرض، ويقول أحدهم لجليسه: أنت خلقت هذا، وأنت هو، وأمثال ذلك.
فقبح الله طائفة يكون إلهها الذي تعبده هو موطئها الذي تفترشه؛ وعليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منهم صرفاً ولا عدلاً.
ومن قال: إن لقول هؤلاء سرًا خفيًا وباطن حق، وأنه من الحقائق التي لا يطّلع عليها إلا خواص خواص الخلق: فهو أحد رجلين – إما أن يكون من كبار الزنادقة أهل الإلحاد والمحال، وإما أن يكون من كبار أهل الجهل والضلال. فالزنديق يجب قتله، والجاهل يعرف حقيقة الأمر، فإن أصر على هذا الاعتقاد الباطل بعد قيام الحجة عليه وجب قتله.
ولكن لقولهم سر خفي وحقيقة باطنة لا يعرفها إلا خواص الخلق. وهذا السر هو أشد كفرًا وإلحادًا من ظاهره؛ فإن مذهبهم فيه دقة وغموض وخفاء قد لا يفهمه كثير من الناس'. [الفتاوى 2/378:379].
ويقول أيضًا شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله-: 'وأقوال هؤلاء شر من أقوال اليهود والنصارى، فيها من التناقض من جنس ما في أقوال النصارى, ولهذا يقولون بالحلول تارة، وبالاتحاد أخرى، وبالوحدة تارة، فهو مذهب متناقض في نفسه، ولهذا يلبسون على من لم يفهمه. فهذا كله كفر باطنًا وظاهرًا بإجماع كل مسلم، ومن شك في كفر هؤلاء بعد معرفة قولهم ومعرفة دين الإسلام, فهو كافر كمن يشك في كفر اليهود والنصارى'. [الفتاوى 2/368].
وقال أيضًا: 'ولا يتصور أن يثني على هؤلاء إلا كافر ملحد، أو جاهل ضال'. [الفتاوى 2/367].
ولما سئل شيخ الإسلام عن كتاب فصوص الحكم قال: 'ما تضمنه كتاب 'فصوص الحكم' وما شاكله من الكلام: فإنه كفر باطنًا وظاهرًا؛ وباطنه أقبح من ظاهره. وهذا يسمى مذهب أهل الوحدة، وأهل الحلول، وأهل الاتحاد. وهم يسمون أنفسهم المحققين. وهؤلاء نوعان: نوع يقول بذلك مطلقًا، كما هو مذهب صاحب الفصوص ابن عربي وأمثاله: مثل ابن سبعين، وابن الفارض، والقونوي والششتري والتلمساني وأمثالهم ممن يقول: إن الوجود واحد، ويقولون: إن وجود المخلوق هو وجود الخالق، لا يثبتون موجودين خلق أحدهما الآخر، بل يقولون: الخالق هو المخلوق، والمخلوق هو الخالق. ويقولون: إن وجود الأصنام هو وجود الله، وإن عبّاد الأصنام ما عبدوا شيئًا إلا الله. ويقولون: إن الحق يوصف بجميع ما يوصف به المخلوق من صفات النقص والذم.(/6)
ويقولون: إن عبّاد العجل ما عبدوا إلا الله، وإن موسى أنكر على هارون لكون هارون أنكر عليهم عبادة العجل، وإن موسى كان بزعمهم من العارفين الذين يرون الحق في كل شيء، بل يرونه عين كل شيء، وأن فرعون كان صادقًا في قوله: أنا { ربكم الأعلى } , بل هو عين الحق، ونحو ذلك مما يقوله صاحب الفصوص. ويقول أعظم محققيهم: إن القرآن كله شرك؛ لأنه فرّق بين الرب والعبد؛ وليس التوحيد إلا في كلامنا.
فقيل له: فإذا كان الوجود واحدًا، فلم كانت الزوجة حلالاً والأم حرامًا؟! فقال: الكل عندنا واحد، ولكن هؤلاء المحجوبين قالوا: حرام. فقلنا: حرام عليكم'. [الفتاوى 2/364: 365].
وقال ابن تيمية أيضًا: 'وقد صرّح ابن عربي وغيره من شيوخهم بأنه هو الذي يجوع ويعطش، ويمرض ويبول ويَنكح ويُنكح، وأنه موصوف بكل عيب ونقص؛ لأن ذلك هو الكمال عندهم، كما قال في الفصوص؛ فالعلي بنفسه هو الذي يكون له الكمال الذي يستقصى به جميع الأمور الوجودية، والنسب العدمية: سواء كانت ممدوحة عرفًا وعقلاً وشرعًا، أو مذمومة عرفًا وعقلاً وشرعًا وليس ذلك إلا لمسمى الله خاصة'. [الفتاوى 2/265].
ويعتذر شيخ الإسلام عن الإفاضة في بيان عقيدة هؤلاء القوم والتحذير منهم قائلاً: 'ولولا أن أصحاب هذا القول كثروا وظهروا وانتشروا، وهم عند كثير من الناس سادات الأنام، ومشايخ الإسلام، وأهل التوحيد والتحقيق. وأفضل أهل الطريق، حتى فضلوهم على الأنبياء والمرسلين، وأكابر مشايخ الدين: لم يكن بنا حاجة إلى بيان فساد هذه الأقوال، وإيضاح هذا الضلال.
ولكن يعلم أن الضلال لا حد له، وأن العقول إذا فسدت لم يبق لضلالها حد معقول، فسبحان من فرّق بين نوع الإنسان؛ فجعل منه من هو أفضل العالمين، وجعل منه من هو شر من الشياطين، ولكن تشبيه هؤلاء بالأنبياء والأولياء، كتشبيه مسيلمة الكذاب بسيد أولي الألباب، وهو الذي يوجب جهاد هؤلاء الملحدين، الذين يفسدون الدنيا والدين'. [الفتاوى 2/357: 358].
وقال في وجوب إنكار هذه المقالات الكفرية، وفضح أهلها: 'فهذه المقالات وأمثالها من أعظم الباطل، وقد نبهنا على بعض ما به يعرف معناها وأنه باطل، والواجب إنكارها؛ فإن إنكار هذا المنكر الساري في كثير من المسلمين أولى من إنكار دين اليهود والنصارى، الذي لا يضل به المسلمون، لا سيما وأقوال هؤلاء شر من أقوال اليهود والنصارى وفرعون، ومن عرف معناها واعتقدها كان من المنافقين، الذين أمر الله بجهادهم بقوله تعالى: {جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ}, والنفاق إذا عظم كان صاحبه شرًا من كفار أهل الكتاب، وكان في الدرك الأسفل من النار.
وليس لهذه المقالات وجه سائغ، ولو قُدر أن بعضها يحتمل في اللغة معنى صحيحًا فإنما يحمل عليها إذا لم يعرف مقصود صاحبها، وهؤلاء قد عرف مقصودهم، كما عرف دين اليهود والنصارى والرافضة، ولهم في ذلك كتب مصنفة، وأشعار مؤلفة، وكلام يفسر بعضه بعضًا.
وقد علم مقصودهم بالضرورة، فلا ينازع في ذلك إلا جاهل لا يلتفت إليه، ويجب بيان معناها وكشف مغزاها لمن أحسن الظن بها، وخيف عليه أن يحسن الظن بها أو أن يضل، فإن ضررها على المسلمين أعظم من ضرر السموم التي يأكلونها ولا يعرفون أنها سموم، وأعظم من ضرر السُرّاق والخونة، الذين لا يعرفون أنهم سراق وخونة.
فإن هؤلاء: غاية ضررهم موت الإنسان أو ذهاب ماله، وهذه مصيبة في دنياه قد تكون سببًا لرحمته في الآخرة، وأما هؤلاء: فيسقون الناس شراب الكفر والإلحاد في آنية أنبياء الله وأوليائه، ويلبسون ثياب المجاهدين في سبيل الله، وهم في الباطن من المحاربين لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ويظهرون كلام الكفار والمنافقين، في قوالب ألفاظ أولياء الله المحققين، فيدخل الرجل معهم على أن يصير مؤمنًا وليًا لله، فيصير منافقًا عدوًا لله'. [الفتاوى 2/359].
شبهات المدافعين عنه:
والمدافعون عن ابن عربي إما أن يكونوا جاهلين بحاله، أو هم على شاكلته في الكفر والزندقة, ومما دافعوا به عن قولهم: إن كلماته وعباراته جاءت على وجه الشطح والسكر وغلبة الوجد، أو أنها عبارات دقيقة ومعاني عميقة لا يعلمها إلا المتخصصون الراسخون في العلم, أو أنها مدسوسة عليه... وكل هذه الأقوال من الكذب والتلبيس.
فأما أنها شطح وغلبة سكر، وكتبها في غير صحو ووعي فكذب؛ فإنها كتب مدونة، مقسمة الأبواب منسقة الفصول, مسبوكة العبارة، ومن طالعها لم يشك في مكر وخبث مصنفها, وقد ملأ كل صفحة فيها بكفره.
وأما قولهم: كتب بلغة لا يفهمها إلا أهلها؛ فكذب مبين، فإنها مكتوبة شعرًا ونثرًا بعربية فصيحة بمعانٍ محددة ومفصلة, ظاهرها وباطنها الكفر والزندقة، ولا يخفى معناها إلا على جاهل لا علم له بلغة العرب، وقد علم ما فيها علماء الإسلام ممن قرءوها، وخبروها، وعلموا مراد صاحبها على الحقيقة.(/7)
ورحم الله نور الدين البكري الشافعي إذ يجيب على هذه الشبهة بقوله: 'وإن كان قائلها لم يرد ظاهرها فهو كافر بقوله ضال بجهله، ولا يعذر بتأويله لتلك الألفاظ إلا أن يكون جاهلاً للأحكام جهلاً تامًا عامًا ولا يعذر بجهله لمعصيته؛ لعدم مراجعة العلماء والتصانيف على الوجه الواجب من المعرفة في حق من يخوض في أمر الرسل ومتبعيهم, أعني معرفة الأدب في التعبيرات, على أن في هذه الألفاظ ما يتعذر أو يتعسر تأويله، بل كلها كذلك، وبتقدير التأويل على وجه يصح في المراد فهو كافر بإطلاق اللفظ على الوجه الذي شرحناه'. [مصرع التصوف ص 144].
وقال أبو حامد الغزالي: 'فإن الألفاظ إذا صرفت عن مقتضى ظواهرها بغير اعتصام فيه بنقل عن صاحب الشرع ومن غير ضرورة تدعو إليه من دليل العقل اقتضى ذلك بطلان الثقة بالألفاظ, وسقط به منفعة كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم'. [إحياء علوم الدين 1/37].
وأما أنها مدسوسة عليه فكذب، وقد شهد معاصروه عليه بها، وما زال المدافعون عنه يفخرون بنسبة الفتوحات والفصوص إليه ويمتدحونه بها.
وقد ذكر الشيخ الأديب علي الطنطاوي - رحمه الله - حادثة طريفة في معرض رده على من أنكروا عليه بأنه يقول بكفر الكلام الموجود في كتب ابن عربي ما نصه: 'أما قوله في أنني لا أعرف شيئًا عن ابن عربي وعن عقيدة وحدة الوجود فأخبره ولا فخر في ذلك أن الذي جلب كتاب الفتوحات من قونيا ونقله من النسخة المكتوبة بخط ابن عربي نفسه والمخطوطة الآن في قونيا هو: جدنا الذي قدم من طنطا إلى دمشق سنة 1250هـ, فإن كان أخطأ فإني أسأل له المغفرة, وإنني قابلت مع عمي الشيخ عبد القادر الطنطاوي نسخة الفتوحات المطبوعة على هذا الأصل المنقول صفحة صفحة.. وأنا أستغفر الله على ما أنفقت من عمري في قراءة مثل هذه الضلالات'. [منقول من كتاب فتاوى علي الطنطاوي].
ما وراء إحياء أفكار ابن عربي:
قال الشيخ محمد الغزالي رحمه الله: 'وفي هذه الأيام يوجد تعاون بين قسم الدراسات الإسلامية في السوربون وبين المسئولين عن العلوم والآداب والفنون عندنا على إخراج كتاب الفتوحات المكية في بضعة وثلاثين سفرًا، في نسخ أنيقة فاخرة لتيسير تداولها بين الناس، ولنشر فكر ابن عربي الذي تحتاج إليه أوروبا في هذه الأيام...
والسعي لإحياء أفكار ابن عربي جزء من تضليل أمتنا وتعتيم الرؤية أمامها, أو هو عرض لدين مائع يسوي بين المتناقضات؛ إذ قلب ابن عربي – كما وصف نفسه - دير لرهبان وبيت لنيران وكعبة أوثان، إنه تثليث وتوحيد ونفي وإثبات.. هذا الكلام الغث هو قرة عين الصليبين وأمثالهم, وهو ما يراد الآن نشره على أوسع نطاق...
إن علماء الأزهر في العصر الأيوبي أنكروا تفكير هذا الرجل وحكموا بكفره وأودع السجن ليلقى جزاءه, لكن أصدقاءه نجحوا في تهريبه'. [تراثنا الفكري 72: 74].
وقال الباحث الموسوعي الدكتور عبد الوهاب المسيري: 'العالم الغربي الذي يحارب الإسلام، يشجع الحركات الصوفية. ومن أكثر الكتب انتشارًا الآن في الغرب مؤلفات محيي الدين بن عربي, وأشعار جلال الدين الرومي. وقد أوصت لجنة الكونغرس الخاصة بالحريات الدينية بأن تقوم الدول العربية بتشجيع الحركات الصوفية'. [http://www.elmessiri.com/ar]
وفي الختام نسأل الله أن يرينا الحق حقًا ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون, اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.(/8)
مقاطعة بضائع الكفار
نظرة شرعية
هاني بن عبد الله بن محمد بن جبير 5/2/1427
05/03/2006
الحمد لله وحده، وبعد :
فقد "فوجئ العالم الإسلامي في هذا العصر بتفوق عدوه عليه في ميادين شتى، ولو أن هذا التفوق كان في مجال السيف والرمح والكر والفر، فلربما كنا نستطيع أن ندفع عن أنفسنا شره ونحول دون انتصاره علينا، بل قد نهزمه فنسترد ما ضاع منا . ولكنه كان ولا يزال تفوقاً غير متكافئ ؛ فالعدو على اختلاف توجهاته يملك من وسائل القوة ما يضمن له التحكم والقهر، وبسط النفوذ وإملاء الإرادة في الوقت الذي أصبحنا فيه عالة عليه في كل شيء، مما يجعلنا نصنّف أنفسنا قبل أن يصنفنا غيرنا بأننا متخلفون . ونتيجة لذلك فنحن (عالم التبعيّة) الواقع تحت التأثيرات الخارجية وقانون التوازن الدولي . إن الصدمات العنيفة التي كان من المفروض أنتولِّد فينا ردود أفعال مناسبة لم تتوقف هزاتها وتحدياتها، ولقد بقينا مدة طويلة دون أن تكون مواجهاتنا لها في المستوى المطلوب ) (1).
ويبقى الأفراد الغيورون يلتفتون صوب كل اتجاه بحثاً عن سبيل مواجهة أو طريق نجاة أو وسيلة إنقاذ إيماناً منهم بأنه لا بد من أن يستنفد المرء كل طاقته ولا يدّخر منها شيئاً لتبرأ ذمته ويستحق وعد الله تعالى: "أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ البَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ" [البقرة:214].
ولما كان الاقتصاد في هذا الزمن ذا تأثير كبير وفعال على مواقف الدول واتجاهاتها ؛ فقد بدأت الدعوة إلى (مقاطعة) البضائع والمنتجات التي تصدرها الدول التي تحارب المسلمين أو تقف معها ؛ لتكون وسيلة ضغط عليها لتوقف (أو تخفف) من موقفها المعادي للمسلمين.
وكان لهذا النداء تجاوباً كبيراً من الشعوب المسلمة التي لا حول لها ولا قوّة، ولا تعرف كيف تعمل، ولا كيف تنتصر.
حتى قال بعضهم إن (سلاح المقاطعة) هو السلاح الوحيد المؤثر في سجل المواجهة مع إسرائيل في وقتنا الحاضر (2).
وفي الحقيقة إن المتابع لمجريات الأحداث يلمس لهذه المقاطعة آثاراً كبيرة تدفع بعض الشركات إلى التبرُّؤ من دعم الدولة اليهودية، أو إلى تعهدها بدفع تبرعات لجهات فلسطينية، إلى غير ذلك.
وقد انتشرت في الساحة الإعلامية عدة فتاوى تقول : إن "كل من اشترى البضائع الإسرائيلية والأمريكية، من المسلمين فقد ارتكب حراماً، واقترف إثماً مبيناً، وباء بالوزر عند الله والخزي عند الناس" (3).
وحقيقة أن الغيرة الإسلامية تشتعل في النفس إذا رأت ما يحل بالمسلمين وما يدبر لهم على أيدي أعداء الله.
إلا أن موقف الموقِّع عن رب العالمين وهو يتلو قوله تعالى: "وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ" [النحل : 116].
موقفٌ لا تؤثر فيه العواطف ولا يغلبه الحماس عن تأمل نصوص الوحيين، وإعمال قواعد الشرع وأدلته.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - : "كما أن الله نهى نبيّه أن يصيبه حزن أو ضيق ممن لم يدخل في الإسلام في أول الأمر فكذلك في آخره؛ فالمؤمن منهي أن يحزن عليهم أو يكون في ضيق من مكرهم . وكثير من الناس إذا رأى المنكر، أو تغير كثير من أحوال الإسلام : جزع وكلَّ وناح كما ينوح أهل المصائب وهو منهي عن هذا بل هو مأمور بالصبر والتوكل والثبات على دين الإسلام، وأن يؤمن بأن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، وأن العاقبة للتقوى، وأن ما يصيبه فهو بذنوبه، فليصبر إن وعد الله حق، ويستغفر لذنبه، وليسبح بحمد ربه بالعشي والإبكار" (4).
وفي هذه الورقات القليلات نظرات شرعية عاجلة لموضوع (المقاطعة)،حاولت فيها الوصول لحكم شرعي فقهي فيها .
* أولاً : تعريف المقاطعة الاقتصادية :
المقاطعة مفاعلة من القطع . يقال : قطعه يقطعه قطعاً .
والقطع : إبانة بعض أجزاء الجرم من بعضٍ فصلاً (5).
والقطع والقطيعة : الهجران ضد الوصل (6).
والبضاعة : السلعة، وأصلها القطعة من المال الذي يتجر فيه، وقيل جزء من أجزاء المال تبعثه للتجارة (7) .
والسلعة : ما تُجر به والمتاع، وجمعها : سِلَع (8).
قال في المنجد الأبجدي: (المقاطعة : عدم التعامل مع شخصٍ أو شركة أو مؤسسة أو دولة، ومنه مقاطعة بلد لمنتجات وحاصلات بلدٍ آخر) (9).
وقال في المعجم الوسيط: (المقاطعة : الامتناع عن معاملة الآخرين اقتصادياً أو اجتماعياً وفق نظام جماعي مرسوم) (10).
وشاع استعمال المقاطعة في الامتناع عن شراء منتجات من يحارب المسلمين أو يعينهم دون الامتناع عن البيع؛ وذلك لأن أهل الإسلام صاروا مستهلكين، وقل الإنتاج فيهم .
* ثانياً: قواعد ومقدمات:(/1)
وهي سبع أسردها تباعاً ..
الأولى : جواز معاملة الكفار .
الأصل أنه يجوز معاملة الكفار بالبيع والشراء سواء كانوا أهل ذمّة أو عهد أو حرب (11) إذا وقع العقد على ما يحل، ولا يكون ذلك من موالاتهم (12).
عن عبد الرحمن بن أبي بكر - رضي الله عنهما - قال : كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم جاء رجل مشرك مشعان طويل بغنم يسوقها . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أبيعاً أم عطيّة ؟ أو قال : أم هبة ؟ قال : لا، بل بيع . فاشترى منه شاةً (13) .
وقد بوّب البخاري على هذا الحديث في صحيحه : باب البيع والشراء مع المشركين وأهل الحرب .
وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم سلمان الفارسي بأن يكاتب، والمكاتبة أن يشتري العبد نفسه من سيده، وكان سيده يهودياً (14) .
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن درعه مرهونة عند رجل من يهود على ثلاثين صاعاً من شعير أخذها رزقاً لعياله (15).
وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى من يهودي طعاماً إلى أجل (16).
وسواء في ذلك أن يسافر المسلم لبلد الكفار وديار الحرب أو يجيء الكافر لبلاد الإسلام ليبيع أو يشتري .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية :"وإذا سافر الرَّجل إلى دار الحرب ليشتري منها جاز عندنا كما دل عليه حديث تجارة أبي بكر - رضي الله عنه - في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أرض الشام، وهي حينذاك دار حرب، وغير ذلك من الأحاديث" (17).
عن الحسن قال : كتب أبو موسى إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنهما - : أن تجار المسلمين إذا دخلوا دار الحرب أخذوا منهم العُشر . قال فكتب إليه عمر: خذ منهم إذا دخلوا إلينا مثل ذلك: العشر (18).
قال الحافظ ابن حجر : "تجوز معاملة الكفار فيما لم يتحقق تحريم على المتعامَل فيه، وعدم الاعتبار بفساد معتقدهم ومعاملاتهم فيما بينهم" (19).
هذا هو الأصل العام في معاملة الكفار .
يستثنى من هذا الأصل مسائل ؛ منها :
أنه لا يجوز أن يبيع المسلم للكفار ما يستعينون به على قتال المسلمين . لقوله
تعالى : "وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَان" [المائدة:2].
قال ابن بطال : "معاملة الكفار جائزة، إلا بيع ما يستعين به أهل الحرب على المسلمين" (20) .
وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - عن معاملة التتار، فأجاب: (يجوز فيها ما يجوز في معاملة أمثالهم، ويحرم فيها ما يحرم في معاملة أمثالهم ...
فأما إن باعهم أو باع غيرهم ما يعينهم به على المحرمات كبيع الخيل والسلاح لمن يقاتل به قتالاً محرماً فهذا لا يجوز .. في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لعن في الخمر عشرة : لعن الخمر، وعاصرها، ومعتصرها، وحاملها، والمحمولة إليه، وبائعها، ومبتاعها، وساقيها، وشاربها، وآكل ثمنها » (21) . فقد لعن العاصر وهو إنما يعصر عنباً يصير عصيراً، والعصير حلال : يمكن أن يتخذخلاً ودبساً وغير ذلك) (22).
وسواء كان ذلك وقت الحرب بين المسلمين والكفار أو وقت الموادعة والهدنة بينهم .
قال السرخسي : ولا يمنع التجار من حمل التجارات إليهم إلا الكراع (23) والسلاح والحديد ؛ لأنهم أهل حرب، وإن كانوا موادعين ؛ ألا ترى أنهم بعد مضي المدة يعودون حرباً للمسلمين، ولا يمنع التجار من دخول دار الحرب بالتجارات ما خلا الكراع والسلاح ؛ فإنهم يتقوون بذلك على قتال المسلمين فيمنعون من حمله إليهم، وكذلك الحديد ؛ فإنه أصل السلاح. قال الله تعالى: "وَأَنزَلْنَا الحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ" [الحديد: 25] (24).
وهذه المسألة من معمولات سد الذرائع المفضية إلى المفاسد، ومن أمثلة قاعدة الوسائل لها أحكام المقاصد.
الثانية : وسائل التعامل مع الكفار .
شراء بضائع الكفار يتخذ في هذا العصر صوراً متعددة، وله وسائل لا بد من معرفتها ليتم الحكم عليها من خلالها . ولعله يمكن حصرها في الصور الآتية :
1 - الشراء المباشر من الكافر الذي يبيع أو يصنع أو ينتج السلعة، وهذا آكد ما يشمله حديثنا .
2 - الشراء من خلال وسيط (سمسار) ؛ حيث يكون لديه علم بعدد من المصانع والشركات المنتجة، فيقوم بالتنسيق والتقريب بين المشتري وبين المنتج أو المصنع، ويتولى كتابة وثيقة البيع بين الطرفين، وكل ذلك مقابل نسبة يستلمها الوسيط من الشركة أو المصنع المصدّر (25).
وهنا تكون الأموال مدفوعة للبائع الأصلي فهو كالشراء المباشر في الاستفادة من الشراء والتضرر بالمقاطعة.
3 - الشراء من ( وكيل بالعمولة ) إذ يستورد البضائع باسمه ولحسابه هو، وتجري معاملاته باسمه أو بعنوان شركة ما، ثم ينقل الحقوق والالتزامات إلى موكله تنفيذاً لعقد الوكالة المبرم بينهما مقابل أجرة تسمى: (عمولة) (26).(/2)
والفرق بينه وبين الذي قبله أن هذا يستورد البضائع ويبقيها لديه معروضة ليبيعها باسمه هو، ويتم التعاقد معه أو مع شركته، ثم بعد ذلك يسلم للمنتج أو المصنع قيمة المبيع ويطالبه بالالتزامات . أما الأول فإنه وسيط فقط يربط بين الطرفين، ثم تنتهي مهمته . وفي هذه الحالة تكون الأموال أيضاً مدفوعة للبائع الأصلي ؛ فهو كالشراء المباشر في الاستفادة من الشراء والتضرر بالمقاطعة، إلا أن المقاطعة تضر بهذا الوكيل أيضاً لتحمله تخزين وعرض البضائع .
4 - شراء بضائع أصلها من صنع الكفار، وجرى تصنيعها داخل بلاد المسلمين على يد شركة مسلمة تأخذ امتياز تصنيعها من الشركة الأصلية مقابل مبلغ مالي يدفعه صاحب امتياز التصنيع للشركة الأصلية بشكل دوريّ . وهنا يستفيد أولاً من البيع : الشركة المسلمة وتتضرر هي أولاً من المقاطعة . أما الكافر فيكون ضرره غير مباشر من خلال ما قد يعرض لصاحب امتياز التصنيع من الاستغناء عن حق الامتياز المذكور فيتوقف عن مواصلة دفع ما يقابله.
5 - الشراء من مسلم اشترى بضائع صنعها الكفار أو أنتجوها ؛ فهنا المتضرر من المقاطعة أولاً المسلم الذي اشترى البضاعة . مع أن المقاطعة تضر الكافر إذا امتنع التاجر المسلم من شراء منتجاته مرة أخرى لعدم رواجها.
الثالثة : أنواع بضائع الكفار .
البضائع عموماً سواء باعها كفار أو مسلمون، إما أن تكون ضرورية أو حاجيّة أو تحسينية (27).
ولا شك أن بينها فرقاً كبيراً ؛ فالشرع جاء بالتفريق بين الضروري وغيره ، وأباح المحرم عند الاضطرار قال تعالى : "وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ" [الأنعام: 119].
وقعّد أهل العلم قاعدة: "لا محرم مع اضطرار" (28). مستندين لنصوص متوافرة من أدلة الشرع تقررها . ومعلوم أن الحاجة تنزل منزلة الضرورة إذا كانت عامّة (29).
وعليه فإننا لا بد أن نفرّق بين بضاعة ضروريّة لا غنى عنها كالدقيق مثلا، أو حاجيّة عامة كبعض المراكب وبين التحسينيات من أنواع الألبسة والكماليات ونحوها .
ومن شواهد ذلك في موضوعنا ما جاء عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنّه كان يأخذ من النبط من القِطْنيّة (وهي الحبوب التي تطبخ) العُشْر، ومن الحنطة والزيت نصف العشر ؛ ليكثر الحَمْل إلى المدينة (30). فقد خفف عمر رضي الله عنه ما يأخذه منهم للمصلحة في ذلك ؛ فإن في الحنطة معاش الناس .
ومن هذا نقول : إنّه يخفف في أمور الضرورات والحاجيات العامة ويراعى فيها ما لا يراعى في غيرها .
قال الشاطبي: "الأمور الضرورية إذا اكتنفها من خارج أمور لا تُرضى شرعاً فإن الإقدام على جلب المصالح صحيح على شرط التحفظ بحسب الاستطاعة من غير حرج" (31) .
الرابعة : سد الذرائع .
سد الذرائع من الأدلة المستعملة عند أهل العلم . والمراد بها منع الجائز لئلا يتوصّل به إلى الممنوع (32).
ونتيجة إعمالها : تحريم أمرٍ مباح لما يفضي إليه من مفسدة .
وأداء الوسيلة إلى المفسدة : إما أن يكون قطعياً أو ظنيًّا أو نادراً .
فإن كان قطعياً: فقد اتفق العلماء على سدّه والمنع منه سواء سُمّي سَدَّ ذريعة أو لا (33).
وإن كان نادراً فقد اتفق العلماء أيضاً على عدم المنع منه، وأنّه على أصل المشروعيّة .
وأما إن كان ظنياً فقد اختلف أهل العلم فيه هل يمنع، أو لا ؟ (34).
وقد أطال العلامة ابن القيم في الاستدلال على صحة قاعدة سد الذرائع، واستشهد عليها بتسعة وتسعين دليلاً (35).
ولعل الصحيح في هذا القسم الأخير أنه يُنظر فيه إلى المصلحة والمفسدة .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : "ثم هذه الذرائع إذا كانت تفضي إلى المحرم غالباً فإن الشرع يحرمها مطلقاً . وكذلك إذا كانت تفضي وقد لا تُفضي، لكن الطبع مقتض لإفضائها. وأما إن كانت إنما تفضي أحياناً ؛ فإن لم يكن فيها مصلحة راجحة على هذا الإفضاء القليل وإلا حرمها أيضاً" (36) . وسيأتي لهذا مزيد بيان .
والمقصود أن الشرع راعى الوسائل والطرق التي يسلك منها إلى الشيء وتتوقف الأحكام عليها؛ فطرق الحرام والمكروهات تابعة لها.
وإذا نهى الشرع عن شيء فنهيه يستلزم النهي عن كل ما يفضي إليه ويوصل إليه (37).
ولذا فقد نبه أهل العلم على أنه يجب على المفتي والمجتهد أن لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل من مصلحة أو مفسدة تنشأ عنه . فلا يأذن بفعل ولو كان فيه جلب مصلحة إلا أن ينظر في مآله لئلا يكون استجلاب المصلحة فيه مؤدياً إلى مفسدة تساوي المصلحة أو تزيد عليها (38).
قال ابن كثير: "الشريعة شاهدة بأن كل حرام فالوسيلة إليه مثله؛ لأن ما أفضى إلى الحرام حرام، كما أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب" (39).
الخامسة : قاعدة المصالح والمفاسد .(/3)
لا شك "أن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، وأنها ترجح خير الخيرين وتحصّل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما ، وتدفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما" (40).
ونظرنا في المصالح والمفاسد ينحصر في ملحظين :
الأول : أن الفعل إذا كان يفضي إلى مفسدة وليس فيه مصلحة راجحة، فإنه يُنْهى عنه؛ وذلك لأن الشريعة مبنيّة على الاحتياط والأخذ بالحزم، والتحرز مما عسى أن يكون طريقاً إلى مفسدة ؛ ولذا سدّت ذرائع مفضية إلى الإضرار والفساد في شواهد كثيرة من الكتاب والسنة (41) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : « الفعل إذا كان يفضي إلى مفسدة وليس فيه مصلحة راجحة يُنْهى عنه كما نُهي عن الصلاة في الأوقات الثلاثة لما في ذلك من المفسدة الراجحة وهو التشبه بالمشركين الذي يفضي إلى الشرك، وليس في قصد الصلاة في تلك الأوقات مصلحة راجحة لإمكان التطوّع في غير ذلك من الأوقات .
ولهذا تنازع العلماء في ذوات الأسباب ؛ فسوّغها كثير منهم في هذه الأوقات ، وهو أظهر قولي العلماء ؛ لأن النهي إذا كان لسدّ الذريعة أبيح للمصلحة الراجحة وفعل ذوات الأسباب يحتاج إليه في هذه الأوقات ويفوت إذا لم يفعل فيها، فتفوت مصلحتها، فأبيحت لما فيها من المصلحة الراجحة بخلاف ما لا سبب له ؛ فإنّه يمكن فعله في غير هذا الوقت، فلا تفوت بالنهي عنه مصلحة راجحة، وفيه مفسدة توجب النهي عنه" (42).
وفي المقابل فقد تكون وسيلة المحرم غير محرمة إذا أفضت إلى مصلحة راجحة كالتوسل إلى فداء الأسارى بدفع المال للكفار الذي هو محرم عليهم الانتفاع به، وكدفع مال لرجل يأكله حراماً حتى لا يقع القتل بينه وبين صاحب المال . فهذه صور جائزة لرجحان ما يحصل من المصلحة على هذه المفسدة (43).
الثاني : أن المصالح والمفاسد يكفي فيها الظن الغالب ؛ وذلك أن المصالح والمفاسد لا يعرف مقدارها إلا بالتقريب ؛ أما تحديدها بدقة فغير ممكن غالباً .
قال العز بن عبد السلام : "أكثر المصالح والمفاسد لا وقوف على مقاديرها وتحديدها، وإنما تُعرف تقريباً لعزّة الوقوف على تحديدها" (44) . ولذا يقوم الظن الغالب فيها مقام العلم.
قال الشاطبي : « وإذا كان الضرر والمفسدة تلحق ظنًّا، فهل يجري الظن مجرى العلم .. أم لا .. ؟ اعتبار الظن هو الأرجح لأمور :
أحدها : أن الظن في أبواب العمليات جار مجرى العلم ؛ فالظاهر جريانه هنا .
والثاني : أن المنصوص عليه من سد الذرائع داخل في هذا القسم كقوله تعالى: "وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ" [الأنعام: 108]. فإنهم قالوا : لتكفن عن سب آلهتنا أو لنسبن إلهك ..
والثالث : أنه داخل في التعاون على الإثم والعدوان المنهي عنه" (45).
السادسة : الإضرار الاقتصادي طريق من طرق الجهاد المشروع .
وقد استعمل النبي صلى الله عليه وسلم التضييق والضغط الاقتصادي بتلك السرايا والبعوث التي سيّرها لمهاجمة قوافل قريش التجارية ؛ فقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن أبي وقاص فقال : "اخرج يا سعد حتى تبلغ الخرّار ؛ فإن عيراً لقريش ستمر بك" (46).
وخرج النبي صلى الله عليه وسلم في مائتين من أصحابه يعترض عيراً لقريش في غزوة بواط (47). كما خرج لغزوة العشيرة لاعتراض قافلة لقريش في طريقها إلى الشام، ولما عادت خرج يريدها (48). وغزوة بدر إنما كان سببها طلبه عير أبي سفيان (49).
وعن ابن عباس - رضي الله عنه - قال : لما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي سفيان مقبلاً من الشام ندب المسلمين إليهم، وقال : "هذه عير قريش فيها أموالهم ؛ فاخرجوا إليها لعل الله ينفلكموها" فانتدب الناس (50). إلى غير ذلك من شواهد كثيرة، وكما استعمل النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأسلوب فقد استعمله أبو بصير لما خرج إلى سيف البحر ولحق به أبو جندل بعد صلح الحديبية، واجتمع إليهما عصابة ممن أسلم من قريش لا يسمعون بعير خرجت لقريش إلى الشام إلا اعترضوا لها، فقتلوهم وأخذوا أموالهم (51). بل وأبلغ من ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا على قريش أن تضيق عليهم معيشتهم .
عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دعا قريشاً كذبوه واستعصوا عليه، فقال : "اللهم أعني عليهم بسبعٍ كسبع يوسف" فأصابتهم سنة حصدت كل شيء حتى كانوا يأكلون الميتة، وكان يقوم أحدهم فكان يرى بينه وبين السماء مثل الدخان من الجَهْد والجوع، فأتاه أبو سفيان فقال : أيْ محمد ! إن قومك هلكوا ؛ فادع الله أن يكشف عنهم (52).
السابعة : ارتباط المقاطعة بإذن ولي الأمر .
لا شك أن من الأصول المقررة عند أهل السنة والجماعة وجوب السمع والطاعة لولاة أمور المسلمين في المعروف.
وأعمال الرعيّة منها ما يشترط لفعله إذن الإمام، ومنها ما لا يشترط له إذنه .(/4)
والمقاطعة بشكلها المعاصر مما لا يظهر لي ارتباطه بإذن ولي الأمر ؛ بدليل حديث ثمامة الآتي نصّه : عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : "بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خيلاً قِبَلَ نجد، فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثمامة بن أُثال سيّد أهل اليمامة، فربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج إليه رسول اللهصلى الله عليه وسلم فقال : ماذا عندك يا ثمامة ؟ فقال عندي خير : إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت.
فتركه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان بعد الغد فقال : ما عندك يا ثمامة ؟ فأعاد عليه مقالته ؛ حتى كان من الغد أعاد عليه مقالته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أطلقوا ثمامة . فانطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل، ثم دخل المسجد، فقال : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله . يا محمد ! والله ما كان على الأرض وجه أبغض إليَّ من وجهك ؛ فقد أصبح وجهك أحب الوجوه كلها إليَّ، والله ما كان من دين أبغضَ إليَّ من دينك، فأصبح دينك أحب الدين كله إليّ، وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة ؛ فماذا ترى ؟ فبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره أن يعتمر، فلما قدم مكة قال له قائل : أصبوت ؟ فقال : لا ، ولكني أسلمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا والله لا يأتيكم من اليمامة حبّة حنطة حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم" (53). زاد ابن هشام : "فانصرف إلى بلاده ومنع الحمل إلى مكة حتى جهدت قريش، فكتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه بأرحامهم أن يكتب إلى ثمامة يُخَلّي إليهم حمل الطعام ففعل" (54).
والشاهد من الحديث أن ثمامة منع الحمل إلى مكة وهو نوع من المقاطعة الاقتصادية لهم مع أنه لم يتقدمه إذن نبوي بذلك، وإنما قاله حميّة لله ورسوله لما قالوا له : صبوت، كما هو ظاهر الحديث .
* ثالثاً : حكم المقاطعة الاقتصادية :
لا شك أن التعامل التجاري والاقتصادي الحاصل في هذا الزمن يباين التعاملات التجارية في الأزمان السابقة ؛ فهو الآن أوسع وأشمل وأيسر، ولا شك أن ارتباط الاقتصاد بالسياسة وتأثيره على التوجهات السياسية والنزاعات الحزبيّة صار أكبر وأقوى .
ولذا فإن بحث هذه المسألة بالتوسع في النظر فيها هو من خصائص هذا العصر .
والذي يظهر أن حكم المقاطعة يختلف باختلاف الأحوال، وإليك التفصيل :
الأول : إذا أمر بها الإمام :
إذا أمر الإمام بمقاطعة سلعة معينة أو بضائع دولة من دول الكفر فإنه يجب على رعيته امتثال أمره ؛ قال تعالى:"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ" [النساء:59].
وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبدٌ حبشي كأن رأسه زبيبة " (55).
وليس للإمام أن يأمر بذلك إلا أن يرى في ذلك مصلحة عامّة لا تقابلها مفسدة أو ضرر أرجح منه ؛ وذلك أن الأصل في تصرّفات الولاة النافذة على الرعية الملزمة لها في حقوقها العامة والخاصَّة أن تبنى على مصلحة الجماعة، وأن تهدف إلى خيرها . وتصرّف الولاة على خلاف هذه المصلحة غير جائز (56).
ولذا قعَّد أهل العلم قاعدة : تصرّف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة (57).
ولعلَّ في قصة كعب بن مالك - رضي الله عنه - إذ نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامه وصاحبيه (58) شاهداً لأمر الإمام بالمقاطعة .
الثاني : إذا لم يأمر بها الإمام :
إذا لم يأمر الإمام بالمقاطعة فلا يخلو الحال من أمرين :
1 - أن يعلم المسلم أنَّ قيمة ما يشتريه يعين الكفار على قتل المسلمين أو إقامة الكفر . فهنا يحرم عليه أن يشتري منهم ؛ وذلك لأن الشراء منهم والحال ماذكر مشمول بالنهي عن التعاون على الإثم والعدوان، ومشمول بقاعدة سد الذرائع المفضية إلى الحرام . وإذا علم المسلم أن أهل العلم حرَّموا بيع العنب لمن يتخذه خمراً، وبيع السلاح لأهل الحرب أو وقت الفتنة خشية استعماله لقتل المسلمين ، وحَرَّموا إقراض من يغلب على الظن أنه يصرف ماله في محرم (59)؛ فكيف إذا كان عين الثمن الذي يشتري به يُقتل به مسلم أو يعان به على كفر ؟!
سئل ابن القاسم عن النصراني يوصي بشيء يباع من ملكه للكنيسة هل يجوز لمسلم شراؤه فقال : لا يحل ذلك له لأنه تعظيم لشعائرهم وشرائعهم . وسئل في أرض لكنيسة يبيع الأسقف منها شيئاً في إصلاحها ؟ فقال : لا يجوز للمسلمين أن يشتروها من وجه العون على تعظيم الكنيسة (60).
وسئل الإمام أحمد عن نصارى وقفوا ضيعة للبيعة أيستأجرها الرجل المسلم منهم ؟ قال: لا يأخذها بشيء لا يعينهم على ما هم فيه (61).(/5)
وقال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن (62): "الكافر الحربي لا يُمَكَّن مما يعينه على حرب أهل الإسلام ولو بالميرة والمال، ونحوه، والدواب والرواحل، حتى قال بعضهم بتحريق ما لا يتمكن المسلمون من نقله في دار الحرب من أثاثهم وأمتعتهم، ومنعهم من الانتفاع به" (63).
وعلى كلٍ فالنهي عن التعاون عن الإثم والعدوان يشمل هذه الصورة وغيرها وهي آية محكمة .
هذا حكم ما لو علم ذلك يقيناً سواء باطلاع مباشر، أو خبر موثوق به، أو غير ذلك . وغلبة الظن تجري مجرى العلم كما سبق .
2 - أن لا يتيقن أن عين ما يشتري به منهم يستعان به على حرام من قتال المسلمين أو إقامة الكفر ؛ فهذا باق على الأصل العام وهو جواز البيع والشراء وسائر المعاملات .
فإن الأصل في البيوع الإباحة سواء منها ما كان مع المسلمين أو الكفار . كما سبق . وحيث لم يوجد ناقل عن هذا الأصل فلا يتغير الحكم ولكن يرتبط به الحالة الآتية :
3 - أن لا يتيقن أن عين ما يشتري به منهم يستعان به على حرام ؛ لكن في مقاطعتهم مصلحة، ولعل هذه الحالة هي أكثر ما يكون الحديث عنه .
ولبيان حكم هذه الحالة فإني أحتاج لتقسيمها إلى قسمين :
أ - أن يتم الشراء من الكافر مباشرة أو من خلال سمسار أو وكيل بعمولة .
وإذا أردت الوصول للحكم الشرعي في هذا القسم فإني بحاجة لتقرير مسلَّمات شرعيّة توصلنا للنتيجة : فالأصل جواز التعامل مع الكفار ولو كانوا من أهل الحرب، وأن وسائل الحرام حرام . ولا يحكم على فعلٍ حتى يُنْظر في مآله وعاقبته .
ولا يباح مما يفضي إلى مفسدة إلا ما كانت مصلحته أرجح . ولا يحرم مما يفضي إلى مصلحة إلا ما كانت مفسدته أرجح . ولا مانع من استعمال الإضرار المالي جهاداً لأعداء الله ولو لم يأذن به الإمام .
وعليه فإن كان في المقاطعة والحال ما ذكر مصلحة فإنه يُنْدب إليها على أنه يراعى مدى الحاجة للبضائع كما سبق .
ب - أن يتم الشراء من مسلم اشترى البضاعة أو صاحب امتياز . ولبيان الحكم فإني مع تذكيري بما سبق من مسلَّمات فإني أذكر بأن المنتج الكافر يأخذ مقابل منحه امتياز التصنيع، وهو يأخذه سواء قلَّ البيع أو كثر، فالمقاطعة إضرار به وبعمالته وبالمساهمين معه في رأس ماله، وكذا الحال بالنسبة لمن اشترى بضاعة من الكافر وصارت من ماله فالمقاطعة إضرار به .
ولذا فإن القول بندب المقاطعة فيه ثِقَل لوجود المفسدة والضرر الكبيرين، ولا يقال فيها إن المفسدة خاصة والمصلحة عامة ؛ وذلك لأن المسلم سيكون هو المتضرر، ولأنَّ نفع المقاطعة مظنون وتضرر الشركة مقطوع به، والمقطوع يقدم على المظنون .
وعلى كلٍّ فاعتراض المفسدة قد يمنع القول بندب المقاطعة في هذا القسم ، والله تعالى أعلم .
وأنبّه هنا إلى أن من قاطع البضائع والسلع المنتجة من دول الكفار بنيّة حسنة كتقديم البديل الإسلامي أو زيادة في بغض الكفار فإنه إن شاء الله ممدوح على فعله مثاب .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : « المباح بالنيّة الحسنة يكون خيراً، وبالنيّة السّيئة يكون شراً، ولا يكون فعل اختياري إلا بإرادة .. فإذا فعل شيئاً من المباحات فلا بد له من غاية ينتهي إليها قصده، وكل مقصود إما أن يقصد لنفسه وإما أن يقصد لغيره فإن كان منتهى مقصوده ومراده عبادة الله وحده لا شريك له وهو إلهه الذي يعبده لا يعبد شيئاً سواه وهو أحب إليه من كل ما سواه ؛ فإن إرادته تنتهي إلى إرادته وجه الله، فيثاب على مباحاته التي يقصد الاستعانة بها على الطاعة، كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "نفقة الرجل على أهلهيحتسبها صدقة (64) " (65).
وبعد ! فإن جميع ما سبق إنما هو نظر فقهي مجرد يحتاج تنزيله على وقائعه إلى نظرين : فقهي يحقق المناط، وواقعي يعرف الحال .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : "الواجب أن يعتبر في أمور الجهاد برأي أهل الدين الصحيح الذين لهم خبرة بما عليه أهل الدنيا دون أهل الدنيا الذين يغلب عليهم النظر في ظاهر الدين ؛ فلا يؤخذ رأيهم، ولا برأي أهل الدين الذين لا خبرة لهم في الدنيا" (66) .
اللهم ألهمنا رشدنا، وقنا شر أنفسنا، وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب .
________________________________________
(1) تضمين من (الثقة بالله أولاً)، للدكتور عبد السلام الهراس، ص 3 .
(2) تذكير النفس بحديث القدس (3 /514) .
(3) انظر : مجلة القدس، العدد، 24، ص 18 .
(4) مجموع الفتاوى، (18/295) .
(5) لسان العرب، (8 /276) ؛ القاموس المحيط، ص 971 .
(6) لسان العرب، (8/280) .
(7) لسان العرب، (8/15) ؛ القاموس المحيط، 942 .
(8) لسان العرب، (8/160) : القاموس الفقهي، 180 .
(9) المنجد الأبجدي، 987 .
(10) المعجم الوسيط (2/746) ورمز لها بمحدثة، والمراد أنها لفظ استعمله المحدثون في العصر
الحديث، وشاع في لغة الحياة العامة .
(11) أهل الذمة : هم الكفار الذين يقيمون في دار الإسلام إقامة دائمة بأمانٍ مؤبّد، والعهد هو عقد(/6)
بين المسلمين وأهل الحرب على ترك القتال مدة معلومة، والمعاهدون هم أهل البلد المتعاقد معهم ،
وأهل الحرب هم أهل البلاد التي غلب عليها أحكام الكفر ولم يجر بينهم وبين المسلمين عهد، وأما
المستأمِن فهو الحربي الذي يدخل دار الإسلام بأمانٍ مؤقت لأمرٍ يقتضيه، انظر : الدر النقي، لابن
عبد الهادي (1/290) ؛ المبدع (3/313، 398) ؛ كشاف القناع (3/100) .
(12) انظر : الولاء والبراء في الإسلام، محمد سعيد القحطاني، 356 .
(13) صحيح البخاري، 2216 .
(14) أخرجه البخاري في صحيحه معلقاً مجزوماً به في باب شراء المملوك من الحربي في كتاب
البيوع، وقد وصله أحمد في مسنده (5/443) ؛ وانظر : فتح الباري (4/480) ؛ ومجمع الزوائد (9
/ 335) .
(15) أحمد في مسنده (5 / 137) ؛ الدارمي (2582) ؛ الترمذي (1214) ؛ النسائي (4651) ؛ ابن
ماجه (2439) بإسناد على شرط البخاري، إرواء الغليل (5/231) .
(16) صحيح البخاري (2068) ؛ صحيح مسلم (1603) .
(17) اقتضاء الصراط المستقيم (2/15) .
(18) سنن البيهقي كتاب الجزية، باب ما يؤخذ من الذمي ومن الحربي إذا دخل بلاد الإسلام بأمان ،
برقم 19283 .
(19) فتح الباري (9/280) .
(20) فتح الباري (4/410) .
(21) أحمد (2/71) ؛ البيهقي (8/287) ؛ الحاكم (4/144)، وحسنه الألباني في إرواء الغليل ،
1529 .
(22) مجموع الفتاوى (29/275) .
(23) اسمٌ للخيل .
(24) المبسوط (10/88، 89) وانظر المقدمات لابن رشد (2/154)، نهاية المحتاج (3/390) ،
والمحلى لابن حزم (9/65) ؛ فتح القدير، لابن كمال الهمام (5/461) .
(25) انظر : الوساطة التجارية في المعاملات المالية، الدكتور الأطرم، 484 .
(26) انظر : النظام التجاري بالمملكة السعودية، المادة 18 ؛ معجم المصطلحات القانونية، لخليل
شيبوب، مادة : كمسيون، وكالة .
(27) الضروري هو ما يسبب فواته اختلال نظام الحياة، والحاجي هو ما يسبب فواته الضيق
والحرج على الناس، وأما التحسيني فهو ما يسبب فواته خروج حياة الناس عن العادات الكريمة ،
الموافقات، للشاطبي (2/8، 11) .
(28) الأشباه والنظائر، للسيوطي 93، وابن نجيم 85 .
(29) الأشباه والنظائر، للسيوطي 97، وابن نجيم 91 .
(30) موطأ الإمام مالك، كتاب الزكاة برقم 621 ؛ السنن الكبرى، للبيهقي، كتاب الجزية، باب ما
يؤخذ من الذمي إذا تجر في غير بلده، برقم 19279 ؛ مصنف عبد الرزاق، كتاب أهل الكتاب، باب
: في صدقة أهل الكتاب (6/99)، وانظر في هذه المسألة : المغني (13/235) والقِطْنيّة بكسر القاف
والتشديد واحدة القطاني كالعدس والحمص ونحوهما، انظر : النهاية في غريب الحديث (4/85) .
(31) الموافقات (4/210) .
(32) الموافقات، للشاطبي، (3/257) .
(33) الموافقات (4/200)، وانظر تفصيل ذلك في قواعد الوسائل في الشريعة الإسلامية، لمصطفى
مخدوم، 370 فما بعدها .
(34) إحكام الفصول، للباجي، 690 ؛ شرح الكوكب المنير، للفتوحي (4/434) .
(35) إعلام الموقعين (3/137 - 159) .
(36) الفتاوى الكبرى، (3/257) .
(37) إعلام الموقعين، (3/135) ؛ القواعد والأصول الجامعة، لابن سعدي، ص 14 .
(38) انظر : الموافقات (4/194) .
(39) تفسير القرآن العظيم (3/351) .
(40) تضمين من مجموع الفتاوى (20/48) .
(41) الموافقات (2/364)، ومن الأمثلة التي ذكرها : النهي عن البناء على القبور، وسفر المرأة
بلا محرم، والخلوة بالأجنبية، وتحريم الزينة على المرأة في عدة الوفاة، وميراث القاتل، وغير ذلك.
(42) مجموع الفتاوى (1/164) .
(43) الفروق، للقرافي، (2/62)، الفرق الثامن والخمسون .
(44) القواعد الصغرى، ص 100 .
(45) الموافقات، (2/ 360) .
(46) مغازي الواقدي، (1/11) ؛ السيرة لابن هشام (2/287) ؛ طبقات ابن سعد (2/7) .
(47) السيرة لابن هشام، (2/284) ؛ طبقات ابن سعد (2/908) .
(48) السيرة لابن هشام، (2/284) ؛ طبقات ابن سعد (2/9) .
(49) صحيح مسلم 1901، عن أنس بن مالك رضي الله عنه .
(50) السيرة لابن هشام، (2/284) وصرح فيه ابن إسحاق بالسماع ؛ والبيهقي في الدلائل (3/31)
؛ وذكره الحافظ في فتح الباري (6/334) وسكت عنه .
(51) صحيح البخاري، 7231 .
(52) صحيح البخاري 4823 ؛ صحيح مسلم 2798 .
(53) صحيح البخاري، 4372 ؛ صحيح مسلم، 1764 .
(54) السيرة النبوية، لابن هشام (2/381) معلقاً، وذكره ابن القيم في زاد المعاد (3/277) .
(55) صحيح البخاري، 7142 .
(56) المدخل الفقهي العام، للزرقا (2/1050) .
(57) الأشباه والنظائر، للسيوطي 134 ؛ وابن نجيم، 124 .
(58) صحيح البخاري، 4418 ؛ صحيح مسلم، 2769 .
(59) نهاية التدريب نظم غاية التقريب، 104 .
(60) بواسطة اقتضاء الصراط المستقيم (2/19) .
(61) اقتضاء الصراط المستقيم (2/10) .
(62) هو عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله جميعاً، ولد عام
1225هـ سكن مصر وأخذ عن علمائها وعلماء الدعوة السلفية، له عدة مؤلفات، ممن تلقى عنه(/7)
الشيخ حمد بن عتيق، والشيخ سليمان بن سحمان، توفي سنة 1292هـ .
(63) الدرر السنيّة (8/340) .
(64) صحيح البخاري 5351 ؛ صحيح مسلم 1002 .
(65) مجموع الفتاوى (7/43) .
(66) الاختيارات الفقهية 311 .(/8)
مقاطعة محلات ماركس- سبنسر)
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ... الفهرسة/ الجهاد ومعاملة الكفار/مسائل متفرقة في الجهاد ومعاملة الكفار
التاريخ ... 24/04/1425هـ
السؤال
لله الحمد، فأنا من المقاطعين لمحلات (ماركس وسبنسر) منذ أكثر من 15 سنة تقريباً-؛ لأن هذه المحلات تفتخر بأنها تساهم في تمويل المجهود الحربي الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وعندما أقول لأهلي وصديقاتي بأن هذه المحلات يهودية يقولون الرسول- صلى الله عليه وسلم- كان يشتري منهم، وأن أغلب المحلات الأمريكيية والبريطانية مُلاكها يهود! فأقول لهم: نعم هذا صحيح، ولكن محلات (ماركس وسبنسر) بالذات تفتخر بتبرعاتها لليهود، وللمجهود الحربي الإسرائيلي، لدرجة أن هناك يهوداً معارضون لهذا المحل، ويقومون بمظاهرات؛ لأنهم يتبرعون للصهيونية من هذه المحلات، خاصة في بريطانيا، وأننا في زمن حرب معهم، فلا يجوز الشراء من محلاتهم. فما حكم الشراء من محلات ماركس وسبنسر؟.
الجواب
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
رأيك هو الصواب، فلا يجوز الشراء من المحلات التجارية التي تدعم وتمول اليهود، بل يجب ويتعين مقاطعتها؛ لأن اليهود محاربون للمسلمين في كل مكان، إما حرباً عسكرية سياسية كما في فلسطين ، أو حرباً سياسية واقتصادية على جميع الدول الإسلامية، وقد جاء في الأثر النهي عن بيع السلاح في الفتنة انظر ما رواه البخاري في كتاب: البيوع. باب بيع السلاح في الفتنة وغيرها. ، والمسلمون اليوم لا يصنعون السلاح فضلاً أن يبيعوه للكفار، وإنما المعنى إعانتهم اقتصادياً بتشجيع منتجاتهم، لا سيما إذا وجد المسلم ما يقوم مقامها فيحرم عليه شراؤها – وهذه فتوى كثير من العلماء اليوم في عامة الدول الإسلامية- وإذا كان في الشرع: "الدال على الخير كفاعله" رواه الترمذي (2670) من حديث أنس –رضي الله عنه-، فيكون عكسه كذلك، أي الدال على الشر والمعين عليه كفاعله، وخاصة في هذا العصر الذي تكالبت فيه الأعداء على المسلمين، وأذكركم بحديث رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم"رواه أبو داود (2504)، والنسائي (3069) من حديث أنس –رضي الله عنه-، وأعظم قتال يستطيعه المسلمون مع ضعفهم مقاطعة أعدائهم اقتصادياً، والرد على أقاويلهم وشبهاتهم في جميع وسائل الإعلام. والله أعلم(/1)
مقاطعة محلات (ماركس- سبنسر)
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ... الفهرسة/ الجهاد ومعاملة الكفار/مسائل متفرقة في الجهاد ومعاملة الكفار
التاريخ ... 24/04/1425هـ
السؤال
لله الحمد، فأنا من المقاطعين لمحلات (ماركس وسبنسر) منذ أكثر من 15 سنة تقريباً-؛ لأن هذه المحلات تفتخر بأنها تساهم في تمويل المجهود الحربي الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وعندما أقول لأهلي وصديقاتي بأن هذه المحلات يهودية يقولون الرسول- صلى الله عليه وسلم- كان يشتري منهم، وأن أغلب المحلات الأمريكيية والبريطانية مُلاكها يهود! فأقول لهم: نعم هذا صحيح، ولكن محلات (ماركس وسبنسر) بالذات تفتخر بتبرعاتها لليهود، وللمجهود الحربي الإسرائيلي، لدرجة أن هناك يهوداً معارضون لهذا المحل، ويقومون بمظاهرات؛ لأنهم يتبرعون للصهيونية من هذه المحلات، خاصة في بريطانيا، وأننا في زمن حرب معهم، فلا يجوز الشراء من محلاتهم. فما حكم الشراء من محلات ماركس وسبنسر؟.
الجواب
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
رأيك هو الصواب، فلا يجوز الشراء من المحلات التجارية التي تدعم وتمول اليهود، بل يجب ويتعين مقاطعتها؛ لأن اليهود محاربون للمسلمين في كل مكان، إما حرباً عسكرية سياسية كما في فلسطين ، أو حرباً سياسية واقتصادية على جميع الدول الإسلامية، وقد جاء في الأثر النهي عن بيع السلاح في الفتنة انظر ما رواه البخاري في كتاب: البيوع. باب بيع السلاح في الفتنة وغيرها. ، والمسلمون اليوم لا يصنعون السلاح فضلاً أن يبيعوه للكفار، وإنما المعنى إعانتهم اقتصادياً بتشجيع منتجاتهم، لا سيما إذا وجد المسلم ما يقوم مقامها فيحرم عليه شراؤها – وهذه فتوى كثير من العلماء اليوم في عامة الدول الإسلامية- وإذا كان في الشرع: "الدال على الخير كفاعله" رواه الترمذي (2670) من حديث أنس –رضي الله عنه-، فيكون عكسه كذلك، أي الدال على الشر والمعين عليه كفاعله، وخاصة في هذا العصر الذي تكالبت فيه الأعداء على المسلمين، وأذكركم بحديث رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم"رواه أبو داود (2504)، والنسائي (3069) من حديث أنس –رضي الله عنه-، وأعظم قتال يستطيعه المسلمون مع ضعفهم مقاطعة أعدائهم اقتصادياً، والرد على أقاويلهم وشبهاتهم في جميع وسائل الإعلام. والله أعلم(/1)
مقالات الطنطاوي في الحج
بسم الله الرحمن الرحيم
ملف الحج / الطنطاوي
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد :
فهذه فوائد جميلة ، وإشارات مفيدة كتبها الأديب الأريب علي الطنطاوي رحمه الله ، جمعتها لك أخي القارئ من كتب الشيخ ـ رحمه الله ـ أثناء قراءتي لكتاباته المفيدة ، وفي هذه المرة جمعت لك ما يتعلق بالحج ، فقد أشار إشارات رائعة في هذا الباب أحببت أن أشركك إياها وعسى أن تقضي وقتاً ماتعاً فيها سائلا المولى القدير أن ينفعك بها وأن يجعل عملا خالصا لوجهه الكريم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
الوقفة الكبرى
أمامي بسيط من الأرض كان أمس ( الأربعاء ) صحراء ، ما فيها دار ولا ديّار ، وغداً (الجمعة ) تصير مدينة عامرة فيها شوارعها وبيوتها وسياراتها وكل ما يحتاج إليه ساكنوها ، وساكنوها يزيدون عن مليونين من الناس .
نحن نعرف قصة إنشاء كثير من المدن ، واسط التي بناها الحجاج ، وبغداد المنصور ، وقاهرة المعز ، مدن كثيرة صغيرة كما يولد كل حي ثم نمت وكبرت . ولكن هل عرفتم مدينة تولد في يوم واحد فإذا هي من كبريات المدن ثم تخلو بعد يوم واحد ؟ بلدة قامت في صحراء حيث لا نبع ولا ماء ، وليس فيها حدائق ولا بساتين ، ليس فيها شيء مما في الشام وجاوه وسويسرا من بارع المناظر ، وفاتن المشاهد ، وليس فيها شيء مما في مصر والهند والعراق ،من جليل الآثار ، وليس فيها سوق للتجار يبيعون فيه ويشترون ويربحون . ولا ملاعب للهو ، ولا مقاصف للمتعة ، يؤمها قاصدوها يستمتعون ويمرحون . ولا جامعات ولا نواد للمحاضرات يحضرها طلبة العلم ورواد المعرفة والإطلاع . ليس فيها شيء من ذلك .وعظمتها أنه ليس فيها من ذلك شيء .
لو كانت الوقفة في بلاد الجمال أو المال أو الثقافة أو اللهو والتسلية لاشتغل الحجاج بذلك عن الوصول بقلوبهم إلى الأُنس بالخلوة بالله ، وإلى لذة مناجاته . لذلك كانت الوقفة في أرض خالية ما فيها ما يشغل القلب أو البصر أو العقل ، وكانت بثياب ما فيها من معاني الثياب إلا أنها تستر الجسد ، وتحجب العورة ، فلا أناقة ولا زينة ولا تفاخر ولا تفاوت . وكان القعود فيها على الأرض تحت الشمس أو في خيام ليس فيها معاني البيوت إلا أنها تمنع الشمس ، فلا قصور حولها البساتين الواسعة ، ولها الأبواب الشارعة ، ولأبوابها الأقواس الرائعة ، وعليها الصور البارعة ، لا شيء من ذلك كله . قد اختصرت الدنيا واقتصر منها على هذا الأقل الذي لابد منه ، ولا غنى عنه ، لتشغل من قلب الحاج الحد الأدنى للاهتمام بها ، وينصرف القلب إلى ذكر الله والاستعداد للآخرة . إنكم تعيشون أيامكم كلها للدنيا ، تهتمون بها ، وتجمعون لها وتحرصون عليها ، فاجعلوا هذه الساعات من هذا اليوم للآخرة . فرّغوا قلوبكم لها نصف نهار وأنا أعلم أن الشيطان لم يكن ليدعكم ، والشيطان موكل بالإنسان ، يأتيه من أمام ومن خلف ومن يمين ومن شمال ، ويجري منه مجرى الدم ويوسوس له ويحوم حوله كالعدوّ يحوم حول القلعة ، فإن وجد حراس القلعة ساهرين يرمونه بالرصاص إذا تقدم ، ووجد القلعة محكمة البنيان ، ليس لها منفذ ، وقف بعيداً . فإن وجد غفلة من الحارس ، أو ثغرة في الجدار دخل .
وقلعة الإيمان، حراستها بيقظة القلب ، الدفاع عنها بذكر الله ، وثغرات الشيطان إليها كثيرة ولكن أوسعها اثنتان : الشهوة والغضب . فإذا غلبت على الإنسان الشهوة ، وتملكه الغضب ، فقد أعلن استسلامه للشيطان . فأقبلوا في هذا اليوم على الله فإنه يوم واحد في السنة ولعلكم لا تقفون هذا الموقف مرة ثانية فحاولوا أن لا تضيعوا دقيقة منه إلا في طاعة ودعاء ،فإن لم تدعوا بألسنتكم فاذكروا الله بقلوبكم ، تذكروا ذنوبكم واستغفروا منها ربكم ، فإن لم تفعلوا ذلك ، فلا أقل من أن تعصموا ألسنتكم عن الغيبة والكذب فإنهما حرام كل يوم وحرمتهما في هذا اليوم أشد .
إن الاختلاف يكاد يكون في هذه الدنيا من لوازم الإنسان ، اختلاف في القوميات ، وفي الألسنة وفي المذاهب والألوان ، ونزاع دائم : نزاع على الأموال وعلى اللذة وعلى الجاه ، وعلى السلطان . اختلاف وتنازع في كل مكان وفي كل زمان ، في أقصى الشرق وأقصى الغرب ، من أقدم الأزمان إلى الآن ، لا تجدون مكاناً واحداً يخل من الاختلاف وتسقط فيه حواجز الدم واللسان وتمحي فيه فوارق الغنى والسلطان ، إلا هذا المكان .
ولو كان مثل هذا المشهد لأمة من الأمم الحية التي تقدر أمجادها ، وتحصي مفاخرها ، لنظم فيه مئة ملحمة وألف رواية ، وعشرة آلاف قصيدة ومقطوعة ، ولباهوا به الإنس والجن ، وأين مثل هذا المشهد ؟ .(/1)
أين تجدون مليون شخص أو مليونين يأتون من كل بلد في الدنيا إلى بقعة مقفرة خالية ما فيها ماء ، وليس فيها شجرة خضراء ، فإذا وصلوا قيل لهم : مكانكم ! قفوا لا تدخلوا حتى تخلعوا ثيابكم كلها . وبالثياب يتفاوت الناس ، وبالثياب تتكون شخصياتهم ، ولولا الثياب ما كانت هيبة رجل الدين وسطوة رجل الجيش ، في نظر العامة ، ولا امتاز غني عن فقير ، فإذا خلعوها اختلطت الطبقات كلها حتى صارت طبقة واحدة هي طبقة الحجاج ، لا نقول هنا للأمير : يا سمو الأمير ولا للمدير : يا سعادة المدير ، ولا نخاطب العظيم بخطاب التعظيم ، فما ها هنا أمير ولا مدير ، ولا غني ولا فقير ، ولا كبير ولا صغير ، ما هنا إلا حجاج . فتقول لكل من تراه غداً هنا : يا ( حاج ) ولا يغضب من قولك بل يسر به ويراه أبلغ التكريم.
فأروني موقفاً آخر عرفه البشر من أقدم الزمان إلى الآن يزول معه التفاوت بينهم في الثياب وفي البيوت وفي الألقاب ؟ قد يأتي إلى المشاهد الدولية والمعارض العامة وحفلات المباريات وكثير من المناسبات ، قد يأتي أعداد البشر تعدل أو تزيد على أعداد الحجاج في بعض السنين . ولكنهم يأتون ومعهم دنياهم ، تفرق بينهم ، ثيابهم تفرق بينهم ، مساكنهم : هذا نزل في ( موتيل ) على الطريق ، وذاك في أفخم فندق في المدينة ، وهذا يزاحم ويقف في الصف ليصل إلى ما يبتغي ، وذاك يسبق أو يتأخر ليخلوا له الطريق . وهنا ( في الحج ) نظام عام ، قانون شامل ، كلهم يقفون في موقف محدد ، في وقت محدد ، ويعملون العمل المحدد . جميعهم يقف في عرفات ، ويمر من مزدلفة ، ويطوف ويرمي ، ولا ميزة لأحد على أحد .كانت لقريش ( أي الحمس ) امتيازات جعلوها لأنفسهم ، فلا يقفون خارج الحرم ، ولا يخرجون من مزدلفة ، حتى تشرق الشمس على جبل ثبير ، فجاء الإسلام فقرر إلغاء هذه الامتيازات ، وإزالة هذه الفوارق ، وأصدر قانونه الإلهي ( أمر الله ) ( وأفيضوا من حيث أفاض الناس ) لا ميزة لأحد على أحد ، حتى الرسول صلى الله عليه وسلم حج كما يحج الناس بل حج الناس كما حج ، لما قال : ( خذوا عني مناسككم ) . علمهم أحكام الحج ، وحج معهم أو حجوا معه ، كما علمهم أحكام الصلاة ثم صلى أمامهم . وقال : ( صلوا كما رأيتموني اصلي ) . كان أعظم معلم يعلّم تعليماً نظرياً وتعليماً عملياً .
لو كان يجوز أن يحضر هذا الموقف غير المسلم لاقترحت على الأمم المتحدة أن توفد من يدّعي المساواة ومحاربة العنصرية والتمييز بين الناس ، ليرى هذا المشهد الذي لم تبصر عين الشمس مثيلاً له !.
مشهد متفرد ما رأى أحد ولن يرى مثله من هنا أعلن محمد صلى الله عليه وسلم حقوق الإنسان قبل أن تعلنها الثورة الفرنسية بأكثر من ألف عام .
أعلنها عملاً سبق القول ، وأعلنوها قولاً ما بعده عمل . لما وقف في حجة الوداع في أكبر جمع إسلامي كان على عهده صلى الله عليه وسلم ، فقرر حصانة الدماء والأموال والأعراض وحرمة التعدي عليها ، وان الناس سواء : ربهم واحد وأبوهم واحد ( كلكم لآدم وآدم من تراب ) ، فلا يتكبر متكبر ولا يَستَعلِ مستعل ، فما خلق الله واحداً من التبر وواحداً من الطين ، بل الكل من التراب وإلى التراب ، ثم إلى موقف الحساب ، ثم إلى الثواب أو العقاب ، ألغى شرف النسب والمال والجاه الموروث ، فالكريم هو الكريم بمزاياه بأعماله ، لا بأهله ولا بآله ، ولا بثروته ولا بماله : ( إن أكرمكم عند الله اتقاكم ) .
أرأيتم الضال في الصحراء يمشي وحيداً حائراً قد هده الجوع وبرّح به العطش ، والشمس تتلظى أشعتها ناراً والرمال تتسعر جمراً ، ثم وجد الواحة الخضراء فيها الظل والماء ، وفيها النخيل المحمل بالتمر ، وفيها الحياة وفيها النعيم .؟ . هذا مثال الحج في هذه الأيام التي فسدت فيها الأرض كلها أو جلها وضل أكثر أهلها طريق الفلاح . أرأيتم السجين في الحبس المغلق ، الفاسد الهواء ، الكريه الرائحة ، الذي يخنق من يكون فيه حتى لا يدع له نفساً يطلع أو ينزل ، ثم تفتح له نافذة على الروض المزهر يهب منها النسيم ، رقيقاً ناعشاً ، يحمل معه العطر والزهر .؟.هذا مثال نفحات الحرم في هذه الأيام التي زكمت فيها الأنوف وخنقت القلوب روائح الإلحاد والفساد .(/2)
فيا أيها الواقفون في عرفات : هنيئاً لكم موقفكم إن عدتم منه مغفوراً لكم ، هنيئاً لكم إذا وُفَّقتم إلى قبول حجكم . هذا الذي كنتم تتمنونه قد نلتموه فلا تعودوا منه صفر اليدين ، إنكم في يوم تفتحت فيه أبواب السماء ، في يوم يقبل فيه الدعاء ، فمدوا أيديكم واسألوا ربكم ادعوه تضرعوا إليه ، ولا يقل قائل من الناس : إننا في معركة مع اليهود ، وأنت تريد من أن نكتفي بالدعاء . أنا لا أريد ان تدعوا دعاء الخاملين العاطلين ولا يريد ذلك الإسلام ، بل أريد أن نتمثل أمر الله ، أن نعد ما استطعنا من القوة لأعدائنا ، وان نبذل ما نقدر عليه من جهدنا ، ثم نسأل ربنا النصر على عدونا لأن النصر ليس مقترناً حتماً بكثرة العدد ولا بضخامة العُدد . والمسلمون الأولون الذين خاضوا عشرة آلاف معركة ( إذا استثنينا منهما بضع معارك ) كانوا دائماً أقل من عدوهم عدداً وعُدداً . لقد نصر الله المسلمين ببدر وهم أذلة ، أذلة عند الناس لا أذلة أمام الحق . فالمؤمن لا يذل أبداً . ويوم حنين أعجبتهم كثرتهم فلم يغن عنهم شيئاً . أمرنا الله بأن نعد ما استطعنا من القوة لكن هل نعدها للنصر ؟ لا بل لنرهب بها عدو الله وعدونا ، وما النصر إلا من عند الله ، أنزل الله ملائكته في بدر ، هل أنزلهم للنصر ؟ لا ، وإنما أنزلهم بشرى ، ( وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم ) ، ( وما النصر إلا من عند الله ) . ( وكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله ) .
فالمسلمون إذا نسوا أنهم أمة واحدة وفرقتهم العصبيات الجاهلية وفرقتهم العقائديات وفرقتهم الحزبيات ، فإن شمس عرفات تذكرهم بوحدتهم وتعيدهم إليها ، وكل عمل من أعمال الحج مذكر بالوحدة الإسلامية ، ألا ترون إلى الكيميائي إذ يضع في بوتقته عناصر مختلفة ثم يديرها فتصير عنصراً واحداً ؟ كذلك المسلمون عندما يدورون من حول الكعبة ، المسلمون أمة واحدة . ولكنهم انقسموا حتى صاروا جمعية أمم ، كان لهم دستور واحد هو الكتاب الذي أنزله الله من فوق سبع سموات فصار لكل دولة من دولهم دستور ، كان لهم منهج واحد في الحياة يتبعونه أفراداً وأسراً وجماعات وحكومات فصارت لهم مناهج ، مناهج ما صاغتها أيدينا ولا صنعتها عقولنا ، ولكن ألفنا شركات استيراد ( وتصدير ) فاستوردت القوانين لمحاكمنا ، واستوردت المناهج لمدارسنا ، واستوردت الأزياء لنسائنا ، ولكنها لم تصدر شيئا من فضائلنا إلا ما قبسه العقلاء الأذكياء منهم من مبادىء ديننا الذي دخلوا فيه أفراداً وسيدخلون بإذن الله أفواجاً . وصار منا ، من المسلمين ممن يقول نحن من المسلمين من خدع بالماركسية ، أو بالوجودية ، أو بالفسوق الذي سموه الحرية ، صار منا من يتخذ قبلته البيت الأحمر أو البيت الأبيض أو البيت الأصفر ، مع أن قبلتنا هذا البيت بثوبه الأسود الذي كنتم بالأمس تطوفون به وستعودون الليلة أو صباح الغد لتطوفوا به . إنه في مكة لا في موسكو ولا واشنطن ولا بكين . اجتمعتم هنا ، جمعكم هنا ، جمعكم شرع الله هنا ، لتذكروا أنكم أمة واحدة لا تفرق بينها ألوان جلود أبنائها ، ولا اختلاف ألسنتهم ، ولا نقوش راياتهم ولا حدود على الخريطة لبلادهم ، ولا ( أيديولوجيات ) دخيلة عليهم ، لا ندين بالطاعة إلا لربنا ولنبينا ولمن تبع كتاب ربنا وحكم به وبسنة نبينا وسار عليها .لقد أخذت الأرض من أطرافها فوضعت هنا ، هنا مصر ، وهنا الشام ، وهنا العراق ، والهند المسلمة هنا ، وماليزيا هنا ، وإندونيسيا هنا ، هنا العرب ، وهنا الترك ، وهنا الفرس ، وهنا الأكراد ، وهنا البربر ، وكلهم هنا سواء ، أما ترونهم ؟ لباسهم واحد وهتافهم واحد ، ونظامهم في المشاعر واحد يجتمعون في المكان الواحد ، في الوقت الواحد ويفارقونه في وقت واحد ويعملون فيه العمل الواحد ؟
مسلمون لا يعرفون غير الإسلام ، مسلمون يرفضون كل ما يخالف الإسلام ، لا يخافون في إقامة شعائره إلا الله . مسلمون مهما حملنا في سبيل الإسلام من الأهوال التي تتزلزل منها رواسي الجبال ، من يقدر أن ينزع إسلامنا من نفوسنا ؟.(/3)
لقد لبثت فرنسا في الجزائر قرابة قرن ونصف القرن سخرت عقول أبنائها وأيديهم ، وسلطان حكامها وسلاحهم ، بذلت ما تعجز عن مثله الجبابرة لتخرج المسلمين من عروبتهم ومن دينهم ، فما أن انزاح عن صدر الجزائر ثقل الاستعمار حتى تبين أن الإسلام مكانه لا يزال . والبلاد التي أقاموا دونها سوراً حديدياً واستمدوا من أبالسة الجحيم ، ومن مردة الشياطين ، كل خطة لتكفيرهم بدين محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وحملهم على دين الملعون ماركس اليهودي رسول الشيطان ، سيزول عنها سلطانهم وتعود مسلمة بإذن الله . وهؤلاء الأتراك ما زالوا مسلمين ، مسلمين ما صنع بهم نصف قرن من التكفير شيئاً ، إن الخبز إن خيف عليه العفن أو تسرب إليه ، نشره أهل القرى في الشمس فيذهب عفنه لأن الشمس تقتل جراثيم الأمراض ، فلا تخافوا من جراثيم الشيوعية والوجودية والإباحية والعصبيات الجاهلية ما دامت في الدنيا عرفات وشمس عرفات .
مهما فرقت بين المسلمين الحدود على الأرض ، والرايات فوق المدن ،والألسنة والألوان ، والنحل والمذاهب ، فإنهم إذا داروا من حول الكعبة عادوا إخوة متحابين ، وإن وقفوا في عرفات رجعوا أمة واحدة لا هي أمة العرب ولا أمة الفرس ولا هي أمة المشرق ولا أمة المغرب ،بل أمة محمد ، أمة لا إله إلا الله محمد رسول الله ،هل تستطيع أن تفرق هنا بين مشرقي ومغربي ؟ وعربي وتركي ؟ لباسهم واحد ، وهتافهم واحد ودينهم واحد . تجمعهم كلمة الإسلام فلن تفرقهم كلمات جاءت من عند الشيطان .
إن شمس عرفات التي تقتل جراثيم الأمراض ستقتل جراثيم هذه النحل والملل الجديدة ، سينساها الناس كما نسوا قوماً كانوا أشد وكانوا أجرأ على الله منهم ؟ أين القرامطة الذين وطئوا بخيولهم أرض الحرم ،وقتلوا الطائفين من حول الكعبة ؟ وقلعوا الحجر الأسود وذبحوا الحجاج ذبح النعاج ؟أين القرامطة ؟ إن تسعمائة وتسعة وتسعين من القراء يسألون الآن من هم القرامطة ؟.
بعد ذلك البطش وذلك الجبروت ، صار الناس يسألون من هم القرامطة ؟.
وسيأتي يوم من الأيام ، يسأل فيه السائلون من هم الماركسيون ؟ومن هم
الشيوعيون ؟ فلا يدري أحد منهم إلا العلماء بالنحل والمذاهب . كما يجهل أكثر الناس من هم القرامطة ؟ لقد ضربت صخرة الإسلام موجات إثر موجات ، وكانت كل موجة في ساعتها مثل الجبل ،فارتدت الأمواج وابتعد البحر ،وبقيت صخرة الإسلام قائمة ،لأن الله هو الذي تعهد بحفظه ، وما تعهد الله بحفظه لا يستطيع أحد أن يعتدي عليه.(/4)
قام إبراهيم يؤذن بالحج يدعو الناس إليه فلبى منهم من لبى ،ثم قام محمد عليه الصلاة والسلام يجدد دعوة إبراهيم فلباه من وفقه الله إلى الإيمان ،ووقفت قريش تمنع الناس أن يلبوا دعوة محمد ،حالت بينها وبين الناس ،أرادت أن تحبسها في الوادي بين هذين الجبلين ،فأين اليوم قريش لتسمع هذه الملايين تنادي تهتف كلها لبيك اللهم لبيك يلبون دعوة الله التي بلغتهم على لسان محمد عليه الصلاة والسلام لبيك اللهم لبيك هذا هتافنا في حجنا :عند المواقيت ،وعند حدود دولة الحرم ننزع ثيابنا عن أجسادنا ،ونخلع ما لا يرضى عنا ربنا ، ونستجيب لرب العالمين ونقول :لبيك ،وعند أنصاب الحرم ،الحرم دار السلام إن عمت الأرض الحرب ،الحرم دار الأمان إن شمل الدنيا الخوف ،الحرم حيث كل حي آمن ،الناس آمنون ، والحيوان آمن ، والنبات آمن ، ليس هنا حرب ولا قتال ،الأشجار هنا لا تقتطع ،الحيوان هنا لا يصاد. الناس هنا آمنون لا يعتدي أحد على أحد ، عند أنصاب الحرم نقول : ( لبيك اللهم لبيك ) ،لكن لا تقولوها بألسنتكم وقلوبكم غافلة عنها ،تصوروا ما أمر الله به فاعزموا على امتثال أمره وقولوا لبيك ، تصوروا ما نهى الله عنه فاعقدوا العزم على تركه وقولوا لبيك ،ياربي أمرتني بالصلاة لبيك سأصلي كما أمرتني ،أمرتني بالزكاة لبيك سأزكي كما أمرتني ،أمرتني بالجهاد لإعلاء كلمتك لا لمقصد آخر ، لبيك سأجاهد بنفسي أو بمالي أو بلساني أو بقلمي لإعلاء كلمتك لا لمقصد آخر . نهيتني عن كشف عورات نسائي ، امرأتي وبناتي ،لبيك لن أسمح مطلقا بعد اليوم لامرأتي ولا لبناتي بكشف عورة مهما كانت الدوافع ، نهيتني عن الزنا وعن الربا لبيك اللهم لبيك سأدع ما نهيتي عنه .... بذلك وحده تكونون قد لبيتم حقا ،وبذلك تكونون قد حججتم ، وبذلك تعودون من الحج كأنكم ولدتم ولادة جديدة ،لتعيشوا بمنهج الإسلام لا بمنهج أعداء الإسلام ، قولوا لبيك ربنا ،أمرتنا فأطعنا ،ونهيتنا فاجتنبنا، هذا كلام ربكم في مصاحفكم يقول لكم : ( جاهدوا في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ) ، فقولوا : لبيك ،وجاهدوا حتى تنقذوا مسرى نبيكم ،حتى تنقذوا كل بلد مسلم يحتله ويحكمه كفار . هذا صوت محمد يرن في أسماعكم يحثكم على امتثال أمر ربكم فقولوا :لبيك ،يدعوكم لتنصروا الله حتى ينصركم فقولوا: لبيك ،لبيك لانشكو إلا إليك ،لبيك لا نرجو الخير إلا من يديك ،لبيك توكلنا عليك ،لبيك ربنا وتعاليت ،لبيك لك الحمد ،لبيك منك النعم ،لبيك يا واحد ياأحد يافرد ياصمد ،لا نعبد غيرك ،ولا نسأل سواك :
لبيك والثقلان والدنيا تلبي .
لبيك رب العالمين وأنت ياالله ربي .
لبيك صوت محمد أبداً بآذاني وقلبي .
يامسلمون وأين أنتم من هدى الهادي محمد.
عودوا إلى النهج القويم فإن هذا العود أحمد .
عودوا يعد مجد الجدود ويوم بدر يتجدد.
وتروا صلاح الدين عاد ويوم حطين الممجد.
إن يختلف لساننا أو تختلف ألواننا.
أو تبتعد بلداننا فحسبنا إسلامنا.
هذا يوم الدعاء : ادعوا لأنفسكم ،ادعوا لأولادكم وأهليكم ،ادعوا لأمتكم أن يردها الله إلى دينها ليرد عليها عزها و مجدها ، ادعوا فاليوم يوم الدعاء ولكن لا تدعوا بالنصر ثم تذهبوا فتناموا ، فالله لا ينصر من ينام ، ولكن ينصر من ينصر الله ، ادعوا بأن يغير الله ما نحن فيه من الانقسام والانحراف والمجاهرة بالمعاصي والهزيمة والضياع ، ولكن اعزموا مع ذلك أن تغيروا ما بأنفسكم ليغير الله ما بكم فإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ، كل واحد منكم يدعو وحده ويلبي وحده ، إن الذي سمعتموه وقرأتموه من أعمال الحج يشبه معاملات القبول في الجامعة ، من يريد أن يدخل الجامعة يعد أوراقه ويحضر امتحان المقابلة ويستكمل شروطه ،لكن إذا جاء يوم الامتحان لن ينجح بهذا ،بل ينجح بما يودعه ورقته التي ستكون سراً بينه وبين اللجنة الفاحصة ، والحج عبادة جماعية وعبادة فردية ، وكذلك الإسلام كله دين للفرد ودين للجماعة ، فالحضور في عرفة وتحديد وقت الحضور وتحديد المكان هذا مثل شروط القبول في الجامعة ،أما النجاح فيتوقف على ربط قلوبكم بالله ،كل واحد منكم يربط هذا اليوم قلبه بربه يخليه من شؤون دنياه . لا يفكر بمن حوله ،ولا يفكر بما حوله ، ولكن يقول :لبيك ،ويتوجه إلى الله بقلبه وحده فالعبرة بما في القلوب ،ربنا يوم القيامة لا يسألنا ماذا عملتم فقط ، بل يسألنا : لماذا عملتم ؟ ربنا يوم القيامة يبتلي سرائرنا : (يوم تبلى السرائر) .
فيا أيها الحجاج فرغوا قلوبكم من الدنيا ولبوا . قولوا : ( لبيك) ، تلبي معكم بطاح عرفات وجبال مكة ، وتلبي معكم أرواح المسلمين الذين ذهبوا للقاء ربهم ، وتلبي معكم ذراريكم وهي في عالم الغيب ، فيأتي منها إن شاء الله جيل يمحو عنا أوضار الهزيمة ، يمحو عنا آثار الانقسام ، يأتي جيل من أصلابنا يكون خيراً منا ، يسترد من أرضنا ما أضعنا ، ويكمل من بنائنا ما هدمنا أو نقصنا .(/5)
إن السيارة قد تبلى وتصدأ فتصير كالجسد الميت ولا أمل يرتجى من ميت، وقد تكون جديدة سالمة ، ولكنها تقف لأن الوقود قد نفد من خزانها أو أن المدخرة (البطارية) قد فرغت من كهربائها ، وإذن نملأ الخزانات بالوقود ونشحن (البطارية) بالكهرباء وتمشي السيارة .
والمسلمون اليوم مثل السيارة المصفحة القوية التي تمشي على الوعر ، وتقحم الصخر، ولكن سبب وقوفها نفاد كهربائها ، ومن هنا يا أيها الإخوان ، من وقفة عرفات ، تشحنون بطاريات قلوبكم بكهرباء الإيمان ، وتعودون بها إلى بلادكم فيسري التيار منها إلى قلوب إخوانكم . الكهرباء تضئ المصابيح، وتدير المحركات ، فأضيئوا بكهرباء الإيمان في قلوبكم طريق النصر لإخوانكم ، وأديروا بها محركات عزائمهم حتى تعود إليهم حماستهم ، وتتحقق انطلاقتهم ، ولا تخشوا يومئذٍ من البشر أحداً ، فو الله ثم الله لا الصِهيَونيون ولا الشيوعيون ولا الوثنيون ولا من يمد هؤلاء وأولئك يستطيعون أن يعترضون سبيلكم إذا أنتم انطلقتم مؤمنين معتمدين على ربكم ، صادقين في جهادكم . هل تستطيع الأسلاك الشائكة من الحديد والأسوار القائمة من الحجر أن ترد الصاروخ إذا انطلق ؟
إن المسلمين إذا استيقظ في قلوبهم إيمانهم ، وعادت إليهم صلتهم بربهم ، وثقتهم بأنفسهم، سيكونون أقوى من هذا الصاروخ ، وإن كانت الصواريخ تنطلق للإفساد والتدمير ، فهم سينطلقون إن شاء الله للإصلاح والتعمير ، وهذا ما يخشاه عدوكم ، إنهم لا يخشون شيئاًً إلا أن تتنبهوا من غفلتكم وترجعوا إلى وحدتكم وأن يستيقظ في قلوبكم إيمانكم ، إنهم والله لا يخافون عَددكم ولا عُددكم ، ولكن يخافون قرآنكم أن تتدبروه وأن تعملوا به .هذا الذي يخافونه ، هذا سلاحكم . لا أقول أتركوا السلاح ودعوا الإعداد ، لا بل استعدوا .الله قال: ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ).
ومن العلم الذي تستلزمه هذه القوة ، كل هذا واجب على المسلمين ولكن عليهم قبل هذا ، وبعد هذا ،أن يرجعوا إلى ربهم لأن النصر منه، إن أعداءكم يتفقون دائماً عليكم . ولو أنهم اختلفوا في كل شيء ما اختلفوا في حرب دينكم ،يخافون أن تصحوا من المخدر الذي حقنوه في عروقكم وأن تتخلصوا من آثاره في أجسادكم ، لذلك فرقوكم فرقا من القوميات والعصبيات والعقائديات ، ومزقوكم مزقاً بالحزبيات وبالنظريات الغربية عنكم ، ضربوا بعضكم ببعض لا ليكون النصر لبعضهم على بعض ، بل لتضعفوا جميعاً بانقسامكم ، فيكون لهم النصر عليكم كلكم ، فأبطلوا سحرهم وردوا إليهم سهامهم ، وخيبوا في اتفاقكم رجاءهم ، اجتمعوا اليوم بقلوبكم كما تجتمعون في هذا الموقف بأجسادكم ، بأن لا تدعوهم يقسمون جمعكم ويجعلون من منكم بيضاً وسمراً وسوداً . فالإسلام لا ينكر الواقع ولا يقول للعربي إنس َعروبتك ، ولا للتركي دع تركيتك ، ولكن يقول لكل منهم : كن مسلماً أولاً ، ثم كن عربياً أو تركياً أو ما شئت على أن تعلم أن أخوة الإيمان فوق أخوة الجنس واللون واللسان .لا تدعوهم يفرقونكم إلى يمينيين ويساريين ، فالله ما جعل لنا إلا قبلة واحدة نتجه إليها.
فيا أيها الإخوان يا أيها الحجاج في عرفات : اذكروا أخوة الإيمان ، وأنها أقوى من عوامل الفرقة . وهذا الدليل حولكم ، هذا الموقف الذي ليس له نظير ( وفي أنفسكم أفلا تبصرون ) هذه الخلائق التي يزيد عددها على الملونين أو ربما زادت على المليونين ، كيف زالت من بينها كل الفوارق ، ووقفت في هذا المكان الواحد ، بهذا اللباس الواحد ، تهتف بالهتاف الواحد ، تنتسب إلى الدين الواحد ، وتعبد الرب الواحد أفبعد هذا تحتاج الدعوة إلى دليل ؟
****
( التلبية )
هل تظنون أن الصحابة الكرام ، حينما كانوا يلبون ، يلبون بهذه اللهجة الرتيبة المتكررة الإيقاع ؟ أم يلبون من قلوب ملأها الإيمان ، وللإيمان وقدة تبدو حرارتها على اللسان ، فتسري إلى السامع فتهزه كما تسري الكهرباء في جسد من يلمس سلكها فيصير مشحوناً بها ، فمن وضع يده عليه سرى تيارها إليه .
هل تظنون أن الصحابي عندما كان يلبي ، كان ذهنه في النغمات والإيقاع ، يحاذر أن يخرج عليها ، أو أن ينشر عنها ؟ هل سمعتم بأن الصحابة أو التابعين وأن أهل الصدر الأول كانوا يلبون هذه التلبية الجماعية ، يتقدمهم واحد يقول فيعيدون ما قال ، كأنهم الأطفال ، في مدرسة الحضانة ، يتعلمون حروف ألف باء ؟ أم تحسبونهم كانوا يلبون ليسمعهم الناس ؟ كان الواحد منهم يربط بالله قلبه ، ويخاطبه وحده ، ينسى من معه ، يسد الأبواب كلها من حوله ، فلا يبقى إلا باب واحد هو الذي فوقه ، الباب الذي يظل مفتوحاً دائماً ، لا يسد أبداً : باب الله الذي فتحه للداعين وقال لهم : ( ادعوني استجب لكم ) .
لذلك كان موقف (عرفات ) منبع عزة المؤمنين .
إن القلوب كالمذاخر ( المذاخر كلمة صحيحة وضعتها للبطاريات ) كلما ضعفت فيها كهرباء الإيمان شحنتها (عرفات ) بطاقة جديدة منها ، فعادت كما كانت .(/6)
والتلبية أولاً والتكبير ثانياً هما شعار الحج ، وهما يحسنان في كل حين ، وصيغ الذكر كثيرة ، ولكن الله جعل لكل مقام مقالاً ، ولكل عبادة ذكراً ، فمن قرأ القرآن في الركوع والسجود كان مسيئاً ، وإن كان القرآن أفضل من التسبيح .
فلماذا لا نلبي نداء ربنا في الحج وفي غير الحج ؟ لماذا نلبي بألسنتنا ولا نلبي بقلوبنا ؟ لماذا لا يظهر أثر تلبيتنا في سلوكنا وفي أعمالنا وفي كل مظاهر حياتنا ؟ دعا محمد صلى الله على محمد إلى ما فيه عز الدنيا ومجدها ، وسعادة الآخرة ونعيمها ، فقامت قريش تمنع الناس أن يلبوا دعوة محمد . وتؤذي من لبى وتذيقه العذاب ألواناً ، وإن كان كل ما صنعت قريش من ألوان التعذيب لا يبلغ ما نراه أو نسمع به اليوم من الكفرة الملحدين الذين تسلطوا على بعض بلدان المسلمين فأين قريش المشركة ؟ لقد صارت هي نفسها مع من لبى دعوة محمد ، لأن الله غالب على أمره ، والباطل كان أبداً زهوقاً ، وسيزهق الله باطل أعداء الإسلام اليوم كما أزهقه بالأمس ويبقى الإسلام حتى تقوم الساعة .
إنه سيأتي على الناس زمان ، لو سألت ألفاً من أهله عن كارل ماركس وعن شارون وشامير لما عرف واحد منهم من ماركس ومن شارون وشامير . لا تعجبوا من هذا الكلام ، ولا تحسبوه أضغاث أحلام ، فإن فيما مضى إشارة إلى ما سيأتي . ألم يكن القرامطة يوماً متسلطين على الناس ، يعيثون في الأرض فساداً ، ألم يقتحموا الحرم على الحجاج ، فيذبحوهم من حول الكعبة ، ويأخذوا الحجر الأسود معهم ، ولا يقوى أحد يومئذ على صدهم ؟ فمن يعرف اليوم من هم القرامطة ، وما قصتهم ؟ لقد محقهم الله من الأرض ، وإن بقيت بقية قليلة منهم تلبس غير ثيابها ، وتبدو للناس بغير جلدها ، محقهم الله ومحا ذكرهم من الأذهان ، لما لبى المسلمون داعي الله ، وكسروا الأقفال عن قلوبهم ، فتدبروا القرآن ، ثم عملوا بما في القرآن .
****
نقول جميعاً ( لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك ، إن الحمد والنعمة لك والملك ، لا شريك لك ، لبيك اللهم لبيك ) ، وأقول أنا (مثلاً)أمرتنا فأطعنا ، ونهيتنا فاجتنبنا ، أقولها وحدي وهم يردون معي ( لا شريك لك ) فنطلب منه. ولا رب غيرك فندعوه ، ( إن الحمد والنعمة لك ) أنت المحمود بكل لسان وأنت المنعم على كل إنسان ، أنت ملك الملوك ، وأنت الواحد القهار .
يا أيها الأخ المسلم إذا ناداك أبوك ، قلت : لبيك . وإن دعاك أستاذك أجبت : لبيك . فهذا رب العالمين يدعوكم إلي تصحيح توحيده فقولوا : لبيك اللهم لبيك ( وهنا نلبي جميعاً ) .يدعوك إلى اتباع شرعه ، فقولوا : لبيك اللهم لبيك ( وهنا نلبي ) ، يدعوك إلى الجهاد في سبيله ، فقولوا : لبيك اللهم لبيك ، هذا كلام ربكم في قلوبكم يقول لكم : جاهدوا في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ، فقولوا : لبيك اللهم لبيك .
هذا صوت محمد صلى الله عليه وسلم يرن في أسماعكم ، يحثكم على امتثال أمر ربكم فقولوا : لبيك اللهم لبيك ، يدعوكم لتنقذوا قبلته الأولى التي صلى إليها ، لتخلصوا مسراه الذي سرى إليه ، لتحرروا معراجه الذي عرج منه . يدعوكم لتنصروا الله حتى ينصركم الله ، فقولوا : لبيك اللهم لبيك .
اللهم إنك دعوتنا فجئنا نقول : لبيك اللهم لبيك ، إننا وقفنا ببابك ، ننادي : لبيك اللهم لبيك ، قمنا في رحابك ، نصرخ : لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا نشكو إلا إليك ، لبيك ، لا نرجو الخير إلا من يديك ، لبيك ، توكلنا عليك ، لبيك اللهم لبيك ، لا شريك لك مالنا إله غيرك ، فهل تردنا عن بابك وقد جئنا نقول : لبيك اللهم لبيك ؟ لبيك ربنا وتعاليت ، لبيك لك الحمد لبيك منك النعم ، لبيك يا واحد يا أحد يا فرد يا صمد .
هذا كتاب ربكم يناديكم ، أن تجاهدوا في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ، أن تستشعروا عزة إيمانكم ، فقد جعل الله العزة المطلقة له جلّ جلاله ، وجعل العزة في الدنيا لرسوله وللمؤمنين .
فأين عزة المؤمنين ، ومسرى نبيهم في أيدي اليهود ؟ أين عزة المؤمنين وقبلتهم الأولى وحرمهم الثالث بيد اليهود ؟ أين عزة المؤمنين يا من يتوجهون إلى الكعبة من كل أرض في الأرض ، ومن تحت كل نجم في السماء ، أين تلك العزة ، وأنتم تسعمائة مليون ، إذا تركتم أقل الأمم ، وأذل الأمم تأخذ منكم أقدس بقاعكم بعد الحرمين الشريفين ؟ ، يا مسلمون ، مسجدكم الأقصى بيد اليهود ، لم يعد المسجد الآمن الذي يجد فيه المسلم السلام ، ولم يعد ما حوله لنا ، ترفوف عليه رايتنا ، وتحكمه شريعتنا ، فاذكروا وأنتم عند القبلة ، القبلة الأولى ، ( اذكروا الأقصى ) :
المرأة الشلاء تحمي بيتها أنبيح بيت الخالق المعبود
هو حصن حق غاب عنه حماته هو قلعة لكن بغير جنود
لا العطر والند المصفى طيبه لكن رياه شذى البارود
يصلي المصلي النار في جنباته والمسلمون بنومة وهجود
أينام من تقري المدافع سمعه صوتاً يزلزل قنة الجلمود
أينام من يمشي اللهيب بداره يشوي حميم لظاه رمل البيد
****(/7)
إن أبا الأنبياء إبراهيم بوأ الله له مكان البيت وقال له : ( وأذن في الناس بالحج ) ، فأذن به فاستجاب له المؤمنون يلبون ( يأتون رجالاً وعلى كل ضامر ) يأتون من البر والبحر والجو ، بكل ركوبة سخرها الله لهم ، ودلهم عليها بالعقل الذي من به عليهم ( يأتين من كل فج عميق ) من الشرق والغرب ، من الشمال والجنوب ، من قلب إفريقية ومن أقاصي آسية ، ومن مدن أوروبة ، من المناطق الاستوائية التي تتلظى حراً إلى البطاح الباردة التي تنام وتصحو على الجليد ( ليشهدوا منافع لهم ) والإسلام كله منافع تجلب ، ومفاسد تدرأ ، وخير في الدنيا وخير في الآخرة ، ( ويذكروا اسم الله في أيام معلومات ) وذكر الله هو غاية الغايات ، وهو مقصد الحياة .
المؤمنون قد استجابوا للنداء نداء رب العالمين وأسرعوا
سارت ركائبهم ضحى قد أحرموا والشوق يحفز والمدامع تدفع
ومشت قوافلهم حدا الحادي بها يصغي له رمل الفلاة فيمرع
جدوا المسير وأعنقوا حتى بدى لهم وراء الأفق نور يسطع
فتيقنوا أن قد رأوا أرض الهدى ودنا الوصول فهللوا وتضرعوا
وتجاوبت تلك البطاح بقولهم لبيك ربي والبطائح خشع
لبيك والدنيا تردد قولهم لبيك ربي أنصتوا وتسمعوا
لبيك اللهم لبيك ( وهنا نلبي جميعاً ) دعاكم إلى بابه أكرم الأكرمين فقولوا : لبيك إننا مقبلون عليك ، نقصد رحابك ، ونلزم بابك ، نرجو ثوابك ، ونخشى عقابك ، لبوا حتى يلبي معكم ثرى عرفات وجبالها ، لبوا حتى تلبي معكم الأرض ومن عليها ، لبوا حتى تلبي معكم السماوات السبع ومن فيها ، لا تقولوها تراعوا بها النغمات والإيقاع ، لا تقولوها ليسمعها الناس ، بل أخلوا قلوبكم مما سوى الله ، واحصروا أفكاركم في امتثال أمر الله أربطوا به قلوبكم ،ليلبي كل واحد منكم وحده ، بينه وبين ربه ولو اختلطت الأصوات ، تصوروا أن الله يناديكم ، فأجيبوا ملبين : ( لبيك اللهم لبيك ) نحن منك مردنا إليك ، ( لبيك اللهم لبيك ) ولا اعتماد إلا عليك لبيك جئنا مسلمين لك مجاهدين في سبيلك .
( لبيك ) هذا هتافنا عند المواقيت ، عند حدود دولة الحج ، ننزع ثيابنا عن أجسادنا ، ونخلع عنا ما لا يرضي ربنا ، ونستجيب لرب العالمين نقول : ( لبيك اللهم لبيك ) ، وعند انصاب الحرم ، الحرم دار السلام إن عمت الأرض الحرب ، دار الأمان أن شمل الدنيا الخوف ، الحرم حيث كل حي آمن ، الناس والحيوان والنبات ، ليس ها هنا حرب وقتال ، الأشجار ها هنا لا تقطع ، الحيوان ها هنا لا يصاد ، الناس ها هنا آمنون ، لا عدوان على أحد .
( لبيك اللهم لبيك ) .
لبيك ربي قد أتيتك تائباً أيرد محتاج أتى يتضرع
لبيك جد بالعفو عني ليس لي أمل بغير العفو منك ومطمع
لبيك ربي ، المسلمون تفرقوا من ذا يوحدهم سواك ويجمع
بعدوا عن الشرع القويم فردهم ربي إلى الشرع القويم ليرجعوا
***
لبيك والثقلان والدنيا تلبي ** لبيك رب العالمين وأنت يا الله ربي ** لبيك صوت محمد أبدا بآذاني وقلبي
***
يا مسلمون وأين أنتم من هدى الهادي محمد ؟
عودوا إلى النهج القويم
فإن هذا العود أحمد
عودوا يَعُد مجد الجدود
ويوم بدر يتجدد
وتروا صلاح الدين عاد
ويوم حطين الممجد
محمد نادى فلبينا الندا
لم نستمع في الحق أقوال العدى
في شرعة الإسلام رشد وهدى
وأن فيها عزنا طول المدى
إنها شرعة رب العالمين
حين آخى بين كل المؤمنين
كل من صلى إلى إخوتنا
أن يختلف لساننا
أو تختلف ألواننا أو تبتعد بلداننا
فحسبنا إسلامنا
لبيك قولوها أعيدوا
( وهنا نلبي جميعاً ) لبيك قولوها تسودوا .
لبيك إنا مؤمنون ومسلمون .
لبيك إنا نحو بيتك سائرون .
لبيك إنا آيبون وتائبون .
لبيك إنا عازمون على الجهاد .
لبيك ربي فأهدنا سبل الرشاد .
لبيك امددنا بنصرك يا سميع ويا مجيب .
لبيك حتى نسترد القدس والبلد السليب .
وترف رايتنا على يافا على القطر الحبيب .
لبيك نصرك إن من تنصره ينصر .
لبيك إن كبر الخصوم فأنت يا الله اكبر .
لبيك عدنا للجهاد النصر الموفر .
الله أكبر ما السجون وما القيود ؟
الله أكبر ما السيوف وما البنادق والجنود ؟
الله أكبر من يكون حليفه يخشى اليهود ؟
سنعود للأقصى إلى يافا ونابلس نعود .
وترف رايتنا على حيفا على أرض الحدود .
ونرى صلاح الدين عاد وجددت تلك العهود .
الكاتب ... المدقق اللغوي ... المُدخل ... ملاحظات
... الهبدان ... ...
... ... ...(/8)
مقالات في التربية
محمد الدويش
المقدمة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد :- فإن العمل التربوي - على اختلاف مستوياته - ضرورة لا تستغني عنها الأمة الإسلامية، فهو الوسيلة لنقل الأحكام الشرعية من الحيز النظري إلى العمل والتطبيق، ويكفي في بيان علو منزلة التربية وصف الله سبحانه وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم بأنه مرب فقال{ هُوَ الّذِي بَعَثَ فِي الأمّيّينَ رَسُولاً مّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مّبِينٍ} (الجمعة:2) . وقد رأينا اليوم ثمار ونتاج التربية التي تولاها جيل الصحوة المبارك، برغم هذا الواقع السيء للأمة، فخرَّج هذا الجيل نماذج فذة متميزة أعادت الأمل بتحقق مجد الأمة وعزها، وأسهمت في حماية الشباب المسلم من أبواب الفساد وطرقه، وأخذت بيده في مدارج الخير والهداية. إن هذا الجيل المتميز الذي خرج برغم هذه العواصف والمعوقات، والذي يؤمل أن يكون فرطاً للأمة في حركة التغيير الشاملة التي تسعى إليها وقد بدأت بشائرها تلوح في الأفق، إن هذا الجيل كان نتاج جهد تربوي ضخم، جهد قام عليه أناس يرجون وجه الله والدار الآخرة -نحسبهم كذلك والله حسيبهم ولا نزكي على الله أحداً-، ولا يسوغ أن يكون ما فيه من قصور أو ضعف بشري مدعاة للطعن والتثبيط فضلاً عن الاحتقار واستصغار الجهود. والجهد التربوي جهد لا يطيقه أي إنسان، بل هو جهد في غاية الصعوبة والمشقة، إنه تعامل مع عالم الإنسان هذا العالم الغريب الذي يحوي عديداً من المتغيرات، وتؤثر فيه كثير من العوامل والمؤثرات، ويبقى تعميم التجربة الفردية غير ذي بال، فمتى يجد الباحث في هذا الميدان صورتين متكافئتين؟ وهو جهد يحتاج لمزيد من المعارف والعلوم، ومزيد من القدرات والإمكانات والمواهب، ورصيد من التجارب والخبرات. ومع ذلك كله يزداد الأمر صعوبة ومشقة حين يكون في مجتمع تتجه معظم وسائل التأثير فيه اتجاهاً مضاداً لما يريد المربي، فالشارع، والسوق، وزملاء المدرسة، ووسائل الإعلام، وربما المنزل والمدرسة تربي الشاب والفتاة اليوم على خلاف المنهج الشرعي. إن هذا كله يفرض على من ولاه الله مسؤولية التربية والتوجيه سواء كان أباً أو أماً أو معلماً أن يعنى بأداء هذه الأمانة والرسالة، وألا تتحول هذه الوظيفة إلى عمل آلي مجرد. وهو يفرض على من آتاه الله علماً وفهماً وتجربة في هذه الميادين أن يسهم في تصحيح المسيرة وتقويمها مصوِّباً لما يراه صواباً من العمل، ومصلحاً لما يرى من خطأ وخلل، ومذكراً بما يُغفل عنه أو ينسى، ومعلماً لما يُجهل. ومن هذا المنطلق كان للكاتب عناية بطرح الموضوعات والمسائل التربوية من خلال المحاضرة أو الكتابة؛ شعوراً منه بأهمية هذا الأمر ومسيس الحاجة إليه. وهو حين يسلك هذا المسلك ويسير في هذا الطريق لا يرى أنه أصبح أستاذاً وموجهاً للمربين، ولا عَلَماً ينبغي أن يصدروا عن رأيه - عياذاً بالله من العجب والاعتداد بالنفس - بل يرى أن كثيراً من القائمين على هذه الثغور والميادين خير منه وأبر وأتقى لله. وغاية ما في الأمر أنه رأى من نفسه قدرة على تقديم مايفيد بعض المربين فتصدى لطرح ما لديه. ورغبة في لمِّ شتات ما تفرق من ذلك رأيت جمعه في هذه السلسلة، فما يطرح في المحاضرات المسجلة يُغفل عنه وينسى مع طول المدة، إضافة إلى صعوبة الرجوع إليه، إضافة إلى أن الحديث المسجل يغلب عليه السعي لإيصال فكرة معينة، وتفرض طبيعة الارتجال فيه نوعاً من قلة التحرير والضبط، ويسود فيه التكرار والإعادة. لذا رغبت في تدوين وكتابة بعض ما سبق طرحه مما يخص المربين، ولما كانت بعض الموضوعات لا تستحق أن تفرد في كتاب مستقل، رأيت أن أصدرها في سلسلة تحوي كل مجموعة منها عدداً من الموضوعات سواء مما سبق طرحه في مقال أو محاضرة أو مما لم يكن كذلك. وأشعر أن الحديث في المسائل التربوية لن يكون قضايا نهائية محسومة - حاشا ما كان فيه نص من قرآن أو سنة - بل ستكون مساحة الرأي الشخصي واسعة فيها، وتترك التجربة والخبرة الشخصية أثرها الواضح على المتحدث فيها. والكاتب يأمل بعد ذلك كله من إخوانه ممن يقرؤون ما سطره في هذه الرسائل أن يتواصلوا معه بالنصح والتصويب، والاقتراح والتأييد والتسديد. أسأل الله تبارك وتعالى أن يكون في هذا الجهد ما يفيد، وأن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم، ويرزقنا فيه السداد والإصابة، وأن يمن علينا بصلاح أبنائنا وذرياتنا؛ إنه سميع مجيب، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه،،،، محمد بن عبدالله الدويش ص.ب / 52960 الرياض / 11573 الرياض 21/5/1421هـ
من صفات المربي(/1)
من البدهيات المقررة لدى الناس أجمع أنه لابد لكل وظيفة وعمل يقوم به الإنسان من إعداد وتهيئة، فالبناء لا يمكن أن يقوم به إلا متخصص، والصيانة لأعمال المنزل، أو السيارة لا يمكن أن تتم إلا على يد من يعرف هذا العمل ويدرك أصوله، فكيف ببناء الإنسان وإعداده؟ والتربية عملية مهمة وصعبة، إنها إعداد للإنسان وغرس للقيم والمعاني، وهي وسيلة لإزالة الرواسب السيئة التي ترسخت لدى الإنسان بفعل عوامل ومؤثرات شتى. إنها تعامل مع عالم الإنسان، العالم الغريب بأحواله ومشاعره وعواطفه وسائر أموره. إن من يتعامل مع غير الإنسان يتعامل مع آلة صماء، أو حتى كائن حي يمكن السيطرة عليه وترويضه، أما التعامل مع الإنسان فهو أمر عسير؛ إنه التعامل مع الند والقرين، فإذا كانت التربية كذلك فلا يمكن ولا يسوغ أن تتاح لكل إنسان، بل وليس حمل المفاهيم الصحيحة، والخلفية العلمية والقدرة على الحديث والحوار، ليس ذلك وحده كاف في أن يتأهل الشخص للتربية. ومن ثم يأتي الحديث عن صفات المربي وتحديد هذه الصفات لأمور عدة: فالأمر الأول: أن هذا يسهم في وضع ضوابط ومعايير يمكن أن يختار المربون على أساسها؛ فلا يتولى التربية إلا من يملك هذه الصفات ويتمثلها؛ فليست الأقدمية وطول الخبرة، ولا المؤهل العلمي وحده كافياً في تأهل الشخص للتربية. الأمر الثاني: أن تكون منطلقاً لتربية وتوجيه من يُعدُّون للتربية، بحيث يُسعى إلى تحقيق وتكوين هذه الصفات لديهم؛ فالمربون ليسوا هم الأفراد الذين يحفظون كماً من المعلومات أكثر من غيرهم، ولا أفراداً يجيدون الحديث أكثر من الآخرين، إنهم القادرون على أداء تلك المهمة العالية: مهمة بناء النفوس وإعدادها. الأمر الثالث: أن ذلك يقود المربين إلى مراجعة أنفسهم على ضوئها حتى يزداد عطاؤهم وترتفع قدرتهم ويعظم أثرهم ونتاجهم بإذن الله. الأمر الرابع: أن هناك مفاهيم واقتناعات غير صحيحة ترسخت اليوم عن العمل التربوي لدى طائفة من جيل الصحوة، ومنها: أ - اعتقاد أن كل الناس يجيدون التربية، وأن من استكمل مرحلة معينة في البناء التربوي وحصل قدراً من العلم الشرعي والمفاهيم فهو مؤهل لتربية غيره، ولو لم يكن يملك تلك الصفات الشخصية التي تؤهله لذلك. ب - اعتقاد أن الميدان التربوي هو وحده أفضل الميادين، وأنه ميدان الناجحين، وأن الفشل فيه دليل على ضعف تربية صاحبه أو ضعف قدراته . ومع الإيمان بأهمية هذا الميدان فليس هو الميدان الوحيد، وقد يفشل فيه من ينجح فيما سواه، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم تفاوت أصحابه وتباين قدراتهم، ومع ذلك لم يكن هذا مدعاة لانتقاص ما امتاز به فرد على آخر. عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم في أمر الله عمر، وأصدقهم حياء عثمان، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأفرضهم زيد بن ثابت، وأقرؤهم أبي، ولكل أمة أمين وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح" ( رواه أحمد (12493) 3/183 والترمذي (3790) وابن ماجه (154). وكتب عبدالله القمري العابد إلى مالك يحضه على الانفراد والعمل فكتب إليه مالك رحمه الله: " إن الله قسم الأعمال كما قسم الأرزاق، فرب رجل فتح له في الصلاة ولم يفتح له في الصوم، وآخر فتح له في الصدقة ولم يفتح له في الصوم، وآخر فتح له في الجهاد . فنشر العلم أفضل أعمال البر ، وقد رضيت بما فتح لي فيه، وما أظن ما أنا فيه بدون ما أنت فيه، وأرجو أن يكون كلانا على خير وبر". فلابد أن نملك الجرأة التي نواجه بها أنفسنا حين نرى أنها لا تصلح لهذا الميدان فننأى بها عنه، وأن نملك الجرأة التي تدفعنا لمصارحة من نراه غير مؤهل لذلك. ومع أهمية الحديث عن صفات المربي فإن السعي لاستجماعها يطول، ويدعو الكاتب للحديث عن بدهياتٍ وقتُ المربي أثمن من أن يقرأها، خاصة أن كثيراً من المخاطبين بهذا الخطاب على قدر من العلم والوعي، ومن ثم رأيت الاقتصار على بعض الصفات التي أحسب أن هناك من القراء من يحتاج للتنبيه عليها، لكونها لم تخطر بباله، أو أنها قد خطرت لكنها تحتاج للوقوف عند بعض جوانبها. لذا فهذه الصفات هي أهم الصفات التي يرى الكاتب أن المربي يحتاج إلى أن يُحَدَّث عنها، لا الصفات التي يجب أن يتحلى بها. 1 - العلم: والعلم الذي يحتاجه المربي يشمل جوانب عدة، منها: أ - العلم الشرعي: فالتربية في الإسلام إعداد للمرء للعبودية لله تبارك وتعالى، وذلك لا يُعرف إلا بالعلم الشرعي، والعلم الشرعي يعطي المرء الوسيلة للإقناع والحوار، ويعطيه القدرة على مراجعة المسائل الشرعية وبحثها، وهو يمنعه من الانزلاق أو الوقوع في وسائل يمنعها الشرع. والعلم الشرعي الذي يراد من المربي لا يعني بالضرورة أن يكون عالماً أو طالب علم مختص، لكن أن يملك القدرة على البحث والقراءة والإعداد للموضوعات الشرعية، وأن يملك قاعدة مناسبة من العلوم الشرعية، ويبقى بعد ذلك التطلع لمزيد من التحصيل(/2)
لزيادة رصيده من العلم الشرعي. ب - الثقافة العامة المناسبة، وإدراكه لما يدور في عصره. ج - العلم بما يحتاج إليه من الدراسات الإنسانية، كطبيعة المرحلة التي يتعامل معها (أطفال، مراهقين، رجال….) ، وطبيعة الإنسان ودوافعه وغرائزه واستعداداته، واطلاعه على عدد من الدراسات التي تخص الفئة التي يتعامل معها. وهذا أيضاً لا يلزم منه أن يكون مختصاً بعلم النفس أو التربية، لكن أن يملك الأسس العامة، وأن يكون قادراً على فهم الدراسات والبحوث المتخصصة في هذا المجال. د - المعرفة بالشخص نفسه من حيث قدراته واستعداداته وإمكاناته، ويظهر هذا الأمر لمن يتأمل سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ومعرفته لأصحابه. فعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم في أمر الله عمر، وأصدقهم حياء عثمان، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأفرضهم زيد بن ثابت، وأقرؤهم أبي، ولكل أمة أمين، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح" ( رواه الترمذي (3790) وابن ماجه (154) وأحمد (12493) 3/183) وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه قال: قلت: يا رسول الله، من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" لقد ظننت يا أبا هريرة أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك؛ لما رأيت من حرصك على الحديث، أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله خالصا من قبل نفسه "(رواه البخاري (6570). وأوصى صلى الله عليه وسلم صاحبه أبا ذر -رضي الله عنه- بوصية تنبيء عن معرفته به، فعن أبي ذر -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" يا أبا ذر، إني أراك ضعيفاً وإني أحب لك ما أحب لنفسي؛ لا تأمرن على اثنين ولا تولين مال يتيم" (رواه مسلم (1826). هـ - المعرفة بالبيئة التي يعيشها المتربي بصفة عامة؛ إذ هي تترك آثارها الواضحة على شخصيته، ومعرفة المربي بها تعينه على التفسير الصحيح لكثير من المواقف التي يراها. 2 - أن يكون أعلى من المتربي: فالتربية عطاء وإعطاء، وأداء وتلقٍّ، ومن ثم كان لابد أن يكون المربي أعلى ممن يربيه، وليس بالضرورة أعلى سناً - وإن كان عامل السن له أهميته- لكن أن يكون أعلى قدرات وخبرات وإمكانات. "وتلك حقيقة نفسية تعمل عملها في النفوس، فأنت لكي تتلقى لابد أن تقتنع أنك في موقف المتلقي، وإلا فلو أحسست أنك في الموقف الأعلى فما الذي يدفعك أن تتلقى من شخص بعينه من الناس؟" (منهج التربية الإسلامية (2/44). ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يملك أعلى صفات البشرية في كل جانب من الجوانب فهو من خير الناس نسباً ومنزلة، وهو أوسعهم خلقاً فكان أحلم الناس، وأكرم الناس، وأشجع الناس. وهاهم أصحابه ـ رضوان الله عليهم ـ يسجلون هذه الشهادة: عن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وأجود الناس وأشجع الناس، ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة فانطلق الناس قِبَل الصوت فاستقبلهم النبي صلى الله عليه وسلم قد سبق الناس إلى الصوت وهو يقول: "لن تراعوا لن تراعوا" وهو على فرس لأبي طلحة عري، ما عليه سرج، في عنقه سيف فقال: "لقد وجدته بحراً أو إنه لبحر" (رواه البخاري (6033) ومسلم (2307). وهو صلى الله عليه وسلم أتقاهم لله وأعبدهم له عز وجل، كما قال عن نفسه: "قد علمتم أني أتقاكم لله وأصدقكم وأبركم" (رواه البخاري (7367). ولهذا يتفاوت الناس في مدى قدرتهم على التربية، فمعظم الآباء نظراً لفارق السن والخبرة يجيدون تربية أبنائهم، أو بمعنى أدق: يتجاوب معهم أبناؤهم في الصغر لشعورهم بأنهم أعلى، لكن كلما تقدم السن ازداد الأمر صعوبة، وقلَّ أولئك الذين يستجيب لهم أبناؤهم. ولهذا فمن الناس من تكون طاقته أن يربي أبناءه الصغار، ومنهم من يجيد تربية مجموعة محددة من الناس، ومنهم من تكون أكثر من ذلك، ومنهم من يربي مجتمعاً بأسره، أما الأمة كلها على امتداد الزمان والمكان فاختار الله لها المربي الأول صلى الله عليه وسلم. 3 - أن يملك المربي ما يقدمه: "وينبغي أن يحس المتلقي ثانياً أن مربيه -بالإضافة إلى أنه أكبر شخصية منه - عنده ما يعطيه، فليس يكفي أن تكون شخصية المربي أكبر من شخصية المتلقي - وهي البديهية الأولى في عالم التربية - إنما ينبغي أن تكون عنده حصيلة يعطيها الآخرين في صورة تجربة واقعية" (منهج التربية الإسلامية (2/44) . وتتمثل هذه الحصيلة في جوانب عدة منها: أ ـ الرصيد العلمي الشرعي وهو أمر له أهميته وسبقت الإشارة إلى ذلك. ب ـ القدرة على الإجابة على التساؤلات الملحة التي يطرحها المتربون والمتلقون. ج ـ القدرة العقلية والخبرة العملية التي تعينه على مساعدة من يربيهم على تجاوز مشكلاتهم فيجيد التعامل معها، ويجيد طرح الرأي المناسب لحلها. وحين يفقد المربي هذا وذاك يشعر المتربون، أنه ليس ثمة ما يدعوهم للارتباط بفلان من الناس، وليس عنده ما يؤهله لأن يتولى(/3)
تربيتهم. 4 - أن يملك القدرة على العطاء: "هناك شخصيات كبيرة لا تستطيع أن تعطي، ومن ثم لا تستطيع أن تربي، هو في ذاته شخصية فائقة التكوين، متفوق عقلياً أو روحياً أو نفسياً أو عصبياً أو أخلاقياً… ولكنه لسبب ما لا يستطيع أن يعطي التجربة الواقعية لأنه عزوف عن الناس، لأنه صاحب تجربة فكرية فقط بغير رصيد من التجربة الواقعة، لأنه رجل مثالي حالم، يحلم بالمثل ولا يمارس التطبيق الواقعي، أو لا يحسنه…. ومن الأمثلة المعهودة أن تجد أستاذاً جامعياً ممتازاً في علمه، ممتازاً في خلقه، ممتازاً في محاضرته...ومع ذلك فهو لا يستطيع أن يربي، ولا أن يُكوِّن جيلاً من التلاميذ بمعنى الحواريين والأتباع" (منهج التربية الإسلامية (2/44-45) . إنهم كثير أولئك الذين نراهم في المجالس والملتقيات يجيدون الحديث، ويجيدون التنظير والنقاش، وربما يملكون من الخبرة والعلم والمعرفة، لكن ذلك وحده لا يؤهلهم لأن يتولوا التربية، فقد لا يستطيعون العطاء، وكثيراً ما تأسرنا شخصيات أمثال هؤلاء، ونظن أنهم أفضل الطاقات المؤهلة للتربية دون النظر إلى الجوانب الأخرى. وكونه أيضاً قادراً على الإعطاء لا يكفي بل لابد من أمر آخر ألا وهو: 5 - أن يكون حسن العطاء: "فمجرد أن يكون لديه ما يعطيه ليس كافياً في شؤون التربية، إنما ينبغي أن يعطيه بطريقة حسنة كذلك، وإلا ضاع الأثر المطلوب أو انقلب إلى الضد حين يعطي المربي ما عنده بطريقة منفرة" (منهج التربية الإسلامية (2/45). إن التربية ليست مجرد معلومات أو توجيهات تقال للناس، وليست مجرد أوامر أو نواهي، بل هي عطاء واسع يشمل جوانب النفس شتى، ويتعامل معها في أحوالها وأطوارها المختلفة والمتفاوتة. ومن ثم فالذي يتولى هذه المهمة لابد أن يملك القدرة على التعامل مع هذا الواقع، وبناء النفس في هذه الأطوار المتفاوتة. إن البائع الذي يسعى لترويج سلعته يدرك أن مجرد عرضها على الناس للبيع ليس كافياً في ترويجها، فهو يحتاج لحسن عرضها، ويحتاج للحديث عنها مع الناس بالطريقة التي تشعرهم بحاجتهم إليها، وإلى وسائل للدعاية والإعلان….إلخ. ويتحدث المختصون اليوم عن أساليب لتسويق الأفكار وترويجها، ووسائل للإقناع والتأثير على الناس. فكيف بالتربية التي هي فوق ذلك كله؟ ولقد تحدث من كتب في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن طائفة من صفات الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، ومنها أن يكون: رفيقاً فيما يأمر به وينهى عنه. وقد يشعر المربي أنه يكفيه إثبات حبه لمن يربيه، ووجود الحب أمر ضروري للتلقي لكن الحب وحده "لا يكفي، فقد تحب طفلك وتحب له الخير، ولكن طريقتك في تقديم الخير إليه تشككه في حبك له، وتوهمه أنك تكرهه "(منهج التربية الإسلامية (2/45). إن المربي الذي يملك حسن الإعطاء هو الذي يجيد استخدام الأسلوب الأمثل، وأن يحقق لكل مقام مقاله المناسب. 6 - القدرة على القيادة: والتربية كما أنها إعطاء وتلقٍ، فهي تتضمن جوانب أخرى لها أهميتها، تتمثل في قيادة الناس وإدارتهم، وهي صفة لا يملكها كل الناس، فالناس يستطيعون اتخاذ قرارات إدارية، وقد يستطيع بعضهم إدارة عمل أو مؤسسة، لكن القيادة فوق ذلك كله. خاصة إذا علمنا أن التلقي والتربية يصعب فرضها على الناس فرضاً، فقد يستطيع العسكري أو السلطان أن يسوق الناس بعصاه، أما المربي فما لم يكن قائداً قادراً على القيادة والإقناع فلن يستطيع تربية الناس. 7 - القدرة على المتابعة: "فالتربية عملية مستمرة لا يكفي فيها توجيه عابر -مهما كان مخلصاً ومهما كان صواباً في ذاته- إنما يحتاج الأمر إلى المتابعة والتوجيه المستمر" (منهج التربية الإسلامية (2/46-47). "والشخص الذي لا يجد في نفسه الطاقة على المتابعة والتوجيه المستمر شخص لا يصلح للتربية، ولو كان فيه كل جميل من الخصال، وليس معنى التوجيه المستمر هو المحاسبة على كل هفوة! فذلك ينفر ولا يربي فالمربي الحكيم يتغاضى أحياناً أو كثيراً عن الهفوة وهو كاره لها، لأنه يدرك أن استمرار التنبيه ضار كالإلحاح فيه، وحكمة المربي وخبرته هي التي تدله على الوقت الذي يحسن فيه التغاضي، والوقت الذي يحسن فيه التوجيه، ولكن ينبغي التنبه دائماً من جانب المربي إلى سلوك من يربيه، سواء قرر تنبيهه في هذه المرة أو التغاضي عما يفعل؛ فالتغاضي شيء، والغفلة عن التنبيه شيء آخر أولهما قد يكون مطلوباً بين الحين والحين، أما الثاني فعيب في التربية خطير" (منهج التربية الإسلامية (2/47-48). 8 - القدرة على التقويم: التقويم لا يفارق التربية ولا تستغني عنه، بل هو لا يفارق أي عمل جاد مستمر، ويحتاج المربي للتقويم حتى: أ ـ يُقوِّم الأفراد ويحدد قدراتهم ليعطي كلشخص ما يناسبه. ب ـ يُقوِّم الأفراد بعد تلقيهم للتربية ليقيس مدى ما تلقوه وأثره عليهم. ج ـ ويُقوِّم الأعمال والبرامج والحلول. د ـ ويُقوِّم المشكلات ليضعها في إطارها وموقعها الصحيح دون مبالغة أو تهوين من شأنها. والتقويم الذي(/4)
يحتاجه المربي هنا هو التقويم العلمي الموضوعي الذي ينطلق من أسس محددة موضوعية، لا الانطباع الشخصي لديه تجاه عمل أو فرد ما. ومن ثم يحتاج المربي إلى أن يتعرف على العوامل والعناصر الموضوعية التي يُقوِّم من خلالها ويعطي كل عامل نسبته ووزنه المناسب. ثم يحتاج ثانياً إلى أن يملك القدرة على التحقق من وجود هذه المعايير ودرجة ذلك. والخبرة والتجربة بالإضافة إلى المناقشات الجماعية مع الاطلاع والممارسة، كل ذلك مما يسهم في زيادة قدرة المربي على التقويم. 9 - القدرة على بناء العلاقات الإنسانية: التلقي فرع عن المحبة، وللعلاقة بين التلقي والمحبة من الاتصال قدر أكبر مما قد نتصور أحياناً، فمن لم يغرس المحبة له في نفوس الطلاب فكثير مما يقوله ستكون نهايته عندما يتلفظ به، ولن يأخذ طريقه نحو القلوب، فضلاً عن أن يتحول إلى رصيد عملي. وهب أن إنساناً بلغ الغاية في التأثير وقوة المنطق ورصانة الحجة، أتراه يكون أعلم، أو أفصح، أو أكثر تأثيراً من النبي صلى الله عليه وسلم ؟ ومع ذلك قال الله سبحانه في شأنه }فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكّلْ عَلَى اللّهِ إِنّ اللّهَ يُحِبّ الْمُتَوَكّلِينَ{ (آل عمران:159) . فالنبي صلى الله عليه وسلم مع ما آتاه الله سبحانه من وسائل التأثير، ومع شعور الناس أن الحق معه وحده، مأمور بأن يلين لأصحابه وإلا انفضوا عنه، فكيف بغيره ممن يحمل قائمة طويلة من صفات القصور والنقص؛ فهو حين لا يحظى بقبول تلامذته له سيرون فيه من القصور ما يبررون به رفضهم وإهمالهم لما يقول؛ بل تفسير نصحه وتوجيهه على غير وجهه. لذا يؤكد الأستاذ محمد قطب على هذا الارتباط فيقول:"والضمان لذلك هو الحب… فما لم يشعر المتلقي أن مربيه يحبه، ويحب له الخير، فلن يقبل على التلقي منه، ولو أيقن أن عنده الخير كله بل لو أيقن أنه لن يجد الخير إلا عنده؛ وأي خير يمكن أن يتم بغير حب" (منهج التربية الإسلامية ( 2 /45 ). ولأجل ذلك عني من كتب في أدب العالم والمتعلم من الأسبقين بالتأكيد على حسن الخلق وجميل الرعاية، فيوصي ابن جماعة المربي بذلك فيقول: "وينبغي أن يعتني بمصالح الطالب، ويعامله بما يعامل به أعز أولاده من الحنو والشفقة عليه، والإحسان إليه، والصبر على جفاء ربما وقع منه نقص لا يكاد يخلو الإنسان عنه، وسيء أدب في بعض الأحيان، ويبسط عذره بحسب الإمكان، ويوقفه مع ذلك على ما صدر منه بنصح وتلطف، لا بتعنيف وتعسف، قاصداً بذلك حسن تربيته، وتحسين خلقه، وإصلاح شأنه، فإن عرف ذلك لذكائه بالإشارة فلا حاجة لصريح العبارة، وإن لم يفهم إلا بصريحها أتى بها وراعى التدريج في التلطف" (تذكرة السامع والمتكلم ( 50 ). ويكرر الغزالي الوصية نفسها فيرى أن من آداب المعلم:"أن يزجر المتعلم عن سيء الأخلاق بطريق التعريض ما أمكن ولا يصرح، وبطريق الرحمة لا بطريق التوبيخ" (إحياء علوم الدين ( 1/57 ). ويؤكد الإمام النووي هذا المعنى فيقول:"ويجريه مجرى ولده في الشفقة عليه، والصبر على جفائه وسوء أدبه، ويعذره في سوء أدب وجفوة تعرض منه في بعض الأحيان فإن الإنسان معرضٌ للنقائص" (المجموع شرح المهذب (1/30) . 10 - الاستقرار النفسي: حيث إن المربي يتعامل مع الناس، ومع الطبيعة الإنسانية المعقدة فلابد أن يملك قدراً من الاستقرار النفسي، فلا يكون متقلب المزاج سريع التغير مضطرباً، أو يعاني من حدة انفعالات أو سوء ظن وحساسية مفرطة، فضلاً عن كونه غير مصاب بمرض نفسي. إن المتربي بحاجة إلى أن يتعامل مع إنسان مستقر، بحاجة إلى أن يتعامل مع شخص يتوقع ويتنبأ بتصرفاته، أما حين لا يكون مربيه كذلك فلن يعيش هذا الفرد في جو مريح، وسوف يسيطر عليه الخوف والقلق. 11 - التوازن الاتصالي: إن التربية ليست عملاً من طرف واحد، وليست تعاملاً مع آلة صماء، ومما لا يقبل أن يحول المربي المتلقي إلى شخص مهمته أن يحسن الاستماع والاستقبال فحسب، بل لابد من قدر من التوازن الاتصالي فالتربية عملية اتصال من طرفين لا من طرف واحد. ومن ثم فلابد من العناية بحسن الخطاب والحوار مع المتربي، وحسن الإنصات والاستماع له، وكذلك كان هدي النبي صلى الله عليه وسلم جامعاً بين الأمرين. عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: بينما نحن جلوس مع النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد دخل رجل على جمل فأناخه في المسجد ثم عقله، ثم قال لهم: أيكم محمد؟ -والنبي صلى الله عليه وسلم متكئ بين ظهرانيهم- فقلنا: هذا الرجل الأبيض المتكئ، فقال له الرجل: يا ابن عبدالمطلب، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:"قد أجبتك" فقال الرجل للنبي صلى الله عليه وسلم: إني سائلك فمشدد عليك في المسألة فلا تجد علي في نفسك، فقال: "سل عما بدا لك" فقال: أسألك بربك ورب من قبلك(/5)
أالله أرسلك إلى الناس كلهم؟ فقال: "اللهم نعم"، قال: أنشدك بالله أالله أمرك أن نصلي الصلوات الخمس في اليوم والليلة؟ فقال : "اللهم نعم"، قال: أنشدك بالله أالله أمرك أن نصوم هذا الشهر من السنة؟ فقال : "اللهم نعم"، قال: أنشدك بالله أالله أمرك أن تأخذ هذه الصدقة من أغنيائنا فتقسمها على فقرائنا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم :"اللهم نعم"، فقال: الرجل آمنت بما جئت به، وأنا رسول من ورائي من قومي وأنا ضمام ابن ثعلبة أخو بني سعد بن بكر (رواه البخاري (63). فانظر إلى عناية النبي صلى الله عليه وسلم بالإنصات والاستماع لهذا الرجل، ومثل ذلك استماعه صلى الله عليه وسلم للشاب الذي جاء يستأذن بالزنا. وكما كان يعتني صلى الله عليه وسلم بالاستماع والإنصات، فقد كان يعتني بالخطاب والحديث، فكان حسن الحديث، تصفه عائشة -رضي الله عنها- بقولها : "لم يكن يسرد الحديث كسردكم" (رواه البخاري (3568) وفي لفظ "ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسرد سردكم هذا، ولكنه كان يتكلم بكلام بينه فصل يحفظه من جلس إليه " (رواه الترمذي (3639) وانظر في الحديث حول التوازن الاتصالي علم النفس الدعوي (304-307). 12 - السمت والهدي الحسن: إن المربي قدوة بأعماله وسلوكه قبل أن يكون موجهاً للناس بقوله، والفعل والهدي يترك أثراً على النفس أعظم من أثر القول؛ وفي حديث جرير بن عبدالله البجلي -رضي الله عنه- ما يؤيد هذا المعنى، فعنه -رضي الله عنه- قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدر النهار قال فجاءه قوم حفاة عراة مجتابي النمار أو العباء متقلدي السيوف، عامتهم من مضر بل كلهم من مضر، فتمعر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى بهم من الفاقة، فدخل ثم خرج فأمر بلالاً فأذن وأقام فصلى، ثم خطب فقال: "}يَأَيّهَا النّاسُ اتّقُواْ رَبّكُمُ الّذِي خَلَقَكُمْ مّن نّفْسٍ وَاحِدَةٍ{ إلى آخر الآية }إِنّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْرَقِيبا ً{ والآية التي في الحشر }ا تّقُواْ اللّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مّا قَدّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا الله{ تصدق رجل من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع بره، من صاع تمره حتى قال: "ولو بشق تمرة" قال: فجاء رجل من الأنصار بصرة كادت كفه تعجز عنها بل قد عجزت، قال: ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثياب، حتى رأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل كأنه مذهبة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء" (رواه مسلم (1017). فالناس قد سمعوا كلام النبي صلى الله عليه وسلم ودعوته وتأكيده، لكنهم لما رأوا هذا الموقف من هذا الرجل تتابعوا في الإنفاق. ولهذا عني السلف بالتأكيد على جانب الهدي والسمت الحسن لدى المربي؛ روى الرامهرمزي بإسناده عن أبي العالية قال:"كنا إذا أتينا الرجل لنأخذ عنه نظرنا إلى صلاته، فإن أحسن الصلاة أخذنا عنه، وإن أساء الصلاة لم نأخذ عنه" ( المحدث الفاصل بين الراوي والواعي للقاضي الحسن بن عبدالرحمن الرامهرمزي (409). وقال محمد بن سيرين: "إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم" ( رواه مسلم في مقدمة صحيحه. والخطيب في الكفاية 121. والرامهرمزي في المحدث الفاصل(437). وقال حماد بن زيد: دخلنا على أنس بن سيرين في مرضه فقال:"اتقوا الله يا معشر الشباب، وانظروا عمن تأخذون هذه الأحاديث فإنها دينكم" (رواه الخطيب في الكفاية (122). والرامهرمزي في المحدث الفاصل (440). وقال الإمام مالك رحمه الله:"إن هذا العلم هو لحمك ودمك، وعنه تسأل يوم القيامة فانظر عن من تأخذه" (رواه الرامهرمزي في المحدث الفاصل (444). وقال مجالد:" لا يؤخذ الدين إلا عن أهل الدين" (رواه الرامهرمزي في المحدث الفاصل (445). فما أحوج المربين اليوم إلى تحقيق السمت الحسن والهدي الصالح في نفوسهم. 13- الاعتدال والاتزان: سنة الله تبارك وتعالى في خلقه قائمة على الاعتدال والتوازن، وهي سنة مطردة لا يشذ عنها شيء؛ فالشمس والنجوم والأفلاك والأرض بما فيها قائمة على أساس ذلك، وحياة الإنسان الجسمية والعقلية قائمة على أساس هذا الاعتدال والتوازن. والغلو والشذوذ أمر ممقوت أياً كان مصدره، حتى لو كان دافعه الاستزادة من الخير والاجتهاد في العبادة، لذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم طائفة ممن شددوا على أنفسهم في العبادة بالاعتدال وإعطاء كل ذي حق حقه. وكما يبدو الغلو والتشدد في مواقف محددة، فهناك فئة من الناس يصبح الخروج عن الاعتدال سمتاً لهم وصفة ملازمة لتصرفاتهم وأحكامهم. ويبدو أثر تلك السمة في الأحكام التي يصدرها الشخص على الناس والجهود البشرية؛ فتدور بين الثناء والذم المبالغ فيهما، وفي المواقف التي يتخذها؛ فتتسم بالحسم والقطع في الأمور النسبية التي تحتمل الرأي(/6)
الآخر. ومن آثار فقدان الاعتدال لدى المربي: أ - أن يغرس هذه الصفة لدى طلابه فيربيهم على الغلو والتطرف في التفكير والآراء والمواقف؛ إذ هم لا يسمعون إلا رأياً واحداً يمثل الحق المطلق في كل قضية صغيرة وكبيرة، وكل ما خالف هذا الرأي فهو باطل بكل حال، وما لم يتمثل الاعتدال لدى المربي في صورة واقعية فلن يبقى أثر لما يطرحه من جوانب معرفية ونظرية. ب - ويبدو ذلك أيضاً في تقويمه لأعماله وبرامجه، ولطلابه وتلامذته فيتسم بالتطرف والخروج عن الاعتدال. ج - عدم القدرة على التعامل المتزن مع تصرفات طلابه وتلامذته؛ فيقف منها موقف المتشنج، وتزداد مساحة ردة الفعل في تعامله مع أخطائهم، أو مع ما يصنفه على أنه أخطاء، ولو لم يرق لذلك. 14 - التفاؤل: إن الشعور بالنجاح وإمكانية تحقيق نتائج مرضية شرط لابد منه في أي عمل يعمله الإنسان؛ فالتاجر الذي يفقد الأمل في الربح يرى من العبث وإضاعة المال أن ينفق أمواله في التجارة، والكاتب الذي لا ينتظر رواجاً لفكرته وتحقيقاً لأهدافه من نشرها لن يسطر حرفاً…وهكذا سائر العاملين أياً كانت أهدافهم ومشاربهم. ولما كان الجهد التربوي جهداً مضنياً وشاقاً، ويحتاج لطول نفس وصبر، ونتائجه حين تقاس بالمعايير الكمية تبدو ضئيلة لأول وهلة، أصبح التفاؤل سمة مهمة في من يتصدون للقيام بهذا الجهد. ويزداد الاقتناع بأهمية هذه السمة حين ندرك أن نتائج التربية لا تبدو آثارها في الرقعة الزمنية المحدودة، وتحتاج إلى فترة قد لا يصل إلى مداها المتسرعون والمتشائمون. إن هناك فئة من الناس يسيطر عليهم التشاؤم، ويسبق هاجس الفشل قيامهم بأي جهد أو عمل، فالأولى بهؤلاء أن يسلكوا الميادين التي تبدو نتائجها سريعة ومغرية. إنهم حين يتصدون للتربية فلن تقنعهم النتائج والآثار التي يرونها على تلامذتهم لأنهم يتطلعون لما هو أكبر وأسرع من ذلك، وتسيطر عليهم النظرة للهفوات والأخطاء ليبرهنوا بها على فشل استجابة الناس، أو فشلهم هم في جهدهم وتربيتهم. كما تبدو تلك الآثار في تفكيرهم وحوارهم وأحكامهم، فيغرسون الروح المتشائمة لدى من يتلقون عنهم، ويفشلوا في إقناع من تحت أيديهم بقدرتهم على النمو وتجاوز الأخطاء. 15 - القدرة على النمو: قد يملك المربي قدرات ومعارف وخبرات جيدة، لكن هذا وحده لا يكفي؛ فلابد من أن يملك القدرة على النمو، وتبدو هذه الصفة ضرورية للمربي للأمور الآتية: الأول: أن الحياة متجددة متطورة، فالوعي السياسي الذي يملكه شخص ما يصبح بعد عام أو أعوام قليلة مجرد ذاكرة تاريخية، وقل مثل ذلك في سائر المجالات المتطورة، بل حتى ميدان العلم الشرعي تتجدد فيه أمور عدة، فثمة كتب تطبع حديثاً، وثمة مؤلفون جدد ومحققون ومؤسسات علمية، كل ذلك يحتاج إليه طالب العلم المربي، فضلاً عن المسائل والنوازل المستجدة، وما لم يكن متابعاً قادراً على النمو فسوف تضمر لديه هذه الجوانب. الثاني: أن تطور مجالات الحياة المتسارع -خاصة في هذا العصر- يترك آثاراً واضحة على المجتمع الذي ينشأ فيه، وما لم يدرك المربي ذلك ويعيه فإنه سيعيش مع جيل غير جيله، وسيضع مرآة أمام عينه مستوردة من الجيل السابق ينظر بها كل ما أمامه. وما نراه اليوم من إصرار بعض المربين على تكرار تلك الأساليب والبرامج التي عهدوها وتلقوها إنما يمثل صورة من صور التعامل مع الجيل الحاضر بعقلية الجيل السابق. الثالث: أن زاد المربي محدود لابد أن ينفد، ففي مبدأ الأمر يدرك المتربون على يديه أنه يملك رصيداً هائلاً لا يملكونه، وأنهم يلقون لديه الكثير، ثم ما يلبث هذا الشعور أن يتناقص تبعاً لما حصلوه منه، حتى يروا أنه لم يعد لديه شيء ذي بال يذكر، وأنهم قد استوعبوا كل ما لديه من خبرات. الرابع: أن المتربين ينمون ويتطورون، بل هم في موقف يشعرهم بأن المهمة الأساسة لهم هي التلقي، ولابد أن يكون لهم مصادر ذاتية أخرى غير ما يقدمه لهم من يربيهم، ومن ثم فهذا النمو ما لم يقابله نمو من المربي فإنه سيخل بمعادلة التفوق المفترضة، وسيجعل موقفه تجاههم أقل من ذي قبل. والمربي الناجح الورع، الذي يتقي الله في الأمانة التي حمله الله إياها، والذي يسعى لمصالح تلامذته أكثر من سعيه لبناء المجد الشخصي والهالة الزائفة حول نفسه؛ الذي يكون بهذه الصفة يكون واقعياً ويشخص المشكلة بوضوح، ويسمح لأمثال هؤلاء أن ينتقلوا إلى بديل أفضل. لكننا اليوم نرى فئاماً من الشباب يصبحون ضحية لطائفة من المربين أصحاب قدرات محدودة، ومع ذلك يتهمون الآخرين بالتمرد وعدم معرفة قدرهم، ويسعون لصنع هالة ضخمة لأنفسهم. الخامس: أن انشغال المربي بالمهمة التربوية يجعله يشعر بأن الدور الأساس له هو العطاء والتوجيه، وأن مرحلة النمو والتلقي والأخذ قد انتهت وتجاوزها، فما أن يقضي وقتاً في هذا الميدان حتى يرى أن الآخرين قد فاقوه وسبقوه. وكان السلف يؤكدون على من يتولى التعليم والتوجيه ألا يقف عند هذا الحد، فقد ذكر ابن جماعة من آداب(/7)
المعلم : "ألا يستنكف عن أن يستفيد ما لا يعلمه ممن هو دونه، بل يكون حريصاً على الفائدة حيث كانت، والحكمة ضالة المؤمن يلتقطها حيث وجدها، قال سعيد بن جبير: "لا يزال الرجل عالماً ما تعلم، فإذا ترك التعلم وظن أنه قد استغنى واكتفى بما عنده فهو أجهل ما يكون" وأنشد بعض العرب: وليس العمى طول السؤال وإنما **** تمام العمى طول السكوت على الجهل وكان جماعة من السلف يستفيدون من طلبتهم ما ليس عندهم" ( تذكرة السامع والمتكلم (60). والقدرة على النمو صفة مهمة قد تكون فطرية في النفس، فمن الناس من تؤهله قدراته إلى مستوى معين يقف عنده ويصعب عليه تجاوزه، ومن هنا تأتي مسؤولية أولئك الذين يختارون المربين في مراعاة تحقق هذا الجانب لدى من يؤهلون لتولي التربية. ومع هذا الأمر الفطري تبقى هناك جوانب عدة تسهم في تحقق هذا النمو لدى المربي، ينبغي للمربين أن يسعوا لتحقيقها في أنفسهم، ومنها: 1- التحصيل الذاتي، من خلال القراءة والمطالعة، والتعامل مع أوعية المعلومات ومصادرها المختلفة، وينبغي أن يكون حازماً مع نفسه ويضع لها برنامجاً لا يخل به، وسيجد من أوقات الفراغ والإجازات، وتقليل الروابط الاجتماعية غير الضرورية، وإعادة تنظيم أوقاته مع طلابه، سيجد من ذلك كله ما يعينه على تحقيق هذا الجانب. 2- العناية بما يقدمه لطلابه من مشاركات ودروس، بحيث يعتني بالإعداد، ولا يقف إعداده على مجرد ما سوف يلقيه ويقدمه لهم، بل يجعل من إعداده لموضوع ما فرصة لاستيعاب أطرافه وما طرح وكتب فيه. 3- اللقاء مع المربين الأعلى منه قدرة، واستشارتهم والاستفادة من خبرتهم والحرص على السماع منهم. 4- اللقاء مع أقرانه بشكل مستمر ودائم؛ فهذا يسهم في تبادل الهموم والخبرات والتجارب، ويسهم في رفع مستوى تفكيره؛ ذلك أنه حين يعيش في أوساط من يربيهم وهم دونه سناً وخبرة، فلابد أن يتأثر باهتماماتهم وخبراتهم، فيسهم حديثه معهم وتلقيه لمشكلاتهم وتساؤلاتهم في حصر تفكيره وهمومه داخل هذه الدائرة، بل يشعر بالتفوق والأستاذية، لكنه حين يعيش مع أقرانه وطبقته فإن ذلك سوف يسهم في تحقيق التوازن لديه في هذا الجانب. الكمال عزيز: النقص من صفات البشر ومن ذا الذي تُرضى سجاياه كلها، وحين نسعى لاستجماع هذه الصفات في كل من يربي وبالقدر الأمثل فنحن نبحث عن عناصر نادرة لا يمكن أن تفي بجزء من متطلبات الجهد التربوي المنوط بالصحوة اليوم. لكنها منارات نسعى للتطلع إليها والاقتراب منها، متذكرين أن النقص والقصور سمة بشرية، وأن الكمال عزيز، وما لا يدرك كله لا يترك جله. ومتخذ القرار الحصيف الذي يجمع بين الواقعية وبين رعاية الأمانة والمسؤولية تجاه الجيل، لن يجهل أن هناك قدراً من الخلل في الصفات يغتفر ويسعى لعلاجه، ويكون احتماله خير من تعطيل الجهد والطاقات، وأن هناك قدراً لا يمكن اغتفاره. ونختم حديثنا بالوصية للمربين والعاملين للإسلام بأمر بالغ الأهمية، وبدونه يصبح كل ما يقومون به من عمل وما يبذلونه من جهد غير ذي بال، ألا وهو الإخلاص لله تبارك وتعالى وإرادة وجهه. ونحن ندرك أن عامة من يتصدون لتربية شباب الصحوة اليوم يدفعهم لذلك حسن النية والرغبة في تحصيل الثواب؛ إذ لانتائج دنيوية ترجى من وراء هذا العمل. لكن ما نؤكد عليه هو استحضار النية الخالصة، وتذكرها واستشعارها، فهذا بإذن الله علاوة على ما يحقق لصاحبه من الثواب ورضا الله عز وجل، فهو يزيد الهمة ويعلي الحماسة للعمل، ويعين صاحبه على احتمال ما يواجه من مشاق وعقبات. وفي النهاية يدرك المخلصون ثواب عملهم حين تسعر النار بأولئك الذين كانوا يبحثون عن عاجل حطام الدنيا ويبتغون رضا الناس بأعمالهم الصالحة. عن شفي الأصبحي أنه دخل المدينة فإذا هو برجل قد اجتمع عليه الناس، فقال: من هذا؟ فقالوا: أبو هريرة، قال: فدنوت منه حتى قعدت بين يديه وهو يحدث الناس، فلما سكت وخلا، قلت له: أنشدك بحق… وبحق…. (حُذفت من الراوي.) لما حدثتني حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم عقلته وعلمته فقال أبو هريرة: أفعل، لأحدثنك حديثا حدثنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم عقلته وعلمته، ثم نشغ أبو هريرة نشغة فمكث قليلا ثم أفاق، فقال: لأحدثنك حديثا حدثنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا البيت ما معنا أحد غيري وغيره، ثم نشغ أبو هريرة نشغة أخرى ثم أفاق فمسح وجهه فقال: لأحدثنك حديثا حدثنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا وهو في هذا البيت ما معنا أحد غيري وغيره، ثم نشغ أبو هريرة نشغة أخرى ثم أفاق ومسح وجهه فقال: أفعل لأحدثنك حديثا حدثنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا معه في هذا البيت ما معه أحد غيري وغيره، ثم نشغ أبو هريرة نشغة شديدة ثم مال خاراً على وجهه فأسندته علي طويلا ثم أفاق فقال: حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله تبارك وتعالى إذا كان يوم القيامة ينزل إلى العباد ليقضي بينهم وكل أمة جاثية، فأول من يدعو به رجل جمع(/8)
القرآن ورجل يقتتل في سبيل الله ورجل كثير المال، فيقول الله للقارئ: ألم أعلمك ما أنزلت على رسولي؟ قال: بلى يارب. قال: فماذا عملت فيما علمت؟ قال: كنت أقوم به آناء الليل وآناء النهار. فيقول الله له: كذبت، وتقول له الملائكة: كذبت. ويقول الله: بل أردت أن يقال إن فلانا قارئ فقد قيل ذاك. ويؤتى بصاحب المال فيقول الله له: ألم أوسع عليك حتى لم أدعك تحتاج إلى أحد؟ قال: بلى يارب. قال: فماذا عملت فيما آتيتك؟ قال: كنت أصل الرحم وأتصدق. فيقول الله له: كذبت وتقول له الملائكة: كذبت. ويقول الله تعالى: بل أردت أن يقال فلان جواد فقد قيل ذاك. ويؤتى بالذي قتل في سبيل الله فيقول الله له: في ماذا قتلت؟ فيقول: أمرتَ بالجهاد في سبيلك فقاتلت حتى قتلت، فيقول الله تعالى له: كذبت، وتقول له الملائكة: كذبت ويقول الله: بل أردت أن يقال فلان جريء، فقد قيل ذاك. ثم ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ركبتي فقال: يا أبا هريرة أولئك الثلاثة أول خلق الله تسعر بهم النار يوم القيامة و قال الوليد أبو عثمان فأخبرني عقبة ابن مسلم أن شفياً هو الذي دخل على معاوية فأخبره بهذا قال أبو عثمان وحدثني العلاء بن أبي حكيم أنه كان سيافاً لمعاوية فدخل عليه رجل فأخبره بهذا عن أبي هريرة فقال معاوية: قد فعل بهؤلاء هذا فكيف بمن بقي من الناس، ثم بكى معاوية بكاءً شديداً حتى ظننا أنه هالك، وقلنا قد جاءنا هذا الرجل بشرٍّ، ثم أفاق معاوية ومسح عن وجهه وقال: صدق الله ورسوله {من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون} ( رواه الترمذي (2382) وأصله عند مسلم (1905) بأخصر من هذا.) . نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من عباده المخلصين، العاملين له ابتغاء وجهه، وألا يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد،،،،
افتقار العمل التربوي للضوابط الشرعية(/9)
ثمة اعتبارات عدة تؤكد على أن تحاط الجهود التربوية بسياج ضوابط الشرع، منها: الاعتبار الأول :التربية عبادة: التربية عمل شرعي، وعبادة لله عز وجل، فلا بد لها أن تحاط بسياج الشريعة وتضبط بضوابطها، وإن سلامة المقصد وحسن النية ونبل العمل ليست مسوغاً أو مبرراً لتسور السياج الشرعي وتجاوز الضوابط. وإذا كان الدافع للمربي هو تحصيل الأجر وابتغاء مرضاة الله عز وجل، فهذا لن يتحقق له مع مخالفة أمر الله وتجاوز حدوده }فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا{ (الكهف:110). الاعتبار الثاني:التربية وظيفة شرعية: التربية شأنها شأن سائر الوظائف الشرعية الأخرى (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الحكم بين الناس، الجهاد....) فإذا كانت هذه الوظائف لابد من إحاطتها بسياج الضوابط الشرعية، فالتربية كذلك. ولذلك ذكر أهل العلم آداباً للمحتسب والآمر بالمعروف والناهي عن المنكر ينبغي أن يحققها ويرعاها، وذكروا آداباً وأحكاماً للجهاد كالامتناع عن قتل النساء والولدان والرهبان وأهل الصوامع، وذكروا آداباً للقاضي في نظره وتعامله مع الخصوم ونطقه بالقضاء، وفي كتب أدب العالم والمتعلم ذكروا طائفة مما ينبغي أن يرعاه ويتمثله كلٌ من معلم العلم وطالبه. الاعتبار الثالث:التربية قدوة: التربية قدوة قبل أن تكون توجيهاً، وعمل قبل أن تكون قولاً، والمربي ينبغي عليه أن يربي الناس بفعله قبل قوله، فحين يجاوز حدود الشرع فكيف سيربي غيره على الورع والتقوى ورعاية حدود الله والمتربي يرى المخالفة الشرعية ممن يربيه ويقتدي به؟ وأثر إخلال المربي بالتزام الضوابط الشرعية في تربيته وعمله لا يقف عند حد العمل التربوي بل يتجاوز ذلك لينتج جيلاً يتهاون بحرمات الله ويتجاوز حدوده ويقصر في أوامره في سائر ميادين حياته. الاعتبار الرابع:المربي تحت المجهر: وكما أن المربي يُنظر إليه بعين القدوة فهناك عيون أخرى ترقبه وتنظر إليه، فينظر إليه من الخارج باعتباره واحداً ممن يعمل للإسلام وعمله يمثل السمت والهدي الشرعي، وربما يُنظر إليه بعين تبحث عن الخطأ وتفرح به؛ فتتخذ من أخطائه مدخلاً للنيل من المصلحين، والوقوف في خندق واحد مع أعداء الله، وهو مسلك قديم ورثه هؤلاء عن أولئك الذين طعنوا في النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بأنهم انتهكوا حرمة الشهر الحرام، ناسين أنهم واقعون فيما هو أكبر من ذلك من الصد عن سبيل الله والكفر به والمسجد الحرام { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتّىَ يَرُدّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِن اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلََئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدّنْيَا وَالآَخِرَةِ وَأُوْلََئِكَ أَصْحَابُ النّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُون} (البقرة:217). وذلك كله يدعو المربي إلى أن يتقي الله ويتحرى الضوابط الشرعية فيما يأتي ويذر. الاعتبار الخامس:التوفيق بيد الله: إن التوفيق والنجاح ليس مرده إلى الجهد البشري وحده، بل قبل ذلك كله توفيق الله وعونه وتأييده؛ وهذا التوفيق له أسباب من أعظمها وأهمها رعاية العبد لحرمات الله، وما أحرى أولئك الذين يتجاوزون الحدود الشرعية بالبعد عن توفيقه سبحانه وتأييده، وفي التعقيب على غزوة أحد بيان أن ما أصاب المؤمنين إنما كان بسبب أنفسهم{أَوَ لَمّا أَصَابَتْكُمْ مّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنّىَ هََذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنّ اللّهَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (آل عمران:165). هذه الاعتبارات وغيرها تدعو وتؤكد على ضرورة أن يعنى المربون برعاية الآداب الشرعية، وأن يكون عملهم محاطاً بسياج الضوابط الشرعية. والمتأمل في الساحة الإسلامية يرى أن هناك تجاوزات عدة في ميدان العمل التربوي للضوابط الشرعية تستوجب الوقوف والمراجعة. ولعل أهم أسباب هذه التجاوزات ما يلي: السبب الأول: ضعف العلم الشرعي وقلة العناية به؛ فكثير من العاملين في الساحة الإسلامية يأخذ العلم الشرعي مرتبة متأخرة ضمن برامجهم، بل إن الأمر تجاوز مجرد إهمال العناية بالعلم الشرعي إلى تهميش دوره والتقليل من شأنه؛ فهو يشغل عن الدعوة إلى الله وهمومها، أو هو شأن الخاصة والمهتمين، أو أن العناية باستراتيجيات الدعوة وقضاياها الفكرية الساخنة أولى وأصدق دلالة على عمق صاحبها!… هذه حجج يواجَهُ بها من يدعو بعض العاملين للإسلام لإعطاء العلم الشرعي دوره اللائق به ضمن برامجهم الدعوية. ونحن إذ نقول ذلك لا ندعو أيضاً إلى أن يكون الجانب العلمي هو وحده الهم الأوحد للدعاة، وأن(/10)
يهمل ما سواه، ولا إلى أن يكون كل جيل الصحوة فقهاء ومحدثين ومجتهدين، ولا أن تنسى الأولويات الدعوية ونعيش في إطار هامشي محدود. لكننا ندعو إلى أن يأخذ مكانه اللائق به، وأن يكون البناء العلمي من أهم أهداف المربين للشباب اليوم؛ فبدونه يخرج جيل يجيد التقعر والتشدق، ويحسن الخطابة والحديث دون علم شرعي يحميه من الزلل والتجاوزات، ويسلك به منهج النبي صلى الله عليه وسلم وهديه في الدعوة. وندعو إلى أن يجمع المربون بين الاعتناء بالعلم الشرعي، والتعاطي المنضبط مع الثقافة المعاصرة، والوعي بظروف العصر وأحواله. السبب الثاني: الغلو والمبالغة في دور المربي وواجباته وتعظيم ذلك، وهذا يؤدي إلى نقل كثير من المناهي الشرعية إلى دائرة الضرورة؛ إذ يرى المربي أن التربية لا تتم إلا بذلك، فهو بحاجة لمعرفة معلومات دقيقة عمن يربيه، والاطلاع على كوامن في نفسه، وإلى أن يتجاوز الوقوف عند حدود الظاهر... وحين يعطى هذا الجانب أكثر من حقه فسيشعر المربي أن الضوابط الشرعية ستقف عائقاً دون تأدية أدوار كثيرة فيضطر لتجاوزها، كما يفعل بعض الزعماء حين يجنحون إلى إعلان حالة الطوارئ التي تسمح لهم بقدر من الحرية في تجاوز القوانين التي قد تحد من صلاحياتهم، مع فارق التشبيه. وعلى أولئك الذين يضخمون حجم المربي ويعطونه هالة ليست له أن يدعموا موقفهم بنص من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم يؤيد ذلك؛ إذ هو من جملة المسلمين المخاطبين بسائر النصوص الشرعية. والمربي -مع التقدير لدوره ووظيفته- شأنه شأن القائمين بكثير من الوظائف الشرعية كالتعليم والاحتساب، وقد اعتنى أهل العلم قديماً وحديثاً ببيان ضوابط عمل هؤلاء وحدود مسؤوليتهم، دون أن يعتقدوا أن خصوصية مهمتهم عامل في تجاوز الضوابط الشرعية. ومع أهمية الجهاد وجواز الكذب فيه على الأعداء، إلا أنه مهما كانت المصالح فلا يجوز الغدر ولا الخيانة، وقد كان صلى الله عليه وسلم يوصي من يؤمره في الجهاد بمراعاة الأدب الشرعي؛ فعن سليمان بن بريدة عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميراً على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيراً ثم قال:"اغزوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليداً… وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه فلا تجعل لهم ذمة الله ولا ذمة نبيه ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك فإنكم أن تخفروا ذممكم وذمم أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة رسوله، وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله ولكن أنزلهم على حكمك؛ فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا" ( رواه مسلم (1731). السبب الثالث: ضعف الورع والانضباط الشرعي، وهو باب بلي به كثير من الناس في هذا الزمان، ومن يضعف ورعه ويرق دينه ربما تجرأ على ما يعلم علم اليقين أنه محرم، أو تهاون فيما هو في دائرة المشتبهات، أو غلبه هواه. وامتد أثر ذلك إلى بعض الصالحين فغلب عليهم التهاون وقلة الورع في حياتهم الخاصة، ومن ثم بدا أثره في أعمالهم وجهودهم الدعوية، بل بعضهم يرفض مبدأ النقاش في هذه القضايا من أساسه. السبب الرابع: الإغراق في التنظير والأسباب المادية والغفلة عن الإخلاص واستحضار النية واستشعار العبودية لله تعالى في هذه الأعمال، وحين يغيب هذا الأمر تسيطر الحسابات البشرية المادية، ويغفل المرء عظمة قدرة الله تبارك وتعالى، والتي من أعظم نتائجها وآثارها التسليم والتفويض له، والشعور بأن العمل مالم يبارك الله فيه ويكتب التوفيق لصاحبه فهو إلى بوار وهلاك. ولا نعني أن يهمل الدعاة إلى الله الأخذ بهذه الأسباب فهي مما لابد منه، لكنها ينبغي أن لا تنسينا استحضار النية والعبادة في هذه الأعمال. السبب الخامس: قلة العناية بالمراجعة والمحاسبة؛ إذ هي توقف المرء على مدى تقصيره، وعلى جوانب الخلل في عمله، ولا يسوغ أن يكون الاعتياد على عمل وإرثه عن السابقين حائلاً ومانعاً عن المراجعة والمحاسبة. وقد يسمع المربي النقد لبعض أوضاعه، والحديث عن بعض التجاوزات الشرعية التي يقع فيها، فتحول نظرته لنبل عمله وسلامة مقصده، أو أنه ورث هذا العمل عن من يحسن الظن بهم ويثق بمسلكهم عن الاقتناع بخطأ مسلكه. أو أن يكون النقد صادراً ممن لا يرعى فيه الأدب الشرعي، أو من أهل الإثارة واللغط على المصلحين، والمؤمن يقبل الحق ممن جاء به ولو ساءت نيته أو أساء الأدب في عرضه. الصورة الأولى: الاتكاء والاعتماد على القواعد الشرعية العامة المجملة دون النظر للنصوص الخاصة في المسألة، والشريعة باب واحد لا يمكن أن تتناقض أو تضطرب، والقواعد العامة للشرع إنما تفهم في إطار سائر النصوص، وتسليط الأفهام البشرية عليها يؤدي إلى فوضى واستهانة بحدود الله. ومن أهم هذه القواعد مراعاة المصلحة، إذ كثيرٌ من المخالفات العظام في(/11)
الساحة الإسلامية تجرأ عليها أصحابها باسم المصلحة، وهو المنهج نفسه الذي يسلكه بعض علماء السوء وأهل الأهواء في تبرير مواقف العلية من الناس، مع اختلاف الدوافع. إن جلب المصلحة ودرء المفسدة قاعدة شرعية عظيمة لا جدال فيها ولا نقاش لكنها يجب أن تكون ضمن ضوابط من أهمها أن لا تخالف نصاً أو حكماً شرعياً، وإلا كانت مصلحة ملغاة. الصورة الثانية: عدم وضوح قضية الظاهر والباطن: من القواعد الشرعية أخذ الناس بظواهرهم وعدم التنقيب عما وراء ذلك، وما ورد في الشرع من النهي عن التجسس والتطلع داخل ضمن هذه القاعدة. ولهذا قال صلى الله عليه وسلم :"إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم" (رواه البخاري (4351) ومسلم (1064). وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر فنادى بصوت رفيع فقال:"يا معشر من قد أسلم بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه لا تؤذوا المسلمين ولا تعيروهم ولا تتبعوا عوراتهم؛ فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله" (رواه الترمذي (2032). عن أبي برزة الأسلمي -رضي الله عنه- قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم؛ فإنه من يتبع عوراتهم يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته" ( رواه أحمد (19277[4/421]) وأبو داود (4880). وقال أيضاً لمعاوية:"إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت أن تفسدهم". فقال أبو الدرداء كلمة سمعها معاوية من رسول الله نفعه الله تعالى بها (رواه أبو داود (4888). وقال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- "من أظهر لنا خيراً ظننا به خيراً وأحببناه عليه، ومن أظهر لنا شراً ظننا به شراً وأبغضناه عليه". وقد نص طائفة من أهل العلم على أن أحكام الشرع مبناها على الظاهر، قال ابن القيم رحمه الله: "فإن الله سبحانه لم يجعل أحكام الدنيا على السرائر بل على الظواهر والسرائر تبع لها، وأما أحكام الآخرة فعلى السرائر والظواهر تبع لها" ( أعلام الموقعين (1/129). وقال الشاطبي:"ومن هنا جعلت الأعمال الظاهرة في الشرع دليلاً على ما في الباطن، فإن كان الظاهر منحرفاً حكم على الباطن بذلك، أو مستقيماً حكم على الباطن بذلك أيضاً، وهو أصل عام في الفقه وسائر الأحكام والعاديات والتجريبيات، بل الالتفات إليها من هذا الوجه نافع في جملة الشريعة جداً، والأدلة على صحته كثيرة جداً، وكفى بذلك عمدة أنه الحاكم بإيمان المؤمن وكفر الكافر وطاعة المطيع وعصيان العاصي وعدالة العدل وجرحة المجرح" (الموافقات (1/171). ومن صور التجاوز نتيجة غياب هذا المفهوم ما قد يمارسه بعض المربين:من التجسس، والاستماع لحديث غيره دون علمه، والاطلاع على ما يخصه دون إذنه... كل هذه الأمور محرمة شرعاً، وجرأة بعض المربين على تجاوزها داخل في عموم قوله تعالى { يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اجْتَنِبُواْ كَثِيراً مّنَ الظّنّ إِنّ بَعْضَ الظّنّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسّسُواْ وَلاَ يَغْتَب بّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتّقُواْ اللّهَ إِنّ اللّهَ تَوّابٌ رّحِيمٌ} (الحجرات:12) وقوله صلى الله عليه وسلم:"من تحلم بحلم لم يره كلف أن يعقد بين شعيرتين ولن يفعل، ومن استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون أو يفرون منه صب في أذنه الآنك يوم القيامة... " (رواه البخاري (7042). والشعور بالأمانة والمسؤولية ليس عذراً للمرء أن يتطلع إلى مالا يحل له التطلع إليه، فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم الرجل أن يطرق أهله ليلاً، معللاً ذلك بقوله:"يتخونهم أو يلتمس عثراتهم" (رواه مسلم (715) ، ولا أظن أن مسؤولية المربي وخصوصية دوره تتجاوز مسؤولية الزوج عن أهله. وتدعو الشفقة والحرص والعناية المربي إلى التطلع ومحاولة معرفة ما وراء الظاهر، والدافع لذلك كله حسن؛ فهو يسعى للتربية والإصلاح، ويريد قياس نتاج تربيته، ويخشى أن يغتر بالمظاهر، لكن ذلك كله لا يسوغ أن يكون على حساب الضوابط الشرعية. ومما يعين المربي على الاقتناع بالوقوف عند حدود الظاهر وتجاوز التطلع، علمه أنه غير مكلف شرعاً بما لا يظهر له، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول عن نفسه:"إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض وأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئاً فلا يأخذ؛ فإنما أقطع له قطعة من النار.. " (رواه البخاري (6967) ومسلم (1713)، فإذا كان هذا الشأن في الحقوق والأحكام فكيف بما هو دونها من أمور التربية والتوجيه؟ وكذلك فالداعية والمربي ليست مهمته إصلاح الناس وهدايتهم، بل ذلك أمره إلى الله وحده، إنما مهمته دعوتهم والاجتهاد في سلوك أقرب الطرق الموصلة لاستجابتهم، وحين لا يتحقق ذلك فالأمر خارجٌ عن دائرة مسؤوليته، وهاهو محمد(/12)
صلى الله عليه وسلم لم يستطع هداية عمه، وهاهو نوح مع ابنه، وإبراهيم مع أبيه، ونوح ولوط مع زوجيهما، فوقوع المتربي في المعصية وانحرافه ليس بالضرورة دليلاً على فشل المربي أو تقصيره في مهمته التي تنتهي عند أداء الجهد قدر استطاعته. وثمة سؤال له أهميته هنا: ذلك أن العبرة بصلاح الباطن، وأن صلاح الظاهر وفساد الباطن باب من أبواب النفاق، فكيف مع ذلك نقف عند حدود الظاهر فقط؟ وكيف لا تكون عناية المربي متجهة إلى الباطن؟ والجواب: أن ثمة فرق بين الدعوة والتربية، وبين التعامل وإجراء الأحكام؛ فالدعوة والتربية يجب أن تتجه إلى إصلاح القلوب، وتنقية السرائر؛ فصلاح الباطن هو الأساس، أما التعامل وإجراء الأحكام فهو على أساس الظواهر، ولا يسوغ للإنسان السعي للتنقيب عن الباطن، وحديثنا ونقدنا إنما هو منصب على دائرة التعامل وإجراء الأحكام، وليس على اعتناء المربي بتوجيه الدعوة لإصلاح الباطن. ومما يعين المربي على تحقيق الاتزان في هذه القضية إدراك الارتباط بين صلاح الظاهر والباطن، فصلاح الباطن أو فساده لا بد أن يبدو أثره على ظاهر الإنسان، ومن ثم فليس بحاجة إلى التطلع إلى الباطن والتفتيش عنه، وفي المقابل فالأعمال الصالحة الظاهرة لها أثر في صلاح باطن المرء؛ فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، والصدقة تطهر وتزكي، والصيام طريق لتحقيق التقوى، والذكر تطمئن به القلوب، وهكذا سائر الأعمال الصالحة. وأولئك الذين يكلفون أنفسهم عناء البحث عن البواطن والتفتيش في الدواخل تبدو لهم مشكلات لا يطيقون حلها، فيعيشون حالة من القلق كان بإمكانهم تجاوزها لو اتبعوا المنهج الشرعي في الوقوف عند حدود الظاهر. الصورة الثالثة: التهاون بحجة مسائل الاجتهاد: ثمة قضايا كثيرة ضمن الوسائل الدعوية والتربوية اختلف فيها أهل العلم حلاً وحرمة، ولكل منهم مأخذه ودليله، فهي دائرة ضمن مسائل الاجتهاد. والأمر في مسائل الاجتهاد واسع، ولا يسوغ في ذلك الإنكار والإغلاظ والتهارج، لكن ذلك قد يشعر بعض المربين أن هذه الأمور ما دامت ضمن مسائل الاجتهاد فالباب فيها مفتوح على مصراعيه دون ضوابط، فيسلك فيها ما يهواه دون أي اعتبار لأمر آخر. وكون المسألة من مسائل الاجتهاد لا يُسوَّغ أن يتبع فيها المرء ما يحلو له، بل لا بد أن يتحرى ويجتهد في اتباع ما يؤدي إليه الدليل الشرعي -وليس هذا مقام بسط هذه المسألة-. الصورة الرابعة: إهمال الورع الشرعي الواجب: ومن ذلك: أ - ما يتعلق بصحبة الأمرد مثلاً، فقد شدد السلف في ذلك والآثار عنهم يضيق هذا المقام عن حصرها، ومنها: ما رواه البيهقي في الشعب عن بعض التابعين قال:"كانوا يكرهون أن يحد الرجل النظر إلى الغلام الجميل" (شعب الإيمان [(5395) 4/358]). وروى أيضاً عن بعض التابعين:"ما أنا بأخوف على الشاب الناسك من سبع ضارٍ من الغلام الأمرد يقعد إليه" (شعب الإيمان [(5396) 4/358]). وروى عن الحسن بن ذكوان قال:"لا تجالسوا أولاد الأغنياء فإن لهم صوراً كصور النساء، وهم أشد فتنة من العذارى" (شعب الإيمان [(5397) 4/358]). وروى عن عبد الله بن المبارك أنه قال:دخل سفيان الثوري الحمام، فدخل عليه غلام صبيح، فقال:"أخرجوه؛ فإني أرى مع كل امرأة شيطاناً، ومع كل غلام بضعة عشر شيطاناً" (شعب الإيمان [(5405) 4/360](). وقال ابن جماعة :"والأولى أن لا يسكنها -المدرسة- وسيم الوجه أو صبي ليس له فيها ولي فطن" (تذكرة السامع والمتكلم (295). وقد غدت اليوم صحبة المربين لهؤلاء الأحداث ضرورة ملحة، ولا يسوغ أن يُهمَلوا أو يُنهى المربون عن صحبتهم بحجة الورع؛ ذلك أن واقع السلف كان يختلف عن واقعنا، فَلَمْ يكن البديل عندهم هو الشارع غير المنضبط، أو التجمعات الساقطة مما نشهده اليوم، بل كانت البيوت ومؤسسات المجتمع التربوية تتكفل بتربية هؤلاء والعناية بهم، أما الآن فالبديل لصحبة المربين لهؤلاء هو أن يصحبهم شياطين الإنس والمفسدين، والواقع شاهد بأن كثيراً من هؤلاء حين ابتعدوا عن الميادين الصالحة انزلقوا في طرق الفساد. ومثل ذلك الحاجة إلى دخول رجال الحسبة للأسواق والمواطن التي تكثر فيها المنكرات، ويتعرضون فيها للنظر المحرم ورؤية المنكرات، وفي ذلك من الأثر على النفس ما فيه، لكن للحاجة أجاز أهل العلم ذلك. ومع القول بالحاجة لصحبة المربين للأحداث تبقى هذه النصوص عن السلف لها قيمتها واحترامها، فعلى المربي أن يراعي ضوابط مهمة في ذلك منها: عدم الخلوة، أو السفر مع الأمرد وحده، ومراعاة المبيت وما يتعلق به، وهي أمور قد يخل بها بعض المربين، مما ينشأ عنه نتائج غير محمودة. ومن الضوابط المهمة في ذلك: أن يُبعَد من ينشأ منه تقصير وتهاون في هذا الأمر ويلحظ منه ميل للأحداث؛ أن يبعد عن هذه الميادين التي تتطلب اتصالاً مباشراً بهم، وفي الميادين الدعوية الأخرى بديل عن ذلك(وقد يلحق بذلك من تصدر منه تجاوزات لا تليق بأمثاله وإن تاب منها، ففرق بين التوبة التي لا يغلق(/13)
بابها، وبين). ب - ومن صور إهمال الورع الشرعي الواجب: التوسع في الوقوع في الأعراض، فقد تدعو طبيعة العمل التربوي للحديث عن قضايا خاصة للمتربين وانتقادهم، وقد يتحدث بعض الأساتذة عن طالب معين بما يكرهه، والأصل في ذلك كله هو المنع والتحريم؛ إذ هو داخل تحت النصوص التي تحرم الغيبة وتشدد فيها، بل تجعل حرمة أعراض المسلمين كحرمة الشهر الحرام والبلد الحرام، إلا ما كان له حاجة ومصلحة شرعية واضحة. ومن أخطر هذه الأبواب ما يتعلق بالأعراض، إذ قد يصارح تلميذ أستاذه ومربيه بمشكلة تتعلق بهذا الباب فيتجرأ هذا المربي على الحديث عنها لغيره بما لا ضرورة له. أما الحاجة للتقويم ووضع الرجل في المكان المناسب فينبغي أن تقدر بقدرها، ومن ذلك ما ذكره بعضهم في ضوابط الصور المستثناة من الغيبة. وبعد: فحين نتحدث عن مثل هذه الأخطاء والتجاوزات فيجب أن نعتدل ونتوسط، فلا يسوغ أن تكون مجالاً للتندر والانتقاص للعاملين لله، أو أن تحول إلى معول هدم للصروح التربوية ويسعى إلى القضاء عليها بحجة الانضباط الشرعي. وندرك أيضاً أن كثيراً ممن يقع في مثل هذه التجاوزات إنما أتي من باب الغفلة، والذهول عن مراعاتها لا من قبل رقة الدين، بل أكثرهم خير وأتقى لله منا. وندرك المنجزات الرائعة التي قدمها هؤلاء المربون نسأل الله أن يجعل ذلك في موازين حسناتهم وأن يبارك في جهودهم، ويكلل أعمالهم بالتأييد والنجاح والتوفيق.
النجباء والموهوبون(/14)
تعنى الأمم التي تحرص على بناء نهضتها ورفعة مكانتها بالموهوبين والنجباء، وهذه العناية والاهتمام لم تكن وليدة العصر الحاضر، ولا نتاج الدراسات الإنسانية المعاصرة؛ ففي قصة أصحاب الأخدود يخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الكاهن قال للملك: "انظروا لي غلاما فهماً أو قال فطناً لقناً فأعلمه علمي هذا؛ فإني أخاف أن أموت فينقطع منكم هذا العلم ولا يكون فيكم من يعلمه، قال: فنظروا له على ما وصف فأمروه أن يحضر ذلك الكاهن وأن يختلف إليه… "( رواه الترمذي (3340) وأصل الحديث في مسلم (3005)دون موضع الشاهد.). وقد برزت العناية بالموهوبين اليوم في الدراسات النفسية والتربوية، وظهرت مدارس ونظريات تفسر الموهبة والتفوق، وتطرح برامج لرعاية الموهوبين والاهتمام بهم؛ لما لهم من أثر في مجتمعاتهم . لذا كان لا غنى للأمة وهي تسعى اليوم لاستعادة مجدها عن الاعتناء بالنجباء والموهوبين، وكان حرياً بالغيورين من المصلحين أن يولوا هؤلاء ما يستحقون من عناية ورعاية. ومن هنا جاء تناول هذا الموضوع الذي لا يمثل دراسة علمية، بل هو لا يعدو أن يكون آراء وأفكاراً شخصية. التعريف بالنجباء والموهوبين وخصائصهم قال ابن الأثير:"النجيب: الفاضل من كل حيوان. وقد نجب ينجب نجابة إذا كان فاضلاً نفيساً في نوعه" ( النهاية في غريب الحديث والأثر (5/17). وقال في اللسان -نقلا عن ابن سيده - :" النجيب من الرجال الكريم الحسيب…وقد تكرر في الحديث ذكر النجيب من الإبل مفرداً ومجموعاً، وهو القوي منها الخفيف السريع" (لسان العرب (1/748). وقد شاع في العرف المعاصر إطلاق لفظ الموهوبين على النجباء، ويعرف المختصون الموهوب بتعريفات عدة، منها: أنه الذي يظهر تفوقاً مستمراً في أي ميدان من ميادين الحياة، وعرفت الجمعية الوطنية للدراسات التربوية في الولايات المتحدة الطفل الموهوب بأنه: ذلك الطفل الذي يظهر أداءً مرموقاً بصفة مستمرة في أي مجال من المجالات ذات الأهمية (انظر : الموهوبون: أساليب اكتشافهم وسبل رعايتهم في التعليم الأساسي الصادر عن مكتب التربية العربي،). ومن المقاييس الشهيرة للموهوبين مقياس رونزويللي ويتضمن المجالات الآتية: خصائص التعلم: كبناء الثروة اللفظية، نمو عادات القرار المستقلة، الإتقان السريع للمادة المتعلمة وتذكر المعلومات، استخلاص المباديء العامة. خصائص الدافعية: مثل المبادأة الذاتية، الإصرار على استكمال الواجبات والأعمال، والمعاناة من أجل الوصول إلى مستوى أفضل، الشعور بالملل عند أداء الأعمال الروتينية. الخصائص الابتكارية: كحب الاستطلاع الشديد لعدد متنوع من الأشياء، قدر أكبر من الأصالة في حل المشكلات والاستجابة للأفكار، درجة أقل من الاهتمام بالمسايرة. الخصائص القيادية: كالثقة بالنفس، والنجاح في العلاقات مع جماعات الرفاق، الاستعداد لتحمل المسؤوليات، سهولة التكيف مع المواقفالجديدة (الموهوبون، مصدر سابق (46). ومن خصائصهم العقلية التعليمية - التي توصلت إليها بعض الدراسات - أنهم أكثر قدرة من العاديين على القراءة السليمة والمحادثة الذكية، ويتميزون بالقدرة على التذكر ودقة الملاحظة، والقدرة على التفكير المنظم. ومن خصائصهم في سمات الشخصية أنهم لا يبالغون في أقوالهم، وتدل تصرفاتهم على النضج، ويتمتعون بالاتزان الانفعالي. وليس هذا ميدان دراسة متخصصة حول الموهوبين وما يتعلق بهم، إنما إشارات سريعة يمكن أن تخدمنا فيما نحن بصدده من الحديث عن النجباء. ماذا نعني بالنجباء؟ حين نتحدث عن النجباء في إطار اهتمامات جيل الصحوة، فلا بد أن تفرض علينا خصوصيتنا قدراً من الاختلاف في النظرة والمعايير، ولا يسوغ أن نستورد الدراسات الاجتماعية - التي هي أحد إفرازات وضع اجتماعي لا نتفق وإياه - دون تمحيص أو مراجعة. والعناية بالموهوبين قدر مشترك بين العقلاء، ومن ثم فلابد من نقاط اتفاق واسعة، لكننا قد نختلف مع هؤلاء في بعض السمات والخصائص المنطلقة من اختلاف النظرة للحياة الدنيا والآخرة، والنظرة لقيمة الإنسان وغاية خلقه. ومن ثم فقد لا نحفل كثيراً ببعض من تصنفهم الدراسات المعاصرة من الموهوبين، كمن يتميزون بالقدرات في الفن والرسوم والتمثيل ونحو ذلك، فهم - مع عدم اعتراضنا على مالا يخالف الشرع من أنشطتهم - لا يمكن أن يرقوا لمستوى القدوة والريادة في الأمة، فضلاً عن النابغين في أنشطة محرمة كالموسيقى والغناء وغير ذلك. ونشعر أيضاً أن عنايتنا بالموهوبين لا يسوغ أن تتناقض مع أصل التفاضل بالصلاح والديانة والتقوى. ومن رزقه الله الجمع بين العلم والفهم في مقاصد الشرع، وفق لسلوك الطريق الوسط والمنهج الأقوم في ذلك. وانطلاقاً من هذه المقدمة يمكن أن نقترح خصائص للنجباء الذين ينبغي أن يعنى بهم جيل الصحوة، ومن ذلك: 1- الذكاء المرتفع، والقدرة العقلية العالية. 2- الشخصية القيادية. 3- الشخصية المتميزة في الجد والبذل والإنتاجية والمثابرة. 4- الشخصية التي تملك(/15)
المهارات الاجتماعية والقدرة على كسب قلوب الناس. 5- القدرة والمواهب الأدبية كالشعر والقصة وسائر فنون الأدب. حاجتنا إلى النجباء إن الحديث عن النجباء وما يتعلق بهم فرع عن الاقتناع التام بالحاجة إليهم، واعتبار كسبهم في صفوف الدعوة من الأولويات والمطالب الملحة، فهل هذا الأمر داخل ضمن نطاق اهتماماتنا الدعوية ؟ إن الأولى أن تكون هذه المراحل قد تجاوزها الدعاة إلى الله عز وجل وعادت أموراً بدهية مقررة، ولذا فسنشير إشارة عاجلة إلى مبررات الحاجة إليهم، ليدفعنا ذلك إلى الحرص على كسبهم في قطار المستجيبين للدعوة، ولندرك عمق الخسارة التي نجنيها، والمعاناة التي تعانيها الدعوة من جراء سقوط أمثال هذه العناصر. 1 - قدر مشترك عند العقلاء: لا اختلاف بين العقلاء في أن الناس معادن وقدرات متفاوتة، وتسمع في مجالس كثير من الناس الحديث عن فلان بأنه رجل مؤهل، والآخر يملك قدرة فائقة، والثالث ذكي سريع البديهة. ويتفق الناس جميعاً على أن الرجل الغبي البليد لا يمكن أن يتحول يوماً من الأيام إلى رجل ذكي عبقري، وأن الرجل الجبان ضعيف الشخصية لا يمكن أن يوصله التعليم والتدريب والتربية لأن يكون قائداً محنكاً، وقديماً قيل: والناس ألف منهم كواحد **** وواحد كالألف إن أمر عنى ولا يزال أصحاب الأعمال والتجار يحرصون على كسب عناصر معينة من الناس تملك القدرة والمواهب الفذة التي تؤهلها للقيام بأدوار مهمة في إدارة أعمالهم، ويمنحون رواتب مجزية لأمثال هذه العناصر. 2 - الناس معادن: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- يرفعه قال: "الناس معادن كمعادن الفضة والذهب، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا، والأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف " (رواه مسلم (2638) ورواه البخاري بنحوه.). فيقرر النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث هذا المعنى فيبين أن الناس يتفاوتون كما تتفاوت معادن الذهب والفضة، وأن خيرهم في الإسلام، هو الذي كان خيرهم في الجاهلية، أي الذي كان من معدن نفيس. 3 - هديه صلى الله عليه وسلم: إننا حين نتأمل سيرة النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته نجد أنه كان يولي هذا الجانب اعتباراً وعناية؛ فمن ذلك: 1 - حرصه على إيمان نفر من المشركين أكثر من غيرهم، وعنايته بدعوتهم وقد كان يقول:"اللهم أعز الإسلام بأحب هذين الرجلين إليك: بأبي جهل أو بعمر بن الخطاب" (رواه أحمد (5363) 2/95 والترمذي (5681). وقد ظهر أثر ذلك واضحاً؛ فكل من يقرأ السيرة لا يمكن أن يخفى عليه كيف كان أثر إسلام عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ولهذا قال عبدالله ابن مسعود -رضي الله عنه-:"ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر" ( رواه البخاري (3863). 2 - عنايته صلى الله عليه وسلم بمن أسلم من أصحاب الطاقات الفاعلة والمواهب، ويصور لنا ذلك قول عمرو بن العاص -رضي الله عنه-:"ما عدل بي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبخالد في حربه أحداً منذ أسلمنا" (رواه الطبراني والبيهقي.). 3 - توجيه أصحابه توجيهات خاصة دليل على أن هناك جوانب في النفس قد لا يمكن للمرء أن يتجاوزها لذا فقد قال صلى الله عليه وسلم لأبي ذر:" يا أبا ذر، إني أراك ضعيفاً، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأمرن على اثنين، ولا تولين على مال يتيم" (رواه مسلم (1826) ، وهي مقولة خاصة بأبي ذر -رضي الله عنه- دون غيره من أصحابه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم علم منه ما لم يعلمه من غيره، أما عامة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقد تولوا المسؤوليات والولايات. 4 - مكاتبته صلى الله عليه وسلم للملوك ودعوته إياهم، أليس هذا دليلا على أن من الناس من إذا اهتدى اهتدى بهدايته أمم؟ فلئن كان هذا يصدق على الملوك آنذاك، فهو يصدق أيضاً على قادة الفكر والرأي، وعلى من يملكون قدرة على إقناع الناس ومقارعة الحجة. 4 - هدي السلف: وقد أدرك أصحابه رضوان الله عليهم هذا الأمر فحرصوا عليه في دعوتهم؛ عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر، فقال بعضهم: لم تدخل هذا الفتى معنا ولنا أبناء مثله؟ فقال: إنه ممن قد علمتم، قال: فدعاهم ذات يوم ودعاني معهم، قال: وما رأيته دعاني يومئذ إلا ليريهم مني، فقال: ما تقولون في {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} ؟ حتى ختم السورة فقال بعضهم: أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا، وقال بعضهم: لا ندري أو لم يقل بعضهم شيئاً، فقال لي: يا ابن عباس، أكذاك تقول؟ قلت: لا، قال: فما تقول؟ قلت: هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه الله له {إذا جاء نصر الله والفتح} فتح مكة فذاك علامة أجلك {فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا} قال عمر: ما أعلم منها إلا ما تعلم (رواه البخاري (4294). وهاهو مصعب بن عمير -رضي الله عنه- وقد أرسله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة يأتيه سعد بن معاذ - رضي الله عنه -(/16)
ليسلم فيقول له أسيد بن حضير: هذا رجل إن تبعك لم يتخلف من قومه أحد، وفعلاً كان لسعد البلاء المشهود في الإسلام، ومن بلائه - رضي الله عنه - موقفه في غزوة بدر، وحكمه في بني قريظة حتى اهتز له عرش الرحمن حين مات، كل ذلك مما يفسر لنا حرص أسيد -رضي الله عنه- على دعوة سعد وهدايته. ومن نماذج عناية السلف بالنجباء ما رواه الخطيب في الجامع بإسناده عن إسماعيل بن عياش قال: كان ابن أبي حسين المكي يدنيني، فقال له أصحاب الحديث: نراك تقدم هذا الغلام الشامي وتؤثره علينا؟ فقال إني أؤمله، فسألوه يوماً عن حديث حدث به عن شهر : إذا جمع الطعام أربعاً فقد كمل، فذكر ثلاثاً ونسي الرابعة، فسألني عن ذلك، فقال لي: كيف حدثتكم؟ فقلت: حدثتنا عن شهر أنه إذا جمع الطعام أربعاً فقد كمل: إذا كان أوله حلالاً، وسمي عليه الله حين يوضع، وكثرت عليه الأيدي، وحمد الله حين يرفع. فأقبل على القوم، فقال: كيف ترون؟ ( الجامع 1/312). 5 - تاريخ الإسلام خير شاهد: إن من يقرأ في السيرة النبوية يدرك تماماً أن هناك من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من كان في إسلامه خيرٌ كثيرٌ للأمة، وأثر يوازي آثار غيره، فهذا عمر ابن الخطاب -رضي الله عنه-منذ أن أسلم لم يزل المسلمون في عزة ومنعة، وهذا خالد بن الوليد -رضي الله عنه-لم يمض على إسلامه أشهر معدودة حتى قاد المسلمين في غزوة مؤته وأنقذ المسلمين من مهلكة، وهو مع ذلك دون كثير من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فضلاً وقد قال له صلى الله عليه وسلم:"لا تسبوا أصحابي؛ فإن أحدكم لو أنفق مثل جبل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه" (رواه البخاري (3673) ومسلم (2541)، بل إن من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من لا يعرف، ومنهم من طبقت شهرته الآفاق. 6 - ضخامة الأدوار المناطة بالصحوة: إن الصحوة تتحمل مسؤولية ضخمة أمام الأمة في قيادتها والنهوض بها، مما يتطلب منها إعداد قيادات للأمة في مجالات شتى من مجالات الحياة، تسهم هذه القيادات في إقناع الأمة بالمشروع الإسلامي وتأهله للقيادة. والصحوة نفسها تفتقر إلى طاقات وقدرات توجهها وتضبط لها مسيرتها وتقودها في هذا الطريق الطويل. وتفتقر إلى طائفة ممن يحملون العلم الشرعي ويفقهونه حق الفقه، ليكونوا قيادة راشدة للأمة، ولتستغني بالطاقات التي تعيش همومها ومشكلاتها. إن هذه الأدوار وتلك لا يمكن أن يقوم بها فرد عادي، ومن ثم كانت الصحوة بحاجة إلى كسب النجباء الذين يملكون التأهيل لتولي المسؤوليات القيادية على مستوى الصحوة، وعلى مستوى الأمة أجمع. إن تلك الاعتبارات وغيرها تفرض على المربين المخلصين إعادة النظر في موقفهم من النجباء وعنايتهم بهم. أخطاؤنا تجاه النجباء 1 - الإهمال وذلك أننا قد لا نعيرهم الاهتمام اللائق بهم؛ إما في دعوتهم ابتداءً، أو في إعطائهم الجهد التربوي الذي يستحقونه بعد استقامتهم؛ فلا نفرق بين نجيب وغيره، والجهد المبذول له قد يساوي الجهد المبذول لضعاف العقول والشخصية. وترك أمثال هؤلاء يعيشون في أجواء لا تتناسب مع قدراتهم وإمكاناتهم يتسبب في انقطاعهم عن المسيرة، أو في بقائهم داخل الصف بعد أن تذبل قدراتهم وتموت ملكاتهم. كما أن كثيراً من المعلمين والمربين التقليدين لا يعطونهم الاهتمام اللائق، بل يتضايقون منهم "لأنهم لا يحبون الانقياد والتبعية، كما أنهم مندفعون ومن ذوي الأفكار الغريبة، وغير تقليدين، ويبحثون عن التغيير في المجالات التي تتطلب إظهار روح المغامرة، ويميلون إلى الفوضى وعدم النظام" (رعاية الموهوبين والمبدعين. رمضان القذافي ص (123). 2 - وهم الغرور: وهذا من أكثر الأخطاء التي يقع فيها بعض المربين؛ فإنه يملك حرصاً على طلابه، وحساسية مرهفة، فيقف عند الإشارة، والكلمة، والحركة، ويغرق في التحليلات، ويبالغ في التوقعات - والحرص ما لم يخرج عن حد الاعتدال مطلوب - ونتيجة لحرص المربي على طالبه، فإنه يرى أن العناية به والاهتمام به، بل وضعه في موضعه الطبعي يدعوه إلى التميز عن أقرانه مما يدخل العجب والغرور إلى نفسه، ويمكن هنا أن نسجل بعض الملحوظات: 1 - إن حرص المربي على طلبته ما لم يتجاوز حد الاعتدال أمرٌ مطلوب ولا شك، والعناية بإصلاح أعمال القلوب وتفقدها ومدافعة أمراض النفس مسلكٌ لا جدال فيه. 2 - لا شك أيضاً أن الغرور والعجب داء قاتل، - وسيأتي الحديث عنه إن شاء الله-. 3 - لا شك أن العناية بالطالب النجيب، ورعايته لا بد أن ينتج عنها تميزه على زملائه وأقرانه. ولكن: لماذا لا ننظر إلى المسألة إلا من جانب واحد هو الخوف عليه من الغرور؟ فلماذا ننسى أن من حقه التربية والعناية والرعاية ؟ ولماذا نغلب الخوف وحده دون الرجاء ؟ بل إن هناك خوفٌ آخر يجب أن نحكمه هنا، ألا وهو أن إهمال النجيب، وترك العناية به ورعايته مدعاة لأن نخسر طاقة كان يمكن أن تستثمر. ومن يتأمل في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم لن يعدم الشواهد العديدة من اهتمامه صلى الله(/17)
عليه وسلم وعنايته بذوي القدرات من أصحابه، وأن هذا الاعتبار لم يكن عائقاً عن الاهتمام بهم وإنزالهم المنزلة اللائقة، ومن ذلك: 1 - ثناؤه صلى الله عليه وسلم على بعض أصحابه في مواقف عديدة بعبارات حفظت وسطرها علماء التراجم ضمن مناقبهم رضوان الله عليهم، ولا شك أن هذه العبارات تحمل من التزكية والثناء مالا تحمله أي عبارة من غيره صلى الله عليه وسلم، وأي عبارة ثناء وتقدير يسمعها من بعدهم لن تبلغ منزلة ثناء صاحب الرسالة، أفلم يكن صلى الله عليه وسلم حريصاً على حماية أصحابه من العجب والغرور؟ 2 - تكليفه صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه بل والشباب منهم بمهام لا يقوم بها إلا الأكابر، ومن ذلك: أ - تكليف زيد بن ثابت -رضي الله عنه- بكتابة الوحي وهو غلام. ب - تأميره أسامة بن زيد -رضي الله عنه- وهو دون العشرين من عمره على جيش يغزو الروم وفيه كبار أصحابه. ج - توليته عمرو بن سلمة -رضي الله عنه- على الصلاة بقومه (رواه أحمد 5/30 (20355). د - حين قدم عليه وفد ثقيف وكان فيهم عثمان بن أبي العاص -رضي الله عنه- وهو أصغر الوفد سناً ولاَّه عليهم وأمره بإمامتهم، ووجهه قائلاً:"أم قومك، فمن أم قوماً فليخفف، فإن فيهم الكبير، وإن فيهم المريض، وإن فيهم الضعيف، وإن فيهم ذا الحاجة، وإذا صلى أحدكم وحده فليصل كيف شاء" ( الحديث في مسلم (468) وأصل القصة عند الطبراني كما في المجمع (9/371) وعند ابن سعد (6/47). هـ وولى عتاب بن أسيد -رضي الله عنه- أميراً على مكة وكان عمره حين استعمل نيفاً وعشرين سنة (الإصابة (4/356). 3 - إطلاع بعض الشباب من الصحابة على بعض الأمور المهمة التي لا يطلع عليها إلا الكبار، ومن ذلك: أ - تكليف زيد بن ثابت -رضي الله عنه- بتعلم السريانية وائتمانه على كل ما يكتبه صلى الله عليه وسلم لليهود وما يكتبونه له وهو لما يزال غلاماًبع د(رواه أحمد (5/186) والترمذي (2715) وأبو داود (3645). ب - اختياره صلى الله عليه وسلم دار الأرقم لتكون مكاناً لاجتماع المسلمين في مكة مع أنه شاب لم يبلغ العشرين بعد. ج - حين شاع الحديث في الإفك دعا النبي صلى الله عليه وسلم شابين من أصحابه فاستشارهما في قضية خاصة وحرجة ألا وهي فراق أهله، كما تحدثنا صاحبة الشأن -رضي الله عنها-:"...ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب وأسامة ابن زيد حين استلبث الوحي يستشيرهما في فراق أهله" (رواه مسلم (2770). والاستطراد في سرد الشواهد يطول، ولعل فيما أوردنا كفاية. 3 - وضعه في غير موضعه: وذلك بأن يوجه لمجالات وجوانب، ويكلف بأعمال يمكن أن يقوم بها من دونه، فهذا إهدار للطاقة النادرة ابتداءً، ومدعاة إلى شعوره بأن هذا العمل لا يليق بأمثاله، فيرى أنه لم يقدر قدره مما يؤدي إلى تسربه وإعراضه. وإنه لمن الإهدار للطاقة والقدرة، ومن التوجيه غير السليم أن يكلف مثل هذا الطالب بأعمال صحفية وفنية في الجمعية المدرسية تستهلك عليه وقته واهتماماته، في حين يقوم بها غيره ويتفرغ هو لأعمال فكرية وعلمية وقيادية تنمي المواهب الهامة التي تحتاجها الأمة. ومن وضعه دون موضعه أن يتولى تربيته طاقات غير مؤهلة تربوياً للقيام بأمثاله، فإن استمر في المشوار التربوي فسيكون دون ما هو عليه، فنخسر طاقته وقدرته، ولست أدري إلى متى ونحن نمارس الأوهام والمخادعة لأنفسنا، فيتخيل المربي أنه قادر على التعامل مع كافة المستويات وسائر الطبقات؟ ولم لا يتجرأ المربي فيفكر أنه دون هذا العمل، وأقل من أن يقوم بفلان، وأي ضير في ذلك أو نقص عليه؟ إنك حين تطلب من رجل أن يرفع حجراً لا يطيقه يبادرك بالاعتذار وأن هذا فوق إمكانه وطاقته، فما باله لا يملك الشجاعة على الاعتذار عن تحمل هذه الأعمال التي لا يطيقها؟ إن من تقدير النجيب حق قدره أن يوجه له أمثاله ممن يملكون القدرة التربوية، ويقتنع أنهم يملكون ما يقدمونه له. مشكلات النجباء لئن كانت هناك أخطاء نقع فيها في تربية النجباء، فهناك مشكلات تقع منهم أنفسهم، ومنها: 1 - الغرور والعجب: النجيب المتميز يحمل بذرة تعينه على الغرور؛ إذ هو يدرك تميزه على أقرانه في سرعة فهمه وإدراكه، وسبقه لهم في كثير من الأنشطة التي يشاركهم فيها، وحين يضاف إلى ذلك تعامل الناس معه وإعلاؤهم لشأنه وثناؤهم عليه يزيد ذلك من شعوره بالغرور والعجب. ولهذا رعى النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى؛ عن عائشة -رضي الله عنها- أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها فقال:"لولا أن تبطر قريش لأخبرتها بما لها عند الله عز وجل" ( رواه أحمد (24721). وعن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه قال: أثنى رجل على رجل عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال:"ويلك قطعت عنق صاحبك، قطعت عنق صاحبك" مراراً ثم قال:"من كان منكم مادحاً أخاه لا محالة فليقل: أحسب فلانا والله حسيبه ولا أزكي على الله أحداً، أحسبه كذا وكذا إن كان يعلم ذلك منه" (رواه البخاري (2662) ومسلم (3000). قال ابن بطال(/18)
:"حاصل النهي أن من أفرط في مدح آخر بما ليس فيه لم يأمن على الممدوح العجب لظنه أنه بتلك المنزلة ، فربما ضيع العمل والازدياد من الخير اتكالاً على ما وصف به "( فتح الباري (10/585). وقال ابن حجر:"ولكن تبقى الآفة على الممدوح ، فإنه لا يأمن أن يحدث فيه المدح كبراً أو إعجاباً أو يكله على ما شهره به المادح فيفتر عن العمل ، لأن الذي يستمر في العمل غالبا هو الذي يعد نفسه مقصراً ، فإن سلم المدح من هذه الأمور لم يكن به بأس ، وربما كان مستحباً" ( فتح الباري (10/586). وعن معاوية -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"إياكم والتمادح فإنه الذبح" (رواه ابن ماجه (3743). وحين يحل العجب والغرور قلب امريء فهذا يعني بداية العطب والهلاك، قال الغزالي:"والقلب بيت هو منزل الملائكة ومهبط أثرهم، ومحل استقرارهم، والصفات الرديئة مثل: الغضب والشهوة والحقد والحسد والكبر والعجب وأخواتها، كلاب نابحة، فأنى تدخله الملائكة وهو مشحون بالكلاب" ( إحياء علوم الدين (1/49). 2- الإفراط في النقد: ومن المشكلات التي تكثر عند بعض النجباء والموهوبين الإفراط في النقد، ذلك أن القدرات التي يملكونها تؤهلهم أكثر من غيرهم لاكتشاف الأخطاء، ويتراكم تأثير ذلك حتى يصبح النقد سلوكاً مستقراً لدى أحدهم، فينتقد الأشخاص والبرامج والأعمال، وبعضهم من فرط نقده قلما يرى شيئاً أو أحداً يعجبه. والنقد بحد ذاته ليس صفة ذميمة، لكنه حين ينشأ لدى الشاب في وقت مبكر فقد يولد آثاراً غير محمودة، خاصة أن خبرة الشاب لا تزال تقصر عن مؤهلاته وقدراته. وينشأ عن ذلك أيضاً المثالية في النقد، نظراً للإفراط في التجريد لدى الشاب وقلة الخبرة. وقد ينشأ من الإفراط في النقد في هذه المرحلة المبكرة حرمان الشاب من الاستفادة من كثير من الأشخاص، أو البرامج والفرص المتاحة نظراً لأنها قد لا تروق له ولا تعجبه. 3 - احتقار الآخرين: وقد ينشأ من غرور الشاب وإعجابه بنفسه أن يحتقر الآخرين؛ ذلك أنه يرى أنه أسد منهم تفكيراً، وأكثر اطلاعاً، وأسرع فهما واستيعاباً، فيولد ذلك لديه احتقارهم واستصغار شأنهم. ويزيد من ذلك الشعور قدرته على النقد واكتشاف أخطاء الآخرين. 4 - الشذوذ وتتبع الغرائب: يدفع بعضَ النجباء شعورُهم بالتميز وتطلعهم للتفرد إلى الشذوذ في الآراء، وتتبع الغرائب، ويغذي ذلك شهوة خفية توحي إليهم أن ذلك أمارة على دقة فهمهم وسعة اطلاعهم، وأنهم يدركون ما لا يدركه الآخرون. وهذا المسلك إنما هو نتيجة للثقة المفرطة بالنفس والاعتداد بها، لذا فكثيرٌ ممن انحرفوا في ميدان الفكر وأتوا بالغرائب والشواذ هم من الأذكياء والنجباء. ومما يعوق أمثال هؤلاء عن الرجوع للحق والاستماع للمخالف، شعورهم بأن ذلك يعني اعترافهم بنقص قدرهم وتميز الآخرين عليهم. 5 - سرعة الملل والسأم: يتسم الموهوبون -كما سبق - بالشعور بالملل عند أداء الأعمال الروتينية، ويتطلعون كثيراً للتجديد والتطوير، وهي سمة إيجابية. لكنها تولد مشكلات لدى كثير من المربين تتمثل في مللهم وسأمهم من البرامج التي تقدم لهم، وقد لا يستطيع كثير من المربين الوفاء بمطالبهم وملاحقة تطلعاتهم، خاصة التقليدين منهم الذين لا يستوعبون التطوير والتجديد، وتمثل الأساليب التقليدية التي اعتادوها ثوابت لا يفكرون في تجاوزها. وقد ينتج عن هذه المشكلة انقطاع هؤلاء، أو جنوحهم إلى الكسل والعجز، أو إلى العبث والشغب. وصايا للاعتناء بالنجباء : أنتجت الدراسات المعاصرة برامج ووسائل للاعتناء بالموهوبين ورعايتهم، وثمة مدارس عدة تتفاوت فيما بينها في وسائل الرعاية والاهتمام. لكن لما كان هذا الحديث حديثاً خاصاً للمربي والمعلم الذي لا يملك التغيير في بنية التعليم وهيكليته رأيت الاقتصار على بعض المقترحات التي يمكن أن يطبقها المعلمون والآباء. وقبل ذلك أشير باختصار شديد إلى أهم وسائل رعاية الموهوبين في البرامج التعليمية: 1 - التجميع أو العزل وهو تجميع المتميزين من الطلاب في فصول خاصة بالمدرسة الواحدة جزءاً من اليوم الدراسي أو طوال اليوم، أو تجميعهم في مدارس خاصة. 2 - الإثراء ويقوم هذا الأسلوب على أساس إغناء المنهج في إطار الصفوف العادية، أو في مجموعات خاصة، ومن أساليب الإثراء المستخدمة: أ - أن تكون هناك مقررات إضافية، أو أجزاء من المقررات لا يلزم بها الطالب العادي. ب - إضافة أجزاء في كل وحدة أو موضوع في الكتاب الدراسي كقراءات إضافية أو بحوث أو نحو ذلك. ج - إعداد كتب إضافية تصحب الكتاب المدرسي. 3 - الإسراع ويتضمن القبول المبكر في المراحل التعليمية بالنسبة لعمر الطالب الزمني، أو السماح له بتخطي بعض الصفوف الدراسية، أو إنهاء دراسته في مدة أقل مما تتطلبه مرحلته الدراسية (انظر: الموهوبون 22-29 ، 61-63، 180-181.). وقد تكون الاستفادة المباشرة لبعض المربين من هذه الوسائل محدودة، وإن كنا ننتظر من المربين ألا يقفوا عند حدود(/19)
ما يقدم لهم جاهزاً بل يسعوا لتوظيف خبرات الآخرين بالطريقة المناسبة، وحين يكون المربون غير قادرين على ذلك فهذا يعني الشك في تأهلهم وقدرتهم على التربية ابتداءً. لذا نقدم هذه الوصايا التي نأمل أن يستفيد منها المربون في الاعتناء بالنجباء والموهوبين: 1 - الحرص على التعرف عليهم واكتشافهم ابتداء، وإن كانت الاختبارات والمقاييس العلمية قد لا تتيسر في ذلك، إلا أنه يمكن أن تُستخدم الوسائل الآتية التي قد تعد مؤشرات قوية: أ - الملاحظة المباشرة، وتفتقر إلى خبرة المعلم وقدرته على التقويم. ب - تطوير طرق التدريس وأساليبه، والبعد عن الطريقة التي تعتمد على الإلقاء، والحرص قدر الإمكان على زيادة تفاعل الطلاب ومشاركتهم. مع ملاحظة أن المشاركة المطلوبة هنا ليست ما يفعله كثير من المعلمين من خلال طرح أسئلة في ثنايا الدرس عما سبق أن قدمه لهم، فهذه تقيس التذكر والاستدعاء، إنما ينبغي أن تكون المشاركة في التعرف على المشكلات، والوصول إلى النتائج، مع الاعتناء بالمستويات المتقدمة من التفكير. ج - تطوير أساليب التقويم لتقيس كافة مستويات التحصيل ولا تكون مقتصرة على التذكر والاستدعاء وحده. د - تطوير البرامج والأنشطة، والبعد عن الأساليب والأنماط التقليدية الجامدة. هـ - تنظيم المسابقات والمنافسات والبرامج المنوعة التي تسهم في اكتشاف الطاقات والخبرات، مع مراعاة أن تصاغ بطرق تخدم في التعرف على الموهوبين والنجباء، دون أن تكون مركزة على اكتشاف المعلومات والمهارات السابقة لدى الطلاب. و- الاستعانة بالنتائج الدراسية، مع الحذر من الاعتماد عليها وحدها، فهي تعد مؤشراً من المؤشرات. 2 - الحرص على إصلاحهم وهدايتهم، فهذه هي الركيزة الأولى للاستفادة منهم، وتوظيف قدراتهم في سبيل الخير ونصرة الحق. 3 - الاعتناء بتربيتهم وتوجيههم، والحرص على تحقيق النمو المتوازن لديهم، ويمكن الاستفادة بصورة أو أخرى من وسائل الرعاية التي أشرنا إليها قبل قليل، مع ضرورة التوازن وعدم المبالغة في إظهار الاهتمام الزائد؛ فينشأ عن ذلك نتائج عكسية. 4 - تطوير البرامج التربوية والارتقاء بها؛ بحيث تسهم في تقديم خبرات متنوعة، وتتعامل مع كافة مستويات التحصيل، وعدم التركيز على الجانب المعرفي وحده، كما هو الواقع في البرامج التربوية التي تقدم اليوم للناشئة(المؤلف بصدد إعداد كتاب يتناول الأهداف التربوية في مرحلة الشباب ووسائل تحقيقها، لعله أن يقدم بعض). 5 - مراجعة محتوى البرامج والأنشطة التربوية ووسائلها وأهدافها بحيث تراعي الفروق الفردية، وتضمينها قدراً أكبر من المرونة. 6 - الاعتناء باختيار من يولى تربية الموهوبين ورعايتهم، فليس كل المعلمين والمربين يجيدون التعامل مع الموهوبين ورعايتهم. 7 - علاج المشكلات المتولدة لديهم، كالعجب والاعتداد بالنفس، قبل أن تنمو وتستفحل فيصعب علاجها. لا بد من الاعتدال: إنه ومع ضرورة الاعتناء بالنجباء والموهوبين فلا بد من الاعتدال في ذلك، وأن يوضع الأمر في الإطار الطبيعي، بحيث لا يؤدي إلى: 1 - إهمال دعوة سائر الناس وتربيتهم، فدين الله تعالى جاء خطاباً للجميع، وليس ديناً خاصاً بالنخبة. 2 - الإعراض عمن أقبل من غير هؤلاء وإهماله؛ فقد أنكر الله تبارك وتعالى على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم إعراضه عن ابن أم مكتوم حين جاء مقبلاً وانشغاله بصناديد قريش {عَبَسَ وَتَوَلَّى. أَنْ جَاءهُ الأَعْمَى. وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى. أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى. أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى. فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى. وَمَا عَلَيْكَ أَلا يَزَّكَّى. وَأَمَّا مَنْ جَاءكَ يَسْعَى. وَهُوَ يَخْشَى. فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى. كَلا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ. فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ}. 3 - احتقار من سواهم والنظرة إليهم نظرة قاصرة، وقد يكون فيهم من هو أزكى وأفضل عند الله تعالى؛ قال صلى الله عليه وسلم : "رب أشعث مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره" (رواه مسلم (2622) .وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم :"ألا أخبركم بأهل الجنة؟ كل ضعيف متضعف لو أقسم على الله لأبره. ألا أخبركم بأهل النار؟ كل جواظ زنيم متكبر". ( رواه البخاري (4918) ومسلم (2853). وأعلى النبي صلى الله عليه وسلم منزلة الضعفاء وشأنهم؛ فقد قال لسعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه- حين رأى أن له فضلاً على من دونه: "هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم؟" ( رواه البخاري (2896) ، وقال صلى الله عليه وسلم في حديث آخر: "أبغوني ضعفاءكم فإنكم إنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم" ( رواه أحمد (21224) وأبو داود (2594) والترمذي (1702) والنسائي(3179) . وقال صلى الله عليه وسلم : "طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يشفع" (رواه البخاري (2887). بل والصحوة اليوم تحتاج(/20)
لطائفة من الصالحين الصادقين الذين لا يأبه لهم الناس، ولو لم يتولوا مسؤوليات وأعباء، علها أن تنصر وتوفق بدعائهم وصدقهم مع الله تعالى. نسأل الله تعالى أن يجعلنا هداة مهتدين، وأن يحشرنا في زمرة عباده الصالحين، إنه سميع مجيب،،،
أخطاء في علاج الأخطاء
يمثل تصحيح الخطأ جانباً مهماً من الأدوار التي يقوم بها المربي؛ إذ كثيراً ما يجد نفسه أمام أخطاء من يربيهم، وقد تكون أخطاءً فردية أو عامة، وقد تكون نتاج البيئة المنزلية أو المجتمع الأوسع، وقد تكون طارئة أو مزمنة. وأياً كان الأمر فهي تحتاج إلى مراجعة منهجنا وأساليبنا في التعامل معها، وفي هذا المبحث سنتناول بعض الأخطاء التي قد نقع فيها في علاجنا لأخطاء من نربيهم. 1 - اعتبار تصحيح الأخطاء وحده هو منهج التربية: يمثل تصحيح الأخطاء عند بعض المربين المنطلق الوحيد للتربية، وعليه فالتربية عندهم تبدأ من تحديد قائمة بالأخطاء والملحوظات، ومن ثم ترتيب البرامج لتصحيحها وتلافيها، فتمثل الأخطاء المنطلق الوحيد في رسم البرامج، والمعيار الوحيد في تحديد نوعية ما يقدم للناس، وتبدو آثار هذا الأسلوب من التفكير في اختيار الموضوعات التي يتحدث فيها لفئة معينة من الناس، فحين يستضاف أحد المتحدثين يُقترح عليه موضوعات تدور حول الأخطاء والملحوظات الشائعة لدى المخاطبين، أو يَسْأل هو عنها لتكون محور حديثه. وهذا الأسلوب يتولد منه آثار غير محمودة؛ فحين نسلك هذا المسلك فغاية ما نحققه إذا نجحنا -ولن نحقق النجاح الكامل- أن نحافظ على الإنسان عند مستوى محدد. وثاني هذه الآثار أن تسيطر لغة النقد على حديثنا فتترك هذه اللغة أثرها على أولئك الذين لم يعد يطرق سمعهم غيرها، فيعيشون حالة من الإحباط والشعور بالفشل والنقص على الدوام. وفرق بين عطاء هؤلاء، وأولئك الذين غرست لديهم الثقة بإمكاناتهم وقدراتهم، ورفعت لهم المنارات ليتطلعوا إليها ويسيروا نحوها. وثالثة الأثافي أن يحصر العطاء في زوايا محددة وهي تلك التي تبدو فيها أخطاء واضحة صارخة، أما البناء وتفعيل الطاقات وتنمية المواهب فلن يجد له مكاناً عند هؤلاء الذين يسيطر عليهم هذا المنطق في التفكير. 2 - تجاهل الخطأ حتى يستفحل: إن المشكلات الكبار لا تولد دفعة واحدة، والنار تنشأ من مستصغر الشرر، لذا فكثير من الصفات السيئة في البشر تبدو بذرة صغيرة يسقيها الإهمال والتسويف، ويُمدها التجاهل بماء الحياة حتى تنمو وتترعرع لتتجذر في النفس فيصعب اقتلاعها وزوالها. وأعظم شاهد على ذلك ما نراه من أن كثيراً ممن يضِلّون بعد الهدى، وينتكسون بعد الاستقامة، كان سبب ذلك أخطاء وأحوال من الضعف تدرجت بهم وتركوها حتى تستفحل. وكثيرة هي المشكلات والأخطاء التي نقع فيها نحن، أو يقع فيها من نتولى تربيته، ونهملها ولا نعبء بها فلا تلبث أن تستفحل وتأسرنا لتصبح جزءاً من سلوكنا. وسواء كان الدافع لإهمال العلاج وتأخيره التسويف والعجز والكسل، أو افتراض أن الزمن كفيل بحله وتجاوزه، أو المبالغة في مراعاة نفسية المخطئ والخوف على جرح مشاعره، سواء كان هذا أو ذاك فالنتيجة لا تعدو واحدة من ثلاث: أ - أن يذوب السلوك السيء في نفس صاحبه ويصبح جزءاً من شخصيته، فيسعى لتبريره والدفاع عنه، واتهام من يلومه بالغلو والتشدد، وما أكثر ما نرى هذه الصورة. ب- أن يستفحل في النفس فيرى صاحبه أنه قد صار صفة ملازمة له، وأنه لا يستطيع الخلاص منه أو الفكاك، وقد يدعوه ذلك إلى الإفراط في ركوب الانحراف والشطط. ج - أن يستفيق بعد فترة، فيلوم أولئك الذين تجاهلوا هذا الخطأ، والأغلب أن يبالغ في ذلك، وقد يقوده هذا إلى التخلي عن بعض الميادين الخيرة. 3 - ردة الفعل وعلاج الخطأ بخطأ آخر: يترك الخطأ أثره الواضح عند من يرقبه، وقد تكون مشاعره جياشة فيولد وقوع الخطأ لديه أثراً قد يغفل فيه عن الأسلوب الأمثل في التعامل معه، وهو موقف طبعي في النفس الإنسانية، ولعل من أمثلة ذلك ما وقع لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في حالات عدة. ومنها قصة الأعرابي الذي بال في المسجد وهي مشهورة في السنة؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قام أعرابي فبال في المسجد، فتناوله الناس فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم:"دعوه وهريقوا على بوله سجلاً من ماء أو ذنوباً من ماء؛ فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين" (رواه البخاري (220) ورواه مسلم (284) من حديث أنس -رضي الله عنه-). ومثله حديث أبي أمامة -رضي الله عنه- قال: إن فتى شاباً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ائذن لي بالزنا، فأقبل القوم عليه فزجروه، قالوا: مه مه فقال:"ادنه" فدنا منه قريباً، قال: فجلس، قال:"أتحبه لأمك ؟"... - إلى أن قال:فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء (رواه أحمد (21708) 5/257). ففي هذه النصوص نظر الصحابة -رضوان الله عليهم- إلى عظم الخطأ فتعاملوا معه بما يرون أنه يليق به، أما النبي صلى الله عليه وسلم فنظر إلى أمر أبعد(/21)
من ذلك، ألا وهو أثر ذلك على صاحب الخطأ نفسه(كثير من المتحدثين يحتجون بهذه الأحاديث وغيرها، ويشددون على الذين يقعون في هذا الخطأ، ويغفلون عن أن). وحين نطالب المربي بأن يكون متزناً في تعامله مع الأخطاء فهذا لا يعني أن نطالبه بالعصمة وبإلغاء مشاعره، لكن بالاجتهاد قدر الإمكان. هذه حالة، وثمة حالة أخرى قد لا يكون المربي أمام خطأ معين مباشر يريد علاجه، بل أمام قصور أو ثغرة لا تتمثل في موقف محدد فهنا يكون عذره أقل من الصورة السابقة إن هو لم يتحكم بردة فعله. إن ردة الفعل قد ينشأ منها تضخيم الخطأ وربما إشعار صاحبه باليأس، أو قد ينشأ عنها غلو وشطط على النفس، أو قد ينشأ عنها خطأ آخر في الطرف المقابل. فقد يكتشف الإنسان خطأً في نفسه وحينئذٍ يدعوه الحماس إلى تصحيحه فيتعامل مع نفسه بردة فعل غير متزنة؛ فعلى سبيل المثال: حين يكتشف المرء أنه مقصر في طلب العلم الشرعي، ويرى أن أقرانه قد فاقوه وسبقوه سبقاً بعيداً، فيسعى إلى تصحيح هذا الخطأ ويرسم لنفسه برنامجاً طموحاً لا يطيق أن يصبر على بعضه فضلاً عن أن يطيقه كله، وحين يبدأ التنفيذ ويخوض الميدان يصطدم بالواقع ويرى أن ثمة مسافة هائلة بين المثال والواقع؛ ثمة مسافة بين تلك الصورة التي رسمها لنفسه وكان يتطلع إليها وبين ما يمكن أن يصل إليه من قدر من التصحيح، وحين يصل إلى هذا الحال فإنه في الأغلب لا يعود إلى التوازن مرة أخرى، وقد يدعوه ذلك إلى إهمال واجبات وحقوق أخرى، وما أكثر ما نقع في هذا. بل الأمر يتعدى ذلك حين تكون ردة الفعل مسؤولة عن رسم المناهج أصلاً؛ فكم نرى من مناهج للتغيير يراهن أصحابها عليها ويرون أنه لا منهج لتغيير الأمة إلا هذا، وأي امرئ يسلك غير هذا الطريق بل أي امرئ لا يتطرف هذا التطرف الذي يتطرف فيه أصحابه فهو لا يملك التأهل لإنقاذ الأمة والتغيير. وحين تتأمل في هذا المنهج كله تراه لا يعدو أن يكون ردة فعل تجاه خطأ آخر، بل لو تأملت الواقع ووضعت أمامك قائمة من مناهج التغيير المطروحة في الساحة لرأيت أن عدداً منها لا يعدو أن يكون ردة فعل لعلاج خطأ في مناهج أخرى. 4 - الإفراط في العقوبة: النفس البشرية تعتريها حالات من الضعف والقصور، ويقعد بها الهوى وتستجيب أحياناً لداعي الشهوة على حساب أحكام الشرع ومنطق العقل، ومن ثم احتاجت إلى أن يؤخذ بزمامها، وأن تسلك معها وسائل متنوعة؛ إذ الإقناع وحده لا يكفي في حمل النفوس على الامتثال. ومن ثم جاء الشرع بمبدأ العقوبة لتكون رادعاً عن وقوع النفوس في المحظورات وتقصيرها في المأمورات، وتنوعت العقوبات بين العقوبات الدنيوية التي يراها الناس حاضرة والأخروية التي تُدخر لهم في البرزخ والقيامة -عافانا الله وحمانا- وبين العقوبات الكونية التي تصيب الناس في أموالهم وأولادهم وأمنهم، والعقوبات الشرعية التي أُمر الناس أن يوقعوها على من أصاب ما يستوجب ذلك كالحدود والتعزيرات. وكما أن إهمال العقوبات وتعطيلها مخالف لأمر الله، فالإفراط فيها ووضعها في غير موضعها هو الآخر مخالف لأمر الله تعالى، ومؤدٍ لتعطل مقاصد العقوبة وفواتها. لذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أن يُتجاوز في العقوبة - فيما لا معصية فيه- عشرة أسواط، فقال:"لا يجلد فوق عشر جلدات إلا في حد من حدود الله" (رواه البخاري (6848) ومسلم (1708) ، والمقصود بحدود الله على الصحيح المخالفات الشرعية، كما قال تعالى { تلك حدود الله فلا تعتدوها} وكما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر :"مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها…" (رواه البخاري (2493). وحين يفرط المربي في العقوبة ينقلب الأمر إلى تأثير مضاد، فيدفع المتربي شعوره بأنه مظلوم إلى الإصرار على الخطأ وتبريره، وينشغل بالعقوبة التي وجهت له عن الاعتناء بإصلاح الخطأ، وكثيراً ما يصر عليه ويتشبث به، ويكره الحق وأهله. كما ينشأ عن ذلك أيضاً أن تنمو لديه مشاعر الكراهية والبغض لمن عاقبه، وكثيراً ما نرى بعض الأبناء يكرهون آباءهم أو معلميهم بل ربما يتمنون هلاكهم، والسبب في ذلك ما يلقونه منهم من إفراط في العقوبة. ولا شك أن ترسخ هذه النظرة لديه تجاه معلمه أو والده تقف عائقاً كبيراً أمام تقبله للتوجيه والتربية. 5 - المثالية: حين يعيش المرء في ميدان التنظير يحلق في أجواء الخيال، ويرسم صوراً مثالية يصعب أو يستحيل تحققها. وهو أسلوب قد يمارسه المرء مع نفسه، فيرسم لها أهدافاً وبرامج وخططاً طموحة، ومن ثم يصطدم بجدار الواقع فيرى أنه عاجز عن تحقيق جزء يسير مما رسمه لنفسه. وقد يمارسه المرء مع من يربيه، فالأم كثيراً ما تعاتب طفلها وربما تعاقبه على أخطاء لا بد أن يقع فيها مادام طفلاً؛ فحين يعبث ببعض أثاث المنزل، أو يعمد إلى آنية فيكسرها، أو يسيء إلى أحد إخوانه الصغار تعاتبه وتعاقبه، وربما كانت العقوبة شديدة، إنها تطلب منه أن يكون منضبطاً(/22)
مثالياً فلا يسيء إلى إخوانه الصغار ولا يعبث بالتراب ولا يعبث بالأثاث ولا يرفع صوتاً ولا يبكي. والأستاذ قد يرسم صورة مثالية للطالب؛ فيرى أنه ذاك الطالب الذي يلتزم بالأدب التام فلا يسيء الأدب مع أستاذه في استئذانه وحديثه وتعامله، ولا يسيء الأدب مع زملائه، ولا يمكن أن يتأخر عن أداء الواجب يوماً من الأيام، ولا بد أن يفهم ما يلقى عليه فهماً سليماً، ولا يسوغ له أن ينشغل عن الدرس، ولا أن يلهو، ولا أن يتأخر عن الحضور إلى الفصل، ولا أن يتغيب…إلخ هذه القائمة التي ربما عجز الأستاذ نفسه حين كان طالباً عن استجماعها وتحقيقها. إننا حين نرسم للناس صورة مثالية سوف نحاسبهم على ضوئها، فنرى أن النقص عنها يعد قصوراً في تربيتهم، فتأخذ مساحة الأخطاء أكثر من مداها الطبيعي الواقعي. وقد أخبر صلى الله عليه وسلم أصحابه أنهم لن يصلوا إلى منزلة لا يواقعون فيها ذنباً، فقال:"والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم" (رواه مسلم (2749). وحين حضرت أبا أيوب الأنصاري -رضي الله عنه- الوفاة قال: كنت كتمت عنكم شيئاً سمعته من رسول الله؛ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"لولا أنكم تذنبون لخلق الله خلقاً يذنبون يغفر لهم" (رواه مسلم (2748) والترمذي (3539). وقد قال أيضاً صلى الله عليه وسلم :"كل ابن آدم خطاء وخير الخطاءين التوابون" (رواه الترمذي (2499) وابن ماجه (4251) وأحمد (12637)3/199.). إن الواقعية في التفكير، وإدراك الطبيعة البشرية، والهدوء في الدراسة والمراجعة، والخبرة المتراكمة؛ كل ذلك يسهم إلى حد كبير في الاقتراب من الواقعية والبعد عن المثالية المجنحة في الخيال. 6 - الإفراط في الواقعية: وهو خطأ في الطرف المقابل للخطأ السابق، فينطلق صاحبه من نظرته لبشرية الناس وامتناع عصمتهم إلى تبرير الأخطاء والدفاع عنها بحجة الواقعية، وهي نظرة تنعكس أيضاً على أهداف المرء وبرامجه فتصبغها بصبغة التخاذل ودنو الهمة والطموح. وتسهم هذه النظرة في تكريس الأخطاء وإعطائها صفة المشروعية، ولعل من أصدق الأمثلة على ذلك ما اعتدناه من الفوضى في مواعيدنا وأوقاتنا، حتى أصبح الانضباط شذوذاً، وصار يقال إن في بني فلان رجلاً منضبطاً في مواعيده وأوقاته. فالمثالية في التعامل مع هذه القضية تتمثل في التشدد في الدقائق فلا يقبل المرء عذر من تأخر عن موعده ولو لدقائق قليلة، والواقعية المفرطة تتمثل في التساهل بما هو أكثر من ذلك وهو الأغلب، وحين يراد تحديد الموعد تترك هذه الروح الفوضوية أثرها في تفكيرنا فنضيف ساعة أو نحواً من ذلك احتياطاً. 7 - إهمال البعد الزمني في تصحيح الخطأ: لقد خلق الله الإنسان من عجل فهو يستعجل النتائج والثمرات بطبعه، ويريد أن يحقق في ساعات ما لا يتم إلا في أيام، وحين يضاف إلى ذلك حرصه على بلوغ الغاية وحماسه لها يزداد الأمر عجلة. إن إهمال البعد الزمني في التفكير مرض ورثه بعض الدعاة والخيرين من عقلية المجتمعات الإسلامية التي لا تفكر إلا فيما تزرعه اليوم وتحصده في الغد وتأكله في اليوم الثالث. فهل يمكن أن تعالج الأخطاء التربوية المتراكمة -التي أصحبت تشكل جزءاً من كيان الشخص وتربيته، وترسبت لديه من خلال مؤثرات عدة- في أيام قصيرة، أو من خلال توجيهات بخطأ هذا السلوك، ووجوب نهج السلوك الآخر؟ والأمر أكثر وأشد تعقيداً حين ننظر إلى جيل الصحوة أجمع، فعمره لا يزال قصيراً، وهذا الجيل المتوافد على الخير والهداية نتاج تربية آباء وتربية أمهات وتربية مؤسسات تربوية عامه؛ إنه إفراز لمجتمع يعيشه، فمسؤولية واقعه التربوي ليست قاصرة على الصحوة ذاتها. وحين نسعى إلى تصحيح الأخطاء في هذا الجيل، وإلى تحقيق قدر من النضج فلا بد أن نعطيه المدى الزمني الذي يمكن أن يؤهله لحل هذه المشكلة إذا أردنا أن نكون واقعيين. 8 - إحراج الواقع في الخطأ: إنه ليس من أهداف تصحيح الخطأ إصدار حكم بإدانة صاحبه وإثبات التهمة في حقه، لذا فالجدل الطويل حول إثبات التهمة، أو السعي للتصريح بالاعتراف بالتقصير والوقوع في الخطأ أمر لا مبرر له. وحين يأخذ المربي في حسبانه مراعاة مشاعر الناس وعواطفهم، ويكون همه منصباً على الإصلاح والتغيير فلن يسعى لإحراج صاحبه، ولقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى مراعاة هذا الجانب. عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:"إذا زنت أمة أحدكم فتبين زناها فليجلدها الحد ولا يثرب عليها، ثم إن زنت فليجلدها الحد ولا يثرب، ثم إن زنت الثالثة فتبين زناها فليبعها ولو بحبل من شعر" (رواه البخاري (2234) ومسلم (1703). فمع أن هذه الأمة قد وقعت في ذنب عظيم وخطيئة كبيرة، إلا أن إقامة الحد كانت كافية في زجرها فلا ينبغي المبالغة والتثريب عليها. وقد طبق النبي صلى الله عليه وسلم هذا الهدي في سنته العملية؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: أتي النبي صلى الله(/23)
عليه وسلم برجل قد شرب قال:"اضربوه" قال أبو هريرة: فمنا الضارب بيده والضارب بنعله والضارب بثوبه، فلما انصرف قال بعض القوم: أخزاك الله، قال:"لا تقولوا هكذا؛ لا تعينوا عليه الشيطان" (رواه البخاري (6777). وقد ينشأ الإحراج نتيجة الإصرار على الإدانة وانتزاع الاعتراف بالخطأ، أو نتيجة المواجهة المباشرة، أو نتيجة اللوم والتأنيب والإغلاظ في الحديث. 9 - المبالغة في تصوير الخطأ: إن الاعتدال سنة الله في الكون أجمع، وحين يقع الخطأ فليس ذلك مبرراً للمبالغة في تصوير حجمه والحديث عنه. إن تحويل الحادثة إلى ظاهرة، والمشكلات الفردية إلى قضايا عامة، وربط المشكلات المعقدة بقضية محددة؛ كل ذلك إفراز للمبالغة في التعامل مع الأخطاء وتجنب الاعتدال، وما أكثر ما نسمع أمثلة صارخة تثير الاستغراب حين الحديث عن ظاهرة من الظواهر، وكون هذه الأمثلة تملك قدراً من الغرابة أعظم دليل على شذوذها وأنها مما لا يقاس عليه. وحتى في الحديث عن المعاصي والمخالفات الشرعية -فما لم يقد الأمر إلى الاستهانة بحدود الله- لا يجوز تحويل الشبهة إلى أمر مقطوع بتحريمه، واللمم والصغيرة إلى موبقة من الموبقات. 10 - الاحتفاظ بصورة سلبية عن المخطئ: يتطلع كثير ممن يقع في الخطأ ويلومه الناس على ذلك أن يثبت لهم أنه قد تجاوزه، وأن يغير هؤلاء النظرة السلبية التي ارتسمت لديهم تجاهه. لذا فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يرعى هذا الجانب فهو يعتني صلى الله عليه وسلم ببيان الخطأ لمن يقع فيه حين يقتضي الموقف البيان، لكنه لا يتحول إلى نظرة ثابتة ترسخ الشعور بالفشل والإحباط لدى الواقع في الخطأ، أو تؤدي به إلى الشعور بأن هذا الخطأ أصبح أمراً ملازماً له لا يفارقه. عن أنس رضي الله عنه أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلوها ولم يجامعوهن في البيوت فسأل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى { ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض..} إلى آخر الآية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"اصنعوا كل شيء إلا النكاح" فبلغ ذلك اليهود فقالوا: مايريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئاً إلا خالفنا فيه؛ فجاء أسيد بن حضير وعباد بن بشر فقالا: يا رسول الله، إن اليهود تقول كذا وكذا فلا نجامعهن؟ فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ظننا أن قد وجد عليهما، فخرجا فاستقبلهما هدية من لبن إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل في آثارهما فسقاهما فعرفا أن لم يجد عليهما (رواه مسلم (302). وحتى حين يقتضي الخطأ الإغلاظ على صاحبه والتشديد عليه، فإنه لا يبقى ملاحقاً له في كل موقف، كما حصل مع أسامة بن زيد -رضي الله عنه- في موقف يرويه هو فيقول: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحرقة فصبحنا القوم فهزمناهم، ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلاً منهم فلما غشيناه قال: لا إله إلا الله، فكف الأنصاري فطعنته برمحي حتى قتلته فلما قدمنا بلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال:"يا أسامة أقتلته بعد ما قال: لا إله إلا الله؟" قلت: كان متعوذاً، فما زال يكررها حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم (رواه البخاري (4269) ومسلم (96). وبعد هذه الواقعة أمَّره صلى الله عليه وسلم على جيش أكبر من ذلك، ألا وهو الجيش الذي سيغزو الروم وشعر بعض الناس أن هذه المهمة ربما ينوء بها أسامة -رضي الله عنه-، وأنه لو ولي غيره كان أولى فبين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لهم؛ فعن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بعثاً وأمر عليهم أسامة بن زيد، فطعن الناس في إمارته، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"إن تطعنوا في إمارته فقد كنتم تطعنون في إمارة أبيه من قبل، وايم الله إن كان لخليقاً للإمارة، وإن كان لمن أحب الناس إلي وإن هذا لمن أحب الناس إلي بعده" (رواه البخاري (4469) ومسلم (2426). لقد أعطى هذا الموقف أسامة -رضي الله عنه- وغيره الشعور بأن الإنسان يمكن أن يتجاوز الخطأ، وليس بالضرورة يبقى علماً عليه لا يفارقه. لذا فإن ما يمارسه بعض الآباء من تكرار تذكير أبنائهم بأخطائهم أمر مخالف لهدي النبي صلى الله عليه وسلم ومنهجه في التربية. 11 - الاقتصار على الأسلوب المباشر وحده: وذلك بالحديث المباشر الصريح أن هذا الأمر المعين خطأ، وأن الشخص الذي قام بذلك العمل قد أخطأ. وثمة أخطاء تستوجب الحديث الصريح المباشر عنها، وثمة حالات لا يسوغ أن يتجاوز وصفها والحديث عنها هذه الكلمات أو مشتقاتها أو ما ينوب عنها، لكن ذلك لا يعني الاعتماد على هذا الأسلوب وحده. ومن تأمل المنهج النبوي وجد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعطي كل ذي حق حقه؛ فتارة يتحدث عن الخطأ حديثاً صريحاً دون مواربة، وتارة يوميء ويشير إليه، ومن هذه المواقف التي كان صلى الله عليه وسلم يستخدم فيها هذا الأسلوب: عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: كان(/24)
الناس ينتابون يوم الجمعة من منازلهم والعوالي، فيأتون في الغبار يصيبهم الغبار والعرق، فيخرج منهم العرق فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم إنسان منهم وهو عندي فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"لو أنكم تطهرتم ليومكم هذا" (رواه البخاري (902) ومسلم (847). وعن ميمونة بنت الحارث -رضي الله عنها- أنها أعتقت وليدة ولم تستأذن النبي صلى الله عليه وسلم، فلما كان يومها الذي يدور عليها فيه قالت: أشعرت يا رسول الله أني أعتقت وليدتي؟ قال:"أوفعلت؟" قالت: نعم، قال: "أما إنك لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك" (رواه البخاري (2592) ومسلم (999). وحين رأى ابن عمر -رضي الله عنهما- رؤيا وقصها على حفصة فقصتها حفصة على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"نعم الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل" (رواه البخاري (1122) ومسلم (2479). وعن سليمان بن صرد -رضي الله عنه- قال استب رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم ونحن عنده جلوس وأحدهما يسب صاحبه مغضباً قد احمر وجهه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد، لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم" ( رواه البخاري (6115) ومسلم (2610). إن مثل هذه الأساليب غير المباشرة تترك أثرها في النفس، فهي توصل الرسالة التي يريدها المربي، وتنقذ المواجه بالخطأ من الحرج والخجل، وتشعره بحسن الخلق والتقدير والتوقير، إنه أسلوب الكرام العظام. نسأل الله عز وجل أن يقينا شر أنفسنا، وأن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، والباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، إنه سميع مجيب وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه،،،
فصول الكتاب
المقدمة
صفات المربي
افتقار العمل التربوي للضوابط الشرعية
النجباء والموهوبون
أخطاء في علاج الأخطاء(/25)
مقالات في الصحوة
حسين بن سعيد الحسنية
</TD
الحمد لله رب العالمين , والصلاة والسلام على أفضل الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم أجمعين وبعد:
أولا / سبب ظهور الصحوة :
لاشك أن الصحوة الإسلامية بكامل جوانبها , وطرق تعزيزها , وتناميها الملحوظ والمعلن عنه في الأوساط الشعبية والحكومية لا شك أنها عاملاً مهما في مسيرة هذا الدين الخالد , واستطاعت أن تؤثر في سير بعض قرارات الحكومات والنظم السياسية , وأصبحت عند البعض والذين لا هم لهم سوى انهيار الكيان الإسلامي كابوساً مخيفاً على كل الأصعدة , وأصبحت عند البعض الآخر عاملاً مهماً لإشعال الفتن وتأجيج نار الحروب الأهلية , وبث روح التعنصر والتحزب وأكثر أصحاب هذا الطريق هم الذين يصطادون في الماء العكر , إلا أنها عند علماء المسلمين والدعاة وطلبة العلم والكثير من المسلمين والذين ينتظرون عودة الإسلام بكامل حضوره وعزه ومجده سلاحاً فتاكاً ضد أهل النفاق والاستعمار والعلمنه وحلاً مناسباً مع ما يشوبها من أخطاء وتجاوزات في أن يسمع العالم صوت الإسلام , وأن يدرك معنى سموه وعلوه على غيره من الأديان , ولعل ذلك يجرني لأن أذكر أهم سبب في ظهور ما يسمى بالصحوة وهو أن المتأمل في تاريخ هذه الأمة منذ بزوغ فجرها من بين جبال مكة وحتى أصبح الآن من الصين إلى الصين هو انسحاب أصحابه من ميادين الحياة ومن ثم تقديم التنازلات عن قيادة العالم , وإمامة الأمم , وأيضاً تكالب الأعداء عليه وتماشي أهله مع الفكر الغربي باسم الحرية والديمقراطية وتقارب الأديان , وتفريطهم في الدين والدنيا , وجنايتهم على أنفسهم وبني نوعهم , واتخاذهم القرآن مهجوراً , وافتتانهم بالمال وشغفهم بجمعه وادخاره . فأصبحت أي (الصحوة) نوراً يطلع من بين دياجير الظلام , وفرجاً من بين أحلك الكروب , ويسراً بعد عسرٍ طالما شكت الأمة منه فمن فتنة الخوارج وحتى حرب المغول إلى الحروب الصليبية إلى تمزيق التتار للإمبراطورية الإسلامية الأخيرة إلى تفشي الأفكار الشيوعية والرأسمالية إلى ظهور العلمانية وتبجح أهلها بقولهم ( مال الله لله ومال قيصر لقيصر) , وحتى بغي أمريكا وتكبرها وقولها ( من أشد منا قوة ) إضافة إلى ما تخللها من مصائب وأزمات في هذا العالم , وسم يراق في فم هذه الأمة والتي ما إن تشفى منه حتى يراق في فمها سم آخر كل هذه الحقائق نورت الكثير من العقول وأنارت الكثير من الدروب المظلمة والتي طالما عاشت القهر والاستبداد والاحتلال مما دفعا البحث عن منقذ يقول الندوي رحمه الله " ولا يغيب عن البال أن الدين لم يزل طول هذه المدة حياً محفوظاً من التحريف والتبديل , ولم يزل عالياً وضوءه مشرق (( يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم )) المائدة(16) ولم يزل الكتاب والسنة يبعثان في نفوس القراء ثورة على الشك والبدع , وعلى الجهالة والضلالة , وثورة على أخلاق الجاهلية وعوائدها , وثورة على ترف المترفين واستبداد الملوك , ولم يزل ينهض بتأثيرهما في كل دور من أدوار التاريخ الإسلامي , وفي كل ناحية من نواحي العالم الإسلامي رجال يقومون في هذه الأمة على طريقة الأنبياء , يجدِّدون لها أمر دينها , وينفخون فيها روح الجهاد , ويفتحون لها باب الاجتهاد , ويسعون لإقامة حكومة إسلامية على منهاج الخلافة الراشدة , فمنهم من استشهد في هذه السبيل , ومنهم من استطاع أن يمثل دوراً قصيراً يذكر بالخلافة الراشدة (( من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا)) الأحزاب(23) , وهم مصداق الحديث :"لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك " رواه مسلم , فتاريخ الجهاد والتجديد في الإسلام متصل لا تقطعه فترة , ومشاعل الإصلاح متسلسلة بعضها من بعض لم تطفئها العواصف" . أنظر ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين ص150 .
ثانياً/ تاريخ الصحوة الحديثة:ـــ
لقد تحدثت في المقالة الأولى وقلت إن الصحوة الإسلامية كان لنشوئها سبب مهم إلا وهو معاناة الأمة الإسلامية من الويلات والأزمات التي تعاقبت عليها ذلك ومن وجهة نظر خاصة أن الصحوة كما قال مهدي العطار ( هي الظاهرة الاجتماعية التي تعني عودة الوعي للأمة وإحساسها بذاتها واعتزازها بدينها وكرامتها واستغلالها السياسي والاقتصادي والفكري وسعيها للنهوض بدورها الطبيعي في بناء حضارة الإنسان باعتبارها خير أمة أخرجت للناس ) أ.هـ , ومن وجهة نظر خاصة أخرى أرى أن هذا التعريف هو لكل صحوة إسلامية نشئت على المبادئ الإسلامية الصحيحة .(/1)
والحديث عن تاريخ الصحوة الإسلامية فلا يخفى على الجميع سبب حضورها والمتمثل في استحواذ التغريب والاستعمار وطمس الهوية الإسلامية والعربية , وتذويب الثوابت والأسس التي قام عليها هذا الدين الحنيف , إضافة إلى انتشار الجهل والطبقية العنصرية والتمذهب الفكري في كثير من الأمم والجماعات قال الندوي رحمه الله : في هذا الجانب (خَفَتَ صوت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , ونشِط دعاة الفساد والهدم والخلاعة والمجون والإلحاد والزندقة والحركات الهدامة والاستخفاف بالدين وقيمة الأخلاق وأسسها ....." أ.هـ , إلى أن جاءت حركة الأخوان المسلمين في مصر والتي كانت من أقوى وأعمق الحركات تأثيراً واكثر إنتاجا من غيرها , كانت هذه الحركة تشكل أوسع نطاقاً وأعظم نشاطاً و اكبر نفوذاً وأعظم تغلغلاً في أحشاء المجتمع , وأكثر استحواذاً على النفوس , ويلخص ا.د سالم نجم , تاريخها بقوله " كتب الأخ الفاضل محمد عمارة عن هذا الموضوع في عددين متتالين فقال بدأ تاريخ الصحوة بنداء الشيخ حسن العطار حيث قال ـــ إن بلادنا لابد أن تتغير ويتجدد بها من العلوم والمعارف ما ليس فيها ـــ ثم جاء تلميذه
رفاعة الطهطاوي يطالب بالتجديد للذات الإسلامية بالإحياء والمستفادة من العلوم الغربية , ثم جاء جمال الدين الأفغاني بمشروع الجامعة الإسلامية مع الإمام محمد عبده وتولى نشر هذا الفكر الإمام محمد رشيد رضا في مجلته الشهيرة (((( المنار )))) الذي أَسَلَمَ أمانة هذه الصحوة إلى الحركات والتنظيمات الإسلامية الحديثة من الفكر إلى الحركة والعمل , ويستطرد الدكتور عمارة قوله لم تقف هذه الصحوة عند حدود
الفكر والدعوة وإنما سلكت سبيل التنظيم في مشاريع الحزب الوطني الحر , جمعية العروة الوثقى , جمعية أم القرى في نهاية القرن التاسع عشر , ثم الحزب الوطني بقيادة مصطفى كامل أو انتماءه الوطني والإسلامي , ولم تقتصر الصحوة الإسلامية على الحركات والتنظيمات الإسلامية , فأوسع وأعرض فصائل الصحوة الإسلامية هو التيار الشعبي المستمسك بالهوية الإسلامية وفي مقدمات مؤسسة الصحوة الإسلامية الأزهر الشريف ...... أ ــ هـ .
وفي عام1935 م توفي السيد محمد رشيد رضا صاحب (((( المنار ))))
وتزعزعت مسيرة المجلة , وانطفأ أحد أسرجت العلم والمعرفة حتى عادت في شهر يوليو 1939 م وتولى زمام أمور بعد رشيد رضا الإمام حسن البنا وفي ذلك يقول محمد مصطفى المراغي شيخ الأزهر في مقدمته لهذا العدد بمناسبة عودة المجلة " والآن قد علمت أن الأستاذ حسن البنا يريد أن يبعث ((((المنار))) ويعيد سيرتها الأولى فسرني هذا , فإن الأستاذ البنا رجل مسلم غيور على دينه , يفهم الوسط الذي يعيش فيه ..... أ.ه .
وإلى يومنا هذا ومنذ ستة وسبعين عاما ولازالت هذه الحركة *صامدة رغم المكائد تخرج* وانتشرت في أكثر من ثمانين قطر في كل قارات العالم وشكلت خطرا على الغربيين وهذا حق شهدت به الأعداء أمثال سميث في كتابه ( الإسلام اليوم ) و زوجانوسكي الروسي وغيرهم .
ثالثاً/ ((هل نجحت الصحوة الإسلامية في استيعاب حاجة الناس وملامسة همومهم))
إن مقصد ظهور الصحوة الإسلامية هو مقصد إيماني شرعي لا غبار عليه , وأصحابها في الغالب لا يريدون من إبرازها والإعلان عنها إلا صلاح المجتمع وهداية الناس , لذا أستطيع القول أنها استطاعت بشكل مباشر وغير مباشر استيعاب حاجة الناس وملامسة همومهم , وهذا لا يمنع أن هناك جوانب أخرى من نشاطات هذه الصحوة الإسلامية أو مشاريعها لم تستطع استيعاب الحاجات أو ملامسة الهموم , ولعلي هنا أذكر بعض الجوانب التي استطاعت الصحوة الإسلامية من خلالها امتلاك قلوب الناس واهتمام الناس بها وبأفكارها وهي :ــ
1// أن مناهج الصحوة تدور حول الدعوة إلى الله والعمل بسنة محمد عليه الصلاة والسلام في الوقت الذي كانت فيه المجتمعات المسلمة غارقة في النعيم المُلهي , واللذائذ المطغية , والتي أسرت العقل والقلب والبدن حتى أصبح الإنسان المسلم والعربي بالتحديد إنساناً دنيوياً غارق في بحر الشهوات القاتلة إلى أن وصل مرحلة الفراغ الروحي والذي لا يستقر ولن يستقر إلا بكلام الإيماني , ومنهجه السوي , فجاءت الصحوة فدعت إلى العودة إلى الله والعمل بسنة نبيه عليه الصلاة والسلام والزهد في الدنيا والعمل للآخرة , والحرص على عمل الصالحات , والبعد عن الحرام , فوجد الكثير من الناس في ذلك الوقت العصيب ضالتهم وبحثوا عن الاستقرار فوجدوه من خلال هذه الصحوة .(/2)
2// لقد عانت المجتمعات المسلمة كثيراً من ظلم الحكومات المتسلطة , وقهر أعوان الغرب وأذنابها , ومما يدل على ذلك تسلط أهل الحداثة على منابر الفكر وميادين القلم الأمر الذي هُمِّش فيه أهل الدعوة والثقافة الإسلامية والأدب الإيماني الجميل من الإسلاميين المحافظين وكان ذلك في السبعينات والثمانينات الميلادية , وأيضاً حُجِر العلماء وطلابهم من القيام بنشاطاتهم الدعوية والإصلاحية في مجتمعاتهم ومضايقتهم واتهامهم بالسؤ حتى انتهى الأمر إلى سجنهم وإعدام بعضهم , فجاءت الصحوة وحددت معايير الانطلاق , وأُسس المواجهة مع الآخر بالطرق الحوارية المباشرة وغير المباشرة , واتجهت بالطرق العلمية وبواسطة علماء الصحوة المثمرين والنشيطين إلى السعي وراء الحصول على مساحات إعلامية , ومنابر توعوية , وعلاقات عامة تساعد على الوصول إلى كل متلقي سواءً كان المتلقي مسؤولا أو غير مسؤول , واستطاعت الصحوة والقائمين عليها من إنشاء المراكز الإسلامية , وأن تؤلف الكتب العلمية , وأن تستضيف الأفكار الأخرى لتحليلها ومراجعتها ومن ثم ترد عليها فكسبت الاحترام من الآخر , وحصلت على ما تريد من خلال هذه الطريقة للوصول إلى الناس وملامسة همومهم , وقراءة أفكارهم لاستجابة طلباتهم .
3// اهتمت الصحوة بالجوانب الإغاثية والمساعدات الإنسانية , ودعت إلى الاهتمام بالدول الفقيرة المسلمة , وإيجاد سبل عملية حثيثة لوصول تبرعات المجتمعات المسلمة للفقراء والمعوزين في جميع البلاد الإسلامية إضافة إلى ما قامت هي من فتح صناديق للتبرعات الخيرية , ومن إنشاء للمراكز الصحية والتعليمية , وهذا الجانب وإن كان أصحابه ينوون به الأجر والنصرة إلا أنه عامل مهم في استقطاب قلوب الناس ومعايشة واقعهم .
4// دعت الصحوة الإسلامية إلى الجهاد في سبيل الله , والوقوف في وجه المحتل , والعمل على إنشاء القيادات العسكرية التي بقوتها تقوى الأمم بعد قوة الله تعالى , وهذا من أهم متطلبات الناس والأمة بوجه عام , خاصة وإن كانت قابعة تحت الاحتلال والتهديد والاستعمار والذل والهوان
- وهناك الكثير من الجوانب الأخرى إلا أنني وكما أسلفت وقفت على أهمها على الاطلاق .
رابعاً/ ((هل خرجت الصحوة من عباءة العاطفة إلى ميدان البناء الراشد للعمل المؤسسي))
من الطبيعي أن تأسر الصحوة ونشاطاتها قلوب كثير ٍ من الناس خاصة إذا ظهرت في أوقات الأزمات والمتاعب في مسيرة الدعوة إلى الله , فالناس ينتظرون بين كل فترة وأخرى من يجدد أمور دينهم ويوعيهم وينصحهم
ويبث فيهم الروح الإسلامية الجميلة في زمنٍ كثرت فيه الملذات والشهوات وتلاطمت أمواج الشبهات بعضها ببعض , وعملت الصحوة على تحقيق هذا الجانب في كثير من مقالات أصحابها ومؤسسيها ومنابرها , لأنهم بهذا الجانب كسبوا الكثير من أنصارهم وأتباعهم , وأرى والله أعلم أن هناك من العلماء والدعاة حفظهم الله لا يزالون يأخذون بهذا الجانب ليضمن لهم إتمام المسيرة الدعوية ولا حرج في بالنظر إلى المقصد فـ(الأمور بمقاصدها) والله أعلم .
وكما أسلفت في مداخلة سابقة أن الصحوة الإسلامية رغم اعتمادها على الجانب العاطفي إلا أنها ساهمت بشكل جلي في العمل المؤسسي المنظم وأذكر من ذلك:ـــ
1/// قيامها بإنشاء المراكز الإسلامية خاصة في دول شرق آسيا وأوروبا وأمريك .
2/// استطاعت أن تعمل على تنشئة جيل من الدعاة والخطباء والمثقفين والساسة الذين يتحدثون باسمها على كافة الأصعدة .
3/// عملت على ترشيح أعضائها في الانتخابات الحكومية والبلدية والعمالية .
4/// ساهمت وبشكل كبير في توعية الشعوب الضالة أو المنحرفة حتى ظهر لها من النتائج ما يلمسه الجميع .
5/// استطاعت أن تزاحم أرباب الأفكار الأخرى , والعقائد المختلفة على وسائل الإعلام المختلفة وذلك بالبرامج الهادفة , والمقالات المثمرة والتي وجدنا نتاجها على القراء والمشاهدين والمستمعين .
إلى غير ذلك من مساهمات الصحوة في ميدان البناء الراشد .
خامسا/ً (( هل تحولت الادلجة والتحزب خلف الفكرة والأفراد والجماعة معضلة في حراك الصحوة الميداني))
لقد جاء هذا الدين الحنيف مبيناً فضل التعاون واللحمة في قضاياه المصيرية , ونابذاً للفرقة والتعنصر والحزبية والتي لا يؤول مشروعها إلا للإفلاس والخسارة , ولعلي أذكر هنا ما يدل على ذلك :ــــ
1/// حينما تتحرك إحدى جماعات الصحوة , وتبرز نشاطاتها , وتتبلور داخل المجتمع فإنها تأتي جماعة أخرى قد تكون موافقة لها في المقصد ولكنها تختلف اختلافاً كاملاً في الأفكار والرؤى , فتُطبق القاعدة الاجتماعية التي تقول (( متى يبلغ البنيان تمامه؟ إذا كنت تبني وغيرك يهدم )) فيشكل هذا الاختلاف عائقاً مهماً في مسيرة الصحوة وحراكها الميداني .(/3)
2/// لقد اعتمدت الكثير من جهات الصحوة على الدعاية والشعارات المعلنة بين الفينة والأخرى وأعلنت عن خططها المستقبلية بشأن دعم مسيرة الإصلاح المجتمعي , والهداية الدينية , وظهر التنافس الشديد من خلال هذه الشعارات والخطط الأمر الذي ولّد الحروب الكلامية والتي لا تخلو من التهم والقدح حتى في الذوات للأسف الشديد , وتخلو الساحة الصحوية من الحوارات الفكرية الهادفة , وتبدأ مسيرة تخلف وهوان للأمة من جديد , وتتضح لنا إحدى معوقات الحراك الصحوي الميداني .
3/// إن من أحد المشكلات الكبيرة والتي تعاني منها المجتمعات المسلمة هي انقياد شباب الصحوة لعالم معين يجدون فيه ما يلبي رغباتهم , ويرون فيه من يتحدث عن مشاعرهم وانطباعاتهم , فيميلون له ميلاً عظيماً فيقرونه على الخطأ , ويعززون من موقفه وإن كان موقفه سلبيا
, وفي المقابل تجدهم يقدحون ويتهمون عالماً آخر خالف عالمهم في مسألة معينة أو مسائل متعددة , فيتشكل مباشرة عائقاً آخر في مسيرة الحراك الصحوي الميداني .(/4)
مقالات في المنهج - الجزء الأول
بقلم :
الحمد لله رب العالمين ، أشهد أن لااله ألا هو ولي المتقين ، وأشهد أن محمدا صلى الله عليه وسلم ، عبده ورسوله،،،،، وبعد :
فهذه مجموعة مقالات بعنوان ( في المنهج ) سبق نشرها في الصحافة وكتبتها على ضوء أحداث متفرقة طرأت في ساحة الدعوة الاسلامية بخاصة وكذلك تناولت فيها قضايا سياسية واجتماعية وشرعية أخرى.
الفهرس
يحتوى هذا الجزء على 21 مقالا في موضعوعات مختلفة
1ـ حكم الانتماء إلى الجماعة الحركية
2ـ العلم حر
3ـ العلم والتقليد
4ـ اجتماع الجيوش الاسلامية على غزو العلمانية اللاديينة ( طويل)
5ـ الدين والدولة
6ـ جماعة التراث الحيارى
7ـ المرأة الجمبازية وفق الشريعة !!
8ـ الحرية إلا !!
9ـ سبيل الخلاص
10ـ الحكم بما أنزل الله
11ـ الرد على مرجئة العصر ( طويل )
12ـ تخريج الفروع الفقهية على الاحوال النفسية
13ـ تقييد السلطة في الاسلام
14ـ ماوراء موت الاميرة
15ـ حكم المتاجرة في الاسهم
16ـ المسألة الجوهرية
17ـ نحو مستقبل أفضل
18ـ عودة إلى مسألة الايمان
19ـ الصراع السياسي في الكويت
20ـ القطبية حقيقتها وخطرها (طويل)
21ـ القنبلة النووية قبل الخبز
@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@
المقال الاول
ــــــــــــــــ
ــــــــــــــــ
حكم الولاء للجماعة الحركية
قال شيخ الاسلام احمد بن تيمية رحمه الله ( ولهذا تجد قوما كثيرين يحبون قوما ويبغضون قوما لاجل أهواء لايعرفون معناها ولادليلها ، بل يوالون على اطلاقها أو يعادون من غير أن تكون منقولة نقلا صحيحا عن النبي صلى الله عليه وسلم وسلف الامة ، ومن غير أن يكونوا هم يعقلون معناها ،ولايعرفون لازمها ومقتضاها 0
وسبب هذا اطلاق أقوال ليست منصوصة ، وجعلها مذاهب يدعى اليها ويوالى ويعادى عليها ، وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في خطبته ( ان أصدق الكلام كلام الله وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ) فدين المسلمين مبني على اتباع كتاب الله وسنة نبيه ، وما اتفقت عليه الامة ، فهذه الثلاثة هي أصول معصومة وماتنازعت فيه الامة ردوه الى الله والرسول 0
وليس لاحد أن ينصب للامة شخصا يدعو الى طريقته ويوالي ويعادي عليها ، غير النبي صلى الله عليه وسلم ، ولاينصب لهم كلاما يوالى عليه ويعادى غير كلام الله ورسوله وما اجتمعت عليه الامة ، بل هذا من فعل أهل البدع الذين ينصبون لهم شخصا أو كلاما يفرقون به بين الامة يوالون على ذلك الكلام أو تلك النسبة ويعادون ) مجموع الفتاوى 19/164
هذا الكلام المنقول عن امام المنقول والمعقول ابن تيمية رحمه الله ، أصل عظيم في حفظ وحدة الامة ونبذ الفرقة والخلاف والشقاق وفساد ذات بين المؤمنين التي هي الحالقة كما سماها النبي صلى الله عليه وسلم وقال العلماء لانها تحلق الدين 0
القائمون على الدعوة الاسلامية يجب أن يفقهوا هذا الكلام حق الفقه ، وأن يجعلوه نصب أعينهم ، ويربوا عليه الناشئة ليخالط شغاف قلوبهم من الصغر، وليكون كحقنة التطعيم الواقية من أمراض التعصب المقيت والتحزب المذموم الذي يتفشى للاسف خلل الصفوف هذه الايام 0
الولاء في الشريعة الاسلامية لله ولرسوله وللمؤمنين بوصف الايمان المبين في الكتاب والسنة ، وبحقائقه ونعوته وحدوده المبينة في الكتاب والسنة 0
ولايجوز نصب ولاء خاص يفرق به بين المؤمنين ويفسد ذات بينهم ، لالشخص غير النبي صلى الله عليه وسلم ولا لكلام ( منهج أو أصول تنظيرية 000الخ ) غير كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وما اجتمعت عليه الامة ، ومن فعل هذا فهو مقتحم باب ضلالة ، وسالك سبيل أهل الاهواء والفرق الضالة ،الذين يحدثون لهم حزبا خاصا ويضعون له رئيسا ، وينصبون لهم كلاما ، يقيمون عليه ولاء أخص من ولاء المؤمن للمؤمن ، ويعادون من لايدخل في ولاءهم الخاص ، أو يجعلونه دون غيره الذي أدخلوه في ولاءهم ـ فيما يجب له من حقوق الاخوة الايمانية ــ وان كان هذا الذي جفوه أجل وأعظم في العلم والعمل في دين الله تعالى وبحكم الكتاب والسنة 0
وهذا لايعني البتة أن لايكون بين المتفقين على منهج الدعوة تعاون على أساس عمل جماعي منظم ، ويجعلون لهم أصولا ومناهج نظرية تحدد معالم عملهم وتنظمه ، ويحدث بينهم بسبب ذلك نوع من التآلف والمحبة الخاصة كما يحدث بين المتصاحبين في طلب علم أو جهاد ونحو ذلك ، فليس في هذا محذور 0
وانما المحذور كل المحذور ، أن ينصب على هذا الاساس ولاء خاص ينازع الولاء العام الذي شرعه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وأمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم ، ولاء المؤمن للمؤمن ( انما المؤمنون أخوة ) ( المسلم أخو المسلم ) ، والافساد كل الافساد أن يجعل ما اجتمعوا عليه من النظام والرأي والنظر ــ في غير مواضع الاجماع ــ سبيلا لتفريق المؤمنين ، وضرب وحدة الامة ، ومعاداة من لايدخل في حزبهم من المؤمنين ، والدعوة الى قطيعته والتحذير منه 0(/1)
ولهذا لم ينكر العلماء دراسة المذاهب الفقهية للتعلم والتفقه في الدين لكنهم أنكروا جميعا أن يعادي المسلم أخاه المسلم لانه ليس على مذهبه ، وأن يجعل كلام علماءه ومذاهبهم هو الميزان الذي يحكم به على المؤمنين ــ دون كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم والاجماع ــ فمن وافق العلماء الذين يعظمهم فضله مطلقا ، ومن خالفهم حط من قدره ، وكان هذا من أعظم أسباب تفرق الامة في التاريخ الاسلامي وتغلب أعداءها عليها 0
واليوم يمتطي هذه المطية ، بئست المطية ، بعض من ينتمي الى حركات الدعوة المعاصرة ، يعملون في وحدة الامة والاخوة الايمانية معاول الهدم والتفتيت ، من حيث يشعرون أو لايشعرون ، ويظنون أنهم مهتدون ، ويزيد جرمهم الشنيع شناعة ما يلقاه الاسلام هذه الايام من تكالب أعداءه عليه من كل جهة ورميه عن قوس واحدة ، وهم في غيهم يدعون الى الهجر والتقاطع والتحذير والتفريق بين المؤمنين ، بغير سلطان من الشرع ولاعقل أهل الاحلام والنهى ، فلا الاسلام نصروا ولا أعداءه كسروا ، بل صاروا مثل الخائن الذي يهتبل فرصة الضعف وشتات الامر فيغدر غدرة السوء عافانا الله من السوء 0
@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@
المقال الثاني
ـــــــــــــــــــ
ــــــــــــــــــــ
ـالعلم حر
العلم هوالعدو التقليدي لكل المصالح الاستغلالية التسلطية ، السياسية والاجتماعية والحزبية ( حتى لو كانت اسلامية أحيانا ) ، اذ تأبى العقلية العلمية أن تدع الاشياء على ما هي عليه ، دون أن تقلبها وتتفحصها ، وتبقى في ريبة دائما منها ، ولاتطمئن حتى ترى فيها الانطباق التام على الحق 0
ولايستطيع ذو العقلية العلمية أن يبقى الحقيقة العلمية في نفسه اذا اكتشفها ، ومنع من الصدع بها ، لايستطيع لانها تغلي في صدره كغلي المرجل ، فاذا لم يتنفس عنها مات كمدا كما يموت الطير العاشق للحرية اذا حبس في القفص 0
العلم حر ويجب أن يبقى حرا لايخضع الا للحقيقة المدلول عليها بالوحي المحفوظ ، ويجب أن يسمح له بالتجول بحرية في كل مجالات الفكر ، لان العلم كالشمس لايجوز أن يسمح لاحد أن يحجبها عن أرض دون أرض أو قوم دون قوم 0
ولما جاء الاسلام جاء بهذا المعنى العظيم ، وأمر الله تعالى نبيه أن يصدع بالحق ويبلغه الناس جميعا ، ويزيل جميع الحواجز التي تقيمها المصالح الاستغلالية التسلطية في وجه وصول علم الحق الذي جاء به الى البشرية جميعا ( قل يا أيها الناس اني رسول الله اليكم جميعا ) ،ولان ماتضمنته رسالته هو أعظم الخير والهدي والفلاح لبني الانسان في عاجلتهم وآجلتهم ، أمر عليه الصلاة والسلام أن يجاهد من يقف في وجه هذا الخير ويحول بين الناس وبين معرفته ، ثم هم بعد ذلك بالخيار من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر 0
ومن النماذج في تاريخ علماء الاسلام ووعيهم لهذه الحقيقة ، حقيقة أن العلم حر لايجوز لاحد أن يضعه في حجر ، نموذج فريد لحرية البحث العلمي ،تمثل في شخصية شيخ الاسلام ابن تيمية ، يقول ابن عبدالهادي في العقود الدرية ، في شأن فتيا ابن تيمية في مسألة الحلف بالطلاق ( فما كان يوم السبت مستهل جمادى الاولى من هذه السنة ( 718هـ) ورد البريد من دمشق ومعه كتاب السلطان بالمنع من الفتوى في مسألة الطلاق التي رآها الشيخ تقي الدين بن تيمية وأفتى فيها ، وصنف فيها والامر بعقد مجلس في ذلك ، فعقد يوم الاثنين ثالث الشهر المذكور بدارالسعادة ، وانفصل الامر على ما أمر به السلطان ، ونودي بذلك في البلد يوم الثلاثاء ، رابع الشهر المذكور 0
ثم ان الشيخ عاد الى الافتاء بذلك وقال : لايسعني كتم العلم 000
فلما كان بعد ذلك بمدة ، في يوم الخميس الثاني والعشرين من رجب من سنة عشرين وسبعمائة ، عقد مجلس بدار السعادة حضره النائب والقضاة ، وجماعة من المفتين ، وحضر الشيخ ، وعاودوه في الافتاء بمسألة الطلاق ، وعاتبوه على ذلك ، وحبسوه بالقلعة ، فبقي فيها خمسة أشهر وثمانية عشر يوما ) ص215
وكأنك بكثير من المتنطعين والمتحزبين بالعصبية هذه الايام ، ودوا لو اتهموا شيخ الاسلام بمخالفة العلماء والخروج على ولاة الامر والتحريض على عصيانهم ، وأظنه لو كان حيا هذه الايام لما تورعوا عنه نعوذ بالله من الجهل والهوى(/2)
وصورة المسألة التي حبس بسببها هذا الامام أن الرجل اذا حلف على غيره أو نفسه ، بالطلاق كأن يقول علي الطلاق لتفعلن كذا أو لاتفعل كذا ، ثم حنثت يمينه ، فهل تطلق عليه امرأته ، فأكثر العلماء أنها تطلق بحنثه ليمينه ، ويحكى عليها الاجماع ، غير أن التهويل بحكاية الاجماع بضاعة المقلدين وهي لاتروج عند أهل العلم المحققين ، ولهذا استدل شيخ الاسلام ، على قوله بأنها يمين مكفرة ليست من باب الطلاق في شيء مالم ينو الطلاق ويريد ايقاعه ،استدل وصنف وأفتى وناظر وقام بحجته ورأى أن مجرد حكاية الاجماع أو مخالفة غالب علماء زمنه لايجوز أن ترد به أدلة الشرع ، ورأى أن كتم العلم لايجوز حتى لو أمر بذلك السلطان وأيده علماء الفتوى في زمنه ، فان القادر على الاستدلال اذا ظهر له الصواب في مسألة بالدليل لايحل له تركه لقول أحد كائنا من كان الا أن يعارض بنص من كتاب الله أو سنة رسوله أو الاجماع المتيقن القديم ، وحينئذ يكون من باب تعارض الادلة ولا يرد كلام المستدل بالدليل الشرعي بأنك خالفت العلماء ، هكذا على الاطلاق ، ولايرده هكذا الا جاهل بطرق الادلة الشرعية ومنازع الاستدلال في الشرع 0
ونظير هذه المسألة من اختيارات شيخ الاسلام التي خالف فيها غالب علماء زمنه ومن قبل زمنه ، قوله بجواز التيمم لمن خالف فوات العيد والجمعة باستعمال الماء مع حضور الماء ، وكان يميل أخيرا رحمه الله ــ كما حكى ابن عبدالهادي ــ الى توريث المسلم من الكافر الذمي وله في ذلك مصنف وبحث طويل ، وغيرها من المسائل التي لو اطلع عليها المتهوكون المتصايحون هذه الايام على كل من يخالف مقلديهم الذين يتعصبون لهم وأقاموهم مقام الكتاب والسنة ، لصاحوا به وسعوا في التحذير منه بكل سبيل عافانا الله من مسالك الردى0
ومما قال عنه الامام الذهبي ( وأطلق عبارات أحجم عنها الاولون والآخرون ، وهابوا ، وجسر هو عليها ، حتى قام عليه خلق من علماء مصر والشام ، قياما لامزيد عليه وبدعوه وناظروه ، وكابروه وهو ثابت لايداهن ولايحابي ، بل يقول الحق المر الذي أداه اليه اجتهاده ، وحدة ذهنه وسعة دائرته في السنن والاقوال ) العقود ص82
وقد تطايرت هذه الروح الجريئة التي اتسم بها هذا الامام المصلح فتنسمها كثير من المصلحين بعده ، فأيقظت في نفوسهم همة التجديد ، وكانت السبب الرئيسي في ما أحدثوه من تغيير في واقع الامة وتجديد دينها ، ولو أنهم رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وهابوا الصياح عليهم وتخويفهم بعدم الخروج على المألوفات لما كتب لهم النجاح 0
@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@
المقال الثالث
ــــــــــــــــــ
ــــــــــــــــ
العلم والتقليد
من درر الحكم المنقولة عن السلف قول يحيى بن عمار : العلوم خمسة ، فعلم هو حياة الدين وهو علم التوحيد ، وعلم هو غذاء الدين وهو علم التذكر بمعاني القرآن والحديث وعلم هو دواء الدين وهو علم الفتوى اذا نزل بالعبد نازلة احتاج الى من يشفيه منها كما قال ابن مسعود ، وعلم هو داء الدين وهو الكلام المحدث وعلم هو هلاك الدين وهو علم السحر ونحوه ) مجموع الفتاوى لابن تيمية 28/146
وينفلق من هذه الحكمة حكم وحكم ، فان الدين لا يكون أصلا بلا توحيد فطلب علمه مقدم على كل شيء فهو بمنزلة نفخ الروح في الجنين ، ثم علم ما في الكتاب والسنة من معان وأحكام وما دل عليه القرآن من علوم وشرحته السنة من معارف هو غذاء الدين لابقاء للدين الا بهذا العلم ، فبالتوحيد حياته وبهذا العلم بقاؤه ، وهو بمنزلة
غذاء الحي الذي يحتاج اليه لاستمرار الحياة 0
وأما معرفة حكم نازلة معينة يحتاج العبد الى معرفة حكم الله فيها فدواء الدين ، لانه لولم تنزل به تلك النازلة فقد لايحتاج قط الى معرفة الحكم ، ولايضره عدم هذه المعرفة بخلاف علم معاني الكتاب والسنة وأحكامهما التي يحتاجها العبد دائما باطنا وظاهرا ، أما النوازل فيحتاجها العبد حاجة المريض الى الدواء ، ولهذا جاز التقليد في هذه الصورة لانه كالمضطر ، وهي منزلة العوام اذا احتاجوا الى معرفة حكم مسألة نزلت بهم ، وأما من يريد طلب العلم الذي هو غذاء الدين ، فانه وان احتاج الى التقليد في طريقه أحيانا لكنه يجعله سلما يرتقي به الى العلم ، ولايقف عنده ولو وقف عنده لم يكن طالبا للعلم بل طالب للجهل فان التقليد جهل باتفاق الناس ، والجهل مذموم مطلقا ، لكن قد يكون صاحبه معذورا فهذا باب آخر ، والله تعالى ذم الجهل وجعله من أسباب الكفر والخسران في القرآن ، والذي يعبد ربه على جهل يعبده على حرف ان أصابه خير اطمأن به وان أصابته فتنة انقلب على وجهه 0
والعجب غياب هذه الحقيقة الساطعة ــ حقيقة أن العلوم أنواع يعطى كل نوع منها منزلته اللائقة به ــ عن قوم ينتسبون الى العلم ، فيكون غاية الطلب عندهم معرفة فتاوى في نوازل بعضها ليسوا هم من أهلها اصلا ، ونهاية علمهم فيها التقليد المحض 0(/3)
وذلك مثل التقليد في الحكم على شخصية اسلامية أفضت الى ربها أو داعية أو طائفة من الدعاة ، أو حركة اسلامية ، أوالحكم على مسألة اجتهد فيها عالم فأخطأ أو أصاب ، وقد لايحتاجها الا النادر من الناس ، ونحو هذه المسائل التي ربما لو جهلها العبد ماضره ذلك ، وربما كان الجهل بها لبعض الناس خيرمن العلم ، فيحفظ الواحد منهم فتاوى بعض المعاصرين في هذه المسائل والنوازل ، وهو فيها مقلد كالبهيمة العجماء التي يقود زمامها أعمى فلا هي تعرف الطريق ولاهي تعلم أن قائدها يعلم أو لايعلم ، ويظن أنه أوتى علما جما وحاز المعارف كلها 0
حتى حدثني بعضهم أن شابا ذكيا أنكر على شخص يعظمه جليسه غاية التعظيم فقال له هذا الشاب: لكنه ــ أي هذا المعظم ــ لا يحفظ القرآن ولا شيئا من السنة ولايستحضر الاحاديث في أصول أبواب العلم ، ولا يعرف شيئا في الاصول واللغة ولا يحسن حل مسألة فرضية ولا ولا ، فقال يكفيه أنه عالم في المنهج ، فقال له ماذا تريد بالمنهج ، فقال انحراف الجماعات الاسلامية 0
فهذا المسكين يظن أنه يطلب علما مع هذا الذي يقوده الى حيث ألقت رحلها أم قشعم 0
ولهذا تجد كثيرا من أمثال هؤلاء المساكين الذين غرهم أولئك الجهلة المنتسبون الى العلم لايلبثون أن ينتكسوا عن التوبة أو يضعف حالهم في التمسك بالدين لضعف تحصيلهم للعلم الذي هو غذاء الدين ، وهم باشغالهم أنفسهم بأخطاء الناس ،بمنزلة المريض الذي يتناول دواء لايحتاجه أو أكثر من حاجته فيزداد مرضه ، لان هذا العلم الذي يطلبونه ـ على فرض أنه صواب والخطأ فيه كثير عندهم ــ دواء يوضع حيث ينفع وبالقدر الذي ينفع ، وليس هو غذاء الدين الذي يزيد به الايمان ويثبت به القلب على حقائق الايمان وحلاوته فكلما ازداد منه العبد ، ازداد خيرا كما في القرآن ( وقل رب زدني علما ) ، وقد رأيت شابا أقبل على التوبة والتدين ، وابتلي المسكين بمن أعطاه (ملفا ) مليئا بأخطاء الدعاة والشيوخ والمصلحين وجماعات الدعوة ، وانشغل بذلك فأنطفأ فيه ذلك النور الذي يوقد همة التائب عادة فيحمله على التشميروالاقبال على العمل الصالح بحلاوة وانشراح الصدر، انطفأ فيه هذا النور تدريجيا حتى انتكس وعاد الى حاله الاولى في المعصية ، وكان اثمه على ذلك الجاهل الذي غره شيوخه فظن أنه من المصلحين 0
وأما قوله علم هو داء الدين فذلك كل علم محدث مخالف لما دل عليه الكتاب والسنة ، كما قال المصطفى عليه الصلاة والسلام شر الامور محدثاتها ،وأما هلاك الدين فعلم السحر ونحوه من العلوم التي تبلغ الكفر والعياذ بالله فان الكفر ضد التوحيد فكما أن التوحيد حياة الدين فالكفر موته وهلاكه والعياذ بالله تعالى 0
@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@
المقال الرابع
ــــــــــــــــ
ـــــــــــــــــــ
(اجتماع الجيوش الاسلامية على غزو العلمانية اللادينية)
ميكافيللي، كالفن ، توماس هوبز، جون لوك ، جون ستيوارت ، هولباخ ، فولتير ، ديكارت ، مونتسكيو ، جان جاك روسو ، ثم الطبقة التي تليها هم : هيغل ، كيجارد ، كارلايل ، داروين، انجلز ، ماركس ، نيتشه ، فرويد ، دركهايم ، لينين ، تروتسكي ، جون ديوي ، هيدجر ، رسل ، سارتر ، وغيرهم كثير من المستشرقين والمفكرين والكتاب والفلاسفة 0
فهؤلاء كان لكتاباتهم الاثر الاكبر في تخريج هذه الطبقة في بلادنا العربية :
وهي : ألبرت حوراني ، ماجد فخري ، عبدالرحمن بدوي ، عبدالعزيز الدوري ، ساطع الحصري ، البستاني ، عثمان أمين ، محمد لطفي ، زكريا ابراهيم ، أنطون سعادة ، شبلي شميل ، فيليب حتى ، سليم خياطة ، ورئيف خوري ، وجميل صليبا ، وحسين مروة ، جورج طرابيشي ، مصطفى حجازي ، لطفي السيد ، عبدالعزيزفهمي ، اسماعيل مظهر ، جورجي زيدان ، طه حسن ، سلامة موسى وبين تواريخ وفياتهم بعض التقديم والتأخير، ومن النساء صفية زغلول وهدى شعراوي
وهنا تأتي طبقة تواكب وبعضها يسبق من تقدم ، لكنها تنتسب الى الدين نوع انتساب ، أو تظهر شيئا من ذلك ، مثل رفاعة الطهطاوي ومحمد عبده وتأثر به سعد زغلول ومصطفى كامل وأحمد لطفي السيد وان لم يكونوا منتسبين الى الدين ، وكان كرومر يقول ( أسميهم حبا في الاختصار أتباع المرحوم المفتي السابق الشيخ محمد عبده ) وقد تأثر به قاسم أمين أيضا وكان يقول ان استقى كتابه عن تحرير المرأة من توجيهات محمد عبده ، وذكر لطفي السيد في كتابه قصة حياتي أن قاسم أمين قرأ عليه وعلى محمد عبده كتاب تحرير المرأة في جنيف قبل نشره ، وعبدالله النديم يلحق بتلاميذ محمد عبده ، ثم من المنتسبين الى الدين الكواكبي ، وطه حسين في بعض كتاباته ، ويأتي في هذا الدور علي عبدالرازق ، وقد ساهم هؤلاء بدور فعال في ترويج العلمنة بالقيام بدور خاص له طبيعة خاصة ، سنشير اليه 0(/4)
غير أن أشدهم في الدعوة الى العلمنة والغارة على الاسلام لطفي السيد وعبدالعزيز فهمي واسماعيل مظهر ، وأشد القائمين بهذا الدور بنوع من التلبيس والتخفي في بعض كتاباته ، صديق اسماعيل مظهر الحميم طه حسين 0
وطبقة أخرى أحدث : زكي نجيب محمود ، فؤاد زكريا ، غالي شكري ، تيزيني ، العروي ، الجابري ، مقالح ،أركون ، علي زيعور ، سعد الدين ابراهيم ، ناجي علوش ، العروي ، حسين قبيصي ، نديم البيطار ، خليل أحمد ، صلاح قنصوه ، عادل ظاهر ، مطاع صفوري 0
ويذكر أيضا محمود أمين العالم ، أدونيس ( على أحمد سعيد ) ، تيزيني ، فرج فودة ، نور فرحات ، خلف الله 0
وأما محمد عمارة، عادل حسين وطارق البشري وكمال أبو المجد ، فهمي هويدي فهم بين السلفية والعلمنة ، مع أن الغالين في العلمنة يسمون هؤلاء (السلفيون الجدد) ويجعلون منهم حسن حنفي !! كما يفعل أمين العالم في كتابه ( الوعي والوعي الزائف في الفكر العربي المعاصر ) ، ولهؤلاء دور يشبه الى حد ما دور من أشرت اليهم من المتقدمين المنتسبين الى الدين في تسهيل تغلغل العلمنة في المجتمعات الاسلامية ، وتراهم معجبين بكتابات الكواكبي ومحمد عبده والافغاني أيما اعجاب ، ومنهم من يرى في أفكار هؤلاء هي سبيل الهدى والرشاد 0
ومن العجائب أن الدكتور محمود اسماعيل في كتابه (الاسلام السياسي ) يعتبر هؤلاء ( السلفيون الجدد ) أشد خطرا وأبعد تأثيرا في تزييف الوعي يقول ( ويرجع ذلك الى قدرتهم على تنظير الاتجاه الاصولي السلفي خاصة وأن بعضهم مثل حسن حنفي ذا باع طويل في الالمام والاحاطة بالفكر الغربي ) ص 24 ، وهم يقصدون بتزييف الوعي ، تقديم نصوص الوحي على شبهات عقولهم التي يسمونها الوعي ، ويجعلون هذا التقديم تزييفا للوعي كما دار عليه بحث العالم في كتابه المذكور آنفا 0
والمقصود أن هؤلاء كلهم بغض النظر عن عدم الدقة في تواريخ الوفيات ، هم منظروا العلمنة في بلادنا العربية ، على اختلاف تياراتها بين ماركسيةشرقية وليبرالية غربية ، والقومية العربية تتركب مع أحد التيارين ،على اختلاف أيضا داخل كل تيار من جهتين : الاولى نوع مدرسة المفكر ( أو المفكرين ) الغربيين أو الشرقيين الذين تأثر بهم المفكر العربي وان كانت داخل الليبرالية ( الهيجلية والظاهراتية والبنيوية والفرويدية والوضعية المنطقية 00الخ ) وهي داخل الليبرالية العلمانية كاطار عام ، أو كانت داخل الماركسية التي شأنها شأن الليبرالية كذلك ، والثانية : درجة الحماسة أو الغلو في تبني العلمنة أو معاداة الدين والتراث 0
ومن هذه السلسلة انحدرت العلمانية الكويتية على اختلاف توجهاتها ، والتي لاتعتبر توجهات جماعية من الناحية الفكرية ان صح التعبير ، بقدر ما هي توجهات فردية ، ليس بينها رابط فلسفي ــ في وجهة نظري ــ يشكل مدرسة ذات أصول فكرية واحدة أو عقل جمعي بشكل ما 0
وهي كذلك ليست ذات عمق وتوغل في النواحي الفكرية والفلسفية في المدرسة التي تتأثر بها ، وليس لأكثرهم ان لم يكن كلهم ، اضافات أو حتى تحليل نقدي ذي قيمة فلسفية ان كانت الفلسفة لها قيمة حقيقية والحق عن هذا بمعزل ، وهم صحفيون في الغالب أكثر من كونهم مفكرين الا النفر اليسير جدا يعدون على أصابع اليد الواحدة
هؤلاء كلهم ( باسثناء من أشرنا الى استثناءه ) وتلك السلسلة من المفكرين بأسانيدها التي ترجع الى أول من اعلن (العلمنة) صنم الجاهلية المعاصرة ، وأول من استجاب لداعيها فسجد لهذا الصنم من دون الله تعالى متخذا ذلك الصنم ربا وشريكا مع الله في طاعته واتباع شريعته والتحاكم اليه وحده ، ثم تنحدر هذه السلسلة الى من نعيش معهم الصراع اليوم على جميع الاصعدة ، في صناعة العقل العربي وفي التأثير في واقع العالم العربي ، في الاعلام والتعليم والتشريع والفكر والثقافة والحكم والدولة وحتى الفن ، يعيش( السلفيون بالنسبة الشرعية الاصولية لا الحزبية ) الصراع معهم على هذه المستويات من أقصى الشرق الى أقصى الغرب في بلادنا العربية0
هؤلاء يشكلون بقضهم وقضيضهم جيش الجاهلية المعاصرة وسدنة صنمها ( العلمانية اللادينية ) وكهنة معبدها الاعظم ( الغرب ) بعد سقوط المعبد الملحد الاخر ، وهم المسؤولون بعد تأسيس دولنا وأغلب حكوماتنا العربية على هذا المبدأ ( العلمانية ) ، هم المسؤولون واقعا وعقلا ومنطقا عن أزماتنا التي نعيشها الان ، لانهم هم من يقبض على صولجان الدولة ، ويأبى أن يتزحزح حتى ولوسخطته الشعوب واضطر الى سحقها 0(/5)
ويقابل هذه الجيش اللاديني ، الجيش الاسلامي العظيم بعلمائه ومفكريه وقادته ومجاهديه وفصائل اليقظة الاسلامية المعاصرة ، يحتشدون ليقاتلوا في سبيل الله يغزون جيش الجاهلية التي تقاتل حول صنمها ، تقاتل في سبيل الطاغوت ، والمعركة اليوم معركة الكلمة والقول والقلم ، لكن لكل حرب ميدانها ولكل ميدان زمانه ، وسنذكر في الحلقة القادمة ان شاء الله ، قادة الجيش الاسلامي ، ثم محاور الحرب وخطط الهجوم ثم تباشير النصر وعلى من تدور الهزيمة 0
جلنا في الحلقة السابقة جولة سريعة في صفوف اللادينية، وذكرنا أكبرمفكريها ودعاتها وقادتها واسنادها الذي يرجع الى ملاحدة أوربا قبيل وأثناء وبعد مايسمى عصر النهضة ، وقد احتشدت للدعوة الى صنمها والى محادة دخول العباد في الاستسلام لدين رب العالمين 0
وقد وقف في وجه هذا المد العارم على الامة ، ورثة الانبياء من رجال العلم وقادة الاسلام ودعاة الهدى ، وكانوا قسمين :
قسم لم يصطدموا بهذا المد اصطداما مباشرا ، غير أنهم قاموا بحماية دين الامة بتجديده فيها والدعوة اليه وتعليمه للناس وتجنيد الاجيال لهذا الدين بغرس مبادئه في نفوسهم ، فهم بمنزلة خطوط الامداد البشري والمعنوي للمقاتلة في الصفوف الامامية ، وكل من يدعوا الى هذا الدين ويساهم في الاصلاح ويغرس مباديء الايمان في نفس منفوسة من أفراد الامة فهو أحد جنود هذا القسم ، بحسب ما أوتي من علم ، ووفق في الاصلاح والدعوة والتعليم ، وفوق كل ذي علم عليم 0
القسم الثاني : من ابتلي بالصدام المباشر مع موجات (العلمنة ) التي انتشرت في العالم العربي ، بسبب تعرض المجتمع الذي يعيش فيه لشن غارة مباشرة من هذا المد ، لاجل ثقله في الامة وأهميته الاستراتيجية ، مثل ما حدث في مصر منذ ( 1800م) ولهذا نجد أنها أكبر ميادين هذا الصراع في الوطن العربي وأكثرها ازدخارا بالاحداث وبايام معارك الاسلام العظمي مع العلمنة الى يومنا هذا ،وهذا على سبيل المثال لا الحصر ، فقد تعرضت أكثر البلاد الاسلامية لمحاولة فرض العلمنة بصورة أو بأخرى0
وهذان القسمان ومن يدخل تحتهما من العلماء والدعاة والمصلحون ، هم سلسلة موكب الهدي، ولئن رجع اسناد اللادينية الى كفرة أوربا وملاحدتها وضلال اليهود والنصارى ، فان اسناد الجيش الاسلامي الذي واجه العلمنة منذ غزوها لبلاد الاسلام الى يومنا هذا ، يرجع اسناده الى آدم عليه السلام أول النبيين الكرام ، ثم يتسلسل عبر تاريخ الرسل والانبياء الى محمد عليه الصلاة والسلام أفضلهم وقائدهم ثم أتباعه من بعده والرجال الذين صنعوا تاريخ هذا الدين العظيم ، ويدخل جميعهم في قوله ( ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا ) ، فهؤلاء هم أهل طاعة الله المستسلمين لحكمه ، وهم فريق واحد ، وموكب واحد ، يمتد عبر تاريخ البشرية بأسرها ، وهم أولياء الله ، (الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات الى النور) وأولئك أتباع الشيطان وأهل طاعته ومردهم الى حكمه وشريعته ، وهو وليهم من دون الله ( انهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون ) و( الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت ) 0
واذا ذكروا مآثرهم ، ذكرنا مآثرعلماءنا في الحرب مع العلمنة في هذا العصر، فكان كطلوع الشمس وانقشاع الظلمات ، ونذكر حينئذ امام الاسلام وشيخه في زمنه محمد بن ابراهيم آل الشيخ ، فقد قذف بقذيفة مدمرة على حصنهم وهي رسالته ( تحكيم القوانين ) في ناحية الحكم والتشريع من ( اللادينية ) ، ولاعجب فانه من آل الشيخ( المجدد محمد بن عبدالوهاب ) الذي جعل شرك الطاعة ( وعليه يدور مبدأ العلمنة ) أحد أنواع الشرك الاربعة الرئيسة التي يتخذ فيها شريك مع الله تعالى ، وعد الطواغيت البشرية أربعة فجعل اثنين منها في شرك (الحكم بغير ما أنزل الله تعالى )، فأنجبت مدرسته السلفية مثل الامام ابن ابراهيم 0
وذكرنا تلميذه العلامة عبدالعزيز بن باز فقد قذفهم برسالته في ( نقد القومية العربية ) في ناحية فكرية أخرى كانت في ذلك الزمن من أشد أركان العلمنة وأعظمها ضررا على الدين لنقضها مبدأ الولاء فيه ، ومن هذه المدرسة نذكر جبالا علا شرفاتها رجال عظام ، ولهم مؤلفات كثيرة ، ومواقف شجاعة ، وفي مبارزة الاقران صولات مذكورة مشهورة، و بعضهم يدخل في القسم الاول ، وبعضهم في القسم الثاني 0
واذا دخلنا خطوط المعركة الامامية حيث يحمي الوطيس في جوف أرض الحرب ، رأينا حينئذ أبطال الاسلام يقاتلون في سبيله كالليوث الحوارد ، تخلع القلوب زمجرتهم ، وتذهب بالابصار صولتهم وجولتهم وسنأتي على ذكرهم في حينه 0
وشتان بين الفريقين ، وما أبعد التفاوت بين الصفين ، صف العلمانية الضالة ، وصف انصار الشريعة الالهية :
شتان بين مذاهب أوصى بها بعض لبعض أول للثاني
وشريعة فطر الاله عباده حقا عليها ماهما عدلان(/6)