ينبغي أن نحسن التعامل مع المنكرات، ونتبع سبيل الحكمة في ذلك، بعض الإخوة قد يواجه منكرات عظيمة ويتعجل فتصبح مشكلة، وقد يضر أكثر مما ينفع، حدثني الأخ طلال الدوسري أنه ذهب إلى قرية من القرى يقول: فوجدت شاباً يدخن، فقلت له: يا أخي صاحب هذا الوجه الطيب المبارك كيف تدخن؟!! قال: أنت تعلمني، وأنا أعلم بلد!!
إذن بعض الناس لا يتحمل إنكار المنكر، ولا النصح والتوجيه، ويحتاج الداعية إلى الحكمة في التعامل معهم.
زرت جازان وقابلت أحد تلاميذ الشيخ عبد الله القرعاوي، فذكر لي قصة عجيبة، وهي كما يلي: يقول: بلغنا ورأينا مجموعة من الناس يطبلون ويرقصون حول النار، فأخبرنا الشيخ بالأمر، فقرر الذهاب إليهم، فركب دابته، وأخذ معه كيساً من النقود، وكنا مجموعة من الشباب، وتحفزنا للدخول في مضاربة، وبقينا ننتظر توجيه الشيخ، وفوجئنا بالشيخ يدور عليهم ويعطيهم النقود، ويقول: من يضرب أكثر أعطيه نقوداً أكثر، ما الذي يحدث؟! كدنا أن نضرب الشيخ، وبقي يدور عليهم حتى تمزقت طبولهم من قوة الضرب، ولم يبق إلا واحد أو اثنان، وبعدها دعاهم الشيخ وأجلسهم إليه، ووعظهم ونصحهم، وقرأ فيهم القرآن، وأعطاهم النقود، وهنا نعرف دور الحكمة في الدعوة إلى الله، وتأثيرها على الناس، فنحتاج إلى حكمة وسعة بال مع الضوابط الشرعية في هذا المجال.
7- الاهتمام بوجهاء القوم:
ينبغي الاهتمام بوجهاء القوم كالأمير والقاضي وشيخ القبيلة ورئيس الشرطة ورئيس الهيئة ونحوهم من مديري الدوائر، فإن الله إذا نفع بهم نفع بمن وراءهم، ولنا في ذلك أسوة:
عندما ذهب مصعب بن عمير إلى المدينة، كان معه أسعد بن زرارة، قدم إليهما أسيد بن الحضير لطردهما، قال أسعد لمصعب: قد جاءك سيد قومه، فاصدق الله فيه، وكان أسيد غاضباً، فقال: ما جاء بكما تسفهان أحلامنا، وتسبان آلهتنا، إن كان لكما في أنفسكما حاجة ففارقنا، فلم يهربا وإنما قام إليه مصعب، وقال له: اجلس واستمع فإن سمعت خيراً فذاك، وإن سمعت شيئاً تكرهه نغادرك، فقال: لقد أنصفت فركز رمحه وجلس، فقرأ عليه القرآن، ودعاه إلى الإسلام فأسلم، وقال: الآن أسلمت، ولكن خلفي سعد بن عبادة، وسعد ابن معاذ فاصدقا الله فيهما، فرجع إلى قومه، فقال القوم: والله لقد جاءكم أسيد بغير الوجه الذي ذهب به، فلما قدم على قومه، قال: نصحتها فاذهبا -اذهب أنت يا فلان جعل أحد الزعماء يذهب ليفعل معه مصعب الفعل نفسه فيدخل في الإسلام، فأسلمت المدينة، ودخل الإسلام جميع بيوت المدينة على يد مصعب- رضي الله عنه .
ولذلك نعرف أهمية زيارة الوجهاء والمسؤولين عن هذه القرى، فلينتبه لهذا.
8- لا تكن عالة على الآخرين:
أنصح الإخوة ألا يكونوا عالة، يثقلون على أهالي القرى، ويقترح بعض الإخوة أن تقام خيمة في مدخل القرية حتى تعرف ليأتيها الناس، مع أن هذا لا يمنع من الزيارة في البيوت، وبالذات في المناسبات، بحيث لا يتكلف أحد من أهل القرية شيئاً خاصاً لهم، -وأيضاً- تكون بعض الزيارات البسيطة كوقت ما بعد العصر -مثلاً-.
9- الالتزام بسمت طالب العلم.
ينبغي للقائمين بالرحلة الالتزام بسمت طالب العلم، وألا يظهروا بما يقدح فيهم أمام العامة، فإن الإخوة قد يوجهون نصيحة يتأثر بها الحضور، وينتفعون بها، ثم يحدث خطأ أو تصرف أو مزح يذهب بهيبتهم ووقارهم، فلا بد من الانضباط والالتزام بسمة طالب العلم.
وكذلك المزاح لا يمزحون إلا بقول الحق، والحرص على ذلك.
10- مراعاة أحوال الناس:
ينبغي مراعاة أحوال الناس، والتدرج بهم، وعدم التعجل في محاولة تغيير الأوضاع السيئة!!
بعض الإخوة -من شدة حماسه- يريد أن تتغير الأوضاع في أسبوع أو ثلاثة أيام -مثلاً-، وينسى أن هذه الأوضاع لها من العمر عشرون أو ثلاثون سنة، فلا بد للإخوة أن يراعوا هذا، وأن يبدؤوا بالأهم ثم المهم، وليكن لنا في حديث معاذ ووصية الرسول صلى الله عليه وسلم قدوة حسنة "إنك تأتي قوماً أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه... الحديث" (1).
11- التخطيط للرحلة:
الحرص على التخطيط للرحلة قبل قيامها، ومعرفة من ستذهب إليهم، وحاجتهم وانتقاء الأفراد، ونرى الرسول صلى الله عليه وسلم يخبر معاذاً _رضي الله عنه_ أنه سيذهب إلى قوم أهل الكتاب، فيستعد لهم بالحجج، وطرق الإقناع...، ولذلك فإنه ينبغي للدعاة أن يعرفوا حاجة هذه القرية، وأن يستفسروا ممن سبق وإن ذهب إليها، ووسائل الاتصال متوافرة، وكثيرة -ولله الحمد-.
12- استثمار الرحلة في تربية المشاركين:
__________
(1) - قوله، صلى الله عليه وسلم، إنك تأتي قوما أهل كتاب سبق هاهنا برقم 8.(/11)
ينبغي استثمار الرحلة في تربية المشاركين، وتدريبهم على الخطب، ودعوة الناس، فإن بعض الشباب يقول: لا أستطيع الكلام بين الناس، وبعض الناس من كبار السن لديه علم، ولكن يتوهم أنه ليس لديه القدرة على الكلام ونصح الناس، بينما لو كان له معاملة في إحدى الجهات لتكلم وما سكت، وعلى هذا فإن ما يجده في نفسه هو وهم يلقيه الشيطان ليصرفه عن الخير، فليتغلب عليه، وليدرب نفسه على مواجهة الناس، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
13- الحرص على وجود مندوب للدعوة:
مما يجدر التنبيه عليه وجود مندوب للدعوة؛ ليتم عن طريقه التعاون في تنظيم المحاضرات، وتوزيع الكتب والأشرطة بصفة مستمرة، وليكن ذلك -مثلاً- عن طريق إمام المسجد، أو القاضي -إن وجد- أو أحد المدرسين، ممن يصلح مندوبا للدعوة.
خاتمة
قال معاوية رضي الله عنه لصعصعة بن صوحان: صف لي الناس، "فقال: خلق الناس أصنافاً، فطائفة للعبادة، وطائفة للتجارة، وطائفة خطباء، وطائفة للبأس والنجدة، ورجرجة فيما بين ذلك يكدرون الماء، ويغلون السعر، ويضيقون الطريق" فاحذر -يا أخي الكريم- أن تكون من الرجرجة، بل كن من الخطباء، أو كن من طلاب العلم، أو من أصحاب البأس والنجدة، أو كن من التجار الذين يساعدون على هذه المشروعات.
وهذا قيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، في وقت انفتحت فيه أبواب الشر، فها هو -مثلاً- البث المباشر قادم الآن، وسيرى الناس أوجها من الشر لا نعلمها، فإن لم نبادر إلى تحصين مجتمعاتنا وتحصين أنفسنا وقرانا لخسرنا وخسروا.
مع العلم بأنه قد ثبت أن أهالي القرى والهجر هم أقرب إلى الفطرة، وأسرع إلى الاستجابة، وهم الذين تجدهم عند الحاجة إليهم في القيام بواجب الدعوة إلى الله وحماية هذا الدين.
فالله، الله لنعد النظر في أحوالنا، وفي واقعنا لعل الله يبارك لنا، فلو أن الله هدى على يدك رجلاً واحداً ثم اهتدى على يديه عشرات، لكان لك مثل أجورهم، أ نحرم أنفسنا من هذا الخير؟ وتذكروا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم " (1).
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
__________
(1) - قوله، صلى الله عليه وسلم: لأن يهدي الله بك رجلا واحدا. رواه البخاري في كتاب الجهاد باب فضل من أسلم على يديه رجل وباب دعوة اليهود والنصارى (6/111و144/ رقم 2942و3009) وفي مواضع أخرى، ورواه مسلم في فضائل الصحابة- رضي الله عنهم- من صحيحه (4/1872/2406) من حديث سهل بن سعد- رضي الله عنه-.(/12)
مشروعية الزكاة في العسل المتخذ للقنية أو التجارة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين - ؛ أما بعد ..
فهذا بيان زكاة العسل سواء اتُخِذ للقنية أو التجارة .
مشروعية الزكاة في العسل غير المتخذ للتجارة :
· المذهب الحنبلي :
أوجب الحنابلة الزكاة في العسل ؛ قال ابن قدامة : سئل أبو عبد الله أنت تذهب إلى أن في العسل زكاة ؟ قال : نعم أذهب إلى أن في العسل زكاة ؛ العشر ؛ قد أخذ عمر منهم الزكاة . قلت : ذلك على أنهم تطوعوا به . قال : لا بل أخذه منهم . ويروى ذلك عن عمر بن عبد العزيز ومكحول والزهري وسليمان بن موسى والأوزاعي وإسحاق (1).
واستدلوا بما رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- " كان يؤخذ في زمانه من قِرب العسل من كل عشر قِرب قِربة من أوسطها "رواه أبو عبيد (2). وعن عمر قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في العسل " في كل عشر قِرب قِربة " رواه أبو داود والترمذي ؛ وقال الترمذي في إسناده مقال ولا يصح في هذا الباب عن النبي - صلى الله عليه وسلم- كبير شيء (3)
واستدلوا أيضاً بحديث سليمان بن موسى أن أبا سيارة المتعي قال : قلت : يا رسول الله إن لي نحلا ؟ قال " أدِّ عشرها " . قلت : فاحمِ إذاً جبلها ؛ فحماه له " رواه ابن ماجة (4)
· المذهب الحنفي :
والحنفية أوجبوا الزكاة في العسل كذلك ؛ ولكن بشرط : إذا كان في أرض عشرية . قال أبو الحسين
المرغياني : وفي العسل العشر إذا أخذ من أرض العشر (5) ، ولا شيء في العسل إذا كان في أرض الخراج (6). ونسب النووي هذا القول إلى الأوزاعي (7)
واستدلوا لوجوب الزكاة في الأرض العشرية بحديث أبي سلمة عن أبي هريرة أن النبي – صلى الله عليه وسلم- كتب إلى أهل اليمن أن " في العسل العشر " (8) ، ولأن النحل يتناول من الأنوار والثمار وفيهما العشر فكذا فيما يتولد منهما (9)
واستدلوا لعدم وجوب الزكاة في الأرض الخراجية بعدم وجوب العشر فيها وإنما يجب فيها الخراج ؛ والعشر والخراج لا يجتمعان (10)
· المذهب الشافعي :
واختلف قول الشافعي في زكاة العسل ؛ فقال في القديم : يحتمل أن يجب فيه ، وقال في الجديد : لا تجب (11) . قال النووي : وهو المذهب (12)
وجه الأول ما روي أن بني شبابة بطناً من فهم " كانوا يؤدون إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من نحل كان عندهم العشر من عشر قِرب قِربة " (13)
ووجه الثاني أنه ليس بقوت فلا يجب فيه العشر كالبيض (14) ؛ وذكر لهم المرغياني استدلالاً على عدم الوجوب بأن العسل متولد من الحيوان فأشبه الإبريسم (15)
· المذهب المالكي :
أما المالكية فلا يقولون بالزكاة في العسل . قال أبو عبد الله المغربي : ولا زكاة في الحلبة ، ولا وفي شيء من الفواكه كلها رطبها ويابسها ، ولا في البقول ، ولا في القطن ، ولا في القصب ، ولا الخشب .. وما أشبه ذلك ، ولا في العسل ، وقصب السكر والتين والرمان والجوز واللوز وما أشبه ذلك (16) ونسبه في المغني إلى الشافعي وابن أبي ليلى والحسن بن صالح وابن المنذر . (17)
واستدلوا على ذلك بضعف الأحاديث الآمرة بالزكاة . قال ابن المنذر : ليس في وجوب الصدقة في العسل خبر يثبت ولا إجماع فلا زكاة فيه (18) . واستدلوا بحديث سفيان الثوري عن عبيد الله بن عمر عن نافع قال : بعثني عمر بن عبد العزيز إلى اليمن فأردت أن آخذ من العسل الصدقة ؛ فقال المغيرة بن حكيم الصنعاني : ليس فيه شيء . فكتبت إلى عمر بن عبد العزيز . فقال : المغيرة عدل رضي ؛ لا تأخذ من العسل شيئا (19)
نصاب زكاة العسل عند القائلين بها :
· المذهب الحنبلي :(/1)
اختلف الحنابلة في تقدير النصاب أولاً ؛ هل هو بالقِرب أم بالأفراق ؟ قال ابن قدامة : نصابه عشر قِرب والقربة مائة رطل (20) ( وعليه فالنصاب ألف رطل ) ، وقال : قال أصحابنا : نصابه عشرة أفراق لأن الزهري قال في عشرة أفراق فرق ؛ ووجهه ما روي عن عمر - رضي الله عنه - أن أناسا سألوه ؛ فقالوا : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قطع لنا واديا ظاهرا فيه خلايا من نحل ، وإنا نجد ناسا يسرقونها . فقال عمر رضي الله عنه : إن أديتم صدقتها من كل عشرة أفراق فرقا حميناها لكم " رواه الجوزجاني ؛ وهذا تقدير من عمر - رضي الله عنه - فيتعين المصير إليه . (21) ؛ ثم اختلفوا ؛ فقال ابن حامد والقاضي في المجرد : الفرق ستون رطلاً ( وعليه فالنصاب ستمائة رطل ) (22) ، وقيل : الفرق ستة عشر رطلاً بالعراقي فيكون نصابه مائة وستون رطلاً ؛ قال أحمد في رواية أبي داود ؛ قال الزهري : في عشرة أفراق فرق والفرق ستة عشر رطلا (23) ؛ وقيل : هو مائة وعشرون رطلا (24) ( وعليه فالنصاب ألف ومائتا رطل ) ؛ وقيل : أن الفرق ثلاثة آصع . قال أبو عبيد : لا خلاف بين الناس أعلمه في أن الفرق ثلاثة آصع . وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لكعب بن عجرة " أطعم ستة مساكين فرقاً من طعام " (25) فقد بين أنه ثلاثة آصع ، وقالت عائشة - رضي الله عنها - : كنت أغتسل أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - من إناء هو الفرق . وهذا هو المشهور فينصرف الإطلاق إليه .
· المذهب الحنفي :
اختلف مقدار النصاب عند الحنفية ؛ فعن أبي حنيفة - رحمه الله- أنه يجب في العسل قلّ أو كثُر لأن النصاب لا يعتبر ( وهذا على أصله في عدم اشتراط النصاب في زكاة الزروع والحبوب ) ، وعن أبي يوسف -رحمه الله - : أنه يعتبر فيه قيمة خمسة أوسق ( كما هو أصله في زكاة الزروع والحبوب ) ، وعنه : أنه لا شيء فيه حتى يبلغ عشر قرب ، وعن محمد -رحمه الله- : خمسة أفراق كل فرق ستة وثلاثون رطلا لأنه أقصى ما يقدر به (26)( وعليه فالنصاب مائة وثمانون رطلا )
· المذهب الشافعي :
يصنف الشافعية العسل من الثمار ويدرجونه في كلامهم عن زكاة الزروع والثمار (27) ، ولكنهم مع ذلك قد اختلفوا في نصاب العسل ؛ قال النووي : فإن أوجبناه – أي الزكاة فيه - ففي اعتبار النصاب خلاف ، المذهب اعتباره ، وقال ابن القطان قولان كما سبق في الزيتون (28) وقال في سياق حديثه عن الزيتون : ويشترط بلوغه نصاباً هذا هو المذهب وبه قطع الأصحاب في جميع الطرق إلاّ ما حكاه الرافعي عن ابن القطان أنه خرج اعتبار النصاب فيه ، وفي سائر ما اختص القديم (ومنها العسل) بإيجاب الزكاة فيه على قولين(29)
ولذا فإن نصابه عندهم على القول بالزكاة فيه هو نصاب زكاة الزروع والثمار وهي خمسة أوسق ؛ قال النووي في المنهاج : وفي القديم تجب في الزيتون والزعفران والورس والقرطم (وهو حب العصفر) والعسل . ونصابه خمسة أوسق وهي ألف وستمائة رطل بغدادية (30) وهذا أحد قولي ابن القطان ، ولعل القول الثاني هو : عدم اعتبار النصاب فيه كأبي حنيفة . وإليه أشار النووي في المجموع (31) ولم أجد التصريح بهذا إلا بعد البحث الشديد في بعض حواشي الشرح الكبير للرافعي ما نصه ( وقال الشيخ أبو علي في شرح التلخيص : اعتبار النصاب فيه وجهان ذكرهما ابن القطان قياساً على المعادن ؛ أحدهما : يخرج من القليل والكثير ، والثاني : إذا بلغ خمسة أوسق .أهـ (32)
مقدار الزكاة :
· المذهب الحنبلي :
مقدار الزكاة عند الحنابلة - إن بلغ النصاب – العشر ؛ قال ابن قدامة : وفي العسل العشر لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده .. وذكر الحديث ؛ وقد تقدم (33)
وقد سئل أبو عبد الله أنت تذهب إلى أن في العسل زكاة ؟ قال : نعم أذهب إلى أن في العسل زكاة ؛ العشر (34)
· المذهب الحنفي :
قال المرغياني : وفي العسل العشر إذا أخذ من أرض العشر (35) وهو رأي أبي حنيفة (36)
وقال السرخسي : ولا شيء في العسل إذا كان في أرض الخراج وإن كان في أرض العشر أو في الجبال ففيه العشر (37)
· المذهب الشافعي :
قال الشاشي القفال : وقال في القديم : يجب في العسل العشر (38) ؛ وقد عدّوه من المعشرات (39) ؛ لما روى ابن ماجة عن عمرو بن شعيب أنه - صلى الله عليه وسلم - " أخذ منه العشر " (40)
· الترجيح :
والذي ظهر لي بعد دراسة أقوال الأئمة أن الأحاديث القاضية بزكاة العسل تتقوى بمجموع طرقها ، وعليه ففي العسل المتّخذ في غير التجارة زكاة وهو العشر والله أعلم .
وهذا الكلام في ما إذا لم يتخذ العسل للتجارة ؛ فأما إن اتخذ للتجارة فالكلام عنه كالتالي :
زكاة العسل للتجارة :(/2)
العسل له ثَمن ؛ وهو من الأموال ؛ والمال يجب فيه الزكاة إن كان لغرض التجارة ؛ قال ابن قدامة : ( العروض جمع عَرَض : الأثمان من المال على اختلاف أنواعه من النبات والحيوان والعقار وسائر المال ) (41). فعموم كلامه يدل على وجوب الزكاة في العسل إن كان للتجارة . وقال ابن نجيم الحنفي : ( وكل شيء فهو عرض سوى الدراهم والدنانير ) (42) ، ولأن التجارة يطلب بها نماء المال فتعلقت بها الزكاة كالسوم في الماشية (43) ، ولأنها معدّة للاستنماء بإعداد العبد فأشبه المعدّ بإعداد الشرع (44) ؛ وهذا المعنى حاصل في العسل الذي يقصد للتجارة . ولذا يضم بعض أموال التجارة إلى البعض في تكميل النصاب (45) .
والزكاة في قيمة عروض التجارة واجبة في قول أكثر أهل العلم ؛ وقد روي ذلك عن عمر و ابنه و ابن عباس - رضي الله عنهم - وبه قال الفقهاء السبعة والحسن و جابر بن زيد و ميمون بن مهران و طاوس و النخعي و الثوري والأوزاعي والشافعي ومالك وأبو عبيد وإسحاق وأصحاب الرأي - رحمهم الله - لما روى أبو داود بإسناده عن سمرة بن جندب قال : " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم – يأمرنا أن نخرج الزكاة مما نعده للبيع " (46). وخالف في ذلك داود فلم يوجب الزكاة في عروض التجارة (47) .
وقد نقل ابن المنذر إجماع أهل العلم على أن في العروض التي يراد بها التجارة ؛ الزكاة إذا حال عليها الحول (48) قال ابن قدامة : ( ولا نعلم بين أهل العلم خلافا في اعتبار الحول ؛ وقد دل عليه قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن عمر " من استفاد مالاً فلا زكاة عليه حتى يحول عليه الحول " (49) ) كما أنه لا بد من بلوغه نصاب العروض لإيجاب الزكاة فيه ؛ قال ابن نجيم الحنفي : ( وفي عروض تجارة بلغت نصابٌ)(50) ؛ وتقدير النصاب من أموال التجارة بقيمتها من الذهب والفضة ؛ وهو أن تبلغ قيمتها مقدار نصاب من الذهب والفضة (51) .
ولكن العروض لا تكون للتجارة إلا بشروط ؛ قال ابن قدامة : ولا يصير العرض للتجارة إلا بشرطين ؛ أحدهما : أن يملكه بفعله (52) كالبيع والنكاح والخلع وقبول الهبة والوصية والغنيمة واكتساب المباحات ؛ لأن ما لا يثبت له حكم الزكاة بدخوله في ملكه لا يثبت بمجرد النية كالصوم . قال الباجي : والعمل المؤثر في ذلك : الابتياع (53)، والثاني : أن ينوي عند تملكه أنه للتجارة (54) ؛ فإن لم ينوِ عند تملكه أنه للتجارة لم يصر للتجارة ؛ حتى وإن نواه بعد ذلك (55) لأن الأصل القنية ؛ والتجارة عارض فلم يصر إليها بمجرد النية ؛ كما لو نوى الحاضر السفر لم يثبت له حكم السفر بدون الفعل(56) .
وعن أحمد رواية أخرى أن العرض يصير للتجارة بمجرد النية ( وهو قول الكرابيسي من الشافعية ) لقول سمرة : " أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نخرج الصدقة مما نعد للبيع " فعلى هذا لا يعتبر أن يملكه بفعله ، ولا يكون في مقابلة عوض بل متى نوى به التجارة صار للتجارة (57) ، وقال المرغياني : وتشترط نية التجارة (58) ، وقال الباجي بعد تقسيمه للأموال على قسمين : مال أصله التجارة كالذهب والفضة .. ومال أصله القنية كالعروض والثياب وسائر الحيوان والأطعمة (59) .
فإن قيل كيف يجتمع حقان في مال واحد ؟
قلت : وما الذي يمنع من هذا ؛ ألا ترى أن المال يجب فيه حق للزوجة والولد .. من النفقة وغيرها كما أن فيه أيضاً حقاً للفقير إن بلغ نصاباً ودار عليه الحول ؛ وليس هذان الحقان حق واحد لاختلاف موجِبهما ؛ وهنا كذلك ؛ اختلف الموجِب للزكاة من زكاة عسل إلى زكاة تجارة ؛ فالعسل في حد ذاته إن كان للقنية له نصاب مختلف عن نصابه في التجارة ، وكذا الحول فلا حول له إن كان للقنية وله حول إن كان للتجارة ؛ ثم إن النية مؤثرة في العمل ؛ ولا شك أنه لا يستوي من نوى بالعسل القنية ومن نوى به التجارة " وإنما لكل امرئ ما نوى " (60) لا سيّما وقد عُلِم أن المال – ومنه العسل – لا يتحول من القنية إلى التجارة إلا بالنية المصدَّقة بالعمل .
وهذا لا يفتح باب الحيلة بل يغلقه فإن من نوى بالعسل القنية وجب عليه فيه العشر زكاة حالّة ؛ فإن نوى بعد ذلك التجارة - بقصد الحيلة أو بدون قصدها - وجب عليه فيه ربع العشر بانتهاء الحول بشروطه المتقدمة ، والله أعلم .
والحمد لله رب العالمين
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
كتبه الفقير إلى عفو ربه العلي
علي بن عبد الرحمن بن علي دبيس
الخميس 16 صفر 1427هـ
(1) - المغني ج: 2 ص: 305 ، وانظر الكافي في فقه ابن حنبل ج: 1 ص: 308
(2) - بنحوه في سنن أبي داود ( جزء 1 - صفحة 504 ) ، قال الشيخ الألباني : حسن .
(3) - الكافي في فقه ابن حنبل ج: 1 ص: 308 ، وانظر المغني ج: 2 ص: 306 ، والحديث في سنن الترمذي ( جزء 3 - صفحة 24 ) قال الشيخ الألباني : صحيح .(/3)
(4) - المغني ج: 2 ص: 306 والحديث في سنن ابن ماجه ( جزء 1 - صفحة 584 في الزوائد : في إسناده قال : ابن أبي حاتم عن أبيه لم يلق سليمان بن موسى أبا سيارة . والحديث مرسل . وحكى الترمذي في العلل عن البخاري عقب هذا الحديث أنه مرسل . ثم قال لم يدرك سليمان أحدا من الصحابة اهـ ، قال الشيخ الألباني : حسن
(5) - الهداية شرح البداية ج: 1 ص: 110 ، وانظر البحر الرائق ج: 2 ص: 255 ، وانظر المبسوط للسرخسي ج: 3 ص: 15 وانظر بدائع الصنائع ج: 2 ص: 62
(6) - المبسوط للسرخسي ج: 2 ص: 216
(7) - المجموع للنووي ج: 5 ص:417
(8) - الهداية شرح البداية ج: 1 ص: 110 ، وانظر البحر الرائق ج: 2 ص: 255، وانظر المبسوط للسرخسي ج: 2 ص: 216، وانظر بدائع الصنائع ج: 2 ص: 62 والحديث ذكره في سنن البيهقي الكبرى ( جزء 4 - صفحة 126 ) قال البخاري وعبد الله بن محرر متروك الحديث يعني بذلك تضعيف روايته عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعا في العسل .
(9) - الهداية شرح البداية ج: 1 ص: 110 ، وانظر البحر الرائق ج: 2 ص: 255، وانظر المبسوط للسرخسي ج: 2 ص: 216، وانظر بدائع الصنائع ج: 2 ص: 62
(10) - المبسوط للسرخسي ج: 2 ص: 216 بدائع الصنائع ج: 2 ص: 62
(11) - المهذب ج: 1 ص: 154 ، وانظر روضة الطالبين ج: 2 ص: 232 ، وانظر المجموع ج: 5 ص:415
(12) - المجموع ج: 5 ص: 415
(13) - المهذب ج: 1 ص: 154 انظر سنن أبي داود ( جزء 1 - صفحة 503 ) قال الشيخ الألباني : حسن .
(14) - المهذب ج: 1 ص: 154
(15) - الهداية شرح البداية ج: 1 ص: 110
(16) - مواهب الجليل ج: 2 ص: 280 ، وانظر التمهيد لابن عبد البر ج: 16 ص: 272
(17) - المغني ج: 2 ص: 305
(18) - المغني ج: 2 ص: 305
(19) - التمهيد لابن عبد البر ج: 16 ص: 272 ، والحديث في سنن الترمذي ( جزء 3 - صفحة 25 ) وقال الشيخ الألباني : صحيح .
(20) - الكافي في فقه ابن حنبل ج: 1 ص: 308
(21) - المغني ج: 2 ص: 306
(22) - الكافي في فقه ابن حنبل ج: 1 ص: 308 ، المغني ج: 2 ص: 306
(23) - المغني ج: 2 ص: 306
(24) - المغني ج: 2 ص: 306
(25) - صحيح البخاري جزء 2 - صفحة 644 ) ، صحيح مسلم ( جزء 2 - صفحة 859 )
(26) - الهداية شرح البداية ج: 1 ص: 110 ، وانظر البحر الرائق ج: 2 ص: 255 ، وانظر المبسوط للسرخسي ج: 3 ص: 15 ، وانظر بدائع الصنائع ج: 2 ص: 62 ، وانظر المغني لابن قدامة ج: 2 ص: 306
(27) - انظر المهذب ج: 1 ص: 154 ، وانظر المجموع ج: 5 ص: 416 ، وانظر منهاج الطالبين ج: 1 ص: 31
(28) - المجموع ج: 5 ص: 416
(29) - المجموع ج: 5 ص: 414
(30) - منهاج الطالبين ج: 1 ص: 31 ، وانظر حلية العلماء ج: 3 ص: 62
(31) - المجموع ج: 5 ص: 415
(32) - حاشية الشرح الكبير للرافعي ج: 3 ص: 53
(33) - الكافي في فقه ابن حنبل ج: 1 ص: 308
(34) - المغني ج: 2 ص: 305
(35) - الهداية شرح البداية ج: 1 ص: 110
(36) - الهداية شرح البداية ج: 1 ص: 110 ، وانظر البحر الرائق ج: 2 ص: 255
(37) - المبسوط للسرخسي ج: 2 ص: 216 ، وانظر بدائع الصنائع ج: 2 ص: 62
(38) - حلية العلماء ج: 3 ص: 63
(39) - روضة الطالبين ج: 2 ص: 231
(40) - مغني المحتاج ج: 1 ص: 382
(41) - المغني ج: 2 ص: 335 ، وانظر بدائع الصنائع ج: 2 ص: 21
(42) - البحر الرائق ج: 2 ص: 246
(43) - المهذب ج: 1 ص: 159، وانظر الهداية شرح البداية ج: 1 ص: 105
(44) - الهداية شرح البداية ج: 1 ص: 105
(45) - بدائع الصنائع ج: 2 ص: 21 ، وانظر الهداية شرح البداية ج: 1 ص: 105
(46) - الحديث في سنن أبي داود ( جزء 1 - صفحة 488) قال الشيخ الألباني : ضعيف ، وانظر سنن البيهقي الكبرى (جزء 4 - صفحة 146)
(47) - المغني ج: 2 ص: 335 ، وانظر المنتقى للباجي على الموطأ ج:3 ص: 125
(48) - المغني ج: 2 ص: 335
(49) - المغني ج: 2 ص: 335 ، والحديث في سنن الترمذي ( جزء 3 - صفحة 25 ) قال الشيخ الألباني : صحيح
(50) - البحر الرائق ج: 2 ص: 245
(51) - بدائع الصنائع ج: 2 ص: 21
(52) - المغني ج: 2 ص: 336 ، وانظر المهذب ج: 1 ص: 159 ، وانظر المنتقى للباجي على الموطأ ج:3 ص: 125
(53) - انظر المنتقى للباجي على الموطأ ج:3 ص: 125
(54) - بدائع الصنائع ج: 2 ص: 21، وانظر المغني ج: 2 ص: 336، وانظر المهذب ج: 1 ص: 159
(55) - المغني ج: 2 ص: 336
(56) - المغني ج: 2 ص: 336 ، وانظر المهذب ج: 1 ص: 159
(57) - المغني ج: 2 ص: 336 ، وانظر المهذب ج: 1 ص: 159 ، وانظر المنتقى للباجي على الموطأ ج:3 ص: 125
(58) - الهداية شرح البداية ج: 1 ص: 105
(59) - انظر المنتقى للباجي على الموطأ ج:3 ص: 125
(60) - صحيح البخاري ( جزء 1 - صفحة 1 ) صحيح مسلم ( جزء 3 - صفحة 1515 )(/4)
مشروعية الزينة وتطيب النبي-صلى الله عليه وسلم-
> الرئيسي > الشمائل المحمدية > الرسول كأنك تراه
الزينة في اللغة :
الزَّين خلاف الشّين ، وزانه زيناً أي جمله وحسنه ، و الزينة : ما يُتزين به فهي اسم جامعٌ لكل شيء يُتزين به. انظر المفصل في أحكام المرأة : لزيدان ( 3/347).
الزينة في الاصطلاح الشرعي :
قال تعالى: { قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق } (سورة الأعراف:32)
قال الزمخشري والآلوسي : المراد بالزينة في الآية الكريمة اللباس وكل ما يُتجمل به . (المصدر السابق).
- من الأمور والأشياء التي لا ينكرها عقل أن الإسلام دينُ النظافة ، والطهارة ، والنزاهة ، و الجمال ، ورمزهما , ومن تأمل كتاب الله - عز وجل - وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - يجد ذلك جلياً وواضحاً فكان من هدية - عليه الصلاة والسلام - الاعتناء بتزيين نفسه وتهذيبها ، وكذلك الاعتناء بنظافة جسمه ، وملابسه وشعره ، وغير ذلك .. بأبي هو وأمي طاب حياً وميتاً، وما ذلك إلا لأنه يعلم علم اليقين بأن الله جميلٌ يحبُ الجمال فكان صلوات ربي وسلامه عليه يحبُ الأعمال التي تقربه إلى الله عز وجل وترفعه درجات عند مولاه ، ومن ضمنها الاهتمام بالزينة والتزين لإرضاء خالقه عز وجل ولتربية الأمة الإسلامية على هذا الخلق العظيم ، وهذه السجايا والصفات الطيبة والرفيعة.
مشروعية الزينة:
يقول الدكتور عبد الكريم زيدان : الزينة في الأصل مباحة بجميع أنواعها إلا ما خصصه الشرع وأخرجه عن درجة الإباحة، فقد جاء في تفسير الرازي أن جميع أنواع الزينة مُباحٌ مأذونٌ في استعماله إلا ما خصصه الدليل.. أي منعة ونهى عنه. (المصدر السابق).
الطيب
في اللغة: كل ما تستلذه الحواس, أو النفس؛ والطيب كلُ ما يتطيب به من عطر وعودٍ ومسكٍ وغيره.1 كان النبي - عليه الصلاة والسلام - يحب الطيب ويحرص عليه أشدَّ الحرص بل كان ينبعث عرف الطيب من يده فإذا مس رأس طفل بيده استمرت الرائحة معه حتى ليُعرف أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر فلمسه بيده مما يجدون من طيبة... حتى أنَّ رائحته طيبة من غير تطيب ، وذلك أمرٌ جائزٌ في العقل فقد اختصه الله بخواصٍ ليست في كل الناس2
ويؤيدُ هذا ما رواه مسلم في صحيحه من حديث جابر بن سمرة - رضي الله تعالى عنهما - : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح خده قال : فوجدت ليده برداً وريحاً كأنما أخرجها من جؤنة3 عطار . وكان - صلى الله عليه وسلم - يُعرف منه ريح الطيب إذا أقبل. رواه مسلم - كتاب الفضائل - باب طيب رائحة النبي صلى الله عليه وسلم ولين مسه والتبرك بمسحه . (4/1814) برقم 2329
وكان - صلى الله عليه وسلم - لا يسلك طريقاً فيتبعه أحد إلا عرف أنه قد سلكه من طيب عرفه.4
قال إسحاق بن راهوية : أنّ تلك كانت رائحته بلا طيب - صلى الله عليه وسلم - .5
بل كان له - عليه الصلاة والسلام - سُكة يتطيب منها ، فعن أنس بن مالك - رضي الله تعالى عنه - : كان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - سُكة يتطيب منها ، ومعنى السُكة : طيب مجموعَ من أخلاطٍ، ويحتمل أن يكون وعاءً لذلك.6 أنظر صحيح أبي داود 2 برقم 3508 الألباني
وكان - عليه الصلاة والسلام - يُحب التطيب بالعود، والمسك، والعنبر وغيرها. عن محمد بن علي قال : سألتُ عائشة - رضي الله عنها - : أكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتطيب ؛ قالت : نعم بذكارة الطيب7: المسك والعنبر.
وكان من هديه - صلى الله عليه وسلم -: عدم رد الطيب إذا قُدِّم له أو أهدي إليه.
أخرج أبو داود والنسائي : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من عُرض عليه طيبٌ فلا يرده فإنه طيب الريح خفيف المحمل ، والحديث يدلُ على أن رد الطيب خلاف السُنة لأنه باعتبار ذاته خفيف لا يثقل حمله.8
أنظر صحيح أبي داود 2 برقم 3515
وكان الطيب من الأشياء المحببة جداً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - , ومن الأشياء التي كان يحضُ عليها.
عن أنس بن مالك - رضي الله عنه قال -: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: حُبِّب إليَّ من دنياكم النساء والطيب، وجُعلت قرة عيني في الصلاة).9
والمتأمل لحال المسلمين في هذا الزمان يجد أن هذه السُنة قد غابت عند الكثير إلا من رحم الله - عز وجل – هناك من الناس من يأتي إلى المسجد أو إلى مقر عمله أو إلى أي مكان وإذا رائحته.. وشكله ، وهيئته ، وملبسه , يكاد ينفر منها الجميع ، وهذه الظاهرة قد انتشرت وللأسف حتى على مستوى الملتزمين ، والمثقفين ، والمتعلمين ، فأين نحن من أخلاقه - صلى الله عليه وسلم - وآدابه عليه الصلاة والسلام.
والحقيقة أن الإنسان الحسن المظهر، وذا الرائحة الجميلة الطيبة يحبه الجميع ويألفونه , بل ويحبون مجالسته , والتحدث معه ولو لساعات طويلة بلا مللٍ ولا كللٍ والعامل هُنا نفسي ، وهي فطرة الله التي فطر الناس عليها .(/1)
وفي ختام هذا المبحث أوردُ لك أخي القارئ الكريم: بعضاً من الفوائد الصحية للطيب أشار إليها ابن القيم - رحمه الله تعالى – يقول:
لما كانت الرائحة الطيبة غذاء الروح، والروح مطية القوى، والقوى تزداد بالطيب، وهو ينفع الدِّماغ والقلب وسائر الأعضاء الباطنية، ويُفرح القلب، ويسر النفس، ويبسط الروح، وهو أصدق شيء للروح وأشده ملاءمة لها، وبينه وبين الروح الطيبة نسبة قريبة.
ويقول أيضاً :
وفي الطيب من الخاصية أن الملائكة تحبه ، والشياطين تنفر منه ، وأحب شيءٍ إلى الشياطين الرائحة المنتنة الكريهة ، فالأرواح الطيبة تحب الرائحة الطيبة ، والأرواح الخبيثة تحب الرائحة الخبيثة ، وكل روح تميل إلى ما يُناسبها ، فالخبيثات للخبيثين ، والخبيثون للخبيثات ، والطيبات للطيبين , والطيبون للطيبات . انظر زاد المعاد - ابن القيم - (4/279).
فائدة :
التطيب مستحب في أي وقت ويتأكد في الأوقات التالية:
- يوم الجمعة.
- في العيدين.
- عند الإحرام.
- عند حضور الجماعة.
- وحضور المحافل.
- عند قراءة القرآن.
- عند حضور مجالس العلم.
- عند الذكر.
(انظر كتاب – منتهى السول على وسائل الوصول إلى شمائل الرسول – اللحجي (1/355).
________________________________________
1 - المفصل في أحكام المرأة – زيدان (3/365).ً
2- قبسات تربوية من السيرة النبوية- أبو غدة ص31.
3- منتهى السول إلى شمائل الرسول – اللحجي (1/349).
4- المصدر نفسه
5- المصدر السابق.
6- نفس المصدر ص 355-356.
7- المصدر السابق.
8- المفصل – زيدان (3/365).
9- تنبيه مهم: وقد اشتهر على ألسنة الناس حديث: ((حبب إليّ من دنياكم ثلاث – النساء... إلخ). يقول شيخ الإسلام ابن حجر: إن لفظ ثلاث لم يقع في شيء من طرقه، وزيادته تفسد المعنى فإن الصلاة ليست من أمور الدنيا – ونقله الحافظ السخاوي في " المقاصد الحسنة" وأقره، أنظر المقاصد الحسنة – للسخاوي (293) دار الكتاب العربي.(/2)
...
مشكلات الشباب الحلول المطروحة و الحل الإسلامي
المؤلف : عباس محجوب
ينقسم الكتاب إلى ثلاثة فصول : يتناول الفصل الأول نظرة شاملة لأهم مشاكل الشباب في عالمنا الإسلامي ويقدم حلولا عملية مستمدة من روح الإسلام، ثم يفصل المؤلف في الفصل الثاني إلى تفصيل مشكلة تقض مضاجع الشباب المسلم ويقدم أدوية لذلك. و الفصل الثالث يشتمل على رؤية إسلامية في إعداد الشباب على جميع المستويات للنهوض بالأمة من سباتها العميق.
المختصر المفيد للكتاب: الحقيقة أن مشكلات الشباب تعتبر من القضايا المستمرة في حياة الأمم، ولعلّها من أخطر قضايا الأمم على الإطلاق. وقد لا نلمح نحن هنا في العالم الإسلامي الأبعاد الكاملة لمشكلات الشباب والمخاطر المترتبة على الخطأ في التعامل معهم؛ لأننا لا نزال على بقية من عقيدة الإسلام، وميراثه الثقافي، وروابطه الأسرية التي تضمن لنا تماسك مؤسساتنا الاجتماعية، فلا تظهر عندنا المشكلة بصورتها الحادّة التي بدأت تتفاقم في المجتمعات الأخرى وتهدد كيانها، تلك المجتمعات التي انسلخت عن دين الله، وتحللت من كل الضوابط، وكسر شبابها الموازين والقوانين الاجتماعية كلها؛ وإن كانت العدوى بدأت تتسرب إلينا - ومعبرها الشباب - من خلال بعض الشقوق والثقوب التي أحدثها دعاة التغريب والتشريق ومؤسساتهما في مجتمعنا الإسلامي، أولئك الذين استطاعوا أن ينقلوا إلينا أمراض الحضارة الغربية، ولم يقدروا على التحقق بإنتاجها، فبدت نذر الخطر تصل إلينا لنعيش أمراض هذه الحضارة، ونحرم من القدرة على تحصيل علومها وتحقيق إنتاجها؛ ويكفينا لتحديد ملامح المستقبل الذي نسير إليه أن نرى الفوارق الكبيرة في الشكل والمضمون - بين الشابّ وأبيه، والشابّة وأمها - التي بدأت بالظهور في مجتمعنا الإسلامي، فإذا لم نتنبّه لخطورة المشكلة ونحسن التعامل معها بكثير من الدقة، والحكمة، والروية، والوسيلة الصحيحة، والحوار الهادئ، فسوف يكون من قِبلها الإعصار المدمّر الذي لا يبقي ولا يذر.
فالشباب إذا فقد الهدف والانتماء تحوّل إلى طاقات مبعثرة تبدّد في فراغ، وتُستهلك في غير المواقع الصحيحة، وتنتهي إلى الحيرة والقلق والتمزق والعدمية؛ وعاش حالة من الضياع تسهل على الأعداء احتلال نفسه وعقله وروحه وأرضه؛ وإذا فقد الالتزام والانضباط بالمثل التي يؤمن بها انقلب إلى شرّ محض يدمر نفسه وأمته.(/1)
ولا شك أن حركات التغيير في التاريخ العالمي اتجهت إلى الشباب لتجعل منه وسيلتها، ومادتها، ومحل أفكارها، وإطار حركتها، ومنجم تضحياتها. ومن طبيعة الشباب أن يستهويه كل جديد، ويراوده كل أمل في التغيير. وقدرته على التضحية في سبيل ما يؤمن به تصل إلى صورة المغامرة وحدّ التهور، لذلك كان التركيز دائماً على الشباب واستجابته السريعة في عمليات التغيير، لأنه بذلك يثبت ذاته، ويرضى تطلعاته، ويحقق طموحاته؛ وإن أي خطأ في التعامل مع الشباب، أو في التقدير الدقيق لنفسيته وظروفه، وأي تجاهل لمعاناته - وقد خُلق لغير زماننا - سوف يخرجه إلى ساحة أعداء الإسلام الذين يغرونه بمصطلحات تجد هوىً في نفسه، كالثورة، والتمرد، والرفض، والعنف، والخروج، والصراع؛ إلى درجة قد تصل به إلى رفض كل شيء دون تمييز، وإلى الثورة العمياء على كل شيء؛ الأمر الذي قد يعني بالنسبة له الانتحار الجماعي. ولعلّ أخطر وسيلة يمارسها أعداء الإسلام لسرقة الشباب والتسلّق على أكتافه، هي: استغلال حبه للسلطة، ونزوعه إلى إثبات وجوده، وفورته الجنسية؛ فيقيمون له التجمعات الإباحية التي ترضي شهوته، ويمنحونه المال والسلاح والسلطة، ويسوّغون له التسلط على حياة الناس وأعراضهم وممتلكاتهم باسم الثورة الدائمة والصراع الحتمي، ويثيرون في نفسه الأحقاد التي تؤصِّل فيه نزعة الانتقام والتشفي، ويبررون له كل وسيلة للوصول إلى رغباته. من هنا كان الرسول القدوة صلى الله عليه وسلم يرعى الشباب رعايةً خاصة؛ يقربهم إليه، ويجالسهم، ويستمع إلى آرائهم وأقوالهم ليشعرهم بذواتهم، ويربي فيهم الشخصية الاستقلالية، ويدرّبهم على المسؤولية، ويعتبر التزامهم بالإسلام، ونشوءهم على طاعة الله تعالى من أجلِّ الأعمال وأرقاها، ويقدر دورهم وعطائهم في نشر الدعوة الإسلامية، وسرعة استجابتهم لدواعي التغيير، ويوصي بهم خيراً، لأنهم أرقّ أفئدة، وألين قلوباً، وأنه صلى الله عليه وسلم قال في بدء البعثة: "آمن بي الشباب، وكفر بي الشيوخ " ذلك أن نفوس الشباب صافية لما تُلوثْ بعد برواسب الوثنية، واستحكام التقاليد والعادات المنكرة؛ وأجهزتهم الذهنية سليمة، بعيدة عن أي غبش، أو كدر، لذلك نرى عمر بن الخطاب رضي الله عنه يجعل من الشباب محلاً لشوراه ويعلل ذلك بصفاء عقولهم وقدرتهم على اللمح والنفاذ، وعلى الرغم من تجربة الشيوخ وخبرتهم؛ فقد تكون أذهانهم مثقلة بما يحول بينها وبين أن تكون لمّاحة للحق؛ وكان يقدم عبد الله بن عباس رضي الله عنهما - وهو حديث السن - في مجلس كبار الصحابة، ويستمع إليه، ويميل إلى رأيه.(/2)
وفي تقديرنا: أنّ تأصيل الشورى، كما شرعها الإسلام، والتدريب عليها ضمن الأسرة والمدرسة والنادي ومحاضن الشباب جميعها هي العلاج الأساسي لاجتناب جنوح الشباب، وعبور فترة الانتقال من الطفولة إلى الرجولة دون مخاطر، حيث تبدأ شخصية الشاب في التشكل، ويبدأ إحساسه بذاته وقيمته، ذلك أن التجاهل والإهمال وعدم إشعار الشاب بقيمته وإهمال أخذ رأيه؛ قد يورثه لوناً من العناد والرفض والمشاكسة، لأنه في ذلك يحسّ بوجوده ويُشعر الآخرين بنفسه؛ وكثير من المسلمين اليوم - بل ومن العاملين للإسلام - تفوتهم هذه الحقائق البادهة - ومن عرفك صغيراً هُنت عليه كبيراً - فيخطئون التصرف عن حسن نيّة، وبذلك يدفعون أبناءهم في سن المراهقة والشباب إلى الخروج عليهم، ورفض تصرفاتهم؛ خاصة وأن الشباب في هذه السنّ لا يقدرون على التمييز بين الصورة المغلوطة التي يتصرف بها آباؤهم وبين المبادئ الإسلامية التي يعتنقونها، فتحصل الكارثة برفض طريقة الآباء ومبادئهم على حدّ سواء؛ ولا سبيل للخروج من هذه المخاطر إلا باستشارة الشباب، وتقدير آرائهم، وإشراكهم في إدراك الأمور جميعها، والأخذ بيدهم لاكتشاف مواطن الخطأ وتحديد جوانب الصواب؛ وقد يكون الفشل التربوي الذي تعاني منه كثير من البيوتات المسلمة اليوم يعود إلى إهمال هذه القضية؛ فالشورى ليست معطلة في مؤسساتنا العامة والسياسية فحسب - ونحن نندب عليها ونبكي فَقْدَها - بل هي غائبة معطلة في أسرنا، وهو الأمر الأهم، حيث نقدّم باختيارنا ضحايا للمؤسسات السياسية المستبدة وللأفكار والمذاهب الشاذة؛ إننا بذلك نبني تماثيل من الثلج، ومن ثم نبكي على ذوبانها. ولا شك أنّ مرحلة الشباب هي بدء مرحلة النزوع إلى تشكيل الجماعات، والانسلاك في الأعمال الجماعية؛والحياة ضمن أطرٍ جماعية ضرورة تربوية لا تعوّض بغيرها، فيها يتم التدريب على الأعمال المشتركة، ومن خلالها تنمو الروح الجماعية، وتتحقق قيم المجتمع الإسلامي؛ من الأخوة والإيثار والتراحم والإحسان والتعاون والتواصي بالحق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة البنيان الذي يشدّ بعضه بعضاً؛ وفي إطارها تضمحلّ الأمراض النفسية - من الانزواء والعزلة والأنانية والانسحاب من المجتمع - فلا بدّ والحالة هذه من الاستجابة لهذا النزوع، والتفكير بإيجاد المحاضن الطاهرة النظيفة من الروابط والنوادي الرياضية والثقافية، ومراكز رعاية الشباب، وجمعيات البر والخدمات العامة، والذهاب بالشباب إلى أماكن الكوارث والنكبات لممارسة أعمال الإغاثة، وتنمية فكرة الاحتساب، والانغماس في القضايا الوطنية، وتنمية الحسّ بالمسؤولية الذي يتطلب الإعداد النفسي والثقافي، وتوفر القوة والأمانة، واستشعار ضرورة وفرضية العمل الإسلامي، والتوجّه صوب الأهداف الكبرى والاشتراك في تحقيقها والتضحية في سبيلها؛ ولا بد هنا للشباب من أن يحسّ أن من أعظم أهدافه؛ هداية الناس وتغييرهم وحب الخير لهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعليّ بن أبي طالب رضي الله عنه ؛ وهو الشابّ الأنموذج: (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم ) وأن مهمته: الدعوة الدائمة لاستنقاذهم، وليس شعاره الحقد أو الثورة الدائمة لتدميرهم والقضاء عليهم، والفارق كبير بين الدعوة الدائمة القائمة على التحابّ والتعاون والود - شعار المسلم وهدفه لاستنقاذ الناس - وبين الثورة الدائمة القائمة على الصراع والكراهية والحقد. إنّ إيجاد هذه المحاضن ومواقع النشاط المتعددة هو الذي يحول دون انحراف الشباب الذي يولده الفراغ من الأهداف، وعدم الحرية في ممارسة النشاطات المشروعة... إن الطاقات الكبيرة والهائلة التي يمتلكها الشباب إذا لم نحسن توظيفها فسوف تكون عبئاً على صاحبها قد يودي به، فلا بد أن نعلم أن الانحراف والشذوذ، والسآمة، والضياع، والعدمية، والعبث، والسقوط في المخدرات والمسكرات إنما هي ثمار للفراغ وللطاقات الشبابية الفائضة التي لم نحسن استثمارها. وأن الانشغال بوسائل التغيير والاهتمام بتحقيق الأهداف الكبرى، التي إذا آمن بها الشباب أعطاها كل ما يمتلك، تبقى هي المأمن من الانحراف. وقد تكون المشكلة التي يعاني منها الكثير من الشباب المسلم اليوم أنه لا يزال يعيش مرحلة الخطب العاطفية والشعارات الحماسية، أو ما يمكن أن نسميه (زعامة الخطبة ) التي تشحنه بالعواطف والاندفاعات دون القدرة على الأخذ بيده إلى الطريق الصحيح، ووضع الأوعية الشرعية لضبط حركته، الأمر الذي قد يؤدي به إلى ممارسات مغلوطة يدمر فيها نفسه ومجتمعه.(/3)
ومن هنا نقول: إنَّ من أخطر الأمور على الساحة الإسلامية اليوم: غياب القدوة، وافتقاد القيادة القادرة على ترشيد الشباب، وتمثل مشكلاته، وإدراك حاجاته، واستيعاب تطلعاته ونشاطاته، واغتنام تضحياته ووضعها في مصلحة الإسلام والمسلمين. إنّ التضحيات الكبيرة التي يقدمها الشباب المسلم في هذا العصر تكاد تفوق الوصف والتصور، لقد كان عطاؤه دون حدود، لكنه في النهاية يصاب بالإحباط وخيبة الأمل فيمن حوله، فلا هم قادرون على تقديم تضحيات مثيلة، ولا هم قادرون على وضع تضحياته في المكان المناسب. الشباب اليوم يعاني أزمة قيادة وأزمة قدوة؛ إنّ غياب القدوة وعجز القيادة عن وضع استراتيجية واضحة للشباب المسلم من خلال الإمكانات المتوفرة والظروف المحيطة، وعدم القدرة على إيجاد الأوعية الشرعية لحركته أوقعه في بعض الممارسات غير المدروسة تماماً، والتي جاءت كردّ فعل لعجز بعض الشيوخ واستسلامهم للباطل، أو مهادنتهم لسلاطين الاستبداد السياسي، أو قعودهم عن قولة الحق، أو انسحابهم من الساحة وترك الشباب يواجه مصيره على يد أعداء الإسلام بمفرده، وقد يساهم بعضهم من حيث يدري أو لا يدري بإنهاك الشباب المسلم، والنيل منه؛ لمجرد بعض الأخطاء التي توظّف في النهاية لمصلحة أعداء الإسلام؛ إنّ الشباب المسلم اليوم يُرمى بالكثير من الصفات والنعوت التي تحاصره وتحاول شلّ حركته، وإخراجه من الساحة، والتخويف منه، وإقامة الحواجز النفسية بينه وبين الناس؛ ولقد استطاع الإعلام المعادي للإسلام أن يزرع مصطلح التطرف الذي يُدمغ به الشباب المسلم في كل مناسبة، ويجعل منه سلاحاً يُشهر وقت اللزوم؛ حتى أصبح كثير من بسطاء المسلمين ينظرون بارتيابٍ إلى كلِّ من يدعو إلى الله؛ دون الرغبة في مناقشة ما يدعو إليه وعرضه على ميزان الإسلام لمعرفة الحق من الباطل؛ ولقد ساهم بحملة التضليل هذه بعض علماء السوء وفقهاء السلطان الجائر عن سابق تصور وتصميم، لأنه جزءٌ من المهام المنوطة بهم في مخطط حملة الكراهية؛ كما سقط فيها بعضٌ من العلماء عن حسن نية؛ ظناً منهم أن الأمر يقع ضمن مهمتهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ وليس المطلوب هنا الدفاع عن خطأ الشباب، ولا حمايته، ولا تكريسه في عالم المسلمين، لكن المطلوب عند الحكم على الأعمال والتصرفات، وممارسة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: القيام بعملية التصنيف في المواجهة، واتخاذ المواقف على ضوء رؤية واضحة، فقد يكون هناك خطأ - وكل ابن آدم خطّاء - من بعض الشباب العاملين للإسلام بسبب من ردّ الفعل، أو ضغط موقف غير إسلامي، أو ضعف ثقافة وضآلة فقه؛ ذلك أن وقوع الخطأ أمر محتمل منذ فجر الدعوة، والتصويب دائم منذ فجر الدعوة أيضاً، والرسول صلى الله عليه وسلم قال للشباب الذين أخذوا أنفسهم بأكثر من الاعتدال: "من رغب عن سنتي فليس مني " وطلب إليهم الإيغال في الدين برفق ويسر؛ لكن الخطورة اليوم في هذا النوع من التضليل الثقافي، أنه يسوّي الخطأ بالانحراف، فهناك شباب مخطئون، وهناك أعداء منحرفون ديدنهم مطاردة الشباب المسلم، ومحاصرته، وتضخيم أخطائه، والإغراء به لقتل روح الفاعلية الإسلامية في نفسه، وإلغاء التوجه صوب الإسلام من نشاطه...
ولا شك أن الشباب المسلم أنظف الناس سلوكاً، وأعلاهم أخلاقاً، وأكثرهم وطنية، وأشدهم على أعداء الدين والوطن، وأحرصهم على مواجهة الاستعمار، وهم أجنحة الصحوة الإسلامية ورصيدها الدائب، ومعينها الذي لا ينضب؛ هم روَّاد المساجد القارئون لكتاب الله، لذلك فهم المستهدفون دائماً.
إنّ التعصب والتطرف والتزمت، وهذه القائمة من المصطلحات التي لا نهاية لها، والتي قُذف بها الشباب المسلم بعد العجز عن تدجينه وتطويعه واحتوائه، هي الألغام التي زرعت على أرض الصحوة الإسلامية لتنفجر في كل سائر على الطريق. ولعلّ المطلوب بإلحاح اليوم أكثر من أيّ وقتٍ مضى: حماية الشباب من السقوط في مناخ التضليل الثقافي، والزيف الإعلامي، والقراءة التي تقدم له بأبجديات مغلوطة، الأمر الذي لا يقتصر سوءه على الواقع وإنما يمتدّ لتدمير المستقبل المأمول لهذه الأمة، حيث تفلسف الهزائم والنكبات ليُجعل منها انتصارات، وتُحسب الخسائر على أنها مكتسبات، ويُقرأ له التردي والانهيار على أنه تقدّم وإنجازات، وتوقظ النزعات الإقليمية وتكرّس على أنها دعوة إلى الوحدة والاتحاد، ويمارس الذل والاستعباد على أنه تحرر واستقلال، والاستبداد السياسي والظلم الاجتماعي على أنه ديمقراطيات شعبية، والتسلط الطبقي والحزبي والتمييز الطائفي على أنه تحقيق للدولة العلمانية المنشودة التي تؤمّن المساواة وتُنهي عصور الظلام والدولة الدينية!! والشباب إذا لم يُنتشل من هذا التضليل والضلال فسوف يكون غد الأمة أسوأ من يومها.(/4)
وفي اعتقادنا أنه لا بد للشباب أن يعيش الحقيقة؛ بأن يحسّ الهزيمة ويتعرف على أسبابها، ويستشعر التحدي الذي يستنفر همته ويشحذ فاعليته، ويدرّب على استخلاص الدروس والعبر، فلا يكرر الخطأ؛ ويعرف الأمور على حقيقتها حتى يتمكن من التعامل معها. فهناك الكثير من المشكلات والقضايا "الاستراتيجية " التي لا يمتلكها جيل بعينه، ولا تختص بجيل ليدعي لنفسه حق التصرف فيها، ويحمل الأمة على مواقف متخاذلة من خلال واقع الهزيمة التي يعاني منها...
ولا خيار للشباب المسلم اليوم في التعرف على مشكلات أمته والتحديات التي تواجهها، والنزول إلى الساحة وحمل هموم جماهير الأمة، والاضطلاع بها والتضحية في سبيلها، وكسر مقولة فصل الدين عن الحياة - التي يقصد بها عزله -، وإيقاف تسللها إلى الوطن الإسلامي، واعتلاء أعلى المنابر العلمية المتخصصة التي هي من الفروض الكفائية بالنسبة لمجموع الأمة، أما الذي يختار طريقها فهي فروضه العينية؛ وحل معادلة انفصال العلم عن الدين حتى يولد الإنسان الجديد الذي تنتظره الحضارة الإنسانية؛ المسلم الذي يمتلك المعرفة وأخلاقها، والوسيلة وأهدافها.
إن قضايا ومشكلات الشباب مستمرّة، ولا بدّ من متابعة النظر والبحث والمعالجة، وإبراز منهج الوحي - الكتاب والسنة - في تربية الشباب وتقديم النماذج التي عرض لها القرآن من سير الأنبياء المعصومين ليكونوا وحدهم محلاً للأسوة والقدوة؛ خاصة وأن التجربة الإسلامية في مجال تربية الشباب غنية أيما غنى؛ فالقرآن الكريم قدّم سيدنا يوسف عليه السلام أنموذجاً للعفة والطهارة، وسيدنا موسى عليه السلام نموذجاً للقوة والأمانة، ومن قبلهما سيدنا إبراهيم عليه السلام أنموذجاً للتحرّي والبحث عن الحقيقة، والصبر على الابتلاء؛ وفتية الكهف أنموذجاً للتماسك والشخصية الاستقلالية، وعدم الذوبان في مجتمع الوثنية؛ثم يأتي الرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم لتلتقي عنده معالم النبوة وخصائص الأنبياء والتجربة الإنسانية من لدن آدم عليه السلام ليكون خير أنموذج للشباب في الأسوة والقدوة ((لَقدْ كان لكُم في رسول الله أُسْوةٌ حسنةٌ لِمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا ً)).(/5)
مشكلات المثقف
د. عبد الكريم بكار 25/4/1426
02/06/2005
من سنن الله تعالى في الخلق أن يكون أسوأ ما يتعرض له الناس شيئاً من صنع أيديهم ونزعات قلوبهم، ولذا فإن علينا دائماً ألاّ نسلّط الوعي على الحجارة التي تُوضع في طريقنا، وإنما على الحفر التي نحدثها بمعاولنا.
ومن الملاحظ في هذا السياق أن كثيراً من المثقفين يملكون البراعة والعدة البيانية الكافية التي تمكّنهم من الظهور بمظهر الضحية، وتمكّنهم من التنصل من المسؤوليات الملقاة عليهم، لكن ما لدى المسلم من حبّ للحقّ، وما لديه من إخلاص وصدق وحرص على بلوغ الأحسن، يدفعه دفعاً نحو وضع شؤونه الخاصة تحت المجهر، ومحاولة رؤيتها بقدر جيّد من الموضوعيّة.
والحقيقة أن المشكلات التي يتعرّض لها المثقف المسلم وصانع الخطاب الدعوي مشكلات كثيرة جداً، ومن الصعب الإلمام بها، ولو على نحو سريع، فلنعرض إذاً إلى بعض ما نراه مهماً منها:
1- ثمة داء واسع الانتشار يتعرض له كل من يهتم بالشأن الثقافي ومن كل الاتجاهات والتيارات، وذلك الداء يتمثل في الرغبة الجامحة في الطفوّ على السطح، وتعجّل الظهور أمام الناس بغضّ النظر عن مدى امتلاكه للأدوات المعرفيّة وبلورته للمنهج الفكري والعلمي الذي سيسير عليه في صياغة خطابه. هذا التعجّل يتم في أحيان كثيرة بسبب ضعف شعور المثقف بمسؤولية التصدي لمهام التثقيف والقيادة الفكرية للناس. ومن وجه آخر فإن هذا التعجّل يتمّ بسبب الإغراءات الكثيرة التي يقدّمها الإعلام، ويقدّمها المجتمع أيضاً لكل من يُظن أنه أضحى (شخصية عامة)، أو نجماً تلفازياً.
المشكلة أن صانع الخطاب اليوم إذا كان ناجحاً فإنه قد يؤثر في الملايين من الناس. وهو عبر رسائله المستمرة يشكّل لديهم اتجاهاً ثقافياً، له محكّاته وملامحه ومطالبه.. ثم إذا به يكتشف أن مذهبه الفكري والإصلاحي الذي نشره على أوسع نطاق، يحتاج إلى تعديل وتهذيب، وربما إلى تغيير جذري، وفي هذه الحالة فإن كثيرين منا يخشَوْن أن يُدخلوا -من خلال التعديل- الاضطراب على تلك الأعداد الهائلة التي شكّلوا وعيها. وأحياناً لا يكون هذا هو الهاجس، وإنما النقص في الشجاعة الأدبية المطلوبة للنقد الذاتي، والتبرّؤ من رؤية أو مذهب أو اتجاه.. ومن ثم فإن الذي يتم هو كتم الأفكار الجديدة في الصدور، أو إشاعتها في وسط ضيق عن طريق الأحاديث الشخصية والخاصة. وهذا على المستوى الأخلاقي شيء خطير للغاية، هناك مثقفون كثيرون لا ينظرون إلى شيء من هذا وذاك، ومن ثم فإنهم ينتقلون من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، ولكل يمينه ويساره مما يجعل قرّاءهم وطلابهم عاجزين عن فهم المنهج الذي يسيرون عليه؛ فتكثر الأقاويل والتفسيرات، ويشيع الغمز واللّمز.
ويحدث ما هو أخطر من هذا، وهو ضعف الثقة بالقيادة الثقافية والفكرية، والزهد في أي خطاب توجيهي، وكلنا يذكر ما جرى من التحوّل المفاجئ لأعداد كبيرة من المثقفين على امتداد العالم من النقيض إلى النقيض، وذلك حين انهار (الاتحاد السوفيتي)؛ إذ رأينا الكثيرين ممن كان يُنَظّر لتحكم الدولة، والاقتصاد الاشتراكي، وحقوق العمال، وقد صاروا بين عشية وضحاها من دعاة الليبراليّة والتعدديّة وحقوق الإنسان واقتصاد السوق، وبعضهم فعل ذلك بفجاحة وغلظة غير مدرك خطورة ما أقدم عليه!
وفي الساحة الإسلامية رأينا كثيرين من الكتاب والمفكرين اشتغلوا ردحاً من الزمن بالحديث عن انهيار البلد وتفاقم الأوضاع وضرورة الإسراع في الإصلاح قبل فوات الأوان... وبعد مدة إذا بهم يعرضون عن كل ذلك، ويشرعون في الحديث عن التربية وتعليم الناس أمور دينهم وأهمية النهوض بالفرد.. وصار إلى جانب ذلك لا يألو جهداً في إيجاد المسوّغات للأوضاع السائدة!
وكم من مثقف كان الحديث عن الشعر والأدب والنقد شغله الشاغل، فإذا به يتحول عن ذلك إلى التحدث في الشؤون السياسية والقضايا الإستراتيجية والتنموية.. لا شك في مشروعيّة الترحال والتحوّل الثقافي؛ إذ إنه يعبر عن استمرار النمو والنضج لكن بشرط ألاّ يتم ذلك بدوافع مصلحية وانتهازية. ومع هذا فإنه يجب أن يتم بوضوح تام، ويجب أن يشرح المثقف لأولئك الذين كوّن وعيهم، وأثّرت فيهم ملامح رؤيته الجديدة، وأسباب انتقاله وتقويمه للمرحلة السابقة.
وهذا في الحقيقة لا يحدث إلا قليلاً؛ إذ إننا تعودنا دائماً الحديث عن إنجازاتنا وفتوحاتنا الفكرية والثقافية، ونجد في الوقت نفسه صعوبة بالغة في الحديث عن الأشياء التي لم نفهمها والأخطاء الثقافية التي وقعنا فيها. وهذا يعود إلى البيئة الاجتماعية التي لا تفتأ تلحّ على الظهور بمظهر الكمال في كل الظروف والأحوال!
لا يخفى أن كثرة اختلاط المثقف بالناس وانفتاحه عليهم على نحو مسرف، يحرمه من العثور على الوقت المطلوب للتأمل في تحوّلاته الفكريّة، ولتجديد ثقافته والتواصل مع المنتجات الفكرية الجديدة، مما يجعل ما لديه من أفكار ومقولات معرّضاً للتقادم والتآكل، والذي ينتج عنه التكرار المملّ.(/1)
الخلاصة أن علينا التريّث في الظهور والاستعداد له على نحو مناسب، وإذا وجدنا أنفسنا مغمورين بالأضواء، فلنتعلم كيف نخطو خطوة إلى الوراء حتى نظل على تواصل مع مصادر التثقف، وعلينا إلى جانب هذا أن نحدس بالتطورات الثقافية القادمة من أجل المزيد من الوعي بالموقف الفكري الذي يجب أن نتخذه منها، وذلك بقصد تجسيد العلاقة بين الحاضر والمستقبل وإضفاء المنطقية على حركة الفكر خلالهما.
2- المثقف المسلم مهدد دائماً بأن تتحول مهمته التبليغيّة والإرشادية من رسالة تملأ العقل والروح، وتشغل البال إلى حرفة أو وظيفة أو التزام أمام فلان وعلان. إن الذي يصنع خطابه وهو موقن بشرف المهمة التي يتصدى لها، وبأهميتها في إصلاح الناس، يتكلم ويكتب ويحاور، وهو مشتعل حماساً وحيوية وأملاً ببلوغ مراضي الله تعالى، ونيل توفيقه. إنه يجعل من طاقته ووقته وقوداً حياً لتحريك المجتمع في الاتجاه الصحيح.
وإن من شأن هذه الحالة أن تولّد الإبداع والفاعلية والاستمرار في العمل، إنه بسبب إخلاصه وصدقه وحماسته يظهر قدراً كبيراً من الفرادة والتميّز، ويعبّر عن تجربة فذة وغنية، وسيكون الأمر مختلفاً جداً حين يتكلم الإنسان لأنه خطيب جمعة. وحين يعظ لأنه عُيّن على وظيفة واعظ وإلا لما وعظ. وحين يكتب يومياً لأن هناك عموداً يجب أن يقرأه الناس يومياً وقد طرّز اسمه.. إن العمل حينئذ سيكون رتيباً وكئيباً، ويكون عند الحد الذي يسمح باستمراره ليس أكثر. وهذه المشكلة واسعة الانتشار إلى درجة أنها تصلح مفسراً –مع تفسيرات أخرى- لحالة عدم الفاعلية التي نراها لدى كثير من الكتاب والدعاة. قد نكون في هذه المرحلة بحاجة إلى عدد كبير من الأبطال الذين يرفعون الرايات، ويقدمون النماذج الرفيعة في الحرص على التأبّي على التحوّل من موقع الرائد إلى موقع الموظف أو المنتفع. وما أشدّ الفرق بين النائحة والثكلى!
مشكلات المثقف (2)
د. عبد الكريم بكار 9/5/1426
16/06/2005
تحدثنا في المقال السابق عن مشكلتين من أهم المشكلات التي يتعرض لها المثقف المسلم أو صانع الخطاب الإسلامي. واليوم نحاول إتمام الحديث بذكر ثلاث مشكلات أخرى نسوقها في الحروف الصغيرة الآتية:
1- التحزب أو الانحياز الفكري خطر آخر يهدد المثقف المسلم وغير المسلم. إن عظمة الأفكار تكمن في قدرتها على الرفرفة، وفي طلاقتها وقدرتها على التعبير عن الكرامة الشخصية والتعبير عن حرية الإدراك والقرار.
وهذه السمات تشكل الأساس الذي نمنح بناء عليه المصداقية للمجتهد والمفكر والداعية. إن المفكر الحر لا يستند في حريته الفكرية إلى التأبي على المساومة والتوظيف من قبل أصحاب المال والنفوذ فحسب، وإنما يملك إلى جانب ذلك المنهج الذي يمكنه من مقاومة (التأطير) الذي يهدد كل صانعي الخطاب. هناك فرق كبير بين مفكر اتخذ من مبادئه وعقيدته وخلاصة تجربته خلفية فكرية وثقافية توجهه، وإطاراً يتفاعل معه، ويتحرك في داخله، وبين مفكر انتسب إلى حزب أو جماعة أو مؤسسة، أو صار موظفاً لدى دولة، فأصبح ولاؤه الجديد عبارة عن إطار داخل الإطار الإسلامي، وأحياناً يتحول إطاره من إطار صغير إلى إطار كبير يتداخل مع الإطار الإسلامي، وهذا يعني أن ذلك المثقف أو المفكر صار منحازاً إلى رؤية جزئية أو اجتهاد فئوي، أو صار معبراً عن مصالح ضيقة لا تتطابق مع مصالح الأمة.
ليس هناك خطورة كبيرة في الأصل في أن يجد المرء نفسه ميالاً إلى اجتهاد دعوي أو إصلاحي دون غيره، لكن من المهم أن يكون على وعي بأنه مهدد بالتقزم الفكري والانحسار في الفهم للخريطة الفكرية والثقافية التي يجب أن يدركها، ويستحضرها عند تحليله وتقويمه للأشياء. وحين يتوفر هذا الوعي فإن المثقف المسلم سيعمل دائماً على محاولة التحرر من قيود ثقافته وانتماءاته وذلك من خلال رؤية الأشياء من زوايا متعددة، ومن خلال الحرص على تفهم طروحات الآخرين والحرص على إنصافهم.
2- كثيراً ما يشعر المثقف أنه يرى ما لا يراه غيره ممن يحيطون به، وهذا كثيراً ما يولّد لديه مشاعر نرجسيّة صفويّة، كما يولّد لديه الاعتقاد بإمكانية فهم الواقع ومعرفة هموم الناس من غير مخالطتهم، وقد لاحظنا أن تشكيل ثقافة النخب قد تحول إلى ما يشبه الصناعة المغلقة؛ فصور الواقع يرسمها المثقفون، ويقومون بتحليلها، ويتداولونها بينهم، وهم وحدهم الذين يبتكرون الحلول للمشكلات ويشخّصون الخارج من الأزمات، وكثير منهم تكيّفوا مع أفكارهم، ويتوحّدون مع ذواتهم لاعتقادهم أنهم يعيشون في مجتمعات جاهلة وفاسدة، وهذا ما يجعلهم يشعرون بالغربة والعزلة الهامشية. وقد انعكس ذلك على طروحاتهم التغييرية، فهي ما بين سوداء ورماديّة!(/2)
إن الشعور بالتفوق شيء يصعب الاحتراز منه، وكون المثقف يرى ما لا يراه غيره صحيح نسبياً، لكن لا ينبغي لهذا وذاك أن يحرمنا من التغذية الراجعة وقراءة ردود أفعال الناس على ما نخاطبهم به، كما لا يصح أن يحجبنا عن سبر الواقع عن طريق الإحصاء والمعايشة الفعلية وعن طريق الحوار مع الناس العاديين المستهدفين بالرسالة التثقيفيّة.
3- إذا عدنا إلى الوراء مئة سنة من الآن، فسنجد أن المثقف النخبوي كان هو الأكثر أهمية على الساحة، ونخص بالذكر طلاب العلم الشرعي وحاملي الثقافة الشرعية. إنهم يشكلون المرجعية للناس، ويؤثرون فيه ويعيشون معهم ألوان معاناتهم اليومية. أما اليوم فقد اختلف كل هذا على نحو جذري، وهذا الاختلاف يعود إلى وجود خطابات عديدة تنافس الخطاب الإسلامي، وتشوّش عليه، كما أن وظيفة الثقافة العليا إسلامية وغير إسلامية، في صياغة الثقافة الشعبيّة وتوجيهها قد تراجعت إلى أدنى مستوياتها. وما نسمع عنه اليوم من متابعة وتصويت لبعض البرامج المخجلة والتافهة، يوضح لنا أن تنظير المثقفين ومعالجاتهم باتت في واد، وبات معظم الناس في واد آخر.
إن الخطاب الثقافي النخبوي وكذلك الخطاب السياسي يفقد زخمه وتأثيره وجاذبيته على سبيل التدرّج بسبب التغيّرات العالمية، ولا سيما ما حدث على صعيد الثورة التقنية في مجال البث والاتصال. والحقيقة أن التغيرات التي حدثت خلال السنوات العشر الأخيرة؛ وذلك بسبب بروز مؤثرين جدد في الحياة الاجتماعية من خارج الدوائر التقليديّة لصناعة الفكر والمعرفة.
وقد صار لرجال الأعمال والإعلام ومهندسي الحاسبات ومصممي الأزياء ونجوم الطرب والكرة- حضور قوي ومتابعة شعبية كثيفة، تفوق متابعة رافعي مشاعل المعرفة وموقدي مصابيح الفكر. ومن المؤسف أنك حين تلتقي بكثير من صانعي الخطاب الإسلامي تجد أن طروحاتهم ورؤاهم وآمالهم في الإصلاح والتجديد والنهضة بعيدة كل البعد عن اعتبار المعطيات الجديدة، وذلك لأنهم يكفرون بالطريقة نفسها التي فكر بها أسلافهم قبل ثلاثة قرون.
وقد صار لمن كانوا يُسمّون بالعامة والغوغاء وضعيّة عامة تؤثر فيها الأفلام والمطاعم الأمريكيّة، والأذواق والأزياء الأوروبيّة على نحو طاغٍ ونافذ، ولم يشعر كثيرون منا بهذا، ولا حاولوا التكيف معه على نحو إيجابي.
إن على المثقفين أن يدركوا حدودهم الجديدة، وأن يعيدوا النظر في المفاهيم والمقولات التي كانوا يدركون من خلالها الواقع العام للأمة. كما أن عليهم أن يدركوا على نحو دقيق ما تبقّى لهم من دوائر التأثير، ويحاولوا الاستثمار فيها بشكل مكثف، بالإضافة إلى إدراك المسؤوليات الجديدة التي فرضتها التغيّرات الإيجابيّة والسلبيّة الحديثة.
إن التأمل هو التفكير ، وليس هناك شيء أولى بتسليط نور الوعي عليه من الوضعيّة التي صار إليها أولئك الذين عليهم أن يشخّصوا أدواء الأمة، ويصفوا لها العلاج(/3)
مشكلات راتب الزوجة والابنة.. الطمع هو السبب
د. ليلى بيومي 8/4/1427
06/05/2006
كثر الحديث عن راتب الزوجة واعتبر البعض أن اقتطاع المرأة جزءاً من وقتها للعمل خارج المنزل يكون على حساب مسؤوليتها الأسرية ورعايتها لزوجها وأولادها، وفي مقابل هذا يجب أن يكون لها نصيب في تحمل نفقات المنزل. كما أصبحت قضية راتب الابنة مثارة بشدة في مجتمعاتنا العربية، ونسمع في شأنها حكايات لا نكاد نصدقها من غرابتها..وحول تلك القضية كان لنا هذا التحقيق الصحفي .
سألت الدكتورة نجوى المحمدي وهي طبيبة حديثة التخرج عن راتبها، فقالت: انطلاقًا من الحديث النبوي "أنت ومالك لأبيك" فأنا أعطي كل راتبي على الرغم من تواضعه لأبي؛ لأنه تحمل أولاً مسؤوليات تعليمي على مدى سنوات طوال، إلى جانب أن أشقائي أصغر مني، وهم جميعًا في مراحل التعليم المختلفة. وقد وعدني أبي بأنه عند خطبتي سنتعاون سويًا في جهازي، وأنا -إن شاء الله- حتى لو تزوجت سأحاول دائمًا مساعدة أبي ما دامت ظروفه المعيشية وظروف إخوتي تحتاج إلى ذلك.
أما سلوى صالح (24 عامًا)، وتعمل معلمة في إحدى مدارس اللغات، فتقول: على الرغم من أنني أحصل على راتب جيد، لكن أبي يرفض أن أساهم في نفقات البيت؛ لأن لديه حساسية شديدة من هذا الأمر، وعلى الرغم من أن والدتي امرأة عاملة وتساهم بكل راتبها في المنزل، لكنّ كليهما يصر على أن أدّخر راتبي لشراء جهاز لي، ويقولان: يكفينا أنك ستتحملين تلك المسؤولية.
وتقول سلوى: إن كثيرًا من الآباء يتعاملون بحساسية، ولا يقبلون أي مساعدة من قبل الأبناء على أساس أنه سيكون أمامهم مسؤوليات يجب أن يبدؤوا في تحمّلها، في حين أن كثيرًا من الأزواج يرون أنه لا غضاضة في أن تشارك الزوجة بكل راتبها في المنزل، وعليها فقط مثل الزوج أن تحصل على مصروفها اليومي، وبما يكفي نفقاتها الشخصية.
المهندسة نهاد عياد (45 سنة) تقول: زوجي ميسور ماديًا، وحتى في بداية زواجنا كانت ظروفه غير ذلك، ولم يسألني مطلقًا عن راتبي، وكان يرفض أحيانًا مساهماتي، وهذا دفعني لتقديره، والإصرار على أن أساهم في مصروف البيت بشكل غير مباشر، وقد فتح الله علينا، وتحسنت ظروفه الاقتصادية. والآن وبعد أن صار لدينا أولاداً كباراً فلا فرق بيننا، وأنا أدبر ميزانية البيت بشكل لائق، مع ادّخار جزء من المال للطوارئ والمستقبل للأولاد.
(ك. ز مدرسة ثانوي) تقول: لقد سبّب لي راتبي مشكلات كثيرة مع زوجي، فهو إنسان غير متعاون، فبعد زواجنا كنت أعطي لزوجي كل راتبي، وكنت أقول: إن هذه مسؤولية يجب أن أتحملها معه، خاصة في ظل الأزمات المالية والأوضاع الاقتصادية غير المواتية. لكنني بالتدريج شعرت أن زوجي يعدّ ذلك حقاً أصيلاً من حقوقه. كما وجدته يساعد أهله بمبالغ كبيرة، في الوقت الذي يحتاج أهلي مني لأية مساعدة، ولا أعطيها لهم لأنه يأخذ كل شيء. كما أنني لاحظت أن إدارته لشؤون المنزل ليست رشيدة، وأنه ينفق على أموره الشخصية أكثر بكثير مما ينفق على المنزل. كما لاحظت أنه لا يلبي مطالبي بل يرفضها، وعندئذ قرّرت أن أحتفظ براتبي، وحدثت بيننا مشكلات كثيرة كادت تؤدي إلى الطلاق، وتدخّل فيها الأهل والأصدقاء، وحكموا بأن أساهم بنصف راتبي في مصروف البيت، وأحتفظ لنفسي بالنصف الآخر.
التفاهم والرضا هما الحل
الدكتورة إلهام فراج أستاذ علم الاجتماع ترى أن راتب الزوجة يختلف عن راتب الابنة، وكلها مسائل تخضع لرضا الطرفين ومستوى التفاهم بينهما، وإذا كان هذا الأمر في حقيقته ليس فرضًا على المرأة سواء كانت زوجة أو ابنة، لكنها مسألة احتياجات وفهم من كل الأطراف. وكثير من الفتيات الآن يعملن ولديهن انتماء لأسرهن، وليس لديهن مطلقًا أي مانع لمساعدة الأب أو الأم.
إما إذا امتنعن عن هذا الأمر فإنني أرى أن الأب لا يجب أن يكون متعنتًا مع ابنته مثلما يقابل هذا الأمر من قبل زوجته، وإذا كان المفهوم الشرعي يشجع الابن أو الابنة دائمًا على بر والديهما، فإن هذا الراتب أو جزءًا منه هو جزء من هذا البر، وخصوصًا إذا كان الوالدان في حاجة إلى هذا المال. أما راتب الزوجة ففي كل الظروف الاقتصادية الحالية، أرى أن مسؤولية البيت تقع على عاتقهما، وإلا فلماذا تخرج المرأة من منزلها وتتخلى لبعض الوقت عن مسؤوليتها الأسرية إلا لكي تساهم في الجوانب المادية. أما إذا كان الزوج متيسرًا ماديًا، ولا يحتاج لهذا الراتب فهي أولى به، والأصل أنه لها حق التصرف فيه بالادخار أو حتى التصدق بجزء منه، كما ترى هي.
شراكة تقتضي المساعدة(/1)
د. مصطفى عبد الفتاح أستاذ علم النفس يقول: الحياة في مجتمعاتنا العربية الحديثة معقدة، فالظروف الاقتصادية في غالبية هذه الدول غير مواتية، وهناك مشكلات بطالة تضرب هذه البلدان، والذي يجد عملاً من الشباب لا يصدق نفسه من الفرح، رغم ضآلة مرتبه. وتواجه الشباب مشاكل العثور على السكن ثم تأثيثه ثم مصروفات الزواج، وبعد الزواج تأتي مشكلة نفقات المنزل من إيجار ومواصلات وطعام وعلاج وتعليم للأبناء.
وفي ظل هذه الأوضاع، وفي ظل انتشار تعليم البنات، أصبحت الفتاة تنزل إلى العمل ولا تفضل الجلوس في المنزل.
ويفضل الأزواج الشباب أن تعمل زوجاتهم لمساعدتهم اقتصادياً.
وأمام هذا كله فإنه من غير المعقول أن تعمل الزوجة وتحصل على راتبها وتضعه في جيبها، وتترك زوجها يواجه مصيره بنفسه دون مد يد العون لمساعدته، فالحياة الزوجية الحديثة هي شراكة تقتضي مساعدة كل طرف للطرف الآخر.
ظاهرة جديدة
يلفت د. صابر سليمان أستاذ علم الاجتماع النظر إلى ظاهرة جديدة انتشرت في بعض مجتمعاتنا العربية، وتتمثل في تلاعب بعض العائلات في راتب الابنة الموظفة، بمجرّد أن تتم خطبتها؛ إذ يجبرها الأهل على شراء سيارة لأخيها أو والدها، أو شراء عمارة أو قطعة أرض عن طريق قرض بنكي، فتبقى تسدد الأقساط لعدة سنوات من بعد زواجها، لئلا يذهب أي شيء من راتبها إلى زوجها.
ويرى د. صابر شوكت أن الأصل في الأب والأم أنهما ينظران لمصلحة ابنتهما ومستقبلها، ويضحيان من أجل سعادتها، وغير مقبول أن يسبّبا لها مشكلات مع زوجها قد تؤدي إلى كراهيته لها، بل من الممكن أن تؤدي إلى أن يطلقها. فيجب أن تنظر الأسرة إلى المستقبل، ولا تجعل الأمور المالية هي الفيصل. و على الرغم من هذه الظواهر إلا أنني أعرف بعض الآباء الذين يستمرون في الإنفاق على بناتهم حتى بعد زواجهن؛ لأنهم يعدون ذلك واجباً يتحملونه حتى نهاية أعمارهم، طالما كان ذلك في استطاعتهم.
حفظ حقوق المرأة
تقول الاختصاصية الاجتماعية عفاف عايش: أمام حاجة سوق العمل إلى الكوادر النسائية المتخصصة لخدمة بنات جنسهن، خرجت المرأة من بيتها، والتحقت بالركب السائر، وتنوّعت أهداف الرغبة في العمل بين إثبات الذات، و الحاجة المادية لمواجهة الظروف، والنهل من ينابيع العلم والمعرفة، وحتى شغل أوقات الفراغ.
وترتب على هذا الخروج العديد من المشاكل الأسرية التي أعضلت الكثيرات، من بينها الاستيلاء على رواتبهن أو منعهن تعسفياً من الخروج للعمل، سواء أكان هذا الظلم من قبل الأب أو الأخ أو الزوج، مما دفع بعضهن إلى رفع قضايا في المحاكم لرفع الظلم الذي تطور خطره إلى منع تزويجهن من أجل حصد أموالهن.
هذه القضايا أخذت منحى آخر؛ إذ تشارك المرأة زوجها في بناء السكن وتجهيزه، ثم ينتهي الأمر باستحواذ الزوج عليه دونها أو إيقاعها في فخ الكفالة الغارمة أو الشراء المباشر باسمها، ثم توريطها في التسديد وتحمل تبعات الديون.
ولو ناقشنا هذا الأمر فسنجد له أكثر من بعد، فمن ناحية نجد أن للوالدين حقاً في راتب الابنة بعد أن قاما برعايتها وتربيتها، ومهما أنفقت عليهما فلن تصل إلى تمام برّهما.
ثم للزوج الحق في أن تنفق من مالها على بيتها وأطفالها، طالما أنها تستقطع من وقته وراحته وواجباته حتى لو كان التحاقها بالعمل بموافقته، أما الأبناء و الإخوة فلا مانع من مدّ يد العون لهم من باب البر والتواصل والتراحم.
و لكن من ناحية أخرى من المهم وضع ضوابط تضمن حقوق المرأة في حالة المشاركة المادية سواء أكانت هذه المشاركة في أرض أو عقار أو سيارة، خاصة أن العلاقة الزوجية معرضة للطلاق والوفاة، وهذان الأمران من أهم مسببات ضياع الحقوق في حالة الشراكة بدون إثبات.
وهنا على المجتمع واجب ضمان حقوق المرأة وتوعيتها بطرق الحفاظ عليها، خاصة أن شعور المرأة بالأمان سوف يعطيها دافعاً أكبر للعمل والعطاء في بيئة مستقرة.
الحكم الفقهي
وعن الحكم الفقهي في قضية راتب الزوجة والابنة يقول د. محمد المسير الأستاذ بجامعة الأزهر: إن للزوجة أن تتصرف في مالها بدون إذن زوجها، وراتب الزوجة جزء من مالها الذي تملكه، فلها أن تتصرف فيه بما شاءت ما دام هذا التصرف داخل دائرة الحلال، لأن ذمة المرأة المالية مستقلة عن ذمة الرجل، سواء كان أباً أو أخاً أو زوجاً، فالشريعة الإسلامية أعطت المرأة أهلية كاملة في التملك والتصرف.
وهكذا فإن الزوجة مستقلة في مالها، فمال الزوجة الخاص بها كالمرتب مثلاً لا يجوز قطعًا للزوج أن يأخذ منه شيئًا، إلا برضا الزوجة وطيب نفسها، وأخذ شيء منه كرهًا - سواء أكان هذا الإكراه مقنّعًا أو مكشوفاً- فإنه يعتبر غصبًا. والغصب حرام على المغتصب، ويجب عليه رد المغصوب لمن اغتصب منه. وعقد الزوجية لا يسوّغ أي ضغط على الزوجة، سواء في مالها، أو فيما تراه وتعتقده.(/2)
وإذا حدث تراضٍ بين الزوج وزوجته بشأن الخروج للعمل أو راتب الزوجة أو النفقة، فإن الإسلام يتعامل مع الأمر بالتيسير والسماحة، ويقر هذا التراضي، فيجوز شرعاً أن يتنازل كل واحد من الزوجين للآخر عن حقه أو بعضه.
لكن إذا خرجت الزوجة للعمل بدون إذن زوجها، فإنها عاصية لزوجها ومقترفة لمحرَّم، آثمة في فعلها هذا، وتسقط نفقتها، فلا تجب على زوجها باتفاق الأئمة الأربعة.
وإذا عملت المرأة خارج بيتها، ثم أعطت راتبها لأسرتها (والدها أو والدتها أو أشقائها أو شقيقاتها) على الرغم من عدم حاجتهم إلى هذا المال، وامتنعت في نفس الوقت عن مساعدة زوجها وأولادها على الرغم من حاجتهم إلى ذلك المال، فهي امرأة مجافية للحق والعدل، فقد أصبح من العرف المستقر بين الناس، والذي لا ترفضه الشريعة، أن الزوجة الموظفة تساهم بقدر ما في نفقات أسرتها، خصوصاً إذا كانت هذه الأسرة في حاجة ماسة إلى مالها.
أما إذا كان الزوج في غير حاجة إلى زوجته، وكانت أسرة الزوجة في حاجة إلى شيء من مالها، فيستحب مساعدتها إياهم من باب الصلة والبر.
وللزوج أن يرفض خروج زوجته إلى العمل، ما دامت الأسرة لا تستفيد من هذا الخروج، على الرغم من حاجتها إليه، إلا إذا كانت قد اشترطت عليه في صلب العقد أن تعمل، فإن هذا ليس من حقه لرضاه منذ البداية بحق منقوص.
لكن هل يحق للأب أن يأخذ من راتب ابنته شيئاً؟ ذلك يتعلق بكل حالة على حدة، يعني نجد الآن الكثير من الأسر لا يوجد لهم معيل إلا هذه الابنة العاملة التي تعول أهلها جميعهم، وهي راضية بذلك. الأب لا يحق له أن يأخذ مالها دون رضاها إلا في حالة واحدة، وهي أن يكون في حاجة ماسة لمساعدة ابنته، ولكن إذا كان ذا سعة، وليس بحاجة لها فلا يجوز له ذلك.(/3)
مشكلة البطالة بين الواقع و المأمول (1-2) محمد أبو بكرالرحمنو*
لست أزعم حين أتحدث عن مشكلة عظيمة القدر مثل مشكلة البطالة أنني أقدم أسبابها الحصرية و لا أنني سأقدم الحلول الجذرية , و إنما أحسب أنني أطرحها من زاوية غير التي يدور حولها الكتاب و يدندن حولها الإقتصاديون تلك الدندنات التي تمثل حلولا غير عملية أو لعلها حلول غير مباشرة الأثر . و أحسب كذلك أننا قد أوغلنا في بحث المشكلات من النواحي النظرية , و أحسب أن كثيرا من الحلول المقدمة لا تمثل سوى أماني شمولية .
إن مشكلة البطالة في بلادنا شكلتها في الواقع مجموعة من العوامل , أهمها :
ثقافة الوظيفة :
إن كمّا كبيرا من الشباب يقف طموحه عند الحصول على وظيفة يذهب إليها صباحا و يعود منها ظهرا , و يقبض مرتبا ثابتا ينظم حاله و وضعه عليه , و يفضل أن تكون الوظيفة في شركة خاصة جيدة المرتب , و يفضل التوظيف في الحكومة من أجل الحصول على الخبرة و العلاقات و ربما بعض التسهيلات و الإمتيازات التي توفرها الوظيفة الحكومية من نحو السكن و الترحيل و العلاج و خلافه . هذه الميزة قد تنفع في الحصول على وظيفة ذات مرتب مجز في إحدى دول الخليج إذا سنحت للشاب الفرصة عن طريق شراء إقامة بواسطة أحد الأقارب أو التقديم عن طريق ( عمرة و زوغة ) أو عبر الإعلانات و مواقع الإنترنت , و حتى في الشركات الخاصة في الوظائف التي تتطلب خبرة .
إن هذه الثقافة – فيما أعتقد – ناتجة عن الأجيال السابقة التي كان الموظف فيها سيدا في قومه مبرزا و رائدا بينهم , هذا مع ما كان من عائد الوظيفة المجزي الذي شمل خيره القريب و البعيد و شاد البيوت , فكان حلم الكثيرين الحصول على الوظيفة , و ترادف معنى الوظيفة مع الإستقرار و الطمأنينة و الراحة النفسية هذا مع ما توفره قوانين العمل من حماية للموظف و حقوق و إمتيازات .
إن هذه الثقافة لها دور عظيم في تكبيل الطموحات و وأد المبادرة و روح التحدي و التقليل من قدر الأعمال المهنية و تحطيم الحماسة في مواجهة الصعاب .
فلا بد إذا من إعادة صياغة ثقافة العمل و الإنتاج , و يمكن أن يتم ذلك عبر الآتي :
أ - المناهج الدراسية .
ب - الحد من شخصنة الوظائف العامة , بحيث لا يكون الموظف متحكما بإطلاق في مصالح المواطنين في ولايته , فيهب من يشاء و يمنع من يشاء , فلا بد من أسس محاسبة شديدة و دقيقة للموظف حتى لا يظن الناس سهولة الوظيفة و خفة مسئوليتها , و لا بد من أن يكون تعامل الموظف وفق لوائح واضحة و محددة و معلنة .
ج- إبراز أهمية النشاطات الإقتصادية المختلفة – سوى الوظيفة – في دفع التنمية العامة و إعالة الأسر و العوائل و إكتساب الدخل المجزي .
د- بث الأفكار الإستثمارية البسيطة , و التي يمكن أن تكون مدخلا لحياة عملية و منتجة بعيدا عن الوظيفة .
ه- إعلاء قدر العمل الفني و المهني و تشجيعه .
إن هذه النقاط و غيرها كثير , يمكن أن تسهم و بشكل فاعل في تغيير ثقافة التقوقع حول الوظيفة و إصلاح المفاهيم المتعلقة بها , و أرجو أن تمثل هذه الإشارة البسيطة بذرة للإهتمام بالدراسات الإجتماعية و النفسية و السلوكية حول ثقافة الوظيفة و مدى تأثيرها في مشكلة البطالة و كيفية معالجتها .
قوانين العمل :
إن قوانين العمل السائدة هي في غاية الظلم لصاحب العمل , حيث تفرض عليه فروضا كثيرة و متنوعة مما يؤدي إلى عزوف المخدمين عن الإستخدام المستقر خاصة في الأعمال الدنيا , بل و ربما الإستغناء عن الكثير من الوظائف غير المهمة و التي تشكل لهم إلتزاما ماليا و حقوقا متراكمة للعاملين , مما ييؤدي كذلك إلى الإستغناء عن بعض العاملين قبل تقدمهم في مستويات الوظيفة حتى لا تتكاثر حقوقهم .
من جانب آخر فإن حقوق الموظف القانونية تمثل ضغطا على صاحب العمل حيث لا يمكنه الإستغناء عن الموظف إلا بمصروفات عالية مما يجعله يتحايل على القوانين بالقوانين الأخرى , فيحرصون على إستخدام العاملين بأدنى المرتبات حتى لا تتكاثر حقوقهم و حتى لا يترتب على التخلي عنهم حقوق مالية .
إن مما لا بد منه من أجل محاربة البطالة إلغاء قوانين العمل السائدة حاليا بحيث لا يكون حاكم العلاقة بين المخدمين و المستخدمين هو الإتفاق الحر و عقودات العمل , و قد يخاف البعض إستغلال بعض المؤسسات و المخدمين قوتهم في المساومة من أجل إهدار حقوق العاملين و إستغلالهم بأسوأ الشروط , لكن إذا حدث هذا فلن يدوم بكل تأكيد للآتي :
أ - هناك أصلا مؤسسات شروط خدمتها مجزية للغاية كما هو معلوم و أعلى من المتوسط السائد .
ب - الشروط المجحفة ستؤدي إلى نفور الخبرات و الكفاءات إلى جهات أفضل , مما يضطر هذه المؤسسات إلى تحسين شروط خدمتها إذا كانت ترغب في الإستمرار و النجاح .
ج- المحافظة على العدالة و الحقوق من واجبات الدولة , بحيث يستحق كل عامل أجر المثل في أي جهة يعمل فيها من دون شروط , و يحصل على حقوقه الشرعية .(/1)
إن قوانين العمل تؤثر بشكل مباشر على عزوف المخدمين عن إستخدام العاملين بصورة مستقرة و مجزية نسبة لما ترتبه من حقوق آجلة تترتب على الإستقرار الوظيفي للعامل و لصعوبة الإستغناء عن العاملين بسبب القيود القانونية مما يترتب عليه الإحجام عن التوظيف و الحذر في ذلك .
إن مشكلة قوانين العمل تتمثل في أن اللذين يضعونها هم موظفون أنفسهم لذلك , فهم يرتبون حقوقا للموظف مجحفة لصاحب العمل و هاضمة لحقه في التصرف في ملكه لذلك فقد يسعى لإستغلال ثغرات القانون المشجعة لعدم إستقرار العمالة .
مشكلة البطالة بين الواقع و المأمول (2/2) محمد أبو بكرالرحمنو*
3- عوائق العمل الحر :
إن من عوامل تفاقم البطالة هي تلك العوائق و القيود المفروضة على العمل الحر مثل العمل الفني : بناء , نقاشة , حدادة , ميكانيكا , كهرباء ... إلخ , و العمل التجاري و الإستشاري و الخدمي , و في هذه العجالة أتطرق إلى بعض هذه العوائق و القيود :
أ - العوائق الحكومية : إن الدولة ( الحكومة ) تسهم و بشكل كبير في مشكلة البطالة , و ذلك من خلال الآتي :
(1) الرخص و التصاديق : إن الرخص و التصاديق الحكومية تمثل عائقا حقيقيا في ممارسة الأعمال الحرة ليس ماديا فحسب بل و كذلك من خلال الحط من قدر العاملين بها عبر المطاردات و الملاحقات و الإذلال .
إن هذه الحقائق المشاهدة لا تحتاج إلى منافح ينكرها و إلا كان بمثابة من يضع أصابعه في آذانه من الصواعق و ما هو بمانعها .
إن الرخص و التصاديق قد بلغت قدرا عظيما من القيمة المادية بما لا يستطيع بادىء عمل و لا مستمر فيه من أصحاب المهن الحرة و كذلك من يرغبون في ولوج المجالات التجارية البسيطة , و التي تكون رخصها و تصاديقها أكبر بكثير من رؤوس أموالها , فلا بد للحكومة من النظر بجدية في الآثار السالبة لكثير من جباياتها و التي تعمل على وأد الحماسة و الجرأة و المقدرة على بذل الجهد من أجل وضع مادي و إجتماعي جيد .
(2) الضرائب : و ما أدراك ما الضرائب . لقد أدت إلى ترك العديد من التجار تجاراتهم و جمد كثير من المستثمرين نشاطاتهم التي كان لها دور مقدر في الإستخدام و العمل , و اتجهوا إلى نشاطات خفيفة و سريعة العائد و غير مؤسسية , و بأقل قدر من التكاليف والعوائق الحكومية , و لن تستطيع حكومة في الأرض سد الثغرات كلها .
(3) الجبايات الأخرى : النظافة , الدفاع المدني , التبرعات الإجبارية و الإشتراكات القسرية و غيرها قد أدت و تؤدي إلى كثرة الإحتكاكات مع الحكومة و بالتالي الإتجاه غلى نشاطات هامشية جانبية مريحة للبال , و إما العزوف عن العمل بالكلية إنتظارا لظروف أفضل أو سفر قريب .
إن بعض العاملين في التجارة قد إتجه إلى الإستثمار في المواصلات من عينة ( الأمجاد ) و (الركشات) و الحافلات , فهي رغم العوائق الموجودة بها إلا أنها ذات مصدر واحد و محدودة نسبيا مقارنة بالنشاطات الأخرى التي تحتاج إلى عمالة و ظهور وثبات في الموقع .
(4) قيود التمويل : إن الدولة تتحكم بشكل كبير في نوعية النشاطات التي يمكن أن تمولها البنوك و نسب الربح علوا و إنخفاضا . و رغم أن كثيرا من الأفكار قد تكون ناجحة و مجدية و مفيدة إلا أنها قد لا تدخل ضمن النطاق المسموح به في التمويل البنكي .
لا بد للحكومة أن تتخلى عن سيطرتها على القطاع التمويلي بترك الحرية له في إختيار المشروعات التي يمولها و حجمها بدلا من الإفتراض بأن هذه المؤسسات غير حريصة و غير واعية , و بالتالي السيطرة عليها قانونيا .
إن المؤسسات الحرة يمكن أن تسهم بشكل كبير في تبني الافكار و المشروعات الصغيرة و الكبيرة , بل و ربما التنافس في ذلك وفق شروط تمويل جيدة , و ما على الدولة سوى مراقبة شرعية أعمالها فقط . إن هذا التحكم في ذاته سبب من أسباب قصور هذه المؤسسات في أداء دورها نحو مشكلة البطالة و تمويل المشروعات الصغيرة , كما و أن النسب العالية للتمويل تؤدي إلى إحجام العديد من الأفراد عن مثل هذه المعاملات المالية التي تشكل خطورة كبيرة على الطرفين جميعا .
(5) مفاهيم العاملين بالدولة : إن للعاملين بالدولة نظرة عجيبة تجاه العاملين بالمهن الحرة , و هذه النظرة ليست خاصة و شخصية بل غنها تتحكم في قرارات الحكومة و معاملة موظفيها لهم , فنجد موظفي الضرائب لا يحفلون بإقرارات التجار و ربما كذلك حتى بالحسابات المراجعة بصورة قانونية , بل عندهم إتهام دائم للتجار و المشتثمرين بالكذب ( لماذا يكذبون ؟ ) , كما أنهم يعتقدون أن كل من يعمل في المهن الحرة هو ذو دخل عال و و أن عليه تمويل الخدمات الحكومية بنصيب أكبر , فنجد الموظفين خالين من كل إلتزام أو إلتزامهم قليل بالنسبة للدخل , أما التاجر أو المستثمر أو العامل فعليه أن يدفع شطر ماله أو ربحه للدولة و هذا من العجب العجاب , و ينتج عنه عدم المساواة بين المواطنين المتساوي الدخل .(/2)
إن المفاهيم الغربية المجحفة قد اصبحت عند الموظفين و المثقفين ( الموظفين أيضا ) أمورا مسلما بها , فتجد مفاهيم موظفي الحكومة تتحد إلى حد كبير مع مفاهيمهم المجحفة المائلة عن الصواب و العدل , فلا بد إذا من إعادة النظر في هذه الجبايات وفق المفاهيم الشرعية الربانية
( و لا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا ..) .
و لا بد من رفع القيود و العوائق الحكومية الكثيرة و المدمرة عن العمل الحر و المهن الحرة , و على الحكومة رقابة شرعية المعاملات و سلامتها و عدم تعدي و ظلم الافراد لبعضهم البعض , و إلزام المتعاقدين بعقودهم .
(6) العوائق الفنية : إن هناك العديد من العوائق الفنية التي تؤثر على البطالة , منها :
أ- ضعف التأهيل الفني .
ب- فقدان الخبرة .
ج- عدم القدرة على الإدارة .
إن هذه العوائق قد أدت إلى أن بعض الشركات تستجلب العمالة الماهرة من الخارج في كافة المجالات في كافة المجالات المهنية و الفنية , حتى العمال في مجالات المعمار و النظافة و غيرها من المهن البسيطة , إذ لا يوجد أفراد مؤهلين للقيام بها بشكل جيد و مستوى عال , فلا بد إذا من تأهيل فني عال و الرقي بالمهن الفنية و الأوضاع الإجتماعية للعاملين بها و إدخال التحسينات في المناهج الدراسية , بحيث يتم التدريس الفني و التدريب لكل الدارسين سواء كانوا أكاديميين أو غيرهم , و هذا ما لاحظته في مناهج بعض الدول الأوربية منذ زمن بعيد أنهم يدخلون العمل اليدوي و المهني ضمن مقررات الدراسة المعتادة , فيتخرج الطالب من المراحل الأساسية و بيده مهن عديدة يجيدها و يمكن أن يتطور فيها لاحقا .
(7) العوائق الشخصية و الثقافية : منها :
أ- ضمور الثقة بالنفس .
ب- ضمور الأفكار و المبادرة .
ج- الخوف من التعاون و المشاركة .
إن العوائق الشخصية و الثقافية ناتجة عن مجموعة المفاهيم الممتزجة و التي يستخلصها الفرد من محيطه الإجتماعي سواء كان واسعا او ضيقا , كما و تؤثر فيه مفاهيم الفرد الخاصة و آراؤه و توجهاته نحو بيئته و نفسه .
إن للتربية دور هام في تنمية الشخصية و صقلها , كما أن للتجربة العملية دورها في بث الثقة بالنفس و نشر الأفكار و دعم المبادرة , و على هذا يمكن تجاوز مثل هذه العوائق عبر الآتي :
1- أن تحتوي المناهج الدراسية على المفاهيم و التوجهات التي تشجع التفكير و المبادرة و تبث الثقة بالنفس و تدعو إلى المشاركة و التعاون , ليس على النحو النظري الضعيف الذي نراه الآن , و لكن لاد بد من أن يحتوي المنهج على القصص و التاريخ و السير و الأخبار و الآيات و الأحاديث و التجارب الداعمة لهذا التوجه , و بثها في كافة المنهج الدراسي مع توجيهها بوضوح نحو هذه المفاهيم .
2- لا بد من توفير زمن للتدريب و التجريب , بحيث أن كل دارس يجد فرصته في الإحتكاك بأهل الخبرة و التخصص , و بأنواع الآلات و المعدات و البيئات و تطبيق العلوم التي يمكن أن تساعده في تنمية أفكاره و تصوراته عن العمل و الإنجاز و تسمح له بالعيش في الجو العملي الفعلي , بحيث يتجاوز أهم الصعوبات و التعقيدات .
3- إيجاد جهات تشجع المبادرات العلمية للطلاب و تعمل على مساعدتهم في الحصول على التمويل و الدعم الفني و النفسي و التدريبي و التسويقي .
إن العوائق الشخصية و الثقافية هي من أكثر المعوقات حاجة للتذليل , غذ أنها حجر العثرة الأول في سلم المبادرة العملية و الخروج من دائرة الإحباط .
إنني إذ اختم مقالي هذا لا أجد ما أختم به أفضل من إقتراح الحلول التالية لمشكلة البطالة بل و الكثير من مشكلاتنا الإقتصادية المرتبطة بها من قريب أو بعيد :
أ- تحرير سوق العمل من القيود القانونية الكثيفة و المعقدة بلإسم حماية العاملين .
ب- تحرير الإقتصاد من هيمنة المؤسسات الإقتصادية الحكومية أو شبه الحكومية , بل و تصفيتها الفورية و إخراج الدولة من النشاط الإقتصادي تنافسيا بالكلية , اللهم إلا الرقابة الشرعية .
ج- تحرير النشاط الإقتصادي بصورة عامة من القيود المالية و الجبايات الضرائبية الكثيرة و المجحفة , اللهم إلا الزكاة و التوظيف الضروري .
د- تحرير مؤسسات التمويل من وصاية الدولة و توجيهها لنشاطات التمويل , اللهم إلا الرقابة الشرعية .
ثم أختم أخيرا بقول شعيب عليه الصلاة و السلام لقومه ( و ما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد غلا الإصلاح ما استطعت و ما توفيقي إلا بالله عليه توكلت و إليه أنيب ) .(/3)
مشهد يوم عظيم
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
فإن الناس في هذه الحياة في غفلة، وأملهم فيها عريض، ولا بد من إلجام النفس بتذكيرها بمصيرها، لتعمر الآخرة بالدنيا، ويغتنم الحاضر للمستقبل وقد جعل الله اليقين باليوم الآخر من أركان الإيمان وسيأتي اليوم الذي يفنى فيه الخلق مصداقاً لقوله - تعالى -: "كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ " [الرحمن:26]
ثم يأتي يوم يعيد الله فيه العباد ويبعثهم من قبورهم، وأول من يبعث وتنشق عنه الأرض نبينا محمد ويحشر العباد حفاة عراة غرلاً غير مختونين " كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ " [الأنبياء:104] ويكسى العباد، وأول من يكسى إبراهيم - عليه السلام - ويكسى الصالحون ثياباً كريمة، والطالحون يسربلون القطران، ويحشر الخلق على أرض محشر غير هذه الأرض والسماوات قالت عائشة - رضي الله عنه -: (فأين يكون الناس يا رسول الله؟) فقال: {على الصراط} [رواه مسلم]. وفي لفظ له: {هم في الظلمة دون الجسر،أرضهم بيضاء عقراء، ليس فيها معلم لأحد، ولم يسفك عليها دم حرام، ولم يعمل عليها خطيئة}
ولا يلاقي العباد يوم مثله، وصفه الله بالثقل والعسر يشيب منه شعر الوليد، فذلك يوم عسير، تذهل المرضعة عن رضيعها، والحامل تسقط حملها، وحال الناس كالسكارى، وما هم بسكارى، والأبصار شاخصة لا تطرق، والقلوب لدى الحناجر كاظمين، ساكنين لا يتكلمون ويفر الإنسان من أحب الناس إليه، من أمه، وأبيه، وأخيه، وزوجته، وأولاده، ويود العاصي أن يدفع بأعز الناس لديه في النار؛ لينجو هو يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه * وصاحبته وأخيه * وفصيلته التي تؤويه * ومن في الأرض جميعاً ثم ينجيه [المعارج:11 - 14] والأرض تزلزل وتدّك دكّة واحدة، وتمد مد الأديم، وتبقى صعيداً واحداً لا اعوجاج فيها، ويقبضها الله ويمسكها بإصبع، والجبال تسير، وتنشق وتتحول إلى كثيب مهيل وعهن منفوش، وتزال الجبال من مواضعها وتسوى الأرض لا ارتفاع فيها ولا انخفاض، والبحار تفجّر وتسجر، وتشتعل ناراً، والسماء تنشق وتمور وتضطرب فتصبح ضعيفة واهية، وتأخذ السماء في التلون فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان [الرحمن:37] قال الحسن: (أي تكون أبواباً)، وتكشط السماء فلا ستر ولا خفاء، ويطويها ربنا بيمينه كطي السجل للكتاب، ويمسكها على إصبع، والشمس تكور وتجمع ويذهب ضوؤها، والقمر يخسف فإذا برق البصر * وخسف القمر * وجمع الشمس والقمر [القيامة:7 - 9] والنجوم الزواهر تتكدر وينفرط عقدها، فتتناثر وتظلم الأرض بخمود سراجها وزوال أنوارها، والعشار تعطل، والوحوش تحشر، والأبصار خاشعة، ويموج الخلق بعضهم إلى بعض، والملائكة آخذة مصافها محدقة بالخلائق، يقول النبي: {اللهم إني أعوذ بك من ضيق المقام يوم القيامة} [رواه النسائي]
في هذا اليوم تعلم كل نفس ما أحضرت، يوم يقف الإنسان نادماً بعد فوات الأوان، ويؤخذ الخافي في الصدور أخذاً شديداً، يبعثر ما فيها بعثرة فما خفي فيها يظهر، وما أسر فيها يعلن، صمت مهيب لا يتخلله حديث ولا يقطعه اعتذار " هذا يوم لا ينطقون * ولا يؤذن لهم فيعتذرون " [المرسلات:36،35].
حال الصالحين والمؤمنين:
وجوه هناك مبيضة مسفرة مستبشرة ضاحكة ناضرة، ووجوه أخرى مسوّدة باسرة عليها غبرة مرهقة بالقترة، المتقون يحشرون إلى ربهم وفداً، والمجرمون يساقون يومئذ زرقاً، والشمس تدنو من رؤوس الخلائق حتى لا يكون بينها وبينهم إلا قدر ميل، ولا ظل لأحد إلا ظل عرش الرحمن، فمن بين مستظل يظل العرش وبين مضحو بحر الشمس، والأمم تزدحم وتتدافع، فتختلف الأقدام وتنقطع الأعناق، ويجتمع حر الشمس فيفيض العرق إلى سبعين ذراعاً في الأرض ويستنقع على وجه الأرض ثم على الأبدان على سرائبهم، منهم من يصل إلى الكعبين، ومنهم من يلحمه إلجاماً، فيطبق الغم، وتضيق النفس، وتجثو الأمم من الهول على الركب، وترى كل أمة جاثية، يقول النبي: {يبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون} [متفق عليه].
حال العصاة والكافرين:(/1)
ويندم العصاة ويتحسرون على تفريطهم في الطاعة، ولشدة حسرتهم يعضون على أيديهم يقول - عز وجل -: "ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا" [الفرقان:27] ويمقت العاصي نفسه وأحبابه وأخلاءه، وتنقل كل محبة لم تقم على أساس من الدين إلى عداء، ويخاصم المرء أعضاءه، والمتكبرون يحشرون أمثال الذر، يطؤهم الناس بأقدامهم، احتقاراً لهم، والمسبل إزاره لا يكلمه الله في ذلك اليوم، ولا ينظر إليه، ولا يزكيه وله عذاب أليم، وتوضع لكل غادر يوم القيامة راية عند مؤخرته ويقال: هذه غدرة فلان بن فلان، ومن أخذ من الأرض شيئاً بغير حقه خسف به يوم القيامة إلى سبع أراضين، ويتضاعف يوم القيامة ظلم الدنيا {الظلم ظلمات يوم القيامة}
والحقوق لا تضيع، بل يقتص حق المظلوم من الظالم حتى يقاد فيما بين البهائم، وشر الناس يوم القيامة ذو الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه، ومن نفّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسّر على معسر يسّر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة، والعادلون على منابر من نور عن يمين الرحمن، ويبعث كل عبد على ما مات عليه فمن مات محرماً يبعث ملبياً، ومن قتل في سبيل الله جاء لونه لون الدم والريح ريح المسك، والمؤذنون أطول الناس أعناقاً يوم القيامة، ولا يسمع مدى صوته شيء إلا شهد له يوم القيامة، ومن شاب شيبة في الإسلام كانت له نوراً يوم القيامة، وكل امرئ في ظل صدقته حتى يفصل بين الناس. والصراط دحض مزلة فناج عليه، ومخدوش ومكدوس في النار، والميزان بالقسط لا اختلال فيه، الحساب فيه بمثاقيل الذر "فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره * ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره " [الزلزلة:8،7]
الحمد لله تملؤوه، وسبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم ثقيلتان فيه، يقول - عليه الصلاة والسلام -: {أثقل شيء في الميزان تقوى الله وحسن الخلق} والصحف المطوية تنشر، كم من بلية نسيتها وكم من سيئة أخفيتها تظهر، والكتاب يقرأ، والجوارح تنطق، والملائكة تشهد، والله شهيد على جميع الأعمال، يقول - تعالى -: ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه [يونس:61] وبعد أن يفرغ الله من الفصل بين البهائم يشرع في الفصل بين العباد، وأول الأمم يقضى بينها هذه الأمة، كما أنهم أول من يجوز على الصراط، وأول من يدخل الجنة يقول النبي: {نحن الآخرون السابقون يوم القيامة} وفي رواية: {المقضى لهم قبل الخلائق} [رواه مسلم] ويكرم الله عبده محمداً في الموقف العظيم بإعطائه حوضاً واسع الأرجاء مسيرته شهر، وماؤه أبيض من اللبن، وأحلى من العسل، وأطيب من المسك، ترى عليه أباريق الذهب والفضة كعدد نجوم السماء، من شرب منه شربةً لم يظمأ بعدها أبداً، ويرد عليه أقوام من أمته ثم يحال بينهم فيقول عله الصلاة والسلام: {إنهم مني} فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك فيقول: {سحقاً سحقاً لمن بدل بعدي}.
النجاة من هذا اليوم:
إن النجاة من تلك الأهوال إنما تُنال برحمة الله، ثم بالعمل الصالح، والإنسان المقصر في ذلك اليوم نادم لا محالة، لا تنفع فيه المعذرة ولا يرتجى فيه إلا المغفرة، طالت بك الأيام أم قصرت فمصيرك إما جنة وإما نار.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم "يا أيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرّنّكم الحياة الدنيا ولا يغرّنّكم بالله الغرور " [فاطر:5].
المفلس يوم القيامة
المفلس يوم القيامة من يأتي بصلاة، وصيام، وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيُعطى هذا من حسناته وهذا من سيئاته، فإن حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم يقذف في النار.
يقول صالح المري: (دخلت المقابر نصف النهار فنظرت إلى القبور كأنهم قوم صموت، فقلت سبحان الله من يحييكم وينشركم من بعد طول البلى، فهتف بي هاتف من بعض تلك الحفر: يا صالح: ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون [الروم:25] قال: فخررت مغشياً عليّ).
يقول الحسن البصري: (يومان وليلتان لم يسمع الخلائق مثلهن قط، ليلة تبيت مع أهل القبور ولم تبت قبلها مثلها، وليلة صبيحتها تسفر عن يوم القيامة، ويوم يأتيك البشير من الله إما بالجنة أو بالنار، ويوم تعطى كتابك إما بيمينك وإما بشمالك).
فاستعدوا عباد الله لما أمامكم، واعملوا لهذا اليوم الطويل، جعلنا الله وإياكم من أهل الجنة، وغفر لنا ولوالدينا لجميع المسلمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
عبد المحسن القاسم(/2)
مصادر التفسير
(1)
تفسير القرآن بالقرآن
الكاتب/ مساعد بن سليمان الطيار
تفسير القرآن بالقرآن
طريقة الوصول إلى تفسير القرآن بالقرآن
حُجّيّةُ تَفْسير القرآن بالقرآن
________________________________________
يراد : بمصادر التفسير: المراجع الأولية التي يرجع إليها المفسر عند تفسيره لكتاب الله ، وهذه المصادر هي: القرآن، والسنة، وأقوال الصحابة، وأقوال التابعين وتابعيهم ، واللغة، والرأي والاجتهاد.
وإنما قيل: »المراجع الأولية«؛ لئلا تدخل كتب التفسير؛ لأنها تعتبر مصادر ، ولكن الحديث هنا ليس عنها
. وقد اصطلح شيخ الإسلام ابن تيمية (ت: 728هـ) على تسميتها بـ(طرق التفسير) ، ذكر منها أربعة ، وهي: القرآن ، والسنة ، وأقوال الصحابة ، وأقوال التابعين في التفسير(1).
وجعلها بدر الدين الزركشي (ت: 794هـ) مآخذ التفسير ، وذكر أمهاتها ، وهي أربع: النقل عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ثم الأخذ بقول الصحابة ، ثم الأخذ بمطلق اللغة، ثم التفسير بالمقتضى من معنى الكلام والمقتضب من قوة الشرع(2).
وسيكون الحديث عن هذه المصادر متتابعاً ـ إن شاء الله تعالى ـ .
أعلى الصفحة
________________________________________
تفسير القرآن بالقرآن:
يعتبر القرآن أول مصدر لبيان تفسيره؛ لأن المتكلم به هو أولى من يوضّح مراده بكلامه؛ فإذا تبيّن مراده به منه ، فإنه لا يُعدل عنه إلى غيره.
ولذا عدّه بعض العلماء أول طريق من طرق تفسير القرآن(3) ، وقال آخر: إنه من أبلغ التفاسير(4)، وإنما يُرْجَع إلى القرآن لبيان القرآن؛ لأنه قد يَرِدُ إجمال في آية تبيّنه آية أخرى ، وإبهام في آية توضّحه آية أخرى ، وهكذا.
وسأطرح في هذا الموضوع قضيتين:
الأولى : بيان المصطلح.
الثانية: طريقة الوصول إلى تفسير القرآن بالقرآن.
بيان المصطلح:
التفسير: كشفٌ وبيانٌ لأمر يحتاج إلى الإيضاح ، والمفَسّر حينما يُجْري عملية التفسير ، فإنه يبيّن المعنى المراد ويوضّحه. فتفسير المفسر لمعنى »عُطّلت« في قوله (تعالى): ((وَإذَا العِشَارُ عُطِّلَتْ)) [التكوير: 4] بأنها: أُهمِلت ، هو بيان وتوضيح لمعنى هذه اللفظة القرآنية.
وفي هذا المثال يُقَال: تفسير القرآن بقول فلان؛ لأنه هو الذي قام ببيان معنى اللفظة في الآية.
ومن هنا ، فهل كل ما قيل فيه: (تفسير القرآن بالقرآن) يعني أن البيان عن شيء في الآية وقع بآية أخرى فسّرتها ، أم أن هذا المصطلح أوسع من البيان؟
ولكي يتضح المراد بهذا الاستفسار استعرض معي هذه الأمثلة:
المثال الأول: عن ابن مسعود (رضي الله عنه) قال: لما نزلت ((الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ)) [الأنعام: 82].
قلنا: يا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، أيّنا لم يظلم نفسه؟ قال: ليس كما تقولون ، ((لم يلبسوا إيمانهم بظلم)): بشرك ، أو لم تسمعوا إلى قول لقمان لابنه: ((يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)) [لقمان: 13]«(5).
المثال الثاني: قال الشيخ الشنقيطي (ت: 1393هـ): (ومن أنواع البيان المذكورة أن يكون الله خلق شيئاً لحِكَمٍ متعددة ، فيذكر بعضها في موضع ، فإننا نُبيّن البقية المذكورة في المواضع الأُخر).
ومثاله: قوله تعالى: ((وَهُوَ الَذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا)) [الأنعام: 97].
فإن من حِكَمِ خلق النجوم تزيين السماء الدنيا ، ورجم الشياطين أيضاً ، كما بينّه (تعالى) بقوله: ((وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ)) [الملك: 5] وقوله: ((إنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الكَوَاكِب * وَحِفْظاً مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ)) [الصافات: 6 ، 7](6).
المثال الثالث: قال الشيخ محمد حسين الذهبي: (ومن تفسير القرآن بالقرآن: الجمع بين ما يُتَوهم أنه مختلف؛ كخلق آدم من تراب في بعضٍ ، ومن طينٍ في غيرها ، ومن حمأ مسنون ، ومن صلصالٍ ، فإن هذا ذِكْرٌ للأطوار التي مرّ بها آدم من مبدأ خلقه إلى نفخ الروح فيه)(7).
نقد الأمثلة:
إذا فحصت هذه الأمثلة فإنه سيظهر لك من خلال الفحص ما يلي: ستجد أن المثال الأول وقع فيه البيان عن المراد بالظلم بآية أخرى ، أي: إن القرآن وضّح القرآن.
لكنك هل تجد في المثالين الآخرين وقوع بيان عن آية بآية أخرى؟ ففي المثال الثاني: تجد أن المفَسّر جمع عدة آيات يربطها موضوع واحد ، وهو حكمة خلق النجوم ، فهل وقع بيان لآية بآية أخرى في هذا الجمع؟ لاشك أنه لم يقع هذا البيان ، لأن الأية الأولى التي جمع المفسر معها ما يوافقها في الموضوع لم يكن فيها ما يحتاج إلى بيان قرآني آخر.(/1)
وفي المثال الثالث: تجد أن المفَسّر جمع بين عدّة آيات تُوهم بالاختلاف ، لكن هل وقع في جمع هذه الآيات تفسير بعضها ببعض؟ أم أن تفسيرها جاء من مصدر آخر خارج عن الآيات؟ الذي يبدو أن جمع هذه الآيات أثار الإشكال؛ إذ التراب لا يُُفسّّر بالطين ، ولا بالحمأ المسنون...إلخ ، كما أن كل واحدٍ من الآخرين لا يُفسّر بالآخر؛ لأنه مختلف عنه.
ولما كان الخبر عن خلق آدم والإخبار عنه مختلف احتاج المفسر إلى الربط بين الآيات ومحاولة حلّ الإشكال الوارد فيها ، ولكن الحلّ لم يكن بآية أخرى تزيل هذا الإشكال ، بل كان حلّه بالنظر العقلي المعتمد على دلالة هذه المتغايرات وترتيبها في الوجود ، مما جعل المفسر لهذه الآيات ينتهي إلى أنها مراحل خلق آدم عليه السلام ، وأن كل آية تتحدث عن مرحلة من هذه المراحل ، حيث كان آدم تراباً ، ثم طيناً ، ثم... إلخ. وبهذا يظهر جليّاً أنّ جمع الآيات لم يكن فيه بيان آية بآية أخرى ، وإن كان في هذا الجمع إفادة في التفسير.
وبعد.. فإن النتيجة التي تظهر من هذه الأمثلة: أن كل ما قيل فيه: إنه تفسير قرآن بقرآن ، إذا لم يتحقق فيه معنى البيان عن شيء في الآية بآية أخرى ، فإنه ليس تعبيراً مطابقاً لهذا المصطلح ، بل هو من التوسع الذي يكون في تطبيقات المصطلح. تفسير القرآن بالقرآن عند المفسرين:
ظهر مما سبق أن مصطلح (تفسير القرآن بالقرآن) قد استُعمل بتوسع في تطبيقاته ، ويبرز
هذا من استقراء تفاسير المفسرين ، خاصة من نصّ على هذا المصطلح أو إشار إليه في تفسيره؛ كابن كثير (ت: 774هـ) ، والأمير الصنعاني (ت: 1182هـ) ، والشنقيطي (ت: 1393هـ).
ويبدو أن كل استفادة من آيات القرآن؛ كالاستشهاد أو الاستدلال بها يكون داخلاً ضمن تفسير القرآن بالقرآن. ومن أمثلة ذلك ما ذكره الصنعاني في تفسير قوله تعالى: ((لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)) [الشعراء: 3] حيث قال: »أي قاتلها لعدم إيمان قومك. »تكرر هذا المعنى في القرآن في مواضع: ((وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ)) [الحجر: 88] وفي الكهف: ((فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الحَدِيثِ أَسَفاً)) [الكهف: 6].
وفي فاطر: ((فَلاتَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ)) [فاطر: 8].
ونحوه: ((إن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَن يُضِلّ)) [النحل: 37].
ونحو ذلك مما هو دليل على شفقته على الأمة ، ومحبته لإسلامهم ، وشدة حرصه على هدايتهم مع تصريح الله له بأنه ليس عليه إلا البلاغ«(8).
ويمكن القول: إنه ليس هناك ضابط يضبط المصطلح المتوسع بحيث يمكن أن يقال: هذا يدخل في تفسير القرآن بالقرآن ، وهذا لا يدخل فيه؛ ولذا يمكن اعتبار كتب (متشابه القرآن)(9) ، وكتب (الوجوه والنظائر) من كتب تفسير القرآن بالقرآن بسبب التوسع في المصطلح.
فكتب (متشابه القرآن) توازن بين آيتين متشابهتين أو أكثر ، وقد يقع الخلاف بينهما في حرف أو كلمة ، فيبين المفسر سبب ذلك الاختلاف. وكتب (الوجوه والنظائر) تبيّن معنى اللفظ في عدة آيات ، وتذكر وجه الفرق فيها في كل موضع.
* المفسرون المعتنون بهذا المصدر:
إن مراجعة روايات التفسير المروية عن السلف تدل على أن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت: 182هـ) كان من أكثر السلف اعتناءً بتفسير القرآن بالقرآن. ومن أمثلة ذلك ما رواه عنه الطبري (ت: 310هـ) بسنده في تفسير قوله تعالى: ((وَالْبَحْرِ المَسْجُورِ)) [الطور: 6] قال: »الموقَد ، وقرأ قول الله تعالى: ((وَإذَا البِحَارُ سُجِّرَتْ)) [التكوير: 6] قال: أُوقِدَتْ«(10).
أما كتب التفسير ، فإن من أبرز من اعتنى به ثلاثة من المفسرين هم:
(1) الحافظ ابن كثير (ت: 774هـ) في كتابه (تفسير القرآن العظيم).
(2) الأمير الصنعاني (ت: 1182هـ) في كتابه: (مفاتح الرضوان في تفسير الذكر بالآثار والقرآن).
(3) الشيخ محمد الأمين الشنقيطي (ت1393هـ) في كتابه: (أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن)(11).
* بيان بعض الأمثلة التي تدخل في المصطلَحَين:
سبق البيان عن مصطلح (تفسير القرآن بالقرآن) ، وأنه ينقسم إلى نوعين:
الأول: ما يعتمد على البيان ، والمراد أن وقوع البيان عن آية بآية أخرى يُعَدّ تعبيراً دقيقاً عن هذا المصطلح.
الثاني: ما لم يكن فيه بيان عن آية بآية أخرى ، وهو بهذا مصطلح مفتوح ، يشمل أمثلة كثيرة. وقد مضى أن هذا التوسع هو الموجود في كتب التفسير ، وأنها قد سارت عليه ، وفي هذه الفِقْرة سأطرح محاولة اجتهادية لفرز بعض أمثلة هذا المصطلح.
أولاً: الأمثلة التي يَصْدُقُ إدخالها في المصطلح المطابق:
يمكن أن يدخل في هذا المصطلح ما يلي:
1- الآية المخصصة لآية عامة:
ورد لفظ الظلم عاماً في قوله تعالى: ((الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ)) [الأنعام: 82].(/2)
وقد خصّه الرسول صلى الله عليه وسلم بالشرك ، واستدل له بقوله تعالى: ((إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)) [لقمان: 13].
ـ وفي قوله تعالى: ((وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا)) [الإسراء: 24].
عموم يشمل كل أبٍ: مسلم وكافر ، وهو مخصوص بقوله تعالى: ((مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى)) [التوبة: 113].فخرج بهذا الاستغفار للأبوين الكافرين ، وظهر أن المراد بها الأبوان المؤمنان(12).
2- الآية المبيّنة لآية مجملة:
ـ أجمل الله القدر الذي ينبغي إنْفَاقُهُ في قوله تعالى: ((وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ)) [البقرة: 3] ، وبين في مواضع أخر: أن القدر الذي ينبغي إنفاقه هو الزائد عن الحاجة وسدّ حاجة الخَلّة التي لابد منها ، وذلك كقوله: ((وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العَفْوَ)) [البقرة: 219] والمراد بالعفو: الزائد على قدر الحاجة التي لابدّ منها ، على أصحّ التفسيرات ، وهو مذهب الجمهور...(13).
ـ وفي قوله تعالى: ((أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ)) [المائدة: 1] ، إجمال في المتلو ، وقد بيّنه قوله تعالى: ((حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ)) [المائدة: 3].
3- الآية المقيدة لآية مطلقة:
ـ أطلق الله استغفار الملائكة لمن في الأرض ، كما في قوله تعالى: ((وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُون لِمَن فِي الأَرْضِ)) [الشورى: 5] ، وقد قيّد هذا الإطلاق بالمؤمنين في قوله تعالى: ((الَّذِينَ يَحْمِلُونَ العَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا)) [ غافر: 7].
ـ وفي قوله تعالى: ((إنَّ الَذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ)) [آل عمران: 90] ، إطلاق في عدم قبول التوبة ، وهو مقيّد في قول بعض العلماء بأنه إذا أخّروا التوبة إلى حضور الموت ، ودليل التقييد قوله تعالى: ((وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ المَوْتُ قَالَ إنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ)) [النساء: 14].
4- تفسير لفظة غريبة في آية بلفظة أشهر منها في آية أخرى:
ورد لفظ »سِجّيل« في قوله تعالى: ((وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ)) [هود: 82] ، والممطر عليهم هم قوم لوط (عليه الصلاة والسلام) ، وقد وردت القصة في الذاريات وبان أن المراد بالسجيل: الطين ، في قوله تعالى: ((قَالُوا إنَّا أُرْسِلْنَا إلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ*لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ)) [الذاريات: 32 ، 33](15).
5- تفسير معنى آية بآية أخرى: التسوية في قوله تعالى: ((يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ)) [النساء: 42] ، يراد بها: أن يكونوا كالتراب ، والمعنى: يودّون لو جُعِلوا والأرض سواءً ، ويوضح هذا المعنى قوله تعالى: ((وَيَقُولُ الكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَاباً)) [النبأ: 40](16).
ثانياً: أمثلة للمصطلح المتوسع:
يمكن أن يدخل في هذا النوع كل آية قرنت بأخرى على سبيل التفسير ، وإن لم يكن في
الآية ما يشكل فتُبَيّنُهُ الآية الأخرى ، ومن أمثلته ما يلي:
1- الجمع بين ما يُتوهم أنه مختلف:
سبق مثال في ذلك ، وهو: مراحل خلق آدم(17) ، ومن أمثلته عصا موسى (عليه الصلاة والسلام)؛ حيث وصفها مرة بأنها ((حَيَّةٌ تَسْعَى)) [طه: 20] ، ومرة بأنها ((تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانّ)) [النمل: 10] ، ومرة بأنها ((ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ)) [الأعراف: 107] ، فاختلف الوصف والحدث واحد ، وقد جمع المفسرون بين هذه الآيات: أن الله (سبحانه) جعل عصا موسى كالحية في سعيها ، وكالثعبان في عِظَمها ، وكالجان (وهو: صغار الحيّات) في خِفّتِها(18).
2- تتميم أحداث القصة:
إذا تكرر عرض قصة ما في القرآن فإنها لا تتكرر بنفس أحداثها ، بل قد يزاد فيها أو ينقص في الموضع الآخر ، ويَعْمَدُ بعض المفسرين إلى ذكر أحداث القصة متكاملة كما عرضها القرآن في المواضع المختلفة ، ومثال ذلك:
قوله (تعالى): ((إذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَن يَكْفُلُهُ)) [طه: 40] ، حيث ورد في سورة القصص ثلاثة أمور
غير واردة في هذه الآية ، وهي:
1- أنها مرسلة من قبل أمها.
2- أنها أبصرته من بُعدٍ وهم لا يشعرون.
3- أن الله حرّم عليه المراضع.(/3)
وذلك في قوله (تعالى): ((وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (11) وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ المَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ)) [القصص: 11 ، 12](19).
3- جمع الآيات المتشابهة في موضوعها:
قال الشنقيطي في قوله (تعالى): ((قَدْ نَعْلَمُ إنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَذِي يَقُولُونَ)) [الأنعام: 33].
قال: »صرح (تعالى) في هذه الآية الكريمة بأنه يعلم أن رسوله يَحْزُنُه ما يقوله الكفار في تكذيبه ، وقد نهاه عن هذا الحزن المفرط في مواضع أخرى كقوله: ((فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَات)) [ فاطر: 8] ، وقوله: ((فَلا تَأْسَ عَلَى القَوْمِ الكَافِرِينَ)) [المائدة: 68] ، وقوله: ((فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الحَدِيثِ أَسَفاً)) [الكهف: 6] ، وقوله: ((لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)) [الشعراء: 3].
والباخع: المهلك نفسه...إلخ(21).
4- جمع موارد اللفظة القرآنية:
قد يورد المفَسّر »وصفاً« وُصف به شيء ، ثم يذكر الأشياء الأخرى التي وصفت به ، أو يعمد إلى لفظة فيذكر أماكن ورودها ، ومن أمثلة الأول:
* قال: الأمير الصنعاني »والبقعة مباركة (لما)(21) وصفها الله لما أفاض (تعالى) (فيه)(22) من بركة الوحي وكلام الكليم فيها.
كما وصف أرض الشام بالبركة ، حيث قال: ((وَنَجَّيْنَاهُ)) أي: إبراهيم ((وَلُوطاً إلَى الأَرْضِ الَتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ)) [الأنبياء: 71]
ووصف بيته العتيق بالبركة في قوله: ((إنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ)) [ال عمران: 96].
ووصف شجرة الزيت بالبركة في قوله: ((شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ)) [النور: 35](23).
* ومن أمثلة الثاني قوله: »وسمّى الله كتابه هدى في آيات: ((ذَلِكَ الكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ)) [البقرة: 2] ، ((إنَّ هَذَا القُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ)) [الإسراء: 9] ، ((قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ)) [ فصلت: 44] ، وفي لقمان:
((هُدًى وَرَحْمَةً لِّلْمُحْسِنِينَ)) [لقمان: 3] ، وفي النحل: ((تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ)) [النحل: 89] ، فهو هدى وبشرى للمسلمين والمحسنين ، وفي يونس: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ)) [يونس: 57](24).
أعلى الصفحة
________________________________________
طريقة الوصول إلى تفسير القرآن بالقرآن:
التفسير إما أن يكون طريقه النقل ، وإما أن يكون طريقه الاستدلال ،
والأول: يطلق عليه (التفسير المأثور) ،
والثاني: يطلق عليه (التفسير بالرأي).
ومن هنا فإن تصنيف (تفسير القرآن بالقرآن) ، في أحدهما يكون بالنظر إلى القائل به أولاً ، لا إلى طريقة وصوله إلى ما بعد القائل؛ لأن ذلك طريقهُ الأثر.
وتفسير القرآن بالقرآن ينسب إلى الذي فسّر به ، فالمفَسّر هو الذي عَمَدَ ـ اجتهاداً منه ـ إلى الربط بين آية وآية ، وجعل إحداهما تفسر الآخرى.
وبهذا فإن طريق الوصول إليه هو الرأي والاستنباط ، وعليه فإنه لا يلزم قبول كل قول يرى أن هذه الآية تفسر هذه الآية؛ لأن هذا الاجتهاد قد يكون غير صواب.
كما أنه إذا ورد تفسير القرآن بالقرآن عن مفسر مشهور معتمد عليه فإنه يدلّ على علو ذلك الاجتهاد؛ لأنه من ذلك المفسر. فورود التفسير به عن عمر بن الخطاب أقوى من وروده عن من بعده من التابعين وغيرهم ، وهكذا.
أعلى الصفحة
________________________________________
حُجّيّةُ تَفْسير القرآن بالقرآن:
كلما كان تفسير القرآن بالقرآن صحيحاً ، فإنه يكون أبلغ التفاسير ، ولذا: فإن ورُود تفسير القرآن بالقرآن عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أبلغ من وروده عن غيره؛ لأن ما صح مما ورد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- مَحَلّهُ القبول. بيد أن قبوله لم يكن لأنه تفسير قرآن بقرآن ، بل لأن المفسّر به هو النبي -صلى الله عليه وسلم-.
ومن أمثلة تفسيره القرآن بالقرآن ما رواه ابن مسعود: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (مفاتح الغيب(26) خمسٌ ، ((إنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)) [لقمان: 34](26).
أما ورود تفسير القرآن بالقرآن عن غير الرسول فإنه قد قيل باجتهاد المفسر ، والاجتهاد معرض للخطأ.(/4)
وبهذا لا يمكن القول بحجيّة تفسير القرآن بالقرآن مطلقاً ، بحيث يجب قبوله ممن هو دون النبي -صلى الله عليه وسلم- ، بل هو مقيد بأن يكون ضمن الأنواع التي يجب الأخذ بها في التفسير(27). هذا.. وقد سبق البيان أن تفسير القرآن بالقرآن يكون أبلغ التفاسير إذا كان المفسّرُ به من كبار المفسرين من الصحابة ومن بعدهم من التابعين.
وأخيراً:
فإن كون تفسير القرآن بالقرآن من التفسير بالرأي ، لا يعني صعوبة الوصول إليه في كل حالٍ ، بل قد يوجد من الآيات ما تفسّر غيرها ـ ولا يكاد يختلف في تفسيرها اثنان ، مثل تفسير »الطارق« في قوله (تعالى): ((وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ)) [الطارق: 1] بأنه يُفسر بقوله (تعالى): ((النَّجْمُ الثَّاقِبُ)) [الطارق: 3] ، ومثل هذا كثيرٌ في القرآن ، والله أعلم.
________________________________________
الهوامش :
(1) مقدمة في أصول التفسير ، (ت: د. عدنان زرزور) ، ص93 وما بعدها.
(2) انظر: البرهان في علوم القرآن ، جـ2 ، ص156-164.
(3) شيخ الإسلام ابن تيمية في مقدمته في (أصول التفسير) ، (ت: عدنان زرزور) ، ص93.
(4) ابن القيم في (التبيان في أقسام القرآن) ، (ت: طه شاهين) ، ص116.
(5) رواه الإمام البخاري ، انظر: فتح الباري (ط: الريان) ، جـ6 ، ص448 ، ح3360.
(6) أضواء البيان ، جـ1 ، ص87.
(7) التفسير والمفسرون ، جـ1 ، ص42.
(8) مفاتح الرضوان في تفسير الذكر بالآثار والقرآن ، للأمير الصنعاني ، تحقيق عبد الله بن سوفان الزهراني (رسالة ماجستير ، على الآلة الكاتبة) ص71،72 ، وانظر: الأمثلة التي سبق نقلها عن الشنقيطي ومحمد حسين الذهبي.
(9) تنقسم الكتابة في متشابه القرآن إلى قسمين: الأول: ما يتعلق بالمواضع التي يقع فيها الخطأ في الحفظ لتشابهها ، وهذه الكتب تخص القراء. الثاني: ما يتعلق بالخلاف في التفسير بين الآيات المتشابهة ، وهذا المقصود هنا ، ككتاب (البرهان في متشابه القرآن) للكرماني وغيره.
(10) تفسير الطبري ، جـ27 ، ص19 ، وانظر له في الجزء نفسه ص22 ، 37 ، 38 ، 61 ، 69 ، 74 ، 76 ، 92 ، 113 ، 120 ، وفي الجزء نفسه عن علي ص18 ، وابن عباس ، ص55 ، 72 ، وعكرمة ، ص72.
(11) يمكن أن يستنبط من هذا الموضوع دراسات علمية مقترحة ، وهي كالتالي: 1- جمع مرويات السلف في (تفسير القرآن بالقرآن) ودراستها؛ لإبراز طرق استفادة السلف من القرآن ومنهجهم في ذلك. 2- دراسة منهج تفسير القرآن بالقرآن عند ابن كثير والصنعاني والشنقيطي ، وطرق إفادتهم من القرآن في التفسير ، مع بيان الفرق بينهم في هذا الموضوع.
(12) انظر: تفسير الطبري ، جـ15 ، ص6768 ، والتحرير والتنوير ، جـ15 ، ص72.
(13) انظر: أضواء البيان ، جـ1 ، ص107،108. أضواء البيان جـ1 ص 343.
(14) انظر: أضواء البيان ، جـ1 ، ص343.
(15) انظر: أضواء البيان ، جـ1 ، ص86.
(16) انظر: تفسير الطبري ، جـ5 ، ص93 ، والحجة للقراءات السبعة لأبي علي الفارسي ، جـ1 ، ص246.
(17) انظر: ص4 من المجلة نفسها.
(18) انظر: أنموذج جليل في أسئلة وأجوبة من غرائب آي التنزيل ، للرازي ص327 ، وكشف المعاني في المتشابه من المثاني ، ص282،283 ، وتيجان البيان في مشكلات القرآن ، للخطيب العمري ، ص173.
(19) انظر: أضواء البيان ، جـ4 ، ص408.
(20) أضواء البيان، جـ2، ص189، وانظر:مفاتح الرضوان للأمير الصنعاني، ص71،72.
(21) كذا في الأصل وانظر: حاشية 2، ص194 من التحقيق ، حيث قال المحقق: والصواب (كما).
(22) الصواب (فيها) انظر: حاشية 7 ، ص194 ، من التحقيق.
(23) مفاتح الرضوان في تفسير الذكر بالآثار والقرآن ، ص194.
(24) المصدر السابق ، ص188،189.
(25) وردت في قوله (تعالى): ((وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إلاَّ هُوَ)) [الأنعام: 59].
(26) رواه البخاري ، انظر: فتح الباري ، جـ8 ، ص141.
(27) سبق أن طرحتها في مجلة البيان ، ع76 ، ص15.(/5)
مصادر التفسير(1)
مساعد بن سليمان الطيار
يراد بمصادر التفسير: المراجع الأولية التي يرجع إليها المفسر عند تفسيره لكتاب الله، وهذه المصادر هي: القرآن، والسنة، وأقوال الصحابة، وأقوال التابعين وتابعيهم، واللغة، والرأي والاجتهاد. وإنما قيل: "المراجع الأولية"؛ لئلا تدخل كتب التفسير؛ لأنها تعتبر مصادر، ولكن الحديث هنا ليس عنها.
وقد اصطلح شيخ الإسلام ابن تيمية [ت: 728ه] على تسميتها ب[طرق التفسير]، ذكر منها أربعة، وهي: القرآن، والسنة، وأقوال الصحابة، وأقوال التابعين في التفسير[1].
وجعلها بدر الدين الزركشي [ت: 794ه] مآخذ التفسير، وذكر أمهاته، وهي أربع: النقل عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ثم الأخذ بقول الصحابة، ثم الأخذ بمطلق اللغة، ثم التفسير بالمقتضى من معنى الكلام والمقتضب من قوة الشرع[2]. وسيكون الحديث عن هذه المصادر متتابعًا -إن شاء الله تعالى-.
تفسير القرآن بالقرآن:
يعتبر القرآن أول مصدر لبيان تفسيره؛ لأن المتكلم به هو أولى من يوضّح مراده بكلامه؛ فإذا تبيّن مراده به منه، فإنه لا يُعدل عنه إلى غيره.
ولذا عدّه بعض العلماء أول طريق من طرق تفسير القرآن[3]، وقال آخر: إنه من أبلغ التفاسير[4]، وإنما يُرْجَع إلى القرآن لبيان القرآن؛ لأنه قد يَرِدُ إجمال في آية تبيّنه آية أخرى، وإبهام في آية توضّحه آية أخرى، وهكذا.
وسأطرح في هذا الموضوع قضيتين:
الأولى : بيان المصطلح.
الثانية: طريقة الوصول إلى تفسير القرآن بالقرآن.
بيان المصطلح:
التفسير: كشفٌ وبيانٌ لأمر يحتاج إلى الإيضاح، والمفَسّر حينما يُجْري عملية التفسير، فإنه يبيّن المعنى المراد ويوضّحه.
فتفسير المفسر لمعنى »عُطّلت« في قوله -تعالى-: ?وَإذَا العِشَارُ عُطِّلَتْ? [التكوير: 4] بأنها: أُهمِلت، هو بيان وتوضيح لمعنى هذه اللفظة القرآنية.
وفي هذا المثال يُقَال: تفسير القرآن بقول فلان؛ لأنه هو الذي قام ببيان معنى اللفظة في الآية.
ومن هن، فهل كل ما قيل فيه: [تفسير القرآن بالقرآن] يعني أن البيان عن شيء في الآية وقع بآية أخرى فسّرته، أم أن هذا المصطلح أوسع من البيان؟
ولكي يتضح المراد بهذا الاستفسار استعرض معي هذه الأمثلة:
المثال الأول: عن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: لما نزلت ?الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ? [الأنعام: 82].
قلنا: يا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أيّنا لم يظلم نفسه؟ قال: ليس كما تقولون، ?لم يلبسوا إيمانهم بظلم?: بشرك، أو لم تسمعوا إلى قول لقمان لابنه: ?يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ? [لقمان: 13]«[5].
المثال الثاني: قال الشيخ الشنقيطي [ت: 1393ه]: [ومن أنواع البيان المذكورة أن يكون الله خلق شيئًا لحِكَمٍ متعددة، فيذكر بعضها في موضع، فإننا نُبيّن البقية المذكورة في المواضع الأُخر].
ومثاله: قوله تعالى: ?وَهُوَ الَذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَ? [الأنعام: 97].
فإن من حِكَمِ خلق النجوم تزيين السماء الدني، ورجم الشياطين أيض، كما بينّه -تعالى- بقوله: ?وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِّلشَّيَاطِينِ? [الملك: 5] وقوله: ?إنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الكَوَاكِب * وَحِفْظًا مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ? [الصافات: 6، 7][6].
المثال الثالث: قال الشيخ محمد حسين الذهبي: «ومن تفسير القرآن بالقرآن: الجمع بين ما يُتَوهم أنه مختلف؛ كخلق آدم من تراب في بعضٍ، ومن طينٍ في غيره، ومن حمأ مسنون، ومن صلصالٍ، فإن هذا ذِكْرٌ للأطوار التي مرّ بها آدم من مبدأ خلقه إلى نفخ الروح فيه» [7].
نقد الأمثلة:
إذا فحصت هذه الأمثلة فإنه سيظهر لك من خلال الفحص ما يلي:
ستجد أن المثال الأول وقع فيه البيان عن المراد بالظلم بآية أخرى، أي: إن القرآن وضّح القرآن.
لكنك هل تجد في المثالين الآخرين وقوع بيان عن آية بآية أخرى؟
ففي المثال الثاني: تجد أن المفَسّر جمع عدة آيات يربطها موضوع واحد، وهو حكمة خلق النجوم، فهل وقع بيان لآية بآية أخرى في هذا الجمع؟
لاشك أنه لم يقع هذا البيان، لأن الأية الأولى التي جمع المفسر معها ما يوافقها في الموضوع لم يكن فيها ما يحتاج إلى بيان قرآني آخر.
وفي المثال الثالث: تجد أن المفَسّر جمع بين عدّة آيات تُوهم بالاختلاف، لكن هل وقع في جمع هذه الآيات تفسير بعضها ببعض؟ أم أن تفسيرها جاء من مصدر آخر خارج عن الآيات؟(/1)
الذي يبدو أن جمع هذه الآيات أثار الإشكال؛ إذ التراب لا يُُفسّّر بالطين، ولا بالحمأ المسنون...إلخ، كما أن كل واحدٍ من الآخرين لا يُفسّر بالآخر؛ لأنه مختلف عنه. ولما كان الخبر عن خلق آدم والإخبار عنه مختلف احتاج المفسر إلى الربط بين الآيات ومحاولة حلّ الإشكال الوارد فيه، ولكن الحلّ لم يكن بآية أخرى تزيل هذا الإشكال، بل كان حلّه بالنظر العقلي المعتمد على دلالة هذه المتغايرات وترتيبها في الوجود، مما جعل المفسر لهذه الآيات ينتهي إلى أنها مراحل خلق آدم عليه السلام، وأن كل آية تتحدث عن مرحلة من هذه المراحل، حيث كان آدم تراب، ثم طين، ثم... إلخ.
وبهذا يظهر جليًّا أنّ جمع الآيات لم يكن فيه بيان آية بآية أخرى، وإن كان في هذا الجمع إفادة في التفسير.
وبعد.. فإن النتيجة التي تظهر من هذه الأمثلة: أن كل ما قيل فيه: إنه تفسير قرآن بقرآن، إذا لم يتحقق فيه معنى البيان عن شيء في الآية بآية أخرى، فإنه ليس تعبيرًا مطابقًا لهذا المصطلح، بل هو من التوسع الذي يكون في تطبيقات المصطلح.
تفسير القرآن بالقرآن عند المفسرين:
ظهر مما سبق أن مصطلح [تفسير القرآن بالقرآن] قد استُعمل بتوسع في تطبيقاته، ويبرز هذا من استقراء تفاسير المفسرين، خاصة من نصّ على هذا المصطلح أو إشار إليه في تفسيره؛ كابن كثير [ت: 774ه]، والأمير الصنعاني [ت: 1182ه]، والشنقيطي [ت: 1393ه].
ويبدو أن كل استفادة من آيات القرآن؛ كالاستشهاد أو الاستدلال بها يكون داخلًا ضمن تفسير القرآن بالقرآن.
ومن أمثلة ذلك ما ذكره الصنعاني في تفسير قوله تعالى: ?لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ? [الشعراء: 3] حيث قال: «أي قاتلها لعدم إيمان قومك».
تكرر هذا المعنى في القرآن في مواضع: ?وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ? [الحجر: 88] وفي الكهف: ?فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الحَدِيثِ أَسَف? [الكهف: 6]. وفي فاطر: ?فَلاتَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ? [فاطر: 8]. ونحوه: ?إن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَن يُضِلّ? [النحل: 37]. ونحو ذلك مما هو دليل على شفقته على الأمة، ومحبته لإسلامهم، وشدة حرصه على هدايتهم مع تصريح الله له بأنه ليس عليه إلا البلاغ [8].
ويمكن القول: إنه ليس هناك ضابط يضبط المصطلح المتوسع بحيث يمكن أن يقال: هذا يدخل في تفسير القرآن بالقرآن، وهذا لا يدخل فيه؛ ولذا يمكن اعتبار كتب [متشابه القرآن][9]، وكتب [الوجوه والنظائر] من كتب تفسير القرآن بالقرآن بسبب التوسع في المصطلح.
فكتب [متشابه القرآن] توازن بين آيتين متشابهتين أو أكثر، وقد يقع الخلاف بينهما في حرف أو كلمة، فيبين المفسر سبب ذلك الاختلاف.
وكتب [الوجوه والنظائر] تبيّن معنى اللفظ في عدة آيات، وتذكر وجه الفرق فيها في كل موضع.
* المفسرون المعتنون بهذا المصدر:
إنَّ مراجعة روايات التفسير المروية عن السلف تدل على أن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم [ت: 182ه] كان من أكثر السلف اعتناءً بتفسير القرآن بالقرآن.
ومن أمثلة ذلك ما رواه عنه الطبري [ت: 310ه] بسنده في تفسير قوله تعالى: ?وَالْبَحْرِ المَسْجُورِ? [الطور: 6] قال: «الموقَد، وقرأ قول الله تعالى: ?وَإذَا البِحَارُ سُجِّرَتْ? [التكوير: 6] قال: أُوقِدَتْ»[10].
أما كتب التفسير، فإن من أبرز من اعتنى به ثلاثة من المفسرين هم:
[1] الحافظ ابن كثير [ت: 774ه] في كتابه [تفسير القرآن العظيم].
[2] الأمير الصنعاني [ت: 1182ه] في كتابه: [مفاتح الرضوان في تفسير الذكر بالآثار والقرآن].
[3] الشيخ محمد الأمين الشنقيطي [ت1393ه] في كتابه: [أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن][11].
* بيان بعض الأمثلة التي تدخل في المصطلَحَين:
سبق البيان عن مصطلح [تفسير القرآن بالقرآن]، وأنه ينقسم إلى نوعين:
الأول: ما يعتمد على البيان، والمراد أن وقوع البيان عن آية بآية أخرى يُعَدّ تعبيرًا دقيقًا عن هذا المصطلح.
الثاني: ما لم يكن فيه بيان عن آية بآية أخرى، وهو بهذا مصطلح مفتوح، يشمل أمثلة كثيرة.
وقد مضى أن هذا التوسع هو الموجود في كتب التفسير، وأنها قد سارت عليه، وفي هذه الفِقْرة سأطرح محاولة اجتهادية لفرز بعض أمثلة هذا المصطلح.
أولًا: الأمثلة التي يَصْدُقُ إدخالها في المصطلح المطابق:
يمكن أن يدخل في هذا المصطلح ما يلي:
1- الآية المخصصة لآية عامة:
ورد لفظ الظلم عامًا في قوله تعالى: ?الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ? [الأنعام: 82]. وقد خصّه الرسول صلى الله عليه وسلم بالشرك، واستدل له بقوله تعالى: ?إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ? [لقمان: 13].(/2)
ـ وفي قوله تعالى: ?وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَ? [الإسراء: 24].عموم يشمل كل أبٍ: مسلم وكافر، وهو مخصوص بقوله تعالى: ?مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى? [التوبة: 113].فخرج بهذا الاستغفار للأبوين الكافرين، وظهر أن المراد بها الأبوان المؤمنان[12].
2- الآية المبيّنة لآية مجملة:
ـ أجمل الله القدر الذي ينبغي إنْفَاقُهُ في قوله تعالى: ?وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ? [البقرة: 3]، وبين في مواضع أخر: أن القدر الذي ينبغي إنفاقه هو الزائد عن الحاجة وسدّ حاجة الخَلّة التي لابد منه، وذلك كقوله: ?وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العَفْوَ? [البقرة: 219] والمراد بالعفو: الزائد على قدر الحاجة التي لابدّ منه، على أصحّ التفسيرات، وهو مذهب الجمهور...[13].
ـ وفي قوله تعالى: ?أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ? [المائدة: 1]، إجمال في المتلو، وقد بيّنه قوله تعالى: ?حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ? [المائدة: 3].
3- الآية المقيدة لآية مطلقة:
ـ أطلق الله استغفار الملائكة لمن في الأرض، كما في قوله تعالى: ?وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُون لِمَن فِي الأَرْضِ? [الشورى: 5] ، وقد قيّد هذا الإطلاق بالمؤمنين في قوله تعالى: ?الَّذِينَ يَحْمِلُونَ العَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُو? [ غافر: 7].
ـ وفي قوله تعالى: ?إنَّ الَذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ? [آل عمران: 90]، إطلاق في عدم قبول التوبة، وهو مقيّد في قول بعض العلماء بأنه إذا أخّروا التوبة إلى حضور الموت، ودليل التقييد قوله تعالى: ?وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ المَوْتُ قَالَ إنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ? [النساء: 14].
4- تفسير لفظة غريبة في آية بلفظة أشهر منها في آية أخرى:
ورد لفظ »سِجّيل« في قوله تعالى: ?وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ? [هود: 82]، والممطر عليهم هم قوم لوط [عليه الصلاة والسلام]، وقد وردت القصة في الذاريات وبان أن المراد بالسجيل: الطين، في قوله تعالى: ?قَالُوا إنَّا أُرْسِلْنَا إلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ*لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ? [الذاريات: 32، 33][15].
5- تفسير معنى آية بآية أخرى:
التسوية في قوله تعالى: ?يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ? [النساء: 42]، يراد بها: أن يكونوا كالتراب، والمعنى: يودّون لو جُعِلوا والأرض سواءً، ويوضح هذا المعنى قوله تعالى: ?وَيَقُولُ الكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَاب? [النبأ: 40][16].
ثانيًا: أمثلة للمصطلح المتوسع:
يمكن أن يدخل في هذا النوع كل آية قرنت بأخرى على سبيل التفسير، وإن لم يكن في الآية ما يشكل فتُبَيّنُهُ الآية الأخرى، ومن أمثلته ما يلي:
1- الجمع بين ما يُتوهم أنه مختلف:
سبق مثال في ذلك، وهو: مراحل خلق آدم[17]، ومن أمثلته عصا موسى [عليه الصلاة والسلام]؛ حيث وصفها مرة بأنها ?حَيَّةٌ تَسْعَى? [طه: 20]، ومرة بأنها ?تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانّ? [النمل: 10]، ومرة بأنها ?ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ? [الأعراف: 107]، فاختلف الوصف والحدث واحد، وقد جمع المفسرون بين هذه الآيات: أن الله [سبحانه] جعل عصا موسى كالحية في سعيه، وكالثعبان في عِظَمه، وكالجان [وهو: صغار الحيّات] في خِفّتِه[18].
2- تتميم أحداث القصة:
إذا تكرر عرض قصة ما في القرآن فإنها لا تتكرر بنفس أحداثه، بل قد يزاد فيها أو ينقص في الموضع الآخر، ويَعْمَدُ بعض المفسرين إلى ذكر أحداث القصة متكاملة كما عرضها القرآن في المواضع المختلفة، ومثال ذلك:
قوله -تعالى-: ?إذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَن يَكْفُلُهُ? [طه: 40]، حيث ورد في سورة القصص ثلاثة أمور غير واردة في هذه الآية، وهي:
1- أنها مرسلة من قبل أمها.
2- أنها أبصرته من بُعدٍ وهم لا يشعرون.
3- أن الله حرّم عليه المراضع.
وذلك في قوله -تعالى-: ?وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [11] وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ المَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ? [القصص: 11، 12][19].(/3)
3- جمع الآيات المتشابهة في موضوعها:
قال الشنقيطي في قوله -تعالى-: ?قَدْ نَعْلَمُ إنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَذِي يَقُولُونَ? [الأنعام: 33].
قال: »صرح -تعالى- في هذه الآية الكريمة بأنه يعلم أن رسوله يَحْزُنُه ما يقوله الكفار في تكذيبه، وقد نهاه عن هذا الحزن المفرط في مواضع أخرى كقوله: ?فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَات? [ فاطر: 8]، وقوله: ?فَلا تَأْسَ عَلَى القَوْمِ الكَافِرِينَ? [المائدة: 68]، وقوله: ?فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الحَدِيثِ أَسَف? [الكهف: 6]، وقوله: ?لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ? [الشعراء: 3].
والباخع: المهلك نفسه...إلخ[21].
4- جمع موارد اللفظة القرآنية:
قد يورد المفَسّر »وصفًا« وُصف به شيء، ثم يذكر الأشياء الأخرى التي وصفت به، أو يعمد إلى لفظة فيذكر أماكن وروده، ومن أمثلة الأول:
* قال: الأمير الصنعاني: والبقعة مباركة [لم][21] وصفها الله لما أفاض -تعالى- [فيه][22] من بركة الوحي وكلام الكليم فيها.
كما وصف أرض الشام بالبركة، حيث قال: ?وَنَجَّيْنَاهُ? أي: إبراهيم ?وَلُوطًا إلَى الأَرْضِ الَتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ? [الأنبياء: 71]
ووصف بيته العتيق بالبركة في قوله: ?إنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ? [ال عمران: 96].
ووصف شجرة الزيت بالبركة في قوله: ?شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ? [النور: 35][23].
* ومن أمثلة الثاني قوله: وسمّى الله كتابه هدى في آيات: ?ذَلِكَ الكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ? [البقرة: 2]، ?إنَّ هَذَا القُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ? [الإسراء: 9]، ?قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ? [ فصلت: 44]، وفي لقمان: ?هُدًى وَرَحْمَةً لِّلْمُحْسِنِينَ? [لقمان: 3]، وفي النحل: ?تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ? [النحل: 89]، فهو هدى وبشرى للمسلمين والمحسنين، وفي يونس: ?يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ? [يونس: 57][24].
طريقة الوصول إلى تفسير القرآن بالقرآن:
التفسير إما أن يكون طريقه النقل، وإما أن يكون طريقه الاستدلال.
والأول: يطلق عليه [التفسير المأثور]،
والثاني: يطلق عليه [التفسير بالرأي].
ومن هنا فإن تصنيف [تفسير القرآن بالقرآن]، في أحدهما يكون بالنظر إلى القائل به أول، لا إلى طريقة وصوله إلى ما بعد القائل؛ لأن ذلك طريقهُ الأثر.
وتفسير القرآن بالقرآن ينسب إلى الذي فسّر به، فالمفَسّر هو الذي عَمَدَ -اجتهادًا منه- إلى الربط بين آية وآية، وجعل إحداهما تفسر الآخرى.
وبهذا فإن طريق الوصول إليه هو الرأي والاستنباط، وعليه فإنه لا يلزم قبول كل قول يرى أن هذه الآية تفسر هذه الآية؛ لأن هذا الاجتهاد قد يكون غير صواب.
كما أنه إذا ورد تفسير القرآن بالقرآن عن مفسر مشهور معتمد عليه فإنه يدلّ على علو ذلك الاجتهاد؛ لأنه من ذلك المفسر.
فورود التفسير به عن عمر بن الخطاب أقوى من وروده عن من بعده من التابعين وغيرهم، وهكذا.
حُجّيّةُ تَفْسير القرآن بالقرآن:
كلما كان تفسير القرآن بالقرآن صحيح، فإنه يكون أبلغ التفاسير، ولذا: فإن ورُود تفسير القرآن بالقرآن عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أبلغ من وروده عن غيره؛ لأن ما صح مما ورد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- مَحَلّهُ القبول.
بيد أن قبوله لم يكن لأنه تفسير قرآن بقرآن، بل لأن المفسّر به هو النبي -صلى الله عليه وسلم-.
ومن أمثلة تفسيره القرآن بالقرآن ما رواه ابن مسعود: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: [مفاتح الغيب][26] خمسٌ، ?إنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ? [لقمان: 34][26].
أما ورود تفسير القرآن بالقرآن عن غير الرسول فإنه قد قيل باجتهاد المفسر، والاجتهاد معرض للخطأ.
وبهذا لا يمكن القول بحجيّة تفسير القرآن بالقرآن مطلق، بحيث يجب قبوله ممن هو دون النبي -صلى الله عليه وسلم-، بل هو مقيد بأن يكون ضمن الأنواع التي يجب الأخذ بها في التفسير[27].
هذا .. وقد سبق البيان أن تفسير القرآن بالقرآن يكون أبلغ التفاسير إذا كان المفسّرُ به من كبار المفسرين من الصحابة ومن بعدهم من التابعين.
وأخيرًا:(/4)
فإن كون تفسير القرآن بالقرآن من التفسير بالرأي، لا يعني صعوبة الوصول إليه في كل حالٍ، بل قد يوجد من الآيات ما تفسّر غيرها ـ ولا يكاد يختلف في تفسيرها اثنان، مثل تفسير "الطارق" في قوله -تعالى-: ?وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ? [الطارق: 1] بأنه يُفسر بقوله -تعالى-: ?النَّجْمُ الثَّاقِبُ? [الطارق: 3]، ومثل هذا كثيرٌ في القرآن، والله أعلم.
ـــ
[1] مقدمة في أصول التفسير، [ت: د. عدنان زرزور]، ص93 وما بعدها.
[2] انظر: البرهان في علوم القرآن، جـ2، ص156-164.
[3] شيخ الإسلام ابن تيمية في مقدمته في [أصول التفسير]، [ت: عدنان زرزور]، ص93.
[4] ابن القيم في [التبيان في أقسام القرآن]، [ت: طه شاهين]، ص116.
[5] رواه الإمام البخاري، انظر: فتح الباري [ط: الريان]، جـ6، ص448، ح3360.
[6] أضواء البيان، جـ1، ص87.
[7] التفسير والمفسرون، جـ1، ص42.
[8] مفاتح الرضوان في تفسير الذكر بالآثار والقرآن، للأمير الصنعاني، تحقيق عبد الله بن سوفان الزهراني [رسالة ماجستير، على الآلة الكاتبة] ص71،72، وانظر: الأمثلة التي سبق نقلها عن الشنقيطي ومحمد حسين الذهبي.
[9] تنقسم الكتابة في متشابه القرآن إلى قسمين:
الأول: ما يتعلق بالمواضع التي يقع فيها الخطأ في الحفظ لتشابهه، وهذه الكتب تخص القراء.
الثاني: ما يتعلق بالخلاف في التفسير بين الآيات المتشابهة، وهذا المقصود هن، ككتاب [البرهان في متشابه القرآن] للكرماني وغيره.
[10] تفسير الطبري، جـ27، ص19، وانظر له في الجزء نفسه ص22، 37، 38، 61، 69 ، 74، 76، 92، 113، 120، وفي الجزء نفسه عن علي ص18، وابن عباس، ص55، 72، وعكرمة، ص72.
[11] يمكن أن يستنبط من هذا الموضوع دراسات علمية مقترحة، وهي كالتالي:
1- جمع مرويات السلف في [تفسير القرآن بالقرآن] ودراستها؛ لإبراز طرق استفادة السلف من القرآن ومنهجهم في ذلك.
2- دراسة منهج تفسير القرآن بالقرآن عند ابن كثير والصنعاني والشنقيطي، وطرق إفادتهم من القرآن في التفسير، مع بيان الفرق بينهم في هذا الموضوع.
[12] انظر: تفسير الطبري، جـ15، ص6768، والتحرير والتنوير، جـ15، ص72.
[13] انظر: أضواء البيان، جـ1، ص107،108.
أضواء البيان جـ1 ص 343.
[14] انظر: أضواء البيان، جـ1، ص343.
[15] انظر: أضواء البيان، جـ1، ص86.
[16] انظر: تفسير الطبري، جـ5، ص93، والحجة للقراءات السبعة لأبي علي الفارسي، جـ1، ص246.
[17] انظر: ص4 من المجلة نفسها.
[18] انظر: أنموذج جليل في أسئلة وأجوبة من غرائب آي التنزيل، للرازي ص327، وكشف المعاني في المتشابه من المثاني، ص282،283، وتيجان البيان في مشكلات القرآن، للخطيب العمري، ص173.
[19] انظر: أضواء البيان، جـ4، ص408.
[20] أضواء البيان، جـ2، ص189، وانظر:مفاتح الرضوان للأمير الصنعاني، ص71،72.
[21] كذا في الأصل وانظر: حاشية 2، ص194 من التحقيق، حيث قال المحقق: والصواب [كم].
[22] الصواب [فيه] انظر: حاشية 7، ص194، من التحقيق.
[23] مفاتح الرضوان في تفسير الذكر بالآثار والقرآن، ص194.
[24] المصدر السابق، ص188،189.
[25] وردت في قوله -تعالى-: ?وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إلاَّ هُوَ? [الأنعام: 59].
[26] رواه البخاري، انظر: فتح الباري، جـ8، ص141.
[27] سبق أن طرحتها في مجلة البيان، ع76، ص15.
ثلاث مسائل متممة للحديث عن التفسير بالسنة:
المسألة الأولى: التفسير بالسنة عند المحدّثين:
يورد المحدثون التفسير النبوي والتفسير بالسنة في كتبهم تحت كتاب يعنونونه ب (كتاب التفسير).
وممَّن كتب في هذا الباب: الإمام البخاري في صحيحه، والنسائي في سننه الكبرى، والترمذي في سننه، والحاكم في مستدركه(1).
وما أريد إبرازه هنا أمران:
الأول: أن استعمالهم للتفسير بالسنة كثير.
الثاني: أن ربطهم معنى الحديث بالآية وذكر ذلك تحت آية من الآيات التي يعنونون بها الأبواب هو اجتهاد خاص بهم، مما يعني أنهم شاركوا في هذا الجانب من التفسير.
وقد كان هؤلاء المحدّثون يحرصون على إيراد مايصلح من كلام النبي -صلى الله عليه وسلم- تفسيراً لآية، ولو من طرف خفي.
بل كانوا يذهبون إلى أبعد من ذلك، حيث يوردون مايتعلق بالآية من الأحاديث لأي سبب كان؛ كذكر بعض لفظ الآية في الحديث أو ذكر قراءة الرسول -صلى الله عليه وسلم- لتلك الآية في زمن مخصوص، أو غير ذلك من الأسباب، وهذا يدل على مدى حرصهم واهتمامهم بربط الآية بما يتعلق بها من الحديث النبوي، وإن لم يكن جائياً في مساق التفسير، وقد أشار إلى هذا بعض شراح صحيح الإمام البخاري، ومنهم:
1- أبو مسعود الكنهكوهي (ت: 1323)، قال: ثم الذي ينبغي التنبه له: أن التفسير عند هؤلاء الكرام أعمّ من أن يكون شرح كلمة، أو بيان مايُقرأ بعد تمام سورة، ولا أقّل من أن يكون لفظ القرآن وارداً في الحديث.(/5)
وكون الأمور المتقدمة من التفسير ظاهر(2)، وإنما الخفاء في هذا الأخير والنكتة فيه: أن لفظ الحديث يفسر لفظ القرآن بحيث يُعلم منه أن المراد في الموضعين واحد، وكثيرا مايُكشف معنى اللفظ بوقوعه في قصة وكلام لايتضح مراده لو وقع هذا اللفظ في غير تلك القصة؛ فإذا لاحظ الرجل الآية والرواية معا كانت له مُكنة على تحصيل المعنى(3).
2- وقال (صاحب الفيض): «ثم اعلم أنَّ تفسير المصنف (أي: البخاري) ليس على شاكلة تفسير المتأخرين في كشف المغلقات، وتقرير المسائل، بل قصد فيه إخراج حديث مناسب متعلق به ولو بوجه»(4).
وبهذا يتلخص أن المحدّثين يوردون من كلام الرسول -صلى الله عليه وسلم- ما يصلح أن يكون تفسيرا، كما يوردون ما يتعلق بالآية من كلامه أوفعله لأدنى سبب.
ومن أمثلة الأول (ما يصلح من كلامه تفسير):
1- ترجم البخاري في باب: ذكر إدريس -عليه السلام- بقوله -تعالى-: ?ورفعناه مكانْا علي? [مريم: 57] ثم روى تحت هذا الباب حديث المعراج، وفيه أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- وجد في السموات إدريس وموسى وعيسى....)
2- وذكر النسائي تحت قوله -تعالى-: ?فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ?[ النساء: 140] حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (ويلٌ للذي يحدث القوم فيكذب، فيضحك به القوم، ويلٌ له، ويلٌ له)(6).
3- وذكر الترمذي في تفسير قوله -تعالى-: ?فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ? [السجدة: 17] حديث المغيرة بن شعبة، يرفعه إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، يقول: (إن موسى عليه السلام سأل ربه، فقال: أي رب، أي أهل الجنة أدنى منزلة؟ قال: رجل يأتي بعدما يدخل أهل الجنة الجنة، فيقال له: أدخل الجنة.
فيقول: كيف أدخل الجنة وقد نزلوا منازلهم، وأخذوا أخذاتهم، قال: فيقال له: أترضى أن يكون لك ما كان لملك من ملوك الدنيا؟
فيقول: نعم، أي ربّ، قد رضيت. فيقال له: فإن لك هذا، ومثله، فيقول رضيت أَيْ ربّ.
فيقال له: فإن لك هذا، وعشرة أمثاله. فيقول: رضيت أي ربّ، فيقال له: فإن لك مع هذا ما اشتهت نفسك، ولذت عينك)(7).
ومن أمثلة الثاني (مايكون لأدنى سبب):
1- ماذكره البخاري تحت باب ?وهوألد الخصام? [البقرة: 204]، من حديث عائشة (رضي الله عنه)، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (أبغضُ الرجال إلى الله الألد الخَصِم)(8).
2- وتحت تفسير قوله -تعالى-: ?قالوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأََنَّنَا مُسْلِمُونَ? [المائدة: 111] أورد النسائي أثر ابن عباس: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يقرأ في ركعتي الفجر: في الأولى منهما إلى قوله: ?قولوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إلَيْنَ? [البقرة: 136] إلى آخر الآية، وفي الأخرى ?قالوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأََنَّنَا مُسْلِمُونَ? [المائدة:111](9).
المسألة الثانية: نظرة وصفية لأمثلة التفسير النبوي:
من خلال إلقاء نظرة سريعة على الوارد من التفسير النبوي يمكن فهرسة الأمثلة تحت عناوين كالتالي:
1- بيان معنى لفظة:
إن المتأمل في ما نقله الصحابة عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- يلاحظ أنهم لم يوردوا عنه تفسيراً للألفاظ، ويظهر والله أعلم أن ذلك بسبب معرفتهم المعاني اللغوية؛ لأنهم عرب يفهمون معاني الخطاب، ولو ورد لهم استشكال في فهم ألفاظه أو مدلولاته اللغوية لسألوا عنها، ومما يدل على ذلك حديث ابن مسعود في نزول آية: ?الذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُم بِظُلْمٍ? [الأنعام: 82] فهم فهموا الظلم بمعناه العام في لغتهم -أي: أنهم استشكلوا مدلول لفظة: الظلم- فشق عليهم هذا الخطاب حتى بينه لهم رسول الله.
إذن .. لم يكن الصحابة بحاجة إلى بيان المفردات اللغوية، ولذا لم يرد في التفسير النبوي إلا نادراً، ومنه ماجاء عن أبي سعيد الخدري من تفسير الرسول -صلى الله عليه وسلم- للفظة (وسط) من قوله -تعالى-:-?وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَط? [البقرة: 143] قال (والوسط العدل) (10).
2- بيان حكم فقهي في الآية:
قد يرد الحكم في آية مطلقا فيذكر الرسول -صلى الله عليه وسلم- مزيد بيان له، وذلك إما بتحديد مقدار الحكم الفقهي، أو تخصيص اللفظ العام أو غير ذلك.
ومن تحديد المقدار: مارواه البخاري في تفسير قوله -تعالى-: ?فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أََوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّاًسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أوْ صَدَقَةٍ أََوْ نُسُكٍ? [البقرة: 196] عن كعب بن عجرة قال: حملت إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- والقمل يتناثر على وجهي، فقال: ماكنت أرى أن الجهد قد بلغ بك هذا، أما تجد شاه؟
قلت: لا
قال: صم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين؛ لكل مسكين نصف صاع من طعام واحلق رأسك) فنزلت فيّ خاصة، وهي لكم عامة(11).(/6)
فأنت ترى أن البيان القرآني لم يحدد المقدار في الفدية، فلما فسر الرسول -صلى الله عليه وسلم- فسرها بالمقدار، وأنت تعلم أن هذا أحد أنواع بيان السنة للقرآن.
ومن تخصيص العام في الحكم الفقهي، مارواه مسلم عن أنس قال: كانت اليهود إذا حاضت المرأة لم يؤاكلوها ولم يجامعوهن في البيوت، فسأل أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، فأنزل الله (عز وجل) ?يَسْأَلُونَكَ عَنِ المَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي المَحِيضِ? [البقرة: 222] إلى آخر الآية، فقال رسول الله: (اصنعوا كل شيء إلا النكاح)(12).
فلو أُخذ بظاهر العموم في قوله (فاعتزلو) لفهم أن اعتزال المرأة عام: في مؤاكلتها ومشاربتها ومخالطتها ومجامعتها، فكان هذا البيان النبوي مخصصا لذلك العموم القرآني.
3- بيان المشكل:
إنما يعرف المشكل بسؤال الصحابة عنه؛ لأن السؤال لايقع إلا بعد استشكال في الغالب ومن أمثلة ماسأل عنه الصحابة: حياة الشهداء.
قال مسروق: سألنا عبد الله عن هذه الآية: ?ولا تَحْسَبَنَّ الَذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ? [آل عمران: 169] فقال: أما إنا قد سألنا عن ذلك، فأخبرنا أن أرواحهم في جوف طير خضرٍ، لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل..) الحديث (13).
وعن المغيرة بن شعبة -رضى الله عنه- قال: لما قدمتُ نجران سألوني: إنكم تقرؤون: ?ياأخت هارون? [مريم: 28] وموسى قبل عيسى بكذا وكذا.
فلما قدمت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سألته عن ذلك فقال: إنهم كانوا يسمون بأسماء أنبيائهم والصالحين قبلهم) (14).
4- ذكر مصداق كلامه من القرآن:
ورد في تفسير النبي -صلى الله عليه وسلم- أحاديث كثيرة يذكر فيها مصداق كلامه من القرآن، وتأتي عبارات: (ثم قر) (اقرؤا إن شئتم) (مصداق ذلك من كتاب الله)، ومن ذلك مارواه ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: (من اقتطع مال امرئ مسلم بيمين كاذبة لقي الله وهو عليه غضبان، وقال عبد الله: ثم قرأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مصداق ذلك من كتاب الله جل ذكره: ?إنَّ الَذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ..? [آل عمران: 77](15).
5- بيان مبهم:
القاعدة الغالبة أن ما أبهمه القرآن فلا فائدة عملية تنال من ذكره، ومع ذلك فإنه ورد سؤال الصحابة عن ذلك، إلا أنه نادر، ومن ذلك ما رواه مسلم عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، قال: مرّ بي عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري، قال: قلت له: كيف سمعت أباك يذكر المسجد الذي أسس على التقوى؟.
قال: قال أبي: دخلت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بيت بعض نسائه، فقلت: يارسول الله، أي المسجدين الذي أسس على التقوى؟
قال: فأخذ كفاً من حصباء فضرب به الأرض، ثم قال: هو مسجدكم هذا؛ لمسجد المدينة.
قال: فقلت: أشهد أني سمعت أباك هكذا يذكره)(16).
أخيراً..
هذه بعض الأمثلة للتفسير النبوي، والموضوع يحتاج إلى جمع وتأمل لتحديد نوع المثال، مما يفيد في معرفة ماكان يحتاجه الصحابة من البيان النبوي للقرآن، ولعل أقرب ما يذكر هنا هو ندرة ماورد عنه صلى الله عليه وسلم من بيان معنى غريب القرآن؛ مما يترتب عليه أن فهم عربية القرآن كان موكولًا للصحابة (رضي الله عنهم)، والله أعلم.
المسألة الثالثة: ما يستفاد من التفسير النبوي في أصول التفسير:
إن النظر في التفسير النبوي، واستنطاق الأمثلة التفسيرية فيه يفيد في جوانب عدة، ومما يفيده هنا أن طريقة التفسير النبوي أصل معتمد في التفسير، فإذا ورد عنه تعميم للفظ، أو تفسير بمثاٍل، أو غير ذلك، حُكِم بصحة هذه الأساليب التفسيرية في التفسير، وأنها في المجال الذي يمكن الاقتداء به ولاقياس عليه.
كما أنه يفيد في بيان صحة بعض الأساليب التي اعتمدها المفسرون من السلف.
ثم إن هذا يفيد في تصحيح بعض مرويات السلف التي جاءت مخالفة للعبارة النبوية في التفسير، ذلك أن تحرير هذه الأساليب في التفسير النبوي يبين مدى احتمال النص لغير عبارة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وفيما أظن حسب علمي أن (فِقهَ النصّ التفسيري) من التفسير النبوي لم يلق عناية من هذا الجانب، ولذا قمت بهذه المحاولة الاجتهادية لبيان هذه الفكرة من خلال أمثلة توضح ذلك.
إن مثل هذه الدراسة السريعة لا تكفي في تأصيل قضية كهذه، ولكنه جهد المقل، وبذرة ألقيها لتجد طريقها إلى النماء إن شاء الله وإليك أخي القارئ عرض الأمثلة:
* المثال الأول:
عن عقبة بن عامر -رضي الله عنه- قال: (سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو على المنبر يقول: ?وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةُ? [الأنفال: 60] ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي)(17).
وجاء عن جمع من السلف ما يلي:(/7)
1- لقوة: الرمي من القوة (مكحول).
2- لقوة: الرمي والسيوف والسلاح (ابن عباس)
3- مرهم بإعداد الخيل (عبّاد بن عبد الله ابن الزبير)
4- لقوة: ذكور الخيل (عكرمة ومجاهد) .
5- لقوة: الفرس إلى السهم ومادونه (سعيد بن المسيب) (18).
لقد فسر الرسول -صلى الله عليه وسلم- القوة بالرمي، فهل يُطّرح ماورد عن السلف من عبارات مخالفة لما جاء عنه -صلى الله عليه وسلم-، ويقال: مادام النص قد ثبت طاح ما دونه.
أم يقال: إن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أراد أن يشير إلى القوة التي هي أنكى أنواع القوة، وأشدها تأثيراً في الحرب؟.
الذي يظهر والله أعلم أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أراد هذا، وقد أشار إلى ذلك الإمام الطبري فقال: (والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله أمر المؤمنين بإعداد الجهاد وآلة الحرب، ومايتقوون به على جهاد عدوه وعدوهم من المشركين من السلاح والرمي، وغير ذلك، ورباط الخيل.
ولا وجه لأن يقال: عنى بالقوة معنى من معاني القوة، وقد عمّ الله الأمر بها.
فإن قال قائل: فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد بين أن ذلك مراداً به الخصوص؛ بقوله: (ألا إن القوة الرمي). قيل له: إن الخبر وإن كان قد جاء بذلك، فليس في الخبر مايدل على أنه مراد به الرمي خاصة دون سائر معاني القوة عليهم، فإن الرمي أحد معاني القوة؛ لأنه إنما قيل في الخبر: (ألا إن القوة الرمي) ولم يقل: دون غيرها.
ومن القوة أيضا: السيف والرمح والحربة، وكل ماكان معونة على قتال المشركين، كمعونة الرمي، أو أبلغ من الرمي فيهم وفي النكاية منهم. هذا مع وهاء سند الخبر بذلك عن رسول الله)(19).
وبهذا يمكن القول أنه لما لم يكن في تفسير الرسول -صلى الله عليه وسلم- مايدل على التخصيص، دل ذلك على أن مراده التمثيل، ولما مثل للقوة ذكر أعلى القوة وأشدها.
وإذا كان ذلك كذلك فإن روايات السلف لاتكون معارضة للتفسير النبوي، ولذا يصح قبولها والتفسير بها؛ لأنها تدخل في عموم القوة.
ونتيجة القول: أن التفسير بالمثال أسلوب صحيح في التفسير؛ لأنه وارد عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- في مثل هذا الحديث، والله أعلم
* المثال الثاني:
عن ابن عمر -رضي الله عنهم- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: مفاتح الغيب خمس: ?إنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ? [لقمان: 34](.2).
في هذا المثال تجد أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فسر (مفاتح الغيب) في قوله تعالى: ?وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إلاَّ هُوَ...? [الأنعام: 59] بآية لقمان: ?إنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ...? [لقمان: 34].
ويمكن القول: إن تفسير القرآن بالقرآن مسلك صحيح من مسالك التفسير بناء على هذا المثال.
ولعلك تقول: إن هذا المسلك واضح ومعروف مشهور.
فأقول لك: إن المراد هنا تأصيله بوروده عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، إذ في وروده عنه ماينبه إلى استعمال هذا المسلك.
ومما يدل على ذلك أن الصحابة لما استشكلوا قوله -تعالى-: ?الذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ? [الأنعام: 82] قال لهم: إنه ليس بذاك ألا تسمعُ إلى قول لقمان لابنه: ?إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ? [لقمان: 13](21).
فكأنه -صلى الله عليه وسلم- يرشدهم إلى هذا المسلك بقوله: (ألا تسمع)، وكان يمكن إجابتهم وحل إشكالهم بدون الإشارة إلى الآية والله أعلم.
وأخيراً..
إذا كان يمكن استنباط بعض الأساليب التفسيرية في التفسير النبوي والقياس عليها، فإن هناك مالايقاس عليه، ومنه:
أولاً: أن يكون التفسير في بيان حكم شرعي:
عن أنس بن مالك قال: (كانت اليهود إذا حاضت المرأة منهم لم يؤاكلوها، ولم يجامعوهن في البيوت. فسأل أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، فأنزل الله عز وجل ?ويَسْأَلُونَكَ عَنِ المَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي المَحِيضِ?[البقرة: 222].
فقال رسول الله : اصنعوا كل شيء إلا النكاح)(22).
إنَّ قول الله -تعالى-: ?فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي المَحِيضِ? لفظ عام، ويمكن أن يفهم منه اعتزال النساء في المؤاكلة والمنام والبيوت، فذكر الرسول -صلى الله عليه وسلم- ما يدل على تخصيص الاعتزال بالمجامعة دون غيرها من المعاشرة.
ثانيا: أن يكون التفسير لبيان أمر غيبي:
عن مسروق قال: سألنا عبد الله بن مسعود عن هذا الآية ?ولا تَحْسَبَنَّ الَذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ? [ال عمران: 169]. فقال:
أما إنا قد سألنا عن ذلك، فقال: أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش، تسر ح من الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى تلك القناديل)(23).(/8)
إن صفة حياة هؤلاء الشهداء لايمكن إدراكها إلا عن سماع من النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولذا سأل الصحابة عن هذه الحياة الخاصة بالشهداء.
إنه في مثل هذين المثالين لايمكن استنباط (أسلوب تفسيري) لأن المجال في هذا ليس مفتوحا بحيث يمكن الاستنباط منه، بل هو محدد لبيان حكم شرعي أو أمر غيبي، ولذا يقف المفسر عند النص ولايمكنه تجاوزه، ليستفيد منه في نص آخر يقيسه عليه.
ــــــ
(1) كان ابن كثير من أكثر المفسرين تأثرا بهذا المنهج الذي عند المحدثين.
(2) ماذكره من قوله: (بيان مايقرأ بعد تمام سورة) ظاهر أنه ليس من التفسير، فتأمل.
(3) لامع الدراري: 9/45.
(4) انظر: لامع الدراري: 9/4 (حاشية رقم[1]).
(5) انظر: فتح الباري 6/431.
(6) السنن الكبرى 6/ 329
(7) سنن الترمذي 5/347.
(8) انظر: فتح الباري 8/36 ومثله النسائي في السنن الكبرى 1/301
(9) السنن الكبرى للنسائي 6/339.
(10) رواه البخاري (فتح الباري 8/21).
(11) رواه البخاري (فتح الباري 8/34).
(12) رواه مسلم ح/رقم 302.
(13) أخرجه مسلم ح/ 1887.
(14) رواه مسلم ح/2135.
(15) رواه البخاري.
(16) رواه مسلم ح/1398.
(17) رواه الإمام مسلم ح/1917.
(18) انظر: الدر المنثور: 4/83 ومابعدها.
(19) تفسير الطبري ط: شاكر (14/37). وما ذكر الطبري من وهاء السند؛ لأنه رواه من طريق ابن لهيعة (14/3) ولذا ضعفه فيما يظهر ولم يكن عنده له إسناد آخر، والحديث كما علمت رواه مسلم وغيره، فلا شك في صحته.
(20) رواه البخاري في مواضع من صحيحه فتح الباري 8/141 ومن الطريف في تفسير القرآن بالقرآن عند النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه فسر آيتين من سورة الأنعام بآيتين من سورة لقمان ).
(21) رواه البخاري في مواضع من صحيحه (فتح الباري 8/372).
(22) رواه مسلم برقم 302.
(23) رواه مسلم برقم 1887.(/9)
مصادر العلم في الإسلام
تعريف العلم - أقسام العلم - العلم واليقين - تفاوت درجات - العلم - مصادر العلم - ما ليس من مصادر العلم - تنبيهات
انطلاقاً ممن سبق من تعريف الإسلام فعلى كل إنسان عاقل الإيمان بما أمر الله تعالى بالإيمان به ، قال عز وجل { فاعلم أنه لا إله إلا الله} (محمد:19). ولما كان الإنسان يولد خالي الذهن من المعارف والمعلومات كان من الطبيعي أن يكتسب معلوماته من أسباب ومصادر عديدة ليكون العلم من بعدها ركيزة العقيدة والإيمان قال تعالى { والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً} [النحل :78] .
تعريف العلم : يطلق مصطلح العلم لدى علماء المسلمين ويراد به : إدراك لنفس الأشياء والمعلومات على حقائقها التي هي عليها في نفس الأمر .
ويظهر من هذا التعريف شمول مصطلح العلم لكل معلوم مُدْرَكٍ حصل للنفس إدراكه على حقيقته ، ولا يقتصر هذا الإدراك على مصدر دون مصدر ، بل كل ما حصل الإدراك به فهو من مصادر العلم .وذلك خلافاً لمن يطلق مصطلح العلم على ما أدرك بالحواسّ والتجربة فقط ( العلم التجريبي ) ويخرج بذلك الغيبيات من دائرة العلم ولو كان إدراكها يقينيّاً في النفس ، وهذا مصطلح لا يعرفه المسلمون وإن كان قد انجر إليه بواقع الغزو الفكري وحرب المصطلحات كثير من الكاتبين المتأخرين فتكلموا عما أسموه (الإعجاز العلمي في القرآن ) يريدون بذلك الإعجاز الواقع في الآيات التي تتعلق بالكون والخلق وما فيهما من عظيم الصنع وبديع النظام كما قال تعالى :{ إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب } [ آل عمران : 190] .
وللعلم تعريف آخر وهو : مجموعة المباحث المرتبة المترابطة . وهذا المعنى غير الإدراك ويقصد به العلم المدوّن . مثل علم الفقه وعلم اللغة وعلم اللغة والتاريخ والرياضيات وهو غير مراد هنا .
أقسام العلم : ينقسم العلم الحاصل للنفس إلى قسمين اثنين :
الأول : العلم الضروري : وهو العلم الذي لا يتوقف حصوله في النفس على الاستدلال والبحث ، وهو ما يسميه العلماء ( النظر ) بل يوجد العلم به بمجرد تصوره في الذهن ، وذلك كالعلم بأن الكل أكبر من الجزء ، وبوجود الأقاليم البعيدة المشهورة في العالم ، دون الذهاب إليها .
الثاني : العلم النظري : وهو العلم الذي يتوقف حصوله في النفس على الاستدلال والفكر ، وبناء النتائج على المقدمات ، وذلك مثل العلم بأن العالم _وهو ما عدا الله تعالى_ مخلوق حادث ، ويسمى العلم المكتسب أيضاً
العلم واليقين : والعلم بكلا قسميه يفيد اليقين ، وهو ما يسميه العلماء ( القطع ) ، أما إذا أدركت النفس الأمر على سبيل غلبة الظن فيطلق عليه :العلم الظني ،وهو ما يماثل ما يطلق عليه ( النظريات ) عندما توجد دلائل وقرائن تؤيدها لكنها عندما توجد دلائل وقرائن تؤيدها لكنها لم ترق بها بعد إلى درجة القطع واليقين ، فالعلم الظني يوجب العمل مالم يثبت في النفس بطلانه .
تفاوت درجات العلم : والعلم وإن كان يفيد اليقين والقطع كما سلف ، إلا أن كثيراً من العلماء رجح وجود مراتب للعلم لا تنقص عن اليقين بل تزداد في درجته ،وهي علم اليقين ، وحق اليقين ، وعين اليقين . وهذا يفسر ما ذهب إليه جمهور المسلمين في أن الإيمان يزيد وينقص . وقد روى ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( ليس الخبر كالمعاينة إن موسى لم يلق الألواح لما سمع عن قومه ، وألقاها حين رآهم )) [ أخرجه أحمد والحاكم ] بسند صحيح .
مصادر العلم : وأسباب العلم التي أجمع عليها علماء المسلمين ودلت عليها الدلائل منحصرة في ثلاثة مصادر :
الأول : الخبر الصادق وهو الوحي من الله تعالى المنزل على الأنبياء ، وهو نوعان :
1ــ الوحي المنقول بالتواتر ، وهو نقل عدد كبير عن مثلهم بحيث لا يتصور اتفاقهم على الكذب ، وذلك مثل نقل القرآن الكريم بالتواتر جيلاً عن جيل دون زيادة أو نقصان عن الصحابة الذين تلقوه سماعاً ومشافهة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ومثله السنة المتواترة فيحصل بذلك العلم الضروري القطعي . أما نقل غير القرآن الكريم من الكتب السابقة فلم يتواتر في كل جيل فلا يفيد العلم ولا الظن لانقطاع النقل .
2ــ خبر الرسول المؤيد بالمعجزة يفيد العلم وإن لم يتواتر لوجود القرينة الدالة على ذلك ، وهو العلم النظري الاستدلالي ، ومثله الأخبار والروايات التي لم تتواتر لكن نقلت نقلاً صحيحاً متصلاً مع وجود القرائن على صدقها وعدالة ناقليها .
الثاني: العقل ، والمقصود به قضايا العقول الصحيحة التي لا يختلف فيها ، وذلك كالعلم بأن الكلَّ أعظم من الجزء وهو يفيد العلم الضروري، وذلك مثل الاستدلال بالعلة على المعلول وذلك كالاستدلال على وجود الدخان عند رؤية النيران .(/1)
الثالث : الحسّ والتجريب ، وهو العلم المستفاد من الحواسّ المعروفة ، وهي : السمع والبصر والشم والذوق واللمس ، ويقوم عليها ما يسمىّ بمنهج العلوم التجريبية ، وهو مبني على الملاحظة والقياس ، لأن كل ما تدركه الحواس يمكن ضبطه وقياسه كقياس الأطوال والأحجام والقوى وشدة الأصوات وسرعة المتحركات وطبائعها وخواصها .
ومنه العلم بأن الأرض تجذب الأجسام الواقعة في غلافها بقوة تسمى الجاذبية ، يمكن قياسها في كل موقع على الأرض .
ما ليس من مصادر العلم : وقد صرح كثير من علماء المسلمين بانحصار العلم في المصادر المتقدمة ، وهي الخبر الصادق ، والعقل والحسّ . كما صرحوا بأن غيرها ليس من مصادر العلم تنبيهاً على ذلك ومنها :
1ــ الإلهام (ومثله الكشف والإشراق) ، وهو وقوع معنى في النفس ، خارج عن الأسباب المتقدمة ، قال الإمام النسفي في عقيدته والإلهام ليس من أسباب المعرفة بصحة الشيء عند أهل الحق )) والمقصود أنه لا يصلح للاحتجاج والاستدلال وإن كانت النفس تميل إليه ، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله : (( لقد كان في من قبلكم مٌحَّدثون فإن يكن في أمتي يكن عمر )) [ متفق عليه عن أبي هريرة ] والمقصود بالمُحَّدثين الملهمون لكن ذلك لا يصلح للاحتجاج والاستدلال فلم يكن عمر رضي الله عنه ولاغيره من الملهمين يحتجون على مخالفيهم بالإلهام والتحديث وإلا كان في معنى الوحي ، والفرق بينه وبين الوحي أن الموحى إليه يجزم ويقطع بأن ما ألقي إليه من الله بخلاف ما يقع في النفس فقد يكون من الشيطان أو من التوهم ، وكان من عبارات السلف رضي الله عنهم قولهم في تقرير المعاني : (( إن كان صواباً فمن الله وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان )).
2ــ الرؤى والمنامات والأحلام ، وهي لا تفيد العلم ولا تصلح للاحتجاج وإن كان بعضها قد يشير إلى الوقائع الماضية أو المستقبلية ، بخلاف رؤى الأنبياء فإنها حق ، وقد جاء في الحديث : (( الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة )) [ متفق عليه عن أبي هريرة ] . قال العلماء : (( ولا يجوز أن يثبت بالرؤيا شيء حتى لو رأى واحد في منامه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بحكم من الأحكام لم يلزمه ذلك )) [ البحر المحيط للزركشي1/62] .
3ــ التنجيم والكهانة وحركات الكواكب والأفلاك ، وهي كلها لا تفيد علماً ولا ظناً ، وقد ضلت كثير من الأمم بالاعتقاد بالتنجيم والكهانة ، ومنها العرب في الجاهلية الأولى وقد قال صلى الله عليه وسلم : (( من أتى كاهناً أو عرافاً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد )) [ أخرجه أحمد والحاكم عن أبي هريرة ] . وقد توسعت الجاهليات الحديثة في الاعتماد على كلام المنجمين والعرافين لمعرفة الغيب المستقبل ، وهذا لبعد الصلة بينها وبين هداية الوحي ، إذ الغيب لا يعلمه إلا الله ، قال تعالى { ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسّني السوء } [ الأعراف : 188] . وقال عزوجل { عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصداً } [ الجن : 26 ] .
تنبيهات :
1ــ غلا بعض المسلمين من المتصوفة وغيرهم فعدَّ الإلهام والكشف والإشراق من مصادر العلم ، وبعضهم يعده حجة للنفس لا للغير ء، وهذا كله باطل يتنافى مع ثوابت الإسلام وقطعياته ونصوص علمائه ، وبعضهم يسميه العلم اللدني محتجاً بقصة موسى عليه السلام مع الخضر ، والحق أن الخضر كان نبياً وما علمه الله تعالى وحي أوحى به إليه لأن كل علم يلقى في النفس مع تيقن أنه من الله فهو وحي ، بخلاف الإلهام كما سبق قال تعالى : { وما فعلته عن أمري } [ الكهف : 82 ] .
وقد سبب هذا الغلو انحرافاً كبيراً في الاستدلال على كثير من القضايا ، وسبب لبساً بين الوحي الذي انقطع بوفاة رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم وبين الإلهام ، وجعل بعض المدعين يتطاول على العقيدة والشريعة مدعياً الأخذ عن الله مباشرة دون واسطة كقول بعضهم : ((حدثني قلبي عن ربي ))، وقول الآخر : (( أخذتم علمكم ميتاً عن ميت وأخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت )) وبعضهم يتجرأ على تصحيح الأحاديث وتضعيفها بالكشف والإشراق ، وفي هذا ضياع لضوابط علوم الإسلام واختلاط للحق بالباطل .
للحافظ ابن حجر كلام نفيس في شرحه على صحيح البخاري (1/220) يحسن الرجوع إليه .
2ــ كون العقل وقضاياه من مصادر العلم لا يعني أن العقل بمجرده مصدر من مصادر التشريع الإسلامي ، فهناك فرق بين الأمرين ، فالعلم الذي نعنيه هنا هو الإدراك ، أما مصادر التشريع الإسلامي فهي الكتاب والسنة والإجماع والقياس وهي المصادر الأصلية ، وتوجد مصادر أخرى كالاستصحاب وسد الذرائع والعرف ومحل العقل في الفقه والتشريع هو في قواعد الاستنباط والاجتهاد من هذه المصادر كما سيمر معنا إن شاء الله .(/2)
3ــ لا يمكن التعارض بين ما ثبت بأحد مصادر العلم ، وهي الوحي والحس والعقل مع ما ثبت بمصدر آخر ، لأن الوحي من عند الله وما ثبت بالحس اكتشاف لما خلقه الله ،وما ثبت بالعقل تقرير للحقائق التي أودع الله في النفوس الجزم بصدقها ، فإذا ما وجد تناقض ظاهر بين أمرين فإن ذلك دليل على عدم كون أحدهما ثابتاً بالمصدر الذي ينسب إليه ، أو على أن المراد بالوحي غير المتبادر فيجب عندها التأويل ، وذلك كما إذا تعارض نص قرآني مع أمر حسيٍّ وجودي ،فبما أن القرآن مقطوع بصحة نقله بالتواتر وهو مفيد للعلم الضروري فلا يمكن ادعاء عدم القرآنية فإما أن يكون مراد الله في الآية بخلاف ما ظهر للمتأمل فيجب التأويل ، أو يكون ما ادعيَ أنه من حقائق الحس والوجود أمراً ظنياً ( نظرية ) لم يصل إلى درجة اليقين فلا يفيد العلم بالتالي ، وبهذا يندفع التعارض .
وكذلك قد يدعي بأن العقل يحكم بقضية ما وتكون من المغالطات لا من الحقائق العقلية فينتج من هذا كله وجوب التعمق في مصادر العلم الثلاثة ومعرفة ما يفيد العلم القطعي مما لا يفيده من الروايات ، والتفريق بين ما ثبت في العلوم الحسية التجريبية ( القطعيات ) وما لم يثبت ( النظريات ) ، والتمييز بين قضايا العقول الصحيحة ( البديهيات ) والمغالطات ومعرفة الفرق بين دلالات النصوص القطعية والظنية ، فالقرآن قطعي الثبوت بجميع آياته لكنه من حيث الدلالة منه ما قطعي – لا يحتمل إلا معنىً واحداً- ومنه ما هو ظني – يحتمل أكثر من معنى – .
أما السنة فهي من حيث الثبوت على نوعين :
قطعي الثبوت وهو المتواتر ، وظني الثبوت وهو المروي من طرف الآحاد إذا لم تحتف به القرائن .
والسنة من حيث الدلالة كالقرآن منها ما هو قطعي ومنها ماهو ظني .
ومعرفة هذه المقدمات ضرورية لكل من أراد معرفة الحق من الباطل .(/3)
مصادر النور
الحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنا، مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هادِيَ لَهُ، وأشْهَدُ أنْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ، وأشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ?يا أيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها، وَبَثَّ مِنْهُما رِجَالاً كَثِيراً وَنِساءً، واتَّقُوا اللَّهَ الذي تَساءَلُونَ بِهِ والأرْحامَ إنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً?[ النساء:1]. ?يا أيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وأَنْتُمْ مُسْلِمُون? [آل عمران:102]. ? يا أيُّهَا الَّذين آمَنوا اتَّقُوا اللَّه وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أعْمالَكُمْ، ويَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ، وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزَاً عَظِيماً? [الأحزاب:71].
تتجلى يوم القيامة أعمال المؤمنين وتظهر نوراً تشع من وجوههم وتتلألأ أنوارهم فتضيء لهم طريقهم وهم يمرون من على الصراط الممدود على متن جهنم في ظلمة وأهوال لا ينجو منها غير المؤمنين الذين آمنوا بالله واتبعوا رسوله وصدقوا مع الله، هؤلاء مرحومون مطمئنون كما قال الله تعالى: ?... يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ?[ التحريم:8].
وقال سبحانه مخبراً عن عباده وأوليائه من الرجال والنساء: ? يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ?[ الحديد: 12].
أخرج الحاكم والبيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ليس أحد من الموحدين إلا يعطى نوراً يوم القيامة، فأما المنافق فيطفأ نوره، وأما المؤمن فيشفق مما رأى من إطفاء نور المنافق فيقول: ربنا أتمم لنا نورن.
وأخرج ابن جرير وغيره عن ابن عباس أيضاً قال: بينما الناس في ظلمة إذ بعث الله نوراً، فلما رأى المؤمنون النور توجهوا نحوه وكان دليلاً لهم من الله إلى الجنة.
وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال في قوله تعالى: ?... نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ...?[ التحريم:8]. ، قال: على قدر أعمالهم يمرون على الصراط، منهم من نوره مثل الجبل ومنهم من نوره مثل النخلة، وأدناهم نوراً من نوره على إبهامه، يتقد مرة وينطفئ أخرى.
والرسول - صلى الله عليه وسلم - يعرف أمته من بين الأمم بسيماهم وأنوارهم ، حيث ذكر الحاكم وصححه من حديث أبي ذر وأبي الدرداء رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أنا أول من يؤذن له في السجود يوم القيامة وأول من يؤذن له أن يرفع رأسه، فأرفع رأسي فأنظر بين يدي وعن خلفي وعن يميني وعن شمالي فأعرف أمتي من بين الأمم فقيل: يا رسول الله وكيف تعرفهم؟ قال غر محجلون من أثر الوضوء، ولا يكون لأحد غيرهم .. وأعرفهم بسيماهم في وجوههم من أثر السجود، وأعرفهم بنورهم الذي يسعى بين أيديهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم".
وفي مستدرك الحاكم وصححه والبيهقي عن أبي أمامة الباهلي أنه قال: أيها الناس إنكم قد أصبحتم وأمسيتم في منزل تقتسمون فيه الحسنات والسيئات، وتوشكون أن تظعنوا منه إلى منزل آخر، وهو القبر بيت الوحدة، وبيت الظلمة، وبيت الدود، وبيت الضيق، إلا ما وسع الله.(/1)
ثم تنتقلون منه إلى مواطن يوم القيامة، فإنكم لفي بعض تلك المواطن حتى يغشى الناس أمر الله، فتبيض وجوه وتسود وجوه، ثم تنتقلون منه إلى موضع آخر فتغشى الناس ظلمة شديدة ، ثم يقسم النور فيعطى المؤمن نوراً ويترك الكافر والمنافق فلا يعطى شيئاً، إلى أن يقول فلا يستضيء الكافر والمنافق بنور المؤمن كما لا يستضيء الأعمى ببصر البصير، ويقول المنافقون للذين آمنوا: ? ... انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً ...?[ الحديد:13].، وهي خدعة الله التي خدع بها المنافقين حيث قال: ?... يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ ...?[ النساء: 142].، فيرجعون إلى المكان الذي قسم الله فيه النور، فلا يجدون شيئاً فينصرفون إليهم ويضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب فينادونهم ? أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاء أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14)، فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ?[الحديد:14-15].
هذا شأن المنافقين إنهم في الحياة الدنيا يتظاهرون بالإسلام ويتحدثون عن الإيمان خداعاً للمسلمين وهم في واقع الحال أعداءاً متربصين يحاربون الإسلام باسم الإسلام ، ويحاربون القرآن، يخربون ويتآمرون مع اليهود والنصارى، ويقومون بتنفيذ مخططاتهم بعد أن يلبسوها أثواباً إسلامية أو وطنية يخادعون بذلك الله والذين آمنوا والأمة المسلمة ، وهل خربت ديار الإسلام إلا بواسطة هؤلاء، هل دمرت البلاد والاقتصاد إلا بهؤلاء، وهل مكن للأعداء في بلاد الإسلام إلا هؤلاء الموجودين بين أظهرنا يتكلمون بألسنتنا ويتظاهرون بيننا أنهم منا ونحن منهم ، هؤلاء حقيقةً هم الأعداء الذين حذر الله نبيه منهم وأمره بأن يأخذ حذره فقال له: ?... هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ?[ المنافقون: 4].
ولذا فإن جزاء هؤلاء سيكون من جنس عملهم إنهم يعطون نوراً ظاهراً ويسيرون يوم القيامة مع المؤمنين وكأنهم شيء واحد، وفجأة يذهب الله بنورهم ويضرب بينهم وبين المؤمنين بسور له باب باطنه فيه الرحمة حيث ذهب المؤمنون ومن قبلهم الجنة ويناديهم المنافقون يا معشر المؤمنين يا معشر المؤمنين ألم نكن معكم؟ أيها المؤمنون إن اكتساب النور وتحصيله هو في هذه الحياة بالإيمان والعمل الصالح وهناك بعض الأعمال جاءت الأحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - تحثنا على فعلها والإكثار منها حيث فيها الحياة والنور نذكر لكم بعضها من باب الذكرى والذكرى تنفع المؤمنين:
قراءة القرآن وتلاوته من أعظم مصادر النور.
الذين يحرصون على الصلوات في المساجد ويترددون على بيوت الله ليلاً ونهاراً هؤلاء هم أهل النور والأنوار، أخرج أبو داود والترمذي، عن أنس - رضي الله عنه - - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة"
وفي مسند الإمام- أحمد والطبراني، عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من حافظ على الصلاة، كانت له نوراً وبرهاناً ونجاة يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم تكن له نوراً ولا برهاناً ولا نجاة، وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأبي بن خلف".
وفي بيان عظمة الصلاة وأهميتها قال عليه الصلاة والسلام: "الصلاة نور والصدقة برهان والصبر ضياء".
فهذه الأعمال الثلاثة كلها أنوار، فالصلاة نور للمؤمنين في حياتهم ، نور في قلوبهم وبصائرهم، تشرق بها قلوبهم وتستنير بصائرهم.
إذا حافظ العبد على صلاته، فأحسن وضوءها وركوعها وسجودها والقراءة فيها قالت له حفظك الله كما حفظتني وصعد بها إلى السماء ولها نور.
والصلاة نور للمؤمنين في قبورهم ولا سيما صلاة الليل ، قال أبو الدرداء - رضي الله عنه - صلوا ركعتين في ظلم الليل لظلمة القبور.
وهي في الآخرة نور للمؤمنين في ظلمات يوم القيامة وعلى الصراط.
وكذا الزكاة والصدقة لها نور وإشعاع وهي برهان والبرهان هو الشعاع الذي يلي وجه الشمس، وسميت الحجة القاطعة برهاناً لوضوح دلالتها، فكذلك الصدقة برهان على صحة الإيمان وإذا صح الإيمان أشرقت أنواره في القلب وفي الحياة وفي الدنيا والآخرة.
ثم الصبر الذي نحتاج إليه في كل وقت وحين نحتاج إليه في عبادتنا، في مجاهدة ومراغمة أعدائنا، ونحتاج إليه في مجاهدة النفس والهوى والشيطان، نحتاجه في ديننا ودنيانا ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - : "والصبر ضياء": والضياء، هو نور مصحوب بحرارة وإحراق كضياء الشمس بخلاف نور القمر فإنه نور فيه إشراق بغير إحراق. قال تعالى: ? هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُوراً... ?[ يونس:5].(/2)
فالصبر صعب ومر مذاقه لكن عاقبته أحلى من العسل، وما أعطي أحد عطاء خيراً وأوسع من الصبر ، ثم هو ضياء المؤمن إذا ادلهمت الخطوب وأظلمت الأجواء ، وهو نور وهاج يوم يقوم الأشهاد ، حين يكرم الله المؤمنين الصابرين ويوفيهم أجرهم بغير حساب ويقال لهم : ?... سَلَامٌ عَلَيْكُمْ ...?[ الزمر: 73].
الخطبة الثانية:
معظم الناس في بلادنا يعيشون في ضائقة شديدة، عشرات الألوف من صغار الموظفين لا تتجاوز رواتبهم العشرة آلاف ريال ، هذا المبلغ في واقع الأمر لا يغطي سوى الإيجار ونفقات الماء والكهرباء، أما باقي المصاريف الأساسية من غذاء ودواء وغيره فمن أين يأتي بها الفقراء.
المواطنون في القرى والأرياف يسحقهم الغلاء وارتفاع الأسعار التي ترتفع باستمرار مع كل زيادة للبنك الدولي ومع ارتفاع الأسعار يزداد الضيق.
الناس في ضيق حتى في المدن، ففي أحيائها وأطرافها طبقات معدمة تبحث عن غذائها إما في أكوام الزبالات أو في امتهان النصب والاحتيال والسرقة والتسول وهذه الظاهرة تتفاقم وتزداد سوءاً.
العملة الوطنية هي الأخرى قد تدنت قيمتها الشرائية فما كنت تشتريه قبل سنوات بمائة قفز إلى الألف حتى أن الفئات النقدية الصغيرة في طريقها إلى الاختفاء ، اختفى الريال الورقة والخمسة والعشرة وحتى المائة ، كل الذي يضخ في البنوك الآن إنما هو من الفئات الجديدة 200 و 500 و1000 ، ثم إنها أوراق بغير رصيد ، ما الذي يحدث وإلى أين تتجه البلاد؟
إننا نخشى أن تصبح بلادنا كتلك الدول التي أثقلتها الديون بواسطة البنك الدولي ، فغدت مرتهنة لإرادة البنك الدولي خاضعة لتوجيهاته اليهودية الصليبية في كل شئون الحياة، نضرب لكم مثلاً للعبرة: قبل عشرين سنة في تركيا كان الدولار يساوي 16 ليرة لما كانت رافضة لشروط البنك الدولي في زمن أربكان ولما رأس الوزارة سنة 1978م رئيس الوزراء الحالي بولنت أجاويد واستسلم لصندوق النقد الدولي؛ يومها وبناء على أوامر البنك الدولي أصبح الدولار الواحد يساوي 40 ليرة ثم تعاقبت الحكومات في تركيا المنفذة لسياسات البنك الدولي فانهارت العملة وغدا الدولار يساوي آلافاً كثيرة من الليرات وسحق الشعب التركي، وتحطمت أخلاقياته مع اقتصاده وحطمت عقيدته وقيمه.
وهذا الفيروس الذي يوزعه البنك الدولي على الدول المتخلفة أو المتآمرة على شعوبها نتيجته الدمار والخراب.
إن الناس لجهلهم لا يدركون ، يحسون بالفقر والغلاء ثم لا يدرون أسباب ذلك ، وما أجمل قول الشاعر:
إن كنت لاتدري فتلك مصيبة أو كنت تدري فالمصيبة أعظم
لو سألت أحد الناس من المتسكعين في الطرقات كم دفعت هذا الشهر من الربا، فسوف يجيب على الفور الربا يدفعه من يقترض من البنوك، أما أنا فمن يقرضني؟ وإذا سألته سؤالاً آخر.. كم دفعت من الضرائب لهذا الشهر؟ فسوف يقول: أنا رجل فقير ولا مال عندي وبالتالي فلا أدفع الضرائب . ولم يعلم هذا المسكين الساذج أن الرغيف الذي يشتريه والسلعة التي يشتريها تضم في ثمنها نسبة مخفية من الربا ومن الضرائب. ولكنه لا يعلم. والزيادة في البترول قد يقول الساذج ليست لدي سيارة والحمد لله لكنه سيدفع نصيبه.
بسبب الربا الذي يسمى أحياناً أذون الخزانة وبسبب الضرائب يسرق الشعب وينهب ويحطم الاقتصاد.
لسنا مضطرين إلى هذا النوع من المعاناة.. إن بلادنا ذات مساحة واسعة ومناخها متعدد وثرواتها البحرية والزراعية والنفطية والغازية وغيرها من المعادن هائلة، ولدينا شعب نشط لكنه يحتاج إلى حكام وقادة أمناء ناصحون يحرصون على تحقيق المصالح العامة ويضحون بالمصالح الشخصية والحزبية ، أناس يخشون الله وحده ولا يخشون أحداً سواه ، هذه هي الحلقة المفقودة اليوم في كل بلاد المسلمين.
راجعه/ عبد الحميد أحمد مرشد.
المستدرك 2/ 538، حديث رقم: 3832 ، وقال الحاكم :هذا حديث صحيح ولم يخرجاه، وقال الذهبي في التلخيص: عتبة( يعني أحد رواته) واهٍ.
مجمع الزوائد: كتاب البعث: باب كثرة هذه الأمة وعلامتها في الآخرة: الحديث رقم: (18363) عن أبي الدرداء ، وقال الهيثمي: رواه أحمد والبزار باختصار عنه إلا أنه قال: "وذراريهم نور بين أيديهم".ورجال أحمد رجال الصحيح غير ابن لهيعة وهو ضعيف وقد وثق، والزهد لابن المبارك 1/112 .
سنن أبي داؤود 1/ 209 ، حديث رقم: 561 ، وصححه الألباني.
مسند أحمد 2/ 169، حديث رقم: 6576 ، وحسنه شعيب الأرنؤوط.
مسلم 1/ 203، حديث رقم : 223.(/3)
مصارع الظالمين وعواقب المفسدين
فيصل بن جعفر بالي
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا وسيدنا وقائدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
أما بعد : فإن الله تعالى برحمته وحكمته وعدله قد أمر بالعدل والإحسان وحرَّم الظلم والبغي والعدوان : كما قال سبحانه : ] إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [ ( النحل : 90 ) .
وقال الله سبحانه وتعالى في الحديث القدسي : ( يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا ) رواه مسلم .
واقتضت سنته الكونية هلاك الظالمين ومحق المعتدين ، وقطع دابر المفسدين، سواء أكان الظالم فردًا أم جماعة أم أمة من الأمم .
لقد حفل القرآن الكريم بالأخبار الكثيرة عن مصارع الظالمين ومصير المفسدين ، الدين عمَّرُوا عمرانًا عظميًا ، وشيَّدُوا حضارات عتيدة ، وظنوا أنهم بلغو النهاية في القوة والعزة ، وغرتهم أنفسهم فظلموا وأفسدوا ، وما تركوا ظلمهم رغم الآيات والنذر ، فحقت كلمة العذاب عليهم ، وأصبحوا أثرُا بعد عين وخبرًا طواه التاريخ يُتْلَى للتذكرة والاعتبار .
إنها سنة ماضية في الظالمين مهما اختلفت أزمانهم وتباعدت بلدانهم وتنوعت أعراقهم ، فسنن الله تعالى لا تحابي أحدُا ، ولا تفرق بين زمان وزمان ، أو تطال أقوامًا ، فمن ظلم وتمادى في ظلمه فهلاكه واقع لا محالة إلا أن يَمُنَّ الله تعالى عليه بتوبة عاجلة قبل حلول العذاب .
إن من عدل الله تبارك وتعالى أنه لا يُهلك مَن لا يستحق الهلاك ، ولا ينزل العذاب إلا بمن أتى أسبابه ، وحقَّق موجباته ، والآيات القرآنية الكريمة دالة على هذه الحقيقة ، ومنها قول الله تعالى : ] وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ [ ( هود : 117 ) ، وقال سبحانه : ] وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ القُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي القُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ [ ( القصص : 59 ) ، وقال عز وجل : ] وَتِلْكَ القُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِداً [ ( الكهف : 59 ) ، ولما قضى الله تعالى بإهلاك قوم لوط علَّق سبب هذا الهلاك على ظلمهم فقال سبحانه : ] إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هَذِهِ القَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ [ ( العنكبوت : 31 ) ، ولما كذَّب أقوامٌ رسلهم ، وظلموا أتباع الرسل أوحى الله تعالى إلى الرسل بهلاك هؤلاء المكذبين الظالمين فقال سبحانه : ] فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ [ ( إبراهيم : 13-14 ) .
والظلم الذي تقع فيه الأمم على نوعين :
أولهما : ظلم النفس بالشرك والكفر ، ورفض دين الله تعالى الذي ارتضاه ورد شرائع الرسل عليهم السلام ، واستبدال ذلك بالقوانين والأنظمة البشرية أو تعاليم السادة والكبراء المنبثقة عن الأهواء والشهوات .
وهذا النوع هو أكبر أنواع الظلم وأشدها خطرًا ، كما قال الله سبحانه : ] إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [ ( لقمان : 13 ) .
وثانيهما : ظلم الناس وذلك ببخسهم حقوقهم ؛ والتسلط على مواردهم وثرواتهم والتدخل في شؤونهم وخصوصياتهم وسلبهم إرادتهم وحريتهم وقسرهم على المناهج والتعاليم التي ترتضيها القوى الظالمة .
والنوع الأول من الظلم مستلزم للنوع الثاني : كما يشهد بذلك الحال ، وكما يدل عليه تاريخ الطغاة الظالمين ؛ فإن أتباع الأنبياء والمرسلين من العامة والضعفاء ما سلموا من ظلم السادة والأقوياء الذين رفضوا أن تكون العبودية خالصة لله تعالى، وأرادوا تعبيد الناس لأصنامهم وأهوائهم ، فقهروا الناس على ظلمهم وقسروهم على شركهم فكانت نتيجة ذلك غضب رباني على الظالمين جعل أرضهم يبابًا ، وديارهم بلاقع ، عبرة للمعتبرين .
منهم قوم نوح عليه السلام الذين كذبوا نوحُا ، وظلموا أتباعه ، واحتقروهم ، وازدروهم ، وقالوا : ] وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ [ ( هود : 27 ) ، فلما أنهوا المهلة التي قدرها الله تعالى لهم ، ولم يتوبوا من استكبارهم ، قضى سبحانه بهلاكهم ، وعلَّق ذلك على ظلمهم فقال سبحانه : ] وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ [ (هود : 37) فلما أغرقهم أخبر عن ذلك بقوله : ] فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ [ ( العنكبوت : 14 ) .(/1)
ومنهم عاد قوم هود عليه السلام الذين غرَّتهم قوتهم ، حتى قالوا : ] مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً [ ( فصلت : 15 ) ، فلما زاد عتوهم ، وعلا ظلمهم أخذهم الله تعالى ، وأخبر عنهم بقوله سبحانه ] فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لاَ يُنصَرُونَ [ ( فصلت : 16 ) .
ومنهم ثمود قوم صالح عليه السلام الذين طلبوا الآيات فلما جاءتهم كذَّبوا بها ، وعقروا الناقة ، فحق عليهم عذاب الله تعالى بسبب ظلمهم ، كما قال سبحانه : ] وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ [ ( هود : 67 ) .
ومنهم قوم لوط عليه السلام الذين كذَّبوا الرسل ، واستحلوا الفواحش ، ولم يعتبروا بما سلف من إهلاك الظالمين ، فساروا على دربهم ، وعملوا بطريقتهم فأمر الله تعالى بقلب ديارهم عليهم ، وإتباعهم بحجارة من نار ، فحمل قريتهم ملك من الملائكة ثم قلبها عليهم : ] فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ * مُسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ [ ( هود : 82-83 ) .
وأخبار الظالمين وما جرى لهم من العذاب كثيرة ، والأمم التي أهلكها الله تعالى بسبب ظلمها وبغيها عديدة ، كما قال سبحانه : ] وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ [ ( الأنبياء : 11 ) ، وقال سبحانه : ] وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ المَصِيرُ [ ( الحج : 48 ) ، إنه هلاك وعذاب طال البشر والحيوان والديار والعمران ، ولم يبق حجرًا على حجر ، فاستحال عمرانهم خرابًا ، وديارهم يبابًا : كما قال سبحانه : ] وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الوَارِثِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ القُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي القُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ [ ( القصص : 58-59 ) .
إن هذه السنة الربانية المتكررة عبر الأزمان يحتاج إلى قراءتها وفهمها كل البشر في هذا العصر سواء أكانوا من الظالمين أم من المظلومين ؛ فالظالمون يحتاجون إلى قراءتها وتدبرها وفهمها ، لعلهم يرتدعون عن ظلمهم ويرعوون عن كفرهم فيشكرون الله تعالى على ما مَنَّ به عليهم من القوة والسيادة في الأرض بإقامة العدل ، ورفع الظلم ، وعدم استغلال ضعف الضعفاء بالتسلط عليهم ، ونهب ثرواتهم ومقدراتهم ، وتبديل دينهم وثقافتهم تحت مشاريع النظام الدولي الجديد ، والعولمة ، وسيادة النظم الرأسمالية ، التي زيَّنت لهم شياطينهم أن نهاية التاريخ عندها ، وأن أي معارض لها أو ناقد لبنودها ومقرراتها فهو خارج عن الإجماع الدولي ، فالناس لهم خصوصياتهم وثقافاتهم التي لا يرتضون تبديلها بالقهر والقوة والتسلط ، كما تريد أن تفعل القوى الرأسمالية المعاصرة ... كيف وللمسلمين دين حق ، هو دين الأنبياء كلهم عليهم السلام . فلن يحاربه أو يحاول تبديله إلا معذب هالك ، ولن يكون مصيره إلا عين مصير الظالمين المستكبرين الذين رفضوا دين الله تعالى ، واستنكفوا عن شريعته ، وحاربوا حملتها من الأنبياء والرسل عليهم السلام ، ولسنا نخاف على دين الله تعالى ؛ لأنه محفوظ بحفظ الله تعالى له ، وستظل طائفة من المسلمين يدينون به ، ويبلغونه غيرهم إلى أن يأتي أمر الله تعالى كما جاءت بذلك الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .(/2)
وكما يحتاج الظالمون إلى معرفة السنة الربانية في إهلاك الظالمين لعلهم يجتنبون الظلم ، فإن المظلومين في أَمَسّ الحاجة إلى معرفتها أيضًا ، ولا سيما إذا كانوا من المسلمين أتباع الأنبياء عليهم السلام ؛ لأن معرفتهم بعواقب المجرمين ومصارع الظالمين تزيدهم إيمانًا بدينهم ، ويقينًا إلى يقينهم ، وثباتًا عليه مهما كانت التبعات والتضحيات . كما أن فيها تسلية لهم ، وفتحًا لأبواب الفرج والنصر ، وكلما زاد ظلم الظالمين ، واستكبار المجرمين ، وأصروا على تغيير معالم الدين علم المؤمنون أن هلاك الظالمين بات وشيكًا ، وأن سنة الله الماضية في الظلم وأهله قد أَزِفَ وقوعها ؛ لتكون عذابًا على أعداء الديانة ، ورحمة ونجاة لأتباع الرسل عليهم السلام ، كما مضت سنة الله تعالى في الظالمين السابقين الذين هلكوا في أوج قوتهم وسيادتهم ، واستفحال ظلمهم وطغيانهم ] فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ القَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ [ ( الأنعام : 44-45 ) ، ] وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [ ( هود : 102 ) .
أسأل الله تعالى بمنه وكرمه -وفي هذا الشهر الكريم المبارك شهر النصر والعزة - أن يُعِزَّ دينه ، ويُعْلِيَ كلمته ، ويثبتنا على الإيمان والسنة إلى أن نلقاه غير مبدلين ولا مغيرين ، كما أسأله تبارك وتعالى أن يحفظ بلادنا وبلاد المسلمين من كيد الكائدين ، ومكر الماكرين ، وأن يرد كيدهم إلى نحورهم ، ويجعل تدبيرهم وبالاً عليهم ، إنه سميع مجيب والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين(/3)
مصافحة الرجل للمرأة و العكس
السؤال :
بسبب عملي في دائرةٍ مختلطة أضطرُّ أحياناً إلى مصافحة بعض الزميلات في العمل ، فهل في ذلك بأس ، رُغمَ أنِّي أفعل ذلك محرجاً و بدون ريبةٍ و لا شهوة .
الجواب :
أقول مستعيناً بالله تعالى :
في السؤال مسألتان يحسُن تناول كلّ منهما على حدة ، و هما :
أوّلاً : تحرم مصافحة الرجل للمرأة أو العكس ، لمخالفته للهدي النبويٍ الثابت من فعله و قوله صلى الله عليه و سلّم ، فقد روى الشيخان ، و اللفظ للبخاري عن أمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت : ( مَا مَسَّتْ يَدُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ يَدَ امْرَأَةٍ إِلا امْرَأَةً يَمْلِكُهَا ) .
و روى النسائي و ابن ماجة و أحمد في حديث مبايعة النساء بإسنادٍ صحيح عن أميمة بنت رقيقة رضي الله عنها أنّ رسول الله صلى الله عليه و سلّم قال لهن : ( إنّي لا أصافح النساء ) .
و روى الطبراني في جامعه بإسنادٍ صححه الألباني عن معقل بن يسار رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لأن يُطعن في رأس أحدكم بمِخْيَط من حديد خير له من أن يمسّ امرأة لا تحلّ له ) ، و المِخيَط هو الإبرة ، أو المِسلّّّة .
و عليه فإنّ مصافحة الرجل للمرأة أو العكس حرامٌ ، و لا عِبرة بما يتذرّع به بعضهم من تعرّضه للإحراج ، أو الاضطرار إلى فعل ذلك ، لأنّ الحقّ أحقّ أن يُتّبَع ، و على المسلم أن لا يُعرّض نفسه للفتن ، أو يضع نفسه في موضع يضعف فيه عن مقاومة الحرام ، و مجاهدة نفسه عن الوقوع به ، و الله أعلم .(/1)
مصححوا المفاهيم: الغزالي، ابن تيمية، ابن حزم، ابن خلدون
الأستاذ أنور الجندي
أولاً:
في مراجعة لتطور الفكر العربي الإسلامي يلتفت النظر بقوة إلى عدد من الشخصيات البارعة، ذات الطابع القوي الواضح، في مقدمتهم ابن حزم والغزالي وابن تيمية وهم يمثلون مرحلة تالية لمرحلة بناء السنة والفقه والعقائد:
فقد عرف الفكر الإسلامي في مجال بناء السنة وتحقيقها: البخاري ومسلم. وفي مجال بناء الفقه: مالك وأبو حنيفة والشافعي وابن حنبل.
وفي مجال العقيدة: الأشعري والجويني.
أما أمثال ابن حزم والغزالي وابن تيمية فلم يكونوا متخصصين في منهج من هذه المناهج العلمية ولكنهم كانوا شيئاً آخر يمكن أن يطلق عليه اسم "مصححوا المفاهيم ومجددوا بناء الفكر الإسلامي" وتلك مهمة ضخمة لم يتصدر لها إلا قليل، من أبرزهم هؤلاء العمالقة الذين ظهروا في مراحل مختلفة متوالية وفي فترة من أدق فترات تبلور الفكر الإسلامية وسعيه إلى بناء منهج شامل يضم مختلف التيارات ويشجب مختلف الانحرافات التي أثارتها الدعوات الباطنية والمخاصمة للإسلام أساساً، هو منهج أهل السنة والجماعة.
ويمثل كل منهم تحدياً واضحاً لخطر من أخطار الغزو المتصل من المذاهب والدعوات المعارضة، كما يبدو منهج كل منهم في كلمة واحدة هي: "التماس مفهوم القرآن أساساً" شجباً لكل انحراف يحاول أصحابه صرف الفكر الإسلامي عن مجراه الأصيل ومنهجه الطبيعي.
كان المفهوم الذي دافع عنه ابن حزم هو: الوقوف عند النص في مقابل الإسراف في تجاوزه والمبالغة في الاستنساج منه وتحميله الكثير المختلف مما يحتمل وما لا يحتمل – على حد تعبير الأستاذ طه الحاجري – فقد استفاضت في عصره نزعة تدعو إلى التوسع في تحميل آيات القرآن ما تطيق وما لا تطيق واجتلاب الأخبار والآراء من هنا وهناك والتكثر من ذلك لإقحامها في تفسير القرآن.
فدعوة ابن حزم أساساً: معارضة التأويل والتماس المفهوم القرآني الواضح والوقوف عنده. وقد رأى ابن حزم أن القياس والرأي قد بدعدا بين المفهوم الأساسي، وبين التفسير الذي وصل إليه الفقهاء، وأن ذلك كان مصدر الفساد الذي تعرضت له الحياة الاجتماعية في بيئته الأندلسية، فكانت دعوته هي صدى تيار القياس الذي أصبح وسيلة سهلة في أيدي بعض الفقهاء تكاد تخرج بالناس عن الحدود والضوابط التي رسمها القرآن، لتبرر أوضاع الحضارة والحياة الاجتماعية التي خرجت عن مبادئ الأخلاق والضمير في قرطبة.
وقد رأى ابن حزم أن القياس والاستحسان قد خرجا عن الحدود التي وضعت لهما بحيث أصبحت الأمور أشبه "بالفوضى التي لا ضابط لها".
وقد رسم ابن حزم مفهومه على هذا النحو:
"جملة الخبر كله أن تلزموا ما نص عليه ربكم تعالى في "القرآن" بلسان عربي مبين، لم يفرط فيه من شيء، وما صح عن نبيكم صلى الله عليه وسلم برواية الثقات من أئمة أصحاب الحديث رضي الله عنهم، مسنداً إليه عليه السلام، فهما طريقان توصلكم إلى رضى الله عز وجل. وأعلموا أن دين الله ظاهر لا باطن له، وجهر لا سر تحته، كله برهان لا مسامحة فيه، واتهموا كل من يدعو إلى أن يتبع بلا برهان، وكل من إدعى للديانة سراً وباطناً فهي دعاوى ومخارق، وأعلموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكتم من الشريعة كلمة فما فوقها ولا أطلع أخص الناس به من زوجة أو ابنة أو عم أو ابن عم أو صاحب، على شيء من الشريعة كتمه عن الأحمر والأسود ورعاة الغنم، ولا عنده عليه السلام سر ولا رمز ولا باطن، غير ما دعا الناس كلهم إليه، ولو كتمهم شيئاً لما بلغ كما أمر، ومن قال هذا فهو كافر، فإياكم وكل قول لم يتبين سبيله، ولا وضع دليله ولا تخرجوا عما مضى عليه نبيكم صلى الله عليه وسلم.
ويقول: إن كلام الله تعالى واجب أن يحمل على ظاهرة ولا يحال عن ظاهره البتة، إلا أن يأتي نص أو إجماع أو ضرورة على شيئاً منه ليس على ظاهره، وأنه قد نقل عن ظاهره إلى معنى آخر فالانقياد واجب علينا لما أوجبه ذلك النص أو الإجماع أو الضرورة، لأن كلام الله تعالى وأخباره وأوامره لا تختلف، والإجماع لا يأتي إلا بحق، والله تعالى لا يقول إلا الحق، وكل ما أبطله برهان ضروري فليس بحق.
وقد كشف ابن حزم عن جوهر رأيه ومفهوم في موسوعته الضخمة "المحلى" واستطاع أن يجدد شباب الفكر الإسلامي والفقه الإسلامي وأن يقدم آراء ناصعة جديدة دفعت تيار الثقافة الإسلامية إلى الأمام وأعادت صياغة مفهوم الفكر العربي الإسلامي على نحو يجري مع العصر المتطور والبيئة المتغيرة دون أن يخرج عن أرضيته الأساسية وقاعدته الأصيلة.
ومن اجتهاده الذي جدد به الفكر الإسلامي قوله:(/1)
إن كل مسلم عاقل بالغ من ذكر أو أنثى، حر أو عبد تلزمه الطهارة والصلاة والصيام فرضاً بلا خوف من أحد من المسلمين، وتلزم الطهارة والسلاة المرضى والأصحاء، ففرض على كل من ذكرنا أن يعرف فرائض صلاته وصيامه، وكذلك يلزم كل من ذكرنا أن يعرف ما يحل له ويحرم عليه من المآكل والمشارب والملابس والفروج والدماء والأموال والأعمال فهذا كله لا يسع جهله أحد من الناس، ويجبر الإمام أزواج النساء وسادات الأرقاء على تعليمهم ما ذكرنا، أما بأنفسهم وإما بالإباحة لهم لقاء من يعلمهم، وفرض على الإمام أن يأخذ الناس بذلك وأن يرتب أقواماً لتعليم الجهال.
ثانيا:
في مجال الفكر الإسلامي نجد دعاة ومجددون ينتظمون تاريخه كله، أما الدعاة فهم أولئك الأبرار الذين ينطلقون في الأرض ينشرون كلمة الله ويذيعونها في الآفاق. وقد حقق هؤلاء نتائج بالغة الأثر والأهمية وتم على أيديهم طوال تاريخ الإسلام دخول عدد كبير في الإسلام. لم تكن أداتهم في ذلك غير شخصية مؤمنة في التعبير عن عقيدة سمحة يسيرة، تؤدي القدوة فيها عملاً أضخم من كل كلام في الإقناع بشخصية المسلم.
أما المجددون ومصححو المفاهيم فقد حفل بهم تاريخ الفكر الإسلامي، ولم ينقطع تواردهم في كل عصر، وبيئة، يدعون الناس إلى التماس قيمهم من القرآن أساساً، ويردون على الشبهات المثارة، ويصححون المفاهيم التي تكون قد انحرفت نتيجة دخول مفاهيم غريبة عليها في محاولة للقضاء على القيم الأساسية التي يتسم بها الفكر الإسلامي.. وفي مقدمة هؤلاء ابن حزم والغزالي وابن تيمية..
أما ابن حزم فقد جابه موجة الجمود والتقليد التي كانت تسود عصره، وجدد الفكر الإسلامي ملتمساً أصوله من القرآن والسنة الصحيحة. وآراؤه واعية إيجابية قوامها الصراحة والاحتكام إلى العقل ومقاومة التقليد.
أما "الغزالي" فقد واجه عناصر عديدة من خصوم الفكر الإسلامي كالباطنية والدهرية وفلاسفة الإلهيات وعلماء الكلام وشجب مفاهيمهم جميعاً وأعلن أن أسلوب القرآن هو أعلى الأساليب وأبلغها وأدقها وأقربها إلى مختلف العقول والنفوس، وأنه أصدق من أسلوب المتكلمين وأنفع وأعم وأشمل للطبقات والمستويات الفكرثية المختلفة، وإن علم الكلام علاج مؤقت، نشأ في ظروف معينة للرد على شبهات وشكوك مثارة، ولا حاجة للطبائع السليمة والعقول المستقيمة إليه، أما "القرآن" فالغذاء الصالح والماء السائغ يحتاج إليهما كل إنسان وينتفع به آحاد الناس ويستضر به الأكثرين.
وواجه الغزالي الفلسفة فأثبت حقها في مجال الفلسفة الطبيعية والرياضيات وهاجم "الفلسفة الإلهية" وحدها.
وقال أن أغلب هذه العلوم (الفلسفة) الطبيعية والرياضية) أمور برهانية وأنه لا يخدم الإسلام إنكارها، وليس في الشرع تعرض لهذه العلوم بالنفي أو الإثبات ولا في هذه العلوم تعرض للأمور الدينية.
أما الفلسفة الإلهية ففيها أكثر أخطائهم، وقال أنهم ما قدروا على الوفاء بالبراهين على ما شرطوه في المنطق ويرجع ذلك إلى أن الإلهيات ليست كالعلوم الأخرى (الرياضة والطبيعة) وليس لها مقدمات ومحسوسات ومبادئ و "لهذا كثرت فيها أغلاطهم وتخيلاتهم" وقال إن خطر الفلسفة على أذهان الناشئة هو أن "يجدوا أصحابها لامع رزانة عقولهم وغزارة عملهم منكرين للشرائع والنحل جاحدين لتفصيل الأديان والملل، وقد ألحدوا وأنكروا الدين تطرفاً وتكايساً" ووجه هدفه إلى "تهافت عقيدة فلاسفة اليونان" وتناقض كلمتهم فيما يتعلق بالإلهيات وأن هذه المسائل ليست حقائق علمية:
وحصر الغزالي خلافه معهم فثي ثلاث مسائل:
ققولهم بقدم العالم.
قولهم بأن الله – سبحانه وتعالى – لا يحيط علماً بالجزئيات الحادثة من الأشخاص.
إنكارهم بعث الأجساد وحشرها.
وقال إن هذه المسائل الثلاثة لا تلائم الإسلام بوجه.
ومن هنا فإن الحملة دوماً إلى الغزالي بأنه خصم الفلسفة هي دعوى باطلة، وإنما هاجم الغزالي "الفلسفة الإلهية الإغريقية الوثنية" التي لا تتفق مع عقيدة التوحيد، وكشف عن أثر هذه الفلسفة في نفوس من يتمسحون بها ليثيروا الشكوك والأوهام حين ينكرون الأديان والشرائع. ولم يهاجم الغزالي إلا ما يصادم استدلالهم وتناقضهم واختلافهم وتهافت عقيدتهم.
وقد استطاع الغزالي بقدرته الفكرية العريضة يستصفي الفكر الإسلامي من الدعوات المنحرفة التي اتصلت به عن طريق الشعوبية والباطنية في محاولة لتغيير مفهومه أو هدم مقوماته. فرد على كل هذه الفرق، وكشف عن دسائسها وشبهاتها الخفية الدفينة.
وكان مجمل دعوته التماس مفهوم الفكر الإسلامي والمجتمع الإسلامي في القرآن نفسه باعتباره المصدر الأصيل الذي بدأت منه رحلة الفكر نفسه، وبحسبان أن منهجه وأسلوبه هو أصفى الأساليب وأقومها وأبسطها وأبعدها عن التعقيدات فضلاً عما له من "منطق" خاص، يتصل بالفطرة والذوق – وبذلك أعاد الغزالي صياغة الفكر الإسلامي من جديد.(/2)
وقد اختار الغزالي منهج "التعليم والثقافة" بدلاً من أسلوب "الجدل الكلامي" وناقش المسائل على أساس "العقل المتأدب بالشرع".
وهو يمزج علم النفس بالأخلاق والدين ويرى أن هدف الدراسات النفسية هو أن تكون وسيلة إلى تهذيب النفس ويرى أن دوافع السلوك في الإنسان هي: الطعام والجنس والمال والجاه.
وقد سبق الغزالي بهذا الرأي ما ذهب إليه فرويد وإدلر وأولهما رد السلوك الإنساني إلى الغريزة الجنسية والثاني رده إلى غريزة السيطرة.
وإذا كان الغزالي قد واجه مشكلات عصره ووضع النهج القويم لعلاجها، فإنه من خلال ذلك قد
واجه أكبر معضلات الفكر الإسلامي كله وهو العمل على تكامل الفكر الإسلامي بالتقاء الفقه بالتصوف والفلسفة والدين والعقل والقلب. وقد عمل الغزالي على إطلاق الحركة للعلم والفلسفة والعقل داخل إطار الفكر الإسلامي لا خارجه.
ويرى الغزالي أن للعقل مهمة كبرى لاشك فيها ولاريب، هي إدراك التناقض في الآراء والقضايا النظرية واستبعاد الأحكام المتناقضة في ميدان العلم وفي ميدان الآراء الدينية.
وبالجملة فإن الغزالي قد أعاد صياغة الفكر الإسلامي من جديد ملتمساً مصدره الأساسي من القرآن الكريم: "عقيدة وعبادة ومعاملة وخلقاً".
ثالثاً:
من أهم قوانين الفكر الإسلامي ظهور مصلح مجدد، يصحح المفاهيم كلما اضطربت ويعيد بناء هذا الفكر من خلال مفهوم "القرآن" نفسه بحسبانه حجر الأساس والمصدر الأصيل لمفاهيم الإسلام.
وقد ظهر عدد من هؤلاء المصلحين والأئمة والمفكرين على فترات متعددة خلال حركة التاريخ الإسلامي والفكر الإسلامي في مقدمتهم: ابن حزم والغزالي وابن تيمية.
واجه الغزالي تحديات الغزو الصليبي بإعادة صياغة الفكر الإسلامي على أساس "الوسطية والتكامل" بصهر الاتجاهين اللذين كانا يسودان الفكر الإسلامي ويحاول كل منهما ان يعتبر نفسه ممثلاً للإسلام دون الآخر: الفقه والتصوف. أما الفقهاء فقد كانوا يقفون عند حدود النصوص، بينما كان الصوفية يحاولون تجاهل النصوص فلما جاء الغزالي مزج الفقه بالتصوف، والعقليات بالروحيات، وفق مفهوم الإسلام نفسه تكاملاً بينهما ووسطية بعيداً عن الجمود والانحراف، ثم سرى منهجه وتوسع، غير أن سقوط بغداد في أيدي المغول والتتار في منتصف القرن السابع كان بعيد الأثر في غزو فكري جديد – فقد سيطرت مرة أخرى انحرافات جديدة في مجال مفهوم التوحيد بالذات وغلبت الدعوة إلى الحلول والاتحاد بانحراف يتعارض مع مقومات الإسلام وأصوله.
وكانت الفلسفة الباطنية المعادية للسنة – التي هي أساس الإسلام – هذه الفلسفة قد خلقت مفاهيم جديدة أخذت تزداد قوة على مرور الزمن وتحاول أن تغلف قيم الإسلام الأساسية حتى كانت هذه المفاهيم المنحرفة أن تأخذ مكان المفهوم العقائدي الصحيح.
وكان الغزو الشعوبي يعمل أصلاً على تدمير أعظم حصون الإسلام والفكر الإسلامي وهو "التوحيد" ومن ثم فضت البدع والمحدثات، وغلبت أفكار الفلسفات اليونانية وأفكار المجوسية وتغلغلت في العقائد والعبادات وألوان السلوك ولاسيما في مجال التصوف وما يتصل به من رموز ودعاوى وتلبيسات، وغلبت على العلماء نزعة التقليد مع التعصب المذهبي، وكانت الأفكار الوافدة من الفلسفات الهندية واليونانية حول الحلول والاتحاد من أخطر هذه الآراء.
وكان معنى هذا كله انحراف مفهوم الإسلام انحرافاً خطيراً عن "القيم الأساسية في القرآن" وهي حجز البناء في الفكر الإسلامي الغربي.
وأصبح التحدي الناتج عن هذا الركام الهائل من الأفكار والمذاهب والفلسفات الدخيلة دافعاً إلى ظهور مصلح جديد متكامل الفهم للإسلام (عقيدة وشريعة وأخلاق) قوي العزيمة والإرادة لتمزيق هذه الشبهات ودحض المحاولات المتوالية لصبغ الفكر الإسلامي بلون غريب بعيد عن طابعه الأصيل. وكان تقي الدين أحمد بن عبد الحليم الشهير بابن تيمية وهو حامل لواء الوسطية في مواجهة الانحراف، والتكامل في مواجهة التجزئة. والحركة في مواجهة الجمود. وفق سنة ثابتة وقانون صارم يتمثل في مجرى الفكر الإسلامي منذ نزال القرآن، ويسجري وفق إعادةت صياغة الفكر الإسلامي على أساس مضامين القرآن وأسسه الأصلية.
وقد هاجم ابن تيمية كل انحرافات الفكر الإسلامي الخارجة عن مفهوم القرآن، وأعلن أن الأساس الأصيل لهذا الفكر إنما يتمثل في الكتاب (القرآن) والسنة مفسرة له وموضحة. وقال أن الكتاب (القرآن) ليس علم عقائد بالخبر والنقل وحسب، بل بالدليل والبرهان. وأن النبي فسر القرآن كله لأنه هو الذي عليه أن يبينه ويوضحه، وبيانه من أركان تبليغ الرسالة.
وقد تلقى الصحابة تفسير القرآن كله وعلمه كله، وعلى الإنسان ألا يتبع إلا الدليل من الكتاب أو السنة أو آثار السلف الصالح، ويستأنس بأقوال التابعين أساساً وربما جاز التقليد في فروع الدين من غير أصوله لأن العقيدة أصل الدين.(/3)
ويرى ابن تيمية أن "منهاج القرآن" ليس هو منهج الفلاسفة ولا المتكلمين ولا الماتريدية ولا الأشاعرة، بل هو غيرها، لأن العقائد لا تؤخذ إلا من النصوص ولا تؤخذ أداتها إلا من النصوص، فأصحاب هذا المنهج يؤمنون بالنص وبالأدلة التي يؤمئ إليها النص، لأنه وحي أوحي به إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأن الأساليب العقلية المنطقية مستحدثة في الإسلام ولم تكن معروفة قطعاً عند الصحابة والتابعين.
ولا سبيل إلى معرفة العقيدة والأحكام وكل ما يتصل بها إلا من "القرآن" والسنة المبينة له والسير في مسارهما، فما يقرره القرآن وما تشرحه السنة مقبول لا يصح رده، فليس للعقل سلطان في تأويل القرآن وتفسيره أو تخريجه إلا بالقدر الذي تؤدي به العبادات، وسلطان العقل هو في التصديق والإذغان، وبيان تقريب المنقول من المعقول. وعدم المنافرة بينهما، فالعقل يكون شاهداً لا حاكماً ويكون مقرراً ومؤيداً لا لا ناقصاً ولا رافضاً ويكون موضحاً لما اشتمل عليه القرآن في الأدلة.
هذا هو "منطق القرآن" الذي ينطلق منه مفهوم الفكر الإسلامي وهو غير منطق أرسطو الذي سيطر فترة ما، وعند ابن تيمية أن منهج الفلاسفة مضطرب حين سعوا إلى بناء طريقهم على ترتيب الإقيسة العقلية فقد فاتهم إن العقل وحده عاجز عن درك حقائق الدين، ولابد من النص، وعنده أن العقل يتجه إلى القرآن ويتفهمه بالفكر، أي بموازنة آيات القرآن بعضها ببعض، فيكون تأويل القرآن من القرآن، لا من أقوال الفلاسفة والمتكلمين. ويأخذ ابن تيمية على الفلاسقة طريقهم في التفكير والمقدمات التي يبنون عليها النتائج التي وصلوا إليها. ويرى أن القرآن والسنة قد أشارا إلى "المقدمات" التي تهدي إلى سواء السبيل.
وجملة منهج ابن تيمية: "إن الفساد لم يأت من قبل النصوص فهي حق في معناها ولا تحتاج إلى تأويل، وإنما جاء من حملها على معان فاسدة ليست معانيها المرادة بها" وبذلك حرر ابن تيمية الفكر الإسلامي من الأزمة التي مرت به حين يقوم من يدعو إلى رأي منحرف فيستغل النصوص ويلوي أعناقها والإسلام بعد ذلك سمح رحب، سائر بالحياة، متصل بها، مفتوح الآفاق على الفكر الإنساني كله.
رابعاً:
يرى الكثيرون أن "ابن خلدون" لا يعدو كونه مؤرخاً إسلامياً، أو واضع علم الاجتماع الإسلامي، وتلك حقيقة أعترف بها عدد كبير من الباحثين الغربيين المنصفين، بعد أن أنكره بعض أهله من الباحثين العرب وأوسعه ذماً وانتقاصاً وهو طه حسين.
غير أن ابن خلدون لا يرى منفصلاً عن مجرى الفكر الإسلامي. ولا يمكن تناوله إلا من خلال تحديات عصره وجيله. فقد جاء ابن خلدون في القرن الثامن الهجري وقد تغير "عالم الإسلام" تغيراً كاملاً، بعد أن مرت به جحافل الصليبيين والتتار وصارعته وبعد أن غلب عليه طابع جديد: ساير مرحلة العصر العثماني غلب فيه الجانب العقلاني، وبدأ كأنما يواجه الفكر الإسلامي أزمة من أزماته.
وقد كان ابن خلدون على مستوى الثلاثة الكبار (ابن حزم والغزالي وابن تيمية) في تجديد الفكر الإسلامي حين هاجم أسلوب الجدل اللفظي والمماحكات اللفظية في التأليف والشرح والتعليم، وأنكر منهج التقليد ودعا إلى التماس منابع الفكر الإسلامي في الإسلام نفسه. وأنكر الطريقة التي شاعت في عصره.. طريقة الجمع والاختصار واعتماد كل العالم على علوم من سبقه والوقوف عندها. ودعا إلى طريقة التماس المصادر الأساسية، وعقد في مقدمته فصلاً هاجم فيه كثرة الاختصارات المؤلفة في العلوم وقال إنها مخلة بالتعليم، ونقد التعليم في عصره وبين الطرق الصالحة فيه، وهو أخطر الأدواء التي عرفها عصره.
وكان ابن خلدون على قدر وافر من الإحاطة بالحركة العلمية في العالم الإسلامي كله، فلم يتقوقع ويقف عند بيئته وحدها، بل أحاط وواصل الإحاطة بكل الحركات العلمية في بلاد المسلمين من مشرقها إلى مغربها وفي بلاد أوربا أيضاً.
وقد كان ابن خلدون وسطاً بين رأي ابن رشد في الفلسفة ورأي الغزالي في التصوف فلم يذهب إلى الفلسفة ذهاب ابن رشد ولم يعارض التصوف وأخذ فيه بمنهج الغزالي.
وإذا كان الفكر الغربي قد أفاد من حصيلة الفكر الإسلامي في مجال "منهج العلم التجريبي، الذي أنشأه المسلمون، فإن عصارات ضخمة من الفكر الإسلامي في مجال الاجتماع والاقتصاد والسياسة والتربية قد حصل عليها الفكر الغربي وحاول الإدعاء بأنه مبتدعها أصلاً وكتابات ابن سينا والغزالي وابن خلدون والماوردي وعشرات غيرهم قد كانت (الأصول المؤصلة) لعشرات من النظريات العلمية الحديثة في مجال الفكر.
وآراء ابن خلدون في طليعة هذه الحصيلة فهو:
أولاً: اكتشف نظرية الأجيال الخاصة بظهور الأسرار ونهضوها قبل أن يعرفها (أوتوكار لوتيس) في أواخر القرن التاسع عشر.
ثانياً: عرف ابن خلدون قانون (التشبه بالوسط) قبل أن يعرفه العالم الطبيعي (دارون) بخمسة قرون.
ثالياً: اكتشف مبدأ وجود المادة قبل أن يكتشف ذلك العالم الألماني أرنست هيجل بأكثر من خمسة قرون أيضاً.(/4)
رابعاً: سبق ميكافيلي ومونتسكيو وفيكو في وضع أصول الاجتماع.
خامساً: اكتشف مبادئ العدالة الاجتماعية قبل كونسبدران وماركس وباكوتين بخمسة قرون.
سادساً: اكتشف مبدأ الحتمية الاجتماعية قبل رجال الفلسفة الإسبانية وعلم النفس بقرون عديدة. وقبل مونتسكيو. وأعلن تبعية المجتمعات لقوانين ثابتة في القرن الرابع عشر الميلادي.
سابعاً: أدرك أن علم الاجتماع يضم مظاهر كثيرة كعلم السياسة والاقتصاد والعلم والتعليم وبعد بخمسمائة عام قال الفكر الغربي أن العلوم كلها مظاهر من علم الاجتماع.
ثامناً: قوى من الروح التجريبية والنظر العلمي الواسع الأفق.
خامساً:
الإمام الغزالي – البحث عن الحقيقة:
"... وكان قد ظهر عندي أنه لا مطمع في سعادة الآخرة إلا بالتقوى، وكف النفس عن الهوى. وإن رأس ذلك كله قطع علاقة القلب عن الدنيا بالتجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود. والإقبال بكنة الهمة إلى الله تعالى. وإن ذلك لا يتم إلا بالإعراض عن الجاه والمال والهرب من الشواغل والعوائق. ثم لاحظت أحوالي فإذا أنا منغمس في العلائق، وقد أحدقت بي من جميع الجوانب، ولاحظت أعمالي وأحسنها التدريس والتعليم، فإذا أنا فيها مقبل على علوم غير مهمة ولا نافعة في طريق الآخرة، ثم تفكرت في نيتي في التدريس فإذا هي غير خالصة لوجه الله تعالى، بل باعثها ومحركها طلب الجاه وانتشار الصيت، فتيقنت أنني على شفا جرف هار، وأني قد أشرفت على النار، إن لم أشتغل بتلافي الأحوال، فلم أزل أفكر فيه مدة، وأنا بعد على مقام الاختيار، أصمم العزم على الخروج من بغداد، ومفارق تلك الأحوال يوماً، وأحل العزم يوماً، وأقدم فيه رجلاً وأوخر عنه أخرى، لا تصدق لي رغبة في طلب الآخرة بكرة، إلا ويحمل عليها جند الشهوة حملة فتغيرها عشية، فصارت شهوات الدنيا تجاذبني بسلاسلها إلى المقام، ومنادي الإيمان ينادي الرحيل الرحيل، فلم يبق من العمر إلا القليل، وبين يديك السفر الطويل، وجميع ما أنت فيه من العلم والعمل رياء وتخييل، فإن لم تستعد من الآن للآخرة فمتى تستعد؟ وإن لم تقطع الآن هذي العلائق فمتى تقطع؟ فبعد ذلك ينبعث العزم على الهرب والفرار. ثم يعود الشيطان ويقول: هذه حالة عارضة، وإياك أن تطاولها فإنها سريعة الزوال، فإن أذعنت لها وتركت هذا الجاه العريض، والشأن المنظوم الخالي من التكدير والتنغيص، والأمر المسلم الصافي من منازعة الخصوم، ربما لا يتيسر لك المعاودة. فلم أزل أتردد بين تجاذب شهوات الدنيا ودواعي الآخرة قريباً من ستة أشهر، آخرها رجب سنة ثمان وثمانين وأربعمائة، وفي هذا الشهر جاوز الأمر حد الاختيار إلى حد الاضطرار، إذ قفل الله علي لساني حتى اعتقل عن التدريس، فكنت أجاهد نفسي أن أدرس يوماً واحداً تطبيقاً لقلوب المختلفين إلى، فكان لا ينطلق لساني بكلمة ولا أستطيعها البتة، ثم اورثت هذه العقلة في اللسان حزناً في القلب، بطلت معه قوة الهضم، وقرب الطعام والشراب، فكان لا تستساغ لي شربة ولا تنهضم لي لقمة، وتعدي ذلك إلى ضعف القوى، حتى قطع الأطباء طمعهم في العلاج. وقالوا هذا أمر نزل بالقلب، ومنه سرى إلى المزاج، فلا سبيل إلى العلاج".
هذا هو أعظم حادث، على وجه التحقيق، في حياة الإمام الغزالي، تحولت به نفسه وعقله وحياته من وضع إلى وضع. وهذه الصفحة من مذكراته تكشف عن طبيعته وكيف أخذت تنتقل حثيثاً من الفلسفة
إلى التصوف، إذ خلع "الغزالي" على أثر هذه "العقلة" رداءه الذي اتشح به أربعين سنة، وترك العلم، وهجر بغداد، وساح في الأرض حتى بلغ منارة مسجد دمشق، وبينها وبين الصخرة في بيت المقدس وضع أعظم آثاره، وأجل مؤلفاته: "إحياء علوم الدين" الذي كان بعيد الأثر في تاريخ الفكرة الإسلامية.
واستطاع الغزالي بكتابه "الإحياء" أن يفصل في القضية التي ظلت أكثر من ثلاثة قرون موضع الخلاف بين أنصار الفقه وأنصار التصوف.
هذه القضية التي وصل فيها الخلاف أشده وأقصاه، واتسعت فيها شقة الجدل، وبلغت المساجلات إلى أبعد حدود الهجاء والصراع.
كل من الفقهاء والمتصوفة يرى نفسه على الحق، وقف الفقهاء ينقضون آراء الصوفية ويرونها زيفاً في الدين، وقال الصوفية أن الفقهاء لا يؤمنون إلا بظاهر الشرع.
ثم جاء الغزالي فحسم المسألة، وفصل في القضية، وقضى بأن الفقه والتصوف ليسا شقين للإسلام، وأنهما لا سصطدمان ولا يختلفان، وكان كتاب "الأحياء" صورة واضحة لهذا الفهم الجديد.
مفتاح حياة الإمام الغزالي هو البحث عن "الحقيقة". وقد كلفه هذا مشقة وأهوالاً كباراً، فقد قضى زهرة عمره باحثاً منقباً، مسافراً متنقلاً، حتى وصل أخيراً.
حاول الوصول إلى "الحقيقة" عن طريق العقل والمنطق والفلسفة. ثم حاول ذلك عن طريق العلم والتصوف والروحية، وظل بين موجات الشك العاصفة، ولمعات اليقين الصادقة، خلال فترة شبابه الحاد القوي.(/5)
وكان في قلب بغداد وفي صدر المدرسة النظامية، يتألق كعالم، ولكنه كان في صميم نفسه يقاسي موجة عاصفة من الشك، وكان المنطق والعلم يضيقان بما يريد من فهم "كنه" الحياة.
وإذا به فجأة، وعلى غير انتظار، ينقطع عن الدرس، وينعقد لسانه عن الكلام وينصرف عن الطعام، ويدخل في مرحلة عجيبة من الغيبوبة والتهويم.
ولم يجد مخرجاً من هذا الحرج إلا أن يذهب إلى الحجاز، ويترك التدريس، ويدخل الخلوة، ويعكف على الرياضة الروحية.
وكانت هذه "الأزمة"، ولاشك، قمة حياته العلمية التي أوشكت على الانتهاء، ليبدأ حياة تقوم على الوجدان والروحية والتصوف.
ثم ترك الحجاز إلى دمشق، واعتكف في منارة الجامع الأموي، ولبس الثياب الخشنة، وزهد في الطعام والشراب، فلم يكن يأخذ منهما إلا القليل الذي يتبلغ به.
وانتقل إلى دمشق إلى بين المقدس واعتكف في المنارة الغربية من المسجد الأقصى، وقضى بها وقتاً طويلاً كتب فيه أصول كتابه الضخم "إحياء علوم الدين".
ثم رحل إلى الإسكندرية، فأمضى بها فترة من الزمان، وفي هذه الرحلة الطويلة تبلورت نفس الغزالي وتفتحت لفهم الحقيقة. وانتهت الأزمة النفسية الضخمة التي ألمت بهذه الشخصية الكبرى.
ويبدو الإمام الغزالي خلال هذه الأزمة بصورة الرجل الذي يستهدف الوضوح، ويتجه إلى النور، والذي يصر على أن يصل إلى ما يريد دون أن يعبأ أو يضيق بما يكلفه ذلك من أهوال.
وفي سبيل الغاية التي وطن عليها نفسه هاجر وانتقل وطوف، وقضى أكثر من عشر سنوات في ذلك الطواف.
خرج وهو قمة الشك والاضطراب وانعقاد اللسان، وعاد وقد انجابت عنه الأزمة، وتفتح له طريق اليقين.
وكسب التراث الإسلامي من أزمة الغزالي هذا الكتاب القيم "الإحياء" لالذي يعد الآن، وبحق، منار الراغبين في العلم والفقه والتصوف جميعاً.
وقد هداه طول البحث إلى حل أزمتين: أزمة نفسه، وأزمة الفكرة الإسلامية. فهو حين قضى على الصراع النفسي الداخلي في أعماقه قضى أيضاً على الخلاف الذي نشب طويلاً بين الصوفية والفقهاء، وامتد زمناً، واتسعت معه شقة الجدال والسجال. فمزج بين الصوفية والفقه في أسلوب بارع، وطريقة واضحة.
وإن كان قد فات الغزالي أن يجمع الأنصار وإن يكون الدعاة وهو حي، فقد ظلت آثاره تجمع الأنصار طوال القرون المتوالية، وتظل دستوراً للدعاة إلى الإسلام في كل مكان.
وأبرز ما في حياة الإمام الغزالي "السفر" والترحال، وهو عند الباحثين النفسيين دليل الحيوية والقوة الروحية، لاسيما في ذلك العصر الذي كان الانتقال فيه غاية في العسر، وقطعة من العذاب.
فقد ولد بطوس، وهاجر إلى جرجان في مطلع شبابه، حيث اتصل بالعلماء، ثم عاد كرة أخرى إلى طوس وانقطع للعلم. ثم ضاق بها، فرحل إلى نيسابور، واتصل بالإمام الجويني، فأخذ عنه مذاهب الجدل والأصول والمنطق.
ومضى يدرس إلى أن قضى أستاذه، ففارق نيسابور قافلاً إلى بغداد، واتصل في بغداد بنظام الملك الذي ولاه التدريس في "النظامية". وتألق نجم الغزالي في بغداد، واتسعت حلقات دروسه.
ثم جاءت القارعة، وتطورت حياته على ما وصفنا.
وكان الغزالي حرباً علمية، غاية في الصرامة والقوة والعنف، على الباطنية، فقد مزق آراءهم، وسفه أفكارهم.
ولا يشك الباحث الذي يقرأ فصوله في السفر، والزواج، والمعاملة، والصداقة، أنه مجرب خبر الحياة، واتصل بها أوثق اتصال. هذا إلى أنه دفع التصوف بالقواعد التي قعدها له إلى السنة، ونقاه من الأخطاء التي تجمعت حوله. بل إنك لا تجانب الحق حين تقول أن الغزالي لم يدع مادة من علوم زمانه دون أن يحيط بها أو يتناولها بالدرس والنقد وقد تبلورت علومه في كتاب "الأحياء" بالذات.
ولا يزال "الغزالي" علماً من أعلام الفكر الإسلامي، كما أنه سيظل رمزاً على القوة النفسية التي تتمثل في الرجل الذي آمن بهدفه، فأمضى حياته سائحاً في سبيل الوصول إليه.(/6)
مصداقيّة المثقّف
محمد الدحيم 21/7/1427
15/08/2006
المثقف أيًّا كان توجُّهه فهو يتحمل مسؤولية الكلمة التي يقولها وينشرها؛ إذ يفترض أنه صاحب رسالة وهدف يسعى من خلال ثقافته الوصول إلى هذا الهدف وإيصال تلك الرسالة.
والنبل في الأهداف والسمو في الرسائل لن يكون مسوّغًًا للأخطاء والمغالطات التي يرتكبها المثقف بسبب المناهج والوسائل والخطط غير المدروسة والمرتجلة أو غير المتناسقة مع الواقع وتحوّلاته، والتي يذهب ضحيتها المجتمع المتلقي بأطيافه كلها.
لست هنا أريد أن أحاسب المثقف أو أدقق عليه، ولكن الذي أريد قوله وحكايته أن الضحيّة لثقافة الفوضى، ليس المجتمع المتلقي فقط! ولكن أبرز الضحايا وأخطرها هو المثقف نفسه؛ إذ سوف يفقد مصداقيته ويتحوّل إلى فقاعات في فضاء، والتعامل هو مجرد الزمن، ولقد شاهد العالم هذا التحوّل وعاش المتلقي أزمة بمثقفيه، وكشف الإعلام عن عورات. فلماذا؟ ونحن في مرحلة تُعدّ بدائية إذا ما قيست بالتقدم الثقافي عند الغير! وكيف الحل لهذه المشكلة الآخذة بالاتساع، والتي نخشى أن يتوارثها الجيل؟
هذا التساؤل والمحاولة في المعالجة لن يكون مسؤوليتي ككاتب لهذه المقولة وحدي، ولكنه يستدعي مراجعة شاملة يشارك فيها صُنّاع القرار وحَمَلة الأقلام ومنابر الإعلام، وتستحق عقد اللقاء والمؤتمر؛ لأن بناء الثقة في الثقافة لو أنهدم بمعول المثقف فستكون الخسارة كبيرة لا تغني فيها الترميمات والتحسينات، لاسيما ونحن نعاني التراجع والتخلّف في الكثير من النواحي العلمية والثقافية!
هنا سأشارك بطرح الرأي حول هذه الحالة (أزمة مصداقية المثقف) من أين نشأت؟ وما هو الحل؟
لقد وجدت هذه الحالة من شيئين:
1- تراكمات ومورثات لأخطاء في التركيبة الثقافية لحظة نشأة العلوم وتأسيسها (ومَن يوظف مَن) في تلك المرحلة، ثم تحوّلت تلك التراكمات إلى أشبه بالأيديولوجيات والمقدسات، رافق ذلك عدم الرغبة في التحديث والتطوير والتفكيك وتعدّد القراءات، وربما وصل الأمر إلى اعتبار محاولات مثل تلك زندقة ورِدّة -عند قوم- واعتبارها ضعفًا في الولاء والانتماء -عند آخرين- أو لاعتبارات أخرى من أبسطها وأصدقها أننا قوم وجدنا آباءنا على أمة ولم نتعود على التغيير والمراجعات.
2- المثقف -المحدث- وجد نفسه أمام تلك التراكمات من جهة، وبين المستجدات المتلاحقة من جهة أخرى، فتخلقت أمامه ثنائيات خطيرة تتمثل في (التراث والمعاصرة) (القدامة والحداثة) و... وقد تفاجَأ بما لم يفكر فيه، وهو يعتبر نفسه إصلاحيًا بثقافته فخنقته الثنائيات، وقذفت به في ثنائية أخطر وهي (الانتماء أو الارتماء) ليفقد بذلك منهجية الاعتدال والتوسّط، وهكذا أصبحت أوراقه مخلوطة يطالب بكل شيء ويمانع كل شيء، أي يتناقض في كل شيء، وكانت مخرجاته الثقافية تعيش التصادم بين أولها وآخرها في عمر لا يتجاوز عشر السنوات، مما لا يجعلنا نقبل الاعتذار المقدم على هيئة مراجعات.. بل لا نفسر ذلك إلا بالنزق والفوضى وحب الظهور، ولو من مسرح الإصلاح وإذاعة التقوى وتلفاز العز.
إذن نحن أمام مشكلة اجتماعية وثقافية في آن واحد، وهذه المشكلة من إنتاج الثقافي نفسه، فما هو الحل؟ وهل ننتظر من عقلية المشكلة ذاتها أن توجد لنا حلاً؟
أعتقد أننا لن نستفيد من عقلية المشكلة سوى الاعتراف الصريح بالمشكلة، فلعل وعسى أن يوقف هذا الاعتراف النزف؛ ليتمكن المصلحون من التفكير وإعادة التشكيل.
أما الحل من رؤيتي فسوف أوجزه بنقاط أشبه بالخطوط العريضة مطروحة للتفكيك والقراءة والمداولة والرد والنقض.. وكل ممارسات النقد.
أولاً: إحياء دور المؤسسة الثقافية الرسمية، والانتقال بها من الإدارة إلى الممارسة، وتكون طواقمها القيادية من المهتمين لا من الموظفين؛ أي الذين يعملون بروح المثقف لا بنفسية الموظف.
ثانيًا: تخصص المثقف وتصنيف المثقفين من واقع إنتاجهم، لا من واقع تحصيلهم الأكاديمي؛ لأن جامعاتنا –وللأسف- لم تعد مقياسًا كافيًا؛ فالطلاب يُحشرون إليها طلبًا للوظائف لا للعلم.
والمطالب بهذا التخصص أكثر من غيره هو المثقف نفسه لأن يكتشف ذاته، ويتعرف على قدراته وإمكانياته ومجالاته التي يتحرك فيها، وعليه أن يتوقف عن الانجرار وراء محترفي الإعلام ومقدمي البرامج، ومقابل ذلك عليه أن يبرز نفسه من خلال قوته العلمية واحترافه في إيصال الرسالة، وأن يظهر ما لديه بكل ثقة دون أن يلوّن حديثه بمصطلحات تموجيّه بقصد الإرضاء أو بقصد الإيحاء للغير بمرونة شخصيته وجاذبيتها.
ثالثًا: بناء الثقة بين المثقفين أنفسهم وإحياء روح التعاون والتكامل في حياتهم الثقافية، حتى يستطيعوا تقديم ثقافتهم بمصداقية نظيفة، وتلك هي أعظم البنى التحتية التي يمكن بناؤها، والتي تُسجّل في تاريخهم، وتنطلق منها أجيال لاحقة.(/1)
رابعًا: الجدلية بين السلطة والمثقف أخذت تأثيراتها السلبية على المُخرج الثقافي وعلى سلوكيات المثقف، والذي يتوجب عليه أن يعي الدور الذي يلعبه السياسي في تحريك الثقافة، ليتخذ المثقف موقفًا ليس (مع أو ضد)، ولكنه الموقف الذي يخدم مصلحة الثقافة ومتلقيها، وأن يحاول في الوقت نفسه التأثير في الرأي السياسي لخدمة تلك المصلحة، ونحن نجزم أن الجدلية بين السلطة والمثقف في جزء كبير منها مفتعَل ولو من حيث لا يشعرون.
خامسًا: الكل يقول بتقبل النقد، لكن أرض الواقع والممارسات لا توحي بذلك، فنقد المثقف مهمة هامة جدًا يمارسها المثقف نفسه تجاه ذاته، ويمارسها المثقف الآخر المتفق أو المختلف، ويمارسها المتلقي أياً كانت منزلته، وفي غياب النقد أو غياب آلياته أو أخلاقياته، أو محاولة مواجهة النقد بالتسويغات أو الردود، كل ذلك سيلحق بالجوهر الثقافي أذًى كثيرًا.
سادسًا: على المثقفين بناء مؤسسات غير رسمية ترعى الثقافة أياً كان توجهها وتدعمها، على ألاّ تتحوّل فكرة المؤسساتية لخدمة شخصية الرمز باسم المؤسسة، وليكن من أهم مهمات المؤسسة بنك معلوماتي متجدّد يوفر للمثقّف المرجعية الداعمة لمقولاته ومكتوباته، فلم تعد تجدي المصادر الساذجة كقصاصة من جريدة، أو حدثني أحدهم... ونحوها، وليكنْ أيضًا من مهمات المؤسسة رعاية المثقف الجديد، رعاية لا وصاية يتخرج منها مضطلعًا بمسؤولياته، منطلقًا بقيمه وأخلاقياته، ونحن نفتقر جدًا لتلك النماذج التي تتخرج متأصّلة مؤسسة، فغالب من يحرك الثقافة نجحَ بجهد شخصي، ومرّ بصعوبات ما كان لها أن تكون لو وُجدت المؤسسة الحاضنة.(/2)
...
مصدر تلقي العقيدة عند السلف الصالح ومنهجهم في الاستدلال
يتناول الدرس مسألة العقيدة والاعتصام وأنها ليست مسألة اجتهادية، وإنما هي مسألة توقيفية ضرورية ، تمس حياة الإنسان في الدنيا، وعندما يقف بين يدي الله عز وجل، وبين وجوب اتباع منهج السلف وسبب ذلك، وأقسام الناس تجاه هذا المنهج.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، أما بعد ،،،
قال تعالى: }وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ[56]مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ[57]إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ[58]{ سورة الذاريات . فالله خلق الخلق لعبادته، ومن أجل أن تقوم الحجة عليهم أرسل الرسل، وأنزل الكتب، وأوضح للناس المحجة البيضاء، فكانت مسألة العقيدة والاعتصام بها ليست مسألة اجتهادية، وإنما هي مسألة توقيفية ضرورية ، تمس حياة الإنسان في الدنيا، وعندما يقف بين يدي الله عز وجل.
تقسيم خاطىء: اشتهر عند أهل الكلام تقسيم الدين إلى فروع وأصول، فيجعلون مسائل الاعتقاد من أصول الدين، ومسائل الأحكام الشرعية من فروع الدين، فيقولون: الخطأ في مسائل الأصول قد يصل بصاحبه إلى الكفر ، أما ما يقع من الخطأ في فروع الدين فلا يصل للكفر ، وإنما يبقى خطأ اجتهادياً، فهذا التقسيم خطأ جداً؛ لأن الدين الذي أخبر عنه الرسول شامل للإسلام بأركانه الخمسة، وللإيمان بأركانه الستة، وللإحسان، فيجب علينا عدم تقسيم الدين إلى فروع وأصول، بل الدين كله دين، والتزام لأمر الله وشرعه، والتزام للعقيدة الصحيحة... شيء واحد لا نتخلى عن شيء منه .
أقسام الناس : المتتبع لأحوال الناس يجدهم ينقسمون إلى قسمين، لا ثالث لهما:
الأول: هم المتبعون للرسول على منهج الحق، ظاهراً وباطناً.
الثاني: المخالفون المعترضون على حكم الرسول وأمره.
أنواع الذين اعترضوا على أمر الله وحكمه وشرعه: وهم ثلاثة أنواع:
النوع الأول: الذين يعترضون بالشبهة الباطلة، ويسمونها قواطع عقلية، وهي خيالات، فينكرون أسماء الله وصفاته.
النوع الثاني: الذين يعترضون على شرعه وأمره وهم ثلاثة أقسام:
القسم الأول:الذين يعترضون بآرائهم المتضمنة تحريم ما أحل الله، أو إسقاط ما أوجب الله.
القسم الثاني:الذين يعترضون على حقائق الإيمان والشرع بما يسمونه بـ : الأذواق، وهذا عند المتصوفة.
القسم الثالث: الذين يعترضون على شرع الله بالسياسات الجائرة.
فهؤلاء كل واحد يقدم رأيه على شرع الله وأمره:
فالأولون: إذا تعارض العقل والنقل؛ يقدمون العقل...
والطائفة الثانية: إذا تعارض الأثر مع القياس؛ قدموا القياس على الأثر...
والطائفة الثالثة: إذا تعارض الذوق مع ظواهر الشرع قدموا أذواقهم على الشرع... وأصحاب السياسات إذا تعارضت مع الشرع يقدمون السياسة الجائرة.
النوع الثالث: الذين يعترضون على أفعال الله، وقدره، وهؤلاء أعظم الناس ضلالاً وجهالةً، وهذه اعتراضات الذين يريدون أن يبدلوا شرع الله ودينه بعقائد فاسدة.
وجوب اتباع منهج السلف:البعض يقول:لماذا تريدون أن نرجع إلى منهج السلف الصالح؟ فنقول: الرجوع إلى منهج السلف مسألة دين وعقيدة، فمنهج السلف أهل السنة والجماعة، ومصدرهم في التلقي: هو الكتاب والسنة، فهما المصدران الأساسيان لهذه العقيدة، ولا يجوز لأي إنسان مسلم أن ينتقص هذين بأي حال من الأحوال، قال تعالى} فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[65]{ سورةالنساء وقال تعالى:} هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ ءَايَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا ... [7]{ سورة آل عمران .
فهذا دليل على أن من اعتمد على الكتاب والسنة، ولا يخرج عنهما، فهو الذي سلك المنهج الحق، وليس لأي إنسان أن يسلك أي منهج شاء . يقول الله تعالى: } أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ [85]{ سورة البقرة فهذا في الذين يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض .
أما السنة: فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة تبين وجوب اتباع شرعه، والسلف مسلِّمون بالاعتصام بالكتاب والسنة كمصدر أساسي لتلقي العقيدة وأصولها وفروعها .(/1)
والله يقول في كتابه العزيز: } وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِم ...[36]{ سورة الأحزاب .
أقسام الناس تجاه المصدرين الكتاب والسنة: هم أنواع:
النوع الأول: الذين يقبلونهما ظاهراً وباطناً، وهما قسمان:
الأول:أهل فقه .
والثاني:أهل حفظ ورواية .
النوع الثاني: الذين يردون الكتاب والسنة ظاهراً وباطناً، وهي قسمان:
القسم الأول:عرف الحق، ولكن حسداً من عند نفسه رفض اتباع السنة .
والقسم الثاني: هم أتباع لهؤلاء.
النوع الثالث: هم الذين قبلوه ظاهراً، وردوه باطناً، وهؤلاء هم المنافقون.
النوع الرابع:من قبله باطناً، وجحده ظاهراً، وهذه تحدث للمستضعفين في بعض الأزمان؛ لأنه لا يستطيع أن يظهر أنه من أهل الإسلام، ومثل هذا حدث للمسلمين في الأندلس حينما أظهروا النصرانية، وأبطنوا الإسلام.
معالم في طريق الاتباع: إن الاعتماد على الكتاب والسنة في هذا له معالم أساسية:
أولاً : الإيمان لا يتحقق إلا بذلك.
ثانياً: العقول البشرية لا يمكن أن تستقل بتحصيل المعارف.
ثالثاً: ينبغي أن يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم معصوم تمام العصمة فيما يبلغه عن ربه سبحانه وتعالى.
رابعاً: ينبغي أن نعلم أنه لا تعارض بين نصوص الكتاب والسنة.
خامساً: الصحابة رضي الله عنهم وهم المبلغون لهدي الرسول، وأصحاب الرسول هم أحرص الناس على فهم الكتاب والسنة وتطبيقها، ولقد تميز هؤلاء الصحابة بعدة ميزات منها:حرصهم الشديد على الفهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانوا يسألون الرسول عن المسائل، وما يشكل عليهم وكانوا يراجعون السنة.
سادساً :الإجماع ما أجمع عليه المسلمون في عصر من العصور لا يجوز لأحد مخالفته كائناً من كان، وما أجمع عليه العلماء؛ مبني على الدليل.
سابعاً :كثير من الناس يفهم أن مذهب السلف الرجوع إلى الكتاب والسنة دون العقول، وهذا خطأ؛ فإن السلف يعتمدون على الكتاب والسنة، ولكن هذا لا يعني أن العقل لا دخل له في هذا الباب، بل كان السلف يجعلون للعقل دوره: فهم لا يرفعونه فوق منزلته، ولا يلغونه إلغاءً تاماً ولكن يضعونه في منزلته الصحيحة، فيقولون:إذا تعارض العقل والنقل ظاهراً؛ نقدم النقل على العقل.
ثامناً : فكل العباد مفطورون على الإيمان الصحيح، كما قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ] رواه البخاري ومسلم وأبوداود والترمذي ومالك وأحمد . فإن الله فطر عباده على فهم الأمور بأبسط الدلائل؛ لأن الفطرة تدل على أن هذا الكون له خالق، والفطرة تدل على توحيد الألوهية.
تاسعاً :منهج أهل السنة و الجماعة هو الاستدلال الشرعي على الأحكام الشرعية على وفق مسلك السلف الصالح، وهو:وجوب التحاكم إلى كتاب الله وسنة رسوله ... فالتحاكم إلى الشريعة ليس من الأمور الفرعية، قال تعالى: }...وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ[44] { سورة المائدة
استنباط الأحكام الشرعية مهمة العلماء المجتهدين وليس أمراً متروكاً لجميع الناس، فيدخل في ذلك العلماء المجتهدين، والجهلة مما ليس عنده علم في كتاب الله وسنة رسوله.
صفات هؤلاء العلماء:ومن يكون من العلماء لابد أن يتصف بـ: الإسلام، والتكليف، والعدالة، والاجتهاد، وتمييز الناسخ والمنسوخ، والعلم بلسان العرب، والعلم بأصول الفقه حتى يكون المفتي بانياً فتواه على منهج مقرر، وليست دعاوى عقلية، وأن يكون متضلعاً من العلم الشرعي، وعلى معرفة بأخلاق الناس وانحرافاتهم، وحليماً، متأنياً، غير متسرع في إصدار الأحكام.
أنواع الإفتاء:ويجب أن يعلم أن الإفتاء أنواع:
أولاً : إفتاء مجرد من الاجتهاد.
ثانياً:إفتاء معه اجتهاد، وهو على نوعين:
أحدهما:علم أصول الفقه لتحقيق المناط. الثاني:اجتهاد المجتهد في حكم شرعي غير معلوم الواقعة.
فالعلماء اشترطوا للمفتي شرطين أساسيين:معرفة الأحكام الشرعية، و معرفة الواقعة، وصورتها معرفة تامة، ثم يأتي: التطبيق العملي بتنزيل الحكم على تلك الواقعة.
وفي الختام: اسأل الله أن يبصرنا في ديننا، وأن يوفقنا لما يحبه ويرضاه، وأن يجنبنا الخطأ أو الزلل.
من محاضرة:مصدر تلقي العقيدة عند السلف الصالح ومنهجهم في الاستدلال للشيخ/عبد الرحمن المحمود(/2)
مصدر للاكتفاء العاطفي والجنسي [14] ... هل أنت أنثى؟
سألت أحدى الزوجات زوجها: ماذا تعني الأنثى عندك؟
فكان رده كالآتي: الأنثى هي مصدر الإكتفاء العاطفي والجنسي.
عزيزتي المرأة المسلمة، ما أدق هذا التعبير الشامل الواسع الكبير الذي يحتاج منا إلى تفصيل.
كيف يتحقق الإكتفاء العاطفي؟
إن المرأة تنتظر إلى رفيقها كأنه طفلها تحتويه بكل وسائل الاحتواء العاطفية والروحية والجسدية، ومن خصائص المرأة السوية الأبداع والعطاء والحنان والحب.
تعالى معي عزيزتي المرأة المسلمة؛ لنتعرف على ما يريده الرجل من خلال رسالة يرسلها الباز في كتابه [[ رسالة إلى زوجتي ]] نختار منها هذه النقاط، وهي ما تجلب الحب والمودة بين الأزواج.
1- املئي عليًّ حياتي وواقعي وبيتي.
2- حاولي أن تكوني أجمل امرأة في عيني؛ فالجمال قسمة عادلة بين النساء، ولكن بعض منكن لا تحسن إبرازه في صورة لائقة، وفي مظهر مقبول ومعقول.
3- كوني قريبة مني دائمًا في كل شيء؛ في النوم واليقظة، في الحل والترحال، في الخلوة والتفكير، في الطعام والشراب، وفي كل شيء.
4- كوني رحيمة بي وبأولادي وبالناس، فالرحمة لا تُنزع إلا من شقيّ.
5- أحيطيني بالحب والعطف والحنان والرعاية الكاملة.
من أقوالهم:
يقول الروائي الروسي الشهير [ توغينيف ]: سأتخلى عن كل عبقريتي وكبتي، لقاء زوجة تنتظر قدومي على العشاء بلهفة وشوق.
وتقول زوجة [ والتر دامروش ] -وهي ابنة [ جيمس بلاين ] أكبر خطباء أمريكا وأحد مرشحيها للرئاسة- عندما سُئلت عن أسباب سعادتها: [[ إذا كان اختيار الشريك المناسب هو الأمر الأول والأساسي في نجاح الزواج؛ فإن اللياقة واللباقة هي الأمر الثاني، فيا ليت الزوجات تتحلين باللياقة واللباقة في معاملة أزواجهن كما هن مع الغرباء؛ لأن أحدًا لا يحتمل اللسان السليط ]].
قالت لأبنتها:
قالت أم تنصح أبنتها:
[[ يا ابنتي، أنتِ مقبلة على حياة جديدة فيها، ستصبحين صاحبة لرجل لا يريد أن يشاركه فيك أحد، حتى لو كان من لحمك ودمك، كوني له زوجة, كوني له أمًا، اجعليه يشعر أنك كل شيء في حياته ]].
الشاهد في قول الأم: كوني له أمًا
نفهم من ذلك أن الرجل يحتاج إلى المرأة التي تحيطه بالحب والحنان والرعاية الأمومية مثل الأم مع أطفالها، إن هذا العطاء الذي يشرق من داخل نفسك بكل الفضائل والحب والخير والصفاء بلا حدود يجعل الحياة تسمو فوق الأنانية، والعداوة والبغضاء والكراهية، والحقد والحسد، هذا الحب الذي يسمو بالمرأة إلى مدارج الرقي والحنان والعطاء.
فليفض صدرك وقلبك بالحب والحنان، كما تفيض روحك بالخير والعطاء.
إن الرجل في حاجة إلى من يمنحهم الحب والعطف والحنان والمودة، والمرأة التي هذه سماتها هي المرأة الصالحة التي تعرف حق زوجها وأبنائها، وبيتها وأسرتها ومجتمعها، وتأملي معي قول ربنا تعالى: [[ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ]] [الروم : 21]
الاكتفاء الجنسي:
إن الإسلام قد ضمن لكل من الرجل والمرأة الطريقة الأسلم والألذ والأمتع لقضاء غريزة الجنس، وهي غريزة فطرية، حيث يشعر كل منهما بالأمان والاطمئنان، وهو يفضي على شريكة بجسده وروحه وحسه ومشاعره، هذا الإفضاء الذي يربط الأرواح بالأرواح، ويصل النفوس بالنفوس، ويوصر العلاقات ويجذب القلوب.
فكان الزواج هو الطريق الوحيد والفريد الذي ارتقى بهذه الغريزة وهذبها في حدود الفطرة، في حدود علاقة شريفة نظيفة بين رجل وامرأة، تجمعهما أكثر من رابطة.
كان من أهمها العلاقة الجنسية، ثم بعد ذلك تتحول لتطفي عليها علاقة أخرى؛ كالحب والمودة والسكينة والرحمة والأمن والاطمئنان، وبذلك يصل الإسلام بالغريزة والشهوة إلى درجة السمو والرفعة؛ فيرتقي الفرد والمجتمع.
إن الاتحاد والحسي والنفسي الذي يحرص الإسلام على تحقيقه بين الزوجين أثناء العلاقة الحميمة له فوائده الكثيرة، التي لا تخفى على من لهم إلمام في العلوم النفسية والجنسية، ويكفي أنه يضمن الاشباع الكامل للطرفين، مما يحقق معه احصانهما وتوثيق عرى المحبة والمودة بينهما.
والسؤال الآن:
لماذا نهتم بأمر الجنس بين الرجل والمرأة في الحياة الزوجية طبعًا؟
لأن من أعظم غايات الزواج هو العفة، والعفة لا تأتي إلا من هذا الطريق المأمون السليم بين الأزواج، وهو بذلك من أشرف الأهداف والغايات التي وعد الله صاحبها بأن يعينه ويغنيه إن كان قصده العفاف، قال صلى الله عليه وسلم: [[ ثلاث كان حق على الله عونهم؛ المجاهد في سبيل الله، والمكاتب يريد الأداء، والناكح يريد العفاف ]]. حسنه الألباني في صحيح الجامع.
إن حاجة الرجل إلى المرأة وحاجة المرأة إلى الرجل كحاجة الإنسان إلى الطعام والشراب.
انظري إلى قول الله تعالى: [[ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ ]] [البقرة : 187](/1)
ويقول تعالى: [[ نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ ]] [البقرة : 223]
وعلى المرأة أن تعي أهمية العلاقة الخاصةـ، ولا تمنع الزوج حقه، وفي الحديث [[ إذا دعا الرجل زوجته لحاجته فلتأته، وإن كانت على التنور ]]. صححه الألباني في صحيح الجامع.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [[ إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه، فأبت أن تجىء، فبات غضبان عليها؛ لعنتها الملائكة حتى تصبح ]]. رواه البخاري.
فلا تنسى المرأة أن النجاح في العلاقة الخاصة هي من أسباب السعادة الزوجية، وهي من الروابط الهامة لتضمن لنفسها ولزوجها العفة والعفاف.
ولا تنسى أنها بحاجة إلى هذه العلاقة، كما أن الرجل بحاجة إليها، مما يجعل المرأة تتهيأ لها نفسيًا وجسديًا وعاطفيًا حتى تصل إلى الدرجة التي تتعادل فيها مع الزوج؛ فيصلان للمتعة المشتركة التي تزيد الترابط والأواصر الحميمة بينهما.
وفي أهمية هذا الموضوع يقول عالم النفسي جون واطسون: [[ إن الجنس هو الموضوع الأكثر اهمية في الحياة، وهو السبب الأول في تحطيم سعادة الزوجين ]].
ويقول الدكتور [[ هاملتون ]]: [[ إن الطبيب النفسي المتهور وحده من يقول إن عدم التوافق الجنسي ليس مصدرًا للخلافات الزوجية، وعلى أي حال فإن بالامكان تجاهل كل الخلافات الناجمة عن مصاعب الحياة فيما لو كانت العلاقة الجنسية متكافئة ]].
وتشير الكثير من الدراسات الجنسية الحديثة إلى أن الانحرافات والخيانات والمشاكل التي تصيب الحياة الزوجية إنما تعود في معظم الحالات إلى عدم التجانس الجنسي والنفسي بين الزوجين، وعدم بلوغها درجة الاتحاد.
وخلاصة القول أن الأنثى الحقيقية فعلًا هي مصدر الاكتفاء العاطفي والجنسي لزوجها, فالمرأة هي الحنان والرعاية والحب والعطاء والأمومة والسكن للرجل والحنان حتى على الجماد بوضعه في المكان المناسب واضفاء الجمال على بيتها.
الحنان على كل ما في البيت برعايته واحتوائه بدأ من الرجل والأطفال والأهل وانتهاءً بما في بيتها من جماد أيضًا.
المرأة هي الدفء والتضحية والعطاء والحلم والصبر والحكمة وقوة التحمل.
أسأل الله العظيم أن يوفق المرأة المسلمة إلى الأنوثة الحقيقية كما أرادها الله وارتضاها لها.(/2)
مصطلح الآخَر ...من تحركات المعنى إلى احتكار اللّقب!
سامي بن عبد الله الماجد 21/3/1426
30/04/2005
(الآخر) مصطلحٌ قديم معروف، ولم يكن وليد هذه الظروف، فقد خاض فيه الفلاسفة والمفكرون والمثقفون، بل حتى الأدباء في أدبهم ونقدهم، وكثيراً ما يختلف المقصود بالآخر تحديداً باختلاف هُوِيّة المتكلم وفكره وانتمائه، ومهما يكن فإن الآخر يُطلق على كلِّ ما يقابل الذات أو الـ(أنا)، فالآخر يعني المخالف في المذهب، أو الفكر، ويعني الغرب أحياناً، وأحياناً يُقصد به الكافرُ.
لقد ظل هذا المصطلح زمناً طويلاً لا يُسمع إلا في خطابات النخبة، يتداوره المثقفون والمفكرون في أروقتهم وأُطروحاتهم الخاصة، فجاءت أحداث 11 سبتمبر لتبعث المصطلح بعثاً جديداً، فتُفيض فيه الصحف والقنوات، ويدخل كل بيت، ويصل أسماع العامة، فيتعارفون عليه بينهم، ويتساءلون عن دِلالاته، يحسبه بعضهم أن هذه هي نشأته الأولى.
وتعالت بيننا أصوات المطالبة بحقوق الآخَر، وما يتطلبه ذلك من وجوب إعادة النظر في بعض أساليب التربية والتعليم، التي تغذّي فكر الإقصاء، والقطعيَّة في الآراء. وكان الصوت الليبرالي أعلاها صوتاً، مطالباً بحقوقه تحت مظلة حقوق (الآخَر) في تحريك للمعنى نحوه.
وتحرّك معنى المصطلح مما يقتضيه اختلاف انتماء المتكلم وسياق الخطاب ومكانه، ولا بأس بذلك، فيكون معنى (الآخَر) حيناً هو المخالف في الرأي أو المذهب، ويكون حيناً آخَر هو المخالف في العقيدة، فكلاهما (آخَر) له قدره من الحقوق، وإن كان كافراً، فكلهم ذو حقوق؛ غير أنها متفاوتة بما تفرضه مسلّمات العقيدة. فلا بأس إذاً أن يتحرك المعنى حسب السياق، ما دام أن تحرّكه في مساحة العموم الذي يدلّه اللفظ، و لم يتحرّك تحرّك الاحتكار، ويُلغِ التحركات الأخرى. أمّا أن تحتكر فئةٌ "ما" لقبَ (الآخَر) ، فتصبح حقوق الآخر هي حقوقها فحسب، وما سواها فليس من (الآخَر) الذي له حقوق، فهذا هو أشد ما ينقض الدعوة إلى مراعاة حقوق الآخر ويناقض المطالبة بها.
إن أشد من يمارس هذا الاحتكار لحقوق الآخَر، فيجعلها حِكراً على نفسه، هم من وجدناهم أعلى الناس صوتاً وأكثرَ إلحاحاً بالمطالبة بها من أتباع الليبرالية في بلادنا، رأينا هذا الاحتكار ماثلاً في تعاملهم مع مخالفيهم من الإسلاميين وغيرهم، والذين هم بمنزلة (الآخَر) بالنسبة لهم؛ إذ يمارسون معهم أشد الإقصاء والإلغاء، بلْه التأليب والإيذاء. فلا نفهم من ممارستهم هذه والمصاحِبة –عجباً- لتلك المطالبة بحقوق (الآخَر) إلا اختزالاً لِلّقب في أنفسهم، واحتكاراً للمصطلح، وكأنه ليس لهم آخَر، له حق عليهم يؤدونه له!
وهذا (الآخَر) الذي ينقم على غيره مجاوزة نقد الرأي إلى لَمْز قائله والطعن في نيته، هو من يفعل الشيء نفسه مع مخالفيه من الإسلاميين، ولو في مسألة يسوغ فيها الخلاف، ولا يزعُه ورع ولا أدب أن يصف من يخالفه منهم بأنه (ظلاميّ)، أو (طالبانيّ)، أو (إرهابيّ)...إلخ. وهو الذي ابتدع لنا تهمة (المنهج الخفي)؛ ليوسّع عريضة الاتهام بالتطرّف والإرهاب كي تطال بُرآءَ نبذوا التطرف بطرَفَيْه: الغالي والجافي.
هذا (الآخَر) الذي يطالب غيره بالتثبت في الأخبار هو من أبعد الناس تثبّتاً فيها؛ بل قد يتعدى التساهل في النقل إلى تعمّد قلب الحقائق وتزوير الأخبار، فيزيد فيها، أو يُنشئها من عالم خياله إنشاءً، ويتخذ من الكذب مادةً للإثارة وترويج البضاعة، ولو على المؤسسات الشرعية الرسمية.
وإذا كان قبيحاً أن يفعل شيئاً مما سبق شابٌ حدَثُ السن يعيش مرحلة المراهقة، فأقبح منه أن يقع من مثقفٍ يحسب نفسَه على النخبة، دعاة التحضر وتنوير الفكر.
هذا (الآخَر) يتهم غيره بأنه يسيء فهمه للخطاب، ويُحمّل الكلام ما لا يحتمل، فكأنما يعني بهذا الاتهام نفسَه، فإنْ أنت قلت: هذا الفعل كفرٌ. قال عنك: أنت (تكفيريّ)، تكفِّر الناس. ويجعل من لازِم تكفير الفعل تكفير الفاعل. وإن أنت قلت: البراءة من الكفار من أصول الإسلام، جعل من لازِم قولك أنك تبيح ظلمَ الكافر، والاعتداءَ عليه، وتسوِّغ قتله بكل حال.
وقد نكون نحن في نظر هذا (الآخر) آخر، ولكن آخر من نوعٍ آخر...آخر بلا كرامة ولا حقوق، وشأنُنا في عينه كما كان يقول أهل الكتاب -في شأنهم مع العرب-: (ليس علينا في الأميين سبيل).
فإن يشأ هذا أن يذكِّرنا بحقوق (الآخَر) ويطالبنا بها، فإننا نذكّره بأن حقيقة هذه المطالبة مطالبةٌ لنفسه قبل أن تكون مطالبة لغيره؛ فلنفسه (آخَرُ) يجب أن يحملها على أداء حقه، كما كان يرى نفسه (آخَرَ) بالنسبة لغيره، يطالبه بحقه. لكأنما هؤلاء يتحسّسون أدواءَهم ليذكِّرونا بأدوائنا! فهل يعطيك الشيءَ فاقدُه؟!(/1)
إن الانغلاق والانكفاء على الذات قد يكون سبباً في الجناية على (الآخَر) والقسوة عليه وهضمه بعض حقوقه، لكن هذا (الآخَر) الليبرالي الذي لا يريد أن يكون له (آخَر) له حقوق، لم يُجْدِه تحرّرُه ولا انفتاحُه على الشرق والغرب شيئاً في الخلاص من هذه الظاهرة.
وهذا ما يُبين أن أزمة الحوار وما يتعلق بحقوق الآخر في مجتمعنا ليست أزمة الإسلاميين، ولكنها أزمة مجتمع نشأ في بيئة موبوءة بأدواءٍ أنشأتها أوضاعه السياسية والاجتماعية؛ كالاستبداد والطبقية وطبيعة تكوين المجتمع، وأسباب أخرى، ولذا نجدها أزمة مشتركة بين أطياف المجتمع كلها، وما الملومُ بأحقَّ باللوم من اللائم(/2)
مصطلح الإخبات في القرآن
ورد لفظ (الإخبات) في القرآن الكريم في ثلاثة مواضع هي؛ قوله - تعالى -: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون} (هود: 23) وقوله - سبحانه -: {فإلهكم إله واحد فله أسلموا وبشر المخبتين} (الحج: 34) وقوله عز من قائل: {وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم} (الحج: 54) وكان من دعائه - صلى الله عليه وسلم -: (رب اجعلني لك شكَّارًا، لك ذكَّارًا، لك رهَّابًا، لك مِطواعًا، إليك مخبتًا، لك أوَّاهًا منيبًا) رواه أحمد وأصحاب السنن إلا النسائي، وأيضًا قوله - صلى الله عليه وسلم -: (اللهم إنَّا نسألك قلوبًا أوَّاهة مخبتة منيبة في سبيلك) [رواه الحاكم].
وأصل (الإخبات) في اللغة من الخَبْت، وهو المكان المنخفض والمطمئن من الأرض، ضد المُصعد والمرتفع؛ ثم استعير لمعنى التواضع، كأن المخبت سلك نفسه في الانخفاض، فأصبحت سهلة سمحة مطواعة؛ ويقال: فيه خِبْتة، أي: تواضع ودماثة.
وبناء على هذا الأصل اللغوي تفرع القول في معنى (الإخبات) فقالوا في معناه: هو الخشوع، والخضوع، والتواضع؛ يقال: أخبت لله، خشع؛ وأخبت، تواضع؛ وأخبت إلى ربه، أي: اطمأن إليه؛ وقد رُوي عن مجاهد في قوله - عز وجل -: {وبشر المخبتين} قال: هم المطمئنون، وقيل: هم المتواضعون؛ والمراد بهم المؤمنون؛ لأن التواضع من شيمهم، كما أن التكبر من سمات المشركين، قال - تعالى -: {كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار} (غافر: 35).
وقال المفسرون في تفسير قوله - تعالى -: {وأخبتوا إلى ربهم} أي: أطاعوا ربهم أحسن طاعة، وتواضعوا لأمره بامتثاله؛ وأيضًا فُسِّر قوله - تعالى -: {فتخبت له قلوبهم} بأنه التواضع، أي: فيستقر الحق في قلوبهم فيخضعوا له، ويستسلموا لحكمه، كما قال - تعالى -في حق إبراهيم الخليل - عليه السلام -: {قال بلى ولكن ليطمئن قلبي} (البقرة: 260).
وكما ترى، فإن مصطلح (الإخبات) يفيد معنى الخشوع، والخضوع، والتواضع، كما يفيد معنى الهبوط، والنزول؛ وهو على ارتباط وثيق بهذه المعاني كلها، فيشترك معها في كثيرٍ من الدلالات اللغوية، وإن كنا لا نعدم فرقًا طفيفيًا بين كل واحدٍ منها، كما تفيد بذلك كتب الفروق اللغوية.
ولك أن تلاحظ - أخي القارئ الكريم - أن الآيات والأحاديث السابقة، والتي ذُكر فيها لفظ (الإخبات) أن هذا اللفظ قد جاء فيها مضافًا إلى الله - سبحانه وتعالى -، ولم يأتِ في القرآن الكريم ذِكْرٌ لهذا اللفظ مضافًا لغير الله تعالى؛ بينما جاء لفظ (التراحم) و(الذل) وصفًا مضافًا للمؤمنين، قال - تعالى -: {رحماء بينهم} (الفتح: 29) وقال جل علاه: {أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين} (المائدة: 54) ويمكن أن يُستفاد من هذا المَلْحَظ، أن مصطلح (الإخبات) ليس تواضعًا فحسب، وإنما هو تواضع مع انقياد؛ فـ (الإخبات) لله هو التواضع له - سبحانه -، وذلك يكون بفعل ما أمر الله به، واجتناب ما نهى عنه، وتعظيم شرعه، والذل والخضوع بين يديه، وتحكيم شرعه في مناحي الحياة كافة، مع القبول والتسليم بكل ما شرع.
وإذ تبين هذا، أمكن لنا أن نقول: إن التواضع المجرد، وإن كان فيه لين جانب وسهولة طبع، يفارق معنى (الإخبات) من جهة أن التواضع المجرد، تواضع غير مقرون بالانقياد، أما (الإخبات) فهو تواضع مقرون بالانقياد، وهو الذي امتدح الله به عباده المؤمنين.
نسأل الله أن ينفعنا بالقرآن العظيم، وأن يجعله حجة لنا لا حجة علينا، وأن يجعلنا من الذين يجمعون بين القول والعمل في سلوكهم، ومن الذين وصفهم الله - سبحانه - بقوله: {وأخبتوا إلى ربهم}.
30/08/2005
http://www.islamweb.net المصدر:(/1)
مصطلح الفاصلة في القرآن
د. محمد حسين الصغير
الفاصلة في القرآن الكريم: آخر كلمة في الآية، كالقافية في الشعر، وقرينة السجع في النثر، خلافاً لأبي عمرو الداني ?ت:444ه? الذي اعتبرها كلمة آخر الجملة. إذ قد تشتمل الآية الواحدة على عدة جمل، وليست كلمة آخر الجملة فاصلة لها، بل الفاصلة آخر كلمة في الآية، ليعرف بعدها بدء الآية الجديدة بتمام الآية السابقة لها.
وتقع الفاصلة عند الاستراحة بالخطاب لتحسين الكلام بها، وهي الطريقة التي يباين القرآن بها سائر الكلام، وتسمّى فواصل، لأنه ينفصل عندها الكلامان، وذلك أن آخر الآية فصل بينها وبين ما بعدها.
وقد تكون هذه التسمية اقتباساً من قوله تعالى: ?كِتَابٌ فُصِّلَتْ أَيَاتُهُ?. ولا يجوز تسميتها قوافي إجماعاً، لأن الله لما سلب عن القرآن اسم الشعر وجب سلب القافية عنه أيضاً لأنها منه، وخاصة في الاصطلاح.
وما ورد في القرآن متناسق حروف الروي والإيقاع، موحد خاتمة الفاصلة بالصوت، ويقف فيه بالآية على الحرف الذي وقف عنده في الآية التي قبلها، فلا يسمى سجعاً عند علماء الصناعة "ولو كان القرآن سجعاً لكان غير خارج عن أساليب كلامهم، ولو كان داخلاً فيها لم يقع بذلك إعجاز، ولو جاز أن يقال: هو سجع معجز، لجاز أن يقولوا : شعر معجز، وكيف والسجع مما كان تألفه الكهّان من العرب، ونفيه من القرآن أجدر بأن يكون حجة من نفي الشعر، لأن الكهانة تنافي النبوّات بخلاف الشعر".
يبدو مما سلف أن مما تواضع عليه جهابذة الفن، وأئمة علوم القرآن، يضاف إليهما علماء اللغة، هو: أن نهاية بيت الشعر تسمى قافية، ونهاية جملة النثر تسمى سجعاً في الأسجاع، ونهاية الآية تسمى فاصلة.
وهذا التفريق الدقيق قائم على أساس يجب أن نتّخذه أصلاً، وبرنامج ينبغي القول به دون سواه، وهو أن الكلام العربي ـ مطلقاً ـ على ثلاثة أنواع:
قرآن، نثر، شعر، فليس القرآن نثراً وإن استعمل جميع أساليب النثر عند العرب، وليس القرآن شعراً وإن اشتمل على جميع بحور الشعر العربي حتى ما تداركه الأخفش على الخليل فسمي متداركاً وهو الخبب، بل هو قرآن وكفى ?إِنَّهُ لَقُرآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ?.
وإذا تم هذا فهو كلام الله تعالى وحده، وأن يقاس كلام البشر بكلام الله، هو إذن مميز حتى في التسمية عن كلام العرب تشريفاً له، واعتداداً به، وإن وافق صور الكلام العربي، وجرى على سننه في جملة من الأبعاد، كما يقال عند البعض، أو كما يتوهم، بأن ختام فواصله المتوافقة هي من السجع، فالتحقيق يقتضي الفصل بين الأمرين، لأن مجيء كثير من الآيات على صورة السجع لا توجب كونه هو، أو أنها منه "لأنه قد يكون الكلام على مقال السجع وإن لم يكن سجعاً، لأن السجع من الكلام، يتبع المعنى فيه اللفظ الذي يؤدي السجع، وليس كذلك مما هو في معنى السجع من القرآن، لأن اللفظ وقع فيه تابعاً للمعنى، وفرقٌ بين أن يكون المعنى منتظماً دون اللفظ، وبين أن ينتظم الكلام في نفسه بألفاظه التي تؤدي المعنى المقصود فيه، ومتى ارتبط المعنى بالسّجع كان إفادة السّجع كإفادة غيره ومتى انتظم المعنى بنفسه دون السجع مستجلباً لتحسين الكلام دون تصحيح المعنى".
وقد رأينا عند تعقب هذه الظاهرة: أن التعبير المسجوع في القرآن لا تفرضه طبيعة النسق القرآني فحسب كما يخيل للكثيرين عند النظر في مثل قوله تعالى: ?أَلْهَاكُمُ التَكَاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ المَقَابِرَ?. بدليل أنه ينتقل منه فوراً إلى نسق آخر في فاصلة تقف عند النون دون التفات إلى الصيغة الأولى الساربة في طريقها البياني ?كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ?. فإذا جاز للقرآن الانتقال بها، جاز له الانتقال فيما قبلها كما هو ظاهر، بل أن هذا اللفظ "المقابر" يفرض نفسه فرضاً بيانياً قاطعاً، دون حاجة إلى النظر في الفاصلة معه، أو مع محسّنات الفاصلة، وذلك أن هذا الإنسان المتناسي الطاغي المتكاثر بأمواله ولذاته، وشهواته، ومدخراته، ونسائه، وأولاده، ودوره، وقصوره، وخدمه، وحشمه، وإداراته، وشؤونه، وسلطانه، وعنوانه، وهذا كله تكاثر قد يصحبه التفاخر، والتنابز، والتنافر، أقول: إن هذا مما يناسبه لفظ "المقابر" بلاغياً ولغوياً، فالمقابر جمع مقبرة، والمقبرة الواحدة مرعبة هائلة، فإذا ضممنا مقبرة مترامية الأطراف إلى مقبرة مثلها، ومقبرة أخرى إزددنا إيحاشاً ورعباً وفزعاً، فإذا أصبحت مقابر عديدة؛ تضاعف الرعب والرهب، إذن هذا التكاثر الشهواني في كل شيء، يوافقه ـ بدقة متناهية ـ الجمع المليوني للقبور، لتصبح مقابر لا قبوراً، ولو قيل في غير القرآن بمساواة القبور للمقابر في الدلالة لما سدّ هذا الشاغر الدلالي شيء آخر من الألفاظ، فهو لها فحسب.(/1)
ولا يعني هذا التغافل عن مهمة الانسجام الصوتي، والوقع الموسيقي في ترتيب الفواصل القرآنية، فهي مرادة في حد ذاتها إيقاعياً، ولكن يضاف إليها غيرها من الأغراض الفنية، والتأكيدات البيانية، مما هو مرغوب فيه عند علماء البلاغة، فقوله تعالى: ?فَأَمَّا اليَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلاَ تَنْهَرْ?. فقد تقدم المفعول به في الآيتين، وهو اليتيم في الأولى، والسائل في الثانية، وحقه التأخير في صناعة الأعراب، وقد جاء ذلك مراعاة لنسق الفاصلة من جهة، وإلى الاختصاص من جهة أخرى، للعناية في الأمر.
ومهما يكن من أمر، فإن السجع عند العرب مهمة لفظية تأتي لتناسق أواخر الكلمات في الفقرات وتلاؤمها، فيكون الإتيان به أنى اتفق لسد الفراغ اللفظي، وأما مهمة الفاصلة القرآنية فليس كذلك، بل هي مهمة لفظية معنوية بوقت واحد، إنها مهمة فنية خالصة، فلا تفريط في الألفاظ على سبيل المعاني، ولا اشتطاط بالمعاني من أجل الألفاظ، بينما يكون السجع في البيان التقليدي مهمة تنحصر بالألفاظ غالباً، لذلك ارتفع مستوى الفاصلة في القرآن بلاغياً ودلالياً عن مستوى السجع فنياً، وإن وافقه صوتياً.
المصدر موقع البلاغ(/2)
مصطلحات في القراءات القرآنية
نخصص مقالنا هذا للوقوف على أهم المصطلحات المتعلقة بعلم القراءات القرآنية، وذلك لما للعلم بهذه المصطلحات من أهمية في معرفة حقيقة هذا العلم الشريف، وما يتعلق به من مسائل ومباحث.
ونبدأ حديثنا بتعريف " القرآن " الكريم، خير كتابٍ أرسل للناس أجمعين، وهو المعجزة الباقية إلى يوم الدين.
تعريف القرآن الكريم :
القرآن في الأصل:
مصدر قرأ يقرأ، تقول: قرأ قراءة وقرآنًا، قال - تعالى -: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} (القيامة: 17-18) أي قراءته.
وهو في الاصطلاح:
كلام الله - تعالى -، المعجز، المنزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بواسطة جبريل - عليه السلام -، المكتوب في المصاحف، المنقول إلينا بالتواتر، المتعبد بتلاوته، المبدوء بسورة الفاتحة، المختوم بسورة الناس.
تعريف القراءات :
القراءات جمع قراءة، وهي في الأصل مصدر قرأ، يقال: قرأ فلان يقرأ قراءة.
وفي الإصطلاح:
علم بكيفية أداء كلمات القرآن، واختلافها، منسوبة لناقلها.
ومن المصطلحات المتعلقة بهذا المصطلح، إطلاقهم كلمة (قراءة) على ما يُنسب إلى إمام من أئمة القراءات، وكلمة (رواية) على ما ينسب إلى الآخذ عن هذا الإمام، وكلمة (طريق) على ما ينسب للآخذ عن الراوي، وكلمة (اختيار) على ما يختاره القارئ لنفسه من القراءات، يؤثرها على غيرها، ويداوم عليها، ويلتزم الإقراء بها، ويُشتهر الأخذ بها عنه، فيُعرف بها، وتُعرف به.
تعريف الحرف القرآني
الحرف في الأصل اللغوي: طرف الشي وحده الذي ينتهي إليه، ومنه قيل لأعلى الجبل: حرف. ومنه قوله - تعالى -: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ } (الحج: 11) أي: على طرف الدين، وهذا علامة على القلق وعدم الثبات.
وهذا المصطلح مستفاد من قوله - عليه الصلاة والسلام -: ( إن هذا القرآن نزل على سبعة أحرف ) رواه البخاري و مسلم. ومعنى الحرف في الحديث على أصح الأقوال: وجه من وجوه اللغة، وعلى هذا يكون معنى الحديث: نزل القرآن على سبع لغات من لغات العرب.
تعريف العرضة الأخيرة
يُقصد بهذا المصطلح آخر قراءة أقرأها جبريل - عليه السلام - رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهي القراءة المثبتة في المصاحف اليوم.
تعريف الرسم العثماني:
يُعبر بهذا المصطلح عن المصاحف التي نسخها الخليفة الراشد عثمان بن عفان - رضي الله عنه - وأرضاه، وهي المصاحف التي أرسلها إلى الأقطار الإسلامية، وكانت مجردة من النقاط والشكل، محتملة لما تواترت قرآنيته واستقر في العرضة الأخيرة، ولم تنسخ تلاوته.
تعريف القراءة المتواترة
التواتر لغة:
التتابع، تقول: الأمر مازال على وتيرة واحدة، أي: على صفة واحدة مطردة، والوتيرة: المداومة على الشيء، وهو مأخوذ من التواتر والتتابع.
والقراءة المتواترة اصطلاحًا:
هي القراءة التي رواها جَمْعٌ عن جَمْع، يستحيل تواطؤهم على الكذب، وكانت موافقة للرسم العثماني، ووافقت العربية ولو بوجه من وجوه اللغة. ويدخل في هذا النوع قراءات الأئمة السبعة المتواترة.
تعريف القراءة المشهورة
الشهرة وضوح الأمر وظهوره.
وهي في الاصطلاح: القراءة التي صح سندها، وبلغت مبلغ الشهرة، ووافقت العربية ولو بوجه من وجوهها، ووافقت الرسم العثماني، إلا أنها لم تبلغ درجة التواتر. ويدخل في هذا النوع القراءات القرآنية غير السبع، على خلاف بين العلماء في ذلك.
تعريف القراءة التفسيرية
هي ما زيد في القراءات على وجه التفسير والتبيين، كقراءة سعد بن أبي وقاص: {وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ} (النساء: 12) بزيادة لفظ {من أمه} ومثل هذا كثير في كتب التفسير، وليس هذا من القرآن، بل هو تفسير من الصحابي للآية لبيان معناها، لا لغرض التعبد بتلاوتها، ثم نُقلت عنه كما فسرها؛ وأُطلق عليها قراءة من باب التجوز، وليس على سبيل الحقيقة.
تعريف القراءة الشاذة :
الشذوذ في اللغة: مصدر شذ يشذ شذوذًا، أي: انفرد، وشذَّ الرجل عن أصحابه، تنحى جانباً وانفرد عنهم؛ وكل شيء منفرد فهو شاذ.
أما في الاصطلاح، فهي في أرجح الأقوال: كل قراءة خالفت الرسم العثماني، ولو صحَّ سندها، ووافقت العربية. ويُمَثَّل لهذا النوع من القراءات بقراءة ابن مسعود - رضي الله عنه - لقوله - تعالى -: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} (المائدة: 38) إذ قرأ بدل: {أيديهما} (أَيْمانهما) وقراءته أيضًا لقوله - تعالى -: {فصيام ثلاثة أيام} (المائدة: 89) بزيادة (متتابعات) وقراءة عائشة - رضي الله عنها - لقوله - تعالى -: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} (البقرة: 238) إذ قرأت الآية: (والوسطى صلاة العصر) وكقراءة ابن عباس - رضي الله عنهما - لقوله - تعالى -: {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً} (الكهف: 79) حيث قرأها: (وكان أمامهم ملك...).(/1)
قال ابن الجزري، بعد أن ذكر نحو هذه الأمثلة: "فهذه القراءة تسمى اليوم شاذة، لكونها شذَّت عن رسم المصحف المجمع عليه، وإن كان إسنادها صحيحًا.. ".
ويشار هنا إلى أن للعلماء تعريفات أُخر في بيان القراءة الشاذة، تُنظر في كتب القراءات؛ على أن بعض الأمثلة السابقة، يعتبرها بعض العلماء من القراءة التفسيرية.
وبعد: فهذه أهم المصطلحات المتعلقة بعلم القراءات القرآنية، ذكرنها باختصار دون تفصيل وتوسع، عسى أن يكون فيها فائدة للقارئ الكريم.. نسأل الله القبول والتوفيق وحسن العاقبة، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على المبعوث رحمة للخلق أجمعين.
30/11/2003
http://www.islamweb.net المصدر:(/2)
مصطلحات قرآنية الخصاصة - العيْلة - الفقر - الإملاق )
في القرآن الكريم مصطلحات تفيد معنى الحاجة والفاقة والفقر، وهي وإن كانت مصطلحات مترادفة، لها دلالة مشتركة، بيد أنها تحمل في تضاعيفها بعض الفروق الدلالية؛ نحاول فيما يلي أن نعرِّج عليها، من خلال تسليط الضوء على المصطلحات الأربعة التالية: الخصاصة، العيلة، الفقر، الإملاق.
أولاً: مصطلح الخصاصة:
ورد هذا المصطلح في القرآن الكريم في آية واحدة، وهي قوله - تعالى -في سياق مدح الأنصار، وموقفهم من المهاجرين: {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة} (الحشر: 9) والأصل اللغوي للخصاصة هو: الفُرجة بين الأصابع؛ والخصاصة وخَصَاص البيت: هي الفروج التي تكون فيه، والخصاصة: الخلل والثقب الصغير؛ ثم أطلقت الخَصَاصة على الفقر، والحاجة إلى الشيء، وسوء الحال، والخَلَّة؛ وذوو الخصاصة: ذوو الخلة والفقر.
وفي حديث فضالة - رضي الله عنه -، أنه - صلى الله عليه وسلم -: (كان إذا صلى بأناس يخر رجال من قامتهم في الصلاة من الخصاصة) رواه الترمذي أي: يخرون على الأرض من الجوع، وسوء الحال.
ومن هذه المادة قولهم: رجعت الإبل وبها خصاصة، إذا لم تروَ من الماء؛ وقولهم كذلك للرجل إذا لم يشبع من الطعام.
ثانيًا: مصطلح العَيْلَة:
ورد هذا المصطلح في القرآن الكريم في ثلاثة مواضع، الأول: عند ذكره - سبحانه - الاقتصار على زوجة واحدة حال الخوف من عدم العدل بين الزوجات، والقيام بحقوقهن، قال - تعالى -: {فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا} (النساء: 3) والثاني: قوله - تعالى -في سياق خطاب المؤمنين: {وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله} (التوبة: 28) والموضع الثالث: قوله - سبحانه - مخاطبًا نبيه محمدًا - صلى الله عليه وسلم -: {ووجدك عائلاً فأغنى} (الضحى: 8).
والعَيْلَة - بالفتح - والعالة: الفقر والفاقة؛ يقال: عال الرجل يعيل، إذا افتقر؛ وقرأ علقمة وغيره: {عائلة} وحكى الطبري أنه يقال: عال يعول، إذا افتقر؛ وعيال الرجل: من يعولهم، وواحد العيال: عَيْل، والجمع عيائل؛ وأعال الرجل: كثرت عياله، فهو مَعِيل، والمرأة معيلة، أي: صارا ذا عيال؛ وفي الحديث، قوله - صلى الله عليه وسلم -: (أن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تتركهم عالة يتكففون الناس) متفق عليه، أي: فقراء يسألون الناس.
ثالثًا: مصطلح الفقر:
قال أهل اللغة حول هذه المادة: الفاء والقاف والراء أصل صحيح، يدل على انفراج في شيء، من عضو أو غيره؛ من ذلك: الفَقَار للظهر، الواحدة فَقَارة، سميت للحُزُوز والفصول التي بينها؛ قالوا: ومنه اشتق الفقير، وكأنه مكسور فَقَار الظهر، من ذلته وفاقته؛ ومن المادة قولهم: فَقَرتهم الفاقِرة: وهي الداهية، كأنها كاسرة لِفَقَار الظهر، قال - تعالى -: {تظن أن يفعل بها فاقرة} (القيامة: 25) وسد الله مَفَاقِره: أي أغناه، وسدَّ وجوه فقره وحاجته.
رابعًا: مصطلح الإملاق:
الإملاق في اللغة: الافتقار، يقال: أملق الرجل فهو مُمْلِق؛ وأصل الإملاق الإنفاق، يقال: أملق ما معه إملاقًا، ومَلَقَه ملقًا: إذا أخرجه من يده، ولم يحبسه، والفقر تابع لذلك، فاستعملوا لفظ السبب في موضع المسَبَّب، حتى صار به أشهر؛ وفي حديث عائشة - رضي الله عنها -، في وصف أبيها - رضي الله عنه -: (ويريش مملقها) رواه الطبراني أي: يغني فقيرها؛ والإملاق: كثرة إنفاق المال وتبذيره، حتى يورث حاجة؛ وفي الحديث أن امرأة سألت ابن عباس - رضي الله عنهما -، قالت: أأنفق من مالي ما شئتُ؟ فقال: نعم، أملقي من مالك ما شئتِ؛ وقوله - تعالى -: {خشية إملاق} (الإسراء: 31) أي: خشية الفقر والحاجة.
ومن معاني الإملاق: الإسراف، يقال أملق الرجل، أي: أسرف في نفسه؛ ومن معانيه الإفساد: يقال: أملق ما عنده الدهرُ، أي: أفسده؛ وقال قتادة: الإملاق: الفاقة؛ وهذا المعنى الأخير هو الذي عليه أئمة اللغة والتفسير، في معنى قوله - تعالى -: {من إملاق} (الأنعام: 151) وقوله - سبحانه -: {خشية إملاق}.
على أنه من المفيد - علاوة على ما تقدم - أن نشير إلى أن من المصطلحات القرآنية الوثيقة الصلة بهذه المصطلحات، المصطلحات التالية: المسغبة، المخمصة، المسكنة.
وعلى ضوء ما سبق، يظهر لنا دلالة هذه المصطلحات الأربعة، وأنها تدل بشكل أساس على معنى الحاجة والفقر والفاقة، وإن كان بينها ثمة فروق لغوية. والله ولي التوفيق والتسديد، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
14/08/2005
http://www.islamweb.net المصدر:(/1)
مصنع الشائعات
د.عبد الوهاب بن ناصر الطريري 24/10/1423
08/01/2002
في الأيام الأولى من حرب حزيران (67) كان اليهود يعيشون نشوة انتصار كبير في معركة بدت محسومة من ساعاتها الأولى بالضربة القاضية، وكان نصرهم أكبر من دولتهم ومن إمكاناتهم بل ومن طموحهم .
وكانت جماهير العرب تعيش - أيضاً - نشوة نصر موهوم، فقد كانت البيانات العسكرية والعناوين الكبرى في الصحف تنقل إليهم أخباراً لم تحدث إلا في الخيال عن عدد الطائرات الإسرائيلية التي أسقطت ، وقتلى الصهاينة ، واندحار جيش العدو ، وخرجت صحيفة الأهرام في يوم 6/6/1967م بالعناوين التالية :
* قواتنا المدرعة تتوغل داخل خطوط العدو .
* إسقاط أكثر من (86 طائرة) للعدو وأسر وقتل عدد من طياريه .
* معارك ضارية مع العدو على طول الخط توجه له قواتنا ضربات متلاحقة وتلحق به خسائر فادحة في البر والجو.
ولكن عمر هذه النشوة كان قصيراً؛ إذ سرعان ما بددت الحقيقة ضباب الوهم ، وأفاقت جماهير العرب على صدمة الهزيمة التي سميت (نكسة) ، وخسرت الأنظمة الثورية المعركة ، وخسرت معها - أيضاً - مصداقيتها لدى الجماهير التي اكتشفت أن هذه الأنظمة لم تضللها بالبيانات الكاذبة عن المعركة فقط، وإنما كانت تريغها بكواذب الوعود وأكاذيب الأخبار، واكتشفت الجماهير حقيقة صواريخ الصفيح التي كانت تسمى (القاهر) و(الظافر) ، واكتشفت معها حقيقة الثورة ورجالها ، وعمود الكذب الذي كانت ترفع عليه آمال الجماهير ومشاعرها ، والتي سرعان ما تهاوت بانهيار هذه الأكاذيب التي تحملها، وأغلق حانوت أحمد سعيد الذي كان يسوق فيه أكاذيب الثورة من خلال برنامج (أباطيل تدحضها حقائق ) وذلك أن الحقائق حقت ، والأباطيل بطلت ، وعرف كل نصيبه منها ، واتضح أن حبل الكذب مهما طال فهو قصير ، وكان درساً بليغاً لمن يعي ، وعبرة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
واليوم نعيش صورة أخرى مقلوبة لذلك التاريخ ، من خلال الإشاعات التي تسوق الأماني على شكل أخبار ، تنشرها مواقع ومنتديات على شبكة الإنترنت؛ لتبثها للناس على أنها بشائر ، فتتلقفها قلوب الطيبين على أنها حقائق لا تقبل الشك ، جاءت من مصادر موثوقه، ولئن ثبت وقوع شيئٍ من ذلك فقد بقي الكثير منه ركاماً من الشائعات يستطيع من شاء أن يقول لنا : إن هذا إلا اختلاق !
إن المتأمل يدرك أن كثيراً من وسائل الإعلام العالمية ، وتبعاً لذلك العربية بالغت في تغطية بعض الأحداث ، وتدخلت في تحليلها بطريقة غير موضوعية تنم عن انحياز سافر ، وفقدان للموضوعية مكشوف ، وتتشفى بالتزيد والتهويل ، وما هو عنها بغريب ، فإن المصداقية في هذه الوسائل غير متوفرة ، خصوصاً حين تتدخل عواطفها ورغباتها .
دع عنك أن الموضوعية الإعلامية أصبحت إحدى ضحايا هذه الحرب القائمة وتنكرت الدوائر الغربية للدروس المثالية التي كانت تلقنها الآخرين .
لكن هذا لا يعني المجادلة في الحقائق المادية ، ولا نكران الأوضاع الحسية القائمة ، ولا مقابلة ذلك الانحياز السافر بمبالغات وظنون .
وهنا نقف أمام حقائق نذكر بها أنفسنا ، والخيرين الذين يتلقفون هذه الأخبار ويبشرون بها غيرهم بنيات طيبة وقلوب سليمة ، ونعظ بها أولئك الذين اختلقوا هذه الإشاعات وتولوا ترويجها .
(1)أن علينا أن نكون يقظين في تلقي هذه الأخبار ، وألا يشفع لقبولها ملاقاتها لرغباتنا وأمانينا، فلنا منهجية في التثبت ينبغي أن تكون مطردة فيما نحب ونكره، فليس صحيحاً أن نشكك في الخبر المصور من أرض المعركة ، ونثير تساؤلات الشك والريبة حوله مع أن منتهاه الحسّ، في حين ينشر خبر عبر رسائل الجوالات مصدره بعض مواقع الإنترنت ، وإذا كان هناك من يتقبل مثل هذه الأخبار، فليعلم أن الناس لن يصدقوه ، فليحذر أن يجعل نفسه عرضة للتكذيب، وقديما قيل "من تتبع غرائب الأخبار كُذِّب".
(2) علينا أن نَحْذر من جهالة المصدر ، وليس خبر أهم من أخبار السنة النبوية ومع ذلك فليس من منهج المسلمين قبولها من المجاهيل ، ولذا فلا بد من تلقي الأخبار من مصدر موثوق ، فإن لم يكن موثوقاً فلا أقل من أن يكون معلوماً ، بحيث ينال شرف الصدق ، وتلحقه معرة الكذب ( وبئس مطية الرجل زعموا ) .
(3) إذا كان هناك من استجازوا اختلاق هذه الإشاعات بأنواع التأولات فإن علينا أن نرفض جعل أنفسنا رواحل لنقلها ، نُصَدَّقها ثم نُسَوِّقها، (فمن حدث بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين) .
(4) مما يتأوله هؤلاء الذين يختلقون تلك الإشاعات أنها من الكذب في الحرب وهو مباح، ويتجاهلون ولا يجهلون أن القدر المباح من الكذب في الحرب هو الذي يضلل الأعداء وليس الذي يُسَوَّق الوهم ويُغَرِر بالمسلمين .(/1)
(5) إذا كنا خسرنا جوانب من المعركة ، فإن علينا ألا نخسر الصدق الذي هو رأس مالنا في التعامل مع الناس، وسيطول استغراب الناس وعجبهم إذا اكتشفوا أن هذه الأخبار الكاذبة كانت تنقل إليهم عبر وسيط صالح ، ومن جُرَّب عليه الكذب ، أو نَقْل الكذب وتَصديقَه فلن يكون محلاً للثقة بعد.
(6) وكما سيفجع الطيبون فيرتابوا في الراوي الذي كان الصلاح يظهر عليه، لأنه كان يحدثهم بهذه الأخبار ويؤكدها لهم ، فكذلك سيشمت آخرون، لهم موقف من هؤلاء الشباب ليقولوا: هذه أخبارهم ، وهذه مصداقيتهم ! وسيجد كل من شَرِق بالصحوة فرصة في تعميم هذا الخطأ ، ووصف طلائع الصحوة كلَّها بهذا السلوك ، فاللهَ اللهَ أن نُفَرِّح شامتاً، أو نضع في فم كاشح حجة .
(7) لئن كان الصدق فضيلة إسلامية ، ومروءة عربية ، فإن الكذب فاحشة حرمها الإسلام ، وأنف منها مشركو العرب حتى قال أبو سفيان – وهو مشرك - (لولا أن يأثر الناس عليّ كذبا لكذبت عليه) يعني هرقل، فلم يكن يقبل أن يوجد في تاريخه كذبة ولو كانت على عدوه محمد صلى الله عليه وسلم عند هرقل (ملك الروم) .
وإننا نخشى من التوسع في رواية هذه الإشاعات أن تنجلي حقيقتها بغير ذلك فَيَأْثِرَ الناس علينا كذباً كثيراً .
(8) إن اختلاق الإشاعات وسرعة تصديقها مهرب نفسي أمام واقع لا يرضاه المرء ولا يستريح إليه، وقديماً قال أبو الطيب:
طَوَى الجزيرةَ حتى جاءني خبرٌ ... ...
فَزِعْتُ فيه بآمالي إلى الكَذِب
حتى إذا لم يدع لي صدقه أمَلاً ... ...
شَرِقْتُ بالدمع حتى كاد يشرقُ بي
فتجد النفس سلوتها في تكذيب مالا يروق لها و اختلاق الإشاعات وترويجها ، إلا أنها - في النهاية - ترضخ لسلطان الحقيقة القاهر، ولكن هذه الحيلة النفسية لا تصلح أن تكون مهرباً لأتباع محمد – صلى الله عليه وسلم – الذي علمهم فضيلة الصدق وأمرهم بتحريه فقال : " إن الصدق يهدي إلى البر ، وإن البر يهدي إلى الجنة ، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً ، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً ".
(9) إن تسويف الإحساس بالواقع، والتقنع بأغطية الوهم ، وأعظمها تصديق الشائعات وترويجها ، سيضاعف فداحة الخسائر وأعظمها خسارة القيم ، ألا وإنَّ الصدق أعلاها وأغلاها "فلو صدقوا الله لكان خيراً لهم".
(10) إن الاعتراف بالحقيقة أولى الخطوات في معالجة الأزمات وتجاوزها ، كما أن مغالطتها وسترها أعظم أسباب تكريسها وتجديدها ومعاودتها.
(11) وكما نتواصى بعدم نقل هذه الأخبار ، فإن علينا تبصير من ينقلونها بطيبةٍ وحسن قصد ، ومواجهتهم بالحقيقة ، وعدم مجاملة المشاعر على حساب العقل والنقل ، وانتشالهم من قلق المغالطة ، إلى وضوح الحقيقة ، فإن الصدق طمأنينة ، والكذب ريبة.
(12) يقول سيد قطب – رحمه الله – (الحقيقة في كل شيء تغلب المظهر في كل شيء حتى لو كانت حقيقة الكفر).
وبعد فكم تمنيت ألا يكون الحديث على هذا النحو ، ولكن القذاة في عيني ، وقد آثرت الصدق في الحديث عن الصدق ، فإن أحب الحديث إلى الله أصدقه ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين ) .
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدى من تشاء إلى صراط مستقيم .
- وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .(/2)
مصير الطغاة
شعر: محمد المجذوب
أيها السارقون حكمَ iiالبلادِ
السلاحُ الذي قتلمْ به iiالشَّعـ
قد شراه لكم بغالي iiدماه
فأبيتم له سوى مُهَجِ iiالأحـ
وإذا أنتمُ خناجرُ iiصهيو
وإذا أنتمُ لكل مُريدٍ
وهو شعبٌ لم يعرفِ الذلَّ iiلولا
أنِعاجاً إذا لقيتم ii(دِياناً)!
العدوُّ المُغيرُ يقتحمُ iiالأر
لا تُطيقونَ ردَّه بسوى iiالشَّكـ
وإذا ما اقتضاكمُ الشعبُ iiإيضا
فانتصارُ اليهودِ قصفٌ ونسفٌ
فَضَحَ الله سرَّكم فإذا iiأنـ
بعتموهمْ نفوسَكم iiبفُتاتٍ
ورضيتمْ من الغنيمة أن iiتغـ
ثم سقتمْ شعوبَكم iiلجحيمِ
وأبحتم أوطانَكم للشياطيـ
.. يا عبيدَ العبيدِ.. أين iiتفرّو
موعدُ الثأر في غدٍ، وغدٌ iiأدْ
ولئن قصَّرتْ يدُ العدلِ في iiالأر
كم (رفيقٍ) أبرزتموه على iiأنَّ
ثم لم تلبثوا iiفعلَّقتموه
وسَتَقْفُون إثرَهُ عن iiقريبٍ
وكما راح عارياً من سوى iiالعا
فارقُبوا دورَكم على يد iiختَّا
وأُولو الغدر كلُّهم من خَنا iiكلٍّ
ومصيرُ الطغاةِ مختلفُ iiالشَّكـ ... مَنْ أباحَ الرَّعاعَ رِقَّ العِبادِ!
ـبَ بدعوى الإنقاذ والإسعادِ
لتشقُّوا به قلوبَ iiالأعادي
ـرارِ ميدانَ صولةٍ iiوجِلاد
نَ بأعناقه وفي iiالأكباد
سلعةُ السوقِ أُلقيتْ في ii(المزاد)
غَدرُكمْ يا حثالةَ iiالأوغاد
وعلى قومكم أُسودٌ iiعوادي!
ضَ عليكم كأنهُ في iiطِراد
ـوى إلى كل هازلٍ أو iiمُعادي
حاً لجأتمْ إلى الكِذابِ iiالمُعاد
وانتصاراتُكم حديثُ ii(روادي)!
ـتمْ ذُيولٌ لطغمةِ الإلحادِ
من وعودٍ قد زيَّفتها iiالعوادي
ـدوا مطايا لكل أحمرَ عادي
الكفر –بعد الإيمانِ- في الأصفاد
نِ هُواةِ التخريبِ iiوالإفساد
نَ وسهمُ القضاءِ iiبالمرصادِ!
نى إليكم من لِفتةِ iiالأجياد
ضِ فما بالبعيدِ يومُ التنادي
ببرديه صَفوةَ iiالأمجاد
-بعد تعذيبهِ- على iiالأعواد
حينَ تدعو مصالحُ ii(الرُّوَّادِ)
ر ستغدون لعنةَ iiالآباد
لٍ يُعاطيكمُ كَذوبَ iiالوَداد
ومِنْ غدره على iiميعاد
ـلِ ولكن موحّدٌ في iiالسواد(/1)
مضار المعاملات غير الشرعية على الحياة المدنية وعقوباتها
د. مصطفى الناير المنزول*
دراسة فقهية مقارنة بالقانون السُّوداني
إنَّ معظم الذين تناولوا بالبحث موضوعات المعاملات غير الشرعية انحصر حديثهم عنها في مجال أعمال المؤسسات التجارية كالمصارف والشركات وغيرها من المؤسسات الاقتصادية العاملة في مجال الاستثمار، فكان تركيزهم الأكبر في بعض أنواع المعاملات ذات الضرر العام على المجتمع، كالحديث عن الربا وأضراره والأضرار الناجمة عن المرابحات والمضاربات وغيرها من العقود الأخرى التي يمارسها قطاع محدد من قطاعات المجتمع وهو قطاع أصحاب رؤوس الأموال بصفة عامة، مما أدى إلى غفلة عن البحث والتأليف في المعاملات غير الشرعية التي يمارسها المجتمع المدني بجميع أصنافه المختلفة في الحياة المعاصرة.
فهذا البحث محاولة نحو لفت الأنظار إلى تلك المعاملات غير الشرعية الصغيرة نوعاً والكثيرة كمَّاً لتفادي أضرارها التي تؤثر في الحياة الاجتماعية الشرعية التي ينبغي أن تكون عليها معاملات المجتمع في شئونهم الخاصة والعامة، فهذه هي المشكلة التي جاء البحث ليُسهم في معالجتها من وجهة النظر الشرعية والقانونية، وتلك هي الأسباب التي دعت الباحث إلى حمل اليراع للإسهام في هذا المضمار الذي تكمن فيه أهمية البحث.
أما المقارنة الفقهية بالتشريع السوداني التي أشار إليها عنوان الموضوع فالأساس فيها قانون المعاملات المدنية السوداني لسنة 1984م، لأنه القانون المختص بالنظر في مخالفات المعاملات غير الشرعية، وقد أحال إليه ذلك الاختصاص القانون الجنائي السوداني في نص المادة (46)
([1]). مع العلم بأنَّ هذا لا يعني عدم المقارنة بغيره من القوانين الأخرى السودانية بل وغير السودانية حسب ما تقتضيه ضرورة البحث.
وفيما يتعلق بخطة البحث تقع الدراسة في هيكل قوامه ثلاثة مباحث: المبحث الأول بعنوان: مفهوم مضار المعاملات، المطلب الأول منه في المعنى اللغوي والاصطلاحي لكلمة "مضار"، والمطلب الثاني يختص بشرح معنى مصطلح المعاملات. والمبحث الثاني بعنوان: صور من مضار المعاملات غير الشرعية، المطلب الأول منه عن تجارة السلاح، والمطلب الثاني عن ضروب غصب الأموال، والمطلب الثالث عن غسيل الأموال. أما المبحث الثالث فجاء بعنوان: المسئولية عن الضرر في المعاملات غير المشروعة، المطلب الأول في المسئولية عن ضرر المعاملات العقدية، والمطلب الثاني في المسئولية عن ضرر المعاملات بسبب التقصير. وأخيراً خاتمة تشمل: ملخَّص الموضوع ثم النتائج والتوصيات.
المبحث الأول
مفهوم مضارّ المعاملات
يتناول هذا المبحث المعنى اللغوي والاصطلاحي لكلمة "مضارّ" بالإضافة إلى شرح معنى كلمة "المعاملات" لغةً واصطلاحاً على النحو الآتي:
المطلب الأول: المعنى اللغوي والاصطلاحي لكلمة مضارّ:
كلمة مضار في اللغة العربية جمع ضرر، فالضرر ضد النفع([2]). إذاً معنى مضار المعاملات بمقتضى اللغة تشمل كل ضرر يترتب على المعاملات غير الشرعية في الحياة الاجتماعية بطرق ووسائل متنوعة، وقد ظهرت منها في هذا العصر مصطلحات حديثة مثل غسيل الأموال وغيرها من الألفاظ التي قد تنطوي أحياناً على معانٍ ذات أحكام لا تتوافق مع أحكام ومقاصد الشرع الإسلامي الحنيف. والضرر في الاصطلاح الفقهي (هو إلحاق مفسدة بالغير)([3]). وفي سبيل منع وقوع المضار جميعاً جاء نص الحديث، عن أبي صرمة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من ضارّ أضرّ الله به ومن شاقّ شقّ الله عليه)([4])، فهذا النص يقتضي اجتناب كل ما فيه ضرر من المعاملات سواء كان ضرراً عاماً أو خاصاً، فيلزمنا الاحتراز منه باتخاذ الوسائل الاحتياطية قبل وقوعه، بل علينا دفعه بعد وقوعه بالتدابير اللازمة التي تزيل آثاره وتحول دون تكراره، فلهذه الاعتبارات الفقهية انتبه المشرِّع السوداني إلى ذلك فسنَّ قانون المعاملات المدنية لسنة 1984م وقد أوجب عند تفسيره الاهتداء بالمبادئ الشرعية في فهم الكلمات والعبارات الواردة فيه في حالة غياب نص القاعدة القانونية([5]).
المطلب الثاني: معنى المعاملات لغةً واصطلاحاً:(/1)
بالإضافة إلى معرفة مدلول معنى كلمة مضار على النحو الذي سبق شرحه، قد يحتاج القارئ الكريم أيضاً إلى معرفة ماذا تعني كلمة المعاملات في نظر اللغة والفقه والقانون، فالمعاملات عند أهل اللغة تعني التصرفات المالية مثل البيوع والمساقاة ونحوها([6])، فهذا المفهوم يوافق ما قال به بعض الحنفية في المفهوم الاصطلاحي للمعاملات بأنَّها: (المقصود منها في الأصل مصالح العباد كالبيع والكفالة والحوالة...)([7]). ويدخل في مفهوم حقوق العباد في المذهب الحنفي الشركة والوقف واللقطة والنكاح. أما عند المالكية فالمعاملات هي: (شرع لبقاء جبلَّة الإنسان كالإذن في المباحات... وما شُرع لدفع الضرورات...لافتقار الإنسان إلى ما ليس عنده واحتياجه إلى استخدام غيره في تحصيل مصالحه)([8]). واكتفى الشافعية بأن المعاملات هي: (شرع معاملة الخلائق)([9]). فهذا يعني عندهم أن ما جاء من أحكام الشرع فيما يتعلق بتنظيم شئون الناس الخاصة فيما بينهم يسمى تنظيم معاملات الخلائق، وما جاء منها لتنظيم علائق الخلق مع الخالق تُسمى عبادات. أما الحنابلة فيسمون المعاملات بالعبادة المالية لأن فلسفة المذهب تسلك في تقسيم أعمال الإنسان إلى قسمين، فإما أن تكون أعماله عبادة بدنية، أو عبادة مالية، فهذه الأخيرة عندهم تعني المعاملات فتشمل جميع عقود المعاوضات المالية بالإضافة إلى عقد الوقف والهبة والصدقة من غير عقود المعاوضات المالية([10]). وفي الفقه المعاصر ذهب البعض إلى أن المعاملات هي: (مجموعة الأحكام التي يُقصد بها تنظيم علائق ـ الناس ـ فيما بينهم)([11]).
فإذا تدبرنا المعاني الاصطلاحية لمفهوم المعاملات سابقة الذكر نجد أن البعض قد توسَّع في معناها، فأدخل فيها بعض المعاملات التي لم يكن موضوعها مالياً محضاً مثل النكاح على سبيل المثال، والبعض الآخر توقف عند مدلولها المالي وهو الرأي الراجح عندي لشيوعها بهذا المفهوم عند عامة الناس في هذا العصر، وعليه سوف أقتصر في هذا الموضوع على الحديث في بيان مضارّ المعاملات غير الشرعية في مجال التصرف في الأموال.
المبحث الثاني
صور من مضارّ المعاملات غير الشرعية
المعاملات غير الشرعية أنواعها كثيرة يصعب حصرها، فالحديث عنها في هذا البحث لا يعطي فرصةً للتوسُّع في سردها بقدر كبير، فنتناول منها في هذا المبحث ما يحتاج المجتمع إلى معرفته في هذا الظرف، وذلك بذكر بعضها لخطورة إتيانها على الحياة المدنية عامة. فإن الإقدام على المعاملات غير الشرعية سواء كانت كتلك التي تجري بين الأفراد أو الدول في نظر الشريعة والقانون يُعدُّ من مهددات أمن المواطن وزعزعة استقراره كما يجري الآن في السودان في ولايات دارفور أو ما يجري في العراق وغيرهما من بلاد المسلمين، فمن أبرز صور تلك المعاملات في هذا الوقت ما يأتي:
المطلب الأول: بيع السلاح أثناء الفتن:
المقصود بيان الرأي الشرعي والقانوني في بيع السلاح أيام الفتنة هل يجوز أم لا؟ فقد ذهب بعض أهل العلم إلى أنَّ الفتنة هي ما يقع من الحروب بين المسلمين، وأن بيع السلاح في تلك الظروف إعانة لمن اشتراه، ولكن إذا تحققت معرفة الباغي من الطرفين المتقاتلين، فإن البيع لمن في جانبه الحق لا بأس به، ولكنهم اختلفوا في غير ذلك لاختلافهم في فهم نص حديث أبي قتادة رضي الله عنه قال: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حنين فَبِعْتُ الدِّرعَ فابتعتُ منه مخرفاً([12]) من بني سلمة، فإنه لأوَّل مالٍ تأثلته([13]) في الإسلام)([14]). ففهم بعضهم أن نص الحديث يدل على كراهة بيع السلاح أيام الفتنة، بينما يرى آخرون أن الحديث يدل على أن الجائز هو بيع السلاح في غير الفتنة لمن لا يُخشى منه الضرر، أما بيع السلاح مطلقاً عند هذا الفريق فغير جائز حتى ولو في غير أيام الفتنة، فهذا يدل على أن بيع السلاح إلى عصابات النهب المسلَّح والسطو وقُطَّاع الطرق غير جائز. فأرى أن هذا الرأي هو الراجح لأن تجارة السلاح بدون ضوابط في أيام الفتنة أو في غيرها قد ينتج عنه فساد في الأرض، وعليه فإن التشريع الجنائي السوداني مبدئياً يعدّ استعمال القوة الجنائية لارتكاب أي جريمة ضد أي شخص بقصد إلحاق الضرر به أو تخويفه أو مضايقته جريمة يعاقب القانون عليها بالسجن لمدة سنة أو بالغرامة أو بالعقوبتين معاً([15]). فلذلك نجد أنَّ منهج القرآن الكريم قبل أن يُحرِّم الفعل الضار يمنع الدوافع التي تؤدي إلى وقوعه ابتداءً وذلك في قوله تعالى (واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل) ([16])، جاء في تفسير قوله عز وجل(والفتنة أشد من القتل) بمعنى أن الفتنة أشد من أن يُقتل المؤمن وقتله أخف منها، فهي أكبر من القتل([17]).(/2)
وبما أنه قد ثبت لدينا في هذا المطلب أن بيع السلاح غير جائز للمسلم أيام الفتنة أو في غيرها من الأوقات إذا كان المشترى يُخشى منه الضرر فلذلك من باب أولى عدم مشروعية بيعه لغير المسلم مطلقاً لأن الكفار لا يُؤمن شرهم، بل يُخشى منهم إلحاق الضرر بالغير في أي وقت، وفي بيعه إعانة لهم على المسلمين، وكذلك يعني موالاتهم التي نهى عنها القرآن الكريم، كما جاء في قوله تعالى( ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء واتقوا الله إن كنتم مؤمنين) ([18]). ففي الشريعة الإسلامية المسلم مطالب بالسماحة مع أهل الكتاب ولكن في ذات الوقت منهي عن موالاتهم أي مناصرتهم ضد المسلمين، فيجب التفريق بين دعوة الإسلام إلى السماحة في المعاملات المالية مع أهل الكتاب وبرهم وبين الولاء الذي يجب ألا يكون إلا لله وجماعة المسلمين([19]).
المطلب الثاني: غصب الأموال:
الغصب لغةً هو: (أخذ الشيء ظلماً، أو أخذ مال الغير ظلماً وعدواناً)([20]). فالغصب بهذا المفهوم من حيث اللغة يُعدُّ من الوسائل غير المشروعة في كسب الأموال، مع العلم أن غصبها في هذا الزمان اتخذ صوراً متعددة فمنها ما يحدث بين الأشخاص في المدن والأرياف أو ما يحدث من بعض الدول ضد أخرى تحت ستار الشرعية الدولية بغرض أخذ أموال الدول المستضعفة عنوةً وقهراً، ظلماً واستبداداً استناداً إلى أحكام القانون الدولي المزعوم. وليس بعيداً عن الأذهان العبث الذي يجري الآن في العراق فالولايات المتحدة تأخذ النفط العراقي عنوةً اعتماداً على قوة الاحتلال، وأصحاب النفط المغصوب من العراقيين لا حول لهم ولا قوة إلا بالله العظيم. وعليه فإننا في هذا المطلب نريد معرفة ماهية الغصب في الاصطلاح الفقهي وعقوباته في نظر الفقه الإسلامي والقانون.
فالغصب في المذهب الحنفي هو: (أخذ مال متقوَّم محترم بلا إذنِ مَنْ له الإذن على وجهٍ يزيل يده بفعلٍ في العين)([21]). فيرى بعض الحنفية من خلال هذا المفهوم الاصطلاحي أن الغصب يتحقق بإزالة اليد المالكة للمال بإثبات اليد الغاصبة له بفعلٍ في العين، بينما يرى فريق آخر منهم أن الغصب يتحقق بإثبات اليد الغاصبة دون إثبات المالكة للتصرف، ولكن الحنفية لم يختلفوا في أن حقيقة الغصب هي إيقاع الفعل فيما يمكن نقله من الأموال بغير إذن صاحبه على وجهٍ يتعلق به الضمان، أما من غير إيقاع فعلٍ في المحل فلا يُعدُّ الغاصب غاصباً، مثال ذلك: إذا منع شخصٌ شخصاً آخر من دخول داره فلا يُعَدُّ مانعه غاصباً للدار لأن العقارات غير قابلة للغصب في فلسفة بعض أنصار المذهب لعدم تحقق الإزالة بفعل في العقار، فزوائد الأموال المغصوبة القابلة للنماء لا يضمنها الغاصب كالزيادة في الشجر المثمر مثلاً. وعليه فإن حكم الغصب عند الحنفية بصفة عامة هو الإثم، ويجب على الغاصب رد المغصوب لو كان قائماً في مكان غصبه بالإضافة إلى أجرة وتكاليف رده إلى مكانه، فإذا هلك المغصوب بسبب غير إرادي أو عجز الغاصب عن رده إلى مكانه لأي سبب من الأسباب فعليه أن يرد مثل المغصوب إذا كان مثلياً كالمكيل والموزون والعددي المتقارب، فإن انقطعت المماثلة فعلى الغاصب ضمان قيمة المغصوب حسب سعره يوم الخصومة، هذا عند الإمام أبي حنيفة، أما عند أبي يوسف في هذه الحالة على الغاصب أن يرد قيمة المغصوب حسب سعره يوم الغصب([22]).
وقد ذهب الحنفية إلى بيان أحكام الغصب في حالات افتراضية أخرى منها إذا غُصب المال المغصوب من يد الغاصب الأول، فيرون أنَّ مِنْ حق مالك المال المغصوب الخيار إن شاء ضمن قيمته الغاصب الأول أو ضمَّنها غاصب الغاصب، إلا في مال الوقف المغصوب إذا غُصب من الغاصب الأول وكان الغاصب الثاني أكثر مالاً من الأول فإن متولِّي إدارة الوقف له الحق أن يُضمِّن قيمته على الغاصب الثاني، فإذا اختار مدير الوقف تضمين احد الغاصبين الأول أو الثاني فليس له أن يطالب الثاني لأن تضمين أحدهما يوجب براءة الآخر إذا وافق الذي وقع عليه الضمان الالتزام بذلك أو قضى عليه القاضي بذلك.(/3)
والحالة الثانية التي يفترضها الحنفية إذا غصب شخص من آخر دراهم أو دنانير في بلد بعينها فليس لمالكها أن يطالبه بقيمتها في بلد آخر ولو كان السعر في ذلك البلد أقل من سعر مكان الغصب. أما إذا تغيَّر المغصوب بفعل الغاصب حتى زال اسمه فيجوز تمليكه له وتضمينه عليه، مثال: إذا غصب شخص شاة فذبحها وطبخها أو حتى لو قام بتقطيع لحمها يكون بهذا الفعل عند الحنفية قد ملكها فعليه ضمان قيمتها. ومن تلك الحالات أيضاً: من وجد في زرعه دابَّة أضرت به فحبسها فهلكت فعليه ضمانها، وينطبق عليه نفس الحكم لو أخرجها وساقها ثم هلكت فعليه ضمانها، أما إن أخرجها من الزرع ولم يسقها فليس عليه ضمان. ومن تلك الحالات الافتراضية: مَنْ بنى أو غرس في أرض غيره بدون إذنه يؤمر بقلع الزرع ورد الأرض إلى صاحبها. ومالك الأرض له أن يُضمِّن الغاصب إذا نقصت أرضه بذلك البناء أو الغرس، وللغاصب أن يحتكم إلى عرف المزارعة على أن ما يخرج من الأرض يكون بينهما بالمناصفة أو بأي نسبة شائعة أخرى وإلا فالخارج من الزرع للمزارع وعلى الغاصب أجرة المثل أو يضمن المثلي بالمثلي والقيمي بالقيمي([23]).
في المذهب المالكي الغصب له تعريفان، الأول: (هو أخذ مال قهراً بلا حرابة)([24]). ويتفقون مع الحنفية في التعريف الثاني لمفهوم الغصب بأنه: (رفع اليد المستحقة، ووضع اليد العادية قهراً)([25]). ولكن المالكية قد تشددوا في توقيع العقوبة على الغاصب وضرورة تنفيذها، بخلاف ما ذهب إليه الحنفية، فيرون أن يُعاقب الغاصب حتى ولو كان صبياً مميِّزاً بالضرب أو الحبس باجتهاد من الحاكم الذي له حق تحديد تلك العقوبة لدفع الفساد بين الناس وتحقيقاً للإصلاح وتهذيباً للأخلاق. وكذلك يتفق المالكية مع الحنفية في تضمين الغاصب المال الذي غصبه بمجرد الاستيلاء عليه أو حيازته حتى لو تلف بسبب غير إرادي أو تلف بجناية غيره عليه، ولكن إذا كان الغاصب لم يستول على المال المغصوب فتردد المالكية في ذلك فبعضهم يتفق مع ما ذهب إليه الحنفية في مسألة من أخرج دواب كانت في حظيرة فهلكت فلا ضمان عليه، ويرى آخرون أنه ضامن لها. وللمالكية رأيان كذلك إذا كان الغاصب قد ذبح شاةً مغصوبة فالرأي الأول عليه ضمان قيمتها بسعر اليوم الذي غُصبت فيه إذا وافق على ذلك مالكها، والرأي الثاني لمالك الشاة إن شاء أخذها مذبوحة ولا شيء له على الغاصب بعد أخذها([26]) فهذا بخلاف ما يقضي به الحنفية الذين يرون أن الغاصب في هذه الحالة يملك الشاة المغصوبة المذبوحة ويُضمن القيمة في الأشياء المثلية من المكيلات والموزونات إذا أحدث فيها عيباً عند غصب شيء منها أو إتلافه بشرط أن يتساوى سعره وقت تضمينه مع سعره وقت غصبه([27]).
والغصب عند الشافعية هو: (استيلاء على حق الغير)([28])، فمعنى عبارة حق الغير في المذهب الشافعي تشمل جميع أموال وحقوق الآخرين المختلفة بما فيها المنافع، فعندهم من قعد بمسجدٍ عنوةً أو سرق من الأسواق يُعدُّ غاصباً، أما إذا كان الشيء المغصوب لا اعتداد بماليته من الناحية الشرعية مثل الخمر وغيرها إن كانت باقية وجب ردها للغاصب وليس عليه ضمانها إذا تلفت لأنَّه لا قيمة لها شرعاً، هذا واتفق الشافعية مع الحنفية في أن حكم الغصب الضمان والإثم على الغاصب. وإذا قام الغاصب عند الشافعية بتغيير وجه ملامح المال المغصوب بالغرس أو بصبغ الأشياء التي تقبل الإصباغ أو حفر الأرض التي غصبها من صاحبها، وجب عليه إزالة ما أحدثه من تغيير فيما غصبه من أموال، باستثناء بعض التغييرات التي ليس له حق إزالتها إلا بعد موافقة مالكها مثل إذا غصب غزلاً فنسجه أو طيناً فضربه لبناً أو إذا غصب ذهباً فصاغه حلياً، فالسبب عندهم في عدم إزالة التغييرات الحادثة في الأموال المغصوبة التي سبق ذكرها لأن الغاصب تعنَّت فيما لا فائدة فيه، هذا بخلاف ما ذهب إليه الحنفية في مثل تلك الحالات حيث يرون أنَّ الغاصب قد ملك المغصوب فوجب عليه الضمان، ويتفق الشافعية مع ما ذهب إليه المالكية والحنفية في أن قيمة ضمان المثلي بالمثلي والمتقوم بالقيمة، أما القول المعتمد عند الشافعية إذا باع الملتقط اللقطة ثم ظهر مالكها فعليه ضمان قيمتها، وإذا تلف المال المرهون على يد المرتهن فعليه ضمان قيمته كاملة لا بالقيمة الأقل منها([29]).(/4)
أما الغصب عند الحنابلة: فهو (استيلاء غير حربي عرفاً على حق غيره قهراً بغير حق)([30]). فإذا قارنَّا مفهوم الغصب عند الحنابلة بالمذاهب الأخرى نجدهم يتفقون مع المالكية في واقعة تحقُّق الغصب وأن يكون الاستيلاء على مال غير حربي، بينما الشافعية والحنفية لا يعدُّون ذلك الشرط، حيث لم يظهر من خلال تعريفهم للغصب بل يتحقق الغصب بمجرد الاستيلاء على المال عن طريق القوة والقهر ووضع اليد بدون وجه حق، فنستنتج من ذلك أن الذي يستولي على المال حرابةً عند الحنابلة والمالكية فهو غير غاصب وإنما تنطبق عليه أحكام المحارب وهي عقوبات تختلف عن عقوبة الغصب التي لا تعدو عند بعضهم استرداد المال المغصوب أو دفع تعويض بدلاً عنه في حالة استحالة رد عينه، بالإضافة إلى الإثم على الغاصب، ونستنتج كذلك مما تقدَّم من المقارنة أنَّ كل محارب عند الشافعية والحنفية غاصب وليس كل غاصب محارباً، وأرى رجحانه هذا الرأي لأن المحارب هو (الذي شهر السلاح وقطع الطريق وقصد سلب المال سواء كان في مصر أو قفر)([31]). وليس الغاصب كذلك.
وأحكام الغاصب عند الحنابلة تتلخص في رد المغصوب إلى مالكه أو إلى المحل الذي غُصب منه إن قدر على ذلك، ولا يُجبر المالك على أخذ العوض حتى إذا التزم الغاصب بدفع أكثر من قيمة المغصوب، ولا يُقبل من الغاصب دفع قيمة المغصوب إلا إذا تعذَّر رده إلى مالكه عيناً. ويختلف الحنابلة مع الشافعية في إزالة الغاصب للتغييرات التي أحدثها في المال المغصوب، حيث يرى الحنابلة على الغاصب رد العين مع أرش النقص، مثال ذلك من غصب قمحاً فطحنه أو صاغ ذهباً أو فضةً حلياً أو ضرب الحديد سفينة أو غرس بذوراً مغصوبة فصارت أشجاراً، ففي جميع الحالات المتقدمة عند الحنابلة لا أثر لعمل الغاصب في الأموال المغصوبة حتى لو تغير اسمه أو شكله، بل عليه رد العين المغصوبة وتعويض النقص الذي أحدثه فيها فعله وذلك بتحويلها من هيئة إلى حالة أخرى.
نظراً لما تقدَّم أورد المشرِّع السوداني في القانون الجنائي نص المادة (46) التي تقول: (تأمر المحكمة عند إدانة المتهم برد أي مال أو منفعة حصل عليها، ويجوز لها بناءً على طلب المجني عليه، أو أوليائه أن تحكم بالتعويض عن أي ضرر يترتب على الجريمة وذلك وفقاً لأحكام قانون المعاملات والإجراءات المدنية)([32]).
وإذا تأمَّلنا في أفعال الغصب على ضوء قانون المعاملات المدنية السوداني لسنة 1984م نجد أنَّه يُعِدُّ من الجرائم التي تسبب أضراراً على المجتمع، فلذلك أوجب المشرِّع السوداني التعويض على كل من يرتكب فعلاً يقع منه ضرر على الغير ولو كان غير مميز، وإذا تعذَّر الحصول على التعويض من مال غير المميِّز يجوز للمحكمة بموجب أحكام هذا القانون أن تلزم من هو مسئول عن الصغير غير المميِّز بمبلغ التعويض، هذا باستثناء ما إذا كان الضرر وقع بسبب الدفاع عن النفس أو المال أو العرض، فليس على مَنْ وقع منه الضرر في هذه الحالات دفع تعويض، بشرط ألا يتجاوز دفاعه القدر الضروري للدفاع عن الحقوق المذكورة أعلاه وإلاَّ أصبح ملزماً بالتعويض([33])، فنلاحظ أن أحكام قانون المعاملات المدنية لسنة 1984م فيما يتعلق بعقوبة الغاصب جاءت متوافقة مع ما قال به المالكية من ضرورة توقيع العقوبة على الغاصب ولو كان صبياً مميزاً بعقوبة يقدرها الحاكم.
المطلب الثالث: غسيل الأموال:
من البدع المحدثة في مجال المعاملات في هذه الأيام نوع من التصرفات المالية أُطلق عليها مصطلح "غسيل الأموال" وهي: عبارة عن أعمال مصرفية غير شرعية القصد منها إظهار معاملات غير مشروعة بمظهر شرعي وقانوني، حيث يحصل بعض الأشخاص على رؤوس أموال كبيرة من عائدات أرباح معاملات غير شرعية كتجارة المخدرات أو عن طريق الغصب والاحتيال أو يحصلون عليها بتزييف النقد أو تزوير الشيكات أو بالمضاربات غير المشروعة في سوق الأوراق المالية، وغير ذلك من المعاملات المحرَّمة شرعاً والممنوعة قانوناً التي لا حصر لها، فيقوم أولئك الأشخاص بعد حصولهم على تلك الأموال بفتح حسابات في المصارف بأسماء وهمية بمساعدة بعض العاملين في تلك المصارف بمهارات فنية عالية يستخدمون فيها النظام الإلكتروني، فيدخلون تلك الأموال غير الشرعية في المصارف عن طريق تلك الحسابات الوهمية التي فتحوها مسبقاً عن طريق الحوالة أو الإيداعات المصرفية، المعلومة لدى إدارة المصرف والموظفين عامةً، فبهذه الإجراءات يتحقق لأولئك المحتالين غسيل الوجه المحرَّم لطرق كسب تلك الأموال، فتصبح من الناحية العملية في المصارف لا فرق بينها وبين المعاملات التي يتم تداولها برأس مال مشروع، ويتحقق لهم بذلك التصرف أيضاً النجاة من العقوبات التي تقع على كل من يمارس تلك الأفعال الإجرامية بالتمكُّن من إظهار أموالهم المحرَّمة بمظهر المال الحلال، فهذا هو الهدف من تسمية عملية غسيل الأموال([34]).(/5)
فهذا النوع من المعاملات المُسمَّى بغسيل الأموال لم يستخدمه المسلمون من قبل لأنه من طرق الكسب الخبيث بنص الكتاب لقوله تعالى ( ياأيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين) ([35])، وكما في قوله عز وجل (الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم) ([36]).
ومن السنة عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يأتي على الناس زمان لا يبالي المرء ما أخذ منه أمن الحلال أم من الحرام)([37]). يدلُّ هذا الحديث على إخبار السنة بالأمور التي لم تكن في زمنه صلى الله عليه وسلم ، بل إخبارها بما يقع في الزمن المستقبل، فهذه دلالة على صدق نبوته عليه الصلاة والسلام، فالحكم المستفاد من هذا الحديث هو ذم ترك التحري في كسب المال وهو ما يحدث الآن سواء كان عن طريق معاملات غسيل الأموال أو غيرها من المعاملات غير الشرعية الظاهرة أو المستترة.
فبالنظر إلى معاملات غسيل الأموال بمنظار التشريع السوداني نجدها تقع في دائرة الحظر بموجب قانون الثراء الحرام والمشبوه، فالثراء الحرام في هذا القانون هو كل مال يتم الحصول عليه نتيجة معاملات مخالفة للأصول الشرعية كالتي تقوم على الغش والاحتيال والتدليس، أو عن طريق لعب الميسر والرشوة والسمسرة في منافع الناس دون أخذ رخصة مسبقة في ذلك، وكذلك يشمل كل مال يتم الحصول عليه عن طريق النهب والتزوير، فيترتب على المال الذي يتم كسبه بهذه الطرق بموجب أحكام هذا القانون ألاَّ يُورَّث ولا يُمتلك بالتقادم ولا تسقط دعواه بالتقادم أيضاً، فقد نصت على ذلك المادة (166/1): أن ما اعتبر ثراءً حراماً لا يجوز التصرف فيه شرعاً فلا يُورث بواسطة المحاكم ولا يُمتلك بالتقادم ولا ينتقل بالهبة ولا بالوصية ولا بالبيوع والتصرفات الأخرى الناقلة للملكية. فهذه الفقرة تستجيب للأمر الوارد في قوله تعالى ( ياأيها الذين آمنوا انفقوا من طيبات ماكسبتم) ([38]).
[1] لا تسقط دعوى الإثراء بلا سبب مشروع بمرور الزمن.
[2] يتولى النائب العام دعوى الإثراء بلا سبب مشروع إذا كان الشخص المضرور هو الدولة بناءً على طلب من أي مواطن سوداني أو من تلقاء نفسه([39]).
[3] يجوز لرئيس الجمهورية في أي وقت أن يطلب من أي مواطن سوداني أو أي شخص يقيم أو يعمل في السودان أن يبرر وجه ثرائه المشتبه في شرعيته كما يجوز له أن يطلب من النائب العام اتخاذ الإجراءات القانونية.
أما عقوبة الثراء الحرام في هذا القانون فقد نصت عليها المادة (15) بقولها: (فإن كل شخص يثري ثراءً حراماً يُعاقب بالسجن لمدة لا تجاوز عشر سنوات أو غرامة لا تجاوز ضعف مبلغ المال موضوع المال الحرام أو العقوبتين معاً). ويُعَدُّ ربا النسيئة والفضل جريمة من قبيل الثراء الحرام بمقتضى هذا القانون([40]).
فعملية غسيل الأموال بحسبانها عقداً من العقود تُعدُّ عقداً باطلاً بطلاناً مطلقاً([41])، لأن محل العقد (المعقود عليه) غير جائز شرعاً، فلا يترتب على هذا النوع من العقود أي أثر من الآثار الشرعية والقانونية بل يقتضي إعدام هذا العقد بأثر رجعي لما يلحقه بالمجتمع من أضرار اقتصادية متعددة ومتنوعة، فتتأثر بذلك جميع ضروب الحياة المدنية. فلذلك نجد المشرِّع السوداني قد أصاب بتخصيصه إدارة قانونية مستقلة تسمى إدارة الثراء الحرام والمشبوه للنظر في جرائم هذا النوع من المعاملات غير الشرعية لتفادي خطورتها في أسرع وقت حتى لا يتمكن أولئك الأشرار من السيطرة على مصادر أرزاق العباد بدون وجه حق، فيقع الضرر على عامة الناس على حين غفلة من رقابة السلطة القضائية.
المبحث الثالث
المسئولية عن الضرر في المعاملات غير المشروعة
من خلال الشرح السابق لبعض النماذج عن مضار المعاملات غير الشرعية في المطالب الثلاثة من المبحث الثاني في هذا الموضوع، نلاحظ أن المسئولية عن ضرر المعاملات إما أن تكون ناتجة عن القيام بمعاملة مقصودة لذاتها من الفاعل كما هو في بيع السلاح في الفتنة أو في غصب الأموال أو في غسيلها، أو تكون المسئولية عن الضرر ناتجة عن فعل غير مقصود من فاعله فيترتب عليه خسارة تقع على الغير فهذا ما يُسمى في الاصطلاح القانوني بالخطأ المدني فهو: (إخلال الفرد بموجب يقع عليه، ومفروض عليه تنفيذه قانوناً أو اتفاقاً، يُنظر إليه من زاوية الإضرار بالفرد ومن زاوية الإخلال بالتوازن بين المصالح الخاصة بالأفراد، والجزاء فيه يتأدَّى في إصلاح ذلك التوازن الذي اختل بما يُقضى به من تعويض)([42]).(/6)
أما عن فلسفة المسئولية عن الضرر في الفقه الإسلامي فقد كشف عنها علماء الفقه والأصول في مجموعة قواعد فقهية وأخرى أصولية منذ الماضي البعيد قبل ظهور التشريعات القانونية الحديثة، فكانت تلك القواعد بمثابة القانون الخاص في معالجة الأضرار الناشئة عن المعاملات غير الشرعية في حق الشخص المضرور، وقد دل على ذلك مؤتمر القانون المقارن الذي انعقد في مدينة لاهاي سنة 1356هـ، الموافق سنة 1938م، وكان من بين موضوعاته المطروحة للنقاش المسئولية المدنية، فقد ثبت في ذلك المؤتمر الذي شارك فيه كبار علماء الحقوق في أوروبا أن الشرع الإسلامي شرع قائم بذاته ليس مأخوذاً عن غيره([43])، وعليه نلاحظ أن كثيراً من الدول لجأت إلى الاستفادة من منهجه في وضع تشريعاتها وقوانينها المدنية كما هو في مصر وسوريا والسودان وغيرها من الدول العربية الأخرى. فمن تلك القواعد الفقهية التي شُرعت لمنع وقوع الفعل الضار القاعدة التي تقول: ("لا ضرر ولا ضرار"([44])، وأخرى شُرعت لوجوب رفع الضرر وهي "الضرر يُزال")([45]). هذا بالإضافة إلى القواعد الأصولية التي استنبطها علماء الأصول من استقراء نصوص الأحكام الشرعية وحكمتها التشريعية منها ما يتعلق بوجوب حفظ المال وحمايته من السرقة بعقوبة حد السرقة، ومنها ما يتعلق بتحريم الغش والخيانة وأكل أموال الناس بالباطل، ومنها ما يختص بوجوب ضمان المال المُتلف، وغيرها من القواعد الأخرى في مجال جبر الضرر الذي يقع على الغير في أموالهم([46]).
مما تقدَّم ذكره نلاحظ اتفاق علماء الشريعة والقانون في وجوب المسئولية عن الأضرار الناجمة عن المعاملات المشروعة وغير المشروعة ولكننا نقتصر في هذا المقام على الحديث في موضوع بحثنا في المسئولية عن أضرار المعاملات غير الشرعية، وعليه سنتناول منها في هذا المبحث المسئولية عن أضرار المعاملات العقدية، بالإضافة إلى المسئولية عن ضرر المعاملات بسبب التقصير.
المطلب الأول: المسئولية عن ضرر المعاملات بموجب العقد:
من طرق المسئولية عن الأضرار في الفقه الإسلامي تضمين العاقد الذي أحدث الضرر في المعاملة العقدية، فهذا مبدأ شرعي يقوم على أساس التمييز بين عقود الضمانات وعقود الأمانات، بمعنى أن العقد يكون عقد ضمان في الناحية التي تتعلق بها المعاوضة، فيكون الشخص القابض عند التعاقد ضامناً للضرر، فلذلك يُعدُّ عقد البيع عقد ضمان مطلقاً، وأيضاً عقد الصلح عن مال بمال، لأن قبض المال في هذين العقدين وما جرى مجراهما هو قبض على أساس الاستيفاء لما استحقه القابض مقابل عوض واجب عليه للشخص المقبوض منه في المعاملة موضوع التعاقد بينهما، وكذلك عقد القرض لأن قبض المال بموجب هذا العقد يلزم المقترض برد مثله عوضاً عنه، وعليه فإذا لحق المال المقبوض بهذه العقود أي ضرر يكون القابض مسئولاً عن دفع عوض عن ذلك الضرر سواء كان في عقد البيع أو في عقد الصلح عن مال بمال أو في القرض([47]).
فنستنتج مما سبق ذكره أن مسئولية الضمان بالعقد في الفقه الإسلامي تعني التزام القابض للمال بالعقد بمثل ما قبض أو بقيمته عملاً بأحكام المادة (138) من قانون المعاملات المدنية: (كل فعل سبب ضرراً للغير يُلزم من ارتكبه بالتعويض ولو كان غير مميز)([48]). فكلمة (ضرر) التي وردت في نص هذه المادة تشمل جميع أنواع الضرر بما فيها الضرر المالي الذي يصيب الإنسان بإتلافه أو بفوات فائدته كلها أو بعضها، فالضرر بفوات فائدة المال المادية يتحقق بمجرد تفويت أي فرصة للمدَّعي، كأن ينشر اختصاصي في مجال الزراعة تقريراً يفيد أن هنالك آفات سوف تضر بالمحاصيل الزراعية في وقت الزراعة، وكان هذا التقرير كاذباً ينطوي على مكر القصد منه الإضرار بالمزارعين بتفويت موسم الزراعة عليهم لينفرد هو بتسويق الإنتاج الزراعي ليحصل على أرباح كثيرة.
فلما كان ليس من السهل معرفة تقدير قيمة تعويض الضرر بالنسبة للشخص العادي فقد خوَّل المشرع السوداني للقاضي تقدير ذلك حسماً للنزاع الذي قد يحدث أحياناً عند عدم استطاعة العاقدين تحديد مبلغ التعويض، وذلك بموجب نص المادة (154) في الفقرات التالية:
[1] يعيِّن القاضي طريقة التعويض تبعاً للظروف، ويصح أن يكون التعويض مقسَّطاً كما يصح أن يكون إيراداً مرتَّباً، ويجوز في هاتين الحالتين إلزام المدين بأن يقدم تأميناً.
[2] يُقدَّر التعويض بالنقد، على أنه يجوز للقاضي تبعاً للظروف وبناءً على طلب المضرور أن يأمر بإعادة الحال على ما كان عليه، أو أن يحكم بأداء أمر معين متصل بالفعل الضار وذلك على سبيل التعويض.
[3] يجوز دائماً أن يتفق الأطراف على قيمة التعويض، ولا يُكره شخص على التنازل عن حقه في التعويض.
وقد حدد المشرِّع السوداني أحكام دفع التعويض في حالة تعدد المسئولين عن الضرر في نص فقرات المادة (151) كما يأتي:
[1] إذا تعدد المسئولون عن فعل ضار كانوا متضامنين بالتزامهم بتعويض الضرر.(/7)
[2] تكون المسئولية فيما بين الشركاء بارتكاب الفعل الضار بالتساوي إلا إذا عيَّنت المحكمة نصيب كل منهم في التعويض.
[3] يسري حكم البندين (1) و(2) على كل أنواع الفعل الضار بما فيها الإضرار الشخصي والوظيفي والمهني([49]).
المطلب الثاني: المسئولية عن ضرر المعاملات بسبب التقصير:
المسئولية عن الضرر المترتب على المعاملات بسبب التقصير في الفقه الإسلامي مفهومها أشمل من مسئولية الضمان بالعقد التي سبق شرحها، فالمسئولية بسبب التقصير تعني تعويض الشخص المضمون له بسبب ما أصابه من اعتداء أو ضرر سواء كان بعقد أو بغير عقد، على أن يكون التعويض بالمثل في الأشياء المثلية التي يُعرف مقدارها بالكيل أو الوزن، أو يكون تعويضاً بالقيمة في الأشياء التي لا مثل لها فتشمل كل ما هو غير مكيل ولا موزون([50])، وعليه فإن المسئولية عن أضرار المعاملات الشرعية أو غير الشرعية بسبب التقصير في نظر الفقه الإسلامي تعني الضمان بمعناه الشامل الذي عرَّفه نفر من فقهاء المسلمين بأنَّه: (هو الالتزام بتعويض الغير عن ما لحقه من تلف المال أو ضياع المنافع أو عن الضرر الجزئي أو الكلي الحادث بالنفس الإنسانية)([51]). فهذا المعنى هو الذي اعتمده المشرِّع السوداني في مفهوم أحكام المسئولية التقصيرية في قانون المعاملات المدنية لسنة 1984م([52]).
وبناءً على ما تقدم فالحكمة من مشروعية أحكام المسئولية التقصيرية في الشريعة الإسلامية ناتجة عن ضرورة الحفاظ على أموال الناس بجبر الضرر في معاملاتها المتنوعة وزجراً للمعتدين، استناداً إلى قوله تعالى:
(الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ )([53]). وفي قوله تعالى: (وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) ([54]). وفي قوله عز وجل:
(وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) ([55]). فأحكام النصوص الواردة في الآيات أعلاه تشير إلى وجوب المسئولية التقصيرية عند الاعتداء على المال أو أخذه بدون وجه حق أو إتلافه.
ويؤيِّد ذلك من السنة ما رواه أنس رضي الله عنه قال: (أهدت بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم إليه طعاماً في قصعةٍ، فضربت عائشة القصعة بيدها فأتلفت ما فيها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "طعام بطعام وإناء بإناء".)([56]). فالحكم المتقرر بنص هذا الحديث أوجب به النبي صلى الله عليه وسلم على عائشة رضي الله عنها ضمان ما أتلفت من طعام وإناء، لأنَّ هذه الواقعة تُعَدُّ اعتداءً على المال، وبجانب هذا يرمي القضاء الذي صدر من المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى تحقيق مقصدين من المقاصد التشريعية، فالمقصد الأول فيه زجر للسيدة عائشة (رضي الله عنها) لارتكابها فعلاً ضاراً، والمقصد الثاني هو إزالة الضرر الأدبي والنفسي الذي وقع على زوجته الأخرى (رضي الله عنها) التي كسرت عائشة إناءها وأتلفت طعامها، فأصبحت السيدة عائشة (رضي الله عنها) بذلك مسؤولة أمام النبي صلى الله عليه وسلم عن تعويض الضرر المادي بسبب كسرها للإناء، ومسؤولة أيضاً عن الضرر الأدبي والنفسي باعتدائها على الغير بموجب الحكم الذي احتواه نص الحديث المذكور أعلاه.
فهذا الحديث يتضمن أحكام نص المادة (138) من قانون المعاملات المدنية السُّوداني لسنة 1984م، حيث استخلص المشرع السُّوداني منها أركان المسؤولية التقصيرية نوعاً وعدداً بقولها: (كل فعل سبَّب ضرراً للغير يلزم من ارتكبه بالتعويض ولو كان غير مميز). فاشتمل هذا النص على الأركان الثلاثة للمسؤولية التقصيرية المتمثلة في: الفعل الضار، والضرر، والرابطة السببية بين الفعل والضرر، هذا فضلاً عن ما جرت عليه السوابق القضائية في السُّودان التي قضت بأنَّ دعوى التعويض الناتجة عن الإخلال بالعقد يمكن أنْ تؤسَّس على الإخلال بالعقد وبالمسؤولية التقصيرية معاً، أو بمعنى آخر عند وقوع الضرر الناتج عن الإخلال بالعقد في المعاملة موضوع النزاع فللمدعي الخيار في رفع الدعوى بسبب الإخلال بالعقد أو بموجب المسؤولية التقصيرية([57]).
خاتمة(/8)
في نهاية الحديث عن هذا الموضوع أضع بين يدي القارئ الكريم ملخصاً عن مجمل القضايا التي عالجها البحث حيث إنه شرح الأحكام المتعلقة بأبرز أنواع المعاملات غير المشروعة التي شغلت الرأي العام المحلي والعالمي في هذه الأيام، مع بيان خطورة تلك التصرفات على استقرار المجتمعات المدنية والتقدم العلمي والاقتصادي، والأضرار التي تقع بسببها على الحياة الاجتماعية فتكدِّر صفوها وتذهب بنعيمها، وتجعل القوي آكلاً والضعيف مأكولاً، فضربت بذلك الفوضى أصقاع الدنيا نتيجة تلك المعاملات غير الشرعية التي كشف عنها البحث كتجارة السلاح في ظل الحروب والفتن الطاحنة التي شملت جميع أنحاء العالم، فتشرَّد على إثر ذلك أطفال وهُتكت أعراض، وهُدِّمت منازل. وناقش الموضوع كذلك عمليات غصب الأموال التي تُرتكب في المدن والأرياف الآن، فأذهبت أمن المجتمع حتى في داخل المنازل، علاوة على ترويع الناس في الطرقات العامة والخاصة. وأيضاً تناول الموضوع ظاهرة معاملات حديثة مثل (غسيل الأموال) التي ساعدت على انتشار السلوك غير القويم من أجل الحصول على المال بأي وسيلة من الوسائل، وبأي طريقة من الطرق غير القانونية، باتخاذ المعاملات المنحرفة التي تعمل على هدم بناء الاقتصاد الذي هو مصدر توفير المال عصب الحياة. ثم شرحتُ في المبحث الأخير من هذا الموضوع الأحكام الفقهية والقانونية للمسؤولية المترتبة على ضرر المعاملات غير الشرعية التي تجب مراعاتها من قِبَل أولي الأمر محليّاً ودوليّاً.
النتائج:
أرجو أنْ أوضح أنَّ من أهم النتائج التي توصل إليها الباحث ما يلي:
[1] إسهام البحث في تأصيل المعرفة في قانون المعاملات المدنية.
[2] اكتشاف ضعف توعية المجتمع المدني بالمعاملات غير المشروعة لقلة الجهود المبذولة في نشر ثقافة الاحتراز من تلك المخاطر.
التوصيات:
في الختام أوصي بالآتي:
[1] نشر ثقافة الوقاية عن أضرار المعاملات غير الشرعية من منطلق عَقَدِي وقانوني.
[2] استخدام جميع الوسائل المرئية والمسموعة والمقروءة في التوعية المباشرة عن مخاطر المعاملات المدنية المنحرفة وأثرها على حقوق الإنسان.
[3] الاستعانة بأهل الاختصاص من علماء الشريعة والقانون في إيصال رسالة حياة السِّلم الخالية من إلحاق الضرر بالآخرين المشار إليها في قوله تعالى (ياأيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين) ([58]).
[4] تكوين هيئة ذات شخصية اعتبارية لرعاية الحياة المدنية، على أنْ يكون لها قانونها الخاص، وأقترح أنْ تسمَّى (الهيئة العامة لرعاية الحياة المدنية).
وآخر دعوانا (أن الحمد لله رب العالمين) ([59]).
*************
المراجع والمصادر
أولاً: التفسير:
[1] أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي، الجامع لأحكام القرآن.
[2] سيد قطب، في ظلال القرآن.
ثانياً: الفقه الإسلامي وأصوله:
أ/ مراجع مذهب الحنفية:
[3] ابن عابدين،حاشية رد المحتار على الدر المختار شرح تنوير الأبصار.
[4] أبو محمد غانم البغدادي، مجمع الضمانات.
[5] الشيخ محمد بن أمين الشهير بابن عابدين، العقود الدرية في تنقيح الفتاوى الحامدية.
ب/ مراجع مذهب المالكية.
[6] ابن فرحون، تبصرة الحُكَّام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام.
[7] صالح عبد السميع الآبي المصري، جواهر الإكليل.
ج/ مراجع مذهب الشافعية.
[8] الإمام أبو يحيى ابن زكريا الأنصاري، حاشية الشرقاوي.
د/ مراجع مذهب الحنابلة:
[9] الحافظ أبو الفرج عبد الرحمن بن رجب الحنبلي، القواعد في الفقه الحنبلي.
[10] أحمد بن عبد الله القاري، مجلة الأحكام الشرعية على مذهب الإمام أحمد بن حنبل الشيباني.
هـ/ مراجع أصول الفقه:
[11] عبد الوهاب خلاَّف، علم أصول الفقه.
ثالثاً: الفقه المقارن:
[12] د. وهبة الزحيلي، نظرية الضمان أو المسئولية المدنية والجنائية في الفقه الإسلامي.
[13] مصطفى أحمد الزرقا، المدخل الفقهي العام.
[14] د. محمد إبراهيم الموسى، نظرية الضمان الشخصي.
[15] د. محمد علي الفقي، فقه المعاملات.
رابعاً: القانون وشروحه:
[16] قانون المعاملات المدنية لسنة 1984م.
[17] أ.د. محمد الشيخ عمر، شرح قانون المعاملات السوداني.
[18] د. بابكر الشيخ، غسيل الأموال.
[19] القاضي عوض الحسن النور، شرح القانون الجنائي السوداني لسنة 1991م.
[20] محمد صالح علي، قاضي المحكمة العليا، شرح قانون المعاملات المدنية.
[21] عبد اللطيف الحسيني، المسئولية المدنية عن الأخطاء المهنية.
[22] د. بشير مبارك، القانون الجنائي السوداني.
خامساً: كتب اللغة:
[23] الرافعي، المصباح المنير في غريب الشرح الكبير.
[24] المعلم بطرس البستاني، محيط المحيط.
--------------------------------------
([1]) د. مبارك بشير، القانون الجنائي السوداني لسنة 1991م، ص150.(/9)
([2]) أحمد بن محمد بن علي المقرئ الفيومي، المصباح المنير في غريب الشرح الكبير للرافعي، المكتبة العلمية، بيروت، لبنان، الجزء الأول، ص360.
([3]) مصطفى أحمد الزرقا، المدخل الفقهي العام، ج2، ص977.
([4]) أبو عبد الله محمد بن يزيد القزويني بن ماجه، السنن، ج2، ص782.
([5]) انظر: قانون المعاملات المدنية لسنة 1984م، ص9، المادة (3).
([6]) المعلم بطرس البستاني، محيط المحيط، مؤسسة جواد للطباعة، 1977م، بيروت، ص 638.
([7]) ابن عابدين، حاشية رد المحتار على الدر المختار شرح تنوير الأبصار، ج4، ص500.
([8]) ابن فرحون، تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام، دار الكتب العلمية، بيروت، ج2، ص105.
([9]) الإمام أبو يحيى زكريا الأنصاري، حاشية الشرقاوي بشرح تنقيح اللباب، ج 2، ص 21.
([10]) الحافظ أبو الفرج عبد الرحمن بن رجب الحنبلي، القواعد في الفقه الحنبلي، مكتبة الكليات الأزهرية، ط/1، 1392هـ، 1972م، ص5.
([11]) محمد علي الفقي، فقه المعاملات، دراسة مقارنة، ص19.
([12]) مخرفاً: تعني بستاناً من النخل. انظر: النهاية في غريب الحديث، 2/24، مادة (خ ر ف).
([13]) تأثلته: معناها جمعته. انظر: ابن منظور، لسان العرب، 11/9، مادة (أ ث ل).
([14]) الحافظ بن حجر بن علي العسقلاني، فتح الباري بشرح صحيح البخاري، دار الفكر للطباعة والنشر، ج/5، ص 45.
([15]) القاضي عوض الحسن النور، شرح القانون الجنائي السوداني لسنة 1991م، ص 199. وانظر: المادة (143) من القانون المذكور.
([16]) سورة البقرة، الآية (191).
([17]) أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، مؤسسة مناهل العرفان، بيروت، المجلد الأول، ج2، ص351.
([18]) سورة المائدة، الآية (57).
([19]) سيد قطب، في ظلال القرآن، دار الشروق، بيروت، المجلد الثاني، ط/13 سنة 1407هـ، 1987م، ج6، ص909.
([20]) المعلم بطرس البستاني، محيط المحيط، ص408.
([21]) أبو محمد بن غانم البغدادي، مجمع الضمانات، ص117.
([22]) أبو محمد بن غانم البغدادي، المرجع السابق، ص117ـ 119.
([23]) الشيخ محمد أمين الشهير بابن عابدين، العقود الدُّرية في تنقيح الفتاوى الحامدية، مطبعة بولاق، مصر، ط/2، 1301هـ، ج1، ص153.
([24]) صالح عبد السميع، الآبي المصري، جواهر الإكليل، ج2، ص148.
([25]) المرجع السابق، الجزء نفسه، ص153.
([26]) المصدر نفسه، ص153.
([27]) أبو محمد بن غانم البغدادي، مرجع سابق، ص117.
([28]) الشرقاوي، حاشية الشرقاوي، مرجع سابق، ص147.
([29]) الشرقاوي، المرجع السابق، ص147.
([30]) أحمد بن عبد الله القاري، مجلة الأحكام الشرعية على مذهب الإمام أحمد بن حنبل الشيباني، ص430.
([31]) أحمد بن عبد الله القاري، المرجع السابق، ص442.
([32]) شرح القانون الجنائي السوداني، مرجع سابق، ص150. وانظر: المادة (46) من القانون المذكور.
([33]) قانون المعاملات المدنية لسنة 1984م، انظر المواد: (138)، (139)، (142/1).
([34]) د. بابكر الشيخ، غسيل الأموال، آليات المجتمع في التصدي لظاهرة غسيل الأموال، دار مكتبة الحامد للنشر والتوزيع، الأردن، عمان، ص25 وبعدها.
([35]) سورة البقرة، الآية (168).
([36]) سورة الأعراف، الآية (157).
([37]) ابن حجر، فتح الباري بشرح صحيح البخاري، المرجع السابق، ج4، ص296.
([38]) سورة البقرة، الآية (267).
([39]) محمد صالح علي، قاضي المحكمة العليا، شرح قانون المعاملات المدنية السوداني، ص342.
([40]) شرح قانون المعاملات المدنية، المرجع السابق، ج2، ص342ـ345.
([41]) البطلان المُطلق يعني اعتبار العقد غير قائم أصلاً نسبةً لعدم صحة تكوينه التي تؤدي إلى إعدامه بأثر رجعي. انظر: أ.د. محمد الشيخ عمر، قانون المعاملات المدنية السوداني لسنة 1984م، مصادر وأحكام الالتزام، الخرطوم 2004م، ص146.
([42]) د. عبد اللطيف الحسيني، المسئولية المدنية عن الأخطاء المهنية، دار الكتاب اللبناني، ط/1، 1987م، ص25.
([43]) مصطفى أحمد الزرقا، المدخل الفقهي العام، ط/9، ج1، ص229.
([44]) قاعدة: (لا ضرر ولا ضرار) هي نص حديث رواه ابن ماجه في سننه، ج 2، ص 784.
([45]) مصطفى أحمد الزرقا، مرجع سابق، ط/10، ج2، ص977، 982.
([46]) عبد الوهاب خلاَّف، علم أصول الفقه، مكتبة الدعوة الإسلامية، ط/8، ص201.
(1) مصطفى أحمد الزرقا، مرجع سابق، ص581.
(2) شرح قانون المعاملات المدنية، المرجع السابق، ص76.
([49]) المصدر نفسه، ص155، 166.
([50]) د. محمد إبراهيم الموسى، نظرية الضمان الشخصي، ج1، ص215.
([51]) د. وهبة الزحيلي، نظرية الضمان، أو أحكام المسئولية المدنية والجنائية في الفقه الإسلامي، دراسة مقارنة، دار الفكر، ص 15.
([52]) قانون المعاملات المدنية، ص9، المادة (3)
([53]) سورة البقرة، الآية (193).
([54]) سورة البقرة، الآية (187).
([55]) سورة الشورى، الآية (37).(/10)
([56]) الإمام محمد بن علي الشوكاني، نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار من أحاديث سيد الأخيار، دار الفكر للطباعة والنشر، المجلد الثالث، ج6، ص70.
([57]) شرح قانون المعاملات المدنية، المرجع السابق، ص55، 76.
([58]) سورة البقرة، الآية (206).
([59]) سورة يونس، الآية (10).
* أستاذ مساعد بقسم الشريعة والقانون ـ كلية الشريعة والدراسات الإسلامية ـ جامعة إفريقيا العالمية ـ(/11)
مضى زمن الإسعافات الأولية
أبو الحارث محمد الدالي
</TD
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} (102) سورة آل عمران
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (1) سورة النساء
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (71) سورة الأحزاب
ثم أما بعد :
إن مفهوم الإسعافات الاولية وما يستخدم فيها من أدوات كثير منا يعرفها ولله الحمد
فلو تكلمنا في هذا المحور لن نأتي بجديد ولكني أنظر في حال أمة عريقة أمة لها قوامها ومنهجها وترتكز على أساس عظيم وبشرها ربها ببشريات عظيمة وميزها بأمور كثيرة فلله الحمد من قبل ومن بعد . و مرت هذه الأمة بأزمات كثيرة وهي الآن لها تاريخ منير يرجع من 1400 سنة هجرية مباركة
ففي بداية الأمر كان إذا أصابها جرح لا يمكث وقتا طويلا إلا وقد أسعفت بالإسعافات الأولية
وانتهى الأمر وكأن شيئا لم يكن بل ووصل الحال بها إلى أنها كانت تتقدم وتكبر كل يوم عن اليوم الذي سبقه
فلا ننسى ما فعله صديق الأمة أبا بكر رضي الله عنه يوم أن ارتد من ارتد بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم حيث أنه أسعف الأمر بسرعة وقام قومة الرجل المخلص لدين الله وقال كلمة لو كتبناها بماء الذهب لما وفيناها حقها فقال ( والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه لرسول الله لقاتلتهم عليه ) فانتهى الأمر بموت من بقي على ردته وبتوبة من عاد إلى دين الله وهذا معلوم ولله الحمد .
وبعد فترة أصيبت الأمة في عهد الفاروق عمر رضي الله عنه وهو الباب الذي بموته انفتحت الفتن على مصراعيها كما أشار بذلك أمين سر النبي صلى الله عليه وسلم حذيفة بن اليمان فالقصد أنها أصيبت أثناء فتوحاتها بالوقوف أمام أعداء الدين لاستلام مفاتيح الأقصى نسأل الله أن يرده للإسلام بسلام فاحتاج الأمر
أن يذهب الفاروق بنفسه ولم يتأخر في ذلك ليلتأم الجرح ثانية فما أسرعهم في مداواة الجراحات .
وكل التاريخ يشهد بذلك لهذه الأمة فهذه المرأة التي نادت ( وامعتصمااااه ! ) لم يأخذ الأمر مناقشات واجتماعات ودعاوى فارغة إلا وقد حسم الأمر بجيش أوله عند تلك المرأة وآخره عند الخليفة لوقف النزيف .
وهذا صلاح الدين الأيوبي الذي لم يهنأ بعيش والأقصى مع الكفار فأعاد للأمة كرامتها بعودة المسجد الأقصى والتأم الجرح وعاد للإسلام عزته التي لم تذهب أصلا ولكن ربما اهله قد أساؤوا إليه قليلا بذنوبهم .
الله أكبر !!!!!! فالدين عظيم في قلوب محبيه وفي قلوب من أخلصوا لله في إلتزامهم وتمسكهم به
فهلا كنا مثلهم أم أننا نقول ( تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ) ؟!!!!!!!!! .
وأما الآن حال الأمة لا يخفى على الجميع حتى الكفار يعلمون أن الإسلام هو الحق ولكنهم إستصغروا أهله !!!
فامرأة يهودية سئلت هل حقا سوف ينتصر المسلمون علينا ؟ قالت نعم ولكن ليس الآن
قالوا فمتى ؟ قالت عندما يكون عددهم في صلاة الفجر كما هو عددهم في صلاة الجمعة !!!!!!!!!
فهل سيحق قولها ام أننا سوف نقلب تلك الكلمات عليها حسرة ؟!!!
أخوة الإيمان : هل ترضون بهذا في أمتنا هل تطيقون أن تُسألوا أمام الله عن هذه الامانة
قال تعالى {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} (72) سورة الأحزاب
نعم هي امانة عظيمة وموازينها ثقيلة على حال كحالنا وسهلة ميسورة على من أخلص لله تعالى
وعلى من إبيض قلبه ولم تسوده المعاصي والآثام .
نحن الآن لا نرى المنكر منكرا وإن رأيناه تغاضينا عنه ولسان الحال ( ليس أنا من سيصلح الناس ! )
فكل منا رمى اللوم على غيره معتقدا أنه بذلك قد وفّى ما عليه أو أنه قد نجى وإنا لله وإنا إليه راجعون .
* أخوة الإيمان : الإسعافات الأولية تستخدم في بداية كل جرح وكل كدمة ولكنها لا تستخدم في علاج أمر عصيب أو جرح عميق أو مرض كبير أبدا فكل عملها أنها جرعة مؤقتة لحالة بسيطة وتعمل على تخفيف الإصابة هذا باختصار وقد نفع في أزمنة مضت كما أشرنا بمجرد رجل واحد يعقد العزم فينتهي الأمر .(/1)
ولكن نحن الآن تعدينا هذا الأمر وكثرت ذنوبنا والخطأ منا ولا نلوم غيرنا فكلنا في دائرة الخطأ وليس منا من هو معصوم والعلاج موجود ولله الحمد فما علينا إلا بمراجعة علماء الأمة والذين هم أطباء هذه الجروح الكبيرة ليقوموا بمعالجتها ومداواتها فالأمر أكبر من إسعافات أولية لأن الأمر أصبح يحتاج إلى عمليات جراحية فنحن أصبحنا بذنوبنا فرقا كثيرة كل منا ينهش من الآخر فلابد أن نعرف من الصح ومن الخطأ حتى نركب سفينة النجاة كلنا لنصل إلى جنة عرضها السماوات والأرض أعدها الله لعباده المتقين .
فالحق أحق أن يقال في أحقية الرجوع إلى علمائنا في كل صغيرة وكبيرة حتى ينصلح الفاسد ويزداد الصالح صلاحا ولا ننسى أن كل ما يحصل نحن المسؤولون ولا أحد معصوم فالتغيير يكون منا جميعا كبارا وصغارا , رجالا ونساءا , شبابا وفتيات . الكل الكل عليه بإجراء تلكم العمليات ليعود الحق لأصحابه
فليست القضية في غياب المسجد الأقصى ولا تدنيس كتاب الله فقط ....
الأمر يشمل هذا كله وأكثر من حالنا مع ربنا ومع نبينا ومع ديننا ............. إلخ
قال تعالى {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ } نعم حتى نغير ما بأنفسنا وحتى نرِي الله من أنفسنا خيرا .
وعن قيس قال قال أبو بكر بعد أن حمد الله وأثنى عليه يا أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية وتضعونها على غير مواضعها ( عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ) قال عن خالد وإنا سمعنا النبي صلى الله عليه وسلم يقول إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب و قال عمرو عن هشيم وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي ثم يقدرون على أن يغيروا ثم لا يغيروا إلا يوشك أن يعمهم الله منه بعقاب . ( صحيح ) _ ابن ماجه .
فالله الله في الرجوع الكامل لله تعالى وصدق اللجوء إليه فقد سئمنا شربا من كأس الغفلة وكأس الضعف والإستصغار حتى نسينا أننا أبناء من قال الله تعالى في حقهم {رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} (37) سورة النور
* وهذه بعض الخطوات العملية والتي يجب أن نستعجل بها للنهوض بالأمة حتى نرتقي إلى أقرب الدرجات التي ترضي الله عنا إن شاء الله :
1/ التوبة النصوح : من كل ذنب وخطيئة صغيرة كانت أم كبيرة وشروطها معروفة معلومة
( الإقلاع عن الذنب والندم على مافات والعزم على عدم العودة ورد المظالم إلى أهلها ) .
2/ كتاب الله : يقال في الأشعار ( وخير جليس في الزمان كتاب ) فكيف لو كان هذا الكتاب هو القرآن ؟!
فنسأل الله أن يعيننا على حفظه والعمل به وتعلمه وتعليمه والدعوة إليه ... آمين .
3/ السنة : فالتمسك بها منجاة والترفع عنها ضلال فهي بعد كتاب الله وفهمها من أجل الأفهام
اللهم علمنا سنة حبيبك صلى الله عليه وسلم واحشرنا معه يوم القيامة وامنن علينا برؤيته في المنام .
4/ العلماء : قال تعالى { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} (28) سورة فاطر
فالله الله بالدفاع عنهم والوقوف معهم فهم في محنة عظيمة فأقل ما نخدهم به كف ألسنتنا عمّن صلح منهم ومن هم على الحق بإذن الله تعالى .
5/ المجاهدين : أهل الثغور فهم أسود الأمة فمن وافق الحق في جهاده ندعو له ونفرح بانتصاره ونحزن لحزنه فموقفهم عظيم وحالهم شديد فنسأل الله أن ينصرنا وياهم على أعداء الإسلام أجمعين .
6 / الأخوة : كما يقال ( الصاحب ساحب ) وفي المثل الصيني ( قل لي من تصاحب أقل لك من أنت )
فعلينا بأهل الصلاح فهم كثير والحمد لله ولا نتصيد الأخطاء لأن الكل له وعليه ولكن نحسن الظن .
7 / الدعاااااااااااااااااااء : سلاح فتاك لو نتعلم آدابه ثم نتسلح به فندعو للأمة الإسلامية وندعو على غيرها من أمم الكفر والضلال وعلى كل من مكر بأمتنا الحبيبة التي جرحت عسى الله أن يتقبل من أحدنا .
* أخوة الإيمان : أختم كلامي بوصية علها تلامس قلوبكم وهي أن تضعوا الأمة نصب الأعين والدنيا وزينتها خلف الظهور حينها نعلم أين نحن وبعدها نضع الآخرة نصب الأعين فتنشط القلوب وترتفع الهمم فكلنا طاقات لو استخدمناها في خدمة الإسلام سنصل بإذن الله إلى غايتنا والله ولي التوفيق وهو هادي السبيل .
أختم كلامي بهذه الخاطرة التي أهداني إياها أخي أبو عبد الرحمن بارك الله فيه وسدد
على طريق الحق خطانا وخطاه وأجزل له المثوبة والرحمة فهو نعم الأخ الناصح
وأنا بدوري أهديها لكم وأتمنى أن لا تكون حلنا كما هو في الخاطرة فإليكم الخاطرة :
ما اغباك ايها الانسان وما اشقاك
لا تهتم ولا تبالي الا بدنياك
وتظن ان الدنيا لم تخلق لسواك
ونسيت ان هناك ربا في السماء يرعاك
ويعرف ماتفعله في دنياك ويراك
ونسيت انه خلقك فسواك(/2)
وظننت ان ملاك الموت سوف ينساك
فركظت وراء زيف خادع وعشت لدنياك
فعببت من المال عبا كأن المال سيبعث واياك
واصبح اللهو والعبث في هذه الدنيا كل مرجاك
فلا ادري ماذا ستفعل عندما ملك الموت يلقاك
ولا ادري بما اصفك ايها الانسان سوى ان اقول ... ما اغباك ...ما اغباك
كتبه الفقير إلى عفو ربه
أبو الحارث محمد الدالي
ونسألكم الدعاء لي ولوالدي
ولعامة المسلمين وخاصتهم(/3)
مظاهر الغربة في زماننا اليوم
وهي كثيرة ومتنوعة، حتى إنَّها لتكاد تشمل جوانب الدين كله، ولكن يمكن إجمال أهم مظاهر الغربة في الأزمنة الحاضرة اليوم فيما يلي:
ا- غربة في العقيدة، فلا يوجد من هو متمسكٌ بعقيدة السلف من جميع جوانبها إلاَّ القليل من الناس؛ حيث تنتشر الخرافة والشر كيات والبدع في أكثر بلدان المسلمين.
2- غربة في تطبيق الشريعة والتحاكم إليها، فلا يحكم اليوم في أكثر بلدان المسلمين إلاَّ بأحكام الإفرنج الكافرة.
3- غربة في الالتزام بأحكام الإسلام، سواءً ما كان منها بين العبد وربه، أو بين العبد وبين الخلق؛ فلا يوجد الملتزم بها إلاَّ القليل.
4- غربة في السلوك والأخلاق الفاضلة، وتزامن ذلك مع انفتاح الدنيا وكثرة الشهوات.
5- غربة أهل الحق ودعاة الإسلام، وتسلط الأعداء عليهم، وإيذاؤهم لهم بأشد أنواع الأذى والنكال.
6- غربة في عقيدة الولاء والبراء؛ حيث مُيِعت هذه العقيدة عند كثيرٍ من الناس، وأصبح ولاءُ أكثرهم وحبهم وبغضهم للدنيا فحسب.
7- غربة في أهل العلم، حيث قلَّ أهل العلم الشرعي الصحيح، وانتشر الجهل وكثرت الشبهات.
مظاهر الفتنة في أزمنة الغربة:
إنَّ من أشدِّ ما يخشى على أهل الإسلام في أزمنة الغربة أربعة مظاهر من الفتن يمكن إجمالها فيما يلي:
1- الفتنة التي تنشأ من الوقوع في الشبهات ، والتأثر بأهلها الذين هم الأكثرية في عصور الغربة، مما يحصل معه السقوط في فتن الشبهات، سواءً ما يتعلق منها بالعقائد أو الأعمال أو المخالفات الشرعية الأخرى، وتسويغ ذلك بشبهةٍ شرعية تبرز عادةً في غيبة الحق وفشوا الجهل.
2- الفتنة التي تنشأ من الوقوع في الشهوات، التي تطم وتنتشر عادةً في عصور الغربة وقلة أهل الحق، وانفتاح الدنيا بزخرفها على الناس؛ فلا يكاد يثبت ويستقيم على أمر الله- عز وجل- مع كل هذه الضغوط إلاَّ القليل الذين يعتصمون بالله، ويقومون بأمره، ويدعون إلى سبيله، أما الكثرة الكاثرة الذين ضعف صبرهم، فتراهم يتنازلون عن دينهم شيئاً فشيئاً أمام مظاهر الغربة الفاتنة، سواءً كان ذلك التنازل في العقيدة أو السلوك أو التزام الأحكام.
3- فتنة اليأسِ والقنوط من ظهور الحق وانتصاره ، أمام تكالب الأعداء وتمكنهم، وتسلطهم على أهل الخير بالأذى والابتلاء، مما قد يؤدي ببعض أهل الغربة إلى اليأس وترك الدعوة، حين يرى إقبال الدنيا على المبطلين، ورؤية الناس لهم ناجحين مرموقين، تهتف لهم الدنيا وتصفق لهم الجماهير، وتتحطم في طريقهم العوائق، وتصاغ لهم الأمجاد، وتصفو لهم الحياة، وهو مهملٌ منكر لا يحس به أحد، ولا يحامي عنه أحد، ولا يشعر بقيمة الحق الذي معه إلاَّ (القليلون من أمثاله، الذين لا يملكون من أمر الحياة شيئاً، فإذا طال الأمد وأبطأ نصر الله، كانت الفتنة أشد وأقسى، وكان الابتلاءُ أشد وأعنف، ولم يثبت إلاَّ من عصم الله)([1]) .
وإنَّ فتنة اليأس والإحباط وترك الدعوة إلى الله- عز وجل- في عصور الغربة، لا تقف عند حد؛ بل قد تؤدي بصاحبها- والعياذ بالله- إلى الضعف، والنقص في دينه شيئاً فشيئاً أمام فتن الشبهات والشهوات؛ ذلك لأنَّ أيام الغربة أيامُ فتنٍ وإغراءات، وفشوِّ منكراتٍ، وظهورٍ وتمكين لأهل الباطل والفساد، فإن لم يكن للمسلم فئة صالحة- ولو كانت قليلة- يأوي إليها، ويدعو معها إلى الله- عز وجل- حسب الوسع والطاقة، فإنَّهُ لا بد وأن يتأثر بالفساد وأهله، إلاَّ من رحم الله- عز وجل- ومن غير المقبول عقلاً وشرعاً وحساً، أن يبقى المُسلمُ محافظاً على دينهِ أمام الغربة، وهو تاركٌ للدعوة بعيد عن أهلها، فإمَّا أن يؤثر أو يتأثر.
نعم! يمكن أن يترك المسلم الدعوة ويبقى محافظاً على دينه في حالة الاعتزال التام عن الناس، في شعفٍ من الجبال والأدغال، هذا متيسراً في هذا الزمان، ثم لو كان ذلك ممكناً: فمن ذا الذي يدعو إلى الله- عز وجل- ويواجهُ الفساد، وعلى أيةِ حالٍ فالعزلةُ الشرعية لها أحكامها وضوابطها، والتي سنأتي عليها إن شاء الله تعالى في مبحثِ (سبل النجاة من الفتن).
إذن: فلن ينجو من فتنةِ الغربة في أيِّ زمانٍ أو مكان إلاَّ أحدُ رجلين:
- إما مجاهدٌ في سبيل الله- عز وجل- داعٍ إلى الخير، آمرٍ بالمعروف وناهٍ عن المنكر.
- أو رجل معتزل عن الناس في مكانٍ من الأرض يعبد ربه، ولا يخالط الناس.
وما سواهما فهو على شفا هلكة، ولعلَّ هذا مما يُفهم من الحديث الذي رواهُ أبو هريرة- رضي الله عنه- أنَّ الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: ("مِن خيرِ معاش الناس لهم:رجل ممسكٌ عنان فرسه في سبيل الله يطيرُ على متنه، كلما سمع هيعةً أو فزعةً، طار عليه يبتغي القتل والموت مظانه، أو رجل في غنيمة في رأس شعفةٍ من هذه الشعف، أو بطن وادٍ من هذه الأودية؛ يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة، ويعبد ربه حتى يأتيه اليقين، ليس من الناس إلاَّ في خير) [2].(/1)
4- فتنة العجلة وقلة الصبر على الأذى في الغربة ، ممَّا يؤدي ببعض من يقاسي ضغوطها إلى التسرعِ والاصطدام مع أهل الفساد، دون مراعاةٍ للمصالح والمفاسد؛ فينشأ من جراءِ ذلك فتنةٌ أشد، وفسادٌ أكبر على أهل الغربة.
______________________
1 في ظلال القرآن 5/ 2719، 0 272 (باختصار).
[2] مسلم في الإمارة (3/ 3. د 1، 4 0 5 1) (1889).(/2)
...
مظاهر الهزيمة النفسية في مجال الفكر
يتناول الدرس السمات الظاهرة التي انعكست على المنهزمين نفسيا في مجال الفكر التربوي من حيث المضمون الذي يقدم وطريقة تقديمه ومن الذين يقدمونه، وكذلك الهزيمة النفسية في الفكر الإعلامي ومظاهر ذلك .أولاً : الفكر التربوي : من مظاهر الهزيمة النفسية في مجال الفكر التربوي :
1- محاصرة التعليم الديني ماديًا ومعنويًا ؛ فماديًا بفتح مجالات التعليم اللاديني في مواجهته ,وتشجيعه على حسابه ، ومعنويًا بأمور منها:
أ- السخرية بوسائل التعليم الديني من أستاذ وتلميذ ومنهج.
ب- التفرقة بين معلم الدين واللغة العربية وبين غيرهما من معلمي العلوم الأخرى في التعامل بكل صوره من حيث الحوافز والمميزات المالية الأخرى.
ج- اختيار أسوأ أوقات اليوم الدراسي عند الطالب للمواد الدينية والعربية ؛ فهي دائمًا تأتي في الساعات الأخيرة وهدف المهزومين من ذلك ألا يعي الطالب منها شيئًا ، وأن يكرهها ويسأم منها ومن مدرّسها.
د- حرمان معلمي الدين والعربية في الغالب الأعم من الفرص الإدارية والمناصب القيادية والوظائف الإشرافية حتى لا يتسنموا ذروة التوجيه أو يحتلوا موقع صنع القرار.
2- تقسيم التعليم إلى ديني وتعليم آخر يسمى أحيانًا مدنيًا وأحيانًا عصريًا وفي أحيان أخرى لايسمى شيئًا، وهذا التقسيم مظهر من مظاهر الهزيمة، وذلك أن التعليم في البلاد الإسلامية لا يمكن أن يكون إلا دينيًا؛ ألا ترى إلى الأمم الأخرى من أصحاب العقائد الباطلة تلحّ على أن يكون التعليم ومنهاجه والثقافة وفروعها مصطبغين بصبغتها الحضارية الخاصة بها؛ منبثقين من عقائدها الدينية وخير مثال على ذلك اليابان البوذية والهند البرهمية.
3-إهمال الجامعات والمعاهد الإسلامية العريقة.
4-التوسع في الابتعاث إلى الدول الكافرة , وليت ذلك التوسع كان من نصيب العلوم التجريبية والطبيعية التي تشكو البلاد الإسلامية من ضعف شديد فيها لكان الأمر أهون ، ولكن ذلك التوسع كان في مجالات تتصل بالبيئة والتراث والوضعيات المحلية كعلوم التربية وطرق التدريس والعلوم الإنسانية؛ فقد نشرت الجريدة الرسمية بمصر تقريرًا عن البعثات الدراسية التي ستوفدها وزارة التعليم العالي لسنة 1973م وذكر التقرير أن نصيب العلوم الطبيعية لا يتجاوز أكثر من خمس بعثات من بين أكثر من مائتي بعثه وخُصِّص الباقي للعلوم الإنسانية التي كان نصيب علوم التربية وطرق التدريس منها أكثر من مائة وعشرين بعثة.
5-انتشار المدارس الأجنبية في البلاد الإسلامية.
6-تمييع المناهج الإسلامية واختصارها باسم التطوير والاصطلاح والتعديل.
7-الاختلاط بين الجنسين ؛ حيث كان مظهرًا من مظاهر الانهزام في الحياة الاجتماعية العامة وفي محيط الأسرة , ثم انتشر ذلك الاختلاط بين الطلاب والطالبات ابتداءً بالمرحلة الابتدائية بحجة براءة كل من الفريقين، ثم ارتفع مستوى ذلك الاختلاط إلى المرحلة التي بعدها؛ الإعدادية والثانوية بحجة تعوّد كل من الفريقين على الآخر، وأخيرًا شمل الاختلاط مرحلة الجامعة؛ إذ كيف يفصل الجنسان عن بعضهما في الجامعة وقد اختلطا فيما قبلها.
8-الترويج للهجمات السوقية المحلية , ووجه كون ذلك انهزامًا أنه استجابة لرغبات أعداء الأمة الحريصين على تمزيق وحدتها عن طريق تفتيت لغتها الجامعة المانعة ؛ وإحلال لهجات عامية محلها لتتفرق الأمة بتفرق ألسنتها.
9-محاولة انتزاع الدراسات العربية من حضانة الدين والقرآن لنزع قداسة اللغة العربية , وحرمانها من حماية الدين , وكشفها أمام أعدائها , وإعانتهم على الإجهاز عليها بعد تجريدها من كل نصير أو معين , ومن أبرز من حاول ذلك الدكتور طه حسين الذي نقل عنه الدكتور محمد محمد حسين في كتابه [حصوننا مهددة من داخلها] نصً يدل على استماتته في هذا السبيل , قال: [إن اللغة العربية ليست ملكًا لرجال الدين يؤمنون وحدهم بها , ويقومون وحدهم من دونها , ويتصرفون وحدهم منها لكنها ملك للذين يتكلمونها جميعًا من الأمم والأجيال، وكل فرد من هؤلاء الناس حر في أن يتصرف في هذه اللغة تصرف المالك متى استوفى الشروط التي تبيح له هذا التصرف، وإذًا فمن السخف أن يُظنّ أن تعليم اللغة العربية وقف على الأزهر الشريف والأزهريين ].
10-اتخاذ مجامع اللغة العربية ومكاتب جامعة الدول العربية ميدانًا لنشاط هدام أشرنا إلى طرف منه في فقرات سابقة كدعوة أحدهم في المؤتمر الأول لمجامع اللغة العربية بدمشق سنة 1376هـ إلى تأليف [معاجم محلية] , ودعوة آخر إلى إعادة النظر في تبويب النحو وتدوينه من جديد.
11- ضعف مناهج التعليم من جهة العقيدة الإسلامية ؛ بل إنا نجد في مناهج دول إسلامية أن نصيب التربية الإسلامية حصة واحدة في الأسبوع ، وفي كثير من البلدان هذه الحصة اختيارية، وللطالب كامل الحرية في أن يؤدي الامتحان فيها أو لا.
12- قطع الصلة بين الدين والعلوم التجريبية في أكثر الجامعات الإسلامية.(/1)
13- الإهمال المتعمد لتدريس الناشئة تاريخ إسلامهم العظام ابتداءً بالسيرة النبوية وانتهاءً بسير المصلحين والدعاة من أبطال الإسلام ورجالاته الفاتحين وعلمائه المبرزين.
ثانيًا: الفكر الإعلامي
الإعلام مجال من أخطر مجالات الحياة , وأكثرها حساسية , وأعظمها أهمية لقدرته على تشكيل الأفكار وصناعة الأفراد حسب النوعية التي يريدها , وتستطيع أن تنظر إلى إعلام أية أمة فتحكم على واقعها ومدى عمق نظرتها للكون والإنسان والحياة أو سطحية تلك النظرة، وعلى مدى جدية الأمة أو هزليتها وتقدمها أو تخلفها، وأمتنا تعيش في وقتها الحاضر أبشع مظاهر الهزيمة النفسية في مجال الإعلام , ومن تلك المظاهر:
1- التناقض الواضح فيما يقدمه الإعلام في البلاد الإسلامي بمختلف وسائله إلى درجة تصل إلى حد العبث والاستهتار بالجمهور المتلقي , خذ مثلاً: ذلك البرنامج الذي يعرضه التلفاز، وقد يكون برنامجًا دينيًا أو صحيًا فيتحدث عن أضرار التدخين فما أن ينتهي ذلك البرنامج ؛ حتى يعقبه مسلسل أو تمثيلية تعج مشاهدها بالدخان والمدخنين، وقد يعرض التلفاز برنامج تفسير الآيات من القرآن وقد تكون الآيات تتعلق بتحريم المعازف والمزامير، فلا يكاد المفسر ينهي تفسيره حتى تصك مسامع المشاهدين وتصافح أعينهم مطربة تتلوَّى ومعها فرقة تعزف , وهكذا يتمزق المشاهد – وخاصة الشاب - من هذا التناقض؛ فلا يقيم لشيء وزنًا .
2- ضياع الهوية الحقيقية للأمة في وسائل إعلامها , وتخبط تلك الوسائل وجمعها بين الغث والسمين مع طغيان الغث في معظم الأحيان ، وهي ذلك فريقان , فريق يسير بلا عقل واعٍ لأهمية دوره في الامة ، ولا ينطلق فيما يقدمه للناس من مواد سياسية مرسومة واضحة المعالم ظاهرة الأهداف
فريق بان خبثه وفاحت رائحته التي تزكم الأنوف وظهرت أهدافه التدميرية في صورة ما يقدمه للناس من مواد هابطة وما ينفثه من سموم قاتلة ليس فيها مجال لخير، وهم ينطلقون من سياسة هدم متعمد وإفساد مقصود.
3- نقل الوسائل الإعلامية للأخبار والتحليلات السياسية وغيرها هكذا كما وردت من وكالات الأنباء العالمية والصحف الأجنبية دون تمحيص أو تدقيق أو إعادة نظر وصياغتها صياغة تتناسب مع مفاهيمنا، وتنطلق من قيمنا ومبادئنا مثل تسمية المجاهدين الأفغان أو الشيشان بـ[المتمردين] أو [الثوار] .
اسم الكتاب: المسلمون وظاهرة الهزيمة النفسية تأليف: عبد الله بن حمد الشبانة(/2)
مظاهر حماية الإسلام للمرأة من الظلم
لقد حمى الإسلام المرأة من أن يُعتدى عليها، أو يبخس حقها، ورتب على ذلك أموراً ، وجعل لها حدوداً ، مما يدل دلالة واضحة على مكانة المرأة في الإسلام ، وأن لها عناية خاصة لم تحلم بها في أي شريعة من شرائع الأرض،فمن تلك المظاهر :
* أن الإسلام حرم قذفها بما يدنس عرضها
فالله تعالى اشتد في كتابه الكريم على قاذفي النساء في أعراضهن بأشد مما اشتد على القتلة وقطاع الطريق ، فقد قال الله تعالى : ((وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)) (النور:4) .
فجعل الله سبحانه للقاذف عقوبة ثمانين جلدة ، ثم دعم هذه العقوبة بأخرى أشد وأخزى ، وهي اتهامه أبد الدهر في ذمته ، واطراح شهادته ، فلا تقبل له شهادة أبدا، ثم وسمه بعد ذلك بسمة هي شر الثلاثة جميعاً وسمة الفسق ، ووصمة الفجور .
لم يكن كل ذلك عقاب أولئك الآثمة الجناة ، فقد عاود الله أمرهم بعد ذلك بما هو أشد وأهول من تمزيق ألسنتهم فقال : (( إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)) (النور:23) [1].
* تحديد عدد الزوجات واشتراط العدل في التعدد وإلا فلا
مما يدل على أن الإسلام يحرص على ألا تخدش المرأة ، وألا تظلم ، أنه اشترط على الرجل ألا يزيد على أربع نسوة ، وقبل أن يتزوج الثانية لابد أن تكون عنده القدرة على العدل بين الزوجات وإلا فلا يحق له الزواج كما قال تعالى : ((فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً)) (النساء: من الآية3) .
وقد رتب النبي صلى الله عليه وسلم الوعيد الشديد على من مال إلى إحدى الزوجتين وظلم الأخرى فقال صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَتَانِ فَمَالَ إِلَى إِحْدَاهُمَا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَشِقُّهُ مَائِلٌ)) [2].
* النهي عن الاعتداء عليها
يقول الله تعالى : (( وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ )) (النساء: من الآية19) .
قال ابن كثير رحمه الله تعالى : ( أي : تضاروهن في العشرة لتترك ما أصدقتها أو بعضه أو حقاً من حقها عليك أو شيئاً من ذلك على وجه القهر لها والاضطهاد ، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله : ((وَلا تَعْضُلُوهُنَّ)) يقول : ولا تقهروهن (( لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ )) يعني : الرجل تكون له المرأة وهو كاره لصحبتها ولها عليه مهر فيضرها لتفتدي ، وكذا قال الضحاك وقتادة وغير واحد واختاره ابن جرير) [3]
* حفظ حقوقها المالية
فالقرآن حفظ حقها وحماها يتيمة صغيرة ، ومستضعفة ، وحفظ حقهن جميعاً في الميراث والكسب ، وفي حقهن في أنفسهن واستنقاذهن من عسف الجاهلية ، وتقاليدها الظالمة المهينة ، نجد أمثال هذه التوجيهات والتشريعات المتنوعة الكثيرة في جميع أحوالها ولنستعرض بعضاً منها :
(( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً * وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً * وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً)) (النساء:21,20,19) .
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( إن أعظم الذنوب عند الله رجلٌ تزوَّجَ امرأةً ؛ فلما قضى حاجته منها طلقها ، وذهب بمهرها )) الحديث [4]
* التحريج العام في إضاعة حق المرأة
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : ((اللَّهُمَّ إِنِّي أُحَرِّجُ حَقَّ الضَّعِيفَيْنِ : الْيَتِيمِ وَالْمَرْأَةِ )) [5].
قال العلامة السندي في حاشية على ابن ماجه : ( قوله ( إِنِّي أُحَرِّج ) بالحاء المهملة من التحريج أو الإحراج ، أي : أضيق على الناس في تضييع حقهما ، وأُشدد عليهم في ذلك ، ,والمقصود إشهاده تعالى في تبليغ ذلك الحكم إليهم ، وفي الزوائد المعنى : أُحرج عن هذا الإثم بمعنى أن يضيع حقها وأُحذر عنه تحذيرا بليغا وأزجر عنه زجرا أكيدا قاله النووي. قال : وإسناده صحيح رجاله ثقات) .(/1)
هذه بعض مظاهر حماية الإسلام للمرأة ، قصدت بذلك التمثيل لا الحصر ، حتى تعلم المرأة أن هذا الظلم الذي تحسه وتلامسه في حياتها، ليس مبعثه من الدين الذي تدين به ولكن هي أسباب أخرى أوصلتها إلى هذا المنحدر الخطير، الذي جعلها تتألم وتبحث عن المخرج بأي وسيلة كانت حتى لو قيل لها تحرري من حجابك ودينك لتنالي السعادة ربما فعلت ذلك ، وعلى المرأة أن لا تلجأ إلى ذلك ؛ لأنه ليس مبرراً لها اللجوء إليه من جراء الظلم الحاصل عليها .
منقول للفائدة
--------------------------------------------
[1] عودة الحجاب (2/96) بتصرف .
[2] رواه أحمد (2/295،347،471) والترمذي (1141) وأبو داود (2133) والنسائي (7/63) وابن ماجه (1969) عن أبي هريرة رضي الله عنه ، وصححه ابن حبان (4207) ، والحاكم (2/203) وصححه الألباني إسناده في مشكاة المصابيح (3626) .
[3] تفسير ابن كثير (1/466) .
[4] رواه الحاكم (2/182) وقال صحيح على شرط البخاري ، ووافقه الذهبي ، وحسنه الألباني في الصحيحة رقم (999) .
[5] رواه ابن ماجه (3678) و البيهقي في سننه (5/363)(/2)
مظاهر ضعف الإيمان
يتناول الدرس ظاهرة ضعف الإيمان حيث إنها مما عم وانتشر في المسلمين، وعدد من الناس يشتكي من قسوة قلبه وتترد عباراتهم:' أحس بقسوة في قلبي ' ' لا أجد لذة للعبادات ' فتعرض الدرس لأعراض ومظاهر ضعف الإيمان مع بيان أهمية القلب في هذا الباب .
إن الحمد لله نحمده نستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهديه الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمد عبده ورسوله:
}يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ[102]{ سورة آل عمران . }يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا[1]{ سورة النساء . }يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا[70]يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا[71]{ سورة الأحزاب، أما بعد،،،
فإن ظاهرة ضعف الإيمان مما عم وانتشر في المسلمين، وعدد من الناس يشتكي من قسوة قلبه وتترد عباراتهم:' أحس بقسوة في قلبي ' ' لا أجد لذة للعبادات ' ' أشعر أن إيماني في الحضيض ' ' لا أتأثر بقراءة القرآن '، ' أقع في المعصية بسهولة '، وكثيرون: آثار المرض عليهم بادية، وهذا المرض أساس كل مصيبة، وسبب كل نقص وبلية .
وموضوع القلوب موضوع حساس ومهم، وقد سمي القلب قلباً لسرعة تقلبه قال عليه الصلاة والسلام: [إِنَّمَا سُمِّيَ الْقَلْبُ مِنْ تَقَلُّبِهِ إِنَّمَا مَثَلُ الْقَلْبِ كَمَثَلِ رِيشَةٍ مُعَلَّقَةٍ فِي أَصْلِ شَجَرَةٍ يُقَلِّبُهَا الرِّيحُ ظَهْرًا لِبَطْنٍ] رواه أحمد وهو في صحيح الجامع 2364 . وفي رواية: [مَثَلُ الْقَلْبِ مَثَلُ الرِّيشَةِ تُقَلِّبُهَا الرِّيَاحُ بِفَلَاةٍ] رواه ابن ماجه . وهو شديد التقلب كما وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: [ لَقَلْبُ ابْنِ آدَمَ أَشَدُّ انْقِلَابًا مِنْ الْقِدْرِ إِذَا اجْتَمَعَتْ غَلْيًا] رواه أحمد وهو في صحيح الجامع رقم 5147.
والله سبحانه وتعالى هو مقلب القلوب ومصرفها فعن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: [إِنَّ قُلُوبَ بَنِي آدَمَ كُلَّهَا بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ كَقَلْبٍ وَاحِدٍ يُصَرِّفُهُ حَيْثُ يَشَاءُ ] ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [اللَّهُمَّ مُصَرِّفَ الْقُلُوبِ صَرِّفْ قُلُوبَنَا عَلَى طَاعَتِكَ] رواه مسلم وأحمد . وحيث }أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ[24]{ سورة الأنفال وأنه لن ينجو يوم القيامة} إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ[89]{ سورة الشعراء وأن الويل } لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ[22]{ سورة الزمر وأن الوعد بالجنة لـ } مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ[33] { سورة ق كان لابد للمؤمن أن يتحسس قلبه، ويعرف مكمن الداء، وسبب المرض، ويشرع في العلاج قبل أن يطغى عليه الران؛ فيهلك، والأمر عظيم، والشأن خطير؛ فإن الله قد حذرنا من القلب القاسي، والمقفل، والمريض، والأعمى، والأغلف، والمنكوس، والمطبوع، المختوم عليه . وفيما يلي محاولة للتعرف على مظاهر مرض ضعف الإيمان وأسبابه وعلاجه، أسأل الله أن ينفعني بهذا العمل، وإخواني المسلمين وأن يجزي بالجزاء الأوفى من ساهم في إخراجه وهو سبحانه المسؤول أن يرقق قلوبنا ويهدينا إنه نعم المولى وهو حسبنا ونعم الوكيل .
إن مرض ضعف الإيمان له أعراض، ومظاهر متعددة، فمنها:
1- الوقوع في المعاصي وارتكاب المحرمات:وكثرة الوقوع في المعصية يؤدي إلى تحولها عادة مألوفة، ثم يزول قبحها من القلب تدريجياً حتى يقع العاصي في المجاهرة بها ويدخل في حديث: [ كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلَّا الْمُجَاهِرِينَ وَإِنَّ مِنْ الْمُجَاهَرَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلًا ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ فَيَقُولَ يَا فُلَانُ عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عَنْهُ] رواه البخاري ومسلم.(/1)
2- الشعور بقسوة القلب وخشونته: حتى ليحس الإنسان أن قلبه قد انقلب حجراً صلداً لا يترشح منه شيء ولا يتأثر بشيء، والله يقول}ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً [74]{ سورة البقرة وصاحب القلب القاسي لا تؤثر فيه موعظة الموت، ولا رؤية الأموات ولا الجنائز، وربما حمل الجنازة بنفسه وواراها بالتراب، ولكن سيره بين القبور كسيره بين الأحجار.
3- عدم إتقان العبادات: ومن ذلك: شرود الذهن أثناء الصلاة وتلاوة القرآن والأدعية ونحوها، وعدم التدبر والتفكر في معاني الأذكار، فيقرؤها بطريقة رتيبة مملة، هذا إذا حافظ عليها، ولو اعتاد أن يدعو بدعاء معين في وقت معين أتت به السنة، فإنه لا يفكر في معاني هذا الدعاء والله سبحانه وتعالى: [لَا يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لَاهٍ] رواه الترمذي وهو في السلسة الصحيحة 594 .
4- التكاسل عن الطاعات والعبادات، وإضاعتها: وإذا أداها فإنما هي حركات جوفاء لا روح فيها، وقد وصف الله المنافقين بقوله: }وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى [142]{ سورة النساء . ويدخل في ذلك عدم الاكتراث لفوات مواسم الخير وأوقات العبادة وهذا يدل على عدم اهتمام الشخص بتحصيل الأجر، فهو راغب عن الأجر، مستغن عنه على النقيض ممن وصفهم الله بقوله:}إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ[90] { سورة الأنبياء .
5- ضيق الصدر وتغير المزاج وانحباس الطبع:حتى كأن على الإنسان ثقلاً كبيراً ينوء به، فيصبح سريع التضجر والتأفف من أدنى شيء، ويشعر بالضيق من تصرفات الناس حوله وتذهب سماحة نفسه، وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان بقوله: [الصَّبْرُ وَالسَّمَاحَةُ] رواه أحمد، وهو في الصحيحة رقم 554. ووصف المؤمن بأنه: [الْمُؤْمِنُ يَأْلَفُ ويُؤْلَفُ وَلَا خَيْرَ فِيمَنْ لَا يَأْلَفُ وَلَا يُؤْلَفُ]السلسلة الصحيحة رقم 427 ورواه أحمد.
6- عدم التأثر بآيات القرآن: لا بوعده ولا بوعيده، ولا بأمره ولا نهيه، ولا في وصفه للقيامة، فضعيف الإيمان يمل من سماع القرآن، ولا تطيق نفسه مواصلة قراءته، فكلما فتح المصحف؛ كاد أن يغلقه .
7- الغفلة عن الله عز وجل في ذكره ودعائه:فيثقل الذكر على الذاكر، وإذا رفع يده للدعاء سرعان ما يقبضهما ويمضي، وقد وصف الله المنافقين بقوله: } وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا[142]{ سورة النساء .
8- عدم الغضب إذا انتهكت محارم الله: لأن لهب الغيرة في القلب قد انطفأ فتعطلت الجوارح عن الإنكار فلا يأمر صاحبه بمعروف ولا ينهى عن منكر ولا يتمعر وجهه قط في الله، والرسول صلى الله عليه وسلم يصف هذا القلب المصاب بالضعف بقوله: [ تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا- أي: دخلت فيه دخولاً تاماً- نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ- أي: نقط فيه نقطة حتى يصل الأمر إلى أن يصبح كما أخبر عليه الصلاة والسلام في آخر الحديث - أَسْوَدُ مُرْبَادًّا - بياض يسير يخالطه السواد- كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا - مائلاً منكوساً- لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ]رواه مسلم وأحمد . فهذا زال من قلبه حب المعروف وكراهية المنكر واستوت عنده الأمور فما الذي يدفعه إلى الأمر والنهي؟
9- ومنها حب الظهور: وهذا له صور منها:
- الرغبة في الرئاسة والإمارة وعدم تقدير المسئولية والخطر: وهذا الذي حذر منه رسول الله صلى الله عليه وسلم، بقوله: [ إِنَّكُمْ سَتَحْرِصُونَ عَلَى الْإِمَارَةِ وَسَتَكُونُ نَدَامَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَنِعْمَ الْمُرْضِعَةُ وَبِئْسَتْ الْفَاطِمَةُ] رواه البخاري والنسائي وأحمد . وقوله: [فَنِعْمَ الْمُرْضِعَةُ] أي: أولها؛ لأن معها المال والجاه واللذات، وقولهوَبِئْسَتْ الْفَاطِمَةُ] أي: آخرها؛ لأن معه القتل والعزل والمطالبة بالتبعات يوم القيامة. ولو كان الأمر قياماً بالواجب وحملاً للمسئولية في موضع لا يوجد من هو أفضل منه مع بذل الجهد والنصح والعدل كما فعل يوسف عليه السلام إذاً لقلنا أنعم وأكرم، ولكن الأمر في كثير من الأحيان رغبة جامحة في الزعامة، وتقدم على الأفضل، وغمط أهل الحقوق حقوقهم، واستئثار بمركز الأمر والنهي .
- محبة تصدر المجالس والاستئثار بالكلام: وفرض الاستماع على الآخرين وأن يكون الأمر له، وصدور المجالس هي المحاريب التي حذرنا منها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: [اتقوا هذه المذابح - يعني المحاريب - ] رواه البيهقي وهو في صحيح الجامع 120 .(/2)
- محبة أن يقوم له الناس إذا دخل عليهم: لإشباع حب التعاظم في نفسه المريضة، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلممن سره أن يمثل- أي ينتصب ويقوم- له عباد الله قياماً فليتبوأ بيتاً من النار] رواه البخاري في الأدب المفرد، وانظر:الصحيحة 357 . ومثل هذا النوع من الناس يعتريه الغضب لو طبقت السنة، فبدئ باليمين، وإذا دخل مجلساً فلا يرضى إلا بأن يقوم أحدهم ليجلس هو رغم نهيه صلى الله عليه وسلم عن ذلك بقوله: [ لَا يُقِيمُ الرَّجُلُ الرَّجُلَ مِنْ مَجْلِسِهِ ثُمَّ يَجْلِسُ فِيهِ] رواه البخاري ومسلم والترمذي والدارمي وأحمد .
10- الشح والبخل: ولقد مدح الله الأنصار في كتابه فقال: } وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ...[9]{ سورة الحشر وبين أن المفلحين هم الذين وقوا شح أنفسهم، ولا شك أن ضعف الإيمان يولد الشح بل قال عليه الصلاة والسلام: [ لَا يَجْتَمِعُ الشُّحُّ وَالْإِيمَانُ فِي قَلْبِ عَبْدٍ أَبَدًا] رواه النسائي: المجتبي وهو في صحيح الجامع. أما خطورة الشح وآثاره على النفس فقد بينها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: [ إِيَّاكُمْ وَالشُّحَّ فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِالشُّحِّ أَمَرَهُمْ بِالْبُخْلِ فَبَخِلُوا وَأَمَرَهُمْ بِالْقَطِيعَةِ فَقَطَعُوا وَأَمَرَهُمْ بِالْفُجُورِ فَفَجَرُوا ] رواه أبو داود وأحمد وهو في صحيح الجامع . وأما البخل فإن صاحب الإيمان الضعيف لا يكاد يخرج شيئاً لله ولو دعى داعي الصدقة وظهرت فاقة إخوانه المسلمين وحلت بهم المصائب، ولا أبلغ من كلام الله في هذا الشأن قال عز وجل: } هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ[38]{ سورة محمد .
11- أن يقول الإنسان ما لا يفعل: قال الله تعالى: } يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ[2]كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ[3]{ سورة الصف . ولا شك أن هذا نوع من النفاق، ومن خالف قوله عمله صار مذموماً عند الله، مكروهاً عند الخلق، وأهل النار سيكتشفون حقيقة الذي يأمر بالمعروف في الدنيا ولا يأتيه، وينهاهم عن المنكر ويأتيه .
12- السرور والغبطة بما يصيب إخوانه المسلمين من فشل أو خسارة أو مصيبة أو زوال نعمة: فيشعر بالسرور؛ لأن النعمة قد زالت، ولأن الشيء الذي كان يتميز عليه غيره به قد زال عنه.
13- النظر إلى الأمور من جهة وقوع الإثم فيها أو عدم وقوعه فقط: وغض البصر عن فعل المكروه، فبعض الناس عندما يريد أن يعمل عملاً من الأعمال لا يسأل عن أعمال البر وإنما يسأل: هل هذا العمل حرام أم أنه مكروه فقط ؟ وهذه النفسية تؤدي إلى الوقوع في الشبهات والمكروهات، مما يؤدي إلى الوقوع في المحرمات يوماً ما، فصاحبها ليس لديه مانع من ارتكاب عمل مكروه أو مشتبه فيه ما دام أنه ليس محرماً، وهذا عين ما أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: [ وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ...]رواه البخاري ومسلم والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه والدارمي وأحمد- واللفظ لمسلم- .
14- احتقار المعروف، وعدم الاهتمام بالحسنات الصغيرة: وقد علمنا صلى الله عليه وسلم أن لا نكون كذلك، فعن أبي جري الهجيمي قال: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ فَعَلِّمْنَا شَيْئًا يَنْفَعُنَا اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِهِ قَالَ: [ لَا تَحْقِرَنَّ مِنْ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا وَلَوْ أَنْ تُفْرِغَ مِنْ دَلْوِكَ فِي إِنَاءِ الْمُسْتَسْقِي وَلَوْ أَنْ تُكَلِّمَ أَخَاكَ وَوَجْهُكَ إِلَيْهِ مُنْبَسِطٌ] رواه أحمد وهو في الصحيحة.
15- عدم الاهتمام بقضايا المسلمين ولا التفاعل معها: بدعاء ولا صدقة ولا إعانة، فيكتفي بسلامة نفسه، وهذا نتيجة ضعف الإيمان، فإن المؤمن بخلاف ذلك، قال النبي صلى الله عليه وسلم: [ إِنَّ الْمُؤْمِنَ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ بِمَنْزِلَةِ الرَّأْسِ مِنْ الْجَسَدِ يَأْلَمُ الْمُؤْمِنُ لِأَهْلِ الْإِيمَانِ كَمَا يَأْلَمُ الْجَسَدُ لِمَا فِي الرَّأْسِ] رواه أحمد وهو في الصحيحة .
16- انفصام عرى الأخوة بين المتآخيين: يقول عليه الصلاة والسلام: [ مَا تَوَادَّ اثْنَانِ فَفُرِّقَ بَيْنَهُمَا إِلَّا بِذَنْبٍ يُحْدِثُهُ أَحَدُهُمَا] رواه أحمد وهو في الصحيحة . فهذا دليل على شؤم المعصية قد يطال الروابط الأخوية ويفصمها.(/3)
17- عدم استشعار المسئولية في العمل لهذا لدين: فلا يسعى لنشره ولالخدمته على النقيض من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين لما دخلوا في الدين شعروا بالمسئولية على الفور، وهذا الطفيل بن عمرو رضي الله عنه كم كان بين إسلامه وذهابه لدعوة قومه إلى الله عز وجل ؟! لقد نفر على الفور لدعوة قومه، وبمجرد دخوله في الدين أحس أن عليه أن يرجع إلى قومه فرجع داعية إلى الله سبحانه وتعالى، والكثيرون اليوم يمكثون فترات طويلة ما بين التزامهم بالدين حتى وصولهم إلى مرحلة الدعوة إلى الله... كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يقومون بما يترتب على الدخول في الدين من معاداة الكفار والبراءة منهم ومفاصلتهم، فهذا ثمامة بن أثال رضي الله عنه - رئيس أهل اليمامة - لما أسر وجيء به فربط إلى المسجد وعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام ثم قذف الله النور في قلبه فأسلم وذهب إلى العمرة فلما وصل مكة قال لكفار قريش: [ وَاللَّهِ لَا يَأْتِيكُمْ مِنْ الْيَمَامَةِ حَبَّةُ حِنْطَةٍ حَتَّى يَأْذَنَ فِيهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ] رواه البخاري ومسلم وأحمد. فمفاصلته للكفار ومحاصرته لهم اقتصادياً وتقديم كافة الإمكانات المتاحة لخدمة الدعوة حصلت على الفور، لأن إيمانه الجازم استوجب منه هذا العمل .
18- الفزع والخوف عند نزول المصيبة أو حدوث مشكلة: فتراه يحار في أمره عندما يصاب بملمة أو بلية، وتركبه الهموم، فلا يستطيع مواجهة الواقع بجنان ثابت، وقلب قوي وهذا كله بسبب ضعف إيمانه، ولو كان إيمانه قوياً لكان ثابتاً، ولواجه أعظم الملمات وأقسى البليات بقوة وثبات .
19- كثرة الجدال والمراء المقسي للقلب: قال عليه الصلاة والسلام: [ مَا ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدًى كَانُوا عَلَيْهِ إِلَّا أُوتُوا الْجَدَلَ] رواه الترمذي وابن ماجه وأحمد وهو في صحيح الجامع . ويكفي دافعاً لترك هذه الخصلة الذميمة قوله صلى الله عليه وسلم: [ أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا] رواه أبو داود وهو في صحيح الجامع .
20- التعلق بالدنيا، والشغف بها، والاسترواح إليها: فيتعلق القلب بالدنيا إلى درجة يحس صاحبه بالألم إذا فاته شيء من حظوظها كالمال والجاه والمنصب والمسكن، ويعتبر نفسه مغبوناً سيء الحظ لأنه لم ينل ما ناله غيره، ويحس بألم وانقباض أعظم إذا رأى أخاه المسلم قد نال بعض ما فاته هو من حظوظ الدنيا، وقد يحسده، ويتمنى زوال النعمة عنه، وهذا ينافي الإيمان كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لَا يَجْتَمِعَانِ فِي قَلْبِ عَبْدٍ الْإِيمَانُ وَالْحَسَدُ] رواه النسائي، وهو في صحيح الجامع .
21- أن يأخذ كلام الإنسان وأسلوبه الطابع العقلي البحت ويفقد السمة الإيمانية:حتى لا تكاد تجد في كلام هذا الشخص أثراً لنص من القرآن، أو السنة، أو كلام السلف رحمهم الله .
22-المغالاة في الاهتمام بالنفس مأكلاً ومشرباً وملبساً ومسكناً ومركباً: حتى يغرق في التنعم والترفه المنهي عنه كما في حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه لما بعث به النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، وأوصاه، فقال: [ إِيَّاكَ وَالتَّنَعُّمَ فَإِنَّ عِبَادَ اللَّهِ لَيْسُوا بِالْمُتَنَعِّمِينَ ]رواه أبو نعيم في الحلية واللفظ له وأحمد وهو في السلسلة الصحيحة .
ملخص من كتاب : ظاهرة ضعف الإيمان
المؤلف : الشيخ محمد المنجد(/4)
مظاهر موالاة المؤمنين
أخي الحبيب :
إليك أبعث هذه الرسالة المتواضعة ، من أخ محب ، ومن قلب مشفق ، يكن لك التقدير والود والاحترام .
وهي من كلام فضيلة الشيخ صالح بن فوزان الفوزان
حيث تحدث فيها عن مظاهر موالاة المؤمنين فقال :
إن مظاهر موالاة المؤمنين قد بينها الكتاب والسنة فمنها :
1- الهجرة إلى بلاد المسلمين وهجر بلاد الكافرين - والهجرة هي الانتقال من بلاد الكفار إلى بلاد المسلمين لأجل الفرار بالدين .
والهجرة بهذا المعنى ولأجل هذا الغرض واجبة وباقية إلى طلوع الشمس من مغربها عند قيام الساعة ، وقد تبرأ النبيّ -صلى الله عليه وسلم- من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين فتحرم على المسلم الإقامة في بلاد الكفار إلاّ إذا كان لا يستطيع الهجرة منها . أو كان في إقامته مصلحة دينية كالدعوة إلى الله . قال تعالى {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً (النساء:97) إلا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (النساء:98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً (النساء:99) }.
2- مناصرة المسلمين ومعاونتهم بالنفس والمال واللسان فيما يحتاجون إليه في دينهم ودنياهم ، قال تعالى { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ(التوبة: من الآية71) } وقال تعالى { وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ (لأنفال: من الآية72)}.
3- التألم لألمهم والسرور بسرورهم قال النبيّ -صلى الله عليه وسلم- ((مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر)) وقال أيضاً -صلى الله عليه وسلم- ((المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا)) وشبك بين أصابعه -صلى الله عليه وسلم- .
4- النصح لهم ومحبة الخير لهم وعدم غشهم وخديعتهم - قال -صلى الله عليه وسلم- ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)) وقال ((المسلم أخو المسلم لا يحقره ولا يخذله ولا يسلمه ، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم ، كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه)) . وقال -صلى الله عليه وسلم- ((لا تباغضوا ولا تدابروا ولا تناجشوا ولا يبع بعضكم على بيع بعض وكونوا عباد الله إخوانا)) .
5- احترامهم وتوقيرهم وعدم تنقصهم وعيبهم قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْأِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (الحجرات:11) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (الحجرات:12) }.
6- أن يكون معهم في حال العسر واليسر والشدة والرخاء بخلاف أهل النفاق الذين يكونون مع المؤمنين في حالة اليسر والرخاء ويتخلون عنهم في حال الشدة . قال تعالى { الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (النساء:141) } .
7- زيارتهم ومحبة اللقاء بهم والاجتماع معهم وفي الحديث القدسي ((وجبت محبتي للمتزاورين في)) وفي حديث آخر ((أن رجلا زار أخا له في الله فأرصد على مدرجته ملكا فسأله أين تريد ؟ قال أزور أخا في الله قال : هل لك من نعمة تربها عليه قال : لا غير أني أحببته في الله قال : فإني رسول الله اليك بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه)) .
8- احترام حقوقهم - فلا يبيع على بيعهم ولا يسوم على سومهم ولا يخطب على خطبتهم ولا يسبق إلى ما سبقوا إليه من المباحات . قال -صلى الله عليه وسلم- ((لا يبع الرجل على بيع أخيه ولا يخطب على خطبته)) وفي رواية ((ولا يسم على سومه)) .(/1)
9- الرفق بضعفائهم كما قال النبيّ -صلى الله عليه وسلم- (( ليس منا من لم يوقر كبيرنا ويرحم صغيرنا )) وقال -صلى الله عليه وسلم- (( هل تنصرون وترزقون إلاّ بضعفائكم )) وقال تعالى { وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا (الكهف: من الآية28) }.
10- الدعاء لهم والاستغفار لهم قال تعالى { وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ (محمد: من الآية19) } { رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ (الحشر: من الآية10)} .
* تنبيه :
وأما قوله تعالى :{ لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (الممتحنة:8) } فمعناه أن من كف أذاه من الكفار فلم يقاتل المسلمين ولم يخرجهم من ديارهم فإن المسلمين يقابلون ذلك بمكافأته بالإحسان والعدل معه في التعامل الدنيوي ولا يحبونه بقلوبهم لأن الله قال : { تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ (الممتحنة: من الآية8) } ولم يقل توالونهم وتحبونهم ونظير هذا قوله تعالى في الوالدين الكافرين { وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ (لقمان: من الآية15) } وقد جاءت أم أسماء إليها تطلب صلتها وهي كافرة فاستأذنت أسماء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ذلك فقال لها : صلي أمك وقد قال الله تعالى { لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ (المجادلة: من الآية22) } .
فالصلة والمكافأة الدنيوية شيء والمودة شيء آخر ، ولأن في الصلة وحسن المعاملة ترغيباً للكافر في الإسلام فهما من وسائل الدعوة ، بخلاف المودة والموالاة فهما يدلان على إقرار الكافر على ما هو عليه والرضا عنه ، وذلك يسبب عدم دعوته إلى الإسلام .
وكذلك تحريم موالاة الكفار لا تعني تحريم التعامل معهم بالتجارة المباحة واستيراد البضائع والمصنوعات النافعة والاستفادة من خبراتهم ومخترعاتهم . فالنبي -صلى الله عليه وسلم- استأجر ابن أريقط الليثي على الطريق وهو كافر ، واستدان من بعض اليهود ، وما زال المسلمون يستوردون البضائع والمصنوعات من الكفار ، وهذا من باب الشراء منهم بالثمن وليس لهم علينا فيه فضل ومنة ، وليس هو من أسباب محبتهم وموالاتهم فإن الله أوجب محبة المؤمنين وموالاتهم وبغض الكافرين ومعاداتهم .
قال الله تعالى { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ (لأنفال: من الآية72)} إلى قوله تعالى }وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (لأنفال:73) } .
قال الحافظ ابن كثير : ومعنى قوله : { إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ } أي إن لم تجانبوا المشركين وتوالوا المؤمنين وقعت فتنة في الناس وهو التباس الأمر واختلاط المؤمنين بالكافرين فيقع بين الناس فساد منتشر عرض / انتهى .. قلت : وهذا ما حصل في هذا الزمان والله المستعان.(1) .
_________________________________________
(1) نقلا عن مجلة الدعوة عدد 1137 الصادرة في 24 / 8 / 1408هـ .(/2)
مع آيات السكينة ... ... ... ...
إن البشرية اليوم تحتاج إلى من يفتح لها نوافذ السكينة لتدلف النفوس إلى واحات الرحمة، و لتذوق طعم الراحة و الطمأنينة، لتُشرق حينئذ الحياة و تُذاق لذتها، فلا يضر المرء حينها أن يعيش في وسط هذا الزخم المذهل من جمود الحياة و تقلص سعادتها، فالعبد يحتاج إلى كل ملطف يلطف به أرجاء نفسه لتصفو، و يطرق كل باب يستطيعه ليترقى في درجات الفلاح و يعلو، و إن القرآن الكريم أعظم ما تطمئن به القلوب و ترتاح، و أنجع ما تُدفع به الهموم و الاتراح، و نقتبس من معينه في هذه الكلمات آيات السكينة، و نسلط عليها الضوء لنعرف الحق ونستبينه، قال ابن القيم - رحمه الله -: و كان شيخ الإسلام ابن تيمية إذا اشتدت عليه الأمور قرأ آيات السكينة . هـ و هذا من فقهه للكتاب و السنة على ما سنذكره من الآيات، و قد استفاد ابن القيم من هذه الفائدة العظيمة من شيخه فعمل بها حيث يقول " و قد جربت أنا أيضا قراءة هذه الآيات عند اضطراب القلب مما يرد عليه، فرأيت لها تأثيرا عظيما في سكونه و طمأنينته " ا. هـ
يا لله! ما أشد حاجتنا إلى هذا العلاج القرآني، و حالات القلق و الهموم و الإضطرابات العصبية و الأحزان..، قد عصفت بكثير من أبناء الجيل، فجعلتهم ما بين جريح و قتيل، مع أن العلاج بسيط جدا، و الوصفة يملكها كل مسلم.
و هذه الآيات التي سأذكرها هي أحد بنود هذه الوصفة، إذا قرأها موقنا بها قلبه، فإنها بإذن الله من أعظم الأسباب في سكون القلب و تلاشي اضطرابه، و هي تشمل كل ما ذكر من لفظ السكينة في القرآن، جُمعت هنا ليسهل حفظها، مع تذكير سريع بالأجواء التي نزلت فيها ليتيسر فهمها و هي كالتالي:
1- (وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلآئِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ){البقرة: 248} قال الشيخ ابن عثيمين في تفسير هذه الآية " و (التَّابُوتُ) شيء من الخشب أو من العاج يُشبه الصندوق، ينزل و يصطحبونه معهم، و فيه السكينة يعني أنه كالشيء الذي يُسكنهم و يطمئنون إليه و هذا من آيات الله " و قال " و صار معهم أي التابوت يصطحبونه في غزواتهم فيه السكينة من الله - سبحانه وتعالى-: أنهم إذا رأوا هذا التابوت سكنت قلوبهم، و انشرحت صدورهم "
2- في يوم حنين و في تلك الساعات الحرجة، التي قال الله عنها (وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ {25}) نزلت السكينة فقال - تعالى -: (ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ) {التوبة: 26}
3- و لو نظر أحد المشركين إلى ما تحت قدمه في يوم الهجرة لرأى النبي و صاحبه قال ابن سعدي: " فهما في تلك الحالة الحرجة الشديدة المشقة، حين انتشر الأعداء من كل جانب يطلبونهما ليقتلوهما فأنزل الله عليهما من نصره مالا يخطر على بال " فقال - تعالى -: (إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) {التوبة: 40}
4- وفي الحديبية تزلزلت القلوب من تحكم الكفار عليهم فنزلت في تلك اللحظات السكينة فقال - تعالى -: (هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَّعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً){الفتح: 4}، و الظاهر - و الله أعلم بأن الحديبية كانت من أشد المواقف التي أُمتحن فيها المسلمون، يدل على ذلك تنزّل السكينة فيها أكثر من مرة كان هذا الموقف أحدها.(/1)
5- و هذا الموقف الثاني الذي ذكر الله فيه تنزّل السكينة في الحديبية، عند بيعة الرضوان حيث قال - تعالى -: (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً) {الفتح: 18} قال سيد قطب: 6- وهذه الآية السادسة و الأخيرة و هي المرة الثالثة الذي ذكر الله تنزّل السكينة فيها في الحديبية فقال - تعالى -: (إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً){الفتح: 26}
يقول سيد قطب - رحمه الله - عن قوله - تعالى - (فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ) " بهذا التعبير يرسم السكينة نازلة في هينة و هدوء ووقار، تُضفي على القلوب الحارة المتحمسة المتأهبة المنفعلة بردا وسلاما و طمأنينة و ارتياحا "
فإن دل ذلك على شيء فإنما يدل على أهمية السكينة، و أن بعض المواقف تحتاج إلى تنزّل السكينة أكثر من مرة لأهميتها في تجاوز ذلك الموقف و الموفق من وفقه الله -.
فتأمل نزول السكينة في الساعات الحرجة و لحظات الإضطراب، ثم تأمل حساسية المواقف التي نزلت فيها تلك الآيات و تنوع أشكالها، لعلك تُدرك أثر السكينة في تثبيت النفس و سكون اضطرابها، و عميق ما تُخلفه من ظلال وارفة على القلب قد آتت ثمارها.
فهذه آيات السكينة في القرآن، و هذا بعض أثرها على قلبك أيها الإنسان، فلتحفظها و لتكن منك على بال، و لنقرأها على أنفسنا و أزواجنا و الأطفال، فإن الأثر عظيم، و النتيجة معلومة.
اللهم لولاك ما اهتدينا *** و لا تصدقنا و لا صلينا
فأنزلن سكينة علينا *** و ثبت الأقدام إن لاقينا
اللهم اجعلنا ممن تتنزل عليه السكينة، و تغشاه الرحمة، و تحفه الملائكة، و اجعلنا ممن تذكره عندك عندك في الملأ الأعلى.... آمين.. آمين
فرحان العطار ... ... ...
... ... ...
...(/2)
مع آيات السكينة
فرحان العطار
إن البشرية اليوم تحتاج الى من يفتح لها نوافذ السكينة لتدلف النفوس الى واحات الرحمة ، و لتذوق طعم الراحة و الطمأنينة ، لتُشرق حينئذ الحياة و تُذاق لذتها ، فلا يضر المرء حينها أن يعيش في وسط هذا الزخم المذهل من جمود الحياة و تقلص سعادتها ، فالعبد يحتاج الى كل ملطف يلطف به أرجاء نفسه لتصفو ، و يطرق كل باب يستطيعه ليترقى في درجات الفلاح و يعلو ، و إن القرآن الكريم أعظم ما تطمئن به القلوب و ترتاح ، و أنجع ما تُدفع به الهموم و الاتراح ، و نقتبس من معينه في هذه الكلمات آيات السكينة ، و نسلط عليها الضوء لنعرف الحق ونستبينه ، قال ابن القيم – رحمه الله - : و كان شيخ الإسلام إبن تيمية إذا اشتدت عليه الأمور قرأ آيات السكينة ا.هـ و هذا من فقهه للكتاب و السنة على ما سنذكره من الآيات ، و قد استفاد ابن القيم من هذه الفائدة العظيمة من شيخه فعمل بها حيث يقول " و قد جربت أنا أيضا قراءة هذه الآيات عند اضطراب القلب مما يرد عليه ، فرأيت لها تأثيرا عظيما في سكونه و طمأنينته " ا.هـ
يالله ! ما أشد حاجتنا إلى هذا العلاج القرآني ، و حالات القلق و الهموم و الإضطرابات العصبية و الأحزان ..، قد عصفت بكثير من أبناء الجيل ، فجعلتهم ما بين جريح و قتيل ، مع أن العلاج بسيط جدا ، و الوصفة يملكها كل مسلم .
و هذه الآيات التي سأذكرها هي أحد بنود هذه الوصفة ، إذا قرأها موقنا بها قلبه ، فإنها – بإذن الله – من أعظم الأسباب في سكون القلب و تلاشي اضطرابه ، و هي تشمل كل ما ذكر من لفظ السكينة في القرآن ، جُمعت هنا ليسهل حفظها ، مع تذكير سريع بالأجواء التي نزلت فيها ليتيسر فهمها و هي كالتالي :
1- ( وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلآئِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ){البقرة :248} قال الشيخ ابن عثيمين في تفسير هذه الآية " و ( التَّابُوتُ ) شيء من الخشب أو من العاج يُشبه الصندوق ، ينزل و يصطحبونه معهم ، و فيه السكينة – يعني أنه كالشيء الذي يُسكنهم و يطمئنون إليه – و هذا من آيات الله " و قال " و صار معهم – أي التابوت – يصطحبونه في غزواتهم فيه السكينة من الله سبحانه و تعالى : أنهم إذا رأوا هذا التابوت سكنت قلوبهم ، و انشرحت صدورهم "
2- في يوم حنين و في تلك الساعات الحرجة ، التي قال الله عنها ( وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ {25} ) نزلت السكينة فقال تعالى : ( ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ ) {التوبة : 26}
3- و لو نظر أحد المشركين الى ما تحت قدمه في يوم الهجرة لرأى النبي و صاحبه قال ابن سعدي : " فهما في تلك الحالة الحرجة الشديدة المشقة ، حين انتشر الأعداء من كل جانب يطلبونهما ليقتلوهما فأنزل الله عليهما من نصره مالا يخطر على بال " فقال تعالى : ( إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) {التوبة :40}
4- وفي الحديبية تزلزلت القلوب من تحكم الكفار عليهم فنزلت في تلك اللحظات السكينة فقال تعالى : ( هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَّعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً ){الفتح :4} ، و الظاهر - و الله أعلم – بأن الحديبية كانت من أشد المواقف التي أُمتحن فيها المسلمون ، يدل على ذلك تنزّل السكينة فيها أكثر من مرة كان هذا الموقف أحدها .
5- و هذا الموقف الثاني الذي ذكر الله فيه تنزّل السكينة في الحديبية ، عند بيعة الرضوان حيث قال تعالى : ( لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً ) {الفتح : 18} قال سيد قطب :(/1)
6- وهذه الآية السادسة و الأخيرة و هي المرة الثالثة الذي ذكر الله تنزّل السكينة فيها في الحديبية فقال تعالى : ( إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً ){الفتح :26}
يقول سيد قطب – رحمه الله – عن قوله تعالى ( فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ ) " بهذا التعبير يرسم السكينة نازلة في هينة و هدوء ووقار ، تُضفي على القلوب الحارة المتحمسة المتأهبة المنفعلة بردا وسلاما و طمأنينة و ارتياحا "
فإن دل ذلك على شيء فإنما يدل على أهمية السكينة ، و أن بعض المواقف تحتاج الى تنزّل السكينة أكثر من مرة لأهميتها في تجاوز ذلك الموقف – و الموفق من وفقه الله - .
فتأمل نزول السكينة في الساعات الحرجة و لحظات الإضطراب ، ثم تأمل حساسية المواقف التي نزلت فيها تلك الآيات و تنوع أشكالها ، لعلك تُدرك أثر السكينة في تثبيت النفس و سكون اضطرابها ، و عميق ما تُخلفه من ظلال وارفة على القلب قد آتت ثمارها .
فهذه آيات السكينة في القرآن ، و هذا بعض أثرها على قلبك أيها الإنسان ، فلتحفظها و لتكن منك على بال ، و لنقرأها على أنفسنا و أزواجنا و الأطفال ، فإن الأثر عظيم ، و النتيجة معلومة .
اللهم لولاك ما اهتدينا و لا تصدقنا و لا صلينا
فأنزلن سكينة علينا و ثبت الأقدام إن لاقينا
اللهم اجعلنا ممن تتنزل عليه السكينة ، و تغشاه الرحمة ، و تحفه الملائكة ، و اجعلنا ممن تذكره عندك عندك في الملأ الأعلى .... آمين ..آمين(/2)
مع أبي إدريس الخولاني
أ.د/محمد أديب الصالح
رئيس تحرير مجلة حضارة الإسلام
ـ 1 ـ
* هو عائذ الله بن عبد الله الدمشقي ولد عام حنين وتوفي سنة ثمانين للهجرة . كان رحمه الله من جلة التابعين ، أخذ عن معاذ بن جبل ، وسماعه منه ـ كما قال الثقات ـ صحيح ، وسمع من أبي الدرداء وروى عنه ، كما روى عن أبي ذر وحذيفة وعبادة بن الصامت ، وعوف بن مالك وأبي هريرة وطائفة من الصحابة ، وروى عنه الزهري ومكحول وربيعة القصير ويحيى بن يحيى الغساني ويونس بن ميسرة ، وآخرون .
* كان فقيه أهل الشام وعالمهم ، وواعظ أهل دمشق وقاصهم وقاضيهم بل قال مكحول : ما علمت أعلم من أبي إدريس وقد وثقه النسائي وغيره وهو واحد من أولئك البررة الذين جمعوا بين العلم والعمل ، وذلك ما وضع لكلامه القبول في الناس ، ولعلمه حسن التأثير في النفوس .
* وإذا كان حظ أبي إدريس من العمل بالعلم عظيماً بتوفيق الله تعالى ، فقد كان معلماً من معالم الخير في الأمة يهتدي الناس بعلمه واستقامته كما يهتدون بعلمه ودعوته إلى الله ، ولذلك عني بجلاء القلب ، وتنقيته عن كل ما يباعد عن الله لأن بصلاح القلب صلاح ما تكسبه الجوارح وبفساد القلب فساده ، قال:
(قلب نقي في ثياب دنسة خير من قلب دنس في ثياب نقية)
وليس هذا بغريب من أبي إدريس في فضله وحسن تبصره بالحقائق فإن القلب محل نظر الله عز وجل وليس الظاهر والصور..
* وفي تخويف من القضاء ورهبة من زلة الحكم قال حين عزله عبد الملك عن القصص وأقره على القضاء : عزلوني عن رغبتي وتركوني في رهبتي .
* وفي ترهيب لأولئك الذين لا يقصدون بحديثهم إلى الناس وجه الله قال رحمه الله :
(من تعلم ظرف الحديث ـ أو طرق الحديث ـ ليستفيء الناس لم يرح رائحة الجنة) .
* ويريد أبو إدريس من المسلم أن يكون صادق التوكل على الله ، موحداً وجهته إليه فيقول: (من جعل همومه هماً واحداً كفاه الله همومه ، ومن كان له في كل واد هم لم يبال الله في أيها هلك)
ورحم الله من قال : اعمل لوجه واحد يكفك الوجوه كلها .
* والمساجد !! وهي بيوت الله التي أذن الله أن يذكر فيها اسمه لها عند أبي إدريس تعريف مرتبط بخلائق روادها والملازمين لها ، ذلك قوله :
(المساجد مجالس الكرام).
* وفي توجيه إلى العمل بالقرآن وتدبره والتزام مضموناته والكشف عن الجوانب التي تناولتها الآيات الكريمة قال أجزل الله مثوبته :
(إنما القرآن آية مبشرة ، وآية فريضة ، أو قصص أو أخبار ، وآية تأمرك وآية تنهاك).
والسعيد السعيد من استوقفته آية البشارة ففرح بفضل الله واستقام على الطريقة ، وزادته الآية المنذرة إيماناً فخاف ووجل ، وكفكف نفسه ، فدانها وعمل لما بعد الموت ، والتزم الحدود عند آية الفريضة ، وملأت قلبه العبرة عند القصص والأخبار، وائتمر بأمر الله عند الآية الآمرة ، وانتهى عن المنهيات عند الآية الناهية .. وتلك صفات المؤمنين الصادقين في إيمانهم ، أولئك الذين إذا رأيت صنيعهم مع الكتاب الكريم ذكرت قول الله تعالى :
[وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا] (1).
* ورحم الله أبا إدريس الخولاني وجزاه بما نصح للمسلمين كل خير.. ولنا معه وقفة أخرى نستزيد فيها من علمه وعمله إن شاء الله .
الهوامش :
* " حضارة الإسلام " السنة 17 العدد 3 جمادى الأولى 1396 أيار 1976 .
ـ 2 ـ
وفاء بوعد مضروب لوقفة أخرى مع أبي إدريس الخولاني رحمه الله ، أجدني أمام قبضة نيرة من كلماته الربانية ومعالم سلوكه .
روى ربيعة بن يزيد أنه سمع أبا إدريس يقول :
(ما تقلد امرؤ قلادة أفضل من سكينة ، وما زاد الله عبداً قط فقهاً إلا زاده قصداً) .
وإنها لكلمات تراها ، على وجازتها ، لبنة في نبراس المؤمن ومعالم طريقه إلى الله . السكينة .. نعمت القلادة يقلدها المرء .. السكينة التي إذا نزلت في قلب المؤمن انعكست على جوارحه وسلوكه طمأنينة وحلماً ورضى بقضاء مولاه وصبراً على المكاره ، ويقيناً بما عند الله تبارك الله ، فنجده مهما كبرت الأحداث من داخل النفس أو من خارجها تتزلزل الجبال الرواسي ولا يتزلزل ، ولقد جعلها المولى جل شأنه طريقاً إلى زيادة الإيمان ، فحين أنزلها في قلوب المؤمنين كشف أن ذلك كان من فضله عليهم ليكون لهم مزيد من الطمأنينة واليقين ، ففي طوالع سورة الفتح:
[هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم ولله جنود السموات والأرض وكان الله عليماً حكيماً] (2).
وإذن فيا نعمت القلادة أن تعطي المؤمن السكينة فيكون له من الخير ما يكون .
والفقه في دين الله .. من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين (3) ، والازدياد من ذلك طريق القصد ، طريق الجادة والاعتدال فلا إفراط ولا تفريط لأن من أعطي الفقه في دين الله ، على عموم دلالة كلمة الفقه ، فقد أسلمته العناية إلى الطريق التي تصله بميراث النبوة .(/1)
وهكذا إذا اجتمع للمؤمن سكينة القلب والفقه في دين الله ، عقيدة وعبادة وعملاً وتصوراً وسلوكاً ، كان ذلك عنوان فضل الله عليه ، وإيذاناً بأنه من المقربين لديه ، وأكرم بها منزلة يمن الله بها على من يشاء من عباده .
لذا كان لزاماً أن نقدر كلمة أبي إدريس حق قدرها في قوله:
" ما تقلد امرؤ قلادة أفضل من سكينة ، وما زاد الله عبداً قط فقهاً إلا زاده الله قصداً " .
وما لي لا أذكر موقف أبي إدريس أجزل الله مثوبته من الحفاظ على السنة ومحاربة البدعة والابتداع !!! حدث معاوية بن صالح عن أبي الأخنس عن أبي إدريس الخولاني أنه قال :
(لأن أرى في جانب المسجد ناراً لا أستطيع إطفاءها أحب إلي من أن أرى فيه بدعة لا أستطيع تغييرها).
إنها البدعة وإنها مسؤولية تغييرها .. البدعة في ذهنه واضحة ما هي .. ولزوم تنقية المساجد عنها لزوم قائم في تصوره رحمه الله .. أما المسؤولية وثقل الأمانة في أعناق العلماء فقد كشف عن ذلك بقوله : (أحب إلي من أن أرى فيه بدعة لا أستطيع تغييرها.)
رحم الله أبا إدريس فقد ضرب المثل الطيب للعالم العامل في حرصه على السنة والتزام النهج المحمدي ، ومحاربة البدعة وأن ذلك وظيفة العالم أولاً ، وقبل كل شيء ، والمفروض في ظل الحكم الإسلامي أن يكون الأمراء من وراء العلماء الذين يقفون حماة للدين وسنة سيد المرسلين وحرباً على البدع وأهلها ، لأن كل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول :
" من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد "
المهم ـ كما أسلفت ـ أن الذي كان يؤرق أبا إدريس الحفاظ على بيوت الله أن تنتهك حرمتها بالبدعة ، وأن البدعة في نظره وهي نار معنوية ، أشد خطراً وأوغل في الأذية من تلك النار المادية التي يمكن أن تحرق سارية أو جانباً من جوانب المسجد أو جميعه .
إن الخطر، كل الخطر، يكمن ، كما يرى أبو إدريس ، في تلك النار التي تكون عنوان مخالفة الهدي النبوي والإعراض عن سنة رسول الله واستبدالها ببدعة ليس منها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا من أهلها في شيء .
وجزى الله أبا إدريس خير جزائه عن السنة وحماتها وعن حربه البدعة وأهلها ، والله المسؤول أن يفتح البصائر لكلمات هذا الرجل الرباني وأن يوفق علماء الأمة الحقيقيين أن يدوروا مع الحق حيث دار، فليست البدعة في المسجد أمراً يتعلق بالعبادة فقط ، ولكنها اليوم أهوال وأهوال أقل ما يحمله بعضها مصادفة قول الله تبارك وتعالى:
[وإن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً] .
والحمد لله رب العالمين .
الهوامش :
(1) سورة الإسراء : 82 .
(2) سورة الفتح 4 .
(3) أخرج الترمذي بسنده عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال : قال الرسول صلى الله عليه وسلم : " من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين " قال : حديث حسن صحيح رقم 2647 في العلم. وفي رواية للبخاري ومسلم عن معاوية رضي الله عنه زيادة " وإنما أنا قاسم ويعطي الله ، ولن يزال أمر هذه الأمة مستقيماً حتى تقوم الساعة وحتى يأتي أمر الله ".(/2)
مع أبي سليمان الداراني رحمه الله
ـ 1 ـ
أ.د/محمد أديب الصالح
رئيس تحرير مجلة حضارة الإسلام
هو عبد الرحمن بن أحمد بن عطية يقال : أصله من واسط ، وداراني نسبة إلى داريا في غوطة دمشق ـ وهي نسبة على غير القياس ـ وقد عاش فيها وكانت وفاته فيها أيضاً وذلك سنة 235 هـ وقبره معروف هناك . روى عن الربيع بن صبيح من أهل العراق، وروى عنه صاحبه أحمد بن أبي الحواري والقاسم الجوعي وغيرهما .
كان رحمه الله يجمع ـ إلى العلم والمعرفة ـ زهادة في الدنيا ، ودأباً على العبادة ، ونفاذاً في كل ما يؤدي إلى حسن العاقبة ، وفهماً في دين الله أعانه عليه صفاء القلب وصدق الوجهة والتزام ما كان عليه السابقون الأولون ممن نهلوا من نور النبوة .. وأخذوا أنفسهم بالصالح من القول والعمل حتى كانت راحتهم بالكلال في سبيل الله .. ولذتهم في الرضا بما عند الله .
وسليمان ولده كان من العباد الزهاد أيضاً مات رحمه الله بعد أبيه بسنتين وشهر في سنة 237 هـ قال أحد أصحاب أبي سليمان : اجتمعت أنا وأبو سليمان الداراني ومضينا في المسجد فتذاكرنا الشهوات : وأن من أصابها عوقب ، ومن تركها أثيب ، قال : وسليمان بن أبي سليمان ساكت ، ثم قال لنا ، لقد أكثرتم منذ العشية ذكر الشهوات ، أما أنا : فأزعم أن من لم يكن في قلبه من الآخرة ما يشغله عن الشهوات لم يغن عنه تركها .
الحق أن الرجل تجاوز بنا ظواهر الأمور إلى بواعثها وتلك هي النظرة الفاحصة الدقيقة . الأمر أولاً ـ أن يكون في القلب من الآخرة ما يشغله عن الشهوات ؛ ذلك أن لذة الأنس بأمور الآخرة عند أولئك الربانيين تتقاصر أمامها كل شهوة من شهوات الدنيا ... فأين الشهوة الفانية التي كثيراً ما تعقب المقت والضيق من تلك الحلاوة التي يتذوقها قلب المؤمن .. والمهم أن أولئك البررة من عباد الرحمن يكونون بإيمانهم بالغيب على مثل الجبال الرواسي فكل ما أخبر الله ورسوله عنه من النعيم المقيم في الآخرة .. وما يدخره الله لعباده ـ إن هم استقاموا على الطريقة ـ هو عندهم وكأنه من عالم الشهود مائل للعيان .
وندع سليمان أجزل الله مثوبته لنعيش ـ ولو لحظات ـ مع أبي سليمان الذي لا تكفي للحديث عنه صفحة أو صفحات .. ها هم أهل الطاعة يفوزون ـ في نظر صالح بن عبد الجليل كما يروي أبو سليمان ـ بلذة العيش في الدنيا بما ينعمون به من الرضا والطمأنينة .. ولذة العيش في الآخرة حيث يجدون ما وعدهم ربهم حقاً . قال أحمد بن أبي الحواري : سمعت أبا سليمان الداراني يقول : سمعت صالح بن عبد الجليل يقول : ذهب المطيعون لله بلذيذ العيش في الدنيا والآخرة يقول الله تعالى لهم يوم القيامة : رضيتم بي بدلاً من خلقي ، وآثرتموني على شهواتكم في الدنيا ، فعندي اليوم فباشروها ، فلكم اليوم عندي تحياتي وكرامتي ، فبي فافرحوا ، وبقربي فتنعموا ، فوعزتي وجلالي ما خلقت الجنات إلا من أجلكم .
وانظر إلى أبي سليمان يرسم لطلاب الآخرة طريق السلوك فيقول ـ كما روى عنه أحمد بن أبي الحواري ـ :
(من أحسن في نهاره كفي في ليله ، ومن أحسن في ليله كفي في نهاره ، ومن صدق في ترك شهوة كفي مؤنتها ، وكان الله أكرم من أن يعذب قلباً بشهوة تركت له).
وما هذا اليقين الذي استراح له أبو سليمان وكان من نعم الله العظمى عليه ... حتى بات لا يزحزحه عن الحق شيء .. ولا يعرف الشك إلى قلبه سبيلاً !! إنه ثمرة من ثمار متابعة الطريق التي سلكها أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام . قال رحمه الله :
(لو شك الناس كلهم في الحق ما شككت فيه وحدي) قال ابن أبي حوراي : كان قلبه في هذا مثل قلب أبي بكر الصديق يوم الردة .
وفي قاعدة نورانية يحدد بها أبو سليمان حقيقة القناعة والورع يقول :
(القناعة أول الرضا والورع أول الزهد) .
وفي خاتمة المطاف : أرجو أن يكون لنا مع أبي سليمان لحظات أخرى نعيشها مع توجيهاته وضياء سلوكه ؛ ولله الحمد رب العالمين .
ـ 2 ـ
عجباً لأمر هؤلاء البررة الذين وقفوا على الأصيل من المورد يستقون من عذبه الفرات ... وعلى هدي النبي يستضيئون بنوره في شعاب الحياة ... ذلكم هو ميراث النبوة الذي من عشا إلى ضوئه فاز بسعادة الدارين ... وتفجرت الحكمة من قلبه على لسانه ... ومن أعرض عنه قسا قلبه ... واستبدت به مخازي الشيطان ...
وأبو سليمان الداراني ـ زاده الله من عفوه وإحسانه في الآخرين ـ واحد من أولئك الصفوة الذين ألهموا الحكمة بما رشفوا من رحيق ذلك الميراث النوراني فطلعوا علينا بما يصلنا دائماً بأدب النبوة ... وثمرات الرسالة في قلب المؤمن ، حيث ينعكس ذلك نوراً وضياءً على أقواله وأفعاله وكدحه إلى ربه في هذه المرحلة التي لابد منتهية إلى لقاء الله عز وجل .
هذا أبو سليمان تصفو نفسه .. وتصفو.. حتى تملك عليه مراقبة مولاه كل مجامع تلك النفس ... لقد سأله رجل عن أقرب ما يتقرب به العبد إلى الله عز وجل .. فبكى وقال :(/1)
(مثلك يسأل عن هذا ؟ أفضل ما يتقرب به العبد إلى الله أن يطلع على قلبك وأنت لا تريد من الدنيا والآخرة غيره)
وأبو سليمان لا يتجافى بهذا مع فضيلة سؤال الله الجنة والاستعاذة من النار، إذ أن المؤمن مبتغاه مرضاة الله .. والجنة مظهر الرضا .. كما أن النار ـ والعياذ برضاه سبحانه ـ مظهر الغضب .. وفيما ذهب إليه أبو سليمان في جواب هذا السائل ، دعوة إلى تصفية النفس من الرياء وحب الظهور... فكثيراً ما يؤتى العابد التقي من هذا الباب ... حين يرى أنه على شيء أو يقع في شرك الرياء والرغبة في أن يراه العباد على ما هو عليه من الطاعة والتقوى ... أما إذا كان لا يريد من الدنيا والآخرة غير الله ... فذلكم هو صدق الدعوى .. وعنوان سلامة العمل ، وطريق القبول إن شاء الله وموطن ذلك كله هو القلب ... فلابد من العناية به ... والعمل على جلائه ليصفو من المكدرات ... ويكون محط عطاء الله وتجلياته ... وهل ذلك من أبي سليمان رحمه الله .. إلا بعض مما يوحي به النبي صلوات الله وسلامه عليه : " ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب "...
ومن هنا خرج علينا أبو سليمان بتعريف للزهد تعريفاً يربطه بالمعاني القلبية لما أنه لابد أن يكون نابعاً من القلب فهو سمة من أعمال القلوب .. قال رضي الله عنه :
(اختلفوا علينا في الزهد بالعراق فمنهم من قال : الزهد ترك لقاء الناس ، ومنهم من قال : في ترك الشهوات ، ومنهم من قال : في ترك الشبع . وكلامهم قريب بعضه من بعض) ... ثم قال رحمه الله : (وأنا أذهب إلى أن الزهد في ترك ما يشغلك عن الله) .
وماذا عن الدنيا وأحابيلها في نظر أبي سليمان ؟ إنه يحذر بلغة الواثق المطمئن حين يقول :
(الدنيا تطلب الهارب منها ، فإن أدركته جرحته ، وإن أدركها الطالب لها قتلته)
والدنيا كما هي على حقيقتها في فهم هؤلاء الرجال تتجاوز في مدلولها أن تكون مالاً وولداً فحسب .. بل هي أوسع من ذلك فكم لها من سلطان وصولجان في ميادين الحياة ، والشهرة ، وحب السيطرة والظهور وأن يقال عن المرء كذا ... ويذكر بكذا .. إلخ . من أجل ذلك وفي ضوء هذا الشمول نقل عنه أحمد بن أبي الحواري قوله :
(واحزناه على الحزن في دار الدنيا)
وواضح أن ما يحزن منه أبو سليمان هو الحزن على أمر من أمور الدنيا أما الحزن المتعلق بالآخرة فذلك محمدة للمؤمن ولا ريب أنه من خلال المتقين .. وقد نقلت إلينا كتب الشمائل أن ذلك كان من صفات النبي صلوات الله وسلامه عليه إذ كان حزنه في قلبه وبشره في وجهه .
وفي توجيه لأولئك السالكين الذين يسيرون على درب تزكية النفس والتزهد في الدنيا .. ولكن تنتابهم تلك اللحظات من الضعف فيقعون في شرك الغفلة .. ويأتيهم الشيطان من طريق الشهوة وحب الدنيا قال أجزل الله مثوبته :
(يلبس أحدهم عباءة قيمتها ثلاثة دراهم ونصف ، وشهوته في قلبه خمسة دراهم !! أو ما يستحي أن تجاوز شهوته لباسه؟ ... قال أبو سليمان : وإذا لم يبق في قلبه من الشهوات شيء ، جاز له أن يتدرع عباءة ويلزم الطريق ، لأن العباءة علم من أعلام الزهد ، ولو أنه ستر زهده بثوبين أبيضين بخلطة الناس كان أسلم له).
إن أبا سليمان يريد ما هو أكمل وأكثر اتساقاً مع النهج الإسلامي القويم !! إنه يدعو هذا المتزهد الذي غلبت شهوته في قلبه ، مظهره على جسمه إلى أن يستر زهده بثوبين أبيضين بخلطة الناس .. فذلك أسلم له ... لما أن ذلك دليل الصدق أولاً ... وآية أن المسلم الحق هو الذي يملك القدرة على الخلطة ـ في حدود الشريعة ـ مع اليقظة ، والبعد عن الانزلاق فيما لا تحمد عقباه ..
ولكم يخاف أبو سليمان على هذا القلب ... يخاف عليه أن يلتقمه حب الدنيا ... فيكون ذلك إضراراً بآخرة صاحبه ... إنه لا ضير أن تكون الدنيا بيد المؤمن يستعين بها على مرضاة الله ويسخرها لخدمة نفسه وأهله وأمته ولكن الرزية أن تكون الدنيا في القلب هوى وحباً ولهفة وتلك هي الطامة الكبرى ... لأن القلب إما أن يكون للدنيا وإما أن يكون للآخرة . قال أحمد بن أبي الحواري : سمعت أبا سليمان يقول:
(إذا جاءت الدنيا إلى القلب ترلحت الآخرة عنه ، وإذا كانت الدنيا في القلب لم تجيء الآخرة تزحمها ، لأن الدنيا لئيمة والآخرة عزيزة).
رحمك الله يا أبا سليمان ... وسقى ثراك بوابل رضوانه ... بما قدمت لهذه الأمة من طيب الكلمة وكريم السلوك . وصدق الله جل ثناؤه إذ يقول :
[والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين] .(1)
الهوامش :
• " حضارة الإسلام " السنة 18 العدد 8 شوال 1395 تشرين الثاني 1975 .
الهوامش :
*حضارة الإسلام –س18-ع8- شوال 1395 –تشرين الثاني 1975.
(1) سورة العنكبوت : 69(/2)
مع أبي يعقوب النهر جوري
أ.د/محمد أديب الصالح
رئيس تحرير مجلة حضارة الإسلام
هو أبو يعقوب إسحاق بن محمد من رجال القرن الرابع للهجرة ، أقام بالحرم سنين كثيرة ، ومات مجاوراً فيه ، كان من علماء هذه الأمة وصلحائها ، صحب الجنيد وعمرو بن عثمان المكي وأبا يعقوب السنوسي وغيرهم من المشايخ الذين ازدان سلوكهم بالعلم والعمل ، توفي رحمه الله بمكة مجاوراً سنة ثلاثين وثلاثمائة .
لا يقع الباحث في ترجمة أبي يعقوب على كثير من الكلام المنقول عنه ، ولكن القليل الذي نقل وتداوله أهل المعرفة والتقوى فيه ما فيه من الخير، وينبئ بكثير من الوضوح والإشراق عن قلب نقي ونفس مشرقة بالإيمان واليقين .
الصدق
استمع إليه يعرف الصدق الذي يرقى بصاحبه إذا تحراه واتصف به ، إلى مقام الصديقين عند الله عز وجل حيث يقول الرسول صلى الله عليه وسلم :
" ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً " (1)
قال رحمه الله في شأن هذه الخلة الكريمة العالية :
(الصدق موافقة الحق في السر والعلانية ، وحقيقة الصدق : القول بالحق في مواطن التهلكة).
لم يزل فقيراً .. محروماً
ويسوق الحديث إلى أولئك الذين غرهم بالله الغرور، فاطمأنوا إلى الدنيا ، وجانبتهم حقيقة التوحيد فقصدوا بحاجتهم الخلق واستعانوا على أمرهم بغير الله .. يسوق الحديث إلى أولئك وأشباههم فيقول :
(من كان شبعه بالطعام لم يزل جائعاً ، ومن كان غناه بالمال، لم يزل فقيراً ، ومن قصد بحاجته الخلق لم يزل محروماً ، ومن استعان على أمره بغير الله، لم يزل مخذولاً).
أرأيت كيف أشار إلى اغترار أهل الدنيا بالشبع والغنى ، وإن فقر النفس هو الفقر الحقيقي ، وإن غنى النفس هو الغنى الحقيقي .. والمؤمن الحق هو الذي لا تشغله النعمة عن المنعم ، ولا العطاء عن المعطي ، والمطلوب منه أن يكون دائماً من أهل الآخرة أولئك الذين يتجاوزون بنظراتهم وسلوكهم هذه الفانية وما فيها من الزخرف والمتاع إلى الباقية التي قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم في شأنها :
وللآخرة خير لك من الأولى...
[قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلاً] (2).
أما التوحيد الخالص الذي لا تشوبه شائبة : فمن ثمراته أن لا يقصد بحاجته إلا الله ، وأن لا يستعين على أمره بغير الله . أوليس ذلك من هدي النبوة في هذا الباب الواسع من أبواب العقيدة؟
" إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله "
قد يقصد الخلق بحاجته ويطعمونه ما أراد ولكنه في نظر أبي يعقوب لم يزل محروماً ، لأن الحرمان قد بدأ منذ توجه إلى المخلوق الضعيف بحاجته .. وقد يستعين على أمره بغير الله فيجد بعض المعونة من الخلق ، ولكنه في نظر أبي يعقوب : لم يزل مخذولاً ، لما أن الخذلان قد بدأ منذ توجه إلى المخلوق مستعيناً به على أمره .. وحقيقة التوحيد روح وريحان يجد المؤمن عبيره في قول الهادي المهدي صلوات الله وسلامه عليه :
" إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله ".
وفي قول أبي يعقوب عن الأول (لم يزل محروماً) وعن الثاني (لم يزل مخذولاً) وقام بالمقصود أي وفاء ، فهو على الحقيقة محروم وما يزال مهما دلت الظواهر على غير ذلك ، والآخر في الحقيقة مخذول مهما دلت الظواهر على غير ذلك ، حتى يعود الأول إلى أن يقصد بحاجته رب الأرباب الذي لا تنفد خزائنه ، ويستأنف الآخر طريقه فيستعين على أمره بالعزيز القاهر فوق عباده الذي لا يسأل عما يفعل وهم يسألون .
ألا ليت لأولئك الذين يستخفهم شياطين الأنس والجن فيخلعون عذار الحياء ، وينحرفون عن الجادة طلباً لما في أيدي الظلمة أعداء الله والحق .. ليت لهم سمعاً فيسمعوا هذا الذي يقوله واحد وجه وجهه للذي فطر السماوات والأرض ... وليت لهم قلوباً تفقه أن هذا الذي هم فيه ، خبال ووهم ، وأن الحطام الذي يبعث بعقولهم عبث الوليد بملهاته ، لا يغنيهم من الله شيئاً ، وأن حلاوة اليوم ستنقلب علقماً وزقوماً يوم القيامة .
الدنيا .. الآخرة .. الناس
وهذه صورة واضحة الملامح ، معبرة عن المقصود أيما تعبير، تلك هي صورة الدنيا والآخرة والناس . قال أجزل الله مثوبته :
(الدنيا بحر، والآخرة ساحل ، والمركب التقوى ، والناس سفر).
والتقوى هي مركب الإنسان إلى الآخرة بنعيمها وعطاء الله فيها ، وما يجزل من الإحسان لعباده الصالحين ، وما يعفو عن السيئات لمن يعترفون بذنوبهم ، ويتوبون توبة نصوحاً إليه .. إن هؤلاء المسافرين إذا أرادوا الوصول إلى ساحل الأمن والطمأنينة ، فما عليهم إلا أن يمتطوا هذا المركب الذي ارتضاه الله لعباده خير مركب وخير زاد .. والكيّس الكيّس من فعل ذلك فكان من أولئك الذين هم أحق بالتقوى وأهلها وحظي بفضل الله الذي هو أهل التقوى وأهل المغفرة .
والجاهل الجاهل من جنح عن الطريق السوي ، وسلك سبيل غير المتقين .(/1)
ألهمنا الله الرشد وأكرمنا بطاعته وتقواه ، وجزى الله أبا يعقوب خير الجزاء عن المسلمين فيما نصح لهم وأذكرهم بمواعظه الربانية هدي نبيهم محمد عليه الصلاة والسلام وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
الهوامش :
* حضارة الإسلام السنة 18 العدد 5 رجب 1397 تموز 1977 .
(1) جزء من حديث رواه البخاري ومسلم وغيرهما وهو عند البخاري في الأدب (10/507) وعند مسلم رقم 2606 ، 2607 في البر.
(2) سورة النساء 77 .(/2)
مع الأستاذ رجاء جارودي في الحوار والأفكار
(1)
بقلم : عدنان سعد الدين
تمهيد
عندما ظهر كتاب جارودي بعنوان : الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية ، كان بمثابة انفجار دوى في أرجاء أوروبا ومن ثم في العالم أجمع ، وكان كوقع الصاعقة على المجتمع الإسرائيلي ، فزلزل كيان الدولة العبرية من القواعد ، وفضح زيفها ، ودلل بما لا يقبل الشك أن الحجج التي اعتمدتها إسرائيل لقيام دولتها في فلسطين على أنقاض شعب شردته من وطنه إنما هي مزاعم كاذبة ، وافتراءات لا سند لها من الدين أو التاريخ أو الحقيقة .
الأمر الذي جعل هذا الكيان المصطنع أكذوبة كبرى في نظر شرائح واسعة من المثقفين والسياسيين ، ومن هم خارج النفوذ الصهيوني في أوروبا وفي ساحة واسعة من دول العالم ، فقامت قيامة الصهاينة في فلسطين المحتلة ، وشنوا حملة شرسة على الأستاذ جارودي زادت من الكشف عن طبيعتهم التلمودية وسياستهم الحاقدة على كل من يقول كلمة صدق ، أو يشهد شهادة حق ، تفضح عدوانهم وما أوقعوه من ظلم وجور وتنكيل على الشعب العربي في فلسطين .
استنفرت إسرائيل ومن ورائها الحركة الصهيونية العالمية بكل نفوذها ووسائلها القضاء والإعلام ودور النشر ورجال الفكر الذين يدورون في فلك النفوذ الصهيوني ، أو يقعون تحت تأثيره ضد الرجل ، حتى حرم من حق الدفاع عن نفسه أو الرد على ما يوجه بحقه من إفك ، في أي وسيلة إعلامية في موطنه ومكان إقامته في باريس ، وفي أي مكان من القارة الأوروبية . ولكن الأستاذ جارودي لم يعدم في الوطن العربي من يقف إلى جانبه ويتضامن معه ، ويكبر شجاعته وصلابته في صراعه مع الأخطبوط الصهيوني ، بل إن لفيفاً من الكتاب شرعوا أقلامهم في الساحة العربية يناصرون جارودي في مواقفه الشريفة والمنصفة ، ويدعون العرب وأحرار العالم للوقوف معه في محنته ، وكان من أبرز ما نشر في هذا الصدد بحث كتبه السيد محمد بركات ونشرته الوطن العربي في عددها 1090 يوم الجمعة في 23 ـ 1 ـ 1998 ، وجاء فيه :
روجيه جارودي مفكر فرنسي مسلم في الخامسة والثمانين من عمره ، وهو واحد من علماء وفلاسفة القرن العشرين ومثقفيه الكبار، وله (55) كتاباً في الفكر والفلسفة والتاريخ والأديان ، نذر عمره للتقريب بين الأديان ، وللحوار بين الحضارات . نشأ ملحداً ، ثم تحول إلى المسيحية ، فالماركسية ، لكنه كان مهتماً بالثقافة الإسلامية والحضارة العربية ، فقادته الثقافة الموسوعية إلى الإسلام عام 1983 ، ترجمت كتب جارودي إلى أكثر من ثلاثين لغة عالمية ، ووضعت عنه (22) رسالة ماجستير ودكتوراه ، لهذا يعتبر جارودي أكبر مثقف في عالم اليوم ، ومع هذا فإن روجيه جارودي الذي أصبح اسمه بعد ان أسلم رجاء جارودي يحاكم أمام القضاء الفرنسي لأنه ألف كتاباً بعنوان الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية .
بعد صدور هذا الكتاب ، قامت الدنيا ولم تقعد ، فابتداءً رفضت كل دور النشر طبع الكتاب ، ثم حاصرت المنظمات الصهيونية صاحب مكتبة في سويسرا وزع الكتاب بعد أن طبعه المؤلف على نفقته ، وأقاموا عليه دعوى فحكمت عليه المحكمة بالسجن أربعة أشهر وبغرامة مالية ، أما جارودي فقد لوحق في كل مكان ، ووصلته تسعة تهديدات بالقتل ، قام اللوبي اليهودي بممارسة أبشع وسائل الإرهاب الفكري ضد الرجل الذي قدم كتاباً علمياً في التاريخ ، يقول جارودي : لقد رفضت جميع الصحف التي تشن حملة تشهير واسعة النطاق ضدي مجرد نشر أي رد لي ، مع أن هذا حقي القانوني . وقد هوجم موزع كتبي من العصابات الصهيونية الفرنسية ، وتم تشويه وجهه ، وأحرقت واجهات المكتبات التي تعرض مؤلفاتي ، فضلاً عن منع ظهوري في التلفزيون أو الإذاعة ، ثم ملاحقتي المستمرة في كل مكان .
يقول جارودي : فهذه الحالة من الاضطهاد الفكري والإرهاب الصهيوني ليست حالتي فقط ، ففي السبعينات تم فصل البروفسور روبير فوريسون من جامعة ليدن ، لأنه قدم بحثاً علمياً يقول فيه : إن عملية حرق اليهود في غرف الغاز في ألمانيا أكذوبة ، وفي الثمانينات عندما حصل الباحث هنري روكيه على درجة الدكتوراه من جامعة نانت في موضوع غرف الغاز ، وشكك فيها سحبت منه درجة الدكتوراه لأول مرة في تاريخ فرنسا ، وفصل الأستاذ الذي أشرف عليه بقرار من وزير التعليم ، كما سبق لي أن قدمت للمحاكمة ثلاث مرات في أوائل الثمانينات بسبب مقال في جريدة لوموند يدين الغزو الإسرائيلي للبنان .
يستطرد الكاتب محمد بركات في سرد الأساطير التسع التي يحاكم جارودي عليها ، وفي الحديث عن قانون جيسو الذي وصفه المفكرون بالفضيحة ، والذي يقضي بمعاقبة كل من ينكر وجود غرف الغاز التي كان النازيون يقتلون فيها المعتقلين من اليهود والغجر بالسجن سنة وبغرامة ستين ألف دولار. والغريب أن هذا القانون هو الوحيد في فرنسا الذي يعاقب الإنسان على رأي يبديه .(/1)
لقد وصفت محاكمة جارودي بأنها تعود بالفكر البشري إلى مرحلة متخلفة من مراحل عصر الانحطاط الإنساني ، وهي مرحلة محاكم التفتيش التي استمرت في فرنسا من عام 1233 وحتى بدايات القرن التاسع عشر، وكذا محاكم التفتيش التي استمرت في إسبانيا على يد فرديناند الخامس وزوجته إيزابيلا عام 1478 واستمرت حتى 1820 .
واشتهرت هذه المحاكم بأنها تبحث عن سرائر الناس وفي قلوبهم من أجل التأكد من إيمانهم ، وفي جميع الأحوال فقد اعتبرت محاكم التفتيش سُبّة في جبين الفكر الإنساني ، وأصبحت تتخذ رمزاً من رموز الإرهاب الفكري في تاريخ البشر.
أشار الأستاذ الكبير جارودي في الصفحة الخامسة من كتابه (المأزق ، إسرائيل : الصهيونية السياسية ) ترجمة ذوقان قرقوط ، أن المرء في فرنسا يستطيع انتقاد العقيدة الكاثوليكية أو الماركسية ، ومهاجمة الإلحاد أو القومية ، وإدانة أنظمة الحكم في الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة أو جنوبي إفريقيا دون أن يتعرض لأي مخاطر، لكننا إذا تصدينا لتحليل الصهيونية ، فإننا ننتقل من دنيا الأدب إلى عالم القضاء بمقتضى القانون الصادر في 13 تموز يوليو 1990 ، وهو قانون يرمي إلى اعتبار النقد الموجه لدولة الكيان الصهيوني وللصهيونية السياسية التي تبنى عليها وتبرزها ، يجعل صاحبه معرضاً للإحالة لمحكمة الجنح ، مستحقاً للعقوبة ، وهو يلقي عليك في الحال تهمة بأنك نازي ، ويجلب لك التهديدات بالموت (1). وعندما قال بيغن : لا يمكن إقامة أي فارق بين معاداة الصهيونية ومعاداة السامية ، تلقف هذا الشعار قادة التنظيم الصهيوني العالمي فلحنوه وعمموه على كافة بلدان العالم .
ومما زاد الطين بلة صدور قانون فابيوس رقم 43 المسمى قانون جيسو على اسم النائب الشيوعي الذي تبنى هذا القانون الخسيس في مايو 1990 والذي يحرم أي تشكيك في الجرائم المقترفة ضد الإنسانية بإضافة المادة 24 مكرر إلى قانون حرية الصحافة لعام 1881 جاء فيه : يعاقب بإحدى العقوبات المنصوص عليها في الفقرة السادسة من المادة 24 كل من ينكر وجود أي من الجرائم المرتكبة ضد الإنسانية كما وردت في المادة 6 من النظام الأساسي للمحكمة العسكرية الدولية (نورمبورغ) الملحق باتفاق لندن الموقع في 8/6/1945 (2). ومنذ ذلك التاريخ حرم على أي مؤرخ أن يضع استنتاجات محكمة نورمبورغ موضع الشبهات أو المراجعة ، وبلغت الأمور ذروتها عندما قال حاخام فرنسا الأكبر جوزيف سيتروك في القدس أمام رئيس وزراء إسرائيل الأسبق شامير: (إن كل يهودي فرنسي هو ممثل لإسرائيل ، وتأكدوا أن كل يهودي في فرنسا يدافع عما تدافعون عنه) وهذا ما نشرته اللموند في 9/7/1990 (3).
العقيدة الصهيونية السياسية
في القرن التاسع عشر أعلن عن ميلاد الحركة الصهيونية في أوروبا ، وكان هدفها المعلن إنشاء مركز روحي على جبل صهيون ، يكون مصدر إشعاع العقيدة والثقافة اليهوديتين ، ويكون بعيداً كل البعد عن أي برنامج سياسي يرمي إلى إقامة دولة يهودية ، أو أي سيطرة على فلسطين ، أو أي مجابهة بين الجماعات اليهودية والأهالي العرب . وكان دعاة الصهيونية الدينية يتطلعون إلى عودة المسيح لإقامة الملك الذي تدعى إليه جميع قبائل الأرض من أجل البشرية بأكملها ، حيث (يتبارك في نسلك جميع أمم الأرض ، سفر التكوين 22 ـ 18) (4). ثم تحولت هذه العقيدة الدينية إلى هدف سياسي تجسد في الأفكار التي طرحها هرتزل (1860 ـ 1904) فكان ميلاد الصهيونية السياسية التي ألغت الصهيونية الدينية ، وحلت مكانها بدءاً من عام 1882 في فيينا ، ثم طرح هرتزل منهجها عام 1894 في كتابه الدولة اليهودية ، ووضعها موضع التطبيق العملي في مؤتمر بال الصهيوني العالمي عام 1997 ومنذ ذلك التاريخ شرع الصهاينة بالعمل الحثيث لا على تأسيس (5) وطن روحي يكون مركز إشعاع للعقيدة والثقافة اليهوديتين ، وإنما على إنشاء دولة يهودية يتجمع فيها يهود العالم (6). لترتبط الصهيونية بالحركة السياسية التي أسسها تيودور هرتزل ، كما أوردت ذلك موسوعة : الصهيونية وإسرائيل في المجلد الثاني الصفحة 1262 الصادر عن دار هرتزل في نيويورك عام 1971 (7).
المعروف عن هرتزل بعده عن الدين وعدم تأثره بتعاليمه ، وهو لا ينكر ذلك ولا يجد حرجاً في الإعلان عنه .
ويقول الأستاذ جارودي عن الصهيونية : إنها حركة قومية لم تولد من اليهودية ، بل من القومية الأوروبية في القرن التاسع عشر، ولم ينتسب مؤسس الصهيونية هرتزل إلى الدين ، بل يقول : إنني لا أنقاد لأي دافع ديني كما جاء في يوميات هرتزل طبعه فكتور جولانسر 1958 ، ومن أجل ذلك فهرتزل لا تهمه الأرض المقدسة ، وهو يقبل من أجل أهدافه القومية بأوغندا أو طرابلس أو قبرص أو الأرجنتين أو موزنبيق أو الكونغو كما جاء في يوميات هرتزل ، لكنه أمام معارضة أصدقائه من أصحاب الديانة اليهودية فإنه يعي أهمية الأسطورة القومية (العنصرية اليهودية) فهي تؤلف صيحة ذات قوة لا تقهر للم الشعب اليهودي (8).(/2)
يكتب هرتزل برنامجه بكل وضوح فيقول عن المسألة اليهودية : إنها عقيدة سياسية وقومية واستعمارية ، تلك هي الخصائص الثلاث التي تشرح السياسة الصهيونية التي انتصرت في مؤتمر بال في آب 1897 وانتصر فيها هرتزل ، وقال في نهاية المؤتمر : لقد أسست الدولة اليهودية (9).
الزعم بقداسة اليهود
إن القوميات العنصرية أو الشوفينية تعمد إلى تنظيم شعوبها وتنسب إليها أمجاداً وبطولات وقداسات وهمية ما أنزل الله بها من سلطان ، فبعد زوال سلطة البابوية التي كانت تهيمن على الشعوب الأوروبية ،ادعت كل أمة أنها تلقت الإرث المقدس ، وأنها حازت على الولاية من الرب ، ففرنسا هي البنت البكر للكنيسة التي بها تتم أفعال الرب ، وألمانيا هي فوق الجميع لأن الله معها ، وإيفا بيرون تعلن أن رسالة الأرجنتين هي تقديم الله إلى العالم ، ورئيس وزراء جنوبي إفريقيا فورستير المشهور بعنصريته المتمثلة في الفصل العنصري يهذي بعبارات مثل : لا تنسوا أننا شعب الله بعثنا برسالة ، أما اليهود فقد تجاوزوا هذا كله وادعوا أنهم شعب الله المختار، وأن شعوب الأرض قد خلقت لخدمتهم .
فالأستاذ أندريه نهير في كتابه جوهر النبوءة الذي نشرته دار كلمان ليفي 1982 يقول في الصفحة 311 : (إن إسرائيل هي وبامتياز علامة التاريخ الإلهي في العالم ، فإسرائيل هي محور العالم ، وهي العصب والمركز والقلب) (10).
وهذا الدجل أو هذه التخريفات مبثوثة في كتبهم وفي أسفارهم التي تفيض بالأحقاد والاستعلاء والكره ضد الشعوب من كل الديانات والجنسيات ، وهذا دليل على تحريفها وبعدها عن التوجيه الإلهي في الكتب المنزلة التي ترمي إلى إسعاد البشرية ، والتي ترجع إلى أب واحد وأم واحدة ، وقد أفضت فكرة أو أسطورة الشعب المختار إلى تنشئة اليهود على الحقد على الشعوب كلها والعمل على الكيد لها ووضع الخطط لإلحاق الأذى بها وإيقاد نار الحروب فيما بينها ، وإشعال الفتن والثورات في أرجائها جراء العقيدة الفاسدة التي تربى عليها الأجيال اليهودية جيلاً إثر جيل (11)، يقول الحاخام كوهين في كتابه التلمود طبعة باريس 1986 في الصفحة 140 : يمكن توزيع سكان العالم بين إسرائيل وبين الشعوب الأخرى برمتها ، فإن شعب إسرائيل هو الشعب المختار، وهو ركن أساسي من أركان العقيدة . وفي سفر الخروج 4 ـ 22. كذا قال الرب : إسرائيل ابني البكر.
هذه المزاعم ، أو هذه الأساطير كانت وراء الغزو لفلسطين والاعتداء عليها ، والتنكيل بشعبها وطرده من وطنه . إن جميع الزعماء الإسرائيليين والقادة الصهاينة يقولون بهذه الخرافات ويلهثون وراءها ، سواء المصدقون بها من المؤمنين بالأساطير التلمودية أو العلمانيون الذين يوظفونها لتهييج الأجيال اليهودية في أغراضهم السياسية .
فهذه غولدا مائير تقول في تصريح للموند الفرنسية في 15/10/1971 : هذه البلاد (فلسطين) وجدت كإنجاز لوعد قطع من قبل الله نفسه ، فمن المضحك أن يطلب منا بيانات على شرعيتها .وبيغن يكرر هذا المعنى بقوله : لقد وعدنا بهذه الأراضي ، ولنا حق عليها ، وذلك في تصريح له في أوسلو كما نقلته جريدة دافار في 12/12/1978 . وقال دايان : لجيروزاليم بوست في 10/8/1967 : إذا كنا نملك التوراة ، وإذا اعتبرنا أننا شعب التوراة ، فلابد أن نملك كذلك أرض التوراة ، أرض القضاة الحاخاميين ، أرض أورشليم وحيرون وجرس وأمكنة أخرى أيضاً (12).
تزييف التاريخ :
لقد شحن الصهاينة عقول أبناء الشعوب في الشرق والغرب ، وكذا قلوبهم بالأباطيل والمعلومات الكاذبة وشهادات الزور، واستخدموا كل وسائل النشر الإعلامية ، مسموعة ومقروءة ومرئية ، تقول ليبراسيون في 7/3/1979 : وكم شاهدنا من الأفلام الرائعة التي شوهت بذكر الرقم التعسفي للضحايا اليهود ، وكم من مرة أعادوا علينا كل أسبوع عرض أفلام مثل الخروج والهولوكست (المحرقة) والإبادة وغيرها من الشرائط المروية برومانسية تفيض لها الدموع ، وفيلم الهولوكست هذا هو أكبر فيلم ساهم في التلاعب بالرأي العام العالمي والسيطرة عليه ، وهو ما يعتبر جريمة ضد الحقيقة التاريخية .
وذروة هذه الأدبيات الرومانسية هو كتاب يوميات آن فرانك الذي حقق أحسن المبيعات عالمياً ، وأن فرانك يهودية كانت معتقلة في أحد المعسكرات ، وفي هذا الكتاب المؤثر تحل الرواية محل الواقع ، ومرة أخرى تخفت الأسطورة في ثياب التاريخ . يقول المؤرخ الإنكليزي دافيدا رفنج في هذا الكتاب : لقد وافق والد آن فرانك أخيراً والذي راسلته عدة سنوات على إخضاع أصول كتاب اليوميات للفحص المعملي ، وهو ما أطالب به دائماً عندما يكون هنالك اعتراض على وثيقة ما ، وكان المعمل الذي فحصت به أصول الكتاب هو معمل البوليس الجنائي الألماني في فيسبادن ، وكانت النتيجة التي توصل إليها المعمل هي أن جزءاً من يوميات آن فرانك كتب بقلم جاف ، وهذا النوع من الأقلام لم ينزل الأسواق إلا في عام 1951 في حين أن آن فرانك قد توفيت في عام 1945 .(/3)
فهذا الكتاب ليس له قيمة لأن النص قد شوه وحرف ،، وهذه البضاعة الإبادية لا تستخدم إلا شهادات تشير إلى قتل الضحايا بالغاز دون أن يوضحوا لنا أبداً طريقة تشغيل غرفة غاز واحدة (والذي أثبت لوختر استحالة ذلك مادياً وكيماوياً) أو شاحنة واحدة من تلك الشاحنات التي استخدمت بطريقة انبعاث الديزل منها ، كغرف غاز متنقلة (13).
وبعد أن قام لوشتر بزيارة واختبارات عينات غرف الغاز المزعومة في أوشفيتر ـ بيركينا وغيره من معسكرات الشرق ، وبعد أن استعرض جميع المواد الوثائقية ، وفحص جميع الأماكن في أوشفيتر وبيركينا وماجدانك ، وجد أن البراهين دامغة ، فلا توجد في أي من هذه الأماكن غرف غاز قاتل ، وهذا ما ورد في تقرير لوشتر، ماساتشوست بتاريخ 5/4/1988 (14).
وحتى هذه اللحظة ، فإن الحجج الوحيدة التي استخدمت أجيال الرافضين للتاريخ الرسمي كانت هي الامتناع عن المناقشة والاغتيال والرقابة والاضطهاد (15).
التفسير اليهودي للنبوءات :
لكن ، بالرغم من التدليس والتزوير وطمس الحقائق ، والتنكيل بمن ينطق بالصدق ، فلم تعدم الحقيقة أنصاراً يكشفون الزيف ، ويفضحون الأباطيل والأساطير. ففي المحاضرة التي ألقاها الحاخام المربرجر الرئيس السابق لرابطة : من أجل اليهودية في الولايات المتحدة ورد : أن السياسة الحالية لإسرائيل قد طمحت أو على الأقل قد طمست المعنى الروحي لإسرائيل كما قال ميشا الثالث بكل وضوح : استمعوا إذن يا رؤساء بيت يعقوب وقادة بيت إسرائيل ، يا من تكرهون الخير وتحبون الشر، يا من تبنون صهيون وسط حمامات من الدم والقدس بجرائمكم ، إن صهيون سيحرث كالحقل ، وستصبح القدس كومة من الأطلال ، وسيصبح جبل المعبد مكاناً لعبادة الأصنام (16)، ومع ذلك فإن دولة إسرائيل الحالية ليس لها أي حق في ادعاء تحقيق النية الإلهية من أجل عصر مسيحي ، فهذه محض غوغائية التربة والدم .
ولم يكن إيجال عامير قاتل رابين بعربيد أو بمجنون ، ولكنه النتاج الخالص للتربية الصهيونية (أو المعتقدات الصهيونية الشريرة) فهو ابن حاخام وطالب ممتاز في الجامعة الأكليركية بأرعيلان بالقرب من تل أبيب ، وتشبع بتعاليم المدارس التلمودية ، وجندي من جنود الصفوة في الجولان ، ويحتفظ في مكتبته بسيرة باروخ جولدشتين الذي اغتال قبل شهور في الخليل 27 من العرب وهم يصلون ، ويندرج اغتيال رابين والاغتيالات التي اقترفها جولدشتين ضمن المنطق الضيق لميثولوجية المتطرفين الصهيونيين ، وكما يقول عامير كما أوردت لوموند في 8/5/1995 : إن الأمر بالقتل جاء من الرب (17).
مزاعم الحقوق التاريخية :
إذا عممنا هذا النمط الصهيوني من الـ (مطالب) المبنية على مثل هذه الـ (الحقوق التاريخية) فإن الكوكب الأرضي بأكمله سوف يصير إلى الفوضى ، فلماذا لا يطالب الإيطاليون بالحقوق التاريخية في فرنسا حيث سيطر الرومان منذ يوليوس قيصر على بلاد الغال ، ولماذا لا يطالب السويديون بنورمانديا وإنكلترا وصقلية باسم أجدادهم الرومان (18).
بل نقول : لماذا لا يطالب العرب بإسبانيا التي أقاموا فيها حوالي ثمانمائة سنة أنشأوا على أرضها حضارة مدهشة ما زالت مصدر دخل كبير لإسبانيا في قطاع السياحة . وكذا صقلية وقسم من إيطاليا ؟!!!
ويعقب الأستاذ جارودي على هذا المنطق السقيم للصهاينة في اغتصاب فلسطين بقوله : ليس لدولة إسرائيل الصهيونية هنا حيث زرعت أية شرعية : لا تاريخية ، ولا توراتية ، ولا قانونية ، كذلك ولا خلقية ، فإن مسلكها في الداخل وفي الخارج عرقية توسعية إرهابية (19).
وقد أشار القرآن الكريم وأنبأت الأحاديث الشريفة الصحيحة بأن هذه الدولة آيلة إلى الزوال ، وأن تجمع اليهود في فلسطين من جميع أنحاء العالم سيكون في المآل وبالاً عليهم وكارثة تحل بساحتهم ، وقد صدرت كتب عديدة للتميمي رحمه الله وللخالدي ولعدد آخر من الكتاب المسلمين يبرهنون بالنصوص أن زوال إسرائيل حقيقة قرآنية تدعمها المبشرات النبوية . فعلى العرب والمسلمين أن يربوا أبناءهم ، وينشئوا أجيالهم على هذه التوجيهات والحقائق الدامغة التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها ، وصدق الله العظيم : [فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيراً] (20).
المبحث الثاني
الأهداف الصهيونية المدمرة(/4)
لم يخف هرتزل حقده على العرب والمسلمين وعلى شعوب القارة الآسيوية ، وكان يبشر لدى الأوروبيين أنه سيقيم دولة تحمي حضارتهم وتكون سداً منيعاً في مواجهة أعدائهم ، فقد نص كتابه الدولة اليهودية في الترجمة الفرنسية منشورات باريس صفحة 95 عام 1926 : بالنسبة لأوروبا سوف تكون الحارس الأمامي للحضارة في وجه البربرية (21). ولم يكن هذا موقف هرتزل فحسب ، بل كان جميع من حوله من المؤيدين وأعضاء المنظمة الصهيونية تفيض قلوبهم بالأحقاد والأطماع المعلنة والمنشورة في كتبهم ورسائلهم ، فقد تلقى هرتزل رسالة من صديقه المقرب ومستشاره دافيدتريتش بتاريخ 29/10/1899 بعد انعقاد مؤتمر بال الصهيوني العالمي يقول فيها : أود أن أشير عليكم بالرجوع من وقت لآخر إلى برنامج فلسطين الكبرى (إسرائيل الكبرى) قبل أن يفوت الأوان ، فلابد أن يحتوي برنامج بال على كلمات إسرائيل الكبرى أو فلسطين والأراضي المجاورة ، وإلا يكون بلا معنى . لن يكون في وسعكم استقبال عشرة ملايين من اليهود على ساحة من الأرض مقدارها 25000 كم2 (22).
أما بن غوريون فقد قال بجلاء تام : ليس المقصود على الوضع الراهن ، علينا أن نخلق دولة ديناميكية ، متجهة نحو التوسع (23). وفي عام 1972 كانت غولدا مائير تجيب على أسئلة صحفية عندما سئلت عن المنطقة التي يعتبرونها ضرورية لأمن إسرائيل ؟ إذا كنت تريد القول بأنه يتعين علينا رسم خطط لحدودنا ، فهذا ما لم نفعله ، سوف نفعل ذلك عندما يحين الوقت المناسب (24).
تمزيق الوطن العربي
في 14/2/1982 نشرت مجلة كيفوتنيم ـ اتجاهات ـ مقالاً صادراً عن المنظمة العالمية بالقدس فيه عرض واف لاستراتيجية إسرائيل في الثمانينات ، نورد أهم ما جاء فيه :
ـ استرداد سيناء هدف له الأولوية بين الأهداف . لابد من العمل على استعادة الوضع الذي كان مرجحاً في سيناء قبل زيارة السادات ، والاتفاق التعس الموقع معه في عام 1979 (25).
ـ إن مصر لم تعد تمثل بالنسبة لنا مشكلة استراتيجية ، ومن السهل أن نعيدها في أقل من أربع وعشرين ساعة إلى الحالة التي كانت عليها بعد حرب حزيران 1967 . إن أسطورة مصر زعيمة العالم العربي ماتت تماماً ، وهي في مواجهة إسرائيل وسائر العالم العربي قد فقدت 50% من قدرتها ، فمصر صارت جثة هامدة ، وبخاصة إذا نحن أخذنا بعين الاعتبار المجابهة المتزايدة في قسوتها بين المسلمين والمسيحيين ، فتقسيمها إلى مقاطعات جغرافية منفصلة يجب أن يكون هدفنا الأساسي على الجبهة الغربية في التسعينات !!
إن تقسيم لبنان إلى مقاطعات خمس يجسد صورة لما سوف يجري في العالم العربي برمته ، وتمزيق سورية والعراق إلى أقطار محددة على أساس المعايير العرقية أو الدينية يجب أن يكون على المدى البعيد هدفاً له الأولوية بالنسبة إلى إسرائيل ، بالنظر إلى أن المرحلة الأولى هي تدمير قوة هذه الدولة العسكرية . وشبه الجزيرة العربية بأسرها محكوم عليها بانحلال من النوع نفسه . والأردن هدف استراتيجي في الحالة الحاضرة ، وعلى المدى الطويل لم يشكل تهديداً لنا بعد انحلاله ونهاية حكم الملك حسين ، وانتقال السلطة إلى الأكثرية الفلسطينية ، وسيعني التغيير حل مشكلة الضفة الغربية ذات الكثافة السكانية . فنزوح العرب (الفلسطينيين) إلى الشرق (الأردن) في ظروف سلمية ، أو على أثر حرب ، وتجميد نموهم الاقتصادي والديمغرافي هما ضمان التغييرات القادمة ، وعلينا أن نفعل كل شيء للتعجيل بتحقيق هذه الصيرورة .
إن يهودا والسامرة والجليل هي الضمانات الوحيدة لبقائنا اليومي ، وإذا نحن لم نصبح أكثرية في المناطق الجبلية نخاطر بأن نلقى ما لاقاه الصليبيون الذين فقدوا هذه البلاد . لذلك فإن إعادة التوازن إلى المنطقة على الصعيد السكاني والاستراتيجي والاقتصادي يجب أن يكون مطمحنا الرئيسي ، وهذا يقتضي الإشراف على موارد المياه في المنطقة التي تمتد من بير السبع إلى الجليل الأعلى والتي هي خالية من اليهود اليوم (26).
من مخططات التمزيق الصهيونية
إن سياسة إسرائيل الثابتة منذ إنشائها بدعم من أوروبا وأمريكا ترتكز على تمزيق الوطن العربي إلى كيانات عرقية وطائفية متناحرة كالذي حدث في إسبانيا إبان حكم الطوائف في العقود الأخيرة للوجود العربي في إسبانيا .
من برنامج التمزيق الصهيوني
فمنذ الخمسينات كشفت إسرائيل عن مخططها في تمزيق مصر وسوريا ولبنان والعراق طبقاً لبرنامج نشره الصحفي الهندي كرانجيا في كتيب بعنوان : خنجر إسرائيل (27).(/5)
فالصهاينة يؤكدون على إلغاء الدور المصري لاسيما بعد أن استعصى شعب مصر على التطبيع رغم الضغوط الداخلية والخارجية ، ويصرون على الإجهاز على كبرى الأقطار العربية ذات التاريخ الزاهر في مقاومة الغزاة لاسيما الصليبيون والتتار، وإلحاق الهزيمة بهم . فاليهود حاقدون على المصريين ، إنهم يذكون الصراع بين المصريين مسلمين ومسيحيين ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً ، وهذه سياستهم كما يقولون في التسعينات على الجبهة الغربية.
فإذا ما تفككت مصر كما تنص خطتهم وحرمت من السلطة المركزية ، فإن بلداناً مثل ليبيا والسودان وغيرهما من البلدان الأبعد ستعرف نفس المآل (التفكك)، ويعتبر تشكيل دولة قبطية في صعيد مصر كما يهدف العدو هو مفتاح الحل لتطور تاريخي لابد منه على المدى الطويل .
وفي سورية فإن الهياكل العرقية التي هي عرضة للتفكك قد يؤدي إلى إنشاء دولة شيعية (نصيرية) على طول الساحل ، ودولة سنية في منطقة حلب ، وأخرى في دمشق ، وكيان درزي قد يرغب في تشكيل دولته الخاصة به ـ وربما فوق هضبة الجولان ـ مع حوران وشمال الأردن ، ومثل هذه الدولة ستصبح على المدى الطويل ضماناً للأمن والسلام في المنطقة ، وهو هدف في متناول يدنا بالفعل !!. والعراق الغني بالبترول ، والمرتع للمنازعات الداخلية هو خط التسديد الإسرائيلي ، وتفكيكه سيكون بالنسبة لنا أهم من تفكيك سورية ، لأنه يشكل على المدى القصير أخطر تهديد لإسرائيل .
إن العدو يقف كالجلاد فوق رؤوس ضحاياه ، فمن يناوئ هذه المخططات أو يعترض عليها يواجه أخطاراً من كل الجهات ، ولا يدري كيف أحاطت به ، فعندما قال رئيس لجنة الشؤون الخارجية السناتور فولبريت : إن زملاءنا في مجلس الشيوخ وبنسبة 70% منهم لا يحددون مواقفهم إلا تحت ضغط اللوبي وليس برؤيتهم الخاصة القائمة على مبادئ الحرية والقانون ، وقال : إن الإسرائيليين يتحكمون في سياسة الكونغرس ومجلس الشيوخ إذا بالسيناتور يفقد مقعده في مجلس الشيوخ في الانتخابات التالية ؟!!(28). وفي ذلك يقول فندلي : إن أي إنسان ينتقد سياسة إسرائيل عليه أن يتوقع عمليات انتقام موجعة لا تنتهي وحتى فقدان سبل معيشته بواسطة ضغوط اللوبي الإسرائيلي ، والرئيس نفسه يخاف من (اللوبي) والكونغرس يخضع لكل مطالبه ، وتحرص أعرق الجامعات على إبعاد كل ما يتعارض معه في برامجها ، وتستسلم وسائل الإعلام كما يخضع القادة العسكريون لضغوطه .
وعندما انتقد الأستاذ جارودي جرائم إسرائيل في لبنان وغزوها له في 17/6/1982 وكتب عن ذلك في اللموند تلقى خطابات التهديد بالقتل ، وأغلقت في وجهه كل وسائل الإعلام والنشر.
لقد فرضت الهيمنة شبه الكاملة على أجهزة الإعلام في أمريكا وفرنسا وعلى معظم دول العالم من اللوبيات الصهيونية ، فالدفاع عن الوطن أصبح إرهاباً ، أما إذا غزت إسرائيل لبنان فالعملية تسمى من أجل السلام : السلام في الجليل (29).
ترى ألم يسمع العرب لاسيما سلاطينهم بالسياسات الإسرائيلية ؟ ألم يطلعوا على خططهم في الخمسينات والثمانينات ؟ ألم يقرؤوا تاريخهم الحافل بالجرائم والمذابح والإحراق والتدمير باسم الرب لكل شعوب الأرض ؟ ألم يطلعوا على أفكارهم التي تفيض بالحقد والكراهية والإعداد للفتن وإيقاد الحروب بين أبناء الشعب الواحد منذ أكثر من ثلاثة آلاف عام ؟ إن العرب لا يقرؤون كما زعم دايان عندما سئل : كيف تنشرون برامجكم وتكشفون عن مخططات المستقبل ؟!! إن العرب يتلقون كل يوم من إعلامهم وأجهزتهم التي ينفقون عليها أكثر مما ينفقون على المدارس ودور القضاء التقارير الكافية والوافية التي تحيط علماً بكل ذلك وزيادة . لكن الاحتفاظ بكراسي الحكم أغلى من ذلك وأحلى . ألم نسمع بتصريح أحد أبطال الجولان عندما قال : لم يخسر المعركة ولو ضاعت الجولان طالما أن حكومته استمرت في السلطة وبقيت في الحكم ؟!!.
المبحث الثالث
الفاشية العسكرية الصهيونية
منذ تجمع اليهود في فلسطين بدعم الإنكليز ثم الأمريكان ، مارس الصهاينة عن طريق الوكالة اليهودية ثم الدولة الإسرائيلية منذ عام 1948 حكماً دموياً قوامه القتل والنسف والإبادة لا فرق بين الرجل والمرأة والطفل ، ومارسوا بفظاظة سياسة التطهير العرقي ضد الفلسطينيين ، فخرجوا من ديارهم مكرهين ، وهاموا على وجوههم في البلاد العربية وفي أرجاء العالم وقاراته . وهذه الفترة في حياة الدولة الإسرائيلية يسميها الأستاذ جارودي بالصهيونية العسكرية ، فعندما كانت إسرائيل تنفق أكثر من 50% من ميزانيتها على السلاح والإعداد العسكري ، كان هدف هذه العسكرية المعلن بلسان شارون نفسه ، ليس الدفاع عن إسرائيل ، وإنما تفتيت الدول العربية اعتماداً على نصوص توراتية تلتمس من أجل تبرير التوسع الدائم على الحدود ، وكذلك تبريراً لمناهج الإرهاب والمذابح .(/6)
في عام 1937 رسم بن غوريون حدود الدولة بالاستناد إلى مصادر توراتية فرأى أن أرض إسرائيل يجب أن تضمن خمس مناطق : جنوبي لبنان حتى الليطاني ، وجنوب سوريا والضفة الشرقية (شرقي الأردن) وفلسطين وسيناء . وذكر بن غوريون في مشروعه أن خط الحدود يجب أن يمر الحد الشمالي فيه من حمص في سورية التي كان يطابقها مع مدينة حماة التي تحدد (في الإصحاح 34 من 1 ـ 8) تخوم أرض كنعان في الشمال ، ويطابق صهيونيون توراتيون شديدو الحماسة وفقاً للظروف مدينة حماة مع إدلب ، في حين يرى آخرون أنها تقع ضمن حدود تركيا . وقد طالب الحاخام أدين ستينسالنر في أثناء حوار عقده سارتر في إسرائيل بحقوق تاريخية في قبرص ، وفي عام 1956 أعلن بن غوريون أمام الكنيست في جو من التهليل والتصفيق أن سيناء تشكل جزءاً من مملكة داود وسليمان ، وبعد أن قامت أمريكا والاتحاد السوفياتي بعد الهجوم على قناة السويس بكبح جماح إسرائيل خفت صوت هذه الجغرافيا التوراتية ، ثم عاد يطفو على السطح عام 1967 في حدود الوعد (من نهر الفرات العظيم إلى وادي مصر، الإصحاح 34 ـ 4 و 5) (30) .
لم يكن ضرب صيدا وصور وقصف بيروت ومجازر صبرا شاتيلا امتداداً مباشراً لمذبحة دير ياسين التي اقترفتها عصابات أرغون بقيادة بيجن عام 1948 وقبية وكفر قاسم وللمفاخر الدموية لقتلة وحدة شارون الـ 101 ، بل كان ذلك كله يحظى بألقاب الشرف باسم رسالة إسرائيل التوراتية ، حيث تكرر دولة إسرائيل الحالية المأثرة المقدسة لإسرائيل التوراتية باجتثاث أصول أصول الكنعانيين من البلاد ، منفذة بالعرب ما فعلته بالأمس مع الكنعانيين والشعوب السابقة في هذه الأرض .
إن إسرائيل قدمت الدليل باحتلالها للبنان أنه في مكنتها إقامة نظام جديد في الشرق الأوسط ، وأنه في احتلال لبنان بداية السلام للعالم ، فلم يعد يكتفى بمديح حرب دفاعية ، بل تصبح الحرب نفسها قيمة ، فقد قدم أهارون موجيد في صحيفة دافار عدد 3 أيلول 1982 تحليلاً جاء فيه : ففي هذه الطريق للسلام قد بلغنا مرحلة أرقى مما بلغناه بعد حرب الأيام الستة ، فبهذه الحرب كشفنا عن قوتنا العسكرية ، نحن مسؤولون عن النظام في الشرق الأوسط وفي العالم في آن واحد (31).
اليهود سادة العالم ، والكون ملك لهم ، اغتصب منهم ، والشعوب خلقت لخدمتهم ، هذه معتقداتهم التي بها يؤمنون ، فإذا ما قتلوا سكان قرية وأبادوهم ، فإنهم ينفذون مشيئة ربهم وأنبيائهم كما يزعمون !! ولا حرج عليهم في ذلك ، وضمائرهم مرتاحة لما يفعلون ، كانوا هكذا مع الكنعانيين وقدامى الشعوب ، وما زالوا في هذا القرن يطبقون هذه السياسات الإجرامية مع الفلسطينيين واللبنانيين والسوريين والمصريين ، وهذا الماضي الأسطوري الذي يواجه المستقبل نحو ما يمكن أن يكون انتحاراً كونياً ، ففي 9/4/1948 أباد مناحيم بيغن ومعه وحدات أرجون العسكرية سكان قرية دير ياسين وقتلوا منهم 254 رجلاً وامرأة وطفلاً ، وطافوا في من تبقى منهم شوارع القرية ليملئوا قلوب القرى الأخرى رعباً (32).
في سفر ـ العدد ـ الفصل الحادي والثلاثون 7 ـ 18 : يقال لنا إن مآثر بني إسرائيل الذين هزموا المَدْيَنيين ، فقاتلوا مدين كما أمر الرب موسى ، وقتلوا كل ذكر، وسبى بنو إسرائيل نساء مدين وجميع مدنهم مع مساكنهم ، وأحرقوا قصورهم بالنار، وعندما عادوا إلى موسى ، سخط موسى على وكلاء الجيش ، وقال لهم موسى : هل استبقيتم الإناث كلهن ؟ فالآن اقتلوا كل ذكر من الأطفال وكل امرأة عرفت مضاجعة رجل اقتلوها،أما الإناث الأطفال اللواتي لم يعرفن مضاجعة الرجال فاستبقوهن لكم (14 ـ 18). وتابع يشوع خليفة موسى وفي أثناء غزوه لكنعان وبطريقة منهجية سياسة التطهير العرقي التي أمر بها رب الجيوش . وجاء في (سفر يشوع ، الفصل العاشر 34 ـ 38) : وفتح يشوع في ذلك اليوم مَقْيَدة ، وضربها بحد السيف ، وأبسل ملكها وكل الأنفس التي فيها ، فلم يبق باقياً ، فصنع بملك مقيدة كما صنع بملك أريحا ، ثم اجتاز يشوع وجميع بني إسرائيل معه من مقيدة إلى لبنة وحاربها ، فأسلمها الرب أيضاً إلى بني إسرائيل هي وملكها ، فضربوها بحد السيف وقتلوا كل نفس فيها ، فلم يبقوا فيها باقياً ، وفعلوا بملكها كما فعلوا بملك أريحا . وجاز يشوع وجميع إسرائيل معه ، من لبنة إلى لاكيش ، ونزل عليها وحاربها ، فأسلم الرب لاكيش إلى أيدي إسرائيل ، فافتتحوها في اليوم الثاني وضربوها بحد السيف وقتلوا كل نفس فيها كما فعلوا بلبنة ، حينئذ صعد هوارم ملك جاوز لنصرة لاكيش فضربه يشوع هو وقومه حتى لم يبق منهم باقياً ، واجتاز يشوع وكل إسرائيل معه من لاكيش إلى عجلون ، ونزلوا عليها وحاربوها وافتتحوها في ذلك اليوم وضربوها بحد السيف ، وأبسل كل نفس فيها في ذلك اليوم عينه كما فعل بلاكيش ، وصعد يشوع وجميع إسرائيل معه من عجلون إلى صبرون وحاربوها (33).(/7)
وتستمر هذه الملحمة المملة في سرد وتعداد عمليات الإبادة المقدسة التي وقعت في الضفة الغربية !! يتساءل الأستاذ جارودي : لماذا لا يحذو ـ والحالة هذه ـ أي يهودي متدين ومتطرف أي متمسك بالقراءة الحرفية للتوراة حذو هذه الشخصيات الجليلة المتمثلة في موسى ويشوع ؟ ألم يذكر سفر العدد : وعندما بدأ غزو فلسطين ـ كنعان ـ فسمع الرب صوت إسرائيل ، ودفع إليهم الكنعانيين فأبسلوهم هم ومدنهم (العدد الحادي والعشرون ، 3) ثم بخصوص الأموريين وملكهم : فضربه إسرائيل بحد السيف هو وقومه حتى لم يبق منهم أحداً واستولوا على بلاده (العدد الحادي والعشرون ، 35). ويكرر سفر تثنية الاشتراع : وإذا أدخلك الرب إلهك الأرض التي أنت صائر إليها لترثها ، واستأصل أمماً كثيرة فأبسلهم إبسالاً ـ الفصل السابع 1 ـ 2 ـ فلا يقف أحد بين يديك حتى تفنيهم ـ الفصل السابع 24 ـ .
من يشوع إلى شارون
ومن شارون إلى الحاخام مائير كاهانا ، فذاك تجسيد للطريقة التي سيتبعها الصهاينة حيال الفلسطينيين ! ألم تكن مسيرة يشوع هي مسيرة مناحيم بيجن عندما قضى في 9/4/1948 على سكان دير ياسين وقتلهم جنود الأرغون لكي يفر العرب العزل مذعورين كما ذكر بيجن نفسه في كتاب العصيان ، تاريخ الأرغون عام 1987 في الصفحة المائتين (34) ؟!. ألم يكن طريق يشوع هو الطريق الذي وضعه يورام بن بورات في الجريدة الإسرائيلية الكبرى أديعوت أحرونوت الصادرة في 14/7/1972 : لا صهيونية واستعمار للدولة اليهودية بدون إبعاد العرب وطردهم والاستيلاء على أراضيهم !! أما وسائل وأساليب هذا الاستيلاء على الأرض فقد حددها رابين عندما كان جنرالاً على الأرض المحتلة : تكسير عظام ملقي الأحجار من أطفال الانتفاضة . وبنفس هذا اليقين اندفع الدكتور باروخ جولد شتين وهو مستوطن ذو أصل أمريكي من قرية أربة في الضفة الغربية ، وقتل أكثر من 27 فلسطينياً وجرح أكثر من خمسين وهم يصلون في الحرم الإبراهيمي ، وكان باروخ عضواً في جماعة متطرفة تأسست برعاية شارون ، أي تحت حماية من قاد مذابح صبرا شاتيلا ، والذي كوفئ على جريمته بتعيينه وزيراً للإسكان . وباروخ موضع تبجيل المتطرفين الذين يأتون على قبره بالأزهار ، وينحنون لتقبيله ، فهو الأمين على تقاليد يشوع الرامية إلى القضاء على كل شعوب كنعان من أجل الاستيلاء على أرضهم ، وهذا هو التطهير العرقي الذي يمارس بشكل منتظم في دولة إسرائيل اليوم ينبع من مبدأ النقاء العرقي الذي يمنع امتزاج الدم اليهودي بأي دم دنس من دماء الآخرين (35).
وهذا ما حمل منظمة الأمم المتحدة في 10/11/1975 وفي جلسة عامة ، اعتبرت فيها أن الصهيونية شكل من أشكال العنصرية والتمييز العنصري ، وهذا القرار ألغته أمريكا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي،وبعد أن وضعت يدها على الأمم المتحدة ،وحصلت في 16/12/1991 على قرار بإلغائه (36).
إن ما فعلوه من ذبح السكان بالجملة ، ومنهم الأطفال والنساء والرجال من السكان الآمنين لا يحرج قادة الصهيونية ولا يشكل لضمائرهم مصدر ألم أو قلق على الأقل . لقد كتب بيغن في كتابه التمرد قصة الأرغون ، جاء فيه : ما كانت دولة إسرائيل لتوجد من دون الانتصار في دير ياسين (ص 162 من الطبعة الإنكليزية) ، وأضاف : أن الهاجانا كانت تقوم بهجمات مظفرة في جبهات أخرى ، فكان العرب إذا أصابهم الذعر يفرون صارخين : دير ياسين (الطبعة الفرنسية ص 200).
وفي عام 1949 بعد الحرب الأولى العربية الإسرائيلية كان الصهاينة يسيطرون على 80% من فلسطين ، وقد تم طرد 770000 فلسطيني منها (37).
أجرى عالم النفس ج تامارين من جامعة تل أبيب الاختبار التالي : وزع على أكثر من ألف طالب في صفوف السنة الرابعة والسنة الثامنة ـ من الذين يدرسون كتاب يشوع في برنامجهم ـ رواية الإبادة البشرية التي قام بها يشوع في أريحا ـ الإصحاح السادس 20 ـ وطرح السؤال التالي : لنفرض أن الجيش الإسرائيلي احتل قرية عربية أثناء الحرب ، فهل يجب عليه ـ نعم أو لا ـ أن يلحق بسكانها نفس المصير الذي قدر لسكان أريحا باحتلال يشوع لها ؟ فجاءت الأجوبة بنعم تتراوح بين 66% و 95% وفقاً للمدرسة ، وهذا ما نشر في باريس عام 1977 (38).
ترى ، هل اطلع القادة السياسيون والمثقفون وحملة الأقلام على هذه الأفكار والأحكام التوراتية ، وما أفرزته من تاريخ أسود ملطخ بدماء الأبرياء من الشعوب غير اليهودية ؟ أولا يرون أن الصهاينة المعاصرين يلقنون أبناءهم والأجيال نفس التوجيهات والتعليمات ؟ لينشأ كل صهيوني وكأنه قنبلة موقوتة ستنفجر يوماً على أبنائنا وأجيالنا ؟ أم أن هذا لا قيمة له ولا أهمية أمام السلام العتيد الذي نرفع رايته بين يدي حكام إسرائيل !!
يتبع
إن شاء الله ...
(1) المأزق ص 6.
(2) المأزق ص 7 .
(3) كتاب الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية ص 192 .
(4) كتاب المأزق ، إسرائيل الصهيونية السياسية الصفحة الثامنة تأليف روجيه جارودي نشر دار المسيرة ببيروت .(/8)
(5) كتاب المأزق ص 9 .
(6) كتاب المأزق ص 11 .
(7) الأساطير ص 18 .
(8) كتاب الأساطير لجارودي ص 18 كما نقلها من اليوميات ص 560 في المجلد الأول ومن الدولة اليهودية لهرتزل ص 450 .
(9) كتاب الأساطير لجارودي ص 20 نقلاً عن اليوميات ص 224 .
(10) كتاب الأساطير لجارودي ص 29 و 29 .
(11) كتاب الأساطير لجارودي ص 47 .
(12) المأزق لجارودي ص 99 .
(13) الأساطير لجارودي ص 127 ، 128 ، 129 .
(14) الأساطير لجارودي ص 133 .
(15) الأساطير لجارودي ص 135 .
(16) الأساطير لجارودي ص 40 ، 41 .
(17) الأساطير لجارودي ص 42 ، 43 .
(18) المأزق لجارودي ص 77 .
(19) المأزق لجارودي ص 233 .
(20) سورة الإسراء الآية 7 .
(21) المأزق لجارودي ص 85 .
(22) المأزق لجارودي ص 181 .
(23) المأزق لجارودي ص 184 .
(24) المأزق لجارودي ص 190 .
(25) المأزق لجارودي ص 198 ، 199 .
(26) المأزق لجارودي ص 201 ، 202 . هذه مقتطفات من استراتيجية إسرائيل في الثمانينيات كما أوردتها مجلة كيفوتيم واستقاها المفكر جارودي وعرضها في كتابه المأزق ، وانتشر خبرها في الثمانينيات .
(27) الأساطير ص 181 ، 182 كما جاء في كيفوتيم شباط 1982 من صفحة 49 ـ 59 .
(28) الأساطير ص 184 .
(29) الأساطير: الصفحات : 186 ، 188 ، 189 ، 190 .
(30) المأزق لجارودي ص 25 و 26 .
(31) المأزق ص 27 ، 29 .
(32) الأساطير ص 55 .
(33) الأساطير ص 57 ، 58 .
(34) الأساطير ص 60 ، 61 .
(35) الأساطير ص 63 .
(36) الأساطير ص 68 .
(37) المأزق ص 73 .
(38) المأزق ص 109 .
مع الأستاذ رجاء جارودي
في الحوار والأفكار
(2)
بقلم : عدنان سعد الدين
المبحث الرابع
أسطورة المحرقة النازية
إن أخطر ما طرحته السياسة الصهيونية في العقود الستة الماضية موضوع إفناء اليهود وعداء السامية وحرق ستة ملايين يهودي في الهولوكست (المحرقة) وفي غرف الغاز لتنفيذ الإبادة الجماعية لليهود في ألمانيا وفي خارجها ، وقد اتخذ الحديث عن الهولوكست شكلاً استفزازياً لا يحتمل سماعه ضمير حي أو قلب بشر، لأن مثل هذه المأساة في حال حدوثها تستدر عطفنا جميعاً ، وفي الوقت نفسه اشمئزازنا البالغ من مرتكبيها ، بل إننا لا نجد في اللغة وصفاً يعبر عن فظاعة مثل هذه الجريمة ، فالوحشية والهمجية والإجرام كلمات تظل قاصرة عن وصف هذا الفعل والذين ارتكبوه وأقدموا عليه .
وظفت الصهيونية وسائل الإعلام في العالم كله للحديث عن المحرقة وعن النازية المتهمة بارتكابها حتى تم نشرها في جميع القارات وبلغت بها مسامع كل الشعوب ، وجعلت منها حادثاً بديهياً مسلماً به لا يناقش ولا يجوز بحثه أو الاستفسار عنه ، وابتزت باسمه المليارات من دخول الألمان لمدة طويلة ، وسنت القوانين بالنفوذ الذي تملكه الصهيونية في أوروبا لاسيما في فرنسا وألمانيا وإنكلترا وغيرها والتي حرم بموجبها بحث الموضوع أو إنكاره أو الاستفسار عنه . بل وسلطت الصهيونية حمم غضبها على من يتناول بحث موضوع المحرقة لتلاحقه قضائياً ، وتحاصره إعلامياً ، وتشوه سمعته فكرياً . وكتبت اللوحات التذكارية في أماكن حساسة للتذكير بستة ملايين يهودي قتلهم هتلر وحكومته النازية بالإبادة والإحراق ، والخنق بالغاز السام !
تعاون الصهيونية مع النازية
ليس ثمة محظور لدى الصهاينة إذا كان يحقق لهم هدفاً أو مصلحة ، ولو اقتضى ذلك قتل نفر منهم !! فهم يتعاونون مع الشيوعية تارة والرأسمالية تارة ، وفي هذا السياق مدوا أيديهم للنازية ، ودعا إسحاق شامير عام 1941 إلى التحالف مع هتلر ومع ألمانيا النازية ضد بريطانيا ، كما ورد في (بن زوهار: بن غوريون النبي المسلح ص 99 باريس 1966)(39) وكتب المنظر النازي الرئيسي الفريد روزنبرج : ينبغي مساندة الصهيونية بكل قوة حتى يتسنى نقل مجموعة من اليهود الألمان سنوياً إلى فلسطين كما جاء في كتاب : مسار اليهود على مدار الزمان لـ أ . روزنبرج ص 153 ميونيخ 1937 . وكتب ليوفيتش في كتابه : إسرائيل واليهودية ص 116 عام 1993 : لقد كان وجود المنظمة الصهيونية ليهود ألمانيا وجوداً قانونياً وشرعياً حتى عام 1938 ، أي بعد اعتلاء هتلر الحكم ، واستمرت صحيفة الصهاينة الألمان تصدر حتى عام 1938 (40).(/9)
وابتداءً من 1933 بدأ التعاون الاقتصادي بين الصهاينة والنازيين ، وأنشئت شركتان هما : شركة هعفرا في تل أبيب وشركة يالترو في برلين ، وكانت آلية العملية أن يودع أي يهودي يرغب في الهجرة في بنك فاسرمان في برلين أو في بنك فاربورج مبلغاً لا يقل عن 100 جنيه استرليني ، وبهذا المبلغ يشتري المصدرون بضائع ألمانية وجهتها فلسطين ، ومع دفع القيمة المقابلة بالجنيهات الفلسطينية ولحساب شركة هعفرا في البنك الأنجلو فلسطيني في تل أبيب ، وعندما يصل المهاجر إلى فلسطين يستلم ما يعادل المبلغ الذي أودعه في ألمانيا ، وقد شارك عدد من رؤساء وزراء إسرائيل في هذه العملية لاسيما بن غوريون وموسى شاريت ـ الذي كان يسمى حينذاك موسى شرتوك ـ وجولدا مائير وليفي أشكول الذي كان هو الممثل في برلين ، وهذا ما ورد في كتاب بن جوريون وشرتوك ص294 (41).
وقد استقبل موسوليني وايزمان في 3/1/1923 ، وكذا قي 17/11/1926 وقال له : سأساعدكم في إنشاء هذه الدولة اليهودية (جولدمان السيرة الذاتية ص 170) (42).
تعترف منظمة أرجون زفاي ليومي بالموقف المتسامح لحكومة الرايخ حيال الأنشطة الصهيونية داخل ألمانيا شريطة اعتراف حكومة ألمانيا بالتطلعات القومية لحركة ليحي (المحاربون من أجل تحرير إسرائيل) ، وكان من المشرفين عليها إسحاق شامير. وقد توقفت المفاوضات بين الطرفين عندما ألقت قوات الحلفاء القبض في يونيه حزيران عام 1941 على مندوب شتيرن وهو نفتالي ليوبتشيك وعلى شامير داخل مكتب الجهاز السري النازي في دمشق بتهمة الإرهاب والتعاون مع العدو النازي ، ومثل هذا الماضي لم يمنع شامير من أن يصبح رئيس وزراء ، وأن يكون رئيساً لمعارضة قوية متمسكة باحتلال الضفة الغربية .
وقد أورد أ. هابر مؤلف كتاب : مناحيم بيغن ، الرجل والأسطورة الصادر في نيويورك 1979 في الصفحة 385 على لسان بن جوريون : إن بيجن ينتمي دون شك إلى النمط الهتلري ، فهو عنصري على استعداد لإبادة كل العرب لتحقيق حلمه بتوحيد إسرائيل ، وهو مستعد لإنجاز هذا الهدف المقدس بكل الوسائل (43).
جرائم ضد اليهود بأيدي اليهود
لا يتردد الصهاينة في تصفية من يقف أمام أطماعهم أو عدوانهم سواء أكان من خصومهم كما فعلوا بقادة منظمة التحرير أمثال أبي جهاد وأبي الهول وأبي إياد أم كانوا من موظفي الأمم المتحدة والوسطاء الدوليين أمثال برنادوت ومساعده الفرنسي ، أم من اليهود المنصفين أم اليهود الذين يجدون مصلحة لهم في قتلهم ، فقد نشر الدكتور هرتزل روزيلوم 1958 وجويسن نيوزلتر في تشرين الثاني نوفمبر 1958 أنه في عام 1940 ولإثارة السخط على الإنجليز الذين كانوا قد قرروا إنقاذ اليهود من هتلر، وذلك باستضافتهم في جزيرة موريشيس ، فإن الباخرة باتريا الفرنسية التي كانت تنقلهم توقفت في ميناء حيفا يوم 25/12/1940 ، فلم يتردد الزعماء الصهاينة من جماعة الهاجانا برئاسة بن غوريون في تفجيرها ، مما أدى إلى قتل 252 يهودياً وأفراد طاقم الباخرة . ومثال آخر نشرته جريدة أديعوت في 8/11/1977 وذكرت فيه أن عدد أبناء الطائفة اليهودية في العراق كان يبلغ 10000 في عام 1948 ، قال فيها حاخام اليهود في العراق خدوري ساسون : لقد تمتع اليهود والعرب بنفس الحقوق والامتيازات منذ ألف سنة ، ولم يعتبروا أنفسهم عناصر غريبة أو منفصلة عن هذا البلد (العراق) ، ثم بدأت التصرفات الإرهابية الإسرائيلية في عام 1950 في بغداد ، وأمام إحجام اليهود العراقيين وترددهم في تسجيل أنفسهم على قوائم الهجرة إلى إسرائيل ، لم تتردد الأجهزة السرية الإسرائيلية من أجل إقناعهم بأنهم في خطر بإلقاء قنابل عليهم ، فقتل الهجوم على معبد ـ شيم توف ـ ثلاثة أشخاص وجرح العشرات ، وهكذا بدأ الخروج الجماعي المسمى : عملية علي بابا (44) .
محاكمة أو مهزلة نورمبرغ(/10)
كان الحلفاء قساة في محاكمتهم كمنتصرين ضد الألمان في محاكمة نورمبرغ ، ولم يوفروا الحد الأدنى من العدالة والشروط القانونية التي يتطلبها القضاء النزيه ، بل كانت شهادات الزور والاتهامات التي لا تستند إلى واقع أو حقيقة . فالمحكمة في نورمبرغ لم تكن محكمة دولية حيث لم تشكل إلا من المنتصرين في الحرب ، وهو ما اعترف به النائب العام الأمريكي روبرت جاكسون الذي كان يرأس جلسة 26/7/1946 حيث قال : مازال الحلفاء عملياً في حالة حرب مع ألمانيا ، وبوصفها محكمة عسكرية ، فإن هذه المحكمة لا تمثل سوى استمرار لجهود حرب الشعوب الحليفة ، فعلى سبيل المثال : إجبار ألمانيا المهزومة في عام 1918 على دفع 132 مليار من الماركات الذهبية كتعويضات حرب في الوقت الذي كانت فيه الثروة القومية لألمانيا تبلغ 260 مليار مارك ذهبياً . فانهار الاقتصاد الألماني وأصيب الشعب الألماني بالإحباط من جراء عملية الإفلاس وتدهور العملة وانتشار البطالة ، مما أدى إلى صعود نجم هتلر بمنحه أسهل المبررات لدعم فكرته الرئيسية في إلغاء معاهدة فرساي ، وما تضمنته من بؤس وإذلال للشعب الأماني (45) .
وعندما حصل هتلر على أكثرية البرلمان بدأت إعادة التسلح بمساعدة من الشركات الأمريكية والإنكليزية والفرنسية الكبرى ، ومن بينها الشركة الأمريكية ديبون دي نيمور وشركة أمبريال كميكالز. وقدم مصرف ديلون في نيويورك الإعلانات لصناعة الصلب ، وهناك صناعات مولت من طرف مورجان أو روكلفر، هكذا شارك الجنيه الإنكليزي والدولار الأمريكي في المؤامرة التي جاءت بهتلر إلى الحكم ، لكن مديري هذه الشركات لم يتم استجوابهم أمام محكمة نورمبوغ في إطار المؤامرة ضد السلام (46).
يقول المؤرخ دافيد إيرفينج : لقد شعر كبار القانونيين في العالم بالخجل من إجراءات نورمبرغ ، ولا شك أن القاضي روبيرت جاكسون الرئيس الأمريكي للادعاء كان يخجل من هذه الإجراءات ، وقد اتضح ذلك من مذكراته التي قرأتها (47).
إبادة الشعب الألماني
طلب لكيفتون فاديمان محرر مجلة نيويوركر الأسبوعية في عام 1942 من الكتاب خلق روح من الحقد الشديد ضد كل الألمان وليس فقط ضد زعماء الحزب النازي ، وأضاف : والطريقة الوحيدة لكي يفهمنا الألمان هي قتلهم . ونشر الأب ويب في جريدة الديلي تلغراف اللندنية مقالاً جاء فيه : إن كلمة السر يجب أن تكون القضاء عليهم ، ورغم أن رجل الدين لا ينبغي له أن ينزلق إلى مثل هذه العواطف ، إلا أنني صراحة لو استطعت لمحوت ألمانيا من خريطة العالم ، إنه جنس شيطاني كان لعنة على أوروبا طيلة قرون . ومنذ عام 1934 أعلن الزعيم الصهيوني فلاديمير جابوتنسكي : إن مصالحنا اليهودية تحتم القضاء النهائي على ألمانيا ، فالشعب الأماني في مجموعه يمثل لنا خطراً كبيراً ، وقال تشرشل في 16/5/1940 كما جاء في (بول بودوان ، تسعة أشهر في الحكومة 1948 ص 57) : سنجوع ألمانيا ، وسندمر مدنها ، وسنحرق محاصيلها وغاباتها ، وكتب تشرشل في تموز يوليه 1944 كما جاء في مجلة الإرث الأمريكي عدد آب وأيلول 1985 إلى رئيس أركانه هيستنجر مذكرة من أربع صفحات يقترح عليه فيها المشروع التالي : أود أن نفكر جدياً في مسألة الغازات الخانقة ، ونود أن نبحث بهدوء نتائج استخدام الغازات الخانقة هذه ، ولا ينبغي لنا أن نقف مكتوفي الأيدي بسبب مبادئ حمقاء . ولم يقف لا تشرشل ولا ترومان ولا ستالين في قفص الاتهام كمجرمي حرب ، كما لم يقف المنادون بأفظع الجرائم مثل تيودور كوفمان الأمريكي اليهودي الذي وجه في عام 1942 نداء الإبادة الفعلية ضمن كتابه : يجب إبادة ألمانيا ، وكذلك ما جاء في نداء الكاتب السوفياتي إيليا اهرنبورغ في عام 1944 : اقتلوا اقتلوا ، فلا أبرياء لدى الألمان ، لا بين الأحياء ولا بين من سيولدون ، ولم يقف تورمان في قفص الاتهام بإلقائه قنبلتين ذريتين على هيروشيما وناجازاكي ومصرع 300000 من الضحايا المدنيين دونما ضرورة عسكرية ، لأن تسليم اليابان قد قرره الإمبراطور (48).
إبادة اليهود المزعومة(/11)
كما سبق في هذه الدراسة ، فإن الصهيونية وظفت موضوع الإبادة في ابتزاز المليارات وتشويه التاريخ وتزوير الوقائع . ثم طاردت بالإعلام والقانون والإرهاب كل من يناقش هذا الموضوع ويكشف عن الحقائق ، حتى كممت أفواه المفكرين والسياسيين والمؤرخين ، سيما وقد بدأت تظهر التساؤلات عن عدد اليهود الذين كانوا يسكنون ألمانيا قبل الحرب العالمية الثانية ، وعن الستة ملايين الذين أبيدو من أين أتوا ، علماً أن جميع اليهود في ألمانيا كانوا أقل من ذلك بكثير، فتحرك اليهود ليستروا ذاك التزوير المفضوح ، وشرعوا يعدلون الأرقام المرة بعد المرة ، فقد نشرت جريدة (لوسوار بروكسل في 19 ـ 20/ 10/ 1991 ص 16) أن اللجنة الدولية في نوفمبر تشرين الثاني 1990 توخت استبدال اللوحة التذكارية في أوشفيتتز والتي تشير إلى 4 ملايين من الضحايا بأخرى تحمل عبارة أكثر من مليون قتيل ، ولكن الدكتور جولد شتين رئيس اللجنة اعترض على ذلك . والواقع أن الدكتور جولد شتين لم يعترض على ضرورة تغيير اللوحة القديمة ، ولكنه كان يرجو أن لا تحمل اللوحة الجديدة أي رقم ، لعلمه أنه قد يصبح من الضروري في زمن قصير إعادة النظر مرة أخرى في تخفيض الرقم المذكور (49). وفي (حوليات سيمون فيزنتال المجلد 3 ص 294 عام 1986) كتب راؤول هيلبرج في كتابه : القضاء على يهود أوروبا الذي صدرت طبعته الأولى عام 1961 ، أن هناك أمرين للإبادة صدرا عن هتلر، أحدهما في ربيع 1941 (دخول روسيا) ، والآخر بعد عدة شهور من هذا التاريخ ، ولكن في 1985 وفي الطبعة الثانية المنقحة حذفت جميع الإشارات إلى أوامر هتلر أو قراراته بشأن (الحل النهائي) بصورة منهجية . وكان هيلبوج في طبعة 1961 ذكر أن الأمر كان شفوياً وفي 31/7/1941 سأل هيدريش رئيس الغستابو غورنغ الزعيم النازي الشهير: في 1939 أعطيتني الأوامر باتخاذ التدابير المتعلقة بالمسألة اليهودية ، فهل علي الآن مد هذه المهمة التي أسندتموها إلي لتشمل الأراضي التي استولينا عليها في روسيا ؟ وهنا كذلك كما نرى ، لا شيء بخصوص قتل اليهود ، والأمر لا يتعلق إلا بنقلهم جغرافياً . وفي يناير كانون الثاني عام 1942 أبلغ رينهارد هيدريش رئيس الغستابو زعماء برلين أن الفوهرر قرر إجلاء كل اليهود نحو الأراضي الشرقية ، مستبدلاً بذلك عملية الإبعاد السابقة ، وفي المذكرة التي عممت في مارس آذار 1942 داخل مكتب هيدريش أبلغ الوزراء أن يهود أوروبا سيجري تجميعهم في الشرق انتظاراً لإرسالهم بعد الحرب إلى أرض نائية مثل مدغشقر لكي تصبح وطنهم القومي ، ويذكر بولياكوف (في ص 152 في محكمة القدس في باريس 1963) : أن مشروع مدغشقر وحتى التخلي عنه هو الذي كان يطلق عليه الزعماء الألمان اسم الحل النهائي للمسألة اليهودية (50).
وفي 10 شباط فبراير 1942 كتب مسؤول وزارة الخارجية الألمانية راد ماخير في رسالة رسمية يقول : بعد أن أتاحت لنا الحرب ضد الاتحاد السوفياتي الحصول على أراض جديدة للحل النهائي (51)، وعلى ذلك فقد قرر الفوهرر نقل اليهود نحو الشرق لا نحو مدغشقر، ومن ثم لم تعد هناك حاجة لاختيار مدغشقر للحل النهائي . وفي أثناء محاكمة أوشفيتز التي جرت في فرانكفورت في الفترة ما بين 20 ديسمبر كانون الأول 1963 وحتى 20 آب أوغسطس 1965 فإن محكمة الجنايات لم تستطع تفادي الاعتراف بأنها لا تملك سوى عناصر واهية لدعم حكمها ، ولم يتم التحقيق في الشهادات إلا في حالات نادرة كما جاء في الصفحة 109 من حيثيات الحكم . لقد كتب أحد القانونيين الأمريكان الذين أرسلوا إلى داخاو بعد أن أصبح معسكراً أمريكياً ومركزاً للمحاكمات ضد جرائم الحرب يقول : لقد عشت في داخاو حوالي 17 شهراً بعد الحرب كقاض عسكري للولايات المتحدة ، وأستطيع أن أشهد أنه لم يكن هناك أي غرف للغاز، وما يعرض على الزوار يقدم بطريقة خاطئة على أنه غرفة للغاز. وهذا ما نقله ستيفن بنتر في جريدة زائر الأحد الصفحة 15 تاريخ 14/6/1959 . ونظراً لانعدام أي دلائل خطية ووثائق لا يرقى إليها الشك ، فإن محكمة نورمبرغ قد قامت على شهادات أن الفارين الذين شهدوا على وجود غرف الغاز قاموا بذلك ليس على أساس ما شاهدوه ، ولكن على أساس ما سمعوه .
شهادة رودلف هيس(/12)
ومن الشهادات الواضحة اعترافات هيس التي أخذت منه بالضرب والإكراه ، فشهد أن 2,5 مليون يهودي أبيدو بالغاز أو الحرق . ونصف مليون ماتوا من الجوع أو المرض ليكون المجموع ثلاثة ملايين ، ويقول : تسلمت أمر إعداد الإبادة في أوشفيتز في يونيه حزيران 1941 ، وكان ثمة ثلاثة معسكرات أخرى للإبادة هي : بلزيك وتربلينكا وويلزيك ، ويشرح هيس نفسه ذلك قائلاً : كتبت الاعترافات الأولى تحت إشراف السلطات البولندية التي اعتقلتني . وفي كتاب السيرة الذاتية لرودولف هيس جاء ما يلي : أثناء استجوابي الأول : انتزعت الاعترافات مني بضربي ، ولا أعرف ما في هذا التقرير رغم أني قد وقعت عليه . ولم تتأكد عمليات التعذيب التي تعرض لها هيس للحصول على أدلة إلا في عام 1983 عندما كتب روبرت بتلر كتابه عن فيالق الموت الذي جاء فيه : لدى إلقاء القبض عليه ضرب ضرباً مبرحاً إلى درجة أن ضابط الصحة تدخل بإلحاح لدى الكابتن قائلاً له : قل له أن يوقف هذا الضرب ، وإلا فإننا لن نحصل إلا على جثة هامدة (52).
محاكمة أوشفيتز
إن مصير المتهم الرئيسي ريتشارد باير آخر قائد لمعسكر أوشفيتز الذي توفي قبل بدء المحاكمة جدير بالاهتمام ، فقد تم توقيفه في كانون الأول 1960 بالقرب من هامبورغ حيث كان يعمل ويعيش ، ثم مات في السجن بشهر حزيران يونيه عام 1963 في ظروف غامضة ، وطبقاً لمصادر عديدة رفض باير بعناد إثبات وجود غرف الغاز في القطاع الذي كان يشرف عليه ، ويقرر محامي نورمبرغ إبراهارد أنجلها ردت أن باير قد دس له السم أثناء التحقيق . وفي أغسطس آب 1960 أعلن معهد التاريخ المعاصر في ميونيخ للصحافة أن غرف الغاز لم تستكمل في داخاو ، ولم توضع موضع التنفيذ أبداً ، ومثل هذا الحديث جاء عن بولندا وليس عن ألمانيا بأي حال من الأحوال (53).
خرافة الستة ملايين
تعرف الإبادة الجماعية بأنها الإبادة المنظمة لمجموعة عرقية بالقضاء على أفرادها ، ولا ينطبق هذا التعريف حرفياً إلا على يشوع في غزوه لأرض كنعان (54).
كان هتلر يوجه إلى اليهود اتهامات متناقضة ، فهم في نظره من أنشط الحركيين في الثورة البلشفية (وتسكي وزينوفييف وكامنيف) وأنهم في الوقت ذاته من أشد الرأسماليين استغلالاً للشعب الألماني (55). وفيما يتعلق بمجموع اليهود الألمان ثم الأوروبيين ، فإن إحدى الأفكار البشعة للنازيين كانت تتمثل في تفريغ ألمانيا ثم أوروبا منهم ، وقد شرع هتلر في ذلك على مراحل ، الأولى : تنظيم تهجيرهم في ظروف تسمح له بسلب أموال الأغنياء منهم ، والثانية : الإبعاد بلا شروط إلى جيتو عالمي ، وهو جزيرة مدغشقر، وجرى التخلي عن هذا المشروع لضخامة العملية وصعوبتها في زمن الحرب ، أما الثالثة : فهي احتلال هتلر لشرقي أوروبا لاسيما بولندا ، والذي أمكن التوصل إليه بفضل الحل النهائي والذي يقضي بتفريغ أوروبا من اليهود ونقلهم بشكل مكثف إلى معسكرات خارجية (في أوروبا الشرقية) ذاقوا فيها أشد أنواع المعاناة والتعذيب ، بما في ذلك التجويع والسير الإجباري والمميت للضعفاء والأشغال الشاقة في ظروف لا إنسانية لخدمة المجهود الحربي . وهذه الإجراءات تشكل لطخة سوداء في تاريخ الحكم النازي ، من دون أن يلجأ اليهود إلى إضافة أساليب أخرى لا أصل لها ، وكذا المبالغة بأرقام مفرطة ، والاضطرار إلى تخفيضها لاحقاً ، وكذلك استبدال اللوحة التذكارية في معسكر بيركيلنو ـ أوشفيتز لتخفيض عدد الموتى من أربعة ملايين إلى مليون ، أو تغيير لوحة ـ غرفة الغاز في داخار للتوضيح بأنها لم تعمل أبداً ، أو تغيير لوحة (استاد الشتاء) في باريس للإشارة إلى أن عدد اليهود الذين اعتقلوا فيه كانوا 8160 وليس 30000 كما جاء في اللوحة الأصلية التي تم سحبها كما ذكرت اللموند في الصفحة 7 بتاريخ يوليه تموز 1990 (56).
وهناك مثال آخر مؤسف يخص معسكر داخاو، فالفيلم الذي عرض في نورمبرغ في أثناء المحاكمة بشأن فظاعات الحكم النازي أوضح وجود غرفة غاز واحدة فقط ، هي غرفة معسكر داخاو ، وقد نظمت الزيارات للسياح والطلبة حيث توجد اليوم لوحة تذكارية جاء فيها : إن أحداً لم يلق حتفه بالغاز، لأنها لم تستكمل أبداً ، وهذا ما أصدره مارتي بروزات عضو معهد التاريخ المعاصر في ميونيخ في 19 آب أغسطس 1960 واعترف فيه بأنه لم يحدث أن قتل اليهود أو المعتقلون الآخرون بالغاز في داخاو أو بريجن ـ بيلسن أو برشنفالد (57).
لقد تناقضت أبواق الحركة الصهيونية في ذكر الأرقام لقتلى اليهود من وسائل الإعلام المختلفة ، حتى غدت مصدر سخرية المؤرخين والباحثين بمن فيهم المنصفون من اليهود .
فيما يتعلق بمعسكر أوشفيتز ـ بيركينا وحده ، بلغت ضحايا اليهود تسعة ملايين وفقاً لفيلم الليل والضباب الذي أخرجه آلان رينيه المخرج الفرنسي عام 1955 ، وكان فيلماً رائعاً ومؤثراً .(/13)
ـ أصدر المكتب الفرنسي للنشر في الصحيفة السابعة عام 1945 أن عدد اليهود المبادين بلغ ثمانية ملايين وفقاً لوثائق خدمة تاريخ الحرب.
ـ بلغ عدد ضحايا اليهود أربعة ملايين طبقاً للتقرير السوفياتي الذي جعلت منه محكمة نورمبرغ دليل إثبات شرعي .
ـ جاء في الصفحة 498 من كتاب ترانيم الحقد المطبوع 1974 للمؤرخ اليهودي ليون بولياكون أن عدد ضحايا اليهود مليونان .
ـ أما المؤرخ اليهودي راؤول هيلبرج فيذكر في كتابه : تدمير يهود أوروبا الصادر عام 1985 الصفحة 895 أن عدد اليهود الذين أبادهم النازيون بلغ مليوناً وربع المليون .
والآن وبعد أبحاث تاريخية مطولة قام بها علماء من جنسيات مختلفة ، أوجز مدير معهد التاريخ المعاصر في باريس فرانسوا بيداريدا هذه الأعمال في مقال له صدر بجريدة لوموند وعنوانه : تقويم ضحايا أوشفيتز خلص فيه إلى أن عدد ضحايا معسكر أوشفيتز يتراوح بين 950000 على أقل تقدير ومليون ومائتي ألف على أكثر تقدير. وفي معسكر مجدانيك ذكر لوسي داود وفيتش في كتابه (الحرب ضد اليهود الصادر عام 1987 ، الصفحة 191) أن عدد ضحايا اليهود مليون ونصف ، وذكر وابرهارد في عام 1991 أن القتلى اليهود بلغوا 300 ألف ، أما راؤول هيلبرج فقد أورد في كتابه : تدمير يهود أوروبا أن عدد ضحايا مجدانيك بلغ خمسين ألفاً .
بعد حوالي خمسين عاماً استيقظ الكتاب والمؤرخون من السبات ، وفتحوا أعينهم على الحقيقة ، واكتشفوا أن موضوع المحرقة أو ما يسمى بالهولوكوست إنما هو أسطورة وخدعة ضلل فيها الصهاينة الرأي العام الدولي وبخاصة الشعوب الأوروبية ، فانبرى المفكرون لفضح هذا الزيف ، وشرعوا بالكشف عن الحقيقة .
في طليعة هؤلاء المؤرخ البريطاني ديفيد إيرفينغ الذي كانت كتبه تعتمد كمصادر للحرب العالمية الثانية ، مثل كتب : حرب هتلر وحرب تشرس وتدمير درسن ، قال المؤرخ ديفيد أنه من المستحيل أن يتم قتل ملايين الأشخاص في غرف الغاز، لأن وزن المليون شخص يبلغ مائة ألف طن ، مما يخلق مشاكل لوجستية وهندسية كبيرة للجبهة التي تريد قتل هذا العدد من الأشخاص . ويقول بأنه ينكر أن النازيين دمروا ملايين اليهود بالغاز، ويرى أن معسكر أوشفتيز كان معسكراً لعمال السخرة ، كما أن غرف الغاز في هذا المعسكر لم تكن حقيقية ، وإنما بناها البولنديون بعد انتهاء الحرب بثلاث سنوات ، واعترفوا بذلك عام 1995 . وبعد أن جهر ديفيد إيرفينغ برأيه وفي أعقاب نشره ، فتحت مراكز القوى الصهيونية في العالم النار عليه ، وحركوا ضده القضاء والإعلام ودور النشر والدوائر الأمنية ، واستمروا في ملاحقته لأكثر من عشرين عاماً ، وقد نشرت الكاتبة اليهودية ديبورا ليبستاد الأستاذة في إحدى الكليات الأمريكية كتابها (إنكار الهولوكوست ، الهجوم المتزايد على الحقيقة والذكرى) فرفض عدد من الناشرين طباعة كتبه أو إعادة طبعها ، وألغى ناشر أمريكي الاتفاق الذي وقعه معه على نشر كتابه عن غوبلز. فتقدم المؤرخ بشكوى ضد الكاتبة اليهودية وضد دار النشر، وذكر أمام المحكمة التي بدأت أولى جلساتها شهر شباط 2000 بأنهما ألحقا به ضرراً لأنه كان يحصل على أكثر من مائة ألف جنيه استرليني سنوياً من حقوق نشر كتبه ، وهذا توقف بعد نشر ديبور كتابها المذكور وأعطى صورة سيئة عنه .
ذكر أيرفينيغ أن المنظمات اليهودية استطاعت بنفوذها سن قوانين تمنع الإنسان من حق الكلام ، وقال : وأعرف أصدقاء لي سجنوا في ألمانيا بسبب ذلك ، وفي فرنسا قانون صدر 1991 (أسوأ مما صدر في ألمانيا) يجعل كل من يشكك في جرائم الحرب التي حددتها محكمة نورمبرغ مجرماً ويعاقب بالسجن أو الغرامة أو كليهما ، وهذا ما حصل للمفكر جارودي في فرنسا ، وكذلك لزميله الفرنسي فوريسن ، وأيضاً هذا ما واجهه الكاتب والمؤرخ آرثر أوتز صاحب كتاب : خدعة القرن العشرين الذي أنكر فيه وجود المحرقة ، واعتبرها خدعة ، واتهم آرثر اليهود باستغلال تعاطف الغرب معهم ليطردوا شعباً ويحلوا محله ، وينشئوا دولتهم على أرضه .
على أثر الهجوم المحموم من اللوبيات الصهيونية على المؤرخ البريطاني إيرفينغ بسبب آرائه قامت بعض الدول بمنعه من دخولها مثل ألمانيا وإيطاليا ونيوزلاندا . وفي إحدى المرات اقتيد في كندا من الطائرة مقيد اليدين ، وبعد سنة من البحث في أرشيف الحكومة الكندية تأكد بأنه تم تلفيق تهمة له بتسليم أموال من نازيين في جنوب أفريقيا ، وكان مصدر هذه التهمة جماعة يهودية مقرها في لندن (58).
فهل سبق هذا الإرهاب الصهيوني الدولي ضد رجال الفكر والمؤرخين الكبار أية مجتمعات بشرية أخرى في العصور الحديثة ؟
يتبع..
الهوامش:
(39) الأساطير ص 71 .
(40) الأساطير ص 76 ، 77 .
(41) الأساطير ص 78 .
(42) الأساطير ص 82 ، 84 .
(43) الأساطير ص 85 .
(44) الأساطير ص 85 ، 86 .
(45) الأساطير ص 95 ، 96 .
(46) الأساطير ص 97 .
(47) الأساطير ص 103 .
(48) الأساطير 99 ، 100 ، 101 .
(49) الأساطير ص 108 .(/14)
(50) الأساطير ص 111 ، 112 ، 113 .
(51) الأساطير ص 114 ، 115 .
(52) الأساطير ص 121 ، 122 .
(53) الأساطير ص 123 .
(54) الأساطير ص 139 .
(55) ليست مواقف اليهود متناقضة كما زعم هتلر، بل كان ذلك من تخطيط منهم ، لأنهم يركبون جميع الموجات ويوظفونها لصالح مشروعهم .
(56) الأساطير ص 145 ـ 147 .
(57) الأساطير ص 150 .
(58) الأساطير ص 147 ، 149 .
مع الأستاذ رجاء جارودي
في الحوار والأفكار
(3)
الأستاذ رجاء جارودي ...
بقلم : عدنان سعد الدين
المبحث الخامس
الوجود اليهودي في فلسطين
منذ أكثر من خمسة آلاف سنة استقرت الهجرات العربية في فلسطين ، ومنذ أكثر من أربعة عشر قرناً جاءها العرب المسلمون ليتسلموا مفاتيح القدس بحضور أمير المؤمنين الخليفة العادل عمر بن الخطاب ، الذي حضر إلى القدس لتدشين هذه المناسبة التي اشترط فيها المسيحيون على المسلمين أن لا يسمحوا لليهود بتعكير سلام القدس أو أمن فلسطين ، لهذا كان الوجود اليهودي في الأرض المقدسة قليلاً وضئيلاً ، بل أقل من قليل وأضأل من ضئيل على مدى أربعة عشر قرناً . ففي عام 1170 حضر السائح اليهودي بنيامين الطليطلي إلى فلسطين وزار القدس فلم يجد من اليهود سوى 1440 يهودياً في جميع أنحاء فلسطين حسب روايته . وفي عام 1257 زار القدس ناحوم جيروندي فلم يلق سوى عائلتين من اليهود في القدس .
مع ذلك ، إذا كان الصليبيون قد أبادوا اليهود في معبدهم عندما استولوا على القدس عام 1099 م ، فإن صلاح الدين الأيوبي رحمه الله قد سمح لليهود بالعودة إلى سكناهم في فلسطين بعد استرداده للقدس في عام 1187 . وفي عام 1845 لم يكن في فلسطين من اليهود إلا 12000 نسمة من مجموع السكان البالغ 350000 أي أقل من 4% . وفي عام 1880 كان عدد اليهود 25000 من مجموع السكان البالغ 500000 أي 5% بعد تنشيط الهجرة ووصول عدد من المهاجرين إلى فلسطين ، لاسيما بعد اضطهاد اليهود في روسيا عام 1882 التي كانت السبب في نزوح عدد من يهود روسيا إلى فلسطين ، تبعتها موجات من يهود بولونيا ورومانيا (59).
وبعد المؤامرة الكبرى على فلسطين بوعد بلفور، وتسليم فلسطين للإنكليز باسم الانتداب ، وتعيين صموئيل اليهودي مفوضاً سامياً على فلسطين ، واستخدامه صلاحيات واسعة وقاسية لتمكين اليهود من فلسطين ، بفتح باب الهجرة على مصراعيه ، وتمليك الأرض للوافدين بطرق شتى ، ازداد عدد اليهود زيادة ملموسة ، ووقع سكان فلسطين بين السندان والمطرقة فقام الإنكليز بإجراء إحصاء في 31/12/1922 ، وأعلنوا عدد سكان فلسطين 757000 منهم 663000 من العرب و83000 يهودي أي حوالي 12,3 %، وذلك بعد خمس سنوات من الانتداب وموجات الهجرة الأولى من أوروبا لاسيما من الذين نجوا من المذابح في روسيا وبولونيا ورومانيا (60).
إذا كان عدد اليهود عام 1880 قد وصل إلى 25000 من عدد السكان البالغ 500000 فإن العدد ارتفع إلى 50000 عام 1917 . لكن أكبر مجموعة كانت الموجة التي وصلت من ألمانيا بسبب معاداة هتلر لليهودية . إذ وصل إلى 400000 يهودي إلى فلسطين قبيل عام 1945 ، ولم يحل عام 1947 عشية الإعلان عن إنشاء الدولة اليهودية حتى كان عدد اليهود 600000 من مجموع السكان الكلي في فلسطين البالغ مليوناً وربع مليون نسمة .
بعد ما افتضحت المؤامرة بكل أركانها ضد شعب فلسطين ، وكانت بريطانيا رأس الحربة في تنفيذ هذه الجريمة اللئيمة ، وتبعتها بعد ذلك أمريكا وفرنسا والاتحاد السوفياتي ومعظم دول أوروبا ، وجميعهم حكموا بإعدام أبناء فلسطين على مذابح المطامع الصهيونية . وبعد تنفيذ هذه الجريمة الدولية بدأت عملية الاجتثاث المنظم للشعب الفلسطيني المنكوب بلؤم الصهيونية وأحقاد عدد من الدول الغربية الكبرى . وبعد أن كان عدد الفلسطينيين 650000 في عام 1949 لم يبق منهم سوى 160000 بعد نزوحهم إثر المذابح المرعبة التي أوقعها بهم الصهاينة من أعضاء المنظمات الإرهابية . لكن وبسبب الخصوبة وكثرة المواليد ارتفع عدد الفلسطينيين إلى 450000 في نهاية عام 1970 (61). وكشفت رابطة حقوق الإنسان في إسرائيل أنه في الفترة من 11/6/1967 وحتى 15/11/1969 دمر اليهود 20000 منزل بالديناميت في إسرائيل وفي الضفة الغربية ، ورغم أن اتفاقية جنيف الصادرة في 12/8/1949 والتي تنص المادة 49 منها على أنه لا تستطيع القوى المحتلة القيام بأي نقل لجزء من سكانها المدنيين إلى الأراضي التي تحتلها ، وحتى هتلر لم ينتهك القانون الدولي ، فهو لم يسكن أي مستوطن مدني ألماني في الأراضي التي طرد منها الفلاحين الفرنسيين (62).
تدمير القوى العربية(/15)
ولتزوير الجغرافيا كما زوروا التاريخ ، ولمحو ذكرى وجود السكان الزراعيين والتأكيد على أسطورة (بلد صحراوي بلا شعب) دمرت الدولة الإسرائيلية وليست المنظمات الصهيونية فقط معظم القرى العربية ومحتها من الوجود ، وأزالت منازلها وأسوارها وحتى مقابرها وقبورها ، وقد أورد الأستاذ إسرائيل شاحاك عام 1975 قائمة بأسماء 385 قرية عربية دمرت بالبلدوزر، وذلك من بين 475 قرية كانت مسجلة في عام 1948 ، وقال شاحاك كما أورد في كتابه : (عنصرية دولة إسرائيلية ص 152 وما بعدها) : وليتسنى الإقناع بأن فلسطين قبل إسرائيل لم تكن سوى صحراء دكت مئات القرى ، وسويت بالأرض ، واستمر زرع المستوطنات الإسرائيلية ، وتسليح اليهود ، وازداد عددها منذ عام 1979 في الضفة الغربية مع تسليم للمستوطنين ، وبعد طرد ما مجموعه مليون ونصف مليون فلسطيني أصبحت الدولة اليهودية كما يقول العاملون في الصندوق القومي اليهودي تمثل 93% من فلسطين بعد أن كانت 6,5 % عام 1948 (63).
وكل من رفع إصبعه أو صوته أو احتج على هذه المظالم الرامية إلى إفناء الشعب ومصادرة وطنه وتغيير تاريخه وجغرافيته ، كان مصيره القتل والاغتيال على سمع الدنيا وبصرها ؟ فالوسيط الدولي الكونت فولك برنادوت الذي وصف في تقريره الأول السلب الصهيوني على النطاق الواسع وتدمير القرى دون ضرورة عسكرية ملحة ، اغتيل في 17/9/1948 بعد يوم واحد من تقديم تقريره في 16/9/1848 ، كما قتل مساعده الفرنسي الكولونيل سيرو في الجزء الذي يحتله الصهاينة في القدس . ومن قبل عندما أعلن اللورد موين الوزير المفوض البريطاني في القاهرة أمام مجلس اللوردات البريطاني في 9/6/1942 أن اليهود ليسوا أحفاد العبرانيين القدماء ، وأنهم لا يملكون المطالبة الشرعية بالأراضي المقدسة ، قام اثنان من عصابة شتيرن التابعة لإسحاق شامير باغتياله في 9/11/1944 (64)!!
المبحث السادس
النفوذ الصهيوني في أمريكا
اللوبي الصهيوني كالإعصار المتحرك ، يلف كل ردح من الزمان بلداً ، فقد سيطر اليهود في ألمانيا لفترة طويلة منذ القرن الثامن عشر، وكان روتشيلد وعائلته يهيمنون على الحياة الاقتصادية ، ويملكون القناطير المقنطرة من المعادن الثمينة ، ثم تحول الإعصار فترة أخرى إلى إنكلترا ثم فرنسا ، لكنه وجد مقامه في إسبانيا ، وأخيراً وجد في أمريكا - ذات الثراء الفاحش والثروات الأسطورية - ضالته ، فرمى بثقله على أرض الولايات المتحدة ، وبخاصة مدينة نيويورك ، فسيطر على المال والإعلام والسياسة والسلطات النافذة ، حتى غدت السياسة الأمريكية التي تمثلها الخارجية والمخابرات ومجلس الأمن القومي تحت الهيمنة الصهيونية ، وطوع بنانها ، تتخذ القرارات والمواقف المخجلة في المحافل الدولية بطلب من اليهود وتأثير اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة الأمريكية .لقد ذكر بول فندلي في الصفحة 92 من كتابه : يتجرأون على الكلام : إن تأثير رئيس الوزراء الإسرائيلي على السياسة الخارجية للولايات المتحدة في الشرق الأوسط يفوق بكثير تأثيره في بلده ، وأقوى لوبي معترف به في الولايات المتحدة هو إيباك (لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية).
لقد قامت إنكلترا بتأسيس الدولة الصهيونية ، وأكملت الولايات المتحدة الأمريكية بناءها ، كان تآمر الإنكليز في ضياع فلسطين خسيساً ، فعندما شرح وايزمن بوضوح للحكومة البريطانية أن هدف الصهيونية هو إنشاء دولة يهودية (بها أربعة أو خمسة ملايين يهودي) أعطاه لويد جورج وبلفور التأكيدات على أننا باستخدام وطن قومي فإننا نقصد بذلك دولة يهودية . أكمل الأمريكان بحماسة فائقة وعمل دؤوب تنفيذ المؤامرة في سرقة فلسطين من أهلها وإعطائها لليهود بعد تفريغها من شعبها بالقتل أو الطرد أو بأي أسلوب آخر، والعجيب أن يهود أمريكا الذين ساندوا الصهيونية أكثر من غيرهم فضلوا بقاءهم في أمريكا على الذهاب إلى فلسطين ، واعتبروا نشاطهم في الولايات المتحدة في صالح إسرائيل نفسها ، فلم يستقر في إسرائيل منهم سوى 5400 يهودي من 35000 أمريكي وكندي هاجروا إلى إسرائيل ، ثم عادوا من حيث أتوا ، كما جاء في كتاب اليهودية الأمريكية وإسرائيل ص 265 نيويورك 1987 للكاتب ملفين روفيسكي (65) .
الرؤساء الأمريكيون في خدمة إسرائيل(/16)
يظن عدد من الساسة العرب أن بعض الرؤساء في الولايات المتحدة الأمريكية كانوا معتدلين تجاه الأطماع الصهيونية ، وربما رجحوا أن كنيدي ونيكسون من هؤلاء . والحقيقة ، وكذا الدراسات التي تعمقت في مواقف الرؤساء الأمريكان ، وأحاطت بالكثير من التفصيلات أثبتت أن جميع الرؤساء وقفوا مع إسرائيل في كل مطامعها واعتداءاتها ،بدافع من التسابق إلى كسب أصوات اليهود الأمريكان في الانتخابات الرئاسية ، أو بتأثير الضغوط واللوبيات الصهيونية ذات السطوة والنفوذ الواسعين في المجتمع الأمريكي . وهذا ما جعل الرؤساء مقيدين لا يستطيعون اتخاذ المواقف الصحيحة والعادلة في أي ظرف ، وإذا ما حاولوا أن يبدوا بعض الاعتدال ، سرعان ما يتراجعون أمام الأخطبوط الصهيوني وبما يملكه من سيطرة سياسية وإعلامية وأمنية في طول الولايات المتحدة وعرضها . وفي أول مقابلة لكيندي مع بن غوريون في فندق وولدروف استوريا في نيويورك في ربيع 1961 ، قال كيندي لابن غوريون كما ذكر ادوارد تيفنان في اللوبي ص 56 : أعرف تماماً أنني انتخبت بفضل أصوات اليهود الأمريكيين ، وأنا أدين لهم بانتخابي ، قل لي ماذا علي أن أفعله من أجل الشعب اليهودي . وعندما حضرت جولدا مائير إلى الولايات المتحدة عام 1979 شبهها نيكسون بديبور التوراتية ، وكال لها المديح على ازدهار إسرائيل ، كما ذكر ستيفن سبيجل في الصفحة 185 من كتابه : النزاع العربي الإسرائيلي الآخر، الصادر سنة 1985 ، ونيكسون هذا هو الذي سلم إسرائيل 45 طائرة فانتوم إضافية ، إلى جانب 80 مقاتلة سكاي هوك (66).
ضخامة المساعدات الأمريكية
كشف بنحاس سابير عندما كان وزيراً لمالية إسرائيل أثناء مؤتمر أصحاب الملايين اليهود المنعقد في القدس يومي 9 و 10/8/1967 أن إسرائيل قد تلقت ما بين 1949 ـ 1966 سبعة مليارات من الولايات المتحدة ، بينما كانت المعونة لأوروبا من 1948 ـ 1954 وفقاً لخطة مارشال 13 ملياراً ، وهذا يعني أن إسرائيل قد حصلت لشعبها الذي كان عدده دون المليونين في ذلك الوقت على أكثر من نصف ما حصل عليه مائتا مليون أوروبي أي مائة ضعف للفرد الواحد من سكانها (67).
وكان متوسط المعونة الأمريكية التي حصلت عليها البلدان النامية من 1951 ـ 1959 لم يتجاوز ثلاثة مليارات إلا قليلاً ، في حين حصلت إسرائيل ـ وكان عدد سكانها 1,5 مليون ـ على 400 مليون دولار، أي أن إسرائيل التي يبلغ عدد سكانها واحداً بالألف من سكان الدول النامية الإجمالي قد حصلت على عشر المجموع . ليكون حظ الفرد الإسرائيلي مائة ضعف أكثر مما حصل عليه الفرد في العالم الثالث البالغ تعداده ملياري نسمة .
إن مليارات الدولارات السبعة التي تلقتها إسرائيل في 18 سنة كهبة تمثل أكبر إجمالي الدخل القومي السنوي لمجموع البلدان العربية المجاورة لإسرائيل ، وهي : مصر وسورية ولبنان والأردن الذي بلغ في عام 1965 ستة مليارات دولار أمريكي (68).
يتبع ..
الهوامش:
(59)جريدة الدستور الأردنية العدد 11668 ص 33 في 2/2/2000 الموافق 27 شوال 1420 هـ .
(60)المأزق ص 50 .
(61)المأزق ص 55 .
(62)زاد عدد الفلسطينيين في أراضي عام 1948 فقط إلى أكثر من مليون فلسطيني ، فإذا أضفنا إليهم عدد سكان غزة والقطاع يكون العدد قد ارتفع إلى حوالي أربعة ملايين فلسطيني في جميع فلسطين .
(63)الأساطير ص 164 ، 165 ، 167 .
(64)الأساطير ص 163 .
(65)الأساطير ص 158 ، 159 .
(66)الأساطير ص 171 ـ 173 .
(67)الأساطير ص 174 ، 175 ، 176 .
(68)المأزق ص 211 .(/17)
مع الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله
أ.د/محمد أديب الصالح
رئيس تحرير مجلة حضارة الإسلام
الزم التقوى قلبك...
حدث علي بن المديني قال: قال لي أحمد بن حنبل:
- إني لأحب أن أصحبك إلى مكة، وما يمنعني من ذاك إلى أني أخاف أن أملك أو تملني.
قال: فلما ودعته قلت له:
- يا أبا عبد الله توصيني بشيء؟
قال: ألزمِ التقوى قلبك وانصب الآخرة أمامك.
العالم الرباني
حدث صالح بن أحمد بن حنبل قال: دخلت على أبي في أيام الواثق –والله يعلم في أي حالة نحن- وقد خرج لصلاة العصر، وقد كان له لبد يجلس عليها، قد أتت عليه سنون كثيرة حتى قد بلي، فإذا تحته كتاب كاغد، وإذا فيه:
(بلغني يا أبا عبد الله ما أنت فيه من الضيق، وما عليك من الدَّين، وقد وجهتُ إليك بأربعة آلاف درهم على يدي فلان لتقضي بها دينك، وتوسع بها على عيالك، وما هي من صدقة ولا زكاة، وإنما هو شيء ورثته من أبي).
فقرأت الكتاب ووضعته. فلما دخل قلت: يا أبت ما هذا الكتاب؟
فاحمر وجهه وقال: رفعته منك. ثم قال: تذهب بجوابه، فكتب إلى الرجل:
(وصل كتابك إليَّ ونحن في عافية، فأما الدَّين: فإنه لرجل لا يرهقنا، وأما عيالنا: فهم في نعمة والحمد لله).
فذهبت بالكتاب إلى الرجل الذي كان أوصل كتاب الرجل، فقال:
- ويحك لو أن أبا عبد الله قبل هذا الشيء ورمى به مثلاً في دجلة كان مأجوراً، لأن هذا رجل لا يعرف له معروف.
فلما كان بعد حين ورد كتاب الرجل بمثل ذلك، فردّ عليه الجواب بمثل ما ردّ، فلما مضت سنة أو أقل أو أكثر ذكرناها فقال: لو كنا قبلناها كانت قد ذهبت.
* مجلة حضارة الإسلام –السنة 8 –العدد 9 –ذو القعدة/387 –شباط/ 1968(/1)
مع الحسين بن علي في كربلاء
د.خالد بن سعود الحليبي 9/1/1426
18/02/2005
في مطلع كل عام هجري، يتذكر المسلمون أحداثاً جِساماً؛ على رأسها الهجرة العظيمة التي غيّرت مجرى التاريخ، وذكرى انتصار موسى صلى الله عليه وسلم على فرعون، فيكون شهر الله المحرم مصدر اعتزاز للمسلمين وفرحة بانتصار الخير على الشر، ولذلك أُمِر المسلمون بأن يصوموا اليوم العاشر منه شكراً لله تعالى، ويوماً قبله أو بعده مخالفة لليهود الذين يصومونه وحده.
وكان لهذا اليوم قداسة حتى عند المشركين، فقد روى البخاري عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ قُرَيْشًا كَانَتْ تَصُومُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ثُمَّ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصِيَامِهِ حَتَّى فُرِضَ رَمَضَانُ ، َقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم:َ "مَنْ شَاءَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ شَاءَ أَفْطَرَ". وفي حديث آخر أنه كان يوماً " تُسْتَرُ فِيهِ الْكَعْبَة".
ولكن محرم، وعاشوراء يذكر المسلمين كذلك بحادثة جلل، لا تهون في قلوب المؤمنين، هي حادثة استشهاد الإمام الحسين بن علي -رضي الله عنهما- في كربلاء، ولولا أننا سمعنا أُمَّ عَطِيَّةَ قَالَتْ: كُنَّا نُنْهَى أَنْ نُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ إِلاَّ عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، وتعزو ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لكان مثل الحسين يستحق استمرار الحداد عليه أبد الدهر، بل إنّ جدّ الحسين أولى منه بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم.
إن ذكرى استشهاد الحسين بن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- لجديرة بالبسط والتأسي، دون أن نسمح لألسنتنا بالخوض في أقدار الصحابة والتابعين الذين حضروا تلك الفتن العظيمة، وكانت لهم مواقفهم والظروف التي أحاطت بهم، التي لا ندري ـ معها ـ لو كنا معهم ماذا كنا سنصنع؟ وإن دماء سلم الله أيدينا منها نريد أن تسلم ألسنتنا منها، (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [سورة البقرة: 134] ، ولا أريد بهذه الخطبة إلا ذكر ما تدعو الحاجة لمعرفته من شأن هذا العَلَم الذي لا ينبغي أن يُقابل الغلوّ في حبّه عند قوم بالجفاء عند آخرين، حتى بلغ الأمر أن يُهجر اسم الحسين أو يُنسى فضله، وهو من هو في القدر والمكانة في نفس رسولنا صلى الله عليه وسلم، ولو أنه اكتفى بشرف كونه من آل بيت رسول الله الطاهرين، لكفاه شرفاً، (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) [سورة الأحزاب:33].
بلى إن حبّه دين وعبادة يُرجى بها رضا الله تعالى وثوابه.
فمع الحسين بن علي بن أبي أطالب، ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم نقضي الدقائق الغوالي من هذا اليوم المبارك..
الحسين بن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب الهاشمي القرشي، سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم وريحانته، وشبيهه في الخَلْق من الصدر إلى القدمين، أبوه أمير المؤمنين علي، وأمه فاطمة الزهراء بنت رسول الله r، وكنيته أبو عبد الله ولقبه الشهيد، وهو أحد سيدي شباب أهل الجنة مع أخيه الحسن.
ولد في المدينة المنورة في شعبان في السنة الرابعة للهجرة، وعقّ عنه جدّه رسول الله عليه السلام، كما عقّ عن أخيه الحسن من قبل، وقال فيهما: "هما ريحانتايَ من الدنيا" رواه البخاري. وعن جابر أنه قال: وقد دخل الحسين المسجد: "من أحب أن ينظر إلى سيّد شباب أهل الجنة فلينظر إلى هذا" سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ( 1).
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يحبه ويلاعبه ويقول عنه: "حسين سبط من الأسباط، من أحبني فليحبّ حسيناً" وفي رواية: "أحبّ الله من أحبّ حسيناً" أخرجه ابن ماجه وأحمد والترمذي وحسّنه وصحّحه الحاكم ووافقه الذهبي.(/1)
عاش الحسين طفولته وصدر شبابه في المدينة المنورة، وتربّى في بيت النبوة ثم في بيت والده، وفي حلقات العلم في المسجد النبوي الشريف على الأخلاق الفاضلة والعادات الحميدة، أُثر عنه أنه حج خمساً وعشرين حجة ماشياً، وشهد سنة 35هـ مبايعة والده الإمام علي بالخلافة ثم خروجه معه إلى الكوفة، وشهد معه موقعة الجمل ثم صفين، ثم قتال الخوارج، وبقي معه حتى استشهاده سنة 40هـ، فأقام مع أخيه الحسن في الكوفة إلى أن تنازل الحسن عن الخلافة، وسلم الأمر إلى معاوية بن أبي سفيان، وهو ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم ، فعن أَبي بَكْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّي فَإِذَا سَجَدَ وَثَبَ الْحَسَنُ عَلَى ظَهْرِهِ وَعَلَى عُنُقِهِ فَيَرْفَعُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَفْعًا رَفِيقًا لِئَلَّا يُصْرَعَ قَالَ فَعَلَ ذَلِكَ غَيْرَ مَرَّةٍ فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ رَأَيْنَاكَ صَنَعْتَ بالْحَسَنِ شَيْئًا مَا رَأَيْنَاكَ صَنَعْتَهُ قَالَ إِنَّهُ رَيْحَانَتِي مِنَ الدُّنْيَا وَإِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ وَعَسَى اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ *رواه أحمد.
وكان الحسين لا يعجبه ما عمل أخوه، بل كان رأيه القتال؛ لأنه يرى أنه الأحق بالخلافة، ولكنه أطاع أخاه الذي كان يرى ـ كذلك ـ أحقّيته بالخلافة ولكنه آثر حقن دماء المسلمين، وبايع الحسين معاوية، ورجع معه إلى المدينة وأقام معه إلى أن مات معاوية سنة60هـ.
ولما تولى يزيد بن معاوية الخلافة، بعث إلى واليه على المدينة الوليد بن عتبة ليأخذ البيعة من أهلها، فامتنع الحسين عن البيعة، وخرج إلى مكة وأقام فيها، ثم أتته كتب أهل الكوفة في العراق تبايعه على الخلافة وتدعوه إلى الخروج إليهم، فأرسل إليهم ابن عمه مسلم بن عقيل بن أبي طالب ليأخذ بيعتهم فطالت غيبة مسلم وانقطعت أخباره، فتجهز الحسين مع جملة من أنصاره للتوجه إلى العراق، ونصحه بعض أقاربه وأصحابه بالبقاء في مكة وعدم الاستجابة لأهل العراق، ومنهم عبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن جعفر، وجابر بن عبد الله، كما كتبت إليه إحدى النساء وتسمى (عمرة) تقول: حدثتني عائشة أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يقتل الحسين بأرض بابل" فلما قرأ كتابها قال: "فلا بد إذاً من مصرعي"، وخرج بمن معه متوجّهاً إلى العراق وفي الطريق قريباً من القادسية لقيه الحر بن يزيد التميمي فقال له: ارجع فإني لم أدع لك خلفي خيراً.
وأخبره أن عبيد الله بن زياد والي البصرة والكوفة قتل مسلم بن عقيل، فهم الحسين أن يرجع ومعه إخوة مسلم فقالوا: "والله لا نرجع حتى نصيب بثأرنا أو نُقْتَل" فتابع سيره حتى وصل إلى منطقة الطفّ قرب كربلاء، وكان عدد ما معه من الرجال (45) فارساً ونحو (100) راجل إضافة إلى أهل بيته من النساء والأطفال، حيث إن أهل الكوفة خذلوه ولم يوفوا بوعودهم لنصرته، فالتقى بمن معه بجيش عبيد الله بن زياد بقيادة عمر بن سعد بن أبي وقاص، وكان معه أربعة آلاف فارس، وجرت بينهما مفاوضات لم تسفر عن اتفاق، فهاجم جيش ابن زياد الحسين ورجاله، فقاتل الحسين ومن معه قتال الأبطال واستشهد الحسين ومعظم رجاله، ووُجد في جسده ثلاثة وثلاثون جرحاً، وكان ذلك في يوم عاشوراء من عام (61هـ) رحمه الله ورضي عنه ، ورثاه الشعراء على مر القرون ، ومن ذلك ما قاله الشاعر عبدالله بن عوف بن الأحمر :
صحوت وودعت الصبا والغوانيا ... ...
وقلت لأصحابي: أجيبوا المناديا
و قولوا له إذ قام يدعو إلى ... ...
قبيل الدعا: لبيك لبيك داعيا
ألا و انع خير الناس جدا و ... ...
حسيناً لأهل الدين إن كنت ناعيا
ليبك حسيناً مرمل ذو خصاصة ... ...
عديم و أيتام تشكى المواليا
فأضحى حسين للرماح دريئة ... ...
وغودر مسلوباً لدى الطفّ ثاويا
ليبك حسيناً كلما ذرّ شارق ... ...
وعند غسوق الليل من كان باكيا
لحا الله قوماً أشخصوهم و ... ...
فلم ير يوم البأس منهم محاميا
و لا موفياً بالعهد إذ حَمِيَ ... ...
ولا زاجراً عنه المضلين ناهيا
فيا ليتني إذ ذاك كنت شهدته ... ...
فضاربت عنه الشانئين الأعاديا
و دافعت عنه ما استطعت ... ...
و أعملت سيفي فيهم و سنانيا
فيا أمة تاهت و ضلت سفاهة ... ...
أنيبوا فأرضوا الواحد المتعاليا
ويروى أن قاتله هو سنان بن أبي سنان النخعي، وأن خولي بن يزيد الأصبحي هو الذي أجهز عليه واجتزّ رأسه، وقُتل مع الحسين سبعة عشر رجلاً من أهل بيته، منهم إخوته الأربعة، رحمهم الله جميعاً.(/2)
ويروى أنه لما ورد رأس الحسين إلى يزيد بن معاوية ومعه جماعة من أهل البيت وجلّهم من النساء، قال يزيد: كنت أرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين، فقالت سكينة بنت الحسين: يا يزيد أبنات رسول الله سبايا؟ قال: يا ابنة أخي هو والله أشدُّ عليَّ منه عليك، وقال كلاماً يشتم فيه عبيد الله بن زياد [ ولعل منه ما رواه يونس بن حبيب : أن يزيد كان يقول: وما عليّ لو احتملت الأذى وأنزلت الحسين معي، وحكّمته فيما يريد، وإن كان علي في ذلك وهن، حفظاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم ورعاية لحقه، لعن الله ابن مرجانة ـ يعني عبيد الله ـ فإنه أحرجه واضطره، وقد كان سأل أن يخلي سبيله أن يرجع من حيث أقبل، أو يأتيني، فيضع يده في يدي، أو يلحق بثغر من الثغور، فأبى ذلك عليه وقتله، فأبغضني بقتله المسلمون، وزرع لي في قلوبهم العدواة" ( ). ثم قال: رحم الله حسيناً لَودِدت أن أُتيت به سِلمًا.
ثم أمر بالنساء فأدخلن على نسائه، وأمر آل أبي سفيان فأقمن المأتم على الحسين ثلاثة أيام، ثم أمر بتجهيز نساء آل البيت وإعادتهن إلى المدينة معزّزات.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم بأن ابنه وحبيبه سوف يقتل على يد مسلمين، فقد روى أبو أمامة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لنسائه: "لا تُبَكُّوا هذا" يعني حسيناً، فكان يوم أم سلمة، فنزل جبريل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأم سلمة : لا تدعي أحدا يدخل، فجاء حسين فبكى، فخلته يدخل، فدخل حتى جلس في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال جبريل: إن أمتك ستقتله، قال يقتلونه وهم مؤمنون؟ قال : نعم ، وأراه تربته. إسناده حسن كما قال الإمام الذهبي.
وقد بقي هذا اليوم دامياً في قلوب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لم ينسوه لأهل العراق الذين حضروا مصرع الحسين دون أن يدافعوا عنه، ففي البخاري عَنِ ابْنِ أَبِي نُعْمٍ قَالَ كُنْتُ شَاهِدًا لِابْنِ عُمَرَ وَسَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ دَمِ الْبَعُوضِ فَقَالَ مِمَّنْ أَنْتَ؟ فَقَالَ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ قَالَ انْظُرُوا إِلَى هَذَا يَسْأَلُنِي عَنْ دَمِ الْبَعُوضِ وَقَدْ قَتَلُوا ابْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ هُمَا رَيْحَانَتَايَ مِنَ الدُّنْيَا*.
وأما عن علاقته بعمر بن الخطاب وعمرو بن العاص ممن يظن بعضهم أنه كان بينهم ما يسوء، فقد روى الإمام الذهبي أخباراً عديدة أسانيدها صحيحة، تدل على مكانة خاصة للحسين في قلب عمر رضي الله عنه، منها، أنه قال له: "أي بني وهل أنبت على رؤوسنا الشعر إلا الله ثم أنتم، ووضع يده على رأسه، وقال: أي بني! لو جعلت تأتينا وتغشانا". وكان يفرض له خمسة آلاف مثل أبيهم رضي الله عنه، وحين كسا أبناء الصحابة لم يجد ما يناسب الحسنين، فبعث إلى اليمن فأتي بكسوة لهما، فقال: الآن طابت نفسي. وبينا عمرو بن العاص رضي الله عنه في ظل الكعبة إذ رأى الحسين فقال: هذا أحب أهل الأرض إلى أهل السماء اليوم.
اللهم إنا أحببنا الحسن والحسين وأمّهما وأباهما وعِترتهما الصالحة؛ لحبّنا لنبيك صلى الله عليه وسلم فاجعلنا يوم القيامة مع من أحببْنا.
اللهم صلّ وسلم عليهم جميعاً، وصلّ وسلّم على نبيك محمد خاصة، وعلى آله أجمعين وصحابته والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
(1) ذكره الهيثمي في المجمع 9/187 ونسبه إلى أبي يعلى وليس لأحمد ، وقال: رجاله رجال الصحيح غير الربيع بن سعد وهو ثقة.(/3)
مع الرجل العظيم الداعية الرباني الشيخ محمد الحامد رحمه الله
أ.د/محمد أديب الصالح
رئيس تحرير مجلة حضارة الإسلام
لقد اختار الله إلى جواره خلال الأيام القريبة الماضية الشيخ محمد الحامد أجزل الله له المثوبة، ويلاحظ –ولله الفضل والمنة- أنه سبحانه قد أكرم هذا العلم من أعلام الإسلام، بأن جمع له بين العلم النافع، والعمل بهذا العلم، والاستقامة على العبادة، والورع في الدين، فهو عالم عامل عابد زاهد، مجاهد، يخشى الله واليوم الآخر، وإذا كان فضل العالم على العابد كفضل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أدنى أصحابه، فما بالك بمن أكرمه الله بالعلم والعمل والعبادة والصدع بالحق والزهد في الدنيا والخشية الصادقة لله عز وجل؟!
عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: "ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان: أحدهما عابد، والآخر عالم، فقال عليه أفضل الصلاة والسلام:
فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم.
ثم قال صلى الله عليه وسلم:
إن الله وملائكته وأهل السموات والأرض، حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت ليصلون على معلم الناس الخير".
رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح
يبعث أمةً وحده
إنا لا نتألى على الله عز وجل، ولكننا بما عرفنا بيقين لا يعتوره شك، نحتسب أن يكون رحمه الله في عداد أولئك الذين عناهم قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه:
"ألا أخبركم عن الأجود الأجود، الله هو الأجود، وأنا أجود ولد آدم، وأجودكم من بعدي رجل علم علماً فنشر علمه، يبعث يوم القيامة أمةً وحده، ورجل جاد بنفسه لله عز وجل حتى يقتل".
أخرجه أبو يعلى والبيهقي
مصاب الأمة ورفع العلم..
لقد ذعرت الأمة بوفاة هذا الرجل الذي قضى في سبيل الإسلام -وأعني هنا أولئك الذين يدركون معنى المصاب بموت العالم العامل الزاهد في الدنيا المجاهد في سبيل إعلاء كلمة الله- لقد ذعرت الأمة وحق لها ذلك في وقت يعز فيه العاملون الزاهدون المستعلون على الحطام، الذين يخشون الله فيما يحملون من أمانة العلم، وتبليغها للناس عن بصيرة وتحقيق وتقوى لله عز وجل، أفلا يسوغ لجيلنا الحاضر أن يخاف أن يصدق فيه ما بين رسول الله صلى الله عليه وسلم من رفع العلم بقبض العلماء؟؟.
فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا".
أخرجه البخاري ومسلم والترمذي
نعم يحق لنا أن نخاف... وإن كان الشيخ –رحمه الله تعالى وجزاه عن المسلمين خير الجزاء- بما أدى من أمانة نشر العلم بأمانة وإخلاص يقل نظيرهما، وبسلوكه الذي كان مثلاً كريماً يحتذى، قد ترك –والحمد لله- من نأمل أن تفيد الأمة من علمهم وعملهم وخشيتهم لله بما رباهم عليه من التحقيق والورع والعمل الجاد إن شاء الله.
أحب لقاء الله فأحب الله لقاءه
إن كل الذين صحبوا الشيخ الحامد رحمه الله بصدق، يعلمون أنه كان في مرضه الذي عانى منه سنين حيث أرهقه الجهد الدائب علماً وتعليماً وخطابة وتدريساً وتأليفاً ومنافحة عن الإسلام، فأخذ منه الإعياء مأخذاً، وحيث تقرحت كبده حرقة على المسلمين، وقلقاً على ما يصيب الأمة في دينها وبعدها عن شريعة الله، يعلمون أنه لم يكن يجزع من الموت، وإنما كان يرى في المرض جسراً يوصله إلى لقاء الله عز وجل. فلقد أحب لقاء الله فأحب الله لقاءه.
جاء في الحديث الصحيح عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه. فقالت: عائشة رضي الله عنها: إنا لنكره الموت. قال: ليس ذلك، ولكن المؤمن إذا حضره الموت بشر برضوان الله وكرامته، فليس شيء أحب إليه مما أمامه، فأحب لقاء الله وأحب الله لقاءه، وإن الكافر إذا حضره الموت بشر بعذاب الله وعقوبته، فليس شيء أكره إليه مما أمامه فكره لقاء الله، وكره الله لقاءه".
أخرجه الخمسة إلا أبا داود
رحم الله الشيخ الكبير رحمة واسعة، وبوأه الفردوس الأعلى في دار كرامته وجعله مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً. وصدق الله العظيم.
"ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها فأولئك كان سعيهم مشكوراً".
"ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم".
* مجلة حضارة الإسلام –السنة 10 –العدد 1 –ربيع الأول 1389هـ -آيار/ حزيران 1969م(/1)
مع الزاهد الثقة أبي نصر " بشر الحافي "
أ.د/محمد أديب الصالح
رئيس تحرير مجلة حضارة الإسلام
ـ 1 ـ
هو الإمام العالم المحدث الزاهد الرباني القدوة ، شيخ الإسلام بشر بن الحارث بن عبد الرحمن بن عطاء أبو نصر الزاهد المعروف بالحافي ابن عم المحدث علي بن خشرم المروزي(1) ، كان مولده سنة 152 هـ ، وممن سمع منهم في بغداد : حماد بن زيد ، وعبد الله المبارك ، وابن مهدي ، ومالك وأبو بكر بن عياش ، وغيرهم ، وسمع منه جماعة منهم : أبو خيثمة ، وزهير بن حرب ، وسري السقطي ، والعباس بن عبد العظيم ، ومحمد بن حاتم وغيرهم . وقد مات رحمه الله في سنة سبع وعشرين ومائتين قبل المعتصم الخليفة بستة أيام وعاش خمساً وسبعين سنة .
ويبدو أنه انصرف إلى العبادة بعد كثرة سماع من العلماء واشتغال بالعلم ، وأصبح من أهم ما يتميز به زهادته وورعه ونسكه وتقشفه . وعندما تكون هذه الأمور عن علم ومعرفة بالشريعة ... فحدث ولا حرج .
من أجل ذلك أثنى عليه كثير من كبار الأئمة رحمهم الله ، حتى قال الإمام أحمد يوم بلغه موته : لم يكن له نظير إلا عامر بن عبد قيس ، ولو تزوج لتم أمره وفي رواية عنه أنه قال : ما ترك بعده مثله ، وقال إبراهيم الحربي :ما أخرجت بغداد أتم عقلاً منه ، ولا أحفظ للسانه منه ، ما عرف له غيبة لمسلم ، وفي كل شعرة منه عقل ـ ولو قسم عقله على أهل بغداد لصاروا عقلاء ..
وطبيعي أن هذا الكلام من الإمام أحمد والحربي يدل على طبيعة المقاييس التي كانت تقاس بها الرجال يومذاك . ومن أوضحها : ما كان عليه بشر من العلم والعمل .. والعبادة الصادقة ... والزهادة في الدنيا .. في ورع يجعل الجوارح بعيدة عن الولوغ في المخالفات .. وهذا ما يجعل من حال العابد قبل قاله نوراً يضيء للناس طريقهم .. ويجعل لكلامه وسيره القبول في الأرض ..
من هنا ترجم له أبو نعيم في " الحلية " بقوله : ومنهم من حباه الله الحق بجزيل الفواتح ، وحماه من وبيل الفوادح ، أبو نصر بشر بن حارث الكافي ، المكتفي بكفاية الكافي ، اكتفى فاستشفى .
وقد وردت عدة روايات بشأن تحوله عن الطريق المخالفة إلى حيث آل أمره ؛ منها ما أورده الحافظ ابن كثير أنه كان " شاطراً " في بدء أمره ، وكان سبب توبته أنه وجد رقعة فيها اسم الله عز وجل في أتون حمام ، فرفعها ورفع طرفه إلى السماء وقال : سيدي اسمك ههنا ملقى يداس !! ثم ذهب إلى عطار فاشترى بدرهم غالية ـ طيباً ـ وضمخ تلك الرقعة ووضعها حيث لا تنال ، فأحيا الله قلبه وألهمه رشده ، وصار إلى صار إليه من العبادة والزهادة .
وهذا الذي أكرمه الله به جعل لكلامه ـ رحمه الله ـ رونقاً ، لأنه يخرج من القلب فيدخل القلوب في نفاذ وتأثير.
ففي تذوق لما كان عليه من الزهادة الصادقة في الدنيا التي يتقاتل عليها الناس ، وكثيراً ما تفرق بين المرء وأحب الناس إليه قال رحمه الله : من أحب الدنيا فليتهيأ للذل .
وعند بشر ـ أجزل الله مثوبته ـ تجد الفهم العميق لمكانة العلم ، وضرورة ارتباطه بالتقوى .. وأن القضية جاءت من هنا .. وإلا عاد العلم سلاحاً يرتد إلى صدر صاحبه . قال في ذلك : إنما فضل العلم على غيره ليتقى به .
وفي تعريف مشرق لعز المؤمن وشرفه قال رحمة الله عليه : عز المؤمن استغناؤه عن الناس ، وشرفه قيامه بالليل .
أرأيت ... العز فيما بايع النبي عليه أصحابه من أن لا يسأل أحدهم الناس شيئاً ... والشرف في وقفة العبودية بين يدي جبار السماوات والأرض حيث يقف الذين قال الله فيهم : [تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً ومما رزقناهم ينفقون] .
ويبدو أنه كان كثير المحبة لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، وذلك من سمات المؤمن الصادق لأن في ذلك وقوفاً عند الذي تمليه نصوص الكتاب والسنة ؛ قال السري السقطي : سمعت بشر بن الحارث يقول : ما أنا بشيء من عملي أوثق به مني بحب أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم . وعن علي بن الحسي القاضي ، سمعت عبيد بن محمد الوراق يقول : سمعت بشر بن الحارث يقول : أوثق عملي في نفسي حب أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم .
هذا طرف من سيرة هذا الرجل الرباني الذي أكرمه الله بصدق العبودية له ، وحسن الإنابة إليه ، والتزهد في الدنيا ، والعمل لما بعد الموت ... وما أشد احتياجنا ـ والغفلة تضرب بجرانها على القلوب ـ لأن نذكر عمل العاملين وصدق الصادقين ليكون لنا ما به تستيقظ القلوب من غفلتها ... ولنا عودة ـ إن شاء الله ـ إلى سيرة هذا الرجل الكبير والله الموفق سبحانه .
ـ 2 ـ
نحن على موعد مع هذا الرجل الرباني الكبير أجزل الله مثوبته ، وقد رأينا من عهد قريب بعضاً من مآثره وكلماته التي هي انعكاس صدقه واستقامته ، واليوم نعيش مع رسالة أرسلها إلى علي بن خشرم، هي محض النصح ، وسلامة التوجيه ، وصدق الأخوة في الله . وذلك يذكرنا بقول الله تباركت أسماؤه : [الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين] (2) كتب رحمه الله يقول :
إلى أبي الحسن علي بن خشرم :(/1)
السلام عليك فإني أحمد الله إليك الذي لا إله إلا هو . أما بعد : فإني أسأل الله أن يتم ما بنا وبكم من نعمة ، وأن يرزقنا وإياكم الشكر على إحسانه ، وأن يميتنا ويحيينا وإياكم على الإسلام ، وأن يسلم لنا ولكم خلفاً من تلف ، وعوضاً من كل ذرية .
أوصيك بتقوى الله يا علي ، ولزوم أمره والتمسك بكتابه ثم اتباع آثار القوم الذين سبقونا بالإيمان ، وسهلوا لنا السبل ، فاجعلهم نصب عينيك ،وأكثر عرض حالاتهم عليك تأنس بهم في الخلاء ، ويغنوك عن مشاهد الملأ فمثل حالهم أنك تشاهدهم ، فمجالسة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أوفق من مجالسة الموتى ممن يرقب منك زلتك وسقطتك إن قدر عليها ، فإن لم يقدر عليها جعل جليسك إن رآه عندك عيبك فرماك بما لم يره الله منك .
واعلم علمك الله الخير وجعلك من أهله ، أن أكثر عمرك فيما أرى قد انقضى ، ومن يرضى حاله قد مضى ، وأنت لاحق بهم ، وأنت مطلوب ولا تعجز طالبك ، وأنت أسير في يديه ، وكل الخلق في كبريائه صغير، وكلهم إليه فقير، فلا يشغلنك كثرة من يحبك ، وتضرع إليه تضرع ذليل إلى عزيز ، وفقير إلى غني ، وأسير لا يجد ملجأ ولا مفراً يفر إليه غيره ، وخائف مما قدمت يداه ، غير واثق على ما يقدم ، لا يقطع الرجاء ولا يدع الدعاء ، ولا يأمن من الفتن والبلاء ، فلعله أن رآك كذلك عطف عليك بفضله ، وأمدك بمعونته وبلغ بك من عفوه ورحمته ، فافزع إليه في نوائبك ، واستعنه على ما ضعفت عنه قوتك ، فإنك إذا فعلت ذلك قربك بخضوعك له ، ووجدته أسرع إليك من أبويك ، وأقرب إليك من نفسك ، وبالله التوفيق وإياه اسأل خير المواهب لنا ولك .
واعلم يا علي أنه من ابتلي بالشهرة ومعرفة الناس فمصيبته جليلة ، فجبرها الله لنا ولك بالخضوع والاستكانة والذل لعظمته ، وكفانا وإياك فتنتها وشر عاقبتها فإنه تولى ذلك من أوليائه ومن أراد توفيقه ، وارجع إلى أقرب الأمرين منك ، إلى إرضاء ربك ، وإشارة أحياء القلوب من صالح أهل زمانك ، ولا ترجعن بقلبك إلى محمدة أهل زمانك ولا ذمهم فإن من كان يتقي ذلك منه قد مات ، وإنما أنت في محل موتى ومقابر أحياء ماتوا عن الآخرة ، ودرست عن طرقها آثارهم ، هؤلاء أهل زمانك فتوار مما لا يستضاء فيها بنور الله ، ولا يستعمل فيها كتابه إلا من عصم الله ، ولا تبال من تركك منهم ، ولا تأس على فقدهم ، واعلم أن حظك في بعدهم أوفر من حظك في قربهم ، وحسبك الله فاتخذه أنيساً ففيه الخلف منهم ، فاحذر أهل زمانك ، وما العيش مع من يظن به في زمانك الخير، ولا مع من يسيء به الظن خير، وما ينبغي أن يكون في طلعة أبغض إلى عاقل تهمة نفسه من طلعة إنسان في زمانك ، لأنك منه على شرف فتنته إن جالسته ، ولا تأمن البلاء إن جانبته ، والموت في العزلة خير من الحياة مع من لا يؤمن خوف فتنته واجعل أذنك عما يؤثمك صماء ، وعينك عنه عمياء ، إحذر سوء الظن فقد حذرك الله تعالى ذلك ، وذلك قوله تعالى [إن بعض الظن إثم] (3)والسلام .
ـ 3 ـ
حديث هؤلاء البررة حديث لا تمله القلوب ، لما أنه يحملنا على جناح من الطهر ورفافية الحس إلى واحة تزخر بالعطاء الرباني متمثلة في سيرهم الدائب الحثيث إلى الله وفرارهم إليه ، ومسارعة لا تعرف الكلال إلى مغفرة من ربهم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين .
وقد كان من حديثنا عن هذا الزاهد الكبير بشر بن الحارث الذي اشتهر بـ (بشر الحافي) رسالته التي بعث بها إلى علي بن خشرم ناصحاً ومذكراً ... حيث رأينا فيها كلمات هي أشبه ما تكون بميراث النبوة ... لأنها فيض الأتباع الصادق لصاحب الرسالة عليه الصلاة والسلام .
ونعود اليوم ـ كما وعدنا ـ إلى بعض من سيرته وكلماته رحمه الله .
ففي تقدير للرجال وإعطاء الأعمال قيمها قال في شأن موقف الإمام أحمد رضي الله عنه يوم فتنة القول بخلق القرآن ... ذلك الموقف الذي أصبح معلماً من المعالم يسير على هديه العلماء العاملون الذين يصدعون بالحق ولا يخافون في الله لومة لائم ... قال بشر في ذلك : دخل أحمد بن حنبل الكير فخرج ذهباً أحمر ... فبلغ ذلك أحمد فقال : الحمد لله الذي أرضى بشراً بما صنعنا .(/2)
وفي تواضع جم ،ووقوف عند مقاييس علماء الآخرة ، وخوف من الله أن يحق عليه قوله سبحانه : [يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون ، كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون] (4) كان له موقف نراه فيما حدث الحسن بن سعيد قال : كنا عند بشر بن الحارث فجاء رجل من خراسان ، فبرك قدامه فقال له : يا أبا نصر، أنا وفد خراسان ، حدثني بخمسة أحاديث أذكرك بها بخراسان ، فلم يزل يتلطف له وبشر يقول له : المحدثون كثير، فلم يزل يداريه ويجتهد به ، فلما رأى أنه لا ينفعه شيء قال له : يا أبا نصر، أليس تروي عن عيسى عليه السلام أنه قال : من علم وعمل وعلّم فذلك الذي يدعى عظيماً في ملكوت السماء ؟ قال له : كيف قلت ؟ أعد علي ، فأعاد عليه القول : من علم وعمل وعلّم فذلك الذي يدعى عظيماً في ملكوت السماء ، قال له : (صدقت ، قد علمنا حتى نعمل ثم نعلّم).
وأنت ترى أن هذا من أبي نصر ليس كتماً للعلم ، ولكن كان يرى في غيره أهلية تبليغ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما يخشى على نفسه أن يكون ممن يقول ولا يفعل .. ولو تمحض أمر التبليغ فيه لما وقف هذا الموقف ، عملاً بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما روى زيد بن ثابت رضي الله عنه " نضّر الله امرءاً سمع منا حديثاً فحفظه حتى يبلغه غيره ، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ، ورب حامل فقه ليس بفقيه " (5) .
إن بشراً يخاف أن يكون حظه من العلم شقشقة اللسان دون عمل ، وأن تحمله الكلمة مسؤولية العمل بها ، وهو لشدة مخافته من الله لا يرى في نفسه أهلية العلماء المتقين ، وما أكثر ما يجد الشيطان من المداخل إلى نفوس علماء الدنيا من طريق الرياء وأن يلتمس بالعلم الدنيا والقرب من أهل الجاه والنفوذ ... نسأل الله عفوه وعافيته .
ولا بدع أن يخاف أبو نصر رحمه الله على نفسه الرياء وما غليه ، وهو الذي كان على قدم أولئك الرجال الذين منهم مالك بن دينار.. مالك الذي روى بشر أنه رجلاً قال له : يا مرائي ، فقال ابن دينار أجزل الله مثوبته : متى عرفت اسمي ؟ ما عرف اسمي غيرك .
ومن هنا كان يأخذ نفسه بالعمل وبالعلم .. ويحرص على تربية من ولاه الله أمرهم على ذلك ، فقد روى عن الفضل بن العباس الحلبي قال : سمعت أبا نصر بشر بن الحارث ـ وذكر العلم وطلبه ـ فقال : إذا لم يعمل به فتركه أفضل ، والعلم هو العمل ، فإذا أطعت الله علمك ، وإذا عصيته لم يعلمك ، والعلم أداة الأنبياء إلى احتجاجهم ، فذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم أدى إلى أصحابه فتمسكوا به . وحفظوه وعملوا به ، ثم أدوه إلى قوم فذكر من فضلهم ، وأدى أولئك إلى قوم آخرين ، فذكر الطبقات الثلاث ثم قال أبو نصر: وقد صار العلم إلى قوم يأكلون به .
رحم الله بشر بن الحارث .. إن في كلماته هذه دعوة إلى العلم ، وحرصاً على العمل ، فالعلم بلا عمل عبء على صاحبه ومسؤولية في كفه سيئاته يوم الله ... والاستشهاد بطرائق الأنبياء وفعل النبي صلى الله عليه وسلم يؤكد ما نقول ، وإذا كان أبو نصر يغترف من بحر النبوة ، فإن سنة النبي صلى الله عليه وسلم بيان الكتاب الكريم الذي نجد فيه بعد آية المداينة التي علمت ما علمت ، وبينت من الأحكام ما بينت ، قوله تبارك وتعالى : [واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم] (6).
وتلك هي سنة الإسلام علم وعمل ، والله يفتح للمتقين من أبواب الفهم ما يفتح ، وينير قلوبهم بما ينير... وكل ما تجده لديهم من الفتح الإلهي لا يمكن أن يخرج على العربية التي بها نزل الكتاب ، أو أن يتجافى مع مفهومات الشريعة الموحى بها إلى النبي عليه الصلاة والسلام ...
في خاتمة رحلتنا القصيرة مع أبي نصر " بشر الحافي " نسأل الله تبارك وتعالى أن يفيض عليه من سحائب رحمته ويجزيه عن هذه الأمة خير جزائه ، وأن يأخذ بأيدينا على مرابع السعادة بتقواه ، وهو المرجو سبحانه أن يتوفانا مسلمين ، ويلحقنا بالصالحين ... وله الحمد في الأولى والآخرة .. ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب .
*" حضارة الإسلام " السنة الخامسة عشرة العدد العاشر ذو الحجة 1394 كانون ثاني 1975.
**نفسه – س:16- ع : 1 ربيع الأول 1395 هـ - آذار 1975 .
• " حضارة الإسلام " السنة السادسة عشرة ـ العدد الأول : ربيع الأول / 1395 آذار 1975 .
(1) هو علي بن خشرم عبد الرحمن أبو الحسن الحافظ قريب بشر الحافي ثقة روى عنه مسلم والترمذي والنسائي وآخرون توفي سنة سبع وخمسين ومائتين للهجرة أو بعدها وقد قارب المائة .
(2) سورة الزخرف :67 .
(3) الحجرات : 12 .
• " حضارة الإسلام " السنة السادسة عشرة ـ العدد الثاني ربيع الآخر /1395 ـ نيسان /1975
(4) سورة الصف 2 ـ 3.(/3)
(5) رواه الترمذي في العلم ، باب ما جاء في الحث على تبليغ السماع (5/34) وله في رواية أخرى : " نضر الله امرءاً سمع مقالتي فوعاها وحفظها وبلغها .." الحديث ورواه أبو داوود في العلم رقم 3660 حديث صحيح ورواه أحمد وابن ماجه والدارمي . وللترمذي أيضاً من رواية عبد الله بن مسعود رضي الله عنه " نضر الله امرءاً سمع منا شيئاً فبلغه كما سمعه ، فرب مبلغ أوعى من سامع " .
(6) البقرة : 282 .
...(/4)
مع الهَجِير
بقلم الدكتورعدنان علي رضا النحوي
حَنَّ الجَمال إِلَى الجَمالِ ... ... وَتَوَاثَبَتْ صُوَرُ الدَّلاَلِ
رَبَّاهُ . . . ! كَمْ دَرَجَتْ خُطَا ... ... يَ عَلَى المُرُوجِ ... عَلى التِّلالِ
وَلَكَمْ هَرَعْتُ إلى الجِنَا ... ... نِ ... وَرَبْوةٍ ... وَنَدَى الطِّلالِ
وَلَكَمْ هَرَبْتُ مِنْ الهَجيـ ... ... ـرِ ... أَغِيبُ في بَرْدِ الظِّلالِ
وَلَممْتُ مِنْ بَيْنَ الجَدَا ... ... وِلِ هَمْسَتِي .. وَصَدَى خَيَالي
وَجَمَعْتُ مِنْ بَيْنِ الحَصَى ... ... زُهْرَ الجَوَاهِرِ وَالَّلآلي
وَقَطَفْتُ مِنْ حُلْو الثِّمَا ... ... رِ . . .هَجَعْتُ في فَيء الدَّوَالي
وَرَكضْتُ . . . أُمْعِنُ في الحُقـ ... ... ـولِ . . . وبَيْنَ زَاهرة التِّلالِ
وَنَزَلْتُ وُدْياناً . . . وَسَا ... ... بَقَتِ الخُطا قِمَمَ الجِبَالِ
أَجْري ... ! وَأَوْهَامي وَأَحْـ ... ... ـلامي ... تَلَفَّتُ بالسُّؤَالِ
وأَظَلُّ أَلْهَثُ خَلْفَهَا ... ... شَوْقاً إلَى دُنْيَا الجَمَالِ
دُنيا الحَقِيقةِ .. ! مَنْ يُفَتِّـ ... ... ـحُها مُضَمَّخةَ الجَلاَلِ
وَأَمُدُّ مِنْ كَفَّيَّ . . . أَبْـ ... ... ـحَثُ عَنْ رُؤًى بَيْنَ اللَّيالي
وَأَمُدُّ مِنْ نَظَرِي أُطا ... ... رِدُ ما أُؤمِّلُ مِنْ وِصَالِ
وتَظَلُّ تَلْهَثُ أَضْلُعي ... ... وَخُطَايَ . . .في طَلَبٍ وَنَالِ
وأُمزِّق الدَّرْبَ الطَّويـ ... ... ــلَ خُطَاً مُشتَّتَةَ الأَمَالي
وَأَسِيْر . . . والأَيَّامُ تَرْ ... ... كضُ والمُنَى تَجْرِي حِيَالي
وَتَغِيبُ أَشْبَاحٌ . . . وَ تُطْـ ... ... ـوَى بَيْنَ أَجْفَاني اللَّيالي
وَتَفِرُّ أَحْلامي . . . وتُفـ ... ... ـلِتُ مِن يَدي تِلك اللآلي
وَأكادُ أُمْسِكُ بِالطُّيُـ ... ... ـوفِ .. فَتَخْتَفي .. وَأَرَى خَيَالي
* * * ... ... * * *
يَا حَسْرَتاهُ ... فَكمْ جَرَيْـ ... ... ــتُ وَرَاءَ كَاذِبَةِ النَّوَالِ
وَأَصُبُّ مِنْ عَرَقِي ... وَأدْ ... ... فَعُ لَهْفَتِي بِخُطا عِجَالِ
كمْ قِيلَ لِي دُنَيا الحَقيـ ... ... ـقَةِ في المُرُوجِ ... مَعَ الظِّلاَلِ
وَمَعَ الجِنان ... مع الوُرو ... ... دِ ... مَعَ الأَرِيج ... مَعَ الغَوَالي
وَمَعَ النَّعِيمِ ... مَعَ الحَضَا ... ... رَةِ ... والشَّوَاهِقِ ... والعَوَالي
وَمَعَ الرِّغَابِ الماجِنَا ... ... ت ... مَعَ الهَوى ... وَاهاً لحالي
وَنَظرْتُ في كَفَّيَّ فا ... ... رِغَتَيْنِ . . . وَالدُّنْيَا حِيالي
وَأَكادُ أَجْمَعُها . . . فَوَلَّـ ... ... ــتْ كالطُّيُوفِ . . . إلى زَوَالِ
قَدْ لوَّثُوا طُهْرَ الجَمَا ... ... لِ ... وَرَوَّعُوا خَفَرَ الغَزَالِ
داسُوا عَلَى حُلْوِ الوُرُو ... ... دِ ... عَلَى الجِنَانِ ... عَلَى الَّلآلي
سَحَقُوا الأَزَاهِيرَ الَّتي ... ... رَوَّيْتُها بِدَمي ومَالي
سَرَقُوا الجَوَاهِرَ والكُنُو ... ... زَ وَكُلَّ حَالِيةٍ وَغَالي
جَفّتْ فُروعُكِ يا جِنَا ... ... نُ ... وَأَجْدَبَتْ خُضْرُ التِّلالِ
وَتَسَاقَطَتْ دُنيا الخَرِيـ ... ... ـفِ على التُّرابِ ... عَلَى الرِّمَالِ
وَكَأنَّها و َهْمُ السَّراَ ... ... ب ... كأنَّهَا وَمْضُ الخَيَالِ
* * * ... ... * * *
وَرَجَعْتُ ... في حُمَّى الهَجِيـ ... ... ـرِ ... وبَيْنَ أَطْيَافٍ وِجَالِ
وَيَكَادُ يَقْتُلُني الظَّمَا ... ... وَتَكادُ تَطْرَحُني رِحالي
قَدَمَايَ تَرْتَجِفَانِ مُنْهكـ ... ... ــتَيْن ... مِن طُولِ ارتِحالي
وَتَكادُ تَغْلِبُني الشَّكا ... ... ةُ ... مِنْ الضَّياع .. مِنَ المَلالِ
وَرَمَيْتُ . . . يَا ربَّاهُ . . . آ ... ... مَالي عَلَى وَهَنِ الكَلالِ
وَتَرَكْتُ خَلْفِي كلَّ أَحْـ ... ... ــلامي ... وَأشْباحَ الضَّلالِ
وَتَرَكْتُ أَوْهَامَ السَّرَا ... ... بِ . . .رُكامَ أَيَّامِي الخَوَالِي
وَرَجَعْتُ أَبْحَثُ في الحَقِيْـ ... ... ـقَةِ .. في الطَّهَارَةِ ..في الجَمالِ
فَوَجَدتُها... في النَّفْس ... في الأعْـ ... ... ـمَاقِ ... في شَرَفِ الفِعَالِ
في رَفَّةِ الإِيمان ... في الأ ... ... نْدَاءِ . . . في عُقْبَى مَآلِ
* * * ... ... * * *
1/8/1403هـ
14/5/1983م ... ... ...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
· ديوان جراح على الدرب .(/1)
مع الفضيل بن عياض رحمه الله (1)
الدكتور محمد أديب الصالح
ـ 1 ـ
ليست هذه ترجمة تحيط بأحوال الفضيل بن عياض رحمه الله ، فحقه أكبر من ذلك وأكبر... ولكنها كلمات من مواعظه وتوجيهاته نزجيها ـ والوقت لا يمهل ـ على أن نعاود الحديث على صفحات قادمة إن شاء الله .
وهذه الكلمات ، على وجازتها ، صورة للمؤمن المخبت الذي زكى نفسه فصفت من أكدارها ، وكانت معه في طاعة الله لا عليه ، فالقلب يقظ ذاكر.. قد امتلأ خشية لله ، ورهبته من السؤال ... والجوارح طوع هذا القلب استقامة على الطريق ، واجتهاداً في العبادة ، وتذكراً حين يذكر الله ، وتدبراً حين يتلى القرآن ..
أو ليس من صفات المؤمنين : أنهم إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليه آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون ؟.. وكذلك كان الفضيل أجزل الله مثوبته ، ما نظرت في شيء من شأنه إلا وجدت مراقبة الله ، وحسبان الموت ، والتخلق بأخلاق أهل الآخرة .
قال إبراهيم بن الأشعث : ما رأيت أحداً كان الله في صدره أعظم من الفضيل ، كان إذا ذكر الله أو ذكر عنده أو سمع القرآن ، ظهر به من الخوف والحزن ، وفاضت عيناه وبكى حتى يرحمه من بحضرته ، وكان دائم الحزن شديد الفكرة ما رأيت يريد الله بعلمه وأخذه وإعطائه ، ومنعه وبذله ، وبغضبه وحبه ، وخصاله كلها غيره ـ يعني الفضيل .
والذين يصنعهم الله على عينه ، يذكّرون فيذكرون ، وتمر بهم العظمة فيتعظون ولا يغفلون ، وإذا جاءت العبرة فقلوبهم طوع الاعتبار ونظرة البصير، فأي شيء من هذا كله كالموت عظة وعبرة لأولئك الذين أعدى أعدائهم الغفلة وقسوة القلب .
روي عن إبراهيم بن الأشعث قوله كنا إذا خرجنا مع الفضيل في جنازة لا يزال يعظ ويكر ويبكي ، حتى لكأنه يودع أصحابه ، ذاهباً إلى الآخرة حتى يبلغ المقابر فيجلس ، فكأنه بين الموتى ، جلس من الحزن والبكاء حتى يقوم ، ولكأنه رجع من الآخرة يخبر عنها).
رحم الله هذا العالم الزاهد العابد ، وأكرم مثواه بما قدم من الإنموذج الصالح لأخلاق ورثة الأنبياء ومن جعلهم الله للمتقين إماماً .
ـ 2 ـ
في العدد الأول من اعداد هذه السنة ، كانت لنا وقفة عجلى ، لم نملك سواها على الورق ، مع قصة الرجل الرباني الفضيل بن عياض ، حين قصده الخليفة هارون الرشيد رحمهما الله تلك القصة التي كانت في عمق دلالتها صورة واضحة لموقف المؤمن الناصح لله ولرسوله ولإمام المسلمين وعامتهم .
ونعود اليوم ـ والعود احمد ـ لنجد زاداً جديداً في سيرة الفضيل ، وكلماته ، ومواقفه ، فسير أعلام هذه الأمة معالم في طريق المسلم وصُوى ، خصوصاً أولئك الذين ظلوا على محجة الهدى ، وثبتوا على النهج صلة بالله عز وجل ، ووقوفاً عند كل الذي فيه مرضاته ، وصدق تطلع إلى من عند رب العالمين ، مقتحمين عقبات النفس والهوى ، متجاوزين مزالق الشيطان والسلطان ...
وها إنك لا تعدم أن ترى في أي واحدة من عظات هذا الرجل ، ما يضيء طريقك ، ويصلك بمنابع الهداية ، حيث لا ينفصم العلم عن العمل ، ولا الكلمات المسطورة عن السلوك .
انظر إليه في هذه الإلمامة الدقيقة الرائدة من خاف الله تعالى لم يغره شيء ، ومن خاف غير الله لم ينفعه أحد) ألا ما أشد حاجة المسلم حين تدلهم الخطوب وتعصف المغريات بكثير من القلوب ، ويترنح أهل العناوين تحت مطارق الرغب أو الرهب .. ما أشد حاجة المسلم ـ والأمر كذلك ـ إلى تمثل هذه الحقيقة ، بل تذوق معناها ودلالتها لتكون له خلقاً وسجية !! حين يخاف الله .. ما الذي يكون ؟؟
إنه حين يقف هذا الموقف ، لا يغره شيء .. مهما كان هذا الشيء .. وليذهب فكرك في هذا الشيء كل مذهب .. ومن عبثت به الشياطين فخاف غير الله .. سقط في الهاوية ، فلم ينفعه أحد من أولئك الذين نسي سلطان الله فخاف سلطانهم .. نعم .. خاف غير الله فلم ينفعه أحد . ألا إنها قاعدة نورانية تبدو أهميتها أكثر فأكثر ونحن نبصرـ بألم وحسرة ـ واقع المسلمين اليوم حين تنعكس الآية ويستبدل العديد من أبناء الأمة مخافة غير الله بمخافة الله .. فعلى صعيد البنية الفكرية والسلوكية عند المسلم لابد أن يتحرر من هذا الانتكاس ، كيما يكون قادراً أن يقف على قدميه في مواجهة العوائق والصوارف سواء كان ذلك من داخل النفس أو من خارجها في المجتمع في المجتمع على كل صعيد ..
وفي جواب عن سؤال كثيراً ما تردد ويتردد على الألسنة حين يتحسر الناس ـ بعيدين عن العمل ـ ويتلمسون طريق الخلاص دون سلوك مسالكه ، أجاب موجهاً إلى التزام طاعة الله مهما ابتعد الناس ، والبعد عن المعصية مهما تردى في هاويتها من تردى .. وذلك هو الطريق ، سأله عبد الله بن مالك فقال : يا أبا علي ما الخلاص مما نحن فيه ؟ فقال له : أخبرني ، من أطاع الله عز وجل ، هل تضره معصية أحد ؟ قال : لا ! قال : فمن عصى الله سبحانه وتعالى ، هل تنفعه طاعة احد ؟ قال : لا ! قال : فهو الخلاص إن أردت الخلاص .(/1)
ويا نعم ما جاءنا به الفضيل ـ أجزل الله مثوبته ـ من تحديد لمدلول التواضع في نظره ، فالتواضع ـ كما يرى ـ خضوع للحق وانقياد له ، أياً كان المصدر الذي نطق بهذا الحق .. وإذا كان الكبر على النقيض من التواضع ، فالمتكبر لا يخضع للحق ولا ينقاد له ، فإذا دعي إلى هذا الحق أخذته العزة بالإثم ، أما من يخضع للحق وينقاد له : فذلك هو الإنسان الذي أكرمه الله بخلق التواضع . سئل رحمه الله : ما التواضع ؟ فقال : أن تخضع للحق وتنقاد له ، ولو سمعته من صبي قبلته منه ، ولو سمعته من أجهل الناس قبلته منه .
ومن وصايا الفضيل الجامعة التي تزود بها رجلاً قال له : أوصني (أخف مكانك لا تعرف فتكرم بعملك ، واخزن لسانك إلا من خير، وتعاهد قلبك أن لا يقسو، وهل تدري ما قساوة من أذنب؟)
ألا ترى معي أن لكل فقرة من فقرات هذه الوصية أصلاً من الكتاب أو السنة !! ثم أوليس ذلك دليل أن الرجل أكرم الله مثواه ، يعطي حين يعطي ، والنفس مرتوية من هذا الخير في كتاب الله وسنة الرسول عليه الصلاة والسلام .
والآن : هذه بعض سمات المؤمن وبعض سمات المنافق يعرضها الفضيل ليعرفها المسلمون ويزنوا العمل والسلوك من خلالها ، قال إبراهيم بن الأشعث سمعت فضيل بن عياض يقول : (المؤمن قليل الكلام كثير العمل ، والمنافق كثير الكلام قليل العمل . كلام المؤمن حكم ، وصمته تفكر، ونظره عبرة ، وعمله بر، وإذا كنت كذا لم تزل في عبادة).
ألا إنها نعمة الإيمان ، وأعظم بها من نعمة ، وإذا سلم ذلك للمسلم كان له كل ذلك الخير، وكان منه كل ذلك العطاء ، فهو ليله ونهاره ، متقلبه ومثواه ، يسعد بهذا الإيمان ، ويسعد الآخرين .. والمن لله ولرسوله في ذلك " بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين " (2).
اللهم ارزقنا كمال الإيمان وصدق اليقين ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، ونق قلوبنا من كل وصف يباعدنا عن مرضاتك ومحبتك ، وحبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا ، وأجزل الفضيل بما نصح وذكر وبما علم وعمل . وبما استقام على الطريقة خير الجزاء .
اللهم ثبتنا بقولك الثابت ، وآت أنفسنا تقواها وزكها أنت خير من زكاها ، والحمد لله رب في الأولى والآخرة عليه توكلت وإليه أنيب .
الهوامش :
• حضارة الإسلام السنة 18 العدد 7 رمضان 1397 أيلول 1977 .
(1) هو الفضيل بن عياض بن سعود بن بشر أبو علي التميمي . شيخ الإسلام والإمام القدوة ، أخذ عنه خلق منهم الإمام الشافعي رضي الله عنه . وممن روى عنه شيخه سفيان الثوري أجل شيوخه . وترجمته زاخرة بالحديث عن زهادته وعبادته وتأثير مواعظه في القلوب . توفي رحمه الله سنة 178.
(2) من الآية 17 من سورة الحجرات .(/2)
مع بدايات سورة يوسف
24/3/1425
أ.د. ناصر بن سليمان العمر
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فمازال الحديث متصلاً عن سورة يوسف، ولعلنا نبدأ الوقوف مع آياتها تفصيلاً، غير أنه يحسن التأكيد على أن هذه السورة، سورة مكية، نزلت بعد سورة هود - عليه السلام - وعدد آياتها إحدى عشرة و مائة آية، وقد ذكر بعض العلماء أن هذه السورة مكية إلا آيتين منها أو ثلاث، ولكن الراجح أن جميع السورة مكية وليس فيها أي آية مدنية، وهذا يبين لنا المدة الحرجة التي نزلت فيها السورة، وبالأخص إذا علمنا أن وقت نزولها كان بين عام الحزن وبين بيعة العقبة الثانية، من تاريخ الدعوة في العهد المكي، وهذا التاريخ تحسن مراعاته لفهم هذه السورة، وملاحظة مرامي آياتها ودلالاتها، فهذه المدة في العهد المكي بين عام الحزن وبين بيعة العقبة الثانية، اشتد فيها أذى قريش، حتى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أذن لأصحابه بالهجرة إلى الحبشة، فقد بلغة الشدة والأذى والابتلاء والتعذيب مبلغها من كفار قريش لصحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بل لمحمد - صلى الله عليه وسلم - فنزلت هذه السورة تسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم - ولصحابته، فهي تقول لهم: إن يوسف - عليه السلام - الذي مر بمصائب عظام، وشدائد جسام، ومحن يرقق بعضها بعضاً، قد نجا منها جميعاً، وكانت عاقبته تلك العاقبة الحميدة، فاصبروا كما صبر الرسل، وثقوا بموعود الله لكم، فإنكم بعد هذا البلاء وهذا الأذى ستنتصرون - بإذن الله - ولذلك قال الله - تعالى - في آخرها: "حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ" (يوسف: من الآية110).
وهذا أمر معنى ينبغي أن يستحضره قارئ السورة، وبخاصة في أيامنا هذه، فإن أمتنا اليوم قد تداعى عليها الأعداء من كل حدبٍ وصوب، وتسلطت عليها الأمم كما بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وبلغ الأمر مبلغه في نفوس كثير من المسلمين، وبدأ التشاؤم واليأس والقنوط، وبدأ الاستعجال، وبدأ التنازل، وكل ذلك لن يكفل حلاً ولن يجد به أصحابه مخرجاً.
والسورة تقول للمؤمنين، الصابرين الصادقين" لا تهنوا ولا تحزنوا فأنتم الأعلون - بإذن الله - يوسف - عليه السلام - مرت به هذه المحن، مرت به وبأبيه وبأهله وتجاوزها جميعاً، مرت به محن الضراء والسراء، فاستطاع أن يتجاوزها، ووصل إلى ما وصل إليه من علو وسؤدد ومجد، فلا يأس ينبغي أن يدب في النفوس، والقارئ يجد النموذج العملي والقدوة الماثلة في يعقوب - عليه السلام - إذ يقول لأبنائه يوم جاؤوا بخبر فقد ابنه الآخر: "يَابَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ" (يوسف:87).
قد يقول قائل: كيف نصل إلى ما وصل إليه يوسف؟ كيف ننجو من هذا البلاء الذي نحن فيه؟ كيف نتخلص من مكايد الأعداء؟ كيف نرتفع بمستوى الأمة نحو السؤدد والعلو والمجد والخلود كما كانت في قرونها المفضلة؟ جواب ذلك كله في قوله صلى الله عليه وسلم: "تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً كتاب الله وسنتي"(1).
فقراءتنا لهذه السورة، ووقوفنا معها، مما يبين سبيل رفع شأن الأمة. شريطة أن نتعلمها ونعمل بها، فالقرآن ما نزل من أجل التلاوة فقط، بل نزل من أجل العمل والالتزام والتنفيذ، ولذلك كان الصحابة - رضوان الله عليهم - كما في أثر أبي عبد الرحمن السلمي لا يتجاوزون عشر آيات حتى يعلموا ما فيها من العلم والعمل جميعاً.(/1)
ولذلك كان الجيل الأول خير جيل مر على وجه البسيطة جمعاء. لم يمر ولن يمر مثله أبداً؛ لأن القرآن كان خلقهم وهاديهم، وإذا أردنا العز والنصر، فلنلتزم بما التزم به أولئك، ولنستمسك بحبل الله المتين "وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا" (آل عمران: من الآية103)، فالقرآن نزل من أجل أن يتدبر ومن أجل أن يعمل به، أما اليوم فكثير من المسلمين، يتلون القرآن ولكنهم لا يفقهونه، وإن فقهوه فمنهم من لا يعمل به، والله يقول: "أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا" (محمد:24)، "أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً" (النساء:82)، ويقول: "فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)" (الزخرف:43)، "وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ" (الأنعام:153)، "قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ" (يوسف:108).
أيها الأحبة في قول الله - تعالى-: "لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ" (يوسف:7) أجوبة على أسئلة الأمة، حلول للمعضلات التي تمر بها، ولكن بشرط العمل والالتزام بتعاليم القرآن.
لقد بدأت السورة بسرد قصة واقعية لرؤيا رآها يوسف فقصها على أبيه - عليهما السلام - كما أن السورة اشتملت على أخبار شتى من بيت آل يعقوب، وبالأخص ليوسف - عليه السلام - وفي هذا بيان لأهمية القصة وأثرها، وقد عني القرآن بالقصص، وأولاها أهمية خاصة لما لها من أثر في العمل والدعوة والتربية والجهاد، ومن عناية القرآن بالقصص، تسمية سورة كاملة بسورة القصص. هذه السورة العظيمة التي تقع بين سورتي النمل والعنكبوت، التي قص الله - جل وعلا - علينا فيها نبأ موسى وفرعون وهامان وقارون من أولها إلى آخرها، يتجلى فيها هذا المعنى.
وفي سورة الكهف قص الله عدداً من القصص،ومن جملتها قصة موسى مع الخضر التي يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها: "وددنا أن موسى صبر حتى يقص الله علينا من أمرهما"(2) ، وما ذاك إلاّ لفوائد القصص، فالقصة أيها الأحبة مؤثرة، واستخدامها كما استخدمت في القرآن والسنة، يؤدي إلى نتائج باهرة عجيبة يصعب حصرها في هذه العجالة، ولذلك كان محمد - صلى الله عليه وسلم - وهو قدوتنا وأسوتنا يعنى بالقصة مع صحابته، يأتونه يشكون إليه أمراً من الأمور، فيعالج الأمر بقصة، عندما جاؤوا وهو في ظل الكعبة، فقالوا له: يا رسول الله ألا تدع لنا، ألا تستنصر لنا، فإذا به - صلى الله عليه وسلم - يعالج هذا الموقف بداية بذكر قصة من أخبار القرون الماضية "كان الرجل فيمن كان قبلكم يؤتى به فيوضع في الحفرة ويشق مابين لحمه وعظمه..." الحديث(3).
وكتب السنة فيها عشرات القصص، التي تعالج قضايا اجتماعية كما في خبر أم زرع وأبي زرع(4).
ولو أن الدعاة عنوا بهذا الجانب، وبالأخص إذا عني المربون بهذا الجانب عناية خاصة، فسيجدون أثراً عجيباً، على أن يلتزموا بالقصة الصحيحة، فإما أن تكون القصة قد وقعت فعلاً فيسردها كما هي، كما نقرأ في سورة يوسف، أو أن تكون من قبيل ضرب المثل والتشبيه غير المنسوب إلى معين، كما في قوله - صلى الله عليه وسلم-: "كان فيمن كان قبلكم"، أو "يؤتى بالرجل"، وليس المراد حالة فرد، إنما هي أحوال متعددة.
فأوصي طلاب العلم، أوصي المربين، أوصي الدعاة، أوصي الآباء والأمهات أن يعنوا بهذا الجانب عناية خاصة، على أن يبتعدوا عن القصص التي يلجأ إليها أدعياء الأدب وليست من الأدب في شيء.
ثم لنقف مع قوله - تعالى-: "إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ" (يوسف:2) يخبر الله بأن هذا القرآن عربي واضح بين جلي، لماذا؟ لعلكم تعقلون.
وأقف هنا مع عناية الإسلام بالعقل، الذي يميز الإنسان عن غيره من الحيوانات، فالإنسان بدون عقل يفقد فضله، ويذهب تكليفه.(/2)
وقد عني القرآن عناية كبرى بالعقل، ولذلك جاءت آيات كثيرة جداً تحث على العقل، سواء بلفظ العقل أو التدبر أو التفكر، وكلها تشير إلى العقل "لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ" (الحشر:21)، "أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا" (محمد:24)، "أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً" (النساء:82)، "أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا" (الروم: من الآية9)، "قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا" (النمل: من الآية69)، "إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا" (سبأ: من الآية46). كل هذه الآيات وغيرها دعوة إلى استخدام العقل الذي ميز الله به الإنسان عن غيره، فإذا استخدمه الإنسان الاستخدام الصحيح هدي إلى الحق، أما إذا ركب هواه وعاطفته وألغى عقله فإنه يضل - والعياذ بالله - كما بين الله جل حال الكفار بقوله: "إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ" (الفرقان: من الآية44).
وقد سمي العقل عقلاً؛ لأنه يعقل صاحبه عن التصرفات غير المحمودة، كما أن الحكمة هي ما يلجم الدابة عن التصرف إلاّ عن طريق قائدها أو سائسها، فالحكمة والعقل متقاربان.
وما أحوج الأمة اليوم إلى العقل الذي يمنع من الاستعجال، يمنع من الإقدام على تصرفات لا تناسبه، يدل الأمة أن مكانتها عظيمة، ويرشدها إلى سبيل استثامر طاقاتها الاستثمار الأمثل.
العقل يمنع العاقل من أن يتصرف تصرفاً خاطئاً مع زوجته، وأولئك الذين يستعجلون في كثير من الأحيان، فيطلقون زوجاتهم غالباً ما يكونون في حالة غياب العقل، أو جزء من العقل بعبارة أدق.
وهنا مسألة مهمة جداً تغيب عن أذهان الكثيرين، وهي العلاقة بين العاطفة والعقل، فالعاطفة مهمة، والأمة بدون عاطفة كائن جامد لا يعرف معنى الحياة، فالعاطفة هي التي تحرك المشاعر في الإنسان، ليتفاعل مع إخوانه، بالعاطفة يرحم الأب أبناءه، بالعاطفة يتكاتف الجار مع جيرانه، بالعاطفة يكون الإنسان فعالاً في مجتمعه، ولكن الانسياق وراء العاطفة وحدها خطأ كبير جداً، بل لا بد من توافق وتنسيق بين العاطفة والعقل، فكيف يكون ذلك؟
يكون ذلك بإرجاع العاطفة إلى العقل، وإرجاع العقل إلى الشرع، فإذا تحركت العاطفة عندك فارجع إلى عقلك، وانظر حكمه، ثم بعد ذلك عليك أن ترجع العقل إلى الشرع، فيصدقه أو يكذبه، فالشرع هو الذي يحكم بين العقل القاصر، والعاطفة الجياشة إن اختلفا.
والعقل الصريح لا يناقض النقل الصحيح أبداً، فالعقل الصريح الخالي من الشوائب، من الهوى، من الرواسب، لا يتعارض أبداً مع النقل الصحيح، كما بين شيخ الإسلام - رحمه الله - فمتى دل الشرع على خلاف عقلك فثق بأن في نمط التفكير خللاً ينبغي أن يراجع.
أقف عند هذا الحد، وتتصل الوقفات مع آيات هذه السورة العظيمة في مقالات أخرى، أسأل الله أن ينفع قارئها وكاتبها بها، وصلى الله على نبينا محمد.
_________
(1) رواه الحاكم في مستدركه 1/172 برقم (319)، والبيهقي في الكبرى 10/114، والدراقطني في السنن 4/245، وغيرهم.
(2) صحيح البخاري 4/1757.
(3) صحيح البخاري 3/1322.
(4) صحيح البخاري 5/1990، ومسلم 4/1901.(/3)
مع بلال بن سعد رحمه الله
أ.د/محمد أديب الصالح
رئيس تحرير مجلة حضارة الإسلام
ـ 1 ـ
هو واحد من الربانيين الذين شهد لهم كبار الرجال بعلو الكعب في عبادة الله والإخلاص في طاعته ، وقد بلغ من صدقه وعظيم استقامته أنك ترى في كلامه ومواعظه فيضاً من إرث النبوة ، وروحاً من روح القرآن الكريم . قال الأوزاعي رحمه الله :
كان بلال بن سعد من العبادة على شيء لم نسمع أحداً من أمة محمد صلى الله عليه وسلم كان عليه .
وفي شأن بليغ قوله في النفوس وأثر مواعظه في القلوب يقول الأوزاعي أيضاً :
(سمعت بلال بن سعد ، ولم أسمع واعظاً أبلغ منه) .
أما عبد الله بن المبارك فيقول :
(كان محل بلال بن سعد بالشام ومصر كمحل الحسن بن أبي الحسن بالبصرة) .
وشأن الربانيين أن يكون عملهم ترجمان علمهم ، حدث الأوزاعي قال :
(هلك ابن بلال بالقسطنطينية ، فجاء رجل يدعي عليه بضعة وعشرين ديناراً ، فقال له بلال : ألك بينة ؟ قال : لا ، قال : كتاب ؟ قال : لا ، قال : فتحلف ؟ قال : نعم ، قال : فدخل منزله فأعطاه الدنانير وقال : إن كنت صادقاً فقد أديت عن ابني ، وإن كنت كاذباً فهي عليك صدقة).
وجاء في واحدة من مواعظه التي هي أشبه بجوامع الكلم قوله الصائب :
(لا تنظر إلى صغر الخطيئة ولكن انظر إلى من عصيت؟).
وفي كلمات يذكر بها الغافلين ، ويوقظ من ألهتهم الدنيا بمتاعها وشهواتها قال فيما روى عنه عثمان بن مسلم :
(رب مسرور مغبون ، ورب مغبون لا يشعر، فويل لمن له الويل ولا يشعر، يأكل ويشرب ، ويضحك ويلعب ، وقد حق عليه في قضاء الله أنه من أهل النار.. فيا ويلاً لك روحاً ، ويا ويلاً لك جسداً ، فلتبك ، وليبك عليك البواكي طول الأبد).
ويتبدى حرصه ـ رحمه الله ـ على رد الجانحين إلى الطريق ، حين يذكر بسعة رحمة الله وكريم عفوه وحلمه وتقبله عن عباده التائبين فيقول :
(إن لكم رباً ليس إلى عقاب أحدكم بسريع ، يقيل العثرة ، ويقبل التوبة ، ويقبل من المقبل ، ويعطف على المدبر).
رحم الله بلال بن سعد وأسكنه الفردوس الأعلى في جنة الخلد يوم الدين .
ـ 2 ـ
ها نحن نتابع الرحلة مع بلال بن سعد وفاءً بما وعدنا في العدد الماضي لعل في ذلك ذكرى لمتذكر، فإن ما كان عليه هؤلاء الرجال صورة صادقة لما كانوا يدعون إليه من العمل بالعلم والزهادة في الدنيا والجهاد في سبيل الله وأن لا يخاف المؤمن في الله لومة لائم .
ها إن هذا الرجل يحدد لنا ـ كما روى عنه الأوزاعي ـ مفهوم الذكر فيجعله على نوعين : ذكر باللسان ، وأن يذكر الله عندما أحل وما حرم فيأخذ الحلال ويجتنب الحرام ،وذلك قوله :
(الذكر ذكران ؛ ذكر باللسان حسن جميل ، وذكر الله عندما أحل وحرم أفضل) .
ولو تنبه –لهذا- العامة من المسلمين لكانوا على خير كبير.
ومن هو الأخ الحقيقي عند بلال بن سعد ؟ قال الأوزاعي : سمعت بلال بن سعد يقول :
(أخ لك كلما لقيك ذكرك بحظك من الله خير لك من أخ كلما لقيك وضع في كفك ديناراً)
وتلك هي مقاييس أهل الإيمان !!
ولا تسأل عن صادق معرفته بربه عز وجل ، وحسن ظنه بجميل كرمه سبحانه يقول الأوزاعي رحمه الله :
(خرج الناس يستسقون وفيهم بلال بن سعد ، فقال : أيها الناس ألستم تقرون بالإساءة ؟
قالوا : نعم .
قال : اللهم إنك قلت :[ما على المحسنين من سبيل] وكل يقر لك بالإساءة فاغفر لنا واسقنا ،
قال : فسقوا)
ألا إنه ليس كثيراً على كرم الله سبحانه أن يجيب دعوة هذا الرجل الصادق الذي كانت دموعه الخاشعة بريد نجواه ، ومخافة الله ينبوع توجهه إلى مولاه:
[وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان ..]
وليكون هناك عباد حقيقيون .. لابد من العبودية الحقة ...
وفي دعوة إلى إنصاف المظلوم ورحمة الضعيف ، والترهيب من تجاوز هذه الحدود يقول أجزل الله مثوبته :
(أيها الناس اتقوا الله فيمن لا ناصر له إلا الله).
وعلى صعيد الخشية من الله ونفاذ البصيرة في حقيقة عمل العبد بجانب رحمة الله ووافر نعمه على خلقه ، يقول الأوزاعي :
(ربما سمعت بلالاً يقول : لكأنا قوم لا يعقلون ، ولكأنا قوم لا يوقنون).
وحين ينظر هؤلاء الرجال في شيء من كتاب الله تجد في نظرهم وتفسيرهم شمول الرؤية والتصور الكامل لمعاني الآيات الكريمة مجتمعة ، وهذا من أهم الأمور التي تعوز الناظر في كتاب الله مفسراً مستنبطاً لمعانيه .
روى عبد الله بن المبارك عن الأوزاعي عن بلال بن سعد في قوله تعالى : [ولو ترى إذ وقفوا فلا فوت] قال : ذلك قوله تعالى : [يقول الإنسان يومئذ أين المفر] . وإنها للفتة تجمع بين أداة المفسر وإحساس صاحب البصيرة ..
هكذا يقف هؤلاء الربانيون من أمثال بلال بن سعد على المحجة التي ترك سيد الأنبياء أمته عليها ، فتراهم في قالهم وحالهم ، معادن خير في الانتصار على النفس ، وحسن الأحدوثة لما أنهم ـ بعد الإيمان ـ في تقوى الله ـ فرضي الله عنهم وأعلى مقامهم في الآخرين .
ـ 3 ـ(/1)
في فهم للأدب النبوي والأخلاق المحمدية التي يفترض بالمؤمن أن يطوع نفسه لتعيش في ظلها ، وتهتدي بنورها حدث الأوزاعي قال : سمعت بلال بن سعد يقول :
(إذا رأيت الرجل لجوجاً ممارياً معجباً برأيه فقد تمت خسارته)
ولكم استنكر النبي صلى الله عليه وسلم اللجاجة والمماراة والإعجاب بالرأي ، وأنذر من الوقوع فيها أو في واحدة منها ، والمتأسون به عليه الصلاة والسلام من بحر هديه يغترفون .
وبلال بن سعد ـ وهو من النصحة لهذه الأمة ـ يخشى على المسلم النفاق ، وأن يكون بين سريرته وعلانيته تخالف ، لأن ذلك بريد الهاوية والعياذ بالله ... يقول بلال وهو يخشى على أخيه المسلم ذلك :
(لا تكن ولياً لله في العلانية وعدوه في السر)
أوليس الله هو الذي يعلم السر وأخفى .. [ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون] .
اللهم اجعل سريرتنا أصلح من علانيتنا واجعل علانيتنا صالحة .
وعلى هذا الخط النوراني من ملاحظة القلب وأعماله يتأول بلال بن سعد قول الله تعالى :
[إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر]
فيقول ـ كما يروي الأوزاعي ـ رحمه الله : (إن أحدكم إذا لم تنهه صلاته عن ظلمه لم تزده صلاته عند الله إلا مقتاً)
فويل ثم ويل للظالمين يريدون أن يسحروا أعين الناس لتغمض عن ظلمهم وتراه غير ذلك ، فيقومون إلى الصلاة !!! فلا يزدادون بهذه الصلاة وهم مقيمون على الظلم والأذى إلا مقتاً عند الله .. وهذا من كريم عدله سبحانه وتعالى .
ولعل من الخير أن تعلم أن صاحبنا ـ رحمه الله ـ كان لا يتناول في بيانه للناس وإرشاده لهم جانباً ويدع جانباً آخر... وإنما هي النظرات الشاملة العميقة ، صنع العالم ألا ريب ، والناصح المربي في حرص على التذكير بالآخرة ، وإخلاص العمل لله عز وجل ، وحمل من ولاه الله هدايتهم إلى ساحة التخلق بأخلاق عباد الله المؤمنين الذين أثنى عليهم ـ سبحانه ـ في أكثر من موضع من كتابه . ها هو ذا يقول : (أما ما وكلكم به فتضيعون ، وأما ما تكفل لكم به فتطلبون ، ما هكذا نعت الله عباده المؤمنين !! أذوو عقول في طلب الدنيا ، وبُلْه عما خلقتم له ؟ فكما ترجون رحمة الله بما تؤدون من طاعة الله ، فكذلك أشفقوا من عقاب الله بما تنتهكون من معاصي الله) .
ذلكم هو التوازن فيما يجب أن يكون عليه سلوك المؤمن الذي يفهم عن الله ما أراد ، ويعمل على حسن التأسي بنبيه عليه الصلاة والسلام .
وانظروا إلى هذه الكلمات النابعة من القلب ، المثقلة بندى الصدق والخشية من الله ، المزدانة بروح العبودية لله المنعم المتفضل ، تلك العبودية التي لا ملاذ للمؤمن غيرها ، فعن عبد الرحمن بن أبي حوشب قال : سمعت بلال بن سعد يقول :
(أربع خصال جاريات عليكم من الرحمن مع ظلمكم أنفسكم وخطاياكم ، أما رزقه : فجارٍعليكم ، وأما رحمته : فغير محجوبة عنكم ، واما ستره فسابغ عليكم ، وأما عقابه : فلم يعجل لكم . ثم انتم على ذلك لاهون تجترئون على إلهكم ، أنتم تكلمون ويوشك الله تعالى يتكلم وتسكتون ، ثم يثور من أعمالكم دخان يسود منه الوجوه . فاتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون ، عباد الرحمن لو غفرت لكم خطاياكم الماضية لكان فيما تستقبلون شغل ، ولو عملتم بما تعلمون لكنتم عباد الله حقاً).
وفي موعظة تكاد تشم من خلال كلماتها رائحة كبد مقروحة ملذوعة حباً لله وخشية من عقابه ، وتقرأ بين سطورها ما توحي به من صدق العزيمة والزهادة في الدنيا ، وعلو الهمة . يقول أجزل الله مثوبته :
(عباد الرحمن لو سلمتم من الخطايا فلم تعملوا فيما بينكم وبين الله خطيئة ، ولم تتركوا لله طاعة إلا جهدتم أنفسكم في أدائها إلا حبكم الدنيا لوسعكم ذلك شراً ، إلا أن يتجاوز الله ويعفو.
عباد الرحمن إنكم تعملون في أيام قصار لأيام طوال ، وفي دار زوال لدار مقام ، وفي دار نصب وحزن لدار نعيم وخلد ، ومن لم يعمل على اليقين فلا يغتر).
ويقول رحمه الله :
(عباد الرحمن هل جاءكم مخبر يخبركم أن شيئاً من أعمالكم تقبل منكم ، أو أن شيئاً من خطاياكم غفر لكم [أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون] والله لو عجل لكم الثواب في الدنيا لاستقللتم كل ما افترض عليكم ، أفترغبون في طاعة الله بتعجيل دنيا تفنى عن قريب ، ولا ترغبون في جنة [أكلها دائم وظلها تلك عقبى الذين آمنوا وعقبى الكافرين النار]
عباد الرحمن أشفقوا من الله ، واحذروا الله ولا تأمنوا مكره ، ولا تقنطوا من رحمته ، واعلموا أن لنعم الله عندكم ثمناً فلا تشقوا على أنفسكم،أتعملون عمل الله لثواب الدنيا!! فمن كان كذلك فوالله لقد رضي بقليل حيث استعنتم على اليسير من عمل الدنيا فلم ترضوا ربكم فيها ورفضتم ما يبقى لكم وكفاكم منه اليسير).(/2)
وفي زمن تدور فيه الفتن بقرونها ، ويعمل مرضى القلوب على أن تغشى قلوب الآخرين غاشية الزيغ ، وأن يستحكم الضلال في الناس ، وتصبح الذنوب بديل الطاعات ندعو الله بدعاء بلال بن سعد حين يقول :
(اللهم إني أعوذ بك من زيغ القلوب ، ومن تبعات الذنوب ، ومن مرديات الأعمال ، ومضلات الفتن) .
ولله الحمد في الأولى والآخرة وهو حسبنا ونعم الوكيل ..
الهوامش :
* هو بلال بن سعد بن تميم السكوني، الإمام الرباني، الواعظ الزاهد العابد، أبو عمر الدمشقي، شيخ أهل دمشق كان لأبي سعد صحبة .
** مجلة حضارة الإسلام. س17-ع:7 رمضان 1396-أيلول-1976.(/3)
مع سعيد بن المسيب رحمه الله*
أ.د/محمد أديب الصالح
رئيس تحرير مجلة حضارة الإسلام
سيد التابعين في زمانه ومقدّمهم أمانة في نقل السنة عن الصحابة، وفقهاً في دين الله عز وجل وزهداً في الدنيا، وصدعاً بالحق واستعلاءً بالإيمان والعلم على حطام الدنيا، ورهبة السلطان. قال الزهري: جالسته سبع حجج وأنا لا أظن عند أحد علماً غيره، وقال محمد بن إسحق عن مكحول قال: طفت الأرض كلها في طلب العلم، فما لقيت أعلم من سعيد بن المسيب، أما الإمام احمد فيقول: سعيد بن المسيب أفضل التابعين، وقال علي بن المديني: إذا قال سعيد: مضت السنة فحسبك منه، وهو عندي أجل التابعين.
والذي ينبغي التنبيه إليه ما كان عند هؤلاء الرجال من التكامل بين العلم والعمل، فالعلم وسيلة للتقرب إلى الله عز وجل في أنفسهم وذويهم، وفيما وراء ذلك من أبناء الأمة، فترى بجانب العلم الجم، العمل بهذا العلم، والعبادة الخالصة المخلصة، والحرص على أن تكون التصرفات كلها موزونة بميزان الشريعة والمخافة الحقة من رب العالمين، حتى صدق في سعيد وأمثاله، قول الله تباركت أسماؤه: "إنما يخشى الله من عباده العلماء" قال الأوزاعي رحمه الله: كانت لسعيد بن المسيب فضيلة لا نعلمها كانت لأحد من التابعين، لم تفته صلاة في جماعة أربعين سنة. وقال هو عن نفسه: "ما أذن المؤذن ثلاثين سنة إلا وأنا في المسجد" وقيل له وقد اشتكى عينيه: يا أبا محمد لو خرجت إلى العقيق فنظرت إلى الخضرة فوجدت ريح البرية لنفع ذلك بصرك، فقال سعيد: فكيف أصنع بشهود العتمة والصبح" قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: (كان سعيد بن المسيب من أورع الناس فيما يدخل بيته وبطنه، وكان من أزهد الناس في فضول الدنيا، والكلام فيما لا يعني). ومما يؤيد ذلك أنه كان له مال يتجر فيه ويقول: "اللهم إنك تعلم أني لم أمسكه بخلاً ولا حرصاً عليه، ولا محبة للدنيا ونيل شهواتها، وإنما أريد أن أصون به وجهي عن بني مروان حتى ألقى الله فيحكم فيَّ وفيهم، وأصل منه رحمي، وأؤدي منه الحقوق التي فيه، وأعود على الأرملة والفقير والمسكين والجار".
أما وقوفه عند الحق وثباته عليه مهما كانت الظروف، فأمر مشهور وذائع، وقصة إبائه البيعة لبني مروان، وعدم تزويج ابنته لهشام بن عبد الملك، وتعرضه للابتلاء –فيما بعد من أجل ذلك- ثم تزويجها على درهمين لكثير بن أبي وداعة- مما زان تاريخ العلماء العاملين الذين لا يخافون في الله لومة لائم، ويؤدون حق الله والأمة، فيما أوتوا من العلم وأمانة الأسوة.
وحدث عبد الله بن طلحة قال: دعي سعيد بن المسيب إلى نيف وثلاثين ألفاً ليأخذها فقال: لا حاجة لي فيها ولا ببني مروان، حتى ألقى الله فيحكم بيني وبينهم.
أما عن حسن سمته وأدبه في الحديث وتذوقه حلاوة الإيمان، فحدث ولا حرج. جاءه رجل وهو مريض فقال: أقعدوني فأقعدوه، فجلس فحدثه ثم اضطجع، فقال الرجل: وددت أنك لم تتعن، فقال: إني كرهت أن أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا مضطجع.
ومن مواعظه التي تعمل عملها في تكوين شخصية المؤمن قوله رحمه الله: "لا تملؤوا أعينكم من أعوان الظلمة إلا بالإنكار من قلوبكم، لكيلا تحبط أعمالكم الصالحة" وهي نظرة بعيدة الغور تصدر عن إيمان عميق وتجارب اصطلى بنارها، ومعاناةٍ عملية لأخلاق أهل الإيمان التي لم يكن يدع أن يذكر بها رحمه الله ويريد للمسلم أن تكون برقع سلوكه في الحياة. أما وقد أكرمه الله بما أكرمه من العلم والعمل. فلا بدع أن تتفجر ينابيع الحكمة على لسانه. فيبين للناس أن الطاعة سبيل الكرامة والإعزاز، وأن المعصية سبيل المهانة والذل فيقول: "ما أكرمت العباد أنفسها بمثل طاعة الله، ولا أهانت نفسها إلا بمعصية الله تعالى".
وفي جانب من جوانب هذه الساحة يقول: "كفى بالمرء نصرة من الله له أن يرى عدوه يعمل بمعصية الله".
وفي لمسة رقيقة تدل على عظيم مراقبته لمولاه، وتحققه بمقام العبودية الخالصة الذي كثيراً ما يكون العلم نفسه عائقاً عن الوصول إليه، عندما يقع العالم في حمأة الغفلة فيشرع يطوف حول ذاته وعلمه وكفى، قال: "يد الله فوق عباده، فمن رفع نفسه وضعه الله، ومن وضعها رفعه الله، الناس تحت كنفه يعملون أعمالهم، فإذا أراد الله فضيحة عبد أخرجه من تحت كنفه فبدت للناس عورته". وما ربك بظلام للعبيد.
رحم الله عالم المدينة الذي اجتمع له –بفضل الله عز وجل- العلم والعمل، وأداء حق العلم في التعليم والبيان والصدع بالحق، والخشية الصادقة لرب العالمين، ثم اليقظة التي يمدها إيمانه وعقله، فلم يقع –وهو المنصرف إلى العلم والعبادة- في شيء من الخداع والأحابيل، وكان –وهو التقي الورع- لكل صغيرة أو كبيرة بالمرصاد.(/1)
(*) هو سعيد بن المسيب أبو محمد القرشي المخزومي عالم المدينة وسيد التابعين في زمانه، ولد لسنتين مضتا من خلافة عمر رضي الله عنه وقيل لأربع مضين منها بالمدينة. رأى عدداً من الصحابة، وروى عن كثير وروى عنه خلق. روى سفيان الثوري عن عثمان بن حكيم سمعت سعيد بن المسيب يقول: ما أذّن المؤذن منذ ثلاثين سنة إلا وأنا في المسجد، أخرج ذلك صاحب الحلية وقال الزهري في السير: إسناده ثابت. توفي رحمه الله سنة أربع وتسعين للهجرة.(/2)
مع فاتحة الكتاب تحيا القلوب
بسم الله والحمد لله حمدا يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه. والصلاة والسلام على رسوله وصفوة خلقه ورحمته للعالمين.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ.
في القرآنِ سورةٌ قصيرةُ الآياتِ عظيمةُ المعنى جليلةُ المبنى، اشتملت على إصلاحِ النّفس وإصلاحِ المجتمع، وأرست أسُسَ الأمن والاستقرار والسعادةِ في الأرض. ويالها من سورة تسكُب في النفس السكينةَ، وتفيض على القلبِ طُمأنينة، فيها عقيدةٌ وعبادة، وجزاء ومَثوبة، ووَعد ووعيد،
** هي خيرُ ما أنزِل
فعن أبيّ بن كعب، رضي الله عنه، أن الرّسول، صلى الله عليه وسلم قال له: (لأعلِّمنَّك سورةً ما أنزِلَ في التوراة ولا في الإنجيلِ ولا في الفرقان سورة كانت خيرًا منها)، قال: (فاتحةُ الكتاب هي السبعُ المثاني والقرآن الذي أوتيتُه)[1]. هي قلب الصلاةُ لأنّه لا صلاةَ إلا بها، وهي السبعُ المثاني لأنها تثَنَّى وتكرَّر في الصلاة.
** هي الواقية وهي رُقيةٌ
لأنها تقِي قارئها السوءَ، وهي الشِّفاء يُستشفَى بها العليل؛ فعن أبي سعيدٍ الخدريّ رضي الله عنه أنَّ ناسًا من أصحابِ النبيِّ أَتَوا على حيٍّ من أحياء العرَب فلم يَقروهم، فبينما هم كذلك إذ لدِغ سيِّد أولئك فقالوا: هل معَكم من دواءٍ أو راقٍ؟ قالوا: إنّكم لم تقرونا، ولا نفعَلُ حتى تجعَلوا لنا جعلاً، فجَعَلوا لهم قطيعًا من الشّاء، فجعل يقرَأ بأمِّ القرآن ويجمع بزاقَه ويتفِل فبرَأ، فأتوا بالشاءِ فقالوا: لا نأخُذه حتى نسألَ النبيَّ ، فسألوه فضحِك وقال: ((وما أدراكَ أنها رقية؟! خذوها واضرِبوا لي معكم بسهمٍ)) رواه البخاري ومسلم.
** هي أحَدُ النّورَين
فعن ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما قال: بينَما جبريلُ قاعدٌ عند النبيِّ سمِع نقيضًا من فوقِه، فرفع رأسه فقال: هذا بابٌ من السماءِ فتِح اليومَ، لم يفتَح قطّ إلا اليوم، فنزل منه ملك فقال: هذا مَلكٌ نزل إلى الأرضِ لم ينزِل قطّ إلاّ اليوم، فسلَّم وقال: أبشِر بنورَين أوتيتَهما لم يؤتاهما نبيٌّ قبلَك: فاتحةُ الكتاب وخواتيمُ سورة البقرة، لن تَقرَأَ بحرفٍ منهما إلا أُعطيتَه. رواه مسلم.
ورد في صحيح مسلِمٍ عن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: سمِعت رسولَ الله يقول: (قال الله تعالى: قسمتُ الصلاةَ بيني وبين عبدي نِصفين ولِعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ قال الله تعالى: حمِدَني عبدي، وإذا قال: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قال الله تعالى: أثنى عليَّ عبدي، وإذا قال: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ قال: مجَّدَني عبدي، فإذا قال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ قال: هذا بيني وبين عَبدي ولِعبدي ما سأَل، فإذا قال: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ قال: هذا لِعبدي ولِعبدي ما سأل). ولعلَّ هذا الحديثَ الصحيح يبيِّن مِن سِياق هذه السّورةِ ويكشِف سِرًّا من أسرارِ اختِيارها ليردِّدَها المؤمِن سبعَ عشرةَ مرّة في كلِّ يوم وليلة أو ما شاء الله أن يردِّدَها كلَّما قام يدعوه في الصلاة.
حّرِيّ بهذه السورَة التي تُعَدّ ركنًا من أركان الصلاة أن يقرَأَها المصلِّي بتُؤَدةٍ وتأنٍّ وتدبُّر وخشوعٍ وحضور قَلبٍ، مستحضِرًا معانيها، محقِّقًا مخارِجَ حروفها في الصّلاة السّرّيَّة والجهريّة، عن وائلِ بنِ حجر قال: سمعتُ النبيَّ قرأ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ فقال: ((آمين)) ومدَّ بها صوتَه[2]. ومعنى (آمين): اللّهمّ استجِب، وهي ليست من السورة. ويُستحَبّ للقارِئِ الفّصلُ بسكتَةٍ بين آخرِ السّورة وقولِ آمين، وفي الحديث عن رسول الله أنه قال: (إذا أمَّن الإمامُ فأمِّنوا؛ فإنَّه من وافق تأمينُه تأمينَ الملائكةِ غفِرَ له ما تقدَّم من ذَنبِه) رواه البخاري ومسلم.
إنَّ سورةً لها هذا الفضل العظيم لجديرة بتأمل بعض معانيها واستخراج بعض كنوزِ معانيَها؛ لنهتدِيَ بهُداها.
1. الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(/1)
ثناءٌ على الله بما أنعَمَ علينا وما أعطانا. الثّناءُ حقٌّ لله سبحانه، هو المستحِقّ للحَمدِ لعميم نِعَمه وتنوعِ آلائه على العباد. فالحمدُ فيه معنى الاعترافِ أي إقرارٌ مِنَ العبدِ بتقصيرهِ وفقرة وحاجتِه. واعترافٌ للهِ جلّ وعلا بالكمالِ والفضل والإحسان، وهذا من أعظمِ ألوانِ العبادة؛ ولهذا قد يعبُد العبد ربَّه عبادةَ المعجَبِ بعمَلِه فلا يقبَلُ منه؛ لأنَّ الإعجابَ لا يتَّفق مع الاعترافِ والذّلِّ، ولا يدخل العبدُ على ربِّه من باب أوسَعَ وأفضل من بابِ الذّلِّ له والانكسار بين يدَيه سبحانه؛ ولهذا كان نبيّنا، صلى الله عليه وسلم، كثيرَ الاعتراف لله على نفسِه بالتَّقصير والظلمِ، يقول: "اللّهمّ إني ظلمتُ نفسي ظلمًا كثيرًا، ولا يغفر الذنوبَ إلا أنت، فاغفِر لي مغفرةً من عندك وارحمني، إنّك أنت الغفور الرحيم". أخرجه البخاري ومسلم.
الْحَمْدُ لِلَّهِ شُعورٌ يفيض به قلبُ المؤمِنِ بمجرَّدِ ذكرِه لله، فإنَّ وجودَه ابتداءً ليس إلاّ فيضًا مِن فيوضاتِ النِّعمة الإلهية التي تستوجب الحمدَ والثناءَ، في كلِّ لمحةٍ في كلِّ لحظةٍ في كلِّ خُطوة تتوالى آلاءُ الله على العبد وتتواكب وتغمُر خلائقَه كلَّها وخاصّةً هذا الإنسان، ومن ثَمَّ كان الحمدُ لله ابتداءً وكان الحمد لله ختامًا دليلَ الإيمان، وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ [القصص:70].
ومع هذا يبلُغ من فضلِ الله سبحانه على عبدِه المؤمن أنه إذا حمِد الله حمدًا يليق بجلالِه كتبَها له حسنةً ترجحُ كلَّ الموازين، فعن عبد الله بن عمَرَ، رضي الله عنهما، أنَّ رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حدّثهم: "إنَّ عبدًا من عبادِ الله قال: يا ربِّ لك الحمدُ كما ينبغِي لجلال وجهِك وعظيم سلطانك، فعضلت بالملكين فلم يدريا كيف يكتبانها، فصعدا إلى السماء، وقالا: يا ربَّنا إنَّ عبدَك قد قال مقالةً لا ندرِي كيفَ نكتبُها، قال الله عزّ وجلّ وهو أعلم بما قال عبدُه: ماذا قال عبدي؟ قالا: يا ربِّ، إنّه قال: يا ربّ لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهِك وعظيم سلطانك، فقال الله عزّ وجلّ لهما: اكتبَاهَا كما قال عبدي حتى يلقاني فأجزِيَه بها)[3].
2. لفظ الجلالة (الله)
هو الاسمُ الأعظم للهِ عزّ وجلّ على قولِ طائفةٍ مِن أهلِ العلم، الذي تلحَق به الأسماءُ الأخرى، ولا يشاركه فيه غيره. ومن معاني (الله) أنه الإله أي المحبوب المعبودُ المتفرِّد باستحقاقِ العبادة.
3. رَبِّ الْعَالَمِينَ
أي: ربّ كلِّ شيءٍ وخالقه والقادِر عليه، كلُّ ما في السموات والأرض عبدٌ له وفي قبضَتِه وتحت قَهرِه.
4. الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
اسمُ الرحمن لا يُسمَّى به غيرُ الله، فالله والرّحمن من الأسماء الخاصّة به جلّ وعلا، لا يشاركه فيها غيرُه، أمّا الأسماء الأخرى فقد يسمَّى بها غير الله كما قال سبحانه عن نبيِّه: بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128]. والرّحمن والرّحيم مأخوذان منَ الرّحمة، فالرّحمن رحمةُ عامّة بجميع الخلقِ، والرّحيم رحمةٌ خاصّة بالمؤمنين. الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ صِفةٌ تستغرِق كلَّ معاني الرحمةِ وحالاتها ومجالاتها، تتكرَّر في صُلب السّورة في آيةٍ مستقلَّة لتؤكِّدَ السّمَةَ البارِزة في تلك الرّبوبيّة الشاملة.
5. مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ
وقُرئ مَلِكِ، والفَرقُ بين الوصفَين بالنّسبة إلى الربِّ سبحانه أنّ الملِك صِفةٌ لذاتِه والمالِكَ صِفةٌ لفِعلِه، ويومُ الدين يومُ الجزاء من الربِّ سبحانه، وهو يوم يدين الله العبادَ بأعمالهم أي: يجازِيهِم بها.
6. إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ
أي: نخصُّك بالعبادة، ونخصّك بالاستعانة، لا نعبد غيرَك، لا نطلُبُ إلاّ عونَك، لا نستعِين بغيرك، لا نستَغني عن فضلِك طرفة عين، وقدِّمت العبادة على الاستعانَةِ لكون الأولى وسيلةً إلى الثانية، وقرِنَت العبادةُ بالاستعانة للدّلالة على أنَّ الإنسانَ لا يستطيع أن يقومَ بعبادةِ الله إلاّ بإعانةِ الله له وتوفيقِه، وهو إقرارٌ بعجزِ الإنسان عن القيامِ بالعباداتِ وعن حملِ الأمانةِ الثَّقيلة إذا لم يُعِنه الله، (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّه) [الأعراف:43].(/2)
قال ابن القيِّم رحمه الله، في الطب النبوي: "إنَّ موضعَ الرّقيَةِ منَ السورة إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، ولا ريبَ في أن هاتين الكلِمَتين من أقوى أجزاءِ هذا الدواء؛ فإنَّ فيهما من عمومِ التّفويضِ والتوكُّل والالتجاء والاستعانةِ والافتقار والطّلَب والجمع بين أعلَى الغايات ـ وهي عبادةُ الربّ وحدَه ـ وأشرفِ الوسائل ـ وهي الاستعانةُ به على عبادته ـ ما ليس في غيرِها، وتأثيرُ الرُّقَى بالفاتحَةِ وغيرِها مِن علاج ذواتِ السّموم سِرٌّ بديع، ونفسُ الراقي تفعل في نفسِ المرقيّ، فيقع في نفسِها فِعلٌ وانفعال كمَا يقَع بين الداءِ والدّواء، فتقوَى نفس الراقي وقوَّتُه بالرّقيَة على ذلك الدواء، فيدفعه بإذن الله"[.
7. اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ
دعاءٌ صريح، حظُّ العبد من الله، وهو التضرُّع إليه والإلحاح علَيه أن يرزقَه هذا المطلبَ العظيم الذي لم يُعطَ أحدٌ في الدّنيا والآخرة أفضل منه، كما منَّ الله على رسوله بعدَ الفتحِ بقوله: وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا [الفتح:2]. أي: قوِّ هدايَتَنا، وفِّقنا إلى معرفةِ الطريق الصحيح والاستقامةِ عليه، ثبِّتنا حتى لا ننحرفَ أو نزيغَ عنه، فقد يكون الإنسانُ اليومَ مهتديًا وغدًا من الضالّين.
اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ،هو الدعاءَ الوحيد المفروضٌ على المسلم قولُه، فيتوجَّب على المسلم قولُه عِدّةَ مرّات في اليوم، وهذا يدلّ على أهمّيّة الطّلَب وأثرُه في الدنيا والآخرة. وفي قوله: اهْدِنَا ولم يقل: "اهدِني" تربِيةٌ للمسلم على تذكُّر إخوانِه وتقوية معاني الأُلفة، وفيه إِزالةٌ لمشاعِرِ الأثَرَة والأنانية، فكما أنّك تحبّ لإخوانِك ما تحبّ لنفسك فادعُ لهم بما تدعو لنفسِك. والاجتماعُ على الهدى مطلَبُ المؤمِنين، وكَثرةُ السّالكين أُنس وثباتٌ للسّائرين، والسّالِكُ وحدَه قد يضعُف وقد يملّ أو يسقُط أو تأكلُه الذّئاب.
8. صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ
وهم رسولُ الله وأصحابُه، يعني: الذين حازوا الهدايةَ التامّة ممّن أنعم الله عليهم من النّبيِّين والصِّدِّيقين والشّهداءِ والصالحين، ولا يخرُج المكلَّفون عن هذه الأصنافِ، فكلُّ الخَلقِ ينتمي لواحدٍ من هذه الأصناف: الذين أنعَم الله عليهم هم الذين سلَكوا الصراطَ المستقيم وعرفوا الحقَّ وعمِلوا بمقتَضَاه، أمّا الذين عرَفوا الحقَّ وخالفوه فهم المغضوبُ عليهم، والعامِلون بلا عِلمٍ هم الضالّون، قال تعالى: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا [الكهف:103، 104]. قدِّمَ المغضوبُ عليهم على الضّالّين لأنَّ أمرَهم أخطر وذنبَهم أكبَر، فإنَّ الإنسانَ إذا كان ضلالُه بسبَبِ الجهل فإنّه يرتفِع بالعلم، وأما إذا كان هذا الضّلالُ بسبب الهوَى فإنّه لا يكاد ينزِع عن ضلاله، ولهذا جاء الوعيد الشديدُ في شأنِ من لا يعمَل بعَمَلهِ.
9. غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ، خاتمةُ سورةِ الفاتحة
هي مناسِبَة لكلِّ ما ورد في السّورة من أوَّلها إلى آخرها، فمَن لم يحمَدِ الله تعالى فهو مغضوبٌ عليه وضالّ، ومن لم يؤمِن بيومِ الدِّين وأنَّ الله سبحانه وتعالى مالِكُ يومِ الدّين ومَلِكه ومَن لم يخصَّ الله تعالى بالعبادةِ والاستعانةِ ومن لم يهتدِ إلى الصراط المستقيم فهم جميعًا مغضوبٌ عليهم وضالّون.
اللّهمّ صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمّد، وارض عن الخلفاء الأربعة الراشدين، وبقية الصحب والآل الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
________________________________________
[1] أخرجه الترمذي في التفسير (3125)، والنسائي في الافتتاح (914)، وعبد الله في زوائد المسند (5/114) بنحوه، وصححه ابن خزيمة (500، 501)، وابن حبان (775)، والحاكم (2048)، وهو في صحيح سنن الترمذي (2499).
[2] أخرجه أحمد (4/315)، وأبو داود في الصلاة (932)، والترمذي في الصلاة (248)، والنسائي في الافتتاح (879)، وابن ماجه في الصلاة (855)، والدارمي في الصلاة (1247)، وحسنه الترمذي، والنووي في المجموع (3/369)، وصححه الدارقطني (1/687)، وابن حبان (1805)، وهو في صحيح سنن الترمذي (205).
[3] سنن ابن ماجه: كتاب الأدب (3801)، وأخرجه أيضا الطبراني في الكبير (12/343) والأوسط (9249)، والبيهقي في الشعب (4/94)، وأورده الألباني في ضعيف الترغيب (961).(/3)
مع قضية الحجاب
بقلم الدكتور عدنان علي رضا النحوي
اتخذ الرئيس الفرنسي شيراك قراراً بمنع الفتيات المسلمات من الحجاب في المدارس الفرنسية. وتناول عدد من الكتاب والصحف ووسائل الإعلام هذا القرار بالتعليق والاعتراض والتنديد. إلا أن شيخ الأزهر الدكتور محمد سيد طنطاوي فاجأ العالم بفتواه أن من حقّ فرنسا أن تصدر مثل هذا القرار وعلى المسلمة أن تستجيب له ما دامت تعيش في فرنسا تحت حجّة الضرورة التي يبدو أن شيخ الأزهر غاب عنه معنى الضرورة في الإسلام.
كانت المشكلة الردّ على الرئيس الفرنسي فصارت المشكلة الآن الردّ على محمد سيد طنطاوي وشيراك. أمريكا وإنكلترا والطائفة الكاثوليكية في فرنسا والفاتيكان اعتبرت أنه ليس من حقّ فرنسا إصدار مثل هذا القرار حسب المنهج الديمقراطي العلماني وحسب النصرانية. وقامت ردود كثيرة على الطنطاوي من شيوخ الأزهر ومسلمي فرنسا ومسلمي العالم الإسلامي، كما سبق لهم أو لبعضهم أن ردَّ على شيراك.
مشكلة الحجاب في فرنسا قديمة ربما ظهرت في العقد الماضي من القرن الخامس عشر الهجري ( العقد العاشر من القرن العشرين الميلادي ). وبدأت القضيّة حين فصلت بعضُ المدارس الفرنسية طالبات مسلمات لأنهنَّ أصررن على الحجاب. وبدأ المسلمون ينقلون اعتراضهم من دائرة إلى دائرة، ومن مستوى إلى مستوى، دون الوصول إلى نتيجة. واستمرًّت القضيّة مع ضخامة الجهود التي بذلها مسلمو فرنسا إلى اليوم حين أصدر شيراك قراره الأخير، ونهض شيخ الأزهر يؤيده.
أين هي المشكلة وما أسبابها ؟! عزا الكثيرون السبب إلى وجود تحدٍّ للإسلام والمسلمين، وهذا مظهر من مظاهر هذا التحدي، ونحن نؤكد وجوده بصورة أوسع من الحجاب، وأوسع من فرنسا. إن نطاق التحدي للمسلمين واسع ممتدٌّ في الأرض، ممتدّ في الأساليب، تتكاتف فيه قوى كثيرة.
ولكنِّي أودُ أن أشير إلى سبب هو من أهم الأسباب في نظري. ذلك هو مسلسل التنازلات من المسلمين خلال تاريخ غير قصير، سواء أكان المسلسل في العالم الإسلامي، أم في الغرب، أم في فرنسا بالذات.
كنت في مؤتمر إسلامي في ـ باريس ـ فرنسا قبل بضع سنين. فوجئت أنَّ من بين الأفكار التي طُرِحت آنذاك هو أنَّ العلمانية مساوية للإسلام في مقصودها. وتناول هذه الفكرة عدد من الدعاة المسلمين بالتأييد والشرح، حتى قال أحدهم : " لا نملك إلا أن ندخل في النسيج الفرنسي الثقافي والديني ". وتردّد هذا الكلام في مواقع متعددة، كان من بينها الحوار الذي دار بيني وبينهم، بالرسائل، ثم في منزلي في الرياض شهده عدد من الدعاة، ثمَّ الحوار الذي دار على صفحات المجتمع في أكثر من حلقتين. لقد نصحتُ في حدود وسعي، ونبهّتُ إلى الخطر الذي يقع بسبب هذه التنازلات.(1) فإذا أُضيف هذا إلى مسلسل التنازلات في العالم الإسلامي، التنازلات التي انتهى بعضها بحكم علماني واضح يمنع الحجاب ويمنع كثيراً من أحكام الإسلام وشرعه غير الحجاب.
لقد كوَّن هذا المسلسل من التنازلات التي امتدت زمناً طويلاً قوة نفسية للكثيرين في العالم الغربي تغريهم بالجرأة على تحدِّي الإسلام والمسلمين في قضايا الحجاب وغيرها، لما رأوا أن بعض المسلمين أنفسهم يتنازلون شيئاً فشيئاً عن إسلامهم، حتى توافر لديهم، لدى بعض المسلمين، الاستعداد النفسي والفكري للتنازلات.
أضف إلى ذلك صدور بعض الفتاوى عن بعض المسلمين فيها ضعفٌ وتراخٍ، أو مخالفة صريحة للإسلام.وحتى في فرنسا قامت مؤخراً دعوة تطلب استبدال الحروف الفرنسية بحروف اللغة العربية، وقام عدد من أبناء العرب المسلمين يؤيدون ذلك. ومن المنتسبين إلى الإسلام من طالب بتبنّي اللغة العامية بدلاً من لغة القرآن. والأمثلة على ذلك كثيرة يطول عرضها. إنها من مسلسل التنازلات المشهود.
أما بالنسبة لرأي الشيخ الطنطاوي، فأستحي أن أسميها فتوى. إنه رأي أورثنا صدمة كبيرة حين يخرج هذا الرأي المخالف كليّةً للإسلام من شيخ الأزهر، الأزهر الذي ظلًّ قروناً يحمي الإسلام والمسلمين. الخطأ الكبير الذي وقع فيه شيخ الأزهر هو أنه كان من واجبه أن يخاطب الناس جميعاً بالإسلام وشريعته وأحكامه، وأن يُبلّغ دين الله كما أُنزل على محمد صلى الله عليه وسلّم، وأن يدعو الناس إليه.
فالإسلام هو دين الله، دين جميع الأنبياء والمرسلين. فالله واحد، وما كان لله الواحد الأحد أن يبعث للبشريّة بأديان مختلفة، ولكنها رسالات تحمل الدين الحقّ الواحد، رحمة من الله بعباده.
فالإسلام دين نوح وإبراهيم وموسى وعيسى وسائر الأنبياء والمرسلين عليهم السلام، ودين محمد صلى الله عليه وسلّم، خاتم الأنبياء والمرسلين، دين واحد. فهو رسالة الله إلى النَّاس جميعاً، وإلى شيراك وشيخ الأزهر وغيرهما، فإن عصى أحدهم ربَّه وخالف رسالة الله إليه، أفنقرّه نحن على ذلك ؟!(/1)
فليس من شأن شيخ الأزهر أن يُقرَّ الاتجاهات المنحرفة عن الدين الحقِّ، ولا أن يُعطيها المسوِّغات لوجودها، ولا أن يُعطي المسوِّغات لأحد من المسلمين أن ينحرف عن دين الله ويخضع إليها.
ليس من حقِّ فرنسا ولا غيرها أن تصدر قوانين تخالف شرع الله، فإن فعلت ذلك من منطلق قوتها وعلمانيتها، فليس من حقِّ شيخ الأزهر ولا أحد من المؤمنين أن يُقرّوا ذلك ويقبلوه ويدعموه، أو أن يتحاكموا إليه.
العلمانيّة تدِّعي أن الدولة لا تتدخل في دين الناس، فكلُّ فرد حرٌّ بأن يتبع الدين الذي يريده. ومع ذلك فالدول العلمانية تطلق الحركات التنصيرية وتدعمها بالمال والإعلام وغير ذلك. وأما الإسلام، الدين الواحد الحقُّ من عند الله، فيجعل أول مسؤوليات الدولة حماية الدين الإسلامي وإقامة شرعه والدعوة إليه، ونشره في الأرض كما أُنزل على محمد صلى الله عليه وسلّم.
( إنَّ الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم ومن يكفر بآيات الله فإنَّ الله سريع الحساب )
[ آل عمران : 19 ]
( أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً وإليه يُرجعون )
[ آل عمران : 83 ]
وكذلك : ( ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يُقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين )
[ آل عمران : 85 ]
ولقد لا حظنا في كثير مما كتب ردَّاً على شيراك وشيخ الأزهر أنهم تحاكموا إلى العلمانية وقوانينها، وإلى أعراف وقوانين يبرأ الإسلام منها. إنَّ واجب كلّ مسلم، كما هو واجب شيخ الأزهر، أن يردّ كلّ قضاياه صغيرها وكبيرها إلى الكتاب والسنّة وأن يخرج برأي تدعمه الحجّة والبيّنة من الكتاب والسنّة. ولا بأس بعد ذلك الردّ عليهم من خلال علمانيتهم وديمقراطيتهم. ولكن أين الديمقراطية التي يزعمونها، إنها عدوان واحتلال ونهب لخيرات الشعوب. إنَّها شعار كذب في المواقع كلّها، وخُدِع به المسلمون كما خُدِعوا بغيره من الشعارات.
إننا ندرك أننا اليوم ضعفاء . ولكن ضعفنا لا يحلُّ لنا تغيير دين الله، ولا أن نتخلى عنه ولا أن نتنازل عن شيء منه مراءاة لأحد من خلق الله. ولا بدّ أن يعي المؤمن أنه مهما تنازل عن شيء من دينه مراءاة إلى العلمانية ودولها، فإن ذلك لن يكسبه ودَّهم، وإنما يخسر بذلك أمرين : أولاً يخسر رضا الله، وثانياً : يخسر مهابته في قلوب أولئك، فيكون من الخاسرين، كما قال الله سبحانه وتعالى في الآية المذكورة أعلاه ( الآية 85 من سورة آل عمران ).
ومهما بذل المسلم من أجل هذه المراءاة فلن ينال رضاهم أبداً :
( ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهوائهم من بعد ما جاءك من العلم مالك من الله من وليٍّ ولا نصير )
[ البقرة : 120 ]
فإصدار قرار بمنع الطالبات المسلمات من الحجاب في المدارس الفرنسية هو هوى من النفوس لا حجّة له من الدين أو العلم أو الأخلاق، فهل نسي شيخ الأزهر هذه الآيات الكريمة فاتبع أهواءهم ؟! إننا ندعو شيخ الأزهر إلى التوبة من فتواه هذه، إلى أن يتوب إلى الله، ففتواه خرجت به عن حدود الفتوى إلى المعصية والإثم , فَلْيَتُبْ وليعلنْ توبته قبل أن يلقى الله وهو من الخاسرين، ليس له من الله وليّ ولا نصير.
ونقول للمسلمين في فرنسا وغيرها أن اثبتوا على دين الله إيماناً وعلماً ودعوةً وبلاغاً على نهج جليٍّ، مهما كلّفكم ذلك. واعلموا أن الضرورة الشرعية هي الحالة التي تهدّد المسلم بالموت من الجوع والعطش وأمثاله. وهي ضرورة للفرد، لا يُعقل أن تكون ضرورة للأمة كلّها أو للجماعة، ليتنازلوا عن دين الله.
ونقول للمسلمين بعامة كفاكم تنازلات، فاجْهروا بالحقِّ، بدين الله، بالإسلام، عن إيمان وعلم وخشية من الله لا خشية من الناس، وادعوا إلى دين الله واجهروا به، فهو مصدر قوتنا وسبب نجاتنا، فاجهروا بدين الحق ولا تنحرفوا ولا تتنازلوا مهما تكن المغريات، وإلا فالهلاك الهلاك !
إن القضيّة لدى فرنسا وغيرها ليست قضية الحجاب، إنها قضية الإسلام ورسالته، قضيّة الإيمان بالله وبدينه.
إن الله سبحانه وتعالى لم يعط لأحد من خلقه الحقَّ في أن يكفر فيكون في نجاة مع كفره. كلا ! إن الله يريد من عباده الإيمان الصادق النابع من القلب واليقين، ومن التأمل والتفكير، ومن رسالة النبوة الخاتمة، فمن آمن فله الجنّة والأجر والثواب، ومن كفر فله جهنّم والعذاب الشديد :
( وقل الحقُّ من ربّكم فمن شاء فليؤمنْ ومن شاء فليكفرْ إنَّا أعتدنا للظالمين ناراً أحاط بهم سُرَادقها وإن يستغيثوا يُغاثوا بماءٍ كالْمُهْل يَشْوي الوجوه بئس الشّراب وساءتْ مُرْتفقا. إنَّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنَّا لا نضيعُ أجرَ من أحسن عملاً )
[ الكهف : 29 – 30 ]
ولا يتكئن أحدٌ على سوء تأويله لقوله سبحانه وتعالى : ( لا إكراه في الدين )، فعليه أن يكمل الآية ليتضح المعنى :(/2)
( لا إِكراه في الدين قد تَّبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويُؤمن بالله فقد استمسك بالعروةِ الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم . الله وليُّ الذين آمنوا يُخرجهم من الظلمات إلى النّور والذين كفروا أولياؤهم الطَّاغوت يخرجونهم من النَّور إلى الظلمات أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون )
[ البقرة : 256 – 257 ]
والحمد لله ربّ العالمين
9/11/1424هـ
1/1/2004م(/3)
مع كل محنة منحة وفي المصيبة خير!
عبد العليم صديق*
"كان في سالف الزمان ملك يحكم دولة وفي إحدى معاركه مع أعدائه قطعت أُذنه, فقال له وزيره: لعل في قطعها خيراً. فأمر بسجنه. فقال الوزير: وفي سجني أيضاً خير! ومرت السنون وفي يوم ما خرج الملك في رحلة صيد فذهب بعيداً عن مملكته حتى قَبض عليه جماعة من الناس كانوا يعبدون الأصنام. فقالوا لقد وجدنا شيئاً نقربه لإلهنا, فلما هموا بذبحه وجدوه مقطوع الأذن فقالوا لا نقرب لمعبدونا شئياً ناقصاً فأطلقوه. وعند رجوعه أمر بإخراج الوزير من السجن فقال له الوزير: ألم أقل لك إن فيها خيراً, وفي سجني أيضاً خير فلو كنت معك لذبحت بدلاً عنك". [ذكرها أبو حامد الغزالي]
إنّ تصديق العبد بالقضاء والقدر أحد أركان الإيمان التي لا يقبل الإيمان إلا بها. وهذا التصديق يستلزم التسليم لله عز وجل في كل ما يقدّره كما قال تعالى: (ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه والله بكل شيء عليم) [التغابن 11].
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله: "هذا عام لجميع المصائب في الأنفس والمال والولد... إلى أن قال: فإذا آمن العبد أنها من عند الله فرضي بذلك, وسلم لأمره, هدى الله قلبه, فاطمأن ولم ينزعج عند المصائب, كما يجري ممن لم يهد الله قلبه, بل يرزقه الثبات عند ورودها والقيام بموجب الصبر فيحصل له بذك ثواب عاجل مع مايُدخر له يوم الجزاء من الأجر العظيم كما قال تعالى: (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب)" [تفسير السعدي ص 1208].
إنّ الأمراض والآلام والهموم والفقر والشدة كلها خير للعبد علم أو لم يعلم كما قال الإمام ابن القيم رحمه الله: "تأملت المرض فوجدت فيه أكثر من مائة فائدة فهو كفارة للخطايا ورفع للدرجات كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((مايصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلاّ كفر الله بها من خطاياه)). [متفق عليه] فالنصب: التعب، والوصب: المرض. فإنّ الأمراض ونحوها من المؤذيات التي تصيب المؤمن، مطهرة من الذنوب, وأنه ينبغي للإنسان أن لا يجمع بين المرض أو الأذى مثلاً وبين تفويت الثواب. قال النووي رحمه الله تعالى ـ بعد أن أورد عدة روايات ـ "وفي هذه الأحاديث بشارة عظيمة للمسلمين فإنه قلما ينفك الواحد منهم ساعة من شيء من هذه الأمور, وفيه تكفير الخطايا بالأمراض والأسقام ومصائب الدنيا وهمومها وإن قلت مشقتها وفيه رفع الدرجات بهذه الأمور وزيادة الحسنات" [شرح النووي على مسلم 128/16]. ومن فوائد المصائب أنّ العبد يكون في تلك الحال منكسراً, مضطراً فيتوجه إلى الله عز وجل أن يزيل همه ويكشف غمه وينفس كربته فيجتمع بكليته فيدعو دعاء من قال الله فيه (أمّن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء) [النمل], ومن فوائدها أنّ العبد يقف مع نفسه وقفة محاسبة ويتساءل أنى هذا فيتفقد مواطن الزلل كما قال الله عز وجل: (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير) [الشورى 30] فيرجع إلى رحاب التواب الرحيم مجدداً التوبة والإنابة. ومن فوائدها ـ وما أكثر فوائدها ـ أن يتذكر العبد أنّ مشئية الله عز وجل في العبد نافذة, وأن قدره واقع لا محالة لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه ولا غالب لأمره. ولو اجتمعت الأمة على أن ينفعوه بشيء لم ينفعوه إلا بشيء قد كتبه الله له, ولو أجتمعوا على أن يضروه بشيء لم يضروه إلا بشيء قد كتبه الله عليه. وأنّ ما أخطأ العبد لم يكن ليصبه وما أصابه لم يكن ليخطئه فيسلم بذلك فتزيد عليه الفوائد أجراً و إيماناً.
وإذا أصيب العبد بفقد حبيب أو موت قريب فتجمل عند ذلك وتذكر مصابه بالنبي صلى الله عليه وسلم, وأن (كل نفس ذائقة الموت) واسترجع واحتسب عوضه الله إيماناً يجده في قلبه فلما رضي عن الله عز وجل رضي الله عنه.
وإنّ مما يخفف المصائب ـ بعد علم العبد أنها بإذن الله ـ أن يتصبر ويتذكر أن الفرج مع الشدة وأن مع العسر اليسر كما قال تعالى: (فإنّ مع العسر يسراً إنّ مع العسر يسرا).
وأخيراً: بشارة نبوية من تمسك بها وتذكرها ـ لا سيما عند الصدمة الأولى ـ فاز وسعد سعادة لا يعلم بها إلا من قام بها وهي قول المصاب (إنا لله وإنا إليه راجعون), يقول القرطبي في المصيبة: هي كل ما يؤذي المؤمن، ويصيبه، وقد جعل الله عز وجل، كلمات الاسترجاع، وهي قول المصاب: إنا لله وإنا إليه راجعون ملجأ وملاذاً لذوي المصائب، وعصمة للممتحنين من الشيطان، لئلا يتسلط على المصاب فيوسوس له بالأفكار الرديئة، فيهيّج ما سكن، ويظهر ما كمن، لأنه إذا لجأ لهذه الكلمات الجامعات لمعاني الخير والبركة، فإن قوله: إنا لله اقرار بالعبودية والملك، واعتراف العبد لله بما أصابه منه، فالملك يتصرف في ملكه كيف يشاء، وقوله: وإنا إليه راجعون إقرار بأن الله يهلكنا ثم يبعثنا، فله الحكم في الأولى، وله المرجع في الأخرى, وفيه كذلك رجاء من عند الله بالثواب.(/1)
ومن بركة هذا الاسترجاع ، بالإضافة إلى ما ذكر، ما ورد عن أم سلمة رضي الله عنها قالت:" سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من مسلم تصيبه مصيبة، فيقول ما أمره الله به: إنا لله وإنا إليه راجعون ، اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيراً منها إلا أخلف الله خيراً منها) فلما مات أبو سلمة قلت: أي المسلمين خير من أبي سلمة، أول بيت هاجر، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أني قلتها فأخلف الله علي برسول الله صلى الله عليه وسلم".
ولا عجب فإنه إخبار من لا ينطق عن الهوى (إن هو إلا وحي يوحى) وما على العبد إلا التصديق والعمل بهذه البشارة.
قال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى:
"ونؤمن باللوح والقلم وجميع ما فيه قد رقم, فلو اجتمع الخلق كلهم على شيء كتبه فيه أنه كائن ليجعلوه غير كائن لم يقدروا عليه، ولو اجتمعوا كلهم على شيء لم يكتبه الله تعالى فيه أنه غير كائن ليجعلوه كائناً لم يقدروا عليه جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة, وما أخطأ العبد لم يكن ليصيبه وما أصابه لم يكن ليخطئه"
ربنا لاتجعل مصيبتا في ديننا.....(/2)
مع مفهوم الأدب الإسلامي
بقلم الدكتور عدنان علي رضا النحوي
1_ تمهيد :
إن المسلمين يمرّون اليوم في ظروف تجاوزت كل حدود الهوان والمذلة، مما يفرض أنّ تستنفر الأمة قواها كلها لحماية ديارها وأعراضها ولحماية دينها قبل كل شيء. إننا نريد من الأدب الإسلامي أن يخوض معركة الإسلام بكل قواه، ليكون أدباً يشدُّ الأبصار ويقرع القلوب ويهزُّ النفوس. فقد كان سلاحاً عظيماً في دعوة النبوّة الخاتمة وفي معركتها وملاحمها، سلاحاً متميّزاً بخصائصه وروحه وألفاظه وأهدافه، ولم يكن تابعاً لليونان ولا مقلداً للرومان، وإنما كان شيئاً جديداً يقوم على أسس راسخة، أدباً عزَّ بأمته وعَّزت به أمّته، كان روحاً جديدة في حياة البشرية.
إننا نريد التعريف الذي يربط الأدب الإسلامي بمصدره، ومنطلقه، وولادته، ولغته، ومصادر جماله.
لذلك لا بدّ من إقرار الأسس الثابتة والتصور الرئيس النابع من الإيمان والتوحيد ومن منهاج الله، الأسس والتصور الذي لا يجوز الاختلاف فيه، والذي تنبع منه سائر القضايا وترتبط به.
لقد نال الأدب تعريفات مختلفة وتصورات متباينة، لدى مختلف الشعوب، ينطلق كلٌّ منها من تصوّرات فكريّة أو فلسفيّة أو عقائدية. وكلّ تعريف من هذه التعريفات كان يعطي ظلاً لجانب من جوانب الأدب، حتى لا تكاد تجد تعريفاً واحداً جامعاً وافياً.
لا مجال لنا هنا لتعداد ذلك، ولكننا لو عدنا لابن خلدون في مقدّمته لوجدنا أنّه اعتبر الأدب أحد علوم العربيّة التي عددها كما يلي : علوم النحو، علم البيان، علم اللغة، علم الأدب. ثم تحدّث عن علم الأدب حديثاً نقتطف منه قوله : "... وإنما المقصود منه عند أهل اللسان ثمرته التي هي الإجادة في فنّي المنظوم والمنثور على أساليب العرب ومناحيهم.... " (1). ولكن ابن خلدون قدّم في بحثه هذا بعض خصائص الأدب العربي أكثر مما قدّم تعريفاً.
ولقد قدّم د. محمد مندور عدة تعريفات للأدب عند نقّاد الغرب ومفكّريه في كتابه " الأدب ومذاهبه "، مثل : " الأدب صياغة فَنِّيَّةٌ لتجربة بشرية "، أو " الأدب نقد للحياة " (2). ونرى هنا كذلك أن هذه التعريفات تعطي ظلاًّ من ظلال الأدب أو جانباً من جوانبه أو خاصة من خصائصه، دون أن تقدّم التعريف الشامل الذي يُغني.
إن مفهوم الأدب في الإسلام وفي اللغة العربيّة ينبع من تصورات أعظم وأشمل، ومن قواعد أثبت في حياة الإنسان و أشد رسوخاً مما عرفته الآداب الأخرى. فلفظة الأدب في اللغة العربيّة مرتبطة من حيث الأساس بالخلق الكريم، ليرتبط به كل ما تقدّمه هذه اللفظة من عطاء بعد ذلك. وجاءت الأحاديث الشريفة لتعمّق هذا المعنى وتربطه بالفطرة السليمة، والدين الحقّ، والكتاب والسنّة، وصفاء الإيمان وصدق التوحيد، وسلامة التصوّر وأمانته، مما لا نجده في أيّ لفظة دالّة على هذا العلم في أيّ لغة أخرى. فلا بد أن يبرز تعريف الأدب الإسلامي هذا التميّز العظيم، لمفهوم الأدب الإسلامي ومنطلقه.
ولم يكن عند العرب أول الأمر، ولا عند انطلاقة الدعوة الإسلامية، عُرْفٌ يقضي بوضع التعريف أو المصطلحات. فلا نجد في تلك المراحل ظاهرة تعريف الأدب أو ربطه بالإسلام أو غيره. فعند العرب كان الأَدبُ أَدبَهم ينتمي إليهم ويخرج منهم وعنهم وعن لغتهم العربيّة، دون أن يأخذ مصطلحاً علمياً خاصاً به. وفي الإسلام أصبح الفكر، والأدب كله شعره ونثره، والخطبة والموعظة، والسياسة والاقتصاد والاجتماع، وغير ذلك، كلّ ذلك كان إسلامي المنبت والمنطَلق والعطاء والصياغة والهدف. فلم يكن هناك حاجة لأن يُسمّى الأدب بالأدب الإِسلامي، لأنه لم يعد في الإسلام غير أدب الإسلام، ولم يعد في الأمة شيء لا ينبع من الإسلام أو يرتبط به، دون أن يبالي أحد بالمصطلح، شأنه في ذلك شأن السياسة والاقتصاد وسائر ميادين الحياة.
فلا عجب أن لا نجد مصطلح الأدب الإسلامي آنذاك، أو مصطلح الأدب الملتزم بالإسلام، وأن لا نجد تعريفاً له، فلم يكن العرف مبالياً كثيراً بالمصطلح أو التعريف، وإنما كان يقدّم الخصائص الثابتة والسمات البيّنة من ناحية، ومن ناحية أخرى لم يكن الإسلام يتبنّى غير أدبه، وخاصة في مدرسة النبوّة الخاتمة وسنتها، وعهد الخلفاء الراشدين وسنتهم مما أُمِرنا أَن نعضّ عليها بالنواجذ.
فلا مجال إذن لاعتراض بعض الحداثيين اليوم على مصطلح الأدب الإسلامي وإنكارهم له وادعائهم بأنه لم يكن لدى العرب هذا المصطلح قديماً، ولذلك لم يكن هناك أدب إسلامي. نعم ! لم يكن هذا المصطلح ولا غيره، ولكن كانت هناك خصائص مميّزة وسمات دالَّة، كلُّها تنطق وتقول : هذا هو الأدب الملتزم بالإِسلام. هكذا كان العرف المتبع في الأدب وغيره.(/1)
ونحن اليوم في عصر يتميّز بفنِّ المصطلحات التي أصبحت عِلْماً، ليتميّز شيءٌ من شيء، بعد أن اختلطت الأشياء، وبهتت الخصائص، وضعفت السمات، وبرزت مذاهب أدبيّة عديدة. ولذلك برزت ظاهرة المصطلح والتعريف كلما احتاج إليها الناس، وفي حاضرنا اليوم برز مصطلح الأدب الإسلامي أو الأدب الملتزم بالإسلام، وبرز المنادون به. وكان لا بدَّ من ذلك ليتمايز أدب من أدب.
ولذلك أخذ بعض الأُدباء المسلمين يطرحون المصطلح ويطرحون تعريفه. وكان من أوسع المصطلحات انتشاراً مصطلح " الأدب الإسلامي "، وكان من أكثرها دقّة مصطلح : " الأدب الملتزم بالإِسلام " وطُرِحتْ تعريفات مختلفة لذلك نذكر أهم ما توافر لدينا من خلال المؤتمرات والندوات والكتابات :
عرّف الأستاذ سيد قطب يرحمه الله الأدب بأنه : " التعبير عن تجربة شعوريّة في صورة موحية " (3). وعرّف الأستاذ محمد قطب الأدب الإسلامي بأنه : " التعبير الجميل عن الكون والحياة والإنسان من خلال تصوّر الإسلام للكون والحياة والإنسان " (4). وعرّف الأستاذ محمد المجذوب يرحمه الله الأدب بأنه : " الفنّ المصوّر للشخصية الإنسانيّة من خلال الكلمة المؤثرة " (5).
أما الدكتور عبد الرحمن رأفت باشا يرحمه الله فقد عرّف الأدب الإسلامي بأنه : " التعبير الفني الهادف عن واقع الحياة والكون والإنسان تعبيراً ينبع من التصور الإسلامي للخالق عزّ وجلّ ومخلوقاته، ولا يجافي القيم الإسلامية "(6).
ولقد بيّنتُ في كتاب " الأدب الإسلامي إنسانيته وعالميته " وكتاب " النقد الأدبي المعاصر بين الهدم والبناء " وكتاب " أدب الوصايا والمواعظ " صعوبة وضع تعريف شامل لأي موضوع في العلوم الإنسانية بخلاف العلوم التطبيقية.
ولقد جمع الأستاذ الدكتور جابر قميحة تعاريف الأدب الإسلامي التي تمكّن من حصرها بجهد كريم في مقالته : " بين إشكالية المصطلح ومعياريّة التطبيق " (7). وعلّق عليها وقارن بينها. وأشار كذلك في جملة ما أشار إليه صعوبة وضع تعريف جامع شامل في العلوم الإنسانيّة.
هذه التعريفات التي ظهرت حديثاً استجابة لواقع جديد، قدّمت كلها خيراً، ودفعت مسيرة الأدب الإسلامي، وساهمت في الدعوة إلى مؤتمرات وندوات انبثقت عنها رابطة الأدب الإسلامي العالمية، وتبنَّت الرابطة في لقائها التأسيسي في لكهنو في الهند بضيافة ندوة العلماء في (25ـ27) ربيع الثاني لعام 1406هـ الموافق 9يناير 1986م، التعريف التالي : الأدب الإسلامي هو التعبير الفني الهادف عن الحياة والكون والإنسان وفق الكتاب والسنّة ". حسب النظام الأساسي للرابطة الصادر يوم تأسيسها.
ولقد طرأ تعديل بعد ذلك على هذا التعريف في نشرة الرابطة الصادرة سنة (1409هـ ) حيث أصبح : هو التعبير الفنّي الهادف عن الحياة والكون والإنسان في حدود التصوّر الإسلامي لها ". مع أنّ لفظة " التصوّر " أطلقت العنان للتصورات المختلفة، وخاصة في عصرنا الحاضر، حيث ظهرت تصورات متضاربة في الميدان الإسلامي، أدباً وفكراً وسياسةً واقتصاداً.
ومن خلال هذه التعاريف كلِّها نخلص إلى أنّ كلّ تعريف ركّز على ناحية محددة دون أن يبيّن ماهيّة الأدب بعامة والأدب الملتزم بالإسلام بخاصة. ولم يكن هذا ناتجاً إلا عن طبيعة التعريف لموضوعات تتعلق " بالعلوم الإنسانيّة "، حيث لا يمكن للتعريف أن يحدّد الموضوع تحديداً كاملاً كما يحدّده في العلوم التطبيقية. فالتعريف في العلوم التطبيقية يكون عادة مغنياً كافياً. فتعريف نظريّة فيثاغورس حدّد النظريّة بصورة تامة، وكذلك تعريف قانون بويل وغيره. ذلك لأن العلوم التطبيقية تقوم على قانون أو نظريّة أو فرضيّة تتمثّل بمعادلة رياضيّة أو فيزيائية أو كيميائية. والعلوم الإنسانية تعتمد على خصائص ووسائل وأساليب وأهداف، لا يتحدّد العلم الإنسانيّ إلا بها. فالتعريف بجمل محدودة وأسطر محدودة لا يستطيع أن يجمع ذلك كله، ولكن يمكنه أن يشير إليها ليوفي أكثر في بيان التصور.
من هنا أعتقد أنه من المناسب أن تُبيَّنَ الأُسس التي يقوم عليها تعريف الأدب الإسلامي وما يشير إلى منطلقه وولادته المتميّزة، وخصائصه المتميّزة، لتكوّن كلها الميزان الذي يحدّد ماهية الأدب الإسلامي وجوهره ورسالته وأهدافه، الميزان الذي يحسم قضايا يَخَتلف عليها بعض المسلمين. فدون أن يكون للإنسان ميزان يزن به الأمور والقضايا، فسيظل يضرب في متاهة بعد متاهة، أو يثير خلافاً بعد خلاف. يضاف إلى ذلك أن التعريف يجب أن يفي بمتطلبات الواقع الذي نردُّه إلى منهاج الله، كما أشرنا في أول الكلمة. ونورد أدناه أهم الأسس التي يقوم عليها التعريف :
2_ الأسس التي يقوم عليها تعريف الأدب الإسلامي :
أ ـ قانون الفطرة ونظرية ولادة النص الأدبي (8) :(/2)
إنه القانون الذي تصوغه لنا الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة التي تقرّر بأن كل إنسان يولد على الفطرة، والتي تشير إلى بعض خصائصها، وإلى بعض القوى والميول والغرائز التي أودعها الله فيها، عرّفنا الله سبحانه وتعالى ببعضها، وجهلنا بعضها. من هذه الآيات والأحاديث المترابطة في منهاج الله يخرج هذا القانون، ليقوم على حقائق ربانيّة ثابتة في الكتاب والسنة. ومن هذه الحقائق كلها نستطيع أن نخرج بقواعد كثيرة في ميدان التربية والفكر والأدب والسياسة والاقتصاد وغيرها، أو نشتق منه نظريات نحتاجها في ميدان الممارسة والتطبيق.
ولقد سبق أن فصلنا هذا القانون بدراسات موسعة في كتب " الأدب الإسلامي والتربية والنهج الإيماني للتفكير" وغيرها. ولكننا هنا نقدّم موجزاً سريعاً ليكون أساساً في تعريف الأدب الإسلامي.
إنَّ أهم ما أودع الله في فطرة الإنسان : الإيمان والتوحيد ليكون فيها النبع الصافي، تفتحه النيّة الصادقة الخالصة لله، لينطلق الريّ المتوازن العادل، يروي جميع القوى والميول والغرائز في فطرة الإنسان ريّاً متوازناً عادلاً، حتى تؤدّي كل قوة المهمّة التي خُلِقَتْ لها. ومن ناحية أخرى فإن الإيمان والتوحيد في فطرة الإنسان يقوم بتصفية الزاد الذي يدخل الفطرة من الواقع وينقيه حتى يخلص من الخبث والسوء. فإذا اضطرب الريُّ بفساد النيّة أو بالآثام والمعاصي، فلا يتم الريّ المتوازن العادل، أو يُغلق الريّ حين يُختَم على قلب الإنسان. وعندئذ تنحرف بعض القوى عن مهمّتها الحقيقية، أو تتيه وتضطرب. ومن القوى الأخرى الهامة في فطرة الإنسان قوّتان هما : "العاطفة " و " التفكير ". ثم تأتي القوة المتميّزة التي يمكن أن نسميها " بالموهبة " في هذا العلم أو ذاك، يضعها الله في فطرة من يشاء من عباده. ومن خلال مسيرة الإنسان يكتسب من الواقع زاداً من العلم أو الخبرة، تستقرّ في الفطرة شحنات على " العاطفة " و" التفكير "، ومن أهم هذا الزاد صدق العلم بمنهاج الله الذي فرض الله طلبه على كل مسلم. فكأن هاتين القوّتين قطبان تستقرّ عليهما الشحناتُ وتنمو عليهما، حتى تبلغ الشحنات على هذين القطبين درجة تُصبحُ فيها جاهزة للتفاعل، فتأتي الموهبة، أو القوة المتميّزة، فتشعل التفاعل في لحظة محددة بقدر حقٍّ من الله، فينطلق عطاء الإنسان ومضة غنيّة أو شعلة مضيئة، على قدر سلامة الفطرة ونقائها، وسلامة القوى وطهارة الزاد. ويكون العطاء بذلك ثمرة التفاعل بين " العاطفة " و " التفكير " و " الزاد من الواقع " و"الموهبة" في فطرة الإنسان. ويكون العطاء المتولّد عطاءً إيمانياً حين تكون هذه القوى قد رواها الإيمان والتوحيد، ريّاً متوازناً عادلاً تطلقه النيّة الخالصة لله سبحانه وتعالى.
ويكون هذا العطاء المتولّد أسلوباً من أساليب التعبير عند الإنسان، يعبّر بعطائه عن شيء في نفسه. ويكون هذا العطاء، حسب ما ذكرنا أعلاه، ثمرة التفاعل بين العوامل التي عرضناها، تفاعلاً يمضي على قدر حق من الله سبحانه وتعالى. وكل عامل من هذه العوامل قد يضعف فيضعف أثره. ولا بد أن نشير إلى أنه لا يمكن للعاطفة أن تعمل وحدها، ولا للتفكير أن يعمل وحده. إنهما يعملان معاً، مع سائر القوى، ولكن تختلف نسبة العاطفة والتفكير من حالة إلى حالة، ومن واقع إلى واقع، ومن موضوع إلى موضوع، ومن إنسان إلى إنسان.
ب ـ الفن والأدب بعامة (9) :
فالفن والأدب بعامة عطاء يصدر على النحو الذي عرضناه، ليمثّل أُسلوباً من أساليب التعبير، يحمل درجة من الزخرف أو الزينة أو الجمال، على قدر ارتباطه بالإيمان والتوحيد ونبعه وما يتلقاه من ري منه، ويرتفع بها ليكون فناً أو أدباً، تابعاً لفئته أو جنسه أو ملته وأصحابه. ج ـ الفنّ الإسلامي والأدب الإسلامي (10) :
هو عطاء الإنسان المؤمن وأسلوب من أساليب التعبير لديه. إنه العطاء الذي يتولّد على النحو الذي عرضناه من تفاعل العوامل التي رواها الإيمان والتوحيد فارتبطت به، حين يحمل هذا العطاء والتعبير الجمال الطاهر، ليساهم الفنّ الإسلامي في بناء حضارة الإيمان في حياة الإنسان. ولكل باب من أبواب الفن عناصره الخاصّة التي تهبه الجمال. فالأدب الإسلامي باب من أبواب الفن الإسلامي، أسلوب التعبير فيه اللغة والبيان، ترفعه خصائصه الفنيّة ليكون أدباً وترفعه خصائصه الإيمانية ليكون إسلامياً.
د ـ الجمال في الفن الإسلامي والأدب الإسلامي (11) :(/3)
ينبع الجمال الطاهر في الفنِّ الإسلاميّ من الإيمان والتوحيد، وتفاعل العوامل المرويّة به في فطرة الإنسان المؤمن والخصائص الفنية التابعة لكل فن. والإسلام لا يطلق لفظة الجمال إلا على هذا " الجمال " الطاهر الذي ينبع من تفاعل الخصائص الإيمانية والفنية، وأما ما سواه فهو إِمَّا " فتنة " تحمل الشرّ والفساد، وإما "زخرف وزينة "عابرة. وللجمال كذلك عوامل ثلاثة تؤثّر فيه نابعة من العوامل السابقة كلها :" فالنيّة " هي العامل الموجّه الذي يفتح في الفطرة ريّ الإيمان والتوحيد، و " الموهبة " تمثل القوة المطلقة للتفاعل، و" الموازنة " هي القوة التي تنظم أدوار العوامل كلها والعناصر كلها وترتِّبها.
هـ ـ موجز خصائص الأدب الإسلامي (12) :
1_ إنه أدب العقيدة الإسلامية بكل خصائصها.
2_ إنه عطاء الأديب المؤمن الملتزم.
3ـ ميدانه الكون والحياة كلها والإنسان، الدنيا والآخرة، من خلال تصور إيمانيّ متناسق نابع من الكتاب والسنّة.
4_ اللغة العربيّة هي لغته من حيث الأساس.
5ـ إنه أدب العلم والحق، لا أدب الوهم والخرافة والأساطير.
6_ إنه أدب الواقع الذي يُفهم من خلال منهاج الله.
7_ إنه أدب ممتدٌّ في حياة الإنسان مع الأجيال المؤمنة الممتدة، يُمثِّل نهجاً ممتدّاً لا قطعاً متناثرة نتصيّدها من مكانٍ إلى مكان.
8_ أنه أدب إنساني لأنه ينبع من حقيقة الإنسان وفطرته، ولأنه يعالج قضاياه.
9_ إنه أدب عالمي، يستمد عالميّته من إنسانيته وامتدادها، وقوة أمته، وعالميّة رسالته.
10_ إنه أدب له رسالة ربّانيّة وأهداف ربانيّة، فهو بذلك يمثِّل حاجة للإنسان كما أن الإسلام حاجة للبشرية.
11_ إن هذه الخصائص تجعل منه أدباً عزيزاً لا يذلّ ولا يهون ولا ينافق ولا ينحرف ولا يكون تابعاً.
12_ إنه أدب نامٍ متطور على أسس ثابتة راسخة عميقة الجذور. لا يكون نموّه انحرافاً ولا تبعية ولا هبوطاً.
13_ إنه ثمرة جهد بشري وبذل ومعاناة. فهو أدب الجهاد والبذل والعطاء. وأدب الموهبة الغنيّة. وأدب الخير والصلاح لا أدب الفتنة والفساد.
14_ إنه سلاح من أسلحة الإسلام وقوة عظيمة من قواه. وأدب الحق لا أدب الباطل، وأدب الكلمة الطيبة لا أدب الكلمة الخبيثة، إنه أدب الخلق الكريم.
15_ إنه أدب الحب الصادق النابع من الحب الأكبر لله ورسوله.
16_ إنه أدب مسؤول، وصاحبه محاسب على كلمته بين يدي الله في الآخرة، ومحاسب في الدنيا.
17_ لذلك يرتبط النصّ بصاحبه، ولا يمكن فصله عنه، إنه يرتبط ارتباط أمانة وعهد ومسؤوليّة وحساب.
18_ ستظل الموعظة والوصيّة والنصيحة باباً من أبواب هذا الأدب الإسلامي، مادامت ترتقي بخصائصها الفنية والإيمانية. وهي تحمل ثروة غنيّة، وجمالاً غنيّاً في تاريخ أمة الإسلام.
19_ الأدب الإسلامي ليس جديداً. ابتدأ مع بعثة محمد صلى الله عليه وسلم بخصائصه الإيمانيّة والفنيّة وامتدَّ مع العصور، ويستأنف مسيرته اليوم.
20_ إنه أدب متميّز بخصائصه الثابتة الإيمانية والفنية، لا تنحرف مع تيارات الأدب وعواصفه، يحافظ على استقلاله وعدم تبعيّته.
الشعوب بحاجة إليه وإلى رسالته، أكثر مما هو بحاجة لأدبها.
21_ حَسْبُ الأدب الإسلامي شرفاً وعزّة أنه ينبع من الإسلام ويحمل رسالته ويمتدُّ معه ويكون سلاحاً وقوَّة له، ويكتسب منه ومن لغته الخصائص الإيمانية والفنِّيَّة.
وعلى ضوء هذه الأُسس المعروضة هنا بإيجاز والمفصّلة في مراجعها، يمكن أن نقدم التعريف التالي للأدب الإسلامي أو الأدب الملتزم بالإسلام :
تعريف الأدب الإسلامي
" الأدب الإسلامي باب من أبواب الفنّ الملتزم بالإسلام، وهو أشرفها وأعزّها. وهو فنّ التعبير باللغة والبيان. لغته اللغة العربيّة التي اختارها الله لدينه الحقّ بياناً معجزاً في كتابه الكريم. وهو ثمرة التفاعل بين القوى العاملة في فطرة الإنسان المؤمن، مرويَّة بريّ الإيمان والتوحيد، خاصّة التفاعل بين العاطفة والتفكير وما تحمل كلٌّ منهما من شحنات الواقع وزاده، التفاعل الذي تشعله الموهبة، فينطلق النصّ الأدبي شعلة مضيئة، يحمل جماله الفنيّ من تفاعل الخصائص الإيمانية والخصائص الفنيّة في فطرة الإنسان، مع صدق النيّة، وعلى قدر حق من الله سبحانه وتعالى، يحمل رسالة ربانيّة ويسعى للمساهمة في تحقيق أهداف ربّانيّة، لبناء حضارة الإيمان في الواقع البشري، ميدانه الكون والحياة والإنسان والدنيا والآخرة، فيكون بذلك الأدب الإنساني العالمي. "
ويمكن إيجاز هذا التعريف كما يلي :ـ
موجز تعريف الأدب الإسلامي
" الأدب الإسلامي ثمرة التفاعل بين القوى العاملة في فطرة الإنسان المروية بالإيمان والتوحيد، تشعله الموهبة المؤمنة ليخرج الأدب شعلة غنية، جماله إشراقة التفاعل بين خصائصه الإيمانية والفنية، لغته هي اللغة العربية، وميدانه آفاق الكون والحياة والإنسان، يحمل رسالة ربانية ويسعى إلى أهداف ربانية، ليساهم في بناء حضارة الإيمان في الأرض، وليكون بذلك الأدب الإنساني العالمي ".(/4)
من هذا التعريف نحدِّد العوامل المولّدة للأدب الإسلامي : الإيمان والتوحيد، النيّة الخالصة لله سبحانه وتعالى، العاطفة، الفكر، شحنات عليهما من زاد الواقع، وصدق العلم بمنهاج الله، الموهبة، قدر الله ومشيئته. ويظل الفضل في كل عمل كريم من الأدب الإسلامي لله سبحانه وتعالى. ويُبيّن لنا هذا التعريف أثر الواقع ودوره. كما يبيّن أن الأدب الإسلامي هو عطاء الأديب المؤمن، وأنه يحمل رسالة في الحياة وله أهداف يسعى إليها، يساهم بها في بناء حضارة الإيمان. ويبيِّن هذا التعريف أيضاً أن للأدب الإسلامي خصائص إيمانيّة وخصائص فنيّة، وأن الجمال فيه ينبع من تفاعل هذه الخصائص وتلك. وندرك كذلك أن الأدب ليس نتيجة تجربة شعورية فحسب، وإنما نتيجة تفاعل العاطفة والفكر، إِذ يتعذّر لإحداهما أن تعمل وحدها. ويبيّن كذلك أنّ لغته هي اللغة العربية.
وإذا قيل إنّ " لغته الأولى هي اللغة العربية "، فربّما كان ذلك مسايرة لواقع تفرّق فيه المسلمون أقطاراً وشعوباً وشيعاً، وهان شأن اللغة العربيّة بينهم. فاللغة العربية هي لغة المسلم، و لغة عبادته وعطائه، ولغة أمّة الإسلام كما كانت عندما كان المسلمون أمّة واحدة، حين امتدّت اللغة العربية إلى المسلمين وإلى غير المسلمين. ولم يعرف المسلمون في عصورهم الأولى أدباً بغير اللغة العربية، وبرز علماء كثيرون باللغة العربية وآدابها من غير العرب.
ويشير التعريف إلى أن الأدب الإسلامي أدب مجاهد، أدب طاهر، ينبع من فطرة الإنسان السويّة التي لم تشوَّه ولم تفسده سوء النية والآثام والمعاصي. ولأنه ينبع من فطرة الإنسان فهو إنسانيّ بطبيعته وجوهره، ولأنه يحمل رسالة ربانيّة فهو عالمي. فإذا فسدت الفطرة وتخلّى الأدب عن رسالته فقد منطلق إنسانيّته وعالميته وفقد جوهر خصائصه.
ويكون للأدب الإسلامي خصائص وسمات تميّزه من غيره من الآداب، وتساهم في بنائه وعطائه. فله خصائص إيمانيّة مغروسة في فطرة الإنسان المؤمن كما ذكرناها قبل قليل. وله خصائصه الفنيّة أيضاً، يمكن أن نوجزها بما يلي : الصياغة الفنيّة، الجنس الأدبي، الموضوع الفني والفكرة الموحية، الشكل، الأسلوب. ويكتسب الأدب من هذه الخصائص الفنيّة أربع صور للجمال المؤثر : النغمة والجرس، الصورة، الحركة، الفكرة الموحية.
وبصورة عامة فإن جميع العوامل والعناصر للجمال في الأدب الإسلامي تأخذ رواءها إشراقتها من مصادر ثلاثة : الإيمان والتوحيد، الكتاب والسنة، اللغة العربية، تجتمع كلها في فطرة الأديب المسلم المؤمن، في فطرته النقيّة الصافية السليمة. لتطلق جوهر الأدب الإسلامي بتفاعل الخصائص الإيمانية والفنيّة.
ويأتلق الجمال الفنّي في الأدب الإسلامي حين يصدق الأدب في حمل رسالته الربانيّة، وحين يساهم في جهاد كريم لتحقيق الأهداف الربانيّة، ولا ينحرف ولا يتيه ولا يهبط.
فلابد للأدب الإسلامي أن تتوافر فيه الخصائص الفنيّة لترفعه ليكون أدباً، ولا بد أن تتوافر فيه الخصائص الإيمانية حتى ترتقي به ليكون إسلامياً. ويأتلق الجمال المتميّز المؤثر بتفاعل الخصائص الإيمانيّة والخصائص الفنيّة في فطرة الإنسان.
وأخيراً، أقول إني قد عرضتُ وجهة نظري هذه بتفصيلها مع البيّنة والحجة من منهاج الله، ومن الواقع الذي نفهمه من خلال منهاج الله، ومن قواعد اللغة العربية العظيمة، في كتبي التي سبق أن أصدرتها منذ تأسيس الرابطة إلى يومنا هذا. وقدّمت معها نماذج تطبيقية من الشعر والملاحم تلتزم النهج الذي أعرضه.
(1) التعريف : مقدمة ابن خلدون : 3/1277.
د. عدنان علي رضا النحوي ـ الأدب الإسلامي إنسانيته وعالميته ـ الباب الأول ـ الفصل الأول.
(2) التعريف : د. محمد مندور : الأدب ومذاهبه ـ ( ص : 6 ).
(3) التعريف : سيد قطب النقد الأدبي وأصوله ومناهجه ـ ( ص : 9 ).
(4) التعريف : محمد قطب : منهج الفن الإسلامي ( ص : 6 ).
(5) التعريف : مجلة البعث الإسلامي ـ الهند : عدد رمضان / شوال سنة 1401هـ ـ ( ص : 68 ).
(6) التعريف : نفس المصدر السابق.
(7) التعريف : د. جابر قميحة ـ مجلة الوعي الإسلامي العدد 376 ـ ذو الحجة 1417هـ / 1997م.
(8) قانون الفطرة وولادة النص الأدبي : د. عدنان علي رضا النحوي :
الأدب الإسلامي إنسانيته وعالميته ـ الباب الثاني ـ الفصل الأول.
النهج الإيماني للتفكير ـ الباب الرابع ـ الفصل الثاني.
الأسلوب والأسلوبية ـ الباب الرابع ـ الفصل الأول والفصل الثاني.
التربية في الإسلام ـ النظرية والمنهج ـ الباب الثالث ـ القسم الثاني.
(9) د. عدنان علي رضا النحوي : النقد الأدبي المعاصر : الباب الثالث ـ الفصل الثاني ( ص : 135 ـ 140 ).
(10) المصدر السابق
(11) د. عدنان علي رضا النحوي : الأدب الإسلامي إنسانيته وعالميته : الباب الخامس بفصوله الخمس ـ ( ص : 231 ـ 414 ).
النقد الأدبي المعاصر بين الهدم والبناء : الباب الثالث ـ الفصل الثاني : 141 ـ 145.(/5)
(12) د. عدنان علي رضا النحوي : أدب الوصايا والمواعظ : الباب الأول الفصل الأول ( ص : 19ـ 23 ).
الأدب الإسلامي إنسانيته وعالميته : الباب الأول ـ بفصوله الأربعة ـ ( ص : 22ـ 80 ).(/6)
معادلات إيمانية
المعادلة الأولى والثانية :الإخلاص والمحبة
يتناول الدرس القوانين والمعادلات الإيمانية لضبط ومعرفة كثير من السلوك الإيماني ، فكان من المناسب التطرق إليها، والوقوف عند بعضها؛ لتعين الدعاة على سهولة محاسبة النفس، ومعرفة معالجة العيوب، والوصول إلى ما يجب التحلي به من الأخلاق، والخصال التي حث عليها الشارع لتكامل الشخصية الإسلامية، لتكون في ذروة القدوة، حتى تستطيع أن تؤثر في الآخرين عندما تدعوهم لعبادة الله وحده.
مقدمة: كما أن في عالم الفيزياء، والرياضيات، وعلوم الهندسة، وغيرها بعض القوانين والمعادلات الرياضية للتسهيل في المجهول منها، فالسرعة = المسافة × الزمن.
والحجم = الطول × العرض × الارتفاع.
والقوة = الوزن × المسافة × المساحة.
والضغط = الارتفاع × الكثافة.
كذلك توجد قوانين ومعادلات إيمانية لضبط ومعرفة كثير من السلوك الإيماني..ولقد تحدث الكثير من العلماء عن معادلات إيمانية مستنبطة من الكتاب والسنة، منثورة في كتب الزهد والسلوكيات، فكان من المناسب التطرق إليها، والوقوف عند بعضها؛ لتعين الدعاة على سهولة محاسبة النفس، ومعرفة معالجة العيوب، والوصول إلى ما يجب التحلي به من الأخلاق، والخصال التي حث عليها الشارع لتكامل الشخصية الإسلامية، لتكون في ذروة القدوة، حتى تستطيع أن تؤثر في الآخرين عندما تدعوهم لعبادة الله وحده.
الإخلاص: يقول الله تعالى في كتابه الكريم:} فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا[110]{ [سورة الكهف].
? والقانون هنا: عمل موافق للكتاب والسنة + الإخلاص = ثواب الله تعالى.
والإخلاص أحد شرطي قبول العمل، وبغيره لا يُقبل العمل. والمخلص تراه دائم الخوف من عدم القبول؛ لأنه يخشى أن يكون ما قدم فيه شيء من الرياء والسمعة، بينما المنافق تراه مطمئناً لما قدم، وفي ذلك ما قاله رجل لحذيفة :أخشى أن أكون منافقاً فقال:'لو كنتَ منافقاً لم تخش'.
أحسن في نهارك تُكفى في ليلك : ومن فروع هذا القانون ما ذكره الزاهد أبو سليمان الداراني عندما قال:'من أحسن في نهاره كُفي في ليله، ومن أحسن في ليله كُفي في نهاره، ومن صدق في ترك شهوة ذهب الله بها من قلبه، والله أكرم من أن يعذب قلباً بشهوة تُركت له'. فمن أحسن العمل، وأخلصه لله في النهار؛ كفاه الله من شرور الليل وحاجاته، ومن أحسن العمل والتقرب إلى الله في الليل، فإن النتيجة تكون كفاية الله له في نهاره، فلا يحتاج لأحد، ولا ينقصه شيء، ومن ترك شهوة لله بالرغم من توافر العوامل المساعدة لاقترافها، كانت النتيجة أن الله لا يعذبه.
متى تكون الفضيحة ؟ ومن فروعه أن المرء عندما يريد وجه الله سبحانه في عمله يوفق له، ويفتح الله عليه أكثر مما يتوقع، وأكثر مما كان مخططاً له، ومن أراد أن يُشار إليه، أو يبرز أمام الآخرين، أو يريهم ملكاته وحسن تدبيره، فإن الله يفضحه، ويرى الآخرين ضعفه، ولا يوفقه للصواب، ويتعثر فلا يستطيع الوصول إلى ما يريد من الأهداف، ويكون ذلك واضحاً جلياً في مجال تعليم العلم والوعظ.. فمن أراد أن يُري الآخرين عميق علمه، وجميل عبارته، وتمكنه من التأثير في الآخرين؛ فإن الله ينسيه العبارات، وتختلط عليه الاستدلالات، ويرتبك بما كان قادراً عليه، ومن أراد نصرة دين الله، وهداية الآخرين، والقيام بحق الله، يدفعه الغضب لله، والحرقة على أحوال العصاة، فإن الله يفتح عليه من العلوم ما يتعجب منه، ومن التوفيق والسداد ما لم يحفظه أو يحضره،ويذكره من العلم ما نسيه، ويورد على لسانه ما لم يتوقعه، وهذا كله من بركات الإخلاص لله وحده.
? ينقل لنا هذا الشعور، ويؤكد لنا صدق هذا القانون: الإمام أبو يوسف صاحب الإمام أبي حنيفة عندما قال:' أريدوا بعلمكم الله تعالى، فإني لم أجلس مجلساً قط أنوي فيه أن أتواضع، إلا لم أقم حتى أعلوهم، ولم أجلس مجلساً قط أنوي فيه أن أتواضع، إلا لم أقم حتى أفتضح'.
ونستخلص من هذا أربعة معادلات جليلة في الإخلاص:
من أراد بعمله وجه الله = يوفقه الله ويفتح عليه.
من أراد بعمله غير وجه الله = يخذله الله ويعسّر عليه.
من أراد بعمله وجه الله = يفتح الله عليه، ويسدد لسانه، ويقوي حجته.
من أراد بعلمه غير وجه الله = ينسيه الله العلم، ويفضحه ويضعف حجته.
من أحب أن يذكر : ومن فروع القانون ما ذكره الإمام الزاهد الفضيل بن عياض:'من أحب أن يُذكَر لم يُذكر، ومن كره أن يُذكر ذُكِر'.
?فكم من الناس بذل ما يستطيع من المال والجهد من أجل أن يذكره الآخرون، فمات وكان في طي النسيان.
?كم من الأخفياء، الأتقياء بالغ بإخفاء أعماله، وكره البروز، وحرص على الاختلاء بالله، ولكن ذكره ملأ الأرض.
والذي يقلب صفحات التاريخ يدرك حقيقة هذه القاعدة:(/1)
? فأين ملوك الأكاسرة والأباطرة، وملوك الدنيا من المسلمين من بني الأحمر في دولة الأندلس؟ وأين ملوك الفاطميين، وملوك المغول، وغيرهم ممن أرادوا أن يُذكروا ؟.. أين هم في واقعنا، وعلى ألسنتنا ؟ إنهم جميعاً لم يذكروا.. بينما تأمل وتصفح صفحات التاريخ، فهل ترى جيلاً من أجيال المسلمين نسي ذكر الخلفاء الراشدين، أو الصحابة الكرام والتابعين، أو علماء الأمة البارزين من القدماء والمعاصرين؟ إنه يؤكد حقيقة القاعدة التي ذكرها الإمام الفضيل:'من أحب أن يُذكَر لم يُذكر، ومن أن يُذكر ذُكِر'.
أصدق في باطنك : إنه من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: [وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ] رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي ومالك وأحمد. بعيداً عن رقابة الآخرين، وبعيداً عن شبهة الرياء، استشعر عظمة الله، ولقائه يوم القيامة، وعظيم حسابه، فخاف منه وانحدرت دموعه رغماً عنه، لقد صدق في باطنه؛ فأفاض الله الدمع من عينيه، وأراه الدموع الغالية التي تطفئ غضب الرب.. إنها معادلة يستمدها الإمام ابن الجوزي من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم:'اصدق في باطنك، ترى ما تحب في ظاهرك' .
فالصدق الداخلي، والنية الصالحة التي يعقدها المؤمن في قلبه دون أن يراها أحد من الخلق؛ ينتج عنها صفاء النفس، وراحة البال، وصحة البدن، والسداد بالرأي والقول والعمل.. تلك معادلة أكدها علي رضي الله عنه قبل ابن الجوزي حين قال:'من أحسن سريرته أحسن الله علانيته'.
فإن نطق؛ فينطق صواباً.. وإن عمل؛ وفقه الله في عمله حتى يصل إلى ما يريد، فما من عمل يقوم به أمام الناس علانية؛ إلا بارك الله فيه، وجعله صائباً مسدداً مؤثراً في الآخرين؛ لأن ذلك نتيجة للشطر الأول من المعادلة 'من أحسن سريرته'.
المعادلة الثانية: المحبة
لا تكتمل حقيقة العبادة من غير محبة لله تعالى؛ لأن الحب هو الدافع الأكبر للعمل وتحمل المشاق في سبيل المحبوب؛ لذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه:[اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي حُبَّكَ وَحُبَّ مَنْ يَنْفَعُنِي حُبُّهُ عِنْدَكَ اللَّهُمَّ مَا رَزَقْتَنِي مِمَّا أُحِبُّ فَاجْعَلْهُ قُوَّةً لِي فِيمَا تُحِبُّ اللَّهُمَّ وَمَا زَوَيْتَ عَنِّي مِمَّا أُحِبُّ فَاجْعَلْهُ فَرَاغًا لِي فِيمَا تُحِبُّ] رواه الترمذي وحسنه، وحسنه الأرناؤوط- جامع الأصول 2363 . يقول الإمام المباركفوري في شرحه لهذا الحديث :'[اللَّهُمَّ اُرْزُقْنِي حُبَّك] أَيْ لِأَنَّهُ لَا سَعَادَةَ لِلْقَلْبِ وَلَا لَذَّةَ وَلَا نَعِيمَ وَلَا صَلَاحَ إِلَّا بِأَنْ يَكُونَ اللَّهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُ [اللَّهُمَّ مَا رَزَقَتْنِي مِمَّا أُحِبُّ] أَيْ الَّذِي أَعْطَيْتنِي مِنْ الْأَشْيَاءِ الَّتِي أُحِبُّهَا مِنْ صِحَّةِ الْبَدَنِ وَقُوَّتِهِ وَأَمْتِعَةِ الدُّنْيَا مِنْ الْمَالِ وَالْجَاهِ وَالْأَوْلَادِ وَالْفَرَاغِ [ فَاجْعَلْهُ قُوَّةً لِي] أَيْ عُدَّةً لِي [فِيمَا تُحِبُّ] ... قَالَ الْقَاضِي: يَعْنِي مَا صَرَفْت عَنِّي مِنْ مَحَابِّي فَنَحِّهِ عَنْ قَلْبِي وَاجْعَلْهُ سَبَبًا لِفَرَاغِي لِطَاعَتِك وَلَا تَشْغَلْ بِهِ قَلْبِي فَيُشْغَلَ عَنْ عِبَادَتِك . وَقَالَ الطِّيبِيُّ : أَيْ اِجْعَلْ مَا نَحَّيْته عَنِّي مِنْ مَحَابِّي عَوْنًا لِي عَلَى شُغْلِي بِمَحَابِّكَ وَذَلِكَ أَنَّ الْفِرَاعَ خِلَافُ الشُّغْلِ فَإِذَا زَوَى عَنْهُ الدُّنْيَا لِيَتَفَرَّغَ بِمَحَابِّ رَبِّهِ كَانَ ذَلِكَ الْفَرَاغُ عَوْنًا لَهُ عَلَى الِاشْتِغَالِ بِطَاعَةِ اللَّهِ'.
إقبال القلوب : هذا التجرد الكامل وهذا الإقبال على الله بمثل هذه الطريقة؛ هو قمة الحب إلى درجة أنه يدعو ربه بألا ينشغل القلب لحظات بما زوى الله عنه من ملاذ الدنيا مما تحب النفس من المال والولد والجاه عن ذكر ربه والاشتغال بعبادته، هذا الإقبال على الله يتفاوت فيه الناس، فالأنبياء هم أكثر الخَلْق إقبالاً بقلوبهم على الله، ولهذا السبب تكون النتيجة أن الله سبحانه يقبل بقلوب معظم الناس إليهم.
? والمعادلة هنا: هي ما ذكره الواعظ يحيى بن معاذ عندما قال:'على قدر حبك لله يحبك الخلق'.
? ويوضح هذه المعادلة الإيمانية:التابعي الجليل هرم بن حيان عندما قال:'ما أقبل عبد بقلبه إلى الله، إلا أقبل الله بقلوب المؤمنين إليه حتى يرزقه ودهم'. ومن العجيب أن ترى نفس العبارة عند الكثير من العلماء والصالحين، بالرغم من تفاوت الأزمان والمكان بينهم.
ترمومتر العلاقة: فمفتاح القلوب إلى الناس ليس المال ولا المنصب، أو أي شهوة من شهوات الدنيا، بل هو الإقبال على الله؛ لأنه هو مالك القلوب يصرفها كيف يشاء.(/2)
هذا ما أراد أن يوصله أمير المؤمنين عمر بن الخطاب إلى سعد بن أبي وقاص عندما كتب إليه:'إن الله إذا أحب عبداً حببه إلى خلقه، فاعتبر منزلتك من الله بمنزلتك من الناس، واعلم أن ما لَكَ عند الله مثل ما للناس عندك'. فحب الناس وإقبالهم على المرء هو ترمومتر علاقتك وإقبال قلبك على الله .
? وربما أراد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب تذكير خال النبي صلى الله عليه وسلم بحديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي يؤكد هذه المعادلة:[إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا نَادَى جِبْرِيلَ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبَّهُ فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ فَيُنَادِي جِبْرِيلُ فِي أَهْلِ السَّمَاءِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي أَهْلِ الْأَرْضِ] رواه البخاري ومسلم والترمذي ومالك وأحمد . يقول الإمام ابن حجر في الفتح: 'والمراد في القبول قبول القلوب له بالمحبة، والميل إليه والرضا عنه، ويؤخذ منه: أن محبة قلوب الناس علامة محبة الله' ويؤكد هذا المعنى رواية:[ إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا نَادَى جِبْرِيلَ إِنِّي قَدْ أَحْبَبْتُ فُلَانًا فَأَحِبَّهُ قَالَ فَيُنَادِي فِي السَّمَاءِ ثُمَّ تَنْزِلُ لَهُ الْمَحَبَّةُ فِي أَهْلِ الْأَرْضِ...] رواه الترمذي، وصححه الألباني.
المعادلة الثالثة: التيسير
رئيسي :فضائل :
والتيسير في الأمور كلها يحدث نتيجة لبعض أعمال القلوب وأعمال الجوارح، والتي من أبرزها: التقوى، والإنفاق في سبيله، والتصديق بما أنزله سبحانه، والعمل بما أمر والابتعاد عما نهى.
تقوى الله: يذكر الله تعالى هذه المعادلة الإيمانية :} وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا[4]{ 'سورة الطلاق'. ويذكر الإمام الرازي معاني التيسير في هذه الآية، فيقول:'في تفسير هذه اللفظة وجوه:
أحدها: أنها الجنة. ثانيها: أنها الخير. ثالثها: المراد منه أن يسهل عليه كل ما كلف به من الأفعال والتروك. رابعها: اليسرى هي العود إلى الطاعة التي أتى بها أولاً، فكأنه قال : فسنيسره لأن يعود إلى الإعطاء في سبيل الله...' . هذه الأنواع من التيسير إنما هي نتيجة للتقوى، والتقوى هي اتخاذ الوقاية من النار، ومن كل ما يدخل النار، ويوجب غضب الجبار، والوقاية لا تكون إلا بالعمل بما أمر به الله تعالى، والابتعاد عما نهى، والتقرب الدائم له.
الإنفاق في سبيله: فالمال –كما يقولون- نسيب الروح، ولا ينفق الروح إلا من استطاع إنفاق المال، والذي ينتصر على محبة المال، وينفقه في دروب الخير ابتغاء ما عند الله؛ فقد فتحت له أبواب الفلاح؛ لذلك قال تعالى، مادحاً الذين ينتصرون على أنفسهم التي تدعوهم للبخل، ثم ينفقون:} وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ[9]{ 'سورة الحشر'.
ليس هذا فحسب، بل إن الله يكافئه في الدنيا قبل الآخرة، فييسِّر له أموره كلها، فلا يطرق باباً إلا فُتح، ولا يقع في معضلة إلا حلت، وييسر عليه كل ما كلف به، بل ويحببه إلى نفسه، وييسر عليه ترك كل ما نُهي عنه، بل ويكرهه إليه: }فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى[5]وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى[6]فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى[7]{ 'سورة الليل'. بينما الذي لا يتخذ حماية له من غضب الله وعقابه، ولا ينفق في سبيله؛ فإن الله يعسر عليه أموره كله؛ لقوله تعالى:} وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى[8]وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى[9]فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى[10]{ 'سورة الليل'.
ويذكر الإمام ابن القيم في كتابه القيم:'الجواب الكافي' التعسير من ضمن آثار المعصية التي يجدها العاصي في نفسه وفي حياته:'فلا يتوجه لأمر إلا يجده مغلقاً، أو متعسراً عليه، وهذا كما أن من اتقى الله جعل له من أمره يسراً، فمن عطل التقوي جعل له من أمره عسراً، ويا لله العجبب كيف يجد العبد أبواب الخير والمصالح مسدودة عنه، وطرقها معسرة عليه، وهو لا يعلم من أين أتى ؟' .
موسى عليه السلام يطلب التيسير: وعندما كلف الله موسى –عليه السلام- بالرسالة، وأمره بالتوجه إلى الطاغية فرعون، ولعلم موسى –عليه السلام- الذي تربى في بيت الفرعون بطغيانه وجبروته؛ أدرك خطورة المهمة ووعورتها، فطلب من الله التيسير:} قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي[25]وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي[26]{ 'سورة طه' فكان ما أراد حيث يسّر الله له مجابهة فرعون، ويسّر الله له مجابهة السحرة حتى آمنوا به، ويسّر الله له الخروج ببني إسرائيل من مصر، ويسر له النجاة من بطش فرعون بفتح طريق في البحر وإغراق فرعون وجنوده، كما يسر له قيادة بني إسرائيل قتلة الأنبياء والرسل.(/3)
التيسير مع الناس : الإنسان بطبعه لا يستطيع العيش من غير الآخرين، إنه يحتاج إلى الزواج ليعيش مع شريكة له في حياته، ليقوما بتربية الأبناء، وليستعين بها على عبادته، ويحتاج إلى الأبناء حتى يشعر بسعادة الأسرة وجمعها، ويحتاج إلى رفاق العمل، فلا يمكن العمل بمفرده بعيداً عن الناس، ويحتاج إلى الناس في قضاء ما لا يستطيع قضاؤه من أمور الدنيا، ويحتاج إلى إخوان له بعينونه على سلوك طريق الجنة.. وهكذا، فالإنسان لا يستطيع الفكاك عن الناس، فإذا تعسرت علاقته بالآخرين، فإن ذلك يسبب له الضيق والألم النفسي، الذي يحول بينه وبين قضاء الكثير من الحوائج، أو حتى العيش الهنيئ، فما من إنسان إلا ويتمنى أن يكون محبوباً من الآخرين، وأن تُيسر أموره كلها مع الآخرين، حتى يحصل على هذا اللون من السعادة، ولكن كيف ينجح في كسب الآخرين، وإصلاح ما بينه وبينهم؟ يرشدنا علي رضي الله عنه للمعادلة الإيمانية التي تحقق هذا الحلم، فيقول:'مَنْ أصلح ما بينه وبين الله، أصلح الله ما بينه وبين الناس' .
? إنها إذن ثمرة العلاقة بين العبد وربه، وعلى مقدار قوة هذه العلاقة في السر والعلن، يكون مقدار التيسير في علاقة المرء مع الناس..يقول التابعي الجليل أبو حازم:'لا يحسن عبد فيما بينه وبين الله إلا أحسن الله ما بينه وبين العباد، ولا يغور فيما بينه وبين الله عز وجل إلا أغور فيما بينه وبين العباد، ولَمُصَانعةُ وجه واحد أيسر من مصانعة الوجوه كلها، إنك إذا صانعت هذا الوجه مالت الوجوه كلها إليك، وإذا أفسدت ما بينك وبينه شنئتك الوجوه كلها' .. إنه سبحانه هو مالك القلوب، فهل يعجزه أن يميلها لمن يشاء من عباده ؟ والذي أمر النار بأن تكون برداً وسلاماً على عبد صالح دعا قومه للتوحيد، وألقى في النار من أجله، أليس بقادر على أن ييسر أمور من أحسن علاقته به مع الناس؟
المعادلة الرابعة : الهيبة
والهيبة هي:'خوف مقارن للتعظيم والإجلال، وأكثر ما يكون مع المحبة والمعرفة''مدارج السالكين'. وبهذا التعريف: فإن الهيبة لا يمكن أن تكون مقرونة بالحب والتوقير، إذا كانت صادرة من الأعداء والفساق، أو المحاربين لدين الله، إنما تكون كذلك إذا صدرت من المؤمنين المحبين لله ورسوله.
هيبة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : نرى تلك الهيبة العظيمة في شخصية النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى درجة أن الصحابة الكرام يهابون حتى من سؤاله، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:'سَلُونِي' فَهَابُوهُ أَنْ يَسْأَلُوهُ... رواه مسلم .
وجاء عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: صَلَّى بِنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ ثُمَّ قَامَ إِلَى خَشَبَةٍ فِي مُقَدَّمِ الْمَسْجِدِ وَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهَا وَفِي الْقَوْمِ يَوْمَئِذٍ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فَهَابَا أَنْ يُكَلِّمَاهُ... رواه البخاري ومسلم والنسائي وأبوداود وابن ماجة وأحمد . ولم يستطع أن يكلمه إلا رجل كان الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدعوه: ذا اليدين.
هيبة الصحابة: هذه الهيبة في كل من اتقى الله، ولهذا نجدها بوضوح في أفضل الناس بعد الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهم صحابته الكرام:
? فهذا حُذَيْفَةُ بنُ الْيَمَانِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:' قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَيُّكُمْ يَحْفَظُ حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْفِتْنَةِ قَالَ قُلْتُ أَنَا أَحْفَظُهُ كَمَا قَالَ قَالَ إِنَّكَ عَلَيْهِ لَجَرِيءٌ فَكَيْفَ قَالَ قُلْتُ:' فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَوَلَدِهِ وَجَارِهِ تُكَفِّرُهَا الصَّلَاةُ وَالصَّدَقَةُ وَالْمَعْرُوفُ' قَالَ: لَيْسَ هَذِهِ أُرِيدُ وَلَكِنِّي أُرِيدُ الَّتِي تَمُوجُ كَمَوْجِ الْبَحْرِ قَالَ قُلْتُ لَيْسَ عَلَيْكَ بِهَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بَأْسٌ بَيْنَكَ وَبَيْنَهَا بَابٌ مُغْلَقٌ قَالَ فَيُكْسَرُ الْبَابُ أَوْ يُفْتَحُ قَالَ قُلْتُ لَا بَلْ يُكْسَرُ قَالَ فَإِنَّهُ إِذَا كُسِرَ لَمْ يُغْلَقْ أَبَدًا قَالَ قُلْتُ أَجَلْ فَهِبْنَا أَنْ نَسْأَلَهُ مَنْ الْبَابُ فَقُلْنَا لِمَسْرُوقٍ سَلْهُ قَالَ فَسَأَلَهُ فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قُلْنَا فَعَلِمَ عُمَرُ مَنْ تَعْنِي قَالَ نَعَمْ كَمَا أَنَّ دُونَ غَدٍ لَيْلَةً وَذَلِكَ أَنِّي حَدَّثْتُهُ حَدِيثًا لَيْسَ بِالْأَغَالِيطِ' رواه البخاري ومسلم .
هيبة التابعين والعلماء وكانت الهيبة فيهم كبيرة، ومن ذلك:
? ما يرويه عمر بن جعثم عن التابعي الجليل خالد بن معدان أنه:'إذا قعد لم يقدر أحد منهم يذكر الدنيا عنده هيبة له'.(/4)
? وكان الحسن البصري رضي الله عنه ذا هيبة كبيرة حتى أن أيوب السختياني يقول عنه:' كان الرجل يجلس إلى الحسن ثلاث حجج ما يسأله عن المسألة هيبة له'.
? ومما يرويه الإمام أحمد عن أحد شيوخه الإمام هشيم بن بشير يقول:'لزمت هشيماً أربع سنين، أو خمساً، ما سألته عن شيء إلا مرتين هيبة له، وكان كثير التسبيح بين الحديث'.
? وروي الدقي عن شيخه ابن الجلاء القدوة شيخ الشام قوله:'ما رأيت شيخاً أهيب من ابن الجلاء مع أني لقيت ثلاث مئة شيخ.'
خوف الله والهيبة: يستخلص الواعظ يحيى بن معاذ مما سبق معادلة الهيبة حيث يقول:'على قدر خوفك من الله يهابك الخلق'. ولهذا السبب كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أكثر الناس هيبة؛ لأنه أكثر الناس خوفاً من الله، حتى جعل الصحابة يهابون سؤاله، وكان الصحابة أكثر الناس خوفاً بعد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكان التابعون يهابون من سؤالهم.
نُصِرْتُ بالرعب : ولأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان أكثر الناس خوفاً من الله، وصحابته الكرام، كان أعداء الله أشد هيبة لهم، حتى قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:'أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ ...' رواه البخاري ومسلم . فقد قذف الله الرعب والهيبة في قلوب أعدائه الله من الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصاحبه الكريم على بُعد شهر، ولعل هذا أحد الأسباب الرئيسة في انتصارات المسلمين على الكفار، والفتوحات التي وصلت إلى مشارف أوروبا.
انتزاع الهيبة : عندما يقل هذا الخوف من الله، ويصبح الخوف من المخلوق أكبر من الخوف من الله، فإن الله ينزع هذه الهيبة من قلوب الأعداء جزاءً وفاقاً، حتى تمضي المعادلة ونتائجها من غير تبديل ولا تعديل، فهي سنة ماضية إلى يوم القيامة، يقول الإمام القدوة الزاهد عبد الله بن عبد العزيز العمري، والذي وعظ الرشيد يوماً فأغمى عليه:'من ترك الأمر بالمعروف خَوْفَ المخلوقين، ونزعت منه الهيبة، فلو أمر ولده لا ستخف به'.
آخر الزمان :عندما يتناقص هذا الخوف من الله في آخر الزمان، ويزداد الخوف من المخلوق، ويزداد التعلق بالدنيا وتُنسي الآخرة؛ ينزع الله الهيبة تماماً من قلوب أعداء المسلمين، حتى يتجرأوا عليهم من كل صوب وحدب، ويمثل هذه المأساة التي تحدث للمسلمين قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:'يُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا' فَقَالَ قَائِلٌ: وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ قَالَ:' بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ وَلَيَنْزَعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمْ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ الْوَهْنَ' فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْوَهْنُ قَالَ:' حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ' رواه أبوداود وأحمد .
...
المعادلة الخامسة:العجب بداية النهاية
رئيسي :فضائل :
ماهو العجب ؟ يعرف ابن المبارك العجب، فيقول:'أن ترى أن عندك شيئاً ليس عند غيرك'. ويقول القرطبي:'إعجاب المرء بنفسه: هو ملاحظته لها بعين الكمال، مع نسيان نعمة الله، فإن احتقر غيره مع ذلك، فهو الكبر المذموم'.
? والعجب ضده التواضع، يقول الإمام الشافعي عن التواضع:'أرفع الناس قدراً من لا يرى قدره وأكثرهم فضلاً من لا يرى فضله'. وعلى هذا فإن المعجب بنفسه يرى أنه أرفع من الناس، وأنه لا يماثله أحد، يتصاحب ذلك مع نسيانه بفضل الله عليه بتلك الصفة أو النعمة التي يترفع بسببها على الناس.
يتجلجل في الأرض: ولقد انطبقت هذه الصفات على قارون، حيث أعجبته نفسه، واغتر بماله، ونسي المنعم عليه، بل نسب هذه النعمة لنفسه عندما قال:}إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي [78]{ [سورة القصص] . فعاقبه الله على عجبه، ونسيانه لفضله عليه بأن خسف به الأرض، وأمرها سبحانه بسحبه لها، فمازال يتجلجل بها.
فعن أبي هريرة –رضي الله عنه- قال: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي فِي حُلَّةٍ تُعْجِبُهُ نَفْسُهُ مُرَجِّلٌ جُمَّتَهُ إِذْ خَسَفَ اللَّهُ بِهِ فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ] رواه البخاري ومسلم والدارمي وأحمد .
خوف النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من العجب : ولأن العجب قد يحبط العمل، فقد كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخاف منه، حيث كان يوصي أصحابه بقوله: [لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُهُ فَقُولُوا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ] رواه البخاري والدارمي وأحمد. لأنه كان يخشى على نفسه عند الثناء من العجب.(/5)
?بل إنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يوصى صحابته الكرام أن يخفوا عبادتهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً؛ كي لا يكون ذلك سببًا في عجبهم، فَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: [ الْجَاهِرُ بِالْقُرْآنِ كَالْجَاهِرِ بِالصَّدَقَةِ وَالْمُسِرُّ بِالْقُرْآنِ كَالْمُسِرِّ بِالصَّدَقَةِ] رواه الترمذي والنسائي وأبوداود وأحمد.
يقول الإمام الترمذي- معقبًا- على الحديث:' وَمَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الَّذِي يُسِرُّ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ أَفْضَلُ مِنْ الَّذِي يَجْهَرُ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ لِأَنَّ صَدَقَةَ السِّرِّ أَفْضَلُ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ صَدَقَةِ الْعَلَانِيَةِ وَإِنَّمَا مَعْنَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ لِكَيْ يَأْمَنَ الرَّجُلُ مِنْ الْعُجْبِ لِأَنَّ الَّذِي يُسِرُّ الْعَمَلَ لَا يُخَافُ عَلَيْهِ الْعُجْبُ مَا يُخَافُ عَلَيْهِ مِنْ عَلَانِيَتِهِ'. لأن قارئ القرآن قد تعجبه قراءته، أو أنه يرى إعجاب الآخرين بقراءته، وحسن تجويده، وصوته، فيتسرب العجب إلى نفسه، فتأتي وصية النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالإسرار حماية له من العجب.
نتيجة خطيرة: فإذا كانت عقوبة قارون على عجبه بنفسه، ونسيانه للمنعم، بخسف الأرض به، فإن زوال الخيرية من الإنسان، وسقوطه من عين الله، ومن أعين الناس لا تقل عن عقوبة الخسف، حيث يحذرنا الإمام الحسن البصري من نتيجة العجب بقوله:'ليس بين العبد وبين ألا يكون فيه خير إلا أن يرى أن فيه خيرًا' .
الإمام بشر يبين المعادلة: وعلاج العجب إنما يكون بالإخلاص والنية الحسنة، وهذا هو الميزان، وهذه هي المعادلة، وكل أمر تشعر أنه ليس لله، فامتنع منه؛ لأن الله سبحانه وتعالي لا يقبل إلا طيبًا.
? ويضع الإمام بشر الحافي ميزانًا لفهم معادلة العجب، حيث يقول:'إذا أعجبك الكلام، فاصمت، وإذا أعجبك الصمت فتكلم'.
? ويزيد الإمام الذهبي هذا الميزان وضوحًا بقوله:'ينبغي للعالم أن يتكلم بنيته وحسن قصد، فإذا أعجبه كلامه فليصمت، فإن أعجبه الصمت فلينطق، ولا يفتر عن محاسبة نفسه، فإنها تحب الظهور والثناء'.
الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخصتر المعادلة: ويختصر الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معادلة العجب، بما أوتي من جوامع الكلم بقوله: [مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ] رواه البخاري ومسلم.
فالإيمان بالله واليوم الآخر يساوي في طرف المعادلة الآخر البحث عن الخير، والإخلاص. والنية الصالحة في قمة الخير الذي يبحث عنه المؤمن، فإذا لم يجده في عمله، أو قوله؛ فليصمت خيرًا له من حديث، أو عمل يبتغي به وجهًا غير وجه الله، أو يدخل إلى قلبه العجب بسببه، فيفسد بذلك العمل.
ليس هذا من العجب: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَعْمَلُ الْعَمَلَ فَيُطَّلَعُ عَلَيْهِ فَيُعْجِبُنِي قَالَ: [ لَكَ أَجْرَانِ أَجْرُ السِّرِّ وَأَجْرُ الْعَلَانِيَةِ] رواه ابن ماجة. إذاً: فالضابط ها هنا هو النية، فإذا عمل العمل يبتغي به وجه الله تعالي، وحاول إخفاؤه ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، ثم اطلع عليه الناس بغير إرادة منه لهذا الاطلاع وأثنوا عليه، ففرح لهذا الثناء، وحمد الله على ذلك التوفيق للعمل الصالح، فليس هذا من العجب، وهو خارج عن تعريفه بالشعور بالكمال، ونسيان المنعم عليه.
احذر المداحين : إن من الأسباب والعوامل المساعدة على نمو العجب في نفس الإنسان: تلك الفئة التي تبطن غير ما تظهر، وتمدح بالوجه ابتغاء التقرب إليه وبعض مصالح الدنيا، وتذم عند غيبة ذلك الإنسان.. ولهذا السبب نرى الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحذرنا من هذه الفئة، بل ويأمرنا أن نحثو في وجوههم التراب، لما لهم من أثر في النفوس، وربما تسببوا في غرس ذلك العجب الذي ينسى نعمة المنعم، ويجعل صاحبه يتعالي على الآخرين، ويظن أنه خيرًا منهم.
? ويزيدنا التابعي الجليل وهب بن منبه إيضاحًا عن تلك الفئة الخطرة، فيقول:'إذا سمعت الرجل يقول فيك من الخير ما ليس فيك فلا تأمن أن يقول فيك من الشر ما ليس فيك'.
...
المعادلة السادسة: الحياة الطيبة
رئيسي :فضائل :
إنها معادلة قرآنية في طرفها الأول يقول تعالي:{ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ ...[97] }[سورة النحل].
وطرفها الثاني نتيجة لتحقيق الطرف الأول، حيث يقول تعالي:} فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ[97]{ [سورة النحل].(/6)
العمل الصالح :على الإطلاق.. كل عمل صالح، والعمل الصالح ينقسم إلى قسمين: واجب، ونافلة، أما الواجب فلا يستطيع الإنسان الزيادة فيه، أو النقصان، وإنما يكون التنافس في النوافل، حيث تتفاوت همم الصالحين في التقرب إلى الله، وبالتالي تكون الحياة الطيبة بالزيادة والنقصان، طبقًا لما يتقرب به العبد من ربه من هذه النوافل بعد أداء ما أوجبه الله عليه، كمًا وكيفًا.
والعمل الصالح بشكل عام تتعدد أشكاله: فأعلاه: كلمة التوحيد' لا إله إلا الله' وما تقتضيه، وأدناه إماطة الأذى عن الطريق، وما بينهما الكثير من هذه الأعمال الصالحة، والميدان مفتوح للجميع.
هل الحياة الطيبة في الدنيا أم في الآخرة؟
أكثر العلماء يرجح أنها في الدنيا، واختلفوا في معنى الحياة الطيبة، ونجمع هذه الأقوال فيما قاله الإمام القرطبي في 'تفسيره':'وفي الحياة الطيبة أقوال:
الأول: أنه الرزق الحلال. الثاني: القناعة. الثالث: توفيقه إلى الطاعات، فإنها تؤديه إلى رضوان الله. الرابع: السعادة. الخامس: حلاوة الطاعة.
السادس: الجنة، وقال الحسن:' لا تطيب الحياة لأحد إلا في الجنة'.
السابع: المعرفة بالله، وصدق المقام بين يدي الله.
الثامن : الاستغناء عن الخلق، والافتقار إلى الحق. التاسع : الرضا بالقضاء' .
? ويعقب الإمام ابن كثير على هذه الأقوال بقوله:'والصحيح: أن الحياة الطيبة تشمل هذا كله، كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:[ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ وَرُزِقَ كَفَافًا وَقَنَّعَهُ اللَّهُ بِمَا آتَاهُ] ورواه مسلم والترمذي وابن ماجة .'
عيش المؤمن وعيش الكافر: ويثبت الفخر الرازي بأن الحياة الطيبة تكون في الدنيا بعقد مقارنة بين عيش المؤمن، وعيش الكافر، حيث يقول:'اعلم أن عيش المؤمن في الدنيا أطيب من عيش الكافر لوجوه:
الأول: أنه لما عرف أن رزقه إنما حصل بتدبير الله تعالي، وعرف أنه تعالي محسن كريم لا يفعل إلا الصواب، كان راضيًا بكل ما قضاه وقدره، وعلم أن مصلحته في ذلك، أما الجاهل فلا يعرف هذه الأصول، فكان أبدًا في الحزن والشقاء.
وثانيها: أن المؤمن أبدًا يستحضر في عقله أنواع المصائب والمحن ويقدر وقوعها، وعلى تقدير وقوعها يرضي بها؛ لأن الرضا بقضاء الله تعالي واجب، فعند وقوعها لا يستعظمها، بخلاف الجاهل، فإنه يكون غافلاً عن تلك المعارف، فعند وقوع المصائب يعظم تأثيرها في قلبه.
وثالثها: أن قلب المؤمن منشرح بنور معرفة الله تعالي، والقلب إذا كان مملوءًا من هذه المعارف؛ لم يتسع للأحزان الواقعة بسبب أحوال الدنيا، أما قلب الجاهل، فإنه خالٍ من معرفة الله تعالي، فلا جرم يصير مملوءًا بالأحزان الواقعة بسبب مصائب الدنيا.
ورابعها: أن المؤمن عارف بأن خيرات الحياة الجسمانية خسيسة، فلا يعظم فرحه بوجدانها، وغمه بفقدانها، أما الجاهل فإنه لا يعرف سعادة أخرى تغايرها، فلا جرم يعظم فرحه بوجدانها وغمه بفقدانها.
وخامسها: أن المؤمن يعلم أن خيرات الدنيا واجبة التغير، سريعة التقلب، فلولا تغيرها وانقلابها لم تصل من غيره إليه'.
نشاط النفوس ونبلها: ويرى ابن عطيه الأندلسي بأن:'طيب الحياة اللازم للصالحين إنما هو بنشاط نفوسهم ونبلها، وقوة رجائهم، والرجاء للنفس أمر ملذ، فبهذا تطيب حياتهم، وبأنهم احتقروا الدنيا فزالت همومها عنهم، فإن انضاف إلى هذا مال حلال، وصحة، أو قناعة؛ فذلك كمال، وإلا فالطيب فيما ذكرناه راتب'.
هل المال شرط للسعادة والحياة الطيبة؟
كثيرون يعتقدون ذلك، ولا يتصورون أن السعادة يمكن أن تحدث من غير مال، لذلك فهم يهلكون أنفسهم من أجل المال، ويبيعون قيمهم، ومبادئهم من أجل المال، ويقتلون النفس التي حرم الله من أجل المال.. ويرد سيد قطب على هؤلاء بقوله:'العمل الصالح مع الإيمان جزاؤه حياة طيبة في هذه الأرض، لا يهم أن تكون ناعمة، رغدة، ثرية بالمال، فقد تكون به، وقد لا يكون معها.
وفي الحياة أشياء كثيرة غير المال الكثير تطيب بها الحياة في حدود الكفاية: فيها الاتصال بالله، والثقة به، والاطمئنان إلى رعايته وستره وستره ورضاه، وفيها الصحة والهدوء والرضا والبركة، وسكن البيوت، ومودات القلوب، وفيها الفرح بالعمل الصالح وآثاره في الضمير، وآثاره في الحياة، وليس المال عنصرًا واحدًا يكفي منه القليل، حين يتصل القلب بما هو أعظم وأزكي وأبقي عند الله'.(/7)
الفرح بفضل الله: وإن من الحياة الطيبة: الفرح بما يرضي الله ويحبه، الفرح الذي لا يطغي صاحبه وينسيه فضل الله عليه، حيث يقول تعالي:} قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ[58]{ [سورة يونس]. وقوله تعالى:} فَرِحِينَ بِمَا ءَاتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ... [170] {[سورة آل عمران]. عن الحسن، والضحاك، وقتادة، ومجاهد:'فضل الله: الإيمان، ورحمته: القرآن'.
? أي: أن الفرح بهما أفضل وأنفع مما يجمعونه من الذهب والفضة، وسائر خيرات الدنيا؛ لأنه هو سبب السعادة في الدارين، وتلك سبب السعادة في الدنيا الزائلة فحسب، فقد نال المسلمون في العصور الأولى بسببه الملك الواسع، والمال الكثير مع الصلاح والإصلاح مما لم يتسن لغيرهم من قبل ولا من بعد.. وبعد أن جعلوا ديدنهم جمع المال، ومتاع الدنيا، ووجهوا همتهم إليه، وتركوا هداية القرآن في إنفاقه، والشكر عليه، ذهبت دنياهم من أيديهم إلى أيدي أعدائهم.
ما هو الفرح والسرور ؟
يقول ابن القيم:'الفرح لذة تقع في القلب بإدراك المحبوب، ونيل المشتهى، فيتولد من إدراكه حالة تسمى الفرح والسرور، كما أن الحزن والغم من فقد المحبوب، فإذا فقده؛ تولد من فقده حالة تسمى: الحزن والغم'. ويقول موضع آخر:'الفرح أعلى أنواع نعيم القلب، ولذته وبهجته، والفرح والسرور نعيمه، والهم والحزن عذابه، والفرح بالشيء فوق الرضى به، فإن الرضى طمأنينة وسكون وانشراح، والفرح لذة وبهجة وسرور، فكل فَرِحٍ رَاضٍ، وليس كل راضٍ فَرِحًا، ولهذا كان الفرح ضد الحزن، والرضى ضد لسخط'.
فرحتان :الفرح فرحتان:
? فرحة بالزائل من الدنيا.
? وفرحة بالباقي وكل ما يتصل بالباقي الذي لا يزول فإن أثره باقٍ لا يزول، فإن حب الدنيا الزائلة وما فيها والفرح بها، يزول عندما يزول هذا الشيء، وأما الفرح بما عند الله، وبما أنزله من الكتاب، وما جاء به صلى الله عليه وسلم، فإنه لا ينقطع، يبدأ في الحياة الدنيا، ويستمر حتى يغادر الإنسان هذه الحياة، فيتواصل في حياة البرزخ بما يجده من الفضل والنعيم في القبر، ثم يستمر يوم القيامة حين البعث عندما يرى صحائف أعماله نورًا يتلألأ، ثم يدخل الجنة، فتكون الفرحة الكبرى برؤية وجه العزيز الكريم، وبما يرى من نعيم دائم مقيم.
مؤشر الإيمان الصادق: هذا الفرح بفضل الله ورحمته – والذي هو أحد المظاهر البارزة للحياة الطيبة – لا يكون إلا لأولئك المؤمنين الصادقين، الذين اشتروا الآخرة وباعوا الدنيا، فاختاروا بذلك التجارة التي تنجيهم من عذاب أليم، واختاروا الباقي على الزائل، فكان هذا الفرح مؤشرًا دقيقًا لما في قلوبهم من إيمان، حيث إن فاقد الإيمان، أو ضعيفه لا يفرح إلا بما في الدنيا من الزخارف، ويزهد فيما عند الله من الباقي.
ولهذا الأمر نرى الصحابة الكرام عندما بشرهم النبي صلى الله عليه وسلم بأنه لا يصلي أحد سواهم أي المسلمين صلاة العشاء؛ فرحوا فرحًا كبيرًا:
? كما جاء عن أبي موسى قال: فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ قَالَ لِمَنْ حَضَرَهُ:[عَلَى رِسْلِكُمْ أَبْشِرُوا إِنَّ مِنْ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْكُمْ أَنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ يُصَلِّي هَذِهِ السَّاعَةَ غَيْرُكُمْ ] قَالَ أَبُو مُوسَى:' فَرَجَعْنَا فَفَرِحْنَا بِمَا سَمِعْنَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ' رواه البخاري ومسلم.
?ونرى كيف فرحت ابنة النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة عندما بشرها أبوها صلى الله عليه وسلم بأنها سيدة نساء الجنة.. حيث تروي عائشة وتصف لنا تلك الفرحة الكبرى التي بدت على فاطمة – رضي الله عنها – فتقول:'أَقْبَلَتْ فَاطِمَةُ تَمْشِي كَأَنَّ مِشْيَتَهَا مَشْيُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:[ مَرْحَبًا بِابْنَتِي] ثُمَّ أَجْلَسَهَا عَنْ يَمِينِهِ أَوْ عَنْ شِمَالِهِ ثُمَّ أَسَرَّ إِلَيْهَا حَدِيثًا فَبَكَتْ فَقُلْتُ لَهَا لِمَ تَبْكِينَ ثُمَّ أَسَرَّ إِلَيْهَا حَدِيثًا فَضَحِكَتْ فَقُلْتُ مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ فَرَحًا أَقْرَبَ مِنْ حُزْنٍ فَسَأَلْتُهَا عَمَّا قَالَ فَقَالَتْ مَا كُنْتُ لِأُفْشِيَ سِرَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى قُبِضَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلْتُهَا فَقَالَتْ أَسَرَّ إِلَيَّ [ إِنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يُعَارِضُنِي الْقُرْآنَ كُلَّ سَنَةٍ مَرَّةً وَإِنَّهُ عَارَضَنِي الْعَامَ مَرَّتَيْنِ وَلَا أُرَاهُ إِلَّا حَضَرَ أَجَلِي وَإِنَّكِ أَوَّلُ أَهْلِ بَيْتِي لَحَاقًا بِي] فَبَكَيْتُ فَقَالَ:[ أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ تَكُونِي سَيِّدَةَ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَوْ نِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ] فَضَحِكْتُ لِذَلِكَ' رواه البخاري ومسلم والترمذي وابن ماجة وأحمد.(/8)
? ونرى كيف فرح الصحابي الجليل أبو هريرة، حتى بكى من شدة الفرح عندما اهتدت أمه، ودخلت الإسلام عندما طلب من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يدعو لها بالهداية، يقول أبو هريرة عن تلك اللحظات السعيدة:' فَرَجَعْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَيْتُهُ وَأَنَا أَبْكِي مِنْ الْفَرَحِ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَبْشِرْ قَدْ اسْتَجَابَ اللَّهُ دَعْوَتَكَ وَهَدَى أُمَّ أَبِي هُرَيْرَةَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَالَ خَيْرًا'رواه مسلم وأحمد.
? وينقل لنا الصحابي الجليل أنس خادم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرحة الصحابة التي ما كان يعدلها فرحة، عندما بشرهم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن المرء يكون مع من أحب يوم القيامة، حتى وإن لم يعمل العمل الكثير. فَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:'أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ السَّاعَةِ فَقَالَ مَتَى السَّاعَةُ قَالَ:[ وَمَاذَا أَعْدَدْتَ لَهَا] قَالَ لَا شَيْءَ إِلَّا أَنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ:[ أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ] قَالَ أَنَسٌ: فَمَا فَرِحْنَا بِشَيْءٍ فَرَحَنَا بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ قَالَ أَنَسٌ فَأَنَا أُحِبُّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ مَعَهُمْ بِحُبِّي إِيَّاهُمْ وَإِنْ لَمْ أَعْمَلْ بِمِثْلِ أَعْمَالِهِمْ ' رواه البخاري ومسلم والترمذي وأبوداود وأحمد.
? هذه نماذج من فرح المؤمنين بفضل الله ورحمته، مما يدل على ما في قلوبهم من الإيمان الذي استحقوا أن يمنحهم الرب هذه الحياة الطيبة كنتيجة لأعمالهم الصالحة، وصدق الله العزيز عندما قال:
} مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [97] {[سورة النحل].. لقد حققوا الشطر الأول من المعادلة بالعمل الصالح، فحقق الله لهم شطرها الآخر بالحياة الطيبة، ويوم القيامة يجزيهم بأحسن ما كانوا يعملون.
...
المعادلة السابعة كفاية الله
رئيسي :فضائل :
والمعادلة هنا: يرويها لنا على بن أبي طالب رضي الله عنه حيث يقول:'من عمل لآخرته كفاه الله أمر دينه ودنياه'. والكفاية هي الحفظ من كيد الأعداء، والاستغناء، والقيام مقامه.
وفي المعجم الوسيط:'كفاه كفاية: استغنى به عن غيره، وكفى فلانًا الأمر: قام فيه مقامه... وكفى الله فلانًا، أو شر فلان، حفظه من كيده، واكتفي بالشيء: استغنى به وقنع'.
متى تتحقق الكفاية؟
هذه الكفاية لا تتحقق للعبد حتى يتحقق الشطر الأول من المعادلة، وهو العمل للآخرة، وأن تكون هي الهم الشاغل، وألا يكتفي بأداء ما وجب عليه، بل يتمم ذلك بالكثير من النوافل حتى يحبه الله فيكون سمعه الذي يسمع به، ويده التي يبطش بها، وبصره الذي يبصر به، وألا يعطي آخرته فضول أوقاته، بل تكون صلاته، ونسكه، ومحياه، ومماته لله رب العالمين، والله سبحانه يعوضه ما فاته من دنياه، ويحفظه من كل كيد يكاد له من أعدائه، ويملأ قلبه بالرضا والقناعة، ويعينه على كل ما من شأنه أن يقربه لله، ويجعله في أعلى منزلة.
ربح البيع أبا يحيى: عندما قبض على الصحابي الجليل صهيب الرومي أثناء هجرته للمدينة، واشترطوا الإفراج عنه، بأن يدلهم على ماله كله، وافق على الشرط من أجل الهجرة لله ورسوله، وعندما أقبل على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال له مبشرًا:[رَبِحَ الْبَيْعُ أَبَا يَحْيَى] .
? إنها البشارة النابعة من حقيقة الميزان الأخروي، الذي لا يعرفه إلا من تعلق بالآخرة، حيث أن صهيبًا باع دنياه بآخرته، فاستحق كفاية الله لدينه ودنياه، وماذا يتمنى المرء العاقل أكثر من ذلك في الدنيا؟ فلو قيل لإنسان: إنك برعاية الملك الفلاني، وسيكفيك كل أمور معاشك، ويحميك من كل مكروه، ماذا سيكون شعوره؟ وكيف سيكون فرحه؟ واعتزازه؟ فكيف عندما يكون أضعاف هذا الحفظ والكفاية من قبل من عنده خزائن السموات والأرض، لذلك ربح بيع صهيب، وربح بيع كل داعية يبيع دنياه في سبيل آخرته، ويستحق كفاية الله له في دينه ودنياه.(/9)
منذ نسائم الفجر: تبدأ كفاية الله لعبده العامل للآخرة منذ نسائم الفجر الأولى، وحتى يأوي لفراشه خاتمًا يومه ذلك، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:[ مَنْ قَالَ يَعْنِي إِذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ بِسْمِ اللَّهِ تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ يُقَالُ لَهُ كُفِيتَ وَوُقِيتَ وَتَنَحَّى عَنْهُ الشَّيْطَانُ] رواه الترمذي وأبوداود . يقول الإمام المباركفوري شارحًا للحديث:' قَوْلُهُ: [يُقَالُ لَهُ] أَيْ يُنَادِيهِ مَلَكٌ يَا عَبْدَ اللَّهِ [كُفِيت] بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ مُهِمَّاتِك وَفِي رِوَايَةِ أَبُو دَاوُدَ :[هُدِيت وَكُفِيت وَوُقِيت] مِنْ الْوِقَايَةِ أَيْ حُفِظْت مِنْ شَرِّ أَعْدَائِك [ وَتَنَحَّى عَنْهُ الشَّيْطَانُ ] أَيْ تَبَعَّدَ , زَادَ أَبُو دَاوُدَ فِي رِوَايَتِهِ:[ فَيَقُولُ شَيْطَانٌ آخَرُ كَيْفَ لَك بِرَجُلٍ قَدْ هُدِيَ وَكُفِيَ وَوُقِيَ] '.
? إنها رسائل إيجابية يبعثها المؤمن لعقله، ويستشعر كفاية الله منذ انفلاق صباح يوم جديد، مما يزيده ثقة بالله، ويقينًا بحفظ الله له، وبهذه الهمة العالية، والنفسية القوية؛ يحتك بالآخرين، ويقوم بمهامه اليومية، فكيف لا يوفق؟!
حتى لو كان قليلاً: فما دامت النية خالصة لوجهه الكريم، ولا يريد بهذا العمل وجهًا سواه، فإن الله سبحانه يعطيه هذه الكفاية حتى وإن كان العمل قليلاً، أو لا يكلف المرء شيئًا من الجهد، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا ذَهَبَ ثُلُثَا اللَّيْلِ قَامَ فَقَالَ:[ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا اللَّهَ اذْكُرُوا اللَّهَ جَاءَتْ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ جَاءَ الْمَوْتُ بِمَا فِيهِ جَاءَ الْمَوْتُ بِمَا فِيهِ] قَالَ أُبَيٌّ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أُكْثِرُ الصَّلَاةَ عَلَيْكَ فَكَمْ أَجْعَلُ لَكَ مِنْ صَلَاتِي فَقَالَ:[مَا شِئْتَ] قُلْتُ الرُّبُعَ قَالَ:[ مَا شِئْتَ فَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ] قُلْتُ النِّصْفَ قَالَ:[ مَا شِئْتَ فَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ] قُلْتُ فَالثُّلُثَيْنِ قَالَ:[ مَا شِئْتَ فَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ] قُلْتُ أَجْعَلُ لَكَ صَلَاتِي كُلَّهَا قَالَ:[ إِذًا تُكْفَى هَمَّكَ وَيُغْفَرُ لَكَ ذَنْبُكَ]رواه الترمذي وأحمد.
البائعون لرضا الناس: هل من الممكن أن يرضى إنسان ببيع رضا الناس عليه، ويقبل بالتعرض لسخطهم، وغضبهم وشرهم، وتهديدهم؟ في موازين الناس يعتبرونه مجنونًا، ولكنه في ميزان الله مؤمنًا عاقلاً وحبيبًا لله، لأنه باع رضا الناس واشترى رضا الله، فلا يهمه غضب الناس ما دام مرضيًا رب العالمين، وجزاء لهذا البيع يعطيه الله الكفاية ويجعله في كنفه.. لقد خسر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زعماء قومه، وبعض أقاربه في سبيل مرضاة الله، وقبل تهديدهم، وغضبهم، ولم يداهن أحدًا على حساب دينه وآخرته، فأعطاه الله 'الكفاية' بقوله تعالى:} إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ[95]{ [سورة الحجر]. يقول الإمام المارودي في 'تفسيره':'وهم خمسة: الوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، وأبو زمعة، والأسود بن عبد يغوث، والحارث بن الطلاطلة أهلكهم الله جميعًا قبل بدر لاستهزائهم برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ '[ النكت والعيون 2 / 380]. وليس هذا خاصًا بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بل بكل من اشترى رضا الله بسخط الناس.
عائشة توصي معاوية: كَتَبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا:' أَنْ اكْتُبِي إِلَيَّ كِتَابًا تُوصِينِي فِيهِ وَلَا تُكْثِرِي عَلَيَّ فَكَتَبَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا إِلَى مُعَاوِيَةَ: سَلَامٌ عَلَيْكَ أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:[ مَنْ الْتَمَسَ رِضَا اللَّهِ بِسَخَطِ النَّاسِ كَفَاهُ اللَّهُ مُؤْنَةَ النَّاسِ وَمَنْ الْتَمَسَ رِضَا النَّاسِ بِسَخَطِ اللَّهِ وَكَلَهُ اللَّهُ إِلَى النَّاسِ] وَالسَّلَامُ عَلَيْكَ' رواه الترمذي، وصححه الألباني. يقول الإمام القارئ معلقًا:' [كَفَاهُ اللَّهُ مُؤْنَةَ النَّاسِ] أي مؤونة شرهم من الظلم عليه، والإساءة إليه، [وَمَنْ الْتَمَسَ رِضَا النَّاسِ بِسَخَطِ اللَّهِ وَكَلَهُ اللَّهُ إِلَى النَّاسِ] أي: خلاه، وترك نصره، ودفعه إلى الناس، قال المظهر: يعنى إذا عرض له أمر في فعله رضا الله وغضب الناس، أو عكسه فإن فعل الأول رضي الله عنه، ودفع عنه شر الناس، وإن فعل الثاني وكله إلى الناس، يعنى سلط الناس عليه حتى يؤذوه، ويظلموا عليه، ولم يدفع عنه شرهم'[ مرقاة المفاتيح 8 / 855].(/10)
فسيكفيكهم الله: يقول تعالى:} فَإِنْ ءَامَنُوا بِمِثْلِ مَا ءَامَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ[137]{ [سورة البقرة]. تأكيد من الله، وضمانة لمن يعمل في سبيله، وهو دعم نفسي وواقعي للمؤمن، تسهيلاً لمهمته، فخالقه لم يكلفه بما عجزت عنه السموات والأرض ثم يتركه من غير رعاية ولا حماية. يقول الشيخ عبد الرحمن الدوسري رحمه الله :'إن إيغال أهل الأهواء باتباع أهوائهم، ونبذهم لوحي الله، وإطراحهم لرسالته، يغريهم على عداوة كل مطيع لله، محتكم إلى شريعته، حامل لرسالته، متمسك بعقيدته؛ لأنه قذاة أعينهم، فمشاقتهم لله ورسوله بإطراح أمره ورسالته والكفر برسوله؛ يجعلهم يعادون من خالفهم في مشاقة الله، وينصبون له الأحابيل ليؤذوه، ويصدوه عن رسالته القائم بها دونهم، ولكن الله سبحانه يكفي المسلم المؤمن شرهم، ويقيه من جميع أنواع مكرهم، ويؤيد دعوته وأتباعه، كما وعد سبحانه في هذه الآية بقوله:
} فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ { فهذا الوعد بالكفاية ليس خاصًا بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بل هو عام لجميع من قام بدعوته، وسار على نهجه في رعاية أمانة الله، وحمل رسالته، وتوزيع هدايته'[ صفوة الآثار 2 / 372، 373].
الهم الواحد: العمل للآخرة الموجب لكفاية الله، لا يمكن أن يتم بأجمل صورة حتى يكون الدافع لهذا العمل يتعلق بالهم الغالب على ذلك العامل، فمن كانت همه الدنيا عمل لها، ومن كانت همه الآخرة عمل لها، والعاملون للآخرة هم أصحاب هم الآخرة الذين جعلوا الهموم همًا واحدًا، وكل هم سوى هم الآخرة لم يعبأوا به، وأسقطوه من حساباتهم، ولهذا السبب أيضًا استحقوا كفاية الله، ليس على العمل فحسب، بل حتى على توحيد الهموم، وجعلها همًا واحدًا يتعلق فيما عاهدوا الله عليه، وهو الآخرة. قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول:[مَنْ جَعَلَ الْهُمُومَ هَمًّا وَاحِدًا هَمَّ آخِرَتِهِ كَفَاهُ اللَّهُ هَمَّ دُنْيَاهُ وَمَنْ تَشَعَّبَتْ بِهِ الْهُمُومُ فِي أَحْوَالِ الدُّنْيَا لَمْ يُبَالِ اللَّهُ فِي أَيِّ أَوْدِيَتِهَا هَلَكَ] رواه ابن ماجة .
إن الشيء الوحيد الذي يتفق عليه الناس جميعًا – مسلمهم وكافرهم، وعجمهم وعربهم- هو 'طرد الهم' كما قال ابن حزم، وللناس مذاهب شتى في طرد هذا الهم، منهم من يعبد الصنم، ومنهم من يشرب الخمر، ومنهم من يقترف الفاحشة، ومنهم من يستمع إلى النكت والأضحوكات، ومنهم من يشاهد الأفلام، ومنهم من يتعاطى المخدرات بأنواعها، كل هؤلاء يفعلون ذلك لطرد الهم، وقد يطرد الهم فعلاً، ولكنه طرد مؤقت لا يلبث أن يداهمهم طالما انتهى أثر تلك الوسيلة؛ ذلك لأنهم لم يسلكوا الطريق الصحيح لطرد الهم، عندما تشعبت بهم هموم الدنيا.
ولكن العامل للآخرة، والذي جعل الهم همًا واحدًا تصاغرت وتضاءلت في عينه هموم الدنيا كلها، وأصبحت لا تستحق أن ينفق عليها شيئًا من همه الذي حصره كله في هم الآخرة. ولهذا السبب فهو لا يتأثر بما يصاب به من هموم الدنيا، وإن تأثر فإنما يمر ذلك عليه كمر السحاب على ضوء القمر لا يلبث أن يغادره، ويرجع القمر منيرًا تارة أخرى، كما ذكر الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وهذا هو كفايته من هم الدنيا، والذي يلجأ بسببه الكثير إلى الانتحار والجريمة، والعقد النفسية، والأمراض الكثيرة؛ لأن الله لم يبال في أي أوديتها هلك.
التهديد وكفاية الله: في سبيل إيقاف صاحب الحق والداعي إلى الله تعالى قد يلجأ أعداء الله إلى تخويفه، أو تهديده بما يملكون من قوة، وقد يتسرب الشيطان إلى نفس الداعية، إلا أن الله يذكره بأنه معه دائمًا، وأن كفايته متصلة دون انقطاع، تكفيه من شرور هؤلاء وتخويفهم وتهديدهم، بل يؤكد له هذه الكفاية على صيغة تساؤل:} أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ[36]{ [سورة الزمر]. يقول الشيخ المراغي:'أي ويخوفك المشركون بغير الله من الأوثان والأصنام عبثًا وباطلاً، لأن كل نفع أو ضر فلا يصل إلا بإرادته تعالى... وفي الآية إيماء إلى أنه سبحانه يكفي نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دينه ودنياه، ويكفى أتباعه أيضًا، ويكفيهم شر الكافرين'.
? ومن ذلك ما قاله تعالى في كتابه عن الذين خوفوا المؤمنين مما أعد لهم أعداء الله، فكانت ثقتهم بربهم، وكفايته خير رد على ذلك التهديد، حيث قال تعالي:} الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ[173]{ [سورة آل عمران].(/11)
يقول الإمام الطبري:'} فَزَادَهُمْ إِيمَانًا { فزادهم ذلك من تخويف من خوفهم أمر أبي سفيان وأصحابه من المشركين، يقينًا إلى يقينهم، وتصديقًا لله ولوعده ووعد رسوله إلى تصديقهم، ولم يثنهم ذلك عن وجههم الذي أمرهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالسير فيه، ولكن ساروا حتى بلغوا رضوان الله منه، وقالوا ثقة بالله وتوكلاً عليه، إذ خوفهم أبو سفيان وأصحابه من المشركين:} حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ { يعني كفانا الله، يعني يكفينا الله ونعم الوكيل'.
? إنه الإيمان العميق بالله تعالى، الإيمان بقدرته وقوته، وكفايته، إيمان يصل إلى اليقين المشاهد في القلوب، والذي لا يداخله شك كأنهم يرونه عيانًا يقينًا بنصر الله، وكفايته لشرورهم وأعدائهم، وإلا فكيف يخاف المنتصر، ويجرؤ المغلوب؟
كيف نطلب الكفاية؟
هذه الكفاية، لا تأتي إلا بالعمل الصالح:'من عمل لآخرته ' وأن يطلبها من الله كما بين لنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في عدة أحاديث:
قراءة الإخلاص : عَنْ مُعَاذِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خُبَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ:خَرَجْنَا فِي لَيْلَةٍ مَطِيرَةٍ وَظُلْمَةٍ شَدِيدَةٍ نَطْلُبُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي لَنَا فَأَدْرَكْتُهُ فَقَالَ:[ قُلْ] فَلَمْ أَقُلْ شَيْئًا ثُمَّ قَالَ:[ قُلْ] فَلَمْ أَقُلْ شَيْئًا قَالَ:[ قُلْ] فَقُلْتُ مَا أَقُولُ قَالَ:[ قُلْ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ حِينَ تُمْسِي وَتُصْبِحُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ تَكْفِيكَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ] رواه الترمذي وأبوداود والنسائي .
شكره لكفايته: فَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ قَالَ:[ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَنَا وَسَقَانَا وَكَفَانَا وَآوَانَا فَكَمْ مِمَّنْ لَا كَافِيَ لَهُ وَلَا مُؤْوِيَ] رواه مسلم . إنه استشعار لنعمة الكفاية وطلب في استمرارها، ومقارنة مع حاله وحال من تركه الله من غير كفاية.
الدعاء بالكفاية: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:' أَنَّ قُرَيْشًا لَمَّا أَبْطَئُوا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْإِسْلَامِ قَالَ:[ اللَّهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِسَبْعٍ كَسَبْعِ يُوسُفَ] فَأَصَابَتْهُمْ سَنَةٌ حَصَّتْ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى أَكَلُوا الْعِظَامَ حَتَّى جَعَلَ الرَّجُلُ يَنْظُرُ إِلَى السَّمَاءِ فَيَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا مِثْلَ الدُّخَانِ قَالَ اللَّهُ:} فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ[10]{ [سورة الدخان] قَالَ اللَّهُ:} إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ[15]{[سورة الدخان] أَفَيُكْشَفُ عَنْهُمْ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقَدْ مَضَى الدُّخَانُ وَمَضَتْ الْبَطْشَةُ' رواه البخاري ومسلم.
إنه لجوء إلى الله تعالى، وجلب معونته من رجل صالح بذل كل الأسباب لهداية قومه فلم يؤمنوا، فتقبل الله دعاءه 'الكفاية' منهم. والله يلبي دعوة أوليائه الصالحين عندما يلجأون إليه طالبين الكفاية من شرور أعداء الله، أو من كل ظالم.
الاعتقاد بكفايته : عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ:' سَرَّحَتْنِي أُمِّي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَيْتُهُ وَقَعَدْتُ فَاسْتَقْبَلَنِي وَقَالَ:[ مَنْ اسْتَغْنَى أَغْنَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَمَنْ اسْتَعَفَّ أَعَفَّهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَمَنْ اسْتَكْفَى كَفَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَمَنْ سَأَلَ وَلَهُ قِيمَةُ أُوقِيَّةٍ فَقَدْ أَلْحَفَ] فَقُلْتُ نَاقَتِي الْيَاقُوتَةُ خَيْرٌ مِنْ أُوقِيَّةٍ فَرَجَعْتُ وَلَمْ أَسْأَلْهُ' رواه النسائي وأحمد . فمن طلب الكفاية من الله تعالى كفاه الله.
متى نفقد الكفاية ؟
عدم الإخلاص : فإذا أريد بالعمل غير وجه الله؛ لا يمكن أن تتحقق الكفاية الإلهية. فكلما أخلصنا أعمالنا لله، كلما استحققنا هذه الكفاية.
عدم الإيمان : إن الشرط الذي ذكره الله تعالى لاستحقاق المؤمنين للكفاية هو الإيمان وذلك بقوله:
}قُولُوا ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ[136] {
ثم قال: }فَإِنْ ءَامَنُوا بِمِثْلِ مَا ءَامَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ[137] { [سورة البقرة].(/12)
فإذا تساوينا مع أعداء الله بعدم الإيمان، وضعف الارتباط بالله ، وعدم القيام بمستلزمات الإيمان؛ فإننا نفقد الكفاية الإلهية.
? ومن أنواع كفاية الله: جعل أعدائهم في شقاق دائم وخلاف، لا يقف عند حد، وهم الآن في خلافهم وشقاقهم يتفقون ضدنا، ما دمنا شاردين عن الله، ولكن إذا عدنا إلى الله عودة صادقة نحمل فيها رسالته، ونعمل على إعلاء كلمته، كما عمل الأسلاف؛ جعل الله بأسهم بينهم كما مضى، وجعل شقاقهم وخلافهم يتفاقم، فلا يتفقون ضدنا كما هم عليه الآن، فإن الله بوعده سيكفينا شرهم، كما كفى أسلافنا الصادقين إذا حققنا الصدق معه، والله هو السميع العليم، يسمع كل شيء، ويجزي كل نفس بما كسبت.
...
المعادلة الثامنة : الفتن في حياة يوسف عليه السلام
رئيسي :فضائل :
سورة يوسف من أبرز السور التي تتجلى فيها الفتن التي تحدث للداعية، بأنواعها وأشكالها وفيها يتضح اليسر بعد العسر في كل فتنة يصادفها الداعية يوسف في حياته. إن الانفراج بعد الشدة يسبقه ثبات على المنهج، وقد يكون هو الهدية لذلك الثبات، وقد يكون الانفراج بحد ذاته فتنة أخرى يختبر الله بها ثبات عبده في اليسر، فكم من الدعاة من ثبت حين المحنة والشدة فلما جاء اليسر والانفراج والرخاء؛ حاد عن الجادة، وابتعد عن الصف، هذه المعاني وكثير غيرها يجدها قارئ القرآن من خلال سورة يوسف، فهي سورة تمثل منهج البلاء، ونتيجة هذا البلاء .
الفتنة الأولى: مؤامرة الاغتيال : وكانت من صنع أقرب الناس إليه، وهم إخوانه، مما يجعل لهذا البلاء مذاقًا مرًا يختلف عن باقي مؤامرات الاغتيال، والتي عادة تكون من أعداء بعيدين بالنسب، أما أن يكون صاحب المؤامرة هو الأخ الذي خرج معه من صلب واحد؛ فهذا ما يزيد من قساوة الفتنة، خاصة إذا كان سبب القتل سببًا تافهًا كالذي ذكره إخوة يوسف وهم يناقشون أمر اغتياله:} إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ[8]اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ[9]{ [سورة يوسف].
إذاً: كان سبب المؤامرة حب أبيهم ليوسف وتفضيله عليهم بادعائهم، ولننظر كيف يكون تفكير من استولى عليه الشيطان حتى أعمى بصيرته عن رؤية البديهيات من الأمور، لقد غاب عن أذهانهم الاحتمالات الأخرى الناتجة عن الجريمة، وتذكروا كما سول لهم الشيطان احتمالاً واحدًا، وهو بقاؤهم بعد يوسف ليكونوا هم الخيار الوحيد والأبناء الوحيدين ليعقوب، ولم يضعوا بالحسبان احتمال اكتشاف جريمتهم، وحزن يعقوب عليه السلام على يوسف، وشكه بهم، وخطأهم بالتنفيذ، واحتمال بقائه حيًا، وإرجاعه لأبيه، وغيرها من الاحتمالات الواردة.
ونلاحظ لطف القدير بيوسف، بأن أنطق أحدهم لتمضي مشيئته بأن يكون اقتراح أحدهم بمثابة الانفراج الأول للفتنة الأولى:} قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ[10] {[سورة يوسف]. وأخذوا بهذا الاقتراح ومضوا جميعًا بعد حبك المؤامرة لأبيهم، ليقنعوه بأخذ يوسف للذهاب معهم في رحلتهم، وبالرغم من تردد يعقوب عليه السلام إلا أنهم أقنعوه بأخذه معهم، ومضوا به ليبدأ يوسف عليه السلام في الجب فتنة ثانية .
الفتنة الثانية:الإلقاء في الجب : ومما يزيد في حجم هذه الفتنة رؤية يوسف عليه السلام لإخوانه- وهو الغلام الصغير- وهم يمسكونه ويتعاونون جميعًا لإنزاله في الجب، ثم يراهم وهم يغادرون ليتركوه وحيدًا في تلك الصحراء ليمكث في ظلام الجب، وكأن ذلك تهييئًا له للسجن الحقيقي الذي في مراحل الفتن المتلاحقة في حياته، ثم يأتي الفرج بعد تلك الشدة وذلك الصبر ليوسف عليه السلام وهو يعاني الوحدة القاتلة في ذلك الجب على شكل قافلة تمر؛ فتلقطه من الجب:} وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَابُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ[19]{[سورة يوسف]. لقد أخرج من الجب، ليرى الدنيا مرة ثانية، ولكن هذا الخروج كان بداية لفتنة جديدة في حياته .(/13)
الفتنة الثالثة: الاستعباد : يلتقطه هؤلاء السيارة من الجب، يعجبون بجماله، وأسرعوا في بيعه عبدًا بسعر زهيد في مصر:} وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ[20]وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ... [21] { [سورة يوسف]. ينتقل يوسف عليه السلام من الحرية التي كان يعيشها مع والديه بعز وتقدير، حسده عليه إخوانه، إلى ذل العبودية والاستعباد في قصر عزيز مصر، شأنه شأن العبيد المملوكين يحمل الأثقال لسيده، ويقضي الحاجات الحقيرة، ويؤمر فيطيع، وهذه الفتنة بحد ذاتها تحتاج إلى صبر، وحسب العبد أن يشعر أنه ليس كباقي البشر، ولا يعامل معاملة البشر، بل يعامل معاملة أقرب للحيوان منها للبشر في معظم الأحيان.
الفتنة الرابعة: فتنة النساء: يوسف عليه السلام كان صارخ الجمال، فتنت بجماله امرأة العزيز مع فارق السن الكبير بينهما، ولم تستطع أن تكتم عشقها وتعلقها، وهي السيدة وهو العبد حتى أقدمت بعد أن بلغت شهوتها الذروة إليه وقالت:} وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ...[23]{ بعد أن غلقت الأبواب، وتأكدت من خلو القصر فقال:} ...مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ[23]{ [سورة يوسف].
? إن المرأة لا تقول هذه الكلمة للرجل حتى تكون قد استعدت لذلك بل ما أوتيت من دهاء الجاذبية، وفعلت كل ما من شأنه جذب من تريد إليها .. فقد تكون قد تعرت تمامًا، أو كشفت الكثير من مفاتنها في أقل التقديرات، أو كشفت ما يثير شهوة الرجال، ووضعت الأصباغ على وجهها، والعطور على جسدها .
? إن فتنة النساء التي فتن بها يوسف عليه السلام هي من أعظم الفتن التي واجهها في حياته، وحتى نعرف عظم هذه الفتنة لابد أن نعرف ما هي العوامل التي تدفع الرجال للزنا بالنساء، لا شك أنها كثيرة، وكثيرًا من الأحيان يكون توفر عامل واحد منها كافيًا لحدوث الزنا، فكيف إن تجمعت جميعها في موقف يوسف مع امرأة العزيز؟!
إن من أبرز هذه العوامل:
جمال الرجل: يدعوه إلى التقرب للنساء غرورًا بجماله، غير ذلك القبيح الذي يعلم سلفًا أنه غير مرغوب فيه.
طلب المرأة لذلك: وهو من أقوى العوامل، ويكون هذا العامل أقوى عندما يكون طلبها لحبها لقضاء الشهوة مع ذلك الرجل، وليس للمال، أو لأمر آخر، وهو ما حدث ليوسف عليه السلام.
غربة الرجل: فالغريب لا يعرفه أحد، مما يسهل القيام بعملية الزنا بعيدًا عن رقابة المعارف .
العبودية: والعبد رهن لأمر سيده، لا يستطيع ردها؛ لأن من عمله الطاعة دون تردد؛ لأنه لا يملك قرار نفسه .
الفتوة والشباب: فيوسف كان شابًا صغيرًا، بخلاف الكبير بالسن الذي انقطعت شهوته، أو كادت أن تنقطع .
تهيؤ المرأة للزنا: وهذا يختلف عن طلبها للزنا وهو يعني أنها وضعت وفعلت كل المغريات التي تغري الرجل بالمرأة } وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ...[23] {[سورة يوسف].
إغلاق الأبواب: وهذا أدعى للأمان لفعل الفاحشة، وبعيدًا عن رقابة عمال القصر، أو الأقرباء لهذه المرأة :} وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ...[23] {[سورة يوسف].
المنصب: فامرأة العزيز كانت زوجة رئيس الوزراء في عهد الفراعنة، ومنصبها يجعلها قادرة على إخفاء الجريمة، حتى وإن انكشف أمرها، وهذا عامل أمانٍ آخر يغري الرجل بالإقدام .
دياثة الزوج: ومن الآيات يتبين أن العزيز زوجها كان ديوثًا بدليل قوله تعالى:} وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ[25]{ [سورة يوسف]. وبعد المحاكمة وظهور الحق بجانب يوسف عليه السلام؛ ما زاد على قوله ليوسف عليه السلام :} يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا...[29]{ وقال لزوجته:}...وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ[29]{ .وهذا دافع من أكبر الدوافع لاقتراف هذه الفاحشة مادام الشخص الذي له هذه المرأة لا يمانع بذلك .
التهديد بالسجن: وقد يضعف الإنسان ويرضخ لمثل هذا التهديد، وهو أيضًا من العوامل الفاعلة والمؤثرة في الكثير من الناس، وهذه العاشقة قد هددته أمام النساء- بعد أن قطعن أيديهن إكبارًا لجماله الفتان- وقالت:} فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا ءَامُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ[32]{ [سورة يوسف]. إن الكثير من الجرائم الخطيرة ترتكب إذا استعمل التهديد بالسجن، فكيف إذا كانت الجريمة مما ترغب به النفس وتتهالك عليه، ومن امرأة القصر صاحبة السلطة والمنصب .
? هذه العوامل جميعها تحققت في هذه الفتنة التي خاضها يوسف عليه السلام، فإذا كان عامل واحد من هذه العوامل يتساقط بسببه الرجال، فكيف وقد تجمعت جميعها ليوسف عليه السلام ؟!(/14)
? هذا يقرب لنا طبيعة الثبات الذي ثبت به يوسف عليه السلام، ويعطينا أيضًا الزاد والتربية الأصلية التي تربى عليها، فكانت سببًا من أسباب الثبات؛ لأنه لا يمكن أن يثبت في مثل هذه المواقف الذين يتركون نفوسهم ترتع حيث شاءت ثم يتمنون الثبات.. كلا لا يثبت إلا من تعب على نفسه وزكاها، فيثبته الله تعالى في أعظم المحن والبلايا .
? وبعد أن نجح يوسف في هذه الفتة فرج الله عنه، وأخرجه من تلك الأزمة بعيدًا عن رائحة القصر التي تفوح بالفساد والانحلال الخلقي، وذلك بعد أن لجأ لله وحده، معترفًا بضعفه البشري أمام شلال الفتن المنهمر:} وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ[33]{ [سورة يوسف].
أخرجه من تلك الفتنة.. واستجاب له، ولكن إلى فتنة من لون جديد، إنها فتنة السجن:} ]رب السجن أحب إلي مما يدعونني إلي[33]{ [سورة يوسف].
الفتنة الخامسة: السجن : يقول تعالى:} ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ[35]{ [سورة سوسف]. عندما دخل السجن الذي كان له جنة بمقارنته بذلك القصر الموبوء . إن أقسى ما يجده المسجون في السجن، هو فصله عما يحدث في الخارج، عن أهله وأبنائه، وأقسى من ذلك: عندما يدخل السجن وهو برئ من غير ذنب، ويهمل هناك دون أن يلتفت أحد بالخارج أن هناك إنسانًا يعيش في السجن، وأقسى من ذلك أن السجين لا يملك قرار نفسه بالذهاب، والإياب، والطعام، والبقاء في هذا المكان، أو غيره .
الفتنة السادسة: الإطالة في السجن: إن ذلك السجين الذي يعلم متى يخرج، وفي أي ساعة ينتهي ذلك الحبس لا يعاني مثل ذلك الذي لا يعلم متى تنتهي مدة الحبس ولا يقال له متى الخروج، يظل يترقب كل يوم، وكل يوم يمضي يشابه الذي قبله، دون استيقان حتى النهاية، مما يجعله في عذاب نفسي دائم، خاصة إذا طالت المدة دون أن يشعر به أحد، وهذا ما حدث ليوسف عليه السلام، فقد قال لأحد السجينين الذي ظن أنه ناجٍ منهما:} اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ... [42]{ [سورة يوسف].
ولكن الشيطان أنسى ذلك الرجل أن يتذكر يوسف المظلوم عند سيده:} فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ[42]{ [سورة يوسف]. ولم يتذكره أحد إلا بعد أن احتاج الملك إلى من يؤول له رؤياه فتذكر حينها ذلك الرجل صديقه يوسف عليه السلام وذكره للملك آنذاك، ولكن الأصالة أبت عليه الخروج بهذه الطريقة، ورفض أن يخرج وملصوقة فيه تهمة الزنا، حتى يعلن رسميًا على الملأ من المجرم الحقيقي، وتعلن براءته، ونصاعة صفحته، عندها فقط رضي أن يخرج عزيزًا بريئًا، ولكنه خرج إلى فتنة قل أن يثبت فيها الرجال وهي:
الفتنة السابعة : فتنة المنصب : ولا شك أن فتنة المنصب من أكبر الفتن التي يمكن أن يتعرض لها الدعاة. ولكن يوسف عليه السلام ما كان من ذلك الصنف المتهالك على الدنيا، بل إن قلبه معلق بالآخرة؛ فلم تهزه فتنة المنصب على الاستسلام لله، والتأدب معه، والاعتراف بنعمه عليه، فها هو يقول في آخر المطاف بعد أن جمع الله له والديه وإخوته في مصر:} رَبِّ قَدْ ءَاتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ[101]{ [سورة يوسف]. يقول سيد قطب:'وهكذا يتوارى الجاه والسلطان، وتتوارى فرحة اللقاء واجتماع الأهل ولمة الإخوان، ويبدو المشهد الأخيرة مشهد عبد فرد يبتهل إلى ربه أن يحفظ له إسلامه حتى يتوفاه إليه، وأن يلحقه بالصالحين بين يديه، إنه النجاح المطلق في الامتحان الأخير' .
الخاتمة: لابد للدعاة أن يتعلموا الكثير من هذه القصة القرآنية العظيمة، وأول ما يجب أن يتعلموه: سنة الله في البلاء.
? والخطوة الثانية في كل ما يتعرض له المؤمن من بلاء، وأكثر هذه الخطوط وضوحًا:
الخط الأول: مقدار البلاء يتناسب مع مقدار القرب إلى الله .
الخط الثاني: يكون البلاء أحيانًا يسبب الابتعاد ولو قليلاً في أحد معاني العبودية.
الخط الثالث: أنكل بلاء يصاحبه لطف من الله .
الخط الرابع: أن الانفراج بعد الشدة يسبقه ثبات على المنهج .
? فنلاحظ هذه الخطوط في قصة يوسف واضحة جلية:
فمقدار البلاء يزداد بالتدريج في كل فتنة ينتقل إليها يوسف عليه السلام.
ونلاحظ الخط الثاني: عندما اعتمد يوسف عليه السلام على الذي ظن أنه ناجٍ منهما ولم يستعن بالله أولاً؛ فعاقبه الله بذلك النسيان: :} فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ[42]{ [سورة يوسف].
ونلاحظ الخط الثالث: في جميع الفتن التي مر بها يوسف، ففي الفتنة الأولى، كان اللطف في مؤامرة القتل أن ألقى الله الرحمة في قلب أحد إخوانه ليعدل قرار القتل إلى إلقاء في الجب .
وفي الفتنة الثانية: نرى أن اللطف هو عدم موته، وبقاؤه على قيد الحياة .(/15)
وفي الفتنة الثالثة: نرى اللطف في حياة الاستعباد، أنه كان في قصر عزيز مصر، وكان الذي اشتراه يعامله معاملة الابن المدلل.
وفي الفتنة الرابعة: نرى اللطف أنه رأى برهان ربه عندما استبدت به الفتنة.
وفي الفتنة الخامسة: نرى اللطف في أن السجينين اللذين سجنا معه قد وثقا به، واستطاع أن يروح عن نفسه بالدعوة إلى الله .
ونرى اللطف في الفتنة السادسة: أنها تصاحب مع كارثة غذائية عظيمة يهرب منها أشد الرجال.
أما الخط الرابع: فكان جليًا أيضًا، فكلما ثبت يوسف عليه السلام في فتنة أهداه الله تعالى هدية ذلك الثبات.. إن المؤمن عندما يعيش هذه السنة، فإنه لا يستغرب ما يصيبه الله به من بلاء، وهذا يجعله أكثر ثباتًا ورهنًا بما يصاب به من عند مولاه
...
المعادلة التاسعة: تعجيل الجزاء
رئيسي :فضائل :
يقول تعالى في كتابه الكريم:{ مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُوراً [18]} [سورة الإسراء].
ويقول تعالى أيضاً:} وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِى الآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ [20]{ [سورة الشورى].
وفي هاتين الآيتين تتضح معالم المعادلة التاسعة: ففي شطرها الأول اختيار الدنيا والرغبة فيها، وتفضيلها على الآخرة، وفي شطرها الآخر: نتيجة هذا الاختيار، وهي تعجيل ما أراد من الدنيا، وفي الآخرة ليس له شيء البتة غير جهنم يصلاها محتقراً.
أين العقل ؟
من علم مثل هذه النتيجة الخطيرة كيف يختار هذا الاختيار الخطير؟ بل كيف يكون عاقلاً، أو به ذرة من عقل من يختار ذلك؟ يقول الإمام ابن القيم:'كيف يكون عاقلاً من باع الجنة بما فيها بشهوة ساعة؟' وما أجمل ما علق الزاهد يحيى بن معاذ على ذلك الاختيار عندما قال:'ما عصى الله كريم، وما آثر الدنيا على الآخرة حكيم' . ذلك لأن الحكيم ينظر بالعواقب، والسفيه هو الذي لا ينظر إلا لشهوته.
الزائلة المعجَّلة: لذات الدنيا كلها زائلة، ومن اختارها فإن الله يعطيها إياه، ويعجلها له في الدنيا؛ لأنه يحرم منها في الآخرة، حيث اللذات الدائمة. يقول الشيخ أحمد المراغي- معلقاً على قوله تعالى: } مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ {:' أي من كان طلبه الدنيا العاجلة، ولها يعمل ويسعى، وإياها يبتغي، لا يوقن بمعاد، ولا يرجو ثواباً، ولا يخشى عقاباً من ربه على ما يعمل، يعجل الله له في الدنيا ما يشاء من بسط الرزق، وسعة العيش، ثم يصليه حين مقدمه عليه في الآخرة جهنم مذموماً على قلة شكره، وسوء صنيعه فيما سلف، مبعداً من رحمته، مطروداً من إنعامه'.
? وكان التابعون –رضي الله عنهم- شديدي الخوف والحساسية من الدنيا، لدرجة أن أحدهم إذا رأى تتابع النعم على أحد من الناس؛ ظن أن ذلك استدراج من الله، ويخشى أن تكون نعمة معجلة، وليس له في الآخرة من نصيب.
مما جعل التابعي الجليل أبو حازم سلمة بن دينار، يقول:'إذا رأيت الله عز وجل يتابع نعمه عليك، وأنت تعصيه فاحذره' .
وكان يقول:'نعمة الله فيما زوى عني من الدنيا أعظم من نعمته فيما أعطاني منها، لأني رأيته أعطاها قوماً فهلكوا ' .
أدبرت عنكم : كلمات بالغات لأصحاب الحق والمؤمنين الذين يتحسرون على منصب أُعطي لغيرهم، وتجارة ينجح بها غيرهم من أهل الدنيا وهم يخسرون، ورزق يبذر به أهل الدنيا ميمنة وميسرة، وهم محرومون منه، وغيرها من زخارف الدنيا، فيشغلهم ذلك عن ذكر الله، والسعي للآخرة، وينقلهم ذلك التحسر يوماً بعد يوم إلى بيع الآخرة وشراء الدنيا، فلا يعطون لآخرتهم إلا ما فضل من أوقاتهم:
يصيح التابعي الجليل عون بن عبد الله بأمثال هؤلاء قائلاً:'إن من كان قبلنا كانوا يجعلون للدنيا ما فضل عن آخرتهم، وإنكم تجعلون لآخرتكم ما فضل عن دنياكم'.
ومن استمر في مثل هذه الغفلة عن الآخرة، وشراء الدنيا؛ فهو في خطر عظيم قد ينسيه الآخرة بالكلية، ثم ينزلق إلى المعاصي التي تجعله ربما ختمت حياته بها، لذلك عندما سئل زين العابدين علي بن الحسين: مَنْ أعظم الناس خطراً ؟ قال:'من لم ير الدنيا خطراً لنفسه' .
ولأن الصحابة الكرام، وطلاب الآخرة من بعدهم انتبهوا لخطورة الدنيا، فقد هربوا منها عندما أقبلت عليهم، يقول عابد الكوفة الفقيه إبراهيم التيمي مخاطباً أبناء جيله بعد أن عقد مقارنة بين من مضوا من الصحابة والتابعين، ومن اقتفى أثرهم:'كم بينكم وبين القوم ! أقبلت عليهم الدنيا فهربوا، وأدبرت عنكم فاتبعتموها' .(/16)
ولا يعني الهروب من الدنيا، اعتزلها بالكلية، وتركها للفجار من أهل الأهواء يعبثون بها كيفما يشاءون، واختيار الفقر على الغنى، بل الهروب المقصود هو جعلها بالأيدي لا في القلوب، وألا تشغلنا عما خلقنا من أجله وهو العبادة، وألا تكون لها الأولوية على الآخرة، وألا نعطيها جل أوقاتنا، وألا تكون سبباً في تقصيرنا فيما أمرنا الله به، وألا تبعدنا عن التقرب إلى مرضاته، هذا هو الهروب المقصود.
تعجيل مقيد: ومع ذلك التعجيل من النعم المتقاذفة على أهل الدنيا وعبيدها، إلا أن الله تعالى جعلها مقيدة بقيدين:
الأول: قوله :} مَا نَشَاء { أي ما يشاء الله سبحانه تعجيله له منها لا ما يشاؤه ذلك المريد، ولهذا نرى كثيراً من هؤلاء المريدين للعاجلة يريدون من الدنيا ما لا ينالون، ويتمنون ما لا يصلون إليه.
والقيد الثاني: هو قوله:} لِمَن نُّرِيدُ { أي لمن نريد التعجيل له منهم ما اقتضته مشيئتنا... وهذه الآية تقيد الآيات المطلقة، كقوله سبحانه:} وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا[20]{ [سورة الشورى].
وقوله:} مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ[15]{ [سورة هود ]' [فتح القدير – الشوكاني 3/216] .
خسارة الآخرة: وبالرغم من تعجيل النعم لمن اختار العاجلة، وفضلها على الآخرة، فإن الخسارة الكاملة تنتظره في الآخرة الدائمة، ليتحقق الشطر الآخر من هذه المعادلة:} ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُوراً [18]{ [سورة الإسراء]. وخسارة الآخرة لهؤلاء لا تعني أنها العقوبة الوحيدة، بل إن الله يعاقبها في الدنيا قبل الآخرة، وذلك بتعسير الأمور عليهم، وسلبهم السعادة النفسية، وراحة البال.
...
المعادلة العاشرة : إرادة الخير للعبد
رئيسي :فضائل :
كيف للعبد أن يعرف أن الله يريد له الخير ؟ وقد انقطع الوحي، وخُتمت الرسالات برسالة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟
? لقد أخبرنا الله في كتابه، و في السنة المطهرة ببعض العلامات الدالة على محبة الله للعبد، وإرادته للخير له، ومن هذه العلامات: إصابة العبد بالبلاء، أو توفيقه لحب العلم وتعلم الدين، وصاغ الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذه العلامات على شكل معادلة مكونة من شطرين:
الأول: فيه إرادة الخير من الله للعبد.
والثاني: إصابته بالبلاء، أو تعلم العلم، حيث يقول الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:[مَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُصِبْ مِنْهُ] رواه البخاري. ويقول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:[ مَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ...] رواه البخاري ومسلم.
ما هو الخير الذي يريده الله للبعض من الناس ؟
يقول المناوي في هذا الخير:'أي: جميع الخيرات؛ لأن النكرة تفيد العموم، أو خيراً كبيراً عظيماً كثيراً، فالتنوين للتعظيم'. فقد يكون هذا الخير في الرزق الوفير، أو البركة في المال، والوقت، والزوجة، والولد، والعمر، وقد يكون هذا الخير في التوفيق للطاعات، واكتساب محبة الناس، وقد يكون هذا الخير هو الحماية من شر شياطين الإنس والجن، وقد يكون هذا الخير هو السعادة، والسداد في القرار، غيرها من أمور الخير التي تُسعد الإنسان في دنياه وآخرته.
بماذا يستحق الخير؟
هذا الخير الذي يريده الله بالبعض لا يتحقق إلا إذا تحقق الشطر الآخر من المعادلة، وهذا الشطر مكون من علامات، منها: الإصابة بالبلاء، ومنها: التوفيق لتعلم العلم.
أولاً: البلاء: ولأن الأنبياء هم أحب الخلق إلى الله، وأحقهم بهذا الخير الرباني، فهم أكثر الناس بلاءً، كما جاء في الحديث:[أَشَدّ النَّاس بَلَاءً الْأَنْبِيَاء , ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ , ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ]رواه الإمام أحمد .
وقوله في حديث المعادلة:[ يُصِبْ مِنْهُ] أي: يبتليه بأنواع البلاء، ليثيبه عليه.
ويقول القاضي:'أي: يوصل إليه المصائب ليطهره من الذنوب ويرفع درجته، وهي اسم لكل مكروه، وذلك لأن الابتلاء بالمصائب طب إلهي يداوي الإنسان من أمراض الذنوب المهلكة'[ فيض القدير 6/243].
ومن الخير الذي يناله صاحب البلاء: تكفير الذنوب، حيث يقول الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:[مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ وَلَا وَصَبٍ وَلَا هَمٍّ وَلَا حُزْنٍ وَلَا أَذًى وَلَا غَمٍّ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ] رواه البخاري ومسلم .(/17)
ثانياً: التفقه في الدين : وهي العلامة الثانية لمن أراد الله به الخير، حيث يحبب إليه تعلم العلم، ويزيد من همته في طلبه، كأن يكون رأساً في العلم، ثم ينقله للآخرين، فيسبب لهم الهداية الموجبة للأجر العظيم. يقول المناوي:'أي يفهمه أسرار أمر الشارع ونهيه بالنور الرباني الذي أناخه في قلبه، كما يرشد إليه قول الحسن: إنما الفقيه من فقه عن الله أمره ونهيه، ولا يكون ذلك إلا لعامل بعلمه'.
والفقه لا يقتصر على علوم بعينها، بل حقيقة الفقه هو التقوى، ولا خير في فقه لا يوصل إلى التقوى.
يقول الغزالي:'إن حقيقة الفقه في الدين ما وقع في القلب، ثم ظهر على اللسان، فأفاد العمل، فأورث الخشية فالتقوى'.
وكان الحسن البصري يغضب لمن 'لقب' الفقيه لمن يتعلم علماً بعينه، بل دأبه دوماً إرجاع من يحتك بهم إلى المعنى الحقيقي للفقه، فقد روى عنه عمران قال:قلت للحسن يوماً في شيء قاله: يا أبا سعيد ! هكذا يقول الفقهاء، قال: ويحك، هل رأيت فقيهاً قط، إنما الفقيه الزاهد في الدنيا، الراغب في الآخرة، البصير بأمر دينه، المداوم على عبادة ربه.
أين الخير ؟
إذا كان تعلم العلم والتفقه في الدين يتسبب في الخير للمسلم سواءً في زيادة معرفته بالله تعالى، ودعوته للناس، وبروزه في المجتمع، واحترام الناس له، وسبباً في هداية الناس إلى آخر هذه المنافع الواضحة، فأين هذا الخير فيمن يصاب بالبلاء؟
إذا عرفنا أن الخير المقصود في الحديث لا يقتصر على المنافع الملموسة والدنيوية، وإنما يتجاوزه إلى المنافع المعنوية غير الملموسة، والأخروية، علمنا بأن الخير الذي يجنيه المصاب بالبلاء كبير، وربما يتجاوز المتفقه بالدين.
فمن هذا الخير :
تقوية معدنه بعد البلاء: فالذهب لا ينقى مما شابه من المعادن حتى يوضع في النار.
تعلمه للصبر: وفي الصبر خير كثير.
تكفيره للسيئات: كما جاء في الحديث:[مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ وَلَا وَصَبٍ وَلَا هَمٍّ وَلَا حُزْنٍ وَلَا أَذًى وَلَا غَمٍّ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ] رواه البخاري ومسلم .
علامة لحب الله له: كما جاء في الحديث:[...إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلَاهُمْ...] رواه الترمذي وابن ماجة وأحمد .
المنزلة العالية يوم القيامة:كما في الحديث:[ يَوَدُّ أَهْلُ الْعَافِيَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ يُعْطَى أَهْلُ الْبَلَاءِ الثَّوَابَ لَوْ أَنَّ جُلُودَهُمْ كَانَتْ قُرِضَتْ فِي الدُّنْيَا بِالْمَقَارِيضِ ] رواه الترمذي .
الإحساس بنعمة الله عليه: فلا يشعر بنعم الله إلا الذي يفقدها.
زيادة التقرب واللجوء إلى الله: فالإنسان يزداد لجوؤه إلى الله إذا شعر بالضعف والحاجة للعون، وفي هذا الخير كثير.
الانكسار والتواضع بسبب البلاء.
أن يكون عظة لغيره... هذا بعض الخير الذي يجنيه من أصيب بالبلاء.
من كتاب:'معادلات إيمانية' للشيخ/ عبد الحميد البلالي(/18)
معاشر الشباب!
د. لطف الله بن ملا عبد العظيم خوجه 21/6/1426
27/07/2005
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يا معشر الشباب ! من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء) مسلم.
هكذا خاطب رسول الله الشباب، ليحميهم من الشهوات المضلة..
وعناية رسول الله بالشباب لم تقتصر على تلك الكلمات، بل تعدت إلى كلمات أخر لا تحصى، بل امتدت إلى التربية المباشرة؛ فجل أصحاب رسول الله هم من الشباب الذين لم يبلغوا العشرين أو الثلاثين، يلازمونه في الحل والترحال، في الجهاد وفي الغزوات، يتلقون عنه، منهم: ابن عمر، وابن عباس، وأسامة بن زيد، وأنس بن مالك، ومعاذ بن جبل، وعلي بن أبي طالب وغيرهم.
إن الحديث عن الشباب اليوم ذو شجون، أو قل ذو حزن وألم، وذلك أنهم اليوم قد غرقوا في ثلاثة أخطاء، كل واحدة منها تحطم آمالهم، وتعرضهم للفتن والمحن والشقاء، ثم تطرحهم بعيدا عن طريق العظماء:
- الخطأ الأول: الإغراق في اللهو واللعب، وتضييع الأوقات فيما يضر ولا ينفع.
فكثير من الشباب لم يبق لهم هم إلا قتل الوقت باللعب، بكافة أشكاله وصوره، صار الزمن عدوا لهم، ليس لهم غرض إلا في تبذيره وتبديده، تسأل أحدهم: فيشتكي الفراغ والملل. كل آماله أن يملك سيارة من نوع كذا، أو يسافر إلى بلاد كذا..!!.
هذه الظاهرة خطيرة، تدل على نسيان الشباب مهامهم الجسيمة الموكلة بهم؛ فهم عمود الأمة، وهم رجالها، الأمة كلها تقوم على سواعدهم، عزها في عز الشباب.. قوتها في قوة الشباب، فهم سر بقائها وهيبتها:
- فالشباب هو العنصر القوي النشط الفعال في كل أمة، وهو الذي يبذل بصدق وجد، وهو الذي يعمل لأجل العمل، اليوم يتعلم ويتفقه، وغدا يعلّم ويساهم في بناء الأمة.
- إذا وقع حرب فالشباب هم الحماة، يحمون الدين، والديار، والأعراض، والأموال.
- وإذا ضاقت الأرض بالرزق فالشباب هم السعاة.
فهم أصحاب البذل والتضحية في كل زمان ومكان، فالأمة الراشدة هي التي تعتني بهم، وتسخر كل إمكانياتها لإصلاحهم، لكن المصيبة تكمن فيما إذا لم تدرك الأمة ممثلة في: البيت، والمدرسة، والمسجد والإعلام.. إلخ، أهمية العناية السليمة بالشباب، فأهملت توجيههم وإصلاحهم، فحينئذ يصبح الشاب بلا هدف يعمل لأجله، ولا غاية سامية يسعى لها، فيقبل على اللهو واللعب، وتصبح غايته، فتتدنى همته، ويصير عالة على المجتمع، بل وبالا.
إن من وسائل إصلاح الشباب، وإيقاد الهمة في قلوبهم، وإبعادهم عن الإغراق في اللهو: تذكيرهم بسيرة أسلافهم من شباب الأمة..
- هل تعرف أخي الشاب معاذ بن جبل؟.
إنه صحابي شهد له رسول الله بالعلم وهو لم يبلغ العشرين، فقال: ( أعلمهم بالحلال والحرام معاذ) أحمد..
- وهل سمعت بخبر شباب الصحابة في الغزوات؟.
كانوا يقفون على رؤوس أصابعهم، حين كان يستعرض رسول الله الجيش، خشية أن يردهم لصغر سنهم.
- فهل بلغك خبر ابن عباس ؟.
بلغت همته مبلغا كبيرا، جعلته وهو في مثل سنك أو أصغر، يتوسد باب زيد بن ثابت في الظهيرة، تسفي الريح في وجهه التراب، ينتظر خروجه ليتعلم منه دينه، حتى صار بحرا وحبرا وترجمانا للقرآن.
إنك أخي الشاب، إذا أمضيت عمرك في اللهو واللعب فلن تجني إلا الشوك، ولن تنال إلا الكرب، وأدنى المآسي أن تعيش وتموت عديم الذكر، ليس لك أثر من خير أو بر..
فهلا رفعت همتك، وأنفت من عبث الصغار، وضننت بوقتك، الذي هو رأس مالك في هذه الدنيا؟.
لا أظنك تحب أن تكون مهملا، وضيع المنزلة والمكانة..!!.
إذاً فلتعلم أن ما تحبه وما ترجوه من الرفعة والمنزلة لن يصير إليك إلا بالتعب والجد، ويومذاك ستحمد سهرك الليالي، وجدك في تحصيل المعالي، كما أنك إذا ضيعت وقتك في اللهو، نالك تقلب الدهر، ولعبت بك الأيام، فضاع منك السؤدد، وصرت إلى مهانة، وحينذاك ستندم على لياليك الضائعة، حين لا ينفعك الندم، وستبكي على تفريطك في الأيام الخالية، فهل تحب أن تقف مثل هذا الموقف؟.
- الخطأ الثاني مما يقع فيه الشباب: التقليد.
كم نرى من شبابنا من لا هم له إلا تقليد الكفار، في: ملابسهم، وشعورهم، وحركاتهم، وكلامهم.
فلنسأل شبابنا سؤالا: لماذا هم لا يقلدونكم، لماذا لا يلبسون ملابسكم؟.
هل تعلمون الجواب؟.
الجواب: إنهم لا يأبهون لكم، والسبب أنتم، لما تهاونتم، وهانت أخلاقكم، وأظهرتم إعجابكم بهم، هنتم عليهم، ونقصتم في أعينهم، فاستنكفوا أن يقلدوكم في شيء.
أليس من الواجب أن تعتزوا بدينكم وأخلاقكم ؟!.
- أنتم خير أمة أخرجت للناس.. الله رضي لكم دينكم، ولم يرض لهم دينهم.
- أنتم في الجنة، وهم في النار.
فبالله عليكم كيف رضيتم لأنفسكم هذا الهوان، فصرتم تقلدونهم وكأنه لاحضارة لكم، ولا كرامة ولا دين قويم؟!.
كيف تقلدونهم، وأنتم الأعز ؟!، أليس من الأولى أن تكونوا لهم قدوة ؟.(/1)
- أنتم أصحاب النور والقرآن، إنهم ينتظرون منكم أن تمدوا إليهم أيديكم لتخرجوهم من الظلمات إلى النور، فالعجب أنكم صرتم ترجون منهم النور، وكأنكم ظمأى، لم تجدوا في دينكم ما يروي عطاشكم!!.
- أنتم هنا قد تأثرتم بأخلاقهم وعاداتهم، فكيف إذا سكنتم ديارهم وخالطتم شبابهم، ماذا ستصنعون..؟.
لقد نسي شبابنا مبدأ البراء من الكافرين، وأن مودة الكافرين محرمة.
- قال تعالى: { لاتجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله}.
ألم تسمع أخي الشاب إلى قصة إبراهيم الخليل، الذي تمسك بمباديء دينه، ووقف وحده ضد قومه عزيزا قويا، إذ كانوا كفارا وكان مؤمنا، ومن عزته كسر أصنامهم، ولم يبال بسخطهم؟.
- قال تعالى:{ قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين * قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم }.
سماه فتى لتعلم:
- أن الفتى المؤمن يملك من قوة الإيمان ما يزلزل به أركان الكفرة والفاسقين.
- وأن عنده من العزة ما يكسر به أصنام المشركين.
فضعفك لا معنى له، وتقليدك لمن لا خلاق له، دليل على فقدانك الهوية، إضاعتك مباديء دينك القويم.
ألم تسمع إلى قصة أصحاب الكهف الذين هجروا دورهم وقصورهم، وتبرؤوا من قومهم لما رأوا عصيانهم لله ؟.
- قال تعالى: { أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيء لنا من أمرنا رشدا }.
- وقال : { نحن نقص عليك نبأهم بالحق إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السموات والأرض لن ندعو من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا، هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لولا يأتون عليهم بسلطان بين فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا }.
وصفهم بأنهم فتية، ومن السنة قرآءة هذه السورة كل جمعة، لتذكر دوما قصة شباب زكت نفوسهم، وتعالت همتهم، وأنفوا أن يقلدوا أحدا في الكفر، ولو كانوا قومهم: فتتشبه بهم، وتتخذهم لك قدوة.
- الخطأ الثالث مما يقع فيه الشباب: الغزل وهوان الأعراض، وما يتبع ذلك من المنكرات.
إن طائفة من الشباب ماتت الغيرة في قلوبهم، فصاروا لا هم لهم إلا إفساد الأعراض، ولهؤلاء نقول:
- كيف رضيتم هذا لأنفسكم ؟!.
- كيف رضيتم هذا لأخواتكم المؤمنات ؟!.
- كيف رضيتم هذا لأمتكم ؟!.
ألا تعلمون أن هذا المنكر يكتب عليكم الشقاء ؟، خاصة أولئك المجاهرون، الذين يجتمعون على المنكر، والذين لا يتأثمون من ذنبهم، ولا يتحرجون من معصيتهم، وربما استحلوها.
ألا فليعلم كل شاب أن من استحل شيئا محرما في الدين معلوما تحريمه بالضرورة، كالزنا، فقد وقع في الكفر.
فرق بين الذي يعصي فيندم ويبكي ويعزم على عدم العودة، وبين الذي يعصي فيفرح بمعصيته ويصر عليها، فهذا يُخاف عليه من البوار والشقاء في الدنيا والآخرة، ففي الحديث:
- ( كل أمتى معافى إلا المجاهرين، وإن من الجهار أن يعمل الرجل بالليل عملا ثم يصبح وقد ستره الله فيقول: عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه، ويصبح يكشف ستر الله عنه) متفق عليه..
فهذا الذي رضي لنفسه هذا الفعل الشنيع، ألا يخاف من عقوبة الله في الدنيا والآخرة، من: جلد، ورجم، ونار تحرق، وعذاب لا يخف ولا يرفع ؟!.
أيها الشاب الواقع في هذا الذنب العظيم، ألا تستحي من نظر الله إليك؟.
ألا تخشى أن ينزع الإيمان منك؟.
في الأثر: (من زنى، أو شرب الخمر، نزع الله منه الإيمان، كما يخلع الإنسان القميص من رأسه )، رواه الحاكم…
فإذا كان قلبك ميتا، فلم تخف عذاب الشرع، ولم تبال بنزع إيمانك، ولم تستح من نظر الجبار المنتقم، ولم تخف من عذاب جهنم، وكنت ممن طبع الله على قلبه فما عدت تفهم موعظة:
ويحك، ألا تخاف من عذاب الدنيا، وأمراضها ؟.
أخي!، إن كنت تحب أن تكون تحت عرش الرحمن فأقلع عن العصيان، قال رسول الله: (سبعة يظلهم الله في ظل عرشه يوم لاظل إلا ظله [وذكر منهم] وشاب نشأ في طاعة الله عزوجل )، متفق عليه
وفي بعض الآثار أن الله يقول: ( أيها الشاب المتبذل لي، الطائع، أنت عندي كبعض ملائكتي).
وفي أثر آخر أن الله يباهي ملائكته بالشاب الناشيء في طاعته.
ألا تحب أن تكون منهم،كيف وهذا حالك ؟!.
ثم كيف يرضى الشاب لأخواته المؤمنات مثل هذا الأمر الشنيع؟!.
المفترض في المسلم أن يكون حافظا لعرض أخته المسلمة، ينظر إليها نظر الأخ الشفيق، يحميها من كل سوء، فمن المؤلم أن يكون هو المعتدي عليها ظلما وعدوانا، بالتغرير والخداع !!.
وهنا تحذير صارم، قد علم بالتجربة والشرع أن من تعرض لأعراض الآخرين، تعرض الناس لعرضه، ومن زنى يزني به، فلو لم يكن من خطورة الزنا إلا أن الزاني يعرض ـ بفعله المشين ـ أهله: أخته، وزوجته، وأمه وابنته. للزنى لكان ذلك كاف في زجره وردعه.(/2)
فيا أخي! قبل أن تقدم على أمر كهذا، تذكر أن لك في البيت أخوات، فاتق الله فيهن ولا تعرضهن للبلايا والمحن. اليوم تعصي، وأنت تلهو وتضحك، وغدا عندما يكبر عقلك، ستبكي ندما، حينما ترى أولادك يفعلون ما كنت تفعله في شبابك.. هل نسيت أن الجزاء من جنس العمل؟..
فيا أخي الشاب! أذكرك الله أن تتقيه في نفسك وأهلك وأخواتك المسلمات، وألا تستعجل شهواتك فتحرم الجنة. –
- ألم تسمع بالحور العين في الجنة ؟.
- ألم يبلغك خبر الكواعب الأتراب، البيض المكنون، اللؤلؤ المكنون؟.
- ألم تتطلع على أوصافهن وسحر جمالهن؟.
إنهن لمن اتقى ربه، واجتنب الزنى..
إنهن طاهرات مطهرات، يرى مسخ سوقهن، لا يحضن ولا يهرمن، أبكارا، عربا أترابا، لأصحاب اليمين..
فكن من أصحاب اليمين، فهو مهرهن، ولا تكن من أصحاب الشمال، فتطرد عن بابهن.
إنك لم تسمع أصواتهن الجميلة: إن لهن أصواتا تسكر القلوب والعقول.
وإنك لم تر نصيف إحداهن، ولم تر أناملهن: إن الدنيا تضيء منها.
لا خبر لك عن نعومتهن، وعن تبعلهن، وعن رقتهن، وعن جمال قدهن، وخصرهن، وأعينهن.
لماذا تزهد في هذا النعيم المقيم؟.
بالله عليك كن عاقلا..
واعلم أن الحياة قصيرة..
وأن الدنيا ارتحلت مدبرة، وأن الآخرة ارتحلت مقبلة، ولكل واحدة منها بنون، فكن من أبناء الآخرة، ولا تكن من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغدا حساب ولا عمل.
* * *(/3)
معالجات المسألة الثقافيّة بين قرنين
غازي التوبة 9/6/1427
05/07/2006
زاد الاهتمام بالمسألة الثقافية بعد أحداث 11 سبتمبر2001م، وتكرّر الحديث عن ضرورة إحداث تغييرات ثقافية واسعة في منطقتنا العربية في القرن الحادي والعشرين، وطرحت أمريكا من أجل تحقيق تلك الغاية "مبادرة الشراكة الأمريكية-الشرق الأوسطية" في 12/12/2003م على يد كولن باول وزير الخارجية الأمريكية آنذاك، كما طرح جورج بوش رئيس الولايات المتحدة "مشروع الشرق الأوسط الكبير" الذي ناقشته ووافقت على تبنّيه الدول الصناعية الكبرى الثماني في حزيران (يونيو) من عام 2004م، وقد تضمّن المشروعان السابقان الصادران عن مؤسّسات أمريكية ودولية توجّهات نحو إحداث تغيير في كل تفريعات المسألة الثقافية في منطقتنا من مناهج، وإعلام، ولغات، وطرق تربية، ومدارس، وخطاب ديني الخ...، واستهدف المشروعان إقامة ورش عمل للتدريب على العمل الديموقراطي، والممارسات الانتخابية والنقابية الخ...، واعتمد المشروعان تعميم ثقافة حقوق الإنسان، وحرية المرأة، والمبادئ الديموقراطية الخ...، ورصد المشروعان مبالغ مالية من أجل الإنفاق على مراكز التدريب والتعليم والورش والمؤتمرات والدعاية المرتبطة بهما.
والسؤال الآن: هل الاهتمام بالمسألة الثقافية أمر جديد على المنطقة؟ الجواب: لا، بل هو قديم منذ القرن التاسع عشر، فقد اهتم رفاعة رافع الطهطاوي وهو أول مَعْلَم من معالم النهضة بالمسألة الثقافية، وربما كانت المسألة الثقافية اهتمامه الأول، فقد كتب رسالته المشهورة "المرشد الأمين في تعليم البنات والبنين" في صدد الحديث عن التعليم والتربية والمدارس، كما أنشأ داراً للترجمة من أجل نقل جانب من التراث الفرنسي الذي اطلع عليه أثناء مرافقته للبعثة المصرية خلال إقامته في فرنسا.
وأكّدت سيرة محمد عبده (ت 1905م) أبرز رموز النهضة أيضاً الاهتمام بالمسألة الثقافية، فقد كتب مذكّرتين في إصلاح التعليم قدّم إحداهما إلى شيخ الإسلام في استنبول، والثانية إلى اللورد كرومر في مصر، وكتب رسالة في إصلاح الأزهر تناولت المدرسين ونظام التدريس والامتحان وكتب التدريس ورواتب المدرّسين الخ...، وقدّم هذه الرسالة إلى مجلس إدارة الأزهر الذي أصبح عضواً فيه، وكتب مذكّرة في إصلاح المحاكم الشرعية، كما وضع لائحة لإصلاح المساجد وقدّمها إلى مجلس الأوقاف لإقرارها والعمل بها، وأنشأ جمعية إحياء الكتب العربية افتتحها بطباعة كتاب "المخصص" لابن سيده الخ... وألّف محمد عبده كتباً عالجت مختلف النواحي الثقافية والدينية، فألّف "رسالة التوحيد" التي عالجت الجانب العقائدي في تراث الأمّة، كما ألّف "تفسير المنار" الذي عالج التقريب بين الغيب الديني والمادية الغربية الخ...
ثم زاد الاهتمام بالمسألة الثقافية بعد الحرب العالمية الأولى إثر التغييرات الكبيرة التي مرّ بها العالم العربي، ويمكن أن نمثّل على ذلك بطه حسين الذي ألّف كتاباً خاصاً عن الثقافة إثر إعلان استقلال مصر عام 1936م، سمّاه "مستقبل الثقافة في مصر" وقد تحدّث في هذا الكتاب عن التعليم، واللغات الأجنبية، وواجبات المعلّم، وواجبات الدولة تجاه المعلّم، والأزهر، واللغة العربية، والعلوم الدينية الخ...، ثم استلم طه حسين وزارة المعارف في يناير عام 1950م، واستمرّ وزيراً إلى يناير عام 1952م، وكانت فرصة لتطبيق رؤاه الثقافية، وبالفعل من أشهر أفعاله أثناء تولّيه الوزارة، حرصه على تعميم التعليم وتوسيع دائرة المتعلّمين، وإطلاق مقولته المشهورة حيث قال: "التعليم يجب أن يكون بالنسبة للمصري كالماء والهواء".
خلاصة القول: إنّ الاهتمام بالمسألة الثقافية قديم، وقد ساهم في طرح مشاكلها ووضع الحلول لها كل رموز النهضة، ومع ذلك فإنّ النتائج كانت مخيّبة للآمال على مستوى العالم العربي: أُمّية متفشّية بلغت (70) مليوناً في العالم العربي، عدد الاختراعات والابتكارات محدود، المراكز البحثية محدودة، الكتب المترجمة من اللغات الأخرى إلى اللغة العربية قليلة بالمقارنة مع ترجمات دولة كاليونان، الكتب المؤلّفة قليلة بالمقارنة بالكتب المؤلّفة في دولة مثل إسرائيل الخ...
لماذا جاءت النتائج بهذه الصورة مع الاهتمام الواسع المستمرّ بالمسألة الثقافية خلال القرن الماضي؟ لا يكمن النقص والخطأ في الاهتمام بالمسألة الثقافية ومعالجته، ولكن يكمن الخطأ في رؤية الواقع البشري والاجتماعي والنفسي والعقلي المرتبط بالمسألة الثقافية، والإجابة الخاطئة عن أسئلة من مثل: من هو الإنسان الذي نتّجه إليه لمعالجة مشكلته الثقافية؟ ومن هو المجتمع الذي نخاطبه؟ وسنأخذ مثالاً على ذلك طه حسين وكتابه الذي استشهدنا به من قبل وهو "مستقبل الثقافة في مصر".(/1)
تحدّث طه حسين في بداية كتابه عن العقل المصري، وقرّر أنه متّصل بالعقل الأوروبي، وأنه ليس هناك فرق جوهري بينهما، وأنّ الشعب المصري متأثّر بشعوب البحر الأبيض المتوسّط، واعتبر طه حسين أنّ الإسلام لم يخرج مصر عن عقليتها الأولى، وبأنّ رضا مصر عن الفتح الإسلامي لم يبرأ من السخط، ولم يخلص من الثورة والمقاومة، وبأنها لم تهدأ، ولم تطمئن إلا حين أخذت تسترد شخصيتها المستقلة في ظلّ ابن طوسون، وفي ظلّ الدول المختلفة التي قامت بعده.
ويتصل هذا الكلام الذي ذكره طه حسين في كتاب "مستقبل الثقافة في مصر" اتصالاً وثيقاً بوجهات نظره الأخرى التي عبّر عنها في منابر أخرى سياسية وأدبية وثقافية؛ إذ دعا فيها إلى القومية المصرية الفرعونية، والتي اعتبر فيها أنّ الشعب المصري يشكّل "أمّة مصرية" مستقلّة، كما اعتبر أنّ مصر هي "الوطن المصري".
لا أريد أن أناقش وجهات النظر السابقة ومدى خطئها وعدم صوابيتها، فقد فعلت ذلك في مكان آخر كما فعل ذلك غيري، ولكني أشير إلى أنّ هذا هو أحد الأسباب الرئيسة الذي جعل الخطط الثقافية لا تنجح ولا تعطي ثمارها؛ إذ كيف تنجح، ونحن لم نعرف ذاتنا معرفة صحيحة؟ فكيف يكون الشعب المصري "أمّة مصرية" بالمعنى الفرنسي للأمّة التي تعتمد العوامل الجغرافية في تكوين الأمّة، وليس جزءاً من أمّة عربية إسلامية؟! وكيف تكون مصر "وطناً" بالمعنى الأوروبي لكلمة "الوطن" وليس جزءاً من الوطن العربي الإسلامي؟ وكيف لم يخرج الإسلام "العقل المصري" عمّا كان عليه قبل الإسلام، ونتجاهل كل الآثار الثقافية والعلمية والتربوية والفنية التي تركها الإسلام في واقع الحياة المصرية؟
هذه هي العوامل التي جعلت معالجات المسألة الثقافية في القرن العشرين لا تعطي ثمارها ونتائجها الصحيحة، فهل المعالجات في القرن الحادي والعشرين ستتجنّب تلك الأخطاء؟ الملاحظ أنّ معالجات المسألة الثقافية في القرن الحادي والعشرين، تقع في الخطأ ذاته الذي وقعت فيها معالجات القرن العشرين، بل ربما في خطأ أسوأ، فهي تنظر إلى المنطقة على أنها جغرافيا ممتدّة فارغة تريد أن تملأها بالمضمون الثقافي الذي تريده، وهي توسّعها مرّة كما في "مشروع الشرق الأوسط الكبير"، فتجعلها ممتدّة من باكستان إلى المغرب مروراً بأفغانستان وإيران وتركيا و إسرائيل، وهي تضيّقها مرّة أخرى لتجعلها ممتدّة من إيران إلى المغرب كما في التعديلات الأوروبية له.
إنّ تلك الرؤية للواقع البشري تشير إلى أننا لم نستفد من كل التجارب السابقة في القرن العشرين، وإلى أننا ربما سننتهي إلى نتائج أسوأ في معالجات المسألة الثقافية في القرن الحادي والعشرين.(/2)
معالم التاريخ الاقتصادي للمسلمين
10-2-2006
بقلم أحمد محمد محمود نصار
"...اهتمت السياسة الاقتصادية الإسلامية في التاريخ الاقتصادي بربط السلوك الاقتصادي بالعقيدة التي لها تأثير على سلوك المسلم بشكل عام مثل ربط الرزق والبركة بالإيمان والاستغفار ..."
تميز التاريخ الاقتصادي للمسلمين بحيث أصبح هذا التاريخ حجة بينة واضحة في الدراسات الاقتصادية الإسلامية, يستعين بها المتخصصون في الاقتصاد الإسلامي للتدليل على كفاءة النظام الاقتصادي الإسلامي وصلاحيته للتطبيق, وهو ما نسعى إليه في هذا المقال عن طريق توضيح المعالم الرئيسية والهامة التي تميز بها التاريخ الاقتصادي للمسلمين.
ونعرض لها كما يلي:
أولاً:
في مجال السياسات الاقتصادية ودور الدولة:
اهتمت السياسة الاقتصادية الإسلامية في التاريخ الاقتصادي بربط السلوك الاقتصادي بالعقيدة التي لها تأثير على سلوك المسلم بشكل عام مثل ربط الرزق والبركة بالإيمان والاستغفار والذكر, حيث قال تعالى "ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض" سورة الأعرف:96, من هذا المنطلق قامت الدولة الإسلامية بتوجيه المسلمين لصلاة الاستسقاء في حالات الجدب وقلة المطر, وقامت السياسة الاقتصادية أيضا بتوجيه الموارد بما يحقق الاستغلال الأمثل لها وخصوصاً في مجال استغلال الأرض, حيث قال صلى الله عليه وسلم "من أحيا أرضاً ميتاً فهي له, وليس لمحتجر حق فوق ثلاث" أي من يعطل الأرض ولا يستغلها ثلاثة أعوام تقوم الدولة الإسلامية بأخذها منه لغيره لكي يعمل بها وينميها, وهذا يعني بلغة الاقتصاد نقصان فجوة الموارد إلى أدنى حد وتعبئة كامل الموارد في المجتمع للفعالية الاقتصادية.
ثانياً:
في مجال المالية العامة:
أما في مجال المالية العامة فكانت الموارد الرئيسية للموازنة تتمثل في خراج الأرض الزراعية التي تم فتحها عنوة والعشور وهي الضرائب المأخوذة من البضائع التي تمر ببلاد المسلمين, والفيء والغنيمة وغيرها من الموارد المالية التي تتعلق بسيادة الدولة وقوامتها على مصالح المسلمين, أما في جانب النفقات فكان يوجه ضمن سلم الأولويات وفق المقاصد الشرعية, الضروريات أولاً ثم الحاجيات ثم التحسينيات (الكماليات )والتي أجملها الإمام الشاطبي في قاعدته المشهورة في المقاصد, بأنه لا يراعى تحسيني إذا كان في مراعاته إخلال بحاجي ولا يراعى حاجي إذا كان بمراعاته إخلال بضروري, وكان الاهتمام أيضاًً بمحاربة الفساد المالي والنفقات غير الضرورية لأن فيه تلاعب بالمال العام في غير صالح المجتمع.
أما بالنسبة للعجز فيجب لتمويله أن يتحقق شرطان, الأول أن يكون له مبرر موضوعي لحدوثه أي لا يكون سببه الفساد المالي وسوء التخطيط وان تكون هنالك القدرة على سداده مستقبلاً لا أن يتحمل المجتمع أعباء ديون لا يستطيع سدادها, وشهد التاريخ الاقتصادي للمسلمين تشدد الولاة والخلفاء في الحفاظ على المال العام لدرجة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يحصي أموال الولاة قبل توليهم وبعد توليهم فإذا وجد هناك زيادة غير طبيعية أخذه إلى بيت المال.
ثالثا:
في النظام النقدي:
اهتم المسلمون بالنقود وسكها وضبط أوزانها وأعيرتها, حيث لم يسمح بسك النقود إلا في دار مخصصة لذلك, هذا بالنسبة للجانب الشكلي في النقود أما الجانب الحقيقي للنقود الذي يتمثل بتأدية دورها كوسيلة للتبادل فاهتم المسلمين بسن الأحكام الضابطة لذلك من تحريم الربا الذي يمنع التلاعب بقيمة النقود الحقيقية ويحد من الثراء غير المبرر للمرابين, وإيجاب الزكاة التي تجبر الأرصدة النقدية المعطلة على التوجه للاستثمار وللفعالية الاقتصادية, وهو مصداقاً لقوله صلى الله عليه وسلم "اتجروا في مال اليتيم حتى لا تأكله الصدقة", وضمان فقه المسلمين بهذه الركائز كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يخرج إلا الأسواق ويقول "لا يبع في سوقنا إلا من يفقه وإلا أكل الربا شاء أم أبى".
رابعا:
في تنظيم الأسواق والمعاملات فيها:
أول ما قام به الرسول عليه الصلاة والسلام عند وصوله إلى المدينة بعد هجرته من مكة هو إقامة سوق للمسلمين يتبادلون فيه السلع والبضائع, وقام عليه الصلاة والسلام بالتدخل بهيكل هذه السوق حيث قام بتحريم الغش والتدليس والاحتكار والنجش وسائر المعاملات غير المشروعة وهو ضمان لعمل السوق الإسلامية بكفاءة, ولم يتدخل عليه الصلاة والسلام بآلية السوق (العرض والطلب) لأنها من الحريات الطبيعية التي لا يجب تقيدها إلا إذا كان هناك مصلحة من ذلك, حيث جاء نفر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ارتفعت الأسعار بالسوق وقالوا له سعّر لنا يا رسول الله, فرفض عليه الصلاة والسلام التسعير وقال: إن الله هو المسعر القابض الباسط الرازق وإني لأرجو أن ألقى الله وليس أحد منكم يطلبني بمظلمة في دم ولا مال", وشرع الإسلام لضمان ذلك كله نظام الحسبة للتفتيش والرقابة على الأسواق ومعاقبة المخالفين.(/1)
والله أسال التوفيق.(/2)
معالم الشخصية الإسلامية
المستشار
الشيخ حامد بن عبدالله العلي
رقم الاستشارة
651
تاريخ الاستشارة
17/1/1427 هـ -- 2006-02-15
تصنيف الاستشارة
استشارات تعليمية->وسائل وأساليب
السؤال
فضيلة الشيخ أطلب منك أنك تكتب لي منهجا يلخص معالم الشخصية الإسلامية لكي ادرسه للطلاب على أن يكون بأسلوب سهل أكاديمي لغير طلاب الشريعة ، ويكون شاملا تقريبا ، بحيث يمكن أن يلخص مقرر كامل عن الثقافة الإسلامية ، ولكن بدون تفصيل ، حتى لا أكلف عليكم ، والله يوفقكم ويرعاكم ،
الإجابة
الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وبعد : ـ
1ـ أوّل معالم الشخصية الإسلامية ، هو الإيمان بالتوحيد ، فأوّل ما يميز المسلم عن بقية الناس ، أنّه لايعبد إلا الله تعالى ، فهو لايصرف العبادة لغير الله ، ولا يتخذ سواه معبودا ، على الله وحده يتوكل ، وإيّاه يدعو ، له صلاته ، وركوعه ، وسجوده ، وسائر عباداته ، لايتخذ إلى الله في العبادة واسطةً من غيره ، لانبيّا مرسلا ، ولا ملكا مقربّا ، ولا وليّا صالحا ، كما قال تعالى ، ( قل إنما أدعو ربي ولا أشرك به أحدا ) ، وقال : ( قل إن صلاتي ونسكي وممحياي ومماتي لله رب العالمين لاشريك له ) . فحقّ الله أن يعبد وحده لاشريك له ، وحقّ نبينا صلى الله عليه وسلم الإتباع والإئتساء ، وحقّ الأولياء ما للمؤمنين من الحقوق ، ومن الزيادة ما تنبغي لزيادة منزلتهم ، فلا يجوز الخلط بين الحقوق . والتوحيد ثلاثة أقسام :
أحدها : توحيد الربوبية وهو كالمقدمة لتوحيد الألوهية ، لأنّ معناه ، اعتقاد العبد أن الله تعالى متفرد بالخلق ، والتكوين ، والتقدير ، ، وبالتصريف ، والتدبير ، لاثاني له ولاشريك له ، ولامعين : ( قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ ) .
كما يدخل في هذا التوحيد ، إعتقاد العبد أن الله تعالى هو الحَكَم ، وإليه الحُكْم ، وهو ملك السموات والأرض الذي لايملك غيره حق التشريع لعباده ، ذلك أن الأمر والنهي من أهم خصائص المُلْك ، بل هو أعظم خصائص الملك ، فمن جعل التشريع لغير الله تعالى ، فقد كفر بأن الله تعالى ملك الملوك .
الثاني : توحيد الألوهية : وهو إفراد الله بالعبادة كما بيّنا ، فمن صرف شيئا من العبادة لغير الله فقد أشرك في عبادة الله ، وهو شرك أهل الجاهلية من كفار قريش ، فإنهم كانوا يقرّون بتوحيد الربوبية ، كما قال تعالى: ( وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ ) .
غير أن هذا التوحيد لم ينفعهم ، كما لم ينفع إبليس معرفته بالله ، وإقراره بربوبيته ، وبكمال صفاته ، لأن الله تعالى أراد منهم أن يوحدوه توحيد العبادة ، ولا يجعلوا بينهم وبينه ـ سبحانه ـ واسطة تقربهم إليه ، كما قال تعالى (وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ) .
ومن هذا التوحيد أن يخضع العبد لطاعة الله ، ولا يقدّم على هذه الطاعة طاعة أحد كائنا من كان ، فإنّ جعل طاعة غير الله ، كطاعة الله من شرك الأنداد ، ومن اتخاذ الشريك مع الله تعالى ، ولهذا قال تعالى : ( ولا يشرك في حكمه أحدا ) .
بل إن إفراد الله بالعبادة ، إنما صار حقا لله تعالى ، بأمر الله وحُكْمه ، وامتثالا لطاعته ، كما قال : ( وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) .
وتوحيد الألوهية لزم من توحيد الربوبية ، ولهذا يقول العلماء: توحيد الربوبية منحة ، وتوحيد الألوهية تكليف ،
فالله تعالى لأنّه الربّ الذي ربّى عباده بنعمه ، ومنحهم الوجود ، وأمدهم بأسبابه ، أمرهم بعبادته ، وخلقهم ليعبدوه وحده لاشريك له ، كما قال ( وما خلقت الجنّ والإنس إلا ليعبدون ) .
ولكن لفظ ( الإله ) و( ا لرب ) إذا اجتمعا افترقا في الدلالة ، فكان الأوّل أخص بمعنى المعبود ، والثاني بمعنى الخالق المنعم ،
وأما إن افترقا ، فإنّ المعاني تتداخل، كما ورد ( إلاّ أن يقولوا ربّنا الله ) أي معبودنا الله الذي خلقنا ، وفي حديث سؤال منكر ونكير ( من ربّك ) أي ما كنت تعبد في الدنيا .(/1)
والقسم الثالث : توحيد الأسماء والصفات ، وهو أن يعتقد العبد أن الله تعالى واحد في ذاته وصفاته وأسماءه ، له في ذلك الكمال المطلق ، من كلّ وجه ، ولا يلحقه عيب ، ولانقص ، ولا يشبه شيئا من خلقه ، ولا يمكن إدراك كيفية صفاته ، فيجب إثبات جميع أسماء وصفاته الواردة في الوحي ، من غير تعطيل ، ولا تأويل ، ولا تمثيل أي تشبيه ، ولا خوض في الكيفية ، كما يقول العلماء : إثباتا من غير تمثيل ، وتنزيها من غير تعطيل .
ومن الإيمان بكمال أسماءه وصفاته سبحانه ، الإيمان بأنه سبحانه هو الملك ، الحكم ، العدل ، الذي لامعقِّب لحكمه ، تمّت كلماته صدقا وعدلا ، صدقا في الأخبار ، وعدلا في الأحكام ، فمن جعل التشريع لغير الله ، فإنه لم يحقق الإيمان بهذه الأسماء الحسنى ، والصفات العليا .
وقد ذكرت هذه الأقسام ، في قوله تعالى (رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا )
2ـ التمسك بالوحي الإلهي ، والانقياد للشرع ، فالمسلم لايقدم على كلام الله ، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم شيئا ، فإنقياده لله وحده ، واستسلامه لربه لاشريك له ، وهذا هو معنى الإسلام ، كما قال تعالى ( إذ قال له ربه أسلم ، قال أسلمت لرب العالمين ) ، وقال تعالى ( ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولاتتبع أهواء الذين لايعلمون ) .
وانطلاقا من هذه العقيدة ، يؤمن المسلم أنه لافصل بين الدين والحياة ، ولا بين الدين والدولة ، فالإسلام دين الحياة ، الدنيا والآخرة ، وهو الدين وهو الدولة ، ويعتقد المسلم أن العقيدة التي تفصل بين الدين والحياة ، أو بين الدين والسياسة ، أو بين الدين والدولة ، عقيدة مناقضة لعقيدة الإسلام ، ولمعناه ، ولعنوانه العام ، ولمقتضى الشهادتين ، وهي العلمانية اللادينية المنتشرة في هذا العصر .
كما قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً * أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا )
إلى أن قال : (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا ) .
فقد أقسم سبحانه أنه الإيمان لايتحقق حتى يجعل العبد حكم الرسول المبلغ عن الله تعالى ، محمد صلى الله عليه وسلم ، هو الفاصل في كل أمور الحياة .
3ـ محبّة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، فالمسلم يحبّ الله أعظم من كل محبوب ، ثم يحبّ الرسول صلى الله عليه وسلم ، أعظم من حبه لنفسه ، وماله ، وولده ، كما في الحديث ( لايؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ، ووالده ، والناس أجمعين ) متفق عليه ، وورد أيضا ( من نفسه ) .
ومن محبّته صلى الله عليه وسلم ، محبّة أصحابه ، والترضّي عنهم ، ومنهم أهل بيته ولهم حقان ، فإنّ أصحابه ، هم وزراؤه ، وتلامذته ، وخاصته ، ونتاج تربيته المباشرة ، ولهذا كان الطعن فيهم طعنا فيه صلى الله عليه وسلم ، وإيذاءً مباشرة له صلى الله عليه وسلم ، ولهذا قال : ( فقال احفظوني في أصحابي ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ) ، رواه أحمد وغيره .
وقال ( خير الناس قرني ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم ، ثم يجيء أقوام ، يسبق شهادة أحدهم يمينه ، ويمينه شهادته ) متفق عليه .
غير أن محبّة النبي صلى الله عليه وسلم لاتعني الغلوّ فيه ، وإطراءه بما هو فوق منزلته ،فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، ومن الضلال ما يقوله أهل البدع ، من أنه صلى الله عليه وسلم ، قد خلق الكون من نوره ، أو أنّ من علومه علم اللوح والقلم ، أو أن تراب قبره أفضل من الكعبة ، وكذا التعشّق في وصفه ، بأبيات الشعر التي لاتليق بمقام النبوّة ، ونحو هذا من الأقوال المبتدعة ، والإطراء المخالف للشرع .
كما يحرم التمسح بجدران حجرته ، والتوسل بذاته ، وشدّ الرحال إلى قبره ، فكلّ ذلك ماتركه الصحابة إلاّ لأنه من البدع والمحدثات ، وقد يصل ببعض الجهلة إلى الشرك والعياذ بالله ، وذلك عندما يصرفون العبادة إليه ، مثل دعاءه ، والتوكل عليه ، والاستغاثة به ، والطواف بقبره ، والسجود له .(/2)
ولهذا قال صلى الله عليه وسلم ( لاتطروني كما أطرت النصارى ابن مريم ، فإنما أنا عبد ، فقولوا عبد الله ورسوله ) رواه البخاري.
4ـ التحلّي بالأخلاق الحميدة ، فالمسلم ذو خلق كريم ،يحبّ مكارم الاخلاق ، كالشجاعة ، والجود ، والحلم ، وهو لايظلم ، ولا يجهل ، ولا يعتدي ، فهو عفيف في جوارحه كلها : عفيف البصر ، لاينظر إلى المحرمات ، عفيف الفرج لايزني ، عفيف اللسان لايغتاب ، ولايؤذي المسلمين بلسانه ، ولا يخوض في عورات الناس ، عفيف اليد لايسفك دما حراما ، ولا يسرق ، كما في الحديث ( المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده ) رواه البخاري .
والمسلم يعامل الناس بالحسنى ، ويعرف لكلّ ذي حقّ حقّه ، فللوالدين أعظم الحقوق ، ثم للزوجة والأولاد ، وللأرحام ،ولسائر المسلمين ، ثمّ لكلّ الناس ، وفي الحديث : ( وخالق الناس بخلق حسن )رواه أحمد وأبوداود والترمذي وغيرهم ، وفيه : ( إنما بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق ) رواه الحاكم وغيره .
وقد أمر الإسلام بالإحسان إلى كلّ شيء ، حتى الحيوان ، لأنّه دين الرحمة والإحسان ، وقد ورد في الحديث أنّ امرأة دخلت النار في هرّة ، لأنها حبستها فماتت من الجوع ، وأخرى دخلت الجنة لسقيها كلبا ، كاد يَهلك من شدّة العطش .
5ـ المسلم ذو شخصية تحمل رسالة الإصلاح ، والعطاء ، والبناء : فالمسلم معطاءٌ ، يحبَّ الخير للناس ، ويجود به ، ويسعى إلى نشره ، ويحارب الشرّ ، والفساد ، كما قال تعالى ( كنتم خير أمة أخرجت للناس ، تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ) .
والمسلم يحب البناء الخيّر في كلّ شيء ،فهو يبني بالخير نفسه ، وأسرته ، ومجتمعه ، ويسعى في تنمية الجوانب المشرقة في كلّ الحياة ، ويحرص دائباً على تطويرها إلى الأحسن ،
وقد كانت حياةُ النبيّ صلى الله عليه وسلم ، كما في سيرته العطرة ، كلُّها في البناء والإصلاح ، فقد بنى أعظم أمّة ، قدّمت للبشريّة أروع بناءٍ حضاريّ ، في جميع جوانب الحياة .
6ـ الاعتزاز بدينه ، فالمسلم يعتزّ بدينه ، ويفخر به ، ويدعو إليه ، ويجاهد في سبيل رفعته ، ذلك أنّه يعلم علم اليقين ، أن الإسلام هو الدين الحقّ ، الذي لايقبل الله سواه ،
قال تعالى ( ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين ) .
وقال ( ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين ) .
7ـ القيام بحقّ الأمانة ، فالمسلم يعلم أنّه بدينه ، يحمل أمانةَ دعوة الرسل والأنبياء جميعا ، فهو بإسلامه عنوان لها ، فلهذا هو حريصٌ على تمييزها عن كلّ باطلٍ من الأديان ، والأفكار ، والمناهج الأخرى ، فهو لايجامل في إيضاح الحقّ الذي يحمله مما دلّ عليه دينُه، وفي فصله عن الباطل الذي هو غير دين الإسلام ، من كلّ الأديان والمناهج الأخرى ؟
بل هو يقول بوضوح إنّ الناس جميعا ، ينقسمون في موقفهم من الهُدى ، إلى قسمين لاثالث لهما :
إلى أهل الحقّ والنور وهم أتباع محمّد صلى الله عليه وسلم فحسب ، وإلى أهل الباطل والظلمات ، وهم من لمْ يدخل في دين الإسلام ، كما قال تعالى ( الله وليّ الذين آمنوا يخرجُهم من الظلمات إلى النور ، والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت ، يخرجونهم من النور إلى الظلمات ، أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) .
ومن حمْلِ المسلم لهذه الأمانة بحقّ ، أنه يُشفق على الناس من غير المسلمين ، ويترفّق بهم في معاملتهم ، ويُحسن إليهم ـ في غير المقامات التي تتطلب غير الرفق ـ حتى يروا في سماحة الإسلام أُنموذجا لحضارته السمحة ، المشرقة بالخير ، فيكون ذلك سببا لدخولهم في دين الله .
8ـ المسلم ينظر إلى الحياة الدنيا على أنها فترة اختبار فحسب ، ستمضي به سريعا إلى الحياة الحقيقية ، التي يعود فيها إلى الله تعالى ، حيث يجد حساب أعماله ، ثم يصير إمّا إلى الفوز المبين في الجنة ، أو إلى الخسران في نار الجحيم أعاذنا الله منها .
ولهذا فالمسلمُ يزنُ أعمالَه ، على أساس أنه سيجدها أمامه يوم القيامة حسناتٍ أو سيئات ، فهو لا تغرّّه الدنيا بملذاتها ، ولاتغريه الشهوات المحرمة ، كما قال تعالى ( يا أيها الناس إنّ وعد الله حق ، فلا تغرنكم الحياة الدنيا ، ولا يغرنكم بالله الغرور ) .
9ـ المسلم يوازن بين حاجات الجسد والروح ، ومتطلبات الدنيا ، والآخرة ، فهو لايظلم نفسه بمنعها مما أباح الله تعالى بغير إسراف ، في الأكل ، والشرب ، والنكاح ،وسائر المباحات ، مما فيه بهجة النفس ، وراحة الجسد ، فلا رهبانية في الإسلام .
وقد قال تعالى ( قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق ) .
غير أنّ المسلم يتجنّب أيضا ما يُشين النفس ، من المحرّمات ، ويُعطي روحَه حقّها بالأعمال الصالحة والحسنات ، فإنّها لاتزكوا إلا بالعمل الصالح.(/3)
10ـ والمسلمُ يحبّ معاني الجمال في كلّ شيء ، ويطلق حبّه في هذا الميدان الرحب ، في حدود مرضاة الله ، ويسعى لتمثّل هذه المعاني في نفسه ، وفيما حوله من جوانب الحياة ، ففي الحديث ، ( إنّ الله تعالى تعالى جميلٌ يُحبُّ الجمال ، ويحب أن يرى أثر نعمته على عبده ،ويبغض البؤس والتباؤس ) رواه البيهقي في شعب الإيمان.
وفي الحديث : ( إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا وإن الله أمر المؤمنين بما أرسل به المرسلين فقال { يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم } ، وقال { يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم } ، ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فانى يستجاب لذلك ) رواه مسلم .
ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم ، حريصا على تكميل شخصيّة المسلم ، في جميع الأمور حتى في بعدها الجمالي ، من ذلك أنه صلى الله عليه وسلم قال : ( لولا أنّ أشقّ على أمّتي لأمرتهم بالسواك عند كلّ صلاة ) متفق عليه ، وكان يغيّر حتى الأسماء غير الحسنة ، إلى أسماء حسنة تبعث في النفس التفاؤل ؟
كما حضّت شريعته ، ودلّت سيرته ، على استحباب التكميل الجمالي ، من لبس الحسن من الثياب ، وإكرام الشعر ، والعناية بحسن المظهر ، وكان إذا بعث سفيرا بعثه حسن الوجه ، والثياب ، كريم الخصال ، والخطاب ، كما كان يحبّ ويدعو إلى تحسين الصوت في قراءة القرآن ، وما ورد من أمره بالعناية بتنظيف البيوت ، وتطهير المساجد ، والاغتسال في المجامع العامة ، وكل ذلك يدل على عناية الإسلام بالبعد الجمالي في الحياة .
وبهذه الجوانب العشر تكتمل معالم الشخصية الإسلامية ، وماهي باكتمال معالمها ، سوى آية من آيات روعة هذا الدين ، ودليل على صدق نبينا صلى الله عليه وسلم وعظمة مدرسته .
ذلك أنّ محور دعوته ، وقطب رحى رسالته ، إنما توجها إلى تقريب الإنسان إلى أقرب مدى من البناء الكامل للشخصية الإنسانية ، ولهذا كان أصحابه رضي الله عنهم ، أقرب الناس إلى ذلك الكمال الذي نشدته كل مناهج الفكر والتربية البشرية ففشلت ، إلا الإسلام فقد نجح نجاحا باهرا ، وكلما اقترب الإنسان من التشبه بحياته صلى الله عليه وسلم ، وماكان عليه أصحابه ، صار أدنى إلى تمثل الشخصية الإسلامية الكاملة فيه .
فلا جرم ، كان هو أكثر الأديان يدخل الناس فيه ، ويعتنقونه كلّ ساعة، بل كلّ ثانية من الزمان ، والحمد لله رب العالمين .
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا .(/4)
فقهُ الأُسرةِ المسْلِمة
معالم تربوية لأسرة راشدة
م. عبد اللطيف البريجاوي
تقديم
الشيخ الدكتور
ممدوح جنيد الكعكة عبد المعطي الدالاتي
بسم الله الرحمن الرحيم
فقه الأسرة المسلمة
(معالم تربوية لأسرة راشدة)
المخطط العام
كلمة الشيخ ممدوح جنيد
كلمة الدكتور عبد المعطي الدالاتي
مقدمة بين يديك أخي القارئ
1 ـ ما قبل الزواج وفترة الحمل الأسري
2 ـ الشروط اللازمة لإصلاح الأسرة
3 ـ إصلاح الزوج
4 ـ إصلاح الزوجة
5 ـ إشاعة ثقافة العفة في البيت
6 ـ إشاعة ثقافة الشورى في البيت
7 ـ إشاعة ثقافة الرفق في البيت
8 ـ إشاعة ثقافة المصارحة في البيت
9 ـ أدب الاختلاف ضمانة لأسرة متماسكة
10 ـ عدم التذكير بالماضي المزعج
11 ـ السعي إلى التمييز الأسري
12 ـ الحسم في المخالفات الشرعية
13 ـ مراعاة الفروق الفردية في الأسرة
14 ـ تخفيف التيتم والترمل الصوري
15 ـ التعامل مع الأخطاء في المنْزل
16 ـ العلاقات الخارجية في الأسرة
17 ـ حل الشيفرة الأسرية
18 ـ أي بنيتي
19 ـ ألم وآلام
20 ـ السيرة الذاتية
21 ـ الفهرس العام
كلمة الشيخ ممدوح جنيد الكعكة
الحمد لله رب العالمين، القائل في كتابه الكريم: (ومن آياتِه أن خلقَ لكم من أنفُسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعلَ بينكم مودةً ورحمةً إنَّ في ذلك لآياتٍ لقومٍ يتفكرون( [سورة النحل].
وأفضل الصلاة وأتمُّ التسليم على المبعوث رحمة للعالمين الذي وجّهنا إلى الخيريّة بجميع وجوهها ومنها أن نكون خيراً لأهلينا فقال عليه السلام: "خيرُكم خيرُكم لأهله وأنا خيرُكم لأهلي".
تبقى الأسرة كياناً عظيماً وقلعةً حصينةً ما دمنا نعتني بها العناية التي أرادها الله عز وجل وما دامت هي اللَّبنة القويَّة التي تكون مع أخواتها الجدار الإسلامي، ومن قوَّتها يستمدُّ هذا الجدار قوته. فلنعمل على صيانتها وتحصينها وهي في أول مراحل تكونها وقبل ولادتها ولنوجد لها الشروط اللازمة لنموها النمو الصحيح.
هذا ولقد اطلعت على ما كتبه الأخ الكريم الأستاذ عبد اللطيف البريجاوي حفظه الله تعالى تحت عنوان فقهُ الأسرةِ المسلمة حيث كان هذا الكتاب معالم تربوية للأسرة الإسلامية المنشودة. لقد بدأه بتوجيه العناية للأسرة قبل وجودها ونشأتها، ثمَّ ذكر الشروط الملائمة لمناخ إصلاحها ونموها حيث لم ينسَ الطريقةَ المثلى لإصلاح الزوج والزوجة، ونبهنا على تخفيف مثيراتِ الشهوةِ في البيت حتى تتفرغ القلوبُ والعقول لأنبل الغايات. ثمَّ إنّه أعطى الشورى الأسرية حقها من العناية حيث أصبح وجودها نادراً، وطلب من الجميع إشاعة الرفق ونبذ العنف في كل مجال ولاسيما فيما نحن بصدده، وأيقظ في الأسرة جو المصارحة والبيان حتى لا تتراكب الأخطاء وتتعقد الأمور. ثمَّ إنَّه بيَّن أن تماسك الأسرة يغذيه أدب الحوار وعدم تذكير أي فرد من أفرادها بماضيه المزعج؛ كل هذا لتنشأ الأسرة المتميزة التي يشار إليها بالبنان التي لا مهادنة فيها لأية مخالفة شرعية. وطلب من الأبوين مراعاة الفروق الفردية وإعطاء كل فرد حظه وحقه من العناية والرعاية. واعتبر أن التيتم نوعان:
1ـ فقدُ أبٍ مادةً وحسّاً.
2ـ وفقدُ أبٍ معنىً فقد يكون موجوداً لكن أولاده لا ينالون من تربيته أو توجيهه شيئاً فطلب تخفيف آثار اليتم بنوعيه المادي والمعنوي وذكر الطريق المثلى للتعامل مع الأخطاء حتى لا تكبر ولا تتكرر.
وختاماً فإني اطلعتُ على هذا الكتاب فرأيت فيه الدواءَ الناجعَ لكثير من الأسر المريضة واللقاحَ الذي يحصن بقيةَ الأسر من كل مرض، والسياجَ الذي بوجوده ترتدُّ سهامُ كل من يريد أن يسيء إلى هذا الكيان العظيم.
وأسأل الله عز وجل أن يجعل نياتنا وأقوالنا وأعمالنا خالصة لوجهه الكريم والحمد لله رب العالمين
ممدوح جنيد الكعكة
كلمة الدكتور عبد المعطي الدالاتي
في الجنة كان البَدء.. وفي ظلال النعيم كان مولد الأسرة الأولى.
فقد عاش أبونا آدم وأمنا حواء معاً في السماء، ثم هبطا معاً إلى الأرض، حامليْن ذكريات النعيم الأول.
هبطا معاً ليَبنيا من جديد جنةً صغيرة تنشر البسمات العذبة، وتلد القلوب الصغيرة..
وصار آدم سقفاً لبيت حواء، وأباً لأبنائها، وقوة لضعفها النسوي..
ولكن يا أسفا! فالشيطان الذي أخرجهما من جنتهما الكبيرة، راح يبغي شقاقَ بينهما ليخرجهما من هذه الجنة الصغيرة !
ولكنْ إذا وُجد الحب كان البحث عن العدل من نافلة القول..
فالحبّ كريمٌ يسّد كل الثغرات، والمودة رحيمة تغفر كل الهنَات..
وخيرٌ لمجدافي السفينة أن يتّحِدا في اتجاه المسير..
لأنكِ أنتِ.... لأني أنا
تعاليْ لِنبنيَ بيتَ القصيدِ
تعاليْ نُصلّ لربِّ الوجودِ
تسيرُ الحياةُ رُخاءً بِنا
بشطرينِ: منكِ ومنّي أنا
ليغمُرَ بالدين أعمارَنا
وإذا كان آدم هو الشطرالأول، فإن حواء هي الشطرالأجمل!
وإذا كان للشطر الأول شرفُ البَدء، و براعةُ الاستهلال..
فللشطر الثاني حُسن القافية، وروعةُ الختام..(/1)
وهذا السِّفر المبارك ( فقهُ الأسرةِ المسلمة ) الذي يَشي عنوانه الجميل بمضمونه النبيل، قد صاغه أخي المهندس عبد اللطيف البريجاوي ليشيع السلام بين الشطرين، فجاء هديةً لكل أسرة مسلمة بُنيت أو ستُبنى على الحب والبركة والإيمان.
وقد التقى في هذا السِّفر فكرُ الحياة، و أدب التربية، وخبرة الإصلاح، في واحة خضراء من التأصيل الشرعي المرتكِز على الكتاب العزيز والسنة المباركة والسيرة المطهرة.
ففيه إذاً دستورمبارك للأسرة، ومنهج قويم للتربية، ومنجم كريم للسلام الأسري.
أسأل الله تعالى أن ينفع به، وأن يبارك لمؤلفه في علمه وأهله وذريته.
وأسأله أن يُغشّي بيوت المسلمين بالسكينة والرحمة والسلام.
إن ربي هو أكرم من سُئِل.
وفي كل آخرٍ يطيب الحمد لله رب العالمين، والصلاة على خاتم المرسَلين.
د. عبد المعطي الدالاتي
بين يديك أخي القارئ
تبتل وثناء:
"اللًّهم لك الحمد أنت نورُ السموات والأرض ومن فيهنَّ، ولك الحمد أنت قيّم السموات والأرض ومن فيهنَّ، ولك الحمد أنت الحقُّ ووعدُك حقٌّ وقولك حقٌّ ولقاؤك حقٌّ والجنَّة حقٌّ والنار حقٌّ والساعة حقٌّ والنبيُّون حقٌّ ومحمَّد حقٌّ. اللَّهمّ لك أسلمتُ وعليك توكّلت وبك آمنت وإليك أنَبْتُ وبك خاصمتُ وإليك حاكمتُ فاغفر لي ما قدَّمتُ وما أخَّرت وما أسْرَرْتُ وما أعلنْتُ أنتَ المقدِّمُ وأنت المؤخِّر لا إله إلاَّ أنت ولا إله غيرك" ( ).
"اللَّهمّ انفعني بما علّمتني وعلّمني ما ينفعني وزدني علماً، الحمد لله على كلِّ حالٍ وأعوذ بالله من حال أهل النار" ( ).
"اللَّهمّ ربّنا لك الحمد ملءَ السموات وملءَ الأرض وما بينهما وملءَ ما شئت من شيء بعد، أهلَ الثناءِ والمجدِ لا مانع لما أعطيت ولا معطيَ لما منعت ولا ينفع ذا الجَد منك الجد " ( )
بين يديك أخي القارئ:
بين يديك أخي القارئ مجموعةُ فصولٍ تعالج قضايا مهمة ودقيقة في حياة الأسرة، وتقدم لها برنامجاً علمياً لحياة ملؤها السعادة والهناء، والاتباع والاقتداء، يحنو عليها الحبُ والمودة، وتُظلِلُها (أنوار الذكر الحكيم) ونسماتٌ من هداية المصطفى عليه السلام، فتبعث الأسرةُ من جديد لتكون أسرةً على المستوى الذي أراده الإسلام، حصنا منيعاً لا يُهدم، وقلعةً لا تُدك، ومعقلاً لإنتاج أجيال الإسلام. ونحن لا ندعي الكمال في ذلك ولكنها بعون الله تعالى تكون لبنةً من لبناتِ إصلاح المجتمع المسلم. ولقد تعمدنا الاختصار غير المخل في هذا الكتاب حتى يكون سهل التناول، وسهل الهضم وبعيداً عن الإطالة المملة التي تورث السآمة.
سبب هذا الكتاب:
جاءت هذه الفصول حصيلة عملٍ دام عامين تقريباً من مشاهدات خلال العمل في التحكيم الشرعي في المحاكم الشرعية بحمص، حيث كنت أتساءل دوماً عن معالمَ واضحةٍ في الإسلام لحل المشكلاتِ بين الزوجين التي قد تكون في بعض الأمور تافهةً إلى درجة كبيرة، لكنها كانت تسبب شقاقاً يصل إلى درجة الطلاق، وكنت أتساءل دائماً وأبحث، حتى جاءتني امرأة تطلب الطلاق بعد سبعة وثلاثين عاماً من زواجها ( ).
وعندها من الأولاد تسعة، أربعةُ ذكور وخمسُ إناث، ومن الأصهارِ أربعة، فصُعق قلبي، واهتزَّت أحلامي وآمالي حتى استطعنا مع أخي الأستاذ قاسم شرف الدين بتوفيق من الله سبحانه إعادةَ شريان الحياة الزوجية إلى ما كان عليه من قبل بل بشكل أفضل، نتيجة توضيح بعض النقاط المهمَّة والمهملة في الحياة الزوجية، وكانت البداية مع هذا الكتاب، حيث ألقيت مجموعة خطب في مسجد الحافظ بحمص بعنوان فقه الأسرة المسلمة إذ كان كل فصل من هذه الفصول عنواناً لخطبة كاملة.
ثم بدأت أفكر أن أعمم هذا الخير الذي سرى من خلال هذه الخطب، فبدأت أنشرها في المواقع المختلفة، فتلقفتها المواقع بشغف كبير فنشرت في مواقع عديدة مثل موقع صيد الفوائد، وموقع المرأة المتميزة، ولها أون لاين، والمختار الإسلامي، ونداء الإيمان وغيرها من المواقع حيث كان لها الصدى والأثر الكبيران.
وكانت الفكرة الجديدة هي نشر هذه الفصول المختلفة وجمعها في كتاب واحد الذي أسأل الله له حسن التمام وحسن القبول.
شكر وعرفان:
"من لا يشكر الناس لا يشكر الله" ( ).
وفي هذا المقام أجعل خالص شكري لكل من شجعني من إخواني وكان معي أخاً معيناً محباً ناصحاً مخلصاً وهم كثر والحمد لله وأخص منهم بالذكر:
1 ـ الطبيب الشاعر عبد المعطي الدالاتي الذي قرأ هذا الكتاب وكان له الفضل الأكبر في تشجيعي لإخراجه.
2 ـ الدكتور حسان شمسي باشا، الذي كان لي الشرف أن راجع أفكار هذا الكتاب ودققها ووضع لمساته التي لا تُنسى.
3 ـ الدكتور فرحان السليم أستاذ علم النحو الذي دقق هذا الكتاب لغوياً.
4 ـ أ. الشيخ ممدوح جنيد الذي أضفى على هذا العمل لمساته المتميزة.
5 ـ والدي الكريمين وإخواني الأعزاء.
6 ـ زوجتي الغالية التي كانت وما زالت توفر لي الوقت والراحة والطمأنينة لمتابعة الكتابة والتأليف.
إلهي:(/2)
ها أنا اليوم أكتسي ثوباً جديداً هو ثوب نشر الكتب، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لبس ثوباً جديداً قال: "الحمد لله الذي كساني ما أواري به عورتي وأتجمل به في حياتي" ( ).
فاجعل اللهم هذا الثوب الذي ألبستنيه ثوباً أواري به عورتي وأتجمل به في حياتي، واجعله مقبولاً في الدنيا والآخرة يا أكرم الأكرمين آمين....
م. عبد اللطيف البريجاوي
حمص - سوريا
غرة شهر محرم الحرام
عام 1426 هـ
ما قبل الزواج وفترة الحملِ الأسري
((الخِطبة))
الأسرةُ تولد كما يولد الطفل، وفترة الحمل بهذا المولود الجديد قد تطول أو تقصر حسب الظروف والإمكانات، وبمقدار الاهتمام بهذا الجنين المرتقب، وتغذيته الغذاءَ السليم، وتوعيةِ أبويه بالأمراض التي تفتك به قبل الولادة وبعدها، وإعطاءِ والدته اللقاحات المناسبة، تكون صحة هذا المولود الجديد.
ومن هذا المنطلق فإن صحة الأسرة أو مرضها تتضح معالمها في فترة الحمل الأسري (فترة ما قبل الزواج)، وتتشكل الصورة المبدئية لها، حيث تخلق التصورات المختلفة، وتتضح المعالم، ويرى كل واحد من الخاطبين الآخر من منظوره، فيعقد عليه الأمل، أو يحكم على علاقته بالفشل.
"والخطبة هي وعد بالزواج" ( ).
والزواج هو أهم شركة يعقدها الإنسان في حياته، وبمقدار ما تكون الثقةُ والوضوح بين أطراف هذه الشركة يكون التوفيق والاستقرار والسعادة، وبمقدار ما يكون التحايلُ والخداع بين هذه الأطراف يكون الفشل والإحباط واليأس.
وهذا مأخوذ من حديث رواه أبو داود عن أبي هريرة رفعه قال (أي النبي صلى الله عليه وسلم): "إن الله يقول: أنا ثالثُ الشريكين ما لم يخن أحدُهما صاحبَه فإذا خانَه خرجتُ من بينهما".
فما أجمل تلك الشركة الزوجية التي يكون الله سبحانه ثالثهما فيها !
وما أتعس تلك الأسرة التي يخرج الله سبحانه وتعالى بلطفه ورحمته منها !
وفترة الحمل الأسري فترة مشحونة بالعاطفة اللاهبة، المشوبةِ بالحذر الخادع، والتلونِ الجاذب، والأحلامِ الوردية، والعيشِ الهنيء، والليالي المخملية، حيث يحاول الأطراف المختلفة من خاطب ومخطوبة وذويهما إظهارَ المحاسن الفاتنة، وإخفاءَ المساوئ المخجلة، وتذليل الصعاب الجمة، والعوائق المختلفة بطريقة سطحية بسيطة، وتنساق الأطراف وراء هذه العواطف المندفعة، حتى ينتهي الأمر وتولد الأسرة، وعند ذلك قد تصطدم بصخرة الواقع، وصعوبةِ العيش، وتتضحُ الأكاذيب، فتتبلدُ العاطفة، وتظهر الألوان، وتتبخر الأحلام، وتصبحُ الحياة جحيماً لا يطاق، فيحصل الشقاق وقد يقع الطلاق.
إن التصرفاتِ الخاطئةَ لمختلف الأطراف في هذه الفترة التي أسميناها فترة الحمل الأسري هي التي تؤدي غالباً إلى إجهاض هذه الأسرة قبل ولادتها، أو ولادتها ولادة مشوهة، وتصبح بذلك الأسرة عالة على المجتمع بدلاً من أن تكون دعامة قوية له ولبنة صالحة فيه.
لذلك لا بد من ضوابط لهذه الفترة، حتى يكون هذا الحمل سليماً معافى وحتى لا تولد الأسرة بحالة مشوهة.
والضوابط لهذه الفترة هي الضوابطُ العامة للمسلمين مع بعض الخصوصية في بعض المواقف ومن هذه الضوابط:
1 ـ حُسن النظر والاختيار (نظر الخاطب إلى خطيبته والخطيبة إلى خطيبها): حيث تكون هذه الرؤيةُ المفتاحَ للقلوب بين الطرفين، وسبباً في تحصيل الوفاق بينهما، وتمهيداً لحياة ملؤها المودة والحنان، ولهذا وجه النبي عليه السلام في الحديث الذي رواه الترمذي عن المغيرة بن شعبة أنه خطب امرأة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "انظر إليها فإنَّه أحرى أن يُؤدم بينكما" ( ).
"(أن يؤدم بينكما) أن يؤلف ويوفق بينكما، أي يوقع الأدم بينكما يعني يكون بينكما الألفة والمحبة،.... إذا تزوجها بعد معرفة فلا يكون بعدها غالباً ندامة" ( ).
قال النووي في شرح مسلم: فيه استحباب النظر إلى من يريد تزوجها.
ويجب ألا يفهم من كلمة "انظر إليها" فقط مجرد النظر الحسي والجسدي، فكلمة "انظر" لها مدلولاتها العديدة من النظر في أخلاقها وأصدقائها وطريقة تفكيرها ونظرتها إلى الحياة وغير ذلك من الأمور المهمة لبناء الأسرة وهذا مأخوذ من الحديث "فاظفَر بذات الدين تربت يَداك" البخاري عن أبي هريرة، ومن هنا تأتي أهمية النظر في مختلف جوانب الفتاة فالذي يريد أن يتزوج لا بد أن يمعن النظر في صفات الفتاة ليستخلص ذات الدين.
وما يطبق على المخطوبة يطبق على الخاطب حيث النظرُ الحسيُ حقٌ من حقوق المخطوبة، بالإضافة إلى النظر العام في أحواله وأفكاره ومبادئه وتطلعاته وأهدافه، وهذا أيضاً مأخوذ من حديث "إذا خطبَ إليكم من ترضَون دينَه وخُلقَه فزوِّجوه، إلاِّ تفعلوا تكن فِتنة في الأرض وفسادٌ عريض" ( ).
2 ـ لا مجاملةَ في الاختيار: من أخطر ما يصيب الأسرة هو المجاملة في الاختيار، حيث تكون الفتاة غير راغبةٍ أو يكون الزوج غير راغب فيُحرج أو تُحرج لأسباب متعددة ويحصل الزواج وتولد الأسرة مشوهة وتبدأ المعاناة.(/3)
وقد أكد النبي عليه الصلاة والسلام مبدأ عدم المجاملة في الاختيار الزوجي مهما كانت الأسباب، فقد روى البخاري عن سهل بن سعد قال أتت النبي صلى الله عليه وسلم امرأةٌ فقالت إنها قد وهبت نفسها لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم فقال: "ما لي في النساء من حاجة" والنبي صلى الله عليه وسلم معروف أنه لا يرد أحداً، وهو الكريم والرؤوف الرحيم، لكنه مع ذلك رفض تلك المرأة ولم يجاملها ويقبلها، فأمر الاختيار في الزواج لا يحتاج إلى مجاملة أو تورية إنما يحتاج إلى بت وقطع.
3 ـ الوضوح: إنَّ من أهم صفات المسلم العامة صفةَ الوضوح، وتجنبَ الغموض، والابتعادَ عن الضبابية والتلون الزائف، في كل مجالات الحياة ومعاملاتها لا سيما إذا كان الأمر يتعلق بتأسيس الشركة الزوجية.
إن كثيراً من الناس يجعل هذه الفترة فترةً (الكذبُ فيها مباح)، فيبدأ يرسم على صفحات الماء لوحات فنية من السعادة، ويطلق العنان للسانه أن يقول ما يشاء، ويحمل نفسه أعباء هو في غنى عنها، ويشوه حقيقته المادية بومضاتٍ من كبد الخيال، ويلون تصرفاته السيئة بألوانٍ زاهية من الرقي والالتزام والمحبة. وفي الطرف الآخر تتكلم الفتاة عن نفسها وهي في كثير من الأحيان تتكلم عن امرأة من صنع الخيال، فيلتبس الأمر على الطرفين فيصطدمان في أول ليلة بواقع مرير وكأن كل واحد قد تزوج خيال الآخر.
إنَّ أخطر ما يصيب الحياة الزوجية بعد الزواج ذلك الغموضُ الذي يكرسه أحد الطرفين أو كلاهما، فتتحول تلك الكلمات التي ذكرت في فترة الخطبة إلى معوقات حقيقية للحياة الزوجية، وما أبشع أن يكتشف الإنسان أنه قد خدع وأنه بنى حياته على غموض وضبابية.
4 ـ عدم إطلاق الوعود الخادعة: وثمة أمر آخر يجهض كل الضوابط التي وضعها الإسلام لتحصين هذا الحمل الأسري وهو إطلاق الوعود الكاذبة والخادعة، حيث يبدأ الخاطب ببناء أحلام من جليد، ويعد بما ليس بمقدوره تحقيقُه، وتقابله الفتاة بوعودٍ مخملية، وحياة بألوان زاهية، فإذا حصل الوصال بينهما إذا بهما في خضم الحياة قد اكتشف كل واحد كذبَ الآخر، وعدمَ وفائه بعهده، ويذكر كل طرف الآخر بوعوده الكاذبة، فتقع الجفوة، وتتكدر الحياة، وتنعدم الثقةُ، لذلك فإنَّ الإسراف في الوعود قبل الزواج يشكل عبئاً على الإنسان لاسيما إذا كانت الوعود غير قابلة للولادة.
5 ـ تبيان المنهج العام للأسرة القادمة: غالباً ما ينسى الطرفان أنهما مقدمان على بناء شركة مهمة لاسيما في خضم العواطف الجياشة التي تلف حالة الخطبة، لكن هذه العواطف يجب أَلاَّ تنسيَ الطرفين أن يوضحا معالم الأسرة التي يريدان وكيفية بنائها ومعالمها وطرق حل المشاكل فيها، وتبيان ما يحب وما يكره كل طرف.
إنَّ عرض مثل هذه الأمور في مرحلة الخطبة بين الطرفين يفتح آفاقهما للحوار، وهي محاولة لفهم الآخر وتصرفاته وتبيان حقوقه وواجباته.
إن فترة الحمل الأسري من أهم فترات حياة الأسرة، فالاعتناء به، وضبطه بالضوابط اللازمة من أهم ما ينبغي معرفته وبيانه ليسهم هذا الأمر في بناء أسرة متكاملة متماسكة وولادتها بإذن الله تعالى.
الشروط اللازمة للبدء بإصلاح الأسرة
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وقودها النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عليها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لاَّ يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ( ( )
((كلُكم راعٍ، وكُلكم مسؤُولٌ عن رعيته، والأميرُ راعٍ، والرجلُ راعٍ على أهل بيته، والمرأةُ راعيةٌ على بيت زوجها وولده، فكلكم راعٍ وكلكم مسؤولٌ عن رعيتِه)) ( ).
إن ملف الأسرة المسلمة ملف خطير جداً ومهم بكل ما في الكلمة من معنىً وذلك لأن الأسرة المسلمة هي أخطر الحصون المستعصية على أعداء الدين.
إنَّه هجوم من نوع مختلف، هجومٌ يركب الهواء والفضاء، وأعداءُ الدين يحاولون بكل ما أوتوا من قوةٍ تفكيك هذا الحصن الأخير وضربَه في الصميم، وحتى الآن والحمد لله ما زالت بعض الأسر مستعصية على هذا الهجوم لكن قسماً كبيراً منها سقط وأيما سقوط.... !
(وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ( ( ).
هذا إصرار أعداء الدين فما الذي يقابله من المسلمين ؟!
وإلى متى نقف متفرجين، غير عابئين بالأخطار التي تهددنا من كل جانب.
وممَّا يزيد هذا الأمر خطورة:
أنَّ المسلمين اليوم قد تعلموا الكثيرَ من العلوم الطبية والهندسية والكيميائية، ولكن نسوا علماً مهماً جداً هو علم الهندسة البشرية، كيف نربي أولادنا وكيف نجعلهم يرتقون إلى حمل الرسالة الإلهية.(/4)
إن الحفاظ على الكائن البشري على قيد الحياة هو سهل جداً، هو فعل تفعله كل المخلوقات، لكن المشكلة الكبرى هي تحويل هذا العنصر البشري إلى عنصر فعال ونشيط.
إن مهمة الآباء والأبناء والأمهات تكاد تنحصر في هذا الزمن في المطعم والملبس، وإن كان هناك اهتمام فإنه يرضي غرور الأبوين،
ومما يزيد هذا الأمر خطورة:
أنَّ واقع أسرنا واقعٌ مأساوي في أغلبه إلا من رحم الله، "فالأب مشغول والأم في الأسواق" ( )، والأولاد لا يُعرف لهم طريق ولا اتجاه، وقد أوكلنا تربيتهم إلى الظروف....
إن الإسلام أكد أن الآباء يلعبون دوراً مهماً في التربية عندما قال (: ((.... فأبَواهُ يُهودانه أو يُمَجِسانه أو ينَصِرانه)) ( )، وهذا حثٌ للآباء على عدم ترك أولادهم ليتحكم الشارع والظروف في تربيتهم.
ناهيك عن الواقع المأساوي في العلاقة بين الزوجين والعلاقة بين الأب وابنه والأم وابنتها بالإضافة إلى العلاقات السيئة بين الحماة والكنة والعم والد الزوج أو الزوجة......
الشروط اللازمة للبدء بإصلاح الأسرة:
لا شك في أن كل واحد يريد لابنه أن يكون أحسن منه حالاً أو مثله على الأقل، لقد أثبت الله هذه العاطفة على لسان سيدنا إبراهيم: (قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي....( ( ).
في هذه اللحظات، لحظاتِ القرب من الله عزّ وجلّ لم ينسَ إبراهيمُ أولادَه وذريتَه. وكلمة ( إماماً ) هنا ليس معناها النبوة فقط على ما ذكره المفسرون وإنما الإمامة في الخير.... فهذه عاطفة متجذرة، لكن نريد لأولادنا أن يكونوا أفضل حالاً فأي إمامة نريد منهم، إمامة خير أم إمامة شر؟!
إن بيوتنا هي الملاذ الأخير لنا ولا سيما في زمن هذه الفتن التي شبهها ( بأنها "كقِطَعِ الليلِ المظلمِ يُمسي الإنسانُ مؤمناً ويصبح كافراً، ويُصبح مؤمناً ويمسي كافراً، يبيع دينه بِعَرضٍ من الدنيا"( ).
إنه في زمن الفتنة وجه ( إلى البيوت فقال: ((ولْيَسَعك بيتُك وابْكِ على خطيئَتِك)) ( ).
أما إذا كانت البيوت هي الفتنة وكان البيت يموج بالفتن المختلفة فأين يذهب الأبناء وأين تذهب الزوجات ؟
كيف الخروج ؟؟
هناك ثلاثة شروط رئيسة للانطلاق في موضوع إصلاح الأسرة:
1 ـ الاستعانة بالله عزّ وجل: (إياك نعبد وإياك نستعين(.
وكما يقول الرافعي:
فكلّ سهل إذا لم ... ... يوفق الله له صعب ( )
وما تكرار الاستعانة في اليوم أكثر من سبع عشرة مرة أثناء قراءة الفاتحة في الصلاة إلاَّ ليتعلم المسلمُ تَكرار الاستعانة بالله سبحانه، والاستعانُة ليست مجرد تكرار ألفاظ، إنما هي في حقيقة الأمر التوجهُ القلبيُ لما يريد أن يفعل، ثم مباشرة العمل الذي يريد بعد ذلك .
2 ـ التربيةُ بالقدوة:
قال تعالى: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ( ( ).
فلا يمكنك تحويل أسرتك إلى الخط الصحيح والمنهج السليم إذا ما زلت منحرفاً عن هذا الخط.
مهما دفعت ولدك إلى الصلاة في المسجد لن يؤثر ذلك فيه، وإنَّ اصطحابه مرةً واحدة أو رؤيتَه لكَ تدخل المسجدَ أفضلَ بكثير من كثير من النصائح.
ومهما دفعتَ ولدك إلى التوقف عن التدخين لن يؤثر ذلك فيه إلا إذا رأى ذلك فعلاً وتطبيقاً منك.
ومهما دفعت ولدك إلى الإقلاع عن مشاهدة البرامج المسيئة فلن يؤثر ذلك فيه إذا لم تقم أنت بالخطوة الأولى.
3 ـ "ليس البيت حلبة صراع لا بد أن ينتصر فيها أحد الطرفين" ( ) ويمشي برأي الزوج أو الزوجة أو الحماة أو والد الزوج أو الزوجة.
إنَّ أهم الأسباب الموفقةِ لحياة سعيدةٍ هو أن يُعلِّم الرجلُ زوجَه وأولادَه أنه يحب الحقَ واتباعَه حتى لو جاء على أي لسان وليس عنده في ذلك أدنى مشكلة .
إن ما سنذكره في الفصول القادمة بإذن الله ليس كيف نربي الأولاد بل كيف نربي الأسرة، فهو برنامج للأسرة كلَّها لتسيرَ على هدىً وبصيرةٍ وفهمٍ حقيقي لدين الله سبحانه وتعالى ولذلك أسميناه فقه الأسرة المسلمة.
إصلاحُ الزوجة
البيتُ مؤسسةٌ ضخمة، تحمل في طياتها مؤسساتٍ متعددة، فهي تحمل في محتواها مؤسسةَ التربية ومؤسسةَ التموين والطعام ومؤسسة العلاقات الاجتماعية ومؤسسةَ الترفيه....
وعلى رأس هذه المؤسسات كلها تكون الزوجة، وأي إصلاح للبيت لا يرافقه إصلاح للزوجة فليس له أي معنىً، وإصلاح الزوجة يعني إصلاح البيت. قال تعالى حكاية عن سيدنا زكريا: (وأصلحنا له زوجَه(( ) قال ابن عباس في تفسيره لهذه الآية كان في لسانها طول فأصلحه الله تعالى. وقيل جعلها ولوداً حسنةَ الخُلق ( ).(/5)
والزوج معني بشكل أساسي بإصلاح زوجته وتربيتها وتعليمها وترقيتها. ولهذا ورد الحديث الشريف عن عبد الرحمن بن عوف قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا صلَّتِ المرأةُ خمَََََْْسها وصامتْ شهرَها وحفظتْ فرْجها وأطاعتْ زوجَها قيل لها اُدْخلي الجنة من أي أبوابِ الجنةِ شئت"( )، وفي هذا الأمر بالإطاعة مسؤولية عظيمةً على الزوج ليأمرَها بما أمره الله تعالى فلا بد للزوج أن يشمِّر عن ساعديه لينْقذَ بيته من الدمار ويعيدَ إلى زوجته قوتها وقدرتها على تربية الجيل المنشود.
كيف يكون إصلاح الزوجة ؟؟
هناك خطوات عملية لهذا الإصلاح:
الخطوة الأولى:
الفهمُ الصحيح للآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي سلطت الأضواء على العلاقات الأسرية ومن هذه الأحاديث:
1 ـ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "استوصوا بالنِّساء فإن المرأةَ خُلقت من ضِلْعٍ وإن أعوج شيءٍ في الضلع أعْلاه فإن ذهبتَ تقيمه كسرتَه وإنْ تركته لم يزلْ أعوج فاستوصوا بالنِّساء" ( ).
حيث يظن بعض الناس أن هذا الحديث يحمل إشكاليةً تقول: "إن الإسلام يقول: إن المرأة خُلقت من ضلع أعوج فإن جئت لتقومه كسرته ومع ذلك فهو يطلب من الزوج إصلاح الزوجة ويقول إن تركته ظل معوجاً".
الحقيقة أنه لا إشكال في ذلك:
ذلك أن إصلاح الزوجة يعتمد على ثلاث نقاطٍ مهمة:
1 ـ الصبر: (وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها( ( ).
2 ـ الرفق: (إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ( ( ).
والرفقُ والصبر هما عماد الإصلاح في كل شيء، وإذا اجتمعا فإنهما يحققان الإصلاح بأحسن صوره.
3 ـ الفهمُ : أي فهم طبيعة المرأة وبم تفكر حيث أولوياتها تختلف عن أولويات الرجل، والرجل الحكيم هو الذي يوفق بين أولوياته وأولويات زوجته.
وهنا لابد للزوج أن يعرف نقطتين:
1 ـ أن فشل الرجل يبدأ عندما يبدأ يقلد المرأة، وفشل المرأة يبدأ عندما تبدأ تقلد الرجل.
2 ـ أن الأعمال الحياتية تقسم إلى قسمين:
* أمور تكون المرأة لها السيادة فيها ولها القرار فيها وعادة تكون هذه الأمور متعلقة بالمنْزل، كترتيبه، ووضع لمسات الجمال فيه، ومن ثَمَّ على الرجل ألا يتدخل في كل شاردة وواردة ويعكر هذا العالم الخاص بالمرأة.
* وأمور يكون القرارُ فيها للرجل مع الاحتفاظ لها بحق المشورة وإبداء الرأي ومعنى ذلك أن يترك للمرأة الحرية الكاملة في بعض الأمور لا سيما فيما يتعلق في شؤون بيتها وأمور أخرى يتولاها الرجل وبذلك نستطيع التوفيق في أمور الحياة.
فالإسلام لا يطلب من الرجل أن يغيِّر أولويات زوجته وطبيعة الأنوثة فيها، بل يريد منه ألاَّ يشدد على هذه الأولويات فيزيل هوية الأنوثة فيها أو يترك هذه الأولويات هي التي تسيره وتسيّر أسرته معها.
2 ـ الحديث الثاني عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يَفْرُك مؤمنٌ مؤمنة إنْ كَره منها خُلقاً رضيَ منها آخر" ( ).
ومعنى لا يفرك أي لا يكره وهو يدخل تحت الحديث الأول وهو أن المرأة قد يصدر منها ما يزعج الرجل فعليه ألا يكرهها وأن يخفف هذا الاعوجاج بترك بعض الأمور لها مع الحرص على المتابعة.
3 ـ وثمَّة آيةٌ قرآنية تتكلم عن مسؤولية الرجل في إصلاح زوجته وهذه الآية قوله تعالى: (وأمُرْ أهْلك بالصلاةِ واصْطَبر عليْها لا نسألُك رزقاً نحن نرْزقُك والعاقبةُ للتقوى( ( ).
فكثير من الناس ينشغل بالرزق وتأمينه لأهله وينسى مهمةً عظيمة وهي أمرهم بالصلاة وما هو ضروري لاستقامة الحياة على الوجهة الشرعية، وما ذكرت الصلاة إلا لأهميتها.
الخطوة الثانية:
العمل على رفع مستواها العلمي والتربوي:
وهذه مهمة أيضاً للزوجة، فكثير من الرجال يتزوج الفتاة ولا يريد أن يضيف إليها شيئاً مما يجب أن يضيفه، وهو يريدها مكتملةً وجاهزةً من عند أهلها، فتكونُ كما يريدها أن تكون دون أن يُسهم في بناء شخصيتها، وهو ليس على استعداد أن يقبل منها أي خطأ أو هفوة!!
فقبل أن يقف لها على هفواتها، عليه أن يعمل على تعليمها وتثقيفها وإعدادِها لتكونَ أمَّا وأي مهنةٍ أخطرُ من هذه المهنة؟!
فكثيرٌ من الرجال لا يجلس مع زوجته ليعلِّمها مع أن النبي عليه السلام قال: "خَيْرُكم خيرُكم لأهله"( ). وليس هذا في الخدمة والتعاون في المنْزل فقط بل أيضاً برفع المستوى الإيماني والعلمي والفكري للزوجة.
الخطوة الثالثة:
معاملتَها المعاملةَ التي تشعر فيها بالودِّ والرحمة الذي وصف الله بها الزواج في الإسلام حين قال: (ومنْ آياته أنْ خَلَقَ لكمْ منْ أنْفُسِكم أزواجاً لتسْكنوا إليها وجَعَلَ بينكم مودَّةً ورحمَةً إنَّ في ذلك لآياتٍ لقومٍ يتفكرون( ( ). وهذه أقصر الطرق للإصلاح ولا يخفى على المحسن أثر الإحسان في نفوس الناس.
الخطوة الرابعة:
إشعارها بكرامتها أمام أهلها وأهل الزوج خاصة، ولهذا أثره العميقُ في نفسها مما يجعلها أكثر تقبلاً للتغير نحو الأحسن والأفضل.(/6)
إنَّ هذه الخطواتِ الأربع وغيرها تدخل تحت كلمة واحدة ذكرها القرآن الكريم في سورة النساء وهي قوله تعالى: (فعِظُوهنَّ(، ففهمُ طبيعتها، ورفعُ مستواها ومعاملتُها المعاملة الحسنة كله يدخل في باب الوعظ والمعاملة الطيبة التي أمر الله سبحانه بها (فإمْساكٌ بمعرُوفٍ( ( ).
ومن الخطأ الكبير والجسيم أن يَعْمد الرجلُ إلى إصلاح زوجته بتسلسل مقلوبٍ عما ورد في الآية الكريمة، قال تعالى: (الرجالُ قوَّامونَ على النِّساءِ بما فضَّل اللهُ بعضَهم على بعضٍ وبما أنْفقُوا منْ أمْوالهم فالصَّالحاتُ قَانِتاتٌ حافِظاتٌ للغيبِ بما حفظَ اللهُ واللاتي تخافون نشوزهنَّ فعظوهنَّ واهجروهنَّ في المضاجع واضْربوهُنَّ فإن أطَعْنكم فلا تَبْغوا عليهنَّ سبيلاً إنَّ الله كانَ علياًّ كبيراً( ( ).
فيبدأ الزوج إصلاح زوجتِه هاجراً أو ضارباً وينْسى أنَّه لابد من المرور بالمرحلة الأولى والأساسية وهي مرحلة الوعظ والتوجيه وهذا الإصلاحُ المقلوبُ يؤدي إلى نفورٍ لا يمكن لَمْلَمتُه وإلى كسرٍ لا يمكن جَبْرُه.
إصلاحُ الزوج
الزوج عمادُ الأسرة، وأساسُ استقرارها وهنائها، ومنبعُ التفاؤل والأمل فيها، وأي كلام عن إصلاح الأسرة لا يكون الزوج طرفاً فيه فهو كباسط كفَّيْه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه فلن تبلغ الأسرة شأوْها في الاستقرار والصلاحِ إذا كان الأب بعيداً كل البعد عن منهج الإصلاح ومقوماته.
قدْ يطرأ ما يعكر صفوَ الحياة الزوجية، ويَطيح باستقرارها، ويَهدم المودَّة الربانية التي سكبَها الله سبحانه بين الزوجين، فيتحول المنْزل إلى كابوسٍ نتيجة تصرفات شيطانية وعشوائية من ربِّ الأسرة، حيث تُصعق الزوجةُ والأولاد بكثير من هذه التصرفات التي تهز مشاعرهم وتسلب السكينة من قلوبهم، وتحيل حياتهم إلى ذهولٍ واضْطراب، بدلاً من أن تتحول إلى مودة واستقرار.
وانطلاقاً من حرص الإسلام على الأسرة واستقرارها فقد جعل للمرأة سبلاً مختلفة لإصلاح الزوج وردِّه إلى الأسرة الهانئة، والحياة الرغيدة، والمسؤولية الجسيمة الملقاة على عاتقه.
قال تعالى: (وإنْ امرأةٌ خافتْ منْ بعلِها نشوزاً أو إعراضاً فلا جُناحَ عليهما أنْ يُصلحا بينهما صُلحاً والصُلحُ خيرٌ وأحضرتِ الأنفسُ الشحَّ وإنْ تُحسنوا وتَتقوا فإنَّ اللهَ كان بما تعملونَ خبيراً(( ).
قال القرطبي رحمه الله: النشوز: التباعد، والإعراض: ألاَّ يكلمها ولا يأنس بها.
".... في هذه الآية يُنظّم القرآن حالةَ النشوز حين يخشى وقوعُها من ناحية الزوجِ فتهدد أمنَ المرأة وكرامَتها، وأمنَ الأسرة كلِّها كذلك. إنَّ القلوبَ تتقلبُ والمشاعرُ تتغيَّر والإسلامُ منهج حياة يعالج كل جزئيةٍ فيها ويتعرضُ لكل ما يعرضُ لها" ( ).
إنَّ الإسلام جعل كل أطرافِ البيت يتحملون مسؤوليةً تجاه استقرار البيت وهدوئه وطُمأنينته، فحمَّل الزوجَ المسؤولية تجاه إصلاح بيته وإصلاح زوجِه، وبالمقابل حمَّل الزوجةَ مسؤوليةَ حماية بيتها ورعايته ومسؤوليةَ إصلاحِ زوجها ورعايته، فكانت هذه المسؤولياتُ الملقاة على عاتق كل واحد حزام أمانٍ للأسرة حتى لا ينفرط عقْدها، ولا ينتَثِر وُدُّها.
وإنَّ السنة النبوية الشارحةُ للقرآن والمبينةُ له وضحت كثيراً من المفاصل الأخرى في هذه المسؤوليات.
وفي حالتنا هذه وهي حال إعراضِ الزوج ونفورِه، وقسوةِ قلبه ونشوزِه، سمحِ الإسلام للمرأة أن تتَدخل لتعالج الموقف وتردَّ الزوج إلى العيش الرغيد والبيت السعيد وأنْ تستخدم بعضَ الطرق المختلفة والمتنوعة حسب أحوال الناس ومعيشتهم.
كيف يكون إصلاح الزوج؟؟
1 ـ الحوار بالتي هي أحسن: من المشكلات التي تعاني منها الأسر اليوم قِلة طرق الحوارِ بين الزوجين، وهي دائماً مقطوعة، أو سالكةٌ بصعوبة، وهي لا تكون إلا في حالات محدودة ومعدودة.
إنَّ حكمة المرأة للمحافظة على بيتها تقتضي منها تذليل الصعوبات في هذه الطرق الحوارية، وجعلها أمراً طبيعياً في الحياة الزوجية، وتجنب المشاكسة والمعاندة فهي من أسباب زيادة الهُوة بين الزوجين "إن المشاكسة مرض عاطفي هدام ولكن علاجه ممكن ميسور" ( ).
2 ـ التفاني في خدمته: وهو أمر مطلوب شرعاً في الحالات العادية، وهو مطلوب أكثر في مثل هذه الحالات لأنه أقرب إلى تقبل الزوج وأسرع إلى الدخول إلى قلبه، وأوثقُ للعلاقة الزوجية.
والآياتُ والأحاديث أكثر من أن تحصى في وجوب طاعة الزوجة لزوجها. والأهمُّ من ذلك، لا بد أن يَعلم الرجل أن من أسبابِ السعادة المرأة، ومن أسباب الشقاء كذلك المرأة، فلا بد أن تُظْهر المرأةُ لزوجها أسبابَ السعادة والهناء "منْ سعادةِ ابن آدمَ ثلاثةٌ ومنْ شِقوةِ ابْنِ آدمَ ثلاثةٌ منْ سعادةِ ابنِ آدمَ المرأةُ الصالحةُ والمسكنُ الصالِحُ والمركبُ الصَّالح ومنْ شِقوة ابن آدم المرأةُ السوءُ والمسكنُ السوءُ والمركب السوءُ"( ).(/7)
فلا بد أن يلْحظ الزوج أهميةَ الزوجة الصالحة في البيت وأنها من أهم أسباب الحياة السعيدة ولا يكون ذلك إلا بالتفاني في خدمته وخدمة بيته.
3 ـ تَدَخُّلُ والدِ الزوجة: وفي حال عدم نجاح الممارسات المختلفة والمتنوعة فإنَّه لابد من خطوةٍ أخرى تكون أثْقل وأقوى في نفس الزوج وهي تدخل والد الزوجة الصالح. ونشدد على كلمة الصالح الذي يكون أكبر اهتمامه هو المحافظة على حياة ابنته وأسرتها، ويسعى دوماً إلى تخفيفِ حدة التوتر بين ابنته وزوجِها بحكمة وعقلانية.
وهذا ما حصل للسيدة فاطمة مع علي رضي الله عنهما فقد روى البخاري ومسلم عن سهل بن سعد قال جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بيتَ فاطمة فلم يجد علياً في البيت فقال : أيَّن ابنُ عمِّكِ؟ قالت كان بيني وبينه شيء فغاضبني فخرج فلم يَقِلْ عندي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لإنسان انظر أين هو فجاء فقال يا رسول الله هو في المسجد راقدٌ، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مضطجع قد سقط رداؤه عن شقه وأصابه ترابٌ فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسحُه عنه ويقول: "قُمْ أَبا تُرَابٍ قُمْ أبَا تُرَاب".
ووالد الزوجة هنا صاحب قلبٍ كبيرٍ، ووعيٍ ناضجٍ، ولسانٍ كالعسل، ودُعابةٍ لطيفةٍ تَتَسرب إلى القلب لتزيلَ منه ما كان من غضبٍ ونفورٍ.
4 ـ تدخُّل الأصدقاء الصالحين: الأصدقاءُ الصالحون ليسوا أقل تأثيراً في نفوس الزوج ولاسيما إذا كانوا أصحاب مكانة عند الزوج، وكانوا أصحاب علمٍ وأمانة، وكلامهم له تأثير في نفسه وتصرفاته.
فقد روى البخاري والترمذي أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم آخى بين سلمان وبين أبي الدرداء فزار سلمان أبا الدرداء فرأى أم الدرداء متبذلّة ـ وذلك قبل نزول الحجاب ـ فقال ما شأنكِ مُتبذلةً ؟ قالت : إنَّ أخاك أبا الدرداء ليس له حاجة في الدنيا، فلما جاء أبو الدرداء ليقومَ قال له سلمان : نمْ فنام ثم ذهب يقوم فقال له: نمْ فنامَ فلما كان الصبح قال له سلمان: قمْ الآن فقاما فصليا فقال : إنَّ لنفسك عليك حقاً ولربك عليك حقاً ولضيْفك عليك حقاً وإنَّ لأهلك عليك حقاً فأعطِ كلَّ ذي حقٍ حقَّه فأتيا النبي صلى الله عليه وسلم فذكرا ذلك فقال له: صدق سلمان.
5 ـ تدخُّل الأقارب الصالحين:
وربما تكون هذه في مراحلَ متقدمةٍ من الشقاق، قال تعالى: (وإنْ خِفتمْ شِقاقَ بَيْنِهما فابْعثُوا حَكماً منْ أهْله وحَكماً منْ أهلها إنْ يُريدا إصْلاحاً يُوفقِ اللهُ بينهما إنَّ اللهَ كانَ عليماً خبيراً(( ).
ومع ذلك فهي إحدى الوسائل المهمةِ والناجعةِ والناجحةِ في إعادة شرْيان الحياة إلى الحياة الزوجية، فتنفضُ عنها الغبار، وتزيل عنها ما لحقها من أدْران الجاهلية حيث يبين الحكمان الحقوق والواجبات لكلا الطرفين.
إن تقصير الزوجة في متابعة أخطاء زوجها، ومحاولة تصحيحها، والتقليل منها، وإهمالها في ذلك ليولِّد الكثيرَ من المشكلات التي يكون البيت في غنى عنها، منها:
1 ـ نشوز الزوج وإعراضه ونفوره.
2 ـ انقطاع الحوار والتفاهم بين الزوجين (الطلاق النفسي).
3 ـ ضياع الأولاد بين الأبوين المتنافرين.
4 ـ انهدامُ الرابطة الزوجية.
إشاعة ثقافة العفَّة في البيت
يقول ابن القيم "رحمه الله": إنَّ أعداءَ الدِّين يُحاربون المسلمين بسلاحين:
سلاحُ الشهواتِ لإفسادِ سُلوكهم , وسلاحُ الشبهات لإفساد عقولهم ( ). انتهى كلام ابن القيم
وربَّما يكون استخدام سلاح أكثر من سلاح آخر.... في فترة محددة أقوى وأكبر.
فقد كان سلاح الشبهات فيما مضى قوياً، فكانوا تارة يشككُّون في القرآن وتارة يشكِّكون في أحكام الإسلام.... ويستأجرون بعض الأشخاص ليبثوا بين أفراد المسلمين شبهات بوسائلَ متعددة.
ولكن اليوم استخدموا سلاحاً آخر هو سلاح الشَّهوات، وجندوا أغلب قوتهم من أجل ذلك، وساعدهم غفلة المسلمين عن خطورتها وميل النفسِ الإنسانية إليها.
إنَّ من أهمِ صفات المجتمع المسلم أنه مجتمع لا تطفو الشهوة على سطحه أبداً، بل هي شهوةٌ موجهةٌ ومرتبة ومحاطة بهالةٍ عظيمة من الآيات والنصوص والأوامر والنواهي، تسير في طريق مضبوطةٍ لا تحيد عنها قيدَ أنملة، وإنْ حادت فإنها تُقَّوم وتُعاد إلى ما كانت عليه أول مرة.
وإنَّ من يحاول أن يجعل الشهوة طافيةً على سطح المجتمع يريد لهذا المجتمع أن يميلَ عن صوابه ورشْده، ويريد أن يخلع من قلوب المسلمين العفَّة والطهارةَ والحياء. فالشهوةُ الطافيةُ على سطح المجتمع سيلٌ جارفٌ يطيح بكل لبنة توضع لإصلاح المجتمع وتحصينه.
ومرة أخطأ الفضل بن عباس فجعل ينظر إلى امرأة وضيئةِ الوجه.... فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يصرف وجهه عنها ويميله إلى الوجه الآخر.(/8)
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان الفضل بن عباس رَديف رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءت امرأةٌ من خَثْعم، فجعل الفضلُ ينظر إليها وتنظر إليه، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم يصرف وجه الفضلِ إلى الشق الآخر. فقالت يا رسول الله إنَّ فريضة الله على عباده في الحج، أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يثبت على الراحلة أفأحج عنه قال نعم وذلك في حجة الوداع( ).
وإذا كنا نتكلم عن الأسرة المسلمة وهي جزء من المجتمع المسلم فكذلك تكون الشهوةُ في البيت شهوةً مضبوطة وموجهةً ومهذبة ومرتبة، لا تكون شهوةً عشوائية يسمح لها أن تنمو دون تهذيب. لذلك وجه الإسلام المسلمين إلى ضبط أمور الشهوة في بيوتهم وهو أمر مهم جداً لأن فورة الشهوة له من الآثار السلبية الشيء الكثير.
ـ ومن هذه الضوابط:
1 ـ تعليم الأولاد الاستئذان إذا أرادوا الدخول على آبائهم في غرفهم الخاصة....
قال تعالى: (يا أيَّها الذينَ آمنوا لِيَستأذِنَكمُ الَّذينَ ملكتْ أيمانُكم والَّذين لمْ يَبْلُغوا الحُلُم منْكم ثَلاثَ مراتٍ منْ قَبلِ صلاةِ الفجرِ وحينَ تَضَعُونَ ثيابَكمْ مِنَ الظَّهيرةِ ومِنْ بَعْدِ صلاةِ العِشاء ( ( ).
ولنسأل أنفسنا لماذا يتكلم الله بجلاله في قرآنه العظيم عن هذه الأمور ؟
إنها الضوابط الإسلامية في مجال الأسرة حيث أنَّ هذه الأوقات هي أوقات راحة، فيخشى أن يطلع الولد أو البنت على ما لا يرضى أن يطلع عليه فتؤثر في ذلك أبلغ التأثير "وهو أدبٌ قد يغفل عنه الكثيرون في حياتهم المنْزلية مستهينين بآثاره النفسية والعصبية والخلقية ظانِّين أن الصغار قبلَ البلوغ لا ينتبهون إلى هذه المظاهر بينما يقرر النفسيون اليوم أنَّ بعضَ المشاهدِ التي تقع عليها أنظار الأطفال في صغرهم هي التي تؤثر في حياتهم كلها، وقد تصيبهم بأمراض نفسية وعصبيةٍ يَصعبُ شِفاؤهم منها " ( ).
2 ـ التفريق بين الأولاد في المضاجع لحديث "وفرقوا بينهم في المضاجع" ( ). لأنَّ النمو الجنسي يبدأ في هذا العمر فلا بد أن نوقف كل محفزٍ له حتى ينمو بشكل صحيح "ولأن الأيام أيام مراهقة فلا بد أن يفضيَ النومُ في سرير واحدٍ إلى شهوة، فلا بدَّ من سدِّ سبيل الفساد قبل الوقوع" ( ).
3 ـ تعلم الأولاد النوم على شقهم الأيمن وعدم النوم على بطونهم لأن ذلك أيضاً مثير. وهو يزيد عندهم المهيجات الجنسية.
إنَّ هذه الضوابط وغيرها في الإسلام.... هي للتخفيف من الشهوات في البيت المسلم، من أجل أن يعيش البيت المسلم سعيداً ينمو نمواً سليماً ويوجه توجيهاً سليماً.
إنَّ من الغريبِ جداً أن لا يتنبه الآباء والأمهات إلى هذا الموضوع، ويتناسَوْنه ويتجاهلونه ويخجلُون منه. والغريبُ جداً أنَّ الآباء يُشجعون الشهواتِ عند أولادهم ويُسهلونها لهم ولا يقومون بضبط الفضائيات المختلفة....
وقد أكد استبيانٌ أجرته "مجلة ولدي" أن 98% من الأبناء يتابعون "الفيديو كليب" بشغف!
وربما سهر بعضُ الآباء مع أبنائهم ليروا مسلسلاتٍ وأفلاماً وحفلاتٍ غنائية فيها مثيرات للشهوة فما شعور الأب وهو يحفز ولده على الشهوة. وما شعور الأم وهي تحفز ابنتها على الشهوة.. وهي بقربها.؟!
"والنتيجةُ أنَّه يصعب على أي شخص مشاهدةَ أغنيةٍ مصورةٍ مع أسرته وأولاده دون أن يحمَّر وجهه خجلاً.... والسبب ببساطة أنَّنا نشاهد في هذه الأغنياتِ كلَّ ما لا يَمُتُّ إلى الغناء بصلة، وأصبحنا بصدد مشاهدةِ ((فتياتِ ليلٍ)) يحشُدْن كلَّ ((أسلحة دمارهنَّ الشامل)) للإيقاع بالمراهقين مستخدمات آخر ما توصل إليه العلم من ((سيليكون)) وخلافه!" ( ).
إنَّ هذه التربية الخاطئة ولا تشكل إلا فتاة مضطربةً وشاباً مشوها.... يريد أن ينعتقَ مما فيه من الضوابط، ويُضمرُ أشياء في نفسه يريد أن يظهرها في مكان ما وفي وقت ما....
"ولقد منع أحد الآباء ابنه من مشاهدة برنامج معه في أحد الصور الخليعة، مع الحفاظ للأب بحق المشاهدة.. فسأل الطفل عن ذلك فكان جوابه: إنَّ الأطفال لا يشاهدون مثل هذه الأمور لكن فقط للكبار"( ).
ما هذه المعايير ؟
أتحرمُ تلك المشاهدة على الصغار وهي حِلٌّ للكبار ينظرون إليها كيف يشاؤون؟!
أليس الأجدر أن نتقيَ الله تعالى فلا نسمح لأنفسنا بالنظر إلى ما حرم الله، ونكون في ذلك أيضاً قدوة لأولادنا فنكسب الأجرين معاً؟!
وينشأ ناشئ الفتيان منَّا على ما كان عوّده أبوه
... أليس الأجدر أن نخجلَ من ذنوبنا عندما نرى أولادنا وهم يحملون البراءة في أعينهم، ونحن نخفي عنهم معاصينا.
وتخجلُ منْ ناظريكّ ذنوبي فأنتَ لكبرى الذنوب متابُ( )
لابد لنا أن نخفف محفزات الشهوة في بيوتنا إلى أدنى درجة ممكنة، إذا كنا نريد حقاً أن نحفظ أبناءنا من السيل العارم للشهوات، وبذلك ننال سعادةَ الدارين، ونستعيدُ توازن أسرنا ونشيع بذلك ثقافة العفة التي أمر الله بها.
إن فوائد تخفيف محفزات الشهوة في البيت تكمن في:
1 ـ تخفيف الاضطراب النفسي.
2 ـ الابتعاد عن الفواحش.
3 ـ التماسك الأسري.(/9)
إشاعة ثقافة الشورى في البيت
إنَّ من أهم الصفات التي يتصف بها المجتمع المسلم أنَّ أمورَه الصغيرةَ والكبيرةَ التي تتعلق بمصالحه، وتؤثر في اتجاهاته، تعتمدُ على قرارٍ جماعي، وتعتمد على ما سماه القرآن الكريم الشورى، قال تعالى: (وشاوِرْهم في الأمْر( ( ). وقال: (وأمْرُهم شُورى بَيْنهم( ( ).
وكانت هذه هي صفة المجتمع المسلم في العصور الأولى فكان النبي لا يفعل أمراً يهم المجتمع إلا و يشاور فيه صحابته الكرام، فقد شاورَهم في الخروج إلى بدر أو عدم الخروج (مقاتلة الأعداء)، وشاورهم في غزوة أحد.
وكذلك شاورَهم في حادثة الإفك فوقف خطيباً على المنبر ثم قال: " منْ يعذرني في رجلٍ ذكرَ أهلي بسوء " وقد جاء في الترمذي: "ما رأيتُ أحداً أشدَّ مشورةً لأصحابه من محمد". وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يؤكدون هذا الأمر بتصرفاتهم.
لقد أنقذتْ امرأةٌ واحدة المسلمين في لحظة كان الصحابة متجهين فيها نحو الكعبة المشرفة فمنعتهم قريش ووقع النبي صلح الحديبية. أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أنْ يتحللوا فلم يتحرك واحد منهم لتنفيذ هذا الأمر، فدخل النبي على أم سلمة فقال لها: "هَلَكَ النَّاسُ"، فأشارت عليه أنْ اخرج ولا تكلم أحداً ثم ادْعُ حلاقك ففعل عليه الصلاة والسلام ذلك فبادر الصحابة إلى تنفيذ أوامره والاقتداء به عليه السلام( ).
إنَّ هذا المثالَ الحيَّ يُعلمنا كيف كان النبي عليه السلام يستشيرُ نساءه في كثير من الأمور حتى لو كانت أموراً متعلقة بشؤون الأمة وليست في شؤون الأسرة فقط.
إنَّ اختيار ثقافة الشورى في الأسرة ليجعلُ الأسرة أقرب إلى الحق وأبعد عن الخطأ كما قال الحسن بن علي رضي الله عنهما: ما تشاورَ قومٌ قط إلا هُدوا إلى أرشَد أمورهم.
وكما قلنا سابقاً (في الشروط اللازمة لإصلاح الأسرة) ليس المهم أن يكون الحق على لساني المهم أن أتبعه ولو أتى على أي لسان من أهلي أو غيرهم. وبذلك يقول الشافعي رحمه الله: ما ناظرت أحداً إلا وتمنَّيتُ أن يجريَ الله الحق على لسانه.
إنَّ كثيراً من الآباء ليتصرفون تصرفاً غير إسلامي في هذا الموضوع مع أسرتهم فترى أحدهم يأخذ قراراتٍ كثيرةً تهم الأسرة كلها دون أن يعلموا بهذا الأمر، فتارة يبيع البيت أو يبيع المحل أو يزوِّج ابنته أو ما شابه ذلك والأسرة آخر من يعلم، ومن ثمَّ فإن كثيراً من الأسر تفشل في علاقاتها بسبب عدم التحاور أو التناقش في هذه الأمور.
"كما أكدت الدراسات العلمية أن أكثر من 80% من مشكلات المراهقين في عالمنا العربي نتيجة مباشرة لمحاولة أولياء الأمور تسيير أولادهم بموجب آرائهم وعاداتهم وتقاليد مجتمعاتهم، ومن ثم يحجم الأبناء، عن الحوار مع أهلهم، لأنهم يعتقدون أنَّ الآباء إما أنهم لا يهمهم أن يعرفوا مشكلاتهم، أو أنهم لا يستطيعون فهمها أو حلها"( ).
إن دكتاتورية الأب لا تولِّد إلا شاباً مشوهاً أو فتاة مهتزة، وتصبح اهتمامات هذا الشاب وهذه الفتاة التخلص من هذا الواقع، لذلك نرى مثلاً أن أول شاب يتقدم إلى الفتاة تقبل به حتى لو كان غير مناسب لتتخلص من ديكتاتورية والدها.
إنَّ الشورى الأسرية لا تنقص من مكانة الرجل بل بالعكس ترفعه في أعين أولاده وتزيد هيبته ومحبته وتهديه معهم إلى سواء الصراط.
ـ إنَّ الفوائد التي نجنيها من هذه الشورى الأسرية كثيرة ومتنوعة نجمل بعضها فيما يلي:
1 ـ الالتزامُ بمنهج الله في شؤون الحياة.
2 ـ القدرةُ على الحوار وتقبل الآخرين: "وتذكر أن المحاورة مع طفلك يعلمه الطلاقةَ في الكلام ويساعدُه على ترتيب أفكاره ويُنمي شخصيته ويزيدُه قرباً منك" ( ).
فكثير من الأولاد والنساء إذا جلسوا مجلساً لا يستطيعون إبداء آرائهم لأنهم لم يتعودوا هذا في بيوتهم، وكثير منهم لا يتقبلون الآخرين لأنهم لم يتعودوا هذا في بيوتهم أيضاً....
وهذا خطير على نشأة الأولاد وعلى مستقبلهم واندماجهم في الحياة.
3 ـ تفتق المواهب: إنَّ عمليةَ التفكير صعبةٌ ولكن عندما يُسأل الإنسان يبدأ بجمع الخيوط لينسج حلاً وربما يكون حلاً متميزاً.
4 ـ الابتعاد عن الخطأ.
5 ـ إذا وقعَ الخطأ بعد المشورة يتحمل الجميع الخطأ ولا يتهم أحد بالتقصير.
إشاعة ثقافة الرفق في البيوت
عندما ندخل إلى بيت النبي (، ونرى طريقة معاملته مع زوجاته وأسرته نجد هناك ثقافة أساسية في حياته ومحوراً أساسياً في حياته وهي ثقافة الرفق.... فقد وردت أحاديث كثيرة في فضل الرفق، منها:
((إنَّ اللهَ رفيقٌ يحبُ الرِّفقَ ويُعطي على الرفْقِ ما لا يعطي على العُنْف)) ( ).
((إنَّ الرفقَ لا يكونُ في شيءٍ إلاَّ زانَه ولا يُنَْزعُ منْ شيءٍ إلاَّ شانَه)) ( ).
قال البخاري: ((الرفق هو لينِ الجانب بالقول والفعل)) وهو ضد العنف.
ملاحظة مهمة:
ومن الملاحظ أن أغلب أحاديث الرفق ترويها السيدةُ عائشة، وفي هذا إشارة إلى إشاعة ثقافة الرفق بين أطراف الأسرة جميعاً وهم الزوج والزوجة والأولاد....(/10)
إنَّ هذا الرفقَ والأخذَ بلين الجانب في الأسرة لا يخدشُ رجولة الرجل ولا يحطُّ من قيمته بل بالعكس إنَّه يرفع مكانته ويضعه في مكان العفو القادر.
لكن كثيراً من الرجال يفهمون الرفق فهماً خاطئاً ويظنُّون أنَّ الرفق في الحياة الزوجية عبارة عن ذلٍ وانكسار وخضوع للمرأة....
فترى أحدهم خارجَ البيت أكثرَ الناس حواراً ونقاشاً، وتراه خارج البيت أكثر ضحكاً وابتساماً، وأكثر حركة وحيوية.
ثم إذا دخل بيته كان أقلَّ الناس حواراً، وأكثرهم عبوساً وتقطيباً، وأثقلهم حركة ونشاطاً.
"ومن أهمِّ صفاتِ المجتمعِ المسلم هو أنَّه مجتمع يحلُّ مشكلاته عن طريق التفاهم"( ).
وهذه صفة ملازمة للمجتمع المسلم فلا يمكن بحال من الأحوال أن تنفك عنه، ويجب أن تكون ملازمة للأسرة المسلمة لأنها اللبنة الأولى فيه.
لكن كثيراً من الرجال يلجؤون إلى حل مشكلاتهم الزوجية عن طريق العنف، مع أنَّ الإسلام أكد على الرفق ونهى عن ضرب الزوجات ومعاملتهن بقسوة، وصرح أنَّ شرار الأزواج هم الذين يضربون زوجاتهم.
"لقدْ طافَ بآل محمَّدٍ نساءٌ كثير يَشْتكيْنَ أزواجَهن (أي من الضرب) ليس أولئك بخيارِكم" ( ).
وكثير من الرجال يحاولون أن يسدوا ثغرة ضعفهم في البيت وطريقة إقناعهم عن طريق القوة العضلية.
حيث بينت دراسة في إحدى الدول العربية "أن 88% من النساء يتعرضن للضرب من أزواجهم"( ).
وتتعدد الأسباب التي تجعل الرجل يستخدم قوته العضلية:
"السبب الأول: الطبيعة غير السوية عند بعض الرجال بسبب العقد النفسية الكامنة في الصغر أو القهر والضغوط النفسية في العمل فيجد في ضرب الزوجة متنفساً
السبب الثاني: فهم مغلوط للرجولة إذ تعني عند البعض أن يكون الرجل شديداً حازماً لأنَّ المرأة عندهم إنما تحترم الزوج الذي يضربُ لا الزوج المتسامحُ الطيب"( ).
إنَّ الرجل الذي يستعمل عضلاته في منع زوجته أو أولاده من أمر معين هو إنسان ضعيف، وعليه أن يعيد ترتيب حياته، ويبحث جيداً في طريقة أخرى "لابد أن نعلم أن القيادة ليست رفع صوت أو شتائم أو قسوة إنما القيادة أخلاقٌ ومن يقود بالطريقة الأولى فليعلم أنه منبوذ ولن يستمر طويلاً" ( ).
فإنَّك إن أردت شيئاً من زوجتك أو أبنائك فإن الطريقة المثلى هي المعاملة برفق.
وقد دلَّت الدراسات أن الأسر التي تتعامل بالرفق هي أكثر تماسكاً، بينما تزداد نسبة الطلاق من الرجال الذين يحاولون أن يحلوا مشكلاتهم بالقوة....
إنَّ إشاعة ثقافة الرفق أمرٌ مهمٌ في حياة كل مسلم لأنَّ لها فوائد عديدة :
1 ـ تستطيع أن تحصل على ما تريد من زوجتك وأولادك بالرفق.
2 ـ يعلمك الصبر لأن الله أمر بالصبر على الزوجة والاصطبار عليها.
3 ـ زيادة العلاقة بين أفراد الأسرة وزيادة الترابط الأسري فالكل يعلم أن القلوب حوله لها حنان خاص.
4 ـ لا يخاف الأولاد من بعض التقصير أو الأخطاء فيصارحون الآباء لعلمهم أن معاملة أبنائهم لن تكون إلا بالرفق والحنان.
إشاعة ثقافة المصارحة في البيوت
إنَّ من أكبر الميزاتِ التي امتاز بها الإسلام عن بقية الشرائع السماوية هي الوضوحُ في كل شيء، فلا يوجد في الإسلام شيء غامض ولا يوجد في الإسلام معلوماتٌ محجوبةٌ عن مجموعة وهي مسموحة لمجموعة أخرى، فلا ضبابية في الإسلام، وإنما الصفة الملازمة للإسلام هي وضوح الرؤية في كل شيء.
فالمسلم واضح في علاقاته كلِّها....
فعلاقته مع ربه علاقة عبودية.
... وعلاقته مع نبيّه علاقة محبة واتباع
... وعلاقته مع المسلمين علاقة أخوة
... وعلاقته مع أسرته علاقة رعاية وإنفاق وإشراف
... وعلاقته مع أهل الكتاب علاقة تعايش....
وليس هنالك أوضح من قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ(( ). واستدل العلماء بهذه الآية أن النبي بلغ كل ما أنزل إليه.
وإذا كان الوضوح هو الصفةُ الملازمة للإسلام فكذلك يجب أنْ يكون الوضوح والمصارحة هو الصفة الملازمة للأسرة التي هي نواة المجتمع المسلم....
إنَّ كثيراً من الناس يبنون حياتهم على الغموض، فتفاجأ الزوجة أو يفاجأ الزوج بأمور لم تكن بالحسبان، ومن ثمَّ تحصل المشكلات نتيجة لذلك. ولقد أعطانا القرآن الكريم مثلاً راقياً جداً في المصارحة، وهذا المثال الرائع قد نمرُّ عليه في القرآن الكريم دون أن نقف على دلالته وعلى أهميته لا سيما في هذه الحياة الصعبة....
وذلك في قصة موسى عليه السلام مع إحدى ابنتي الرجل الصالح عندما قالتْ هذه الفتاة، في قوله تعالى: (يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ القَوِيَّ الأَمِينُ(( ). ماذا كان جوابُ الأب؟؟
"استجاب الشيخ لاقتراح ابنته ولعله أحس من نفس الفتاة ونفس موسى ثقة متبادلة وميلاً فطرياً سليماً" ( ).
فبادر الأب بقوله، في قوله تعالى: (قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ(( ).(/11)
إنَّ هذا مثالٌ واضح على الصراحة والمصارحة، فالفتاة لم تُخفِ إعجابها بموسى عليه السلام، والأب فهم من هذه المصارحة أن الفتاة أعجبت بموسى بأمانته وقوته، ولم تكن المصارحة حرجاً على الطرفين ما دامت مضبوطة بضوابط الإسلام العامة.
"وهكذا في بساطة وصراحة عَرََض الرجل إحدى ابنتيه،.... عرضها في غير حرج ولا التواء، فهو يعرض نكاحاً لا يخجل منه، يعرض بناء أسرةٍ وإقامة بيت وليس في هذا ما يخجل ولا ما يدعو إلى التحرج والتردد والإيماء من بعيد والتصنع والتكلف مما يشاهد في البيئة التي تنحرف عن سواء الفطرة وتخضع لتقاليد مصطنع باطلة سخيفة" ( ).
"وبمثل هذه البساطة والوضاءة سار المجتمع المسلم يبني بيوته ويقيم كيانه في غير ما تلعثمٍ ولا جمجمة ولا تصنع ولا التواء" ( ).
إنها أعلى درجات المصارحة، وعندما يضرب الإسلام أعلى الدرجات في المصارحة، فيعني هذا أن أدنى الدرجات أولى بذلك.
فكثير من المسلمين لا يتصارحون في أدنى الأمور في البيت، لذلك تجد أنَّ أصدقاء الأولاد يعرفون عن الأولاد أكثر من آبائهم، وصديقات الزوجة يعلمْنَ عن الزوجة أكثر من زوجها، وصديقات البنات يعرفْن عن البنات أكثر من أمهاتهن.
إنَّ الخطوة الأولى في المصارحة تكون من الآباء لا من الأبناء، فالولد والبنت لا يستطيعان أن يصارحا الأبَ أو الأمَّ في بداية الأمر، فلا بد من أن تكون الخطوة الأولى من الوالدين في البيت حتى يتعود الأولاد المصارحة.
"ولا تتولد مثلُ هذه المصارحة إلا من خلال تربية من الوالد، ومن خلال جهودِ الوالد من خلال تشجيعِ الفتى على طرح المشكلات" ( ).
إنَّ للمصارحة في البيت فوائد عديدة :
1 ـ الجرأةُ والقدرةُ على الحوار: فكم من شاب نشأ وصار في مصافِّ الرجال وهو لا يستطيع أن يتكلم ولا يعرف كيف يتكلم، فالمصارحة تجعل الشاب يميل إلى الجرأة والدفاع عن فكرته وما يريد.
2 ـ القدرةُ على تمييز الخطأ من الصواب: فبالمصارحة تطرح الأمور على بساط البحث ومن ثم يميز الخطأ من الصواب.
3 ـ زيادة الثقة بين الآباء والأبناء.
4 ـ زيادة الترابط الأسري.
أدب الاختلاف ضمانة لأسرة متماسكة
يشكو كثيرٌ من الآباء الشِجار المتكرر بين أولادهم، وأنه ما إن يخرج من البيت حتى يسمعَ صوت أولاده قد وصل إلى الشارع ويسمع صوتَ زوجته وهي تصيح عليهم، وربما يرى الشجار بينهم بأم عينه فلا يعلم كيف يوفق بينهم وكيف يجمعهم وكيف يزيل الشقاق بينهم؟!
إنَّ هذا الشجار الذي يقع في البيت المسلم صورة مصغرة لما يقع في المجتمع المسلم بين الأفراد وبين الدول.
فإذا كان الله قد وصف المؤمنين بأنهم إخوة فقال تعالى: (إنَّما المؤمنونَ إخوةٌ فأصْلحوا بينَ أخويْكم واتقوا اللهَ لعلكُم تُرحمون( ( ).
فهذا يعني أنهم يعيشون في بيت واحد لكنه كبير بعض الشيء وهو المجتمع بأكمله، ومع هذا الوصف الذي وصفه الله للمؤمنين بأنهم إخوة فإنَّ كثيراً منهم لم يحققوا هذه الأخوة على واقع الأرض بل استبدلوا بها حقداً وحسداً حتى صار شعار العالم الإسلامي:
نقذِف نشتمُ نتشاجرْ
نحسُد نبغضُ نتفاخرْ
وكلٌ منا يتهم الآخرْ ( ).
إنَّ المشاجرة بين الأبناء في البيت الواحد مشكلة كبيرة جداً قد تؤدي في بعض الأحيان إلى التفكير السلبي بأن يؤذي الأخ أخاه ويكيد له كيداً وقد ذكر الله سبحانه وتعالى كيف كاد أخوةُ يوسف لأخيهم حتى أنهم باشروا العمل وألقوه في غياهب الجبِّ، قال تعالى:
(فلمَّا ذَهبُوا به وأجْمَعُوا أنْ يجْعلوهُ فيْ غَيابةِ الجبِّ وأوْحينَا إليه لَتُنَبِئَنَّهم بأمرهمْ هذا وهُمْ لا يَشعرون(( ).
لذلك كان لزاماً على الآباء أن يتعلموا كيف ينقلون أبناءهم من هذه الحالة السلبية إلى حالة أخرى أقل سلبية وأكثر إيجابية، وهذا يكمن في أساليب كثيرة منها تعليم الأولاد أدب الاختلاف واحترام الآخر، وهو موضوع مهم جداً في العلاقات الأسرية والاجتماعية.
ومعنى أدب الاختلاف ببساطة: أن أحترم الذي أمامي بما يقول ويطرح ويفكر، وأن أنطلق في محاورته من نقاط الاتفاق لا من نقاط الخلاف.
لذلك كان الفقهاء يقولون كلامنا صواب يحتمل الخطأ تأكيداً منهم على قبول الرأي الآخر واحترامه.
إنَّ أدبَ الاختلاف عبادةٌ لله سبحانه لأنه طاعة لله وطاعة للرسول الكريم عليه السلام، وليس هناك أوضح دلالة من الآيات والأحاديث في ذلك.
فلا بدَّ أن نعلم أولادنا منذ صغرهم أدبَ الاختلاف وأن نقنعهم بأننا لا يمكن أن نسوقَ العالم كلَّه لأفكارنا دون أن نعطيَ الطرف الآخر حريةَ إبداءِ ما عنده وحرية التفكر والتصرف. والتركيز على هذا الأدب ضمانةٌ أكيدةٌ لأسرة متماسكة، فالذي يخالفني في الرأي هو أخي، واستيعاب هذا الخلاف عبادة لأن النبي عليه السلام كان يستمع تماماً إلى ما يقوله المشركون ثمَّ بعد ذلك يعرض عليهم الإسلام ويناقشهم ويحاورهم دون حديات جازمة، مع التأكيد على "أن الخلاف بين الأولاد ليس كله ضاراً وليس بالسوء الذي يبدو للكبار"( ).(/12)
إننا بتعليم أولادنا هذا الأدبَ نجتنبُ نقطتين مهمتين:
ـ الأحادية: فينشأ الطفل وهو يعلم أنَّ كلامه ليس نهائياً إنما قابل للمناقشة والحوار ولا بد له من تقبل الآخر.
ـ تجنبُ الصراخ والشجار: فالذي يظنُّ أنَّه ضعيف في فكرة يستعيض عنها بالصراخ وربما القوة العضلية.
إنَّ الاختلاف هو سنةُ الله في عباده، لكنْ يجب أن نعلمَ أن الاختلاف شيء والتنافر شيء آخر، لذلك لابد أن نعلم أولادنا كيف نختلف وكيف يكون الأدب الضابط لذلك.
ويجب أن نعلم أيضاً أن الشجار والتنافر بين الأولاد في البيت له أسباب عديدة، ومن هذه الأسباب:
1 ـ الغيرة بسبب التفضيل بين الأولاد.
2 ـ انشغال الآباء عن أولادهم.
3 ـ شجار الأبوين أمام أولادهم.
4 ـ عدمُ وجود برنامج للأولاد يشغلهم عن الخلافات التافهة.
وبمعرفة هذه الأسباب ومعالجتها يمكن أن ينشأ الأولاد على درجة عالية من الوعي في هذه الأمور.
ولعل أبرز النتائج التي يمكن تحصيلها من تعليم الأولاد هذا الأدب هي:
... 1 ـ التماسكُ الأسري: و"الأولاد الذين يسمح لهم ببعض الجدال في صغرهم فيصبحون عادة أشد قرباً من بعضهم في كبرهم"( ).
2 ـ القدرةُ على المحاورة والمناقشة.
3 ـ تقبلُ الآخر.
4 ـ توسيعُ الآفاق وتمحيص الأفكار كما قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: إنِّي رأيتُ مناقشةَ الرجال تمحيصاً لأفكارهم( ).
عدم التذكير بالماضي المزعج
ما من إنسان إلا وقصَّر في حياته وأخطأ سواء كان هذا الخطأ كبيراً أو صغيراً، وهذه من صفات ابن آدم التي جبله الله عليها، ولذلك ورحمة بنا وردت آيات وأحاديث كثيرة تشجع على التوبة والإنابة والاستغفار "إنَّ الحسناتِ يُذْهبْن السيئات".
وفي الحديث الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ اللهَ عزَّ وجَّل يَبْسط يده بالليل ليتوبَ مُسيء النهار ويَبْسطُ يده بالنَّهار ليتوبَ مسيءُ الليل حتى تطلعَ الشمسُ من مغربها".
وطلب الإسلام من المسلمين قبول التائب وقبول توبته وعدم التذكير في كل لحظة بالخطأ الذي ارتكبه، وتوعد أولئك الذين يحكمون على الناس بعدم قبول التوبة، وذلك في الحديث الذي رواه الإمام مسلم عن جندب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "حدَّث أنَّ رجلاً قال والله لا يغفرُ اللهُ لفلان وإنَّ الله تعالى قال: منْ ذا الذي يتألّى عليَّ أَلاَّ أغفرُ لفلان فإنِّي قد غفرتُ لفلان وأحبطتُ عمَلَك".
وعصرُ الصحابة الذي هو خير القرون وجد فيه من وقع في الخطأ ورجع وأناب وتاب وقبل الناس توبته ولم يقفوا عند أخطاء من أخطأ، فلم يذكر التاريخ أن الصحابة عيروا كعب بن مالك لتخلفه عن غزوة تبوك بعد توبة الله عليه
وكذلك لم يذكر أن أحداً من الصحابة عيَّر حاطب بن أبي بلتعة على ذنبه بإخبار قريشٍ نيةَ رسول الله بعد التوبة والإنابة.
ويوم تكلم خالد رضي الله عنه عن المرأة الغامدية بعد رجمها نهاه النبي بقوله: "يا خالدُ فوا الذي نفْسي بيده لقد تابتْ توبةً لو تابها صاحبُ مَكسٍ لَغُفر له. ثم أمر بها فصُلىَ عليها ودُفنت"( ).
وبما أنَّ الأسرة هي جزء من المجتمع المسلم فإن ما ينطبق عليه ينطبق عليها تماما.
إنَّ كثيرا من الناس تتملكهم الرغبة الشديدة والقوية في تذكير الناس بماضيهم السيئ أو المزعج، فكلَّما جلسوا مجلسا واجتمعوا في مكان يبدؤون بتذكير الناس بهذا الماضي، وهذا يحدث للإنسان وهو كبير يريد أنْ يتوب من فعل اقترفه في سالف حياته، لكنَّ النَّاس لا يريدون أن يتوبوا عليه أو يقبلوه، فكلما أراد أن يؤسس لحياة جديدة خرج له بعض الأشخاص يذكرونه بما عاهد الله على ألا يعود إليه.
والحقيقة أنَّ الإنسان يكون أكثر تعرياً في التصرفات أمام أسرته وفي بيته، فأغلب الآباء يعرفون أولادهم كيف ارتقوا وتربوا وكيف انتقل الولد من فكرةٍ سالبةٍ إلى أخرى موجبة أو من خطيئة إلى حسنة وكثير من الأزواج يعلمون هنات زوجاتهم وهنا ويا للأسف الشديد يكون الاطلاع على مثل هذه الأمور مدعاة للسخرية والتذكير بها في بعض المجالس.
فمثلا كثير من الآباء يجلسون مع ضيوف ويجلس معهم الأولاد فيبدأ الأبُ بذكر ما فعله أولاده من هنات (والأولاد جالسون يسمعون)، أو بالأفكار التي كانوا يدينون بها. ويضحك الأب ويضحك الضيوف دون الاهتمام بأن الأولاد قد كبروا وتغيَّروا، إنَّه الأمر الذي يجعل الأثرَ السلبي كبيراً على نفوس الأولاد.
والشيء نفسه يتكرر مع الأزواج لزوجاتهم، فيذكر الزوج هنات زوجته التي أقلعت عنها أمام أقاربهما مما يسيء إلى الزوجة.
ليس هناك أشدُّ تخريباً للعلاقة الأسرية من التذكير بالماضي السيئ والمزعج في كل لحظةٍ مما يجعل الحياة جحيما لا يطاق.
إن استدعاء الماضي للتقليل من شأن الآخرين، وغض الطرف عن أفعالهم الحسنة إنما يدل على إنسان مريض نفسيا يريد أن يبني شموخه وشهوته على أنقاض الآخرين والحطَّ من قدرهم ولعل هذا الفعل السيئ بتذكير الناس بماضيهم المزعج له آثاره السيئة الجلية منها:(/13)
1ـ الكراهيةُ : حيث يكره الابن أن يجلس مع أبيه وكذلك الزوجة تكره الجلوس مع زوجها.
2ـ الإصرارُ على المعصية: حيث سيكون ترك الفعل أو عدمه سيان، وهذا ما يحصل لكثير من الشبان الذين يتعلمون بعض العادات السيئة ويريدون أن يتوبوا فيكون التشهير بهم سببا للإصرار على فعلهم.
3ـ الوصولُ إلى درجة الوقاحة: حيث يبقى الرجلُ يذكر ولده بفعل معين ويذكر ويذكر دون حكمة حتى يخلعَ الولد ما كان عليه من احترام ويصل إلى درجة الوقاحة فيقول هذا أمر يخصني وحدي ولا دخل لأحد به.
إنَّ التذكير بالماضي المزعج خطير جدا إذ يحطم الروابط الأسرية، ويبدل بها روابط أخرى مبنية على الكراهية والشماته.
وإن الحل الأمثل لهذا الماضي هو نسيانه ووضعه في مكان آمن من الذاكرة لا يمكن الوصول إليه بحال من الأحوال، والنظر إلى المستقبل والعمل على تحسينه.
السعيُ إلى التمَيُّز الأسري
إنَّ من أهم الصفات التي اتصفت بها الأمة الإسلام عن سائر الأمم أنها أمة متميزة ومستقلة، وهذا التميز وهذه الاستقلالية جاءت في الكتاب والسنة قال تعالى:
( كنْتُم خيرَ أمَّةٍ أُخرجتْ للنَّاس تَأمُرُون بالمعروفِ وتَنْهَوْن عن المنكرِ وتُؤْمِنُون بالله ولوْ آمنُ أهْلُ الكتابِ لكانَ خيراً لهمْ منهمُ المؤمنون وأكثرُهمُ الفَاسِقون ( ( ).
(وكذلكَ جَعَلْناكُمْ أمَّةً وسَطاً لِتَكونُوا شُهَدَاءَ على النَّاسِ وَيَكونَ الرَسولُ عَلَيكم شَهيداً(( ).
قال ابن كثير الوسط هو الخيار والأجود
وأمَّا في السنة الشريفة فقد وردت عدةُ أحاديثَ تؤكد استقلالية هذه الأمة وتميزها، من ذلك ما رواه البخاري عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خَالفوا المشْركين، وفِرُّوا اللحى وأحْفوا الشَوارب" .
والتميُّز مطلوب حتى في اللباس، فالمسلم لا بد أن يكون ذا مظهر حسن، وهذا ما رواه أبو داود والإمام أحمد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"أصْلِحُوا رِحَالَكمْ ولِباسَكم حتى تكونُوا في النَّاس كأنَّكم شامَّة فإنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ لا يُحبُ الفُحْشَ ولا التَفَحُش"
وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "منْ كان له شعرٌ فليُكرمْه" ( ).
وبما أن الأسرة المسلمة هي الخلية الأولى في المجتمع المسلم فلا بد أن تكون هذه الصفة ملازمة وملاصقة لها.
إنَّ طلب الواحد منا أن تكون أسرته متميزة عن سائر الأسر ليس أنانيةً بل هو مطلب شرعي نبه الله سبحانه وتعالى عليه في كتابه الكريم فقال حكاية عن سيدنا زكريا عليه السلام:
(... فَهَبْ لِيْ منْ لَدُنْكَ وَليَّا (5) يَرِثُني وَيَرِثُ منْ آل يعقوبَ واجْعلْه رَبِّ رَضيَّا (6)( ( ).
وقال حكاية على لسان إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام:
( ربَّنا واجْعلنا مُسْلِمَيْن لَكَ ومِنْ ذُرِيتِنا أمَّةً مُسلمةً لكَ وأَرِنا مناسِكَنَا وتُب عَلينَا إنَّكَ أنْتَ التوَّابُ الرَّحيم(( ).
وقال حكاية عن عباد الرحمن: (والَّذينَ يَقولونَ ربَّنا هبْ لنا منْ أزواجنا وذرِّيَّاتنا قرةَ أعينٍ واجْعلنا للمُتقين إماماً( ( ).
وفي مقام القرب لم ينسَ إبراهيم عليه السلام ذريتَه ( وإذ ابتَلى إبراهيمَ ربُّه بكلماتٍ فأتمَّهنَّ قال إنِّي جاعلك للنَّاسِ إماماً قالَ ومنْ ذُرِّيَتي قال لا ينَالُ عهْدي الظَّالمين(( ).
إنَّ التميز الأسري ضرورة ملحةٌ ولاسيما في هذا العصر الذي كثرت فيه التفريعات والاختصاصات، إذ أن كثيراً من الأسر لا تعرف أي نوع من أنواعِ التميز، إنما تعيش هكذا دون هدف ودون برمجة لحياتها، بلْ إن الميزة الوحيدة لها تنحصر في أهدافٍ بسيطة جدّاً كنجاح في مدرسة أو الحصول على سيارة وغير ذلك.
إن التميَّز الذي يطلبه الإسلام هو تميزٌ بالشخصية، وبالفكْر الوَقادِ، والعمل الجاد، والأهدافِ السامية، ولا يمكن للمسلمين أن يسترجعوا هيبتهم ومكانتهم بين الأمم إلا إذا استعادوا التميز بأقل درجاته؛ وأقل درجات التميز هي أن يكون الفرد المسلم يقابل بقوته العلمية وتفوقه في مجاله اثنين من الكفار. قال الله سبحانه (الآنَ خَفَّفَ اللهُ عنْكمْ وعَلِمَ أنَّ فيكمْ ضَعْفاً فإنْ يَكُنْ مُنْكمْ مائةٌ صَابرَةٌ يَغلِبُوا مائَتين وإنْ يَكُنْ منْكمْ ألفٌ يغلِبُوا ألفَين بإذنِ اللهِ واللهُ مَعَ الصَّابِرين(( ).
فالنسبة في المعركة هي (واحد من المسلمين إلى اثنين من المشركين أي 1/2)، وهذه الآية محكمة لم يرد فيها ناسخ فهي معمول بها إلى يوم الدين
فإذا كان هذا الأمر في المعاركِ الحربيةِ واجباً فإنه في المعارك الحياتية أوجب( ).
فالطبيب المسلم لا بد أن يكون بطبِّه بمقدار اثنين من أهل الشرك.
والشاعر المسلم لا بد أن يكون مقابل اثنين من الشعراء الآخرين وهكذا. وهذه أدنى درجات التميز التي يجب أن نعمل على تربية أسرنا عليها.
إنَّ هناك خطواتٍ عمليةً لجعل الأسرة متميزة منها:(/14)
1 ـ طلبُ التميز من الله سبحانه: وقد علمنا القرآن ذلك في أكثر من موضع، فقال حكاية على لسان زكريا عليه السلام: (هُنالكَ دَعَا زَكريَّا رَبَّه قَاَلَ رَبِّ هَبْ لي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيةً طَيِّبةً إنَّكَ سَميعُ الدُّعاء(( ). فطلب من الله أن تكون ذريته طيبة.
وقال حكاية على لسان إبراهيم: (ربِّ هَبْ لي مِنْ الصَّالحيْن(( ).
2 ـ إطلاقُ بعض الألقاب والصفات الحسنة على الأولاد: كما كان يفعل النبي عليه السلام حيث إن لهذه الألقاب دورا مهماً في حياة الإنسان، فهو يحاول دائما أن يتصف بهذا اللقب أو ذاك، وهذا ما حصل للحسن رضي الله عنه فقد روى البخاري عن أبي بكر رضي الله عنه: أخرج النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم الحسن فصعد به على المنبر فقال: "ابْني هَذا سيدٌ ولعلَّ اللهُ أنْ يُصلحَ به بَيْن فِئَتَيْن منَ المُسلِمين"
وإطلاق هذا اللقب على الحسن رضي الله عنه لم يذهب سدى بل كان هو سيد الموقف عندما تنازل لمعاوية عن الأمر رضي الله عنهم جميعا وجمع الله به كلمةَ المسلمين حتى سُمي ذلك العام بعام الجماعة.
ولعل من بعض الألقاب التي تؤثر في نفسية الأولاد: صاحب الهمة ـ أبو المعالي ـ الحافظ ـ العفيفة ـ الثقة ـ الصدوق وغير ذلك مما يجعل الأولاد يلتزمون بهذه الصفات ويسعون ليتميزوا بها.
3 ـ الاهتمامُ بتحويل الأم إلى أم متميزة ورفعها من المستوى الذي تعيشه نساء هذا العصر من تفاهات وترهات.
4 ـ توضيحُ معايير النجاح والتميز: حيث إن الكثير من الأولاد لا يعرفون معيار النجاح الحقيقي ومتى يكون المسلم ناجحا ومتى يكون فاشلاً، وهذا من الأمور الخطيرة التي يجب بيانها فمثلا يجب أن يعلم الأولاد أن المعيار الأول للنجاح هو رضا الله سبحانه وأن كثيرا من الأمور التي نظنها ناجحة هي بمعيار الرضا الإلهي غير ذلك( ).
5 ـ تعليمُ الأولاد سير المتميزين الذين خدموا أمتهم: مثل الأنبياء والصالحين والمجاهدين وما قدموا لأمتهم، واصطحابهم لملاقاة العاملين الصالحين، وحضور مجالسهم، فقد دلت دراسة على أن "63% من المشاهير كانوا قد تعرفوا على مشاهير في مرحلة مبكرة من العمر"( ).
وتحفيظهم أشعار الطموح مثل نشيد المستقبل:
ستصبح يا بنيّ فتى
فتىً يبْني لأمَّته
سَتُسهمُ في سعادتِها
وسوفَ أرى بإذن اللهِ
تسيرُ إلى العلا شَهْماً
تشير إليه كلُّ يدِ
صروحَ الخيرِ والرشدِ
بعونِ الواحدِ الأحدِ
أنَّ خطاكَ لمْ تَحِدِ
بِعَزمٍ منك متقدِ
إنْ تَكُنْ تاهتِ السفينةُ يَوْماً فَلَقَدْ جاءها الفتى الربانُ
مسلمٌ صاغَهُ الوُجودُ وُجوداً بعينَيه تُشرق الأوطان( )
إن السعي إلى التميز ومنه التميز الأسري ضرورة حتمية وليست ترفاً اجتماعيا أو أخلاقياً، وهي ضرورةٌ يمليها علينا واجبنا الإيماني والخلقي وهي وسيلة من وسائل الدعوة، لأن كثيراً من الناس لن يدخلوا الإسلام إذا لم يكن أهله شامة بين الناس في كل المجالات.
الحسم في المخالفات الشرعية
إنَّ الإسلام جاء للعالم كله، وهذا يعني أنه منفتح على العالم كله. قال تعالى (وما أرْسَلْنَاكَ إلاَّ رحمةً للْعَالمَين(( ).
ونتيجة لهذا الانفتاح الذي هو ميزة لهذا الدين قد يتسرب إلى المجتمع المسلم بشكل عام والأسرة المسلمة خاصة بعض الأمور والحيثيات الغربية أو الشرقية الغريبة عن المجتمع المسلم وعن مبادئه وأهدافه.
ومن هنا يكمن دور الأسرة في تحصين البيت من هذه السلبيات المختلفة، وهي مسؤولية عظيمة وجسيمة تقع على أكتاف الآباء والأمهات وأعناقهم لأن هذا الانفتاح الخطير والاختلاط الكبير جعل كثيرا من الأمور السلبية تتسرب إلى بيوتنا ونحن عنها غافلون، وربما الكثير من المسلمين لا يلقون لها بالا وهي شديدة الخطر وكثيرة الضرر.
ولقد حذر النبي عليه السلام من هذا التقليد الأعمى فقال: "لَتَتَّبُعنَّ سَنَن مَنْ قَبْلِكمْ شِبراً بشبرٍ وَذِراعاً بذراعٍ حَتى لوْ سَلَكُوا حُجْر ضَبٍّ لَسَلَكْتُموه"( ). ونتيجة لهذا الانفتاح على العالم تكون هناك واردات مختلفة على مجتمعنا، والإسلام لم يرفض هذه الواردات إنما وقف أمامها موقفاً علمياً ومنهجياً:
1ـ فما وافق الأصول الإسلامية ووافق الأهداف الإسلامية قبله واعتنى به.
فعندما قدم تميم الداري رضوان الله عليه من بلاد الشام وتعلم من هناك كيف تشعل السرج وأنار بها المسجد النبوي دعا له النبي عليه السلام بأن ينير الله قبره، وقبل منه هذا الوافد الجديد الذي لا يخالف أصولا إسلامية بل يفيد الدعوة ويفيد الأمة.
2ـ ما خالف هذه الأصول والأهداف رفضه رفضاً قاطعاً لا هوادة فيه حرصاً منه على استقلالية الإسلام والمسلمين. روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "منْ أَحْدَثَ فيْ أَمْرِنَا هَذا مَا ليْس فيْه فَهُوَ رَدٌّ".
وهكذا يجب أن يكون تعامل المسلمين اليوم مع هذه الواردات المختلفة.(/15)
إنَّ الأسرةَ تولد كما يولد الطفل وإنَّ الفتراتِ الذهبيةَ لتربية الأسرة هي تلك الفترات الذهبية لتربية الطفل أي في السنوات الأولى من ولادتها
لكنِّ -ويا للأسف الشديد- كثيرا من الأزواج يبدؤون حياتهم الزوجية وهم غير ملتزمين بالإسلام فتبدو الأسرة في الفترات الذهبية لتربيتها ضائعة لا تعرف منهجا ولا طريقا وينشأ قسم من الأولاد على هذا المنوال.
لقد كان منهج النبوة في المخالفات الشرعية التي توجد في البيت منهجا واضحا وصريحا هو عدم السماح لهذه المخالفات أن تبيت ليلة واحدة في البيت لقد كان منهجه هو "الحسم في المخالفات".
فعن عائشة قالت: جَعَلْتُ على بَاْبِ بَيْتي ستراً فيه تَصَاويرٌ فلمَّا أَقْبل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لِيَدْخلَ نَظَرَ إليْه فتَهَتَّكَه قالت: فأخذْتُه فقطعتُ منه نَمْرَقتين( ).
فالنبي عليه السلام كان موقفه عندما رآى شيئا مخالفاً وسلبياً في بيته هو الحسم في هذه السلبية حتى أنه نزع هذه التصاوير بيده كما صرح الإمام أحمد في روايته.
ومرة تتكلم السيدة عائشة عن صفية فيكون موقف النبي حاسماً، فقد روى أبو داود في سننه عن عائشة قالت قلت للنبي صلى الله عليه وسلم حسبك من صفية كذا وكذا قال غير مسدد تعني قصيرة فقال "لقدْ قُلتِ كلمةً لوْ مُزِجَتْ بمَاءِ البَحْرِ لَمَزَجتْه"( ).
إن الحسم في المخالفات الشرعية في السنوات الذهبية من عمر الأسرة له الدور الكبير في سير هذه الأسرة في الطريق الصحيح والسليم.
لكنْ إذا تأخر الرجل في الحسم وإنهاء هذه المخالفات من بيته حتى سن متأخرة فهذا لا يعني اليأس لكنه مكلف شرعاً بإزالتها ولكنه يحتاج إلى جهد أكبر يرافقه حكمة بالغة.
إنَّ السكوت عن المخالفات الشرعية المختلفة في الأسرة يجعلها تتراكب وتتواكب لتشكل سدا منيعا في طريق إصلاح الأسرة التي كلفنا الله سبحانه وتعالى بإصلاحها. والأخطر من ذلك هو أن القائمين على الأسرة من الآباء والأمهات هم الذين يكرسون هذه السلبيات المختلفة فتنشأ الأسرة بعيدة كل البعد عن المنهج القويم والصراط المستقيم. والأمثلة على ذلك كثيرة فمن ذلك التدخين أمام الأولاد، والجلوس في البيت والأب ذو عورة مكشوفة، ومتابعة الساعات الطوال على شاشات الفضائيات وغير ذلك مع أن الله جعل الأب حاكما على بيته فمن يمنعه على الأقل من تطبيق الإسلام في بيته !
مراعاة الفروق الفردية في الأسرة
إنَّ الله سبحانه وتعالى لما خلق الخلق جميعا ونثر عليهم من هباته، جاء كل واحد منهم مختلفا عن الآخر ولا يطابقه، وقد أكد الله سبحانه هذا الاختلاف: (وَرَفَعْنا بَعْضَكُم فَوقَ بعضٍ دَرَجات(
وهذا التفضيل قد يكون بالجسم أو بالعلم أو بطريقة التفكير أو بالأمور المادية قال الله حكاية عن طالوت:
(وقالَ لهَمُ نَبيُّهم إنَّ اللهَ قد بَعَثَ لكمْ طَالوتَ ملكاً قالوا أنَّى يكونُ لهُ المُلْكُ عَلينا ونحنُ أحقُ بالمُلكِ منه ولمْ يُؤْتَ سعةً مِنَ المَال قالَ إنَّ اللهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكم وَزَادَه بَسْطةً فيْ العِلمِ والجسمِ واللهُ يُؤتي مُلْكَه مَن يشاءْ واللهُ واسعٌ عليمٌ(( ).
لذلك حرص الإسلام على مخاطبة الناس على قدر عقولهم وعلى مقدار ما يفهمون فقد ورد في صحيح الإمام مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه: "ما أنتَ بمحدثٍ قوماً حديثاً لا تبْلغه عقولُهم إلاَّ كانَ لِبَعضهم فِتْنة".
وورد عن علي رضي الله عنه: حَدِثُّوا النَّاسَ بما يَطِيقُونَ أتحبُّون أنْ يُكذَّبَ اللهُ ورسولُه( ).
ومعنى هذا الكلام كله أن الإسلام أقر بالفروق الفردية بين الأشخاص والأفراد أو بمعنى آخر أقر مبدأ الاهتمامات المختلفة فما يهتم به الزوج ليس بالضرورة ما تهتم به الزوجة، وما يهتم به الأبناء غير الذي يهتم به رب الأسرة مع وجود قاعدة أساسية ضابطة لهذه الاهتمامات والاختلافات.
وإن كان هذا الكلام ينطبق على المجتمع المسلم كله فهو كذلك ينطبق على الأسرة المسلمة فما يهتم به الزوج غير الذي تهتم به الزوجة فلذلك كان لزاما على كل مسؤول عن أسرة أن ينتبه لهذه الفروق ولا يحولها إلى نقطة خلاف تسيء إلى حياته وحياة من حوله.
القدوةُ العظمى عليه السلام اهتم بهذه الفروق الفردية وبيّنها وتعامل معها تعاملاً إيجابياً وحولها من نقطة خلاف إلى نقطة تربية وتوعية فمرة كما في صحيح البخاري عن أنس قال كان النبي صلى الله عليه وسلم عند بعضِ نسائِه (صرح غير البخاري بأنها عائشة) فأرسلت إحدى أمهاتِ المؤمنين (وصرح غيره بأنها أم سلمة) بصحْفة فيها طعام فضربتْ التي النبيُ صلى الله عليه وسلم في بيتها يدَ الخادم فسقطتْ الصحْفةُ فانفلقت فجمعَ النبي صلى الله عليه وسلم فلقَ الصحفة ثم جعل يجمعُ فيها الطعام الذي كان في الصحفة ويقول: غارتْ أمُّكُمْ ثم حبسَ الخادمَ حتى أتي بصحْفةٍ من عند التي هو في بيتها فدفع الصحفة الصحيحةَ إلى التي كُسرتْ صحفتها وأمسكَ المكسورة في بيت التي كسرت( ).(/16)
والنبي في تعامله مع هذه الحادثة يعلمنا طريقة للتعامل مع فارق فردي موجود عند النساء بكثرة إنه الغيرة والتعامل بحكمة مع شيء من التجاهل.
وكذلك كانت طريقة تعامله عليه السلام مع الأطفال مراعاة منه لهذه الفروق فكان يحمل الحسن والحسين وهو في الصلاة كما رواه الإمام أحمد عن أبي هريرة قال: "كنَّا نُصلي معَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلم العشاءَ فإذا سَجَدَ وَثَبَ الحسنُ والحسينُ على ظهرهِ فإذا رفعَ رأْسهُ أخذَهما بيدهِ مِنْ خلفه أخذاً رفيقاَ ويضَعْهُما على الأرضِ فإذا عادَ عادَا حتى إذا قضَى صلاتَه أقعدَهُما على فخِذَيه" ( ). ما أعظم سعادة الأطفال عندما يتعلقون بآبائهم وهم في الصلاة.
إنَّ خطأ الكثير من الناس أنَّه يريد لزوجته أن تلغي هذه الفروق الفردية من حياتها، ويريد من أولاده أن يُلْغوا كذلك هذه الفروق، ويريد أن يحشر الناس جميعا في رغباته الخاصة وأهوائه وما يريد هو فقط، من ثَمَّ لا يحصد في بيته إلا شقاءً، وفي مجتمعه إلا نفوراً.
" إنَّ الحياة الزوجيةَ لا تقوم على التشابه"( ).
وإنما تقوم على المودة ومنْ يُرِدْ أنْ يَجْعَل منْ أولادِه نسخةً منْه فإنَّه لنْ يَحْصُد إلاَّ مَرارةً وشَقاءً، والأب الواعي والمستهدي بهدي النبي صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح لا يجعل من هذه الفروق الفردية نقطة خلاف، إنما يحول هذه الفروق بحكمة إلى وسيلة تربوية وإرشادية.
ومن الأمثلة على الفروق الفردية التي يجب الاهتمام بها واستخدامها وسيلة تربوية أنَّ كثيراً من النساء تكون الكلمة الجميلة واللطيفة من الزوج أفضل عندهنَّ من كثير من الأمور الأخرى والزوج مثلا يعتبر هذا الكلام سخافة وهراء وقد ذهب أوانه، وعدم الاهتمام بهذه النقطة مثلا قد يولد بعض النفور من الزوجة
كذلك بعض الأولاد ينتظرون رجوع والدهم من عمله بفارغ الصبر ليأتي لهم ببعض الأمور كالحلوى والألعاب لكن كثيراً من الآباء ينسون هذا وتخيب آمال الأطفال برجوع آبائهم، إلى البيت ومن الفروق الفردية الأخرى والمهمة جدا هو محبةُ الأطفال للعب بشغفٍ كبير، تجعلُ كثيراً من الآباء ربما يتصرفون تصرفات لا تحترم هذه الفروق الفردية، وينعكس ذلك سلبا على طريقة التربية.
يا صَغِيري نَمْ هَنِيَّا
فلقدْ أمضيتَ يوماً
هذهِ الألعابُ تَشكُو
ساعةً بَيْنَ يَدَيَّا
صاخباً لمْ تُبْقِ شَيّا
وَأَنا أَشْكُو الدّويا ( ).
إن الاهتمام بهذه الفروق الفردية أمر مهم وملح ونحن بحاجة له لنثري المجتمع بالتنوع وهو لا شك أمر يتماشى مع الحياة والفطرة السليمة.
تخفيف التيتم والترمل الصوري
إنّ مكانة اليتيم عند الله سبحانه وتعالى مكانة عالية جدا حتى إنه ورد في ذلك الآيات والأحاديث التي تحض على كفالة اليتيم وتحذر من مغبة ضياعه في المجتمع ومن خطورة أكل ماله.
قال تعالى: (إنَّ الَّذينَ يَأكُلُونَ أَمْوالَ اليَتَامى ظُلماً إنَّما يَأكُلُونَ في بُطُونِِهمْ ناراً وَسَيَصْلونَ سعيراً(( ).
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " اجْتَنِبوا السبعَ الموبِقاتِ قالوا يا رسول الله وما هنَّ قال الشِّركُ بالله والسِّحرُ وقَتْلُ النَّفسِ التي حرَّمَ الله إلا بالحق وأكلُ الرِّبا وأكل مالِ اليَتِيمِ والتَولِّي يومَ الزَّحفِ وقَذْفُ المُحْصناتِ المؤمناتِ الغافلات"( ).
وحث الإسلام على كفالة اليتيم والسعي على الأرملة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" أنا وكَافلُ اليَتِيم فيْ الجنَّة هكذا وأَشَارَ بالسُبَّابة والوُسْطى وفرَّجَ بَيْنَهما شيئاً" ( ).
عن أبي هريرة قال قال النبي صلى الله عليه وسلم: "السَاعِي على الأَرْمَلةِ وَالمسكِينِ كالمُجَاهد في سبيلِ اللهِ أوْ القائمِ الليل الصَّائمِ النَّهار" ( ).
ولو سألنا أنفسنا لماذا هذا التشديد على موضوع اليتيم والأرملة بشكل خاص عن باقي أفراد المجتمع؟
لوجدنا أن الجواب هو أنَّ هذه الفئة قد فقدتْ المُنْفقَ والمُشرِفَ والمُوجِّهَ وبفقد هؤلاء الثلاثة يمكن أن يضيع اليتيم أو تضيع الأرملة ويصبح الواحد منهم أقرب إلى الانحراف نتيجة الوضع المادي (بغياب المنفق) ونتيجة للوضع الأخلاقي (بغياب المشرف والموجه).
إن اليتيم الحقيقي يحرك من مشاعر أغلب المسلمين فيتهافتون ويتسارعون إلى رعاية هذه الفئة وهو أمر طيب ومأمور به شرعاً.
لكن هناك تيتماً وترملاً من نوعٍ آخر إنَّه التيتمُ والترملُ الصوري هو:
" أنْ يكونَ الأبُّ أوْ الزَّوجُ على قَيْد الحياةِ لكنَّه بِمنْزلة الميِّت ليسَ له أيُ أثرٍ فيْ حياةِ زوجتِه أوْ أوْلادِه"
ويأخذ هذا التيتم والترمل أشكالا مختلفة في العالم الإسلامي منها:
ـ كثيرٌ من الآباء قد جعلوا أولادهم أيتاما، فبعد مجيئه من العمل ما إن يتناول طعامه ويستريح قليلا حتى يغادر إلى عمل آخر نتيجة ظروف اقتصادية معينة ثم يعود مساء لينام وليعيد الكرة في اليوم الثاني وهكذا.(/17)
ومن ثمَّ يصبح البيت مكانا للطعام والنوم ولا يمارس فيه أي نوع من أنواع التوجيه والتربية مع أن القرآن حذر من الانشغال بالرزق عن الصبر على الأهل والأمر بالطاعات قال تعالى:
(وأمُرْ أهلَكَ بالصَّلاة واصْطَبر عليها لا نَسأَلُكَ رزقاً نَحْنَ نَرْزُقُكَ والعَاقِبةُ للتقْوى( ( ).
فكثير من الرجال ينسون واجباتهم المختلفة بالتربية نتيجة انشغالهم بالرزق وهذا نوع من التيتم والترمل.
ـ صنف ثان من الرجال يقضون نهارهم بالعمل ولياليهم بالسهر مع الأصدقاء وإلى ساعات متأخرة من الليل فلا يعود إلا وقد نام الأولاد وأرهقت الزوجة من الانتظار وهو لا يريد سماع صوت زوجته ولا أصوات أولاده وهو يكتفي بوضع مصاريف البيت على الطاولة عند الخروج فالأولاد لا يعرفون من أبيهم أي نوع من أنواع التوجيه والتربية فينشؤون (كل يغني على ليلاه) وعلى ما يقدمه لهم المجتمع من نماذج مختلفة.
ـ صنف ثالث من الرجال يقضي عمره مغترباً عن زوجته وأولاده من أجل العمل وتأمينِ لقمة العيش ومستقبل مادي أفضل وينسى احتياجات الزوجة من قرب الرجل منها واحتياجات الأولاد من قرب أبيهم منهم.
ـ صنف آخر من الرجال يقضون نهارهم بالعمل، ولياليهم بالسهر في بيوتهم لكنهم يقضون هذه الليالي بالسهر أمام شاشات التلفاز ومتابعة الفضائيات المختلفة حتى أصبح البيت مجرد صالة للسينما لا يتكلم فيها أحد ولا يعرض أي موضوع مهم وويل للأولاد إذا تكلموا.
إنَّ أولادنا وزوجاتنا ليسوا بحاجة إلى المال فقط وليسوا بحاجة أيضاً إلى الطعام واللباس وما شاكل ذلك من ماديات بل هم بحاجة إلى رعاية وحنان وعطف وتوجيه.
" ولقد أكّدتِ الدراساتُ على أن الطلاَّب الذين يجلسون مع أفراد أسرتهم حولَ مائدة الطعام على الأقل أربع مراتٍ أسبوعياً أفراد يتمتعون بالقَبول والاحترام في مجتمعهم والأسرة مترابطة"( ) والأصل في ذلك مجموعة أحاديث وآيات منها:
*ما رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قبّل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي وعنده الأقرع بن حابس التميمي جالساً. فقال الأقرعُ إنَّ ليْ عشرةً من الولد ما قَبَّلْتُ منهم أحداً فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال "مَنْ لا يَرْحَم لا يُرحم".
*وقد روى الترمذي عن جابر بن سمرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَأَنْ يُؤَدِّبَ الرجلُ وَلَدَه خيرٌ مِنْ أنْ يتَصَّدقَ بِصَاعٍ"( ).
*وروى البخاري عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال لي النبي صلى الله عليه وسلم ألم أُخبَر أنك تقوم الليل وتصوم النهار قلت إني أفعل ذلك قال.. وإنَّ لِنَفْسِك حَقاً ولِأَهْلِكَ حقاً فَصُمْ وأفطرْ، وقُمْ وَنَمْ. وحق الأهل يشمل حقوقا مختلف منها حق الرعاية والتوجيه
إنَّ ظاهرة التيتم والترمل الصوري في المجتمع ظاهرةٌ خطيرة جداً لا ينتبه إليها كثير من الناس وربما لا يعبؤون بها وهي تشكل خطراً جسيما يهدد الأسرة من الداخل، ويجفف ينابيع الود والرحمة المزروعة من قبل الله بين الزوجين، ويطفئ العاطفة الملتهبة بين أفراد الأسرة إلى درجة البرودة القاتلة..
فيا أكرم الأكرمين عرفنا واجباتنا حتى نقوم بها على الوجه الذي يرضيك واجعل خيرنا أول ما يكون لأهلينا مقتفين بذلك سنة رسولك صلى الله عليه وسلم حيث قال: "خَيْرُكُم خَيْرُكُم لِأَهْلِه" الترمذي آمين.
التعامل مع الأخطاء في المنْزل
إنَّ التعامل مع الأخطاء التي يرتكبها الأولاد أو حتى الزوجة فنٌ من الفنون التي يجب على كل والد وزوج أن يتعلمها ويُتقنها ويُحوِّل هذا الخطأ إلى قوة إيجابية بناءة في الأسرة لا إلى قوة سلبية هدامة.
ولنفترض أن أحداً من أبنائنا أخطأ فما الخطوات الإسلامية في معالجة هذا الخطأ أو ذاك؟
إنَّ كثيراً من الآباءِ والأمهاتِ والأزواجِ يسلكون سلوكاً غير إسلاميي في معالجة الأخطاء التي تحصل في منازلهم، ومن ثمَّ فبدلا من إيجاد حلول لهذه الأخطاء، وُجِدت أخطاءٌ أخرى هي مضاعفات لهذه الممارسات ومن ثمَّ نشأ في مجتمعنا مشكلاتٌ عديدة متراكبة ومتداخلة كان منشؤها التصرفُ غير الناضج مع خطأ ارتكبه أحد الأطراف، ألم يقل الله تعالى: (يا أيُّها الَّذينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وللرَسُولِ إذا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْييكُم واعْلَمُوا أنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ المَرءِ وقَلْبِه وأنَّه إِلَيْه تُحْشَرون (( ).
قال البخاري لما يحييكم: لما يصلحكم
فاستجابتنا لله وللرسول هي دعوة للإصلاح، ودعوة لترشيد المنهج، ودعوة للحياة بصورتها المثلى.
فعندما تقع المشكلة أو الخطأ في المنْزل لا بد من بعض الخطوات المهمة لإزالة هذا الخطأ وفق المنهج الإسلامي السليم والأنيق الذي يحول دون تفشي الخطأ ويحوله إلى نقطة مراجعة واستذكار.
والإسلام يرسم لنا الخطوط العريضة لطريقة التعامل هذه ويترك المجال أمام الأبوين لمعالجة الأمر وفق هذه الخطوط العريضة ليتناسب حلها مع كل زمان ومكان ومن هذه الخطوط العريضة ومن بعض نقاط هذا المنهج:(/18)
1ـ تسليط الضوء على الصواب:
إن كثيرا من الذين يخطئون ـ ولاسيما الأولاد ـ لا يعلمون حجم الخطأ الذي ارتكبوه، ولربما لم يعلموا بأنهم قد أخطؤوا، لذلك يصعب على بعضهم أن تلومه على الخطأ الذي ارتكبه، فالحلُّ الأمثلُ في مثل هذه الحالة هو تسليطُ الضَوْءِ على الصواب وإزالةُ الغشاوة عن عين الطفل، وتوضيحُ معالم الحق الغائب عن ذهنه، وهذا ما فعله النبي عليه السلام مع معاوية بن الحكم
فقد روى الإمام مسلم في صحيحه عن معاوية بن الحكم السلمي قال بينا أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ عَطَسَ رجلٌ من القوم فقلت: يرحَمُكَ اللهُ فرماني القومُ بأبصارهم فقلت واثكل أمياه ما شَأنكم تَنْظرون إليَّ فجعلوا يَضْربون بأيديهم على أفخاذهم فلما رأيتهم يُصَمِّتُونَنِي سكتُّ فلما صَلَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبأبي هو وأمي ما رأيتُ معلماً قَبله ولا بَعده أحسنُ تعليماً منه فو الله ما نَهَرَني ولا ضَرَبَني ولا شَتَمَني لكنَّه قال: "إنَّ هذِه الصلاة لا يَصْلحُ فيها شيءٌ منْ كلامِ النَّاس إنَّما هو التسْبيحُ والتكبيرُ وقراءةُ القرآنِ".
فمعاوية لم يكن يعلم أن الصلاة لا يصح فيها الكلام، والنبي عليه السلام لم يقف عند حدود الخطأ الذي فعله معاوية رضي الله عنه لكن التصرف النبوي السليم هو تسليط الضوء على الصواب، وبيانٌ لما يجب أن يفعله في المرات القادمة دون نهر أو لوم أو شتم.
وفي البيت إذا وقع الخطأ من قبل أحد الأطراف فإن من الحلول المتنوعة تسليط الضوء على الصواب وإرشاد المخطئ إليه فلربما كان غائبا عن ذهنه ولم يقصد فعله أو التلبس به.
2ـ عدمُ تهويل الخطأ بحيث يُصبح أكبَرَ من حجمه:
كثير من الأخطاء التي تحصل في البيت تقابل بحجم أكبر من حجم الخطأ الذي حصل، وذلك نتيجة تهويل الأبوين لهذا الخطأ دون حاجة إلى ذلك، فتكون ردةُ فعل الأَبوين شديدةً وقويةً بل عنيفة، وهذا ما يشكل إشكاليةً ذهنية في عقول الأولاد، وربما بعض الاضطرابات النفسية. وفي قصة جريج، الذي أخطأ في إجابته لوالدته فواجهت والدته الخطأ الذي ارتكبه بخطأ آخر تمثل بالدعاء عليه، مثال واضح لتهويل الخطأ بحيث يُصبح أكبر من حجمه. فقد روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لمْْ يَتكلمْ في المهْدِ إلاّ ثلاثةٌ عِيْسى، وكانَ في بَني إسرائيل رجلٌ يُقالُ له جُرَيْج كانَ يُصلِّي جاءتْه أمُّه فدعَتْه فقالَ أُجِيبُها أو أُصلي فقالتْ اللَّهمَّ لا تُمِتْهُ حتى تُرِيَهُ وُجَوهَ المُومِسات وكانَ جُريجٌ في صَوْمَعته فتعرَّضَتْ لهُ امرأةٌ وكلَّمتْه فأبَى فأتتْ راعياً فأمْكنتْه منْ نفْسها فوَلَدتْ غلاماً فقالتْ منْ جُريج فَأَتَوْه فكَسرُوا صَوْمعتَه وأَنْزلُوه وَسَبُّوه فَتَوضأ وَصَلَّى ثُمَّ أتَى الغلامَ فقال منْ أبُوكَ يا غلامُ قال الراعِي قالُوا نَبني صَومَعتَك منْ ذَهبٍ قالَ لاْ إلاَّ منْ طِيْن....".
فهذه الحادثة جعلت الأم تُضَخم عصيان ولدها، حتى ألجأت نفسها إلى الدعاء عليه، ويا لحظها التعس كانت ساعة الإجابة التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث: "لاْ تَدْعوا على أَنْفُسكم ولاْ تَدْعُوا على أَوْلادِكم ولاْ تَدْعوا على خَدَمِكم ولاْ تَدْعوا على أَمْوالِكم لا تُوافِقُوا منَ اللهِ تباركَ وتعالى ساعةً نِيْلَ فيها عطاءٌ فَيَسْتَجيبُ لكمْ"( ). والأمثلة في مجتمعاتنا كثيرة على تضخيم الخطأ إلى درجة كبيرة أكبر من حجمه، فمن ضرب الرجل لولده ضرباً مبرحاً لأنه ناداه فلم يجبه، إلى مقاطعة الأم لابنتها لأنها لم تسمع نصيحتها في بعض الأمور المتعلقة بالنساء..
إن هذا التصرف وغيره من التصرفات المتشابهة، يجعل معالجة الخطأ وعراً، وطريقة تلافيه أشد وأصعب.
إن الحل الأمثل في مثل هذه الحالات هو إعطاء الخطأ حجمه الحقيقي لا أكثر ولا أقل بحيث لا نزيده فوق حجمه ولا ننقصه عن حجمه كما يفعل بعض الآباء عندما يرون الفتاة قد خرجت بلباس غير شرعي وهي في عمر الورود فيصغرون حجم هذا الخطأ ولا يعطونه حجمه المناسب.
3ـ تجاهل بعض الأخطاء:(/19)
التغاضي عن بعض الأخطاء أحدُ الفنون المهمة في معالجة الأخطاء ليس فقط في المنْزل بل حتى مع الأقارب والأصدقاء، والتجاهل في حقيقته هو: غضُّ الطَّرف عن نقيصةٍ بُغية عدم إحراج فاعلها، وبغيةَ توجيه رسالةٍ له مفادُها أنَّ هذا الخطأ غير مرغوب فيه، وهي نوعٌ من السمو الأخلاقي الذي يعيشه الأبوان أمام أولادهما، بغيةَ عدم إحراجهم على خطأ ارتكبوه، وبغية إعطائهم فرصة لمعالجة هذا الخطأ، وهذا ما فعله عليه السلام مع ذلك الأعرابي الذي بال في المسجد فقد روى البخاري عن أبي هريرة أن أعرابيا بال في المسجد فثار إليه الناس ليقعوا به فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دَعُوه وأَهْرِيقوا على بَوْلِه ذَنُوبَاً منْ ماء أو سجَلا من ماء فإنَّما بُعثتم مُيَّسرين ولمْ تُبْعثوا مُعَسِّرين" وفي رواية فتناوله الناس قال في الفتح أي بألسنتهم لا بأيديهم. وقد ذكر الله أدب الإعراض والتجاهل في سورة التحريم بقوله: (فَعَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عنْ بَعْض(.
4ـ التعريض بالخطأ: والتعريض هو ذكر خطأ مشابه، أو أشخاص مشابهين، لما ارتكبه الأولاد وهو في الحقيقة من أهم ما كان النبي عليه السلام يربي أصحابه فقد كان يعرض دائماً لبعض الأخطاء فيقول: ما بال أقوام ما بال أقوام.
فقد روى البخاري عن عائشة أنها قالت صنع النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً فرخص فيه فتنَزَّه عنه قوم فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فخطب فحمد الله ثم قال "ما بالُ أقوامٍ يتنَزَّهون عن الشيء أصْنَعُه فوالله إنِّي لأعلَمُهم بالله وأَشَدَّهم لَه خَشْية".
وروى الإمام أحمد في مسنده عن قتادة أن أنساً حدَّثهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما بالُ أقوامٍ يَرفَعُون أبصَارَهم في صلاتِهم. قال فاشتد في ذلك حتى قال: "لَيَنْتهُنَّ عنْ ذَلِك أو لَتُخْطَفَنَّ أبْصَارهم".
وهذه الأحاديث وغيرها بما فيها من فوائد وسنن هي بمجملها تعريض بالخطأ وبالمخطئين دون التوجيه المباشر الذي قد يؤذي الشعور الإنساني الذي كان يراعيه النبي عليه السلام دوماً، وما أحوجنا إلى مثل هذا الأسلوب في التعامل مع أولادنا وفي بيوتنا.
إن عدم اعتماد الطرق الشرعية في معالجة الأخطاء يولد لنا عدداً كبيراً من المشكلات منها:
1ـ تفاقم الخطأ وتراكبه وتحوله إلى قوة هدامة.
2ـ التستر أمام الوالدين بزوال الخطأ، وبقاؤه في الواقع والحقيقية.
3ـ لجوء الأولاد إلى الوقاحة لأنهم عرفوا أنهم قد كشفوا أمام والدهم أو أمهم فيستهترون بأفعالهم.
العلاقات الخارجية في الأسرة
حرص واعتدال
تعارف وبرّ
على الرغم من أن الأسرة كيان مستقل له صفاته الخاصة وحوائجه الخاصة وميزاته الخاصة، إلا أنه كيان ضمن مجموعة كبيرة من الأمواج المتلاصقة من الأسر والأفراد، وهذه الأسرة أو تلك ليست وحيدة في الساحة بل تتأثر بما يحصل في خارج محيطها ومؤثر فيه، وتتفاعل معه.
ولم يكن الإسلام ليترك هذه العلاقات الخارجية على أهميتها دون ضبط ودون توجيه، ولاسيما أنَّ الأسرة أولُ المعاقل الإسلامية التي يجب أن تحصن تحصيناً جيداً حتى لا يتخلخل جسد الأمة.
والعلاقات الأسرية الخارجية علاقات متشابكة ومتداخلة ومتنوعة، تنطلق من علاقة الزوجين بعائلة كل واحد منهما إلى علاقة الأولاد مع الخالة والعمة والخال والعم وأولادهم.
والعلاقات الخارجية هذه لا بد أن تتصف بالصفات التالية:
1ـ الحرص: فحرص المسلم على بيته من الأولويات في حياته، وهو حرص يشمل الحمايةَ والرعايةَ والخوفَ من التسرباتِ المختلفة نتيجة هذه العلاقات، لذلك لا بد أن يكون المسلم حريصاً على بيته أشد الحرص. ولقد أمرنا رسول الله عليه السلام بالحرص فقال: "احْرِصْ على مَا يَنْفَعُك واسْتَعِن بالله ولا تَعْجز وإنْ أَصَابَك شيءٌ فَلا تَقُل لوْ أنِّي فَعَلْتُ كان كذا وكذا ولكنْ قُلْ قَدَّرَ اللهُ وما شَاءَ فَعَلْ فإنّض لوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيطان " مسلم. ولا شيء ينفع المسلم اليوم كحرصه على بيته، فعندما يرى مثلا أن بعض الزيارات لبعض الأشخاص تؤثر على بيته سلبا فلا بد أن يحد من هذه العلاقة.
2ـ الاعتدال: فلا إفراط ولا تفريط وأي علاقة زادت عن حجمها الطبيعي فقد تؤدي إلى خطورة متوقعة، وأي علاقة وقع التقصير فيها فهي جفوة وقطيعة لا يرضاها الإسلام.
وهذه العلاقات أيضا لا بد أن تحقق الأهداف التالية:
1ـ التعارف: فالزواج ليس علاقة بين فردين فقط بل هو علاقة بين أسرتين وعائلتين، وبهذا الزواج يزيد الإنسان من قاعدته المعرفية بالناس التي هي أحد الأهداف التي رصدها الإسلام فقال تعالى: (يا أيُّها الناسُ إنَّا خلَقْنَاكُم منْ ذَكَر وأنْثَى وجَعَلْناكُم شُعوباً وقبائلَ لِتَعارفُوا إنَّ أَكْرَمَكُم عندَ اللهِ أتْقَاكم إنَّ اللهَ عليمٌ خبيرٌ(( ).
(وهوَ الَّذي خلَقَ منَ الماءِ بَشراً فَجَعَله نَسَباً وَصِهْراً وكانَ ربُكَ قَديرًا(( ).
قال القرطبي: "النسب والصهر معنيان يعمان كل قربى تكون بين آدميين"(/20)
والزواج أحد أسباب الرزق لأنه يحقق علاقات جديدة وكما يقول د. البكار " العلاقات الجيدة مصدر رزق جيد"( ).
2ـ البر والإحسان والتواصل: وهي من أهم أهداف هذه العلاقات المتنوعة لأن هذه القرابة لها حقوق كثيرة (وآتِ ذا القُربَى حقَّهُ والِمسكينَ وابْنَ السبِيلِ ولاْ تُبَذِّر تَبْذِيرًا(( ).
(واعبُدوا اللهَ ولاْ تُشْرِكوا به شَيئاً وَبِالوَالديْن إحْساناً وَبِذِي القُرْبى واليَتَامَى والمَسَاكين والجَارِ ذِي القُرْبَى وَالجَارِ الجُنُبِ والصَّاحبِ بالجَنْبِ وابْنِ السَبيْل ومَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكم إنَّ اللهَ لاْ يُحبُ منْ كَانَ مُختالاً فخوراً(( ).
وهذه العلاقات المتشابكة علاقات بالغة التعقيد، ترك الإسلام للمسلم فيها حرية التصرف والإدارة بما يحقق الأهداف الأساسية لهذه العلاقات ولكنه رسم لذلك الخطوط العريضة ومنها:
أولا علاقة الزوج مع أسرة الزوجة:
الضوابط لهذه العلاقة هي الضوابط العامة للإسلام مع تركيز على عدد من النقاط المهمة:
1ـ الاحترام المتبادل: وهو أن يحترم الزوج أهل الزوجة ويكرمهم، ويخاطبهم بأحب الأسماء إليهم، ويقدمهم في مجالسه.
2ـ عدم التكلم بالكلام البذيء أمام أهل الزوجة: ولاسيما بما يمس أمور الجماع وغيرها، وهذا الأمر يضعهم في دائرة الحرج والخجل، والمسلم بطبيعته ينبغي ألا يحرج أحدا فكيف إذا كان أهل زوجته، ولقد فَطِن لذلك علي رضي الله عنه فأبى أن يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم في حكم فقهي هو بحاجةٍ إليه لأنه كان زوجاً لابنته فأرسل رسولاً هو المقداد بن الأسود فقد روى الإمام مسلم عن علي قال: كنتُ رجلاً مذاءً وكنتُ أستَحْيي أن أسأل النبي صلى الله عليه وسلم لمكانِ ابنتِه فأمرتُ المِقْداد بنَ الأسودِ فسأله فقال يغسلُ ذَكَرَهُ وَيَتَوضأ.
3ـ عدم إفشاء سر الزوجة أمام أهلها: وهذا من الأمور الخطيرة التي قد يرتكبها بعض الرجال في حق نسائهم، سواء كان الأمر أمام أهلها أو غيرهم، ولقد اعتبر الإسلام أن ذلك الرجل من أشر الرجال روى الإمام مسلم عن أبي سعيد الخدري قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ مِنْ أشرِّ الناسِ عندَ اللهِ منْزلةً يومَ القيامةِ الرجلُ يُفْضِي إلى امرأتِه وتُفْضِي إليْهِ ثمَّ يَنْشُرُ سِرَّها" حيث أفرد الإمام مسلم في صحيحه بابا سماه باب تحريم إفشاء سر المرأة.
4ـ السماح للزوجة بزيارة أهلها والسماح لهم بزيارتها: وهذا من أنواع البر والترفيه للمرأة، فمساعدتها على بر ذويها والسماح لهم برؤيتها، وفتح قلبه لهم قبل بيته، وتفهمه لطبيعة العلاقة بينها وبين ذويها يشعر المرأة بقرب الزوج منها، وتشعر بأمن وهي في مملكتها التي تعيش فيها، فهي بذلك لم تخسر أهلها، وربحت زوجها فمن أحسن منها حالاً؟
إن من الأخطاء الشائعة والقاتلة أن الزوج يريد أن يقطع وريد زوجته عن أهلها، ويغير الدم الذي يجري في عروقها، فيمنع ويهدد ويحذر من زيارة أو حتى اتصال فتعيش الزوجة في قلق دائم، ويسري هذا القلق إلى المفاصل المختلفة من الأسرة فيعمل فيها حتى يشلها.
إن ضبط العلاقة مع أسرة الزوجة بهذه الضوابط وبغيرها من الضوابط العامة للإسلام تجعل من البيت المسلم في مأمن من كثير من المآزق المحتملة التي تكون غالبا بسبب إهمال في مثل هذه النقاط وتجاهلها، ومن ثم فإن توتراً دائماً في هذه العلاقة وشعوراً بالقلق يسريان في أوصال الأسرة.
ثانياً: علاقة الزوجة مع أسرة الزوج:
وهي علاقة دقيقة بعض الشيء، إذ إنَّ الزوجةَ تنتقل من بيت أهلها إلى بيت الزوجية حيث تصبح علاقتها مع بيت أهل زوجها علاقةً مباشرة، واحتكاكُها معهم شبه يومي، لذلك لا بد أن تكون الزوجة حكيمة في علاقتها معهم، دقيقة الملاحظة لتصرفاتها، سريعة البديهة لتجاوز الأخطاء إن وقعت.
وهذه العلاقة أيضا علاقة ترك الإسلام فيها حرية التصرف للطرفين بما يحقق أهدافه السامية ويزيد ترابط العلاقة بين جميع الأطراف ومن هذه الضوابط:
1ـ احترام أهل الزوج: فوالد الزوجة كالوالد تماما وحرمته حرمة مؤبدة، وأم الزوج كذلك فهي أم أهدت للزوجة فلذة كبدها، وهذه الهدية هي أغلى هدية للزوجة، فلا بد من احترام مهديها وتقديره ومراعاة شعوره وتقديمه في المناسبات والمحافل واستخدام اللباقة وحسن الكلام معه.(/21)
2ـ تشجيع الزوج على بر والديه وأشقائه: فليست أم الزوج منافسة للزوجة في زوجها، ولكنها أمٌّ تخلّت عن ولدها الذي كان بين يديها ليكون بين يد امرأة أخرى، فهي تشْعر بفقدٍ وفراغٍ كبيرين في حياتها ولاسيما إذا كانت الأم نرجسية بعض الشيء في حبها لولدها، وهنا تأتي حكمة الزوجة في إزالة هذه الفكرة من ذهن الأم بتشجيع زوجها على بر والدته وأشقائه وإظهار رغبتها بذلك أمامهم بحب ولطف، وأنْ تَذْكُرَهم بخير أمام الناس وتذكر حب زوجها لأهله، فهذه السيدة عائشة مع السيدة فاطمة وهي (ابنة زوجها) تذكرها بخير فقد روى الترمذي عن جميع بن عمير التيمي قال: دخلت مع عمتي على عائشة فسئلت أي الناس كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت فاطمة( ).
فعندما تسمع فاطمة بهذا الكلام الذي ذكرته زوجة أبيها (عائشة) لن يكون منها إلا المبادلة بالمثل من ذكر بالمعروف والخير.
2ـ زيارتهم والتودد لهم: الزيارة بلسم من بلاسم الشفاء للأمراض الاجتماعية المختلفة فهي يد من الرحمن لمسح الآلام المختلفة لما فيها من رأب للصدع وتقريب للقلوب وإزالة للجفوة، وتخفيف للآلام وتعبيد للطرق الوعرة.
ولقد حث الإسلام على الزيارات بين الناس ولاسيما إذا كان الرابط لهذه الزيارة مرضاة الله وتحقيق أهداف الإسلام. فعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: "إنِّي سمعت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقولك قال الله عز وجل: "وجَبَتْ مَحَبَتِي للمُتَحَابِّين فيَّ والمتجالِسِينَ فيَّ والمُتَزَاورينَ فيَّ والمُتَبَاذِلينَ فيَّ" أحمد ومالك.
وإعراض بعض الناس عن الزيارات ولاسيما زيارة الكنة لأهل زوجها يسمح لكثير من المتطفلين الدخول والعبث بأمن الأسرة فينقلون الكلام ويحللون ويؤولون وهم في مأمن من أن هؤلاء لا زيارات بينهم.
4ـ الحياد الإيجابي بين الأطراف: العلاقات الخارجية في الأسرة كأي علاقة يصيبُها أعراض وأمراض مختلفة، والمسلم تجاه هذه الأعراض ليس سلبياً إلى درجة مقيتة، بل هو يتعامل مع الأطراف المختلفة تعاملا حياديا ولكنه حياد إيجابي، بحيث لا ينقل إلا خيراً ولا يقول إلا خيراً، ويبتعد عن الحدِّيات الجازمة وعن التحزُّب ضد أحد في محيط الأسرة، ويأخذ دورَ المصلح الذي تهفو إليه القلوب وتطمئن له النفوس وتودع عنده الأسرار.
فإذا وقعت قطيعة بين بعض الأطراف في الأسرة فواجب الزوجة مثلا أن تكون حياديَّة ما استطاعت، ولا تتحزبُ لأحد، وتحاول الإصلاح مضِّيقة شُقة الخلاف ومطبِّقة قولَ النبي عليه السلام: "ليس الكذَّابُ الَّذي يُصْلِح بينَ الناسِ فَيُنْمِي خَيراً أوْ يَقُولُ خيراً" متفق عليه.
ثالثاً: قواعد مشتركة للعلاقات الخارجية في الأسرة:
1ـ "منْ حُسنِ إِسلامِ المَرءِ تَرْكهُ مَالا يَعْنيه"( ). قاعدة مهمة جدا لكل العلاقات ولاسيما العلاقات في محيط الأسرة.
2ـ "منْ كانَ يُؤمِنُ باللهِ واليَومِ الآخرِ فليُكرمْ ضيْفَه"( ).
إكرام الضيوف يدخل السرور إلى قلوبهم ويجعلهم أكثر قربا، وأكثر حبا.
3ـ "تبَسُمُكَ في وجهِ أخِيكَ صدقَة" و "الكلمةُ الطيِّبةُ صدقةٌ"( ).
4ـ تحديد أولويات الحياة الزوجية: فأهم الأولويات هو حماية الأسرة من أنواع التسربات المختلفة، ثم تحقيق الطمأنينة فيها، وهذه الأولويات يجب الاتفاق عليها بين الزوجين.
5ـ الاتفاق على بعض الأمور التي لها حساسية من قبل بعض الأطراف.
6ـ شجار الأطفال يجب ألا يتعدى ليصل إلى شجار الكبار.
رابعاً: علاقة الأولاد مع الأقارب من الجهتين:
علاقة الأولاد مع الأقارب تسبب كثيرا من الحرج والمشكلات والتصادمات، وما كان الإسلام ليترك هذه العلاقة هكذا دون توجيه ودون إرشاد فوضع لذلك مجموعة من المعالم العامة والمهمة منها:
1ـ جواز النوم عند الأقارب:
ولاسيما إذا لم يكن هناك مخالفات شرعية، وكان الأقارب من الطبقة الملتزمة حيث يتعرف الطفل على علاقات خارجية ملتزمة وقريبة، فيؤثر ذلك فيه أبلغ التأثير، وهذا ابن عباس ينام عند رسول الله عليه السلام ويتعلم منه كيف يقوم الليل.
عن ابن عباس قال: بِتُّ في بيتِ خالتي مَيْمونةَ بنتِ الحارث زوجِ النَّبي صلَّى اللهُ عليه وسلم وكان النَّبيُ صلى اللهُ عليه وسلم عنْدَها في لَيْلَتِها فصلَّى النَّبيُ صلى الله عليه وسلم العشاءَ ثمَّ جاءَ إلى مَنْزِلِه فصلَّى أرْبعَ رَكَعاتٍ ثمَّ نَامَ ثمَّ قامَ ثمَّ قالَ نامَ الغُلَيم أو كلمةً تُشْبهها ثمَّ قامَ فَقُمْتُ عنْ يَسَارِه فَجَعَلني عنْ يَمِينِه فصلَّى خَمسَ ركَعاتٍ ثمَّ صلَّى ركْعتَين ثمَّ نامَ حتى سَمِعْتُ غَطِيْطَه أو خَطِيْطَه ثمِّ خَرجَ إلى الصَّلاة ( ).(/22)
وبعض الناس يمانعون ممانعة شديدة في نوم الأطفال عند بعض الأقارب دون عذر شرعي مقبول، وهذا مما يمنع الطفل من مشاهدة العالم الخارجي عن أسرته الذي ينظر إليه دائما باستغراب ودهشة ويرغب بشدة أن يطلع عليه ويلجَ عالمه، ومنعُه من هذه الرغبة الشديدة يمنَعُه من رؤية هذا العالم وقد يؤثر على رؤيته المستقبلية للأمور
2ـ بر الأقارب:
وهذا من الأمور التي قد يغفل عنها الكثير من الناس فيقصرون بحق أقاربهم فلا يتفقدونهم ولا يحسنون إليهم، وبعض الآباء لا يربون أولادهم على ذلك.
فأفضل الصدقات ما كانت للأقارب: فعن كُريب مولى ابن عباس أن ميْمونة بنت الحارث رضي الله عنها أخبرته أنها أعتقت وليدةً ولم تستأذن النبي صلى الله عليه وسلم فلما كان يومَها الذي يدورً عليها فيه قالتْ أشَعَرتَ يا رسولَ الله أنِّي أعتقتُ وليدَتي قال: "أو فعلتِ" قالتْ: نعم قال: "أمَّا إنَّكَ لوْ أَعْطَيْتِها أخْوالَكِ كان أعظمُ لأجرِكِ" ( ).
وأفضل البرِّ برُّ الأقارب: فقد روى البخاري أن النبي عليه السلام قال: "الخالةُ بمنْزلةِ الأمِّ".
وبر الأقارب يكفر الذنوب: فعن ابن عمر قال أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل فقال يا رسول الله أذنبت ذنباً كبيراً فهل لي توبة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألَكَ وَالِدَان" قال: لا قال: "فَلَكَ خَالَة" قال: نعم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فَبِرَّها إذاً " ( ).
فالخال والخالة والعم والعمة والجد والجدة من الأقارب والأرحام الذين وصى بهم الإسلام وتربية الأولاد على برهم من أهم واجبات الوالدين تجاههم.
4ـ الفخر بالأقارب المتميزين: وسيلة تربوية مهمة وهي أن يفخر الإنسان بأقاربه المتميزين والمتفوقين وهذا يؤدي وظائف عديدة منها:
ـ زيادة الترابط الأسري والمحبة بين أفراد الأسرة.
ـ السعي إلى التأسي بهذا القريب المتميز.
وقد كان النبي عليه السلام يفخَرُ بخاله سعد بن أبي وقاص فقد روى الترمذي عن جابر بن عبد الله قال أقبل يَعدو؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هَذا خَالي فلْيُرِنِي امْرُؤٌ خالَه"( )، وكان سعد بن أبي وقاص من بني زهرة وكانت أم النبي صلى الله عليه وسلم من بني زهرة فلذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم هذا خالي.
وهذه الوسيلة العظيمة والمهمة والمهملة -في بعض الأوساط- لها دورها الفعال في تنشئة الأطفال على التأسي بالأقارب المتميزين، ولها دورها في توطيد أواصر المحبة بين مختلف أطراف الأسرة.
5ـ عدم تسمية طفلة أنها زوجة طفل آخر في المستقبل: وهذا قد يحصل في كثير من الأسر والقبائل، فيقولون هذه الطفلة سنزوجها لهذا الصبي أو ذاك في المستقبل، وهم بذلك يضعون أول مسمار نعش في العلاقات الخارجية للأسرة، لأن هذا الأمر يولد كثيراً من المشكلات بين مختلف الأطراف لاسيما إذا نضج الأولاد ولم يكن هناك رغبة من أحد الأطراف في الآخر، عند ذلك تقع المشكلات وتتفاقم الخلافات وربما أدى ذلك إلى قطيعة مدى العمر.
فالحل الأمثل لمثل هذه القضية هو عدم ربط أي طفلة بأي طفل ولو على سبيل المزاح، وإنما تترك الأمور لوقتها ولأصحابها، فالله أعطى الفتاة حق اختيارها لزوجها كما أعطى الشاب حق اختياره لزوجته، وتسمية الأطفال لبعضهم سلب لهذا الحق الذي أعطاهم الله إياه، وتعد سافر على حرياتهم، وفضول بغيض يكرهه الإسلام.
إن العلاقات الخارجية في الأسرة على مستوياتها المختلفة علاقات مهمة في حياة كل أسرة، وهي وإن كانت متداخلة ومتشابكة فإن الإسلام طلب منا أن نتلمس طريق الصواب فيها حتى لا نزل ولا نضيع فتزل وتضيع بذلك أسرنا التي ملكنا الله إياها.
حلُّ الشيفرة الأسرية طريق السعادة
التآلفُ والتفاهم أساس الحياة الأسرية السعيدة , وأيُّ بيتٍ غاب عنه هذان المفهومان فقد اتبعَ السبل التي تتفرق عن سبيل الله, وأصبح بيته كبيتِ العنكبوتِ تُحرِكه النَّسمة, وتُتْلفُه القطرةُ, وتَخْترقه الحشرةُ.
ومن لا يستطيع أن يضع نقاطا ومعالمَ للتفاهم والتآلف بينه وبين زوجه , وبينه وبين أولاده , سيبقى في شقاء وتعب , وجهد ونصب , يلهث وراء السعادة ولا يصل إليها , ويحلم بالهناء في بيته ولا يجده على أرض الواقع.
ولعل الأصل الشرعي للتفاهم والتراحم في الحياة الأسرية يكمن في كثير من الآيات القرآنية و الأحاديث النبوية.
فمن الآيات قوله تعالى: (ومنْ آياتِهِ أنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُم أزواجاً لِتَسْكُنوا إليها وجعَلَ بَيْنَكُمْ مَودةً وَرَحمةً إنَّ فيْ ذَلِكَ لآياتٍ لقومٍ يَتَفَكَرون( ( ). فمقام المودة والرحمة هو المقام الأساس في الحياة الزوجية ولا يمكن الوصول إليه إلا بالتفاهم والتآلف , بتآلف الزوج مع قلب زوجته وتآلف الزوجة مع قلب زوجها وبتفهم الزوج لهموم زوجته ومشكلاتها وتفهم الزوجة مشكلات الزوج وهمومه.(/23)
ومن الأحاديث التي تحض على التفاهم والتآلف ما رواه المغيرة بن شعبة أنه خطب امرأة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " انْظُرْ إليهَا فإنَّه أَحْرى أنْ يُؤْدَِ بَيْنَكما " ومعنى قوله أحرى أن يؤدم بينكما أي أحرى أن تدوم المودة بينكما.
ولكل شخصٍ طباعه الخاصة التي أمتعه الله بها فهو يعيش في هذه الطباع ويركن إليها, وتظهر هذه الطباع أكثر ما تظهر في حالات السرور الشديد والحزن الشديد.
ولما كان الله سبحانه وتعالى قد جعل عقد الزواج على نية الديمومة بين الزوجين كان لا بد لكلا الزوجين أن يسيرا باتجاه بعضهما اتجاها إيجابيا يحققان من خلاله التآلف المنشود والتفاهم المقصود ويحطمان كل ما يقف في طريق سعادتهما.
وكان من أحد سبل هذا السير الإيجابي هو معرفة طباع الرجل لزوجته ومعرفة طباع المرأة لزوجها وهو الذي أسميناه ( الشيفرة الأسرية ).
فإذا كانت المرأة قد عقدتْ العزمَ على أن تسير باتجاه زوجها هذا السير الإيجابي وقررت أن تحطِّم كل ما يقف في طريق سعادتها كان لا بد لها أن تعرف زوجها حق المعرفة , وأن تسعى لتتعرف عليه وعلى طباعه بشكل أكبر وبطرق مختلفة حتى تصل إلى حل الشيفرة الخاصة به ومن ثم تصل بزوجها وبيتها إلى برِ الأمان وشاطئ المودة والتراحم التي ذكره الله، وما يقال للزوجة يقال للزوج.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرف زوجاته حق المعرفة حيث روى الإمام مسلم والإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنِّي لَأَعْلَمُ إذَا كنْتِ عنِّي رَاضِيةً وإذا كُنتِ عليَّ غَضْبَى" قالت: فقلت من أين تعرف ذلك فقال: "أمَّا إذا كُنتِ عنِّي رَاضيةً فإنَّك تَقُولِينَ لاْ وَرَبِّ محمَّد وإذا كنْتِ عليَّ غَضْبَى قُلْت لاْ وَرَبِّ إبْرَاهيم" قالت: قلت أجل والله يا رسول الله ما أهجر إلا اسمك.
وقد قال في فتح الباري كلاما لطيفا هذا نصه: " قوله ( إني لأعلم إذا كنت عني راضية... إلخ ) يؤخذ منه استقراءُ الرجل حال المرأة من فعلها وقولها فيما يتعلق بالميل إليه وعدمه , والحكم بما تقتضيه القرائن في ذلك , لأنه صلى الله عليه وسلم جزم برضا عائشة وغضبها بمجرد ذكرها لاسمه وسكوتها , فبنى على تغيُّر الحالتين من الذكر والسكوت تغيُّر الحالتين من الرضا والغضب ".
فها هو النبي صلى الله عليه وسلم يعلمنا في هذا الحديث المبارك الاهتمام بطبيعة المرأة ومعرفة أحوالها والتصرف معها في كل حالة بما تقتضيها وهذا أدعى إلى عدم الخلط ومعرفة الأحوال ومن ثم يصل باستقراء أحوال زوجته إلى الحكم الصحيح عليها فيعاملها بما تقتضيه القرائن.
وهذه الشيفرة الزوجية مهمة جدا في حسن سير الحياة بين الزوجين , فإذا وصل الإنسان إلى حل هذه الشيفرة الخاصة بزوجته استطاع أن يقود سفينة بيته إلى شاطئ المودة والرحمة.
ومن لا يعرف ذلك سيصل بسفينته هذه إلى صخور التنافر لتحطمها وتكسرها وهو ما عبرَ عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكسر عندما قال: " وَكَسْرُها طَلَاقُها "( ).
وكذلك المرأة لا بد أن تتعرف على طباع زوجها و شيفرته الخاصة لتهيئ الجو المناسب والرياح الهادئة لسير هذه السفينة.
خطوات أولية عملية ضرورية على طريق حل الشيفرة الأسرية:
1 - النية الصادقة في معرفة الحقوق والواجبات:
عن عائشة رضي الله عنها قالت سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "الأرواحُ جنُودٌ مُجَندةٌ فَما تعَارفَ منها ائْتلَف وما تَنَاكرَ منْها اخْتَلَف"( ).
قال في الفتح في شرح هذا الحديث: " يقول ابن الجوزي يستفاد من هذا الحديث أن الإنسان إذا وجد من نفسه نفرة ممن له الفضيلة والصلاح فينبغي أن يبحث عن المُقتضى لذلك ليسعى في إزالته حتى يتخلص من الوصف المذموم ".
ويبنى على كلام ابن الجوزي رحمه الله أن الزوج إذا كان يعرف أن زوجه من المشهود لها بالصلاح وهو لا يستطيع أن يتفاهم معها لا بد أن يعيد حساباته مع نفسه فلعله يحمل صفة مذمومة هي التي تحول بينه وبين التفاهم مع زوجه , وكذلك يقال للزوجة , فلا بد إذن من وجود نية صادقة لحل هذه الشيفرة فيسعى الإنسان إلى فك رموزها ولو كان بالتخلص من بعض الصفات التي يتصف بها.
2 - معرفة نمط تفكير الزوج ونمط تفكير الزوجة:
خلق الله البشر متفاوتين بطباعهم وتصرفاتهم وطرائق تفكيرهم, وهذا الاختلاف قائمٌ إلى يوم الدين بين جميع البشر, والمسلم مطالب أَلاَّ يصل هذا الاختلاف إلى النفور والهجر والبغضاء, بل مطلوب منه أن يقارب الأفكار المختلفة ويتعامل معها بحكمة وروية , فإذا كانت هذه هي الصفة العامة والراسخة في الإسلام بين جميع المسلمين فهي بين الزوجين يجب أن تكون أكثر ترسيخاً وأكثر وضوحاً إذ ينبغي أَلاَّ يكون هذا الاختلاف سبباً في التنافر بين الزوجين بل يجب أن يحصل نوع من التقارب وذلك من خلال معرفة طريق تفكير الزوجين أحدهما للآخر يقول د. التكريتي:(/24)
(لكل شخصٍ نمطٌ يغلبُ عليه فهو إمَّا أنْ يكونَ صورياً أو سمعياً أو حسياً هل رأيتَ مشهداً لزوجٍ وزوجته يتجادلان دونَ أن يكون بينهما تفاهم فهو يقولُ مثلاً جلبتُ لكِ بدلةً جميلةً وسواراً ثميناً وهي تقولُ له لم أسمعْ منك كلمةً تعبر عن مشاعركَ تجَاهي.. إنَّ نمطَ تفكيرِ الرجلِ هو صوريٌ ونمطُ تفكيرِ المرأةِ هو سمعيٌ فهي تريد أن تسمعَ منه كلاماً جميلاً لا أن تنْظرَ إلى الفساتين وكان يمكن لهذا الرجل أنْ يرضيَ زوجتَه بكلماتٍ قليْلة ) ( ).
3- الاهتمام بالحالة النفسية لكلا الجانبين:
ولقد وضح ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث كان يعرف تماما حال زوجته( ).
حالة الغضب وحالة الرضا فهو يعرف حالة الغضب في زوجته ويعلم حالة الرضا وهذا مهم جدا في الحياة الزوجية حتى يضع الأمور في نصابها.
4 - الاهتمام بالحالة الجنسية لكلا الجانبين: وهذا أمر مهم يعرفه كل زوج في زوجه.
حيث يعتبر الزواج سببا في استقرار الحالة الجنسية عند الطرفين, فعندما يفقد أحد الطرفين الاهتمام به أمام الطرف الآخر يحصل الاضطرابُ الذي يسبب كثيرا من المشكلات التي تكون سبباً في اختلال التوازن في الأسرة , والإسلام ذهب إلى أبعد من هذا فقد طلب من الرجل ألا ينزع عن زوجته في حال الجماع حتى تنتهيَ حرصا منه على استقرار حالتها الجنسية ونيل حظها من زوجها.
إن الخطوات المتعددة في حل الشيفرة الأسرية لا تقتصر على هذه النقاط الأربعة , بل إن هناك أمورا دقيقة لا يعرفها إلا الأزواج أحدهما مع الآخر، حتى يصل الزوجان إلى سعادتهما الحقيقة وإلى مقام ( المودة والرحمة ) لا بد أن يتجنب كل واحد ما يزعج الآخر ويفعل ما يحبه وعند ذلك سيتحققان بهذا.
أي بنيتي...
في لحظات الفراق والبُعد المؤقت يتذكر الإنسان لحظات البعد الذي لا عودة فيه, ويتذكر الرحلة الأخيرة والسفرَ الأخير وهنا تراوده أسئلة كثيرة ماذا لو فارقت الدنيا الآن ؟؟
ماذا تركت لأولادي من بعدي ؟؟
سألت نفسي هذا السؤال وجاشت عيناي بالدموع وتذكرت صغيرتيَّ (هداية) التي لم تبلغ الثالثةَ من عمرها و (تسنيم) التي لم تبلغ عامها الأول فعزمت على كتابة وصية لهما يتخذانها دليلاً ومنهجاً فكتبتُ لهما قائلا:
في أي لحظة من اللحظات قد أودع الدنيا وأترك هذا العالم إلى عالمٍ أشدُّ أمْناً لأنَّه معَ الله وحده , ومتى كان الإنسان مع الله وحده كان في مأمنٍ من كل شيء فهو الملجأ وإليه المصير
أي بنيتي:
فكرت لو تركتكِ على حين غفلةٍ وأختَك التي لم تتجاوز عامها الأول ماذا سيكون منهجكما وكيف ستسيران في هذه الحياة فأحببت أن أكتب لكما هذه الكلمات لتكون لكما ولكل فتيات المسلمين منهجاً ودليلاً.
أي بنيتي:
كلمة واحدةٌ في القرآن لو عَرفها الإنسان لعرف كل شيء , ولو فهمها الإنسان لفهم كل شيء , ولو تمسك بها الإنسان ما فاته شيء,وإن أضاعها ضَاع منه كل شيء ألا وهي الله
ومن غفلة ابن آدم أنه يدور حول كل شيء وحول كل معنىً وينسى أن يدور حول هذه الكلمة كمن يطوف حول نفسه فيعجب بها وينسى أنها خلق الله في الأرض فيطوف جسدُه ولا تسمو روحُه.
أي بنيتي:
القرآن مائدةُ الله.. ومن ذا الذي يجوع إذا جلس إلى مائدة الله!!
والقرآن حبلُ الله... ومن ذا الذي ينقطع إذا تمسك بحبل الله!!
ومائدة الله غذاء , وحبله طريق مستقيم , والمسلم في سفره لا يحتاج إلاَّ إلى غذاءٍ في طريقه الصحيح ليصل إلى هدفه ومبتغاه فاجلسي إلى مائدة الله, وتمسكي بحبله المتين يكن لك خيرَ جليسٍ وخير معين.
أي بنيتي:
أول معرفةِ الله الطاعةُ والامتثالُ ومن لا يمتثل لا يَعرف ومن لايعرف لا يغرف ومن لا يغرف لا يتصف فكوني مع الله بالطاعة والامتثال , تَتَحَقَقي بمعرفتِه وتَغْرِفي من هدايته , فتُنارُ لك البصيرةُ, وتَخْلُص لك السريرةُ وتكوني ربانيَّة كما أراد الله سبحانه.
وأولُ إصلاحِ العلاقة مع الأرحام اللَّهفةُ والحنانُ, فكوني ملهوفة القلب عليهم شديدة القرب منهم غريبةً عما يزعجهم وضَّاءةً فيما يسعدهم فإنَّكِ إنْ فعلتِ كانوا لزلاَّتك دِثَاراً ولهفواتك جِباراً.
وأولُ السرورِ مع الزوجِ الحبُّ والجمالُ فبالحب يكمُل البُنيان وبالجمال يتمُّ العمران.
ولتكن علاقتك معه كلّها جميلة فاصبري عليه صبراً جميلاً وتقربي منه تقربا جميلاً واعذريه عذراً جميلاً.
وأول إصلاحُ العلاقةِ مع الأصدقاء عدمُ طلبِ ثمنِ محبتكِ لهم, فليس كل إنسان يملك رصيداً ليدفع ثمن محبة الناس له , فإنَّك إن فعلت كشفت أرصدةَ الناس والناس لا يُحبون أن تكشف أرصدتهم.
وأولُ النجاح ِفي الحياة هدفٌ واضحٌ, وسيرٌ أكيدٌ إليه بل كللٍ ولا مللٍ، وأول النجاحِ في الآخرة أن يكون ذلك الهدف هو رضا الله سبحانه.
أي بنيتي:
الحياة مجموعةُ تجارب والتجربةُ لا تكون إلا بامتحان.
فإذا كثرتْ عليكِ الامتحاناتُ في الدنيا فاعلمي أنها سُلَّم للارتقاء إلى العلْياء , فلا تَجزعِي منها واسْتقبليها بِرَحابة صدر وابتسامةِ أملٍ واحتسابٍ عند الله سبحانه.(/25)
واعلمي بُنيتي أن قلبَ الفتاةِ أشدُّ شبها بالكبريت الأحمر, سريع الاشتعالِ وصعبُ المنال, فلا تزهدي به ولا تعطيه لمن لا يستحقه, فيذهب به ويَتْرُك خلفه دخاناً أسودَ يسود عليك حياتك ومعيشتَك.
واعلمي أنَّ خيَر نِساء العالمين مريمُ وآسيةُ وخديجةُ و فاطمةُ وعائشةُ فاجعلي من سيرتهنَّ قُرطا في أُذنك كلما هبَّ النَّسيم اهتزَّ فأسمعك من سِيرَتِهِنَّ ما تُقومينَ به سلوككِ وتَتَقَربينَ به من ربك وتَنْفعينَ به أمتكِ.
واعلمي أنِّي خارجٌ من الدنيا عاجلاً أم آجلاً وأنكما عَملي بعد مماتي , وسببَاً في زيادة حسناتي وسببَاً في تثقيْل مَوازيني إنْ هي خَفَّتْ, وحِجاباً من النَّار إنْ هيَ لفحتْ , فاجعلا لي من دُعائكما نصيباً , ولا تفرطا به وتذكرا أنِّي ربَيتُكما على الكتاب والسنة فإنَّه أوثَقُ ما عَمِلْتُ وأَرْجَى ما فعلتْ.
والدك
عبد اللطيف البريجاوي
مدينة نصر ـ القاهرة
ألم و آلام
الحمد لله والصلاة على رسول الله وبعد:
جاءتني تطلب الطلاق بعد سبع وثلاثين عاماً....!!
وعندها من الأولاد تسعة... !
خمسٌ من الذكور وأربعٌ من الإناث....!!!
وعندها من الأصهار أربعة ومن زوجات البنين ثلاثة...!
وعندها من الأحفادِ عشرة....!
أما السبب فإنها لم تستطع أن تتفاهم معه...!
قلتُ لها – ممازحاً -كم بقِيَ من العمر؟
هلا انتظرتِ خمسَ عشرةَ سنةً أخرى لعل الله يحل هذه المشكلة بينكما بوفاةِ أحدكما.
فأجابتْ مستطردةً لم أعدْ أحتمله ولا أستطيعُ التفاهم معه.....
قلت سبحان الله هذه إحدى المشاكل العديدة والمتنوعة في المجتمع، ثم جلست أفكر في هذه القصة. وتراودني أسئلة كثيرة:
ألمْ يستطع أحد الزوجين أنْ يَخفِض جَنَاحه للأخر؟؟
ألم يستطعْ الزوجان أنْ يَجِدا نقاطاً مشتركةً يسيران عليها في حياتهما ؟
ألمْ يستطعْ الزوجان أن يبتعدَ كلُ واحدٍ منهما عمّا يزعج الآخر؟؟
ألمْ يتدخلُ الأولادُ والبناتُ والأصهارُ في توضيح الصورة للزوجين ؟
ألمْ.. ألمْ.... ألمْ..... حتى أصابني من هذه الأسئلة ألم...
ثم رحت أكبّر الصورةَ الاجتماعية شيئاً فشيئاً حتى تشمل المجتمع المسلم كلّه فرأيت أنَّ المجتمعَ المسلمَ كلّه بأطرافه المختلفة يشبه هذه الأسرة الممزّقة.
نشتم.. نقذف.. نتشاجر.. نحسد.. نبغض.. نتفاخر.
وكل منا يتهم الآخر.
هذا هو حال المسلمين لا أحد يستوعب الآخر ولا أحد يرى الفضل للآخر فكلّ واحد بدأَ الإسلامُ من عنده و لربّما فكّر بأنَّه سينتهي عنده.
مع أنّ الاسلام وجّه إلى الاعتراف بفضل الآخرين وذلك نلمسه واضحاً وجليّاً في حديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "إنَّ مَثلي وَمَثلُ الأنبياءِ مِنْ قَبلي كَمَثَلِ رَجلٍ بَنى بيتاً فأحسنَهُ وأَجملهُ إلاَّ موضعَ لَبِنة من زاويةٍ فَجَعلَ الناسُ يَطُوفونَ به ويَعْجبونَ له وَيَقولونَ هلاَّ وُضعتْ هذه اللَّبنةُ قالَ: فأنا اللَّبنةُ وأنا خَاتَمُ النَّبيين"( ).
فانظر كيف اعترف الرسول الكريم بالبناء كاملاً ولم يحقّر هذا البناء إنمّا جاء مكمّلاً له ومتمّماً وأنّه مجرّد لبنة ولبنة واحدة فقط.!
وكلّ مسلم هو حلقة من سلسلة من الحلقات فلا بد أن يعترف بالحلقة التي قبله ويمسك بالحلقة التي بعده حتى تصبح هذه الحلقات متينة وقوية.
وهذا الحديث يعلمنا كيف نتواضع لجهود الآخرين وإنْ لم تبلغ الكمال وإن لم تنجحْ وكانت في طريق النجاح وكم نحتاج إلى هذا، فهاهو النبي الكريم يعترف بجهود من قبله متواضعا لهم مع أن جهودهم لم تبلغ الكمال ولم تصل إلى الدرجات العلى.
فكم نحن بحاجة إلى الأرضية التي ننسجُ من خلالها احترام الآخر والاعتراف به وخفض الجناح له واحترام الزوج لزوجته واعترافه بفضلها وعلى ذلك ربَّى الرسول الكريم صحابته الكرام فجاؤوا أئمة هداة جابوا الدنيا ونشروا العلم والأمان
فيا ربنا أكرمنا بالبصيرة واتباع الكتاب والسنة المطهرة..آمين
وفي كل أول وآخر يطيب الحمد لله رب العالمين
السيرة الذاتية
ـ عبد اللطيف البريجاوي
ـ تولد حمص 1971
ـ إجازة في الهندسة الزراعية من جامعة حلب عام 1995
ـ إجازة في الشريعة الإسلامية من جامعة الأزهر بالقاهرة عام 2005م
ـ عمل خطيباً ومدرساً في مساجد حمص منذ عام 1992 وحتى الآن
ـ عمل محكِّماً شرعياً في المحاكم الشرعية بحمص منذ عام 2002 وحتى الآن
ـ خبرة إدارية في الإدارة من مشفى جمعية البر والخدمات الاجتماعية
ـ متزوج وعنده ريحانتان ( هداية و تسنيم)
ـ الموقع الالكتروني ـ أطياف الهداية –
أعمال قيد الإنجاز:
ـ رحلة النظر في قصار السور
ـ رؤى في أحاديث القصص
ـ أمثال القرآن الكريم: رؤى وأفكار
ـ محاولات في الفهم
والحمد لله رب العالمين.
الفهرس
كلمة الشيخ ممدوح جنيد ... ... ... ... 7
كلمة الدكتور عبد المعطي الدالاتي ... ... ... 11
مقدمة بين يديك أخي القارئ ... ... ... 13
ما قبل الزواج وفترة الحمل الأسري ... ... ... 19
الشروط اللازمة لإصلاح الأسرة ... ... ... 26
إصلاح الزوجة ... ... ... ... ... 33(/26)
إصلاح الزوج ... ... ... ... ... 40
إشاعة ثقافة العفة في البيت ... ... ... ... 47
إشاعة ثقافة الشورى في البيت ... ... ... 54
إشاعة ثقافة الرفق في البيت ... ... ... ... 58
إشاعة ثقافة المصارحة في البيت ... ... ... 63
أدب الاختلاف ضمانة لأسرة متماسكة ... ... 67
عدم التذكير بالماضي المزعج ... ... ... ... 72
السعي إلى التمييز الأسري ... ... ... ... 76
الحسم في المخالفات الشرعية ... ... ... ... 83
مراعاة الفروق الفردية في الأسرة ... ... ... 88
تخفيف التيتم والترمل الصوري ... ... ... 93
التعامل مع الأخطاء في المنْزل ... ... ... ... 99
العلاقات الخارجية في الأسرة ... ... ... ... 107
حل الشيفرة الأسرية ... ... ... ... ... 121
أي بنيتي ... ... ... ... ... ... 128
ألم وآلام ... ... ... ... ... ... 132
السيرة الذاتية ... ... ... ... ... 135
الفهرس العام ... ... ... ... ... 137(/27)
معالم رئيسة في واقع العمل الإسلامي
بقلم الدكتور عدنان علي رضا النحوي
إنَّ دراسة واقع العمل الإسلاميّ أمر هام في حياة الحركات الإسلامية، وفي حياة الأمّة المسلمة كلّها. إنَّ مثل هذه الدراسات هي التي تنمّي العمل وتساعد على تطوره وقوته.
يسمّى بعضهم هذه الدراسات والأبحاث بالنقد والنقد الذاتي، كما اشتهر في العالم الشيوعي، أو النقد عامة كما عرف في العالم الغربي. وقد انتشرت هذه اللفظة في حياتنا، ولم ينتشر نهجها المتبع لدى هؤلاء أو لدى هؤلاء. ولكن انتشرت مع اللفظة ظلال غير محببة.
أما الإسلام فقد وضع قاعدة أعظم من ذلك بكثير. وضع قاعدة النصيحة، حتى جعلها كأنها هي الدين تعبيراً عن شمولها واتساعها وأهميتها، كما جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( الدين النصيحة … … ).
وعندما نتتبع قواعد النصيحة وآدابها، ونهجها وأُسلوبها، نجدها تشمل كلّ خير يمكن أن يدعو إليه النقد، وتنبذ كلّ شرّ قائم فيه(1)، ذلك كلّه من خلال آيات وأحاديث، وممارسة كريمة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلّم وفي حياة صحابته.
ولكن النصيحة التي دعا إليها الإسلام غابت عن واقع المسلمين اليوم، والنقد الذي دعا إليه أولئك أخذنا منه التجريح والتشهير، والخصومة والعداء.
فلا بد إذن من عودة النصيحة إلى حياة المسلمين بكلّ قواعدها وآدابها، حتى تصبح النصيحة منهجاً ربانياً يُمارس عملياً في واقعنا في التربية والبناء والتدريب والإعداد والممارسة والتطبيق.
ومن هذه القاعدة نخرج بأمر هام ألا وهو ضرورة ما يمكن أن يُسمّى " وقفة المؤمن ومراجعة الحساب "، حتى تقف كلّ حركة إسلامية مع نفسها، فتدرس واقعها وتكشف أخطاءها وصوابها، لتعالج هذه وتستفيد من تلك.
ولقد ضرب القرآن الكريم نماذج رائعة لهذه الوقفات. فقد وقف القرآن الكريم مع غزوة بدر وأُحُد وحنين وتبوك والخندق وغيرها وقفات إيمانية رائعة، تقدّم للمسلمين نماذج يتعلمون منها أبد الدهر. ووقف كذلك مع أحداث هنا وهناك، ووقف مع سلوك أفراد، ومع حركات معادية ومناهج محاربة. وقف وقفات الدراسة والتحليل، والنصح والتوجيه، وكشف الأخطاء ومواطن الزلل، ثمّ وضع العلاج والحلول.
وحين نحاول النصح لدعوة الله وحركاتها المختلفة، فإننا نشترط أولاً على أنفسنا أن نصدق النية خالصة لوجه الله، مطهّرة من شهوات الدنيا، بعيدة عن الأحقاد والتجريح، نقول بما نعلم ونتقي الله حتى لا نجرح أو نسيء.
نؤكد هذا المعنى لمعرفتنا بما نعانيه نحن اليوم من حساسية تجاه النصيحة، حتى غلب النُفُور منها، وأحاطت الشبهة بمن يقوم بها. وكأن النصيحة لا تصدر إلا من حاقد يعصف به الحقد والغضب. كلا ! إن النصيحة الصادقة الجريئة تخرج في حقيقتها وجرأتها وصدقها من قلب ملأته السكينة بالإيمان، والطمأنينة بالتقوى، والثقة بالعلم والمحبّة والموالاة.
وإذا كنتُ أتحدث في الصفحات المقبلة عن أخطاء العمل الإسلامي، عن أخطائه فقط، فلأن هذا هو موضوع المقالة. ولكنني لابدّ أن أُشير وأؤكد فضل العمل الإسلامي، مهما تكن أخطاؤه، وفضل الدعاة الصادقين كلّهم قادةً وأفراداً، داعياً الله سبحانه وتعالى أن يتقبّل منهم ومنا أحسن ما عملنا، وأن يغفر لنا سيّئاتنا ويتجاوز عنها إنه هو الولي الحفيظ.
إننا نعرض هنا ما نعتقد أنها مواطن خطأ وضعف، يجب على كلّ حركة أن تعود لنفسها، وتدرس مسيرتها، لتكشف هي بنفسها أخطاءها دون خوف أو وجل أو تردُّد. فهذا مصدر قوة ونماء وحياة. وبتركه نفقد قوّة ونعطّل نماء. إنها كلمات نصح خالص لله سبحانه وتعالى، نقدّمه للحركات الإسلامية كلّها، مهما اختلفت أسماؤها ومواقعها لا نقصد حركة معيّنة بذاتها، ولا نستطيع هنا أن نقدِّم دراسة موسعة للعمل وواقعه، ولكننا نقدِّم موجزاً سريعاً لأهمّ القضايا التي تحتاج إلى دراسة وبحث، ووقفة ونصح، حسب ما نعتقد :
1- التصوُّر الإيماني والتوحيد :(2)
إن عدم التركيز على قضيّة التصوّر الإيماني والتوحيد في الدعوة والتربية والبناء والتدريب، ليكونا القضيّة الأولى في حياة الإنسان، والحقيقة الكبرى في الكون، وليؤديا دورهما الحقّ في صياغة الفكر والنهج والسلوك والمواقف، إن عدم التركيز على هذه القضيّة أدّى إلى اضطراب في واقع العمل الإسلامي، وربّما كان أهم الأسباب لما يعانيه العمل الإسلامي من خلافات وانشقاقات، واضطراب في المواقف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. كما أن عدم التركيز على هذه القضيّة الأولى جعل القضيّة الأولى في الميدان العملي هي دعوة الناس إلى تكتلات وأحزاب، وإلى أفكار هذه التكتلات والأحزاب، فتضعف الجهود المبذولة لبناء التصوّر الذي يعرضه منهاج الله للإيمان والتوحيد، وتضعف بعد ذلك نواح عديدة في واقع العمل الإسلامي. وينتج عن ذلك ضعف الجهود في طرح المناهج وبناء التخطيط ورسم الدرب، حين تنشغل الطاقات في ميادين الخلافات الفكرية.(/1)
لذلك نعتبر هذه القضيّة هي القضيّة الأولى في العمل الإسلامي، والهدف الثابت الأول من أهدافه، لبناء التصور الحقّ للإيمان والتوحيد، ولتصحيح التصورات المضطربة لدى بعض الناس، ولترسيخ التصوّر القرآني للإيمان والتوحيد، وترسيخ مبادئهما وقواعدهما، كما وردت في كتاب الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلّم. ولكننا في الوقت نفسه لا نرى أنه يمكن فصلهما عن سائر قضايا الدعوة. فعلى العكس من ذلك فإننا نراها مرتبطة مع سائر قضايا الدعوة، متداخلة معها، سواء في الناحية النظرية الفكرية أو العملية التطبيقية، حتى يأخذ الولاء صورته الأمينة، والعهد معناه الحقّ، وحتى تمضي الممارسة الإيمانية أقرب للتقوى.
لقد أصاب التصوّر الإيماني في واقعنا اليوم خلل كبير، امتدّ أثره إلى مختلف نواحي الممارسة الإيمانية في حياة الناس. لقد طغت بعض العادات والأعراف على نصوص الدين، ودخلت البدع في بعض نواحي السلوك، وتخلّى الكثيرون من المسلمين عن الشعائر كلّها أو بعضها، ومارس بعضهم أشكالاً من الفسق، ومع ذلك ظلّوا في واقع العالم الإسلامي طبقة " عائمة " تائهة، تحتلُّ مراكز ومواقع، قد يستغلها كثير من المجرمين والمفسدين في الأرض.
التصوّر الإيماني الحقّ يرسمه الله منهاج الله قرآناً وسنّة. فمن أجل هذه الحقيقة الكونيّة الكبرى بعث الله النبيين والمرسلين، وأنزل الكتب السماوية، ومن أجلها بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين، وأنزل عليه الكتاب ليبلغه للناس كافّةً بشيراً ونذيراً. فجاء منهاج الله ـ قرآناً وسنّة ـ باللغة العربية ليفصّل هذه القضيّة الكبرى والحقيقة الكبرى تفصيلاً خاتماً جامعاً لا يترك لأحد العذر في التفلّت إلا أن تقوم عليه الحجة.
2-هجر الكثيرين لمنهاج الله وغيابه عن أداء دوره الحقيقي :(3)
قرون طويلة غاب منهاج الله فيها عن واقع المسلمين. وكادت اللغة العربية، نفسها تغيب في موجات اللغات العامية واللغات الأجنبية. فزاد الجهل باللغة من الجهل بكتاب الله وسنّة رسوله، حتى عجمت الألسن وجفّ العلم وهبطت العزائم.
من خلال هذا الوهن الممتدّ في الأمة نشأت الحركات الإسلامية لتعالج قضايا عديدة. ورفعت أجمل الشعارات وأحبّها للنفوس. ولكن الواقع لم يكشف عن دور حقيقي لكثير من الشعارات، ولا عن مناهج تطبيقية عملية تعالج هذا الضعف أو ذاك. وغلب على بعض الناس جهود ارتجالية لا تحمل عمق العلاج. فامتدّ المرض في واقع الأمة حتى يومنا هذا لنلمس آثار الأمراض في الهزائم المتتالية والنكبات المتلاحقة.
كان لمنهاج الله الدور الأول في بناء الجيل المؤمن في مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم. فهل قام منهاج الله اليوم في واقعنا بالدور نفسه؟ وهل أخذ مكانه الحقّ في النهج والتخطيط ؟ هل عادت القلوب تنهل منه؟
إن غياب منهاج الله ـ قرآناً وسنّة ولغة عربية ـ زاد من خلل التصور في الإيمان والتوحيد، وضاعف العلل والأمراض. وأصبح الضعف هنا يزيد من الضعف هناك، والضعف هناك يزيد من الضعف هنا، في تأثير متبادل بين هذا الضعف وذاك.
كثير من الناس يُقبلون على كتاب الله في شهر رمضان أو في المواسم، يهزون رؤوسهم مع التلاوة دون أن تهتز قلوبهم أو تخشع نفوسهم. ومنهم من حسب كتاب الله وقف على العلماء، وأن الله خلقهم جهلاء ليبقوا جهلاء مع العامة من الناس لا ينهضون لواجب أو تكليف.
ومنهم من رأى أن يأخذ بالقرآن وحده دون السنّة، أو السنّة يلتزمها أكثر من كتاب الله، يُفرّقون منهاج الله أجزاء، فيأخذون ويذرون.
ومنهم من انحصرت صلته في كتاب الله في آيات متفرّقة يأخذونها من هنا ومن هناك. حتى غلبت كلمة " الثقافة " على " العلم "، كأن الإسلام ثقافة عامة يُكتفى من أجلها بقدر محدود يسدُّ حاجة الندوات والمجالس ولا يسدُّ حاجة النفوس لبنائها والأجيال لإعدادها. فاستبدل بعضهم الكتب البشرية بمنهاج الله لتحلّ محلّه، وأنَّى لكتاب بشري أن يقوى على ذلك. وظلّت الكتب البشرية تُمثّل في معظمها جهداً فرديّاً لا يخضع لنهج محدّد ولا يحقّق مهمّة محدّدة، فتعدّدت المصادر للشباب المسلمين وتكوّنت مدارس شتّى ومذاهب متفرقة لا تخضع لمناهج مدروسة فتنافرت الثقافات والمفهومات، وتنافرت القلوب والأرواح.
3-جهل الواقع وعدم وعيه ودراسته :(4)
قرون طويلة مرّت على المسلمين وهم في غفوة ساهون لا يدرون ما يجري حولهم ولا أمامهم ولا خلفهم. لم يعد الواقع الذي يعيشونه مصدر تدبّر ودراسة ليقدّم الموعظة الجليّة والآية البيّنة، حتى تزداد القلوب إيماناً ويقيناً، وتزيد إخباتاً لربّها وخشوعاً. لقد أغمض المسلمون عيونهم عن الواقع حتى وجدوا أنفسهم في لهيب الفتنة، استزلهم إليها شياطين الإنس والجنّ. فما عادوا يعرفون العدوّ من الصديق، والغادر من الأمين.(/2)
ولقد كان جهلهم بالواقع سبباً من أسباب أخطاء متراكمة في ممارسة دينهم وإيمانهم. يخالفون الدين ويحسبون أنهم على صراط مستقيم. يُستدرجون إلى الضلالة وهم ساهون. وينسلّ الأعداء بينهم ينشرون الفتنة والفرقة والشحناء والبغضاء، فيتهافتون فيها كتهافت الفراش في النار.
إذا استعرضنا تاريخنا لقرون خلت نجد هذه الظاهرة جليّة، ونجد أخطارها بارزة واضحة. فلقد كان من أوضح نتائج جهلنا بالواقع أن طعنّا أنفسنا، وأسهمنا بأيدينا في كثير من نكباتنا. ألم يُسهم بعض المسلمين في إسقاط الخلافة ؟! ألم يرفع بعض المسلمين شعارات مناهضة للإسلام ؟! ألم يفتح بعض المسلمين صدروهم وقلوبهم لأعداء الإسلام؟!
وفي واقع العمل الإسلامي اختلطت الأمور كثيراً. ولعب الجهل بالواقع دوراً واسعاً فيما حلّ فيه من نكبات. واندسَّ المنافقون والأعداء واتتهم الفرصة فأحكموا الضربة وسدّدوا الطعنة وعلّقوا المشانق، ذلك كلّه من خلال غفوة وجهل واضطراب. أسباب كثيرة وليس سبباً واحداً، كانت وراء عدد من النكبات والمصائب. ولكنّ جهل الواقع كان أحد الأسباب الهامة.
ودراسة الواقع لا تعني مطالعة صحيفة أو الاستماع إلى إذاعة فحسب، ولكنّها جهد ومعاناة. ودراسات وأبحاث، تَرُدُّ أحداث الواقع إلى منهاج الله ردّاً أميناً. ومن خلال ذلك الجهد المبارك، من خلال منهاج الله، يُفهم الواقع. والواقع يراه العلماني من خلال معتقداته فتكون له رؤيته الخاصة به، والقومي كذلك، وكذلك سائر أصحاب النظريات المضطربة. أما المؤمن فله نظرته الخاصة ورؤيته المتميزة، ووعيه الإيماني العميق للواقع، يتفرد به عما سواه بالعمق والنهج المستقيم. وقد تلتقي رؤية غيره من خلال اعوجاجها مع رؤيته المستقيمة في نقاط محددة، ولكنّ النهج يظلّ مختلفاً كل الاختلاف. فنتيجة الضغط الرهيب للأفكار المنحرفة، ونتيجة لجهل الدعاة بالواقع أحياناً، ونتيجة إلى ضعف الزاد من منهاج الله، نتيجة لهذا كلّه انحرفت رؤية بعض الدعاة المسلمين للواقع، فرأوه بغير منظار الإيمان والتوحيد، وبغير ميزان منهاج الله. فمنهم من أخذ يُعلي من شأن كلّ شعار غربي جديد، فريق رفع " الاشتراكية " وانساق مع دعايتهم حتى لبس رداءها وصبغها بطلاء إسلامي. ولما انتهت هذه النغمة هبّ فريق يجعل من القومية شعاراً إسلامياً، وبعد حين هبّ آخرون يجعلون الديمقراطية سنّة من سنن الرسول صلى الله عليه وسلّم، أو دعوة حضارية أو لحناً إسلامياً. أحد الدعاة يقول : " نحن مع الديمقراطية بكلّ أبعادها ومعانيها "(5). وآخرون انغمسوا في ممارسة الديمقراطية بعد تمنُّع وتردّد. وآخرون سقطوا في العلمانيّة ومذاهبها، والحداثة ومذاهبها.لقد اختلطت الأوراق في الساحة الإسلامية اختلاطاً عجيباً، وحار كثيرون فيما يرون و يسمعون، وزادت البلبلة والانقسام.
لقد برز هذا الخلل في واقع المسلمين عامة، وكذلك في واقع العمل الإسلامي، وفي تباين وجهات النظر واختلاف الرؤية، حين كانت العاطفة والارتجال، وعدم توافر الدراسات المنهجيّة العميقة، وعدم ردّ الواقع إلى منهاج الله، حين كان هذا كلّه هو الذي يكوّن الرؤية للواقع، والنظرة للأحداث. وحسبنا أن نسأل أين هي الدراسات الإيمانية المنهجيّة للواقع؟!
4- اضطراب الممارسة والتطبيق :
من البداهة أن يضطرب العمل وتختلط الممارسة ويتناقض التطبيق، حين تنضمّ آفات إلى آفات، حين ينضمّ خلل التصوّر الإيماني، والجهل بمنهاج الله والجهل بالواقع، حين ينضمّ هذا كلّه بعضه إلى بعض فكيف تستقيم الممارسة ويصدق العمل؟!
لقد أدّى هذا الوهن إلى أخطاء تراكمت مع الزمن لم تجد فرصة للعلاج ولا قدرة على المواجهة ولا سبيلاً للإصلاح. تراكمت الأخطاء حتى سكت الناس عنها، ثمّ اعتادوها، ثمّ ألفوها وحسبوها حُسْناً، ثمّ أصبحت عادة يفوق حكمها حكم النصّ الشرعي، ثمَّ أصبحوا دُعاةً لها.
كان من أبسط هذه الأخطاء، على خطورتها في ميزان الإسلام، انتشار الغيبة والنميمة والافتراء والظلم بين المسلمين، حتى لم يعد لعرض المسلم حُرمة تُرْعَى بين إخوانه. ولقد غلب الظنّ الذي نهى عنه الإسلام حتى جعله بعضهم يقيناً، ثمّ اتخذ بسببه موقفاً وسلوكاً وقراراً. وتمضي السنون تعمل فيها الفتنة حتى يكتشف المسلم أنه اتبع الظنّ والهوى، والقيل والقال، وما تبيّن ولا تحقق، وأنه والى قريباً أو صديقاً على باطل، فآذى بذلك نفسه وآذى المسلمين وأشعل نار الفتنة والفساد. قواعد إيمانية كثيرة يحفظها معظم المسلمين في الأرض، ولكن لا يطبقونها كما يأمرهم بها الله. معظم المسلمين يعلمون قول الله سبحانه وتعالى : ( إنّما المؤمنون إخوة … )، وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلّم: ( المسلم أخو المسلم … )، ولكن أين التطبيق والممارسة، وأين حقيقة الأخوة الإيمانية، وأين الموالاة بين المؤمنين؟!(/3)
لقد تمزّقت الروابط الإيمانية بصياغتها الربّانية، وأخذت صورتها الجاهلية وصياغتها الجاهلية. تحوّلت حبّ الديار والأهل إلى عصبية قومية جاهلية، تصوغها الأهواء والعواطف بعيدة عن نداوة الإيمان. فتمزّقت الحركة الإسلامية الواحدة إلى فرق شتّى، وتمزّقت الدعوة الإسلامية إلى مذاهب متناحرة، وتمزّقت الأمة كلّها إلى أقطار متصارعة، واستذلَّ الأعداء الجميع وهانت الأمة وتناهبتها شعوب الأرض.
حاجز سميك وقف بين العلم والتطبيق. لم يعد الجهل وحده مصدر وهن وهلاك. ولكنّ العلم فَقَدَ بركته وخيره، حين أصاب التصوّر الإيماني خلل، وحين غلبت الأهواء، وانتشرت المعاصي، وعلا القلوب الران.
مسلم يهاجم القومية والديمقراطية في مرحلة من مراحل دعوته، ثمّ ينغمس في ممارستها. وآخر يقول : " إذا كانت القوميّة تعني أن ينهج الأخلاف منهج الأسلاف، وأن عظمة الأب مما يعتزّ به الابن، وإذا كان يقصد بالقومية أن عشيرة الرجل وأمته أولى الناس بخيره، فهذا أمر يوافقه الإسلام ". ألفاظ محببة إلى النفوس. ولكنّها عائمة لا تهدي إلى سواء السبيل. فمن هم الأخلاف ومن هم الأسلاف ومن هي عشيرته ؟ أهم أهل بلده وقطره خاصة؟! وما هو النهج الذي يُتَّبع ؟! وأما الله سبحانه وتعالى فقد قال:
( قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحبّ إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربّصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين )
[ التوبة : 24 ]
5- غياب الميزان وردّ الأمور إلى منهاج الله :
إن ما عرضناه في الصفحات السابقة من خلل في التصور الإيماني وجهل بمنهاج الله وجهل بالواقع أدى بصورة حتمية إلى اضطراب الممارسة في الواقع كما عرضنا قبل قليل. ومن أهم مظاهر هذا الاضطراب هو غياب " الميزان " من أيدي الناس، وغيابه عن فكرهم وعملهم، ولأهمية وجود " الميزان " في واقع الحياة أفردنا له فقرة خاصة للتأكيد، وليكون إفراده هنا سبباً في تقدير خطورة هذا الأمر، وأهمية بنائه في واقع المسلمين.
" الميزان " الذي نعنيه هو ما تحدّد به منازل الناس وأقدارهم، ووسعهم وطاقتهم. إنه مجموعة الأسس الإيمانية والقواعد الربانيّة التي تضبط حكم الناس على الناس، واختيارهم لهذا الأمر أو ذاك.
لقد كشفت ممارسة الانتخابات في واقع المسلمين خطورة غياب هذا الميزان، فصار الناس يتقدّمون بأموالهم وأنسابهم، وعائلاتهم وعلاقاتهم ومصالحهم، وأحزابهم، ومدى قوّتهم ونفوذهم من خلال ذلك كلّه. وأصبحت قواعد " اللعبة " الديمقراطية، كما يُسمّونها، هي التي تسود وتحكم، وترفع وتخفض، بدلاً من القواعد الإيمانية التي اختفت من الصدور ومن ميدان الممارسة.
لم يكن الانتخابات هي الساحة الوحيدة التي غاب عنها الميزان. فقد غاب الميزان عن معظم الساحات إن لم يكن كلّها. وصار من السهل تسرّب قواعد مضطربة وعلاقات متشابكة لتحكم في ساحة الممارسة والتطبيق،حتى ولو حملت شعاراً إسلاميّاً.
ولا يقتصر الميزان على تحديد " منازل الرجال " وتحديد المسؤوليات والواجبات، فإذا صورته العامة تتسع لتوزن به قضايا الأمة وأحداثها، وليصبح " الميزان " في حقيقة أمره هو المنهاج الربّاني الذي يجب أن ترُدَّ القضايا كلّها إليه. فمن خلال اضطراب التصوّر الإيماني وجفاف العلم بمنهاج الله والغيبوبة عن الواقع وما يدور فيه، من خلال ذلك لم يعد من المتيسّر ردّ الأمور إلى منهاج الله. وبسبب ذلك غلب الهوى، حين لم يعد أمام الكثيرين إلا أهواؤهم ومصالحهم الخاصة ليردّوا القضايا إليها، ولينظروا إلى الواقع من خلالها. فاختلطت الحدود والمنازل، واضطربت المسؤوليات والواجبات، وساء تقدير الواقع والأحداث، واختلت الأحكام، حين أخذ الكثيرون يصدرون عن تصوّراتهم البشرية وما حملوه من نزوات وأهواء.
هذه القضيّة الخطيرة في التصوّر الإيماني ـ وهي ردّ الأمور إلى منهاج الله ـ لم تأخذ حظّها العادل الأمين في مناهج التربية إذا وجدت تلك المناهج ! فنشأت أجيال كثيرة لا تعرف هذه القضيّة ولا تشعر بخطورتها ولا تقوى على ممارستها. غابت هذه القاعدة عن مناهج التربية وربما غابت المناهج ذاتها، وغابت عن مناهج التدريب، وربما غاب التدريب ذاته.
وكان من أول النتائج هو زيادة النكبات وتوالي المآسي وامتداد الظلام، في ساحة واسعة لا تكاد تعرف إلا الشعار، وتكاد تغيب فيها قواعد الإيمان شيئاً فشيئاً.
ومن نتائج ذلك أيضاً هو عدم معرفة الأخطاء حين لم يعد يحدّدها ميزان أمين، وعدم توافر القدرة على معالجتها. فأخذت الأخطاء تتراكم في ساحة العمل الإسلامي حتى أصبحت ركاماً يحجب الرؤية ويضلّل الناظر. وربما اعتاد الناس الخطأ حتى ألفوه، ثمّ رغبوا به وأجازوه.(/4)
وقد تُجْرى بعض المحاولات الارتجالية لمعالجة خطأ هنا أو هناك، فإذا المعالجة تزيد الخطأ بدلاً من أن تعالجه، وتورث الفتنة والشقاق. ذلك لأن المعالجة تأخذ حادثة أو بعض الحوادث، فيدور حولها الخلاف والشقاق، ولا تُعالج القواعد الخاطئة والأساليب المريضة والمناهج المضطربة.
6- غياب النهج والتخطيط :
من السهل أن ندرك الآن، بعد العرض السابق، أنَّ من أهم أخطاء العمل الإسلامي هو غياب النهج والتخطيط عن معظم ميادين العمل أو كلّها.
كيف ينشأ التخطيط والنهج إذا عانى المسلمون من جهل بمنهاج الله وجهل بالواقع، واضطراب في التصور الإيماني والممارسة الإيمانية. إن الارتجال وردود الفعل هي النتيجة الحتمية لهذا الاضطراب والجهل، وإنَّ الأهواء وتزاحم الشعارات هي المظهر الرئيس لهذا الخلل والوهن، وإن الاختلاف والشقاق هو ثمرة ذلك كلّه، ثمرة مرّة مؤذية.
إننا نستطيع أن ندرس أي حركة أو نقوّمها على أُسس ثلاث : العقيدة العامة التي تحكمها، الطاقة البشرية التي تحملها ومدى تمسُّكها بها وخضوعها لها، النهج الذي تضعه الطاقة البشرية على أساس من عقيدتها وواقعها.
ففي حالة الحركات الإسلامية فإن الإيمان والتوحيد مع كلّ ما يتبعهما ويرتبط بهما وعلى ضوء ما يعرضهما منهاج الله كما جاءا باللغة العربية، يمثلان العقيدة العامة التي يجب أن تحكم كلّ حركة إسلامية وعلى أساس من هذا المنهاج الرباني والإيمان الذي يعرضه، وعلى أساس الواقع الذي تعيشه الطاقة البشرية، الواقع الذي تدرسه من خلال منهاج الله، على هذين الأساسين يقوم النهج والتخطيط الذي يجب أن تضعه الطاقة المؤمنة البشرية.
إن هذا النهج يجب أن ينطلق من النية الخالصة لله سبحانه وتعالى، ثم يرسم الدرب الذي يسير عليه، ويُحدّد كذلك الأهداف كلّها. ثمّ يكون من واجب كل فرد في الدعوة الإسلامية أن يطمئن هو بنفسه عن ارتباط الدرب والوسائل والأساليب بالأهداف، فلا يتجه الدرب شرقاً وتكون الأهداف غرباً. وأن يطمئن كذلك إلى ارتباط هذا كلّه بمنهاج الله وقواعد الإيمان والتوحيد. إنها مسؤولية كلّ إنسان فهو الذي سيحاسَب بين يدي الله العزيز الجبّار لا يغني أحدٌ عن أحدٍ شيئاً.
والأهداف منها ما هو ثابت حدّده منهاج الله، ومنها ما هو مرحلي يضعه الإنسان على أساس من منهاج الله والواقع، لينقله من هدف ثابت إلى هدف ثابت. ويكون الهدف الأكبر والأسمى هو الجنّة والدار الآخرة وطاعة الله ورضاه. هذا الهدف الأكبر والأسمى ترتبط به جميع الأهداف الثابتة وتقود إليه، وترتبط به جميع الأهداف المرحلية.
ولقد كان من أثر غياب النهج والتخطيط، ليس تفرّق الحركات الإسلامية فحسب، وإنما تفرّق الميادين في الحركة الواحدة. لقد ساء حال المسلمين حتى تفرّقت الأمة إلى شعوب وأقطار متنابذة، وتفرّق العمل الإسلامي إلى حركات متصارعة، وتفرّقت الحركة الواحدة أحزاباً وشيعاً، ثمّ تمزّقت الميادين والساحات حتى أصبحت كأنها مفتحة لولوج أعداء الله.
7- الاضطراب الفكري وتعدد الاتجاهات، والاضطراب النفسي :
من خلال الوهن الذي عرضناه، استطاعت أفكار كثيرة أن تتسلّل؟ إلى قلب الدعوة الإسلامية تحمل كلّ الزينة والزخارف، في ظروف كانت الحالات النفسية فيها وردود الفعل المتوقّعة تساعد على تقبّل هذه الأفكار المتسلّلة. يضاف إلى ذلك ما يتولّد في داخل الحركة نفسها من أفكار منحرفة نتيجة الضعف الذي عدّدناه سابقاً. فيجتمع انحراف إلى انحراف، وتختلط الأمور حتى يصعب على الفرد أن يُميّز بين الانحراف وغيره. وقد يصعب الأمر على الفرد العادي، ويصعب كذلك على مستويات أعلى. وزاد من ذلك وقوع نكبات ومآسٍ دفعت بعض النفوس دفعاً إلى هذا الانحراف الفكري أو ذاك. وقد ساعدت الظروف الاجتماعية والسياسية وسهولة وسائل المواصلات والضغط الدولي الهائل الذي يُغذّي كلّ اتجاهات الانحراف على ذلك كلّه على قدر من الله حقٍّ وقضاء نافذة.
ولقد كان من أخطر الأفكار التي تسلّلت: الوطنية والقومية والإقليمية والديمقراطية والاشتراكية مع جميع صورها المنحرفة عن الإيمان والتوحيد، حتى أخذ بعضهم يبحث في الإسلام عن الأدلة الشرعية لها. ونحن لا ننكر أنّ أيّ فكر في الأرض مهما كان نوعه فلا بدّ من أن يحمل زخارف تُحَبّبه إلى الناس. ولكن هذه الزخارف ليست هي الميزان الذي نَقْبل به أو نَرْفض. إن الميزان هو منهاج الله. فنرفض أن تصبح القومية عصبية تُحَدّد الفكر والمذهب والحقوق والواجبات. وننكر أن تصبح الوطنية وثناً يُعْبد من دون الله، ويزيح أحكام الدين وسلطان الإسلام.
أما بالنسبة للاشتراكية والديمقراطية وأمثالهما، فإن أحسن ما يظنّه دعاتها فيها، وما يتوهمه أصحابها، هو أقل بكثير مما يقدّمه الإسلام للإنسان على الأرض، وإن الشرّ الذي تحمله من علمانية وشرك هو أسوأ ما يحاربه الإسلام !
8- ضعف التكوين الداخلي والروابط الإيمانية وغياب النظام الإداري :(/5)
لا نقصد بذلك الروابط التنظيمية في واقع العمل الإسلامي فحسب. فهذه قد تقوى وتضعف متأثرة بعوامل متعددة ومتأثرة بجميع عوامل الضعف التي سبق ذكرها. فقد تقوى الروابط التنظيمية حتى تصبح عصبية جاهلية، تزيد انحراف الدعوة وتزيد من تمزّقها، وتصبح مظهر ضعف وانحراف ومصدر فتنة وشقاق. وتضطرب معاني الأخوة في الله والموالاة بين المؤمنين اضطراباً واسعاً.
لقد اضطربت العلاقات والروابط الإيمانية كلها اضطراباً واسعاً حين صاغ هذه العلاقات والروابط أفكار متضاربة ومذاهب متصارعة ونزعات هائجة. لم يعد الإيمان والتوحيد، ولا الولاء الخالص لله، ولا العهد الأول مع الله، ولا الحبّ الأكبر لله ولرسوله، لم يعد هذا وغيره من قواعد الإيمان وقواعد المنهاج الرباني يصوغ الروابط والعلاقات. فاضطربت تبعاً لذلك، كما ذكرنا، قواعد السمع والطاعة، والعلاقات بين القيادة والقواعد، حتى تباينت بين تعظيم مغالى فيه، وبين تهوين مفرط ومسيء. وفي كلتا الحالتين فتنة وبلاء.
لقد غاب النظام الإداري الذي يوفّر نظام المتابعة والمراقبة والإشراف، ونظام التوجيه والنصح العملي التطبيقي، ونظام المعالجة والمحاسبة والتذكير، ليتمّ ذلك كلّه بصورة منهجيّة مدروسة محددة تحقق أهدافها وغاياتها الإيمانية. لقد غاب النظام الإداري الإيماني القائم على منهاج الله والملبِّي لحاجات الواقع، والذي يبيّن قواعد الأحكام والجزاءات والوسائل والأساليب في ميدان التطبيق لينمو مع الممارسة.
لقد أدى هذا الخلل الكبير إلى تسلل أفراد إلى مواقع لا يحقّ لهم بلوغها، لعدم توافر شروطها فيهم، وكذلك أدّى إلى أن تخسر الدعوة طاقات ومواهب كثيرة قتلتها الفوضى الإدارية والتحاسد والتباغض والتناجش والصراع على الدنيا وزخارفها وعصبياتها.
9- عدم انتقال الدعوة الإسلامية إلى ميدان القادة الدوليين ولا إلى شعوبهم :
لقد امتدّت الدعوة الإسلامية إلى أقطار متعددة في أوروبا وأمريكا وأفريقيا وآسيا. وقامت مراكز إسلامية متعددة، وهيئات وحركات ومنظمات. وأُقيمت مساجد يدوِّي منها الأذان والتكبير. وذلك كلّه فضل من الله ونعمة. ولكن النتائج التي بلغتها الدعوة الإسلامية بين تلك الشعوب وبين قادتها كانت أقلّ مما ترجوه القلوب المؤمنة. و إنك لتجد أن معظم القادة الدوليين لا يدركون حقيقة الإسلام، بالرغم من اتساع أفق بعضهم في الثقافة والتجربة. فحين يتحدث غورباتشوف في كتابه " البيروسترويكا " يبيّن أن هنالك عقيدتين وخطين في العالم هما الشيوعية والرأسمالية، ثمّ ينظر نظرة عطف وإشفاق على دول العالم الثالث، متجاهلاً الإسلام عقيدةً ونهجاً وفكراً. وكذلك يفعل قادة الغرب. وإذا تحدّث أحدهم عن الإسلام حسب الإسلام ما يراه من واقع المسلمين اليوم، أو حسب الإسلام كالمسيحية دين طقوس وشعائر لا علاقة له بمنهج الحياة البشرية السياسي أو الاقتصادي أو غير ذلك، أو رأى في الإسلام قوة إرهاب وتسلّط، أو غير ذلك من الأفكار التي يُزيّنها شياطين الإنس والجنّ.
لقد شُغلت معظم الحركات في كثير من الأحيان بالدعوة إلى أفكارها الخاصة وحركاتها أكثر مما شُغلت بالدعوة إلى الله ورسوله وإلى حقائق الإيمان والتوحيد. وشُغلتْ بالخلافات بينها أكثر مما شُغلت ببناء الأمة المسلمة الواحدة في الأرض.
وشُغلت الأمة كلّها بغير الدعوة إلى الإيمان والتوحيد، إلى الله ورسوله. ولقد حدّد منهاج الله علاقة المسلم مع غير المسلم بصورة مفصَّلة في جميع الظروف والأحوال، حتى تستقيم العلاقات على جميع المستويات على نهج إيماني. وأول هذا النهج هو الدعوة إلى الله ورسوله هو البلاغ والبيان، وعرض حقائق الإسلام من منطلق القوة والإيمان واليقين.
إنَّ كثيراً من غير المسلمين يجهلون الإسلام، سواء أكانوا من العامة أم الرؤساء. ولو أنهم عرفوا الإسلام كما أنزله الله لخفت عداوتهم وأحقادهم أو عداوة بعضهم على الأقل. إن كثيراً من الأحقاد تتوارثها الأجيال عن الأجيال في الشعوب غير المسلمة، تغرسها فيهم عصابات الإجرام والظالمون المترفون فيهم.
إنَّ الله يهدي من يشاء، ولكننا مكلفون بحمل هذه الأمانة العظيمة وتبليغ الرسالة إلى الناس كافّة. فإن قصرنا في ذلك فنحن الآثمون، نجني حصاد تقصيرنا فيما نراه من نكبات وابتلاء.
إنَّ الدعوة إلى الله ورسوله يجب أن تكون الهدف الثابت الأول في حياة المسلم، وفي حياة كلّ حركة إسلامية، وفي مسيرة الأمة المسلمة كلّها بجميع مستوياتها. إن هذه الدعوة إلى الإيمان والتوحيد هي أول الجهاد، وأول خطوة فيه إلى الجنّة، وهي سبيل المؤمنين العاملين.(/6)
هذه ملاحظات عاجلة موجزة عن أهم ما نعتقد أنه يجب النصح به في هذه المرحلة الحاسمة من تاريخنا. ونؤمن أن كلّ قضيّة عرضناها هنا تحتاج إلى دراسات علمية أمينة، لتكون الحركات الإسلامية هي أول من ينقد نفسه، وأول من يتقبل النصيحة، حتى تصبح تجربة العمل الإسلامي زاداً نامياً للدعوة، فلا تبدأ كلّ حركة من نقطة الصفر، حين تموت تجارب السابقين.
وحين نذكر هذه الملاحظات ونقدم هذه النصيحة، نؤكد أهمية الأثر الطيب للعمل الإسلامي، كما سبق أن أشرنا له في مستهل كلمتنا هذه، مؤمنين أن الأجر عند الله سبحانه وتعالى، هو أعلم بعباده، وهو أرحم بهم.
وندعو الله مخلصين أن يتقبل من الدعاة، قادةً وأفراداً، أحسن ما عملوا، ويتجاوز عن سيئاتهم، إنه هو الغفور الرحيم.
(1) يراجع كتاب :الشورى وممارستها الإيمانية، وكتاب الأدب الإسلامي إنسانيته وعالميته للدكتور.
(2) يراجع كتاب :لقاء المؤمنين الجزء الثاني. وكتاب التوحيد وواقعنا المعاصر للدكتور.
(3) يراجع كتاب :دور المنهاج الرباني في الدعوة الإسلامية للدكتور.
(4) يراجع كتاب : دور المنهاج الرباني في الدعوة الإسلامية ـ الباب السابع ـ للدكتور.
(5) جريدة اللواء الأردنية : العدد 685 السنة في 19/10/1406هـ.(/7)
معالم شخصية المرأة المسلمة
وتميزها د. إسماعيل محمد حنفي*
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمّد وعلى آله وصحبه أجمعين.
لقد خلق الله سبحانه الذَّكر والأنثى لحكمٍ جليلة: (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ )) (الحجرات : 13 )، التكريم عند الله بسبب التقوى وليس بسبب الجنس ذكراً كان أو أنثى أو لشعب دون شعب.
وعلى ذلك فالجميع سيحصل على الثواب الجزيل على تقواه وطاعته لله ((وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً)) (النساء : 124 ).
ولكن الإسلام يريد من المسلمين والمسلمات التميُّزٌ بالطاعات لينالوا الدرجات العُلا فيتميُّزٌون على غيرهم:((إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً)) (الأحزاب : 35 ).
ونحن في هذا البحث نريد التركيز على المرأة المسلمة في شخصيتها المتميُّزٌة التي تجعلها مختلفةً عن بقية النساء اختلافاً يرقى بها ويسمو لتكون مثالاً يحتذى وأنموذجاً يُقتدى به..
ولعل أهمية بيان معالم شخصية المرأة المسلمة وتميُّزٌها يظهر من خلال الآتي:
• أنَّ المرأة لها تأثير كبير، ولا ينكر ذلك أحد.
• أنَّ المرأة كرّمها الله سبحانه، ورفع الإسلام من شأنها بعد أن كانت مُهانةً في الجاهلية وفي بعض المجتمعات البشرية، وهذا التكريم الإسلامي للمرأة لا بد من ظهوره على شخصيتها ومن ثم على سلوكها لتكون قدوةً لغيرها.
• أراد دعاة الضلال والانحلال أن يتخذوا من المرأة مطية لشهواتهم، والمرأة المسلمة لها نصيبٌ من ذلك، سعياً وراء إذابتها ومن ثم تفكيك المجتمع المسلم عن طريق تفكيك الروابط الأسرية.
وكان لا بد من بيان مقومات ومعالم شخصية المرأة المسلمة التي تحفظ بها نفسها وبنات جنسها وأسرتها.
• إنها محاولة لتنبيه المسلمة إلى ما أودعه الله فيها من قُوى وإمكانات هائلة تحفظ بها وتكون فعَّالةً في مجتمعها وتتصدى بها لسيول الضلال الجارفة.
• إنّها دعوة لغير المسلمات, والمسلمات اسماً وليس منهجا وسلوكا.. أن يتأملن في فضل المرأة المسلمة المستقيمة على سائر النساء، وفي ما تجنيه من ثمرات في الدنيا والآخرة نتيجة هذا التميُّزٌ.
وأتناول هذا الموضوع في مبحثين وخاتمة:
• المبحث الأول:حول مفهومَي (معالم الشخصية) و(التميُّزٌ)، أوضح ما المراد بهذين المصطلحين الذين وردا في عنوان البحث.
• المبحث الثاني: أتناول فيه أهم أو أبرز معالم شخصية المرأة المسلمة التي تميُّزٌها عن غيرها من النساء.
• ثم أختم بخاتمةٍ أضمِّن فيها أهم نتائج البحث وأهم التوصيات التي أراها نافعة.
وأسعد أن أقدم هذا البحث للمتمر العلمي عن:
(المرأة المسلمة والعولمة) الذي تقيمه منظمة المشكاة الخيرية بالسودان[1]، برعاية السيدة الفاضلة (فاطمة الأمين)، حرم سعادة نائب رئيس الجمهورية الأستاذ/ على عثمان محمد طه.
والذي يقام بقاعة الصداقة في الخرطوم بمشيئة الله تعالى..
سائلا ربي سبحانه أن يوفقني لما فيه الخير وأن ينفع به.
المبحث الأول
حول مفهومي (معالم الشخصية)، و(التميُّزٌ)
أولا:
معالم الشخصية: هي مقوماتها وأبرز مفرداتها التي تتحكم في تشكيلها، ومنها المتكرر في جميع الهُويّات، ومنها غير المتكرِّر، ولعل القدر المشترك يتمثل في:
• العقيدة التي ينطلق منها الفرد، بغض النظر عن صحتها، ويقابلها في النظريات الوضعية (الفكر الفلسفي).
• القيم العالية المطلقة التي يؤمن بها المجتمع، التي تتمثل في أخلاق الإنسان في الحياة ونظرته للوجود، والأخلاقيات والسلوكيات.
وعلى ضوء ذلك نرى تميُّزٌ الشخصية الإسلامية في مقوماتها من حيث الشكل والمضمون. لأن الإسلام وحده هو عصب حركة هذه الشخصية ومحور نشاطها، وهو القوة الدافعة التي تفجر طاقاتها وتقويها في مواجهة التحديات، ويوم أن كان الإسلام هو هوية هذه الأمة كان المسلمون هم سادة الأرض بحق وصدق وعدل، وبغيره ستظل الأمة تلهث وراء المظاهر الحضارية تحسبها التقدم، وهي القشور والخداع..
واليوم يبقى الإسلام وحده هو المنهج الذي يمثل خصائص الأمة ومنطلقاتها الإعتقادية وأهدافها الحضارية[2]..
ثانيا:(/1)
التميُّزٌ: هو المحافظة على الميزة التي يعتز الإنسان بها والهوية التي ينتمي إليها، والهوية تلك هي حقيقة الشيء أو الشخص التي تميُّزٌه عن غيره، فهي ماهيته، أو ما يوصف به ويعرف به من صفات عقلية وجسمية وخلقية ونفسية، إنها المفهوم الذي يكونه الفرد عن فكره وسلوكه الذين يصدران عنه من حيث مرجعهما الاعتقادي والاجتماعي، وبهذه الهوية يتميّز الفرد ويكون له طابعه الخاص، فهي تعريف الإنسان نفسه فكرا وثقافة وأسلوب حياة[3].
"إن التميُّزٌ الحق هو المنبثق من أقاصي الذّات ومِن بُنيَّاتِ أفكارها، إنَّ تميُّزٌها في مبادئها الأصيلة التي لا تَبلى ولا تتحلَّل مع مرور الزّمن، فتتأصّل فيها وتترسّخ، حتى تسري مسرى الدم في العروق، فيعُمّ الجسدَ كُلَّه، وتعمل به الجوارح في ثباتٍ ورسوخ، حينها لن يجرفه أيُّ تيارٍ مهما عظُمَ بعد تثبيت الله تعالى له"[4].
"إنّ مسلماً نُودِيَ بالسير مع الهِمم العالية، فانتفضَ وأفلتَ مِن قيودِ الأرض، وحلَّقَ بجناح العِزّة هو مسلمٌ حريٌّ به أن تتم انتفاضتُه بخطوةٍ تميُّزٌ واضحة".
-والإسلام يطلب من أتباعه التميُّزٌ، لأنّه تميُّزٌ مرتبط برب العالمين وما كلَّف به عباده من شرع قويم لا يتطرق إليه الخلل أو القصور..
-أنّه تميُّزٌ متفرِّد لأنه يقوم على أصول وثوابت معصومة، فلن يكون هناك أفضل منه ((صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ)) (البقرة : 138 )).
-هذا التميُّزٌ لا يكون إلا بالتمسُّك بالقرآن وهديه لأنّه الصراط القويم الذي لا يزيغ من سار عليه، ولأن ما احتوى عليه من عقائد وقيم متميُّزٌ ((فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ)) (الزخرف : 43 ))، ولذا فإن المستمسكين بهذا القرآن سيتميُّزٌون على غيرهم بأن يرتفع ذِكرُهم ((وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ)) (الزخرف : 44 ).
-وهو تميُّزٌ بهذه الشريعة لمن اتّبعها، وخالف أهواء النفوس.. ((ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيئاً وإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ )) (الجاثية :18-19 ).
-تميُّزٌ في مفارقة لسبيل الآخرين ومنهجهم وسلوكهم ((وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ)) (الأعراف : 142 ).
-تميُّز المسلم يجعله حريصاً على عدم التشبُّه بغير المسلم شكلاً ومضموناً، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : (ليس مِنّا مَنْ تشَبَّه بغيرِنا)[5]، وقال: (مَنْ تشَبَّه بقومٍ فهو منهم)[6] وذلك لأنّ التشبُّه بالآخرين في الظاهر يورث مشابهةً لهم في الأمور الباطنَة على وجه المسارقة والتدريج الخفي، كما أنّ المشاركة في الهدْي الظاهر تُوجِبُ مناسبةً وائتلافاً وإنْ بعُدَ المكان والزمان، وهذا أمرٌ محسوس، بل إنّها تُورثُ نوعَ محبّةٍ ومودة وموالاة في الباطن، كما أنّ المحبة في الباطن تُورث المشابهة في الظاهر[7]..
-إن هذا التميُّز عقيدةٌ يؤمن بها المسلم، وبتمسُّكه بها يبين عن غير المسلمين ويستقل عنهم حتى لو كانوا أقرب الناس إليه(( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)) (التوبة : 23 ).(/2)
-والمسلمة يريد منها الإسلام أن تكون لها شخصيتها المتميِّزة التي تُعرَف بها بين الناس فتكسب الحماية من الأذى، وتكون محط التقدير والاحترام.. ((يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً * لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلاً * مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً * سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً)) (الأحزاب :59-62 )، يقول الإمام ابن كثير في تفسيرها:" يقول الله تعالى آمراً رسوله صلى الله عليه وسلم أن يأمر النساء المؤمنات – خاصة أزواجه وبناته لشرفهنّ-بأن يدنينَ عليهنّ من جلابيبهنّ ليتميَّزن عن سِماتِ نساء الجاهلية وسِماتِ الإماء"[8]، وذكر رحمه الله قول السدّي ومجاهد: " كان ناسٌ من فُسَّاق أهلِ المدينة يخرجون بالليل حيث يختلط الظلام إلى طرق المدينة فيعرضون للنساء، وكانت مساكن أهل المدينة ضيقة، فإذا كان الليل خرج النساء إلى الطرق يقضين حاجتهن، فكان أولئك الفساق يبتغون ذلك منهن، فإذا رأوا المرأة عليها جلباب قالوا: هذه حرة فكفوا عنها، وإذا رأوا المرأة ليس عليها جلباب قالوا هذه أمة فوثبوا عليها"، وقال مجاهد:" يتجلببن فيعرف أنهن حرائر فلا يتعرض لهن فاسق بأذى ولا ريبة"[9].
ولا يخفى أن إيراد المنافقين والذين في قلوبهم مرض يعد ذا صلة بما ورد من توجيهات في الآية، إذ أن هؤلاء هم أعداء هذا التميُّزٌ لأنهم دعاة الانحلال ولذا فإنهم(( يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا )) (النور : 19 ).. ويتعاونون جميعا في ذلك، ويسعون لإشاعته والإرجاف به تشويها لتميُّزٌ المؤمنات لتهتز صورة النقاء والعفاف وتفقد الثقة وينهدم البناء..
المبحث الثاني
من معالم شخصية المسلمة التي تميِّزها
أولا:شخصية ربَّانية: ((وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ )) (آل عمران : 79 )
لأنَّ صياغة هذه الشخصية وتكوينها تمت بهذه العقيدة الرَّبانية، وصُبِغت بتلك الشريعة الإيمانية التي مصدرها الربُّ سبحانه بجلاله وعظمته وكماله، صاحب الخلق والأمر في هذا الكون، وربّ كل من فيه وما فيه، الذي خلق الناس ذكرهم وأنثاهم، وهو أعلم بهم وبما ينفعهم ويرفعهم، وما يَصْلُح لهم ويُصْلِحهم ((أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ )) (الملك : 14 ).
وإنها شخصية متميُّزٌة بالعقيدة الإسلامية التي تؤمن بها، وتخالط شغاف قلبها، وتمتزج بأحاسيسها، فتعيش من أجلها، وتجعل حياتها وقفاً عليها، إذْ لا حياة ذات قيمة بلا عقيدة سليمة.
هذه العقيدة تكون المسلمة بها ربَّانية لأنَّها تؤمن فيها بالله الموجود وجوداً مطلقاً ليس كوجود مخلوقاته، وأنَّه الربَّ الخالق المدِّبر المسير للكون، وبيده بقاء هذا الكون وزواله، المحيي، المميت ، الرازق ..لا يشركه في ذلك أحد من خلقه ..
وهو المألوه الذي يستحق العبادة وحده دون سواه، وهنا الارتباط بين الربوبية والألوهية، فمن كان رّباً خالقاً رازقاً محيياً مميتاً.. هو وحده الذي له الحق أن يأمر فيُطاع، يأمر الكون كله فيستجيب، ويأمر كائناته فلا تملك إلا أن تأتيه طوعاً أو كرهاً.
وينبغي أن يجيب البشر عندما يأمرهم مشرِّعاً لهم ما فيه خيرهم في الدنيا والآخرة ((أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ)) (الأعراف : 54 ).
إنَّ المسلمة تؤمن بملائكة الله الذين خلقهم سبحانه على هيئة خاصة تتجلى فيها عظمته وقدرته، وكلَّفهم بمهام تظهر من خلالها عناية الله بخلقه ورقابته عليهم، وتؤمن بكتب الله التي أنزلها على رسله فتدرك أنَّ الله لم يخلق عباده ويتركهم هملاً بل أرسل الرسل وأنزل الكتب إعانةً لهم على سلوك سبيل الهداية والثبات عليه على نور من الله، وتؤمن باليوم الآخر الذي يكون فيه بعث الخلائق من موتهم ومحاسبتهم ومجازاتهم إنْ خيراً فخير، وإنْ شرَّاً فشر، حيث يحق الحق ويبطل الباطل، ويُنصف المظلوم ويُحاسب الظالم ويُكافأ المحسن ويُعاقب المسيء، ويُعوِّض المتضِّرر ... ويكون الملك كله لله ..
كما تؤمن المسلمة بقضاء الله وقدره، وأنَّ كل شيء لا يخرج عن سلطان الله وملكوته، فتقبل بقضائه سبحانه، وترضى بما قدر فلا تجزع ولا تيأس ولا تحتج على ربها...(/3)
ويترتب على هذا الإيمان أن تكون المسلمة ذات شخصية ربَّانية، أي متعلّقة بربها سبحانه، تنظر إلى الأمور كلها من خلال إيمانها بالله تعالى، لا تجعل إيمانها مجرَّداً بارداً تحفظ أركانه وتستظهر أدلته، لكنها لا تصبغ به حياتها، ولا تتذوَّق به طعم العبودية لله، وهي تسير في مُلكه عزّ وجل، وتتعامل مع عباده، وينزل عليها قدرُه...
ويترتب علي هذه الشخصية الربانية أن:
• تشعر المسلمة بقدسية ما تؤمن به وتعتقده وتعمل به من أحكام.
• توقن بسلامة المنهج الذي تسير عليه، وعدم تطًرق القصور أو النقص إليه.
• تجزم بوجوب الثبات علي المبادئ والقيم، لأنّها ربّانية ثابتة.
• تطمئن إلى أحكام الله الكونية والشرعية، لأنّها تجد في نفسها الاحترام والقبول والطاعة والانقياد التام لتلك الأحكام لأنّها ربّانية معصومة.
• تعتقد أنّ أحكام الله هي الأعدل والأكمل والأوفى بتحقيق كُلِّ خيرِ، ودرء كُلِّ شر، وإقامة الحق وإبطال الباطل وقطع دابر الفساد.
لذا:
• تعمل بتلك الأحكام باقتناعٍ تام لا يتطرق إليه تشكيك المغرضين.
• تشعر برقابة الله عليها واطّلاعه عليها في العمل بما أوجبه عليها واجتناب ما نهاه عنها، فيكون لديها الوازع النفسي الذاتي فتخلص لله في عملها وعباداتها.
• تسارع في الخيرات، وتتراجع عن المحرمات، وتحاسب نفسها وتسعى للتخلص من تبعات التقصير أو المعصية ..
• تستقي أحكامها على الأمور كلها من هدي الإسلام وشريعته، وتأخذ نفسها بعد هذا بما تدين به لله في أعمالها وشؤون حياتها.
ثانياً:شخصية قرآنيّة في أخلاقها وسلوكها:
"كان خلقه القرآن"[10] المراد أن شخصيّة المرأة المسلمة التي تميِّزها عن غيرها شخصية تأخذ أخلاقها من القرآن، تكون المُثُل التي تحتذيها مُثُلاً إسلامية، والفضائل التي تتحلّى بها أخلاقاً قرآنيّة.
وقد عرّف الإمام الغزالي الخُلُق- الذي يُجمع على (أخلاق)- بأنّه: "عبارة عن هيئةٍ في النفس راسخة، عنها تصدُرُ الأفعالُ بسهولةٍ ويُسرٍ من غير حاجة إلى فكر وروِيّة"[11].
فأفعال الإنسان إذن موصولة دائماً بما في نفسه من معانٍ وصفاتٍ، صلة فروع الشجرة بأصولها المغيّبة في التراب، ومعنى ذلك أنّ صلاحَ أفعالِ الإنسان بصلاحِ أخلاقه، لأنّ الفرع بأصله، إذا صلح الأصل صلح الفرع، وإذا فسد الأصل فسد الفرع((وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً )) (الأعراف : 58 ) .
إنّ المرأة المسلمة تتميُّزٌ بأخلاق تنبع من القرآن، كل محاسن الأخلاق التي دعا إليها القرآن هي معنيّةٌ بها، ومن ذلك مثلاً: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْراً مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ *يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ)) (الحجرات :11- 12 ).
• ((وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ *الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)) (آل عمران :133- 134 )
• ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ)) (التوبة : 119 )
• ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ *فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَداً فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ ...)) (النور :27- 28 )
• ((وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ )) (النور : 31 )
• ((وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً)) (الإسراء : 34 )
• ((وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً *إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً)) (الإسراء :26- 27 )(/4)
• ((وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى)) (المائدة : 8 )
وفي الواقع إنّ القرآن قد تحدث عن كثير من الأخلاق التي يجب الأخذ بها، والعديد من الفضائل التي ينبغي على المسلم والمسلمة التحلي بها، ممّا لا مجال لحصره هنا، ذلكم أنّ "دائرة الأخلاق الإسلامية واسعةٌ جداً، فهي تشمل جميع أفعال الإنسان الخاصة بنفسه أو المتعلقه بغيره، سواءٌ أكان الغيرُ فرداً أو جماعةً أو دولة، فلا يخرُج شئٌ عن دائرة الأخلاق، ولزوم مراعاة الأخلاق ممّا لا نجد له نظير في أيّ شريعةٍ سماويةٍ سابقةٍ ولا في أيّ شريعةٍ وضعيّة"[12].
ويتضح جليّاً من خلال النصوص أنّ الأخلاق لها مكانتها العظيمة في الدين، حيث يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم : (إنَّما بُعِثْتُ لأتمِّم مكارم الأخلاق)[13].
ويقول:( إنّ أحبّكم إليَّ وأقربكم منِّي مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً)[14] وفي حديث آخر نفى الإيمان عمّن تجرّد من الأخلاق: (لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له)[15].
وكذلك قال صلى الله عليه وسلم : (والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، قيل : مَنْ يا رسول الله؟ قال: الذي لا يأمنُ جارُه بوائقه)[16] أي لا يجتمع خُلقٌ رديء من الإيمان.
إنّ المرأة المسلمة التي تحدثنا عن ربّانيّة شخصيتها لا يمكن أن تنفصل أخلاقها عن إيمانها، بل إنّ أخلاقها رشحٌ لذلك الإيمان وعطرٌ يفوح لينبئ عنه، إنّها تتميُّزٌ على غيرها لهذه الشخصيّة التي تحمل في طياتها وبين جوانحها كل خُلقٍ طيّب وكل فضيلة محمودة.
فلا تفعل إلّا خيراً لنفسها وللآخرين، وأينما وُضعت ظهرت آثارها وثمارها الطيبة إصلاحاً بين الناس وبذلاً للمروءة لهم، مَنْ تعرفهم ومن لا تعرفهم، سماحة وكرم وإحسان ونبل وشهامة ورحمة ومودة ومؤازرة...
ثم صبر وجلَد ونحمُّل وأناة ورفق وإقدام وثبات وتواصل... وعطاء بلا انقطاع...
قولٌ طيّب، ولسان ذاكر، وكلمةٌ لا تحمل إلا الخير، كالبلسم على الجراح وكالماء على النار...
ما دامت هذه المسلمة مرتبطة بالقرآن وبأخلاق القرآن فإنك تستطيع أن تميُّزٌ شخصيتها من بين الكثيرات إذا رأيت فِعالها أو سمعت أقوالها فتعلم أنّها لا يمكن إلا أن تكون مسلمة لأنّ أخلاقها قرآنيّة.
ثالثاً:شخصيّة فعّالة مؤثرة: إنّ شخصيّة المرأة المسلمة شخصيّةٌ تؤثّر في غيرها بما فيها من خير وبما لديها من قدرات إيمانيّة وحكم قرآنيّة...
إنّها إيجابيّة، كحامل المسك الذي لا بد وأنْ يستفيد منه من اقترب منه أو جالسه، فهو إمّا أن يعطيك شيئاً من طيبٍ وإما أن تجد منه ريحاً طيبة، وكذلك المسلمة في شخصيتها مؤثرة فعَّالة، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتتعاون على البر والتقوى...
وهي في ذات الوقت لا تتأثر لغيرها إلّا بما فيه خير لأنَّ الحكمة ضالّة المؤمن أنّى وجدها فهو أولى الناس بها...
إنّها ذات شخصيّةٍ لا تتأثر بالعادات والتقاليد الفاسدة التي تفرِض وجودها بالانتشار في بعض المجتمعات فتجاري أحوال الناس في فسادهم، ولا تعيش في مجتمعات غير إسلاميّة لمقاصد سليمة ثم لا تلبث طويلاً حتى تنخرط في سلكها وتتقبّل أوضاع حياتها التي تتنافَى مع عقيدتها أو دينها...، لأنّها حينئذٍ تكون قد تهاونت في مقومّات شخصيتها المسلمة وأهدرت مُثلها.
كل ذلك لأنّها صاحبة رِسالة في هذه الحياة، وهي رسالة عظيمة لا يمكن للمسلمة أن تّطلع بنشرها إلّا إنْ كانت نشطة راغبةً في العطاء، غير خاضعة للضغوط الاجتماعية التي تجعلها متهاونةً في شئٍ من قيمها[17].
إنها شخصيّة تعتز بمقوِّماتها مِن غير تكبُّر، وتشعر بقوة الحق الذي تدين به من غير استعلاء على الآخرين وازدراء لهم وتسفيه للقيم، لا تلين ولا تضعف ولا تذوب في أيِّ بيئةٍ تعيش فيها أو مجتمعٍ يضمّها، بل تجد من إيمانها القويّ ما بحملها على مقاومة التيارات الفكرية والانحلال الخُلُقي والفساد الاجتماعي[18].
رابعاً:
شخصيّةٌ واقعيّةٌ معتدلة: إن المثل العليا التي تؤمن بها المرأة المسلمة وتسعى لتتمثلّها وافعاً في حياتها اعتقاداً وعبادةً وسلوكاً ومعاملة لا تمنع من أن تكون شخصيّتها تلاحظ وتراعي الواقع الذي تعيش فيه...
إنها شخصيّة لا تسبح في بحار الخيال أو نحلّق في أجواء المثاليّة المجنّحة فتتصور شكلاً لشخصية لا وجود لها...
ذلكم أنّ شريعة الله شُرعت للإنسان كما هو، كما خلقه الله، بجسمِهِ الأرضي وروحه السماوي،بأشواقه الصّاعدة، وغرائزه الهابطة، بدوافعه الفرديّة ونزعته الغيرية: بعوامل الفجور، وبواعث التقوى تصطرع في نفسه[19] (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا* فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا* قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا* وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا) (الشمس :7- 10 ))
لذلك فإنّ شخصيّة المرأة المسلمة توائم بين مطالب الشرع ومطالب الحياة الدنيا، وبين مطالب الروح والمادة، والفرد والجماعة...(/5)
لا تُفرط في التفاؤل، ولا تبالغ في الأماني والتطلعات، بل تكون معتدلة، لا يثبطها عن السعي في طلب المعاني إخفاقٌ عارض أو حادثٌ غير متوقع...
إنها لا تتوقع أو تطلب من الآخرين ما لا تقدر عليه هي نفسها، ولا تنظر إلى شخصيات أخواتها على أنهنّ نسخة منها، بل القدرات متفاوته، والإيمان يزيد وينقص، وأهله ليسوا على منزلة واحدة..
خاتمة
وفي ختام هذا البحث نقول: إنّ الحديث عن المرأة المسلمة لا تحصره ولا تغطيه مثل هذه البحوث لكن يكفي أن نتناول جانباً من الجوانب ذات الأهميّة عن هذه المرأة المسلمة التي رفع الإسلام شأنها وأعلى منزلتها...
ومن أهم النتائج التي توصلت إليها الدراسة:
أولاً: معالم شخصيّة المرأة المسلمة هي مقوماتها وأبرز مفرداتها التي صاغها الإسلام، وتتحكم في تشكيل سلوك المرأة المسلمة، وهي تتمثل في العقيدة والقيم والأخلاق التي يدعو إليها الإسلام.
ثانياً: يدعو الإسلام المرأة المسلمة لتكون ذات شخصية ربانية قرآنيّة متميُّزٌة تميُّزٌاً يدعو الأخريات للإقتداء بها، ويجعلها ثابتة على مبادئها معتزة بها.
ثالثاً: شخصية المسلمة المتميُّزٌة تكون بالإيمان بالله، وطاعته فيما أمر، وترك ما نهى عنه وزجر، والسير على طريق الصالحات من النساء المؤمنات.
رابعاً: الأخلاق والسلوك مكوِّنان من مكونات هذه الشخصية المتميُّزٌة للمسلمة، وهما في نفس الوقت ثمرة ذلك الإيمان بالله وطاعته.
خامساً: المسلمة تتميُّزٌ بكونها صالحةً في نفسها مُصلحةً لغيرها، إيجابية وليست سلبية لأنها تحب للآخرين ما تحب لنفسها، وتتعاون على البر والتقوى، فهي فعّالة مؤثرة.
سادساً: المسلمة كذلك واقعية، ليست حالمة، لأنها تدين بهذه الشريعة التي تخاطب الإنسان وتعترف بقصوره وتلتمس له العذر، وتراعي ظروفه الاضطرارية وأحواله الاستثنائية فتشرع لها أحكام تناسبها.
سابعاً: إنّ شخصية المسلمة من معالمها الواضحة تجعلنا نطمئن إلى ثباتها على منهجها التي تسير عليه وقناعتها به، وعدم انخداعها بالمؤثرات السالبة، وانجرافها وراء الدعوات المشبوهة، بل هي داعيّة إلى ما ذاقت حلاوته من إيمان، وطريقٍ قويمٍ سارت عليه وشعرت فيه بالأمان.
أهم التوصيات
أولاً: على المؤسسات التعليمة والتربوية والدعوية في بلاد المسلمين العناية بتوضيح معالم شخصيّة المرأة المسلمة وتميُّزٌها، وأنّ تسعى لتحقيق تلك الشخصية بالبناء وتتعاهدها بالبناء والرعاية.
ثانياً: نوصي الجهات ذات الصلة بالمرأة بإعداد البرامج المحكمة المتقنة التي تحقق العناية والرعاية المتكاملة للمرأة في مراحلها المحتلفة، بعيداً عن الأنشطة المشبوهه للجمعيات التي تعمل على هدم كيان المرأة وقيمها تحت ستار العناية بها والدفاع عن حقوقها.
ثالثاً: على المؤسسات الحكوميّة المعنيّة بالتربيّة والدعوة والإرشاد تبنّي مؤتمرات دوريّة للمرأة المسلة بما يحافظ على مكونات شخصيتها وبراعي خصوصياتها ويؤهلها لمواكبة المستجدات التي تهمها.
رابعاً: على المنظمات المهتمة بالدعوة تنظيم بالدعوة أن تجعل من أولوياتها تنفيذ برامج دعوية تربوية معدة بواسطة خبراء من أهل العلم والاختصاص توجّه للفتاة المسلمة منذ مراحلها الأولى، بحيث تكون متواصلة متتابعة غير منقطعة، لتحقق في النهاية الصياغة المتكاملة لشخصية المرأة المسلمة المقوية.
خامساً: أهمية العناية برصد وجمع وتصنيف نتائج وتوصيات البحوث والمؤتمرات والندوات التي تُعقد بشأن المرأة، بجانبيها الإيجابي والسّلبي، للاستفادة من الإيجابي منها ومحاولة تطبيقه، والسّلبي بالانتباه لمكايد العدو وتجنُّب الوقوع في حبائله.
هذا ما وفقني الله إليه، وأسأله سبحانه القبول وأسأله أن يجزي إخواننا في منظمة المشكاة خيراً على هذا الجهد..
وأشكر لمن قرأ هذا البحث الذي كُتب على عجلٍ، وأرجو أن لا يبخل عليّ بتوجيهاته وملاحظاته.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
--------------------------------------------------------------------------------
[1] في الفترة من 6/9/2005م إلى 8/9/2005م
بمشاركة الأستاذة/ كاميليا حلمي رئيسة اللجنة الإسلامية العالمية للمرأة والطفل – مصر ، والدكتور فؤاد آل عبد الكريم – الأستاذ المساعد في كلية الملك فيصل – السعودية.
[2] محمد محمد بدري – هوية الأمة الإسلامية. (مقال) – مجلة البيان – عدد 54 ص 58 صفر 1413هـ أغسطس 1992م.
[3] أنظر: وائل عبد الغني – هويتنا الإسلامية بين التحديات والإنطلاق، الحلقة الأولى. (مقال) بمجلة البيان – عدد 128 ص 54 ربيع آخر 1419هـ - أغسطس 1998م.
[4] نُهى بنت عبد الله العريني – المسلم والتميُّز. (مقال) بمجلة البيان – عدد 165 ص 140 جمادى الأولى 1422هـ - أغسطس 2001م.
[5] سنن الترمذي 7/335 رقم 2696. وقال: إسناده ضعيف. ولكن الألباني حسنه، أنظر صحيح الجامع 5/101 رقم 5310.(/6)
[6] سنن أبي داوود: كتاب اللباس 4/314 رقم 4031. ومسند أحمد 7/142 رقم 5114 . وقال الشيخ أحمد شاكر: إسناده صحيح، وقال الألباني: صحيح، أنظر: صحيح الجامع 5/270 رقم 6025 .
[7] أنظر: ابن تيمية: اقتضاء الصراط المستقيم ص 220 ط:2 سنة 1369هـ - مطبعة أنصار السنة بالقاهرة.
محمد بن سعيد القحطاني: الولاء والبراء في الإسلام ص 223
دار طيبة – الرياض السعودية. ط1 و ط 2
1402هـ و 1404هـ
[8] أبو الفداء اسماعيل بن كثير القرشي الدمشقي – تفسير القرآن العظيم – 3/519
طبعة دار الفكر سنة 1981م. نشر مكتبة الرياض الحديثة – الرياض.
[9] ابن كثير – المرجع نفسه 3/519 – 520 .
[10] هذا ما وصفت عائشة رضي الله عنها به خُلُق رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنظر محمد بن جرير بن يزيد بن خالد الطبري –جامع البيان في تأويل آي القرآن، المشهور بتفسير الطبري 29/18.
دار الفكر بيروت سنة 1405هـ.
وانظر كذلك: اسماعيل بن عمر بن كثير الدمشقي – تفسير القرآن العظيم 4/403. دار الفكر – بيروت سنة 1401هـ.
[11] أبوحامد الغزالي – إحياء علوم الدين 3/46.
[12] عبد الكريم زيدان – أصول الدعوة (مرجع سابق) ص 89-90.
[13] أحمد بن الحسين بن علي بن موسى أبوبكر البيهقي – السنن الكبرى 10/191.
مكتبة دار الباز مكة سنة 1994م – تحقيق: محمد عبد القادر عطا
وانظر: محمد بن عبد الرحمن بن عبد الرحيم المباركفوري: تُحفة الأحوذي 5/470 دار الكتب العلمية بيروت.
[14] محمد بن عيسى أبو عيسى الترمذي السلمي – السنن 4/370، رقم 2018 دار إحياء التراث العربي – بيروت – تحقيق أحمد محمد شاكر وآخرون.
والبيهقي – السنن الكبرى (مرجع سابق) 10/193.
[15] محمد بن حبان بن أحمد أبو حاتم التميمي البستي – صحيح ابن حبان 1/422 رقم 194.
مؤسسة الرسالة – بيروت سنة 1414هـ - 1993م – ط:2. تحقيق: شعب الأرناؤوط، و: أبوبكر عبد الله بن محمد بن أبي شيبة الكوفي. المصنف 6/159 رقم 30320.
مكتبة الرشد – الرياض سنة 1409هـ - ط: 1. تحقيق: كمال يوسف الحوت.
[16] محمد بن إسماعيل أبو عبد الله البخاري – الجامع الصحيح 5/2240 رقم 5670.
دار ابن كثير، اليمامة – بيروت سنة 1407هـ - 1987م – ط: 3، تحقيق: مصطفى ديب البغا. و: مسلم بن الحجاج أبو الحسين القشيري النيسابوري – صحيح مسلم 1/68 رقم 46.
دار إحياء التراث العربي – بيروت – تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي.
[17] أنظر: مناع خليل القطان – الشخصية المتميزة للمسلم ص 175-177
ط: 4 سنة 1981م – دار الأصفهاني – جدة.
[18] مناع القطان -المرجع نفسه ص 175-177.
[19] القرضاوي: مدخل لدراسة الشريعة الإسلامية ص 119
مكتبة وهبة – القاهرة ط: 3 سنة 1997م.(/7)
معالم على طريق التقييم
وليد بن خالد الرفاعي 11/7/1424
08/09/2003
معرفة الرجال وتقييم الناس هبة ربانية يهبها الله لمن يشاء من أرباب الفراسة والنباهة، ومع أن هذا الصنف من الناس هو الأقل؛ إلا أن الناس كل الناس لا ينفكون في حياتهم اليومية عن إقامة علاقات ومعاملات مبنية على تقييم خاص لهم وللآخرين، وكلما كان التقييم أبعد عن الدقة؛ كلما ولجت على المرء منه مضائق وشدائد، وعلاقات وارتباطات، ربما كانت قاتلة في بعض الأحيان، ومع ذلك فإن للتقييم أصولاً من الممكن أن يتجنب الآخذ بها الكثير من الزلات في تقييمه.
ودقة التقييم حاجة ملحة سواء على المستوى الشخصي للإنسان أو على المستوى العام ، والدعوة إلى الله واحدة من هذه المجالات، والتي من الممكن أن يكون لدقة التقييم دور كبير في اختصار كثير من الوقت والمراحل، كما أن فوضوية التقييم كذلك قد تجر على العمل الدعوي آفات وتعطله عن مصالح؛ بل قد تضربه في الصميم، وكم تحفظ ذاكرة الدعوة من أسماء لم يكونوا على مستوى الدور الذي أنيط بهم، فما أحسنوا في العمل، كما أحسن المصطفون لهم بالظن، بل ربما أساؤوا وأفسدوا!.
وهذه بعض الآفات التي تعترض، وتعرض للكثير من المقيّمين بقصد أو بدون قصد:
1- الخلفية المسبقة للمقيَّم أو لقبيلته أو لعائلته أو بلدته:
والخطأ هنا يقع من جانبين: الأول منها؛ هو التعميم اللامنطقي في الأحكام بالسلب أو الإيجاب لمجرد انتماء الفرد لبلد أو عائلة، دون التدقيق في ذات الشخص، ومن ثم فإن البعض يلقي بهالة على ابن الدكتور أو الداعية أو الذكي أو الناجح ، وقد يكون ابن أي أحد من هؤلاء أفشل وأغبى ممن هم أقل منه في هذه المظاهر والانتماءات. والجانب الآخر في الخطأ؛ هو في تغافل اعتبار هذه المؤثرات ، والتعامل مع ذات الشخص تعاملاً مجرداً عن أي اتصال آخر، والحق أن هذا مخالف للواقعية؛ فتقييم شخص قروي يجيد اللغة الإنجليزية مثلاً لا يصح أن يماثل بقرينه ابن المدينة الذي هو وإياه على نفس المستوى من القدرة والذكاء، ولكنه ليس على نفس المستوى من الإمكانيات المتاحة. وكذلك الشأن في ابن المدرس وابن العامل، فالدلالات تشير أن أحدهما بذل من الجهد ما لم يبذله الآخر، وهكذا؛ فالأداء الذي يطلب من شخص، قد يرضى بنصفه من آخر، ليس لأن الآخر أقل منه قدرة، وإنما أقل منه فرصة وإمكانيات، ومن هنا نستطيع أن نقول إن التعويل التام على العلائق الخاصة بالفرد خطأ مماثل للتجاهل التام لهذه العلائق، وعلى التوازن قامت الدنيا.
2- إعاقة بعض العيوب الاجتماعية نحو النفاذ إلى حقيقة المقيم:
ذلك أن البعض قد يعاني من "فقر اجتماعي" إن صح التعبير، في جوانب معينة تعيق الآخرين عن النفاذ إلى حقيقة ما يملك من مواهب وملكات، فعلى سبيل المثال قد يتصف البعض بقدر عالٍ من ثقل الظل، أو التبذل المفرط في المظهر أو الحساسية المملة، أو ضعف إقامة العلاقات وعدم اللباقة في الحديث، أو الحدة في الطباع، أو ما شابه ذلك مما يعكس تقييماً سلبياً وسريعاً تجاهه لا يراعي جوانب التمييز؛ فيكون سبباً في عدم الخوض في ما وراء هذه المظاهر الغير مشجعة، وينسى أصحاب التقييم أنه من الممكن أن يوجد بعض الأكابر والعظماء في مجالاتهم، وهم متصفون بشئ من هذه الصفات؛ بل ربما بها مجتمعة.
3- التقييم من الموقف الواحد والرؤية الواحدة:
والمشكلة تكمن في أن الإنسان عاجز عن عدم تكوين تصور مباشر ولا إرادياً لمن يلتقي بهم، ولو من أول نظرة، ولكن المشكلة الأكبر تكمن في التعويل على هذا التقييم، والحكم من خلاله، فالذي يجب أن يستقر أن الانعكاس النفسي للأشخاص من أول لقاء شئ، والتعويل على هذا الانعكاس على أرض الواقع شئ آخر، هذا من جهة، ثم إنه من جانب آخر لا يخفى أن النفس قد تتعرض لفترات متباينة من العواطف والظروف مما يؤثر على سلوكها بالجملة؛ كالانقباض والانبساط والخجل والرهبة والحزن وغيرها، ومن ثم يصبح التقييم من الموقف الواحد أو حتى اللقاء الواحد عرضة للخطأ في عكس حقيقة الشخص المقيم، أضف أن هذا التبدل والانقلاب كما أنه مما يتعرض له المقيم (بالفتح)؛فإن المقيم كذلك يتعرض لمثل ذلك، مما يؤئر عليه في الحكم على الأشخاص سلباً أو إيجاباً.
4- الاغترار بالمكتسبات عن الحقائق والجواهر:
وتحميلها ما لاتحتمل من الدلالات من خلال الاستدال بها على أمور بعيدة لا يحتملها الفعل، وذلك لشيوع ارتباطات بين بعض الأمور ودلالتها من خلال العرف الاجتماعي السائد، وهو عرف مالم يكن مستنداً إلى مقاييس شرعية دقيقة؛ فإنه معرض للخطأ. فالبعض مثلاً قد اكتسب بعض الأمور التي لا يصح أن يتجاوز في النظر إليها دلالتها المباشرة عليها؛ فالذي إستطاع أن يحفظ القرآن مثلاً لا يعني أنه رجل صالح كما يتبادر للبعض؟ وإنما يعني أنه رجل يملك جلد على الحفظ، أما الصلاح فله مقاييس أخرى.(/1)
والذي يتفوق على زملائه في الفصل لا يعني بالضرورة أنه أذكى منهم، وإنما يعني أنه صاحب همة، أو أن وراءه أباً حازمًا، أو أن الملهيات عنده قليلة ومحصورة، نعم قد يعني أنه ليس بغبي، لكن لا يعني بالضرورة أنه ذكي!.
5- التأثير الخفي لقوة العلاقة أو ضعفها بين المقيِّم والمقيًّم:
وهذه كما أنها تكون بالمحاباة وهي الأكثر شهرة؛ فإنها تكون كذلك بالتجرد المفتعل والمبالغ فيه، وهو الأكثر خفاءً والذي قد يجر صاحبه إلى تقييم مختل من خلال هضم حقوق صاحبه المقيم، الذي قد يكون أخاً أو ابناً أو قريباً، والمشكلة تكمن في أن كلا الأمرين -التأثير بالإيجاب أو بالسلب- من الأمور الخفية على النفس، ولذا جاءت النصوص الشرعية بعدم قبول أو جواز هدايا العمال إبتداءً، كتدبير شرعي إبتدائي وقائي حكيم؛ ذلك أن الأمر كما قال المصطفى -عليه الصلاة والسلام-: "حبك الشئ يعمي ويصم".
وبالمقابل نستطيع أن نقيس فنقول: "بغضك الشئ يعمي ويصم أيضاً" (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [المائدة: من الآية8] "وكلمة الحق في الرضا والغضب".
6- الاعتماد الكلي على تقويم الآخرين:
ولقد ذكرنا لفظة الكلي ذلك أن الاسئناس بتقييم الآخرين مهم؛ وإلا كان في ذلك تبديد لعقولهم وخبراتهم، إلا أن المرفوض هو تعطيل النظر الشخصي نظراً لوجود تقييمات (معلبة وجاهزة للتصدير والاستيراد دون أي فحص أو تحقق جمركي). والمشكلة أن هذه التقييمات المسبقة قد تكون من الكثرة مما يشوش على أية نظرة مضادة لها، هذا من جهة، ومن جهة أخرى؛ أن بعض التقييمات ما هي إلا سلسلة منشؤها شخص واحد تابعه أو قلده مجموعة من الأناسي عليها، حتى أصبحت مسلّمة لا تقبل النقض أو النقد، وبذلك تصبح سلسلة مبدؤها ومردها حلقة واحدة .
7- التأثر بتقييم شخص من الأكابر أو الفضلاء:
ومنشأ هذا التأثر هو التقدير والاحترام في بعض الأحيان، أو التسليم المطلق في أحيان ثانية، أو المركزية والشخصية الساحرة والقوية في آن ثالث، والمشكلة التي تعاني منها الشعوب العربية والإسلامية أنها بقدر ماهي شعوب فوضوية في مواقفها في جانب، بقدر ما هي عاطفية في جانب آخر!. وعليه فإن عندها من الاستعداد أن تتأثر بتقييم أي رمز، دونما أن تعمل عقلها في ذلك التقييم.
وعندما تضع الأمة عقولها في أكف فضلائها وعلامائها فتأخذ عنهم دون تمييز؛ تكن قد ارتكبت خطأً في حق نفسها، وإن كانت ما تزال بخير، فكيف بها عندما تضع عقلها في أكف رموز غير مستأمنين على دينها وعقلها ومصلحتها؟!.
وعلى سبيل المثال؛ فإننا لو تتبعنا ما سطر عن إمام من الأئمة كشيخ الإسلام ابن تيمية أو محمد بن عبد الوهاب؛ تجد أن تأثر الشعوب كبير (سلباً أو إيجاباً) بما يسطره رموز هذا القطر أو ذاك، بينما لا تجد عند الغالبية العظمى من هؤلاء المتحمسين بالسلب أو الإيجاب، أي تتبع وتصور دقيق بنى عليه نظرته، سوى أن الرمز الفلاني قال..! وعليه فقس. والذي يجب أن يستقر أن احترام العلماء والفضلاء شئ، ومراجعتهم في آرائهم والتي منها تقييماتهم للأفراد أو المؤلفات شئ آخر. إذ إن ذلك بعيد كل البعد عن أي مظهر من مظاهر التنقص أو الإزدراء، ويطول عجب الإنسان عندما يقرأ مراجعات عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- للمصطفى – صلى الله عليه وسلم- في شأن بعض الأفراد عندما أشكل عليه (ظاهراً) تعامل وتقييم المصطفى مع ما تلقاه منه سابقاً -علماً أن فعل المصطفى تشريع لأمته بحد ذاته-، لبعض الأفراد كحاطب بن أبي بلتعة -رضي الله عنه- أو المنافق عبد الله بن أبي، وهو هو عمر بن الخطاب خير الناس بعد الصديق -رضي الله عنهما وأرضاهما-.
8- تثبيت صورة التقييم وعدم تغييرها مع مرور الزمن:
إن من الأمور المستقرة في عرف الناس أن الإنسان قد يمر بظروف أو مراحل تقلب عليه شخصيته أو جوانب منها على أقل تقدير، والذين يثبتون حكمهم على الأشخاص لا يراعون هذه المسلّمة، وإن كنا ينبغي أن نشير إلى أن هذا التغيير ليس بالأمر البسيط والسريع؛ فالإنسان قد يحتاج إلى وقت مديد ليغير جبلة أو طبعاً اجتماعياً قديماً وموروثاً واحداً؛ فكيف بالشخصية بالعموم، إلا أن الذي يحسن التنبه له أن بعض الصفات تتواجد وتتكاثر في مرحلة عمرية معينة قد تخلو منها مرحلة عمرية أخرى؛ كالطيش في المراهقة وعدم التؤدة مما يغلب سلامة الفرد منها بعد تجاوز تلك المرحلة وهكذا..
هذا من جانب، ومن جانب آخر؛ أن التغيير قد لايكون كلياً كما يظن البعض، بل تغييراً جزئياً وهذا هو الأغلب، وبقدر ما يكون التغيير في الصفات العميقة، بقدر ما يكون جذرياً وحاسماً في تغيير صورة التقييم.(/2)
إنك كثيراً ما تصاب بالإحباط عندما تلصق بفلان نظرة معينة؛ لأن آخر قد زامله على مقاعد الدراسة منذ عشر سنوات، وهو يقول فيه كذا وكذا، ومرة أخرى إلى صحابة رسول الله؛ فإذا بعمر يحاسب و يراجع كبار الصحابة على الدرهم والدينار ممن خشي عليهم عمر أن تكون نفوسهم قد تغيرت فترخصوا أو تساهلوا- حاشاهم - وهم هم الصحابة الذين لولا عدالتهم وثقة عمر بهم ما عينهم!.
9-التقييم التعميمي:
ونعني بالتقييم التعميمي ذلك التقييم الذي يعدل بالجملة أويجرح بالجملة، فليس عند أصحاب هذا التقييم نظرة وسطى، وعليه فإن أحكامهم تتجه دائماً نحو الأطراف والتطرف، والحق أن التفصيل والتجزئ لأي شئ هو السبيل إلى فهمه أولاً، وإطلاق حكم سديد عليه ثانياً، أما أخذ جانب من الصورة ثم تعميمها على الصورة كاملة؛ فهذا ما يعد خللاً في الحكم على الأمور، إن الخطيب الجيد والمفوه لا يعني أنه فقيه أو محدث أو حتى صاحب علم راسخ، والرجل المخلص فيما يبدو من حاله وصلاحه لا يعني أنه الأنسب في الريادة الدعوية والشرعية، هذا من جانب، ومن جانب آخر؛ فإن الكثير من الناس يعانون من جور هذه النظرة التعميمية والتي تصبغهم بلون واحد فقط، بينما لا تراعي القدرات الخاصة المتعلقة بالمقيم. إن كون فلان غبياً لا يعني أنه عاجز عن عمل شئ ، كما أن كون فلان صاحب كبر أو غرور أو حتى بدعة؛ فإن هذا لا يعني أنه لا حسنات له وأنه عار من الفضائل. إن علماءنا الأجلاء ضربوا أمثلة مشرقة في دقة التقييم، وعدم الوقوع في الأحكام التعميمية، وطالع إن شئت ما سطره الذهبي أو ابن تيمية عن بعض المتصوفة أو المتلبسين ببعض الأفكار المخالفة، وكيف أنصفوهم وحكموا عليهم حكماً عروا فيه جوانب الخلل، وألمحوا إلى مواطن الإحسان دون تعميم يفضي إلى تغليب جانب على حساب جانب آخر.
وينشأ التقييم التعميمي من عدة عوامل؛ قد يكون من بينها العقلية ذات البعد الواحد، أو الميل الطبيعي عند الناس إلى تبسيط الأمور وإطلاق التقييمات التعميمية التي تريحهم من عناء التفصيل والتدقيق، أوغير هذا وذاك.
10- التقييم المباشر عن طريق المقابلات:
لا عن طريق الملاحظة والتجريب. وحتى نكون بعيدين عن المثالية؛ فإننا لا نستطيع أن ننفي أنه قد لا يتيسر في بعض بل في كثير من الأحيان التقييم عن طريق الملاحظة والتجريب، فمقابلات الجامعات مثلاً لا تعتمد إلا على أسلوب المقابلات، وكذلك اختبارات القبول لكثير من المؤسسات والشركات وما شابهها، ولكن الذي يعنينا هنا أمور:
أولاً: إذا صح أن تعد هذه الوسيلة هي الأكثر عملية على نطاق المؤسسات المهنية؛ فإنها لا تصلح أن تكون كذلك في مجال التقييم الدعوي والتربوي، ذلك أن الشهادات والأوراق ليست هي لغة التقييم التربوي والدعوي كما هو في الأعمال الوظيفية المؤسسية.
ثانياً: ينبغي أن نفرق بين أن تكون المقابلات الشخصية هي الوسيلة المتاحة، وبين أن يعول على هذه الوسيلة تعويلاً كاملاً، ذلك أنها جزماً ليست وسيلة دقيقة أو الأدق على أقل تقدير.
ثالثاً: المقابلات الشخصية تعتمد في جزء كبير منها على الحذاقة والنباهة وحسن العرض والمنطق والحجة، وعلى هذا فإن بعض من يملكون صفات أفضل قد يفشلون لأنهم يملكون قدرات أقل فيما ذكرنا من الصفات الاجتماعية الظاهرة، ونلاحظ أن هذا المعنى نفسه قد أشار إليه المصطفى-صلى الله عليه وسلم- في باب التخاصم فقال: "إن الرجل ليأتيني وقد يكون ألحن حجة من صاحبه فأحكم له... "؛ فإذا كان المصطفى -عليه الصلاة والسلام- لم يأمن الاغترار بمنطق أحدهما فكيف بغيره؟!، وجاء عن عمر -رضي الله عنه- "لا تعجبنكم طنطنة الرجل، ولكن من أدى الأمانة، وكف لسانه عن أعراض المسلمين"
وخلاصة القول: إنه كما أن الكثير يحسن المنطق ولا يحسن العمل؛ فإن الكثير أيضاً يحسن العمل ولا يحسن المنطق والكلام!.
رابعاً: إن من أسباب عدم دقة أسلوب المقابلات اعتمادها على حالة نفسية واحدة، في الغالب أنها وجلة ومضطربة، ولا تعكس طبيعة الشخصية وأريحيتها دون تكلف، ذلك أن المتكلفين لا يستطاع النفاذ إلى حقيقة جوهرهم؛ بينما تعتمد طريقة الملاحظة الأطول زمناً من خلال المؤاخاة أو السفر إلى استرخاء نفسي تتجلى من ورائه شخصية المقيم؛ بسبب ذهاب التوتر من جهة، وكذلك تبدل المواقف والأحداث التي تكشف وبجلاء جوانب متعددة من تلك الشخصية في الغضب والرضا والمنشط والمكره، ذلك أن كثيرين من الناس قادرون على التمثيل، ولكن القليل منهم فقط قادرون على التمثيل لفترات طويلة و متابينة.
11-تأثر المقيم بميولاته الشخصية في التقييم:
لكل إنسان نبوغ أو ميول إلى علوم أو مهارات أو وجهات معينة، وهذا من الاختلاف الجبلي الذي جبل عليه البشر، إلا أن هذا الاختلاف في الميولات ينبغي ألا يعكس على التقييمات على الأفراد سلباً أو ايجاباً على حسب وجودها أو انعدامها في المقيم (بالفتح).(/3)
ومن الواقع المر في العمل التربوي مثلاً؛ أنك ترى أن البعض من القائمين عليه يحتفون بالأفراد الذين تتوافق قدراتهم مع قدراتهم، ومن ثم يقدرونهم ويطورونهم، بينما يخصص للآخرين مساحة واهتمام أقل؛ فلا يعني مثلاً كون المربي أو المقيم شاعراً أو محباً للشعر أنه يزيد من حسن تقييمه لأرباب الشعر، بينما لا يجد أصحاب الميولات الفكرية مثلاً نصيبهم من التقدير في نظر المقيم؛ لأنه ليس في هذا الوادي، إننا إن تجاوزنا عن المربي في عدم تطويره لهذه الخصال لأي سبب كان؛ فإننا لا نتجاوز عن عدم تقديره لها واعتبارها مقياس من مقاييس التقييم لأي سبب كان.
12- استخدام المقاييس النفسية غير الموضوعية :
الراحة الشخصية ، والظن ، والتخمين ، والاستشفاف ، والفراسة ، والشعور الخفي ، والحاسة السادسة؛ قد يصلح استخدامها في اصطفاء صديق أو خليل، إلا أنها لا تصلح أن تكون عوامل مفردة للتقييم، ذلك أن أحداً لا يستطيع الجزم بصحة نبؤاته، أو صدق فراسته، ولذلك لا بد أن تستبدل أو تدعم على أقل تقدير تلك الأمور النفسية بالحقائق والوقائع والإنجازات.
إن شيوع التقييم الموضوعي المبني على حقائق يدل على مدى احترام المقيم لسامعه ولنفسه وللآخرين ، بخلاف ما يعكسه ذلك التقييم الذي لا يبرره صاحبه إلا بقوله: "لم أرتح له، أو هكذا أشعر، أوأظن ذلك، أوحاستي السادسة تقول، أو من خلال فراستي التي لا تخطئ؛ فرأيي هو.. ، …إلخ"
13 -الوقوع بين فكي المثالية الحالمة، والواقعية المفرطة.
وآفة من آفات أمتنا الوسط أنها تجنح كثيراً إلى الأطراف تاركة حد التوسط والاعتدال!.
14- تقديم الجرح على التعديل:
وذلك من خلال البحث الدقيق عن جوانب القصور مقابل إهمال جوانب البروز، هذا من جهة، ومن جهة أخرى؛ الاعتقاد خطأً أن التقييم الناجح هو التقييم الذي يجلي الأخطاء والمعايب وينقب عنها!. وهي نظرة مع قتامتها إلا أنها شائعة في المجالات التربوية والدعوية و الاجتماعية كذلك، حيث أصبح الكثيرون لا ينظرون إلا إلى نقاط الافتراق مقابل إهمالهم لنقاط الاتفاق، والمشكلة أن هذه المشكلة تجاوزت المجالات التربوية لتلج إلى المجالت الشرعية البحتة من خلال تقييمات الأئمة والدعاة، والتي تنقب عن المثالب وتهمل الحسنات بدعاوي شرعية!.(/4)
معالم عَقَدِيّة في الأذكار النبويّة د. محمد عمر دولة*
مقدمة:
الحمد لله الذي يُجيب دعوةَ الداعي إذا دعاه، والصّلاة والسلام على أقرب العباد إلى الله، وأعلمهم بحقوقه وتقواه، وأحرصهم على محبّته ورضاه. اللهم صلِّ وسلِّمْ على أشرفِ خلقِ اللهِ وصفوتِهِ ومُجْتَباه، وعلى آله وصحبِهِ ومَنْ نَهَجَ نَهْجَهُ واتبع هُداه.
وبعد، فإنّ الحال التي تمرّ على المسلمين اليومَ لم يمرَّ عليهم حالٌ مثلُها من قبلُ؛ ذلك أنهم كانوا فيما مضى إذا جفَّ عندهم الضرعُ والزرع؛ رفعوا أكفَّهم إلى السماء يستسقون؛ فينهالُ عليهم الماء! وكانوا إذا نزلتْ بهم الكروبُ، وحلّت بساحتهم الخطوبُ؛ لهجوا إلى ربّهم بالدعاء، وهُرِعُوا إلى القنوت خاشعين، وأنابوا إلى ربّهم متضرِّعين؛ فينفِّس اللهُ كربَهم، ويُيسِّر أمرَهم، ويجعل لهم من كلّ همٍّ فرجاً، ومن كلّ ضيقٍ مخرجاً! وأمّا في هذا الزمان، فقد هُجِر القنوت في النوازل إلا من رحم الله، وكثرت الشكوى إلى من لا يضرُّ ولا ينفع! وقلَّ في المسلمين مَنْ يقول: (إنما أشكو بثّي وحزني إلى الله)![1]
وقد قرَّر أهلُ العلم أنَّ عنوان سعادةِ العبدِ أنّه "إذا أنعم عليه شكر، وإذا ابتُلِيَ صبر، وإذا أذنب استغفر!"[2] وجماع هذه الأمور كلها في دعاء الله تعالى.
المبحث الأول: فقه الأذكار النبويّة:
[1] عظمة الأذكار النبويّة:
وقد حثّ الله عزّ وجلّ عبادَه على كثرة دعائه والتضرُّع إليه، فقال جلّ جلاله: (ادْعُوني أستجبْ لكم إنّ الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنّم داخرين). وقال تبارك وتعالى: (قلْ ما يعبأ بكم ربّي لولا دعاؤكم).[3]
وحفلت السُّنّة النّبويّة بذكر فضائل الدعاء والذِّكر، كما روى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يقول الله عزّ وجلّ: (أنا عند ظنّ عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني؛ إن ذكرني في نفسه ذكرتُه في نفسي، وإن ذكرني في ملأٍ ذكرتُه في ملأٍ هم خيرٌ منهم، وإن تقرّب منّي شبراً تقرّبتُ منهم ذراعاً، وإن تقرّب إليَّ ذراعاً تقرّبتُ منه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيتُه هرولةً).[4] وروى أبو هريرة كذلك أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سبق المفرّدون. قال: وما المفرّدون يا رسول الله؟ قال: الذاكرون اللهَ كثيراً والذاكرات).[5]
[2] أهمية الاقتداء بالسنة في الأذكار:
وقد ابتُلي بعضُ الناس بالولوع بتعظيم بعض الأدعية غير المأثورة وابتداع كثيرٍ من الأذكار؛ فكان ذلك سبباً في حرمانهم من الشعور بنور الأذكار النبويّة؛ فأهملوا المأثور؛ فحُرموا من البرَكة والخير ما لا يعلمه إلا الله! ذلك أنّ الجهلَ بالآثار يُبعِد أهله عمّا في الأذكار المأثورة من الأنوار!
وما أحسنّ ما قاله القاضي عياض في هذا الشأن: "أذِنَ الله في دعائه، وعلَّم الدعاءَ في كتابِهِ لخليقتِهِ، وعلَّم النبي صلى الله عليه وسلم الدعاء لأمته. واجتمعت فيه ثلاثة أشياء: العلم بالتوحيد، والعلم باللغة والنصيحة للأمة؛ فلا ينبغي لأحدٍ أن يعدلَ عن دعائه صلى الله عليه وسلم؛ وقد احتال الشيطانُ للناسِ من هذا المقام؛ فقيَّضَ لهم قومَ سوءٍ يخترعون لهم أدعيةً يشتغلون بها عن الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، واشد ما في الإحالة أنهم ينسبونها إلى الأنبياء والصالحين فيقولون: دُعاء نوحٍ، دُعاء يونس، دُعاء أبي بكر؛ فاتقوا اللهَ في أنفسِكم لا تشتغلوا من الحديث إلا بالصحيح".[6]
ولله درُّ ابن القيِّم حيث قال: "سبحان الله! ما حُرِمَ المُعرِضون عن نصوصِ الوحي، واقتباس العلم من مشكاتِه من كنوزِ الذخائر؟! وماذا فاتهم من حياةِ القلوب واستنارةِ البصائر؟ قنعوا بأقوالٍ استنبطتْها معاولُ الآراء فِكَراً، وتقطعوا أمرَهم بينَهم لأجلِها زُبُراً، وأوحى بعضُهم إلى بعضٍ زخرفَ القولِ غروراً؛ فاتخذوا لأجلِ ذلك القرآنَ مهجوراً! درستْ معالمُ القرآنِ في قلوبِهم فليسوا يعرفونها، ودثرَتْ معاهدُهُ عندهم فليسوا يعمرونها، ووقعتْ ألويتُهُ وأعلامُهُ من أيديهم فليسوا يرفعونها، وأفَلَتْ كواكبُهُ النيِّرة من آفاقِ أنفسِهم؛ فلذلك لا يحبُّونها، وكُسِفَتْ شمسُهُ عند اجتماعِ ظُلَمِ آرائهم وعُقَدِها فليسوا يُبصِرونها!"[7]
[3] فضل الدُّعاء بأسماء الله الحسنى :(/1)
فالدعاء يشتمل على تعظيم الله عز وجل والثناء عليه بما هو أهله والشهادة له بالأسماء الحسنى والصفات العُلى: كما روى البخاري في الدعوات (باب الدعاء إذا انتبه من الليل) عن أبي عباس قال: بت عند ميمونة فقام النبي صلى الله عليه وسلم فأتى حاجته, فغسل وجهه ويديه ثم نام, ثم قام فأتى القربة فأطلق شناقها؛ ثم توضأ وضوءًا بين وضوء لم يكثر وقد أبلغ ... وكان يقول في دعائه: (اللهم لك الحمد أنت نور السموات والأرض ومن فيهن, ولك الحمد أنت قيّوم السموات والأرض ومن فيهن, ولك الحمد أنت الحق ووعدك حق وقولك حق ولقاؤك حق, والجنة حق والنار حق والساعة حق والنبيون حق ومحمد حق. اللهم لك أسلمتُ وعليك توكلتُ وبك آمنت وإليك أنبت وبك خاصمت وإليك حاكمت؛ فاغفر لي ما قدمت وما أخرت, وما أسررتُ وما أعلنت, أنت المقدم والمؤخر لا إله ألا أنت أو لا إله غيرك) وفي رواية أخرى لابن عباس في الباب نفسه إنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في دعائه: (اللهم اجعل في قلبي نورا, وفي بصري نورا, وفي سمعي نورا, وعن يميني نورا, وعن يساري نورا, وفوقي نورا, وتحتي نورا, وأمامي نورا, وخلفي نورا, واجعل لي نورا).[8]
ولو تأملنا في الحديث الذي علَّم فيه النبيُّ صلى الله عليه وسلم التكبير والتسبيح والتحميد لفاطمة وعليٍّ رضي الله عنهما؛ لأدركنا عظمة التكبير والتسبيح والتحميد عند النوم؛ فإنّ فيه ذكراً لله الخالق الكبير المتعال, وإنّ فيه تعظيماً لربِّ السموات والأرض وما فيهنّ, وإنّ فيه حمداً وشكراً لله عز وجل على نعمه الكثيرة ورحمته الغزيرة التي وسعت كل شيء. فقد روى البخاري في (باب التكبير والتسبيح عند المنام) عن عليٍّ (أنّ فاطمة عليها السلام شكت ما تلقى في يدها من الرَّحى؛ فأتت النبي صلى الله عليه وسلم تسأله خادماً, فلم تجده, فذكرت ذلك لعائشة, فلما جاء أخبرته, قال: فجاءنا وقد أخذنا مضاجعنا, فذهبتُ أقوم, فقال: مكانكِ, فجلس بيننا حتى وجدت برد قدميه على صدري, فقال: ألا أدلّكما على ما هو خيرٌ لكما من خادمٍ؟ إذا أويتما إلى فراشِكما أو أخذْتُما مضجعَكما فكبِّرا أربعاً وثلاثين, وسبِّحا ثلاثاً وثلاثين, واحمدا ثلاثاً وثلاثين؛ فهذا خيرٌ لكما من خادم).[9]
فتأمَّلْ ـ يا رعاك الله ـ قولَ النبي صلى الله عليه وسلم (ألا أدلّكما على ما هو خيرٌ لكما من خادم؟) قال القرطبي: "إنما أحالهما على الذِّكْرِ؛ ليكون عِوَضًا عن الدُّعاءِ عند الحاجة, أو لكونِهِ أحبَّ لابنتِهِ ما أحبّ لنفسه من إيثار الفقر وتحمّل شدّته على الصبر عليه تعظيماً لأجرها".[10] وقال ابن حجر: "فيه ما كان عليه السلفُ الصالحُ من شظفِ العيشِ وقلةِ الشيء وشدّة الحال, وأنّ الله حماهم من الدنيا مع إمكان ذلك؛ صِيانةً لهم من تبعاتِها، وتلك سُنةُ أكثرِ الأنبياء والأولياء".[11]
المبحث الثاني: المعالم العقدية في الأذكار النبوية:
ولو تدبّرنا القرآن وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم؛ لألفينا طائفةً من المعالم العقديّة وجملةً من الأسس التربويّة تتضمّنها الأذكار النبويّة. منها:
أ ولا: توحيد الله تعالى :
فقد "اتفقت الفطر السليمة والعقول القويمة والشرائع المنزلة على وحدة صرف جميع أنواع العبادة لله تعالى، ومنها: التوجه إلى الله تعالى بالقلب واللسان واللجوء إليه، والعبد في حالٍ بين الخوف والرجاء، في حال الشدة والرخاء، والرغب والرهب، والخوف والطمع: بالدعاء والمسألة والطلب والاستغاثة والاستعانة والاستعاذة والاستجارة والاستسقاء والاستنجاد والاستغفار وطلب النصرة، وتحقيق المرغوب ودفع المرهوب، وغفران الذنوب وهداية القلوب، وسدِّ الفاقات وسؤال قضاء الحاجات، ونيل المسرّات وتفريج الكربات وكشف الملمّات وإغاثة اللهفات، وإزالة الغُمة وشفاء المريض، وأمن الطريق، والتثبيت عند سؤال مُِنكرٍ ونكير، والأمن يوم الوعيد والنجاة من العذاب الشديد... إلى غير ذلك من أنواع الدعاء والمسألة؛ مما لا يقدر على إجابتِهِ إلا الله تعالى؛ جلباً لنفعٍ أو دفعاً لضرٍّ، وأن هذا من خالصِ حقِّ الله سبحانه وتعالى على العبد، وتوحيد من العبد لربِّهِ في الدعاء كسائر أنواع العبادة".[12](/2)
فالدعاءُ يشتمل على توحيدِ الله عزّ وجلّ وتعظيمه والثناء عليه بما هو أهله، والإيمان بأسمائه الحسنى والشهادة له بالصفات العُلى، كما روى البخاري في (الدعوات) (باب الدعاء إذا انتبه من الليل) عن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال: (بتُّ عند ميمونة، فقام النبي صلى الله عليه وسلم ...وكان يقول في دعائه: (اللهمّ لك الحمدُ أنتَ نورُ السموات والأرض ومن فيهنّ، ولك الحمدُ أنت قيّومُ السموات والأرض ومن فيهنّ، ولك الحمد أنت الحقُّ ووعدُك حقٌّ، وقولُك حقٌّ ولقاؤك حقٌّ، والجنّة حقٌّ والنارُ حقٌّ، والنبيّون حقٌّ ومحمّد حقٌّ. اللهمّ لك أسلمتُ، وعليك توكّلتُ، وبك آمنتُ، وإليك أنبتُ، وبك خاصمتُ، ولك حاكمتُ؛ فاغفرْ لي ما قدّمتُ وما أخّرتُ وما أسررتُ وما أعلنتُ، أنت المقدِّمُ وأنت المؤخِّر، لا إله إلا أنت أو لا إله غيرك).[13]
ثانياً: عبادة الله عزَّ وجلَّ على عِلْمٍ:
إذ إنّ الدعاء من أعظم العبادات، وأجلّ القربات، كما روى أبو داود والترمذي وابن ماجه عن النعمان بن بشير رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: (وقال ربُّكم ادْعُوني أستجبْ لكم)[14] قال: (الدُّعاء هو العبادة)، وقرأ: (وقال ربُّكم ادعوني أستجبْ لكم) إلى قوله (داخرين).[15]
وإنما كان الإقبالُ على العبادة من ثمراتِ الذِّكرِ الذي يتقرَّبُ به العبدُ؛ لأنَّ "مشاهدةَ المنّة توجب له المحبة والحمد والشكر لوليِّ النعم والإحسان، ومطالعة عيبِ النفسِ والعمل توجِب له الذلَّ والانكسارَ والافتقارَ والتوبةَ في كل وقتٍ؛ وأن لا يرى نفسَه إلا مُفلِساً، وأقربُ بابٍ دخلَ منه العبدُ على الله تعالى هو الإفلاس؛ فلا يرى لنفسِهِ حالاً ولا مقاماً ولا سبباً يتعلّق به ولا وسيلةً منه يمنّ بها! بل يدخل على الله تعالى من باب الافتقار الصِّرف والإفلاس المحض دخولَ من قد كَسَر الفقرُ والمسكنةُ قلبَه؛ حتى وصلتْ تلك الكسرةُ إلى سُوَيْدائه؛ فانصدعَ وشَمَلَتْهُ الكسرةُ من كلِّ كلِّ جهاتِهِ، وشهد ضرورتَه إلى ربِّهِ عز وجل، وكمالَ فاقتِهِ وفقرِهِ إليه، وأنَّ في كلِّ ذَرَّةٍ من ذرّاتِهِ الظاهرة والباطنة فاقةً تامّةً، وضرورةً كاملةً إلى ربِّهِ تبارك وتعالى، وأنه إن تخلَّى عنه طرفةَ عينٍ هلك وخسر خسارةً لا تُجبَرُ؛ إلا أن يعود الله تعالى عليه ويتداركه برحمتِهِ؛ ولا طريقَ إلى الله تعالى أقربَ من العبوديّة، ولا حجابَ أغلظَ من الدعوى!".[16]
ولله ما أحسنَ ما استنبطَهُ العلماءُ من أفضليّة الصلاة على سائرِ العبادات؛ لما تتضمّنه من تربية رُوح العبوديّة في النفس ما لا يوجّد في غيرها، كما قال ابنُ القيم: "لما كانت الصلاةُ مشتملةً على القراءةِ والذِّكر والدعاء، وهي جامعةٌ لأجزاء العبوديّة على أتم الوجوه؛ كانت أفضلَ من القراءةِ والذِّكر والدعاءِ بمفردِهِ؛ لجمعِها ذلك كلَّه مع عبوديّة سائر الأعضاء؛ فهذا أصلٌ نافعٌ جدّاً يفتح للعبد بابَ معرفةِ مراتبِ الأعمال وتنزيلِها منازلَها".[17]
ثالثاً: الشهادة لله تعالى بالرُّبُوبِيّة:
[1] ذلك أنّ دعاء العباد ربَّهم تبارك وتعالى، وتوجُّهَهم إليه خاشعين خاضعين متضرِّعين؛ شهادةٌ له جلّ جلالُه بأنه أحدٌ فردٌ صمدٌ ؛ وأنّه عزّ وجلّ هو الخالق الباريء المصوّر، الذي بيده الخير، وإليه يُرَدُّ الأمر، وعنده النفع والضرّ ، وهو على كل شيء قدير. ورحم الله العلامة ابنَ القيّم، حيث قرّر هذا المعنى واستنبطه في تفسير (اهدنا الصراط المستقيم) حيث قال: "لما كان سؤال الله الهداية إلى الصراط المستقيم أجلّ المطالب, ونيلُه أشرف المواهب؛ علّم الله عبادَه كيفيةَ سؤالِه, وأمرهم أن يقدّموا بين يديه حمدَه والثناء عليه وتمجيدَه, ثم ذكر عُبُودِيَّهم وتوحيدَهم؛ فهاتان وسيلتان إلى مطلوبهم: توسُّلٌ إليه بأسمائه وصفاته, وتوسُّلٌ إليه بعبوديته. وهاتان الوسيلتان لا يكاد يُردُّ معهما دعاء, ويؤيِّدهما الوسيلتان المذكورتان في الاسم الأعظم ... وهذه ترجمةُ عقيدةِ أهل السنة، والتوسل بالإيمان بذلك والشهادة: هو الاسم الأعظم"![18]
[2] وقد بيّن القرآنُ الكريم الأسسَ العقديّة التي ينبغي للمسلم أن يستحضرها في دعائه؛ مقرِّراً أنَّ اللهَ عز وجل هو الذي يُقصَد في الحوائج دون سواه. فأيدي العباد لا تُرفَع إلا إليه، ودموعهم لا تجري إلا بين يديه، وحاجاتُهم لا تُطلَب إلا منه، وهمومُهم لا تُشْكَى إلا إليه (إنما أشكو بثّي وحزني إلى الله).[19]
وهذا المعنى ظاهرٌ في قولِ الله تعالى: (قُلِ اللّهمَّ مالكَ الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممّن تشاء وتُعزّ من تشاء وتُذلّ من تشاء بيدك الخيرُ إنّك على كلّ شيءٍ قدير).[20](/3)
[3] ومن أجل ذلك يجيء ذمُّ الذين يقصدون المخلوقين ولا يستعينون بربّ العالمين، كما قال الله عزّ وجل: (يدعو من دون الله ما لا يضرّه وما لا ينفعه ذلك هو الضلالُ البعيد يدعو لمن ضرُّه أقربُ من نفعه لبئس المولى ولبئس العشير)،[21] ذلك أنَّ اللهَ سبحانه وتعالى هو الذي يُجِيبُ العبادَ ويُعْطِيهم مِن خزائنه الواسعة كما قال جلّ جلاله: (وإذا سألك عبادي عنّي فإنّي قريبٌ أُجِيبُ دعوةَ الداعِ إذا دعان فلْيسْتجِيبُوا لي ولْيؤمِنُوا بي لعلّهم يرشدون).[22]
[4] فالله تبارك وتعالى هو القويُّ والبشر ضعفاء، وهو الكريمُ والخَلْقُ بُخَلاءُ، وهو الحيُّ القادرُ والناسُ أهلُ عجزٍ وفناء، كما قال سبحانه: (يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغنيُّ الحميد)،[23] وقال عزّ وجلّ: (ومَن أضلّ ممّن يدعو مِن دون الله مَن لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون وإذا حُشر الناسُ كانوا لهم أعداءً وكانوا بعبادتهم كافرين).[24] وقال تبارك وتعالى: (له دعوةُ الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيءٍ إلا كباسط كفَّيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه وما دعاء الكافرين إلا في ضلال).[25] وقال سبحانه: (قل ادعوا الذين زعمتم مِن دون الله لا يملكون مثقالَ ذرّةٍ في السموات ولا في الأرض وما لهم فيهما مِن شرك وما له منهم مِن ظهير).[26]وقال جلّ جلاله: (يا أيها الناس ضُرِب مثلٌ فاستمِعوا له إنّ الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذبابُ شيئاً لا يستنقذوه منه ضَعُفَ الطالبُ والمطلوبُ ما قدروا اللهَ حقَّ قدرِه إنّ الله لقويٌّ عزيز).[27]
رابعاً: العبوديّة لله عزّ وجلّ:
فالأذكار بريدُ الأبرارِ، وصلةُ المذنبين بربّهم الغفار: الذي خلقهم ورزقهم وهداهم واجتباهم للإيمان، وغفرَ لهم الزلات، وأقال لهم العثرات؛ فالعبدُ الصالحُ يتضرّع إلى ربِّه:
أنتَ الذي صوّرتَني وخلقتَني وهديتَني لشرائع الإيمانِ!
أنتَ الذي علّمتَني ورحمتَني وجعلتَ صدري واعيَ القرآنِ!
أنتَ الذي أطعمتني وسقيتني من غير كسب يدٍ ولا دكّانِ!
فلك المحامدُ والمدائحُ كلُّها بخواطري وجوارحي ولساني!
وقد عبّر الطيّبي عن هذا المعنى أحسنَ تعبيرٍ، فقال رحمه اللهُ في قول الله تعالى: (ادْعوني استجب لكم): "الدعاءُ هو إظهارُ غايةِ التذلُّلِ والافتقارِ إلى الله والاستكانةِ إليه؛ وما شُرِعتْ العباداتُ إلا للخضوعِ للباري وإظهارِ الافتقارِ إليه؛ ولهذا خَتَمَ الآيةَ بقوله تعالى: (إنّ الذين يستكبرون عن عبادتي) حيث عبّر عن عدمَِ الخضوعِ والتذلُّلِ بالاستكبارِ, ووَضَعَ (عِبادتي) موضع (دُعائي), وجعل جزاءَ ذلك الاستكبارَ والصَّغارَ والهَوان".[28]
خامساً: التوبة والإنابة إلى الله تعالى:
[1] ولو تدبّرْنا الأذكارَ الصحيحةَ الواردة في الاستغفار؛ لوجدناها طافحةً بمعاني التوبة إلى الله تعالى، وإظهار الافتقار إليه، وتلك ـ لعمري ـ صفةُ المتقين أنهم (يذكُرُون الله)؛ فيكون ذِكْرُهم داعِياً إلى التوبةِ وباعِثاً على الاستغفارِ، كما قال الله عزّ وجلّ: (الذين إذا فعلوا فاحشةً أو ظلموا أنفسهم ذكروا اللهَ فاستغفروا لذنوبهم ومَنْ يغفر الذنوبَ إلا الله ولم يصرّوا على ما فعلوا وهم يعلمون).[29]
[2] وللاستغفار معانٍ عقديّةٌ جليلةٌ: مثل إنابة العبدِ إلى ربِّهِ، واعترافه بذنبه وإقراره بـ(أن له ربّاً يغفر الذنوب)، وتربية الخشوع والخضوع في نفس المسلم، وتلذُّذِه بالتذلُّل بين يدي ربِّه كما قال نبي الله صالح عليه السلام: (فاستغفروه ثم توبوا إليه إنّ ربّي قريبٌ مُجيب)،[30]
وشهادته برحمةِ ربِّهِ وتوبته على عباده؛ واستحضاره قربَه وإجابتَه من دعاه،ورحمتَه ومحبّتَه عبادَه، كما قالَ نبيُّ الله شعيبٌ عليه السلام: (واستغفروا ربَّكم ثم توبوا إليه إنّ ربّي رحيمٌ ودود).[31] "ففي القلب شَعَثٌ لا يلُمّه إلا الإقبالُ على الله، وفيه وِحشةٌ لا يزيلها إلا الأنسُ به في خلوته، وفيه حزنٌ لا يُذهبه إلا السرورُ بمعرفته وصدق معاملته، وفيه قلقٌ لا يسكّنه إلا الاجتماعُ عليه والفرارُ منه إليه، وفيه نيرانُ حسراتٍ لا يطفئها إلا الرضى بأمره ونهيه وقضائه، ومعانقة الصبر على ذلك إلى وقت لقائه، وفيه طلبٌ شديدٌ لا يقف دون أن يكون هو وحدَه مطلوبَه، وفيه فاقةٌ لا يسدّها إلا محبّته والإنابة إليه ودوام ذكره، وصدق الإخلاص له؛ ولو أُعطي الدنيا وما فيها لم تُسدَّ تلك الفاقةُ منه أبدا"![32](/4)
[3] ولعلّ المتأمّل في حديث سيّد الاستغفار يُدرك هذه الصلة الوثيقة بين ما بين الأدعية والأذكار وبين الأصول العقديّة والمعاني الإيمانيّة؛ وهذا سرُّ الوعد بالجنّة لكلماتٍ يقولها العبد يسيرةٍ في حروفِها ومبانيها كبيرةٍ في رُوحها ومعانيها، فقد روى البخاري في (الدعوات) باب (أفضل الاستغفار) حديث شدّاد بن أوس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(سيّد الاستغفار أن تقول: اللهمّ أنت ربّي لا إله إلا أنت، خلقتَني وأنا عبدُك، وأنا على عهدِك ووعدِك ما استطعتُ؛ أعوذ بك من شرّ ما صنعتُ، أبوء لك بنعمتِك عليَّ، وأبوء بذنبي؛ فاغفر لي؛ فإنه لا يغفر الذنوبَ إلا أنت. قال: ومن قالها من النهار موقناً بها فمات من يومه قبل أن يُمسي؛ فهو من أهل الجنّة، ومن قالها من الليل وهو موقنٌ بها فمات قبل أن يُصبح؛ فهو من أهل الجنّة).[33]
[4] وأما حديث أبي هريرة الذي ختم البخاريُّ به صحيحَه الجامع، وهو آخرُ حديثٍ في كتاب (التوحيد)، فهو ناطقٌ بهذا المعنى حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كلمتان خفيفتان على اللّسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان اللهِ وبحمده، سبحان الله العظيم). وقد ذكر الحافظ ابن حجر أنّ من فوائد الحديث "الحثّ على إدامة هذا الذكر، وقد تقدّم في فضل التسبيح من وجهٍ آخر عن أبي هريرة حديثٌ آخر لفظه: (من قال: سبحان الله وبحمده في يومٍ مائة مرّةٍ؛ حُطَّتْ عنه خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر)، وإذا ثبت هذا في قول (سبحان الله وبحمده) وحدها؛ فإذا انضمّت إليها الكلمة الأخرى فالذي يظهر أنها تفيد تحصيل الثواب الجزيل المناسب لها، كما أنّ من قال الكلمة الأولى وليست له خطايا مثلاً فإنه يحصل له من الثواب ما يوازن ذلك".[34]
[5] ورحم الله الإمامَ البخاريَّ؛ فقد ترجم في (الدعوات) ترجمةً نفيسةً وافيةً بهذا الغرض: [(باب أفضل الاستغفار، وقوله تعالى: (واستغفروا ربَّكم إنه كان غفّارا يُرسِل السماء عليكم مِدْراراً ويُمددْكم بأموالٍ وبنينَ ويجعلْ لكم جنّاتٍ ويجعلْ لكم أنهارا)، (والذين إذا فعلوا فاحشةً أو ظلموا أنفسَهم ذكروا اللهَ فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصرّوا على ما فعلوا وهم يعلمون)].
قال ابن القيِّم: "إذا أراد الله بعبده خيراً فتح له من أبوابِ التوبة والندمِ والانكسارِ والذُّلِّ والافتقار والاستعانة وبه وصدقِ اللجوء إليه، ودوامِ التضرع والدعاء والتقرب إليه بما أمكن من الحسنات؛ ما تكون تلك السيئة به سبب رحمتِهِ؛ حتى يقول عدوُّ الله: ليتني تركتُهُ ولم أُوقِعْهُ! وهذا معنى قولِ بعضِ السلفِ: إنَّ العبدَ ليعمل الذنبَ يدخل به الجنّة! ويعمل الحسنة يدخل بها النار! قالوا: كيف؟ قال: يعمل الذنب؛ فلا يزال نصبَ عينيهِ خائفاً منه مُشفِقاً وَجِلاً باكياً نادماً مُستَحِياً من ربِّهِ تعالى ناكسَ الرأسِ بين يديه منكسِرَ القلب له؛ فيكون ذلك الذنبُ أنفعَ له من طاعاتٍ كثيرةٍ بما ترتب عليه من هذه الأمور التي بها سعادةُ العبد وفلاحُهُ؛ حتى يكون ذلك الذنبُ سببَ دخولِهِ الجنة! ويفعل الحسنةَ؛ فلا يزالُ يمُنُّ بها على ربِّهِ ويتكبَّرُ بها، ويرى نفسَهُ ويُعجَبُ بها ويستطيل بها، ويقول: فعلتُ وفعلتُ؛ فيُورِثُهُ من العُجْبِ والكِبْرِ والفخر والاستطالة؛ ما يكون سببَ هلاكِهِ؛ فإذا أراد اللهُ تعالى بهذا المسكين خيراً ابتلاه بأمرٍ يكسرُهُ بهِ ويُذِلُّ به عُنُقَهُ ويُصغِّرُ به نفسَه عنده! وإذا أراد به غيرَ ذلك؛ خلاه وعُجبَهُ وكِبْرَهُ؛ وهذا هو الخذلانُ المُوجِبُ لهلاكِهِ!"[35]
سادساً: إظهار الرّجاء وحسن الظنّ بالله:
[1] وهذه المعاني ظاهرةٌ في أذكار الاستغفار، كما روى الترمذي عن أنس رضي الله عنه قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: (قال الله تعالى: يا ابنَ آدم إنك ما دعوتني ورجوتني؛ غفرتُ لك ما كان منك ولا أبالي، يا ابنَ آدم لو بلغتْ ذنوبُك عنانَ السماء ثم استغفرتني غفرتُ لك ما كان منك ولا أبالي، يا ابنَ آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرةً).
[2] وقد أحسن التعبير عن هذا المعنى يحيى بن معاذ حين قال: "يكاد لك رجائي مع الذنوب يغلب رجائي لك مع الأعمال؛ لأنّي أجدني أعتمد في الأعمال على الإخلاص وكيف أصفّيها وأحزرها وأنا بالآفات معروف؟! وأجدني في الذنوب أعتمد على عفوك وكيف لا تغفرها وأنت بالجود موصوف".[36](/5)
[3] ولله درُّ صاحب الظلال حيث قال في تفسير:(إنما أشكو بثّي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون)[يوسف 86]: "في هذه الكلمات يتجلّى الشعور بالألوهيّة في هذا القلب الموصول؛ كما تتجلّى هذه الحقيقة ذاتها بجلالها الغامر ولألائها الباهر... وهذه قيمة الإيمان بالله ومعرفته سبحانه هذا اللون من المعرفة: معرفة التجلّي والشهود، وملابسة قدرته وقَدَره، وملامسة رحمته ورعايته، وإدراك شأن الألوهيّة مع العبيد الصالحين؛ إنّ هذه الكلمات (وأعلم من الله ما لا تعلمون) تجلو هذه الحقيقة بما لا تملك كلماتنا نحن أن تجلوها وتعرض مذاقاً يعرفه من ذاق مثله؛ فيدرك ماذا تعني هذه الكلمات في نفس العبد الصالح يعقوب"![37]
سابعاً: خشية الله تعالى:
فدعاء الله تعالى أعظمُ تعبيرٍ عن الخوف من الله عزّ وجلّ؛ ولا ريب أنه يوضّح ذلك ضمّ الأحاديث الواردة في الاستغفار مثل حديث أبي هريرة: (سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: والله إنّي لأستغفر اللهَ وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرّةً)[38] إلى أحاديث الورع والخوف والخشية مثل حديث ابن مسعود رضي الله عنه: (إنّ المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعدٌ تحت جبلٍ يخاف أن يقع عليه، وإنّ الفاجر يرى ذنوبَه كذبابٍ مرّ على أنفه فقال به هكذا).[39] قال ابن أبي جمرة: "السبب في ذلك أنّ قلبَ المؤمن منوَّرٌ؛ فإذا رأى من نفسه ما يخالِف ما يُنوَّر به قلبُه عظم الأمرُ عليه؛ والحكمة في التمثيل بالجبل أنّ غيره من المهلكات قد يحصل التسبُّّّّّب إلى النجاة منه عادةً، بخلاف الجبل إذا سقط على الشخص لا ينجو منه عادةً. وحاصله أنّ المؤمن يغلب عليه الخوف؛ لقوّة ما عنده من الإيمان؛ فلا يأمن العقوبة بسببها. وهذا شأنُ المسلم أنه دائم الخوف والمراقبة يستصغر عمله الصالح، ويخشى من صغير عمله السيّء".[40]
فالمسلمون الذين امتلأت حياتهم بالمعاصي أحوج ما يكونون إلى الاستغفار في اليوم مرات ومرات, وقد روى البخاري عن أبي هريرة قال: قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: والله إني استغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة).[41] وقد صدق النووي حيث قال: "نحن إلى الاستغفار والتوبة أحوج".[42]
ثامناً: الإيمان بالغيب:
وهذا ظاهرٌ في حديث الملائكة السيّاحين في الأرض، (يقولون: تركناهم يحمدونك ويمجّدونك ويذكرونك، قال: فيقول: فهل رأوني؟ فيقولون: لا. قال: فيقول: فكيف لو رأوني؟ قال:فيقولون: لو رَأوْك لكانوا أشدَّ تحميدًا وأشدَّ تمجيدًا وأشدَّ لك ذِكْرَا قال: فيقولُ: وأيُّ شيءٍ يطلبون؟ قال: فيقولون: يطلبون الجنَّة، قال: فيقول: وهل رَأوْها؟ قال: فيقولون: لا، فيقولُ: فكيف لو رَأوْها؟ قال: فيقولون: لو رَأوْها لكانوا أشدَّ لها طلبا، وأشدَّ عليها حِرْصا. قال: فيقولُ: من أيِّ شيءٍ يتعوذون؟ قالوا: يتعوَّذون من النَّار. قال: فيقول: وهل رَأوْها؟ فيقولون: لا. فيقولُ: فكيف لو رَأوْها؟ فيقولون: لو رَأوْها لكانوا منها أشدَّ هَرَبا، وأشدَّ منها تعوُّذا. قال: فيقولُ: أشهدُكُم أنيِّ قد غَفرتُ لهم).
ولله در ابن جمرة حيث قال شارحاً حديث البخاري عن ابن مسعود (إنّ المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه, وإنّ الفاجر يرى ذنويه كذباب مر على أنفه فقال به هكذا):"السبب في ذلك أنّ قلب المؤمن منوّر؛ فإذا رأى من نفسه ما يخالف ما ينوّر به قلبُه عظم الأمر عليه؛ والحكمة في التمثيل بالجبل أنّ غيره من المهلكات قد يحصل التسُّبب إلى النجاة منه, بخلاف الجبل إذا سقط على الشخص لا ينجو منه عادة, وحاصله أنّ المؤمن يغلب عليه الخوف لقوة ماعنده من الإيمان؛ فلايأن العقوبة بسببها, وهذا شأن المسلم أنه دائم الخوف والمراقبة يستصغر عمله الصالح، ويخشى من صغير عمله السيء".[43]
وقال المحب الطبري: "إنما كانت هذه صفة المؤمن لشدة خوفه من الله ومن عقوبته؛ لأنه على يقين من الذنب, وليس على يقينٍ من المغفرة, والفاجر قليل المعرفة بالله؛ فلذلك قَل خوفه واستهان بالمعصية"[44]
والدعاء علامة على اليقين في رحمة الله وحسن الظن به عز وجل ورجاء ما عنده كما روى مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنّ الله يقول: أنا عند ظنّ عبدي بي، وأنا معه إذا دعاني).[45] ولعل مما يزيد هذا الأمر وضوحاً ما رواه مسلم عن أمنا عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أحبّ لقاء الله أحبّ الله لقاءه, ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه. فقالت يانبي الله أكراهية الموت فكلُّنا نكره الموت؟ فقال: ليس كذلك, ولكن المؤمن إذا بُشِّر يرحمة الله ورضوانه وجنته أحبّ لقاء الله فأحبالله لقاءه,وإنّ الكافر إذا بُشِّر بعذاب الله وسخطه كره لفاء الله وكره الله لقاءه).[46](/6)
وما أحسن ما استنبطه الحافظ ابن حجر من حديث انس وابن مسعود (لله أفرح بتوبة العبد من رجل نزل منزلا وبه مهلكه, ومعه راحلته عليها طعامه وشرابه, فوضع رأسه فنام نومةً فاستيقظ وقد ذهبت راحلته حتى اشتد عليه الحرّ والعطش أو ما شاء الله. فقال: أرجع إلى مكاني فرجع فنام نومةً ثم رفع رأسه فإذا راحلتُه عنده): "فيه بركة الاستسلام لأمر الله؛ لأنّ المذكور لما أيس من وجدان راحلته استسلم للموت؛ فمنّ الله عليه بردِّ ضالته".[47]
ولو تدبرنا دعاء النوم لألفينا فيه معاني الإخبات لله تعالى والاستسلام ظاهرةً جلية, كما روى البخاري ومسلم عن البراء بن عازب أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا أخذت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة ثم اضطجع على شقك الأيمن, ثم قل: (الله إني أسلمت وجهي إليك, وفوضت أمري إليك, وألجأت ظهري إليك, رغبةً ورهبةً إليك, لا ملجأ ولا منجأ منك إلا إليك آمنت بكتابك الذي أنزلت وبنبيّك الذي أرسلت, واجعلهم من آخر كلامك فإن متّ من ليلتك متّ وأنت على الفطرة. قال النووي رحمه الله: "(اللهم إني أسلمت وجهي إليك): أي استسلمتُ وجعلتُ نفسي منقادةً لك منقادة لحكمك... ومعنى (ألجأت ظهري إليك) أي توكّلتُ عليك. واعتمدتك في أمري كله كما يعتمد الإنسان بظهره على ما يسنده, وقوله (رغبة ورهبة) أي: طمعاً في ثوابك وخوفاً من عذابك".[48]
وقال ابن حجر: "قال الطيبي: من نظم هذا الذكر عجائب لا يعرفها إلا المتقن من أهل البيان, فأشار بقوله (أسلمت نفسي) إلى أن جوارحه منقادة لله تعالى في أوامره ونواهيه, (وجهت وجهي) إلى أنّ ذاته مخلصة له بريئة من النفاق, وبقوله: (فوضت أمري) إلى إنّ الأمور الخارجة والداخلة مفوّضة إليه لا مدبّر لها غيره, وبقوله: (ألجأت ظهري) إلى أنه بعد التفويض يلتجيؤ إليه مما يغره ويؤذيه في الأسباب كلها".[49]
وقد شرح ابن حجر هذا الحديث بقوله: "(أسلمت) أي استسلمت وانقدت, والمعنى جعلتُ نفسي مُنقادةً لك تابعة لحكمك؛ إذ لا قدرة لي على تدبيرها ولا على جلب ما ينفعها إليها, ولا دفع ما يضرها عنها, وقوله (وفوضت أمري إليك) أني توكلت عليك في أمري كله, وقوله (ألجأت) أني اعتمدت في أموري عليك لتُعينني على ما ينفعني؛ لأنّ من استند إلى شيء تقوى به واستعان به".[50]
[9] الإيمان والتصديق بعالم الغيب والإيمان بالرسل والكتب والموت والجنة والنار
وهذه المعاني ظاهرة في ما رواه البخاري في الدعوات (باب إذا بات طاهراً) و(باب ما يقول إذا نام) عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم(إذا أردت مضجعك فقل: اللهم أسلمت نفسي إليك, وفوّضت أمري إليك, ووجهت وجهي إليك, وألجأت ظهري إليك رغبة ورهبة إليك, لا ملجأ منك إلى إليك. آمنت بكتابك الذي أنزلت وبنبيك الذي أرسلت؛ فإن متَّ متَّ على الفطرة).[51]
وقد استنبط ابن حجر من فوائد الحديث: "أن يبيت على طهارة لئلا يبغته الموت؛ فيكون على هيئة كاملة, ويؤخذ منه الندب إلى الاستعداد للموت بطهارة القلب؛ لأنه أولى من طهارة البدن".[52]
ويوضح ذلك كذلك حديث حذيفة رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أوى إلى فراشه قال: باسمك أموت وأحيا, وإذا قام قال: الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور).[53]
[10] التوكل والانكسار والتذلل والافتقار:
وهذا من أعظم أحوال العبد, كما قال ابن القيم في (المدارج) في الأسباب الجالِبة للمحبة: "السابع: وهو من أعجبها: انكسار القلب بكليته بين يدي الله تعالى, وليس في التعبير عن هذا المعنى غير الأسماء والعبارات"؛[54] ولذلك عُرفت المحبة بأنها "أن يكون كلك بالمحبوب مشغولاً, وذُلُّك له مبذولاً".[55]
ولا يصح التوكل إلا على الله, ولا الالتجاء إلا إليه, ولا الخوف إلا منه, ولا الرجاء إلا له, ولا الطمع إلا في رحمته, كما قال أعرف الخلق به صلى الله عليه وسلم: (أعوذ برضاك من سخطك, وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك, وأعوذ بك منك) وقال: (لا منجى ولا ملجأ منك إلا إليك).[56]
إنّ التفكّر في صفات الله تعالى الواردة في أسمائه الحسنى يكسو الأذكار جلالةً ومهابةًَ ومعرفةً. وقد روى البخاري في كتاب التوحيد باب (ما جاء في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى توحيد الله تبارك وتعالى) عن عائشة أنّ النبي صلى الله عليه وسلم بعث رجلاً على سرية وكان يقرأ لأصحابه في صلاته فيختم بـ (قل هو الله أحد) فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: سلوه لأي شيء يصنع ذلك؟ فسألوه فقال: لأنها صفة الرحمن؛ وأنا أحب أن أقرأ بها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أخبره أنّ الله يحبه) قال ابن دقيق العيد: يحتمل أن يكون سبب محبة الله له محبته لهذه السورة؛ ويحتمل أن يكون لما دلّ عليه كلامه؛ لأنّ محبته لذكر صفات الرب دالة على صحة اعتقاده".[57](/7)
وقد ترجم البخاري في كتاب (التوحيد) ترجمة نفيسة تبين علاقة الدعاء بالتوحيد (باب سؤال بأسماء الله تعالى والاستعاذة بها) عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا جاء أحدكم فراشه فلْينفْضه بصِنفة (طرف) ثوبه ثلاث مرات, ولْيقلْ: باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه, إن أمسكت نفسي فاغفر لها, وإن أرسلتها فاحفظْها بما تحفظ به عبادك الصالحين). وحديث حذيفة قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أوى إلى فراشه قال: اللهم باسمك أحيا وأموت, وإذا أصبح قال: الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور).[58]
ورحم الله ابن القيِّم حيث قال: "إنَّ العارفين كلَّهم مُجمِعون على أنَّ التوفيقَ: أن لا يَكِلَكَ الله تعالى إلى نفسِك، والخذلان: أن يَكِلَك الله تعالى إلى نفسِك؛ فمن أراد اللهُ به خيراً فتح له بابَ الذُلِّ والانكسار ودوام اللجوء إلى الله تعالى والافتقار إليه، ورؤية عيوبِ نفسِهِ وجهلِها وعُدوانِها، ومشاهدة فضلِ ربِّهِ وإحسانِهِ ورحمتِهِ وجُودِهِ وبرِّهِ وغِناه وحمدِهِ".[59]
----------
[1]يوسف 86.
[2]الوابل الصيِّب من الكَلِم الطيِّب لابن القيِّم ص 12. دار الكتب العصريّة بيروت. ط1. 1424 هـ.
[3]سورة الفرقان 77.
[4]افتتح به الإمام مسلم كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (شرح النووي على مسلم 17/2-3).
[5]شرح النووي على مسلم 17/4.
[6]شرح ابن علان للأذكار 1/17. نقلاً عن تصحيح الدعاء للشيخ بكر أبو زيد ص 6.
[7]مدارج السالكين بين منازل إيّاك نعبد وإيّاك نستعين 1/5.
[8]فتح الباري 11/116.
[9]المرجع السابق 11/119.
[10]المرجع السابق 11 /14.
[11]12/124.
[12]تصحيح الدعاء للعلامة بكر أبو زيد ص 237. دار العاصمة الرياض. ط1. 1419 هـ.
[13]فتح الباري 11/116.
[14]غافر 60.
[15]جامع الترمذي 5/80 تحقيق د.بشار عوّاد. دار الغرب الإسلامي بيروت. ط2. 1418 هـ.
[16]الوابل الصيِّب ص 14-15.
[17]الوابل الصيِّب ص 110.
[18]مدارج السالكين دار الفكر ط 1408هـ. وقد أعرضتُ عن ذكر الحديث الثاني ـ وهو في الترمذي ـ لضعفه.
[19]يوسف 86.
[20]آل عمران 26.
[21]الحج 12-13.
[22]البقرة 186.
[23]فاطر 15.
[24]الأحقاف 5-6.
[25]الرعد 14.
[26]سبأ 22.
[27]الحج 73-74.
[28]نقله الحافظ ابن حجر في فتح الباري 11/95 مؤسسة مناهل العرفان.
[29]آل عمران 135.
[30]هود 61.
[31]هود 90.
[32]مدارج السالكين لابن القيّم 3/164.
[33]فتح الباري 11/97-98.
[34]فتح الباري 13/548.
[35]الوابل الصيِّب لابن القيم ص 13.
[36]مدارج السالكين لابن القيّم 2/36-37. دار الفكر 1412هـ.
[37]في ظلال القرآن لسيّد قطب 13/2016.
[38]فتح الباري 11/101.
[39]المرجع السابق 11/105.
[40]المرجع السابق.
[41]فتح الباري 11/101
[42]شرح النووي 17/25
[43]نقله ابن حجر في فتح الباري 11/105.
[44]المرجع السابق.
[45]شرح النووي 17/11
[46]شرح النووي 17/9.
[47]الفتح 11/108.
[48]شرح النووي 17/33.
[49]فتح الباري 11/111.
[50]الفتح 11/110 - 111
[51]الفتح 11/113
[52]الفتح 11/110.
[53]المرجع السابق 11/113
[54]مدارج السالكين 3/17.
[55]المدارج 3/16.
[56]مدارج السالكين 33/500.
[57]فتح الباري 13/357.
[58]فتح الباري 13/378.
[59]الوابل الصيِّب لابن القيم ص 14.(/8)
معالم في أدب الاختلاف سماح محمد هاشم*
الاختلاف سنة كونية، وجبلة فطرية، موجودة في كل شيء؛ بدءاً باختلاف مخلوقات الله عز وجل، واختلاف الليل والنهار، وكذا الأيام والشهور؛ فاليوم ليس كالبارحة، وغداً يوم آخر، وأنا وأنت بشر، ومع ذلك فبيننا فوارق في الأهواء والطباع والصفات.. هذا هو ما يجعل الحياة متجددة، وممتعة!!.. تصور إذا كانت الأيام كلها مثل سابقاتها!، أو كان الليل والنهار شيئا واحدا؛ لا فرق بينهما!!، وأنا وأنت كنا نسخة كربونية واحدة في كل شيء!!!، عندها سنملّ، ونثور، ونتفجر، وندعو إلى الاختلاف، والتغيير!!.. إذن فالاختلاف أمر طبيعي، بدهي، وفطري، وقد يكون أحياناً ضروريا.
ومبحثنا في هذه الأسطر هو جزئية معينة من أنواع الاختلاف؛ وهو اختلاف الفكر والرأي؛ فكلٌّ منا له فكره، وله رأيه الخاص الذي يميزه عن غيره، والذي يتشكل، ويتكون بحس ثقافة المرء، وعلمه، وعقيدته الدينية، وظروفه البيئية، والاجتماعية؛ فكلها عوامل تؤثر، وتتأثر؛ لتخرج لنا فكراً خاصاً بصاحبه.. ومن هنا يتضح لنا أن هنالك أكثر من سبب يؤدي إلى اختلافنا في الرؤى، والأفكار!!.. إذن فالمشكلة ليست في اختلافنا؛ بل في إيجاد أرضية واحدة للاتفاق؛ فليس معنى أن تخالفني الرأي أنك قد أصبحت ضدي، وليست قاعدة (ما أريكم إلا ما أرى) من الحق في شيء؛ فقد نختلف في مسألة، ولكن هنالك العديد من المسائل التي نتفق فيها.. وقد أختلف مع أخي، ولكن هذا لا يعني أن أختزل أُخوتي معه لهذا الاختلاف فقط..
إن من أهم، وأسلم، وأنجع الوسائل لحل الاختلاف الحوار الجاد، الهادئ، البنّاء؛ فهو موصل جيد للأفكار، وأقصر الطرق لإقناع الآخرين.. وعلينا أن نقبل على من نحاور؛ فمقصودنا, ومرادنا من ذلك هو وضوح الحق؛ لا شيء غيره.. وكذلك من الأهمية بمكان عند المحاورة توسيع، ودعم دائرة الاتفاق، وتضييق دائرة الاختلاف.. وهذا لا يكون إلا بتأطير، وتحديد ما نختلف فيه؛ فقد يكون وضوح الأمر المختلف فيه لكلا الطرفين بداية الحل؛ فكثيراً ما نختلف فقط لأننا لا نعرف ما هو الشيء الذي اختلفنا فيه.. وأحياناً قد نكون متفقين؛ ولكن هنالك مشكلة في قنوات الاتصال والفهم.. فسوء الفهم آفة.
ومن هنا تنشأ حاجتنا الماسة لمعرفة أدب الحوار، وضرورة ممارسته، وتطبيقه في قضايانا الكبرى؛ بل حتى في حياتنا اليومية المعتادة.. وهنا جملة من الآداب التي يجب أن يلتزم بها المحاور:
• التجرد التام وتصحيح النية لله عز وجل.
• عدم الاستكبار عن الحق.. وأخذ الحق من أي شخص؛ فالحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أولى الناس بها.
• إياك والغرور العلمي.. وهو أن تظن أن من تحاوره هو أقل منك علماً؛ فهذا يسد عليك باب التمعن والتفكر فيما يقوله لك.
• التحدث بطريقة هادئة ومقنعة؛ فالثورة والغليان قد يضيع معها الحق (وجادلهم بالتي هي أحسن).. وكما قال أحدهم: النفوس بيوت؛ فاطرقها برفق عند الولوج إليها.
• تذكر أنك تحاور من يختلف معك في فكره فقط لا في شخصك؛ فبذلك تترفع عن أذيته والنيل من عرضه.
• البعد عن المسميات والانتماءات الحزبية؛ فإنها تشيع روح العصبية، وتزيد عمق الشرخ.
• هنالك قاعدة تقول: ليس كل ما لديّ صواب، وليس كل ما يأتي من الآخر خطأ.
• ليكن لسان حالك ومقالك ما قاله الإمام الشافعي رحمه الله: (ما ناظرت أحداً قط إلا ولم أبالي بيّن الله الحق على لساني أو لسانه).
وأخيراً وليس آخراً فمراد الحديث ومقصوده ألاَّ ننزعج كثيراً إذا نحن اختلفنا؛ فهذا أمر قدري؛ بل إن ملائكة العذاب، وملائكة الرحمة اختلفوا في الرجل التائب كما ورد ذلك في الحديث الشريف؛ أيهم يأخذه؟!.. وكذلك اختلف أعظم جيل بعد الأنبياء - وهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - ولكن ضربوا لنا أروع المثل في أدب الاختلاف، وحسن الحوار.. وليكن شعارنا في ذلك مقولة أحد الدعاة المعاصرين: (فلنتعاون فيما اتفقنا فيه، وليعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه).. والله أسأل أن يوفق، ويسدد كل باحث عن الحق، وأن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، وهو الهادي إلى سواء السبيل.(/1)
معالم في التعامل مع الفتن
محمد بن إبراهيم الحمد (*) 8/4/1425
27/05/2004
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فلا ريب أن الأمة تعيش أحوالاً عصيبة، قد تكون أحرج أيام مرت بها عبر التاريخ؛ فالمصائب متنوعة، والجراحات عميقة، والمؤامرات تحاك تلو المؤامرات.
يضاف إلى ذلك ما تعانيه الأمة من الضعف، والهوان، والفُرقة، وتسلط الأعداء.
وما هذا الذي يجري في كثير من بلاد المسلمين _ إلا سلسلة من المكر الكبَّار، والكيد العظيم، والقتال الذي لا يزال مستمراً.
"وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا " [البقرة: 217].
"وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْحَقُّ..." [البقرة: 109].
وفي مثل هذه الأحوال يكثر السؤال، ويلح خصوصاً من فئة الشباب المحبين لدينهم، الراغبين في نصرته؛ فتراهم، وترى كل غيور على دينه يقول: ما دوري في هذه الأحداث؟ وماذا أفعل؟ وكيف أتعامل مع هذا الخضم الموَّار من الشرور والفتن والأخطار؟
وقد يخالط بعضَ النفوس من جراء ذلك شيءٌّ من اليأس، والإحباط، وقد يعتريها الشك في إصلاح الأحوال، ورجوع الأمة إلى عزها وسالف مجدها.
ومهما يك من شيء فإن هذه الأمة أمة مباركة موعودة بالنصر والتمكين متى توكلت على الله، وأخذت بالأسباب.
وهذا الدين أنزله الله _ عز وجل _ وبعث به الرسول –صلى الله عليه وسلم - ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون.
أما التعامل مع هذه النوازل والمصائب والفتن فهو مبين في كتاب الله _عز وجل_ وسنة نبيه –صلى الله عليه وسلم - موضح في كتب أهل العلم التي تكلمت في هذا الباب.
ومما تجدر الإشارة إليه، ويحسن الطَّرْق عليه في هذا الصدد مما هو معين _بإذن الله_ على حسن التعامل مع الفتن، والمصائب، والخروج منها بأمان_أمور كثيرة، وفيما يلي ذكر لشيء منها، مع ملاحظة أن بعضها داخل في بعض؛ فإلى تلك الأمور، والله المستعان وعليه التكلان.
أولاً: الاعتصام بالكتاب والسنة:
وهذا المعلم جماع هذا الباب كله؛ إذ جميع المعالم الآتية داخلة فيه، متفرعة عنه، قال الله _عز وجل_: "وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ" [آل عمران101].
وقال النبي: "تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما: كتاب الله وسنتي، ولن يتفرقا حتى يَرِدَا عليَّ الحوض"(1)
وقال_عليه الصلاة والسلام_ في حديث العرباض بن سارية- رضي الله عنه -: "وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً؛ فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة" (2) فالتمسك بالوحيين عصمة من الزلل، وأمان _بإذن الله_ من الضلال.
وليس الاعتصام بهما كلمة تتمضمض بها الأفواه من غير أن يكون لها رصيد في الواقع.
وإنما هي عمل، واتباع في جميع ما يأتيه الإنسان ويذره.
ويعظم هذا الأمر حال الفتن؛ إذ يجب الرجوع فيها إلى هداية الوحيين؛ لكي نجد المخرج والسلامة منها.
وهذا ما سيتبين في الفقرات التالية _إن شاء الله_.
ثانياً: التوبة النصوح:
فهي واجبة في كل وقت، وهي في هذه الأوقات أوجب "فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا" [الأنعام: 43].
ولنا في قصة قوم يونس _ عليه السلام _ عبرة وموعظة؛ فهم لما رأوا نُذُر العذاب قد بدأت تلوح لجأوا إلى الله، وتضرعوا إليه، فرفع الله عنهم العذاب ومتعهم بالحياة إلى حين مماتهم، وانقضاء آجالهم.
فعلى الأمة أن تتوب، وأن تدرك أن ما أصابها إنما هو جارٍ على مقتضى سنن الله التي لا تحابي أحداً كائناً من كان؛ فتتوب من المنكرات التي أشاعتها من شرك، وحكم بغير ما أنزل الله، وتقصير في الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وتتوب من المظالم، والربا، والفسق، والمجون، والإسراف، والترف وما إلى ذلك مما هو مؤذن باللعنة، وحلول العقوبة.
وعلى كل فرد منا أن ينظر في حاله مع ربه، وفي جميع شؤونه؛ لأن "مَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ" [الشورى: 30].
ثالثاً: النظر في التاريخ:
خصوصاً تاريخ الحروب الصليبية، وذلك لأخذ العبرة، وطرد شبح اليأس، والبحث عن سبل النجاة والنصر.
فلو نظرنا _ على سبيل المثال _ إلى كتب التاريخ كتاريخ ابن الأثير أو البداية والنهاية لابن كثير لرأينا العجب من تسلط الصليبين، ولرأينا أن بغداد وبيت المقدس _ على سبيل المثال _ يتكرر ذكرهما كثيراً؛ فلقد لاقت تلك البلاد من البلاء ما الله به عليم، ومع ذلك ظلت صامدة، محافظة _إلى حد كبير _ على إسلامها وعراقتها.
والتاريخ يعيد نفسه في هذه الأيام، وتلك البلاد وغيرها من بلاد المسلمين _ بإذن الله _ ستصمد في وجوه اليهود والنصارى المعتدين.(/1)
ولو نظرنا في كتب التاريخ التي تحدثت عن غزو التتار لبلاد المسلمين، وكيف كانت شراسة تلك الهجمة، وكيف خالط النفوس من الرعب والأوجال ما خالطها، وكيف بلغ ببعضها اليأس من أن تقوم للإسلام قائمة بعد ذلك.
وما هي إلا أن كشف الله الغمة، وأعاد العز والمجد للأمة، بل إن التتار أنفسهم دخلوا في الإسلام.
ومن النظر في التاريخ النظر في سير أبطال الإسلام وقواده إبان الحروب الصليبية، وخصوصاً نور الدين محمود، وصلاح الدين الأيوبي _ عليهما رحمة الله _ فسيرتهما تحمل في طياتها عبراً عظيمة تفيد في هذا الشأن كثيراً؛ حيث حرصا على توحيد الأمة، ولم شعثها، ورفع الذلة والإحباط اللذين خالطا كثيراً من النفوس.
كما أنهما حرصا على الإعداد المتكامل للجهاد في سبيل الله؛ فنالت الأمة بذلك سؤدداً، ومجداً، ورفعة.
رابعاً: الإفادة من التجارب: فذلك من جميل ما ينبغي؛ فالحياة كلها تجارب، واستفادة من التجارب، وميزة إنسان على إنسان، وأمة على أمة هي القدرةُ على الاستفادة من التجارب وعدمُها؛ فالحوادث تمر أمام جمع من الناس؛ فيستفيد منها أناس بمقدار مائة، وآخرون بمقدار خمسين وهكذا، وآخرون تمر منهم الحوادث على عين بلهاء، وقلب معرض؛ فلا يفيدون منها شيئاً، ولا تحسُّ له وجبةً، ولا تسمع لهم ركزاً.
والفرق بين من يستفيد من التجربة ومن لا يستفيد أن الأول يستطيع انتهاز الفرص في حينها، وأن يتجنب الخطر قبل وقوعه.
على حين أن الثاني لا ينتهز فرصة، ولا يشعر بالخطر إلا بعد وقوعه؛ فلا يليق _ إذاً _ أن تمر بنا وبأمتنا التجارب؛ فنكررَ الخطأ، ولا نفيدَ من عبر الماضي.
ولا يحسن بنا أن نُغْفِل تعامل أسلافنا مع ما مر بهم من البلايا، وكيف تجاوزوا تلك المحن والفتن، بل علينا أن نقبس من هداهم، ونستَلْهِم العبر من صنيعهم.
خامساً: التذكير بعاقبة الظلم:
فمهما طال البلاء، ومهما استبد الألم فإن عاقبة الظلم وخيمة، وإن العاقبة الحميدة إنما هي للتقوى وللمتقين، كما بين ذلك ربنا في محكم التنزيل؛ فماذا كانت عاقبة النمرود، وفرعون، وهامان وقارون، وغيرهم ممن طغى وتجبر وظلم؟
إنها الدمار، والبوار، وجهنم وبئس القرار، وماذا كانت عاقبة الأنبياء والمصلحين المقسطين من عباد الله المؤمنين ؟
إنها الفلاح والنصر، والتمكين، والجنة ونعم عقبى الدار.
وكما يحسن التحذير من الظلم العام على مستوى الأمة يحسن كذلك التحذير من الظلم أيَّاً كان نوعه، سواء في الحكم على الناس، أو الأقوال، أو الأشخاص.
سادساً: الثقة بالله، واليقين بأن العاقبة للتقوى وللمتقين:
فإن من أهم ما يجب على المؤمن _ في هذا الصدد _ أن يقوي ثقته بربه، وأن ينأى بنفسه عن قلة اليقين بأن العاقبة للمتقين؛ فهناك من إذا شاهد ما عليه المسلمون من الضعف والتمزق، والتشتت، والتفرق، ورأى تسلط أعدائهم عليهم، ونكايتهم بهم _ أيس من نصر الله، وقنط من عز الإسلام، واستبعد أن تقوم للمسلمين قائمة، وظن أن الباطل سيدال على الحق إدالة دائمة مستمرة يضمحل معها الحق.
فهذا الأمر جد خطير، وهو مما يعتري النفوس الضعيفة، التي قل إيمانها، وضعف يقينها.
فهذا الشعور مما ينافي الإيمان الحقَّ، وهو دليلٌ على قلة اليقين بوعد الله الصادق، والتفاتٌ إلى الأمور المحسوسة دون نظر إلى عواقب الأمور وحقائقها.
وإلا كيف يُظَنُّ هذا الظن والله _ عز وجل _ قد كتب النصر في الأزل، وسبقت كلمته بأن العاقبة للتقوى وللمتقين، وأن جنده هم الغالبون، وهم المنصورون، وأن الأرض يرثها عباده الصالحون؟
فمن ظن تلك الظنون السيئة فقد ظن بربه السوء، ونسبه إلى خلاف ما يليق بجلاله، وكماله، وصفاته، ونعوته؛ فإن حمده، وعزته، وحكمته، وإلهيته تأبى ذلك، وتأبى أن يُذِل حزبه وجنده، وأن تكون النصرةُ والغلبةُ لأعدائه.
فمن ظن ذلك فما عرفه، ولا عرف ربوبيته، وملكه، وعظمته؛ فلا يجوز في حقه _ عز وجل _ لا عقلاً ولا شرعاً أن يُظْهِر الباطل على الحق، بل إنه يقذف بالحق على الباطل فإذا هو زاهق (3) أما ما يشاهد من تسلط الكفار واستعلائهم _ فإنما هو استعلاء استثنائي، وذلك استدراجاً وإملاءً من الله لهم، وعقوبة للأمة المسلمة على بعدها عن دينها.
ثم إن سنة الله ماضية فـ"مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ" [النساء:123]، وهذه الأمة تذنب، فتعاقب بذنوبها عقوبات متنوعة منها ما مضى ذِكْرُه؛ كي تعود إلى رشدها، وتؤوب إلى ربها، فتأخذ حينئذ مكانها اللائق بها.
ثم إن هذه الأمة أمة مرحومة تعاقب في هذه الدنيا، حتى يخف العذاب عنها في الآخرة، أو يغفر لها بسبب ما أصابها من بلاء.
سابعاً: الوقوف مع الشعوب الإسلامية المظلومة:
وخصوصا تلك الشعوب التي توالت عليها المصائب، وتتابعت عليها الخطوب؛ فنقف معها بالدعاء، والتثبيت، والتصبير، وبذل المستطاع.
كما ينبغي ألا تنسينا أي مصيبة من المصائب مصائبنا الأخرى؛ فوضع الأمور في نصابها يجدي كثيراً، ويصد شراً مستطيراً.
ثامناً: لزوم الاعتدال في جميع الأحوال:(/2)
فينبغي في ذلك الخضم من الفتن والمصائب ألا يفارقنا هدوؤنا، وسكينتنا، ومروآتنا؛ فذلك دأب المؤمن الحق، الذي لا تبطره النعمة، ولا تقنطه المصيبة، ولا يفقد صوابه عند النوازل، ولا يتعدى حدود الشرع في أي شأن من الشؤون.
ويتأكد هذا الأدب في حق من كان رأساً مطاعاً في العلم، أو القدر؛ لأن لسان حال من تحت يده يقول:
اصبر نكن بك صابرين فإنما *** صبر الرعية عند صبر الراس
قال كعب بن زهير- رضي الله عنه - : في قصيدته المشهورة _البردة_:
لا يفرحون إذا نالت رماحهم *** قوماً وليسوا مجازيعاً إذا نيلوا
فهو يمدح الصحابة _رضي الله عنهم_ بأنهم لا يفرحون من نيلهم عدواً؛ فتلك عادتهم، ولا يحزنون إذا نالهم العدو؛ لأن عادتهم الصبر والثبات.
وقال عبدالعزيز بن زرارة الكلابي- رضي الله عنه - وهو من خيار المجاهدين من التابعين:
قد عشت في الدهر أطواراً على طرق *** شتى فصادفت منها اللِّيْن والبَشِعا
كُلاً بلوتُ فلا النعماء تبطرني *** ولا تَخَشَّعْتُ من لأوائها جزعا
لا يملأُ الهولُ قلبي قبل وقعته *** ولا أضيق به ذرعاً إذا وقعا
هذه الخصال يمتثلها عظماء الرجال؛ فلم يكونوا يتخلون عن مروآتهم، وعاداتهم النبيلة حتى في أحلك المواقف.
وها هو سيد العظماء، وسيد ولد آدم نبينا محمد _عليه الصلاة والسلام_ يضرب لنا أروع الأمثلة في ذلك؛ فهو يقوم بصغار الأمور وكبارها؛ فلم يمنعه قيامه بأمر الدين، وحرصه على نشره، وقيادته للأمة، وتقدمه في ساحات الوغى_ لم يمنعه ذلك كله من ملاطفة ذلك الطفل الصغير الذي مات طائره، وقولِه له:"يا أبا عمير ما فعل النغير!"(4)
ولم يكن أحد يلهيه عن أحد *** كأنه والد والناس أطفال
فإذا لزم المرء هذه الطريقة؛ فلم يَخِفَّ عند السراء، ولم يتضعضع حال الضراء _ فأحرِ به أن يعلو قدره، ويتناهى سؤدده، وأن تنال الأمة من خيره.
تذكر كتب السير التي تناولت سيرة عمر بن عبدالعزيز- رضي الله عنه - أنه لما دَفَنَ ولَدَه عبدالملك _ وهو أبر أولاده، وأكثرهم ديناً وعقلاً _ مرَّ بقوم يرمون؛ فلما رأوه أمسكوا، فقال: ارموا، ووقف، فرمى أحدُ الراميين فأخرج _ يعني أبعد عن الهدف _ فقال له عمر: أخرجت فقصِّر، وقال للآخر: ارمِ، فرمى فقصَّر _ أي لم يبلغ الهدف _ فقال له عمر: قصَّرت فبلِّغ.
فقال له مسلمة بن عبدالملك: يا أمير المؤمنين! أَتْفِرغ قلبك إلى ما تفرغت له، وإنما نفضت يدك الآن من تراب قبر ابنك، ولم تصل إلى منزلك؟ فقال له عمر: يا مسلمة! إنما الجزع قبل المصيبة، فإذا وقعت المصيبة فالْهُ عما نزل بك"(5) فالأخذ بهذه السيرة_أعني الاعتدال حال نزول الفتن_ ينفع كثيراً، ويدفع الله به شراً مستطيراً؛ لأن الناس حال الفتن يموجون، ويضطربون، وربما غاب عنهم كثير من العلم؛ فلذلك يحتاجون_وخصوصاً من كان عالماً، أو رأساً مطاعاً_ إلى لزوم السكينة، والاعتدال؛ حتى يُثَبِّتوا الناس، ويعيدو الطمأنينة إلى النفوس، ولا تقطعهم تلك النوازل عما هم بصدده من عمل.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله - : (ولهذا لما مات النبي"ونزلت بالمسلمين أعظم نازلة نزلت بهم؛ حتى أوهنت العقول، وطيشت الألباب، واضطربوا اضطراب الأرشية في الطوي (6) البعيدة القعر؛ فهذا ينكر موته، وهذا قد أقعد، وهذا قد دهش فلا يعرف من يمر عليه، ومن يسلم عليه، وهؤلاء يضجون بالبكاء، وقد وقعوا في نسخة القيامة، وكأنها قيامة صغرى مأخوذة من القيامة الكبرى، وأكثر البوادي قد ارتدوا عن الدين، وذلت كماته؛ فقام الصديق - رضي الله عنه - بقلب ثابت، وفؤاد شجاع فلم يجزع، ولم ينكل قد جُمع له بين الصبر واليقين فأخبرهم بموت النبي"وأن الله اختار له ما عنده، وقال لهم: (من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، "وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ" [آل عمران:144].
فكأن الناس لم يسمعوا هذه الآية حتى تلاها الصديق فلا تجد أحداً إلا وهو يتلوها، ثم خطبهم فثبتهم وشجعهم.
قال أنس- رضي الله عنه: "خطبنا أبو بكر- رضي الله عنه - وكنا كالثعالب فما زال يشجعنا حتى صرنا كالأسود".
وأخذ في تجهيز أسامة مع إشارتهم عليه، وأخذ في قتال المرتدين مع إشارتهم عليه بالتمهل والتربص، وأخذ يقاتل حتى مانعي الزكاة فهو مع الصحابة يعلمهم إذا جهلوا، ويقويهم إذا ضعفوا، ويحثهم إذا فتروا؛ فقوى الله به علمهم ودينهم وقوتهم؛ حتى كان عمر_مع كمال قوته وشجاعته_ يقول له: يا خليفة رسول الله تألف الناس، فيقول: علام أتألفهم؟ أعلى دينٍ مفترى؟ أم على شعرٍ مفتعل؟ وهذا باب واسع يطول وصفه" (7).
تاسعاً: لزوم الرفق، ومجانبة الغلظة والعنف:(/3)
سواء في الدعوة، أو الرد، أو النقد، أو الإصلاح، أو المحاورة؛ فإن استعمال الرفق، ولين الخطاب ومجانبة العنف _ يتألف النفوس الناشزة، ويدنيها من الرشد، ويرغبها في الإصغاء للحجة.
ويتأكد هذا الأدب في مثل هذه الأحوال العصيبة التي نحتاج فيها إلى تلك المعاني التي تنهض بالأمة، وتشد من أزر الدعوة.
ولقد كان ذلك دأب الأنبياء، قال _تعالى_ في خطاب هارون وموسى _ عليهما السلام _ "اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى " [طه: 43-44].
ولقَّن موسى _ عليه السلام _ من القول اللين أحسنَ ما يخاطب به جبار يقول لقومه: أنا ربكم الأعلى، فقال _تعالى_: "فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى " [النازعات:18-19].
قال ابن القيم – رحمه الله -: "وتأمل امتثال موسى لما أُمِر به كيف قال لفرعون: "هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى" [النازعات:18-19].
فأخرج الكلام معه مخرج السؤال والعرض، لا مَخْرجَ الأمر، وقال:"إِلَى أَنْ تَزَكَّى" ولم يقل: (إلى أن أزكيك).
فنسب الفعل إليه هو، وذكر لفظ التزكِّي دون غيره؛ لما فيه من البركة، والخير، والنماء.
ثم قال: "وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ" أكون كالدليل بين يديك الذي يسير أمامك.
وقال: "إِلَى رَبِّكَ" استدعاءً لإيمانه بربه الذي خلقه، ورزقه، ورباه بنعمه صغيراً وكبيراً (8) ولهذا فإن الكلمة التي تُلقى أو تحرر في أدب، وسعة صدر، تسيغها القلوب، وتهش لها النفوس، وترتاح لها الأسماع.
ولقد امتن ربنا _جل وعلا_ على نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - بأن جبله على الرفق ومحبة الرفق، وأن جنبه الغلظة، والفظاظة، فقال _عز وجل_: "وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ" [آل عمران:159].
ولقد كانت سيرته _عليه الصلاة والسلام_ حافلةً بهذا الخلق الكريم الذي مَنْ مَلَكَه بسط سلطانه على القلوب.
وكما كان _عليه الصلاة والسلام_ متمثلاً هذا الخلق فقد كان يأمر به، ويبين فضله.
قال "إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على غيره(9) وقال _عليه الصلاة والسلام_: "إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه" (10) ولما بعث أبا موسى الأشعري ومعاذاً إلى اليمن قال لهما: "يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا ولا تختلفا" (11)
قال الإمام أحمد –رحمه الله-: "يأمر بالرفق والخضوع، فإن أسمعوه ما يكره لا يغضب؛ فيكون يريد ينتصر لنفسه"(12) ولقد أحسن من قال:
لو سار ألفُ مَدَجَّجٍ في حاجة *** لم يَقْضِها إلا الذي يترفق(13)
وكان يقال: "من لانت كلمته وجبت محبته" (14)
وخلاصة القول أن الرفق هو الأصل، وهو الأجدى، والأنفع، وأن الشدة لا تصلح من كل أحد، ولا تليق مع كل أحد، فقد تلائم إذا صدرت من ذي قدر كبير في سن، أو علم وكانت في حدود الحكمة، واللباقة، واللياقة.
أما إذا صدرت ممن ليس له قدر في سن، أو علم، أو كانت في غير موضعها، وتوجهت إلى ذي قدر أو جاه_فإنها _أعني الشدة_ تضر أكثر مما تنفع، وتفسد أكثر من أن تصلح.
عاشراً: الإقبال على الله _ عز وجل _:
وذلك بسائر أنواع العبادات.
قال النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه مسلم – رضي الله عنه - العبادة في الهرج كهجرة إلي"(15)
والهرج: الفتن والقتل.
فحري بنا في مثل هذه الأيام أن نزداد إقبالاً على الله ذكراً وإنابة، وصلاة، ونفقة، وبراً بالوالدين، وصلة للأرحام، وإحساناً إلى الجيران، وحرصاً على تربية الأولاد، ونحو ذلك من الأعمال الصالحة.
وجدير بنا أن نكثر من الاستغفار؛ فهو من أعظم أسباب دفع العذاب "وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون" [الأنفال:33] وأن نُقْبِل على أعمال القلوب من خوف، ورجاء، ومحبة، وغيرها.
و حقيق علينا أن نُقْبِل _كذلك_ على النفع المتعدي من أمر بالمعروف، ونهي عن المنكر، ودعوة إلى الله، وإصلاح بين الناس، وإحسان إليهم، وما جرى مجرى ذلك.
حادي عشر: الحرص على جمع الكلمة ورأب الصدع:
فالأمة مثخنة بالجراح، وليست بحاجة إلى مزيد من ذلك.
بل هي بحاجة إلى إشاعة روح المودة، والرحمة، ونيل رضا الله بترك التفرق ونبذ الخلاف.
وذلك يتحقق بسلامة الصدر، ومحبة الخير للمسلمين، والصفح عنهم؛ التجاوز عن زلاتهم والتماس المعاذير لهم، وإحسان الظن بهم، ومراعاة حقوقهم، ومناصحتهم بالتي هي أرفق وأحسن.
وتكون بالتغاضي، والبعد عن إيغار الصدور، ونكأ الجراح.
قال ربنا _تبارك وتعالى_: "وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا" [آل عمران: 103](/4)
وقال: "لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً " [النساء:114].
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - في المتفق عليه : "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر".
ثاني عشر: قيام روح الشورى:
خصوصاً بين أهل العلم، والفضل، والحل والعقد، وذلك بأن ينظروا في مصلحة الأمة، وأن يقدموا المصالح العليا قال الله _تعالى_ في وصف المؤمنين: "وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ" [الشورى: 38].
وقال _ عز وجل _ لنبيه ": "وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ" [آل عمران: 159].
فقد أذن الله له "بالاستشارة وهو غني عنها بما يأتيه من وحي السماء؛ تطييباً لنفوس أصحابه، وتقريراً لسنة المشاورة للأمة من بعده.
وكان أبو بكر الصديق – رضي الله عنه - من العلم بالشريعة، والخبرة بوجوه السياسة في منزلة لا تطاولها سماء، ومع هذا لا يبرم حكماً في حادثة إلا بعد أن تتداولها آراء جماعة من الصحابة(16)
وهكذا كان عمر- رضي الله عنه - في الشورى، قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - : "فكان عمر يشاور في الأمور لعثمان وعلي وطلحة والزبير وعبدالرحمن بن عوف وابن مسعود وزيد بن ثابت وأبي موسى ولغيرهم، حتى كان يدخل ابن عباس معهم مع صغر سنه.
وهذا مما أمر الله به المؤمنين ومدحهم عليه بقوله: "وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ" [الشورى: 38].
ولهذا كان رأي عمر، وحكمه، وسياسته من أسدِّ الأمور، فما رؤي بعده مثله قط، ولا ظهر الإسلام وانتشر، وعزَّ كظهوره، وانتشاره، وعزه في زمنه.
وهو الذي كسر كسرى، وقصر قيصر الروم والفرس، وكان أميره الكبير على الجيش الشامي أبا عبيدة، وعلى الجيش العراقي سعد بن أبي وقاص، ولم يكن لأحدٍ -بعد أبي بكر- مثل خلفاءه ونوابه وعماله وجنده وأهل شوراه)(17).
وكما كانت هذه هي سيرةَ الخلفاء الراشدين في الشورى فكذلك كانت سيرة من جاء بعدهم فهذا معاوية - رضي الله عنه - الذي كان مضرب المثل في الدهاء والحلم وكياسة الرأي كان يأخذ بسنة الشورى.
جاء في الثمار للثعالبي ص68 ما يلي: "دهاء معاوية - رضي الله عنه - ذلك ما اشتهر أمره، وسار ذكره، وكثرت الروايات والحكايات فيه، ووقع الإجماع على أن الدهاة أربعة: معاوية، وعمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة، وزياد بن أبيه _رضي الله عنهم_ فلما كان معاوية - رضي الله عنه - بحيث هو من الدهاء وبعد الغور_وانضم إليه الدهاة الثلاثة الذين يرون بأول آرائهم أواخر الأمور_ فكان لا يقطع أمراً حتى يشهدوه، ولا يستضيء في ظلم الخطوب إلا بمصابيح آرائهم_سلم له أمر الملك، وألقت إليه الدنيا أزمتها، وصار دهاؤه ودهاء أصحابه الثلاثة مثلاً".
ثم إن للشورى فوائد عظيمة منها تقريب القلوب، وتخليص الحق من احتمالات الآراء، واستطلاع أفكار الرجال، ومعرفة مقاديرها؛ فإن الرأي يمثِّل لك عقلَ صاحبه كما تمثل لك المرآةُ صورةَ شخصِه إذا استقبلها.
وقد ذهب الحكماء من الأدباء في تصوير هذا المغزى مذاهب شتى، قال بعضهم:
إذا عنَّ أمرٌ فاستشر فيه صاحباً *** وإن كنت ذا رأي تشير على الصحبِ
فإني رأيت العين تجهل نفسها *** وتدرك ما قد حل في موضع الشهب
وقال آخر:
اقرن برأيك رأي غيرك واستشر *** فالحق لا يخفى على الاثنين
والمرء مرآةٌ تريه وجهه *** ويرى قفاه بجمع مرآتين
وقال آخر:
الرأي كالليل مسوداً جوانبه *** والليل لا ينجلي إلا بإصباح
فاضمم مصابيحَ آراءِ الرجال إلى *** مصباح ضوئك تزددْ ضوءَ مصباح
وإذا كان العالم النحرير، والحكيم الداهية، والقائد الحصيف لا يستغنون عن الشورى_فكيف بمن دونهم،بل كيف بمن كان شاباً في مقتبل عمره، ولم تصلب بعد قناته، ولم تُحَنِّكْهُ التجارب؟!.
ثالث عشر: الصبر:
قال ربنا _ جل وعلا _: "إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ" [آل عمران: 120].
وقال _ عز وجل _ "لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ" [آل عمران: 186]
ومن أعظم الصبرِ الصبرُ على هداية الناس، والصبر على انتظار النتائج؛ لأن استعجال الثمرة قد يؤدي إلى نتائج عكسية تضر أكثر مما تنفع؛ فالصبر إذا اقترن بالأمر كان عصمة من الملل واليأس والانقطاع، وتفجرت بسببه ينابيع العزم والثبات.
إنه الصبر المترع بأنواع الأمل العريض، وليس صبر اليائس الذي لم يجد بداً من الصبر فصبر.(/5)
وبالجملة فإن الصبر من أعظم الأخلاق، وأجلّ العبادات، وإن أعظمَ الصبرِ وأحمده عاقبةً الصبرُ على امتثال أمر الله، والانتهاء عمّا نهى الله عنه؛ لأنه به تَخْلُص الطاعة، ويصِحُّ الدين، ويُسْتَحَقُ الثوابُ؛ فليس لمن قل صبرُه على الطاعةُ حظٌّ من بِرٍّ، ولا نصيبٌ من صلاح.
ومن جميل الصبر: الصبرُ فيما يُخْشَى حدوثُه من رهبة يخافها، أو يحذرُ حلولُه من نكبةٍ يخشاها، فلا يتعجلْ همَّ ما لم يأتِِ؛ فإن أكثر الهموم كاذبة، وإن الأغلب من الخوف مدفوع.
ومن جميل الصبرِ الصبرُ على ما نزل من مكروه، أو حلّ من أمر مخوف؛ فبالصبر في هذا تنفتحُ وجوهُ الآراءِ، وتُسْتَدْفَعُ مكائدُ الأعداءِ؛ فإن من قلّ صبره عَزُب رأيه، واشتد جزعُه، فصار صريعَ همومه، وفريسةَ غمومه.
وكما أن الأفرادَ بأمسِّ الحاجةِ إلى الصبر فكذلك الأمة؛ فأمة الإسلام كغيرها من الأمم؛ لا تخرج عن سنن الله الكونية، فهي عرضةٌ للكوارث، والمحن.
وهي_في الوقت نفسه_مكلفةٌ بمقتضى حكم الله الشرعي بحمل الرسالة الخالدة، ونشر الدعوة المباركة، وتحمُّلِ جميعِ ما تلاقيه في سبيلها برحابة صدر، وقوةِ ثباتٍ، ويقينٍ بأن العاقبة للتقوى وللمتقين.
وهي _كذلك_ مطالبة بالجهاد في سبيل الله؛ لإعلاء كلمة الله، ونشر دين الله، وإزاحة ما يقف في وجه الدعوة من عقبات؛ فلا بد لها من الجهاد الداخلي الذي لا يتحقق إلا بمجاهدة النفس والهوى.
وهذا الجهاد لا يتحقق إلا بخلق الصبر، ومغالبة النفس والشيطان والشهوات؛ فذلك هو الجهاد الداخلي الذي يؤهِّل للجهاد الخارجي؛ لأن الناس إذا تُرِكوا وطباعَهم وما أُوْدِعَ فيها من حبِّ للراحة، وإيثارٍ للدَّعة، ولم يُشَدَّ أَزْرُهُمْ بإرشاد إلهي تطمئن إليه نفوسهم، ويثقون بحسن نتائجه_ عجزت كواهِلُهم عن حمل أعباء الحياة، وخارت قواهم أمام مغرياتها، وذاب احتمالُهم إزاء ملذاتها وشهواتها؛ فَيَفْقِدُون كلَّ استعدادٍ لتحصيل السمو، والعزة، والمنزلة اللائقة.
فلهذا اختار الله لهم من شرائع دينه ما يصقُل أرواحهم، ويزكّي نفوسهم، ويمحص قلوبهم، ويربي ملكات الخير فيهم من صلاة، وزكاة، وصيام، وحج وغيرها من الشرائع..
رابع عشر: إشاعة روح التفاؤل:
فإن ذلك مما يبعث الهمة، ويدعو إلى اطراح الخور والكسل، ويقود إلى الإقبال على الجد والعمل؛ فلنثق بالله _ عز وجل _ ونصره وتأييده، ولنحذر من كثرة التلاوم، وإلقاء التبعات على الآخرين، ولنحذر من القنوط واليأس، والتشاؤم؛ فالإسلام لا يرضى هذا المسلك بل يحذر منه أشد التحذير.
ثم لنثق بأن في طي هذه المحن منحاً عظيمة.
كم نعمة لا تستقل بشكرها *** لله في طي المكاره كامنة
ولو لم يأت من ذلك إلا أن الأمة تصحو من رقدتها، وتعود إلى ربها ودينها.
ولو لم يأت من ذلك إلا أن هذا الجيل الجديد بدأ يعرف أعداءه، ويطرق سمعه مسائل الولاء والبراء، ويدرك ما يحاك حوله من مؤامرات، ويشعر بأن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين.
ولو لم يأت من ذلك إلا أن المسلمين _ صاروا يشعرون بروح الجسد الواحد، ويتعاطفون مع إخوانهم في كل مكان، ويحرصون على تتبع أخبارهم، وتقديم المستطاع لهم، كل ذلك مع ما يواجهونه من التضليل الإعلامي، وما يحارَبون به من سيل الشهوات العارم.
أين حال المسلمين الآن من حالهم قبل تسعين سنة؟ أين هم لما سيطر الشيوعيون على روسيا، وانقلبوا على الحكم القيصري؟ ماذا فعل زعماء الشيوعية؟ يكفي أن نمثل بواحد منهم فحسب، إنه المجرم ستالين الذي قتل إبان فترة حكمه ثلاثين مليوناً من البشر، جُلُّهم من المسلمين.
إن أكثر المسلمين في ذلك الوقت لم يكونوا ليعلموا عن إخوانهم آنذاك شيئاً، بل إن كثيراً منهم لم يعلموا أن الجمهوريات الإسلامية التي استولى عليها الشيوعيون _كانت بلاداً إسلامية إلا بعد أن انهارت الشيوعية قريباً.
أما الآن فإن المسلمين على درجة من الوعي والإدراك، والسعي في مصالح إخوانهم، والمؤمل أكثر من ذلك، وإنما المقصود أن يُبَيَّن أن الخير موجود، وأنه يحتاج إلى مزيد.
وبالجملة فإن التفاؤل دأب المؤمن، وهو سبيل التأسي بالنبي- صلى الله عليه وسلم - "خصوصاً في وقت اشتداد المحن؛ وليس أدل على ذلك مما كان في غزوة الأحزاب بالمدينة، وبلغت القلوب الحناجر، ومع ذلك كان _عليه الصلاة والسلام_ يبشر أصحابه بمفاتيح الشام، وفارس، واليمن(18).
وإذا تُحدن عن الفأل، والحث على نشره _ فإن ذلك لا يعني القعود، والخمود، والهمود؛ كحال من يؤملون الآمال العراض، ويفرطون في الأماني بحجة أن ذلك من الفأل، وهم كسالى قاعدون، لا يتقدمون خطوة، ولا ينهضون من كبوة.
لا ليس الأمر كذلك؛ بل إن الفأل المجدي هو ذلك الذي يحرك صاحبه، ويبعثه على الجد، ويشعره بالنجح، ويقوده إلى إحسان الظن، ويبشر بحسن العواقب.
خامس عشر: التثبت مما يقال، والنظر في جدوى نشره، والحرص على رد الأمور إلى أهلها:(/6)
فالعاقل اللبيب لا يتكلم في شيء إلا إذا تثبَّت من صحته؛ فإذا ثبت لديه ذلك نَظَرَ في جدوى نشره؛ فإن كان في نشره حفز للخير، واجتماعٌ عليه _نشره، وأظهره، وإن كان خلاف ذلك أعرض عنه، وطواه.
ولقد جاء النهي الصريح عن أن يحدث المرء بكل ما سمع.
قال - صلى الله عليه وسلم - : "كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع" (19).
وقد عقد الإمام مسلم في مقدمة صحيحه باباً سماه (باب النهي عن الحديث بكل ماسمع) وساق تحته جملة من الآثار منها الحديث السابق، ومنها مارواه بسنده عن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه - قال: "بحسب المرء من الكذب أن يحدث بكل ما سمع"(20).
وقال مسلم: "حدثنا محمد بن المثنى قال: سمعت عبدالرحمن بن مهدي يقول: "لا يكون الرجل إماماً يقتدى به حتى يمسك عن بعض ما سمع"(21).
ويتعين هذا الأدب في وقت الفتن والملمات، فيجب على المسلم أن يتحرى هذا الأدب؛ حتى يقرب من السلامة، وينأى عن العطب.
قال الله _تعالى_:"وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوْ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمْ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً" [النساء:83].
قال الشيخ العلامة عبدالرحمن السعدي - رحمه الله تعالى- في تفسير هذه الآية: "هذا تأديب من الله لعباده عن فعلهم هذا غير اللائق، وأنه ينبغي لهم إذا جاءهم أمر من الأمور المهمة، والمصالح العامة مما يتعلق بالأمن، وسرور المؤمنين أو بالخوف الذي فيه مصيبة عليهم _أن يتثبتوا، ولا يستعجلوا بإشاعة ذلك الخبر، بل يردونه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم: أهل الرأي، والعلم، والنصح، والعقل، والرزانة، الذين يعرفون الأمور، ويعرفون المصالح وضدها.
فإذا رأوا في إذاعته مصلحة ونشاطاً للمؤمنين، وسروراً لهم، وتحرزاً من أعدائهم_فعلوا ذلك، وإن رأوا ما ليس فيه مصلحة، أو فيه مصلحة، ولكن مضرته تزيد على مصلحته لم يذيعوه.
ولهذا قال: "لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ".
أي يستخرجونه بفكرهم وآرائهم السديدة، وعلومهم الرشيدة.
وفي هذا دليل لقاعدة أدبية، وهي أنه إذا حصل بحث في أمر من الأمور ينبغي أن يولى من هو أهل لذلك، ويجعل إلى أهله، ولا يُتقدم بين أيديهم؛ فإنه أقرب إلى الصواب، وأحرى للسلامة من الخطأ.
وفيه النهي عن العجلة والتسرع لنشر الأمور من حين سماعها، والأمرُ بالتأمل قبل الكلام، والنظر فيه هل هو مصلحة فيقدم عليه الإنسان أم لا فيحجم عنه؟"(22)
وقال - رحمه الله تعالى - في موضع آخر حاثاً على الثبت، والتدبر، والتأمل قال: "وفي قوله _تعالى_: "وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً" [طه:114] أدبُ طالب العلم، وأنه ينبغي له أن يتأنى في تدبره للعلم، ولا يستعجل بالحكم على الأشياء، ولا يعجب بنفسه، ويسأل ربه العلم النافع والتسهيل" (23) وقال: قوله –تعالى-: "لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ" [النور: 12] هذا إرشاد منه لعباده إذا سمعوا الأقوال القادحة في إخوانهم المؤمنين رجعوا إلى ما علموا من إيمانهم، وإلى ظاهر أحوالهم، ولم يلتفتوا إلى أقوال القادحين، بل رجعوا إلى الأصل، وأنكروا ما ينافيه.(24).
قال ابن حبان- رحمه الله - :"أنشدني منصور بن محمد الكريزي"
الرفقُ أيمنُ شيءٍ أنت تَتْبَعُه *** والخُرق أشأمُ شيء يُقْدِم الرَّجُلا
وذو التثبت من حمد إلى ظَفَرٍ ***من يركبِ الرفقَ لا يستحقبِ الزللا (25)
هذا وسيتضح شيء من ذلك في الفقرة التالية.
سادس عشر: ألا يحرص المسلم على إبداء رأيه في كل أمر، وألا يقول كل ما يعلم:
فاللائق بالعاقل أن ينظر في العواقب، وأن يراعي المصالح؛ فلا يحسن به أن يبدي رأيه في كل صغيرة وكبيرة، ولا يلزمه أن يتكلم بكل نازلة؛ لأنه ربما لم يتصور الأمر كما ينبغي، وربما أخطأ التقدير، وجانب الصواب، بل ليس من الحكمة أن يبدي الإنسان رأيه في كل ما يعلم حتى ولو كان متأنياً في حكمه، مصيباً في رأيه؛ فما كل رأي يُجهر به، ولا كل ما يعلم يقال، ولا كل ما يصلح للقول يصلح أن يقال عند كل أحد، أو في كل مكان أو مناسبة.
بل الحكمة تقتضي أن يحتفظ الإنسان بآرائه إلا إذا استدعى المقام ذلك، واقتضته الحكمة والمصلحة، وكان المكان ملائماً، والمخاطبون يعقلون ما يقال.
وإذا رأى أن يبدي ما عنده فليكن بتعقل، وروية، ورصانة، وركانة.
وزِن الكلام إذا نطقت فإنما *** يبدي عيوب ذوي العقول المنطقُ
قال أحد الحكماء: "إن لابتداء الكلام فتنةً تروق وجدَّةً تعجب؛ فإذا سكنت القريحة، وعدل التأمل، وصفت النفس_ فليعدِ النظر، وليكن فرحُه بإحسانه مساوياً لغمِّه بإساءته".(26)(/7)
وقال ابن حبان – رحمه الله -: "الرافق لا يكاد يُسْبَق كما أن العَجِل لا يكاد يَلْحَق، وكما أن من سكت لا يكاد يندم كذلك من نطق لا يكاد يسلم.
والعَجِل يقول قبل أن يعلم، ويجيب قبل أن يفهم، ويَحْمد قبل أن يُجَرِّب، ويَذُّم بعد ما يحمد، ويعزم قبل أن يفكر، ويمضي قبل أن يعزم.
والعَجِل تصحبه الندامة، وتعتزله السلامة، وكانت العرب تُكَنِّي العجلةَ أمَّ الندامات".(27)
وذكر بسنده عن عمر بن حبيب قال: "كان يقال: لا يوجد العجول محموداً، ولا الغضوب مسروراً، ولا الحر حريصاً، ولا الكريم حسوداً، ولا الشَّرِه غنياً، ولا الملول ذا إخوان".(28).
وقال ابن الجوزي- رحمه الله تعالى -: "ما اعتمد أحدٌ أمراً إذا هم بشيء مثل التثبت؛ فإنه متى عمل بواقعة من غير تأمل للعواقب كان الغالب عليه الندم؛ ولهذا أمر بالمشاورة؛ لأن الإنسان بالتثبت يفتكر؛ فتعرِض على نفسه الأحوال، وكأنه شاور.
وقد قيل: خمير الرأي خير من فطيره.
وأشد الناس تفريطاً من عمل بما ورده في واقعة من غير تثبت واستشارة؛ خصوصاً فيما يوجب الغضب؛ فإنه طلب الهلاك أو الندم العظيم"(29).
وقال: "فألله ألله! التثبت التثبت في كل الأمور، والنظر في عواقبها؛ خصوصاً الغضب المثير للخصومة"(30) وقال ابن القيم –رحمه الله تعالى -: "وقد جاء في حديث مرسل:"إن الله يحب البصر النافذ عند ورود الشبهات، ويحب العقل الكامل عند حلول الشهوات".
فبكمال العقل والصبر تُدفع فتنة الشهوة، وبكمال البصيرة واليقين تدفع فتنة الشبهة، والله المستعان" (31).
ثم إن التثبت والتأني، والنظر في العواقب من سمات أهل العلم والعقل، ولا يستغني عنها أحد مهما كان، ولا يكفي مجرد علم الإنسان، بل لا بد له _مع العلم_ من هذه الأمور
وإليك هذه الكلمة الحكيمة الرائعة التي رقمتها يراعة العلامة الشيخ محمود شاكر - رحمه الله تعالى - والتي تعبر عن كثير مما مضى ذكره، قال: "رُبَّ رجلٍ واسعِ العلم، بحرٍ لا يزاحم، وهو على ذلك قصير العقل مضلَّل الغاية، وإنما يَعْرِض له ذلك من قبل جرأته على ما ليس له فيه خبرة، ثم تهوره من غير روية ولا تدبر، ثم إصراره إصرار الكبرياء التي تأبى أن تعقل.
وإن أحدنا لَيقْدِم على ما يحسن، وعلى الذي يعلم أنه به مضطلع، ثم يرى بعد التدبر أنه أسقط من حسابه أشياء، كان العقل يوجب عليه فيها أن يتثبت، فإذا هو يعود إلى ما أقدم عليه؛ فينقضه نقض الغزل.
ومن آفة العلم في فن من فنونه، أن يحمل صاحبه على أن ينظر إلى رأيه نظرة المعجب المتنزه، ثم لا يلبث أن يفسده طول التمادي في إعجابه بما يحسن من العلم، حتى يقذفه إلى اجتلاب الرؤى فيما لا يحسن، ثم لا تزال تغيره عادة الإعجاب بنفسه حتى ينزل ما لا يحسن منزلة ما يحسن، ثم يصر، ثم يغالي، ثم يعنف، ثم يستكبر، ثم إذا هو عند الناس قصير الرأي والعقل على فضله وعلمه"(32).
ولقد كان الصحابة الكرام _رضي الله عنهم_ يراعون هذا الأدب الحكيم؛ فما كانوا يتكلمون في كل شيء، بل كانوا يراعون المكان، والزمان، والحال، ويراعون العقول، والأفهام، ومراميَ الكلام.
والأمثلة على ذلك كثيرة جداً، منها ما جاء في صحيح البخاري عن ابن عباس _رضي الله عنهما_ قال: "كنت أُقْرئ رجالاً من المهاجرين منهم عبدالرحمن بن عوف - رضي الله عنه - ، فبينما أنا في منزله بمنى وهو عند عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في آخر حجة حجها إذ رجع إليَّ عبدالرحمن - رضي الله عنه - فقال: لو رأيت رجلاً أتى أمير المؤمنين اليوم فقال: يا أمير المؤمنين هل لك في فلان يقول: لو قد مات عمر - رضي الله عنه - لقد بايعت فلاناً؛ فوالله ما كانت بيعة أبي بكر - رضي الله عنه - إلا فلتة، فتمت، فغضب عمر - رضي الله عنه - ثم قال: إني _إن شاء الله_ لقائمٌ العشيةَ في الناس، فمحذِّرهم هؤلاء الذين يريدون أن يغصبوهم أمورهم
قال عبدالرحمن - رضي الله عنه - : فقلت: يا أمير المؤمنين! لا تفعل؛ فإن الموسم يجمع رَعاعَ الناس وغوغاءهم؛ فإنهم هم الذين يغلبون على قُرْبك حين تقوم في الناس، وأنا أخشى أن تقوم فتقول مقالة يطيِّرها عنك كل مُطَيِّر، وأن لا يعوها، وأن لا يضعوها على مواضعها؛ فأَمْهِلْ حتى تَقْدُمَ المدينة؛ فإنها دار الهجرة والسنة فَتَخْلُصَ بأهل الفقه وأشراف الناس، فتقول ما قلت متمكناً، فيعي أهل العلم مقالتك، ويضعونها على مواضعها.
فقال عمر - رضي الله عنه - :أما والله_إن شاء الله_لأقومن بذلك أول مقام أقومه بالمدينة" الحديث.(33)
قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب- رضي الله عنه- : "حدثوا الناس بما يعرفون؛ أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟!"(34)
وقال ابن مسعود- رضي الله عنه -: "ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة"(35)
سابع عشر: التحلي بالشجاعة، والفهم الصحيح لمعناها:
فالشجاعة فضيلة عظيمة، وخصلة من خصال الخير عالية.
وهي من أعظم ما ينهض بالأفراد والأمم؛ فالشجاع ينفر من العار، ويأبى احتمال الضيم.(/8)
والأمة لا تحوز مكانة يهابها خصومها، وتَقرُّ بِها عين حلفائها إلا أن تكون عزيزة الجانب، صلبة القناة.
وعزة الجانب، وصلابة القناة لا ينزلان إلا حيث تكون قوة الجأش، والاستهانة بملاقاة المكاره، وذلك ما يسمى شجاعة (36) والشجاعة لا تقتصر على الإقدام في ميادين الوغى، بل هي أعم من ذلك؛ فتشمل الشجاعة الأدبية في التعبير عن الرأي، وبالصدع بالحق، وبالاعتراف بالخطأ، وبالرجوع إلى الصواب إذا تبين.
بل وتكون بالسكوت أحياناً، قال الشيخ محمد البشير الإبراهيمي –رحمه الله-: "ولأنْ يسكت العاقل مختاراً في وقتٍ يحسن السكوت فيه خيرٌ من أن ينطق مختاراً في وقت لا يحسن الكلام فيه، وكلُّ نطْقةٍ تمليها الظروف لا الضمائر تثمر سكتة عن الحق ما من ذلك من بد"(37).
وليس من شرط الشجاعة ألا يجد الرجل في نفسه الخوف جملة من الهلاك، أو الإقدام، أو نحو ذلك؛ فذلك شعور يجده كل أحد من نفسه إذا هو هم بعمل كبير أو جديد.
بل يكفي في شجاعة الرجل ألا يعظم الخوف في نفسه حتى يمنعه من الإقدام، أو يرجع به الانهزام.
قال هشام بن عبدالملك لأخيه مسلمة _المسمى ليث الوغى_:
يا أبا سعيد! هل دخلك ذعر قط في حرب أو عدو؟
قال له مسلمة: ما سلمت في ذلك من ذعر ينبِّه على حيلة، ولم يغشني فيها ذعر سلبني رأي.
قال هشام: هذه هي البسالة.
فالشجاعة _إذاً_ هي مواجهة الخطر أو الألم أو نحو ذلك عند الحاجة في ثبات، وليست مرادفة لعدم الخوف كما يظن بعض الناس.
فالشجاعة لا تعتمد على الإقدام والإحجام فحسب، ولا على الخوف وعدمه.
بل ليس بالمحمود أن يتجرد الإنسان من كل خوف؛ فقد يكون الخوف فضيلة، وعدمه رذيلة؛ فالخوف عند الإقدام على أمر مهم تتعلق به مصالح الأمة، أو يحتاج إلى اتخاذ قرار حاسم فضيلةٌ؛ وأي فضيلة؛ إذ هو يحمل على الرويَّة، والتأني، والتؤدة؛ حتى يختمر الرأي، وينضج في الذهن؛ فلا خير في الرأي الفطير، ولا الكلام القضيب _المرتجل_.
والعرب تقول في أمثالها: "الخطأ زاد العجول"(38)
كما أنها تمدح من يتريث، ويتأنى، ويقلب الأمور ظهراً لبطن، وتقول فيه: "إنه لحوُّل قُلَّب".
ولهذا تتابعت نصائح الحكماء على التريث خصوصاً عند إرادة الإقدام على الأمور العظيمة المهمة، قال المتنبي:
الرأي قبل شجاعة الشجعانِ *** هو أول وهي المحل الثاني
فإذا هما اجتمعا لنفس مِرَّةٍ *** بلغت من العلياء كل مكانِ (39).
وقال:
وكل شجاعة في المرء تغني *** ولا مثل الشجاعة في الحكيم(40).
وبالجملة فالشجاع ليس بالمتهور الطائش الذي لا يخاف مما ينبغي أن يخاف منه، ولا هو بالجبان الرعديد الذي يَفْرَقُ من ظله، ويخاف مما لا يخاف منه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -: "والشجاعة ليست هي قوةَ البدن؛ فقد يكون الرجل قوي البدن ضعيف القلب، وإنما هي قوة القلب وثباته، فإن القتالَ مدارُه على قوة البدن، وصنعته للقتال، وعلى قوة القلب، وخبرته به.
والمحمود منهما ما كان بعلم ومعرفة، دون التهور الذي لا يفكر صاحبه ولا يميز بين المحمود والمذموم؛ ولهذا كان القوي الشديد هو الذي يملك نفسه عند الغضب حتى يفعل ما يصلح دون ما لا يصلح.
فأما المغلوب حين غضبه فليس هو بشجاع ولا شديد"(41)
وقال- رحمه الله تعالى - في موضع آخر: "ومما ينبغي أن يعلم أن الشجاعة إنما فضيلتها في الدين لأجل الجهاد في سبيل الله، وإلا فالشجاعة إذا لم يستعن بها صاحبها على الجهاد في سبيل الله كانت إما وبالاً عليه إن استعان بها صاحبها على طاعةالشيطان، وإما غير نافعة له إن استعملها فيما لا يقربه إلى الله _تعالى_. فشجاعة علي والزبير وخالد وأبي دجانة والبراء بن مالك وأبي طلحة، وغيرهم من شجعان الصحابة إنما صارت من فضائلهم لاستعانتهم بها على الجهاد في سبيل الله؛ فإنهم بذلك استحقوا ما حمد الله به المجاهدين. وإذا كان كذلك فمعلوم أن الجهاد منه ما يكون بالقتال باليد، ومنه ما يكون بالحجة والبيان والدعوة"(42)
فما أحوجنا وما أحوج أمتنا إلى الشجاعة المنضبطة المتعقِّلة التي تجلب الخير، والمصلحة للأمة، وتنأى بها عن الشرور والبلايا والرزايا (43)
ثامن عشر: الدعاء:
فالدعاء من أعظم أسباب النصر والسلامة من الفتن، كيف وقد قال ربنا _عز وجل_: "ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ" [غافر: 60].
فثمرة الدعاء مضمونة_بإذن الله_ إذا أتى الداعي بشرائط الإجابة؛ فحري بنا أن نكثر الدعاء لأنفسنا بالثبات، وأن ندعو لإخواننا بالنصر، وأن ندعو على أعدائنا بالخيبة والهزيمة.
وإذا اشتبه على الإنسان شيء مما اختلف فيه الناس فليدع بما رواه مسلم في صحيحه عن عائشة _رضي الله عنها_ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " كان يقول إذا قام يصلي من الليل: "اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون؛ اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهتدي من تشاء إلى صراط مستقيم"(44).(/9)
فإذا انطرح العبد بين يدي ربه وسأله التوفيق والهداية والصواب والسداد _ فإن الله لن يخيب رجاءه، وسيهديه _بإذنه_ إلى سواء السبيل؛ فقد قال _تعالى_ فيما رواه مسلم في صحيحه: "يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم"(45).
تاسع عشر: البعد عن الفتن قدر المستطاع:
فالفتنة في هذه الأزمان قائمة على أشدها؛ سواء فتنة الشهوات أو الشبهات؛ فالبعد عنها نجاة وسلامة، والقرب منها مدعاة للوقوع فيها.
قال النبي _عليه الصلاة والسلام_: "إن السعيد لمن جُنِّبَ الفتن، إن السعيد لمن جنب الفتن، إن السعيد لمن جنب الفتن، ولمن ابتلي فصبر فواهاً"(46) قال ابن الجوزي – رحمه الله - : "من قارب الفتنة بعدت عنه السلامة، ومن ادعى الصبر وكل إلى نفسه"(47).
وقال: "فإياك أن تغتر بعزمك على ترك الهوى مع مقاربة الفتنة؛ فإن الهوى مكايد، وكم من شجاع في الحرب اغتيل فأتاه ما لم يحتسب"(48).
وقال: "ما رأيت فتنة أعظم من مقاربة الفتنة، وقل أن يقاربها إلا من يقع فيها، ومن حام حول الحمى يوشك أن يرتع فيه"(49) وقال ابن حزم- رحمه الله -:
لا تلم من عرَّض النفس لما *** ليس يرضي غيره عند المحن
لا تقرب عرفجاً من لهب *** ومتى قربته ثارت دُخَنْ(50)
وقال:
لا تتبع النفس الهوى *** ودع التعرض للمحن
إبليس حيٌّ لم يمت *** والعين باب للفتن(51)
وقال الشيخ أبو الخطاب محفوظ بن أحمد الكلوذاني- رحمه الله تعالى-:
من قارب الفتنة ثم ادعى الـ *** عصمة قد نافق في أمره
ولا يجيز الشرع أسباب ما *** يورِّط المسلمَ في حظره
فانجُ ودع عنك صداع الهوى *** عساك أن تسلم من شره(52)
ومما يدخل في ذلك البعد عن مجالس الخنا والزور، ومجالس الجدال بالباطل، ومجالس الوقيعة في عباد الله خصوصاً أهل العلم والفضل خصوصاً في أوقات الفتن التي يكثر فيها القيل والقال؛ فالبعد عن الفتن سبيل للنجاة منها إلا من كان لديه علم يزمُّه، وإيمان يردعه، وكان يأنس من نفسه نفع الناس، وتبصيرهم، وكشف الشبه، وبيانَ الحق؛ فأولى لمثل هذا ألا ينزوي في قعر بيته، ويدع الناس يتخبطون في دياجير الظُّلم.
سئل شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله تعالى -: "هل الأفضل للسالك: العزلة أو الخلطة؟".
فأجاب بقوله: "فهذه المسألة ـ وإن كان الناس يتنازعون فيها إما نزاعاً كلياً وإما حالياً _ فحقيقة الأمر أن الخلطة تارة تكون واجبة، أو مستحبة، والشخص الواحد قد يكون مأموراً بالمخالطة تارة، وبالانفراد تارة.
وجماع ذلك أن المخالطة إن كان فيها تعاون على البر والتقوى فهي مأمور بها، وإن كان فيها تعاون على الإثم والعدوان فهي منهيٌّ عنها".
إلى أن قال: "فاختيار المخالطة مطلقاً خطأ، واختيار الانفراد مطلقاً خطأ".
وأما مقدار ما يحتاج إليه كل إنسان من هذا وهذا، وما هو الأصلح له في كل حال "فهذا يحتاج إلى نظر خاص"ا.هـ(53).
العشرون: الحذر من أن يؤتى الإسلام من أي ثغر من الثغور:
سواء في ميدان التعليم، أو الإعلام، أو المرأة، أو الدعوة، وما جرى مجرى ذلك.
فهذه ثغور يجب على كل مسلم بحسبه أن يحافظ عليها خصوصاً في مثل هذه الأيام العصيبة، فلا يليق بنا أن نقول بأننا أمام أمور أعظم؛ فلا داعي أن نشتغل بهذه الأمور.
بل هي من صميم ما يجب علينا، وهي من أعظم ما يسعى الأعداء لتحقيقه.
وعلينا أن ندرك الخطر المحدق بالأمة، وأن نستشعر ما تتطلبه تلك المرحلة من الصبر، والحكمة، والروية، والثبات، وبُعْد النظرة، وصدق التوكل، وحسن الصلة بالله.
وعلينا أن نسعى سعينا في إصلاح عقائد المسلمين، وأخلاقهم، وعباداتهم، وسلوكهم، وأن نبذل الجهد في الرفع من إيمانهم، وتجنيبهم ما يسخط الله؛ فإذا علم الله منا صدق التوجه، وحسن النوايا أكرمنا بالنصر، وأيدنا بروح منه.
أما إذا تخاذلنا، وتفرقنا فإنه يوشك أن نُخذل، ونَفشلَ، وتَذهب رِيحُنا.
وكيف ننتصر إذا ابتعدنا عن الله؟ وهل سيدوم ذلك النصر لو كتب لنا؟
وماذا سيكون مصيرنا لو انتصرنا ونحن على تلك الحال المزرية؟
قال الله _عز وجل_ "إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ" [محمد: 7]
وقال: "وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً" [النساء: 66]
الحادي والعشرون: ترسيخ الفهم الصحيح للإيمان بالقدر والتوكل على الله _عز وجل_:
فالإيمان بالقدر يحمل على التسليم لله، والرضا بحكمه، والقيام بالأسباب المشروعة، لا على القعود، والإخلاد إلى الأرض؛ فهناك من يترك الأخذ بالأسباب، بحجة أنه متوكل على الله، مؤمن بقضائه وقدره، وأنه لا يقع في ملكه شيء إلا بمشيئته.
وذلك كحال بعض الذين يرون أن ترك الأخذ بالأسباب أعلى مقامات التوكل.
فهذا الأمر مما عمت به البلوى، واشتدت به المحنة، سواء على مستوى الأفراد، أو على مستوى الأمة.(/10)
فأمة الإسلام مرت بأزمات كثيرة، وفترات عسيرة، وكانت تخرج منها بالتفكير المستنير، والنظرة الثاقبة، والتصور الصحيح، فتبحث في الأسباب والمسببات، وتنظر في العواقب والمقدمات، ثم بعد ذلك تأخذ بالأسباب، وتلج البيوت من الأبواب، فتجتاز _ بأمر الله _ تلك الأزمات، وتخرج من تلك النكبات، فتعود لها عزتها، ويرجع لها سالف مجدها.
هكذا كانت أمة الإسلام في عصورها الزاهية.
أما في هذه العصور المتأخرة التي غشت فيها غواشي الجهل، وعصفت فيها أعاصير الإلحاد والتغريب، وشاعت فيها البدع والضلالات _ فقد اختلط هذا الأمر على كثير من المسلمين؛ فجعلوا من الإيمان بالقضاء والقدر تكأةً للإخلاد إلى الأرض، ومسوغاً لترك الحزم والجد والتفكير في معالي الأمور، وسبل العزة والفلاح، فآثروا ركوب السهل الوطيء الوبيء على ركوب الصعب الأشق المريء.
فكان المخرج لهم أن يتكل المرء على القدر، وأن الله هو الفعَّال لما يريد، وأن ما شاءه كان، وما لم يشأه لم يكن؛ فلتمضِ إرادتُه، ولتكن مشيئته، وليجرِ قضاؤه وقدره، فلا حول لنا ولا طول، ولا يدَ لنا في ذلك كله.
هكذا بكل يسر وسهولة، استسلام للأقدار دون منازعة لها في فعل الأسباب المشروعة والمباحة؛ فلا أمر بالمعروف، ولا نهي عن المنكر، ولا حرص على نشر العلم ورفع الجهل، ولا محاربة للأفكار الهدامة والمبادئ المضللة، كل ذلك بحجة أن الله شاء ذلك!
والحقيقة أن هذه مصيبة كبرى، وضلالة عظمى، أدت بالأمة إلى هوة سحيقة من التخلف والانحطاط، وسبَبَّت لها تسلط الأعداء، وجرَّت عليها ويلات إثر ويلات.
وإلا فالأخذ بالأسباب لا ينافي الإيمان بالقدر، بل إنه من تمامه؛ فالله _ عز وجل _ أراد بنا أشياء، وأراد منا أشياء، فما أراده بنا طواه عنا، وما أراده منا أمرنا بالقيام به، فقد أراد منا حمل الدعوة إلى الكفار وإن كان يعلم أنهم لن يؤمنوا، وأراد منا أن نكون أمة واحدة وإن كان يعلم أننا سنتفرق ونختلف، وأراد منا أن نكون أشداء على الكفار رحماء بيننا، وإن كان يعلم أن بأسنا سيكون بيننا شديداً وهكذا...
فالخلط بين ما أريد بنا، وما أريد منا، وبين الأمر الكوني القدري، والشرعي الديني هو الذي يُلبِس الأمر، ويوقع في المحذور.
ثم لا ريب أن الله _ عز وجل _ هو الفعال لما يريد، الخالق لكل شيء، الذي بيده ملكوت كل شيء، الذي له مقاليد السموات والأرض.
ولكنه _ تبارك وتعالى _ جعل لهذا الكون نواميس يسير عليها؛ وقوانين ينتظم بها، وإن كان هو _ عز وجل _ قادراً على خرق هذه النواميس وتلك القوانين، وإن كان _ أيضاً _ لا يخرقها لكل أحد.
فالإيمان بأن الله قادر على نصر المؤمنين على الكافرين _ لا يعني أنه سينصر المؤمنين وهم قاعدون عن الأخذ بالأسباب؛ لأن النصر بدون الأخذ بالأسباب مستحيل، وقدرة الله لا تتعلق بالمستحيل، ولأنه منافٍ لحكمةِ الله، وقُدْرَتُه_عز وجل_ متعلقةٌ بحكمته.
فكون الله قادراً على الشيء، لا يعني أن الفرد أو الجماعة أو الأمة قادرةٌ عليه؛ فقدرة الله صفة خاصة به، وقدرة العبد صفة خاصة به، فالخلط بين قدرة الله والإيمان بها، وقدرة العبد وقيامه بما أمره الله به_ هو الذي يحمل على القعود، وهو الذي يخدر الأمم والشعوب(54).
وهذا ما لاحظه وألمح إليه أحد المستشرقين الألمان وهو باول شمتز، فقال وهو يؤرخ لحال المسلمين في عصورهم المتأخرة: (طبيعة المسلم التسليم لإرادة الله، والرضا بقضائه وقدره، والخضوع بكل ما يملك للواحد القهار، وكان لهذه الطاعة أثران مختلفان؛ ففي العصر الإسلامي الأول لعبت دوراً كبيراً في الحروب، وحققت نصراً متواصلاً؛ لأنها دفعت في الجندي روح الفداء، وفي العصور المتأخرة كانت سبباً في الجمود الذي خيم على العالم الإسلامي، فقذف به إلى الانحدار، وعزله وطواه عن تيار الأحداث العالمية) (55).
الثاني والعشرون: مراعاة المصالح والمفاسد:
وقد مر شيء من ذلك؛ فلا يكفي مجرد سرد النصوص، وتنزيلها على أحوال معينة خصوصاً عند الفتن واشتباه الأمور بل لا بد من الرؤية، والاستنارة بأهل العلم والفقه والبصيرة، ولا بد من النظر في المصالح والمفاسد قال الشيخ السعدي – رحمه الله-: قوله "فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتْ الذِّكْرَى" [الأعلى:9]، مفهوم الآية أنه إذا ترتب على التذكير مضرة أرجح تُرِكَ التذكير؛ خوف وقوع المنكر.(56).
وقال ابن القيم –رحمه الله-:"فإذا كان إنكار المُنْكَرِ يستلزم ما هو أنكر منه، وأبغض إلى الله ورسوله فإنه لا يسوغ إنكاره، وإن كان الله يبغضه، ويمقت أهله".
وقال: "ومن تأمل ما جرى في الإسلام من الفتن الكبار والصغار رآها من إضاعة هذا الأصل وعدم الصبر على منكر، فطلب إزالته، فتولَّد منه ما هو أكبر منه؛ فقد كان رسول الله " يرى بمكة أكبر المنكرات ولا يستطيع تغييرها".(/11)
بل لما فتح الله مكة، وصارت دار إسلام عزم على تغيير البيت، وردِّه على قواعد إبراهيم، ومنعه من ذلك _مع قدرته عليه_ خشيةُ وقوع ما هو أعظم منه، من عدم احتمال قريش لذلك، لقرب عهدهم بالإسلام، وكونهم حديثي عهد بكفر"(57).
وقال: "فإنكار المنكر أربع درجات: الأولى: أن يزول ويَخْلُفَهُ ضدُّه"
والثانية: أن يَقِلَّ، وإن لم يزل بالجملة.
الثالثة: أن يخلفه ما هو مثله.
الرابعة: أن يخلفه ما هو شرٌ منه.
فالدرجتان الأوليان مشروعتان، والثالثة محلُّ اجتهاد، والرابعة محرمة.
فإذا رأيت أهل الفجور والفسوق يلعبون الشطرنج كان إنكارك عليهم من عدم الفقه والبصيرة إلا إذا نقلتهم منه إلى ما هو أحب إلى الله ورسوله كرمي النُّشاب، وسباق الخيل، ونحو ذلك.
وإذا رأيت الفساق قد اجتمعوا على لهو، أو لعب، أو سماع مكاء وتصدية فإن نقلتهم إلى طاعة الله فهو المراد.
وإلا كان تركهم على ذلك خيراً من أن تُفرِغَهم لما هو أعظم من ذلك؛ فكان ما هم فيه شاغلاً لهم عن ذلك.
وكما إذا كان الرجل مشتغلاً بكتب المجون ونحوها، وخِفتَ من نقله عنها انتقاله إلى كتب البدع والضلال والسحر فَدَعْهُ وكتبه الأولى، وهذا باب واسع.
وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية _قدس الله روحه ونورَّ ضريحة_ يقول: مررت أنا وبعض أصحابي في زمن التتار بقوم منهم يشربون الخمر؛ فأنكر عليهم مَنْ كان معي؛ فأنكرت عليه، وقلت له: إنما حرم الله الخمر؛ لأنها تصد عن ذكره وعن الصلاة، وهؤلاء يصدهم الخمر عن قتل النفوس، وسبي الذرية، وأخذ الأموال؛ فَدَعْهم"(58).
الثالث والعشرون: حسن التعامل مع الخلاف والردود:
فربما يحصل في وقت النوازل والفتن اختلاف في النظرة إليها من قبل بعض أهل العلم وربما يحصل خلاف حول أمر ما؛ فيحسن _ والحالة هذه _ أن تنشرح صدورنا لما يقع من الخلاف؛ فما من الناس أحد إلا وهو راد ومردود عليه، وكلٌّ يؤخذ من قوله ويرد إلا الرسول ".
ويجمل بنا نحسن الظن بأهل العلم والفضل إذا رد بعضهم على بعض، وألا ندخل في نياتهم، وأن نلتمس لهم العذر.
وإذا تبين لنا أن أحداً من أهل العلم والفضل أخطأ سواء كان راداً أو مردوداً عليه _ فلا يسوغ لنا ترك ما عنده من الحق؛ بحجة أنه أخطأ.
وإذا كنا نميل إلى أحد من الطرفين أكثر من الآخر فلا يجوز لنا أن نتعصب له، أو نظن أن الحق معه على كل حال.
وإذا كان في نفس أحدٍ منا شيء على أحد الطرفين _ فلا يكن ذلك حائلاً دون قبول الحق منه.
قال _ ربنا جل وعلا _ : "وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى" [الأنعام:152].
وقال: "وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى" [المائدة:8].
وقال : "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ" [النساء:135].
قال ابن حزم – رحمه الله -: "وجدت أفضل نعم الله _تعالى_ على المرء أن يطبعه على العدلِ وحُبِّه، وعلى الحق وإيثاره"(59).
وقال: "وأما من طبع على الجور واستسهاله، وعلى الظلم واستخفافه _ فلييأس من أن يصلح نفسه، أو يقوِّم طباعه أبداً، وليعلم أنه لا يفلح في دين ولا في خلق محمود"(60).
وقال الشيخ محمد الطاهر بن عاشور – رحمه الله - : "والعدل مما تواطأت على حسنه الشرائع الإلهية، والعقول الحكيمة، وتمدَّح بادعاء القيام به عظماءُ الأمم، وسجلوا تمدُّحهم على نقوش الهياكل من كلدانية، ومصرية، وهندية.
وحسن العدل بمعزل عن هوى يغلب عليها في قضية خاصة، أو في مبدأ خاص تنتفع فيه بما يخالف العدل بدافع إحدى القوتين: الشاهية والغاضبة".(61).
وإذا كان لدينا قدرة على رأب الصدع، وجمع الكلمة، وتقريب وجهات النظر فتلك قربة وأي قربة.
قال الله _ عز وجل _: "لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً".
وإذا لم نستطع فلنجتهد بالدعاء والضراعة إلى الله أن يقرب القلوب، ويجمع الكلمة على الحق.
ولنحذر كل الحذر من الوقيعة بأهل العلم، أو السعاية بينهم، ولنعلم بأنهم لا يرضون منا بذلك مهما كان الأمر.
وإذا سلَّمَنا الله من هذه الردود، فاشتَغل الواحد منا بما يعنيه _ فهو خير وسلامة _ إن شاء الله تعالى _.
والذي يُظَنْ بأهل الفضل سواء كان الواحد منهم رادَّاً أو مردوداً عليه _ أنهم لا يرضون منا أن نتعصَّب لهم أو عليهم تفنيداً، أو تأييداً.
بل يرضيهم كثيراً أن نشتغل بما يرضي الله، وينفع الناس.
ويؤسفهم كثيراً أن تأخذ تلك الردود أكثر من حجمها، وأن تفسر على غير وجهها.
هذا وإن العاقل المحب لدينه وإخوانه المسلمين ليتمنى من صميم قلبه أن تجتمع الكلمة، وألا يحتاج الناس أو يضطروا إلى أن يردوا على بعض، وما ذلك على الله بعزيز، ولكن:(/12)
فيا دارها بالحزن إن مزارها *** قريب ولكن دون ذلك أهوال
فمن العسير أن تتفق آراء الناس، واجتهاداتهم، ومن المتعذر أن يكونوا جميعاً على سنة واحدة في كل شيء، ومن المحال أن يُعْصَم الناس فلا يخطئوا.
ثم ليكن لنا في سلفنا الكرام قدوة؛ فهم خير الناس في حال الوفاق وحال الخلاف؛ حيث كانوا مثالاً يحتذى في الرحمة، والعدل، والإنصاف حتى في حال الفتنة والقتال.
روي أنه أُنشد في مجلس أمير المؤمنين علي بن أبي طالب –رضي الله عنه- قول الشاعر:
فتىً كان يدنيه الغنى من صديقه *** إذا ما هو استغنى ويبعده الفقر
كأن الثريا علقت بجبينه *** وفي خده الشِّعرى وفي الآخر البدر
فلما سمعها علي – رضي الله عنه - قال: هذا طلحة بن عبيد الله، وكان السيف يومئذٍ ليلتئد مجرداً بينهما.
فانظر إلى عظمة الإنصاف، وروح المودة، وشرف الخصومة.
ولا ريب أن هذه المعاني تحتاج إلى مراوضة النفس كثيراً، وإلى تذكيرها بأدب الإنصاف، وإنذارها ما يترتب على العناد والتعصب من الإثم والفساد.
وإذا استقبلنا الخلاف والردود بتلك الروح السامية، والنفس المطمئنة صارت رحمةً، وإصلاحاً، وتقويماً، وارتقاءً بالعقول، وتزكية للنفوس.
وبهذا نحفظ لرجالنا، وأهل العلم منا مكانتهم في القلوب، ونضمن _بإذن الله_ لأمتنا تماسكها وصلابة عودها، ونوصد الباب أمام من يسعى لتفريقها والإيضاع خلالها .
والعجيب أن ترى أن اثنين من أهل العلم قد يكون بينهما خلاف حول مسألة أو مسائل، وتجد أتباعهما يتعادون، ويتمارون، وكل فريق يتعصب لصاحبه مع أن صاحبي الشأن بينهما من الود، والصلة، والرحمة الشيء الكثير!.
وأخيراً لنستحضر أن ذلك امتحان لعقولنا وأدياننا؛ فلنحسن القول، ولنحسن العمل، ولنجانب الهوى.
الرابع والعشرون: إشاعة روح التعاون على البر والتقوى والحرص على الإفادة من كل أحد:
فهذا مما ينمي روح المودة، ويقضي على الكسل والبطالة؛ فإن من النعم الكبرى كثرةَ طرق الخير، وتعَّددَ السبل الموصلة إلى البر؛ فلا يسوغ _والحالة هذه_ أن يُقَلَّل من أي عمل من أعمال الخير؛ فالمسلم بحاجة إلى ما يقربه إلى ربه، والأمة بحاجة إلى كل عمل من شأنه رفعُ راية الإسلام، وإعزازُ أهله.
وإذا شاعت روح التعاون بين أفراد الأمة في شتى الميادين_أمكن الإفادة من كل شخص مهما قلت مواهبه، ومن كل فرصة ووسيلة ما دامت جارية على مقتضى الشرع.
أما إذا اقتصر كل واحد منا على باب من أبواب الخير، ورأى أنه هو السبيل الوحيد للنهوض بالأمة، وقبض يده عن التعاون مع غيره ممن فتح عليهم أبواب أخرى من الخير_فإننا سنحرم خيراً كثيراً، وستُفْتَح علينا أبواب من الشر لا يعلمها إلا الله _عز وجل_.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - في معرض كلام له في بيان أن أفضل الأعمال يتنوع بحسب أجناس العبادة، وباختلاف الأزمنة، والأمكنة، والأشخاص، والأحوال، قال: "وهذا باب واسع يغلو فيه كثير من الناس، ويتَّبعون أهواءهم؛ فإن من الناس من يرى أن العمل إذا كان أفضل في حقه لمناسبته له، ولكونه أنفع لقلبه، وأطوع لربه _ يريد أن يجعله أفضل لجميع الناس، ويأمرهم بمثل ذلك.
والله بعث محمداً بالكتاب والحكمة، وجعله رحمة للعباد، وهدياً لهم يأمر كل إنسان بما هو أصلح له؛ فعلى المسلم أن يكون ناصحاً للمسلمين، يقصد لكل إنسان ما هو أصلح.
وبهذا تبين لك أن من الناس من يكون تطوعه بالعلم أفضل له، ومنهم من يكون تطوعه بالجهاد أفضل له، ومنهم من يكون تطوعه بالعبادات البدنية _ كالصلاة والصيام _ أفضل له.
والأفضل مطلقاً ما كان أشبه بحال النبي - صلى الله عليه وسلم - باطناً وظاهراً؛ فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - .
والله _ سبحانه وتعالى _ أعلم-(62)(/13)
وبناءً على ما مضى فإنه لا غضاضة على من فتح عليه في باب من أبواب الخير دون أن يفتح عليه في غيره؛ ولا على من فتح عليه من أبواب الخير دون أن يفتح على غيره فيه؛ فكل ميسر لما خلق له، وقد علم كل أناس مشربهم؛ فلا غرو_ إذاً _ أن تتنوع الأعمال ما دامت على مقتضى الشرع؛ فهذا يُكِبُّ على العلم والبحث والتأليف، وذاك يقوم بتعليم الناس عبر الدروس، وهذا يسد ثغرة الجهاد، وذاك يقوم بشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا يقوم على رعاية الأرامل والأيتام، ويتعاون مع جمعيات البر المعنية بهذا الشأن، وذاك يقوم بتربية الشباب في محاضن التربية والتعليم، وهذا يقوم بتعليم الناس كتاب الله، وتحفيظهم إياه، وذاك يعنى بشؤون المرأة، وما يحاك حولها، وهذا يهتم بعمارة المساجد، ودلالة المحسنين على ذلك، وذاك يسعى في تنظيم الدروس والمحاضرات والدورات العلمية، وتسهيل مهام أهل العلم في ذلك الشأن، وهذا يعنى بالجاليات التي تفد إلى بلاد المسلمين يعلمهم أمور دينهم إن كانوا مسلمين، ويدعوهم إلى الإسلام إن كانوا غير مسلمين، وهذا مفتوح عليه في باب الشبكة العالمية _الإنترنت_ حيث ينشر الخير من خلالها، ويصد الشر عن المسلمين، وذاك قد فتح عليه في الإعلام ونشر الخير عبر وسائله المتنوعة، وهذا يعنى بالمسلمين في بقاع الأرض؛ حيث يسعى في تعليمهم، وبيان قضاياهم، ويحرص على رفع الظلم عنهم، وهذا يسعى سعيه في الإصلاح بين الناس، وذاك يقوم بشؤون الموتى من تغسيلهم، ودفنهم ونحو ذلك، وهذا منقطع للعبادة، والذكر، والتلاوة، وعمارة بيوت الله، وذاك مفتوح عليه في باب الصيام، وهذا مفتوح عليه في باب الصلاة، وذاك مفتوح عليه في باب الصدقة، وذاك الفذُّ الجامع لأكثر تلك الخصال وهكذا. . .
وبهذه النظرة الشاملة نأخذ بالإسلام من جميع أطرافه، ونسد كافة الثغرات التي تحتاج إلى من يقوم بها، ويمكننا اغتنام جميع الفرص، وكافة المواهب، ونستطيع من خلال ذلك إشاعة روح العمل للإسلام، والقضاء على الكسل والبطالة.
وبذلك يقل التلاوم، ويكثر العمل، ويُنْبذ الخلاف، ونسلم من القيل والقال، وننهض بأمتنا إلى أعلى مراقي السعود، وأقصى مراتب المجادة.
وبعد: فهذه إشارات مجملة، ومعالم عامة في التعامل مع الفتن والمصائب وكل واحد منها يحتاج إلى بسط وتفصيل، والمقام لا يسمح بذلك؛ فأسأل الله أن ينفع بما ذكر؛ إنه سميع قريب.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
(*) المشرف العام على موقع دعوة الإسلام، وعضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
(1)-أخرجه الحاكم 1/93 عن أبي هريرة، وقال الألباني في صحيح الجامع (2938): (صحيح).
(2)-رواه أبو داود (4607) والترمذي (2676) وصححه ابن حبان (5).
(3) انظر زاد المعاد لابن القيم 3/218_241 ففيه كلام عظيم حول هذه المسألة، وحول الحكمة من إدالة الكفار على المسلمين.
(4) أخرجه البخاري(6129و6203) ومسلم (2150) عن أنس ابن مالك قال: كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم -أحسن الناس خلقاً، وكان لي أخ يقال له أبو عمير، قال: أحسبه فطيمٌ، وكان إذا جاء قال: " يا أبا عمير ما فعل النغير" نغرٌ كان يلعب به. وهذا لفظ البخاري.
(5) الجامع لسيرة عمر بن عبدالعزيز لعمر بن محمد الخضر المعروف بالملاء، تحقيق د. محمد البورنو(2/236).
(6) جمع رشاء وهو الحبل، والطوي: البئر المطوية بالحجارة.
(7) منهاج السنة النبوية 8/83_84.
(8) بدائع الفوائد لابن القيم 3/132_133.
(9) رواه مسلم (2593).
(10) رواه مسلم (2594).
(11) رواه البخاري (6124)، ومسلم (1733).
(12) جامع العلوم والحكم 2 / 456.
(13) روضة العقلاء ص 216.
(14) البيان والتبيين للجاحظ 2 / 174.
(15) مسلم (2948).
(16) انظر الحرية في الإسلام ص21.
(17) منهاج السنة النبوية 8/58.
(18) انظر مسند الإمام أحمد 4/203، وسنن النسائي الكبرى (8858).
(19-20) -رواه مسلم (5) في مقدمة صحيحه.
(21) مسلم في مقدمة صحيحه (5).
(22) تيسير الكريم المنان في تفسير كلام الرحمن للسعدي ص154.
(23) فتح الرحيم الملك العلام في علم العقائد والتوحيد والأخلاق والأحكام المستنبطة من القرآن للشيخ عبدالرحمن السعدي عناية الشيخ د. عبدالرزاق البدر ص161.
(24) فتح الرحيم الملك العلام ص162.
(25) روضة العقلاء ص 216.
(26) زهر الآدب للحصري القيرواني 1/154.
(27) روضة العقلاء ص216.
(28) روضة العقلاء ص 217.
(29) صيد الخاطر ص605.
(30) صيد الخاطر 625.
(31) إغاثة اللهفان ص537.
(32) مجلة الرسالة عدد 562 إبريل 1944، وانظر جمهرة مقالات محمود شاكر 1/258 إعداد د. عادل سليمان جمال.
(33) البخاري (6830).
(34) أخرجه البخاري (127).
(35) أخرجه مسلم في مقدمة صحيحه (5).
(36) انظر رسائل الإصلاح للشيخ محمد الخضر حسين 1 / 77.
(37) عيون البصائر ص17.
(38) مجمع الأمثال للميداني 1 / 432.
(39) ديوان المتنبي بشرح العكبري 4 /174.(/14)
(40) ديوان المتنبي 4/120.
(41) الاستقامة 2 /270_271.
(42) منهاج السنة 8/86.
(43) انظر تفاصيل الحديث عن الشجاعة في كتاب: الهمة العالية للكاتب 256_276.
(44) مسلم (770).
(45) مسلم (2577).
(46) رواه أبو داود (4263) من حديث المقداد، وقال الألباني في صحيح الجامع (1637): (صحيح).
(47) صيد الخاطر لابن الجوزي ص41.
(48) صيد الخاطر لابن الجوزي ص41.
(49) صيد الخاطر ص350.
(50) طوق الحمامة لابن حزم ص128.
(51) طوق الحمامة لابن حزم ص127.
(52) روضة المحبين لابن القيم ص151.
(53) مجموع الفتاوى 10/425_426.
(54) تفاصيل ذلك في كتاب (الإيمان بالقضاء والقدر) للكاتب.
(55) الإسلام قوة الغد العالمية، باول شمتز ص90.
(56) فتح الرحيم الملك العلام ص164.
(57) إعلام الموقعين لابن القيم 3 / 6.
(58) إعلام الموقعين 3/ 6_7.
(59) الأخلاق والسير ص37.
(60) الأخلاق والسير ص37.
(61) أصول النظام الاجتماعي في الإسلام للطاهر بن عاشور ص186.
(62) مجموع الفتاوى 10/427_429.(/15)
معالم في المنهج التربوي النبوي
محمد عبد الله الدويش
تكامل الشخصية النبوية لنبينا محمد جعلت منه الحاكم والقائد والزوج والمعلم والداعية والمربي. وما تتبع قارئ للقرآن الكريم والسيرة النبوية إلا وجد فيهما عناصر التفوق ووسائل النجاح من خلال الكثير من المواقف التربوية الراقية التي هي قدوة حسنة لكل راغب في الوصول إلى الحق. وعن طريق هذا المنهج ينشأ الإنسان الصالح ومن ثم المجتمع الإسلامي الكريم.
ولقد استقرأ الكاتب نماذج وصوراً من المنهج التربوي النبوي، وقربها للقارئ الكريم تذكيراً وترغيباً في هذا المنهج المتكامل الذي أرسل الله به نبيه للناس كافة ((وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ)) [الأنبياء:107].
وكم نحن بحاجة للوقوف أمام هذه المعالم النبوية وتمثلها في حياتنا وسلوكنا؛ إذ هي السر في تميز الرعيل الأول - رضي الله عنهم - أجمعين.
1- الصبر وطول النفس:
يسهل على الإنسان أن يتعامل مع الآلة الصماء، ويستطيع الباحث أن يصبر ويكافح في دراسة هذه الظاهرة المادية أو تلك، لكن التعامل مع الإنسان له شأن آخر وبعد آخر، ذلك أن الناس بشر لا يحكم تصرفاتهم ومواقفهم قانون مطرد؛ فتراه تارة هنا وتارة هناك، تارة يرضى وتارة يسخط.
ولهذا أجمع المختصون بأن الظاهرة الإنسانية ظاهرة معقدة، وأن البحث فيها تكتنفه صعوبات عدة؛ فكيف بالتعامل المباشر مع الإنسان والسعي لتقويمه وتوجيه سلوكه؟
ومن يتأمل سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - يرى كيف صبر وعانى حتى ربى هذا الجيل المبارك، وكم فترة من الزمن قضاها؟ وكم هي المواقف التي واجهها؟ ومع ذلك صبر واحتسب، وكان طويل النفس بعيد النظر.
إن البشر مهما علا شأنهم فلن يصلوا إلى درجة العصمة، وهل هناك من هو أعلى شأناً من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا الأنبياء، فها هم يتنزل فيهم في بدر: ((لَوْلا كِتَابٌ مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)) [الأنفال: 68] وفي أحد: ((مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ)) [آل عمران: 152] وفي حنين: ((وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ)) [التوبة: 25].
وحين قسم غنائم حنين وجد بعض أصحابه في نفوسهم ما وجدوا.
وكان يخطب فجاءت عير فتبعها الناس فنزل فيهم قرآن يتلى.
ومع ذلك يبقى هذا الجيل وهذا المجتمع هو القمة، وهو المثل الأعلى للناس في هذه الدنيا، ولن تكون هذه المواقف سبباً للحط من شأنهم ومكانتهم - رضوان الله عليهم -. فكيف بمن دونهم؟! بل لا يسوغ أن يقارن بهم. إن ذلك يفرض على المربي أن يكون طويل النفس صابراً عالي الهمة متفائلاً.
2- الخطاب الخاص:
وكما كان يوجه الخطاب لعامة أصحابه، فقد كان يعتني بالخطاب الخاص لفئات خاصة من أصحابه.
فقد كان من هديه حين يصلي العيد أن يتجه إلى النساء ويخطب فيهن، كما روى ذلك ابن عباس - رضي الله عنهما - قال خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم عيد فصلى ركعتين لم يصل قبل ولا بعد، ثم مال على النساء ومعه بلال فوعظهن وأمرهن أن يتصدقن، فجعلت المرأة تلقي القُلْب والخُرْص(1).
بل تجاوز الأمر مجرد استثمار اللقاءات العابرة؛ فعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن النساء قلن لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: غلبنا عليك الرجال؛ فاجعل لنا يوماً من نفسك. فواعدهن يوماً، فلقيهن فيه فوعظهن وأمرهن، فكان مما قال: (ما منكن من امرأة تقدم ثلاثة من ولدها إلا كان لها حجاباً من النار). فقالت امرأة: واثنين فقال: (واثنين)(2).
وقد يكون الخصوص لقوم أو فئة دون غيرهم، كما فعل في غزوة حنين حين دعا الأنصار، وأكد ألا يأتي غيرهم.
وكما بايع بعض أصحابه على ألا يسألوا الناس شيئاً.
3- المشاركة العملية:
اعتاد بعض المربين أن يكون دورهم قاصراً على إعطاء الأوامر ومراقبة التنفيذ، وهو مسلك مخالف لمنهج المربي الأول، الذي كان يعيش مع أصحابه ويشاركهم أعمالهم وهمومهم.
فشاركهم في بناء المسجد: عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة فنزل أعلى المدينة في حي يقال لهم: بنو عمرو بن عوف، فأقام النبي - صلى الله عليه وسلم - فيهم أربع عشرة ليلة... وجعلوا ينقلون الصخر وهم يرتجزون والنبي - صلى الله عليه وسلم - معهم وهو يقول: اللهم لا خير إلا خير الآخرة؛ فاغفر للأنصار والمهاجرة)(3).
وشاركهم في حفر الخندق: فعن سهل بن سعد الساعدي - رضي الله عنه - قال: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الخندق، وهو يحفر ونحن ننقل التراب ويمر بنا فقال: (اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة)(4).(/1)
وكان يشاركهم في الفزع للصوت: فعن أنس - رضي الله عنه - قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أحسن الناس وأشجع الناس، ولقد فزع أهل المدينة ليلة فخرجوا نحو الصوت فاستقبلهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد استبرأ الخبر وهو على فرس لأبي طلحة عري وفي عنقه السيف وهو يقول: (لم تراعوا لم تراعوا) ثم قال: (وجدناه بحراً، أو قال: إنه لبحر)(5).
وأما مشاركته لهم في الجهاد: فقد خرج في غزوة(6)، بل قال عن نفسه: (ولولا أن أشق على أمتي ما قعدت خلف سرية)(7).
وهي مشاركة لا تلغي دورهم وتحولهم إلى مجرد آلات صماء، بل هي تدفع للتوازن بين هذا وبين تعويدهم على العمل والمشاركة.
إن مجرد إصدار الأوامر والتوجيه أمر يجيده الجميع، لكن الدخول مع الناس في الميدان ومشاركتهم يرفع قيمة المربي لديهم ويعلي شأنه ويشعرون أنه واحد منهم، وذلك أيضاً يدفعهم لمزيد من البذل والهمة والحماس عكس أولئك الذين يدعون للعمل ويربيهم بعيدٌ عنهم، وقد عبر عن هذا المعنى ذاك الحداء الذي كان يردده أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -:
لئن قعدنا والنبي يعمل *** لذاك منا العمل المضلل
ثم إنه يشيع روح الود والإخاء، ويسهم في بناء علاقة إنسانية وطيدة بين المربي ومن يربيهم.
4- التربية بالأحداث:
من السهل أن نحدث الناس كثيراً عن معاني عدة، وأن ننظر لجوانب متعددة، لكن ذلك وإن أتّر فإن أثره يبقى باهتاً محدوداً.
أما النبي - صلى الله عليه وسلم - فمع توجيهه لأصحابه في كل موطن، إلا أن تربيته كانت تتم من خلال الأحداث، فكان يضع الناس في الموقع والميدان ويأتي التوجيه حينها.
يشكو إليه الحالَ أبو بكر - رضي الله عنه - وهما في الغار، فيقول: (ما ظنك باثنين الله ثالثهما).
ويسأله رجل في الميدان والمعركة: أرأيت إن قتلت؟ فيجيبه إجابة تصل إلى شغاف قلبه فيتقدم حتى يستشهد؛ فعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: قال رجل للنبي - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد: أرأيت إن قتلت فأين أنا؟ قال: (في الجنة)) فألقى تمرات في يده ثم قاتل حتى قتل)(8).
ويوصي علياً - رضي الله عنه - بالدعوة ويذكِّره بفضلها وذلك؟ حين بعثه داعياً إلى الله مجاهداً في سبيله. عن سهيل بن سعد - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم خيبر: (لأعطين الراية غداً رجلاً يفتح على يديه يحب الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ويحبه الله ورسوله) فبات الناس ليلتهم أيهم يعطى، فغدوا كلهم يرجوه، فقال: (أين علي؟) فقيل يشتكي عينيه، فبصق في عينيه ودعا له فبرأ كأن لم يكن به وجع، فأعطاه فقال أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا، فقال: (انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم؛ فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً خير لك من أن يكون لك حمر النعم)(9).
أترى أن تلك التوجيهات لو تلقاها أصحابها وهم جالسون قاعدون في بيوتهم ستترك أثرها؟ إن مثل هذه التربية هي التي خرّجت الجيل الجاد العملي، الذي لم يتربّ على مجرد التوجيه الجاف البارد، إنما كان يعيش العلم والعمل معاً.
5- الاختيار والاصطفاء:
إن التربية كما أنها موجهة لكل أفراد الأمة أجمع مهما كان شأنهم، والدين خطاب للجميع صغاراً وكباراً، رجالاً ونساءً.
إلا أن الدعوة تحتاج لمن يحملها ولمن يقوم بأعبائها، إنها تحتاج لفئة خاصة تُختار بعناية وتُربى بعناية.
لذا كان هذا الأمر بارزاً في سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وتربيته لأصحابه؛ فثمة مواقف عدة في السيرة يتكرر فيها ذكر كبار أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى رأسهم أبو بكر وعمر؛ مما يوحي أن هؤلاء كانوا يتلقون إعداداً وتربية أخص من غيرهم.
عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: إني لواقف في قوم فدعوا الله لعمر بن الخطاب وقد وضع على سريره؛ إذا رجل من خلفي قد وضع مرفقه على منكبي يقول: رحمك الله إن كنت لأرجو أن يجعلك الله مع صاحبيك لأني كثيراً ما كنت أسمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (كنت وأبو بكر وعمر، وفعلت وأبو بكر وعمر، وانطلقت وأبو بكر وعمر) فإن كنت لأرجو أن يجعلك الله معهما؛ فالتفتّ فإذا هو علي بن أبي طالب(10).
ومنها قصة أبي هريرة حين كان بواب النبي - صلى الله عليه وسلم -، فاستأذن أبو بكر، فقال: (ائذن له وبشره بالجنة)، ثم استأذن عمر، ثم عثمان... (11).
وما رواه أنس بن مالك - رضي الله عنه - حدثهم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صعد أُحُداً وأبو بكر وعمر وعثمان، فرجف بهم فقال: (اثبت أُحُد؛ فإنما عليك نبي - صلى الله عليه وسلم -، وصدِّيق، وشهيدان)(12).
ومثله ما رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان على حراء هو وأبو بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير فتحركت الصخرة فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (اهدأ؛ فما عليك إلا نبي، أو صدِّيق، أو شهيد)(13).(/2)
ويحكي لنا أحد أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - عن توجيه خاص بهم، حين بايعهم على أمر لم يعتد أن يبايع عليه سائر الناس.
عن عوف بن مالك الأشجعي - رضي الله عنه - قال: كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تسعة، أو ثمانية، أو سبعة، فقال: (ألا تبايعون رسول الله؟) وكنا حديثي عهد ببيعة، فقلنا: قد بايعناك يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم قال: (ألا تبايعون رسول الله؟) فقلنا: قد بايعناك يا رسول الله، ثم قال: (ألا تبايعون رسول الله؟) قال: فبسطنا أيدينا، وقلنا: قد بايعناك يا رسول الله؛ فعلامَ نبايعك؟ قال: (على أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، والصلوات الخمس، وتطيعوا، - وأسرّ كلمة خفية - ولا تسألوا الناس شيئاً) فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوط أحدهم؛ فما يسأل أحداً يناوله إياه(14).
وهذا الأمر لم يكن عاماً لأصحابه - رضوان الله عليهم -، بل خاصاً بهؤلاء، فقد كان بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يسألونه ويعطيهم، ولم يكن يمنعهم أو ينهاهم عن السؤال.
ومن ذلك أنه كان لا يأذن بالسؤال لخاصة أصحابه كما يأذن لغيرهم، كما روى نواس بن سمعان - رضي الله عنه - قال أقمت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة سنة ما يمنعني من الهجرة إلا المسألة، كان أحدنا إذا هاجر لم يسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن شيء، قال: فسألته عن البر والإثم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس)(15).
6- التدرج:
إن الجوانب التي تتطلب التربية والإصلاح في النفس البشرية من الاتساع والتعدد والتنوع ما يجعل تحصيلها في وقت وجهد أمر عسير ومتعذر.
لذا فإن التدرج كان معلماً مهماً من معالم التربية النبوية، فخوطب الناس ابتداء بالاعتقاد والتوحيد، ثم أمروا بالفرائض، ثم سائر الأوامر.
وفي الجهاد أمروا بكف اليد، ثم بقتال من قاتلهم، ثم بقتال من يلونهم من الكفار، ثم بقتال الناس كافة. ومثل ذلك التدرج في تحريم الخمر، وإباحة نكاح المتعة ثم تحريمها، وهكذا. لكن يبقى جانب مهم مع الإيمان بمبدأ التدرج، ألا وهو أن ما نص الشرع على تحريمه لا يجوز أن نبيحه للناس، وما نص على وجوبه لا يجوز أن نسقطه عن الناس.
7- تربية القادة لا العبيد:
ثمة سؤال يفرض نفسه ويقفز إلى أذهاننا: هل نحن نعنى بتعليم الناس وتهيئتهم ليكونوا أهل علم يستنبطون، ويبدعون ويبتكرون؟ أم أننا نربيهم على تلقي أقوال أساتذتهم بالتسليم دون مراجعة، وربما دون فهم لمضمون القول؟
هل نرى أن من أهدافنا في التعليم أن نربي ملكة التفكير والإبداع لدى طلابنا، وأن نعوِّدهم على استنباط الأحكام الشرعية من النصوص، وعلى الجمع بين ما يبدو متعارضاً؟
وهل من أهدافنا تربيتهم على تنزيل الأحكام الشرعية على الوقائع التي يرونها؟
إن المتأمل في واقع التعليم الذي نقدمه لأبنائنا ليلحظ أننا كثيراً ما نستطرد في السرد العلمي المجرد، ونشعر بارتياح أكثر حين نقدم للطالب كماً هائلاً من المعلومات، وهو الآخر - لِمَا غرسنا لديه - يقيس مدى النجاح والإنجاز بقدر ما يسطره مما يسمعه من أستاذه، والتقويم والامتحان إنما هو على أساس ما حفظه الطالب من معلومات، واستطاع استدعاء ذلك وتذكره.
وشيء من ذلك حق ولا شك؛ لكن توجيه الجهد لهذا النوع وهذا النمط من التعليم لا يعدو أن يخرج جيلاً يحفظ المسائل والمعارف - ثم ينساها بعد ذلك - أو يكون ظلاً لأستاذه وشيخه.
ولأن تُعَلِّمَ الجائع صيد السمك خيرٌ من أن تعطيه ألف سمكة.
وقد مثل ذلك في الأعمال الدعوية التي نقوم بها؛ فهل نحن نربي الناس على أن يكونوا عاملين مبدعين مشاركين، أم نربيهم على مجرد الاتباع والتقليد لما عليه كبراؤهم؟
أما النبي - صلى الله عليه وسلم - فكانت تربيته لأصحابه لوناً آخر؛ ففي تربيته العلمية لهم خرّج علماء وفقهاء، ولم يكن يقتصر على مجرد إعطاء معلومات مجردة.
وكشف الواقع آثار هذه التربية النبوية، ففي ميدان العلم واجهت أصحابه قضايا طارئة مستجدة؛ لكنهم لم يقفوا أمامها حيارى، فاستثمروا نتاج التربية العلمية التي تلقوها، ولذا اجتهدوا في اتخاذ السجون، وجمع القرآن، وجلد الشارب، والخراج وغيرها.
وفي ميدان الجهاد وإدارة الدولة والدعوة قضوا في شهور على المرتدين بعد أن حسموا الموقف الشرعي من قضية الردة، ثم اتسعت الدولة ووطئت أقدام أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - بلاد المشرق حتى وصلوا أذربيجان وما وراء النهر، وبلاد المغرد حتى وصلوا غرب أفريقيا، ودفن منهم من دفن تحت أسوار القسطنطينية.
ولو تربى أولئك على غير هذه التربية لما صنعوا ما صنعوا.
فأين المربون اليوم الذين يترك أحدهم الفراغ حين يمضي؟ أين هم من هذه التربية النبوية؟
8- التوجيه الفردي والجماعي:
لقد كان يجمع بين التربية والتوجيه الفردي من خلال الخطاب الشخصي المباشر، وبين التربية والتوجيه الجماعي.(/3)
قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: (علمني رسول الله التشهد كفي بين كفيه)(16).
ومن ذلك ما ورد عن غير واحد من أصحابه: أوصاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
ومن ذلك حديث معاذ - رضي الله عنه - كنت رديف النبي - صلى الله عليه وسلم - على حمار فقال: (يا معاذ، أتدري ما حق الله على العباد؟ وما حق العباد على الله؟)(17).
وعبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - زوّجه أبوه امرأة فكان يتعاهدها، فتقول له: نِعْمَ الرجل لم يكشف لنا كنفاً ولم يطأ لنا فراشاً - تشير إلى اعتزاله - فاشتكاه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فدعاه فكان معه الحوار الطويل حول الصيام وختم القرآن وقيام الليل.
وقد كان هذا الحوار والتوجيه له شخصياً، بينما نجد أنه في مواقف أخر يوجه توجيهاً عاماً، كما في خطبه ولقاءاته وتوجيهاته لعامة أصحابه؛ وهي أشهر من أن تورد وتحصر.
وها هنا مأخذ مهم في قصة عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - إذ إن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعاه وناقشه منفرداً به، بينما نجده في موقف آخر شبيه بهذا الموقف يعالج الأمر أمام الناس؛ فحين سأل طائفةٌ عن عبادته وتقالّوها وقالوا ما قالوا صعد المنبر وخطب في الأمر.
عن أنس - رضي الله عنه - أن نفراً من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - سألوا أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - عن عمله في السر، فقال بعضهم: لا أتزوج النساء، وقال بعضهم: لا آكل اللحم، وقال بعضهم: لا أنام على فراش؛ فحمد الله وأثنى عليه فقال: (ما بال أقوام قالوا كذا وكذا، لكني أصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء؛ فمن رغب عن سنتي فليس مني)(18).
ومثل ذلك في قصة الذي قال: هذا لكم وهذا أهدي إليّ، فعن أبي حميد الساعدي - رضي الله عنه - قال استعمل النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلاً من الأزد يقال له ابن الأتبية على الصدقة، فلما قدم قال: هذا لكم وهذا أهدي لي، فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - على المنبر - قال سفيان أيضاً فصعد المنبر - فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: (ما بال العامل نبعثه فيأتي يقول: هذا لك، وهذا لي؛ فهلاّ جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى له أم لا؟ والذي نفسي بيده! لا يأتي بشيء إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته: إن كان بعيراً له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر) ثم رفع يديه حتى رأينا عفرتي إبطيه: (ألا هل بلغت) ثلاثاً(19).
إذن فهناك جوانب يمكن أن تطرح وتناقش بصورة فردية، ولا يسوغ أن تطرح بصفة عامة، ولو مع عدم الإشارة إلى صاحبها؛ لأنها ربما كانت مشكلات فردية لا تعني غير صاحبها، بل قد يكون ضرر إشاعتها أكثر من نفعه.
وهناك جوانب يجب أن تطرح بوضوح وبصورة عامة وتعالج وتناقش أمام الجميع.
والمربي الناجح هو الذي يضع كل شيء موضعه.
9- التعويد على المشاركة والعمل:
اعتاد كثير من ناشئة المسلمين اليوم أن يُكفى كل شيء، فهو في المنزل يقدم له الطعام والشراب، ويتولى أهله تنظيم غرفته وغسل ملابسه، فساهم ذلك في توليد جيل كسول لا يعرف العمل والمسؤولية.
وفي المدرسة وميادين التعليم اعتاد التلاميذ الكسل الفكري، وصار دورهم مجرد تلقي المعلومات جاهزة دون أي جهد، وحتى حين يطلب منهم بحث أو مقالة فلا بد أن تحدد لهم المراجع، وبأرقام الصفحات، وقل مثل ذلك في كثير من المحاضن التربوية.
إننا حين نريد تخريج الجيل الجاد فلا بد من تعويده من البداية على المشاركة وتحمل المسؤولية: في المنزل بأن يتولى شؤونه الخاصة، وفي المدرسة بأن يبذل جهداً في التعلم.
وعلى القائمين اليوم على المحاضن التربوية أن يأخذوا بأيدي تلامذتهم، وأن يسعوا إلى أن يتجاوزوا - في برامجهم التي يقدمونها - القوالب الجاهزة، وأن يدركوا أن من حسن تربية الناشئة أن يمارسوا المسؤولية، وألا يبقوا أكلاّء على غيرهم في كل شيء، فينبغي أن يكون لهم دور ورأي في البرامج التي يتلقونها.
وحين نعود لسيرة المربي الأول فإننا نرى نماذج من رعاية هذا الجانب؛ فهو يعلم الناس أن يتحملوا المسؤولية أجمع تجاه مجتمعهم، فليست المسؤولية لفرد أو فردين؛ فعن النعمان بن بشير - رضي الله عنهما - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (مثل المداهن في حدود الله والواقع فيها مثل قوم استهموا سفينة، فصار بعضهم في أسفلها، وصار بعضهم في أعلاها، فكان الذي في أسفلها يمرون بالماء على الذين في أعلاها، فتأذوا به، فأخذ فأساً، فجعل ينقر أسفل السفينة، فأتوه، فقالوا: ما لك؟ قال: تأذيتم بي، ولا بد لي من الماء، فإن أخذوا على يديه أنجوه ونجوا أنفسهم، وإن تركوه أهلكوه وأهلكوا أنفسهم)(20).(/4)
ومن ذلك أيضاً استشارته لأصحابه في كثير من المواطن، بل لا تكاد تخلو غزوة أو موقف مشهور في السيرة من ذلك، وفي الاستشارة تعويد وتربية لهم، وفيها غرس للثقة، وفيها إشعار لهم بالمسؤولية، ولو عاش أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - على خلاف ذلك، أتراهم كانوا سيقفون المواقف المشهودة في حرب أهل الردة وفتوحات فارس والروم؟
وعلى المستوى الفردي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يولي أصحابه المهام، من قيادة للجيش وإمارة ودعوة وقضاء وتعليم، فأرسل رسله للملوك، وبعث معاذاً إلى اليمن، وأمّر أبا بكر على الحج، بل كان يؤمِّر الشباب مع وجود غيرهم، فأمّر أسامة على سرية إلى الحرقات من جهينة (21)، ثم أمّره على جيش يغزو الروم(22)، وولى عثمان بن أبي العاص إمامة قومه(23)... وهكذا فالسيرة تزخر بهذه المواقف.
فما أجدر الدعاة والمربين اليوم أن يسيروا على المنهج نفسه ليخرج لنا - بإذن الله - جيل جاد يحمل المسؤولية ويعطيها قدرها.
ــــــــــــــــــ
الهوامش:
(1) رواه البخاري، ح/1431، ومسلم، ح/884. القلب: الإسورة. الخُرص: القرط.
(2) رواه البخاري، ح/101، ومسلم، ح/2633. (3) رواه البخاري، ح/428، ومسلم، ح/ 524.
(4) رواه البخاري، ح/6414، ومسلم، ح/ 1804. (5) رواه البخاري، ح/2908، ومسلم، ح/2307.
(6) رواه البخاري، ح/3949، ومسلم، ح/1254. (7) رواه البخاري، ح/36، ومسلم، ح/1876.
(8) رواه البخاري، ح/4046. (9) رواه البخاري، ح/3009.
(10) رواه البخاري، ح/3677، ومسلم، ح/2389. (11) رواه البخاري، ح/3674، ومسلم، ح/2403.
(12) رواه البخاري، ح/ 3675. (13) رواه مسلم، ح/2417.
(14) رواه مسلم، ح/1403. (15) رواه مسلم، ح/2553.
(16) رواه البخاري، ح/831، ومسلم، ح/402. (17) سبق تخريجه.
(18) رواه مسلم، ح/1401. (19) رواه البخاري، ح/7174، ومسلم، ح/1832.
(20) رواه البخاري، ح/2686. (21) رواه البخاري، ح/4269، ومسلم، ح/96.
(22) رواه مسلم، ح/468. (23) رواه مسلم، ح/468.
مجلة البيان، العدد (125)، المحرم 1419، مايو 1998.
http://albayan-magazine.com المصدر:(/5)
معالم في نهضة الأمة ...
الأمة الإسلامية أمة منصورة، ومرحومة، وهي خير الأمم، وأفضل أجيال الإنسانية على الإطلاق، كما أنهم أكثر أهل الجنة، وذلك لأنها آمنت بخاتم النبيين، وسيد المرسلين . وقد حفظ الله لها دينها بحفظ كتابها، فهي الأمة الوحيدة التي يحفظ الملايين من أبنائها الكتاب الرباني الذي أنزله الله تعالى على نبيه، وهذا ما لم يكن في أي أمة مضت، وببقاء طائفة من أهل الحق ظاهرين في كل الأزمان إلى قيام الساعة، وبظهور المجدد في كل قرن من تأريخها الدنيوي .
والمتأمل في فضل هذه الأمة وتميزها على غيرها من الأمم ينمو في قلبه الثقة بظهور الدين، وعدم اليأس من النصر مهما كانت قوة الأعداء .
وفي هذه الأيام - بالذات - نجد تنامياً ملاحظاً في الأمة ، وعودة صادقة إلى دينها وعقيدتها . فقد سقطت كل الشعارات والمناهج والمذاهب التي حاربت الإسلام زمناً طويلاً في بلاد المسلمين، فهذه القومية سقط جناحها الناصري بعد النكسة عام 1967م ، وتقلّص جناحها الآخر (حزب البعث) ثم سقط تماماً بعد الحرب الأخيرة . وكذلك اضمحلت الوجودية بشهادة أحد رموزها الكبار وهو الدكتور زكريا إبراهيم في كتابه "مشكلة الحرية " . والعلمانية سقطت بعد ذلك بشهادة دهاقنتها في العالم العربي، فهذا الدكتور عادل ظاهر يقرر ذلك في كتابه الأخير "الأسس الفلسفية للعلمانية".
وأصبح الجميع - بما في ذلك الغربيون - يصرح دون مواربة أن هذا وقت صعود الإسلام للقيادة من جديد . كما شهد بذلك أيضا فرانسيس فوكوياما في كتابه الشهير "نهاية التاريخ" وأكد هذا الأمر تقرير مؤسسة (راند) الذي أوصى الحكومة الأمريكية بترك العلمانيين الذين لم يعد لهم أثر في البلاد الإسلامية ولا تقبل لهم في المجتمع الإسلامي ، كما أوصى بالتركيز على الإسلاميين العصرانيين . ولعل من لطائف أقدار تعالى أن يكون رأس حربة العداء للإسلام في العالم (أمريكا) أحد الأسباب في سقوط هذه التيارات الفكرية التي تأسست لها نظم سياسية وتعليمية وثقافية واجتماعية في بلاد المسلمين من حيث يريدون أو لا يريدون .
لقد شعر الغربيون هناك أن وكلاءهم لم يعودوا قادرين على إدارة المعركة مع الطائفة الناجية المنصورة، فأرادوا القيام بهذا الدور بأنفسهم، وبشكل مباشر . ولشعورهم بالخطر، احتياطاً للسنوات القادمة أُسس "مشروع القرن الأمريكي الجديد" وهو مركز أبحاث أمريكي أنشى في عام 1997م ويعد أكبر المعاقل المعبر عن مواقف "المحافظين الجدد" الذين كانوا وراء تغير الإستراتيجية الأمريكية، وكانت سبباً في الحروب المتكررة، والتخطيط لتغيير خريطة المنطقة سياسياً، ثم يتبعها التغيير الثقافي والفكري والاجتماعي .
وهذا التطور في الحرب على الإسلام كان من أسباب اليقظة الشعبية الإسلامية، والشعور بضرورة العودة إلى الإسلام وبناء الحياة عليه . فنحن أمام مفصل تأريخي ونقطة تحول ومفترق طرق في حياة أمتنا الإسلامية؛ وهي راغبة في العودة إلى الله تعالى لا تبغي به بديلاً .
ولكن النهضة والصعود والعودة الصحيحة بحاجة إلى مشروع تفصيلي، مأخوذٌ من نصوص الوحيين وهدي سلف الأمة؛ وعلمائها الصالحين، وتجارب الحركات التجديدية والنهضوية التي كان لها دور فعال في تجديد الدين وإحيائه في النفوس وإعادة الناس إليه بعد دروسه وغيابه .
وهذه بعض "المعالم" في نهضة الأمة، وصعودها، ونُبَذ متفرقة، وخواطر متنوعة في مشروع النهضة للأمة في واقعها المعاصر . فأساس النهضة أنْ تكون راشدة على السنة والجماعة، فالسنة سفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تركها غرق، وهي الإسلام الصافي؛ وأهلها هم نقاوة المسلمين، والجماعة ووحدة الصف هو أساس الانتصار والبناء، والخلاف شرٌ كله، وسبب في الفشل، وذهاب الريح . وإضافة إلى إحياء العلم الشرعي، والتربية الإيمانية للأسر المسلمة على قيم الإسلام، وآدابه، وتأريخه، وحضارته؛ فيمكن أنْ نذكر بعض المعالم التي تناسب المرحلة؛ فمنها :
1. تجديد الخطاب الإسلامي وتحسينه ليتوافق مع ظروف المرحلة، وأصل ذلك أن كل نبي كان يبعث بلغة قومه، ومن المعاني الدقيقة لهذه اللغة: استعمال الأساليب والقوالب والصيغ المقنعة، وحسن العرض، وقوته وجزالته، ووضع الحلول، وكشف الداء والدواء .
2. العناية بالإعلام، والمشاركة الإيجابية فيه، ورسم المنهج الشرعي للإعلام، فالإعلام أصبح يدخل في كل بيت، فلا بدَّ من مخاطبة كل الناس؛ في أي مكان .
3. الحرص على دعوة المرأة؛ وبناء الأمة اجتماعياً، لأنَّ الأمة مستهدفة في بنائها الأسري.(/1)
4. إحياء شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمفهومها العام، ورسم الدورات التدريبية للمحتسبين للقدرة على التأثير في المجتمع بصورة مقبولة . وتحويل الاحتساب إلى ثقافة اجتماعية يمارسه الناس مع بعضهم، وولاة الأمر، وكل أصناف المجتمع وأطيافه المتعددة، ورفع شعار "لن نسكت" بحيث يكون لكل فرد في الأمة دورا إيجابياً وموقفاً مقاوماً للفساد الفكري والأخلاقي، وعدم إلقاء التبعة على العلماء والشيوخ وطلاب العلم بل يتحمل كل فرد جزء من المسؤولية في البناء والذود عن حياض الأمة .
5. المبادرة إلى إنشاء المراكز والهيئات في القضايا الحساسة المعروضة عالمياً للمناقشة مثل: حقوق الإنسان، وحقوق المرأة، والثقافة، والشباب، والتنمية، ووضع تصوُّر شرعي حول هذه القضايا، وبرنامج عملي موافق لأحكام الشريعة الإسلامية؛ لأنَّ هذه القضايا مفروضة على الواقع، وإنْ لم يقم بها أهل الحق قام بها غيرهم . وإيجاد مراكز فكرية وثقافية تعتمد على المرجعية الشرعية، وإغناء الأمة بشبابها وفتياتها عن البحث في الفكر الملوث والبعيد عن الاستقامة على منهاج السلف الصالح .
6. إبراز قوة الشريعة الإسلامية في ضبط حياة الناس، ووضوح قواعدها، وانضباطها، والإطلاع على القوانين المعاصرة، وبيان تميز الشريعة عليها من حيث الربانية، والانضباط، والشمولية في معالجة قضايا الأمة . لأن العالم الغربي اليوم يضغط على الحكومات بشتّى القوانين الجاهلية بحجة عدم وجود قانون منضبط محدد، وهذا الاعتراض يأتي بحجة العدالة وحقوق الإنسان، هذا من جهة؛ ومن جهة أخرى فإن اتصال العالم الإسلامي بالآخر الكافر فرض أنماطاً جديدة من التعامل بحاجة إلى معرفة أحكام الشريعة فيها، وإلا فإن لجان التحكيم في القضايا المعاصرة ستكون بديلاً للقضاة الشرعيين تحت ضغط الخبرة والإطلاع على الأنظمة والقوانين المعاصرة، وهذا خطر عظيم على مستقبل تطبيق الشريعة الإسلامية في بلاد المسلمين، وتجاوز هذه المشكلة يكون بما تقدم ذكره .
7. إحياء روح المقاومة في الأمة وعدم خنوعها للاستعمار والتبعية والتحكم فيها بأي نوع من أنواع التحكم، وهذه القضية من أهم القضايا التي يجب التركيز عليها لأنها هي التي تحفظ بيض الإسلام لاسيما في هذا الوقت الذي تنتهك فيه حرمات الدين ويعتدى فيه على بلاد المسلمين ومناهجهم وعقائدهم بصورة مكشوفة وواضحة، وعندما توجد في الأمة روح المقاومة فإنه لن يستطيع أحد أن يفرض عليها مالا تريده، أما إذا خنعت وضعفت وأصبحت ذليلة فإنه بإمكان أي أمة أنْ تستحمرها وتفرض عليها ما تريد، ولن يكون لمطالب الأعداء نهاية يصلون لها حتى نرتد عن ديننا ونسير على رغباتهم ونكون أسرى لهم .
8. إيجاد تجمعات وروابط للعلماء وطلاب العلم بحيث تكون هي المرجعية العليا للأمة ينطلقون من خلالها للتوجيه والتسديد والوقوف ضد كل من يريد بها شراً .
9. وأهم قضية في النهضة الإسلامية هو تجاوز الخلافات الشخصية، والأطر الحزبية الضيّقة، وحسن الظن بعموم المسلمين، والتشاور والتربية الاجتماعية، وبناء المؤسسات العلمية والدعوية والثقافية والاجتماعية، لأننا في عصر التكتلات والمؤسسات المتعددة الجنسيات . وإذا أخلصنا لله تعالى، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، واتخذنا الأسباب مع التوكل على الله تعالى، وابتعدنا عن آفات الأمم الأخرى فإنَّ النصر آتٍ بإذن الله تعالى، فإنَّ الأمة قريبةٌ ولله الحمد، ولم نصل بعد إلى المرحلة السيئة من الشح المطاع، والهوى المتبع، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فلا يزال في الأمة خير كثير، فأمة محمد صلى الله عليه وسلم إلى خير، والواقع يشهد بذلك، وهي بحاجة إلى ترشيد وإصلاح وتوجيه وإخلاص واجتناب للأهواء المضلة والشهوات المحرمة .
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : (مثل أمتى مثل المطر لا يدري أوله خير أم آخره) رواه أحمد والترمذي بسند حسن .
كاتب المقال: عبدالرحيم بن صمايل السلمي
المصدر: شبكة القلم الفكرية(/2)
معالم مهمة في السياسة الشرعية
عبد العزيز آل عبد اللطيف 28/2/1424
30/04/2003
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على البشير النذير والسراج المنير، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
غلب على الكثيرين الجهل بموضوعات السياسة الشرعية، وخفي عليهم ما يتعلق بمسائل الولايات وأحكامها وواجباتها، بل توهم بعضهم أن دين الإسلام لا صلة له بالولايات والسياسات، كما أحدث بعضهم قوانين سياسية بسبب جهلهم وتقصيرهم في معرفة حقيقة الشريعة ومقاصدها.
وفي هذه المقالة جملة من المعالم المهمة في السياسة الشرعية، وفق منهج أهل السنة والجماعة، نذكرها على النحو التالي:
01 إن مقصود جميع الولايات في الإسلام أن يكون الدين كله لله -عز وجل-، وإصلاح دين الخلق، فالولاة إنما نصبوا من أجل إقامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد قرر ذلك غير واحد من أهل العلم والتحقيق.
فقال الماوردي: "الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا" الأحكام السلطانية (ص 5).
وقال الطيبي في شرحه لحديث " ألا كلكم راعٍ ومسئول عن رعيته" في هذا الحديث أن الراعي ليس مطلوباً لذاته، وإنما أقيم لحفظ ما استرعاه المالك، فينبغي ألا يتصرف إلا بما أذن الشارع فيه. فتح الباري (13/113).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية " فالمقصود الواجب بالولايات إصلاح دين الخلق الذي متى فاتهم خسروا خسراناً مبيناً، ولم ينفعهم ما نعموا به في الدنيا وإصلاح ما لا يقوم الدين إلا به من أمر دنياهم. مجموع الفتاوى (28/262).
02 الواجب على أصحاب الولايات أداء الأمانات لأهلها، والحكم بين الناس بالعدل، فإذا فعلوا ذلك كان حقاً على المسلمين أن يطيعوهم وينصروهم.
كما قال تعالى : " إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل أن الله نعمّا يعظكم به إن الله كان سميعاً بصيراً . يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً" [النساء، آية 59].
قال ابن تيمية : " قال العلماء: نزلت الآية الأولى في ولاة الأمور عليهم أن يؤدوا الأمانات إلى أهلها، وإذا حكموا بين الناس أن يحكموا بالعدل، ونزلت الثانية في الرعية من الجيوش وغيرهم، عليهم أن يطيعوا أولي الأمر الفاعلين لذلك في قسمهم وحكمهم ومفازتهم، إلا أن يأمروا بمعصية الله، فإذا أمروا بمعصية الله فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق" مجموع الفتاوى ( 28/245).
وقرر أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب – رضي الله عنه- تلك الواجبات والحقوق بقوله: " حق على الإمام أن يحكم بما أنزل الله، وأن يؤدي الأمانة فإذا فعل ذلك كان حقاً على المسلمين أن يسمعوا ويطيعوا ويجيبوا إذا دُعوا " أخرجه الخلال في السنة (1/109).
ومما يحسن ذكره هاهنا – ما سطره شيخ الإسلام ابن تيمية عند حديثه عما يجب على أصحاب الولايات والمسئوليات، حيث قال: " فيجب على كل من ولي شيئاً من أمر المسلمين من هؤلاء وغيرهم، أن يستعمل فيما تحت يده في كل موضع أصلح من يقدر عليه، ولا يقدم الرجل لكونه طلب الولاية أو سبق في الطلب، بل يكون ذلك سبباً للمنع، فإن عدل عن الأحق الأصلح إلى غيره لأجل قرابة بينهما أو رشوة يأخذها منه من مال أو منفعة فقد خان الله ورسوله والمؤمنين.
إلى أن قال " ثم إن المؤدي للأمانة مع مخالفة هواه يثيبه الله فيحفظه في أهله وماله بعده، والمطيع لهواه يعاقبه الله بنقيض قصده فيذل أهله، ويذهب ماله وفي ذلك الحكاية المشهورة : إن بعض خلفاء بني العباس سأل بعض العلماء أن يحدثه عما أدرك، فقال : أدركت عمر بن عبد العزيز قيل له: يا أمير المؤمنين أقفرت أفواه بنيك من هذا المال، وتركتهم فقراء لا شيء لهم وكان في مرض موته، فقال: أدخلوهم عليّ، فأدخلوهم، وهم بضعة عشر ذكراً ليس فيهم بالغ، فلما رآهم ذرفت عيناه، ثم قال لهم يا بنيّ والله ما منعتكم حقاً هو لكم، ولم أكن بالذي آخذ أموال الناس فأدفعها إليكم، وإنما أنتم أحد رجلين، إما صالح فالله يتولى الصالحين، وإما غير صالح فلا أخلف له ما يستعين به على معصية الله، قوموا عني. فقال: فلقد رأيت بعض بنيه حمل على مائة فرس في سبيل الله، يعني أعطاها لمن يغزو عليها.
قال ابن تيمية: هذا وقد كان خليفة المسلمين من أقصى المشرق (بلاد الترك) إلى أقصى المغرب ( بلاد الأندلس) ومن جزائر قبرص وثغور الشام إلى أقصى اليمن، وإنما أخذ كل واحد من أولاده من تركته شيئاً يسيراً يقال: أقل من عشرين درهماً.
قال: وحضرت بعض الخلفاء وقد اقتسم تركته بنوه، فأخذ كل واحد منهم ستمائة ألف دينار، ولقد رأيت بعضهم يتكفف الناس – أي يسألهم بكفه-.
وفي هذا الباب من الحكايات والوقع المشاهدة في الزمان، والمسموعة عما قبله، ما فيه عبرة لكل ذي لب . مجموع الفتاوى (28/247-250) باختصار.(/1)
03 توسط أهل السنة والجماعة في مسألة نصب الإمام بين الإفراط والتفريط، فقرروا أن الإمامة واجبة، وأن يجب على المسلمين نصب خليفة(1)، فجانبوا إفراط الرافضة الزاعمين أن الإمامة منصب إلهي كالنبوة، حيث جاء في الكافي للكليتي: "باب أن الإمامة عهد من الله – عز وجل- معهود من واحد إلى واحد "(2).
كما جانبوا تفريط بعض الخوارج والمعتزلة، حيث قالت النجدات – من الخوارج- : لا يلزم الناس فرض الإمامة وإنما عليهم أن يتعاطوا الحق بينهم. (3)
وزعم الأصم – من المعتزلة- أن الناس لو كفوا عن المظالم لاستغنوا عن الإمام. كما زعم هشام الغوطي – من المعتزلة- أن الأمة إذا عصت وقتلت الإمام لم يجب حينئذٍ على أهل الحق منهم إقامة إمام (4).
05 ومن المسائل المهمة في هذا الباب: " أن ليس من المخلوقين من أمره حتم بإطلاق إلا الرسل – عليهم السلام-، فلا طاعة مطلقة إلا للرسل – عليهم السلام-.
يقول ابن تيمية في هذا المقام: " من نصب إماماً فأوجب طاعته مطلقاً - اعتقاداً أو حالاً- فقد ضل في ذلك كأئمة الضلال الرافضة الإمامية، حيث جعلوا في كل وقت إماماً معصوماً تجب طاعته، فإنه لا معصوم بعد الرسول، ولا تجب طاعة أحد بعده في كل شيء. مجموع الفتاوي (19/69).
ويقول -في موطن آخر – " وقد اتفق المسلمون على أنه ليس من المخلوقين من أمره حتم على الإطلاق إلا الرسل الذين قال الله فيهم " وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله" [ النساء: آية 64]، وأما من دونهم فيطاع إذا أمر بما أمروا به، وأما إذا أمر بخلاف ذلك لم يطع". السبعينية ص (495).
وقال الطيبي عند قوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم" أعاد الفعل في قوله: وأطيعوا الرسول، إشارة إلى استقلال الرسول بالطاعة، ولم يعده في أولي الأمر إشارة إلى أنه يوجد فيهم من لا تجب طاعته. فتح الباري (13/112).
06 ومن القضايا الملحة في هذا العصر: أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق – سبحانه وتعالى- إنما الطاعة في المعروف، كما في الصحيحين عن أن ابن عمر – رضي الله عنهما- أن النبي – صلى الله عليه وسلم- قال : " على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحبّ وكره، إلا أن يؤمر بمعصية، فلا سمع ولا طاعة" وفي حديث ابن مسعود – رضي الله عنه – مرفوعاً :" ليس -يا ابن أم عبد- طاعة لمن عصى الله – قالها ثلاث مرات- " أخرجه أحمد 5/301 وصححه الألباني في الصحيحة: (2/39).
وقال الحافظ ابن حجر : " ومن بديع الجواب قول بعض التابعين لبعض الأمراء من بني أمية لما قال له : أليس الله أمركم أن تطيعونا في قوله " وأولي الأمر منكم" فقال له : أليس قد نزعت عنكم -يعني الطاعة- إذا خالفتم الحق بقوله: " فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله" فتح الباري (13/111) .
فأهل السنة لا يوجبون طاعة الإمام في كل ما يأمر به، بل لا يوجبون طاعته إلا فيما تسوغ طاعته فيه في الشريعة، فلا يجوّزون طاعته في معصية الله وإن كان إماماً عادلاً. انظر منهاج السنة لابن تيمية (3/387-390) .
وحذّر سلفنا الصالح من تلك الطاعة الفاسدة – طاعة المخلوق في معصية الله -تعالى-.
فقد سئل عبادة بن الصامت – رضي الله عنه- أرأيت إن أطعت أميري في كل ما يأمرني به" قال : يؤخذ بقوائمك فتلقى في النار، وليجيء هذا فينقذك" الاستدكار (14/7) .
وقال الحسن البصري – رحمه الله -: سيأتي أمراء يدعون الناس إلى مخالفة السنة فتطيعهم الرعية خوفاً على دنياهم، فعندها سلبهم الله الإيمان وأورثهم الفقر ونزع منهم الصبر ولم يأجرهم عليه.
وقال الشعبي: إذا أطاع الناس سلطانهم فيما يبتدع لهم أخرج الله من قلوبهم الإيمان وأسكنها الرعب .
وقال يونس بن عبيد : إذا خالف السلطان السنة وقالت الرعية قد أمرنا بطاعته أسكن الله قلوبهم الشك وأورثهم التطاعن. الإبانة الصغرى لابن بطة ص (155).
وإذا كان سلفنا الصالح قد حذّروا من غلو المتصوفة في شيوخهم، حيث زعموا أن من قال لشيخه لِمَ فقد هلك، كما حذّروا من غلو الرافضة في أئمتهم، فادعوا لهم العصمة المطلقة، وأوجبوا طاعتهم في كل شيء. فإننا نحذّر عامة المسلمين من الطاعة العمياء لرؤسائهم وحكامهم، ونذكّرهم بقصة سرية عبدالله بن حذافة – رضي الله عنه – عندما أمر أصحابه أن يوقدوا ناراً ويدخلوها، فلما بلغ ذلك النبي – صلى الله عليه وسلم- قال : " لو دخلوها ما خرجوا منها، إنما الطاعة في المعروف" أخرجه الشيخان. قال ابن القيم – معلقاً على تلك القصة- :" فإذا كان هذا حكم من عذّب نفسه طاعة لولي الأمر، فكيف من عذّب مسلماً لا يجوز تعذيبه طاعة لولي الأمر!.(/2)
وإذا كان الصحابة المذكورون لو دخلوها لما خرجوا منها مع قصدهم طاعة الله ورسوله بذلك الدخول، فكيف بمن حمله على ما لا يجوز من الطاعة الرغبة والرهبة الدنيوية ؟ زاد المعاد (3/370).(1) انظر الأحكام السلطانية للماوردي ص 5، وتفسير القرطبي 1/264 والإمامة العظمى للدميجي ص 45-64
(2) أصول الكافي 1/227، وانظر أصول الشيعة للقفاري 2/654
(3) انظر الفصل لابن حزم 4/149 3
(4) انظر أصول الدين لعبد القاهر البغدادي ص(/3)
معاني الإحسان
الأستاذ الشيخ عبد السلام ياسين حفظه الله
لفظ "الإحسان" يدل على معاني ثلاثة ورد بها القرآن ووردت بها السنة:
1. الإحسان بأن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك.
2. الإحسان إلى الناس، كالوالدين والأقربين واليتامى والمساكين والمسلمين وسائر الخلق أجمعين.
3. إحسان العمل وإتقانه وإصلاحه، سواء العمل العبادي أو العادي أو المعاملاتي.
مجموع هذه الدلالات يعطينا مواصفات المومن الصالح في نفسه وخلقه وتعامله مع المجتمع، يعطينا الوصف المرغوب لعلاقات العبد بربه وبالناس وبالأشياء. علاقته بربه تكون إحسانية إن حافظ على ذكره لايفتر عن مراقبته وخشيته ورجائه ودعائه ومناجاته. بهذا الإحسان في عبادة ربه يطيب قلبه وتجمل أخلاقه وتصلح نواياه وأفعاله فيكون للخلق رحمة يعم نفعه العالم الأقرب فالأقرب. ونفعه للمجتمع وللناس كافة لا يتوقف على حسن النية وجمال القصد والإسراع إلى الفعل فقط، بل يتوقف أيضا، وبالمكانة المؤكدة، على خبرته ومهارته وقدرته على إتقان ما هو موكول إليه من أعمال.
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه البيهقي رحمه الله عن عائشة أم المومنين رضي الله عنها: "إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه". ومن حديث مسلم قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء". في هذين الحديثين نجد المعنى الثالث للإحسان عائدا إلى المعنى الأول، حصول الأول متوقف إلى حد على حصول الثالث. ويعم حب الله تعالى المحسنين، أكملهم نصيبا من حبه تعالى من عبده ذاكرا نافعا للعباد متقنا مجيدا، يعطيه إتقانه الوسائل الضرورية لإرضاء الحاجات الدنيوية لنفسه وعائلته وأمته، وتؤهله خدمته وإنجازاته الدنيوية للتقرب من الله رب العباد من خلال هذه الإنجازات نفسها.
وردت عبارة (إن الله يحب المحسنين) أو (والله يحب المحسنين) في سورة البقرة، وفي سورة آل عمران مرتين، وفي المائدة مرتين. وفي القرآن آيات عديدة تعد أن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، وأن الله لا يضيع أجر المحسنين، وأن البشرى للمحسنين. حض على الإحسان متكرر، فما هي حقيقة الإحسان تفصيلا؟
بعد أن وضعنا على رأس هذه الفقرة المعاني الثلاثة مرتبة، نستمع إلى بيان ترجمان القرآن رسول رب العالمين لنضع الإحسان في مكانته من الإسلام والإيمان. فإن الإحسان ما هو معنى عائم هكذا، عام الدلالة بعموم المدلول اللغوي، بل الإحسان رتبة في الدين ودرجة في التقوى، لها الأهمية القصوى. الإحسان غاية الغايات ومحط نظر ذوي الهمم العالية من الرجال. لأهمية الإحسان هذه البالغة شاء الله جل شأنه أن يرتب للصحابة رضي الله عنهم ولنا من بعدهم حادثة تلفت النظر وتعلق بالخيال، وتخاطب العقل والوجدان، لكيلا يفهم المسلمون دينهم فهما مسطحا. هذه الحادثة هي نزول جبريل عليه السلام لاستجواب الرسول الكريم وهو بين أصحابه في مجلس تعليمه. رأوا الملك المقرب جميعا وشهدوا الحوار. هذه لوحة خالدة للتعليم الرباني يرويها الشيخان وأبوداود والنسائي عن أبي هريرة وأبي ذر رضي الله عنهما بصيغة مقتضبة نمسك منها عبارة أن الإحسان: "أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك". في هذه الرواية يقول الحبيب آخر الحديث: "هذا جبريل جاء ليعلم الناس دينهم".
نأخذ الرواية الأتم، ننقلها بتمامها لأهميتها البالغة، أخرجها مسلم وأبوداود والنسائي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لايرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد. حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا محمد! أخبرني عن الإسلام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا. قال: صدقت. قال: فعجبنا له يسأله ويصدقه. قال: فأخبرني عن الإيمان. قال: أن تومن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتومن بالقدر خيره وشره. قال: صدقت. قال: فأخبرني عن الإحسان. قال: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك. قال: فأخبرني عن الساعة. قال: ما المسؤول عنها بأعلم من السائل. قال: فأخبرني عن أماراتها. قال: أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان. قال: ثم انطلق. فلبثت مليا (أي قليلا) ثم قال لي: يا عمر أتدري من السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم".(/1)
نعم يا حبيب الله أنت المعلم نعم المعلم جزاك الله عن هذه الأمة ما هو أهله. لكن رحمته سبحانه بنا، وحرصه على أن نتعلم ديننا كاملا وافيا، لما يعلم من قصور فهمنا وغلبة النسيان علينا واختلاط معالم الأمور في ذاكرتنا، بعثت معلما مساعدا سماويا هو رفيقك ومحاذيك في إسرائك ومعراجك. عليك صلاة الله وسلامه وعلى الملك الكريم.
الإحسان أن نعبد الله كأننا نراه. درجة ثالثة بعد الإسلام والإيمان، فوقهما، بناء عليهما لا تحليقا، لاإيمان بلا إسلام، ولا إحسان بلا إيمان.
الله سبحانه أحسن صبغة وأحسن قيلا. وهو أحسن الخالقين. ومن إحسانه يفيض الخير على من أقرض الله قرضا حسنا، وعلى من أبلى بلاء حسنا. منه إلينا الرزق الحسن والمتاع الحسن في الدنيا والحسنى وزيادة في الآخرة إن نحن أحسنا في هذه الدنيا حسنة، وهاجرنا فيه سبحانه ليبوئنا في الدنيا حسنة. يزيدنا حسنا إن اقترفنا حسنة ويعطينا إن أحسنا الدعاء في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة.
له الأسماء الحسنى سبحانه. دعانا رسوله المصطفى بالموعظة الحسنة، فإن نحن استجبنا لربنا وصدقنا بالحسنى أعطانا الحسنى في هذه الدار، وجعلنا من المبعدين عن النار مع الذين سبقت لهم منه الحسنى.
أمرنا أن نتبع أحسن ما أنزل إلينا من ربنا، وهو كتابه العظيم وسنة رسوله الكريم، وفي كتابه وسنة رسوله الإحسان إلى الوالدين، والدفع بالتي هي أحسن رفقا بالخلق وملاطفة، وأن نقول للناس حسنا، وأن نجازي بالإحسان إحسانا.
خلقنا سبحانه في أحسن تقويم، ثم ردنا أسفل سافلين في دار الامتحان ليبلونا أينا أحسن عملا، فمن آمنوا وعملوا صالحا كان لهم أجر غير ممنون، وكلما كان إيمانهم أكمل وعملهم أحسن كانوا أقرب إلى نيل كمالهم الأخروي حيث يحشرون إلى دار النعيم في أحسن تقويم. خرجوا من الامتحان صالحين. هنالك في مقعد الصدق يقال لهم ما قيل للنبيين والصديقين والشهداء والصالحين: سلام على إبراهيم كذلك نجزي المحسنين. سلام على آل ياسين إنا كذلك نجزي المحسنين. (لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين). (سورة الزمر، الآية: 33) هنالك يستبشرون (آخذين ما آتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين، كانوا قليلا من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون وفي أموالهم حق للسائل والمحروم). (سورة الذاريات، الآيات:16-19).
وللمحسنات مثل ذلك، لنساء نبي الله وحبيبه القانتات التائبات العابدات قيل في الكتاب العزيز: (وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما). (سورة الأحزاب، الآية: 29) ولكل مومنة قيل ذلك يا من يسمع كلام الله، ويفهم عن الله، يرجو الله، ويخاف الله، ويحب الله. لا إله إلا الله. والحمد لل(/2)
معاوية بن زهير
د.عثمان قدري مكانسي
othman47@hotmail.com
قال أبو أسامة ، معاوية بن زهير بن قيس بن الحارث بن سعد بن ضبيعة بن مازن بن عدي بن جشم بن معاوية حليف بني مخزوم قال ابن هشام : وكان مشركا وكان مر بهبيرة بن أبي وهب وهم منهزمون يوم بدر وقد أعيى هبيرة ، فقام فألقى عنه درعه وحمله فمضى به قال ابن هشام : وهذه أصح أشعار أهل بدر
ولما أن رأيت القوم iiخفوا
وأن تركَت سراة القوم صرعى
وكانت جمّةٌ وافت iiحِماما
نُصَدُّ عن الطريق iiوأدركونا
وقال القائلون مَنِ ابنُ قيسٍ؟
أنا الجُشمي كيما iiتعرفوني
فإن تكُ في الغلاصم من iiقريشٍ
فأبْلغْ مالكاً لمّا iiغُشينا
وأبلغ – إن بلغْتَ- المرءَ iiعنا
بأني إذ دُعيتُ إلى iiأفيد
عشيّةَ لا يُكرُّ على iiمضافٍ
فدونَكُمُ – بني لأيٍ – iiأخاكم
فلولا مشهدي قامت iiعليهِ
دفوعٌ للقبور iiبمنكبيها
فأقسم بالذي قد كان iiربي
لسوف ترون ما حسبي إذا iiما
فما إن خادرٍ من أُسْد iiترجٍ
فقد أحمى الأباءَةَ من كُلافٍ
بخلٍّ تعجز الحلفاء iiعنه
بأوشك سَورةً مني إذا iiما
ببيض كالأسنة iiمرهفات
يقول ليَ الفتى سعدٌ iiهدِيّاً ... وقد شالت نعامتهم iiلنفرِ
كأن خيارهم أذباح iiعِترِ
ولُقّينا المنايا يوم iiبدرِ
كأن زُهاءَهم عيطان iiبحرِ
فقلت : أبو أسامةَ غير iiفخرِ
أبيّن نسبتي نَقراً iiبنََقرِ
فإني من معاوية بن بكرِ
وعندك مالَ إن نبّأت iiخبْري
هبيرةَ ، وهو ذو علم iiوقدْر
كرَرْتُ ولم يضق iiبالكرصدري
ولا ذي نعمة منهم iiوصهرِ
ودونكِ مالكاً يا أم iiعمروِ
موَقّفَة ُ القوائم ، أمُّ iiأجرِ
كأن بوجهها تحميمَ iiقِدْرِ
وأنصابٍ لدى الجمَرات iiمُغْرِ
تبدّلتِ الجلودُ جلودَ iiنمْرِ
مُدِلٍّ عنبسٍ في الغيل iiمُجري
فما يدنو له أحد iiبنقرِ
يواثب كلَّ هجهَجَةٍ iiوزجرِ
حبَوْتُ له بقرقرةٍ iiوهَدْرِ
كأن ظُباتهنّ جحيمُ iiجمْرِ
فقلت: لعلّه تقريبُ iiغدْرِ
إضاءة :
رأى المشركين منهزمين يوم بدر – وهو بدوي مشرك – فاستغل هروبهم وضعفهم وسلب منهم بعض أسلحتهم التي بقيت في أيديهم . ومن بينها درع هبيرة بن أبي وهب.
وعلى الرغم أنه حليف للمشركين لم يراعِ حلفهم حين سنحت له الفرصة أن ينال شيئاً .
يصف الشاعر هروب المشركين " شالت نعامتهم " أمام المسلمين الذين دهموهم كموج البحر العالي الهائج " كأن زهاءهم عيطان بحر " وقتلوا سادة المشركين وذبحوهم كما تذبح القرابين أمام صنمها " عِتر ".
ثم يفخر الشاعر بنفسه : فهو من بني جشم ، من معاوية بن بكر . ولن يعلوه سادة قريش إن طاولوه بأنسابهم " أبين نسبتي نقراً بنقرٍ" وهو بطل صنديد يكر على عدوه بشجاعة وعزم ، وأنه يحمي العشيرة أن تُذَلّ .. ومن صور الذل أن القتيل إذا تُرك في العراء جاءت الضبع الشبقة تواقعه قبل أن تأكله..
فلولا مشهدي قامت عليه موقفة القوائم أم أجر
والأجر جمع "جرو " كما الأدل جمع" دلو ".
ثم هو صنو الأسود يخرجها من عرينها ويواثبها ويقضي عليها . وهو يرفل في حمائله مشابها مشية السبع في أرضه، لا يخاف ولا يخشى أحدا(/1)
معايير التصويب
الكاتب: الشيخ د.سلمان بن فهد العودة
هل هناك معايير منهجية لإصدار حكم بتخطئة سلوك أو فكر ما، أو تصويبه؟
يقيناً: نعم. ثمة معايير منضبطة، نلتمس منها ما يلي:
أولاً: المعيار الشرعي
ويتلخص في ثلاثة أصول:
1- الكتاب الكريم: (...وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ...) [فصلت:41-42] فإنه محكم قطعي الثبوت بإجماع المسلمين قاطبة، أما دلالته فبحسب الحال.
- فمنه قطعي الدلالة لا تجوز مخالفته، وهو كثير، وفيه أبواب الإيمان وأصول الدين، وضوابط الشريعة التي تحكم بناءها.
- ومنه ظني الدلالة، وهذا يرجح فيه بحسب اختلاف العلماء، وأقاويل أئمة اللغة وأهل التفسير.
وقد يلحق قوم نصًّا بالقطعي، وآخرون بالظني، وهذا قليل، ويجرى فيه الاجتهاد والترجيح.
2-السنة النبوية: فما ثبت وصحّ من حديث النبي –صلى الله عليه وسلم- وظهرت دلالته، ولم يوجد ما يعارضه، لم يسع أحداً مخالفته.
وقد يوجد في السنة أيضاً ما يقطع الدارسون المحققون بأنه قطعي ثابت (متواتر)، ويخفى على غيرهم ممن ليس من أهل الاختصاص، وهذا يمكن لنا تسميته "القطعي النسبي"؛ لأنه ثابت يقيناً عند من درس الأسانيد ومحّصها، وتتبّع الطرق والروايات وجمعها، وليس كذلك عند غيرهم من علماء الفقه والأصول، فضلاً عمّن سواهم، وأهل الحديث يختلفون في الأحكام والنظر.
وهذا يختلف حكمه عند من يقطع به - فيلزمه اعتقاداً وعملاً - عن حكمه عند من لا يقطع به، أو لا يقول به أصلاً، أو لا يعلم به.
3- إجماع العلماء: والمقصود الإجماع القطعي الثابت، مع أن الاستقراء يفيد أن ما عليه جمهور أهل العلم هو –غالباً- أقرب إلى الصواب، لكن لا يُقال: إنه صواب مقطوع.
ثانياً: المعيار المصلحي.
والشرع جاء بالمصلحة، فما يحقق المصالح، ويدفع المفاسد فهو صواب، وما يجر المفاسد ويفوّت المصالح فهو خطأ، وما كانت مصلحته أرجح فهو مطلوب، وما كانت مفسدته أرجح فهو مطَّرح.
وحين يقرر العلماء أن العمل الصالح هو ما كان خالصاً صواباً، كما قال الفضيل بن عياض في تفسير "أيكم أحسن عملاً"، وقرره كافة أهل العلم؛ فإن الخالص هو ما حسنت فيه النية، والصواب هو ما كان على وفق سنة النبي –صلى الله عليه وسلم- إن كان في العبادات وقضايا التشريع، أو ما كان يحقق المصلحة العامة إن كان في مسائل الحياة المترددة، أو في دائرة المسكوت عنه، ولهذا بحث خاص.
وقد وضع الأصوليون قواعد ضابطة لهذا الباب، مثل قاعدة جلب المصالح ودرء المفاسد، وقاعدة تقديم أعلى المصلحتين، ودفع أعلى المفسدتين، وقاعدة دفع المفسدة مقدم على جلب المصلحة، والمقصود: عند التساوي والتردّد.
وإلا فإن المصلحة الراجحة تُطلب ولو كان في طيها مفسدة دونها، والمفسدة الراجحة تُدفع ولو ترتب على دفعها فوات مصلحة أقل، وهذا من الميزان العدل.
لكن كيف نعرف المصلحة؟
تُعرف - فيما لا نص فيه - بالعقل والنظر والفهم والاستنباط وقوة الإدراك. فمن كان أوسع عقلاً، وأعظم تجربة، وأكثر اطلاعاً واستيعاباً لمقاصد الشريعة، فهو أقدر على معرفة الصواب الذي يتعلق بالمصالح.
وأمور المصالح في غاية الأهمية والجدارة بالدرس والمناقشة؛ لأننا نجد في حياة الناس الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والدعوية إشكالات وتناقضات واختلافات واسعة، وكل طرف يستدل بدليل، وقد لا يكون الدليل مستقلاً بهذه المسألة إلا مع مراعاة جانب المصلحة، وقد يبالغ المستدل في الاتكاء على نص ملتبس بما يوقع الحيرة والشك، مع أن مدار الأمر –حقاً- على رعاية المآلات والمصالح، واستحضار جانب المقاصد الكبرى للشريعة، وهو الفقه الأكبر الذي لا يحسنه إلا الجهابذة (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) [فصلت:35].
وليس المراد بالمصلحة مصلحة الفرد أو الحزب أو الطائفة أو الجماعة، وإنما مصلحة المجموع، الأمة أو البلد أو الشعب بأكمله، إلا إن كانت القضية خاصة فيُنظر فيها لمصلحة الفرد أو الطائفة بحسب التعلق.
والمحُتَكم هنا إلى (...الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ...)[النساء: من الآية83] من أهل العلم الديني والدنيوي، ومن حكماء الأمة وعقلائها وذوي الرأي فيها.
قال الإمام العز بن عبد السلام في قواعد الأحكام: "وأما مصالح الدنيا وأسبابها ومفاسدها فمعروفة بالضرورات والتجارب والعادات والظنون المعتبرات، فإن خفي شيء من ذلك جلب من أدلته، ومن أراد أن يعرف المتناسبات والمصالح والمفاسد، راجحها ومرجوحها فليعرض ذلك على عقله بتقدير أن الشرع لم يرد به، ثم يبني عليه الأحكام، فلا يكاد حكم منها يخرج عن ذلك، إلا ما تعبد الله به عباده، ولم يقفهم على مصلحته أو مفسدته، وبذلك تَعرِفُ حسن الأعمال وقبحها" ا.هـ.(/1)
وكلما كان الاجتهاد أوسع بحيث تديره مجموعة من أهل العلم والفضل والدراية، كان أفضل من الاجتهاد الفردي، وأخلق بالصواب، وأبعد من الشطط، خاصة في هذا العصر الذي تشابكت فيه المصالح، وتداخلت الاختصاصات، واتسعت دائرة المعارف والعلوم، وسهل الاتصال بين فئات الناس.
فالحاجة ماسّة إلى مجامع علمية شرعية للبحث والفتوى والنظر، يتنادى إليها علماء الإسلام من كل بلد، وإذا أمكن أن تكون تلك المجامع العلمية التي تدرس وتحرر بمعزل عن المؤثرات السياسية، كان ذلك أدعى إلى حيادها، وقدرتها على النظر المتوازن، ولكن هذا مما عمّت به البلوى في بلاد الإسلام خاصة، فيُراعى الموضوع المدروس وطبيعته وصلته بالمصالح السلطانية وغيرها.
ثالثاً: المعيار الذاتي
إذ إن الفرد قادر في العديد من الحالات على إدراك الخطأ والصواب، والمرضي والمذموم، بواسطة مؤشر في قلبه يؤكد له أنه يفعل خطأ، أو يطمئنه أنه مصيب.
وهذا ما نجده في قول النبي –صلى الله عليه وسلم-: "استفت قلبك، واستفت نفسك- ثلاث مرات- البر ما اطمأنّت إليه النفس، والإثم ما حاك في النفس، وتردّد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك". رواه أحمد والدارمي عن وابصة بن معبد.
إنسان يسأل عن نظرة أطلقها؟ قلبه يفتيه؛ لأنه يشهد أثر هذه النظرة عليه مرضاً وشهوة وحرماناً، أو يشهد أثرها صرفاً للبصر، أو يشهد أثرها إعراضاً وعدم مبالاة.
وهذا يقع غالباً في المسائل الشخصية التي يتدين الإنسان فيها بينه وبين ربه في مسائل البر والإثم، وقد يقع الحرج أو الوسوسة فيكون ما في القلب دليلاً يفتي فيه الإنسان نفسه، لكن لا يفتي غيره، وهي مسألة لطيفة.
هذه بعض معايير معرفة الخطأ والصواب، وصدق الله إذ يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) [لأنفال:29]. ويقول سبحانه: (بَلِ الْأِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ) [القيامة:14-15] فالنفس الصافية كالزجاج تنعكس عليها الحقائق.(/2)
معايير العقلاء
... أ.د. جعفر شيخ إدريس
كما أن هنالك خصائص بدنية تميز الناس باعتبارهم بشراً رغم اختلاف أزمانهم وأماكنهم وبيئاتهم، فهنالك أيضاً خصائص روحية تميزهم باعتبارهم بشراً رغم كل تلك الاختلافات الزمانية والمكانية والبيئية. فالناس ليسوا إذن كما تصورهم بعض النظريات الغربية سجناء في خلايا ثقافية هي التي تحتم عليهم كيف يفكرون وما ذا يختارون. كلاَّ؛ بل إن ثقافات الناس المختلفة التي تشمل بالمعنى الحديث عقائدهم وتصوراتهم وقيمهم أشبه ما تكون بالمدن الحديثة. فكل مدينة لها خصائصها وطابعها، لكنها مرتبطة بالمدن الأخرى بشوارع معبدة وهواتف وغير ذلك من وسائل المواصلات والاتصالات. لو أن الناس كانوا كما تُصَوِّرهم أمثال هذه النظريات لما استطاعوا أن يتفاهموا ولا أن يغيروا من عقائدهم أو تصوراتهم التي أورثتهم إياها ثقافاتهم.
إن هذا ما كان ليمكن لولا وجود تلك الخصائص الروحية المشتركة والتي من أهمها ما يمكن تسميته بـ (المعايير العقلانية) التي يقر بها كل الناس باعتبارها معايير صحيحة وإن لم يلتزموا باستعمالها أو قبول نتائجها في كل وقت.
بعض الناس ينظر إلى خلافات الناس فيصيبه اليأس والقنوط: هذا مؤمن وذاك ملحد. هذا مسلم وذاك نصراني أو يهودي أو بوذي. هذا سني وذاك شيعي. هذا من جماعة كذا وحزب كذا وذاك من جماعة أخرى وحزب آخر. لو أن هذا اليائس البائس تذكر أن له عقلاً وأن له معايير يقيس بها ما يقبل وما يرفض لما أصابه هذا اليأس.
نذكر فيما يلي على وجه الاختصار شيئاً من هذه المعايير، ونبين أنها كلها مما افترض القرآن في الناس معرفته، ولذلك حاكمهم إليه. وهذا من أقوى الأدلة على أن هذا الدين هو بلا شك دين الفطرة التي تخاطب الناس باعتبارهم بشراً لا باعتبارهم أصحاب ثقافة محدودة بزمان أو مكان معين.
من هذه المعايير المشتركة بين جميع العقلاء من البشر:
1 - القوانين المنطقية:
أعني القوانين التي ننتقل بها من المقدمات إلى نتائجها اللازمة عنها، والتي نعرف بها أن كل كلام يخالفها لا بد أن يكون كلاماً باطلاً. من هذه القوانين، بل أهمها وجوهرها ما يسمى بـ (قانون الاتساق) أو (عدم التناقض). فكل الناس، بل حتى الأطفال يدركون أن الكلام المتناقض كلام باطل. فحتى الطفل يدرك أن قولك له: «لقد جئتك اليوم بهدية جميلة، لكنني لم آتك اليوم بهدية» كلام لا معنى له. وكل إنسان حتى الأطفال يدركون أن قولك اشتريت سيارة غداً أو سأشتري سيارة بالأمس، كلام متناقض لا معنى له. لكن ما كل الكلام المتناقض يكون بهذه البساطة والوضوح، بل قد يكون غامضاً يحتاج إلى نظر وتدقيق. من ذلك مثلاً أن المعتزلة كانوا يقولون إن الإنسان خالق أفعاله. لكن هذا معناه أن بعض الأشياء لا يخلقها الله تعالى، وهذا يعني أن الله ليس بخالق لكل شيء وهذا معناه تكذيب القرآن الذي يقرر {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر: 62]، وتكذيب القرآن كفر. فهل نقول لكل من قال ذلك القول إنك كافر؟ كلاَّ؛ فقد كان من إنصاف أهل السنة قولهم إنَّ لازم القول ليس بقول، أي إن القول الذي يلزم منطقاً وعقلاً عن كلام تقوله لا ينسب إليك قوله؛ لأنك قد تكون جاهلاً بلزومه عن قولك. لكن بيان هذا اللزوم من أحسن الوسائل التي يبين بها بطلان الكلام. من أمثلة ذلك في كتاب الله أن اليهود عندما أرادوا أن ينكروا رسالة النبي -صلى الله عليه وسلم - جعلوا إنكارهم هذا تحت قاعدة عامة هي قولهم: {مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ} [الأنعام: 91] لكن الذي يلزم عن هذه القاعدة العامة أن الله ـ تعالى ـ لم ينزل التوراة على موسى. لكن اليهود يؤمنون بأن التوراة كلام الله؛ ولذلك سألهم القرآن الكريم سؤالاً استنكارياً، فقال ـ تعالى ـ: {مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى} [الأنعام: 91]؟
لعل أعظم موضع استعمل فيه القرآن الكريم هذا المعيار هو في قوله ـ تعالى ـ: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء: 82].(/1)
فهذه الآية لا تقول فقط إن القرآن الكريم لا تناقُض فيه، بل تجعل عدم هذا التناقض دليلاً على كونه من عند الله تعالى؛ لأنه لا يمكن لمخلوق أن يكتب كتاباً في حجم القرآن الكريم وتعدد موضوعاته وخطورتها والمدة الطويلة التي نزل فيها، ثم لا يكون في ما قال تناقض. ولكي تعرف مصداق ذلك انظر في أي كلام كتبه بشر على مدى بعض الأعوام فستجده هو نفسه يعترف لك بأن ما قاله في سنة كذا أو شهر كذا ينقض ما قاله بعد ذلك في سنة كذا وشهر كذا. وانظر أيضاً إلى النظريات البشرية كالديمقراطية والرأسمالية والاشتراكية وغيرها تجد فيها من التناقض ما الله به عليم. وقد كان وجود مثل هذا التناقض السبب المهم والأساس في إنكار بعض النصارى ـ النصارى المسمون بالليبراليين ـ أن يكون ما يسمونه بالكتاب المقدس هو كله من عند الله تعالى. وكان أيضاً سبباً في إنكار الكثيرين منهم لهذا الدين.
ولأن هذا المعيار مما فطر الله ـ تعالى ـ عليه البشر قال شيخ الإسلام ابن تيمية عن علم المنطق اليوناني إنه علم لا يحتاج إليه الذكي، ولا يستفيد منه البليد. ولو أن الشيخ قال: لا يحتاج إليه العاقل لكان أحسن؛ لأن الإنسان مهما كانت درجته في البلادة لا بد أن يكون له إلمام بهذا المعيار، ولا بد له من استعماله في حياته اليومية.
ولذلك فإنني كنت أعجب من قول بعض الغربيين: إن المنطق شيء خاص بثقافتهم، وأن أمماً أخرى لا تعرفه. بل إن أحد المستشرقين المشاهير تلقَّف هذا القول الظاهر بطلانه فزعم أنه يصدق على العرب، فقال متحدثاً باسمهم.
والذي ينتج عن هذا أننا إذا اكتشفنا شيئاً من التناقض في القرآن؛ فإن هذا يكون دليلاً على غناه وتجاوزه المثمر للفكر التجريدي المجدب. يمكن الاحتفاظ بعبارتين متناقضتين؛ لأن كل واحدة منهما تكشف جانباً من الحقيقة تهمله الأخرى؛ وعليه فإن العبارتين وإن لم يمكن الجمع بينهما منطقياً تعطياننا معاً صورة أكمل للحقيقة(1).
أقول بل إن العرب شأنهم في ذلك شأن سائر البشر لا بد لهم من إدراك بطلان الكلام المتناقض، وفي كلامهم من الشهود على ذلك ما لا يحصى. وعليه فكما أن هذه المعايير ليست من خصائص الأوروبيين فهي كذلك ليست من خصائص العرب. يدلك على ذلك أن كل أمة من الناس لا بد لها من لغة يتفاهم بها أفرادها، ولا بد أن يكون في هذه اللغة نفي وإثبات، ولا بد للمتكلمين بها من أن يعرفوا أن الشيء لا يمكن أن يثبت وينفى في وقت واحد؛ وهذا هو قانون الاتساق.
وهذا يدلك على خطأ الذين قالوا بتعدد الحق من الأصوليين إذا عنوا به أن يكون الأمر الواحد مُثْبَتاً ومنفياً، أو حلالاً وحراماً أو جائزاً وممنوعاً. ما أروع ما قال الإمام الشاطبي: الشريعة كلها ترجع إلى قول واحد في فروعها وإن كثر الخلاف، كما أنها في أصولها كذلك لا يصلح فيها غير ذلك؛ والدليل عليه أمور...(2).
لكن ما زال بعض الناس يستدلون على وجود مثل هذا التعدد المتناقض بقصة اختلاف الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ في فهمهم لقول النبي -صلى الله عليه وسلم - : «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يصلِّيَنَّ العصر إلا في بني قريظة». فيزعمون أن الرسول -صلى الله عليه وسلم - أقر الفريقين رغم تناقض موقفيهم. وحاشاه -صلى الله عليه وسلم - أن يفعل. إنه -صلى الله عليه وسلم - إنما أقر كل فريق على ما فعل، وهذا يتضمن عدم إقراره له على ما أنكر. فالذين صلوا قبل بلوغ بني قريظة كانوا يرون أن تأخيرها خطأ. والذين أخروها كانوا يرون أن تأجيلها خطأ. فالرسول -صلى الله عليه وسلم - بيَّن لهم أن كِلا الأمرين جائز وهما أمران لا تناقض بينهما؛ فكما أنه لا تناقض بين أن تقول لإنسان إن الصلاة في أول الوقت جائزة وفي آخره جائزة، فكذلك لا تناقض في أن تكون الصلاة قبل بلوغ بني قريظة جائزة وبعد بلوغها جائزة.
وللحديث بقية.
________________________________________
(*) رئيس الجامعة الأمريكية المفتوحة.
(1) انظر إن شئت الرد على هذا في مقال لنا قديم منشور ضمن بحوث لآخرين في كتاب مناهج المستشرقين في الدراسات العربية الإسلامية، مكتب التربية العربي لدول الخليج، الجزء الأول، الرياض 1405هـ ـ 1985م ، ص 142ـ 241.
(2) الموافقات في أصول الشريعة، كتاب الاجتهاد، المسألة الثالثة.
معايير العقلاء (الجزء الثاني) أ.د. جعفر شيخ إدريس*
شهادة الحس:
1 ـ كل الناس في معظم أحوالهم يؤمنون بشهادة الحس، يؤمنون بأن ما رأوه بأعينهم أو سمعوه بآذانهم، أو أحسوه بجلودهم أو شموه بأنوفهم أو ذاقوه بألسنتهم هو كما شهدت به هذه الحواس. لكنهم قد ينكرون هذا في بعض الأحيان؛ لأنهم ـ لسبب من الأسباب ـ لا يريدون الاعتراف بالحقيقة التي شهدت بها. هذا الإنكار مسلك مخالف للعقل؛ ولذلك فإن القرآن الكريم يذم أصحابه في مثل قوله ـ تعالى ـ:(/2)
{وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إنْ هَذَا إلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} [الأنعام: 7].
لكن قلة من المفكرين من المسلمين وغير المسلمين يصرحون بأقوال فيها تشكيك في شهادة الحس. فهدا أبو حامد الغزالي ـ رحمه الله ـ يقول في أول كتابه (المنقد من الضلال):
فأقبلت بجد بليغ أتأمل المحسوسات والضروريات، وأنظر هل يمكنني أن أشكك نفسي فيها، فانتهى بي طول التشكك إلى أن لم تسمح نفسي بتسليم الأمان في المحسوسات أيضاً، وأخذت تتسع للشك فيها، وتقول: من أين الثقة بالمحسوسات، وأقواها حاسة البصر؟ وهي تنظر إلى الظل فتراه واقفاً غير متحرك، وتحكم بنفي الحركة، ثم ـ بالتجربة والمشاهدة ـ بعد ساعة تعرف أنه متحرك وأنه لم يتحرك دفعة (واحدة) بغتة، بل على التدريج ذرة ذرة، حتى لم يكن له حالة وقوف. وتنظر إلى الكوكب فتراه صغيراً في مقدار دينار ثم الأدلة الهندسية تدل على أنه أكبر من الأرض في المقدار. وهذا وأمثاله من المحسوسات يحكم فيها حاكم الحس بأحكامه، ويكذبه حاكم العقل ويخونه تكذيباً لا سبيل إلى مدافعته.
فقلت: قد بطلت الثقة بالمحسوسات أيضاً».
على كلام أبي حامد هذا استدراكات:
أولاً: أنه لو كانت الثقة بالمحسوسات باطلة بطلاناً مطلقاً لكان ينبغي أن ما قال له بصره إنه ظِلٌ ليس بِظل، وما قال إنه كوكب ليس بكوكب.
ثانياً: كيف اكتشف أن الظل ليس ساكناً كما قال له بصره؟ يقول: «بالتجربة والمشاهدة بعد ساعة» وهل تكون تجربة ومشاهدة إلا بالحس؟ ألا يعني هذا أن الحس هو الذي صحح ظنه بأن الظل لا يتحرك؟
ثالثاً: إن شهادة الحس داخلة في الدليل على أن الكوكب أكبر مما ظن؛ وذلك أن الناس يعرفون بالتجربة الحسية أنه كلما كان الشيء أبعد بدا أصغر. ثم وجدوا أن هنالك نسبة بين مسافة البعد وحجم الشيء المرئي.
رابعاً: قد تقول: لكن هذا إنما عرف بالعقل. ونقول: أجل! وهل تعمل الحواس إلا بمعونة العقل؟ وهل يعمل العقل إلا بمعونة الحواس؟
2 ـ إن شهادة الحواس بالنسبة للمسلم أمر يقتضيه دينه كما يقتضيه عقله؛ وذلك أن في الإسلام أصولاً لا يكتمل الإيمان ولا العمل بها إلا بالاعتراف بشهادة الحواس. القرآن الكريم كتاب لا يمكن الاطلاع عليه إلا بالنظر أو بالسماع، وهما أمران حسيان. وما يقال عن القرآن الكريم يقال عن سائر العلوم. الصلاة والصيام والحج كلها تعتمد في معرفة مواقيتها على شهادة الحس. هذه مجرد أمثلة.
وهذا يدلك على أنه لا يجوز لمسلم أن ينكر من الحقائق العلمية ما شهد الحس يصدقه. أقول الحقائق كالقول بأن شكل الأرض كروي ولا أقول النظريات كنظرية دارْوِن.
3 ـ لكن ينبغي الاعتراف بأن حواسنا لا تعطينا علماً محيطاً بما نشاهد، إنما تعطينا جانباً منه. وهذا الذي تعطيناه وإن كان جزئياً إلا أنه حق وهو كافٍ لنا في معاملاتنا الدينية والدنيوية. مثال دلك أننا نعرف الآن بسبب الآلات التي تزيد من قوة حواسنا أن ما يبدو لنا صلباً من الأجسام ليس هو بالصلابة التي نراها، وإنما هو مكون من ذرات بينها فراغات. وقل مثل دلك عما نراه سائلاً. ونحن حين نرى الشمس قد غربت أو أشرقت تكون قد فعلت دلك قبل ثماني دقائق من رؤيتنا لها تشرق أو تغرب. بل يقولون إن كثيراً مما نراه من نجوم السماء يكون قد انفجر وتبدد مند آلاف السنين. ولكن بما أننا لا نرى الشيء إلا حين ينعكس الضوء منه على أعيننا وبما أن هذه الأجرام تبعد عنا ملايين الملايين من الأميال؛ فإن ضوءها لا يصلنا إلا بعد آلاف من السنين تكون هي في أثنائها قد ماتت؛ فما نراه منها إنما هو تاريخها لا حاضرها.
لكننا في معلاملاتنا اليومية وفي ديننا إنما نتعامل مع الأشياء بحسب ما تبدو لنا؛ فأوقات الصلاة والصيام والحج لا تعتمد على الحقائق الفلكية التي يتحدث عنها علماء الفلك وإنما تعتمد على ما يظهر لنا منها. ذكر لي بعض الشباب في أحد المؤتمرات ببريطانيا ذات مرة أن رجلاً زعم أن في الإسلام ما يخالف الحقائق العلمية وضرب لذلك مثلاً بافتراضنا أن الشمس تتحرك والأرض ثابتة؛ لأننا نقول مثلاً: إن وقت الظهر يحين عندما تصير الشمس في كبد السماء. قلت له: ألستَ تجد في جرائدكم اليومية مواقيت طلوع الشمس وغروبها؟ فلو أن الناس التزموا بالحقائق الفلكية وحدها لما جاز لهم الحديث عن شروق وغروب؟ لأنه إذا كانت الشمس ثابتة بالنسبة للأرض؟ فكيف يقال إنها شرقت أو غربت؟ لكنني ذكَّرته بأن العلماء أنفسهم يسمون هذا بالحركة الظاهرية للشمس، وهي الحركة التي نعتمدها في حياتنا اليومية.
4 ـ مما يتصل بهذا ـ أعني بعدم رؤيتنا للحقائق المحسوسة كما هي في حقيقتها أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ قد يفعل ذلك رحمة بنا. من ذلك قوله ـ سبحانه ـ:(/3)
{إذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * وَإذْ يُرِيكُمُوهُمْ إذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً وَإلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ} [الأنفال: 43 - 44].
وقوله ـ سبحانه ـ:
{قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاءُ إنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ} [آل عمران: 13].
5 ـ يتعلل بعضهم في عدم إيمانه يوجود الخالق ـ سبحانه ـ أنه لا يؤمن إلا بما يرى {فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} [النساء: 153]. ويدعي بعضهم في عصرنا بأن هذا أمر يقتضيه المنهح العلمي. وكذبوا؛ فإنهم لو كانوا صادقين في عدم تصديقهم بما لا تراه أعينهم للزمهم أن لا يؤمنوا بحوادث التاريخ، وللزمهم أن لا يصدقوا بوجود شيء في الأماكن التي تبعد عنهم بُعداً لا ترى ما فيها أعينهم. بل للزمهم أن يذهبوا مذهب بعض الفلاسفة الذين كانوا يقولون إنهم إنما يؤمنون بما يرون ما داموا يرونه، ويقولون: من يدرينا أنه ما زال موجوداً حين نغمض عنه اعيننا أو نلفت عنه أنظارنا؟
وظن بعضهم أن الحواس لا تدرك إلا ما كان ذا طبيعة مادية (كما نقول بلغتنا الحديثة) ولذلك أنكروا إمكانية رؤية الخالق ـ سبحانه ـ لأن الله ليس كمثله شيء؛ فكيف تراه الأعين التي لا ترى إلا ما كان من نوع تلك المخلوقات؟ هؤلاء أخطؤوا عدة أخطاء:
فأولاً: إن كون المخلوقات تُرى (بضم التاء) لا ينهض دليلاً على أن ما كان من طبيعة غير طبيعتها لا يُرى. فرقٌ بين أن تقول: إن المخلوقات التي هي من النوع الفلاني تُرى، وبين أن تقول إنها هي وحدها التي تُرى.
ثانياً: نحن نعلم الآن أن هنالك موجودات لا تراها حواسنا المجردة لكنها تُرى بوساطة الآلات التي تساعد تلك الحواس. فنحن نرى بالتلسكوب من الأشياء البعيدة ما لا يمكن للعين المجردة أن تراه، ونرى بالميكروسكوب من الأشياء الدقيقة ما لا يمكن لها أن تراه. ولو أننا حكمنا على الأشياء بمنطق هؤلاء لقلنا إنها لا يمكن أن تُرى إطلاقاً؛ لأن الذي يُرى إنما هو الذي يمكن للعين المجردة أن تراه.
ثالثاً: نعم! إننا لا نرى ربنا ـ سبحانه ـ في هذه الحياة الدنيا؛ ولذلك عندما دعا نبي الله موسى ـ عليه السلام ـ ربه قائلاً: {رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إلَيْكَ} [الأعراف: 143] قال له الله ـ تعالى ـ: {قَالَ لَن تَرَانِي} [الأعراف: 143].
لكن الله ـ تعالى ـ: قال عن المؤمنين في الدار الآخرة: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22 - 23]
فدل ذلك على أن العلة في عدم رؤيتنا لخالقنا في هذه الحياة هو طبيعة أعيننا لا ذات خالقنا سبحانه. فذاته ـ سبحانه ـ لا تتغير وإنما الذي تغير هو طبيعة حواسنا. فكما أن عدم رؤيتنا للكائنات البعيدة والدقيقة لم يكن سببه طبيعة تلك الكائنات وإنما كان سببه طبيعة أعيننا، فلما ساعدتها الآلات على الرؤية رأت ما لم تكن ترى، فكذلك فإنه عندما تتغير طبيعة الناس في الجنة فيكونون مخلوقات تأكل ولا تخرج منها فضلات، وتتحرك ولا تتعب ولا تنام، فكذلك تتغير طبيعة حواسهم فترى ما لم تكن تستطيع رؤيته في دنياها.
7 ـ يقول بعض الفلاسفة المعاصرين كلاماً كان أئمة أهل السنَّة يقولونه قبلهم منذ سنين: يقولون إن ما لا تمكن مشاهدته بحال من الأحوال فليس بموجود. ولذلك فإن أهل السنة الذين كانوا يقولون ذلك كانوا يقولون للجهمية ومن ذهب مذهبهم في صفات الله ـ تعالى ـ: إنكم تعبدون عَدَماً. وقد كان هذا التصور العدمي لصفات الخالق ـ سبحانه ـ من أكبر الأسباب التي تعلق بها بعض الملحدين في الغرب. كانوا يقولون لزملائهم المؤمنين: عن أي شيء تتحدثون؟ شيء لا يمكن أن تراه الأعين ولا أن تسمعه الآذان ولا يُحَس ولا يُشَم ولا يُذاق؟
وقد ذكر الإمام أحمد في أول كتابه في الرد على الزنادقة والجهمية كلاماً نفيساً في تفسير السبب الذي أدى بالجهمية إلى هذا التصور التعطيلي لصفات الخالق. قال ـ رضي الله عنه ـ:(/4)
فكان مما بلغنا من أمر الجهم عدو الله أنه كان من أهل خراسان من أهل ترمذ، وكان صاحب خصومات وكلام، وكان أكثر كلامه في الله ـ تعالى ـ فلقي أناساً من المشركين يقال لهم السُمنية فعرفوا الجهم، فقالوا له: نكلمك؛ فإن ظهرت حجتنا عليك دخلت في ديننا، وإن ظهرت حجتك علينا دخلنا في دينك؛ فكان مما كلموا به الجهم أن قالوا له: ألستَ تزعم أن لك إلها؟ قال الجهم: نعم! فقالوا له: فهل رأيتَ إلهك؟ قال: لا. قالوا: فهل سمعت كلامه؟ قال: لا. قالوا: فشممتَ له رائحة؟ قال: لا. قالوا: فوجدتَ له حساً؟ قال: لا. قالوا: فوجدت له مجسا؟ قال: لا. قالوا: فما يدريك أنه إله؟ قال: فتحير الجهم فلم يدرِ من يعبد أربعين يوماً، ثم إنه استدرك حجة مثل حجة زنادقة النصارى...... فقال للسُمني: ألست تزعم أن فيك روحاً؟ قال: نعم! فقال: هل رأيت روحك؟ قال: لا. قال: فسمعت كلامه؟ قال: لا. قال فوجدتَ له حساً أو مجساً؟ قال: لا. قال: فكذلك الله لا يُرى له وجه ولا يُسمع له صوت ولا يُشَمُّ له رائحة، وهو غائب عن الأبصار، ولا يكون في مكان دون مكان...... فإذا سألهم الناس عن قول الله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] يقولون ليس كمثله شيء من الأشياء وهو تحت الأرضين السبع كما هو على العرش، ولا يخلو منه مكان ولا يكون في مكان دون مكان، ولم يتكلم ولا يتكلم، ولا ينظر إليه أحد في الدنيا ولا في الآخرة، ولا يوصف ولا يعرف بصفة، ولا يفعل ولا له غاية ولا له منتهى، ولا يدرَك بعقل، وهو وجه كله، وهو علم كله، وهو سمع كله، وهو بصر كله، وهو نور كله، وهو قدرة كله، ولا يكون فيه شيئان، ولا يوصف بوصفين مختلفين، وليس له أعلى ولا أسفل، ولا نواحي ولا جوانب، ولا يمين ولا شمال، ولا هو خفيف ولا ثقيل، ولا له لون، ولا له جسم، وليس هو بمعمول ولا معقول، وكلما خطر على قلبك أنه شيء تعرفه فهو على خلافه.
قال أحمد:
وقلنا: هو شيء؟ فقالوا: هو شيء لا كالأشياء. فقلنا: إن الشيء الذي لا كالأشياء قد عرف أهل العقل أنه لا شيء.
معايير
تحدث الكاتب في الحلقة الأولى عن أحد المعايير المشتركة بين جمع العقلاء من البشر بادئاً بالقوانين المنطقية.(/5)
معاً من أجل فهم أعمق
بقلم: أحمد جمال الحموي
عضو مؤسس في رابطة أدباء الشام
1 – قال تعالى: "يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون".
إنه خطاب للمؤمنين "يا أيها الذين آمنوا". إن كنت مؤمناً فإن الخطاب لك فافهمه واعمل به ومن لم يلتفت لهذا الخطاب ولم يعمل بما فيه فكأنه لا يعد نفسه مؤمناً. فمن ذا الذي يرضى لنفسه ذلك.
2 – قال تعالى "شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، فمن شهد منكم الشهر فليصمه"
أرأيت إلى هذه العلاقة بين شهر رمضان والقرآن "شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن"، حتى لكأن شهر رمضان شهر الصيام والقرآن معاً. ولا نقصد بهذا أن قراءة القرآن وتدبره لا تكونان إلا في شهر رمضان، وإنما القصد أن الداعية إلى قراءته وتدبره تزداد وتقوى في هذا الشهر، حتى إنك لتسمع قراءة القرآن في هذا الشهر أينما سرت، وكيفما توجّهت، ليلاً ونهاراً، سراً وجهاراً. فيا أيها المقصر في قراءة كتاب الله وتدبره . ويا من لم تنتظم بعد في سلك التالين المتدبرين له، اغتنم شهر رمضان واعكف على القرآن لتجمع في هذا الشهر الصيام والقرآن كما جمعهما الله سبحانه وتعالى في الآية الكريمة.
3 – وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الله عز وجل: (كل عمل ابن آدم له، إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل: إني صائم إني صائم، والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك.. للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه) رواه البخاري واللفظ له، ومسلم.
ما أحلاه من كلام وما أعذبه وأرقَّه من خطاب، لا بريق الذهب يداينه، ولا نظم الجواهر يجاريه، والحديث كله يجب الغوص على معانيه لصيد درره ولآلئه، لكن انظر أخي المسلم إلى آخر هذا الحديث (إذا أفطر فرح بفطره) وراقب نفسك هل أنت كذلك، أم أنك عند الإفطار تكون مقطب الحاجبين عابس الوجه لا يكاد يجرؤ أحد على مخاطبتك وكأنك تقول بلسان الحال إنني برم بهذه العبادة مستثقل لها، إن كنت كذلك فأنت لست ممن يعنيهم هذا الحديث فتب إلى الله واعلم أن الصوم خير كله فافرح به فذلك خير وأحسن تأويلاً.
4 – عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: (الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب منعته الطعام والشهوة فشفعني فيه. ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني فيه، قال فيشفعان) رواه الإمام أحمد والطبراني في المعجم الكبير والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم.
أخي المسلم: هل أنت حريص على الشفيع الذي يشفع لك يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه، يوم لا يغني مولى عن مولى شيئاً، إذن عليك بالصيام والقرآن، فهما شفيعان مقبولان عند الله تعالى بنص الحديث "قال فيشفعان" ثم تأمل أخي المسلم ما يقوله القرآن يوم القيامة "منعته النوم بالليل فشفعني فيه" إن القرآن هو الذي يقول منعته النوم بالليل. وهكذا ليل المسلم في شهر رمضان تلاوة قرآن وتهجد ودعاء. وليس كليل الغافلين السادرين يضيع في الكلام الفارغ، أو في المسلسلات السامة، التي تنسف فوائد الصوم الروحية والقلبية، وتقضي عليهما. فحاذر أن تكون كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً وإياك أن تنسف صومك وفوائده بأمور قد تضر ولا تنفع، وبعضها يضر دونما أدنى شك، وتذكر الحديث الشريف
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "رُب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر" رواه ابن ماجه واللفظ له، والنسائي وابن خزيمة في صحيحه والحاكم.
5 – عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوماً وحضر رمضان:
(أتاكم رمضان؛ شهر بركة، يغشاكم الله فيه "أي يحيطكم بعنايته" فينزل الرحمة، ويحط الخطايا، ويستجيب فيه الدعاء ينظر الله تعالى إلى تنافسكم فيه، ويباهي بكم ملائكته، فأروا الله من أنفسكم خيراً، فإن الشقي من حرم فيه رحمة الله عز وجل) رواه الطبراني.
أخي المسلم:
انتبه فإن الله ينظر إلى تنافسنا فيه وأي تنافس يطلبه الرب الرحيم العظيم منا؟ إنه التنافس على الخير، وليس هو سبحانه محتاجاً إليه فهو الغني عن العباد وأعمالهم:
"يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله، والله هو الغني الحميد".
فاحذر أن يراك حيث نهاك، وأن يفقدك حيث أمرك. ولتكن كما يحب وحيث يحب سبحانه، عسى أن ينظر إليك نظرة رضا وينفحك نفحة لا تشقى بعدها أبداً.
ثم إنه تباركت أسماؤه وتقدست ذاته وصفاته يباهي بنا ملائكته الذين قالوا ذات مرة:
{ أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك. قال إني أعلم مالا تعلمون } .
وهل يباهي الله تعالى ملائكته بالعصاة أو بالمقصرين؟(/1)
لا يا أخي إنما يباهي بالعاملين المجدين فاجهد كي تكون منهم وتبلغ هذه المنزلة وتحظى بهذا الشرف العظيم.
وهل من شرف فوق أن يباهي الله بنا ملائكته؟ فأين من يفهم؟ جعلنا الله جميعاً منهم. آمين.
6- عن كعب بن عجرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (احضُروا المنبرَ، فحَضَرْنا، فلما ارتقى درجة قال: آمين. فلما ارتقى الدرجة الثانية قال: آمين. فلما ارتقى الدرجة الثالثة، قال: آمين. فلما نزل قلنا: يا رسول الله، لقد سمعنا منك اليوم شيئاً ما كنا نسمعه. قال: إن جبريل عليه السلام عرض لي فقال: بَعُدَ مَنْ أدرك رمضان فلم يُغفر له، قلت: آمين، فلما رقيت الثانية، قال: بَعُدَ من ذُكرتَ عنده فلم يصلِّ عليك. فقلت: آمين، فلما رقيت الثالثة، قال: بَعُدَ من أدرك أبويه الكبر عنده أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة. قلت: آمين) رواه الحاكم وقال صحيح الإسناد.
إن جبريل عليه السلام يدعو بالإبعاد والطرد على من أدرك هذا الشهر بما فيه من غلق أبواب النيران وفتح أبواب الجنان وتصفيد الشياطين، وبما فيه من رحمة ومغفرة وعتق من النار، وسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤمن على دعاء جبريل فهل ندرك عمق هذا المعنى، لكأنه مما لا يمكن أن يتخيله رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدرك المسلم شهر رمضان ثم لا يغنم المغفرة ولا يفوز بها.
7- أ- قال صلى الله عليه وسلم: من صام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه) رواه البخاري ومسلم وأبو داوود والنسائي بألفاظ متقاربة وابن ماجة.
ب- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه) رواه البخاري ومسلم وأبو داوود والترمذي والنسائي.
هكذا شهر رمضان؛ صيام وقيام وليس صياماً فحسب، وإن اختلفت درجة الطلب وهما مدرسة تامة ومعسكر تدريبي كامل فمن صام رمضان إيماناً: بأن يصومه على التصديق الكامل بأنه فرض، وأن فيه الخير والنفع الشاملين. واحتساباً أي رغبة في الثواب، طيبة نفسه، غير كاره له ولا مستطيل أيامه، ولا مستثقل أوقاته، غُفر له ما تقدم من ذنبه، وكذلك من قام رمضان غُفر له ما تقدم من ذنبه، فإذا اجتمع الصيام والقيام كان حصول المغفرة آكد بإذن الله.
ولو أن العاقل كان يملك مال الأرض، ثم علم أنه إذا بذله غفر له لبذله طلباً لمغفرة ما تقدم من ذنبه. لكن الرب الرحيم الكريم سبحانه فتح لنا باباً سهل الولوج، قليل الكلفة، ويسر لنا سبيلاً ممهداً لتحصيل المغفرة، فهل لأحد أن يتقاعس أو يتردد. وهل تضييع هذه الفرصة إلا شعبة من الحماقة والجنون.
8- (أُرِيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أعمار الناس قبله أو ما شاء الله من ذلك، فكأنه تقاصر أعمار أمته أن يبلغوا من العمل مثل الذي بلغ غيرهم. فأعطاه الله ليلة القدر خيراً من ألف شهر) الإمام مالك في الموطأ.
أخي الحبيب:
كم تتعب إذا بقيت ألف شهر تقوم الليل؟ إنه تعب قد لا يطيقه إلا أقل القليل من الناس، لكن رحمة الله تعالى بهذه الأمة وإكرامه لها كرامة لرسول الله صلى الله عليه وسلم شيء عجيب، فقد أعطانا ربنا سبحانه وتعالى ليلة القدر إنها ليلة واحدة من قامها كانت له خيراً من قيام الليل ألف شهر كاملة، فأين تجار الآخرة الذين يعرفون علم الحساب؟!
9 – وفي حديث نبوي شريف يقول صلى الله عليه وسلم مبيناً ثواب إطعام الصائمين في رمضان: (من فطّر صائماً كان مغفرة لذنوبه وعتق رقبته من النار، وكان له مثل أجره من غير أن ينقص من أجر الصائم شيء. قالوا: يا رسول الله ليس كلنا من يجد ما يفطر الصائم! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يعطي الله هذا الثواب من فطر صائماً على تمرة أو على شربة ماء، أو مذقة لبن، وهو شهر أوله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النار، من خفف عن مملوكه فيه غفر الله له وأعتقه من النار).
أيها الأخ الحبيب:
إطعام الطعام مستحب ومرغّب فيه دائماً وفي الأيام كلها ويعظم الترغيب بذلك في شهر الصيام، والأمر متاح لأكثر الناس، فإذا فطّرت صائماً بما يتيسر لك وحسبما تستطيع، كان لك مثل أجر الصائم من غير أن ينقص أجر ذلك الصائم.
ثم إن في هذا الحديث لفتة رائعة أخرى: إنها الدعوة إلى التخفيف عمن لك عليه سلطان أو ولاية أو رعاية (من خفف عن مملوكه فيه غفر الله له..) هذا في حق من خفف عن مملوكه فكيف بالزوجة والأولاد؟! إن بعض الرجال على درجة من القسوة والغلظة قبيحة وشنيعة لا يكون بشرهم وانبساط أساريرهم إلا للغرباء ولا يرى الأهل منهم إلا الوجه الكالح الكئيب.
فليتقوا الله تعالى فيمن تحت أيديهم.
ولا ينسَ أربابُ العملِ العمالَ أن يرحموهم في هذا الشهر، فالراحمون يرحمهم الرحمن (من لا يَرحم لا يُرحم).
10 – قال تعالى: { اليوم نختم على أفواههم، وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون } سورة يس.
عن حكيم بن معاوية بن حيوة القشيري عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(/2)
(أول ما يتكلم من الإنسان يوم القيامة ويشهد عليه فخذه وكفه) وفي رواية (فخذه ويده).
11 – أخلص ما بينه وبين الله:
قيل إن الذئب في عهد الخليفة الأموي الثامن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه كان يحرس الغنم. فسأله راع وقال له يا أمير المؤمنين ما بالنا نرى الذئب يحرس الغنم؟ فقال له أمير المؤمنين: أخلصتُ ما بيني وبين الله، فأخلصَ الله ما بين الذئب والغنم.
12 – قال الشاعر:
شهرَ الصيام لقد علوتَ iiمكاناً وغدوتَ مِن بين الشهور iiمعظما
يا صائمي رمضان هذا iiشهركم فيه أنالكُمُ المهيمنُ iiمغنما
يا فوزَ مَنْ فيه أطاعَ إلهه متقرباً، متجنباً ما iiحرّما
فالويلُ كل الويل للعاصي iiالذي في شهره أكلَ الحرام iiوأجرما ...
وكل عام وأنتم بخير، وتقبل الله منا ومنكم.(/3)
معجزة انشقاق القمر
مقدمة :
المعجزة شيء خارق للعادة وفوق قدرة البشر، ولا تحدث إلاّ لنبي من الأنبياء، ومن معجزات النبوة حادثة شق القمر نصفين، ليثبت الله تعالى للكفار أن محمداً رسول من عنده، وهو ما أثبته العلم الحديث . ومعجزات النبي كثيرة، اختلف في تحديد عددها العلماء فمنها: الإسراء والمعراج، ومنها: نبع الماء من بين أصابعه، ومنها: تكثير الماء القليل ببركته، ومنها: جعْل قليل الطعام كثيراً حتى وفَّى بالقوم وزاد، ومنها تسبيح الماء بين يديه، ومنها حنين الجذع، ومنها انقياد الشجر له، ومنها سرعة إجابة دعوته.
وإذا كانت هذه المعجزات قد طال حولها الحديث، وتفاوتت درجات ثبوتها، فإن جمهور العلماء على أن أعظم معجزة لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ هي القرآن الكريم، الذي قال فيه رب العزة ـ سبحانه ـ: ?قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً ? [الإسراء:88]
أدلة انشقاق القمر:
قال تعالى:? اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُصلى الله عليه وسلم وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّصلى الله عليه وسلم وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرّ? [القمر:1-3] .
وفي الصحيح عن أنس بن مالك أن أهل مكة سألوا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يُريهم آية، فأراهم القمر شِقَّيْن حتى رأوْا غار حراء بينهما (1).
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم شقين فقال النبي صلى الله عليه وسلم « اشهدوا» (2)
وعن ابن عباس قال: كسف القمر على عهد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فقالوا: سحر القمر. فنزل قوله تعالى:?اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُصلى الله عليه وسلم وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرّ? [القمر:1 ـ2] (3). ولقد كان ابن مسعود يردِّد قوله: لقد انشق القمر.
أقوال بعض المفسرين:
قال ابن جرير :يعني تعالى ذكره بقوله ?اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ? : دنت الساعة التي تقوم فيها القيامة وقوله: ?اقْتَرَبَتِ? افتعلت من القرب وهذا من الله تعالى ذكره إنذار لعباده بدنو القيامة وقرب فناء الدنيا وأمر لهم بالاستعداد لأهوال القيامة قبل هجومها عليهم وهم عنها في غفلة ساهون, وقوله ?وَانشَقَّ الْقَمَرُ? يقول جل ثناؤه: وانفلق القمر وكان ذلك فيما ذكر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة قبل الهجرة إلى المدينة(4) , وقال ابن كثير رحمه الله في قوله تعالى: ?وَانشَقَّ الْقَمَرُ?: قد كان هذا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ورد ذلك في الأحاديث المتواترة بالأسانيد الصحيحة وقد ثبت في الصحيح عن مسروق قال: قال عبد الله: «خمس قد مضين الدخان والقمر والروم والبطشة واللزام» (5) وهذا أمر متفق عليه بين العلماء أن انشقاق القمر قد وقع في زمان النبي صلى الله عليه وسلم وأنه كان إحدى المعجزات الباهرات (6)
قال القاضي رحمه الله: انشقاق القمر من أمهات معجزات نبينا صلى الله عليه وسلم وقد رواها عدة من الصحابة رضي الله عنهم مع ظاهر الآية الكريمة وسياقها قال الزجاج وقد أنكرها بعض المبتدعة المضاهين المخالفي الملة وذلك لما أعمى الله قلبه. ولا إنكار للعقل فيها لأن القمر مخلوق الله تعالى يفعل فيه ما يشاء كما يفنيه ويكوره في آخر أمره (7)
يقول الأستاذ الدكتور أحمد الشرباصي الأستاذ بجامعة الأزهر رحمه الله:
من الأمور المتفق عليها بين العلماء أن انشقاق القمر وقع في عهد رسول الله ـ عليه الصلاة والسلام ـ وأنه كان إحدى المعجزات الباهرات، وبعضهم يَروي أن القمر قد انشق مرتين لا مرة واحدة، وقد تحدثَت عن ذلك كتب السنة النبوية الصحيحة.
ولقد كان كفار قريش يظنون أن كل معجزة من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو الذي يصنعها ويأتي بها، وليس الله هو الذي يأتي بها، فأرادوا أن يتحدوه فطلبوا منه آية سماوية.
واتفقوا على انشقاق القمر، وتواعدوا معه على ليلة فلما جاء الميعاد قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: انظروا، فنظروا جميعاً فرأَوْا أن القمر انشق شقتين، نزلَتْ كلُّ واحدة وحدها، فقال ـ صلى الله عليه وسلم: «اشهدوا». فقالوا: لقد سحر الأرض والسماء، إن هذا سحر مستمر.
زغلول والقمر:(/1)
وفي مقابلة تلفزيونية مع عالم الجيولوجيا المسلم الأستاذ الدكتور / زغلول النجار، سأله مقدم البرنامج عن هذه الآية :? اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ? [القمر:1] هل فيها إعجاز قرآني علمي ؟ فأجاب الدكتور زغلول قائلاً: هذه الآية لها معي قصة. فمنذ فترة كنت أحاضر في جامعة (كارديف) في غرب بريطانيا ، وكان الحضور خليطاً من المسلمين وغير المسلمين ، وكان هناك حوار حي للغاية عن الإعجاز العلمي في القرآن الكريم وفي أثناء هذا الحوار ، وقف شاب من المسلمين وقال : يا سيدي هل ترى في قول الحق تبارك وتعالى :? اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ? [القمر:1]لمحة من لمحات الإعجاز العلمي في القران الكريم ؟
فأجابه الدكتور زغلول قائلاً : لا . لأن الإعجاز العلمي يفسره العلم ، أما المعجزات فلا يستطيع العلم أن يفسرها ، فالمعجزة أمر خارق للعادة فلا تستطيع السنن أن تفسرها . وانشقاق القمر معجزة حدثت لرسول الله صلى الله عليه وسلم تشهد له بالنبوة والرسالة ، والمعجزات الحسية شهادة صدق على من رآها ، ولولا ورودها في كتاب الله تعالى وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ما كان علينا نحن مسلمي هذا العصر أن نؤمن بها ولكننا نؤمن بها لورودها في كتاب الله تعالى وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، ولأن الله تعالى قادر على كل شيء .
معجزة نبوية :
ثم ساق الدكتور زغلول قصة انشقاق القمر كما وردت في كتب السنة فقال : وفي كتب السنة يُروَى أن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يهاجر من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة بخمس سنوات جاءه نفر من قريش وقالوا له : يا محمد إن كنت حقاً نبياً ورسولاً فأتنا بمعجزة تشهد لك بالنبوة الرسالة ، فسألهم : ماذا تريدون ؟
قالوا : شق لنا القمر ، على سبيل التعجيز والتحدي . فوقف المصطفى صلى الله عليه وسلم يدعو ربه أن ينصره في هذا الموقف فألهمه ربه تبارك وتعالى أن يشير بإصبعه الشريف إلى القمر ، فانشق القمر إلى فلقتين ، تباعدتا عن بعضهما البعض لعدة ساعات متصلة ، ثم التحمتا .
فقال الكفار : سحرنا محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، لكن بعض العقلاء قالوا إن السحر قد يؤثر على الذين حضروه ، لكنه لا يستطيع أن يؤثر على كل الناس ، فانتظروا الركبان القادمين من السفر، فسارع الكفار إلى مخارج مكة ينتظرون القادمين من السفر، فحين قدم أول ركب سألهم الكفار : هل رأيتم شيئاً غريباً حدث لهذا القمر؟
قالوا : نعم ، في الليلة الفلانية رأينا القمر قد انشق إلى فلقتين تباعدتا عن بعضهما البعض ثم التحمتا . فآمن منهم من آمن وكفر من كفر . ولذلك يقول الحق تبارك وتعالى في كتابه العزيز : ? اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُصلى الله عليه وسلم وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّصلى الله عليه وسلم وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرّ? [القمر: 1- 3] ... إلى آخر الآيات التي نزلت في ذلك.
يقول الدكتور زغلول : وبعد أن أتممت حديثي وقف شاب مسلم بريطاني عرف بنفسه وقال : أنا داود موسى بيتكوك رئيس الحزب الإسلامي البريطاني، ثم قال : يا سيدي ، هل تسمح لي بإضافة؟ قلت له : تفضل قال : وأنا أبحث عن الأديان ( قبل أن يسلم ) ، أهداني أحد الطلاب المسلمين ترجمة لمعاني القرآن الكريم ، فشكرته عليها وأخذتها إلى البيت ، وحين فتحت هذه الترجمة ، كانت أول سورة أطلع عليها سورة القمر، وقرأت : ) اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ( [القمر:1]، فقلت : هل يعقل هذا الكلام ؟(/2)
هل يمكن للقمر أن ينشق ثم يلتحم ، وأي قوة تستطيع عمل ذلك ؟ يقول الرجل : فصدتني هذه الآية عن مواصلة القراءة ، وانشغلت بأمور الحياة ، لكن الله تعالى يعلم مدى إخلاصي في البحث عن الحقيقة ، فأجلسني ربي أمام التلفاز البريطاني وكان هناك حوار يدور بين معلق بريطاني وثلاثة من علماء الفضاء الأمريكيين وكان هذا المذيع يعاتب هؤلاء العلماء على الإنفاق الشديد على رحلات الفضاء ، في الوقت الذي تمتلئ فيه الأرض بمشكلات الجوع والفقر والمرض والتخلف ، وكان يقول : لو أن هذا المال أنفق على عمران الأرض لكان أجدى وأنفع وجلس هؤلاء العلماء الثلاثة يدافعون عن وجهة نظرهم ويقولون : إن هذه التقنية تطبق في نواحي كثيرة في الحياة ، حيث إنها تطبق في الطب والصناعة والزراعة ، فهذا المال ليس مالاً مهدراً لكنه أعاننا على تطوير تقنيات متقدمة للغاية ... في خلال هذا الحوار جاء ذكر رحلة إنزال رجل على سطح القمر باعتبار أنها أكثر رحلات الفضاء كلفة فقد تكلفت أكثر من مائة ألف مليون دولار ، فصرخ فيهم المذيع البريطاني وقال : أي سَفَهٍ هذا ؟ مائة ألف مليون دولار لكي تضعوا العلم الأمريكي على سطح القمر ؟ فقالوا : لا ، لم يكن الهدف وضع العلم الأمريكي فوق سطح القمر كنا ندرس التركيب الداخلي للقمر ، فوجدنا حقيقة لو أنفقنا أضعاف هذا المال لإقناع الناس بها ما صدقنا أحد.
فقال لهم : ما هذه الحقيقة ؟ قالوا : هذا القمر انشق في يوم من الأيام ثم التحم . قال لهم : كيف عرفتم ذلك ؟ قالوا : وجدنا حزاماً من الصخور المتحولة يقطع القمر من سطحه إلى جوفه إلى سطحه ، فاستشرنا علماء الأرض وعلماء الجيولوجيا ، فقالوا: لا يمكن أن يكون هذ1 قد حدث إلا إذا كان هذا القمر قد انشق ثم التحم.
يقول الرجل المسلم ( رئيس الحزب الإسلامي البريطاني ) : فقفزت من الكرسي الذي أجلس عليه وقلت : معجزة تحدث لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) قبل ألف وأربعمائة سنة ، يسخر الله تعالى الأمريكان لإنفاق أكثر من مائة ألف مليون دولار لإثباتها للمسلمين ؟؟ لا بد أن يكون هذا الدين حقاً . يقول : فعدت إلى المصحف ، وتلوت سورة القمر ، وكانت مدخلي لقبول الإسلام ديناً .
معترضون :
وهنا بعض الأراجيف حول هذا الموضوع أبينها كما أوردها أصحابها
في حديث البخاري أن أهل مكة سألوا محمداً آية فانشق القمر بمكة مرتين ! إنما حرف الآية يقول : " أتت الساعة و انشق القمر " . فانشقاق القمر مرتبط بقدوم الساعة . و أن " الساعة " في لغة الكتاب ، و في لغة القرآن ، كناية عن يوم الدين . و انشقاق القمر من أشراط الساعة ؟ فليس هو حادث يجري في حياة الرسول ، هذا بنص القرآن القاطع . قال القرطبي في تفسيره : " قال قوم : لم يقع انشقاق القمر بعد . و هو منتظر . أي اقتراب قيام الساعة و انشقاق القمر . و أن الساعة إذا قامت انشقت السماء بما فيها من القمر و غيره . و كذا قال القشيرى . و ذكر الماوردي : أن هذا قول الجمهور. وقال : لأنه إذا انشق ما بقي أحد إلا رآه ، لأنه آية و الناس في الآيات سواء . و قال الحسن : اقتربت الساعة ، فإذا جاءت انشق القمر بعد النفخة الثانية … و قيل : " و انشق القمر " أى وضح الأمر وظهر ، و العرب تضرب بالقمر مثلاً فيما وضح . و قيل : انشقاق القمر هو انشقاق الظلمة عنه بطلوعه في أثنائها ، كما يسمى الصبح فلقاً لانفلاق الظلمة عنه " .
ففي نظر المفسرين المدركين ، تعبير " انشق القمر " إما حقيقي ، و هو من أشراط الساعة في اليوم الآخر ، و إما مجازي فليس فيه من حادث طبيعي .
و قال محمد عبد الله السمان : " و لو سلمنا جدلاً بأن الانشقاق قد حدث ، فهل من العقل و المنطق بألا ترى الدنيا بأسرها هذا الانشقاق ! لأن القمر للدنيا كلها و ليس لمكة وحدها ، إن هذا حدث ضخم ، و ليس بالأمر الهين اليسير
ردود :(/3)
أما قول القائل: إن الساعة في لغة القرآن كناية عن يوم الدين وانشقاق القمر من أشراط الساعة فليس هو حادث يجري في حياة الرسول! فصحيح تماماً أن لفظ الساعة يدل على يوم القيامة ولكن الذي يجب أن يقال أن للساعة علامات صغرى وكبرى أخبرنا بها محمد صلى الله عليه وسلم ,خاصة وأن هناك الكثير من الأحاديث الصحيحة التي تنص على أن مبعث محمد صلى الله عليه وسلم يكون هو نفسه علامة على دنو الساعة كما في صحيح البخاري عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال بإصبعيه هكذا بالوسطى والتي تلي الإبهام « بعثت أنا والساعة كهاتين» (8).وعن جابر بن عبد الله قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرت عيناه وعلا صوته واشتد غضبه حتى كأنه منذر جيش يقول: صبحكم ومساكم ويقول:« بعثت أنا والساعة كهاتين» ويقرن بين أصبعيها لسبابة والوسطى ويقول:« أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة» ثم يقول:« أنا أولى بكل مؤمن من نفسه من ترك مالا فلأهله ومن ترك دينا أو ضياعا فإلي وعلي» (9)
فمنع انشقاق القمر في حياة النبي صلى الله عليه وسلم غير صحيح هذا فضلاً عن إن ربط الانشقاق بالساعة أمر غير متحتم لا من جهة النصوص الشرعية ولا من جهة العقل .
وأما قولهم: لو سلمنا جدلاً بأن الانشقاق قد حدث ، فهل من العقل و المنطق بألا ترى الدنيا بأسرها هذا الانشقاق ! لأن القمر للدنيا كلها و ليس لمكة وحدها ، إن هذا حدث ضخم ، و ليس بالأمر الهين اليسير.
قلت: وفي هذا نظر أي أن حادثة انشقاق القمر يجب أن يراها كل الناس لأن العلم اليوم أثبت بما لا يبقي لأحد أي شك في أن الأرض كروية وأن القمر يدور حول الأرض كما أن الأرض تدور كذلك حول نفسها وحول الشمس ولا أريد أن أسرد الأدلة الشرعية من الآيات والأحاديث على ثبوت ذلك ووروده في النصوص الشرعية عند المسلمين حتى لا يطول بنا المقام ونخرج عن المراد ,فإذا ثبت هذا كان لزاماً أن لا يرى كل الناس تلك الحادثة فإن الناس في الجهة المقابلة للقمر هم الذين سيرون تلك الحادثة دون غيرهم قطعاً ودون أي شك هذا بالإضافة إلى أنه ليس كل الناس كانوا متأهبين وحاضرين في تلك الساعة فمنهم من هو نائم خاصة إذا علمنا أن الحادثة كانت في الليل وليس في النهار ولعدم وجود ما يجرهم للسهر من كهرباء وغيرها كانوا ينامون مبكرين وهذا ما نعهده عند أهل القرى والأرياف اليوم , فضلاً عن عدم وجود وسائل الإعلام كالتي نراها اليوم والتي نستطيع من خلالها إذاعة الخبر في كل الأرض فالأمر كان مقصوراً على بضعة من الجاحدين أرادوا تعجيز الرسول صلى الله عليه وسلم , ثم لا يمنع من عدم رؤية جميع الناس لهذا الحدث أن الانشقاق لم يقع، فكم من الأمور التي يتلقاها الناس بالقبول مع أنهم لم يرونها؛ ويكتفون بخبر من رآها دليلاً على تصديقها. لقد وقع انشقاق القمر في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وكان هناك فريقان متصارعان متنافسان متباغضان يكيد كل منهما للآخر ، ولما وقعت حادثة انشقاق القمر كانت قريش تحرص على أن تجد شيئاً بسيطاً تكذب به رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد أن وقعت الحادثة نزل القرآن يقرأ عليهم ما حدث ويسجل مواقفهم من الحادثة قال تعالى:? اقتربت الساعة وانشق القمر .وإن يروا آية يعرضوا و يقولوا سحر مستمر? [القمر:1 ، 2]،فلو أن القرآن سجل شيئاً لم يقع ( أي لو أن القمر لم ينشق) لكانت الفرصة لكفار قريش ليقولوا: محمد يزعم أن القمر قد انشق وأننا رأيناه وأننا قد قلنا هذا سحر وما وقع من ذلك شيء ، أما المسلمون فكان منهم من سيرتد عن الإسلام إذ كيف يكذب عليهم ويقول وقع انشقاق ولم يقع؟
ولكن ما الذي حدث ؟ الذي حدث أنه ثبت المسلمون على إسلامهم واستمروا على إيمانهم وازدادوا إيماناً ، وتحول الكفار من الكفر إلى الإسلام وأصبحوا بعد ذلك من جيش الإسلام ...ولعل في هذا كفاية لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد
خاتمة:(/4)
يجب أن تكون آخر الرسالات السماوية تحمل في طياتها ما به يؤمن عليه البشر في جميع العصور والأزمنة على مختلف علومهم وثقافاتهم، ولأن دين محمد صلى الله عليه وسلم هو آخر الأديان فقد اختص بهذه الصفة من بين جميع الأديان ، فكما نعلم أن موسى u قد أيده الله بالعصا وغيرها من المعجزات التي شاهدها قومه في عصره فقط ، وكذلك عيسى u فقد أيده الله بمعجزة إحياء الموتى وغيرها من المعجزات وهذه المعجزات معجزات موسى و عيسى ، كذلك جميع معجزات الأنبياء السابقين لم تعد موجودة ولا يمكن مشاهدتها اليوم ، كناقة صالح مثلاً . أما النبي الخاتم فله معجزة خالدة إلى يوم القيامة، قال« ما من الأنبياء نبي إلا أعطي ما مثله آمن عليه البشر وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة» (10) فمعجزة خاتم الأنبياء والمرسلين لم ترتبط بحياته صلى الله عليه وسلم وإنما جاءت منفصلة قائمة بذاتها لا تزول بوفاته صلى الله عليه وسلم ، وتلك هي معجزة القرآن الذي أوحاه الله تعالى إليه بما فيه من إخبارات كشف العلم عنها في الوقت الحاضر قال تعالى :? سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيد? [فصلت: 53]،وقال تعالى ?وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ? [النمل: 93]وها هو ذا عصرنا بعلومه يصدق ما جاء في الآيتين السابقتين وغيرهما .
إعداد/قسطاس ابراهيم النعيمي
مراجعة/ عبد الحميد أحمد مرشد
(1) - رواه البخاري ,كتاب المناقب, باب انشقاق القمر , برقم (3579) , (12/248) .
(2) - رواه البخاري,كتاب المناقب , باب سؤال المشركين أن يريهم النبي آية فأراهم , برقم (3437) , (3/1330) .
(3) - المعجم الكبير /سليمان بن أحمد بن أيوب أبو القاسم الطبراني /مكتبة العلوم والحكم – الموصل /الطبعة الثانية ، 1404 – 1983/تحقيق : حمدي بن عبدالمجيد السلفي /برقم(11642) (11/250) .
(4) - جامع البيان عن تأويل آي القرآن /محمد بن جرير بن يزيد بن خالد الطبري أبو جعفر(11/543) .
(5) - رواه البخاري في كتاب التفسير,باب سورة الفرقان برقم(4489) (4/1785) .
(6) - تفسير القرآن العظيم /إسماعيل بن عمر بن كثير الدمشقي أبو الفداء (4/333) .
(7) - انظر صحيح مسلم , كتاب صفات المنافقين , باب انشقاق القمر(4/2157) .
(8) - رواه البخاري في كتاب التفسير باب سورة النازعات برقم(4652) (4/1881) .
(9) - صحيح مسلم /مسلم بن الحجاج أبو الحسين القشيري النيسابوري /دار إحياء التراث العربي – بيروت /تحقيق : محمد فؤاد عبد الباقي /كتاب الجمعة باب تخفيف الصلاة والخطبة /برقم(867)(2/592) .
(10) - رواه البخاري في كتاب فضائل القرآن باب كيف نزول الوحي برقم(4696) (4/1905) .(/5)
معجم الكنوز الثمينة
د. علي بادحدح ـ إسلاميات
الحمد لله ما تَرطَّبتْ الألسن بذكره، وما عَملَتْ الجوارح بشكره، وما خَفقَتْ القلوب بحبه، وما سجدت الجباه لعظمته، وما رُفعَتْ الأيدي لمسألته، وما سارت الأقدام لطاعته، والصلاة والسلام على معلم البشرية، ومنقذ الإنسانية، منار الهدى، وعلم التُّقى، النبي المصطفى، والرسول المجتبى، وعلى آله وصحبه ومن بهم اقتدى، وبعد :
المنجم يرتبط في الأذهان باستخراج بعض خيرات الأرض وحصول النعمة والثراء، والغالب أن يكون المنجم مختصاً بنوع واحد من تلك الخيرات، فكيف إذا احتوى أكثر من نوع، وكلُّها غالية الثمن نفيسة القيمة عظيمة النفع؟! وكيف إذا كان استخراج تلك الكنوز سهلاً ميسوراً لكل أحدِ دون حاجة لتخصص دقيق، ولا جهد كبير !!
لا شك أن الجميع سيكونون حريصين على أن يكون لهم النصيب الأعظم من كنوز المنجم الثمينة .
المنجم أمام عينيك، وتحت قدميك، وبين يديك، وهو طوع أمرك، ورهن إشارتك، ألست تراه؟، ألا تبدو لك كنوزه المتنوعة؟، ألا تغريك ثروته الغالية؟، انتبه... ما لك؟! ألا تُبصر الجموع الغفيرة تُقبل عليه وتأخذ منه؟، ألم يتكرر هذا المشهد أمامك كثيراً؟!، إنه منجمُ...لا لن أسميه لك بل سأنتقل إلى عرض بعض كنوزه فذلك أولى وأجدى.
كنز الفضائل والخصائص :
* مغفرة : ( من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ) [ متفق عليه ] .
* تكفير : ( فتنة الرجل في أهله وماله وجاره تكفرها الصلاة والصيام والصدق ) [ متفق عليه ] .
* وقاية : ( الصيام جنة وحصن حصين من النار ) [ رواه أحمد ] .
* مثوبة : ( الصيام لي وأنا أجزي به، والحسنة بعشر أمثالها ) [ رواه البخاري ] .
* خصوصية : ( إن في الجنة باباً يقال له الريان، يدخل منه الصائمون يوم القيامة، لا يدخل منه أحد غيرهم ) [ متفق عليه ] .
* شفاعة : ( الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة ) [ رواه أحمد ] .
* فرحة : ( للصائم فرحتان فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه ) [ رواه مسلم ] .
* تفرد : ( عليك بالصوم فإنه لا مثل له ) [ رواه النسائي ] .
كنز القرآن والتلاوة :
{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ } [ البقرة:185] ،عن عبدالله بن عمرو، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب إني منعته الطعام والشهوة، فشفعني فيه، ويقول القرآن: أي رب منعته النوم بالليل، فشفعني فيه، قال: فيشفعا ) [ رواه أحمد ] .
كنز الصلاة والقيام :
{ وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً } [ الإسراء:79 ]، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ) [ متفق عليه ] .
كنز الذكر والدعاء :
{ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ } [ البقرة:186] ، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( ثلاثة لا ترد دعوتهم: الصائم حين يفطر، والإمام العادل، ودعوة المظلوم ) [ رواه الترمذي ] .
كنز الجود والإنفاق :
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : ( كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل وكان جبريل عليه السلام يلقاه كل ليلة في رمضان حتى ينسلخ يعرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم القرآن فإذا لقيه جبريل عليه السلام كان أجود بالخير من الريح المرسلة ) [ متفق عليه ] .
كنز الإرادة والصبر :
" من حكم الصيام وفوائده العظيمة تقوية الإرادة في النفوس تلك الركيزة العظيمة التي عمل رجال الاجتماع وأصحاب التنظيم العسكري على تقويتها في المجتمع هذا الزمان، وقد سبقهم الدين الإسلامي على ذلك منذ أربعة عشر قريناً تقريباً، وما أحوج المسلم إلى أن يكون قوي الإرادة صادق العزيمة " (1)
" الصوم تقوية للإرادة، وتربية على الصبر، فالصائم يجوع وأمامه شهي الغذاء، ويعطش وبين يديه بارد الماء، ويعفُّ وبجانبه زوجته، لا رقيب عليه في ذلك إلا ربه، ولا سلطان إلا ضميره، ولا يسنده إلا إرادته القوية الواعية، يتكرر ذلك نحو خمس عشرة ساعة أو أكثر في كل يوم، وتسعة وعشرين يوماً أو ثلاثين في كل عام، فأي مدرسة تقوم بتربية الإرادة الإنسانية وتعليم الصبر الجميل، كمدرسة الصيام التي يفتحها الإسلام إجبارياً للمسلمين في رمضان، وتطوعاً في غير رمضان ؟! " . (2)
كنز القوة والحرية :(/1)
" صوم رمضان من هذا الوجه إن هو إلا منهاج يتدرب به المرء على تحرير نفسه والانسحاب بها من أَسْر المادة وظلمة الشهوة، ليحيا ما شاء الله في ملكوت الحياة الحق ويكون له ما شاء الله من خصائص الخير والفضيلة، فالحرية الصحيحة لا يذوقها ولا يقدرها إلا من حيي هذه الحياة " (3)
" فرض الله الصيام ليتحرر الإنسان من سلطان غرائزه، وينطلق من سجن جسده، وتغلب على نزعات شهوته، ويتحكم في مظاهر حيوانيته، ويتشبه بالملائكة " (4)
كنز الرحمة والمساواة :
" رمضان الذي تتحقق فيه معاني الإنسانية، وتكون المساواة بين الناس، فلا يجوع واحد ويتخم الآخر، بل يشترك الناس كلهم في الجوع وفي الشبع، غنيهم وفقيرهم، فيحس الغني بألم الجوع ليذكره من بعد إذا جاءه من يقول له: أنا جوعان، ويعرف الفقير نعمة الله عليه، حين يعلم أن الغني يشتهي - على غناه - رغيفاً من الخبز أو كأساً من الماء " (5)
" فقرٌ إجباريٌ يراد به إشعار الإنسانية بطريقة عملية واضحة كلَّ الوضوح، أن الحياة الصحيحة وراء الحياة لا فيها، وأنها إنما تكون على أتمها حين يتساوى الناس في الشعور لا حين يختلفون، وحين يَتعاطَفُون بإحساس الألم الواحد، لا حين يتنازعون بإحساس الأهواء المتعددة " ، " ويجعل الناس فيه سواءً : ليس لجميعهم إلا شعور واحد وحس واحد وطبيعة واحدة ويُحكِم الأمر فيحول بين هذا البطن وبين المادة " (6)
كنز الخلق والسلوك :
" المقصود منه السمو بالنفس إلى المستوى الملائكي، وصون الحواس عن الشرور والآثام، فالكف عن الطعام والشراب ما هو إلا وسيلة إلى كف اللسان عن السب والشتم والصخب، وإلى كف اليد عن الأذى، وإلى كف البصر عن النظرة الخائنة، وإلى كف السمع عن الإصغاء للغيبة والنميمة والقول المنكر " (7)
" فألزمه سبحانه الصوم حتى إذا جاع وظمئ ذلّت نفسه، وانصدع كبره وفخره، وأحس أنه - مهما أوتي - فهو مسكين تُقعده اللقمة إذا فُقدت، وتُضعفه جرعة الماء إذا مُنعت، هنالك يُطامن من غروره، ويعترف بفضل الله عليه حتى في كسرة الخبز ورشفة البحر، ومتى عرف الله خافه، ومتى خافه استقام على الطريقة، وسار على الجادة، وترك ما كان فيه من بغي واستطالة وعلو في الأرض بغير الحق، وآثر رضوان الله على ترضية نفسه وصار رسول رحمة وسلام لكل من حوله من أبناء الإنسانية " (8)
وخذ أخيراً هذه الكلمات الجامعة: " للصوم فوائد: رفع الدرجات، وتكفير الخطيئات، وكسر الشهوات، وتكثير الصدقات، وتوفير الطاعات، وشكر عالم الخفيات، والانزجار عن خواطر المعاصي والمخالفات " (9)
ثم ماذا أيها الأخ الحبيب ؟ دونك الكنوز تتلألأ، والثروة تتهيأ، فماذا أنت فاعل؟!
إليك هذه الومضات :
* أخلص نيتك، واستحضر عزيمتك، وزكِّ نفسك، وطهر قلبك، وأجج أشواقك، وأعلن أفراحك .
* بادر بالتوبة، وأكثر من الاستغفار، وتحلَّ بالإنابة، واذرف دموع الندامة، واستعد لموسم النقاء بغسل الذنوب .
* احرص في الصلوات على التبكير وإدراك التكبير، والمواظبة على الرواتب، والاستكثار من الرغائب .
* خذ حظك من قيام الليل، ودعاء القنوت، وطول القيام والسجود، وارفع دعاء الأسحار، واملأ الثلث الأخير بالاستغفار .
* أدمن التلاوة، ورطب لسانك بالقرآن، وانهل من مائدة الرحمن، ونوِّر الليالي بالتجويد، وعطَّر الأيام بالترتيل .
* صل رحمك، وزر أقاربك، واعف عمن أخطأ، وتجاوز عمن هفا، واجمع أهل حي، وتقرب من جيرانك، وكرر اللقاء بإخوانك، وخص بمزيد من الود والحب والوصل أهلك وزوجك وأبناءك .
* اجعل لنفسك مع أهل بيتك برنامجاً إيمانياً لاغتنام الكنوز الثمينة، فجلسة للتلاوة، ولقاء للتاريخ، ورحلة للعمرة، ووقت للقيام، وحلقة للذكر، وفرصة للدرس، ولا تنس أن في الوقت بركة
* احسب زكاتك، واجمع من زكاة أهلك وأقاربك، واستعن(/2)
معذرة ولكنك لا تصوم !!
مفكرة الإسلام : يتساءل الكثير من الشباب لماذا يدخل رمضان ويخرج ولا تتحقق فيه التقوى بالرغم من أنه صام والله تعالى يقول {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [183] سورة البقرة
فالمفترض أن يجلب الصيام التقوى فلماذا لا يحدث هذا معنا ؟؟؟؟
أقول لك أخي الحبيب معذرة ولكنك لا تصوم....
ستقول باستغراب شديد 'كيف وأنا أتوقف عن الأكل والشرب من الفجر إلى المغرب كما أنني أتجنب المعاصي بقدر الإمكان في هذه الفترة '
اقرأ أولا كلام العالم الجليل ابن الجوزي عن الصيام لتتأكد أنك لا تصوم .....الإمام ابن الجوزي رحمه الله قسم الصيام إلى ثلاثة أنواع :-
النوع الأول صوم العوام :
وهو الامتناع عن الطعام والشراب والجماع من الفجر إلى المغرب. وهذا فقط ما يفعله أما جوارحه فلا تصوم عن معصية الله عز وجل, فعينه لم تتوقف عن متابعة الأفلام والمسلسلات والمناظر المحرمة, وأذنه لم تتوقف عن سماع الأغاني وقدمه لم تتوقف عن الذهاب إلى المقاهي والخيم الرمضانية وبعد هذا يتساءل لماذا لم أحقق التقوى من الصيام ؟؟؟
النوع الثاني صوم الخواص :
وهو الامتناع عن الطعام والشراب والجماع من الفجر إلى المغرب والامتناع أيضا عن معصية الله عز وجل طوال اليوم وهذا النوع يحقق لك التقوى المنشودة وللأسف الشديد لا يحسنه الكثير من الشباب إلا من رحم الله تعالى .
هل تيقنت الآن أخي انك لم تكن تصوم الصيام الصحيح ؟
فاستحضر هذا النوع من الصيام في ذهنك ونحن على أبواب رمضان وأخلص النية في تحقيقه لكي تخرج من رمضان وأنت شخص مختلف تماما
'مهلا.. مهلا.. أين النوع الثالث من الصيام هل نسيته..؟ '
أكاد أسمع هذا التساؤل يخرج من فمك متلهفا..
حسنا أخي الحبيب أنا لم أنسه ولكن أنت الذي طلبته فهل تستطيع أن تحققه ؟؟؟ سنرى.....
النوع الثالث صوم خواص الخواص:
وهو أن يصوم القلب عما سوى الله عز وجل فلا يفكر إلا في الله ولا يتعلق قلبه إلا بالله فحتى المعصية لا تخطر على باله من الأساس وهو أمر جدير بالسعي إليه ومحاولة تحقيقه ولو ليوم أو لبضعة أيام فأعانكم الله ووفقكم.(/1)
معرفة القيد بداية التحرر
رغداء محمّد أديب زيدان
wahab1957@hotmail.com
تمهيد:
إذا سألنا أنفسنا عن معنى كلمة الحرية فإن معظم الإجابات ستكون من مثل: "الحرية عكس العبودية", أو "الحرية تعني أن يفعل الإنسان ما يريد دون قيد أو شرط".
فإذا فكرنا بهذه المعاني وتمعّنا جيداً في معنى كلمة الحرية, لوجدنا أنه من الظلم والإجحاف تحويل معنى هذه الكلمة وحصرها في نطاق مخالف, أو في أحسن الأحوال قاصر عن التعبير عن مدلول هذه الكلمة, ومحتواها الكبير.
نحن نستخدم كلمة الحرية كمعاكس لكلمة العبودية, وهذا الاستخدام هو استخدام اصطلاحي, بمعنى أنه لا يعبّر بصورة دقيقة عن معنى كلمة الحرية. لأن هذه الكلمة العربية اُستخدمت للتعبير عن الرجل الشريف النبيل, وليس المقصود بالشرف هنا المعنى الذي نتعارف عليه بيننا وهو العِرض, ولكنّ الشرف هو كلمة تعبّر عن مجموعة الصفات التي تؤهلك لتتبؤ مركز الصدارة بين الناس. وكذلك الحرية, فالرجل الحرّ هو الرجل الشريف النبيل الذي لا تشوبه شائبة نقص في أخلاقه ومروءته, وهو ما يجعله مؤهّلاً ليكون من أشراف الناس.
وفي استخداماتنا اللغوية, نصف الشيء بأنه حرّ للدلالة على خلّوه من الشوائب التي قد تغيّر من صفاته المميزة, فنقول مثلاً: "ذهبٌ حرّ" أي خالي من الشوائب الأخرى التي تختلط بمعدن الذهب فتنقص من قيمته وتغير من صفاته.
بعد هذه المقدمة اللغوية, نعود إلى ما بدأنا به حديثنا, وهو فهمنا اليوم لمعنى كلمة الحرية؛ إننا نستخدم كلمة الحرية استخداماً ملتبساً, فعندما نستخدم معنى الحرية للتعبير عن حالة الإنفلات من القيد, فإننا بهذا نحوّل معنى الكلمة إلى وجهة جديدة تفتقر إلى جوهر معنى الكلمة, فهي هنا تصبح مجرد كلمة تعبّر عن تفلّت من حالة حبس معينة, مجرد إرسال غير منظم, بينما معنى الكلمة الدقيق يحمل في طياته معنى ايجابياً من عدة وجوه, فهي تحمل معنى النقاء والتميز, فالحر من أي شيء هو من لا تشوبه شائبة تؤثّر على كيانه فتغير فيه. وهي من جهة أخرى تحمل معنى الفاعلية, فإذا اتجهنا للإنسان ووصفناه بالحر, فنحن نعني أنه الانسان الذي استطاع أن يتخلّص من كلّ الصفات التي تخرجه عن إنسانيته. ولاحظوا أننا نستخدم معنى الحرية في سياق ايجابي وللدلالة على صفات ايجابية حسنة.
وبهذا فإننا إذا استخدمنا كلمة الحرية عكساً للعبودية فإننا نستخدمها بشكل اصلاحي, فكأننا نقول إن العبودية هي صفة سلبية إذا دخلت على الإنسان أخرجته عن إنسانيته وجعلته مخلوقاً آخر لا يستطيع القيام بما توجبه عليه صفته الإنسانية, ووظيفته التي خلقه الله من أجلها. ولذلك فقد كان للعبيد في الإسلام أحكام خاصة, ليس احتقاراً لهم, ولكن مراعاة للحالة التي شابت إنسانيتهم, ومن أجل ذلك فقد حث الإسلام على "تحرير" العبيد, وهنا مفارقة, فالله تعالى خاطب الناس على أنهم عبيد, وفي هذا "تحرير" لهم من ذل الانقياد لغير الله.
الحرية وعي:
إذا دققنا النظر فيما سبق فإننا سنصل إلى فكرة أخرى, وهي أن التحرر كفعل, يستلزم شعوراً بالشائبة أو المعوق الذي دخل على الشيء فمنعه أو أعاقه عن القيام بما وُجد من أجله, أي وظيفته التي كُلّف بها. فإذا أردنا أن نحرر الإنسان مثلاً, فيجب أولاً أن نعي المعوّقات التي تمنعه من القيام بمهمته ووظيفته, ولا يكون هذا بشكل اعتباطي, بل إنه يتطلب منا معرفة تامة وحقيقة بالمعوّق, ومعرفة عملية وواقعية بكيفية التخلص منه.
وهنا يجب الانتباه إلى أمر هام جداً, وهو الوعي الحقيقي بالمعوق, وهذا يتطلب منا معرفة أمرين أساسين: أولهما معرفتنا بالشيء خالصاً من شوائبه ومعوقاته ومعرفتنا بالمعوق الفعلي, لكيلا تختلط علينا الأمور.
ولتوضيح الصورة نأخذ مثلاً "تحرير" المرأة, هذا المطلب الذي مازلنا نسمع كلاماً كثيراً حوله, وخصوصاً في وقتنا الحالي.
فتحرير المرأة يُستخدم كمصطلح يُقصد به تخليص المرأة من كلّ المعوّقات التي تمنع قيامها بوظيفتها في المجتمع, بصفتها امرأة حرّة. ولكننا إذا نظرنا إلى الدراسات التي اهتمّت ببيان هذه المعوّقات تمهيداً لتخليص المرأة منها, نجد أن معظم الدعوات اتجهت إلى اعتبار الحجاب مثلاً معوّقاً من هذه المعوّقات, فكثرت الكتابات التي هاجمت الحجاب, وحاولت إقناع القارئ بسخفه وعدم ضرورته, بل إن بعض هذه الكتابات جعلت القارئ يظن أن خلع الحجاب سيكون هو المخلّص الوحيد لهذه المرأة المسكينة.(/1)
وبالطبع فإن هذا ليس صحيحاً, فأنا كمحجبة لا أشعر مثلاً أن حجابي معوّق لي, يمنعني من أداء عملي وخدمة مجتمعي, ولكنّ المعوّق الذي أشعر به هو تلك النظرة لحجابي على أنه معوّق, فكثير من الوظائف تمنع استخدام المحجبات, وكثير من الناس, وخصوصاً من يدعي التثّقف منهم, ينظر نظرة احتقار واستخفاف للمرأة المحجبة, ومسلسلاتنا خير دليل على هذا, فغالباً نجد أن المحجبة هي امرأة جاهلة متخلفة, متعصبة, بل وراضخة ذليلة. وبهذا تصبح هذه النظرة إلى حجاب المرأة هي المعوّق للمرأة وليس حجابها بحد ذاته.
وحتى نكون منصفين فيجب أن نقول إن النظرة المعاكسة لهذه النظرة, والتي تعتبر المرأة عورة كلها هي أيضاً نظرة معوقة لتحرر المرأة, وليست بأفضل حال من النظرة الأولى, فكثيرون يعتقدون أن المحجبة يجب عليها التزام بيتها, ويجب عليها الانعزال, بل حتى لا يجوّزون لها المشاركة في النشاطات الترفيهية البسيطة, بحجة أنت محجبة وهذا لا يليق بك.
وبسبب هذا التقدير الخاطئ والدراسة السطحية لمعوّقات تحرر المرأة, دخلنا في معارك ثانوية, وابتعدنا عن الموضوع الأساسي, فهل ما نراه من عري من قبل معظم من تمتهن الغناء اليوم, من مؤديات لا يمتلكن من مؤهلات الغناء شيئاً, ولكنّهن يمتلكن استعداداً لكشف أكبر قدر من مفاتن الجسد, وقدرة على التمايل وتمثيل ايحاءات مثيرة, قد ارتقى بهن حتى أصبحن متحررات فعلاً من معوقات تمنعهن من أداء وظيفتهن في المجتمع؟ أعتقد أن جواب كثير من الناس سيكون مطابقاً لقول الشاعر, الذي يمثّل نظرتهم إلى وظيفة المرأة, وهي تأمين المتعة فقط, حين قال:
هُنَّ النساء حبائل الشيطان...................ِيعنو إليها أشجع الشجعانِ
يسلبنَ ألباب الرجال بنظرة................ واللحظ مغناطيس كل جَنانِ
فإذا مشين ومِلن في حَليٍْ وفي.............. حُلَل أثرن مكامن الأشجانِ
وإذا سفرن عن المحاسن للورى......... فهناك مصرع كل قلب عاني
نحن والحرية
في سياق بحثنا المتواصل عن أسباب انحطاطنا نجد أن جلّ الباحثين والدارسين قد وصلوا إلى أن السبب الرئيس والأهم في انحطاطنا هو فقدنا للحرية. فنحن نفتقد إلى الحرية بكافة أشكالها, سواء السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية ........إلخ.
ما يحصل الآن هو أن البحوث والدراسات والتنظيرات المختلفة اتجهت إلى البحث عن الأمور التي سنستطيع بوساطتها الحصول على الحرية بكافة أشكالها رغبة في الرقي والتحضّر والتخلّص من أمراضنا الكثيرة.
ولكننا إذا تمعّنا في الأمر نجد أن البحث في معوّقات تحررنا يتخذ شكلاً خاطئاً, أوصل إلى مسلمات أو نوع من البديهيات الشائعة حول مفهوم المعوّقات تماماً كمثالنا السابق عن الحجاب.
فكثير من البحوث وجدت أن اتباعنا لنظام سياسي معين سيحررنا من الاستبداد الذي يعتبر معوّقاً أساسياً في وجه تحضّرنا. وآراء ودراسات وجدت أن اتباعنا لنظام اقتصادي ما سيحررنا من الفقر الذي هو بدوره معوّق من معوّقات التحضّر, وكذلك الأمر بالنسبة إلى دراسات أخرى وجدت في هويتنا العربية وديننا الإسلامي معوّقاً من معوّقات تحررنا الإجتماعي. فترسخت في حياتنا مجموعة من البديهيات الراسخة سواء عن تصورنا لمشاكلنا أو عن الحلول التي يجب أن نسعى إليها.
فشعارات من مثل "الديمقراطية هي الحل" أو "الإسلام هو الحل".....إلخ, ما هي إلا شعارات جاءت نتيجة لتشخيص متسرّع في بحثنا عن معوّقات تحررنا السياسي. فبنو اسرائيل مثلاً, عندما جاء موسى عليه السلام وخلّصهم من فرعون واستبداده, لم يجعلهم هذا متحررين من معوّقات تحضّرهم ورقيّهم, ذلك أنهم ظلّوا مقيّدين بقيود نفسية انعكست على تصرفاتهم التي أوصلتهم إلى التيه والضياع.
فتغيير النظام السياسي, مهما كان البديل المطروح, لن يكون بالتأكيد, كما يتصور معظم الناس, الوسيلة التي ستحررنا من معوّقات تحضّرنا, ذلك لأن المعوّق الأصلي مازال موجوداً, وسيعمل عمله مع النظام الجديد, ولن نجد تغييراً إلا في بعض المظاهر الشكلية فقط.
وما قلته عن السياسة يُقال عن الإقتصاد والدين واللغة. فنحن نعالج أعراضاً ولا نعالج الأمراض الحقيقة.
معوّقات التحضّر والتحرر:
ترسخت في نفوسنا على مرّ العصور مجموعة من المعوّقات التي منعتنا من أن نصير أحراراً بالمعنى الصحيح للحرية, أحراراً متخلّصين من كل الشوائب السلبية التي تعوق قيامنا بوظيفتنا الإنسانية, سواء على المستوى الشخصي أو العام.(/2)
ومن أهم هذه الشوائب والمعوّقات ما نمارسه في مجتمعاتنا من سلوك انحطاطي, يعوق فاعليتنا, ويعوق تحررنا ورقيّنا. هذا السلوك الإنحطاطي الذي نلمسه في أبسط أمورنا الحياتية اليومية, فمن الاستهتار وعدم الإهتمام, إلى الهدر في الوقت والجهد, إلى عدم إتقان العمل, وعدم تحمّل المسؤولية, إلى عدم القدرة على تقبل الآخر, وغيرها من السلوكيات التي جعلت منا أسرى منظومة من الممارسات التي انعكست آثارها السيئة على كل مرافق حياتنا, فأوجدت الاستبداد والتسلط والفقر والجهل والمرض وغيرها من المظاهر التي نعتقد خطأ أنها هي المعوّقات الأساسية التي تمنعنا عن القيام بوظيفتنا الإنسانية الحضارية.
وللتوضيح سأضرب لكم مثلاً عن عدم اتقان العمل وكيف هو معوّق حقيقي من معوّقات تحررنا وتحضّرنا, والسبب أن عدم اتقان العمل جعلنا لا نهتم بتحسين عملنا وتطويره, لقد صرنا أمة يصدق عليها وصف "أمة ماشي الحال", بمعنى أننا نقبل بالعمل بأقل مواصفات الجودة, ونتغاضى عن سوء التنفيذ, ونقول "ما شي الحال" فنهدر مالنا, ووقتنا وجهدنا, ولا نحصل على عمل متكامل مفيد, والأهم من ذلك أننا لا نسعى نحو التطوير والتحسين وتلافي الأخطاء, فحين أطلب من نجار أن يصنع لي طاولة, ويقوم هو بصنعها بطريقة غير متقنة وأقبلها منه, فإنني بذلك قبلت بهدر مالي, ووقتي, وجهد العامل ووقته, ولم أساعد هذا العامل على تطوير عمله وكسب مهارات جديدة تمكنه من تلافي الأخطاء الذي وقع فيها أولاً, وجعلت عمله غير متقن. بينما لو أنني رفضت استلام عمل غير متقن, واهتم العامل بأن لا يُخرج من ورشته إلا قطعة متقنة, لسعى إلى تحسين مهاراته, فوفر علي مالي ووقتي, ومكنني من استخدام ما أريد على أحسن صورة وبأقصى فائدة. وكلنا يلمس مدى الآثار الكارثية لعدم اتقاننا لعملنا في كافة المجالات الاقتصادية والتعليمية والطبية والحياتية مما جعلنا نهدر كثيراً من إمكاناتنا المادية والمعنوية, التي نحن في أشد الحاجة إليها.
وما يقال عن عدم اتقان العمل يقال عن المظاهر السلوكية الانحطاطية الأخرى, والتي أنتجت آثاراً سلبية خطيرة, ظننا خطأ أنها السبب فيما نعاني منه من انحطاط وموات حضاري. وعلى هذا فإنه من الضروري أن نميّز بين هذه الأمور, حتى نستطيع معرفة المعوّقات الحقيقة التي سلبتنا حريتنا, وجعلتنا أمة مستعبدة, تعاني من مشاكل متعددة وخطيرة, تختصر في تعبير "الانحطاط وعدم الفاعلية".
فنحن عندما خلطنا بين الأعراض والأمراض, وصلنا إلى حالة من الضياع, جعلتنا نحارب هويتنا المميزة الخالصة, والتي من المفترض أن يكون هدف سعينا نحو التحرر هو الوصول إلى أحسن ما فيها, حتى نقوم بوظيفتنا على أكمل وجه, وأحسن صورة.(/3)
معركة قندهار
بقلم الدكتورعدنان علي رضا النحوي
(1)
كنتِ الجمال يرفّ والأمل النديّ !
يا " قَنْدَهارُ " تَحدَّثي ! قَدْ كُنْتِ دَا ... ... رَ شَهادةٍ وأمانَةٍ وتَبَتُّلِ
قَدْ كُنْتِ مَيْدَانَ الجِهادِ وقَلَعَةً ... ... لله خَالِصةً وعزّةَ بُذَّلِ
رفَّتْ عَلى سَاحَاتِكِ الأَنْداءُ مِنْ ... ... ذِكْرٍ يُرَتَّلُ بِالجَلالِ مُظلَّلِ
قَدْ كُنتِ عِيدَ المُسْلمين وفرحَةً ... ... طَلَعَتْ ولَهْفةَ صادقٍ متأمِّل
في كُلِّ عِيدِ نَفْحَةٌ عُلْوِيّةٌ ... ... ونديُّ ساحٍ بالمنى مُتَهلِّلِ
حَالتْ عليكِ من اللّيالي سُنّة ... ... لله ! آياتُ الليالي الحُوَّلِ
قَدَرٌ من الله العزيز وحكمةٌ ... ... لله تَمْضي في الحَياةِ وتَبْتَلي
لِيُمَحَّص الإنْسَانُ ! هذا مُؤْمنٌ ... ... أَوْفى وهذا كافِرٌ لمْ يَعْدِلِ
يَا " قَندَهارُ " ! تَحَدَّثي ! مَاليْ أرى ... ... عِيدَ " الصَّليبِ " هُنَا وزَهْوة مَحْفَلِ (1)
ماليْ أَرَى صَخَبَ الغِناءِ وفِتنَةً ... ... مَاجَتْ على فَنٍّ هُنُالِكَ مُخْجِلِ
غابَ النّداء الحقُّ بَيْنَ مُذَكّرٍ ... ... ومُكَبِّر بَيْن الرَّبى ومُهَلِّلِ
وَعَدَا عَلْيْكِ المُجْرِمُون قَذائِفاً ... ... تَهْوي تُفَجَّرُ بِاللَّهيبِ المُشْعَلِ
مهلاً ! فَإنَّ غَداً سَيطلعِ مُشْرقاً ... ... بالحقِّ في نصر أعَزّ ! فأَجملي
يا قَندَهَارُ ! وكُنتِ زهوَةَ أمَُّةٍ ... ... طَلَعَتْ على الدُّنيا بأَعظم مُرْسَل
كانتْ تَمُوجُ بِسَاحِكِ الآمَالُ مِنْ ... ... نُوْرِ الرِّسَالَةِ أَوْ غَنيِّ المنْهَلِ
فإذَا رُبُوعُكِ مِنْ هُداهُ مَنَابِعٌ ... ... فاضَتْ بِثَرٍّ في دِيارِكِ ! فَانْهَلي
لله دَرُّكِ ، قَنْدَهارُ ! وكلُّ دفْـ ... ... ــقٍ فاضَ بالرَّيِّ الغنيِّ السَلْسَلِ
ومَواكِبُ الإيمانِ تُشرِقُ في الربى ... ... وتموجُ في عَبَقٍ وعزَّة مَأْمَلِ
كُنتِ الجَمال يَرِفُّ والأَمَلَ الغَنِـ ... ... ــيَّ يُطِلُّ والشَّوْقَ النَّدِيَّ لِينْجَلي
يَسْري النَّسيم على رُبَاك وعِطرهُ ... ... عَبَقُ الجِهادِ على دَمٍ لَكِ مُسْبِلِ
رَوْضٌ أَغَنُّ يَمُوجُ في لَفَتاتِهِ ... ... ما بَيْنَ أورادٍ بِهِ وقُرُنْفُلِ
* * * ... * ... * * *
(2)
يا لِلجريمة والجراح شديدة !
قَالُوا سَقَطتِ ! وصُفّيَتْ سَاحَاتُها ... ... مِنْ كُلِّ " إِرهابٍ " يُظَنُّ مُجَلْجِلِ
عَجَباً ! وعادوا بَعْدَ حِينٍ خَائِفيـ ... ... ــنَ مِنَ النِّزال الصَّاعِق المسْتفْحِلِ
مِنْ كُلِّ نَاحِيةٍ وِثابُ فَوارِسٍ ... ... طَلَعُوا كخَطْفِ البَارقِ المُتَهَلِّل
طَلَعُوا يُعِيدُونَ الملاحِمَ خَطْفَةً ... ... تُرْدِي وتَخْطَفَ كُلَّ عَادٍ مُثعِلِ (2)
* * * ... * ... * * *
يَا لَلجَريمة ! والجراحُ شَديدة ... ... حُمِلوا لمَشفى في دياركِ مُنزِلِ(3)
يَحْنو على الجَرْحى ويَرْعى حَقَّهمْ ... ... ويمدُّهُمْ بِيَدٍ تُعينُ ومَعْقِلِ
حتّى إذا انقّضَّ الغُزاة على رُبَا ... ... كِ أتَوا إليهم في حِصَارٍ مُثْقِلِ
أضحوا أَسَارى ! والحِصَارُ يَشُدُّ مِنْ ... ... ضِيقِ الخِنَاق ومِنْ أسىً مُسْتَكْمَلِ
يا للجَريَمة ! والأسارى لم يَزَلْ ... ... فِيهم عزيمَةُ صادقٍ مُتَوكِّل
صَبَروا ! وعِنْدَهُمُ بَقيَّة عُدَّةٍ ... ... وبَقيَّةٌ مِنْ مَشْرَبِ أو مَأكَلِ
عَرَفوا بأنّ مصيرَهُمْ للقَتْل بَيْـ ... ... ــنَ يَديْ عَدوٍّ مجْرمٍ مُتَعجِّل
ثَبَتُوا ثباتَ المؤمنين ! وأَنْ عسى ... ... يأتي لهم فَرَجٌ من الله العَلي
أو يُقْبِلُونَ على الشَّهادَة في رضَىْ ... ... قلْبٍ وعزَّةِ مُؤْمِنٍ لم يَخْذُلِ
* * * ... * ... * * *
شَدُّوا الحِصَار عَلَيْهِمُ ! نفَدَ الطَّعَا ... ... مُ ! وكُلُّ ريٍّ للنُّفُوسِ مُؤَمَّلِ !
صَبَروا على جُوعٍ يَعَضُّ ! على نَفا ... ... دِ الماءِ والعَطَش الأشَدِّ المُعْجِلِ
ومَضَوا إِلى دَارٍ أعزَّ وكَوْثَرٍ ... ... يَرْوي وأشْهى ما يُرادُ و أجْمَلِ
صَعدَتْ بِهِمْ أرواحُهُمْ وجِهادُهُمْ ... ... لِنعيم جَنّاتٍ وزَهوةِ مَنْزِلِ
فرحِينَ ! أَحياءً ومَاتَ المجْرمُـ ... ... ـونَ على هَوانٍ صاعِقٍ مستأصِلِ !
مَاتُوا بذلِّهم وغَابُوا في ظَلا ... ... مٍ دامِس مِنْ شَرِّهٍِمْ مُسْتَفْحل
لمْ يَسْتطيعوا أنْ يَنالوا مِنْهُمُ ... ... مِنْ صادِقٍ في دِيْنِهِ مُتَوكَّلِ
نَادَى الأَسَارى قَبْلَ أن يقْضُوا : أما ... ... مِن مُسْلمٍ حُرِّ العزيمةِ مُقبل
نادَوا ! وغابَ نِداؤهُمْ وَمضَى ! فَما ... ... مِنْ مُشْفِقٍ مُصْغٍ ولا مُسْتَبْسِلَ
نادَوا ! ورجَّعتِ الصّدى جُدرانُهم ... ... لِتقَولَ : مَا مِنْ مُنْجِدٍ أو مَأمَل
المسْلِمونُ غُثاءُ سَيْلٍ تَائِه ... ... في فِتْنَةِ الدّنيا وعَيْشٍ مُرْفِلِ
نُزِعَتْ مَهَابَتُهُمْ وهَانَتْ أَنْفُسٌ ... ... ومَضَوْا على وهَنٍ أشَدَّ مُضَلِّلِ
نادَوا ! وغابَ نداؤهم ومَضى على ... ... صَمْتٍ ورهْبَةِ لحظةٍ وتَبَتُّلِ(/1)
* * * ... * ... * * *
(3)
أين الشذا من عابدين قضوا هنا ؟!
طال الحِصار ! وضيّقوه عَليْهِمِ ! ... ... صَبَروا على ضيق الحِصَارِ المُذْهِل !
لكنَّ أنفاسَ الطغاةِ تَقطّعَتَ ... ... مِن طوُل ما عانَوْا وطولِ تأمُّلِ
ضجُّوا وهاجُوا كالوحوش وأقْبّلوا ... ... أفواجَ مَلْحَمةٍ وعدَّة جَحْفَل
يخشَون من نَفَرٍ قَليلٍ ويحَهمْ ... ... صَبَرُوا على ضيقٍ يعضُّ ومعزلِ
يخشَوْن مِنْ إيمانهم ! وسلاحُهُمْ ... ... هذا اليقينُ وعدةٌ لم تعْدِلِ
حتى إذا اقْتَحُموُا عَلَيْهمْ دارَ بَيْـ ... ... ــنَهُمُ القِتالُ هُنَيْهَةً لم تُمْهلِ
دوّى الرصاص يزينُ شوق صدورهم ... ... مسكاً يفوحُ ولهفَةَ النّصْر الجلي
صعدوا ! تَلَقَّاهُم بشائر أمْنِهمْ ... ... عِزّاً تُردِّدُه الملائِكُ من عَلِ
تتلفَّتُ الحُجُراتُ ! أيْن النور ؟! أيْـ ... ... ــنَ طهارةُ الأنْفَاسِ من مُتَزَمِّلِ ؟!
أينَ الشذا منْ عابدين قَضَوا هُنَا ؟ ... ... مِنْ قائِمٍ أو ذاكِرٍ و مُرَتِّلِ ؟ !
* * * ... * ... * * *
مَنْ هُؤلاءِ المجرِمُون ؟! فَهَلْ تُرَى ... ... نُسِبُوا إلى الإِسلام نِسْبةَ جُهَّلِ
بَاعُوا نفوسَهُمُ لأسوأ مُجْرِمٍ ... ... وأضَلّ غَدارٍ وفِتْنَةِ مُدْغِلِ
باعُوا نفوسَهُمُ لشيطانٍ يقُو ... ... دُهُمُ لأسوأ فِتْنةٍ وتَحَوُّلِ
لهَوىً يقُودُهُمُ لشَرٍّ مُهْلِكٍ ... ... وعذاب آخِرةٍ وهُوْلٍ مُقْبِل
فَعَدَوْا عَلى إخوانِهِمْ ! يا لَيْتَهُمْ ... ... رَعَوُا الأُخُوَّة في وفاءٍ أَمْثَلِ
يا ليتَهُمْ أوفَوا بعَهْدٍ صادقٍ ... ... لله يُجْلى بالكتاب المُنزَلِ
* * * ... * ... * * *
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ) إشارة إلى احتفال الجنود الأمريكان في مطار قندهار الدولي بعيد الميلاد مع مغنيات أمريكيات يُرَفّهن عن الجنود ، وما يتبع ذلك من خمور وفساد وفتنة .
(2) مُثِعل : اجتمع بعضه على بعض .
(3) الجراح : يُقْصَد بها الجَرْحى .(/2)
معركة الإيمان مع الباطل
الحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنا، مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هادِيَ لَهُ، وأشْهَدُ أنْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ، وأشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ?يا أيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها، وَبَثَّ مِنْهُما رِجَالاً كَثِيراً وَنِساءً، واتَّقُوا اللَّهَ الذي تَساءَلُونَ بِهِ والأرْحامَ إنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً?[ النساء:1]. ?يا أيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وأَنْتُمْ مُسْلِمُون? [آل عمران:102]. ? يا أيُّهَا الَّذين آمَنوا اتَّقُوا اللَّه وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أعْمالَكُمْ، ويَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ، وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزَاً عَظِيماً? [الأحزاب:71].
السخرية بالدين والاستهزاء بالمرسلين طريقة الكفار والمشركين، وسنة الأولين والآخرين من المكذبين الضالين، إنهم لجهلهم وكبرهم وعنادهم ينسبون إلى الله جل جلاله وتقدست أسماؤه ما لا يليق به، ويحاربون رسله وأولياءه من الآمرين بالقسط من الناس ويرمونهم بالنقائص ويشوهون سيرتهم ويلبسون على العامة صورتهم ويشوشون ، وقد ذكر الله لنا في كتابه الكريم نماذج وأمثلة تبين ضلالات المشركين وجهالات الكافرين، فقد نسبوا إلى الله الولد سبحانه وجعلوا معه شركاء وأندادا فقال سبحانه مخبراً عن ضلالاتهم: ?أَلَا إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُّبِينٌ فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ?[الصافات:151-159].
إن الدفاع عن الباطل والاستماتة فيه لون من الضلال القديم، ولوثة من حمية الجاهلية، يصاب بها المدافعون عن الكفر والشرك والباطل، بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، وإخوانهم من شياطين الجن والإنس يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون.
إن أساليب التكذيب والإلحاد التي يستخدمها المشركون قديماً وحديثاً، هو المعركة على غير طبيعتها وحقيقتها، إنها معركة بين الحق والباطل بين الخير والشر، بين الهدى والضلال، بين الظلمات والنور ، إنها معركة الإيمان والكفر والحق والباطل لكنهم يَحرفون القضية عن مسارها وجديتها وطبيعتها ويلبسونها لوناً من السخرية والاستهزاء والتقليل من شأن المعركة ، ثم الاستخفاف بما يدعو إليه المرسلون وأتباعهم من العلماء الربانيين الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.
إن العبثية والسخرية التي نراها اليوم في عالمنا والتي تمس دين الأمة وعقيدتها، ما هو إلا اجترار لسنة المكذبين الغابرين. فقد ذكر المفسرون رحمهم الله في سبب نزول قوله تعالى: ?وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ ?[ الرعد: 13].، قالوا: أن خبيثاً من خبثاء قريش، ويبدو أنه من أصحاب حرية الإبداع قال: أخبرونا عن ربكم ، من ذهب هو، أم من فضة، أم من نحاس.فجاءته صاعقة فأخذته، فأنزل الله هذه الآية الكريمة: ?...وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ?[ الرعد: 13]. أي أن الكفار مع ظهور البراهين الساطعة والدلائل القاطعة التي تبين عظمة الله تعالى وقدرته ، آخذين في المغالطة والجدال حيث يكذبون رسله فيما يصفون به الله تعالى من العظمة والتوحيد والقدرة التامة ?... وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ ?[ الرعد: 13]، شديد القوة والأخذ والمكر بأعدائه، حيث يهلكهم الله من حيث لا يحتسبون.
والعجيب أنه في هول البرق والرعد والصواعق، وفي زحمة تسبيح الرعد بحمد ربه والملائكة من خيفته في هذا الهول ترتفع أصوات منكرة صادرة من البشر بالجدال في الله الذي تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن ، إن أصواتهم الضعيفة الحقيرة تضيع في غمرة هذا الهول المتجاوب بالدعاء والابتهال الذي نراه ونلمسه ، الرعد القاصف والبرق الخاطف والصواعق المدمرة والمطر الهاطل كلها مخلوقات ناطقة بوجود الله مسبحة له مثنية عليه. فأين من هذا كله أصوات الضعاف المهازيل من كفار البشر، السابقين منهم أواللاحقين.(/1)
إن الصخب والشوشرة والتشويش الذي يقوم به الكفار اليوم على مستوى العالم، إنما يهدف إلى إسكات صوت الإسلام ، وتمييع القضايا المصيرية التي من أجلها خلق الله الخلق، وأوجدهم، وتتناولها بشيء من السخرية والعبثية والاستهزاء، ليفتنوا بذلك عقيدة المسلمين.
إن كل مسلم رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً، يضيق صدره ويغلي قلبه غضباً إذا رأى وسمع من يتطاول على الله أو على الرسول أو القرآن أو على المؤمنين، بالسخرية والاستهزاء والازدراء.
فها هو سيد الخلق وخير البرية محمد صلى الله عليه وسلم كان يحزن ويتألم لما يراه من تكذيب المكذبين وسخرية الساخرين من الكفار والمشركين، وكانت التوجيهات الربانية تتنزل عليه تباعاً ، تثبّت فؤاده وتسري عنه وتأمره بالاستمرار في الدعوة إلى الله والبلاغ وعدم الاكتراث بالمكذبين المستهزئين.
قال الله سبحانه وتعالى مخاطباً نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم: ? فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللّهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ?[الحجر:94-99].
? فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ ...?[ الحجر: 94] أي: أظهر الدين الذي أمرك الله بتبليغه وبيانه ، وفرق بين الحق والباطل، ولا تبالي بالمكذبين المستهزئين ولا تخش منهم، ولا يصعب عليك ذلك فالله حافظك منهم وكافيك.
والمستهزئون المذكورون خمسة كما يقول المؤرخون وهم:
الوليد بن المغيرة، والعاصي بن وائل، والحارث بن قيس الهمي، والأسود بن عبد يغوث، والأسود بن المطلب. فأهلكهم الله في يوم واحد وليلة، أما العاص فقد ذكروا أنه خرج مع نفر منزل شعب من الشعاب فلما وضع قدمه على الأرض، قال: لدغت، فبحثوا فلم يجدوا شيئاً، وانتفخت رجله حتى كانت مثل عنق البعير ومات مكانه.
وأما الحارث، فقد نزل به عطش فلم يزل يشرب حتى انقدت بطنه فمات وهو يقول: قتلني رب محمد، وقيل: إنه كان يقذف وتخرج أقذاره من أنفه.
وأما الأسود بن عبد المطلب: فقد أخذ الله بصره وسلط عليه داءاً جعل يصرخ منه حتى مات وهو يقول قتلني رب محمد.
أما الوليد بن المغيرة فقد أصابه سهم في أكحله فقتله ، والأسود بن عبد يغوث خرج وفي رأسه قروح فمات منها بعد أن تغير لونه واسود وجهه .
وهكذا انتهت تلك الرؤوس الكافرة المستهزئة وأخذهم الله من حيث لم يحتسبوا. وهذه سنة الله عز وجل في كل مجرم كذاب يهلكه في الدنيا بألوان العذاب ويأخذه أخذ عزيز مقتدر ثم ينتقم منه في الآخرة والله عزيز ذو انتقام.
ثم ذكر الله تعالى ما يعانيه رسوله محمد صلى الله عليه وسلم من تكذيب الكفار وعنادهم وسخريتهم فقال سبحانه: ?وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ ?[ الحجر: 97] ثم بين سبحانه العلاج الناجع لذلك والشفاء لضيق الصدر من التكذيب والسوء الذي يتفوه به المشركون فقال سبحانه: ?فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ(98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ?[الحجر:98-99]. أمره بأربع أشياء : التسبيح والتحميد والسجود والعبادة.
والمعنى: فافزع إليه سبحانه والتجئ إليه فيما أصابك ونزل بك من ضيق الصدر ، ونزهه عن كل صفات العيب والنقص بكثرة التسبيح والحمد والذكر والصلاة و وإطالة القنوت والسجود فإن الله يكفيك ويكشف غمك ويشرح صدرك ولقد أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا التوجيه الكريم فكان إذا حز به أمر صلى.
ثم أمره الله عز وجل بأن يداوم على العبادة دون توقف ولا انقطاع حتى يأتيه اليقين وهو الموت.
فعلى كل مؤمن أن يسبح الله وينزهه ويعظمه وأن يستمر على العبادة والذكر وأن يكثر من الطاعات كلما اشتد الظلام وازداد التكذيب والعناد فإن القلب إذا استنار بمعرفة الله وعظمته هانت الدنيا وما فيها ومن فيها، وكان ذلك إيذاناً بقرب الفرج والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
إن أخطر شيء تصاب به الأمة هو الهزيمة النفسية والمهزوم نفسياً تخور قواه وتنهار، لا يستطيع الصمود ولا المقاومة إنه ينهزم أمام عدوه، ويتخلى عن سلاحه وأسباب قوته. وأول ما يدخل النقص والهزيمة إلى الفكر والعقيدة وإلى التصور وتغيير الهوية.
فإذا ما شك الإنسان في دينه وظن بالله ظن الجاهلية ثم أخذ يتخلى عن التمسك بدينه والتنازل عنه أو المساومة عليه حين يصنع ذلك يكون قد سقط في الفخ ووقع في الهزيمة المادية والمعنوية.(/2)
إن أعداء الإسلام بالأمس واليوم وغداً يسعون لتشكيك الأمة في ثوابتها ومسلماتها الإيمانية والعقائدية والأخلاقية والحرب اليوم على أشدها يريد الكفار أن يقنعونا بأن حضارتهم خير من حضارتنا، وأن أخلاقهم خير من أخلاقنا وأن عقيدتهم خير من عقيدتنا، إنهم يريدون منا أن نترك ديننا وأن نكفر بالله ونجعل له أنداداً.
إنهم يريدون منا أن ننسلخ عن أخلاقنا وقيمنا ، فالصدق لا ينفع، والعفة تخلف وجمود.
وإن الزواج ضرب من التقاليد البدائية التي لا تتناسب مع التطور ،وأن الشذوذ والإباحية والانحراف هو السلوك الحضاري الذي يريد النظام العالمي اليوم أن تفرضه الحكومات على شعوبها.. والبرنامج قائم بالفعل والأمة مستهدفة في دينها وأخلاقها ومقوماتها ، إن أعداء الإسلام يريدون أن تعلو قيم الجاهلية وتسود العالم من أقصاه إلى أقصاه.
لكن هذا الواقع يجب أن لا يستسلم له المسلم أبداً عليه أولاً أن يستعلي بإيمانه ويستمسك به ويوقن بأن الإسلام هو الحق وما سواه ضلال بعيد. عليه أن يحصن نفسه بالدين والأخلاق.
عليه أن يتعلم ويتعرف على أدلة هذا الدين وبراهينه من ناحية كما أن عليه أن يتعرف على عورات الباطل والخلل والفساد والمساوئ التي يقوم عليها حتى يسهل عليه مقاومته وإبطاله وتحذير الناس منه ودعوتهم إلى الإسلام الدين الحق الذي كتب الله له الخلود والبقاء والدوام والاستمرار إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
الخطبة الثانية:
إن السكوت على الباطل وترك قيم الجاهلية المعاصرة تسود على المفاهيم ، أمر لا يجوز مهما كان الضعف المادي الذي يمر به المسلمون، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في معركة أحد حين أصيب المسلمون بآلام وجراح حتى رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسلم من ذلك. أخذت المشركين النشوة ، نشوة الانتصار. وأشرف أبو سفيان على الجبل ونادى أفيكم محمد؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تجيبوه، فقال : أفيكم ابن أبي قحافة؟ فلم يجيبوه، فقال: أفيكم عمر بن الخطاب؟ فلم يجيبوه. ولم يسأل إلا عن هؤلاء الثلاثة، فقال لقومه: أما هؤلاء فقد كفيتموهم. فلم يملك عمر - رضي الله عنه - نفسه أن قال: يا عدو الله، إن الذين ذكرتهم أحياء. وقد أبقى الله لك ما يسوؤك! ثم قال: أعل هبل، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (ألا تجيبونه؟ قالوا بماذا يا رسول الله ، قال: قولوا: الله أعلى وأجل، قال أبو سفيان: لنا العزى ولا عزى لكم! قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ألا تجيبونه؟ قالوا بماذا يا رسول الله؟ قال : قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم، قال أبو سفيان: يوم بيوم بدر والحرب سجال .فقال عمر - رضي الله عنه - ـ لا سواء ـ قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار).
لذا ينبغي للمسلم أن يكون دائماً وأبداً لا يتنازل للباطل ولا يسكت عليه حتى ولو كان الباطل منتفشاً كما هو الحال اليوم، ولهذا فإن الله عز وجل خاطب المؤمنين بقوله الكريم: ? وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ?[ آل عمران: 139].
لا تهنوا من الوهن والضعف ، ولا تحزنوا لما أصابكم ولا لما فاتكم وأنتم الأعلون.. أنتم على عقيدة، فأنتم تسجدون لله وحده ، وهم يسجدون لشيء من خلقه أو لبعض من خلقه ?... أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ?[ يوسف: 39].
وأنتم أيها المؤمنون على منهج، فأنتم تسيرون على منهج الله القويم وهم يسيرون على ضلال وعلى مناهج بشرية قاصرة تتخبط فيهم وبهم الشياطين: ? أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ?[ الملك:22].
ودوركم أيها المؤمنون أرفع وأعلى، فأنتم الأوصياء على هذه البشرية كلها ، أنتم الهداة لهذه البشرية كلها والداعون إلى الخير والنجاة والفلاح ، وهم شاردون عن الصراط المستقيم ضالون عن الطريق القويم.
أنتم أيها المؤمنون مكانكم في الأرض أرفع وأعلى وأبقى فلكم وراثة الأرض التي وعدكم الله بها ، وهم إلى الفناء والزوال والنسيان صائرون.
فإن كنتم مؤمنين حقاً فأنتم الأعلون، وإن كنتم مؤمنين حقاً فلا تهنوا ولا تحزنوا، وإن كنتم مؤمنين حقاً فلا ترضخوا ولا تستسلموا. فإنما هي سنة الله عز وجل التي يبتلي بها عباده فيصابوا ويصيبوا ، ثم تكون العاقبة لهم بعد الجهاد والابتلاء والتمحيص.
اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين.
أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه والباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، وصل وسلم على سيدنا محمد وآله وارض اللهم عن خلفائه الراشدين وأصحابه أجمعين.
راجعه/ عبد الحميد أحمد مرشد.
سنن أبي داؤود 1/420، حديث رقم: 1319 ، وحسنه الألباني .
صحيح البخاري: كتاب المغازي: باب: غزوة أحد: الحديث رقم: (3817).عن البراء رضي الله تعالى عنه.(/3)
معركة سومنات فتح الهند الأعظم'
كتبه للمفكرة / شريف عبد العزيز
المكان / مدينة 'سومنات' نهر 'الجانح' الهند
المسلمون بقيادة 'محمود بن سبكتكين' يفتحون بلاد 'الهند'
مقدمة:
مفكرة الإسلام : يعتبر دخول الإسلام إلى بلاد الهند الشاسعة أشبه ما يكون بالملاحم الأسطورية التي سطرها كبار المؤلفين والمؤرخين، والإسلام قد دخل بلاد الهند الضخمة والواسعة منذ القرن الأول الهجري، ولكنه ظل في بلاد السند بوابة الهند الغربية فترة طويلة من الزمان، حتى جاء العهد الذي اقتحم فيه الإسلام تلك البلاد الكبيرة المتشعبة الأفكار والعادات، والمبنية على نظام الطبقات، فاصطدم الإسلام ليس فقط مع القوة المادية والجيوش الحربية ولكنه اصطدم أيضا مع الأفكار الغربية والانحرافات الهائلة و الضلالات المظلمة لذلك فإن معركة الإسلام مع الكفر بأنواعه الكثيرة بالهند ظلت لمئات السنين، ومازالت قائمة حتى وقتنا الحاضر والذي نلمسه جلياً في المذابح والمجازر السنوية والموسمية التي يقوم بها عباد البقر من الهندوس ضد المسلمين، الذين تحولوا من قادة وحكام للبلاد إلى أقلية وذلك رغم ضخامة أعدادهم مقارنة بغيرهم من بلدان العالم .
الإسلام والهند
بلاد الهند قديماً قبل التقسيم الحالي كانت تشمل بجانب الهند كلا من [باكستان ، وأفغانستان، وبورما،] وغيرهم إلى حدود الصين، وكانت منقسمة إلى بلاد الهند وبلاد السند، لذلك فلقد عرفت عند الجغرافيين باسم 'شبه القارة الهندية' لضخامتها، ولقد دخل الإسلام إلى بلاد السند منذ الأيام الأولى للدولة الإسلامية، وبالتحديد سنة 15 هجرية في خلافة 'عمر بن الخطاب'عن طريق الحملات الاستكشافية التي قادها 'الحكم بن العاص' الذي وصل إلى ساحل الهند، وتواصلت الحملات الاستكشافية أيام أمير المؤمنين 'عثمان بن عفان' ولكنه رضي الله عنه رفض إرسال جيوش كبيرة خوفاً على المسلمين لبعد البلاد واتساعها .
ظل الأمر هكذا حتى صدر الدولة الأموية وعندما تولى 'زياد بن أبيه' العراق وما بعدها، فقرر أن يجعل سواحل الهند ولاية منفصلة سميت بالثغر، وتشمل المساحة التي تلي [سجستان وزابلستان وطخارستان 'أفغانستان الآن] وكان أول من تولاها رجل اسمه 'راشد بن عمرو' ومن يومها بدأت الحملات الجهادية القوية للفتح الإسلامي للهند، وبرز رجال في تلك الحملات : أمثال [عباد بن زياد وسعيد بن أسلم ومحمد بن هارون] وكلهم أكرمهم الله بالشهادة في ميادين الجهاد .
كان التحول الكبير في مسيرة الفتح الإسلامي للهند عندما تولى الشاب القائد 'محمد بن القاسم الثقفي' رحمه الله قيادة الحملات الجهادية بناحية السند، وحقق انتصارات هائلة بالقضاء على ملك السند 'داهر البرهمى' وفتح معظم بلاد 'السند' وضمها للدولة الإسلامية، وأزال عنها شعائر الشرك والكفر والبوذية والبرهمية، وذلك سنة 89 هجرية، ولكن 'محمد بن القاسم' ما لبث أن راح ضحية لمؤامرة دنيئة قامت بها 'صيتا ابنة داهر' حيث ادعت وافترت عليه كذباً أنه أغتصبها، وسجن 'ابن القاسم' ومات في سجنه، وحزن عليه أهل 'السند' حزناً شديداً، وبموته توقفت حركة الفتح الإسلامي للهند .
وبعد ذلك انتفض ملوك 'الهند' و'السند' وعادوا إلى عروشهم، فلما تولى الخليفة الراشد 'عمر بن عبد العزيز' كتب إلى ملوك 'السند' يدعوهم إلى الإسلام والطاعة على أن يظل كل ملك منهم مكانه، وله ما للمسلمين وعليه ما عليهم، فأجابوه، ودخلت بلاد 'السند' كلها في الطاعة المسلمين، وأسلم أهلها وملوكها وتسموا بأسماء العرب، وبهذا أصبحت بلاد 'السند' بلاد إسلام، وقد اضطرب أمر 'السند' في أواخر أيام بنى أمية، ولكنها عادت إلى الطاعة والانتظام في أيام 'أبى جعفر المنصور' وفي أيامه افتتحت 'كشمير' ودخلت في دولة الإسلام، ولكن ظلت بلاد 'الهند' الغربية بعيدة عن الإسلام حتى ظهرت عدة دول محلية موالية للخلافة العباسية، ولكنها مستقلة إدارياً وسياسياً ومالياً ، ومن أعظم تلك الدول المحلية التي ساعدت على نشر الإسلام دولة الغزنويين وقائدها الفاتح الكبير 'محمود بن سبكتكين' .
الدولة الغزنوية
اسمها مشتق من اسم عاصمتها وهى مدينة 'غزنة' الموجودة حالياً بأفغانستان وأصل هذه الدولة يرجع إلى القائد 'سبكتكين' الحاجب التركي الذي عمل في خدمة الأمير 'عبد الملك بن نوح السامانى' وترقى في المناصب وارتفعت به الأطوار حتى نال رضا أمراء 'السامانية' فعينوه والياً على 'خراسان' و'غزنة' و'بيشاور'، فكون نواة الدولة 'الغزنوية' وتفرغ لمحاربة أمراء وملوك 'الهند' وخاصة ملوك شمال 'الهند'، وأكبرهم الملك 'جيبال' الذي قاد ملوك وأمراء الشمال الهندي، واصطدم مع المسلمين بقيادة 'سبكتكين' سنة 369هجرية، وكان النصر حليفاً للمسلمين، فرسخ بذلك 'سبكتكين' الوجود الإسلامي وكذا أركان دولته الوليدة ببلاد 'الأفغان' و'طاجيكستان' .(/1)
وكل ما قام به 'سبكتكين' كان باسم 'السامانيين' وملوك ما وراء النهر، ولم يعلن استقلاله حتى وقتها، ثم قام بأداء أعظم مهمة لصالح الدولة 'السامانية' عندما قضى على قوة 'البوبهيين' الشيعة بنيسابور' سنة 383 هجرية، فقام الأمير 'نوح بن نصر السامانى' بتعين 'محمود بن سبكتكين' والياً على 'نيسابور'ن وبالتالي غدت الدولة 'الغزنوية' أوسع من الدولة 'السامانية' نفسها، ومات 'سبكتكين' سنة 388 هجرية، وخلفه ابنه 'محمود' لتدخل المنطقة عهداً جديداً من الفتوحات، لم تعرف مثله منذ أيام الخليفة 'الفاروق' .
الفاتح الكبير
لم يكد الأمر يستقر للقائد الجديد 'محمود بن سبكتكين' حتى بدأ نشاطاً جهادياً واسعاً أثبت أنه من أعاظم الفاتحين في تاريخ الإسلام، حتى قال المؤرخون أن فتوحه تعدل في المساحة فتوح الخليفة 'عمر بن الخطاب'، وقد اتبع سياسة جهادية في غاية الحكمة تقوم أساساً على تقوية وتثبيت الجبهة الداخلية عسكرياً وسياسياً وعقائدياً وهو الأهم فعمل على ما يلى :
1- القضاء على كل المذاهب والعقائد الضالة المخالفة لعقيدة أهل السنة والجماعة مثل الاعتزال والتشيع والجمهية والقرامطة والباطنية ، والعمل على نشر عقيدة السلف الصالح بين لبلاد الواقعة تحت حكمه.
2- قضى على الدولة 'البويهية' الشيعية والتي كانت من عوامل التفرق والانحلال في الأمة الإسلامية كلها، حتى بلاغ بها الأمر في التفكير بالعودة للعصر 'الساسانى' الفارسى، واتخاذ ألقاب المجوس مثل 'شاهنشاه' وبالقضاء على تلك الدولة الرافضية قدم السلطان 'محمود' أعظم خدمة للإسلام .
3- أزال الدولة السامانية' التي بلغت حالة شديدة السوء من الضعف والانحلال أثرت بشدة على سير الحملات الجهادية والفتوحات على الجبهة الهندية .
4-أدخل بلاد الغور وسط 'أفغانستان' وهى مناطق صحراوية شاسعة في الإسلام، وأرسل إليهم معلمين ودعاة وقراء، وقضى على دولة 'القرامطة' الصغيرة بالملتان، وكان يقودها رجل اسمه 'أبو الفتوح داود' وأزال عن هذه البلاد العقائد الضالة والفرق المنحرفة مثل الباطنية والإسماعيلية .
5- أعلن خضوع دولته الضخمة وتبعيتها للخلافة العباسية ببغداد وخطب للخليفة العباسي 'القادر بالله' وتصدى لمحاولات وإغراءات الدولة الفاطمية للسيطرة على دولته، وقام بقتل داعية الفاطميين 'التاهرتى' الذي جاء للتبشير بالدعوة الفاطمية ببلاد 'محمود بن سبكتكين'، وأهدى بغلته إلى القاضي 'أبى منصور محمد بن محمد الأزدى' وقال 'كان يركبها رأس الملحدين، فليركبها رأس الموحدين' .
وهكذا ظل السلطان 'محمود بن سبكتكين' يرتب للبيت من الداخل ويقوى القاعدة إيمانياً وعقائدياً وعسكرياً، ويكون صفاً واحداً استعداداً لسلسلة الحملات الجهادية الواسعة لفتح بلاد 'الهند' .
فتوحات الهند الكبرى
بدأ السلطان محمود فتوحاته الكبيرة ببلاد 'الهند' من مركز قوة بعد أن ثبت الجبهة الداخلية لدولته، فقد كان يسيطر على سهول 'البنجاب' فكانت مداخل الجبال وممر خيبر الشهير في يده، وكذلك لم يكن هناك مناؤى أو معارض داخلي للسلطان 'محمود' يعيق حملاته الجهادية، والهضبة الإيرانية كلها تحت حكمه وسيطرته، لذلك البداية في غاية القوة .
بدأت الحملات الجهادية بحملة كبيرة على شمال 'الهند' سنة 392 هجرية، حيث انتصر السلطان 'محمود' على ملك الهند الكبير والعنيد 'جيبال' وجيوشه الجرارة، ووقع 'جيبال' في الأسر، فأطلقه السلطان 'محمود' لحكمه يعلمها الله ثم هو : وهى إذلاله نتيجة حروبه الطويلة ضد المسلمين منذ أيام والده السلطان 'سبكتكين'، وكان من عادة الهنود أنه إذا وقع منهم في أيدي المسلمين أسيراً لا تنعقد له بعدها رياسة، فلما رأى 'جيبال' ذلك حلق رأسه ثم أحرق نفسه بالنار، فاحترق بنار الدنيا قبل الآخرة.
غزا السلطان 'محمود' بعد ذلك أقاليم : 'ويهنده'، و'الملثان'، و'بهاتندة'، ثم حارب 'أناندابال'، وانتصر عليه، وأزال حكمه من شمال 'الهند' تماماً وقضى على سلطانه في 'البنجاب' وبعد ذلك مباشرة عمل على نشر الإسلام الصحيح في كل نواحى 'السند' إلى حوض 'البنجاب' .
تصدى السلطان 'محمود' لمحاولة أمراء شمال 'الهند' استعادة ما أخذ المسلمون، وانتصر عليهم في معركة هائلة سنة 398 هجرية، وفتح أحصن قلاع 'الهند' قلعة 'بيهيمنكر' على جبال 'الهملايا'، وأخضع مدينة 'ناردبين' أحصن وأقوى مدن إقليم 'الملتان' .(/2)
وفي سنة 408 هجرية فتح السلطان 'محمود' إقليم 'كشمير'، وحوله لبلد مسلم، وكان لهذا الفتح صدى بعيد نتج عنه دخول العديد من أمراء 'الهند' في الإسلام، وعبر السلطان 'محمود' بجيوشه نهر 'الكنج' أو 'الجانح' وهدم نحو عشرة آلاف معبد هندوسى، ثم هاجم أكبر مراكز 'البراهمة' في 'موجهاوان' وواصل تقدمه وهو يحطم أية قوة هندية تبرز له، ويحول المعابد الهندوسية إلى مساجد يعبد الله فيها وحده، وقد أخذ السلطان 'محمود' على عاتقه نشر الإسلام في بلاد الهند والقضاء على الوثنية فيها، وبلغ في فتوحاته إلى حيث لم تبلغه في الإسلام راية ولم تتل به قط سورة ولا آية .
فتح سومنات
استمر السلطان 'محمود بن سبكتكين' في حملاته وفتوحاته لبلاد 'الهند' وكان كلما فتح بلداً أو هدم صنماً أو حطم معبداً قال الهنود : إن هذه الأصنام والبلاد قد سخط عليها الإله 'سومنات' ولو أنه راض عنها لأهلك من قصدها بسوء، ولم يعر السلطان 'محمود' الأمر اهتمامه حتى كثرت القالة، وأصبحت يقيناً عند الهنود، فسأل عن 'سومنات' هذا فقيل له : إنه أعظم أصنام وآلهة الهنود، ويعتقد الهنود فيه أن الأرواح إذا فارقت الأجساد اجتمعت إليه على عقيدة التناسخ فيعيدها فيمن شاء، وأن المد والجزر الذي عنده إنما هو عبادة البحر له .
يقع 'سومنات' على بعد مائتي فرسخ من مصب نهر 'الجانح' بإقليم 'الكوجرات' في غرب الهند، ولهذا الصنم وقف عشرة آلاف قرية، وعنده ألف كاهن لطقوس العبادة، وثلاثمائة رجل يحلقون رءوس ولحى زواره، وثلاثمائة رجل وخمسمائة امرأة يغنون ويرقصون على باب الصنم، وأما الصنم 'سومنات' نفسه فهو مبنى على ست وخمسين سارية من الصاج المصفح بالرصاص، و'سومنات' من حجر طوله خمسة أذرع، وليس له هيئة أو شكل بل هو ثلاث دوائر وذراعان .
عندما اطلع سلطان الإسلام السلطان 'محمود' على حقيقة الأمر عزم على غزوه وتحطيمهن وفتح معبده : ظناً منه أن 'الهند' إذا فقدوه ورأوا كذب ادعائهم الباطل دخلوا في الإسلام، فالسلطان 'محمود' لا يبغى من جهاده سوى خدمة ونشر الإسلام فاستخار الله عز وجل،وخرج بجيوشه ومن انضم إليه من المتطوعين والمجاهدين وذلك في 10 شعبان سنة 416 هجرية، واخترق صحارى وقفار مهلكة لا ماء فيها ولا ميرة، واصطدم بالعديد من الجيوش الهندية وهو في طريقه إلى 'سومنات'، مع العلم أنه أعلم الجميع بوجهته وهدفه، ليرى الهنود إن كان 'سومنات' سيدفع عن نفسه أو غيره شيئاً .
بلغ السلطان 'محمود' بجيوشه مدينة 'دبولواره' على بعد مرحلتين من 'سومنات'، وقد ثبت أهلها لقتال المسلمين ظناً منهم أن إلههم 'سومنات' يمنعهم ويدفع عنهم، فاستولى عليها المسلمون، وحطموها تماماً، وقتلوا جيشها بأكمله، وساروا حتى وصلوا إلى 'سومنات' يوم الخميس 15 ذي القعدة سنة 416 هجرية، فرأوا حصناً حصيناً على ساحل النهر، وأهله على الأسوار يتفرجون على المسلمين واثقين أن معبدوهم يقطع دابرهم ويهلكهم .
وفي يوم الجمعة 16 ذي القعدة وعند وقت الزوال كما هي عادة المسلمين الفاتحين زحف السلطان 'محمود' ومن معه من أبطال الإسلام، وقاتلوا الهنود بمنتهى الضراوة، بحيث إن الهنود صعقوا من هول الصدمة القتالية بعدما ظنوا أن إلههم الباطل سيمنعهم ويهلك عدوهم، ونصب المسلمون السلالم على أسوار المدينة وصعدوا عليها وأعلنوا كلمة التوحيد والتكبير وانحدروا كالسيل الجارف داخل المدينة، وحينئذ اشتد القتال جداً وتقدم جماعة من الهنود إلى معبدوهم 'سومنات' وعفروا وجوههم وسألوه النصر، واعتنقوه وبكوا، ثم خرجوا للقتال فقتلوا جميعاً وهكذا فريق تلو الآخر يدخل ثم يقتل وسبحانه من أضل هؤلاء حتى صاروا أضل من البهائم السوائم، قاتل الهنود على باب معبد الصنم 'سومنات' أشد ما يكون القتال، حتى راح منهم خمسون ألف قتيل، ولما شعروا أنهم سيفنون بالكلية ركبت البقية منهم مراكب في النهر وحاولوا الهرب، فأدركهم المسلمون فما نجا منهم أحد، وكان يوماً على الكافرين عسيراً، وأمر السلطان 'محمود' بهدم الصنم 'سومنات' وأخذ أحجاره وجعلها عتبة لجامع غزنة الكبير شكراً لله عز وجل .
أعظم مشاهد المعركة
لهذا المشهد نرسله بصورة عاجلة لكل الطاعنين والمشككين في سماحة وعدالة الدين الإسلامي، وحقيقة الجهاد في سبيل الله وأن هذا الجهاد لم يرد به المسلمون أبداً الدنيا وزينتها، بل كان خالصاً لوجه الله، ولنشر دين الإسلام وإزاحة قوى الكفر وانطلاقاً من طريق الدعوة الإسلامية .(/3)
أثناء القتال الشرس حول صنم 'سومنات' رأى بعض عقلاء الهنود مدى إصرار المسلمين على هدم 'سومنات' وشراستهم في القتال حتى ولو قتلوا جميعاً عن بكرة أبيهم، فطلبوا الاجتماع مع السلطان 'محمود' ، وعرضوا عليهم أموالاً هائلة، وكنوزاً عظيمة في سبيل ترك 'سومنات' والرحيل عنه، ظناً منهم أن المسلمين ما جاءوا إلا لأجل الأموال والكنوز فجمع السلطان 'محمود' قادته، واستشارهم في ذلك، فأشاروا عليه بقبول الأموال للمجهود الضخم والأموال الطائلة التي أنفقت على تلك الحملة الجهادية، فبات السلطان 'محمود' طول ليلته يفكر ويستخير الله عز وجل، ولما أصبح قرر هدم الصنم 'سونمات'، وعدم قبول الأموال وقال كلمته الشهيرة {وإنى فكرت في الأمر الذي ذكر، فرأيت إذا نوديت يوم القيامة أين 'محمود' الذي كسر الصنم ؟ أحب إلى من أن يقال : الذي ترك الصنم لأجل ما يناله من الدنيا ؟ ! }
وهكذا نرى هذا الطراز العظيم من القادة الربانيين الذين لم تشغلهم الدنيا عن الآخرة، ولا أموال الدنيا وكنوزها عن نشر رسالة الإسلام وخدمة الدعوة إليه، والذين ضربوا لنا أروع الأمثلة في بيان نصاعة وصفاء العقيدة الإسلامية، وأظهروا حقيقة الجهاد في سبيل الله وغاياته النبيلة .
المصادر:
الكامل في التاريخ / التاريخ الإسلامي / تاريخ الخلفاء
أطلس تاريخ الإسلام / البداية والنهاية / النجوم الزاهرة
أيعيد التاريخ نفسه / سير أعلام النبلاء / فتوح البلدان
وفيات الأعيان / موسوعة التاريخ الإسلامي(/4)
معركة شقحب أو مرج الصفر
د. محمد لطفي الصباغ
________________________________________
كان الرعب الذي يرافق تحركات المغول شديداً يملأ صدور الناس ويوهن من قواهم، فكلما سمع الناس قصدهم إلى بلد فرّوا من مواجهتهم. وقد سهّل هذا الرعب لهؤلاء الغزاة المعتدين سبيل النصر والغلبة.
وكان الخليفة المستكفي بالله والسلطان الناصر مقيمين في مصر كما هو معلوم، ويبدو أنّ أخبار عزم التتار على تجديد حملاتهم لدخول بلاد الشام وإزالة دولة المماليك بلغ المسؤولين في مصر، فعمل العلماء وأولوا الفكر والرأي على إشراك الخليفة والسلطان في مواجهة هؤلاء الغزاة.
ففي شهر رجب من سنة 702 هـ قويت الأخبار بعزم التتار على دخول بلاد الشام، فانزعج الناس لذلك، واشتدّ خوفهم جداً كما يقول الحافظ ابن كثير، وقنت الخطيب في الصلوات، وقُرِئ [صحيح] البُخاري، وهذه عادة كانوا يستعملونها في مواجهة الأعداء فيعمدون إلى قراءته في المسجد الجامع.
وشرع الناس في الهرب إلى الديار المصرية والكرك والحصون المنيعة، وتأخّر مجيء العساكر المصرية عن إبانها فاشتدّ لذلك الخوف.
قال ابن كثير:
(وفي يوم السبت عاشر شعبان ضربت البشائر بالقلعة - أي قلعة دمشق - وعلى أبواب الأمراء بخروج السلطان من مصر لمناجزة التتار المخذولين.. وفي ثامن عشر من شعبان قدمت طائفة كبيرة من جيش المصريين، فيهم كبار الأمراء من أمثال ركن الدين بيبرس الجاشنكير وحسام الدين لاجين وسيف الدين كراي).
ثم قدمت بعدهم طائفة أخرى فيهم بدر الدين أمير السلاح وأيبك الخزندار. فقويت القلوب في دمشق، واطمأن كثير من الخلق، ولكنَّ الناس في الشمال سيطر عليهم الذعر، واستبدّ بهم الفزع فنزح عدد عظيم منهم من بلاد حلب وحماة وحمص.. ثم خافوا أن يدهمهم التتار فنزلوا إلى المرج.
ووصل التتار إلى حمص وبعلبك وعاثوا في تلك البلاد فساداً، وقلق الناس قلقاً عظيماً لتأخُّر قدوم السلطان ببقية الجيش، وخافوا خوفاً شديداً، وبدأت الأراجيف تنتشر وشرع المثبِّطون يوهنون عزائم المقاتلين ويقولون: لا طاقة لجيش الشام مع هؤلاء المصريين بلقاء التتار لقلة المسلمين وكثرة التتار. وزَيَّنوا للناس التراجعَ والتأخُّرَ عنهم مرحلة مرحلة. ولكن تأثير العلماء ولاسيما شيخ الإسلام ابن تيمية كان يتصدّى لهؤلاء المرجفين المثبّطين، حتى استطاعوا أن يقنعوا الأمراء بالتَّصدِّي للتتار مهما كان الحال.
واجتمع الأمراء وتعاهدوا وتحالفوا على لقاء العدوّ وشجَّعوا رعاياهم، ونوديَ بالبلد دمشق أن لا يرحل منه أحد، فسكن الناس وهدأت نفوسهم وجلس القضاة بالجامع يحلِّفون جماعة من الفقهاء والعامّة على القتال، وتوقّدت الحماسة الشعبية، وارتفعت الروح المعنوية عند العامة والجند. وكان لشيخ الإسلام ابن تيمية أعظم التأثير في ذلك الموقف، فقلد عمل على تهدئة النفوس، حتَّى كان الاستقرار الداخلي عند الناس والشعور بالأمن ورباطة الجأش. ثم عمل على إلهاب عواطف الأمة وإذكاء حماستها وتهيئتها لخوض معركة الخلاص.. ثمّ توجّه ابن تيمية بعد ذلك إلى العسكر الواصل من حماة فاجتمع بهم في القطيفة، فأعلمهم بما تحالف عليه الأمراء والناس من لقاء العدو، فأجابوا إلى ذلك وحلفوا معهم.
وكان شيخ الإسلام ابن تيمية يحلف للأمراء والناس: إنكم في هذه الكرّة منصورون. فيقول له الأمراء: قل إن شاء الله. فيقول: إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً. وكان يتأوَّل في ذلك أشياء من كتاب الله منها قوله تعالى : (ذلك ومَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عوقِبَ بهِ ثمَّ بُغِيَ علَيهِ لَيَنْصُرُّنَّهُ اللهُ).
وقد ظهرت عند بعضهم شبهات تفُتُّ في عضد المحاربين للتتار من نحوِ قولهم: كيف نقاتل هؤلاء التتار وهم يظهرون الإسلام وليسوا بُغاة على الإمام.. فإنهم لم يكونوا في طاعته في وقت ثم خالفوه؟
فردَّ شيخ الإسلام ابن تيمية هذه الشُّبهة قائلاً: هؤلاء من جنس الخوارج الذين خرجوا على عليٍّ ومعاوية رضي الله عنهما، ورأوا أنهم أحقُّ بالأمر منهما، وهؤلاء يزعمون أنهم أحقّ بإقامة الحقّ من المسلمين وهم متلبِّسون بالمعاصي والظُّلْم. فانجلى الموقف وزالت الشبهة وتفطّن العلماء والناس لذلك ومضى يؤكّد لهم هذا الموقف قائلاً:
إذا رأيتموني في ذلك الجانب-يريد جانب العدوّ- وعلى رأسي مصحف فاقتلوني، فتشجّع الناس في قتال التتار وقويت قلوبهم.
وامتلأت قلعة دمشق والبلد بالناس الوافدين، وازدحمت المنازل والطرق. وخرج الشيخ تقي الدين بن تيمية من دمشق صبيحة يوم الخميس من باب النصر بمشقّة كبيرة وصَحِبَتْهُ جماعة كبيرة يشهد القتال بنفسه وبمن معه. فظنّ بعض الرعاع أنه خارج للفرار فقالوا: أنت منعتنا من الجفل وها أنت ذا هارب من البلد.. فلم يردّ عليهم إعراضاً عنهم وتواضعاً لله، ومضى في طريقه إلى ميدان المعركة.(/1)
وخرجت العساكر الشامية إلى ناحية قرية الكسْوة. ووصل التتار إلى قارَة. وقيل: إنهم وصلوا إلى القطيفة فانزعج الناس لذلك، وخافوا أن تكون العساكر قد هربوا، وانقطعت الآمال، وألحّ الناس في الدعاء والابتهال في الصلوات وفي كلّ حال. وذلك في يوم الخميس التاسع والعشرين من شعبان.. فلمَّا كان آخر هذا اليوم وصل أحد أمراء دمشق، فبشَّرَ الناس بأنَّ السلطان قد وصل وقتَ اجتماع العساكر المصرية والشامية.
وتابع التتار طريقهم من الشمال إلى الجنوب ولم يدخلوا دمشق بل عرجوا إلى ناحية تجمُّع العساكر، ولم يشغلوا أنفسهم باحتلال دمشق وقالوا: إن غلبنا فإنّ البلد لنا وإن غُلِبنا فلا حاجة لنا به.
ووقفت العساكر قريباً من قرية الكسوة، فجاء العسكر الشامي، وطلبوا من شيخ الإسلام أن يسير إلى السلطان يستحثُّه على السير إلى دمشق، فسارَ إليه، فحثّه على المجيء إلى دمشق بعد أن كاد يرجع إلى مصر. فجاء هو وإيّاه جميعاً، فسأله السلطان أن يقف معه في معركة القتال، فقال له الشيخ ابن تيمية: السُّنَّةُ أن يقف الرجُلُ تحت راية قومه، ونحن من جيش الشام لا نقف إلاَّ معهم.
وحرّض السلطان على القتال، وبشَّره بالنصر، وجعل يحلف بالله الذي لا إله إلاَّ هو: إنَّكم منصورون عليهم في هذه المرَّة. فيقول له الأمراء: قل إن شاء الله. فيقول: إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً.
وأفتى الناسَ بالفطر مدّة قتالهم، وأفطر هو أيضاً وكان يدور على الأجناد والأمراء فيأكل من شي معه في يده ليعلِمهم أنَّ إفطارهم ليتقوَّوْا به على القتال أفضل من صيامهم.
ولقد نظَّم المسلمون جيشهم في يوم السبت 2 رمضان أحسن تنظيم، في سهل شقحب الذي يشرف على جبل غباغِب. وكان السلطان الناصر في القلب، ومعه الخليفة المستكفي بالله والقضاة والأمراء. وقبل بدء القتال اتُّخِذَت الاحتياطات اللازمة، فمرّ السلطان ومعه الخليفة والقرَّاء بين صفوف جيشه، يقصد تشجيعهم على القتال وبثِّ روح الحماسة فيهم. وكانوا يقرؤون آيات القرآن التي تحضُّ على الجهاد والاستشهاد وكان الخليفة يقول: دافعوا عن دينكم وعن حريمكم.
ووضِعت الأحمال وراء الصفوف، وأُمر الغلمان بقتل من يحاول الهرب من المعركة. ولمَّا اصطفَّت العساكر والتحم القتال ثبت السلطان ثباتاً عظيماً وأمر بجواده فقُيِّد حتى لا يهرب، وبايع اللهَ تعالى في ذلك الموقف يريد إحدى الحسنيين إما النصر وإما الشهادة في سبيل الله، وصدق الله فصدقه الله. وجرت خطوب عظيمة، وقُتِل جماعة من سادات الأمراء يومئذ، منهم الأمير حسام الدين لاجين الرومي، وثمانية من الأمراء المقدَّمين معه.
واحتدمت المعركة، وحمي الوطيس، واستحرّ القتل، واستطاع المغول في بادئ الأمر أن ينزلوا بالمسلمين خسارة ضخمة فقتِل من قتِل من الأمراء.. ولكن الحال لم يلبث أن تحوّل بفضل الله عزّ وجلّ، وثبت المسلمون أمام المغول، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وتغيَّر وجه المعركة وأصبحت الغلبة للمسلمين، حتّى أقبل الليل فتوقّف القتال إلاّ قليلاً، وطلع المغول إلى أعلى جبل غباغِب، وبقوا هناك طول الليل، ولما طلع النهار نزلوا يبغون الفرار بعد أن ترك لهم المسلمون ثغرة في الميسرة ليمرّوا منها، وقد تتّبعهم الجنود المسلمون وقتلوا منهم عدداً كبيراً، كما أنهم مرّوا بأرض موحِلة، وهلك كثيرون منهم فيها، وقُبض على بعضهم. قال ابن كثير:
(فلما جاء الليل لجأ التتار إلى اقتحام التلول والجبال والآكام، فأحاط بهم المسلمون يحرسونهم من الهرب ويرمونهم عن قوس واحدة إلى وقت الفجر، فقتلوا منهم ما لا يعلم عدده إلاَّ الله عز وجل، وجعلوا يجيئون بهم من الجبال فتُضرب أعناقهم). ثم لحق المسلمون أثر المنهزمين إلى القريتين يقتلون منهم ويأسرون.
ووصل التتار إلى الفرات وهو في قوة زيادته فلم يقدروا على العبور.. والذي عبر فيه هلك. فساروا على جانبه إلى بغداد، فانقطع أكثرهم على شاطئ الفرات وأخذ العرب منهم جماعة كثيرة.
وفي يوم الاثنين رابع رمضان رجع الناس من الكسوة إلى دمشق فبشَّروا الناس بالنصر، وفيه دخل شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية البلد ومعه أصحابه من المجاهدين، ففرح الناس به، ودعوا له وهنّؤوه بما يسَّر الله على يديه من الخير.
وفي يوم الثلاثاء خامس رمضان دخل السلطان إلى دمشق وبين يديه الخليفة، وزُيِّنَتِ البلد، وبقِيا في دمشق إلى ثالث شوّال إذ عادا إلى الديار المصرية. وكان فرح السلطان الناصر محمد بن قلاوون والمسلمين بهذه المعركة فرحاً كبيراً، ودخل مصر دخول الظافر المنتصر، يتقدّم موكبَه الأسرى المغول يحملون في أعناقهم رؤوس زملائهم القتلى، واستُقبل استقبال الفاتحين.
________________________________________
[عن كتاب معركة شقحب أو معركة مرج الصُّفَّر للدكتور محمد لطفي الصبّاغ].(/2)
معركة عين وردة [1]
22 جمادى الأولى 65هـ ـ 6يناير 685م
مفكرة الإسلام : تمثل حادثة كربلاء ومقتل الحسين رضي الله عنه فيها، نقطة فاصلة في حياة المسلمين عمومًا وأهل العراق خصوصًا، ذلك لأن هذه الحادثة المفجعة أدت لظهور حركات كثيرة بعدها تدثرت بعباءة الحسين رضي الله عنه، وهو منها براء، كما أن هذه الحادثة أورثت أهل العراق ذنبًا لا يمكن محوه أو نسيانه عبر القرون، وهذا الذنب هو تخلفهم عن نصرته بعد أن طلبوا منه القدوم إليهم.
في سنة 64هـ اجتمعت الشيعة في الكوفة ـ والشيعة وقتها لا علاقة لها مطلقًا بشيعة اليوم ـ على الصحابي الجليل سليمان بن صرد الخزرجي، وكان من فضلاء الصحابة وزهادهم، وتحالفوا وتقاسموا على الأخذ بثأر الحسين وذلك تكفيرًا منهم عن ذنبهم الثقيل، وقرروا الخروج لقتال ابن زياد وقتلة الحسين، ولو ذهب في ذلك كل ما يملكون من نفس وولد ومال، وأطلقوا على أنفسهم التوابين كناية عن توبتهم من ذنبهم المعروف.
أقبل الناس من كل أنحاء العراق ينضمون لهذه الثورة، فازداد التوابون وزعيمهم سليمان بن صرد نشاطًا وحماسًا وعزمًا، وأراد الشيعة استعجال الخروج ولكن سليمان ثبطهم حتى لا ينكشف أمرهم بسرعة, لكن تطور الأحداث بعد موت يزيد بن معاوية ومبايعة الأمصار لابن الزبير، وظهور شخصية المختار الثقفي المشهور باسم «الكذاب» والذي شق صف الشيعة، كل هذه الأمور دفعت «سليمان بن صرد» لأن يعلن ثورته في 5 ربيع ثان سنة 65هـ ويطلق صيحته الشهيرة «يا ثارات الحسين» وهي أول مرة ينادى بهذه الصيحة في بلاد العراق، ولكن التوابين فوجئوا بأن الاستجابة الفعلية كان ضعيفًا, فرغم الآلاف الذين تعاطفوا مع الحركة وأبدوا استعدادهم للانضمام عند الحركة الفعلية لم ينضم سوى أربعة آلاف، وحاول العقلاء منع سليمان من الخروج بسبب ضخامة جيش ابن زياد وأهل الشام ولكن سليمان أصر على الخروج بعدما يئس من وصول المزيد من المتطوعين.
قبل الخروج للقتال اجتمع التوابون عند قبر الحسين وأخذوا في البكاء والنحيب وخطبهم سليمان خطبة بليغة، ثم قاموا بتوديع قبر الحسين في مشهد جنائزي كبير يمثل الإرهاصة الأولى للبدعة الشنيعة الفظيعة التي يقوم بها الشيعة الآن يوم كربلاء [10 محرم من كل سنة]، ثم تقدموا لقتال أهل الشام عند منطقة «عين ورد» ـ في سوريا الآن ـ وكان جيش الشام أربعين ألفًا وجيش التوابين أربعة آلاف، وفي يوم 22 جمادى الأولى سنة 65هـ التقى الجيشان في حرب غير متكافئة ورغم شجاعة وبطولة التوابين انتهت المعركة بهزيمتهم وانتهاء ثورتهم بعد مقتل زعيمهم سليمان بن صرد رضي الله عنه, وقد نال جيش الشام خسائر كبيرة أيضًا، ولقد أدت هذه الثورة وهذه المعركة لظهور حركة المختار الثقفي الكذاب المعروف برجل الفتنة الكبرى, وفي أيامه ظهرت معظم ضلالات الشيعة وبدعهم.
ــــــــــــــــــــ
[1] راجع ما يلي: تاريخ الطبري، الكامل في التاريخ، البداية والنهاية، محاضرات الخضري.(/1)
معركة مزار شريف وقلعة " جانجي "
بقلم الدكتورعدنان علي رضا النحوي
أَ " مَزارُ ! مَالَكِ قَدْ صَمَتِّ ! فَحدِّثي ... ... عَمّا يَدورُ على رُباكِ وأَكْملي (1)
واهاً لأَسْرَى مُؤْمِنين بقَلعَةٍ ... ... فِيها ! وقَيدٍ في اليَدَيْنِ وأَرجُلِ
طَلَعَتْ عَلَيهمْ قَاذِفَاتُ المُجْرمِيْـ ... ... ــنَ بِكلِّ هَولٍ بالحِمامِ مُعَجِّلِ
دَكّوا القِلاعَ ومزّقوا أَشْلاءَهم ... ... نَهْبَ اللّهيبِ ونَهْبَ قَصْفٍ أهْوَلِ
يا للجَريمة ! والحَضارَةُ مُزِّقَتْ ... ... مِزَقاً وغابَتْ في ظلامٍ أليلِ
حِقْدٌ يُصَبُّ عَليْكِ أسودُ فاحِمٌ ... ... من بَيْنِ أَحْناءٍ تَمُورُ وتَغْتَلي
أسْرى ! وقَيْدُهُمُ ! وقِلّةُ حِيَلةٍ ... ... يا لَلعَدالةِ ! فاشْهَدي أو فارْحَلي
المجْرِمُونَ تَلبَّسُوا بِدعايةٍ ... ... لم يَبْقَ من قِيَمٍ تَصُونُ وتجْتَلي
خَدَعُوا الشُّعُوبَ ولم يَزلْ لخِداعِهمْ ... ... ساحٌ تُمَدُّ وسَطْوَةٌ لم تُغْفَلِ
* ... * ... *
" أمزَارُ " ! كيف رَضِيتِ بَعْدُ بِثُلَّة ... ... كَفَرتْ بآياتِ الكتابِ المُنْزَلِ
قَدْ كُنْتِ في أمْنٍ وعزِّ رسَالَةٍ ... ... لله صادِقَةٍ وصَفْوَةِ مَنْهَلِ
قَدْ كُنْتِ مَعْقلَ دَعْوةِ التَّوحيد ! يا ... ... لِجَلال دَعْوَتِهِ وعِزّةِ مَعْقِلِ
مَاذا دَهَاكِ ؟ ! فَخُنْتِ صِدْقَ أمانَةٍ ... ... وصَفَاءَ عَهْدٍ في الرِّقاب مُحَمَّلِ
هَجَمتْ عَلَيْكِ طوائفٌ شتّى فأسْـ ... ... ـلَمْتِ الزِّمامَ لَهَا ورُحْتِ بَمأزِلِ (2)
ويْحَ الطوائِفِ أسْلَمتْ أَعناقَها ... ... للمُجْرمِينَ ! لِكُلِّ باغٍ مُقْبِلِ
ذَرَّ النفاقُ قرونَه ومَضَى إِلى ... ... وَهْمٍ يَقودُ إِلى هلاكٍ مُعْجِلِ
* ... * ... *
عَجَباً ! أَيُعْطُونَ الدِّيارَ لغاصِبٍ ... ... غازٍ عدوٍّ في الدّيارِ مُزَلْزِلِ
ويحَ الطَّوائِفَ ! أَيُّ شَيءٍ لَمَّها ... ... إلاّ هَوَى الدنيا ووهْمَ مُعَسِّلِ (3)
جَمَعَتْهُمُ الدنيا لحِينٍ بَعْده ... ... يتنازعونَ بَقيَّةً مِن نَوْفَل (4)
ويَدُوسُهُمْ مَنْ سَلّموه رِقاَبهُمْ ... ... بَيْنَ النّعَالِ كأيِّ شيء مُهْمَلِ
لو يَنظُرُونَ إلى الوَراءِ ! فكَمْ يَرَوْ ... ... نَ مِن الضَّحَايا السَّاقِطينَ الغُفَّل ؟ !
لا يشفَعَنَّ لهُمْ نِفاقٌ ظاهِرٌ ... ... وخُضُوعُ أفئِدةٍ وذُلُّ تَوسِّلِ
هي سُنَّةٌ للهِ ثابِتَةٌ فَهَلْ ... ... مِنْ ناظِرٍ مُتَدَبِّر مُتَأَمِّلِ
سُنَنٌ ! يُوَلّى الله بَعْضَ الظَّالميْـ ... ... ــنَ بِبَعضِهِمْ ! سُنَنٌ تَمُرُّ وتَبْتَلِي
* ... * ... *
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) مَزَار : مزار شريف حيث وقعت جريمة مروّعة في قصف قلعة جانجي من قبل الأمريكان واستشهد فيها قرابة (700) أسير مسلم أو أكثر .وذلك بحدود (13/9/1422هـ 28/11/2001م) ،
(2) مأزل : مكان القتال إذا ضاق .
(3) مُعَسِّلِ : طالب العسل . فكأن ما يطلبونه من نفوذ خاصّ بِكلِّ منهم عَسَلٌ يجَمعُهُمْ حيناً.
(4) النّوْفل : العطية .(/1)
معلَّقة على جدار بغداد
شعر : الشاعر الإسلامي الكبير الأستاذ عبد الرحمن صالح العشماوي
كَتَبْتُهَا قِطْعَةً مِنْ عُمُقِ أَعْمَاقِي
مَمْزُوْجَةً بِبَقَايَا دَمْعِ أَحْدَاقِي
أَنْشَدْتُهَا فِي عُكَاظِ الْهَمِّ مِنْ زَمَنٍ
قَبْلَ احْتِرَاقِ أَضَابِيرِي وَأَوْرَاقِي
وفِي كُنَاسَةِ أَحْزَانِي وَمِرْبَدِهَا
قَبْلَ اخْتِطَافِ أَحَاسِيسِي وَأَشْوَاقِي
وفِي رُصَافَةِ مَأْسَاتِي وَدِجْلَتِهَا
قَبْلَ احْتِلاَلِ مُرُوءَاتِي وَأَخْلاَقِي
وَفِي فِنَاءِ رَشِيدِ الْمَجْدِ يَمْنَحُنِي
إِصْغَاءَ شَهْمٍ أَريبٍ ، ذَوْقُه رَاقِي
وعِنْدَ مَغْرِبِ بَغْدَادِي وَمَشْرِقِهَا
عَلَى غُرُوبٍ مِنَ الذّكْرَى وَإِشْرَاقِ
أَنْشِدْتُ قَافِيَتِي عِنْد الفُرَاتِ عَلَى
مَرَافِئِ الْحُزْنِ فِي إِحْسَاسِ مُشْتَاقِ
أَنْشَدْتُهَا عِنْدَ جِذْعِ النَّخْلَةِ اِحْتَرَقَتْ
أحلامُ فلاَّحِهَا مِنْ قَبْل إِعْذَاقِ
أَنْشِدْتُهَا عِنْدَ بَابِ الْجُرْحِ فَاخْتَلَطَتْ
أَلْحَانُهَا ، بِدَمٍ فِي الأَرْضِ مُهْرَاقِ
وَكَادَ نَهْرُ الدَّمِ المَوَّارِ يَجْرِفُهَا
لولاَ يدٌ رَحِمَتْ خَوْفِي وإِشْفَاقِي
صَافَحْتُهَا فتَمَاهَى لَمسُ رَاحَتِهَا
كَأَنَّهَا غُمِسَتْ فِي زَيْتِ حَلاَّقِ
قالت: يَدِي فَوْقَ جُرحِي ، دَعْ مُصَافَحَتِي
فَقَدْ تَرَى نَزْفَ نهرٍ مِنْهُ دَفَّاقِ
مَنْ أَنتِ ؟ مَالِي أَرَى وَجْهًا بِلاَ أَمَلٍ
يَلُوح فيه ولا جَفْنٍ وأَحْداقِ
قالت : سُؤَالُك هذا زَادَنِي أَلَمًا
أَغريتَ فيه لَظَى حُزْنِي بِإِحْرَاقِي
أنا مُرُوءَتُكم ، نَفْسِي مُحَطَّمَةٌ
مَسْمُولةٌ مُقْلَتِي ، مَبْتُورَةٌ سَاقِي
نَسِيْتني ، آهِ من نِسْيَانِ مَنْ شَرِبُوا
كَأْسَ الخُضُوعَ لِمُحْتَلٍّ وأَفَّاقِ
تَلاَعَبَتْ بي على أرضي مُجَنَّدةٌ
في وَجْهِهَا أَثَرٌ من عَضَّةِ السَّاقِي
تَرَكْتُمُونِي لِمُحْتَلٍّ يُوَاثِقُنِي
ضُحىً ، ويَنْقُضُ عِنْدَ الليلِ مِيْثَاقِي
حَاصَرْتُمُونِي بِصَمْت ، حِيْنَ حَاصَرَنِي
مُحْتَلُّكُمْ بِدِعَايَاتٍ وَأَبْوَاقِ
تَرَكْتُمُ الْفِتْنَةَ الْهَوْجَاءَ تَنْهَشُنِي
نَهْشَ الذِّئَابِ رَأَتْ ذُلِّي وإَطْرَاقِي
أَنَا المُرُوءَةُ كَسَّرْتُمْ أَنَامِلَهَا
وَسُقَتُمُهَا إِلَى ظَلْمَاءِ أَنْفَاقِ
أَشْكُو إِلَى اللهِ مُحْتَلاًّ يُمَزِّقُنِي
تَمْزِيقَ مُحْتَرِفٍ لِلْقَتْلِ بَوَّاقِ
أَمَّا الأَحِبَّةُ مِنْ عُرْبٍ ومِنْ عَجمٍ
فهم يزيدون مِنْ ضَعْفَي وإِخْفَاقِي
مِنْ دُونِهِمْ غَفْلَةٌ كُبْرَى تُحَاصِرُهُمْ
وَدُوْنَهُمْ صَوْتُ أَوْباشٍ وفُسَّاقِ
غدًا ، سَيُدْرِكُ مُنْساقٌ لِغَاصِبِه
مَاذَا يُخَبِّئُ مُحْتَلٌ لِمُنْسَاقِ(/1)
معنى الإرهاب وحقيقته
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد :
فقد كثر الكلام في تحديد الإرهاب واضطربت الآراء والمصطلحات على إيضاح مفهوم الإرهاب , وعلى الرغم من كثرة التعريفات والحدود التي وضعت لمعنى الإرهاب فلم نقف على حد جامع مانع لحقيقة الإرهاب , وكل تعريف لحقيقة ما لا يكون مطردا منعكسا - أي جامع مانع - فإنه لا يعتبر تعريفا صحيحا ومع أن كثيرين من الباحثين في هذا الموضوع قد ذكروا من التعاريف للإرهاب ما يزيد على مائة تعريف إلا أنها تخلوا كلها من أن تحدد مفهوم الإرهاب تحديدا دقيقا يستطيع القارئ أن يفرق به بين الإرهاب وغيره، ولكي تعرف أن كل ما ذكر من تعاريف للإرهاب لم تكن كافية لتحديد مفهومه تحديدا لا يختلف فيه أحد , وسأذكر لك نماذج مما قيل في تعريف الإرهاب :
1-الإرهاب هو الأعمال التي من طبيعتها أن تثير لدى شخص ما الإحساس بالخوف من خطر ما بأي صورة .
2-الإرهاب يكمن في تخويف الناس بمساعدة أعمال العنف .
3-الإرهاب هو الاستعمال العمدي والمنتظم لوسائل من طبيعتها إثارة الرعب بقصد تحقيق أهداف معينة .
4-الإرهاب عمل بربري شنيع .
5- هو عمل يخالف الأخلاق الاجتماعية ويشكل اغتصابا لكرامة الإنسان .
وإنك أيها القارئ إذا قمت بتحليل هذه التعريفات المذكورة لتتمكن من تحليلها بغرض تحديد درجة دقتها وقياس مدى إمكانية الاعتماد عليها في عملية وصف وضبط وتحديد ما يمكن تسميته بالعمل الإرهابي أدركت أن كلاً منها لا يكفي لبيان مفهوم الإرهاب بياناً جلياً واضحاً تتوفر فيه شرط التعريف والحد لأن كلاً منها إما جامع غير مانع وإما مانع غير جامع وإما ليس جامعا ولا مانعا وهذا الاختلاف في تعريف الإرهاب راجع لاختلاف أذواق الدول ومصالحها وأيديولوجياتها فكل دولة تفسر الإرهاب بما يلائم سياستها ومصالحها سواء وافق المعنى الصحيح للإرهاب أو خالفه لأجل هذا تجد عملاً يقوم به جماعة من الناس أو الأفراد يطلق عليه أنه عمل إرهابي وتجد عملاً مثله أو أفظع منه يقوم به جماعة آخرون لا يعتبر إرهابا وسأذكر مثالاً واحدا على ذلك :
موضوع فلسطين : منذ أكثر من (50 سنة ) والصهاينة الحاقدون يسومون إخواننا الفلسطينيين سوء العذاب من قتل وتشريد وتدمير وهدم للبيوت على أهلها ويعتبر هذا العمل في نظر أبناء القردة والخنازير وأسيادهم الصليبيين في أمريكا وأوربا دفاعا عن النفس وما يقاوم به هؤلاء المضطهدون بالحجارة ونحوها يعتبرإرهابا وعنفا .
إذا تقرر هذا فاعلم أن التعريف الصحيح للإرهاب على ضربين :
1- تعريفه من حيث اللغة العربية .
2- تعريفه من حيث الشرع .
أما من حيث اللغة فالإرهاب مصدر أرهب يرهب إرهاباً من باب أكرم وفعله المجرد (رَهِب) , والإرهاب والخوف والخشية والرعب والوجل كلمات متقاربة تدل على الخوف إلا أن بعضها أبلغ من بعض في الخوف وإذا تتبعنا هذه المادة في القرآن الكريم مادة رَهِبَ أو أرهب وجدناها تدل على الخوف الشديد قال تعالى ( وإياي فارهبون ) أي خافوني , وقال تعالى ( ويدعوننا رغبا ورهبا ) أي طمعا وخوفا , وقال تعالى ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم ) أي تخيفونهم .
قال ابن جرير : يقال منه أرهبت العدو ورهبته فأنا أرهبه وأرهِبه إرهابا وترهيبا وهو الرهب والرهب ومنه قول طفيل الغنوي :
ويل أم حي دفعتم في نحورهم ... بني كلاب غداة الرعب والرَّهَب
أي الخوف .
وقال ابن جرير : حدثنا بشر قال ثنا يزيد قال ثنا سعيد عن قتادة ( واضمم إليك جناحك من الرهب ) أي من الرُعب وهذا التفسير للرَّهب بالرعب يدل على أن الرعب مرادف للرّهب وأن معناهما الخوف الشديد يؤيد هذا قوله صلى الله عليه وسلم : (نصرت بالرعب مسيرة شهر ) أي بالخوف .
هذا نموذج مختصر لبيان معنى الإرهاب في لغة العرب .
أما مفهوم الإرهاب في الشرع : فهو قسمان :(/1)