وقد زادت الحرب الأفغانية الثانية من فكرة الالتزام العسكري ومن وجود التنافس العسكري بين البريطانيين (الاسكوتلانديين) ، وبين الهنود البريطانيين (السيخيين والغورسيين). وأراد روبرتس ضمان تحلي قوات الإغاثة- التي غادرت كابل متوجهة إلى قندهار في أغسطس عام 1880 – بالخبرة والالتزام. إن الأخذ بفكرة أنه ربما يكون الجنود الذين كانوا في الخدمة العسكرية الفعلية لفترة حوالي سنتين منهكين جعل روبرتس يستشير قواد الكتائب عن مدى استعداد رجالهم لخوض المعركة. وقد أفاد ثلاثة من القواد أن قواتهم قد لا تتحمل الإجهاد الذي يرافق عادة الحملة. ولرفع معنويات الجنود وعد روبرتس –الذي كان يأمل أن تنتهي الحملة سريعا- الجنودَ بالسماح لهم بالعودة فوراً إلى الهند بعد انتهاء القتال. وتم نقل هؤلاء الجنود الذين لم يعتادوا على الزحف العسكري، وحفظت المعدات بعناية فائقة. وأشار روبرتس أن القوات بحاجة إلى خبرات مَن تم نقلهم للنهوض بأعباء تحميل أمتعة الجيش على الحيوانات لأن السائقين أو المساعدين الأفغان قد تركوا البريطانيين في شهر آب/أغسطس أثناء الزحف من كابل إلى قندهار.
لقد كان قادة هذه القوات على دراية تامة بقوة وضعف تحمل كل فرد من أفراد قواتهم. إذ كانت تتمتع هذه القوات بخبرة عظيمة، ثم قامت بعد ذلك بالسفر في وضح النهار. وكعادة الحملات الإستعمارية، يتعمد البريطانيون إلى دمج الوحدات المتوفرة لديهم لاعتقادهم أن الجنود –على الأغلب- يَفونَ بالتزاماتهم أكثر إذا لم يتم دمجهم بعضهم ببعض. وبلغ عدد البريطانيين حوالي 2562 جنديا من إجمالي القوات البالغ عددها 9713 جنديا (ما عدا الضباط) أثناء توجههم إلى قندهار. وكان لدى كل فرقة من فرق المشاة الثلاث أربع كتائب قوامها مابين 500-700 جندي، وكان هناك كتيبة بريطانية واحدة ، وأخرى من جورخا في كل فرقة من فرق المشاة الثلاث. أما باقي الكتائب في الجيش فقد كانت تتألف من السيخيين والبنجابيين. وهكذا تم نشر القوات البريطانية والجورخية لإشعال حدة المنافسة بين الوحدات المختلفة ولإبراز أهمية القوة العسكرية لكل فرقة.
لقد جرت معركة حامية الوطيس في الأول من أيلول/سبتمبر، إذ كانت الأطراف المتصارعة في الأساس تتألف من القوات البريطانية التي كانت تدفع أحد جانبي القوة الأفغانية من مواقعها الدفاعية، وتطوق نقطة الدفاع الأفغاني الرئيسية للاستيلاء على معسكر الجيش. وادعى البريطانيون كالعادة بأن محصلة عدد الجرحى كبير جداً، إلا أن عدد الأفغان المقتولين بلغ حوالي 600 أفغاني، ولم يكن هذا العدد عاليا مقارنة بحجم الجيش البريطاني والعدد الحقيقي لطلقات البنادق والمدفعية الموجهة إلى الأفغان. وأكثر ما استطاع البريطانيون قتله هو أفغاني واحد لكل مئة طلقة أطلقت، وقد افترض خطأ أنه لم يقتل أحد بالحراب. ولم تكن مطاردة الفرسان عقب الحرب فعالة، فقد قدّر أنه قتل حوالي مئة أفغاني في عملية مطاردة أدت إلى إبعاد الفرسان الأفغان بحوالي خمسة عشر ميلاً عن ميدان المعركة. وهذا يؤكد أن القليل منهم قد جرح، وأن هؤلاء الجنود قد تخلفوا وتعرضوا للخطر حتى في مطاردة متأخرة للفرسان. لذا فالمعركة لم توجه ضربة عسكرية ساحقة للأفغان، ولكنها أحدثت انقلاباً قوياً أدى إلى تقسيم الجيش الأفغاني وتشتيت زعماء القبائل في مواطنهم المختلفة.
لقد عامل قادة الهند البريطانية –في كلا الحملتين- الأفغان كرهائن على خلاف عسكري، وذلك من أجل المحافظة على مركز بريطانيا في الهند ومكانتها كقوة عسكرية. وارتكزت كلتا الحملتين على الحاجة لتحقيق انتصارات سريعة وواضحة وانسحاب لاحق سريع. وانتهت كلتا الحملتين بإلحاق الأذى بالأفغان، وبإظهار أن العقاب يتفوق على العدالة في ردة الفعل على المقاومة الأفغانية العنيفة لوجودهم العسكري.
وترك البريطانيون أفغانستان كما وجدوها. ومنذ مئة سنة وصف الكتاب السنوي للبريد اليومي الشعب الأفغاني بأنه شعب مكون من 4 ملايين نسمة ، وكان يعاني من نقص شديد في الغذاء ، كما كان يعاني من ظلم النبلاء والجشعين.
وقدمت الهند البريطانية إلى الأمير معونة مالية حيث أنه يعتمد على قواته المسلحة التي هي تحت إمرته، أما المطالبون بالحكم –ومن ضمنهم أؤلئك الذين تورطوا في أحداث 1880-1881- فقد كانوا يتحينون الفرصة من منفاهم في روسيا والهند لخوض عملية التحدي.
________________________________________
Bruce Collins, “Fighting the Afghans in the 19th Century,” History Today, vol. 51 (12) Dec. 2001
خدمات الفسطاط للترجمة
________________________________________
[1] الدورانية أسرة تنسب إلى مؤسسها أحمد خان الذي تولى حكم أفغانستان عام 1747م والذي كان يدعى بـ»دري دورانية« أي درة العصر، وكانت قندهار مركز حكمه. (الفسطاط).(/7)
[2] سباهي sipahi كلمة أصلها تركي، وهي تطلق على الفارس الذي يقطعه السلطان أرضاً مقابل خدماته العسكرية، وقد استخدمها كاتب المقال هنا بمعنى »سلاح الفرسان«. (الفسطاط)(/8)
مجالس الضرار
تتملكني الدهشة، ويستبد بي العجب من صنيع لا يقره الشرع، ولا يقلبه عقل ولا عُرف، ولا ترضى به نفس سوية ولا فطرة نقية، ومع كل هذا يمارسه بل يدمنه ويتفرغ له، ويجتهد فيه فئة قليلة - لا كثرها الله- من الشباب الذين ظاهرهم الالتزام، وسيماؤهم الصلاح لكنهم نذروا أنفسهم لحرب العمل الإسلامي، والنيل من أعراض العلماء، وتشويه صورة الدعاة، فلا هم لهم إلا كل ملتزم عامل ، أما المسلمون المقصرون أو المفرطون، أو المعارضون للإسلام منهاج حياة فلا اهتمام لنصحهم وإرشادهم، أو لفضحهم وتفنيد دعاواهم، والأدهى من ذلك أنهم لا وقت لديهم ليعرفوا مكائد اليهود، وجرائم النصارى، وفظائع الهندوس فضلا عن أن يبذلوا من وقتهم أو جهدهم شيئاً مذكوراً لصد تلك الهجمات الشرسة، والممارسات الدنسة.
ومجالس هؤلاء يمكن أن يطلق عليها ((مجالس الضرار)) لأن دورها وأثرها يشبه- مع الفراق- مسجد الضرار الذي بناه أهل النفاق { والذين اتخذوا مسجد ضراراً وكفروا وتفريقاً بين المؤمنين وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله من قبل }، ذلك أن مجالسهم وما تشتمل عليه من غيبة ونميمة، وهتك للحرمات، وتتبع للعثرات، وهجوم على الأشخاص والهيئات، والتنفير من معظم الدروس والمحاضرات لا يكاد يخلو مجلس من مجالسهم من هذه الأمور متفرقة أو مجتمعة،مع عنايتهم الفائقة، وتتبعهم الدقيق، وتأويلهم للأقوال بما لا تحتمله الكلمات، بل واتهامهم للنيات وجزمهم بالمقاصد كأنها شقوا الصدور، واطلعوا على ما في القلوب، مع أن هذا لا يعلمه ولا يقدر عليه إلا الله .
هذه المجالس مجالس ضرار، ولنتأمل النتيجة ما عساها تكون؟
أليس من الثمرات فرقة الصفوف واختلاف القلوب؟ أليس من النتائج أضعاف القوة وذهاب الأخوة؟ أليس من الآثار تمكين الأعداء، وتسليط الأدعياء؟ أليس من الإفرازات التنفير من الدعوة، والتشويه للدعاة؟ أليس من المصائب عرقلة العمل للإسلام وإعاقة الجهاد في سبيل الله؟ أنها ثمار مرة، ونتائج تجلب الأسى والحسرة، يضيع معها ما يزعمون من إحقاق الحق،ولم تكن هناك نصيحة مباشرة، ولا دعوة بالحكمة ظاهرة، ولا مشاركة عملية صادقة، ولا إعانة على تقويم الاعوجاج، وتصحيح الأخطاء، وتدارك النقص، وأين إحقاق الحق ولا مكان لأخوة الإيمان، وإحسان الظن، والتماس العذر، وأن يحب المرء لأخيه ما يحب لنفسه؟ أفهذا إحقاق للحق أم إزهاق للحق؟
أن الخطورة تتزايد عندما نبصر واقع المسلمين فنرى الهجمة الشرسة التي ينظمها الأعداء ضد الإسلام لا في أحكامه وقواعده الكلية بل في فروعه وأحكامه في أدق مجالات الحياة،ونرى الفتك المستمر الذي لم يعد يفرق بين مسلم ومسلم بين عالم وجاهل، بين قاعد وعامل، الكل عندهم سواء { وما نقموا منهم إلا أن آمنوا بالله العزيز الحميد} فاليهود في فلسطين، والهندوس في الهند والبوذيون في بورما، وبقايا الشيوعيين في الجمهوريات الإسلامية،في كل مكان دماء تسيل، وأرواح تزهق وعيون تسمل، وبطون تبقر، وبيوت تهدم، وأعراض تنتهك، وأراض تغتصب، ومع ذلك نأتي هذه المجالس بما فيها من المثالب كطعنة نجلاء وراء الظهر.
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة *** على النفس من وقع الحسام المهند
وهذا الصنيع له أسباب قد تجتمع كلها أو ينفرد بعضها، ومنها: الجهل الذي يغيب به ما جاء في الكتاب والسنة من عظم حرمة المسلم في دمه وماله،وعرضه، ومنها: عدم الإدراك بالواقع العصيب للأمة المسلمة ومنها أمراض النفوس كالحسد لكل من وفقه الله وأنعم عليه بعلم غزير أو لسان فصيح أو وعظ مؤثر أو كتابة نافعة أو غير ذلك، ومنها: الرغبة أو الرهبة التي لا يخفى أثرها.
لقد قال الله تعالى عن مسجد الضرار {لا تقم فيه أبداً} ولعل عدم شهود هذه المجالس أول أسباب العلاج حتى يشعر أصحابها بقلتهم ويفكروا ليكتشفوا أخطاءهم، ولهؤلاء علينا حقوق أخوة الإسلام لا ننساها وإن تجاهلتها أفعالهم، بل تدفعنا الأخوة لأداء الواجب نحوهم من محبة ما هم عليه من خير، والإحسان إليهم لانتزاع ما قد يكون في قلوبهم من شحناء أو بغض والنصح لهم والتماس العذر- ما أمكن- لهم إذ قد يعذر بعضهم بجهل، وآخرون بانتصار للنفس، وقد يكون بعضهم مريضاً بداء العظمة أو الشعور بالنقص وكل ذلك أمراض تحتاج منا إلى علاج الطبيب الحاذق الرفيق، وأخيراً ندعو لنا ولهم بالهداية، ونقول : ( اللهم أهد قومي فإنهم لا يعلمون ).
كاتب المقال: د. علي بادحدح
المصدر: إسلاميات(/1)
مجزرة قانا "
مجزرة " قانا "
تقع " قانا " في الجنوب اللبناني . وقعت هذه الجريمة الكبيرة من خلال غارات جوية قامت بها إسرائيل على جنوب لبنان يَوم الخميس 1/12/1416هـ الموافق 18/4/1996م ، وجاء هذا التوقيت موافقاً لعيد الأضحى المبارك والأيام العشر الأولى من شهر ذي الحجة .
لجأ كثير من اللبنانيين إلى " قانا " التي كانت تحت حماية جنود هيئة الأمم المتحدة الموجودين للإشراف على عدم اعتداء أيٍّ من الطرفين على الآخر . فقامت إسرائيل بالغارة الوحشية على " قانا " حيث اجتمع اللاجئون يرجون الحماية من هيئة الأمم المتحدة ، والنظام العالميّ الجديد ، وجنودهم . وكان عدد القتلى أكثر من (230) قتيلاً ، وكان هنالك عدد أكبر من الجرحى ، وتشرّد أكثر من ( 400) ألف لاجئ .
تمثّل هذه المجزرة الوحشيّة امتداداً لمجازر سابقة قام بها اليهود بأساليب مختلفة : دير ياسين ، قبية ، كفر قاسم ، صبرا ، شاتيلا ، المسجد الإبراهيمي وغيرها كثير .مما يسبّب الألم الكبير أن دول العالم لا تحرّك ساكناً ضد إجرام اليهود ، وربما أَيَّد بعضُهم أيد صراحة هذه المجازر ، مثل إنجلترا التي أطلق بعض المسؤولين فيها : مثل وزير الخارجية مالكولم ريفكند ورئيس الوزراء جون ميجر ، تصريحات تدعم اليهود وجرائمهم . والاتحاد البريطاني الدولي الذي عُقِد في استانبول في ( 5- 12) /4/1996م شارك فيه (133) دولة ، رفض إدخال هذه الجريمة في جدول أعماله .
والدول العربية الإسلامية شجبت هذه الجريمة واحتجّت ... !
بقلم الدكتورعدنان علي رضا النحوي
لبْنانُ ! يَا عَبَقاً من التاريخ ما
جَ عَلَى رُباكِ يُعِيدُ من أخبارِ
الذكرياتُ على رباك غنَّية
أمجاد إِيمانٍ وزهوة غارِ
نُثِرتْ لآلِئُها عَليك فَصُغْتِها
عِقْداً وسِحْرَ قلائدٍ وسوار
يا لَفْتَةَ الورْد النّديِّ تَفتَّحتْ
أَكْمَامُه ! يا بَسْمةَ النَّوارِ
يا بهجة الروض الغَنيِّ أريجُه
شَدْوٌ يُرَجّعُهُ حَنينُ هَزار
ما بالُ شَدْوكِ غَابَ والزّهَر النَّد
يُّ ذَوَى ، وعِطرُك ! أَين عِطْر الدّارِ
وغَشاكِ مِنْ سُود اللَّيالي سُودُها
ورَمَاكِ هَولُ فواجعٍ ودَمار
قَدْ كنتِ يا لبْنانُ سَاحةَ أُمَّةٍ
موصولةٍ وعُراً وصدقَ ذِمارِ
* *
* *
" قانا " ! حَسِبتُك في الدّيار مصوَنةً
بالعَهْد مِنْ أُمَمٍ ومِنْ أَقْطَار
ومن النظام العالمي وعُصْبَةٍ
طَلَعَتْ بزُخْرُفِ دعوة وشِعار
غابَ النّظام ولمَّ زَيْفَ شِعاره
ورمى بكَيْدٍ صارخٍ مَكّارِ
هل تَغْفِرين لَنَا هَوَانَ مَذَلّةٍ
" قانا " ! ودمْعُكِ في المنازل جاري
يجْري مع الدَّم والأنينِ و صرخَةٍ
وتطايُرِ الأَشْلاء و الآثارِ
هَلْ تغفرين لأُمّة نامَتْ على
ذلِّ وأَغْفَتْ في متاهةِ عارِ
أَغْفتَ وخلفَتِ الدّيار رُبوعُها
مفتوحةُ الأبواب والأستارِ
وسَماؤها ! فُتِحَتْ لكُلِّ مُحلِّقٍ
باغٍ هوى بدَويّه الجبّارِ
وبحارها ! يا للبِحارِ إِذا خَلَتْ
من حاميات مواقِعٍ و ديار
لا تعجبي ! فُتِحَتْ قلوب الناس قبْـ
ـلُ لِفِتْنَةٍ تسري وسُمِّ عقار
تسْري بِهمْ خَدَراً يَشُلُّ وسكرةً
تَطْوِيْ وَتِتْهَ مذَلّةٍ ودُوارِ
* *
* *
" قانا " ! رُوَيْدَك ! ما أجلّ سماحَةً
طَلَعَتْ وما أحْلى كَرِيم بِدارِ
فَنَشَرْتِ أنداءً وظلاً وارفاً
بَيْن الهَجير وبَيْنَ لفح أُوارِ
وفَتَحْتِ من عَبقِ الحَنانِ مرابعاً
ومن الوفاء عزيمة الإيثارِ
وفتَحتِ قلَبَكِ والضلوع وأكْبُداً
لتضم لهْفةَ شاردٍ أو جارِ
ونضمَّ من زهَر الطفولة باقَةً
ومن الشيوخ وعفّة الأبكار
ومن الشَّبابِ ضَمَمْتِ حيْرةَ يأسِهِ
لَما تَلفَّتَ ! يَا لصرخَةِ ثارِ
هُرِعُوا إليكِ وفي النفوسِ بقيَّة
من مأمَلٍ وأَسىً وخشيةِ عارِ
هُرِعُوا وقَد أهْوى الجحيم عليهمُ
هَوْلاً يَمُور بِهِمْ وضِيق حِصَارِ
هُرِعُوا وقَدْ حسبوا لَديك عصابةً
أُمماً مزوّدة السَّلاحِ الواري
هُرِعُوا إِليكِ وما دروا أنَّ الرّدى
مُتَرصِّدُ الخطوات والآثارِ
* *
* *
طَلَع اليَهودُ عَليك في حَوّامةِ
مجنونَةِ تَهْويِ وفي إعصارِ
يَهْوي الفَضَاءُ بهِا بكلِّ فجيعةٍ
حصْداً لأنفاسُ وخَطْفَةَ نارِ
جَمَعوا من التاريخ كلَّ جَريمَة
عُرِفتْ وكلَّ خديعة وشنارِ
وأتوك ! ما أقْسى الفُجُورَ إذا طغى
وبَغى بشهوة مجْرِم كفّارِ
دَفَعوا الهَلاك عواصفاً دَوَّامَةً
في الأرض في الأفاق في الأَبْحارِ
كُتَلاً ! وأَكْوامُ الجَماجِم بَيْنها
وصَلتْ أَسىً بأسىً وغُصَّة دَارِ
سكنتْ سُكون المْوت ! إِلاّ بَسمةً
بَقيتْ على طِفْل مُدمّىً عَاريِ
بقيَتْ له شَفَتان يُشرقُ منْهما
أَمَلٌ يُضمَّخ بالدَّم الفوّارِ
أَملٌ بِبَسْمته يُطلّ عَلى غَدٍ
يَزْهُو بَوثْبَةِ فَارِسٍ خَطَّارِ
من ذا يغيثك والأيادي كُلُّها
مَغْلولَةٌ بَهوى وطول إِسارِ
صبراً لعلَّ الله يَبْعَثُ أُمّةً
يوماً لتنقذَ مِن حمى ودِيَارِ
قُوْلُوْا " لِبيرِزَ " فاللّيالي دُوْلَةٌ
مَهْلاً ! سَيَعْقُبُها جَلاءُ نَهارِ
فَغَداً تَرَى زحْفاً يهولُكَ مُقْبِلاً(/1)
بالحقِّ تُشْرِقُ طَلْعَةُ الأبرارِ
* *
* *
وتَلَفَّتْ " قانا " ! وبيْنَ دمُوعِها
غُصَصُ مِنَ الذّكْرى وحَسْرَةُ عَارِ
غُصَصٌ تُرَجّعُها رُبى الأَقْصَى لَها
لتُعِيدَ ما في الدارِ مِنْ أخْبارِ
وتَقُولَ : مَهْلَكِ ! هل ذَكرْتِ مَجازراً
سَبَقَتْ ودفْقاً مِن دَمٍ فوّارِ
في " دير ياسين " حديثٌ مفْجع
يَرْثى ! ويدْفَعُ غَضْبَةً للثارِ
وحَنينُ قِبْيَةَ للنِّزال كَأَنَّهَ
مَلأ الزَّمانَ بِلَيْلِهِ ونَهارِ
وأنِينُ "شاتيلا" و " صَبْرا " لمْ يَزَلْ
ويحي ! يُدَوّي : أَينَ صِدقُ ذِمَارِ
ورُبى الخَليل ! فَلَمْ تَزَلْ أيّامها
فَجْراً مُدمّىً مُشْرقَ الأنْوَارِ
فجْراً يُدَوّي بالأذان وأُمَّةً
خَشَعَتْ لِيوقِظ كلَّ مَنْ في الدارِ
وكأنّما الدُّنيا هنالِك لمْ تَزَلْ
عَبَقَ السُّجودِ وطَلْعَة الأَبْرارِ
وشُهودَ مَجْزرَةٍ وهولِ جَرِيَمةٍ
وحَنِينَ مَلْحَمةٍ لِيَوْمِ بَدارِ
* *
* *
في المسجد الدّامي طيوفٌ حَوَّمَتْ
لندائه وطلائعُ الأحرارِ
ونداءُ إبْراهِيمَ بالإسْلامِ يُو
قِظ أُمَّة الإِسلام والإِيثارِ
" قانا " ! رُوَيْدَك ! فالمَيَادين ارتوتْ
أفلا تَريْنَ مطالعَ النّوَّارِ
في كلِّ ناحِيَةٍ جِنانٌ فُتّحَتْ
وعزائِمٌ نَهضَتْ وصِدْقُ نِفارِ
ما بَيْنَ أشَلاءِ وَبَيْنَ جَماجِمٍ
وثَباتُ أَحْرارِ إلى أَحْرارِ
* *
* *
الرياض
22/12/1418هـ
19/4/1998م ... ... ...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
· ديوان عبر وعبرات .(/2)
مجمع الفقه الإسلامي في السودان يفتي بمخالفة أراء الترابي لأصول الدين الخرطوم 24/03/1427
أفتى مجمع الفقه الإسلامي في السودان بمخالفة زعيم حزب المؤتمر الشعبي 'حسن عبد الله الترابي' للكتاب والسنة بفتاواه القائلة بجواز زواج المسلمة من الكتابي وجواز إمامة المرأة للرجال ومساواة شهادة المرأة للرجل وإنكار نزول المسيح عليه السلام في آخر الزمان.
وحسب بعض الصحف ، دعا المجمع للتعامل مع الترابي بما يقضي بالحق ويوقف الشر والضرر .
وقال البيان الذي أصدره مجمع الفقه رداً علي فتاوى الترابي: إن النظر في هذا الفتاوى تم في ضوء أحكام الشريعة الإسلامية والإجماع.
وأكد البيان على أن 'الترابي مخالف للكتاب والسنة وما استقر عليه عمل أهل الإسلام قديماً وحديثاً، والواجب عليه التوبة إلى الله تعالى من القول عليه بغير علم وتضليل جماهير المسلمين'.
وقال بيان مجمع الفقه :'إن الرد جاء في سياق أسئلة كثيرة وردت إليه من الناس تتعلق بفتاوى وآراء صدرت عن' حسن الترابي'.
و كانت الرابطة الشرعية للعلماء و الدعاة في السودان قد أصدرت كتيبا ردت فيه على آراء الترابي و فندتها , و دعت إلى تقديمه للمحاكمة على غرار محمود محمد طه .(/1)
محاذير وأخطاء في مواجهة إحياء التراث والترجمة
الأستاذ أنور الجندي
يهدد الفكر الإسلامي خطران مزدوجان هما خطر إحياء التراث الإسلامي على ذلك النحو الذي تزيفه قوى التغريب والغزو الثقافي وتشارك فيه مفاهيم الفكر المادي والوثني والإباحي لتخرجه من مفاهيمه وأصوله أو تحجب أصالته وتذهب بضوئه الناصع ونوره الساطع.
وتلك الخطة المسمومة التي قامت عليها الترجمة من الآداب الأجنبية والفكر الغربي قد نقلت إلى آفاق الفكر الإسلامي واللغة العربية حصيلة ضخمة من الترجمات القصصية المكشوفة والمفاهيم المادية الملحدة ولذلك فقد حق على كل باحث مسلم أن يواجه هذين التيارين مواجهة صحيحة ليكشف عن أخطارهما ومحاذيرهما.
التراث الإسلامي
إن محاولة احتواء التراث الإسلامي تجرى في ثلاثة ميادين:
في نوعية بعثه.
في طريقة إحيائه.
في أسلوب تفسيره.
فهي لا تترك حركة إحياء التراث على وجهها الصحيح ولكنها ترفض انبعاث جوانب معينة منه، ليست هي بالطبع أجودها، ولكنها أشدها سوءاً، إن محاولات الانبعاث التي يقوم بها (التغريب والغزو الثقافي) يستهدف انبعاث تراث الفلسفات والفكر الباطني والوثني والمذاهب المنحرفة والمتحللة وخاصة ما يتعلق بالشعر الإباحي والفكر الفلسفي الصوفي وتتجاهل عامدة مختلف الجوانب الأصيلة. كذلك فهي تحاول إحياءه بإعادة كتابته على نحو يغاير تمام المغايرة ما استهدفه أصحابه أولاً وما هو في حقيقته وذلك باستخدام أسلوب الاتكاء على بعض النصوص واستخدامها استخداماً خاصاً لكي تحقق شيئاً ليس هو في الحقيقة واقع الأمر، كما تغضي إغضاء شديداً عن جوانب هامة لأنها لا تتفق مع الوجهة التي يقصد إليها المتطلعون إلى الأحياء.
(ويبدو ذلك واضحاً في كتابات طه حسين للفتنة الكبرى)
أما أسلوب تفسير التراث فإن هناك محاولات لإخضاعه لغير مذهب من المذاهب المطروحة في أفق البحث العلمي وكلها غريبة عنه، ومنها المنهج المادي والمنهج الاقتصادي والمنهج الماركسي والصهيوني. وكلها مذاهب تقف من تاريخ الإسلام ومن تراثه موقف خصومه، وتهدف إلى تزييفه والإدالة منه (تفسيرات عبد الرحمن الشرقاوي وأحمد عباس صالح ومحمد عمارة).
كان الغرب يعرف عظمة هذا التراث ويعرف الآثار البعيدة التي تقدمه لهذه الأمة إذا ما تحقق إحياؤه على الوجه الصحيح وعرف المسلمون ما هي الجوانب التي تبعث، لقد شارك التراث في مختلف ميادين الأدب والفقه والعلوم التجريبية والكلام والفلسفات والتربية والاقتصاد والاجتماع والسياسة.
ولأن الغرب استطاع أن يسيطر على هذا التراث وأن ينقل ذخائره إلى مكتبات الغرب فلقد استطاع أن يقول أن المسلمين ليس لهم منهج في العلوم وكذلك استطاع الغرب أن يحيي تراث الإباحيين من الشعراء والمنحرفين من رجال التصوف والغلاة من الفلاسفة والباطنيين بينما لم يكن هذا هو التراث الذي ينشده المسلمون ليدفعهم إلى الأمام.
وهناك تلك المحاولة التي يرمي بها الغرب إلى إحياء تراث الوثنية اليونانية والجاهلية العربية والمجوسية الفارسية والأساطير والخرافات، ومع هذه المحاولى ينكر التغريبيون تراث الإسلام الذي هو أقرب زمناً وأكثر أصالة وأصدق استجابة للنفس الإسلامية وللفطرة الإنسانية.
وإذا تحدثوا عن التراث قالوا قولتهم الظالمة إن الأموات يتحكمون في الأحياء غير مفرقين بين تراث الميراث القائم بالحق: والقرآن والسنة، وبين عمل البشر الذي جاء تفسيراً لهذين النيرين.
وما كان المسلمون يوماً عبيداً لتراثهم ولكنهم كانوا يستهدفون به ويأخذون هذه التفرقة بين الميراث الرباني وبين التراث الذي صنعه البشر من حيث أن تراثهم كله بشري، ولكنا نحن المسلمين نفرق بين التراث والميراث أما الميراث الذي قدمته لنا رسالة السماء بالوحي وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم فهو ليس موضع بحث، وأنما هو الأساس المكين والمنابع الأصيلة والقيم الأساسية للكيان الإسلامي في وجوده كله، ويجيء التراث الذي كتبه علماء المسلمين كاشفاً ومفسراً وموضحاً لذلك الميراث ؤفي مواجهة تغيرات العصور واختلاف البيئات فهو ضوء كاشف نأخذ منه ونترك، فضلاً عن أن هذا التراث قد دخلته دخائل كثيرة نتيجة ما كتبه الزنادقة والملاحدة وأصحاب الأهواء ودعاة الفرق، فهذا نحن ننظر فيه في ضوء الميراث الأصيل فإن وافقه قبلناه وإن عارضه نبذناه ولدينا في هذا الميراث والتراث كل خصائص أمتنا وحاجاتنا في مجال التشريع والسياسة والاجتماع والتربية، فلسنا في حاجة إلى المناهج الوافدة لتقدم لنا في منهج الحياة ونظام المجتمع شيئاً، ذلك أن خلافاً عميقاً واقعاً في الأساس بين المجتمع الإسلامي والمجتمع الغربي من ناحية العقائد والأخلاق والقيم والمفاهيم الإنسانية والبشرية، ونحن في هذا نؤمن بما جاء به كتاب الله: {يريد الله أن يبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم}.(/1)
ولاريب أن هذه القيم الأساسية في مجال المجتمع والأخلاق التي صنعها الإسلام وربى عليها الأجيال: جيلاً بعد جيل لا تزال حية في النفوس وفي أعماق القلوب يتلقاها الأبناء عن الآباء عن طريق القدوة والمثل، وهي تحكم سلوكنا 0وتنظم حياتنا قوامها هذه اللغة وهذه العقيدة وصلات الأبوة والبنوة الزوجية والقيم الخلقية ومفاهيم الحلال والحرام كلها تضرب جذورها في ماضي سحيق، هذا هو التراث الحي الذي يريد الغزو الفكري أن يقتلعه، ويريد خصوم الإسلام والمسلمين أن نتخلى عنه، بينما هو من أساس البناء "وقد بقي حياً لأنه صالح للحياة ولن يستطيع الحاضر أن يحكم عليه بالموت لأنه لا يجد ما هو خير منه ولأنه متقبل من الفطرة والعقل، سائر مع الحياة".
وليس في هذا معنى السلطان المطلق للماضي على الحاضر فليس كل الماضي سوءاً وليس الماضي بهذه الأصالة معوقاً عن النهضة بل إن الأمم التي تفقد موروثاتها الثرية ومنابعها الأصيلة لا تستطيع أن تبني بديلاً منها مهما استطال بها الزمان وتظل عاجزة عن اللحاق بركب النهضة أو اقتعاد مكانها في موكب الحياة.
وليس أدل على أصالة تراثنا من شهادة الأجانب والأعداء له:
حيث يقول هاملتون جب: إنه ليس في وسع العرب أن يتحرروا من ماضيهم كما فعل الأتراك وسيظل الإسلام أهم صفحة في هذا السجل الحافل إلى درجة لا يمكن أن يغفل عنها الساعون إلى إنشاء مثل عربية عليا.
ويقول مفماير: لن ينفصل العرب عن الماضي المجيد في التاريخ الإسلامي، وليس من الممكن أن يحدث في هذه الأقطار شيء يشبه ما حدث في تركيا. بل إن استعادة هذا الماضي وتجدد الحديث عنه هو أحد العوامل في حركة البعث الوطني والديني. إن حركة بعث الإسلام لا يمكن أن تنقطع أو توقف لأن الناس في حاجة إليها فهي أحد مقومات نهضتهم الحقيقية.
ويؤكد هذا المعنى كثيرون يؤمنون بأن الشرقيين لا يمكن أن تصبح لهم حياة عقلية من غير ثراثهم الذي ينتمي إليهم ويصطبغ بصبغتهم، فقد يمكن أن نجعل العلم الطبيعي تراثاً شرقياً أو غربياً بأية صفة من الصفات وغير ممكن كذلك: إن نجعل العلم الرياضي تراثاً ينتسب إلى الشرقيين أو إلى الغربيين وإنما يقوم تراثهم على مالهم من أشعار ومواعظ وأمثال وآداب وقواعد سلوك وفي طليعة روح العقائد وما يصاحب ذلك من فقه وشريعة ودين.
ولقد كانت القيم الأصيلة دوما وفي كل مكان من بلاد المشرق عاملاً على حفظ الشخصية الوطنية من الذوبان والانهيار.
ولقد ظل ما يجري تجديده من الفلسفات والفكر الباطني والتراث الصوفي الفلسفي وكتب العصور المعاصرة والانحلال الاجتماعي (كألف ليلة والأغاني) وكتب المذاهب الهدامة والحلول والاتحاد من التراث الموفوض.
فنحن لا نقبل بمفهوم الباعثين للتراث الشعوبي تحت اسم الأدب أو الوجد الفني أو أي مفهوم من مفاهيم الأهواء المضلة ومقياسنا هو الإسلام وحده وهو الحكم في مختلف مجالات البحث فكل ما يختلف عنه فهو من الشعوبية مهما حاول الدعاة إلى بعثه وزخرفته وتزيينه وتصويره على أنه فن أو شعر أو أدب ولاريب أن كل المعتقدات الفاسدة التي أخذت طريقها إلى الشعراء أو النثر أمثال ابن الفارض أو نثر ابن عربي أو الحلاج أو السهر وردي أو غيره فهي كتابات باطلة ليست من تراث الإسلام الأصيل.
ولقد كانت كتابات زكي مبارك في التصوف وزكي نجيب محمود في أدب الباطنية وتراث الزنادقة والشعوبية وإحياء طه حسين لتاريخ الأساطير الجاهلية وإضافتها إلى السيرة أو كتابته عن علي ومعاوية وما تلا ذلك من كتابات عبد الرحمن الشرقاوي وغيره، كل هذا من إحياء التراث الفاسد المضلل الذي يراد به الهوى والذي يحقق غايات بعيدة ترمي إلى إقامة الأساطير مرة أخرى أو إشاعة الإسرائيليات وتجديدها في الفكر الإسلامي الحديث.
ونحن ننكر الدعوة القائمة على الفصل بين ماضي هذه الأمة وحاضرها تحت اسم الفكر العربي الحديث، أو الفكر المصري الحديث. وهي كلمات زائفة، فلقد قام الفكر الإسلامي المعاصر على امتداده الطبيعي منذ نشأة الإسلام، وكذلك قام الفكر الغربي المعاصر على أساس التراث الروماني واليوناني مستمداً منه أبرز قيمة ودعائمه محاولاً الارتباط به والاتصال بالرغم من أنه انفصل عن هذا التراث الإغريقي ألف عام، أما العرب والمسلمون فإنهم لم ينفصلوا عن تراثهم وقيمهم يوماً واحداً ولم يزل حاضرهم استمداداً لماضيهم، وقد انتهى الإغريق والرومان ومع ذلك فقد أحيا الغرب تراثهم، أما التراث الإسلامي فإنه ممتد ومتصل فهو تراث أمة لم تنته ولم تذهب لغتها إلى المتحف وما زال فكرها حياً متفاعلاً في وجود أمتها وفي البشرية كلها ولم يتوقف تفاعلها مع فكرها لحظة واحدة ولذلك فنحن حين نؤكد حقيقة الامتداد التاريخي للتراث الإسلامي مع واقع المسلمين والعرب ننكر ذلك الزيف والدخيل الذي أدخله المجوس والباطنية ومترجمو الفلسفات اليونانية والفارسية والهندية.(/2)
وكل ما يتأكد بالأصول القرآنية والحديث الصحيح فهو من التراث الصحيح، ولقد واجهت أصالة التراث هزة شديدة بعد نكسة 1967م حيث علن أصوات المارقين من دعاة التغريب إلى القول بأن التراث الإسلامي هو مصدر الهزيمة وكذبوا فإن التراث الإسلامي لم يكن مطابقاً ولا معمولاً به في ذلك العالم الذي شاهد الهزيمة، بل إن الذين هزموا العرب كانوا هم الذين أحيوا تراثهم الزائف. بينما حجبوا المسلمين عن تطبيق مفاهيم تراثهم وقيم فكرهم الأصيل.
ولا تزال النظرة إلى الارتباط بالتراث نظرة أصيلة وثابتة عن حقيقة أساسية هي أننا لم نكن نصدر – إذ ذاك عن قيمنا الأصيلة، وإننا مغرقين في تبعية وافدة كانت بعيدة الأثر في شخصيتنا وقد تبين لنا أن كل ما تقع الأمم فيه من أخطاء إنما يعود إلى التفريط في التراث والانسحاب من قيمه والتحرك خارج دائرة الأصالة كما تبين أن الذين دعوا هذه الأمة إلى أن تنفصل من التراث ومن الماضي – وهم من أبناء جلدتنا – كانوا غاشين لنا وسوف يحملهم التاريخ مسئولية الهزائم والنكسات وإثمها وتبعتها ولقد تبين لنا أننا عندما عدنا والتمسنا أصالتنا وتراثنا وبدأنا نتجه صوب المنابع تحول الموقف واستطعنا أن نكون على طريق صحيح.
ومن هنا وجب علينا اليقظة إزاء محاولات التغريبيين (شعوبيين وماركسيين وغربيين) لإحياء التراث ونقده وتفسيره وخاصة أولئك الذين يريدون أن يجعلوا من الزيوف والركام والرواسب الفلسفية والفكرية التي نفاها الفكر الإسلامي وتخلص منها وألقاها بعيدة عنه، يريدون أن يجعلوا منها تراثاً وأن يعيدوها مرة أخرى ليلقوها في النهر الناصع لتسممه وتسوده كما فعل طه حسين وعلي عبد الرازق وزكي نجيب محمود ولويس عوش وحسين فوزي وتوفيق الحكيم وعبد الرحمن الشرقاوي فقد حاول هؤلاء وغيرهم عدة محاولات:
إفساد التراث وتزييف التراث وتسميم النظرة إلى التراث وعلينا أن نعي تماماً تلك التفسيرات الخاطئة والمفاهيم المسمومة التي طرحتها هذه الكتابات في محاولة لجعلها من مفهوم الإسلام أو من تاريخه حتى تصبح بين أيدي الأجيال القادمة وكأنها من المسلمات.
فعلينا إمعان النظر في تلك الأساليب الدخيلة والزائفة والمحرفة التي طرأت في السنوات الخمسين الأخيرة منذ الشعر الجاهلي لطه حسين إلى تجديد الفكر العربي لزكي نجيب محمود.
وهكذا نرى أن التغريب والغزو الثقافي ليس قاصراً على إدخال الوافد المسموم بل هو أيضاً يرمي إلى تزييف التراث الأصيل.
محاذير الترجمة
في مواجهة تلك الظاهرة الضخمة في الفكر الإسلامي الحديث وعن طريق الأدب العربي في الأغلب ندرس ظاهرة الترجمة من الفكر الغربي: سواء الفكر اليوناني القديم أو الفكر الغربي الحديث.
وهي ظاهرة شبيهة بسابقتها في القرن الثالث الهجري وإن كانت تختلف في أمر واحد هو مفتاح كل الأمور: ذلك هو امتلاك الإرادة التي كان يتميز بها منهج الترجمة في العصر الأول ومع ذلك فقد ترجمت كتب الفلسفات والوثنيات وأحدثت شرخاً هائلاً وصدعاً ضخماً لم تستطع حركة الأصالة جبره إلا بعد معركة طويلة استمرت مدى قرنين من الزمان.
أما معركة الترجمة المعاصرة فإنها أشد خطراً وأبعد أثراً فقد جاءت على حين فترة من الزمن لم يكن المسلمون والعرب يمتلكون إرادة الاختيار فيها ترجم لهم واستطاعت حركة التغريب والغزو الثقافي أن تسيطر وأن تترجم لهم ما ليسوا في حاجة إليه أصلاً ونحت عنهم ما هم في حاجة إليه وكانت حفية بأن تترجم لهم الفكر الوقني والفلسفات والمذاهب المادية والإيديولوجيات المتضاربة في حين أنها حالت بينهم وبين ترجمة العلوم والتكنولوجيا بل حالت بينهم وبين إحياء تراثهم الأصيل ولذلك فإن آثار هذه المعركة ستظل إلى مدى بعيد عميقة الأثر في النتائج الفكري المعاصر تاركة ظلالها السوداء على كثير من صفحاته.
إن معركة الترجمة لم تبدأ من منهج صحيح مدروس ينظم مدى ما نحتاجه وما لسنا في حاجة إليه، وإنما أخذ التغريب والغزو الثقافي بالمبادرة ومضى يقدم لنا على مدى قرن كامل نتاجاً سيئاً غاية السوء، قوامه ترجمة القصة المكشوفة الأجنبية، والتراث اليوناني الوثني، والمفاهيم المادية والإباحية في مجالات النفس والاجتماع والأخلاق والتربية وقد قدمت لنا هذه الآثار على أنها علوم أصيلة وليست فروضاً قابلة للخطأ والصواب أو وجهات نظر تمثل أممها وأصحابها، ولم تسبق هذه الدراسات أو تلحق بما يكشف أمام القارئ العربي والمسلم مكانها من فكر أمتها وموقفنا كفكر له منهج متكامل جامع منها وبذلك زيفت هذه الترجمات كثيراً من لالعقول وأفسدت كثيراً من النفوس وخلقت أجيالاً مضطربة لأنها استطاعت أن تقرأ الفكر الغربي (القائم على عقائد ومفاهيم وقيم وإيديولوجيات) تختلف عن فكرنا الإسلامي العربي وكان القائمون على هذه الأعمال في الأغلب من خصوم هذه الأمة وفكرها ومن الراغبين إلى اتخاذ سلاح الترجمة سبيلاً إلى هدم هذه المقومات.(/3)
ولقد كانت الترجمة في أول أمرها في عصر محمد علي على النحو الذي قام به رفاعة الطهطاوي ومدرسة الترجمة الأولى بالغ الأصالة فقد عمد إلى تقديم نتاجه مدروساً وجاداً ومغطياً لجوانب كثيرة فقيرة وخاصة في لمجال العلوم التجريبية والطبيعية وغيرها، غير أن النفوذ الأجنبي لم يلبث أن سيطر من بعد على هذه الحركة وحولها إلى ترجمات القصص المكشوف وفنوناً مختلفة من أهواء النفس وضلالات الفكر البشري.
وهكذا استطاع التغريب والغزو الثقافي أن يحجب عن المسلمين والعرب ما كانوا في حاجة إلى ترجمته من الفكر الغربي (وهي مجالات العلوم التجريبية والطبيعية وغيرها) وطرح في أفق الترجمات ركاماً مضطرباً عاصفاً يرمي إلى هدم ذلك الحائط النفسي المرتفع القائم في النفس المسلمة بالحق والتقوى والكرامة والفضيلة والعفاف ويصور الإباحيات الجنسية على أنها شرعة المجتمع المباحة كما يصور الجريمة على أنها ظاهرة طبيعية ويصل تأثير هذه المترجمات المسمومة إلى جمع مقررات العقائد والأخلاق والإجماع والتدين حيث يوجد تباين واضح وخلاف عميق بين مفاهيم الغرب والإسلام حيث تقوم الحياة الاجتماعية على عبادة الجسد وتقديس الجمال والنظر إلى العلاقات الجنسية نظرة حرة بعيدة عن القداسة والعفاف والإيمان بالبكارة، وحيث تختلط الصور في هذه الترجمات المطروحة فتحدث آثارها الخطيرة في النفس العربية الإسلامية حتى تصل إلى صميم العقيدة نفسها.
ولقد كان لهذه الترجمات آثارها البعيدة في هدم طبائع الأمة التي تختلف تماماً، وفي التمرد على وجودنا وطبيعتنا تحت تأثير الانبهار بهذا الجانب من مدينة الغرب القائم على الزخرف والأضواء والرقص والفنون.
كذلك كان من أسوأ آثار الترجمة ذلك الخلط الشائن بين المذاهب المتعارضة والنظريات المضادة، وهي نظريات متفاوتة، ولكنها حين نقلت إلى فكرنا الإسلامي أريد طرحها جملة باضطرابها واختلافها لتكون عاملاً شديد التأثير في إفساد هذا الفكر والإدالة منه.
ومن العجب أن ننقل ونترجم آثار الفكر الغربي اليوم وهو يمر بمرحلة الأزمة والانهيار والهزيمة، ثوقد أحيط به واحتوته مقررات التلمودية وبروتوكولات صهيون وآوى أهله إلى ذلك الإحساس الرهيب بالغربة والقلق والتمرد والغثيان فنقل مسرح العبث واللا معقول واللا أدب واللا فن ومثل هذه الفنون المهومة المضطربة التي لسنا في حاجة إليها ولا هي تستطيع أن تعطينا شيئاً يعيننا على بناء أنفسنا أو فكرنا أو أمتنا وخاصة ما كتبه سارتر وكامي ومالرو من أحاسيس بالرعب والفزع والاضطراب نتيجة ذلك الانفصال الشائن عن العقيدة والدين والأخلاق وهي في مجموعها الفطرة التي لا تستطيع النفس الإنسانية أن تتجاهلها أو تحتويها.
كذلك فإن هذه الترجمات تصور الفرد الغربي وهو يحتقر الأخلاق ويسخر من الرحمة والصدف والعفة والشرف ويحتقر الوطنية ويضحك من الإخلاص للمجتمع ويستخف بفكرة الأسرة والعائلة.
وتجد مثل هذه الترجمات تحمل ذلك المثل الرديء بأن لا يحب الإنسان أحداً ولا يخدم أي مثل أو دين أو مبدأ، ويعتبر ذلك تقييداً لحريته وما يتصل بهذا من إنكار لله تبارك وتعالى وتهجم بالعبارات الرديئة عليه على النحو الذي عرف عن نيتشه وسارتر وبيراندللو وفضلاً عن إحياء الأساطير واتخاذها أساساً لنظريات في علم النفس والأخلاق والاجتماع أو مصادر لمفاهيم الأنثروبولوجيا وغيرها من المفاهيم.
هذه السموم جميعها تترجم إلى لغتنا العربية إلى أدبنا وفكرنا دون أن يقول لنا مترجموها ما هو الحق فيها وما هو الزيف، وما موقفنا منها كأمة لها عقيدتها وفكرها ومفاهيمها وقيمها.
وبذلك يطرحون في أفق مجتمعنا الإسلامي موجة زائفة من اليأس والتشاؤم والملل وازدراء الحياة مما لا يتفق مع طبيعتنا المتفائلة المؤمنة بالله التي لا تخاف شيئاً والتي تعتصم دائماً برضوان الله ورحمته.
ولعل هذه السموم التي تطرحها حركة الترجمة من أخطر ما يواجه حركة اليقظة الإسلامية اليوم ويضع أمامها صخوراً تحول بينها وبين إكمال المسيرة إلى الحق وتحجب كثيراً من حقائق الإسلام وتفسد العقول والقلوب في أعماق شبابنا وأجيالنا الجديدة وحسبما تقول الدكتورة نازك الملائكة: ما من شيء يستطيع أن يفسد علينا جهودنا مثل تبنينا لهذا الفكر الغربي المريض فإذا اتخذ شبابنا نماذجه الأدبية والفكرية من أعلام الغرب المعاصر مثل سارتر ومورافيا وكافكا فالي أين سينتهي؟.
ونحن نقول أننا أشد ما نكون حاجة إلى أن نتنبه ونحذر مثل هذا الفكر الوافد وأن نقف منه موقف التحفظ وأن نكشف حقيقته لأبنائنا ونقدمه في صراحة ووضوح ونقول لهم إن هذه المفاهيم ليست مفاهيم المجتمع الإسلامي العربي ولن تكون للاختلاف العميق في الأسس والمصادر والمقومات والقيم والعقائد بين فكرنا وبين هذا الفكر وبيننا وبين الغرب.(/4)
وتقول نازك الملائكة: إن اتجاهات الكتب المترجمة عن الغرب تقلقنا حتى أصبحنا نخشى على نفسية القارئ العربي من رشائش هذه الموجة التي تأتينا رافضة هو صفتها من وجهة نظر الأمة العربية. إن لنا حاجاتنا العربية وهي تملي علينا أحكامنا الاجتماعية وينبغي أن تمليها.
ولقد أعلن كثير من الباحثين الغيورين تخوفهم من موجة الترجمة التي انطلقت خلال تلك السنوات الطويلة بغير ضابط لها وغير مراجع يدفع عن الفكر الإسلامي شرها ويذود عن المجتمع الإسلامي آثارها وسمومها وقد حق اليوم وقد بلغ الفكر الإسلامي مرحلة الرشد والأصالة والقدرة على التحرر من التبعية معاودة هذا الفكر كله بالنظر والدحض وخاصة ما كتبه المستشرقون عن الرسول والإسلام والقرآن واللغة العربية وتاريخ الإسلام مما يحمل بذور الشكوك والتخرصات الضالة المضلة.
وفي يقيني أن مترجمي هذه الكنب لم يكونوا حسنى النية في نقلها ولم يكونوا يحاولون تقديم الجديد الذي يطمعون به في بناء أممهم، ولكنهم كانوا ضالين في محيط دقيق للغرب والغزو الثقافي وإلا لحالوا دون ترجمة السموم ولأردفوا ما ترجموه بوجهة نظر الفكر الإسلامي العربي فيما قدموه.
ولا يمكن أن يكون الكاتب الغيور على أمته المؤمن بحقها في الوجود الحافظ لكيانها هو ذلك الذي يترجم لها ما يذلها وما يستبعدها وما يوردها مورد الهوان والخيبة والعبودية حين يحطم لها قيمها ويدمر لها تقاليدها وأصولها بما يحرضها عليه من إثم وفسوق.
إن اختلاف الذوق واختلاف العقيدة واختلاف القيم والتقاليد يجب أن يكون حاجزاً أصيلاً في مجال الترجمة فما يجوز لنا أن ننقل إلى بناء أمتنا ترجمة لقصة مستهجنة أو مسرحية آثمة أو كتاب فاحش مكشوف فما أعتقد أنه ينفع أمتنا على أي نحو من الأنحاء.
ومهما يكن من تقدير الغربيين له فإنه لا حاجة لنا به مطلقاً، وإنما نحتاج إلى ترجمة ما يهذب الأذواق ويجدد النفس ويخلق صورة طيبة للتعامل الاجتماعي بين الرجل والمرأة، وهو ما يفتقده الأدب الغربي في مراحله الأخيرة هذه بعد أن خضع خضوعاً خطيراً لنزعات الجنس والإباحيات والفحش والعرى ومذاهب الغربة والقلق والتمزق. ولعله يوجد في الأدب الغربي كثير من الآداب ما يرقى الذوق ويهذب النفس ولكن مترجمينا لا يطلبون هذا ولا يرضون ترجمته وإنما يترجمون تلك الآثام وتلك السموم لأنها تروج في سوق التجارة فيكسبون منها مالاً ويتركون شرورها في عقول المسلمين والعرب وفي قلوبهم ولقد كان واضحاً تماماً أن حاجتنا إلى الترجمة من الغرب هي في مجال العلوم التجريبية والطبيعية والطب والجغرافيا والفلك والتنولوجيا فهذه هي الميادين التي تقدم لنا ما يدفعنا إلى النهضة والقوة وامتلاك إرادة الحياة، أما ما يتصل بالمفاهيم النفسية والاجتماعية والأخلاقية وما يتصل بالفنون والقصص والآداب فذلك ما لسنا في حاجة إليه لأن لكل أمة آدابها وقيمها.
ولقد كان لنا دائماً نظرتنا في مجال نقد الأدب وفي مجال الفنون ولنا مفاهيمنا الاجتماعية والأخلاقية في مجا الاقتصاد والسياسة والتربية ولنا مفهوم متكامل جامع هو بمثابة نظام مجتمع ومنهج حياة فلماذا تحاول حركة الترجمة، والقائمون عليها تدمير هذا النظام والتشكيك فيه وذلك بترجمة كل ما يعارضه وما يختلف معه، بل وما رماه به المستشرقون من اتهامات وشبهات. الحق أن خطة الترجمة آثمة أشد الإثم، وعملية وخاطئة.
والواقع أننا يجب أن نعرف الفكر الغربي ونرد عليه، نعرفه على أنه فكر أمة أخرى غير أمتنا وأنه يحمل وجهة نظر أخرى تختلف كثيراً عن وجهة نظرنا وقد نلتقي في بعض الجزئيات ولكنا يجب أن نكون مؤمنين أشد الإيمان بمنهجنا الرباني المصدر الإنساني الاتجاه الجامع المتكامل الذي يستهدف بناء الحياة من أجل الخير والعدل والحق واستخلاف الإنسان في الأرض من أجل إسعاد البشرية كلها، وأن نقف موقف المعارضة لكل ما يحاول أن يفسد هذا المفهوم أو يزيفه أو ينقلنا إلى طوابع تغلب عليها الأنانية أو الإباحية أو الاستعلاء العنصري أو الظلم أو الاستبداد او تملك مفاتيح العلوم والتكنولوجيا وقصرها على أمة لعبثها وحرمان البشرية كلها منها.(/5)
وإننا يجب أن نحرص على حماية شخصيتنا الإسلامية وذاتيتنا القرآنية من أن تنصهر في العالمية أو تندمج في الأممية أو يحتوي في ذلك الركام البشري الزائف ولما كنا في مرحلة من مراحل حياتنا لا تزال قوى الاستعمار والصهيونية والماركسية تحيط بنا وتحاول احتواءنا والسيطرة علينا وما زلنا في جهاد عنيف لكل قوى الغزو فإننا أشد ما نكون في حاجة إلى أن نقف من الفكر الوافد موقف الحيطة والحذر فإن أغلب ما يكتب عنا فيه مكتوب بروح التعصب والحقد والرغبة في إزالتنا وتدميرنا وأغلب ما يكتب عن أهله يمثل مرحلة متأخرة من مراحل الحضارة الغاربة المعزولة في مفاهيمها وقيمها البعيدة عن روح الله، المعزولة عن دين الله المنكرة للقيم الربانية الهازئة بالأخلاق الدينية ولنضع تجربة المسلمين الأولى أمامنا، هؤلاء الذين رفضوا أن ينقلوا الوثنيات والماديات والإباحيات ورفضوها رفضاً تاماً والذين واجهوا ما ترجم من الفلسفات مواجهة صارمة فكشفوا زيفها وأجلوها وخلصوا المجتمع الإسلامي من الفرق الضالة والمذاهب الهدامة وأقاموا المنهج الإسلامي الأصيل: منهج أهل السنة والجماعة.(/6)
محاسن الإسلام
إن دين الإسلام الذي جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - أكمل الأديان وأفضلها، وأعلاها وأجلّها، وقد حوى من المحاسن و الكمال والصلاح والرحمة والعدل والحكمة ما لم يشتمل عليه غيره.
ومن هذه المحاسن:
أ - التكافل الاجتماعي:
التكافل في الإسلام شامل للتعاون على الدعوة إلى الخير و إزالة المنكر وحماية الضعفاء، ورزق الفقراء والمعوزين بما يكفيهم، والإحساس الدقيق بكل ما يصيب الجماعة.
قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} سورة المائدة: 2.
ومن أنواع التكافل الاجتماعي:
1) الزكاة:
وسيلة رئيسية لتحقيق العدالة الاجتماعية في الإسلام وقد جعلها ركناً من أركان الدين وضرورة من ضرورات الإيمان ولأهميتها قرنت بالصلاة في عشرات المواضع من القرآن والحديث
قال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَءَاتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} سورة البقرة : 43
وقال سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَءَاتَوُا الزَّكَاةَ}سورة الحج : 41.
والزكاة وسيلة من وسائل الضمان الاجتماعي الذي جاء به الإسلام، فإن الإسلام يأبى أن يوجد في مجتمعه من لا يجد القوت الذي يكفيه، والثوب الذي يزينه ويواريه، والمسكن الذي يؤويه، فهذه ضرورات يجب أن تتوافر لكل من يعيش في ظل الإسلام.
2) الصدقة:
زيادة على الزكاة يوجه الإسلام إلى الصدقة والبر ويحبب في الإنفاق طوعاً وانتظاراً لرضى الله وعوضه في الدنيا ولثوابه في الآخرة، واجتناباً لغضبه ونقمته وعذابه
قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ} سورة الحديد:11
وقال - صلى الله عليه وسلم - :"ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً" رواه مسلم.
وقد رغب الإسلام ترغيباً يشرح صدر الكريم، ويدفع البخيل إلى العطاء، فالله تعالى يتقبل الصدقة بيمينه ويربيها لصاحبها كما يربي أحدنا مهره حتى تصير الثمرة مثل جبل أحد.
3) النفقات:
أوجب الإسلام على رب الأسرة أنواعاً من النفقات كالنفقة على الزوجة، والنفقة على الأولاد، والنفقة على من ولي أمرهم من والدين عاجزين أو عبيد تحت يده. وله مع ذلك الحق الذي يؤديه صدقة وأجراً إذا هو احتسب ذلك
قال - صلى الله عليه وسلم - : "إذا أنفق المسلم نفقة على أهله وهو يحتسبها كانت له صدقة" رواه البخاري.
وقال أيضاً: "خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى وابدأ بمن تعول" رواه البخاري.
4) حقوق المسلمين:
الزكاة ليست هي الحق الوحيد في المال بل هي الحق الدوري الثابت الذي وصل به الإسلام إلى أعلى درجات الإلزام، ثم هناك حقوق أخرى تقتضيها الظروف، وتجوبها الحاجات، وتوكل في الغالب إلى ضمير المسلم ومشاعره الزكية التي رباها الإسلام، فليس لها قدر محدد ولا زمن معين.
فإذا لم تقم حصيلة الزكاة بتحقيق تمام الكفاية للفقراء والمساكين، وجب على أغنياء كل بلد أن يقوموا بكفاية فقرائهم، وإن لم يفعلوا ذلك من تلقاء أنفسهم، ألزمهم السلطان بذلك باسم الشرع الذي أوجب التكافل بين المسلمين، واعتبرهم كالبنيان المرصوص أو كالجسد الواحد، وليس بمؤمن من بات شبعان وجاره إلى جنبه جائع.
ب- حب العمل:
1 الأدلة على شرف العمل وفضله:
العمل نوع من العبادة بمعناها العام، فقد خلق الإنسان ليعمر هذه الأرض بالخير وللخير
قال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا
وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} سورة الملك : 15
وقال سبحانه: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} سورة هود: 61.
وقد رغب النبي - صلى الله عليه وسلم - في العمل وحض عليه أصحابه فقال: "لأن يحتزم أحدكم حزمة من حطب، فيحملها على ظهره فيبيعها خير له من أن يسأل رجلاً يعطيه أو يمنعه" رواه مسلم.
ولا يترك المسلم العمل بحجة الانقطاع الكامل لعبادة الله؛ لأن سعي الإنسان للحصول على الرزق
حتى يكفي نفسه وأهله نوع من العبادة.
روي أن عمر - رضي الله عنه - رأى بعد الصلاة قوماً قابعين في المسجد بدعوى التوكل على الله فعلاهم بدرته، وقال كلمته المشهورة: لا يقعدن أحدكم عن طلب الرزق ويقول: اللهم ارزقني، وقد علم أن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة.
2 أحوال الأنبياء والصالحين وسعيهم في العمل:
كان الأنبياء جميعاً يعملون ويأكلون من كسب أيديهم بشهادة النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث قال:"ما بعث الله نبياً إلا ورعى الغنم. قالوا: وأنت يا رسول الله؟ قال: كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة" رواه البخاري.
وقال - صلى الله عليه وسلم - :"ما أكل أحد طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده"رواه البخاري.(/1)
وهكذا كان شأن أئمة الإسلام وأعلامه والصالحين ولذلك سمُّوا بالبزاز والقفال والزجاج والخراز والقطان والجصاص وغير ذلك.
ج - الضرورات الخمس:
الضرورات الخمس هي:
حفظ الدين، وحفظ النفس، وحفظ العقل، وحفظ النسل والعرض، وحفظ المال.
وهذه الضرورات هي أعلى مراتب المقاصد الشرعية بل هي الغاية الأولى من نزول التشريع
ولابد منها في قيام مصالح الدين والدنيا، فإذا فقدت اختلت الحياة الإنسانية.
1 حفظ الدين:
والمراد به الإيمان والنطق بالشهادتين والصلاة والزكاة.. وما أشبه ذلك من أصول الدين التي إذا ذهبت لم يبق الدين بعد ذهابها.
ولذلك شرع الإسلام الكثير من التشريعات الهدف منها حفظ الدين من الزوال، فمن ذلك الجهاد للدفاع عن الدين وحد الردة، وغير ذلك، قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} سورة الأنفال: 39.
2 حفظ النفس:
ومن أجل المحافظة على النفس جاءت آيات كثيرة تنذر بأشد العذاب على من اعتدى على نفس بغير حق قال تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ} سورة الأنعام : 151
وقال - صلى الله عليه وسلم - : "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة" متفق عليه.
- ومن أجل المحافظة على النفس شرع الإسلام القصاص في القتل العمد العدوان
قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} سورة البقرة: 178
كما شرع الدية والكفارة في قتل الخطأ.
3 حفظ العقل:
ومن أجل المحافظة على العقل حرم الإسلام تناول المسكرات والمخدرات وأكل السموم
والنجاسات؛ لأنها تؤدي إلى ذهاب العقل وفساده.
وجعل الإسلام عقوبة انتهاك حرمة العقل رادعة وزاجرة حتى يفكر المقدم على هذه المفسدات
المهلكات في العاقبة فيتراجع ويجنب نفسه الهلاك أو العقوبة.
4 حفظ النسل والعرض:
إن حماية الأعراض وصيانة كرامات الناس، والمحافظة على حرماتهم لها في الإسلام شأن كبير
وقد أكد النبي - صلى الله عليه وسلم - على حرمة العرض وقرنها بحرمة الدماء والأموال حين
أعلن في حجة الوداع أمام الجموع المحتشدة في البلد الحرام: "إن الله حرم عليكم دماءكم وأعراضكم وأموالكم" رواه البخاري ومسلم.
ومن أجل المحافظة على النسل والعرض شرع الإسلام النكاح، وأقام حد الزنا وحد القذف وحد اللعان.
5 حفظ المال:
ومن أجل المحافظة على المال شرع الإسلام الانتفاع بالأعيان والمنافع، وانتقالها بعضو أو بغير عوض
كما شرع حد السرقة وضمان قيم المتلفات..
أيضاً شرع لصاحب المال الحق في أن يدافع عن ماله ولو قتل دونه قال - صلى الله عليه وسلم - :
"من قتل دون ماله فهو شهيد" رواه الترمذي وقال: حسن صحيح.
د - الحريات وحفظ الشريعة لها:
قرر الإسلام حقوقاً للإنسان بمقتضى فطرته الإنسانية وجعلها حقوقاً ثابتة دائمة بحكم الطبيعة والشريعة ومن هذه الحقوق: حق التملك، وحق إبداء الرأي حق الحياة، حق الكرامة، حق التفكير، حق التدين والاعتقاد، حق التعلم، حق الأمن .. وغير ذلك.
حق التملك:
احترم الإسلام حق الملكية واعتبره حقاً مقدساً لا يحل لأحد أن يعتدي عليه بأي وجه من الوجوه
ولهذا حرم السرقة والغضب والغش وتطفيف الكيل والوزن والرشوة.. واعتبر كل مالٍ أخذ بغير سبب مشروع أكلاً للمال بالباطل.
وشرع للإنسان أن يدفع عن ماله بكل قوة حتى وإن لزم الأمر إلى مقاتلة من يريد أخذ ماله.
عن أبي هريرة أن رجلاً قال:"يارسول الله، أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال: لا تعطه. قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: قاتله. قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: فأنت شهيد. قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: هو في النار" رواه مسلم.
حق إبداء الرأي:
من أهم القيم الإسلامية الحرية؛ لأنها فطرة الله التي فطر الإنسان عليها، وقد جاء الإسلام ليضمن الحرية للإنسان حيث أعلن الحرية الدينية وكفلها للناس بصورة لم تعهدها الإنسانية قديماً أو حديثاً، فلم يكره أحداً على ترك دينه والدخول في الإسلام، وترك الحرية لأصحاب الديانات الأخرى من أهل الكتاب أن يمارسوا شعائرهم وعباداتهم في المجتمع الإسلامي، فلم تهدم لهم كنيسة ولم يكسر لهم صليب، كما ترك لهم الحرية فيما أباحت لهم أديانهم من الطعام وغيره وأعطاهم الحرية في قضايا الأحوال الشخصية من الزواج والطلاق والنفقة وغيرها.
كذلك أطلق الإسلام حرية التعبير وإبداء الرأي سواء باللسان أو القلم، وحض الرسول - صلى الله عليه وسلم - أصحابه على أن يقولوا الحق مهما كانت الظروف وأن لا تأخذهم في ذلك لومة لائم، حيث قال - صلى الله عليه وسلم - :"الساكت عن الحق شيطان أخرس".(( ليس بحديث))
والشيء الوحيد الذي حرمه الإسلام هو حرية التكفير والدعوة إلى إضعاف الدين والخلق أو الترويج للإلحاد والزندقة فإنها دعوة خبيثة يجب مصادرتها والحجز عليها.
اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبى على دينك(/2)
محاصرة الشّرور
د. عبد الكريم بكار 12/3/1426
21/04/2005
مضت سنة الله –تعالى- في الخليقة أن يظل الصّراع مشتعلاً بين الحق وأهله من جهة وبين الباطل وأهله من جهة أخرى. وحين هبط آدم -عليه السلام- وزوجه من الجنة هبط معهما إبليس بوصفه المسؤول الأكبر عن إشاعة الشرور.
إن وجود إمكانيّة لاقتراف الشر والوقوع في الرذيلة، يشكل مظهراً هاماً من مظاهر ابتلاء الله تعالى لعباده، وكلما درجت البشرية في سبيل العمران والتحضر اتسعت الإمكانات أمام أهل الخير وأمام أهل الشر؛ لكن بما أننا نعيش في ظل حضارة ماديّة إلحاديّة فإن اكتشاف مساحات نشر الخير تحتاج إلى نوع من الإبداع، على حين أن الشر يطرق الأبواب، وكثيراً ما يدخل من غير استئذان!
الخبرة القديمة لدينا في مقاومة الشرور، كانت تعتمد على النهي والزجر والتشنيع على المفسدين ومعاقبتهم. وهذا الأسلوب سيظل مطلوباً، لكن التجربة التاريخية علّمتنا أن الضغط الاجتماعيّ إذا لم يصحبه تربية جيّدة وتنمية أجود للوازع الداخلي، فإن آثاره ستكون أقرب إلى السلبيّة منها إلى الإيجابيّة، إنه يساعد على إخراج مجتمع ظاهره الصلاح والاستقامة والامتثال لآداب الشريعة، وباطنه المروق والفسوق.
إذا كنا نريد معالجة نظيفة للانحراف فإن هذا يتطلب معالجة تقوم على النعومة والجاذبيّة والتفاهم، واستخدام الحد الأدنى من القوة والسلبيّة.
إن من شأن التقدم الحضاري أن يوسّع مساحة الحريّة الشخصيّة لكل واحد من الناس، وهكذا فما كان يُظن شيئاً عاماً يؤثر في الحياة الاجتماعيّة -ومن ثم فإنه يمكن نقده –صار في جملة الخصوصيّات الفرديّة.
وتتكون الآن أعراف تجعل نصح الجار لجاره والرجل لأحد أقربائه من الأمور غير المستساغة. ولهذا فإن مساحة القول في محاصرة الشر تضيق يوماً بعد يوم. ومع هذا الانكماش أخذ المبدأ الإسلامي العظيم (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) يذبل ويفقد منطقيّته وأنصاره على نحو مخيف ومخجل!
في الماضي كان عدد كبير من المسلمين يعوّل على الدولة في محاصرة الفساد والحد من انتشار الانحراف بوصفها الجهة الوحيدة التي تملك سلطة رادعة ومنظمة معترفاً بها. وقد كانت الدولة تقوم فعلاً بشيء من ذلك، لكن لا بد أن نلاحظ عدداً من الأمور، منها:
إن الدولة حين تكون مشروعة، فإنها تستطيع الحد من صور انتشار السوء كثيراً، لكن كما أشرت قبل قليل فإن الردع من خلال القوة يكون قليل الجدوى إذا لم يُصحب بعمل توجيهيّ إيجابيّ.
ونحن نعرف أن كثيراً من المنحرفين تحوّلوا إلى مجرمين كبار من خلال سجنهم مع فئة ضالعة في الإجرام أو مع أشخاص من أصحاب السوابق. أما إذا كانت الدولة غير مشروعة أو كانت لا تخضع لرقابة شعبيّة جيدة فإن قدرتها على حماية الآداب العامة وحفظ ظاهر المجتمع تكون شبه معدومة؛ لأنها هي نفسها تحتاج إلى الكثير من الإصلاح. وهناك نقطة هامّة لا ننتبه في العادة إليها، وهي أن مطالبة الدولة بالمزيد من التدخل لحماية الأخلاق والآداب والأعراف الحميدة، سيعني على نحو آلي منحها المزيد من الصلاحيّة والنفوذ في التدخل في حياة الناس، وهذا يتطلب تضخم أجهزة الدولة، وهذا ليس في صالحها ولا في صالح شعبها. إن الدولة مثل القلب ومثل الكبد إذا تضخم فسد، وإذا فسد تضخم. وقد صدق من قال: الدولة وليدة عيوبنا، والمجتمع وليد فضائلنا.
إن المجتمع الفاضل في الرؤية الإسلامية هو الذي يقوم بمعظم شؤونه دون أن يطلب المعونة من أي دولة أو سلطة بسبب استغنائه بمبادراته ومؤسساته وارتباطاته الأهليّة والشعبيّة. وأعتقد أننا الآن وصلنا إلى بيت القصيد ومربط الفرس في مقالنا هذا. إن العالم يعيش حالة فريدة من التضاغط والتزاحم العمليّ، وفي حالة كهذه تتعاظم قيمة الفعل ويتضاءل وزن الكلام، كما أن كثرة المغريات والمحفزات على الانخراط في الشأن الدنيويّ أضعفت قدرة الناس على المقاومة للشهوات على مقدار ما أضعفت فزعهم إلى الآخرة وإلى عالم المعنى على نحو عام. المستقبل في الحث والتأثير والكف والزجر سيكون للبيئة والجو والسياق والحالة العامة.
إن البيئة الجيدة تؤثر في الشخصية عن طريق (اللاوعي) وتقلل الميول إلى الشرور بشكل سلس. السياقات الحسنة تُبنى من خلال الألوف من الأعمال الخيرة والمبادرات الكبيرة، ومن هنا فإن على أهل الدعوة والغيرة على مستقبل الأمة أن يفكروا بطريقة جدّية وعمليّة في كيفيّة الحصول على حضور متألق في كل المجالات وعلى كل المستويات. إن الطبيعة –كما يقولون- تكره الفراغ.
ومن ثم فإنّ علينا أن نتوقع أن كل فراغ سياسيّ أو تربويّ أو اقتصاديّ أو إعلاميّ.. لا يقوم الصالحون بملئه فسيملأ بسرعة هائلة من قبل غيرهم.(/1)
ونستطيع أن نتعلم من حركة اليهود في العالم أكثر من درس بليغ، حيث استطاعوا أن يتحولوا وبصمت عجيب ومن خلال العمل الدؤوب من أقلية مضطهدة مكروهة إلى أقلية ساحقة ومهيبة ومسيطرة، ومهما قلنا عن محاباة الغرب لهم فإن الصحيح أيضاً أنهم قد أبدَوْا براعة نادرة في التنظيم والتخطيط والجهد المتتابع وتلمس مكامن القوة ونقاط الارتكاز، بالإضافة إلى الإحساس المبكر بأهمية العلم في تكوين النفوذ...
حين تكون على درجة عالية من الكفاءة تكثر أعداد الذين لهم مصلحة عندك، وأعداد الذين يحتاجونك. ومن خلال الحاجة إليك يمنحونك الفرصة تلو الفرصة، لأن تكون مؤثراً وفاعلاً، حتى أعداؤك فإنهم يضطرون إلى مصانعتك من أجل الاستفادة منك.
ملء الفراغ وإحداث التأثير المتميز يحتاج إلى عدد من الأمور المهمة، منها:
1- الكفاءة العالية، والتي يأتي كثير منها من وراء التعلم الجيد والتخصص والتدرب الممتاز والمثابرة في اكتساب الخبرة.
2- الأمانة والاستقامة وشعور المرء بالمسؤوليّة الأخلاقيّة عن العمل الذي بين يديه.
3- التضحية وجعل التبرّع والعطاء المجاني انتظاراً للمثوبة من الله تعالى.
4- فن التفريق بين الجوهري والهامشي وبين المرض وأعراضه، وأعتقد أن انتشار الشرور في المجتمعات الإسلاميّة يعود إلى عدد من الأسباب الجوهريّة والتي منها: حبّ الدنيا، ضعف التربية الأسرية، وهن الإيمان والجانب الروحي، الإعراض عن القراءة والاستمرار في التعلم، عدم كفاءة القوانين والنظم الإداريّة.
5- الشعور بالمسؤولية الشرعيّة عن انتشار المنكرات وشيوع الفواحش، ولنا أن نتأمل قول الله –جل وعلا-:(لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ*كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) [المائدة:78-79]. وفي حديث الشيخين أن النبي -صلى الله عليه وسلم- دخل على زينب بنت جحش –رضي الله عنها- فزعاً، يقول: "لا إله إلا الله ويل للعرب من شر قد اقترب" قالت زينب:"يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟"، قال:"نعم، إذا كثر الخبث".
أي زمان كزماننا غير المباشر أهم من المباشر، ويكون الردع عن طريق الفعل أقوى من التأثير عن طريق الكلام، كما تكون الحركة الإيجابيّة أهم من الموقف السلبيّ الشاحب والمحتج. وللنية الحسنة والنشاط المستعر قيمة في كل زمان، ولا يكافئ فضيلة الإخلاص إلا كرم التوفيق(/2)
محاضرات منوعة الدويش
يا سامعا
الأنقياء
الأخفياء
المحرومون
السر العجيب
أثر التوحيد في النفوس
الفائزون في رمضان
روحانيات صائم
رمضان والرحيل المر
فن التعامل مع الزوجة
السحر الحلال
توجيهات وأفكار
الشباب ألم وأمل
الفتاة ألم وأمل
رسالة إلى معلمة
جاري العزيز
تعالى نتعاتب
40وسيلة لاستغلال الإجازة الصيفية
الرجل الصفر
غثاء الألسن
أفتش عن إنسان
بشائر ومبشرات
*****************
يا سامعا
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي يطعم ولا يطعم من علينا فهدانا وأطعمنا وسقانا وكل بلاء حسن أبلانا الحمد لله الذي أطعم من الطعام وسقى من الشراب وكسى من العري وهدى من الضلالة وبصر من عمى وفضل على كثير ممن خلق تفضيلا الحمد لله رب العالمين اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد أيها الأحبة في الله السلام عليكم ورحمة الله وبركاته هذه ليلة الأحد الموافق للثامن من الشهر السادس للعام السابع عشر بعد الأربعمائة والألف وفي هذا الجامع المبارك جامع الملك فهد بمدينة >بريدة< نلتقي بهذه الوجوه الطيبة المباركة وفي مجلس من مجالس الذكر يا سامعا لكل شكوى يا خالقا الأكوان أنت المرتجى وإليك وحدك ترتقي صلواتي يا خالقي ماذا أقول وأنت تعلمني وأنت تعلمني وتعلم حاجتي وشكايتي يا خالقي ماذا أقول يا خالقي ماذا أقول وأنت مطلع على شكواي والأنات اللهم يا موضع كل شكوى ويا سامع كل نجوى ويا شاهد كل بلوى ويا عالم كل خفية ويا كاشف كل بلية يا من يملك حوائج السائلين ويعلم ضمائر الصامتين ندعوك دعاء من اشتدت فاقته وضعفت قوته وقلت حيلته دعاء الغرباء المضطرين الذين لا يجدون لكشف ما هم فيه إلا أنت يا أرحم الراحمين اكشف ما بنا وبالمسلمين من ضعف وفتور وذل وهوان يا سامعا لكل شكوى أعن المساكين والمستضعفين وارحم النساء الثكالى والأطفال اليتامى وذا الشيبة الكبير إنك على كل شيء قدير معاشر الاخوة والأخوات إن في تقلب الدهر عجائب وفي تغير الأحوال مواعظ توالت العقبات وتكاثرت النكبات وطغت الماديات على كثير من الخلق فتنكروا لربهم ووهنت صلتهم به اعتمدوا على الأسباب المادية البحتة فسادت موجات القلق والاضطراب والضعف والهوان وعم الخوف والهلع من المستقبل بل وعلى المستقبل تخلوا عن ربهم فتخلى الله عنهم (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ) جميع الخلق مفتقرون إلى الله مفتقرون إلى الله في كل شئونهم وأحوالهم وفي كل كبيرة وصغيرة وفي هذا العصر تعلق الناس بالناس وشكا الناس إلى الناس ولا بأس أن يستعان بالناس فيما يقدرون عليه لكن أن يكون المعتمد عليهم والسؤال إليهم والتعلق بهم فهذا هو الهلاك بعينه فإن من تعلق بشيء وكل إليه نعتمد على أنفسنا وذكائنا بكل غرور وعجب ....أما أن نسأل الله العون والتوفيق ونلح عليه بالدعاء ونحرص على دوام الصلة بالله في كل الأشياء وفي الشدة والرخاء فهذا آخِر ما يفكر فيه بعض الناس
فقيرا جئت بابك يا إلهي
ولست إلى عبادك بالفقير
غني عنهم بيقين قلبي
وأطمع منك بالفضل الكبير
إلهي ما سألت سواك عونا
فحسبي العون من رب قدير
إ لهي ما سألت سواك عفوا
فحسبي العفو من رب غفور
إلهي ما سألت سواك هديا
فحسبي الهدي من رب بصير
إذا لم أستعن بك يا إلهي
فمن عوني سواك ومن مجيرِ
أيها الاخوة إن الفرار إلى الله واللجوء إليه في كل حال وفي كل كرب وهم هو السبيل للتخلص من فتورنا وضعفنا وذلنا وهواننا إن في هذه الدنيا مصائب ورزايا ومحن وبلايا آلاما تضيق بها النفوس ومزعجات تورث الخوف والجزع كم في الدنيا من عين باكية وكم فيها من قلب حزين وكم فيها من الضعفاء والمعدومين قلوبهم تشتعل ودموعهم تسيل هذا يشكو علة وسقما وذاك حاجة وفقرا وآخر هما وقلقا عزيز قد ذل وغني افتقر وصحيح مرض رجل يتبرم من زوجه وولده وآخر يشكو ويئن من ظلم سيده وثالث كسدت وبارت تجارته شاب أو فتاة يبحث عن عروس وطالب يشكو كثرة الامتحانات والدروس هذا مسحور وذاك مدين وآخر ابتلي بالإدمان والتدخين ورابع أصابه الخوف ووسوسة الشياطين تلك هي الدنيا تضحك وتبكي وتجمع وتشتت شدة ورخاء وسراء وضراء وصدق الله العظيم (لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ) أيها الاخوة السؤال الذي يجب أن يكون؛ هؤلاء إلى من يشكون وأيديهم إلى من يمدون يجيبك واقع الحال على بشر مثلهم يترددون وللعبيد يتملقون يسألون ويلحون وفي الثناء والمديح يتقلبون وربما على السحرة والكهنة يتهافتون نعم والله تؤلمنا شكاوي المستضعفين وزفرات المساكين وصرخات المنكوبين وتدمع أعيننا يعلم الله لأهات المتوجعين وأنات المظلومين وانكسار الملذوعين لكن أليس إلى الله وحده المشتكي أليس إلى الله وحده المشتكي أين الإيمان بالله أين التوكل على الله أين الثقة واليقين بالله(/1)
وإذا عرفت بلية فاصبر لها
صبر الكريم فإنه بك أرحم
وإذا شكوت إلى ابن أدم فإنما
تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم
ألم نسمع عن أناس كانوا يشكون إلى الله حتى انقطاع شسع نعلهم نعم حتى سير النعل كانوا يشكون إلى الله بل كانوا يسألون الله حتى الملح يا أصحاب الحاجات أيها المرضى أيها المدينون أيها المكروب والمظلوم أيها المعسر والمهموم أيها الفقير والمحروم يا من يبحث عن السعادة الزوجية يا من يشكو العقم ويبحث عن الذرية يا من يريد التوفيق في الدراسة والوظيفة يا من يهتم لأمر المسلمين يا كل محتاج يا من ضاقت عليه الأرض بما رحبت لماذا لا نشكو إلى الله أمرنا لماذا لا نشكو إلى الله أمرنا وهو القائل (ادعون أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) لماذا لا نرفع أكف الضراعة إلى الله وهو القائل (فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الداعي إِذَا دَعَانِ ) لماذا ضعف الصلة بالله وقله في الاعتماد على الله وهو القائل (قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ ) لولا دعاؤكم أيها المؤمنون أيها المسلمون يا أصحاب الحاجات ألم نقرأ في القرآن قول الحق عز وجل (فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء ) لماذا ( لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ ) فأين نحن من الشكوى لله أين نحن من الإلحاح والتضرع لله سبحان الله ألسنا بحاجة لربنا أنعتمد على قوتنا وحولنا والله ثم والله لا حول لنا ولا قوة إلا بالله والله لا شفاء إلا بيد الله ولا كاشف للبلوى إلا الله لا توفيق ولا فلاح ولا سعادة ولا نجاح إلا من الله العجيب والغريب أيها الاخوة أن كل مسلم يعلم هذا ويعترف بهذا بل ويقسم على هذا فلماذا إذن تتعلق القلوب بالضعفاء والعاجزين ولماذا نشكو إلى الناس ونلجأ للمخلوقين
سل الله ربك ما عنده
ولا تسأل الناس ما عندهم
ولا تبتغي من سواه الغنى
وكن عبده لا تكن عبدهم
فيا من إذا بليت سلاك أحبابك وهجرك أصحابك يا من نزلت به نازلة أو حلت به كارثة يا من بليت بمصيبة أو بلاء ارفع يديك إلى السماء وأكثر الدمع والبكاء وألح على الله بالدعاء وقل يا سامعا لكل شكوى " إذا استعنت فاستعن بالله وإذا سألت فاسأل الله " وقل يا سامعا لكل شكوى توكل على الله وحده وأعلن بصدق أنك عبده واسجد لله بخشوع وردد بصوت مسموع يا سامعا لكل شكوى :
أنت الملاذ إذا ما أزمة شملت
وأنت ملجأ من ضاقت به الحيل
أنت المنادى به في كل حادثة
أنت الإله وأنت الذخر والأمل
أنت الرجاء لمن سدت مذاهبه
أنت الدليل لمن ضلت به السبل
إنا قصدناك والآمال واقعة
عليك والكل ملهوف ومبتهل(/2)
إن الأنبياء والرسل وهم خير الخلق وأحب الناس إلى الله نزل بهم البلاء واشتد بهم الكرب فماذا فعلوا وإلى من لجئوا ؟ أخي الحبيب أختصر لك الإجابة إنه التضرع والدعاء والافتقار لرب الأرض والسماء إنها الشكاية لله وحسن الصلة بالله هذا نوح عليه السلام يشكو أمره إلى الله ويلجأ إلى مولاه قال تعالى (وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ) كانت المناجاة كانت المناجاة فكانت الإجابة من الرحمن الرحيم وقال (وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِن قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ) وقال عز من قائل (فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاء بِمَاء منْهَمِرٍ ) هذا أيوب عليه السلام ابتلاه الله بالمرض ثمانية عشر عاما حتى أن الناس ملوا زيارته لطول المدة فلم يبق معه إلا رجلان من إخوانه يزورانه لكنه لم ييئس عليه السلام بل صبر واحتسب وأثنى الله عليه فقال (إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ) أواب أي رجاع منيب إلى ربه ظل على صلته بربه وثقته به ورضاه بما قسم له توجه إلى ربه بالشكوى ليرفع عنه الضر والبلوى قال تعالى (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) فماذا كانت النتيجة قال الحق عز وجل العليم البصير بعباده الرحمن الرحيم قال (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم معَهُمْ رَحْمَةً منْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ ) هذا يونس عليه السلام رفع الشكاية لله فلم يناج ولم يناد إلا الله قال تعالى (وَذَا النُّونِ إِذ ذهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لن نقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لا إِلَهَ إِلا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ) فماذا كانت النتيجة ( فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ ) وذكريا عليه السلام قال الحق عز وجل عنه (وذكريا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ ) الذين يشكون العقم وقلة الولد (وذكريا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ ) فماذا كانت النتيجة ( فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى َوأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ ) إذن لماذا استجاب الله دعاءه لأنهم كانوا يسارعون في الخيرات كانوا لا يملون الدعاء بل كان القلب متصلا متعلقا بالله لذلك قال الله عنهم وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ ؛ خاشعين متذللين معترفين بالتقصير فالشكاية تخرج من القلب قبل اللسان يعقوب عليه السلام قال (إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ) انظروا إلى اليقين انظروا للمعرفة لرب العالمين (وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ) فاستجاب الله دعاه وشكواه ورد عليه يوسف وأخاه وهذا يوسف عليه السلام ابتلاه الله بكيد النساء فلجأ إلى الله وشكا إليه ودعاه فقال (وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن منَ الْجَاهِلِينَ فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) وأخبر الله عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه فقال تعالى (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ ) استغاثة لجاءة إلى الله شكوى وصلة لله سبحانه وتعالى (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ منَ الملائكة مُرْدِفِينَ ) وهكذا أيها الأحبة إننا حينما نستعرض حياة الرسل جميعا كما قصها علينا القرآن الكريم نرى أن الابتلاء والامتحان كانا مادتها وماؤها وأن الصبر وحسن الصلة بالله ودوام الالتجاء وكثرة الدعاء وحلاوة الشكوى كان قوامها وما أشرنا إليه إنما هي نماذج من الاستجابة للدعاء ومن نظر في كتب السير والتفاسير وقف على شدة البلاء الذي أصاب الأنبياء وعلم أن الاستجابة جاءت بعد إلحاح ودعاء واستغاثة ونداء إنها آيات بينات وبراهين واضحات وتقول بل وتعني أن من توكل واعتمد على الله وأحسن الصلة بمولاه استجاب الله دعاءه وحفظه ورعاه فإن لم يكن ذلك في الدنيا كان في الآخرة وما عند الله خير وأبقى إنها صفحات من الابتلاء والصبر معروضة للبشرية لتسجل أن لا اعتماد إلا على الله وأن لا فارج للهم ولا كاشف للبلوى إلا الله هذا هو طريق الاستعلاء أن ننظر إلى السماء وأن نلح بالدعاء لأن الشكوى إلى الله تشعرك بالقوة والسعادة وأنك تأوي إلى ركن شديد أما الشكوى إلى الناس والنظر لما في أيدي الناس سيشعرك(/3)
بالضعف والذل والإهانة والتبعية يا أخا التوحيد أليس هذا أصل من أصول التوحيد إن من أصول التوحيد أن تتعلق القلوب بخالقها في وقت الشدة والرخاء والخوف والأمن والمرض والصحة بل وفي كل حال وزمان وما نراه اليوم من تعلق القلوب بالمخلوقين وبالأسباب وحدها دون اللجوء إلى الله لهو والله نذير خطر لزعزعة عقيدة التوحيد في النفوس أيها الأحبة إن الشكوى لله والتضرع إلى الله وإظهار الحاجة إليه والاعتراف بالافتقار إليه من أعظم عرى الإيمان وثوابت التوحيد وبرهان ذلك الدعاء والإلحاح في السؤال والثقة واليقين بالله في كل حال ولقد زخرت كتب السنة بأنواع من الدعاء تجعل المسلم على صلة بربه وفي حرز من عدوه يقضي أمره ويقضي همه في كل مناسبة دعاء في اليقظة والمنام والحركة والسكون قياما وقعودا وعلى الجنوب ابتهال وتضرع في كل ما أهم العبد وهل إلى غير الله مفر أم هل إلى غيره ملاذ ففي المرض مثلا الأدعية كثيرة والأحاديث مستفيضة إليك على سبيل المثال ما أخرجه [البخاري] و[مسلم] من حديث [عائشة] رضي الله تعالى عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أو" أن رسول الله كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذات وينفث فلما اشتد وجعه كنت أقرأ عليه وأمسح عليه بيده رجاء بركتها" وأخرج البخاري ومسلم أيضا من حديث عائشة قالت" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اشتكى منا إنسان مسحه بيمينه ثم قال : اذهب الباس رب الناس واشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقما "أي لا يترك سقما وفي صحيح مسلم وسنن أبي داود [والترمذي] عن [عثمان بن أبي العاص] رضي الله تعالى عنه أنه شكي رسول الله أو شكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعا يجده في جسده منذ أسلم فقال له صلى الله عليه وآله وسلم انظروا لرسول الله لقدوتنا وحبيبنا يربي الناس يربي أصحابه على الاعتماد واللجوء إلى الله فقال له صلى الله عليه وسلم ضع يدك على الذي تألم من جسدك ضع يدك الإرشاد أولا لله التعلق أولا بالله لم يرشده أولا لطبيب حاذق ولا بأس بهذا لكن التعلق بالله هو أولا " ضع يدك على الذي تألم من جسدك وقل بسم الله بسم الله بسم الله ثم قل سبعا أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر " وفي رواية امسحه بيمينك سبع مرات وفي رواية قال عثمان فقلت ذلك فأذهب الله ما كان بي فلم أزل آمر بها أهلي وغيرهم .سبحان الله اسمعوا لحسن الصلة بالله والتوكل على الله فلم أزل آمر بها أهلي وغيرهم أيها المريض اعلم أن من أعظم أسباب الشفاء التداوي بالرقى الشرعية من القرآن والأدعية النبوية ولها أثر عجيب في شفاء المريض وزوال علته لكنها تريد قلبا صادقا وذلا وخضوعا لله رددها أنت بلسانك فرقيتك لنفسك أفضل وأنجى فأنت المريض وأنت صاحب الحاجة وأنت المضطر وليست النائحة الثكلى كالنائحة المستأجرة وما حك جلدك مثل ظفرك فتوكل على الله بصدق وألح عليه بدون ملل وأظهر ضعفك وعجزك وحالك وفقرك إليه وستجد النتيجة العجيبة إن شاء الله ثقة بالله فإلى كل مريض مهما كان مرضه أقول أخي الحبيب شفاك الله وعافاك اعلم أن الأمراض من جملة ما يبتلي الله به عباده والله عز وجل لا يقضي شيئا إلا وفيه الخير والرحمة بعباده وربما ربما كان مرضك لحكمة لحكمة خفيت عليك أو خفيت على عقلك البشري الضعيف وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم أيها المحب شفاك الله هل علمت أن للأمراض والأسقام فوائد وحكم أشار [ابن القيم] إلى أنه أحصاها فزادت على مائة فائدة وانظر كتاب شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل صفحة خمسة وعشرين وخمسمائة أيها المسلم أيها المسلم أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك ويعافيك هل سمعت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه إلا حط الله به سيئاته كما تحط الشجرة ورقها" والحديث متفق عليه من حديث [ابن مسعود] وهل سمعت أنه صلى الله عليه وسلم زار أم العلاء وهي مريضة فقال "لها ابشري يا أم العلاء فإن مرض المسلم يذهب الله به خطاياه كما يذهب خبث الذهب والفضة أو كما تذهب النار خبث الذهب والفضة" والحديث أخرجه [أبو داود] وحسنه [المنذري] وقال [الألباني] في صحيحه هذا سند جيد قال[ ابن عبد البر] رحمه الله الذنوب تكفرها المصائب والآلام والأمراض والأسقام وهذا أمر مجتمع عليه .انتهى كلامه رحمه الله والأحاديث والآثار في هذا مأثورة ليس هذا مقام بسطها لكن المراد هنا أننا نرى حال بعض الناس إذا مرض يفعل كل الأسباب المادية من ذهاب للأطباء وأخذ للدواء وبذل للأموال وسفر للقريب والبعيد ولا شك أن هذا مشروع محمود ولكن الأمر الغريب أن يطرق كل الأبواب وينسى باب مسبب الأسباب بل ربما لجأ للسحرة والمشعوذين نعوذ بالله من الشرك والمشركين ألم يقرأ في القرآن ( وإذا مرضت فهو يشفين ) أيها المريض اعلم أن الشافي الله ولا شفاء إلا شفاؤه أيها المريض بل يا كل مصاب أيا كانت مصيبته هل سألت نفسك لماذا(/4)
ابتلاك الله بهذا المرض أو بهذه المصيبة ربما لخير كثير ولحكم لا تعلمها ولكن الله يعلمها ألم يخطر ببالك أنه أصابك بهذا البلاء ليسمع صوتك وأنت تدعوه ويرى فقرك وأنت ترجوه فمن فوائد المصائب استخراج مكنون عبودية الدعاء قال أحدهم سبحان من استخرج الدعاء بالبلاء وفي الأثر "أن الله ابتلى عبدا صالحا من عباده وقال لملائكته لأسمع صوته" يعني بالدعاء والإلحاح أيها المريض المرض يريك فقرك وحاجتك إلى الله وأنه لا غنى لك عنه طرفة عين فيتعلق قلبك بالله وتقبل عليه بعد أن كنت غافلا عنه وصدق من قال فربما صحت الأجسام بالعلل فارفع يديك ارفع يديك وأسل دمع عينيك وأظهر فقرك وعجزك واعترف بذلك وضعفك في رواية عن [سعيد بن عنبسة] قال بينما رجل جالس وهو يعبث بالحصى ويحذف به إذ رجعت حصاة منها عليه فصارت في أذنه فجهدوا بكل حيلة فلم يقدروا على إخراجها فبقيت الحصاة في أذنه مدة وهي تؤلمه فبينما هو ذات يوم جالس إذ سمع قارئا يقرأ ( أم من يجيب المضطر إذا دعاه ) فقال الرجل يا رب يا رب أنت المجيب وأنا المضطر فاكشف عني ضر ما أنا فيه فنزلت الحصاة من أذنه في الحال لا تعجب إن ربي لسميع الدعاء إذا أراد شيئا قال له كن فيكون أيها المريض إياك وسوء الظن بالله إن طال بك المرض فتعتقد أن الله أراد بك سوءا أو أنه لا يريد معافاتك أو أنه ظالم لك فإنك إن ظننت ذلك إنك على خطر عظيم أخرج [الإمام أحمد] بسند صحيح في السنة الصحيحة من حديث [أبي هريرة] أنه صلى الله عليه وسلم قال إن الله تعالى يقول " أنا عند ظن عبدي بي إن ظن خيرا فله وإن ظن شرا فله" يعني ما كان في ظنه فإني فاعله به فأحسن الظن بالله تجد خيرا إن شاء الله لا تجزعن إذا نالتك موجعة
لا تجزعن إذا نالتك موجعة
واضرع إلى الله مسرع نحوك الفرج
ثم استعن بجميل الصبر محتسبا
فصب يسرك بعد العسر ينثلج
فسوف يدرج عنك الهم مرتحلا
وإن أقام قليلا سوف يندلج
هذا في المرض وأطلت فيه لكثرة المرضى وحاجة الناس إلى مثل هذه التوجيهات وهي تحتاج إلى دروس ومحاضرات لكن حسبي ما ذكرته الآن لأن الموضوع عام في المصائب والآلام ومن المصائب والآلام التي يحتاج الناس فيها الشكوى إلى الله تراكم الديون وكثرة المعسرين كم من مدين عجز عن الوفاء وكم من معسر يعيش في شقاء هم في الليل وذل في النهار أحزان وآلام لا يغمض في منام ولا يهنأ في طعام طريد للغرماء أو مع السجناء صبية صغار وبيت للإيجار وزوجة مسكينة لا تدري أتطرق أبواب المحسنين أو تسلك طريق الفاسقين هذه الرسالة رسالة مؤلمة من زوجة إلى زوجها في السجن بسبب الديون جاء فيها تقول الزوجة : لم أتمتع معك في حياتنا الزوجية إلا فترة من الزمن حتى غيبوك في غياهب السجون كم سنة غبت عني لا أدري ماذا فعل الله بك ولا أدري عنك أحي فترجى أم ميت فتنعى ليتك ترى حالي وحال أولادك ليتك ترى حال صغارك لست أدري هل أخون أمانة الله وأمانتك وأطلب الرزق لهؤلاء بطرق محرمة وأنا في ذمتك وعهدك أم أطلب الطلاق ويضيع أولادك إلى آخر الرسالة ذكرها صاحب كتاب نداء إلى الدائنين والمدينين وأقول أيها الأحبة تصوروا حال هذا الزوج كيف يكون وهو يقرأ هذه الكلمات ديون وسجون وهموم وأولاد ذل وخضوع للناس واسمعوا لهذا الرجل وهو يشكو حاله فيقول أنا رجل سجين علي مبلغ من المال وصار لي في السجن أكثر من سنة ونصف ولا يقبل خصمي الكفيل فأنا معسر وصاحب عائلة فهل يجوز سجني إلى هؤلاء وأمثالهم أقول لماذا طرقتم الأبواب كلها ونسيتم باب من" يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفرا خائب اليدين "كما في [أبي داود] و[الترمذي] وقال [ أبن حجر] سنده جيد قال [ السريقسطي ] كن مثل الصبي إذا اشتهى على أبويه شهوة فلم يمكناه قعد يبكي عليهما فكن أنت مثله فإذا سألت ربك ولم يعطك فاقعد فابك عليه فاقعد فابكي عليه كما في شعب الإيمان [ للبيهقي] :
ولرب نازلة يضيق بها الفتى
زرعا وعند الله منها مخرج
كملت فلما استحكمت حلقاتها ...
فرجت وكان يظنها لا تفرج(/5)
ومن الأدعية في قضاء الدين ما أخرجه أبي داود في سننه من حديث [أبي سعيد الخدري] قال دخل النبي صلى الله عليه وسلم المسجد ذات يوم فرأى فيه رجل من الأنصار يقال له أبو أمامة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم إني أراك جالسا في المسجد في غير وقت صلاة قال هموم لزمتني وديون يا رسول الله قال صلى الله عليه وسلم أفلا أعلمك كلاما يعلق القلوب يعلق القلوب بالله صلوات الله وسلامه عليه "أفلا أعلمك كلاما إذا قلته أذهب الله همك وقضى عنك دينك قال قلت بلى يا رسول الله قال قل إذا أصبحت وإذا أمسيت اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن وأعوذ بك من العجز والكسل وأعوذ بك من الجبن والبخل وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال قال ففعلت ذلك فأذهب الله تعالى همي وغمي وقضى عني ديني" وروى [البيهقي] في فضائل الأعمال عن [حماد بن سلمة] عن [ عاصم بن أبي إسحاق ] شيخ القراء في زمانه قال أصابتني خصاصة أي حاجة وفاقة فجئت إلى بعض إخواني فأخبرته بأمري فرأيت في وجهه الكراهة فخرجت من منزله إلى الجبانة أي إلى الصحراء فصليت ما شاء الله تعالى ثم وضعت وجهي على الأرض وقلت يا مسبب الأسباب ويا مفتح الأبواب ويا سامع الأصوات يا مجيب الدعوات يا قاضي الحاجات اكفني بحلالك عن حرامك وأغنني بفضلك عمن سواك يلح على الله بهذا الدعاء قال والله ما رفعت رأسي حتى سمعت وقعة بقربي فرفعت رأسي فإذا بحدأة طرحت كيسا أحمر فأخذت الكيس فإذا فيه ثمانين دينارا وجوهرا ملفوف في قطنه فبعت الجواهر بمبلغ عظيم وأفضلت أي أبقيت الدنانير فاشتريت بها عقارا وحمدت الله تعالى على ذلك لا نعجب أيها الاخوة إن ربي لسميع الدعاء ومن يتوكل على الله فهو حسبه ومن الأدعية عند الهم والقلق ما أخرجه أحمد في المسند من حديث [عبد الله بن مسعود ] رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما أصاب أحدا قط هم ولا حزن فقال اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك ناصيتي بيدك ماض في حكمك عدل في قضاؤك أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب همي إلا أذهب الله همه وحزنه وأبدله مكانه فرجا وفي رواية فرحا قال فقيل يا رسول الله ألا نتعلمها فقال بلى ينبغي لمن سمعها أن يتعلمها" صححه ابن حبان وحسنه ابن حجر كما في الفتوحات الربانية أيها الاخوة إن الإنسان منا ضعيف ضعيف فكيف إذا اجتمعت عليه الهموم والأحزان وشواغل الدنيا ومشاكلها فزادته ضعفا وجعلته فريسة للهم والقلق والتمزق النفسي انظروا للعيادات النفسية وكثرة المراجعين لها شباب وفتيات في أعمار الزهور أين هؤلاء من الاعتصام بالله والاتصال والشكوى للذي يقدر أو للذي قدر الهموم والغموم وقضى بالمصائب والأحزان يتصل به متذللا معترفا بذنبه طارقا بابه مستعينا به مستيقنا بأنه هو القادر على كشفها دون سواه وما سواه ؛الأسباب هو الذي يهيئها ويقدرها للعبد إن الله تعالى يقول (خلق الإنسان ضعيفا) قال [ ابن القيم ] في طريق الهجرتين فإنه أي الإنسان ضعيف البنية ضعيف القوة ضعيف الإرادة ضعيف العلم ضعيف الصبر، والآفات إليه مع هذا أسرع من السيل في طيب الحدوق فالاضطرار لا بد له من حافظ معين يقويه ويعينه وينصره ويساعده فإن تخلى عنه هذا المساعد المعين فالهلاك أقرب إليه من نفسه إلى آخر كلامه إذن فلنتعلم هذا الحديث كما نصحنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن فيه خضوعا لله فيه اعتراف بالذل والعبودية لله فيه توسل واستغاثة بجميع أسماء الله ما يعرف منها وما لا يعرف ما كتب وما أخفى وأبشر أخي الحبيب فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول " ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله له بها من خطاياه" كم في البخاري ومسلم
يا صاحب الهم إن الهم منفرج
أبشر بخير فإن الفارج الله
إذا بليت فثق بالله وارض به
إن الذي يكشف البلوى هو الله
ومن الأدعية عند النوازل والفتن والخوف ما أخرجه [ أبو داود والنسائي ] عن [ أبي موسى ] أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول أو كان إذا خاف قوما قال " اللهم إنا نجعلك في نحورهم ونعوذ بك من شرورهم "وكان يقول صلى الله عليه وسلم عند لقاء العدو" اللهم أنت عضدي وأنت ناصري بك أصول وبك أجول وبك أقاتل" كما عند أبي داود والترمذي وأحمد وفي صحيح البخاري من حديث [ابن عباس] قال حسبنا الله ونعم الوكيل قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قال له الناس إن الناس قد جمعوا لكم فإذا كان المحيي والمميت والرزاق هو الله فلماذا التعلق بغير الله لماذا التعلق بغير الله ولماذا الخوف من الناس وصلى الله عليه وسلم يقول " واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك" أيها المسلم .(/6)
أيها الاخوة والأخوات إن من أعظم البلايا وأشد الرزايا ما يصيب المسلمين كل يوم من غزو واجتياح وتعديات ومظالم وفقر وتجويع حتى أصاب بعض النفوس الضعيفة أصابها اليأس والقنوط والإحباط وفقدان الثقة والأمل لماذا أيها الاخوة أليس الأمر لله من قبل ومن بعد أليس حسبنا الله وكفى بالله حسيبا أليس الله بقادر أليس الله أو أليس هو الناصر وكفى بالله نصيرا ألا يعلم الله مكرهم ألم يقل ( ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين ) (أليس الله بكاف عبده)( أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد) ألم يقل ( إنا كفيناك المستهزئين ) ألم يقل ( فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم ) معاشر الاخوة اسمعوا وعوا وأعلنوا واعلموا إن مصيبتنا ليست في قوة عدونا إنما هي بضعف صلتنا بربنا وضعف ثقتنا وقلة اعتمادنا عليه لنفتش في أنفسنا عند وقوعنا في الشدائد والمحن أين الضراعة والشكوى لله أين اللجاءة والمناجاة لله ليس شيء أفضل عند الله من الدعاء لأن فيه إظهار الفقر والعجز والتذلل والاعتراف بقوة الله وقدرته وغناه أيها المسلمون نريد أن نتعلم فن الدعاء والتذلل والخضوع والبكاء لنعترف بالفقر إليه ولنظهر العجز والضعف بين يديه أليس لنا في رسول الله قدوة أليس لنا أسوة أوذي أشد الأذى وكذب أشد التكذيب اتهم بعرضه وخدشت كرامته وطرد من بلده عاش يتيما وافتقر ومن شدة الجوع ربط على بطنه الحجر قيل عنه كذاب وساحر ومجنون وشاعر توضع العراقيل في طريقه وسلى الجزور على ظهره يشج رأسه وتكسر ثنيته يقتل عمه جمعوا عليه الأحزاب وحاصروه المشركون والمنافقون واليهود يذهب إلى الطائف ليبلغ دعوته فيقابل بالتكذيب والسب والشتم ويطرد ويلاحق ويرمى بالحجارة فماذا فعل بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه أين ذهب من يسأل إلى من يشكو إلى ذي الجبروت والملكوت إلى القوي العزيز فأعلن صلى الله عليه وآله وسلم الشكوى ورفع يديه بالنجوى دعا وألح وبكى وتظلم وتألم وشكا لكن اسمع لفن الشكوى وإظهار الضعف والعجز والافتقار منه صلى الله عليه وسلم قال " اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس يا أرحم الراحمين إلى من تكلني إلى عدو يتجهمني أم إلى قريب ملكته أمري إن لم تكن ساخطا علي فلا أبالي غير أن عافيتك أوسع لي أعوذ بنور وجهك الكريم الذي أضاءت له السماوات وأشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن تحل علي غضبك أو تنزل علي سخطك لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك " هكذا كان صلى الله عليه وآله وسلم ضراعة ونجوى لربه والحديث أخرجه [الطبراني] كما في الكبير وقال [الهيثمي] في المجمع رواه الطبراني وفيه [ابن إسحاق] وهو مدلس ثقة ورجاله ثقات .(/7)
أيها الاخوة لماذا نشكو إلى الناس ونبث الضعف والهوان والهزيمة النفسية في مجالسنا وننسى أو نتكاسل عن الشكوى لمن بيده الأمر من قبل ومن بعد ( قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ) أليس فينا من بينه وبين الله أسرار أليس فينا أيها الأحبة أشعث أغبر ذي طمرين لو أقسم على الله لأبره أليس فينا من يرفع يديه إلى الله في ظلمة الليل يسجد ويركع ينتحب إلى الله يرفع الشكوى إلى الله فلنشكو إلى الله ولنقوي الصلة بالله والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون ومن الأدعية في المصيبة والكرب والشدة والضيق ما أخرجه البخاري ومسلم من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول عند الكرب لا إله إلا الله العظيم الحليم لا إله إلا الله رب العرش العظيم لا إله إلا الله رب السماوات ورب الأرض رب العرش الكريم" وفي رواية كان إذا أحزبه أمر قال ذلك قال[ النووي] في شرح مسلم هو حديث جليل ينبغي الاعتناء به والإكثار منه عند الكرب والأمور العظيمة قال الطبري كان السلف يدعون به ويسمونه دعاء الكرب وأخرج[ أبو داود] و[أحمد ]عن [أبي بكرة ] رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " دعوات المكروب اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين وأصلح لي شأني كله لا إله إلا أنت " حسنه [ ابن حجر] كما في الفتوحات الربانية و[ الألباني ] كما في صحيح الجامع وأخرج [ الترمذي [ و[ أحمد ] عن [ سعد بن أبي وقاص] رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم دعوة [ذي النون ]إذ دعا وهو في بطن الحوت ( لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ) فإنه لم يدع بها رجل مسلم في شيء قط إلا استجاب الله له حسنه [ابن حجر] كما في الفتوحات وصححه الألباني كما في صحيح الجامع لما قالها [يونس ]عليه السلام وهو في بطن الحوت قال الله عز وجل ( فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين) قال [ابن كثير] في تفسيره ( وكذلك ننجي المؤمنين )أي إذا كانوا في الشدائد ودعونا منيبين إلينا ولا سيما إذا دعوا بهذا الدعاء في حال البلاء فقد جاء الترغيب في الدعاء فيها عن سيد الأنبياء انتهى كلامه .
وأخرج مسلم في صحيحه من حديث [ أم سلمة ] رضي الله تعالى عنها أنها قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم آجرني في مصيبتي واخلف لي خيرا منها إلا أخلف الله له خيرا منها قالت فلما مات أبو سلمة قلت أي قالت في نفسها أي المسلمين خير من أبي سلمة أول بيت هاجر إلى رسول الله ثم إني قلتها فأخلف الله لي رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذن فالاسترجاع ملجأ وملاذ لذوي المصائب ومعناه باختصار إن لله توحيد وإقرار بالعبودية والملك وإنا لله وإنا إليه راجعون إقرار بأن الله يمسكنا ثم يبعثنا إذاً فالأمر كله لله فلا ملجأ منه إلا إليه والله عز وجل يقول ( وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون ) .
وإليكم أيها الأحبة إليكم أمثلة ومواقف للذين لجئوا إلى حصن الإيمان وسلاح الدعاء وأدركوا أن المفزع بعد الإيمان هو الدعاء؛ السلاح الذي يستدفع به البلاء ويرد به شر القضاء عن [ أصبغ بن زيد ] قال مكثت أنا ومن عندي ثلاثا لم نطعم شيئا أي من الجوع فخرجت إلى ابنتي الصغيرة وقالت يا أبت الجوع؛ تشكو الجوع قال فأتيت الميضأة انظروا إلى من اللجاءة انظروا إلى من يلجئون فأتيت الميضأة وتوضأت وصليت ركعتين وألهمت دعاء دعوت به في آخره اللهم افتح على منك رزقا لا تجعل علي لأحد منة ولا لك علي في الآخرة فيه تبعة برحمتك يا أرحم الراحمين ثم انصرفت إلى البيت فإذا بابنتي الكبيرة قد قامت إلي وقالت يا أبه جاء رجل يقول إنه عمي بهذه الصرة من الدراهم وبحمال عليه دقيق وحمال عليه من كل شيء في السوق وقال أقرئوا أخي السلام وقولوا له إذا احتجت إلى شيء فادع بهذا الدعاء تأتك حاجتك قال أصبغ بن زيد والله ما كان لي أخ قط ولا أعرف من كان هذا القائل ولكن الله على كل شيء قدير
فقلت للفكر لما صار مضطربا
وحارني الصبر والتفريط والجلد
دعها سماوية تجري على قدر
لا تعترضها بأمر منك تنفسد
تحفني بخفي اللطف خالقنا
نعم الوكيل ونعم العون والمدد(/8)
وعن [شقيق] ....قال كنت في بيتي قاعدا فقال لي أهلي قد ترى ما بهؤلاء الأطفال من الجوع ولا يحل لك أن تحمل عليهم ما لا طاقة لهم به قال فتوضأت نرجع إلى السبب الذي كانوا يدورون حوله رضي الله تعالى عنهم وتوضأت وكان لي صديق لا يزال يقسم علي بالله إن يكن لي حاجة أعلمه بها ولا أكتمها عنه فخطر ذكره ببالي فلما خرجت من المنزل مررت بالمسجد فذكرت ما روي عن [أبي جعفر] قال من عرضت له حاجة إلى مخلوق فليبدأ فيها بالله فليبدأ فيها بالله بالله عز وجل قال فدخلت المسجد فصليت ركعتين فلما كنت في التشهد أفرغ علي النوم فرأيت في منامي أنه قيل يا شقيق أتدل العباد على الله ثم تنساه يا شقيق أتدل العباد على الله ثم تنساه قال فاستيقظت وعلمت أن ذلك تنبيه نبهني به ربي فلم أخرج من المسجد حتى صليت العشاء الآخرة ثم تركت الذهاب لصاحبي وتوكلت على الله وانصرفت إلى المنزل فوجدت الذي أردت أن أقصد قد حركه الله وأجرى لأهلي على يديه ما أغناهم إن ربي لسميع الدعاء فلا نعجب أيها الأحبة ( ومن يتوكل على الله فهو حسبه ) واسمع لدعاء[ ابن القيم ] بالفاتحة يقول ومكثت بمكة مدة يعتريني أدواء لا أجد لها طبيبا ولا دواء فكنت أعالج نفسي بالفاتحة فأرى لها تأثيرا عجيبا فكنت أصف ذلك لمن يشتكي ألما فكان كثير منهم يبرأ سريعا ذكر ذلك في الجواب الكافي وذكره أيضا في زاد المعاد وفي حديث [أبي سعيد الخدري] المتفق عليه لما قرأ على سيد الحي الفاتحة قال فكأنما نشط من عقال فهذا يشهد أيضا بفضل الفاتحة .
ومن المواقف الجميلة في الدعاء المواقف الطريفة أنه كان [لسعيد بن جبير] ديك كان يقوم من الليل لصياحه فلم يصح ليلة من الليالي حتى أصبح فلم يصلِّ سعيد تلك الليلة أي لم يصلِّ قيام الليل فشق عليه ذلك فقال ما له قطع الله صوته يعني الديك وكان سعيد مجاب الدعوة فما سمع للديك صوت بعد ذلك الدعاء فقالت أم سعيد يا بني لا تدع على شيء بعدها ذكر ذلك [الذهبي] في السير وذكر أحد الدعاة في بعض رسائله أن رجلا من العباد كان مع أهله في الصحراء في جهة البادية وكان عابدا قانتا ذاكرا منيبا لله قال فانقطعت المياه المجاورة لنا وذهبت ألتمس ماء لأهلي فوجدت أن الغدير قد جف فعدت إليهم ثم التمسنا الماء يمنة ويسرة فلم نجد ولو قطرة وأدركنا الظمأ واحتاج أطفالي إلى الماء فتذكرت رب العزة سبحانه القريب المجيب فقمت فتيممت واستقبلت القبلة وصليت ركعتين ثم رفعت يدي وبكيت وسالت دموعي وسألت الله بإلحاح وتذكرت قوله ( أم من يجيب المضطر إذا دعاه ) قال والله وما هو ألا أن قمت من مقامي وليس بالسماء من سحاب ولا غيم وإذا بسحابة قد توسطت مكاني ومنزلي في الصحراء واحتكمت على المكان ثم أنزلت ماءها فامتلأت الغدران من حولنا وعن يميننا وعن يسارنا فشربنا واغتسلنا وتوضأنا وحمدنا الله سبحانه وتعالى ثم ارتحلت قليلا خلف هذا المكان وإذا الجدب والقحط فعلمت أن الله ساقها لي بدعائي فحمدت الله عز وجل (وَهُوَ الذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ ) وذكر أيضا أن رجلا مسلما ذهب إلى إحدى الدول والتجأ بأهله إليها وطلب بأن تمنحه الجنسية قال فأغلقت في وجهه الأبواب وحاول هذا الرجل كل المحاولة قال واستفرغ جهده وعرض الأمر على كل معارفه فبارت الحيل وسدت السبل ثم لقي عالما ورعا فشكا إليه الحال قال له عليك بالثلث الأخير من الليل ادع مولاك فإنه الميسر سبحانه وتعالى قال هذا الرجل فوالله لقد تركت الذهاب إلى الناس وطلب الشفاعات وأخذت أداوم على الثلث الأخير كما أخبرني ذلك العالم وكنت أهتف لله في السحر وأدعوه فما هو إلا بعد أيام وتقدمت بمعروض عادي ولم أجعل بيني وبينهم واسطة فذهب هذا الخطاب وما هي إلا أيام وفوجئت بالبيت أني أدعى وأسلم الجنسية وكانت لي ظروف صعبة إن الله سميع مجيب ولطيف قريب لكن التقصير منا لا بد أن نلح على الله وندعوه وأبشروا إن ربي لسميع الدعاء .(/9)
وأذكر أيها الاخوة أذكر أن طالبا متميزا في دراسته حصل له ظرف في ليلة امتحان إحدى المواد ولم يستطع أن يذاكر جميع المنهج المقرر للمادة إلا بقدر الثلث فاهتم واغتم وضاقت عليه نفسه ولم يستطع الإفادة من باقي الوقت لاقتراب النفس وطول المنهج فما كان منه إلا أن توضأ وصلى ركعتين وألح على الله بأسمائه وصفاته وباسمه الأعظم يقول الطالب فدخلت قاعة الامتحان ووزعت أوراق الأسئلة وقبل أن أنظر فيها دعوت الله عز وجل ورددت بعض الأذكار ثم قلبت الورقة فإذا الأسئلة أكثرها من ذلك الثلث الذي درسته فبدأت بالإجابة ففتح الله علي فتحا عجيبا لم أكن أتصوره ولكن ربي سميع مجيب فإلى كل الطلاب والطالبات أقول لماذا غفلتم عن الدعاء والشكوى لله وأنتم تشكون لبعضكم وتذكرون وتتوجعون لماذا يعتمد الكثير منكم على نفسه وذكائه بل ربما اعتمد البعض على الغش والاحتيال إن النفس مهما بلغت من الكمال والذكاء فإنها ضعيفة وهي عرضة للغفلة والنسيان نعم لنفعل الأسباب ولنحفظ ولنذاكر ونجتهد ولكنها كلها لا شيء إن لم يعنك الله ويفتح عليك ولا حول ولا قوة إلا بالله في كل شيء فهل طلبت العون من الله توكل على الله وافعل الأسباب وارفع يديك إلى السماء وقل يا سامعا لكل شكوى وأظهر ضعفك وفقرك لله وسترى النتائج بإذن الله وأنت أيها المدرس والمدرسة بل يا كل داعية لماذا نعتمد على أنفسنا الضعيفة في التوجيه والتعليم هب أننا أعددنا الدرس جيدا وفعلنا كل الأسباب هل يكفي هذا لعلك تسأل ما بقي أقول هل سألت الله العون والتوفيق عند تحضير الدرس هل سألت الله أن يفتح لك القلوب وأن يبارك في كلماتك وأن ينفع بها هل سألت الله العون والتوفيق وأنت تلقي الدرس هل دعوت لطلابك أن يبارك الله لهم وأن ينفع بهم وأن يصلحهم وأن ييسر عليهم هذه بعض الأمثلة والمواقف وما يعرف ويحكى أكثر وأكثر ولكننا نريد العمل والتطبيق ، تنبيه مهم فكثير من الناس إذا وقع في شدة عمد إلى الحرام كمن يذهب للسحرة والكهان أو يتعامل بالربا والحرام فإذا نصح أو ذكر قال إنه مضطر أو كما يقول البعض ليس من رجله في النار كمن رجله في الماء ولعلي أيها الحبيب أذكرك بآية ربما أنك نسيتها في خضم المصيبة والشدة التي وقعت فيها إن الله عز وجل يقول ( أم من يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ) والمضطر الذي أحوجه مرض أو فقر أو نازلة من نوازل الدهر ؛إلى اللجوء والتضرع إلى الله كما يقول [الزمخشري] وأنت أيها الأخ أو أيتها الأخت تذكر أنك مضطر والمضطر وعده الله بالإجابة حتى وإن كان فاسقا فإذا كان الله أجاب دعوة المشركين عند الاضطرار فإن إجابته للمسلمين مع تقصيرهم من باب أولى .
جاء رجل إلى [مالك بن دينار] فقال أنا أسألك بالله أن تدعو لي فأنا مضطر فقال له فاسأله فإنه يجيب المضطر إذا دعاه فاسأله فإنه يجيب المضطر إذا دعاه إن الله عز وجل قد ذم من لا يستكين له ولا يتضرع إليه عند الشدائد وانتبهوا أيها الأحبة لا بد من الضراعة والاستكانة لله عند الشدة كما أخبر الله فقال عز من قائل ( ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون ) أي لو استكانوا لربهم وتضرعوا لكان أمرا آخر فكيف بحال من يقع في الشرك والحرام عند البلاء والشدة فيزيد الطين بلة كيف يريد الشفاء أو انكشاح البلاء وهو يطلبه من مخلوقين مثله ضعفاء .
قال بعض السلف قرأت في بعض الكتب المنزلة يقول الله عز وجل "يؤمل غيري للشدائد والشدائد بيدي وأنا الحي القيوم ويرجى غيري ويطرق بابه بالبكورات
وبيدي مفاتيح الخزائن وبابي مفتوح لمن دعاني من ذا الذي أملني لنائبة فقطعت به أو من الذي رجاني لعظيم فقطعت رجاءه ومن ذا الذي طرق بابي فلم أفتحه له أنا غاية الآمال فكيف تنقطع الآمال دوني أبخيل أنا فيبخلني عبدي أليست الدنيا والآخرة والكرم والفضل كله لي فما يمنع المؤملون أن يؤملوني ولو جمعت أهل السماوات وأهل الأرض ثم أعطيت كل واحد منهم ما أعطيت الجميع وبلغت كل واحد منهم أمله لم ينقص ذلك من ملكي عضو ذرة وكيف ينقص ملك أنا قيومه فيا بؤسا للقانطين من رحمتي ويا بؤسا لمن عصاني ووثب على محارمي "ذكر ذلك [ابن رجب] في نور الاقتباس والإسرائيليات يعتبر بها ولا يعتمد عليها كما يقول شيخ الإسلام[ ابن تيميه] رحمه الله .
أيها الاخوة إن الله يحب أن يسأل ويغضب على من لا يسأله فإنه يريد من عباده أن يرغبوا إليه ويسألوه ويدعوه ويفتقروا إليه ويحب الملحين في الدعاء بل وينادي في كل ليلة هل من سائل فأعطيه وهل من داع فأستجيب له فأين المضطرون أين أصحاب الحاجات أين من وقع في الشدائد والكربات .(/10)
معاشر الاخوة والأخوات اقرءوا وانظروا في حادث الإفك وفي حديث الثلاثة أصحاب الغار وحديث المقترض الذي وضع المال في الخشبة وألقاها في البحر وحديث الثلاثة الذين خلفوا وغيرها من القصص النبوي في الصحاح والسنن فرج عنهم لسؤالهم لله وإلحاحهم بالدعاء رفعوا أيديهم إلى الله وأعلنوا الذل والخضوع لله وهذا الذل لا يصلح إلا لله لحبيبه ومولاه
ذل الفتى في الحب مكرمة وخضوعه لحبيبه شرف
فالعبودية لله عز ورفعة ولغيره ذل ومهانة وفي سؤال الله عبودية عظيمة لأنها إظهار للافتقار إليه واعتراف بقدرته على قضاء الحوائج
فإذا ابتليت ببذل وجهك سائلا
فابذله للمتكرم المفضال
كان [يحيى بن معاذ] يقول يا من يغضب على من لا يسأله لا تمنع من قد سألك وكان [بكر المزني ]يقول من مثلك يا ابن آدم متى شئت تطهرت ثم ناجيت ربك ليس بينك وبينه حجاب ولا ترجمان وسأل رجل بعض الصالحين أن يشفع له في حاجة إلى بعض المخلوقين فقال له أنا لا أطرق بابا مفتوحا وأذهب إلى باب مغلق هكذا فلتكن الثقة بالله والتوكل على الله وقبل الختام وحتى نصل إلى ما نريد من فن الشكوى وحسن النجوى تنبه لهذه التوجيهات :
أولا : الدعاء له آداب وشروط لا بد من تعلمها والحرص عليها واسمع لهذا الكلام الجميل النفيس [لابن القيم] رحمه الله قال وإذا جمع العبد مع الدعاء حضور القلب وصادف وقتا من أوقات الإجابة وخشوعا في القلب وانكسارا بين يدي الرب وذلا له وتضرعا ورقة واستقبل الداعي القبلة وكان على طهارة ورفع يديه إلى الله وبدأ بحمد الله والثناء عليه ثم ثنى بالصلاة على رسول الله ثم قدم بين يدي حاجته التوبة والاستغفار ثم دخل على الله وألح عليه في المسألة وتملقه ودعاه رغبة ورهبة وتوسل إليه بأسمائه وصفاته وتوحيده وقدم بين يدي دعاءه صدقة فإن هذا الدعاء لا يكاد يرد أبدا ولا سيما إذا صادف الأدعية التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها مظنة الإجابة وأنها متضمنة الاسم الأعظم انتهى بتصرف من الجواب الكافي لابن القيم صفحة تسعة عشر .
ثانيا :الصدقة وقد أكد عليها ابن القيم في كلامه السابق ولها أثر عجيب في قبول الدعاء بل وفعل المعروف أيا كان فصنائع المعروف تقي مصارع السوء كما قال أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه وبعضهم يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم والله عز وجل يقول عن يونس عليه السلام ( فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون ) .
ثالثا : عليك بالصبر وإياك واليأس والقنوط وفي هذا توجيهات :
أولا : أعلم أن الدعاء عبادة ولو لم يتوفر لك من دعاءك إلا الأجر على هذا الدعاء بعد إخلاصك لله عز وجل فيه لكفى .
ثانيا: أن تعلم أن الله أعلم بمصلحتك منك فيعلم سبحانه أن مصلحتك بتأجيل الإجابة أو عدمها .
ثالثا : لا تجزع من عدم الإجابة فربما دفع عنك بهذا الدعاء شرا كان سينزل بك فعن [عبادة بن الصامت] رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "ما على الأرض مسلم يدعو الله تعالى بدعوة إلا أتاه الله إياها أو صرف عنه من السوء مثلها ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم فقال رجل من القوم إذن نكثر قال الله أكثر" رواه [الترمذي] وقال حديث حسن صحيح ورواه [الحاكم] من رواية [أبي سعيد] وزاد فيه أو يدخر له من الأجر مثلها .
رابعا : ربما كان عدم الإجابة أو تأخيرها امتحان لصبرك وتحملك وجلدك هل تستمر في الدعاء وفي هذه العبادة أم تستحسر وتمل وتترك الدعاء ففي الحديث عن ]أبي هريرة ] رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "يستجاب لأحدكم ما لم يعجل أو ما لم يعجل يقول قد دعوت ربي ولم يستجب لي "متفق عليه وفي جزء من رواية ابن مسلم قيل يا رسول الله ما الاستعجال قال يقول قد دعوت وقد دعوت فلم أر يستجيب لي فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء .
خامسا : أن تلقي باللوم على نفسك وهي من أهمها أن تلقي باللوم على نفسك فقد يكون سبب عدم الإجابة وقوعك أنت في بعض المعاصي أو التقصير أو إخلالك في الدعاء أو تعديك فيه فمن أعظم الأمور أن تتهم نفسك بالتقصير وتنسب عدم الإجابة لنفسك فهذا من أعظم الذل والافتقار لله، واسمع أيضا لهذا الكلام الجميل النفيس [لابن رجب] رحمه الله في نور الاقتباس يقول إن المؤمن إذا استبطأ الفرج ويئس منه ولا سيما بعد كثرة الدعاء وتضرعه ولم يظهر له أثر الإجابة رجع إلى نفسه باللائمة يقول لها إنما أوتيت من قبلك ولو كان فيك خير لأجبت وهذا اللوم أحب إلى الله من كثير من الطاعات فإنه يوجب انكسار العبد لمولاه واعترافه له بأنه ليس بأهل لإجابة دعائه فلذلك يسرع إليه حينئذ بإجابة الدعاء وتفريج الكرب فإنه تعالى عند المنكسرة قلوبهم من أجله وعلى قدر الكسر يكون الجبر انتهى كلامه رحمه الله .(/11)
رابعا : من التوجيهات الأساسية تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة قال [سلمان الفارسي] : إذا كان للرجل دعاء في السراء فنزلت به ضراء فدعا الله عز وجل قالت الملائكة صوت معروف فشفعوا له وإذا كان ليس له دعاء في السراء فنزلت به ضراء فدعا الله عز وجل قالت الملائكة صوت ليس بمعروف فلا يشفعون له ذكر ذلك ابن رجب .
أيها الاخوة وأنا أتأمل في حديث الثلاثة؛ أصحاب الغار وهم يدعون ويتوسلون إلي الله بصالح أعمالهم وأخلصها لله أقول في نفسي وأفتش فيها أين ذلك العمل الصالح الخالص لله الخالي من حظوظ النفس الذي سألجأ إلى الله فيه عند الشدة فلنرجع إلى أنفسنا ولنسألها مثل هذا السؤال لنبحث في أعمالنا وعن الإخلاص لله فيها ولنكن على صلة بالله في الرخاء وصدق من قال
إذا افتقرت إلى الذخائر لم تجد ذخرا يكون كصالح الأعمال .
خامسا : إن الإيمان بالقضاء والقدر ركن من أركان الإيمان بالله تعالى وفيه اطمئنان للنفس وراحة للقلب فاعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك وتذكر دائما أن كل شيء بقضاء وقدر وأنه من عند الله .
سادسا : احرص على أكل الحلال احرص على أكل الحلال فهو شرط من شروط إجابة الدعاء وفي الحديث "ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يده إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب له "أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة فالله الله بالحلال فإن له أثرا عجيبا في إجابة الدعاء ربما قصرنا في وظائفنا أي نوع من التقصير وكان ذلك التقصير سببا في رد الدعاء وإجابته فلنتنبه إلى هذا أيها الأحبة .
سابعا : وأخيرا في التوجيهات حتى تكون مجاب الدعوة إن شاء الله أكثر من الاستغفار في الليل والنهار فلو لم يكن فيه إلا قول الحق عز وجل ( فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا ) فأين من يشكو الفقر والعقم والقحط عن هذه الآية هذه توجيهات سبع انتبه لها قبل أن ترفع يديك إلى السماء لتكن إن شاء الله مجابا للدعاء.
إلى كل مصاب ومنكوب وإلى كل من وقع بشدة وضيق أقول اطمئنوا فقد سبقكم أناس في هذا الطريق وما هي إلا أيام سرعان ما تنقضي. في الكتب المصنفة في الفرج بعد الشدة [للتنوخي] و[ابن أبي الدنيا] و[السيوطي] وغيرهم مئات القصص لمن مرضوا أو افتقروا أو عذبوا أو شردوا أو حبسوا أو عذبوا فجاءهم الفرج ساقه لهم السميع المجيب فلك في المصابين أسوة قال ابن القيم في زاد المعاد كلاما جميلا أيضاً فاسمع قال ومن علاج المصيبة أن يطفئ نار مصيبته ببرد التأسي بأصحاب المصائب وليعلم أنه في كل واد بنو سعد ولينظر يمنة فهل يرى إلا محنة ثم ليعطف يسرة فهل يرى إلا حسرة وأنه لو فتش العالم لن يرى فيهم إلا مبتلى إما بفوت محبوب أو حصول مكروه وأن سرور الدنيا أحلام نوم أو كظل زائل إن أضحكت قليلا أبكت كثيرا وإن سرت يوما ساءت دهرا وإن متعت قليلا منعت طويلا وما ملئت دارا حبرة أي سعادة إلا ملأتها عبرة ولا سرته في يوم بسرور إلا خبأت له يوم شرور انتهى كلامه رحمه الله.
فيا أيها الاخوة والأخوات أحصوا القرآن والأحاديث في كتب السنة والقصص والمواقف في كتب الفرج بعد الشدة والأحداث والعبر في واقعنا المعاصر جميعها تخبرنا أن الشدائد مهما طالت لا تدوم على أصحابها .
إذا اشتملت على اليأس القلوب
وضاقت بها الصدر الرحيب
وأوطنت المكاره واطمئنت ...
وأرست في أماكنها الخطوب
ولن ترى لانكشاف الضر وجها
ولا أغني بحيلته الأريب
أتاك على قنوط منك غوث
... يجيئ به القريب المستجيب
وكل الحادثات إذا تناهت
فموصول بها الفرج القريب
ولو لم يكن في المصائب والبلايا إلا أنها سبب لتكفير الذنوب وكسر لجماح النفس وغرورها ونيل للثواب بالصبر عليها وتذكير بالنعمة التي غفل عن شكرها وهي تذكر العبد بذنوبه فربما تاب وأقلع عنها وهي تجلب عطف الناس ووقوفهم مع المصاب بل من أعظم ثمار المصيبة أن يتوجه العبد بقلبه إلى الله ويقف ببابه ويتضرع إليه فسبحان مستخلف الدعاء بالبلاء فالبلاء يقطع قلب المؤمن عن الالتفات إلى المخلوقين ويوجب له الإقبال على الخالق وحده وهذا هو الإخلاص والتوحيد فإذا علم العبد أن هذه من ثمار المصيبة أنس بها وارتاح ولم ينزعج ولم يقنط فإلى ذوي المصائب والحاجات والشدائد والكربات إن منهج القرآن يقول وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم بل اسمعوا لهذه الآية العجيبة ففيها عزاء وتطمين لكل المسلمين قال تعالى : ( فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا ) فلماذا التسخط والجزع والشكوى والأنين فلعل فيما حصل خير لك فتفاءل وأبشر واعتمد على الله وارفع يديك إلى السماء وقل يا سامعا لكل شكوى وأحسن الظن بالله وقل :
صبرا جميلا ما أسرع الفرج
من صدق الله في الأمور نجا
من خشي الله لم ينله أذى
ومن رجا الله كان حيث رجا(/12)
هذه الكلمات كلمات لتسلية المحزونين وتفريج كرب الملذوعين وهي عزاء للمصابين وتطييب للمنكسرين أسأل الله أن ينفع بها المسلمين وأن يغفر لي ولكم أجمعين .
فيا سامعا لكل شكوى ويا عالما بكل نجوى يا سابغ النعم ويا دافع النقم ويا فارج الغمم ويا كاشف الظلم ويا أعدل من حكم ويا حسيب من ظلم ويا ولي من ظلم يا من لا تراه العيون ولا تخالطه الظنون ولا يصفه الواصفون ولا تغيره الحوادث ولا الدهور يعلم مثاقيل الجبال ومكاييل البحار وعدد قطر الأمطار وعدد ورق الأشجار وعدد ما يظلم عليه الليل ويشرق عليه النهار كم من نعمة أنعمت بها علينا قل لك عندها شكرنا وكم من بلية ابتليتنا بها قل عندها صبرنا فيا من قل عند نعمته شكرنا فلم يحرمنا ويا من قل عند بلائه صبرنا فلم يخذلنا اقذف في قلوبنا رجاءك اللهم اقذف في قلوبنا رجاءك واقطع رجاءنا عمن سواك حتى لا نرجو أحدا غيرك
اللهم إنا نسألك إيمانا ثابتا ويقينا صادقا حتى نعلم أنه لن يصيبنا إلا ما كتبت لنا اللهم لا نهلك وأنت رجاؤنا احرسنا بعينك التي لا تنام وبركنك الذي لا يرام يا سامعا لكل شكوى ويا عالما بكل نجوى يا كاشف كربتنا ويا مستمع دعوتنا ويا راحم عبرتنا ويا مقيل عثرتنا يا رب البيت العتيق اكشف عنا وعن المسلمين كل شدة وضيق واكفنا والمسلمين ما نطيق وما لا نطيق اللهم فرج عنا وعن المسلمين كل هم وغم وأخرجنا والمسلمين من كل حزن وكرب يا فارج الهم يا كاشف الغم يا منزل القطر يا مجيب دعوة المضطر يا سامعا لكل شكوى احفظ إيماننا وأمن هذه البلاد ووفق ولاة الأمر لما فيه صلاح الإسلام والعباد يا كاشف كل ضر وبلية ويا عالم كل سر وخفية نسألك فرجا قريبا للمسلمين وصبرا جميلا للمستضعفين يا ذا المعروف الذي لا ينقضي أبدا ويا ذا النعم التي لا تحصى عددا أسألك أن تصلي على محمد وعلى آل محمد أبدا اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين سبحانك اللهم وبحمدك نشهد أن لا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك .
****************************
الأتقياء(/13)
من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادى له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا أما بعد السلام عليكم ورحمة الله وبركاته هذه ليلة الأحد الموافق الرابع من شهر ذي الحجة لعام ألف وأربعمائة وأربعة عشر للهجرة وفى هذا المسجد المبارك في مدينة < الرس> وقبل أن أبدأ في موضوعي الذي بين يدي أوجه الشكر الجزيل لجماعة هذا المسجد والحقيقة أننا نعترف لهم بالعرفان الجميل ولا يعرف الفضل لأهل الفضل إلا ذوي الفضل فإننا نسمع عن نشاطاتهم وأعمالهم الخيرة ومنتدياتهم وملتقياتهم فنسأل الله جل وعلا أن يبارك فيها وأن يجمع قلوبهم وأن يوفقهم ويسدد خطاهم ونتمنى من مساجد أحياء هذه المدينة وغيرها من المساجد أن تحتذي بحذوهم شكر الله لهم سعيهم أيها الأحبة عنوان هذا اللقاء وهذا الموضوع هو الأنقياء أو إن شئت قل سلامة الصدر مثلاً وهذا الموضوع هو ثالث ثلاثة فقد سبقه درس بعنوان الأخفياء وسبقهما درس آخر بعنوان الأتقياء وإن كان درسا الأتقياء والأنقياء منبعهما هو حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي أخرجه [مسلم] من حديث [سعد بن أبي وقاص] رضي الله تعالى عنه أن النبي قال " إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي" كما تقدم بيانه في الموضوعين السابقين فإن منبع هذا الموضوع أيضًا هو حديث أخرجه الإمام [ابن ماجة] في سننه في كتاب الزهد باب الورع والتقى من حديث [عبد الله بن عمرو] رضي الله عنهما قال "قيل يا رسول الله أي الناس أفضل قال صلى الله عليه وآله وسلم كل مخموم القلب صدوق اللسان قالوا صدوق اللسان نعرفه فما مخموم القلب؟ قال صلى الله عليه وسلم هو التقي النقي لا إثم فيه ولا بغي ولا غل ولا حسد" وقال [البصري] في الزوائد بإسناد صحيح ورجاله ثقات والحديث الذي أخرجه [الطبراني] في معجمه [وأبو نعيم ] في الحلية و[البيهقي] في اللعب وفيه زيادة وذكره [الألباني] في الصحيح الجامع ومعنى موم أممت البيت أي كنسته ولذلك بين النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في هذا الحديث أن النقي هو الذي لا إثم فيه ولا بغي ولا غل ولا حسد فقلت في نفسي وأنا أتدبر هذا البيت ما أحوجنا لمثل هذا النقي في مثل هذا الزمن في مثل هذا الزمن الذي اتصف بكثرة النزاع والخلاف والفرقة فامتلأت النفوس وأوغرت الصدور فلا تسمع إلا لكلمات التنقص والأجراء وسؤ كم والدخول في النيات والمقاصد فما هي النتيجة إن خوطبوا كذبوا أو طبوا غضبوا أو ضربوا هربوا أو أهبوا غدروا على أرائكهم سبحان خالقهم عاشوا وشعروا ماتوا وما غروا إذا فالنتيجة أصبح المسلمون أحزاب وكل حزب بما لديهم فرحون لا بل كل حزب من الآخر ينتقصون فلا تسمع سوى تقسيم الناس وتصنيفهم ففرح الماكرون وهم لها ناذرون وساقون وراعون وصدق عز وجل عندما قال ( أطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتهذب ريحكم) (واصبروا إن الله مع الصابرين) وأستغفر الله أن أعم ولكنها إثمة وبلاء طمت وعمت أقول ما أحوجنا لمثل هذا البيت فأخذت أطوي صفحات السير والتراجم للوقوف على حياة أولئك الأنقياء وتتبع أحوالهم وصفاتهم فوجدت العجب ومن العجب الذي وقفت فيه أن من صفاتهم أنهم حرصوا رضا الله عليهم على تصفيه قلوبهم من الحقد والحسد فالأنقياء لا يعرفون الانتقام ولا التشفي يتجاوزون عن الهفوات والأخطاء الأنقياء يتثبتون لا يتسرعون أنقياء سليمة قلوبهم نقية صدورهم الأنقياء يحبون العفو والصفح وإن كان الحق معهم الأنقياء ألسنتهم نظيفة فلبون ولا يشتمون والأنقياء بسطاء في السريرة ولهم في السيرة دعاهم اللهم قنا شح أنفسنا (ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون) وسنرى كثيرا من المواقف التي تبرهن لك على ما أقول ولكن خاطب النفس وقل لها(/14)
ويحك يا نفس احرصي على زياد واخلصي طاوعي وأخلصي واسمعي النصح واعي واعتبري بمن مضى من القرون وانقضى واخشي مفاجأة القضا وحذاري أن تفزعي ويحك يا نفس احرصي على استماع القصص وطاوعي واخلصي للواحد الصمد لماذا الحديث عن الأنقياء ولماذا الحديث عن سلامة الصدر أخي الحبيب أيها الأخ المسلم يا من نلتقي وإياك على لا إله إلا الله أدعوك وأنت تسمع هذه الكلمات أدعوك إلى التجرد من الهوى وترك حظوظ النفس تجرد من حب التصدر والزعامة تجرد من التعالي وتجرد من الكبرياء والغرور ومن الحقد والحسد تجرد من كل الأمراض القلبية فإنني أريدك أن تسمع كلامي هذا بقلب سليم بقلب ذلك المسلم الطيب التقي النقي أنسيت أنك خلقت لعبادة الله ومرضاته وطلبا لجنات الفردوس أيجوز يا أخي الحبيب لمن كان هذا هو هدفه ومقصده من هذه الدنيا أن يغفل عن قلبه فيطلق لهذه المضغة العنان في البغضاء والشحناء والحمل على الآخرين والانتقام والتشفي أخي الحبيب أيها المسلم لماذا أصبحنا نسمع كلمات الذم أكثر من سماعنا كلمات الثناء أخي الحبيب لماذا أصبحنا نسمع كلمات التنقص أكثر من سماعنا لكلمات التثبت إلا ما شاء الله منا كيف غفلت عن هذه المضغة التي إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله سلامة الصدر طهارة القلب صفاء النفس كلمات نادرة الاستعمال وعزيزة الذكر لا نكاد نسمعها في مجالسنا ومنتدياتنا موضوعات كثيرة تلك التي نتحدث عنها لكنها لا تخلوا من غيبة ملبسة بلباس النصيحة أو من حديث يشفي الغليل و يرضى الخليل أو من هم فيه همز ولمز وانتصار للنفس في من في قلبك خوف من الله جل وعلا أننا نريد أن نسمع كلمات الحب والإخاء والصدق والوفاء والنصح والصفاء نريد أن نسمع كلمات الشكر والعرفان وذكر الفضل والإحسان نريد أن نسمع عن جمع القلوب وعن توحيد الكلمة وعن الإصلاح بين الناس وكل ذلك وللأسف في مجالسنا عزيز إنني أصغي سمعي لعلي أسمع إلى التماس الأعذار وذكر محاسن الأبرار فيرتد سمعي خاسئا وهو حسير إلا ما شاء الله ولكني كلي أمل فيكم يا من تجلسون أمامي بل ولأن هذا الكلام يسمعه غيركم أقول وكلي أمل في كل من يسمع هذا الكلام بل ومشايخي وأساتذتي وإخواني الدعاة وشباب الصحوة كلهم وكل من سمع هذا الحديث كلي أمل أن نهضم أنفسنا ونعرف قدرها وأن نحمل على عاتقنا نشر هذا الموضوع وإكثار الحديث عنه وتكراره في كل مكان وعلى كل لسان ولا نمل الحديث عنه أبدا بل ولنجعله شعارا لنا في كل ميدان في ميدان العلم والعلماء وفى ميدان البيع والشراء وبين الرجال والنساء وبين العامة والخاصة في مدارسنا في جامعاتنا في أسواقنا في مجالسنا وبيوتنا فلنملأ قلوبنا بخوف الله عز وجل ولتمتلئ نفوسنا بذكر الله عز وجل فإننا نشعر بقسوة القلب وامتلاء النفس وجفاف العين من الدمع وليكن هجير كل واحد منا أيها الأحبة اللهم إني أسألك قلبا سليما ونردد كثيرا وفى كل لحظة بل وفى كل ساعة وفى كل سجدة وركعة ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا . عناصر هذا الموضوع ثلاثة قبل البداية القرآن يدعوك صور مشرقة في عالم الصفاء والنقاء تكامل الشخصية في حياة السلف نتائج سلامة الصدر ونقاوة القلب وآثاره أسباب امتلاء الصدر وغل القلب كيف السبيل لسلامة الصدر وتنقية القلب ثلاثة قبل النهاية أما ثلاثة قبل البداية فانتبه لها جيدا وأعرني سمعك بارك الله فيك فالأولى راجع نفسك بعد سماع هذه الكلمات واعلم أن الكلام موجه إليك لا لغيرك وأرجوك أن لا تبرئ ساحة من التقصير واحسب أن الآخرين من المسلمين خير منك دائما احسب أن الآخرين من المسلمين خير منك عند الله تعالى فرب أشعث أغبر ذي تمرين لو أقسم على الله لأبره لا تنظر إلى نفسك بنظرة الزهو والفخر والارتفاع لا وكم من مسكين منك عند الله وكم عامي أنت يا طالب العلم هو خير منك عند الله جل وعلا كم من إنسان استجاب الله دعاءه وفتح الله على قلبه بينما أنت ما زلت تنظر لنفسك في خيلاء وفى كبر والعياذ بالله فأقول يا أخي الحبيب أما سمعت بقول [بكر بن عبد الله المزني] وهو واقف بعرفة رضى الله عنه وأرضاه واقف بعرفه ينظر إلى الناس ثم يقول لا إله إلا الله لولا أنى فيهم لقلت قد غفر الله لهم من القائل بكر ابن عبد الله المزني رحمه الله تعالى يقول الذهبي وهو ينقل هذه العبارة في السير يقول معلقا ومعقبا كذلك ينبغي للعبد أن يزري على نفسه ويهضمها الإزراء على النفس إذن مطلب .(/15)
الأمر الثاني : اعلم أنك كالصدر وتنقية القلب مطلب عزيز والحرص عليه واجب وبذل الأسباب إليه وسلوك طريقه متعين ولكن لا تنس أن الناس بشر لا تنس أنك تعامل بشرا وأن النفس ضعيفة فلابد من الخطأ ولابد للنفس أن تتأثر فانتبه لهذا وعامل الآخرين بحسب وبهذا يقول [سعيد بن المسيب] رحمه الله تعالى وانتبه لكلماته به يقول إنه ليس من شريف ولا عالم ولا ذي فضل إلا وفيه عيب ولكن من الناس من لا ينبغي أن تذكر عيوبه ولكن من الناس من لا ينبغي أن تذكر عيوبه ومن كان فضله أكثر من نقصه وهب نقصه لفضله سامح أخاك إذا خلط منه الإصابة بالغلط وتجاف عن تعنيفه أن زاغ يوما أو قسط واعلم بأنك إن طلبت مهذبا رمت الشطط من ذا الذي ما ساء قط ومن له الحسنى فقط .
ثالثا : لست بالخب ولا الخب يخدعني هذا لا ينافي سلامة قط والأخذ بالظاهر ولكنه يعنى الحيطة والحذر فإن هناك من الناس من يستدرج الناس ويستغفلهم ويلبس عليهم فعليك أن تكون فطنا منتبها فالله سبحانه وتعالى يقول للمؤمنين ( خذوا حذركم ) ويقول سبحانه وتعالى ( ولا يستخفنك الذين لا يوقنون ) بعد هذه الثلاثة والتي أرجو أن تنتبه لها جيدا لترجعها بنفسك فكلنا في حاجة لها أقول يا أخي الحبيب إن القرآن يدعونا جميعا في أكثر من سورة وفى أكثر من آية يدعونا لمثل هذا الموضوع متى أن تدبرنا القرآن ونظرنا فيه إن قرآننا هو كلام ربنا وهو دستور حياتنا وهو منبع صفائنا وهو الميزان الذي نحتكم إليه عند خلافنا بل وفى كل حياتنا وأمورنا فالقرآن يا أخي الكريم يدعوك لبراءة القلب من الغل للذين أمنوا ( ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا) والقرآن يدعوك فيقول (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين) والقرآن يدعوك فيقول: (فاعفوا واصفحوا حتى يقضي الله بأمره) والقرآن يدعوك فيقول (فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين) والقرآن يدعوك فيقول (وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم) والقرآن يدعوك فيقول:( وإن الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل) والقرآن يدعوك فيقول:(قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى والله غني حليم) والقرآن يدعوك فيقول: (والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين) والقرآن يدعوك فيقول( يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم) وأخيرا القرآن يا أخي الحبيب يدعوك فيقول (وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم) بلى والله إنا نحب أن تغفر لنا يا ربنا قالها أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه مع سخاء نفسه وسلامة صدره ونصحه للأمة ماذا نقول نحن وهذه حالنا مع قلوبنا أخي الحبيب هل وقفت مع هذه الآيات وتدبرتها جيدا إن القرآن يدعوك (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها) أسمعت جيدا لهذه الآيات تدبرها بارك الله فيك اسمعها جيدا وارجع لها كثيرا فكم من الخلاف يقع بيننا وبين أصحابنا وكم من المشاجرات والخصومات تقع بيننا وبين الناس وإن رجعنا للقرآن فوجدنا هذه الآيات تحدونا بالعفو والصفح عن المؤمنين وعن الناس ومن عفا وصفح فأجره على الله ونعم بل عظم هذا الأجر عند الله سبحانه وتعالى صور مشرقة في عالم الصفاء والنقاء قلبت صفحات التاريخ ونظرت في كتب السير والتراجم فوجدت عجبا يا أخي الحبيب وجدت عجبا لرجال يعلم الله أن العين تدمع كثيرا والإنسان يقرأ مثل هذه المواقف ويتدبر ويقول يا للعجب أفهؤلاء بشر؟ كيف كانت هذه قلوبهم وأين قلوبنا من هذه القلوب؟ وقبل أن أبدأ وإياك بذكر هذه الصور لا ننس أن من أراد فهم هذه الدرجة من تنقية القلب وسلامة الصدر كما ينبغي فلينظر إلى سيرة النبي صلى الله عليه وسلم مع الناس يجدها مليئة بل يجد هذه الدرجة بعينها ولم يكن كمال هذه الدرجة لأحد الرواة صلى الله عليه وآله وسلم .(/16)
ثم تعال للصورة الأولى وهى التي لا نطيق روى عن الإمام أحمد في مسنده في حديث [أنس] قال "كنا جلوسا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة فطلع رجل من الأنصار تقطر لحيته من وضوئه وقد عل نعليه بيده الشمال فلما كان الغد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ذلك وطلع ذلك الرجل مثل المرة الأولى فلما كان اليوم الثالث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل مقالته أيضا فطلع ذلك الرجل على مثل حاله الأولى فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم تبعه [عبد الله بن عمرو بن العاص] فقال للرجل إني لا حيت أبي أي وقع بيني وبين أبى خصومة فأقسمت أني لا أدخل عليه ثلاثا فإن رأيت أن تأويني إليك حتى تمضي فعلت قال الرجل نعم فحكى عبد الله أنه بات معه تلك الليالي الثلاث فلم يره يقوم من الليل شيئا غير أنه إذا تقلب على فراشه ذكر الله وكبر حتى يقوم لصلاة الفجر قال عبد الله غير أنى لم أسمعه يقول إلا خيرا فلما مضت الليالي الثلاث وكدت أن أحتقر عمله وقلت يا عبد الله لم يكن بين أبي وبيني غضبة ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لنا ثلاث مرات يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة فطلعت أنت الثلاث مرات فأردت أن آوي إليك لأنظر ما عملك فأقتدي به فلم أرك تعمل كثير عمل فما الذي بلغ ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم قال أي الرجل ما هو إلا ما رأيت قال عبد الله فلما وليت دعاني فقال الرجل ما هو إلا ما رأيت غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشا ولا أحسد أحدا على خير أعطاه الله إياه فقال عبد الله هذه التي بلغت بك وهي التي لا تطاق وهي التي لا تطاق" رواه النسائي في اليوم والليلة عن[ سويد بن نسر] عن ابن المبارك عن [معمر] به وهذا إسناد صحيح على شرط الصحيحين لكن رواه [عقيل] وغيره عن [الزهري] عن رجل عن أنس والله أعلم.
أقول إن قلب المؤمن المطمئن بذكر الله النابض بحلاوة الإيمان لا يحتمل أبدا أن يحمل في جنباته حقدا على أحد من المسلمين إن من كان في قلبه إيمانا صادقا لا يحتمل أبدا في هذا القلب الذي مليء بالإيمان أن يحمل حقدا على أحد من إخوانه أرأيت يا أخي الحبيب كيف أن تنقية القلب وتنقية الصدر من الغل والأحقاد ومن الغش للسلمين كيف كان سببا لدخول الجنة هذا الرجل لم يكن يقوم الليل ولم يكن له كثير عمل ولكن العمل الذي كان سببا في دخوله الجنة هو أنه لا يجد في نفسه حسدا لأحد وليس في قلبه غشا على أحد من المسلين الله أكبر متى تتحقق هذه الصفة فالمسلم الذي يركع ليله نهاره طالبا مرضاة الله وطالبا جنات الفردوس أين العباد أيها الأحبة أين الزهاد من هذا الفعل كم نتعب أنفسنا في الصلوات وفي الصدقات وفى الصيام وغيرها من الأعمال والعبادات ولكن الأمر ليس بكثرة صيام ولا صلاة ولا صدقة إنما بشيء وقر القلب فنالوه رحمهم الله تعالى ،سلامة الصدر وتنقية هذا القلب من الغل والحقد والغش للمسلمين .
الصورة الثانية : أيعجز أحدكم أن يكون [أبي ضمضم ] أخرج [أبو داود] في الأدب باب الرجل يحل الرجل قد اغتابه واسمع الترجمة باب الرجل يحل الرجل قد اغتابه و[ابن أبي الدنيا] في مكارم الأخلاق باب فضل كظم الغيظ وأخرجه أيضا [ابن السني] في عمل اليوم والليلة باب ماذا يقول إذا اصبح ثلاثتهم من حديث قتادة عن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال لأصحابه " أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضمضم قالوا ومن أبو ضمضم يا رسول الله قال رجل كان إذا أصبح يقول اللهم إني قد وهبت نفسي وعرضي فلا يشتم من شتمه ولا يظلم من ظلمه ولا يضرب من ضربه" هذا لفظ أبى الدنيا وابن السني وهو ضعيف وأخرجه أبو داود من وجه آخر موقوف عن [قتادة] أخرجه أيضا البخاري في التاريخ في ترجمة [محمد بن عبد الله العجمي] ثم قال أي البخاري قد أخرجه [أبو بكر البزار] في مسنده و[العقيلي] وقال في الضعفاء وكذلك [التاجي] و[البيهقي] في الشعب
وقال [الألباني] في الإرواء عن هذا الحديث والمحفوظ عن قتادة وإسناده صحيح إلى قتادة ثم ذكره في صحيح أبي داود قال صحيح مقطوع .
أرأيت صفة أبي ضمضم هذا اسمع ماذا قال عنه ابن القيم في كتابه مدارك السالكين في صفحة 295 قال والجود عشر مراتب ثم ذكرها فقال سابعة الجود بالعرض كجود أبي ضمضم من الصحابة رضى الله تعالى عنهم كان إذا أصبح قال اللهم ما لي مال أتصدق به على الناس وقد تصدقت عليهم بعرضي فمن شتمني أو قذفني فهو في حل فقال النبي صلى الله عليه وسلم من يستطيع منكم أن يكون كأبي ضمضم وفى هذا والكلام ما زال لابن القيم يقول ابن القيم وفي هذا الجود من سلامة الصدر وراحة القلب والتخلص من معاداة الخلق وما فيه انتهى كلامه رحمه الله تعالى .(/17)
صورة ثالثة : من عندي إلا عرضي وقد أخرج هذا الحديث كشف الأستار في كتاب الزكاة باب فيمن تصدق بعرضه انتبه أيضا للترجمة باب فيمن تصدق بعرضه أخرجه [محي الدين بن كثير بن عوف] عن أبيه عن جده "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حث يوما على الصدقة فقال [علبة بن زيد] فقال ما عندي إلا عرضي فإني أشهدك يا رسول الله أنى تصدقت بعرضي على من ظلمني ثم جلس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أين علبة بن زيد قالها مرتين أو ثلاثا قال فقام علبة فقال أنت المتصدق بعرضك قد قبل الله منك " وقال [الهيثمي] رواه البزار وفيه كثير بن عبد الله وهو ضعيف أيضا ذكره البزار من حديث ابن صالح على التؤامة* عن علبة ابن زيد قال "حث رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم على الصدقة فقام علبة فقال يا رسول الله حدثت عن الصدقة وما عندي إلا عرضي فقد تصدقت به على من ظلمني قال فأعرض عنه فلما كان اليوم الثاني قال أين علبة ابن زيد أو أين المتصدق بعرضه فإن الله تبارك وتعالى قبل ذلك منه" على نحو ذلك وهذا أيضا قال ابن الهيثمي ورواه البزار وفيه محمد وقال ابن أحمد بن سليمان بن مشوم وهو ضعيف عند مجمع الزوائد إذن فانظر إلى حال صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا أبى ضمضم وهذا علبة بن زيد وغيرهم كثير كانوا يتصدقون بأعراضهم رضوان الله تعالى عليهم يعفوا ويصفحوا عمن سبهم وشتمهم وضربهم واغتابهم أو ذكرهم في شيء لا يرضونه فماذا نقول نحن لأنفسنا أيها الأحبة .
الصورة الرابعة واسمحوا لي أن أتكلم وأسرد المواقف سردا في عجالة المواقف كثيرة ولعلي أكتفي بالسرد وفى ذلك لا شك دروس كثيرة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد من تدبر ونظر وسمع موقفه مثل هذه المواقف علم كثيرا ضعف نفسه ونحن إذا نظرنا لمثل هذه المواقف نقارن ذلك بأنفسنا الضعيفة أيها الأحبة لعل الله يطلع علينا وعلى ضعفنا ويرحمنا الله سبحانه وتعالى ويعيننا على هذه الأنفس الرابعة بئس ما قلت والله ما نعلم إلا خيرا هذا الموقف قاله [كعب بن مالك] في قصته أو في قصة تخلفه عن غزوة تبوك ولما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم تبوك ذكرني وقال ما فعل كعب النبي يسأل عن كعب وقال رجل من قومه خلفه يا نبي الله برداه والنظر في عطفيه فقال [ معاذ بن جبل] كان حاضرا فسمع واسمع ماذا يقول معاذ فقام معاذ فقال بئس ما قلت والله ما نعلم إلا خيرا أسمعت هذا الموقف لقد كان بإمكان ابن معاذ رضى الله تعالى عنه السكوت تأدبا أمام الرسول الله صلى الله عليه وسلم ولن يعيب عليه النبي صلى الله عليه وسلم إلا سكوته ولكنه أعلن الحق الذي امتلئ به قلبه لم يطق معاذ أن يسمع هذه الكلمات في أخيه كعب فأعلن الحق الذي في قلبه انتصارا لكعب بن مالك رضى الله تعالى عنهما جميعا إنه الدفاع والذب وصد عن عرض أخيك أيها الحبيب متى ما سمعت في مجالس أحدا يتكلم بعرض من أعراض إخوانك فمن منا وقف مثل هذا الموقف كم نسمع في مجالسنا وفى منتدياتنا من يذكر فلانا وعلانا من إخواننا من المسلمين ممن يصلي ويصوم ويشهد أن لا إله إلا الله كم نسمع من الكلمات التي تذكر في عرضه فمن منا وقف مثل هذا الموقف أقول بل ربما بعضنا والعياذ بالله يتلذذ ويسمع ويأنس بمثل هذه الكلمات عياذا بالله ولكن صحابة رسول الله تربوا على هذا المنهج إنهم سمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول" كل المسلم على المسلم حرام عرضه ودمه وماله" فعلموا حرمة ذلك فعن أبى الدرداء أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال" من رد عن عرض أخيه رد الله عن وجهه النار يوم القيامة " كما أخرجه الترمذي في سننه في كتابه البر والصلة باب ما جاء في الذب عن المسلم وإسناده صحيح واسمع هذا الموقف قال [أحمد بن إسحاق] سمعت[ ابن معين] يقول رأيت عند [مروان بن معاوية] لوحا فيه أسماء شيوخ فلان رافضي فلان كذا وفلان كذا ووكيع رافضي وكيع ابن الجراح أحد الأئمة الأعلام ووكيع رافضي يقول يحي ابن معين فقلت لمروان وكيع خير منك انظر لانتصار الأخ انظر للذب عن عرض المسلم وكيع خير منك قال مروان مني يعني تعجب قلت قال نعم قال فسكت ولو قال لي شيئا لوثب أصحاب الحديث عليه قال أي يحي فبلغ ذلك وكيعا فقال وكيع يحي صاحبنا وكان بعد ذلك يعرف لي ويرحب. أرأيت انظر أثر الدفاع عن العرض في قلب وكيع رحمه الله تعالى أصبح يحي بن معين حبيبا إلى قلبه أصبح يرحب به كثيرا هكذا يكون جمع القلوب هكذا إذا أردنا أن نحبب النفوس بعضها لبعض هكذا إذا أردنا أن نرص الصفوف أيها الأحبة في وجوه أعدائنا لينصب كل فرد منا أنه محام عن أعراض المسلمين في كل مكان في أي مجلس كان وأمام من كان مهما بلغ من المرتبة والشرف مادام أنه تجرأ على عرض أخ من إخواننا المسلمين يجب أن أقف وأن أذب عن عرض هذا المسلم هكذا يكون الإنسان محبوبا عند الناس لا بل هكذا يكون محبوبا عند الله وعند رسوله قبل كل شيء ومن أحبه الله أحبه الناس.(/18)
الصورة الخامسة :سررتني سرك الله ذكر الذهبي في السير قال بسنده إلى [عوف بن الحارث] أنه قال سمعت عائشة تقول دعتني أم حبيبة وهذه في صف النساء هذا موقف نسوقه للنساء تقول عائشة رضى الله عنها دعتني أم حبيبة أي زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم دعتني أم حبية عند موتها قالت قد يكون بيننا ما يكون بين الضرائر فغفر الله لي ولك ما كان من ذلك هذه أم حبيبة تقول لعائشة فقلت أي عائشة فقلت غفر الله لك كله وحللك من ذلك فقالت أم حبيبة سررتني سرك الله تقول عائشة وأرسلت أم حبيبة إلى أم سلمة فقالت لها مثل ذلك انظر انتصاف القلوب ـ قلوب النساء ـ ما أحلى هذه القلوب إذا اجتمعت على المحبة وإذا حرصت على تنقيتها أو تنقية هذا القلب من الغل والحقد والحسد أقول كم نسمع نساءنا يتحدثن في المجالس عن فلانة وعلانة ولربما كالت لها كثيرا من الشتم والسب والعياذ بالله وكأنها تتكلم عن كافرة من الكفار لا تشعر أنها تتكلم عن مسلمة وأن عائشة رضي الله عنها لما أشارت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدها فقط عن صفية أنها قصيرة قال" ألا وأنك قلت كلمة وفعلت فعلة لو مزجت بماء البحر لمزجته" بالماء فقط إنها تعني أنها قصيرة فهل عقل مثل هذا الأمر نساؤنا وعلمن أنهن يخضن كثيرا في أعراض كثير من المسلمات وكم من الحسنات تذهب في مثل هذه الكلمات .
الصورة السادسة إذن تقع في الشغل صورة قصيرة لكنها كبيرة في المعنى قال رجل لـ[عمرو بن العاص] رضي الله تعالى عنه والله لأتفرغن لك انظر الرجل يهدد عمرو بن العاص والله لأتفرغن لك يعني بالكيد والتشفي والانتقام وغير ذلك فماذا كان رد عمرو بن العاص اسمع للعلم كيف ينير القلوب اسمع للخوف من الله جل وعلا كيف يرتبط بالله جل وعلا فقال عمرو بن العاص إذن تقع في الشغل نعم فإن الذي يتفرغ لينال من الناس ويشتم الناس لا يكون فارغا أبدا إنما يشغله نفسه وحقده يشغله بالناس فيضيع عمره فيما لا ينفع ولا شك أن قول عمرو هنا هو الصواب ومن يؤتى الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا كم نحب أن نسمع مثل هذه الكلمات فيمن وقع بينه وبين أحد خصومة أو من هدده وتوعده إذن تقع في الشغل لأن صاحب القلب الذي تعلق بالناس والانتقام من الناس والتشفي منهم هذا القلب مشغول دائما أما القلب الذي أخلى روحه من هذه الأمور وامتلأ بسلامة الصدر وحب الناس وجمع القلوب أصبح قلبا سليما صافيا لا يفكر إلا فيما ينفعه فهو إما في علم أو في طلب علم أو في عمل خير أما السيئات المضرات والشغل بالناس وبأعراض الناس فهو بريء منه لأنه عاهد الله على عدم فعل ذلك .
والصورة السابعة ما عرفني إلا أنت أيضا موقف قصير ولكنه كبير بمعانيه في سيرة [ سالم بن عبد الله بن عمر] رضى الله تعالى عنهم جميعا أن رجلا زاحمه في منى وأنتم تعلمون موقف الناس وموقف الحجاج كيف تكون وكيف تبلغ النفوس مبلغها في مثل هذه المواقف والزحام الشديد أن رجلا زاحمه في منى فالتفت رجل مغضبا إلى سالم وسالم هذا علامة من التابعين رضى الله تعالى عنه فقال الرجل لسالم إني لأظنك رجل سوء بسبب الزحام بلغت نفس هذا الرجل مبلغها فقال هذه الكلمة فماذا أجاب سالم رضى الله تعالى عنه قال كلمتين قال ما عرفني إلا أنت سبحان الله هكذا كان ازدراؤهم لأنفسهم رضوان الله تعالى عليهم مع سعة علمهم وكثرة عبادتهم وكثرة جهادهم وكثرة خوفهم وبكائهم من الله جل وعلا إلا أنهم يحتقرون ذواتهم رضوان الله تعالى عليهم أين العجب والعنف والغرور الذي يصيب أنفسنا إذا فعل الإنسان منا فعلا أو عبادة أو قام بعمل خير؛ أعجبته نفسه وأصبح عند نفسه زاهدا من الزهاد لا إله إلا الله ما عرفني إلا أنت رحمك الله يا سالم.(/19)
الصورة الثامنة ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله ذكر الذهبي في السير ترجمة الإمام البخاري ومحمد بن إسماعيل صاحب الصحيح رضوان الله عليه قال الذهبي وكان كثير من أصحابه يقولون له أي البخاري إن بعض الناس يقع فيك لو قيلت هذه الكلمة لأحدنا يا أحبة ماذا سيقول سيقول ربما لا تكون مباشرة ماذا يقولون ماذا قالوا اسمع للإمام للبخاري رضوان الله عليه لما قيل له هذه الكلمة إن بعض الناس يقع فيك فيقول أي البخاري إن كيد الشيطان كان ضعيفا ويتلو أيضا قوله تعالى ( ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله ) هذا والله هو الفقه وهذه هي والله هي البصيرة والحكمة ولكن من يؤتى هذه البصيرة من يؤتى هذه الحكمة ولذلك قلنا الناس تعلموا واقرءوا في سير الرجال واستفيدوا منها رأينا كثيرا منهم يعرض عن هذا وما علم أولئك المساكين أنه والله في النظر لحياتهم وترجمتهم وفى العلم نور لهذه القلوب فإذا سمعت الناس يغتابونك أو يذكرونك بسوء فأنت أعلم بنفسك وأعلم ما بينك وبين الله جل وعلا فاعف عنهم واصفح وسترى أثر ذلك ومن كاد لك فإن الله سبحانه وتعالى يكفيك ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله يقول فقال له أي للبخاري عبد المجيد بن إبراهيم كيف لا تدعو الله على هؤلاء الذين يظلمونك ويتناولونك ويبهتونك أقل شيء الدعاء يا بخاري كيف لا تدعو الله على هؤلاء فقال أي البخاري قال النبي صلى الله عليه وسلم "اصبروا حتى تلقوني على الحوض" رواه البخاري في سنده ومسلم في الإمارة وقال أيضا قال صلى الله عليه وسلم " من دعا على ظالمه فقد انتصر " رواه الترمذي في الدعوات وضعفه محقق السير إنه رحمه الله أي البخاري لا يدعو مجرد الدعاء على من ظلمه لا يدعو عليهم دعاء فضلا عن أن يشغل نفسه في التقصي والانتقام والتشفي منهم لا يفكر في مجرد الدعاء على من ظلمه أو بهته فضلا على أن يهتم بقول أو فعل والانتقام منهم والتشفي رضي الله عن هؤلاء الأنقياء رحمهم الله رحمة واسعة .
صورة تاسعة : إن كنت صادقا فغفر الله لي واسمع هذا الموقف جيدا فقد ذكر الذهبي أيضا في السير قال عن [أبى يعقوب المدني] أنه قال بين [حسن بن الحسن] وبين [علي بن الحسين] يعني زين العابدين بعد الأمر يعني كان بينهما بعض الشيء فجاء ابن حسن إلى علي بن الحسين وهو مع أصحابه في المسجد جاء الحسن إلى زين العابدين وهو جالس مع أصحابه في المسجد فما ترك حسن شيئا إلا قاله له ما ترك سبا ولا شتما إلا قاله لزين العابدين وهو جالس مع أصحابه قال أي أبي يعقوب المدني قال وعلى ساكت وزين العابدين سهم أي يسمع كلام الحسن فيه وهو ساكت فانصرف حسن فلما كان من الليل أتاه في منزله فقرع عليه بابه فخرج إليه فقال له علي زين العابدين ذهب إلى حسن ابن الحسن في الليل فقرع عليه بابه فقال له زين العابدين يا أخي إن كنت صادقا فيما قلت لي فغفر الله لي وإن كنت كاذبا فغفر الله لك السلام عليك هذا موقف هل انتهى الموقف انظر قيمة حبس النفس وقيمة الصبر وقيمة حسن الخلق كيف يكون الإنسان داعيا قدوة لغيره بدون أن يشعر الموقف ما انتهى حتى الآن فإذا بالحسن يتبعه ويلزمه من الخلف ويبكي بكاء شديدا حتى رثى زين العابدين لحاله وكان يستسمح منه فقال زين العابدين له لا جرم لا عدت في أمر تكرهه أي الحسن يقول لزين العابدين لا جرم لا عدت في أمر تكرهه لا أعود مثل هذا الأمر فقال زين العابدين وأنت في حل مما قلت لي الله أكبر
إذا تشاجر في فؤادك مرة
أمران فاعمد للأعف الأجمل
فإذا هممت بأمر سوء فاتئد
وإذا هممت بأمر خير فافعل
إنه صبر أيها الأحبة على أدنى الخلق إنه هوم النفس حتى ولو كان الحق معها هكذا يتصف الرجال وهكذا من أراد العلياء ومن أراد معالي الأمور وعزة النفس
طلقت تطليق الثلاث رغائب
وكتبت للعلياء عقد نكاح(/20)
الصورة العاشرة : أو قبل الصورة العاشرة وكما يحدث خلاف بين كثير من الناس حتى وإن بلغوا ما بلغوا من العلم فهذه النفوس نفوس بشر ولذلك هكذا وهذا ما كان بين الحسن وبين علي بن الحسين واسمع أيضا لإنصاف الذهبي رحمه الله لابن حزم عند ما ترجم له في السير قال الذهبي عن ابن حزم قد أخذ المنطق أبعده الله من علمه عن [محمد بن الحسن البلحجي] وأمعن فيه فزلزله في أشياء ولي أنا كلام الذهبي عن ابن حزم ولى أنا ميل إلى أبي محمد لمحبته في الحديث الصحيح ومعرفته به وإن كنت لا أوافقه في كثير مما يقول في الرجال والعلل والمسائل البشعة في الأصول والفروع وأقطع بخطئه في غير ما مسألة ولكن لا أكفره ولا أضلله وأرجو له العفو والمسامحة وللمسلمين وأخضع لفرط ذكائه وسعة علومه إذن فيقول الذهبي رحمه الله تعالى وإن كنت لا أوافقه في كثير مما يقول في الرجال والعلل والمسائل البشعة والأصول والفروع وأقطع بخطئه في غير ما مسألة ولكن لا أكفره ولا أضلله وأرجو له العفو والمسامحة انظر إلى النفوس الطيبة وأرجو له العفو والمسامحة وللمسلمين وأخضع لفرط ذكائه وسعة علومه رحم الله الذهبي وقد وجدت له كثيرا من الإنصاف في كتابه العظيم ( سير أعلام النبلاء للرجال ) وقد ينقل فلان كثيرا في من شدد على كثير من الرجال ومع ذلك إذا روى أو نقل تطولاته رجع رحمه الله تعالى وأنصف هؤلاء الرجال بما فيهم وهكذا يكون الرجل الحق هكذا الذي يأتمر بأمر الله وإذا قلتم فاعدلوا فهل سمع شبابنا مثل هذا الموقف وهل اقتدى شبابنا غفر الله لنا ولهم بسلفهم الصالح رضوان الله تعالى عليهم أيها الشباب أيها المسلمون لا تبخسوا جهود بعضكم بعضا لا تحتقروا أعمال بعضكم بعضا فكل منكم على ثغر وكل منكم على خير والميدان يتسع للجميع بل هو بأمس الحاجة لكل عمل لكل كلمة طيبة لكل جهد أيا كان صاحبه فهلا سمعنا وعقلنا واسمع لهذا الموقف أيضا وتدبره جيدا وكم نحن بحاجة إليه قال الذهبي قال الحافظ [ابن عبد البر] في التمهيد هذا أكتبه من حفظي وغاب عن أصله أن [عبد الله القمري العابد] كتب إلى مالك يحضه على الانفراد والعمل فكتب إليه مالك واسمع : إن الله قسم الأعمال كما قسم الأرزاق فرب رجل فتح له في الصلاة ولم يفتح له في الصوم ولم يفتح له في الصدقة وآخر فتح له في الصوم وآخر فتح له في الجهاد فنشر العلم من أفضل أعمال البر وقد رضيت بما فتح لي فيه وما أظن ما أنا فيه بدون ما أنت فيه وأرجو أن يكون كلانا على خير وبر. فيا شباب الأمة نحن بحاجة للجميع فهذا يحفظ القرآن ويعلمه وهذا يطلب العلم وينشره وهذا يعظ الناس في المساجد والقرى وهذا ينكر المنكرات في الأسواق وفى الأماكن العامة وهذا على منبره وذاك بقلمه والآخر بماله وهذا بتوزيع الشريط والكتاب وذاك بتوزيع الطعام واللباس وهذا بالرحلات والمخيمات وهذا بالدعوات الصادقات ولا يخلوا الجميع أبدا من خطأ وكل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون فهذا يصحح لهذا وهذا يوجه هذا وهذا يعين هذا بالكلمة الطيبة والموعظة الحسنة مع التماس الأعذار والعفو والصفح هكذا يجب أن نكون هكذا يجب أن نتعامل أيها الأحبة هكذا يجب أن ننشر في مجالسنا وفى منتدياتنا مع إخواننا جميعا يجب أن ننشر مثل هذه المفاهيم في قلوب الكبير والصغير الرجال والنساء حتى يشعر أعداء الإسلام في هذا التراص في تراص هذه الصفوف جمع هذه القلوب وبتوحيد هذه الكلمة هكذا يكون العمل وهكذا تكون الدعوة وهكذا يكون عباد الله إذا أحبهم الله جل وعلا فهلا عملنا لمثل هذا الأمر أيها الأحبة فإن قال قائل لا فنقول على أقل تقدير فإن لم تكن من هؤلاء فقل خيرا أو اصمت واعلم يا أخي الحبيب أن المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده فكف عنهم بارك الله فيك لسانك ويدك كفه عن المسلمين واترك المسلمين يعملون كل فيما استطاع وكل لما قدم فإن الله جل وعلا يطلع على عباده وهو وحده سبحانه وتعالى يعلم ما تكنه القلوب .(/21)
الصورة العاشرة والأخيرة من هذه الصور لعلهم قد حطوا رحالهم في الجنة قال [أبو الربيع محمد بن الفضل البلخي] سمعت [أبا بكر محمد بن مهرويه] الرازي قال سمعت [عليا بن الحسين بن الجنيد] قال سمعت يحي بن معين يقول ماذا يقول الآن يحي بن معين يقول إنا لنطعن على أقوام يقصد في الجرح والتعديل في الحديث والطعن في الجرح والتعديل أمر مندوب إليه ومأجور من يفعل ذلك فهو نصر لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول يحي بن معين يقول إنا لنطعن على أقوام لعلهم قد حطوا رحالهم في الجنة من أكثر من مائتي سنة قال بن مهرويه فدخلت على [عبد الرحمن بن أبي حاتم] صاحب كتاب الجرح والتعديل فدخلت على عبد الرحمن بن أبى حاتم وهو يقرأ على الناس كتاب الجرح والتعديل فحدثته بهذا فبكى وارتعدت يداه حتى سقط الكتاب وجعل يبكي ويستعيد في الحكاية سبحان الله والله إن القلب ليقشعر أيها الأحبة ونحن نسمع مثل هذه المواقف ومثل هذه القلوب بكى رضى الله تعالى عنه وأرضاه وهو ماذا يفعل يقول الذهبي معلقا على هذا الموقف أصابه على طريق الوجل وخوف العاقبة وإلا فكلام الناقد الورع في الضعفاء من النصح على دين الله والذب عن السنة وهو أمر مطلوب منهم ومأجور عليه ومع ذلك ترتعد يداه ويبكي رضي الله تعالى عنه لأنه تكلم في رجال في أمر واجب فماذا نقول نحن إذن أيها الأحبة ماذا نقول ونحن في المجلس بل ربما أو في الساعة الواحدة نتكلم عن عشرات الناس عياذا بالله ماذا نقول ونحن نسمع من كثير من إخواننا عفاهم الله وصفح عنهم وغفر لهم ما يذكرونه في كثير من المشايخ والعلماء وطلبة العلم بل والصالحين سبحان الله ما وجدنا إلا الصالحين إلا العلماء نخوض في أعراضهم ونتكلم عنهم عياذا بالله ما وجدنا إلا هؤلاء أين أنت من المنافقين وأين أنت من اليهود من النصارى أين أنت من أعداء الدين من الذين يكيدون للدين ليل نهار لم تجد إلا أعراض إخوانك حتى تتكلم فيها سبحان الله ورحم الله ابن المبارك يوم أن جاءه ذلك الرجل فذكر له قولا في فلان وعلان فقال له ابن المبارك واسمع الكلمات اسمع العلم كيف ينور قلوب أصحابه فيقول ابن المبارك ذلك الرجل: عجبا سلم منك اليهود والنصارى ولم يسلم منك إخوانك كلمات تكتب بميزان الذهب
وإذا كانت النفوس كبارا
تعبت في مرادها الأجسام
هكذا من يريد رضا الله جل وعلا هكذا من يريد أن يحافظ على عمله الصالح كم من الأعمال الصالحة يقوم بها كثير من الناس ثم يطلقون العنان لألسنتهم فتذهب بهذه الأعمال وتبريها بريا والعياذ بالله تكامل الشخصية في حياة السلف رضوان الله عليهم في العنصر السابق تكلمنا عن صور ومواقف متناثرة وإليك في هذا العنصر وقفة سريعة في حياة علمين فاضلين فإنك إذا نظرت لحياة أولئك الرجال وجدت مدرسة في جميع الجوانب وهذا هو العجب والله في حياتهم وأنا أقول نالوا ما نالوا رحمهم الله تعالى والله بسخاء أنفسهم ونصحهم لهذه الأمة ليس بكثرة الصلاة ولا الصيام ولا العلم وإنما بسخاء هذه النفوس وطهارة هذه القلوب نالوا ما نالوا رحمهم الله تعالى اسمع أقول مدرسة في جميع الجوانب في العلم في الجهاد في الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر في العبادة في الحرص على النوافل في الخوف من الله في الزهد في الورع في التواضع في حسن الخلق في كل شيء
حدث ما شئت من حلم ومن كرم
وانشر مآثرهم والباب متسع(/22)
أما اليوم فتعال وانظر لحالنا فإن ظاهرها الصلاح وقد نحسب في القدوات والسادات والله أعلم بسرائرنا مصارحة النفس وصلاحها يعلم الله ما يريد فإننا ننظر لأقوالنا وأفعالنا وأحوالنا وانتصارنا لأنفسنا وتسترنا وعجبنا لذاتنا وإذا وقفت على حالنا مع النوافل والطاعات أصابتك الحسرات والآهات وقل مثل ذلك في طلبنا للعلم وقل مثل ذلك في أمرنا ونهينا عن المنكر ثم قل مثل ذلك في إهمالنا لقلوبنا وحملنا على الآخرين وجرحهم ونبذهم واستغفر الله أن أعمم ولكن كل نفس أعلم بنفسه وكل نفس منا بما كسبت رهينة إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله أقول لك يا أخي الحبيب تعال أقف وإياك للنظر في جانب سلامة الصدر فقط وطهارة القلب في حياة هذين الرجلين في أكثر من في حياتهما إنهما [أحمد بن حنبل] والإمام ابن تيميه رحمهما الله تعالى جميعا وفي حياتهما مثل أعلى للعاملين والدعاة المصلحين والعباد المخلصين فمع كثرة الأذى لهما والنيل منهما وسجنهما وجلدهما والتعرض للفتن بل والتكفير والتفسيق وللتدبير وللتبديع عياذا بالله ومع ذلك كله فاسمع وتفكر لتعرف من أنت أيها المسكين اسمع فصارح نفسك وكن لها من الناصحين أنت إذا رماك أحد تهمة أوغرت عليه وقلت ما تركت صغيرة ولا كبيرة إلا وذكرتها في قائلك أما هؤلاء فاسمع رعاك الله ذكر [عبد الغنى المقدسي] في كتابه محنة الإمام أحمد في مسنده إلي أبى على حنبل قال حضرت أبا عبيد الله إي أحمد بن حنبل وأتاه رجل في مسجدنا وكان الرجل حسن الهيئة كأنه كان مع السلطان فجلسا حتى انصرفا من كان عند عبد الله ثم دنا منه فرفع أبو عبد الله بما رأى من هيئته فقال له يا أبا عبد الله اجعلني في حل الرجل يقول لأحمد اجعلني في حل قال أحمد من ماذا قال كنت حاضرا يوم ضربت وما أعنت ولا تكلمت إلا أنى حضرت ذلك تأمل الرجل يستسمح فقط لأنه حضر يوم ضرب أحمد فأطرق أبو عبد الله ثم رفع رأسه إليه فقال أحدث لله توبة ولا تعد إلى مثل ذلك الموقف فقال له يا أبا عبد الله أنا تائب إلى الله تعالى من للسلطان قال له أبو عبد الله فأنت في حل وكل من ذكرني إلا مبتدع هذا كلام الإمام أحمد رحمه الله قال أبو عبد الله وقد جعلت أبا إسحاق في حل من هو أبو إسحاق؟ المعتصم الذي ضرب وآذى الإمام أحمد قال وقد جعلت أبا إسحاق في حل ورأيت الله عز وجل يقول اسمع لمن تدبر القرآن (وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم) وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر ـ هذا الكلام للإمام أحمد ـ بالعفو في قضية مسطح ثم قال أبو عبد الله: العفو أفضل إذا دار في نفس الإنسان الانتقام والتشفي إذا حق عليك أحد أو سمعت أن أحدا قال فيك أو حتى آذاك مهما كان هذا الأذى لا شك أن النفس بطبعها كبشر تعمد إلى الانتقام تعمد إلى الغضب ولكن على الإنسان أن يرعى هذه النفس وأن يحرص على تربيتها أن حسن الخلق لا يكون صاحب الخلق حسن الأخلاق إلا في المواقف العصيبة الشديدة أما في المواقف الهينة اللينة لا لا يمكن أن يتضح حسن خلقه إلا في المواقف العصيبة فلما فكر الإمام أحمد رحمة الله تعالى وتذكر قول الله تعالى ( ألا تحبون أن يغفر الله لكم ) من عفا الله عنه فإذا به يقول: العفو هو الأفضل وما ينفعك أن يعذب أخوك المسلم بسببك هذا كلام الإمام أحمد ولكن تعفو وتصفح عنه فيغفر الله لك كما وعدك انتهى الموقف وأيضا ساق المقدسي رحمه الله بسنده إلى[ أبى على عبد الله بن الحسين بن عبد الله الخرقي] وقد رأى أحمد بن حنبل قال بت مع أحمد بن حنبل ليلة لم أره ينام إلا يبكي إلى أن أصبح قال ذكرت فقلت يا أبا عبد الله كثر بكاؤك الليلة فما السبب؟ قال أحمد واسمع قال أحمد ذكرت ضرب المعتصم إياي ومر بي بالدرس قوله تعالى ( وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله ) فسجدت وأحللته من ضربي في السجود رحم الله الإمام أحمد هكذا والله القلوب وهكذا والله هو التعلق بالله جل وعلا والتدبر لهذا الكتاب فمن منا يريد أن يعفو الله عنه ، ويصفح الله جل وعلا عنه أيها الأحبة وذكر [ابن رجب] في طبقات الحنابلة عن [أبى محمد خوزان] قال جاء رجل إلى أحمد بن حنبل فقال له نكتب عن [محمد بن منصور] ؛محمد بن منصور الطوسي فقال إذا لم تكتب عن محمد بن منصور فعن من يكون ذلك قالها مرارا يكررها الإمام أحمد إلى الآن المسألة لا شيء فيها لكن أتعرف من هو محمد بن الطوسي هذا؟ قال الرجل إنه يتكلم فيك فماذا قال الإمام أحمد مع أن الإمام أحمد يعلم عندما قال إذ لم تكتب عن محمد بن منصور الطوسي فعن من تكتب يعلم أن محمدا يتكلم فيه فقال الرجل إنه يتكلم فيك فقال أحمد رحمه الله تعالى رجل صالح ابتلي فينا فما نعمل وما أعجب مواقف الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى اقرأ هذا الكتاب محنة الإمام أحمد بن حنبل وانظر مواقفه مع من عاداه ومع من ضربه ومع من سبه وشتمه فرحم الله الإمام أحمد
أضحى ابن حنبل محنة مأمومة
وبحبه يعرف المتنسك(/23)
فإذا رأيت لأحمد منتقصا
فاعلم بأن ستوره ستهتك
ومن مواقف شيخ الإسلام أبى تيميه رحمه الله تعالى مع مخالفيه بالرغم من إيذائهم له وتعديهم عليه بالباطل إلا أنه لم يقابل ذلك رحمه الله إلا بالإحسان فها هو يقول في الفتاوى في الجزء الثالث صفحة 271 يقول وأنا والله من أعظم الناس معاونة على إطفاء كل شر فيها وفى غيرها يقصد في الفتنة التي حصلت في وقته وإقامة كل خير وابن مخلوف هذا ومن هو ابن مخلوف ابن مخلوف هذا قال عن ابن تيميه قال عن شيخ الإسلام هو عدوي ولما بلغه أن الناس يترددون إلى ابن تيميه في سجنه قال ابن مخلوف عن ابن تيميه يجب التضييق عليه وإن لم يقبل وإلا فقد ثبت كفره يعني وصل الحد والعياذ بالله الحد عند ابن مخلوف أن يكفر ابن تيميه رحمه الله تعالى ومع ذلك اسمع كلام ابن تيميه فيه أو ابن مخلوف فيه يقول ابن تيميه لو عمل مهما عمل والله ما أقدر على خير إلا وأعمله معه ولا أعين عليه عدوه قط ولا حول ولا قوة إلا بالله هذه نيتي وعزمي مع علمي بجميع الأمور فأني أعلم أن الشيطان ينزغ بين المؤمنين ولن أكون عونا للشيطان على إخواني المسلمين انتهى كلامه رحمه الله ويقول أيضا في موضع آخر في الجزء الثالث في صفحة 245 هذا وأنا في سعة صدر لمن يخالفني فإنه وإن تعدى حدود الله في بتكفير أو تفسيق أو افتراء فالقضية ليست قضية كلام وشتم لا بتكفير بتفسيق أو افتراء أو عصبية جاهلية فأنا لا أتعدى حدود الله فيه بل أضبط ما أقوله وأفعل وأزنه بميزان العدل وأجعله مؤتما بالكتاب الذي أنزله الله وأجعله هدى للناس حاكما فيما اختلفوا فيه وما كان لي ما اختلفوا فيه ويقول رحمه الله أيضا الجزء الثاني والعشرون ص 55 فلا أحب أن يُنتصر من أحد بسبب كذبه علي أو ظلمه وعدوانه فإني قد أحللت كل مسلم وأنا أحب الخير لكل المسلمين وأريد لكل مؤمن من الخير ما أحبه لنفسي والذين كذبوا وظلموا فهم في حل من جهتي وأما ما يتعلق بحقوق الله فإن تابوا تاب الله عليهم وإلا فحكم الله نافذ فيهم ولو كان الرجل مشكورا على سوء عمل لكنت أشكر كل من كان سببا في هذه القضية لما يترتب عليه من خيري الدنيا والآخرة لكن الله هو المشكور على حسن نعمه وعلائه وأياديه الذي لا يقضي للمؤمن قضاء إلا كان خيرا له انتهى كلامه رحمه الله تعالى ويقول ابن القيم في كتابه عن شيخه ابن تيميه رحمه الله تعالى وما رأيت قد أجمع بمثل هذه الخصال يعني سلامة الصدر وتنقية القلب والعفو عن الناس وما رأيت أحدا قد أجمع لهذه الخصال من شيخ الإسلام ابن تيميه قدس الله روحه وكان بعض أصحابه الأكابر يقول وددت أنى لأصحابي مثله لأعدائه وخصومه وما رأيته يدعو على أحد منهم قط وكان يدعو لهم وجئته يوما مبشرا له بموت أكبر أعدائه اسمع يقول وجئت يوما مبشرا له موت أكبر أعدائه وأشدهم عداوة وأذى فنهرني وتنكر لي واسترجع ثم قام من فوره إلى بيت أهله وعزاهم وقال إني لكم مكانه ولا يكون لكم أمر تحتاجون إلى مساعدة إلا وساعدتكم فيه على نحو هذا الكلام فسروا به وعظموا هذه الحالة منه فرحمه الله ورضي الله عنه
فكرر علي حديثهم يا حادي
فحديثهم يجلي الفوائد الصادي(/24)
هكذا يكونون رضوان الله تعالى عليهم في مواقفهم وفى حياتهم وفى أحوالهم مع من عاداهم أو حتى كفرهم أو فسقهم أو بدعهم أو آذاهم هكذا تكون القلوب المؤمنة المتعلقة الخائفة الراجية من الله العفو والصفح والتي تمضى إلى هذه الدنيا على أنها حياة أو دنيا ممر ودار مر لا دار مقر هكذا التعلق بالله جل وعلا وطلب العفو ومرضاته سبحانه وتعالى أخيرا نتائج سلامة الصدر وآثاره ولو لم يكن من آثار سلامة الصدر وتنقية القلب إلا أنه سبب لدخوله الجنة كما ذكرنا في أول حديث ذكرناه من حديث أنس فإن سلامة الصدر من أعظم أسباب دخول الجنة ولذلك اسمع ابن القيم أيضا يقول في مدارك السالكين في الجزء الثالث 318 يقول وها هنا للعبد إحدى عشر مشهدا فيما يصيبه من الخلق وجنايتهم ويقول ثم قال في صفحة 319 المشهد الثالث مشهد العفو والصفح والحلم فإنه متى شهد ذلك وفضله وحلاوته وعزته لم يعدل عنه إلا لعشي بصيرته فإنه "ما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا "كما صح ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وعلم بالتجربة والوجود وما انتقم أحد لنفسه إلا ذل هذا وفى الصفح والعفو والحلم من الحلاوة والطمأنينة والسكينة وشرف النفس وعزها ورفعتها عن تشفيها بالانتقام ما ليس شيء منه في المقابلة والانتقام ويقول أيضا رحمه الله تعالى- ابن القيم - في صفحة 311 في المشهد السادس يقول نشر السلامة وبرد القلب وهذا مشهد شريف جدا لمن عرفه وذاق حلاوته وهو أن لا يشتغل قلبه وسره بما له من الأذى وطلب الوصول إلى ترك ثأره وشفاء نفسه بل يفرغ قلبه من ذلك ويرى أن سلامته وبرده وخلوه منه أنفع له وأطيب وأعون على مصالحه فإن القلب إذا اشتغل بشيء فاته ما هو أهم عنده وخير له منه فيكون بذلك مغبونا والرشيد لا يرضى بذلك ويرى أنه من تصرفات السفيه بين سلامة القلب من امتلائه بالغل والوقاس* وإعمال الفكر في إدراك الانتقام ثم أثرا آخر ونتيجة أخرى من نتائج تنقية القلب من الغل والحسد وهي لو لم يكن في هذا القلب كما أشار ابن القيم رحمه الله إلا الطمأنينة منه وراحة البال لصاحب هذا القلب ولو لم يكن إلا هذا الأمر لكفي به شرفا ونتيجة فصاحب القلب الذي لا ينظر ولا يتشفى ولا يحقد ولا يحسد مطمئنا مرتاحا هادئا وذلك تجد أنه خال من الأحقاد والظنون ولا ينشغل إلا بطاعة أو بعمل خير فمتى نتحرر من هذا الأثر أيها الاخوة ولذلك اسمع لابن تيميه عن الذهبي وهو يقول أو ينقل قول [زيد بن أسلم] يقول نقل عن [أبي دجانة] رضي الله تعالى عنه وهو مريض وكان وجهه يتهلل فقيل له ما لوجهك يتهلل فقال ما من عمل شيء أوفي عندي من اثنتين كنت لا أتكلم إلا فيما يعنيني والأخرى كان قلبي للمسلمين سليما ما أحلى أن تقابل الله جل وعلا وقلبك سليم ويقول أيضا [سفيان بن الحارث] قلت لأبى بشر وكان من أصحاب علي بن أبي طالب رضي الله عنه أخبرنا عن أعمال من كان قبلنا قال كانوا يعملون يسيرا ويأجرون كثيرا إذن ما ذكرت لك في البداية ليست بكثرة صيامهم وصلاتهم وصدقاتهم فكانوا يعملون يسيرا ويأجرون كثيرا قال وقلت ولما ذاك قال لسلامة صدورهم ويروى هذا الأثر الذهبي في كتابه الزهد. وأيضا ذكر ابن رجب في كتابه روضة الإسلام قال عن الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى قال لن يدرك عندنا من أدرك بكثرة صيام ولا صلاة وإنما أدرك بسخاء الأنفس وسلامة الصدر والنصح للأمة.
أخيرا الأسباب التي يجيء منها حقد القلب أو موته والأسباب أسباب امتلاء الصدر وغل القلب تنقسم إلى قسمين:(/25)
أسباب مباشرة وأسباب غير مباشرة وانتبه لها لعل ألا يكون أحد الأسباب موجود في نفسك فمن الأسباب المباشرة على رأسها الشيطان إن الفرقة والخلاف وملء الصدور بالشحن وضيق الصدر غاية من غاياته كما في الترمذي رواه مسلم كتاب صلاة المنافقين تحريش الشيطان وبعثه سرياه إلى فتنة الناس وأن مع كل إنسان قرينا وحديث [جابر] رضى الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " إن الشيطان قد آيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكن بالتحريش بينهم " أي بالخصومات والحروب والفتن وغيرها ،انظروا لأحوال المسلمين اليوم من جميع الجهات تجدون أن الشيطان يقوم بالتحريش بين المسلمين في كل مكان إذن هذا هو السبب الأول المباشر وسبب غير مباشر هي أمراض القلب بأنواعها سبب امتلاء القلب والصدر بالغل والحقد والحسد والانتقام والتشفي سبب مباشر وهو أمراض القلب بأنواعها بدءا بسوء الظن والحسد والنجوى والغرور والهوى وحب التستر وغيرها كثير مما تعلمون من أمراض القلب وجماع ذلك الغفلة عن القلب وإهماله ونشكو إلي الله جل وعلا حالنا مع قلوبنا وإطلاق عنانها إننا نهتم بأنفسنا كثيرا نهتم بمظهرنا نهتم ببيوتنا بمراكبنا بمأكولاتنا بمشروباتنا ولكننا نغفل كثيرا عن قلوبنا أن نراقب هذا القلب أن نرعاه أن نحفظ عليه نهمله كثيرا ونغفل عنه وبالتالي يمتلئ بغضا على فلان وحقدا لفلان وحسدا لفلان وسوء ظن بعلان فتجتمع واليعاذ بالله نقط سود نقطة نقطة حتى يصبح القلب أسودا **** لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا عياذا بالله ولذلك أقول إن المسلم لو اهتم بقلبه أكثر مما يهتم بمظهره وبيته وأكله وشربه لوجد أن الله سبحانه وتعالى وفقه في كل صغيرة وكبيرة سمعت حياة أولئك الأنقياء رحمهم الله تعالى كيف كان بمجرد سخاء نفوسهم وسلامة قلوبهم وسخاء نفوسهم وصلوا إلى ما وصلوا إليه فخذ مثلا سوء الظن فسوء الظن هو ترجيح ما يخطر في النفس من تحميل سوء ويبدأ سوء الظن بخافق يخفق به ثم لا يزال الشيطان ينفخ فيها حتى ينزلها منزلة الحقيقة هذا هو سوء الظن فتكلمنا في المقاصد والنيات فنقول مثلا فلان يقول كذا ويقصد من كلامه كذا فأصبحنا نظن فيه النوايا واليعاذ بالله وإرادات الناس فنتكلم فيما في قلوب الناس وكأننا أصبحنا نعلم الغيب وما يدور في قلوب هؤلاء وفى نفوسهم وما أجمل قول [محمد بن سيرين] رحمه الله تعالى قال إذا بلغك عن أخيك شيء فالتمس له عذرا فإن لم تجد فقل ألتمس له عذرا لا أعمله0
وأما الأسباب الغير مباشرة فأولا الاختلاف في وجهات النظر وطريقة سير العمل فقد يؤدى الخلاف في الآراء والتصورات إلي اختلاف قلوبهم وجفوتهم إليهم بالشحناء يعني ليس شرطا يا أخي الحبيب أن يوافقك الناس في كل ما تريد ليس معنى ذلك أن توافقني وإلا أن تعدوني خطأ أن نأخذ هذه القاعدة في حياتنا فاختلاف وجهات النظر كل من الناس له وجهات نظر المهم الحمد لله أن نتفق في الأصول أما الفروع والاختلاف فيها واختلاف وجهات النظر وطريقة العمل هذا يدعو إلى كذا وذاك يدعو إلى ذاك الأمر فهذا لا يدعي أبدا إلى أن تمتلئ قلوبنا بغضا وحقدا وشحناء على بعضنا واليعاذ بالله بل ننصح أخانا وننبهه على ما وقع فيه من خطأ هذا هو واجبنا أما نبغضه ونحقد عليه ونهجره لا ثم .
ذكر الذهبي في السير قال قال [يوسف السلفي] قال ما رأيت أحدا أفضل من الشافعي ناظرته يوما في مسألة وافترقنا ولقيني ثم أخذ بيدي ثم قال يا أبا موسى ألا يستقيم أن نكون إخوانا وإن لم نتفق في مسألة شف النفوس ألا يسعنا ما وسعهم يا اخوة قال [أحمد بن حسن السعدي بن عدي] سمعت أحمد بن حنبل يقول لم يعبر الجسر إلى خرسان مثل إسحاق وإن كان يخالفنا في أشياء وإن كان يخالفنا في أشياء فإن الناس لم يزل يخالف بعضهم بعضا هكذا كان رحمهم الله تعالى إذن فالخلاف في المسائل الفرعية لا يفسد للود قضية أبدا أيها الأحبة فقد كان يعذر بعضهم بعضا فيقول لعل له تأويلا ويقول لعل ذلك الحديث لم يبلغه أو لم يصله أو غير ذلك من الأعذار التي كانوا يبحثونها لبعضهم رحمهم الله تعالى ولذلك قال الذهبي في السير ما زال الأئمة يخالف بعضهم بعضا ويرد هذا على هذا ولسنا ممن يذم العالم بالهوى والجهل .(/26)
الأمر الثاني من الأسباب الغير مباشرة لسبب امتلاء الصدر غلا وحقدا التنافس ولا شك أن التنافس أمر محمود ولكنه قد يتعدى ذلك إلى الحسد والغل على الآخرين خاصة بين الأقران ولذلك يقول الذهبي اسمع كلام الذهبي في الأقران يقول استبق وجهك وسل ربك العافية فكلام الأقران هو في بعض الأمر عجيب وقع فيهم سادة رحم الله الجميع ويقول أيضا كلام الأقران يطوى ولا يروى ويقول أيضا كلام الأقران هو في بعضهم يحتمل وطيه أولى من بثه إلا ما اتفق المعاصرون على جرح شيخ فيعتمد قوله إذن فالتنافس مطلوب ولكن طبيعة البشر قد يصل إلى قلبك قرين لك أو زميل فلان قد يصل إليه شيء من الحقد والبغض عليه فانتبه لمثل هذا الأمر ولكن ليس هذا الكلام على أن ينطبق على أحبابنا فهناك من الأقران أيضا من يهتم بقرينه بل هو يفضله على نفسه فاسمع فهذا [هشام بن يوسف] يقول كان [أبو بزار] أعلمنا وأحفظنا فهي صورة جميلة لحال الأقران المسلمين بل هناك صور أخرى كثيرة ولله الحمد والمنة .
ثالثا : التناصح وكيف يكون التناصح سببا للحسد والحقد فبعض الناس لا يحتمل النصيحة فيبدأ بالكيد للناصح والتفتيش عن عيوبه وبثها فإذا نصحت أحدا فلانا من الناس وحرصت على وسائل النصيحة الصحيحة فإذا به يملئ قلبه عليك حقدا ويبدأ يبحث عن عيوبك ليته يقبل النصيحة أو يأخذها ويسكت ولكنه يحاول الانتقام لأنك ذكرت شيا من أخطائه مع أنك حرصت على أنها تكون وسيلة صحيحة بانفراد بينه وبينك وبالألفاظ الجميلة الطيبة وبالموعظة الحسنة ومع ذلك وجد في نفسه حقدا عليك فما زال والعياذ بالله يحتمل أو يبحث خطأك حتى يرد الصاع صاعين والسبب الرابع التجارة والبيع والشراء والتعامل مع الآخرين ورحم الله رجلا سمحا إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى كما ذكر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ورواه البخاري في باب السهولة والسماحة في البيع والشراء كيف السبيل إلى سلامة الصدر أعد عليك وسائلا إذا أردت أن تصل لسلامة الصدر باختصار .
أولا : تدعوا الله بصدق وإلحاح أن يرزقك قلبا سليما محبا للآخرين فقد كان في دعائه صلى الله عليه وسلم" اللهم أنى أسألك قلبا سليما" وردد يا أخي ( ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ) واسأل الله حسن الخلق فإن العبد ليدرك بحسن الخلق الصائم والقائم ،وما وصل أولئك الرجال إلى ما وصلوا إليه إلا بسخاء الأنفس وسلامة الصدر والنصح كما ذكرنا فاحرص على الدعاء لإخوانك وما أجمل إذا دعوت لإخوانك بهذه الكلمات وقلت قبل منامك اللهم من سبني وشتمني وضربني عند نومك اللهم إني عفوت عنه وصفحت عنه ما أجمل أن تردد الكلمات بنفسك وفى كل ليلة فإذا أنت نمت بقلب سليم وإذا مت مت على قلب سليم ولله الحمد ثم أتبع هذه الكلمات قولا جميلا قل وادع الله اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني أسألك بالله يا أخي الحبيب هل ستكون أحلم من الله وهل ستكون أعظم من الله سبحانه وتعالى في عفوه عنك أيها العبد فما عفوت عنه عن خلقه لا والله ثقة بالله ولذلك أقول لك يا أخي الحبيب اعف عن عباد الله يعف الله عنك طهر قلبك من الحقد والغل على الآخرين تجد أن الله سبحانه وتعالى يحفظك ويعف عنك سبحانه وتعالى ثم أيضا احذر الغفلة عن القلب وراقبها مراقبة جيدة واعلم أن تنقية القلب من الغل والحقد يحتاج إلى ترويض نفس وطول مجاهدة ومراقبة فإذا وجدت في قلبك على أحد فابحث عن الأسباب وصارح نفسك ولا تستجب لبائع الهوى فيها وعليك هضم النفس واسأل الله العون والتوفيق .
ثم ثالثا أحسن الظن بالآخرين والتمس لهم الأعذار فان لم تجد فقل لعلي أجد لك عذرا لا أعلمه قيل أن أبا إسحاق نسى عمامته يوما وكانت بعشرين دينارا عمامة وكانت جديدة وكانت بعشرين دينارا وتولى في دجلة أي جعلها في نهر دجلة لكي يتوضأ فجاء لص فأخذها ترك عمامة رديئة بدلها فطلع الشيخ فلبسها وما شعر حتى سألوه وهو يدرس في درسه فقال لعل الذي أخذها محتاج لم يقل اللص الذي فيه وما لفيه لا وإنما قال لعل الذي أخذها محتاج وانتهت القضية
أولئك آبائي فجئني بمثلهم
إذا جمعتنا يا جرير المجامع
فالرابع الصبر والتحمل فإن الاحتمال مقبرة المتاعب فتمثل قول الشاعر:
إذا أمست قوارصة الفؤاد
صبرت على أذاهم وانطويت
وجئت إليكم ترك المحيا
كأني ما سمعت ولا رأيت(/27)
ثم الخامس العفو والصفح فمن عفا وأصلح فأجره على الله ومن علامته كما ذكرنا الدعاء لإخوانك خاصة من كان بينك وبينه بغضاء أو من كان بينك وبينه شحناء حاول أن تدعو له مع أنني أعلم أن هذا لا يطاق تدعو لإنسان وفى قلبك بغض عليه تدعو لإنسان وفي قلبك بغض وشحناء وحقد عليه هذا لا يطاق ولكن جرب وحاول أن تدعو لإخوانك وارض النفس من الشيطان فالدعاء لهم بالرحمة والمغفرة والتوفيق والهداية كما يقول [عبد الله بن أحمد] ربما سمعت أبي في السر يدعو لأقوام بأسمائهم وإني لأعجب أن ينام المسلم ملء جفنيه وبينه وبين أخيه شحناء أو جفوة يقول لمن له قلب حي قرار وقد نام وقد تأتيه المنية تلك الليلة وما أجمل قول ذلك الشاعر وهو [مقنع الكندي] عندما قال:
وإن الذي بيني وبين بني أبي
وبيني وبين ذي عمي لمختلف جدا
فإن أكلوا لحمي وفرت لحومهم
وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا
وإن ضيعوا غيبي حفظت غيوبهم
وإن هم هووا غيي هويت لهم رشدا
لا أحمل الحقد القديم عليهم
وليس ريم القوم من يحمل الحقدا
ثلاثة قبل النهاية وآخر المطاف أيها الأحبة أقول انتبه لهذه الثلاث
أولا: إن ما تقدم لا يعني أننا ننهى عن كثرة الأخطاء وعن التغاضي عن الزلات وعدم التنبيه عليها وتقويم الآراء فإننا نطالب بذلك ولكن الضوابط الشرعية المقررة عند سلفنا الصالح وعلمائنا الأفاضل رحمهم الله تعالى
الثانية هذا الموضوع رسالة . رسالة إليكم جميعا أيها الأحبة وإلى العلماء وإلى المشايخ وإلى طلاب العلم والمدرسين والأباء والمربين وجميع من يسمع هذا الأمر تربية الشباب وتربية الأجيال وتربية النفوس على صفاء النفس وطهارة القلب وصدق العمل وتقدير العلماء والدعاة وإن من أساليب التربية هي القدوة الحسنة.
وثالثا إن هذا الموضوع دعوة عامة لطهارة القلب وسلامة الصدر ووفاء النفس فهو أمانة عند كل من سمعه نشره وبثه بين الناس في كل طبقاتهم وفى مختلف أحوالهم إليكم مثل هذا الموضوع ولنتحدث به كثيرا ليحصل الحب والمودة وجمع القلوب وتوحيد الكلمة بين المسلمين فيسقط بذلك أعداء الإسلام من المنافقين وغيرهم فبادر بنشره وليكن حديث مجالسنا ومدارسنا ورب مبلغ أوعى من سامع اللهم إني بلغت اللهم فاشهد اللهم إني بلغت اللهم فاشهد اللهم إني بلغت عبادك يا أرحم الراحمين بحقيقة هذا الموضوع وعظمته في نشره في قلوبهم وفى أنفسهم وبين صفوف الناس أجمعين اللهم فاشهد ( ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين ) (ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب) (ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين) (ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين) (ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين )
*********************
الأخفياء
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا أما بعد السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وهذه ليلة الاثنين الموافق للثالث والعشرين من الشهر العاشر للعام الرابع عشر بعد الأربعمائة والألف من الهجرة النبوية وعنوان هذا اللقاء الأخفياء .(/28)
ولقد كنت تأملت ونظرت في حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي أخرجه [مسلم] في صحيحه في كتاب الزهد قوله "إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي" ولقد تأملت قوله صلى الله عليه وآله وسلم الخفي فما زالت تلك الهواجس والأفكار والأسئلة تدور في الخاطر المكدود من هو هذا العبد الخفي؟ من هو هذا الخفي الذي أحبه الله سبحانه وتعالى فقلت فلربما أنه أو أنهم الذين قد عرفوا ربهم وعرفهم سبحانه وتعالى فأحبوه وأحبهم وحرصوا أن يكون بينهم وبين الله أسرار وأسرار والله سبحانه وتعالى يعلم أسرارهم فكان خيرا لهم وقلت ولربما أنهم هم الأنقياء الأتقياء فما اجتهدوا في إخفاء أعمالهم إلا لخوفهم من ربهم وخوفهم من فساد أعمالهم بالعجب والغرور وهجمات الرياء وطلب الثناء والمحمدة من الناس فقلت فلربما أنهم هم الجنود المجهولون الناصحون العاملون الذين قامت على سواعدهم هذه الصحوة المباركة فكم ناصح وكم من مرب وكم من داع للحق وكم من كلمة وكم من رسالة وكم من شريط طار في كل مطار وصارت فيه الركبان كانت خلفه أخفياء وأخفياء فهنيئا لهم ثم هنيئا لهم وقلت فلربما أنهم أيضا هم الساجدون الراكعون في الخلوات فكم من دعوة في ظلمة الليل شقت عنان السماء وكم من دمعة بللت الأرض وبهذه الدمعات وبهذه السجدات حفظنا وحفظ أمننا رُزِقْنَا وسقانا ربنا وقلت فلربما أن الأخفياء هم الذين يسعون في ظلمة الليل ليتحسسوا أحوال الضعفاء والمساكين والأرامل والأيتام لإطعام الطعام وبذل المال ليفكوا بها كربة مكروب وليفرجوا بها هم أرملة ضعيفة شديدة الحال كثيرة العيال وقلت فلربما أن الأخفياء هم أولئك الذين لا يعرفهم الناس هم أولئك الذين لا يعرفهم الناس أو الذين لا يعرف أعمالهم الناس ولكن الله سبحانه وتعالى يعرفهم وكفي بالله شهيدا فهنيئا لهم ثم قلت وما الذي يمنع أن يكونوا أولئك جميعا ما الذي يمنع أن تكون هذه الصفات كلها صفات لأولئك الأخفياء ولذلك ترددت كثيرا في الحديث عن هذا الموضوع فما كان لمثلي أن يتحدث عن مثلهم وأستغفر الله جل وعلا ونحن أعرف بأنفسنا من جرأتنا مع قصورنا وتقصيرنا وقد قالها [عبد الله بن المبارك] ردد ذلك البيت عندما قال
لا تعرضن بذكرنا في ذكرهم
ليس الصحيح إذا مشى كالمقعد
رحمك الله يا ابن المبارك عندما قلت هذا البيت تعني به نفسك فماذا نقول نحن إذاً عن أنفسنا ورحم الله القائل أحب الصالحين ولست منهم وأرجو أن أنال بهم شفاعة وأكره من سجيته المعاصي وإن كنا سواء في الإضاعة ولماذا الحديث عن الأخفياء؟ كان الحديث عن الأخفياء لأنني ولربما لأنك أيضا نظرت لحال أولئك الرجال الذين نسمع قصصهم بل ونري أثارهم ومصنفاتهم ونري أنهم أحياء بذكرهم وبعلمهم وبنفعهم وإن كانوا في بطن الأرض أموات بتلك الأجساد الطيبة الطاهرة فأسأل وتسأل معي ما هو السر في حياة أولئك الرجال والسر هو توجه القلب كل القلب لله جل وعلا توجهت قلوب أولئك الرجال فنالوا ما نالوا ووصل سمعهم إلى عصرنا الحاضر فكان القلب عمله وعلمه لله سبحانه وتعالى وكان حبه وبغضه لله وقوله وفعله لله حركاته وثكناته لله دقه وجله لله سره وعلانيته لله يوم أن كانت الآيات هي الشعارات التي ترفع وهي الكلمات التي تتردد في القلب قبل اللسان وفي كل مكان (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين) هكذا كانت الآيات ترفع فامتلأت بها القلوب أما اليوم فتعال وانظر لحالنا يا أخي الكريم انظر لحالنا كأفراد فقلوبنا شذر مدر ونفوسنا عجب وكبر وأفعالنا تزين وإظهار وأقوالنا لربما كانت طلب الاشتهار، همومنا في الملذات وحديثنا في الشهوات وصدق صلى الله عليه وآله وسلم بقوله" كثرة سؤال وإضاعة للمال وقيلٍ وقال" إلا من رحم الله منا وانظر لحالنا كأمة ذل ومهانة وهوان واحتقار ولا داعي إلى أن أواصل الكلام عن حال هذه الأمة في هذا العصر ولكني أسوق لك دليلا قريبا في شهر رمضان ثلاث مذابح للمسلمين ثلاث مذابح للمسلمين مذبحة السوق في >سراييفو< ومذبحة الإبراهيمي في فلسطين ومذبحة في السودان أكان يكون ذلك يا أخي الحبيب لو كانت القلوب متوجهة إلى الله بصدق لا والله أقولها ثقة بالله سبحانه وتعالى لا والله لا يكون هذا الذل وهذا الاحتقار لهذه الأمة لو توجهت قلوب أصحابها وتوجهت قلوب المسلمين إلى الله جل وعلا ، ربما معتصماهم قلقت ،لامست ملء أفواه الصبايا اليتامى،
لامست أسماعهم لكنها
... لم تلامس نخوة المعتصم(/29)
إذاً فالسر في حياة أولئك هو التوحيد لله ليس التوحيد قولا كلنا نقول لا إله إلا الله ولكنه التوحيد القلبي يوم أن تكون الأفعال والأقوال وحركات القلب وثكناته كلها لله سبحانه وتعالى ،عرف هذا السر أولئك الأخفياء فكانت الدنيا لهم والآخرة دارهم ثم أيضا سبب آخر ومهم جدا عن الحديث عن الأخفياء فيا أخي الحبيب ويا أختي المسلمة إن فقدت الأعمال والأقوال أيا كان نوعها إن فقدت خلوص النية لله جل وعلا انتقلت من أفضل الطاعات إلى أحق المخالفات والعياذ بالله ألم تسمع لذلك الحديث المفزع للقلوب الذي كلما أراد [أبو هريرة] رضي الله تعالى عنه وأرضاه أن يرويه لنا أو يرويه لأصحابه وقع مغشيا عليه يفعل ذلك ثلاث مرات أو أربعة من هول ذلك الحديث المفزع حديث "أول ثلاث تسعر بهم النار يوم القيامة قارئ القرآن ، المجاهد ، المتصدق بماله" أفضل الطاعات وأفضل القربات إلى الله جل وعلا يوم صرفت لغير الله أصبحت أحق المخالفات بل أصبحت هي التي تقود أصحابها إلى النار والعياذ بالله وهذا الحديث لما سمعه [معاوية] رضي الله تعالى عنه وأرضاه قال قد فعل بهؤلاء هذا فكيف بمن بعدهم فكيف بمن بعدهم أو فكيف بمن بغي من الناس ثم بكي معاوية رضي الله تعالي عنه وأرضاه بكاءً شديدا يقول الراوي حتى ظننا أنه هالك انظر صحابة رسول الله يغشون على أنفسهم عندما يسمعون هذا الحديث فماذا نقول نحن عن أنفسنا يقول الراوي حتى ظننا أنه هالك ثم أفاق معاوية ومسح وجهه ودمعه بيده رضي الله تعالى عنه وقال صدق الله ورسوله صدق الله ورسوله (من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوفي إليهم أعمالهم بها وهم فيها لا يبخسون أولئك الذين ليس لهم إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون) لأنهم فعلوا ذلك ليقال قارئ وليقال متصدق وليقال جريء ولا شيء يحطم الأعمال مثل الرياء ومثل التسميع بأن يقول فلان سمعت وعلمت وفعلت وجئت وذهبت مسمعا للناس بأفعاله عياذا بالله فالتزم رعاك الله التزم التخلص من كل الشوائب التي تشوب هذه النية كحب الظهور أو التفوق على الأقران أو الوصول لأغراض وأعراض من جاه أو مال أو سمعة أو طلب لمحمدة وثناء الناس فإن هذه وأمثالها قاصمة للظهر متي شابت النية .ولذلك النظر لحياة الأخفياء ولأحوالهم ومدارسة أمورهم من أعظم الأسباب للوصول إلى طريق المخلصين جعلني الله وإياك منهم ثم سبب ثالث لأهمية الإخلاص ولخطر الرياء ولرجوع الناس إلى الله جل وعلا ولكثرة أعمال البر والخير والدعوة إلى الله من الرجال والنساء في حد سواء ولإقبال الناس عموما على العبادات وحرصهم على الخيرات والحمد لله مما نراه من الناس في هذه الفترة المتأخرة كان لا بد من طرح هذا الموضوع لئلا تذهب هذه الأعمال وهذه العبادات عليهم سُدَىً من حيث لا يشعرون كان لزاما أن نتحدث في مثل هذا الموضوع وقد كان أهل العلم يحبون أن يتخصص أناس للحديث عن النية وبيانها للناس ولذلك تكلمنا عن هذا الموضوع تذكيرا وتنبيها وتحذيرا لشدة الحاجة إليه، والأخفياء منهج شرعي ولذلك اسمع أيها المحب لقول الحق عز وجل وإن تخفوها ـ الصدقة ـ (وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم) فهو خير لكم فهذه الآية كما يقول الحافظ [ ابن حجر] رحمه الله تعالى ظاهرة في تفويض صدقة السر وإخفائها ويقول سبحانه ( ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين) ويقول المصطفي صلى الله عليه وآله وسلم في حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله قال "ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما صنعت يمينه" انظر لدقة الخفاء في هذه الصدقة وقد أخرجه [البخاري] و[مسلم] في حديث أبي هريرة وقال أيضا الحافظ ابن حجر وهو من أقوى الأدلة على أفضلية إخفاء الصدقة وفي الحديث نفسه صورة أخري يذكرها صلى الله عليه وآله وسلم "ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه" ثم حديث الرجل الذي تصدق ليلا على سارق وعلى زانية وعلى غني وهو لا يعلم بحالهم والحديث أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة ووجه الدلالة من هذا الحديث على أن الأخفياء منهج شرعي أن الصدقة المذكورة وقعت بالليل لقوله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث فأصبحوا يتحدثون بل وقع رواية أو لفظا صريحا كما في مسلم لقوله صلى الله عليه وآله وسلم على لسان الرجل لأتصدقن الليلة لأتصدقن الليلة فدل ذلك على أن صدقته كانت سرا في الليل إذ لو كانت هذه الصدقة بالجهر نهارا لما خفي عنه حال من؟ حال من؟ حال الغني بخلاف حال الزانية وحال أيضا السارق فالغني ظاهرة حاله فلذلك كانت الصدقة سراً في الليل وأيضا حديث النافلة صلاة النافلة في البيوت فمن حديث [زيد بن ثابت] رضي الله تعالى عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال "صلوا أيها الناس في بيوتكم صلوا أيها الناس في بيوتكم فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة" رواه [النسائي] و[ابن خزيمة] في صحيحه وإسناده صحيح وروى [البيهقي] أيضا بإسناد جيد أنه صلى الله(/30)
عليه وآله وسلم قال "فضل صلاة الرجل في بيته على صلاته حيث يراه الناس" انظر الشاهد حيث يراه الناس إذا فالاختفاء عن أعين الناس في صلاة النافلة لا شك أنه أفضل يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم" فضل صلاة الرجل في بيته على صلاته حيث يراه الناس كفضل الفريضة على التطوع" كفضل الفريضة على التطوع ومن حديث [جندب بن عبد الله] رضي الله تعالى عنه كما أخرج البخاري ومسلم قال قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم "من سمع سمّع الله به" من سمع أي من سمع الناس بأعماله وأقواله التي لا يراها الناس رؤيا وإنما يسمعها لهم تسميعا في قوله يقول "من سَمَّعَ سمع الله به ومن يرائي يرائي الله به" ومن حديث [عبد الله بن عمر] رضي الله تعالى عنها قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول "من سمع الناس بعمله سمع الله به مسامع خلقه وصغره وحقره " أخرجه أحمد في مسنده والطبراني والبيهقي وإسناده صحيح وذكر الذهبي في السير في ترجمة [عبد الله بن داود الخريبي] أنه رضي الله تعالى عنه قال كانوا يستحبون أي السلف الصالح كانوا يستحبون أن يكون للرجل خبيئة كانوا يستحبون أن يكون للرجل خبيئة من عمل صالح لا تعلم به زوجته ،ولا غيرها زوجته ولا غيرها وذكر الإمام [وكيع بن الجراحي في كتابه الزهد والإمام [النجم السري] في كتاب الزهد أيضا أن [الزبير بن العوام] قال من استطاع منكم أن يكون له خبأُ من عمل صالح فليفعله من استطاع منكم أن يكون خبأ من عمل صالح فليفعله وسنذكر بمشيئة الله صور عديدة لحياة كثير من السلف تدل على أن هذا الأمر كان منهجا لهم وكانوا يحرصون عليه ويتمسكون به وهل الأعمال تخفي دائما قد يقول قائل بعد سماع ما تقدم وهل نخفي أعمالنا دائما فلا نظهر منها شيئا أبدا منها إذا الإجابة على هذا السؤال يتفضل بها شيخ الإسلام [ابن القيم] رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين الجزء الثاني صفحة أربع وثمانين عندما قال -فصل- قوله ولا مشاهدا لأحد فيكون متزينا بالمراءاة قال ابن القيم رحمه الله تعالى هذا فيه تفصيل أيضا وهو أن المشاهدة والمشاهدة يقصد بها مشاهدة الناس لك أثناء العمل وهو أن المشاهدة في العمل لغير الله نوعان انتبه جيدا أولا مشاهدة تبعث عليه أو تقوي باعثه تبعث على العمل أو تقويه على العمل فهذه المراءاة خالصة أو مشوبة كما أن المشاهدة القاطعة عنه من الآفات والحجب كما أن المشاهدة تجعلك تقطع العمل بتاتا أيضا هي من الآفات والحجب ثم يقول ومشاهدة أي أخري لا تبعث عليه ولا تعين الباعث بل لا فرق عنده أي عند صاحبها بل لا فرق عنده بين وجودها وعدمها لا يهمه يراه الناس أو لا يروه فهذه لا تدخله في التزين والمراءاة ،ولكنما عند المصلحة الراجحة في المشاهدة إذا كان هناك مصلحة راجحة ما هي المصلحة؟ يقول ابن القيم إما *** ورعاية كمشاهدة مريض أو مشرف على هلكة يخاف وقوعه فيها أو مشاهدة عدو يخاف هجومه كصلاة الخوف عند المواجهة أو مشاهدة ناظر إليك يريد أن يتعلم منك يريد أن يتعلم منك فتكون محسنا إليه بالتعليم وإلى نفسك بالإخلاص فتكون محسنا إليه بالتعليم وإلى نفسك بالإخلاص أو قرب منك للإقتداء وتعريف الجاهل يقول ابن القيم هذا رياء محمود فهذا رياء محمود والله عنده أو والله عند نية القلب وقصده ثم يقول رحمه الله تعالى فالرياء المذموم أي يكون الباعث قصد التعظيم والمدح أن يكون الباعث قصد التعظيم والمدح والرغبة فيما عند من ترائيه أو الرهبة منه وأما ما ذكرنا من قصد رعايته أو تعليمه أو إظهار السنة وملاحظة هجوم العدو ونحوا ذلك فليس في هذه المشاهد رياء بل قد يتصدق العبد رياء بل قد يتصدق العبد رياء مثلا وتكون صدقته فوق صدقة صاحب السر اسمع الكلام العجيب بل قد يتصدق العبد رياء فتكون صدقته فوق صدقة صاحب السر مثال ذلك يقول ابن القيم رجل مغرور سأل قوما ما هو محتاج إليه فعلم رجل منهم أنه إن أعطاه سرا حيث لا يراه أحد لم يقتدي به أحد ولم يحصل له سوي تلك العطية وأنه إن أعطاه جهرا اقتدي به واتبع وأنف الحاضرون من تفرده عنهم بالعطية فجهر له بالعطاء وكان الباعث له على الجهر إرادة سعة العطاء عليه من الحاضرين فهذه مراءاة محمودة حيث لم يكن الباعث عليها قصد التعظيم والثناء وصاحبها جدير بأن يحصل له مثل أجور أولئك المعطيين انتهى كلامه الجميل رحمه الله تعالى وينقل لنا أيضا الحافظ ابن حجر في فتح الباري لما تكلم عن صدقة الفرد وصدقة النفل وهل الأفضل إعلانهما أو إخفائهما قال رحمه الله تعالى ينقل عن[ الزين] في المنير قال لو قيل إن ذلك يختلف ـ أي الإخفاء أو الإظهار ـ إن ذلك يختلف باختلاف الأحوال لما كان بعيدا يختلف باختلاف الأحوال لما كان بعيدا فإذا كان الإمام مثلا جائراً ومال من وجبت عليه ـ أي الزكاة صدقة الفرد ـ ، ومال من وجبت عليه مخفياً فالإسرار أولى وإن كان المتبرع ممن يقتدى به ويتبع وتنبعث الهمم على التطوع بالإنفاق وسلم قصده فالإظهار أولى…(/31)
انتهى كلامه رحمه الله تعالى ومن هنا نعلم أيها الأحبة أنه ليس دائما تخفى الأعمال بل قد يظهر الإنسان أعماله لمصلحة راجحة كما ذكر ذلك ابن القيم رحمه الله تعالى أخفياء ولكن يكثر في هذا الزمن الأخفياء ولكنهم أخفياء من نوع آخر أخفياء يختفون عن أعين الناس ويحرصون كل الحرص ألا يتطلع أحد من الناس على أعمالهم هؤلاء الأخفياء هم الذين أخبر عنهم النبي صلي الله عليه وآله وسلم بقوله "لأعلمن أقواما من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بيضا فيجعلها الله عز وجل هباء منثورا "أعوذ بالله أعوذ بالله يقول راوي الحديث [ثوبان] رضي الله تعالى عنه يا رسول الله صفهم لنا جَلِّهِم لنا ألا نكون منهم ونحن لا نعلم اسمع ثوبان الصحابي الجليل والذي يقول ألا نكون منهم ونحن لا نعلم فرحمك الله يا ثوبان رضي الله تعالى عنك قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم "أما إنهم إخوانكم ومن جلدتكم ويأخذون من الليل كما تأخذون ولكنهم أقوام إذا خلوا بمحارب الله انتهكوها" ولكنهم أقوام إذا خلوا بمحارب الله انتهكوها أخرجه ابن ماجة من حديث ثوبان بسند صحيح وأخفياء من نوع آخر وهم المقصرون الفاترون أهل الخمول والكسل فلو أنك نصحت أحدهم وصارحته بحاله وسألته عن أعماله فقلت له مثلا ماذا حفظت من القرآن؟ وهل تحرص على صيام النوافل أم لا؟ أنت تريد الخير بنصحه وتريد مكاشفته بحاله حتى يري حاله على حقيقتها فتسأله هذه الأسئلة ليجيب هو على نفسه وتقول له ماذا قدمت للإسلام؟ وهل تنكر المنكرات؟ وهل وهل؟ إلى غيرها من الأسئلة التي تبين حقيقته أمام نفسه لأجابك هذا الشخص بقوله هذا بيني وبين الله ، هذا بيني وبين الله وهل كل عمل أعمله لا بد أن أطلعك عليه انظر هو الآن ماذا يخفي هو يظهر لنا الإخلاص لكنه يخفي ما الذي يخفي؟ الحقيقة ما هي الحقيقة أنه قصر في أعماله وإنه قد لا يكون عنده شيء قد لا يكون حفظ من القرآن شيئا وإن حفظ فالقليل قد لا يكون قدم للإسلام شيئا وإن قدم فالقليل القليل وهو يستحي أن يصارح الآخرين بهذه الأعمال التي هي لا شيء حقيقة فبالتالي لا يملك حتى يبرئ ساحته في هذه اللحظة إلا أن يقول لك هذا بيني وبين الله ، وهل كل عمل أعمله لا بد أن تطلع عليه؟ فانظر كيف وقع هذا المسكين أظهر الإخلاص وأخفي حقيقة النفس وتقصيرها فوقع في الرياء من حيث لا يشعر وما أكثر أولئك وللأسف وهذا لا شك خداع للنفس وتشبع بما لم يُعطى وهكذا التصنع والتزين والتظاهر أما الحقيقة التي أخفاها اليوم فإنه لا يستطيع أبدا أن يخفيها (يومئذ تعرضون لا تخفي منكم خافية) يومئذ تعرضون لا تخفي منكم خافية فنعوذ بالله من حالهم ونستغفر الله لحالنا ويقول [ابن عمر] يقول عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه اسمع لكلام المحدث الملهم رضي الله تعالى عنه وأرضاه يقول فمن خلصت نيته في الحق ولو على نفسه كفاه الله ما بينه وبين الناس ومن تزين بما ليس فيه شانه الله ، شانه الله وذكر ذلك ابن القيم في إعلام الموقعين عقبات في طريق الأخفياء عقبات في طريق الأخفياء وانتبه لهذه العقبات والعقبات في طريق الأخفياء يا أخي الحبيب ويا أختي المسلمة كثيرة جدا فالحديث عن الرياء والعُجْب وغيرهما مما ينال الإخلاص طويل جدا ولكني أسوق هنا عقبتان من هذه العقبات بالاختصار العقبة الأولي هو ما ذكره [أبو حامد الغزالي] في كتابه الإحياء رحمه الله تعالى حيث قال أثناء ذكره للرياء الخفي قال وأخفى من ذلك أن يختفي العامل بطاعته بحيث لا يريد الإطلاع ولكنه مع ذلك إذا رأى الناس ولكنه مع ذلك إذا رأى الناس أحب أن يبدءوه بالسلام وأن يقابلوه بالبشاشة والتوقير وأن يثنوا عليه وأن ينشطوا في قضاء حوائجه وأن يسامحوه في البيع والشراء وأن يوسعوا له في المكان فإن قصر مقصر ثقل ذلك على قلبه فإن قصر مقصر ثقل ذلك على قلبه ووجد لذلك استبعادا لذي لنفسه كأنه يتقاضى الاحترام مع الطاعة التي أخفاها كأنه يريد ثمن هذا السر الذي بينه وبين الله احترام الناس ولم يظهر العمل والعمل خفي بينه وبين ربه ولكنه يريد ما دام عمل نظر لنفسه فيريد أن يكسب هذه الأمور من الناس فإن قصر الناس في هذه الأمور إذاً استبعد نفسه ونظر لحاله ولو لم يكن –يقول أبو حامد الغزالي- ولو لم يكن قد سبقت منه تلك الطاعة لما كان يستبعد تقصير الناس في حقه إلى آخر كلامه هذه صورة وصورة أخرى من العقبات في طريق الأخفياء وهي ما أشار إليها [ابن رجب] رحمه الله تعالى في كتابه في شرح حديث ما ذئبان جائعان في صفحة 46 قال رحمه الله تعالى: وهنا نقطة دقيقة وهي أن الإنسان قد يذم نفسه بين الناس يريد بذلك أن يرى الناس أنه متواضع عند نفسه يريد بذلك أن يرى الناس أنه متواضع عند نفسه فيرتفع بذلك عندهم ويمدحونه به وهذا من دقائق أبواب الرياء وقد نبه عليه السلف الصالح قال [مترف بن عبد الله بن الشخير] كفي بالنفس إطراءً أن تذمها أن تذمها على الملأ كأنك تريد بذمها زينتها وذلك عند(/32)
الله سفه وذلك عند الله سفه ، ما هو المعيار في الإخلاص والمعيار في الرياء ولا بد أن ننتبه لهذا الأمر ولعلكم تتساءلون إذاً فالقضية حساسة والقضية قد تصيب النفس بالخواطر والهواجيس وقد ينشغل الإنسان بملاحظة نفسه في هذا الباب إذاً ما هو المعيار والميزان الدقيق والضابط الصحيح في أن أعرف أنني مخلص أو غير مخلص ، ذكر ذلك أهل العلم فبينوا أن الضابط في الإخلاص هو استواء أعمال العبد في الظاهر والباطن أن تستوي أعمالك في ظاهرك وباطنك هذا معيار الإخلاص وأما الضابط في الرياء أن يكون ظاهرك خيرٌ من باطنك وأما صفة الإخلاص أن يكون الباطن خيرا من الظاهر ليست قضية سواء فقط ليست قضية في السوي الظاهر والباطن هذا هو الإخلاص أما صدق الإخلاص أن يكون الباطن أفضل من الظاهر وهنا تنبيه هام جدا لا بد أن ننتبه له عند الحديث أو الكلام عن الإخلاص أو الرياء كما ذكرت لأنه مسلك شائك ولا ينبغي للإنسان أن يترك كثيرا من أعمال الخير بحجة الخوف من الرياء ، انتبه يا أخي الحبيب وانتبهي أيتها الأخت المسلمة لا ينبغي لكي ولا ينبغي لك أن تترك كثير من الأعمال بحجة الخوف من الرياء أو حتى أن تفتح على نفسك باب الهواجس والوساوس فيقع الإنسان فريسة لهذا الأمر فيدخل الشيطان على القلب فيصبح الإنسان دائما في وسواس وهواجس حول هذا الباب ولذلك اسمع للإمام النووي رحمه الله تعالى وهو يقول كلام جميل جدا حول هذا الأمر المهم في كتاب الأذكار يقول في صفحة أو في الصفحة الثامنة والتاسعة يقول فصلٌ الذكر يكون بالقلب ، فصل الذكر يكون بالقلب ويكون باللسان والأفضل منه ما كان بالقلب واللسان جميعا فإن اقتصر على أحدهما فالقلب أفضل ثم لا ينبغي أن يترك الذكر باللسان مع القلب خوفا من أن يظن به الرياء خوفا من أن يظن به الرياء اسمع لكلام النووي رحمه الله تعالى ثم لا ينبغي أن يترك الذكر باللسان مع القلب خوفا من أن يظن به الرياء بل يذكر بهما جميعا ويقصد بها أو به وجه الله تعالى وقد قدمنا عن الفضيل رحمه الله تعالى أن ترك العمل لأجل الناس رياء ولو فتح الإنسان ـ اسمع لهذه الكلمات واحفظها جيدا ـ احفظ هذه الكلمات كما تحفظ اسمك حتى تنجو من قضية الوسواس والهواجس في الإخلاص والرياء ـ يقول ولو فتح الإنسان عليه باب ملاحظة الناس والاحتراز من تفرق ظنونهم الباطلة لانسد عليه أكثر أبواب الخير ، لانسد عليه أكثر أبواب الخير وضيع على نفسه وضيع على نفسه شيئا عظيما من مهمات الدين وليس هذه أو وليس هذا طريقة العارفين انتهى كلامه رحمه الله وهو كلام نفيس جدا واسمع لكلام ابن القيم كلام ابن تيميه رحمه الله تعالى في الفتاوى في الجزء الثالث والعشرين صفح أربع وسبعين ومائه عندما يقول ومن كان له ورد مشروع من صلاة الضحى أو قيام ليل أو غير ذلك فإنه يصليه حيث كان ولا ينبغي له أن يدع ورده المشروع لأجر كونه بين الناس إذا علم الله من قلبه أنه يفعله سرا أنه يفعله سرا لله مع اجتهاده في سلامته من الرياء ، لله مع اجتهاده لسلامته من الرياء ومفسدات الإخلاص إلى أن قال ومن نهي عن أمر مشروع ـ اسمع ـ إن بعض الناس يدخل على بعض الناس من هذا الباب فينهاه عن أمر لا يفعله أمام الناس لماذا؟ يقول خشية الرياء يقول ابن تيميه رحمه الله تعالى ومن نهى عن أمر مشروع بمجرد زعمه أن ذلك رياء فنهيه مردود عليه من وجوه ، الأول أن الأعمال المشروعة لا ينهي عنها خوفا من الرياء بل يؤمر بها بالإخلاص فيها بل يؤمر بها وبإخلاص فيها فالفساد في ترك إظهار المشروع أعظم من الفساد في إظهاره رياء وثانيهما أو الثاني لأن الإنكار إنما يقع على ما أنكرته الشريعة وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم "إني لم أؤمر أن أنقي قلوب الناس ولا أن أشق بطونهم" الثالث إن تسويغ مثل هذا يفضي إلى أن أهل الشرك والفساد ينكرون على أهل الخير والدين إذا رأوا من يظهر أمرا مشروعا قالوا هذا مراء فيترك أهل الصدق إظهار الأمور المشروعة حذرا من لمزهم فيتعطل الخير فيتعطل الخير وهذه كلمات جميلة جدا من ابن تيميه رحمه الله تعالى والرابع يقول إن مثل هذا إن مثل هذا لإنكار الناس على أمل مشروع بحجة أنه رياء يقول إن مثل هذا من شعائر المنافقين وهو الطعن على من يظهر الأعمال المشروعة قال تعالى (الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم) انتهي كلامه مختصرا من الفتاوى.(/33)
نأتي الآن وبعد هذا المشوار للب هذا الدرس وهو صور من حياة الأخفياء ، صور من حياة الأخفياء وأسوق إليكم أيها الأحبة هذه الكوكبة وهذه المواقف وهذه الأحداث في حياة أولئك الأخفياء وهي مليئة بالدروس والعبر لمن تفكر ونظر وتدبر فسير الصالحين المخلصين مدرسة تخرج الرجال والأجيال ولعلي أكتفي بسرد هذه الصور طلبا للاختصار وثانيا حتى لا أقطع عليك لذة هذه المواقف والعيش معها برفعة إيمان وسمو روح ورقة في القلب فاسمع لهذه القصص واسمع لهذه الأحداث:
أولاً: الأخفياء والصدقة والقيام على الفقراء والمساكين ، خرج عمر بن الخطاب يوما في سواد الليل وحيدا حتى لا يراه أحد دخل بيتا ثم دخل بيتا آخر ورآه رجل لم يعلم عمر أن هذا الرجل رآه طلحة رضي الله تعالى عنه وأرضاه فظن أن في الأمر شيئا أوجس طلحة في نفسه لماذا دخل عمر هذا البيت ولماذا وحده ولماذا في الليل ولماذا يتسلل ولماذا لا يريد أن يراه أحد ، ارتاب طلحة في الأمر والأمر عند طلحة يدعو للريبة ولما كان الصباح ذهب طلحة فدخل ذلك البيت فلم يجد إلا عجوزا عمياء مقعدة فسألها ما بال هذا الرجل يأتيك وكانت المرأة لا تعرف أن الرجل الذي يأتيها هو عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وأرضاه قالت العجوز العمياء المقعدة إنه يتعهدني منذ كذا وكذا بما يصلحني ويخرج الأذى عن بيتي أي يكنس بيتها ويقوم بحالها ويرعاها عمر رضي الله تعالى عنه وأرضاه ولا نعجب لا نعجب أن رئيس الدولة وأمير المؤمنين عمر بن الخطاب يفعل ذلك فكم من المرات فعل ذلك عمر رضي الله تعالى عنه فهذه المواقف ليست عجباً في حياة عمر ولكننا نعجب من شدة إخفاء عمر لهذا العمل ، شدة إخفاء عمر لهذا العمل حتى لا يراه أحد وفي الليل وفي سواد الليل ويمشي لواذاً خشية أن يراه أحد فيفسد عليه عمله الذي هو سر بينه وبين الله ومثل ذلك صار عليه أيضا زين العابدين رضي الله تعالى عنه وأرضاه [علي بن الحسين] فقد ذكر الذهبي في السير وابن الجوزي في صفة الصفوة أن عليا بن الحسين كان يحمل جراب الخبز على ظهره بالليل فيتصدق به ويقول" إن صدقة السر تطفئ غضب الرب عز وجل" وهذا الحديث مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم من طرق كثيرة لا يخلو أو لا تخلو أساليبها من مقال ولكنها بمجموع الطرق صحيحة وقد صحح ذلك الألباني في الصحيحة وعن عمران بن ثابت قال لما مات علي بن الحسين فغسلوه جعلوا ينظرون إلى آثار سود في ظهره فقالوا ما هذا فقالوا كان يحمل جُرُب الدقيق يعني أكياس الدقيق ليلا على ظهره يعطيه الفقراء في المدينة ، يعطيه فقراء أهل المدينة ، وذكر ابن عائشة قال قال أبي سمعت أهل المدينة يقولون ما فقدنا صدقة السر حتى مات علي بن الحسين رضي الله تعالى عنه وأرضاه وعن محمد بن عيسى قال كان [عبد الله بن المبارك] كثير الاختلاف إلى <برسوس> وكان ينزل <الرِّقة> في خان أي في فندق فكان شاب يختلف إليه ويقوم بحوائجه ويسمع منه الحديث قال فقدم عبد الله الرقة مرة فلم ير ذلك الشاب وكان مستعجلا أي عبد الله بن المبارك فخرج في النفير أي في الجهاد فلما قفل من غزوته ورجع إلى الرقة سأل عن الشاب فقالوا إنه محبوس لدين ركبه فقال عبد الله وكم مبلغ دينه فقالوا عشرة آلاف درهم فلم يزل يستقصي حتى دُلَّ على صاحب المال فدعي به ليلا ووزن له عشرة آلاف درهم وحلفه ألا يخبر أحداً ما دام عبد الله حيا ما دام عبد الله حيا وقال إذا أصبحت فأخرج الرجل من الحبس وأدلج عبد الله أي سار في آخر الليل وأُخْرِجَ الفتي من الحبس وقيل له عبد الله بن المبارك كان هاهنا وكان يذكرك وقد خرج فخرج الفتي في أثره فلحقه على مرحلتين أو ثلاث من الرقة ، فقال يا فتي عبد الله بن المبارك يقول للفتي أين كنت ـ شف ـ عبد الله يتصانع ـ رضي الله عنه ـ أنه ما علم عن حال الفتى فقال عبد الله بن المبارك يا فتي أين كنت لم أرك في الخان قال نعم يا أبا عبد الرحمن كنت محبوس بدين وقال وكيف كان سبب خلاصك قال جاء رجل وقضى ديني ولم أعلم به حتى أُخْرِجْتُ من الحبس فقال له عبد الله يا فتى احمد الله على ما وفق إليك من قضاء دينك فلم يخبر ذلك الرجل أحدا إلا بعد موت عبد الله.(/34)
والأخفياء والعبادة ؛ففي الصلاة مثلا قالت امرأة [حسان بن سنان] كان يجئ أي حسان فيدخل معي في فراشي ثم يخادعني كما تخادع المرأة صبيها فإذا علم أني نمت سل نفسه فخرج ثم يقوم يصلي ثم يقوم فيصلي قالت فقلت له يا أبا عبد الله كم تعذب نفسك كم تعذب نفسك ارفق بنفسك فقال اسكتي ويحك فيوشك أن أرقد رقدة لا أقوم منها زمانا وعن[ بكر بن ماعز] قال ما رؤي الربيع متطوعا في مسجد قومه قط إلا مرة واحدة وفي الصيام فمن أعجب المواقف ما ذكره الذهبي في السير قال قال الفلاس سمعت ابن أبي علي يقول صام [داود بن أبي هند] صام داود بن أبي هند أربعين سنة لا يعلم به أهله لا يعلم به أهله كان خزازا يحمل معه غداءه فيتصدق به في الطريق ، فيتصدق به في الطريق وكان بعضهم إذا أصبح صائما اِدَّهَن ومسح شفتيه من دهنه حتى ينظر إليه الناظر فلا يراه أنه صائم وفي قراءة القرآن ذكر ابن الجوزي في صفة الصفوة عن سفيان قال أخبرتني مرية [الربيع بن خذيم] قالت كان عمل الربيع كله سرا إن كان لا يجيء الرجل وقد نشر المصحف فيغطيه بثوبه إذا قدم الرجل على الربيع قام الربيع فغطى المصحف بثوبه حتى لا يري الرجل أنه يقرأ القرآن.(/35)
أما الأخفياء والبكاء ؛فقال [محمد بن واسع] لقد أدركت رجالا كان الرجل يكون رأسه مع رأس امرأته على وسادة واحدة قد بَلَّ ما تحت خده من دموعه ، قد بل ما تحت خده من دموعه لا تشعر به امرأته ويقول رحمه الله تعالى إن كان الرجل ليبكي عشرين سنة وامرأته معه لا تعلم ولقد أدركت رجالا يقوم أحدهم في الصف فتسيل دموعه على خده ولا يشعر به الذي إلى جنبه ولا يشعر به الذي إلى جنبه وذكر الذهبي في السير عن [حماد بن زيد] رضي الله تعالى عنه ورحمه قال كان [أيوب السختياني] في مجلس فجاءته عَبْرَة فجعل يمتخط ويقول ما أشد الزكام ما أشد الزكام يظهر رحمه الله تعالى أنه مزكوم لإخفاء البكاء هكذا كان حرصهم على هذه الصفة ، صفة الخفاء في الأعمال تلك الصفة التي عشقوها رحمهم الله تعالى فإذا فشل أحدهم في إخفاء دمعته أو بكائه أو اصطناع المرض لإخفاء هذه الدمعة كان يقوم من مجلسه مباشرة خشية أن يكشف أمره وذكر ذلك الإمام أحمد في كتابه الزهد يوم قال إن كان الرجل ، إن كان الرجل ليجلس المجلس فتجيئه عبرته فيردها فإذا خشي أن تسبقه قام ، فإذا خشي أن تسبقه قام واسمع لهذه القصة العجيبة الغريبة ، ووالله لقد أدهشتني هذه القصة واسمع لها يا أخي الحبيب وهي قصة طويلة فسر مع أحداثها وفصولها واسمع عن [محمد بن المنكدر] وقد ذكر هذه القصة ابن الجوزي في صفة الصفوة وذكرها أيضا الذهبي في سير أعلام النبلاء عن محمد بن المنكدر وفي ترجمته قال أي محمد بن المنكدر كانت لي سارية في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أجلس أصلي إليها الليل فقحط أهل المدينة سنة فخرجوا يستسقون فلم يسقوا فلما كان من الليل صليت عشاء الآخرة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم جئت فتساندت إلى ساريتي فجاء رجل أسود تعلوه صُخْرَةٍ متزر بكساء وعلى رقبته كساء أصغر منه فتقدم إلى السارية التي بين يدي وكنت خلفه فقام فصلى ركعتين ثم جلس فقال أي رب أي رب خرج أهل حرم نبيك يستسقون فلم تسقهم فأنا أقسم عليك لما سقيتهم فأنا أقسم عليك لما سقيتهم يعني إلا أن تسقيهم يقول ابن المنكدر فقلت مجنون فقلت مجنون قال فما وضع يده حتى سمعت الرعد ثم جاءت السماء بشيء من المطر أهمني الرجوع إلى أهلي يعني كثرة المطر أهمني الرجوع إلى أهلي فلما سمع المطر حمد الله بمحامد لم أسمع بمثلها قط قال ثم قال ومن أنا وما أنا حيث استجبت لي ولكن عدت بحمدك وعدت بقولك ثم قام فتوشح بكسائه الذي كان متزرا به وألقى الكساء الآخر الذي كان على ظهره في رجليه ثم قام فلم يزل قائما يصلي حتى إذا أحس الصبح سجد وأوتر وصلى ركعتين الصبح ثم أقيمت صلاة الصبح فدخل في الصلاة مع الناس ودخلت معه فلما سلم الإمام قام فخرج وخرجت خلفه حتى انتهى إلى باب فلما كانت الليلة الثانية صليت العشاء في مسجد رسول الله ثم جئت إلى ساريتي فتوسدت إليها وجاء فقام فتوشح بكسائه وألقى الكساء الأخر الذي كان على ظهره في رجليه وقام يصلي فلم يزل قائما حتى إذا خشي الصبح سجد ثم أوتر ثم صلى ركعتي الفجر وأقيمت الصلاة فدخل مع الناس في الصلاة ودخلت معه فلما سلم الإمام خرج من المسجد وخرجت خلفه فجعل يمشي وأتبعه حتى دخل دار عرفتها من دور المدينة ورجعت إلى المسجد فلما طلعت الشمس وصليت خرجت حتى أتيت حتى أتيت الدار فإذا أنا به قاعد يخبز وإذا هو إسكافي يعني يرقع الأحذية فإذا هو إسكافي فلما رآني عرفني وقال أبا عبد الله مرحبا أبا عبد الله مرحبا ألك حاجة تريد أن أعمل لك خُفَّاً تريد أن أعمل لك خفا فجلست فقلت ألست صاحبي بارحة الأولي ألست صاحبي بارحة الأولي فاسود وجهه فاسود وجهه وصاح بي وقال ابن المنكدر ما أنت وذاك ما أنت وذاك قال وغضب قال وغضب قال ففرقت والله منه أي خفت والله من غضبه وقلت أخرج من عنده الآن أخرج من عنده الآن فلما كان في الليلة الثالثة صليت العشاء الآخرة في مسجد رسول الله ثم أتيت ساريتي فتساندت إليها فلم يجئ فلم يجئ فقلت إنا لله ما صنعت إنا لله ما صنعت فلما أصبحت جلست في المسجد حتى طلعت الشمس ثم خرجت حتى أتيت الدار التي كان فيها فإذا باب البيت مفتوحٌ وإذا ليس في البيت شيء فقال لي أهل الدار يا أبا عبد الله ما كان بينك وبين ، ما كان بينك وبين هذا أمس قلت ماله قالوا لما خرجت من عنده أمس بسط كساءه في وسط البيت ثم لم يدع في بيته جلدا ثم لم يدع في بيته جلدا ولا قالبا إلا وضعه في كساءه ثم حمله ثم خرج فلم ندر أين ذهب فلم ندر أين ذهب يقول ابن المنكدر فما تركت في المدينة دارا أعلمها إلا طلبته فيها فلم أجده رحمه الله فلم أجده رحمه الله خشية أن يفتضح عمله ولأجل أنه عرف خرج من المدينة كلها فهو يريد أن يكون السر بينه وبين الله يا أخي الحبيب يا أختي المسلمة أترك لكم هذه القصة العجيبة أتركها لكم لتعيشوا معها ولتقفوا معها وانظروا إليها وانظروا إلى أنفسكم لنري من أنفسنا عجبا وذكر الذهبي في السير بإسناده إلى [جبير بن نفيل ]أنه سمع أبي(/36)
الدرداء وهو في آخر صلاته وقد فرغ من التشهد يتعوذ بالله من النفاق أبو الدرداء يتعوذ بالله من النفاق فأكثر التعوذ فقال له جبير وما لك يا أبي الدرداء أنت والنفاق وما لك يا أبي الدرداء أنت والنفاق فقال أبو الدرداء دعنا عنك دعنا عنك فوالله إن الرجل ليقلب عن دينه في الساعة الواحدة فيخلع منه فيخلع منه فقال الذهبي إسناده صحيح.
أما الأخفياء والجهاد ؛فقد ذكر الذهبي أيضا عن [أبي حاتم الرازي] قال حدثنا [عبدة بن سليمان المروزي] قال كنا سرية كنا سرية مع ابن المبارك في بلاد الروم فصادفنا العدو فلما التقي الصفان خرج رجل من العدو فدعا إلى البِراز خرج رجل من العدو فدعا إلى البِراز فرج إليه رجل فقتله ثم آخر فقتله ثم آخر فقتله ثم دعا إلى البِراز فخرج إليه رجل من المسلمين فطارده ساعة فطعنه فقتله أي الرجل من المسلمين قتل وطعن الرجل من العدو فقتله فازدحم إليه الناس فنظرت فإذا هو عبد الله بن المبارك فنظرت فإذا هو عبد الله بن المبارك وإذا هو يكتم وجهه بكمه فأخذت بطرف كمه فمددته فإذا هو هو فإذا هو هو فقال أي عبد الله بن المبارك لعبدة بن سليمان المروزي وأنت يا أبا عمر ممن يشنع علينا وأنت يا أبا عمر ممن يشنع علينا يعني يفضحنا ، وعن [عبيد الله بن عبد الخالق] قال سبى الروم نساء أو نساء مسلمات فبلغ الخبر الرقة وبها [هارون الرشيد ] أمير المؤمنين فقيل [لمنصور بن عمار] أحد العلماء لو اتخذت مجلسا بالقرب من أمير المؤمنين فحرضت الناس على الغزو ففعل منصور بن عمار وبينما هو يذكر الناس ويحرضهم يقول إذ نحن في خرقة مصرورة مختومة قد طرحت إلى منصور بن عمار وإذ بكتاب مضموم إلى الصرة ففك الكتاب فقراءه فإذا فيه إني امرأة من أهل البيوتات إني امرأة من أهل البيوتات من العرب بلغني ما فعل الروم بالمسلمات وسمعت تحريضك الناس على الغزو وترغيبك في ذلك فعمدت إلى أكرم شيء من بدني وهما ذؤابتَي يعني جديلتَي فعمدت إلى أكرم شيء من بدني وهما ذؤابتَي فقطعتهما وصررتهما في هذه الخرقة المختومة وأناشدك بالله العظيم لما جعلتهما قيد فرسٍ غازٍ في سبيل الله فلعل الله العظيم أن ينظر إليَّ على تلك الحال فينظر إلي نظرة فيرحمني بها فيرحمني بها قال فبكى منصور بن عمار وأبكي الناس وأمر هارون أن ينادي بالنفير فغزا بنفسه فأنكى بالروم وفتح الله عليهم وقد كان عبد الله بن المبارك يردد هذه الأبيات دائما يقول
كيف القرار وكيف يهدأ مسلمٌ
والمسلمات مع العدو المعتدي
الضاربات خدودهن برنةٍ
الدعيات نبيهن محمدِ
القائلات إذا خشين فضيحةً
جهد المقالة ليتنا لم نولدِ
ما تستطيع وما لها من حيلة
إلا التستر من أخيها باليد
أسوق هذا الموقف لنسائنا الصالحات لينظرن أن المرأة المسلمة إذا أخلصت لله وكان همها العمل لله فإنها دائماً تبحث عن العمل أياً كان هذا العمل لا يقف أمامها ذلك السؤال ماذا أعمل وماذا أفعل وماذا بيدي أن أصنع فإن من أهتم لأمر عمل وفكر بالعمل ووجد ماذا يعمل هذه المرأة علمت وسمعت واهتمت واحتار قلبها فما كان منها إلا أن قدمت جديلتيها أكرم شيء في بدنها حتى يصنع من هاتين الجديلتين قيد لفرسٍ غازٍ في سبيل الله وأقول ماذا قدمتي أيتها المسلمة للمسلمات وأنتي تسمعين الروم الآن كيف يفعلون بهن وماذا قدمت يا أخي الحبيب وماذا فعلنا وماذا فعلتي للمسلمين في كل مكان والروم وغيرهم ترون وتسمعون بل وعلى مسامع العالم كله ماذا يُفْعَلُ بالمسلمات .(/37)
والأخفياء والعلم ؛فقد جاء في ترجمة [الإمام الماوردي] رحمه الله تعالى كما ذكر ذلك [ابن خلكان] في كتاب وفيات الأعيان قال أن الماوردي لم يظهر شيئاً من تصانيفه في حياته لم يظهر شيئاً من تصانيفه في حياته وإنما جمعها كلها في موضع فلما دنت وفاته قال لشخص يثق إليه الكتب التي في المكان الفلاني كلها تصنيفي وإن عاينت الموت ووقعت في النزع فاجعل يدك في يَدَيّ أو في يَدِي فإن قبضت فإن قبضت عليها وعثرتها فاعلم أو فاعلم أنه لم يقبل مني شيء منها فاعمد إلى الكتب وألقها في نهر دجلة ليلا وألقها في نهر دجلة ليلا وإن بَسَطْتُ وإن بسطت يدي ولم أقبض على يدك فاعلم أنها قبلت وإني قد ظفرت بما كنت أرجوه من النية الخالصة قال ذلك الشخص فلما قارب الموت وضعت يدي في يده فبسطها ولم يقبض على يدي فعلمت أنها علامة القبول فأظهرت كتبه بعده وقبله كان [الإمام الشافعي] رحمه الله تعالى يقول وددت أن الناس تعلموا هذا العلم ولا ينسب إليَّ شيءٌ منه أبدا فأوجر عليه ولا يحمدوني فأوجر عليه ولا يحمدوني فالإمام الشافعي رحمه الله تعالى يظن أن حمد الناس له منقصة في الأجر ونقصا في صفة الخفاء تلك الصفة التي عشقت منهم رحمهم الله تعالى وينقل الذهبي أيضا في السير قول [هشام الدستوائي] واسمع لهذا القول يقول هشام والله ما أستطيع أن أقول إني ذهبت يوماً قط أطلب الحديث أريد به وجه الله عز وجل سبحان الله القائل هشام الدستوائي والله ما أستطيع أن أقول إني ذهبت يوماً قط أطلب الحديث أريد به وجه الله عز وجل يقول الذهبي معلقا على هذا الكلام والله ولا أنا والله ولا أنا فقد كان السلف يطلبون العلم لله فنبلوا وصاروا أئمة يقتدى بهم وطلبه قوم منهم أولا لا لله وحصلوه ثم استفاقوا وحاسبوا أنفسهم فجرهم العلم إلى الإخلاص في أثناء الطريق إلى آخر كلامه الجميل في السير في الجزء السابع صفحة 5اثنين وخمسين ومائة لمن أراد أن يرجع إليه فإذا كان هذا كلام هشام وكلام الذهبي رحمهم الله تعالى ورضي عنهما فماذا يقول إذاً طلاب العلم اليوم بل ماذا يقول المتعالمون أمثالنا في مثل هذه المواقف منهم رحمهم الله تعالى ويصل الخفاء منتهاه عند [أبي عبد الله البخاري محمد بن إسماعيل البخاري] رحمه الله تعالى ورضي عنه قال [محمد بن منصور] كنا في مجلس أبي عبد الله البخاري فرفع إنسان قذاة من لحيته وطرحها إلى الأرض يعني في المسجد وطرحها إلى الأرض فرأيت البخاري ـ انظر لحركة البخاري ـ فرأيت البخاري ينظر إليها إلى القذاة وينظر إلى الناس فلما غفل الناس عنه رأيته مد يده فرفع القذاة من الأرض فأدخلها في كمه فلما خرج من المسجد رأيته أخرجها وطرحها إلى الأرض سبحان الله حتى القذاة وإخراجها من المسجد كانوا يريدون إخفاءها بدقة رحمهم الله تعالى ورضي الله عنهم هذه المواقف وهذه الصور من حياة أولئك الأعلام وحياة أولئك الأخفياء الذين حرصوا أن يكون لهم خبيئة من عمل، الذين حرصوا أن يكون بينهم وبين الله أسرار وأسرار وتلك الأعمال هي المنجية يوم أن تقدم على الله جل وعلا فتكشف الأعمال وتكشف الصحف فإذا الصحف مليئة بتلك الأعمال وتلك الأسرار بينك وبين الله عز وجل والقصص وهذه الصور ليست لمجرد القص أيها الأخ الصالح وليست لمجرد الحديث بل هي للعبرة والعظة يا أخي الحبيب أنت تجلس في المجالس وتتحدث مع الآخرين ما بال مجالسنا في هموم الدنيا وملذاتها أو في الغيبة والنميمة والكلام عن فلان وعلان يا أختي المسلمة لنعلم مثل هذه المواقف ولنحفظ شيئا منها وإن كان قليلا ولنملأ مجالسنا بذكرها حتى يعلم الناس حقيقة هذه الأمور ويرتبط الناس وترتبط قلوبهم بقلوب أولئك الرجال فيتخرج الأجيال من مدارسهم رحمهم الله تعالى بالنظر إلى سيرهم وأحوالهم .(/38)
الأخفياء في كلمات: قال ابن المبارك رحمه الله تعالى ما رأيت أحدا ارتفع مثل [مالك] ليس له كثير صلاة ولا صيام إلا أن تكون له سريرة إلا أن تكون له سريرة إذاً فالقضية ليست قضية كثرة صيام ولا صلاة وإنما بالإخلاص والإخفاء لهذه الأعمال وقال [ابن وهب] ما رأيت أحداً أشد استخفاء بعمله من [حيوة بن شريح] وكان يعرف بالإجابة أي بإجابة الدعاء وقال [يوسف بن الحسين] أعز شيءٍ في الدنيا الإخلاص وكم أجتهد في إسقاط الرياء عن قلبي فكأنه ينبت على لون آخر فكأنه ينبت على لون آخر واسمع لقوله رحمه الله وكم أجتهد في إسقاط الرياء عن قلبي فالاجتهاد في البعد عن الرياء والتسميع وقال لمحمدة الناس وثنائهم أمر كانوا يعانون منه رحمهم الله تعالى وقال ابن القيم أنفع العمل أن تغيب فيه عن الناس بالإخلاص وعن نفسك بشهود المنة فلا ترى فيه نفسك ولا ترى الخلق وقال الأخفياء رحمهم الله تعالى وصاحوا بملء أفواههم بملء أفواههم لمن لا يخلص نيته ولمن غفل عن هذا الأمر صاحوا بقولهم كما يقول [ مالك بن دينار] قولوا لمن لم يكن صادقا قولوا لمن لم يكن صادقا لا يتأنى لا يتعنى فقولوا أيها الأحبة لمن لم يكن صادقاً بعمله لله جل وعلا ومخلصاً لعمله لله سبحانه وتعالى لا يتعنى لا يتعب نفسه قد رأيتم وسمعتم أولئك الثلاثة وتلك الطاعات العظيمة التي أصبحت وبان على أصحابها فكانوا أول ثلاثة يسعر بهم النار يوم القيامة والعياذ بالله فقولوا ورددوا وصيحوا بأعلى أصواتكم لمن لم يكن صادقا في عمله وفي دعوته وفي أفعاله كلها لا يتعنى ، لا يتعب نفسه ثم أخيراً :
ما هو الطريق للوصول إلى حياة الأخفياء ما هو العلاج والوصول لطريق الأخفياء رحمهم الله تعالى ألخصه بالنقاط السريعة التالية:
أولاً: الدعاء والإلحاح فيه ومواصلة هذا الدعاة وتحري ساعات الإجابة وأهمه الاستمرار في الدعاء ،الإلحاح والاستمرار في الدعاء لا تمل ولا تكل ولذلك قال صلى الله عليه وآله وسلم وعلمنا بذلك الحديث الذي يذهب عنا كبار الشرك وصغاره عندما قال "الشرك فيكم أخفى من دبيب النمل وسأدلك على شيء إذا فعلته أذهب عنك صغار الشرك وكباره تقول اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم وأستغفرك لما لا أعلم" وأستغفرك لما لا أعلم احفظ هذا الدعاء وكرره كثيرا واسأل الله بصدق أن يرزقنا الصدق والإخلاص في الأقوال والأفعال.
ثانيا: الإكثار من مصاحبة المخلصين الناصحين الصادقين إن وجدت عليهم في هذا الزمن فَعِض عليهم النواجذ وإن لم تجد فالجأ لحياة الأخفياء والجأ لمصاحبة المخلصين من السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم بقراءة أحوالهم والنظر في الكتب والتراجم للإطلاع على تلك الأحوال ولا شك أن القلب فيه حياة بالنظر لحياة أولئك.
ثالثا: معرفة عظمة الله تعالى معرفة الله من خلال أسماءه وصفاته أعرف من تعبد واعرف لمن تعمل واعرف عظمة الله جل وعلا واملأ قلبك بتوحيد الأسماء والصفات تطبيقاً عملياً حتى تعظم الله وقديما قالوا من كان بالله أعرف كان لله أخوف ومن عظم الناس خاف من الناس وعمل للناس وسمع للناس وطلب ثناء الناس ومحمدة الناس ولكن الله هو الذي سيجازيك وهو الذي يحاسبك.
رابعا: أحرص أن يكون لك خبء من عمل أحرص دائما أن يكون لك سر بينك وبين الله جل وعلا لا يعلمه أحد من الناس إن استطعت حتى ولا زوجك حتى ولا زوجك إن استطعت أن تفعل عملا بينك وبين الله لا يعلم عنه أقرب الأقربين إليك فلا شك أن هذه الأعمال هي المنجية يوم تسود وجوه وتبيض وجوه.
خامسا: دائماً كن خائفا من الله دائما كن خائفاً على عملك ألا يُقْبَلَ ، دائماً كن خائفاً أن يخالط هذا العمل رياءً أو سمعةً مع الانتباه لذلك التنبيه المهم الذي أشرنا إليه في أثناء الموضوع وقد تقدم الكلام عن ذلك وأخشى أن تقدم على الله جل وعلا بتلك الأعمال الكثيرة والأقوال الكثيرة فتكون ممن قال الله عز وجل فيهم (وقدمنا إلى ما عملوا من عملٍ فجعلناه هباءً منثورا) عافانا الله وإياك من حال أولئك.
وسادسا وأخيراً: تذكر ثمرات الإخلاص تذكر هذه الثمرات تذكر حلاوة القلب تذكر حب أهل السماء للمخلص تذكر ***القبول له في الأرض وتذكر محبة الناس له وطمأنينة القلب وحسن الخاتمة واستجابة دعائه والنعيم له في القبر وفي الآخرة نسأل الله جل وعلا نعيم جنات الفردوس ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا إخلاصاً يخلصنا يوم أن نقف أمام الله سبحانه وتعالى ونستغفر الله ونتوب من أحوالنا ومن تقصيرنا واللهم إنا نعوذ بك أن نشرك بك شيئاً ونحن لا نعلم ونستغفرك ونحن نعلم ونستغفرك مما لا نعلم وسبحانك اللهم وبحمدك نشهد ألا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك .
**********************(/39)
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ـ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين ـ أما بعد …
أيها الأحبة في الله ….
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته هذه أو ليلة السبت الموافق الحادي عشر من الشهر السادس للعام السادس عشر بعد الأربعمائة والألف وموضوع هذا اللقاء بعنوان المحرومون وعفواً أيها الأحبة، وأعتذر أيضاً للأخوات فلا نجزع من كلمة محروم بالرغم من قسوتها فالكثير منّا يشعر بالحرمان وينال الإنسان من الحرمان بقدر بعده عن طاعة الله وسأوجه خطابي إلى المحرومين وسأنادي المحرومين كثيراً ، فلا نجزع فقد يكون المحروم أنا وقد تكون أنت وقد يكون فلاناً أو فلانة وقد نكون جميعاً ، فالحرمان يتفاوت من شخص لآخر ويختلف باختلاف الأحوال والأشخاص فقد تحرم الراحة والسعادة وقد تحرم لذة السجود والركوع وقد تحرم قراءة القرآن أو تدبر آياته وقد تحرم كثرة الذكر والاستغفار وقد تحرم لذة الخشوع والبكاء من خشية الله وقد تحرم بر الوالدين والأنس بهما وقد تحرم لذة الأخوة في الله وقد تحرم السعادة الزوجية وقد تحرم أكل الحلال ولذته وقد تحرم التوبة والندم على ما فات وقد تحرم حسن الخاتمة .
فيا أخي الحبيب … ويا أختي الغالية قد نحرم هذه الأمور كلها وقد نحرم الكثير منها وقد نحرم القليل. والسعيد من جمعها ووفق إليها وقليل ما هم فإن كنت منهم فاذكر نعمة الله عليك واشكره واعلم أن من تمام شكره النصح والتوجيه للمسلمين فلا تحرم نفسك أجر التبليغ فالدال على الخير كفاعله ، إذن فقد يصيبك من الحرمان ولو القليل ، فاحتمل خطابي واحتمل مناداتي لك بيا أيها المحروم فإنما قصدت بها الشفقة والرحمة والحب والنصح وأعوذ بالله أن أكون من الشامخين فأنا أول المحرومين . أسأل الله ـ عز وجل ـ أن يحيينا حياة طيبة وأن يتوب علينا توبة صادقة .
كثير ممن ظاهرهم الصلاح محرومون فهم لم يذوقوا حلاوة الإيمان ولا حقيقة الهداية والاستقامة فليست الاستقامة أشكالاً ومظاهر بل هي أعمال وسرائر وأنتم أنتم أيضاً يا أصحاب المناصب وأهل المال والتجارة ويا كل مهندس وطبيب وكاتب أقول لكم جميعاً أحسنتم يوم ساهمتم وعملتم ونجحتم ولا شك أنكم جميعاً من صناع الحياة ومن أصحاب الأيادي البيضاء لكن ما هو رصيدكم من السعادة والراحة وانشراح الصدر ؛ ما حقيقة الصلة بينكم وبين الله ، ما هو نصيبكم من حلاوة الإيمان ولذة السجود والمناجاة ولذة الدمعة من خشية الله ـ عز وجل ـ إذن فقد يكون لكم نصيب من الحرمان فاسمعوا يا رعاكم الله هذه الكلمات ، وإذا كان هذا هو واقع بعض الصالحين والجادين العاملين فكيف بحال الغافلين اللاهين؟ فمن الناس ، من كسب الدنيا والآخرة نسأل الله ـ عز وجل ـ أن نكون منهم ـ ومنهم من كسب الدنيا وضيع الآخرة ومنهم من ضيع الدنيا والآخرة ـ، هؤلاء هم المحرومون حقا يحدثني أحدهم أنه لم يركع لله ركعة ولم يشعر بلذة الصيام يوماً من الأيام وأنه لا يعرف عن رمضان سوى السهر والمعاكسات والنوم بالنهار ، ويهمس لي آخر عن أحواله وأحوال أصحابه وجلساتهم في الليل وما يدور فيه من الخنا والفساد والضياع ، وقال آخر إنه يجلس الساعات بل الليالي ينتقل من قناة إلى قناة لقضاء الفراغ وقتل الوقت كما يقول عن نفسه والحق أنني أبحث عن الشهوة وتلبية رغبات النفس الأمّارة فإذا انتهت شعرت بندم وضيق وهم لا يعلمه إلا الله ، ولا أدري إلى متى سأظل على هذه الحال من قتل العمر وتضييع الأيام يقول أضعت نفسي ورجولتي وإيماني ووظيفتي وباختصار إنني أعيش في دوامة التعاسة والشقاء ، وإن كنت في الظاهر في سعادة وهناء إلى آخر ما قال..(/40)
قلت في نفسي صدق الله يوم أن قال: (ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً) ويصارحني آخر ودمعته تسيل على خده فيقول : إنكم مسئولون عنا أمام الله أدركوا الشباب ؛مخدرات، أفلام، معاكسات ، سهر وغنى ولواط وزنا ثم يجهش بالبكاء هذه حاله والله العظيم ثم يجهش بالبكاء ويضع وجهه بين يديه و هو يقول لقد فكرت بالانتحار عدداً من المرات وكتب أحدهم إلي رسالة طويلة قال في مقدمتها: قضية الشباب قضية كبيرة ومهملة وللأسف ، مهملة من الجميع ، إلا ما شاء الله فلا أدري من أين أبدأ في مشاكلهم المعاصرة هل أبدأ بتضييعهم لأوقاتهم أو لأموالهم أو لأنفسهم أو لأمتهم ثم عدد بعض أسرار الشباب إلى أن قال هذا فيض من غيض مما يدور في أوساط الشباب من الفساد والإفساد فضلاً عن حلق اللحى وسماع الغناء وإسبال الثياب وتبادل الأشرطة والأفلام المدمرة وشرب الدخان ولعب الورق وتبادل أرقام الهواتف وسباب ولعان وغيبة ونميمة وكذب ناهيك عن ترك الصلاة وإني لمقامي هذا ـ والكلام ما زال له ـ وإني لمقامي هذا بعد إذ نجاني الله من شبكة أعداء الإسلام التي ينصبونها لأبناء هذه الأمة وليس الخبر كالمعاينة أقول هذا واقع الشباب فاذهبوا وشاهدوا العجائب إلى آخر رسالته .
وحدثتني بعض الأخوات فتبين لي العجب من الضياع والحرمان الذي تعيشه بعض بنات المسلمين وللأسف تقول إحداهن وقد كانت غافلة عابدة بالهاتف: أنا أعيش في محنة كبيرة شديدة لا يعلمها إلا الله فأنام وأصحو وأنا أبكي وقلبي يكاد يتقطع أحس أن الدنيا ضيقة أبكي في كل وقت وأخاف أن يكون هذا الإحساس بضيق الدنيا قنوطاً أو يأساً من رحمة الله وأنا لا أريد ذلك ـ تقول ـ فأنا أريد أن أحقق صدق توبتي بالصبر والثقة بالله والتوكل عليه والاستعانة به والثقة بأنه سينجيني من تلك المعصية ويغفر لي ويعوضني خيراً ، وحتى لحظة كتابتي هذه الكلمات أبكي من شدة ما أجد من ألم وتعب وضيق لأن كل شيء يذكرني بالماضي ولا أجد الراحة والاطمئنان إلا في الصلاة والدعاء وتلاوة القرآن ، وهذه من الصعوبات التي تواجهني في هذه الفترة وأسأله تعالى أن يغفر ذنوبي فقد فرطت في جنب الله وتهاونت في المعصية.. إلى أن قالت: كنت أقول في نفسي أمعقول أن يوجد من يتوب ويرجع إلى الله بسبب محاضرة واحدة أو شريط واحد أو موقف بسيط ؟ فالحمد لله وأسأله ألا يزيغ قلبي بعد إذ هداني.
وقد هداها الله بسبب حضورها لمحاضرة لإحدى الأخوات بكلياتها إلى آخر قصتها من رسالة لطيفة بعنوان: دموع ساخنة من فتاة عائدة. فأهدي هذا الموضوع المحرومون أهديه إلى المحرومين من نعمة الإيمان الفاقدين حلاوته وأُنسه وطعمه أهديه إلى المحرومين من لذة الدمعة والبكاء خشية وخوفا من الله أهديه إلى المحرومين من لذة السجود ومناجاة علام الغيوب، إلى المحرومين من لذة قراءة القرآن وتدبر آياته وتذوق معانيه إلى المحرمين من لذة الأخوة والحب في الله ، إلى المحرمين من بركة الرزق وأكل اللقمة الحلال إلى المحرومين من بركة العمر وضياعه في الشهوات واللذات ، إلى المحرومين من انشراح الصدر وطمأنينته وسعادته إلى المحرومين من بر الوالدين والأنس بهما ، والجلوس إليهما وجماع ذلك كله أقول أهدي هذا الموضوع إلى المحرومين من الاستقامة والطاعة والالتزام إلى أولئك الذين أصابهم اليأس والشكوك واستبد بهم الأسى والشقاء واجتاحهم القلق والظلام ونزلت بهم الهموم والغموم إلى الذين حرموا زاد الإيمان ونور الإسلام إلى البائسين ولو عاشوا في الرغد والنعيم ، إلى الذين حرموا نعمة الإيمان لقد فقدتم كل شيء وإن وجدتم المال والجاه إلى الذين حرموا لذة الاطمئنان وبرد الراحة لقد فقدتم كل شيء وإن ملكتم الدنيا بأسرها إلى الذين حرموا السعادة والأنس وأضاعوا الطريق ، إلى أولئك جميعاً أقول اسألوا التائبين يوم ذاقوا طعم الإيمان يوم اعترفوا بالحقيقة والله والله ثم والله ما رأيت تائباً إلا وقالها ولا نادماً إلا وأعلنها صرخات مدوية وزفرات مذنب وآهات نادم اختصروها بكلمات قالوا نشعر بالسعادة لحظات وقت الشهوة فقط وعند الوقوع بالمعصية واللذة وبعدها قلق وحيرة وفزع واضطراب وضياع وظلام وشكوك وظنون وبكاء وشكوى عُقد وأمراض نفسية ، وصدق الله ـ عز وجل ـ يوم قال: (فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا يضل ولا يشقى) ، إذن فهو في أمان من الضلال والشقاء متى بالهداية بالاستقامة باتباع هدى الله.
والشقاء ثمرة الضلال ولو كان صاحبه غارقاً في متاع الدنيا بأسرها ، فما من متاع حرام ، إلا وله غصة تعقبه وضيق يتبعه ولذلك قال الله عز وجل ، بعد هذه الآية مباشرة (ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً) ، أي في الدنيا فلا طمأنينة له ولا انشراح لصدره بل صدره ضيق حرج لضلاله وإن تنعم ظاهره ولبس ما شاء وأكل ما شاء وسكن حيث شاء فإن قلبه ما لم يخلص إلى اليقين والهدى فهو في قلق وحيرة وشك فلا يزال في ريبة يتردد فهذا من ضنك المعيشة انتهى كلامه رحمه الله .(/41)
فإلى المحرومين ، لماذا أعرضتم عن ذكر الله لماذا حرمتم أنفسكم سماع المواعظ ومجالس الذكر ، تدعون فلا تأتون ، وتنصحون فلا تسمعون تغفلون أو تتغافلون بل ربما تسخرون وتهزءون ولكن اسمعوا النتيجة اسمع للنهاية المرة اسمعي للنهاية التي لابد منها قال الحق ـ عز وجل ـ (ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً) هذا في الدنيا أما في الآخرة ، (ونحشره يوم القيامة أعمى قال ربي لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً قال كذلك أتتك آياتنا فننسيها وكذلك اليوم تنسى) فنسيتها أعرضت عنها أغفلتها تناسيتها إذن فالجزاء من جنس العمل وكما تدين تدان ، وكذلك اليوم تنسى ، (فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا إنا نسيناكم) (نسوا الله فنسيهم إن المنافقين هم الفاسقون).
أيها المحرومون لماذا نسيتم لقاء ربكم ، لماذا هذا الإعراض العجيب ؟ إنكم حرمتم أنفسكم فحرمتم السعادة والراحة والاستقرار النفسي لماذا نسيتم وتناسيتم ما قدمت أيديكم ، لماذا أغفلتم ولماذا غفلنا عن المعاصي والذنوب ، اسمع لقول الحق ـ عز وجل ـ (ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها ونسى ما قدمت يداه) ونسي ما قدمت يداه، أين النفس اللوامة ؟ أين استشعار الذنب ، أين فطرة الخير ، أين القلب اللين الرقيق ، أين الدمعة الحارة ؟ اسمعوا واعوا ، (إنا أنذرناكم عذاباً قريباً يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ويقول الكافر يا ليتني كنت تراباً) ، يقسم بعض التائبين كما أسلفت أنه ما ركع لله ركعة وما سجد لله سجدة فأي حرمان بعد هذا الحرمان؟!.
عفوك اللهم عنا خير شيء نتمنى
رب إنا قد جهلنا في الذي قد كان منا
وخطينا وخطلنا ولهونا وأسأنا
... ... ... إن يكن ربي خطأنا ما أسأنا بك ظناً
فأنلنا الختم بالحسنى وإنعاماً ومَنّا
أيها المحرمون لا راحة للقلب ولا استقرار إلا في رحاب الله إلا في الهداية إلا في الاستقامة والالتزام بأوامر الله يتصور بعض المحرومين والمحرومات أن الراحة والسعادة في المال والمنصب والسفر إلى الخارج ، ذكرت جريدة الشرق الأوسط بتاريخ الحادي والعشرين من الشهر الرابع للعام الخامس عشر بعد الأربعمائة والألف نقلاً عن مذكرات زوجة الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش قالت إنها حاولت الانتحار أكثر من مرة وقادت السيارة إلى الهاوية تطلب الموت وحاولت أن تختنق للتخلص من همومها وغمومها.
ويذكر التاريخ لنا أن [علي بن المأمون العباسي] ابن الخليفة كان يسكن قصراً فخماً وعنده الدنيا مبذولة ميسرة فأطل ذات يوم من شرفة القصر فرأى عاملاً يكدح طيلة النهار فإذا أضحى النهار توضأ وصلى ركعتين على شاطئ دجلة فإذا اقترب الغروب ذهب إلى أهله فدعاه يوماً من الأيام فسأله فأخبره أن له زوجة وأختين وأما يكدح لهن وأنه لا قوت له ولا دخل إلا ما يكتسبه من السوق وأنه يصوم كل يوم ويفطر مع الغروب على ما يحصل قال ابن الخليفة ، فهل تشكو من شيء ، قال العامل : لا والحمد لله رب العالمين فترك ابن الخليفة القصر وترك الإمرة وهام على وجهه ووجد ميتاً بعد سنوات عديدة وكان يعمل في الخشب جهة خراسان.
فيا سبحان الله من الإمارة إلى النجارة لأنه وجد السعادة في عمله هذا ولم يجدها في القصر.
إن من المحرومين من قال الله عنهم : (فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غياً) ، فأي حرمان بعد إضاعة الصلاة ، أقسم لي شاب أنه لم يسجد لله سجدة ، إلا مجاملة أو حياء فأقول أيها المرحوم إنه الكفر والضلال "إن العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر" كما روى الترمذي والنسائي وأحمد والحاكم وصححه ووافقه الذهبي "إن بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة" كما عند مسلم في صحيحه.
مسكين أنت أيها المحروم يوم أن قطعت الصلة بينك وبين الله إنها مفتاح الكنز الذي يفيض سعادة وطمأنينة إنها اللمسة الحانية للقلب المتعب المكدود إنها زاد الطريق ومدد الروح وجلاء القلوب إن ركعتين بوضوء وخشوع وخضوع كفيلتان أن تنهي كل هذا الهم والغم والكدر والإحباط.(/42)
إن من أسباب السعادة ، أو إن من أسباب سعادة المؤمنين ما أخبر الله عنه بقوله (ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعاً) وقوله : (أمن هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه) ، من أجمل لحظات الدنيا وأسعدها يوم أن يسجد العبد لمولاه يدعوه ويناجيه يخافه ويخشاه قيام وسجود وبكاء وخشوع فيتنور القلب وينشرح الصدر وتشرق الوجوه قال عز وجل: (سيماهم في وجوههم من أثر السجود) ، أما المحروم فظلام في القلب وسواد في الوجه وقلق في النفس هذا في الدنيا ، وفي الآخر ة يقول الله عنهم (يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون) ، حرموا من السجود في الآخرة لأنهم كانوا يدعون له في الدنيا فيتشاغلون ويتكبرون ويسخرون أي فلاح وأي رجاء و أي عيش لمن انقطعت صلته بالله ، أو قطع ما بينه وبين وليه ومولاه الذي لا غنى عنه طرفة عين فلا تعلم نفس ما في هذا الانقطاع من أنواع الآلام وأنواع العذاب ، مسكين أيها المحروم كيف تريد التوفيق والفلاح والسعادة والنجاح وأنت لا تصلي وأنت قد قطعت ما بينك وبين الله اسمع لقوله ـ عز وجل ـ (واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين)، اسمع لقول الحق ـ عز وجل ـ (قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون) سجود المحراب واستغفار الأسحار ودموع المناجاة سيما يحتكرها المؤمنون ولئن توهم المحروم جناته في الدينار والنساء والقصر المنيف فإن جنة المؤمن في محرابه إن من المحرومين من إذا ذكر بالصلاة سخر واستهزأ وفي هؤلاء يقول الحق عز وجل (وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزواً ولعباً) ويقول (إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون) أي في الدنيا (وإذا مروا بهم يتغامزون) ولكن السعيد من يضحك في النهاية ولذلك قال الله (فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون) إن المتهاون في الصلاة حرم خيراً كثيراً فقد قال ـ صلى الله عليه وآله سلم ـ "من حافظ عليها كانت له نوراً وبرهاناً ونجاة يوم القيامة ومن لم يحافظ عليها لم تكن له برهانا ولا نورا ولا نجاة وكان يوم القيامة مع قارون وهامان وفرعون وأبي من خلف" والحديث أخرجه أحمد والدارمي وقال الهيثمي في المجمع رواه أحمد والطبراني في الكبير والأوسط ورجال أحمد ثقات وقال المنذري إسناده جيد قلت فيه رجل لم يوثقه إلا ابن حبان ، أيها المحروم حرمت نفسك أجمل لحظات الدنيا لحظات السجود وتمريغ الجبين للرب المعبود حرمت نفسك أعظم اللذات لذة المناجاة لذة التذلل والخضوع.
إنك تملك أغلى شيء في هذا الوجود تملك كنزاً من كنوز الدنيا الصلوات الخمس الثلث الأخير من الليل ساعات الاستجابة اسأل المصلين الصادقين اسألهم ماذا وجدوا اسألهم ولا تتردد فسيجيبونك بنفوس مطمئنة بنفوس راضية بنفوس ذاقت حلاوة الدنيا وأجمل ما فيها سيقولون أكثر الناس هموماً وغموماً وكداراً المتهاونون المضيعون للصلاة ولكن أبشر أيها الأخ الحبيب فإن الله عز وجل يقول : (إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفوراً رحيماً).
المحرومون من التوبة التائب أعتق نفسه من أسر الهوى وأطلق قلبه من سجن المعصية التائب يجد للطاعة حلاوة وللعبادة راحة وللإيمان طعماً وللإقبال لذة التائب يجد في قلبه حرقة وفي وجهه أسى وفي دمعه أسرار التائب منكسر القلب غزير الدمعة رقيق المشاعر التائب صادق العبارة فهو بين خوف وأمن وقلق وسكينة
اليوم ميلاد جديد وما مضى
... ... موت بليت به بليل داج
أنا قد سريت إلى الهداية عارجاً
... يا حسن ذا الإسراء والمعراج
أيها المحروم تب إلى الله ذق طعم التوبة ، ذق حلاوة الدمعة اعتصر القلب وتألم لتسيل دمعة على الخد تطفئ نيران المعاصي والذنوب اخل بنفسك اعترف بذنبك ادع ربك وقل "اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك عليّ وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ". ابْك على خطيئتك جرب لذة المناجاة اعترف بالذل والعبودية لله تب إلى الله بصدق قل ناج ربك اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم جرب مثل هذه الكلمات جربها كما كان صلى الله عليه وعلى آله وسلم يرددها .(/43)
أيها المحروم . "ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ رسولاً " كما عند مسلم في صحيحه ، اسمع لملك الملوك، اسمع لملك الملوك وهو يناديك أنت اسمع لجبار الأرض والسموات وهو يخاطبك أنت وأنت من أنت اسمع للغفور الودود للرحيم الرحمن وهو يقول (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم) ويقول سبحانه في الحديث القدسي "يا عبادي إنكم تذنبون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفروني أغفر لكم" كما عند مسلم في صحيحه من حديث أبي ذر ويقول الله في حديث قدسي آخر "يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني إلا غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة" ، كما عند الترمذي من حديث أنس وهو صحيح.
إذن فيا أيها المحروم ما هو عذرك ، وأنت تسمع هذه النداءات من رب الأرض والسموات إن أسعد لحظات الدنيا يوم أن تقف خاضعاً ذليلاً خائفاً باكياً مستغفراً تائباً فكلمات التائبين صادقة ودموعهم حارة وهمومهم قوية ذاقوا حلاوة الإيمان بعد مرارة الحرمان ووجدوا برد اليقين بعد نار الحيرة وعاشوا حياة الأمن بعد مسيرة القلق والاضطراب فلماذا تحرم نفسك هذا الخير وهذه اللذة والسعادة فإن أذنبت فتب ، وإن أسأت فاستغفر وإن أخطأت فأصلح فالرحمة واسعة والباب مفتوح.
قال [ ابن القيم] في الفوائد: ويحك لا تحقر نفسك فالتائب حبيب والمنكسر صحيح إقرارك بالإفلاس عين الغنى تنكيس رأسك بالندم هو الرفعة اعترافك بالخطأ نفس الإصابة …. انتهي كلامه رحمه الله.
إذن العبودية لله عزة ورفعة ولغيره ذل مهانة . أيها الحبيب أيتها الغالية إننا نفرح بتوبتك ونسر لرجوعك إلى الله وليس لنا من الأمر شيء
عين تسر إذا رأتك وأختك
تبكي لطول تبعد وفراق
فاحفظ لواحدة دوام سرورها
... ... وعد التي أبكيتها بتلاقي
عدنا للرجوع إلى الله ، عدنا بتوبة صادقة ونحن معك بكل ما تريد ، نسر ونفرح نمدك بأموالنا وأيدينا ودعائنا وليس لنا من الأمر شيء ، إنما هو لنفسك .
ومن المحرومين ، من حرم لذة قراءة القرآن وتدبر آياته والبكاء من خشية الله ، عن [عطاء] قال : دخلت أنا و[عبد بن عمير] على عائشة رضي الله تعالى عنها فقال عبد الله بن عمير حدثينا لأعجب شيء رأيتيه من رسول صلى الله عليه وسلم فبكت وقالت قام ليلة من الليالي فقال "يا عائشة ذريني أتعبد لربي قالت : قلت والله إني لأحب قربك وأحب ما يسرك قالت قام فتطهر ثم قام يصلي فلم يزل يبكي حتى بلّ حجره ثم بكى فلم يزل يبكي حتى بلّ الأرض وجاء بلال يؤذن للصلاة فلما رآه يبكي قال يا رسول الله .. تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ، فقال ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـأفلا أكون عبداً شكوراً ، لقد نزلت علىّ الليلة آيات ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها (إن في خلق السموات والأرض.....)" آخر الآيات من سورة آل عمران . رواه أبو الشيخ ابن حيان في أخلاق النبي ـ صلى الله عليه وسلم ، وإسناده جيد وابن حبان في صحيحه وصححه الألباني.
إذن فمن المحرومين من لم يقرأ القرآن وربما قرأه في رمضان بدون تدبر ولا خشوع اسأل نفسك أيها المحب كم آية تقرأ في اليوم بل كم مرة تقرأ في الأسبوع كم مرة دمعت عيناك وأنت تقرأ القرآن؟(/44)
إن من الناس من لم تدمع عينه مرة واحدة عند سماع أو قراءة آيات القرآن وربما دمعت مراراً ومدراراً عند سماع كلمات الغناء في الحب والغرام والهجر والحرام والعياذ بالله . مساكين الذين ظنوا الحياة كأساً ونغمة ووترا مساكين الذين جعلوا وقتهم لهوا ولعبا وغرورا مساكين الذين حسبوا السعادة أكلا وشربا ولذة.. ليل المحرومين غناء وبكاء، وليل الصالحين بكاء ودعاء ليل المحرمين مجون وخنوع وليل الصالحين ذكر ودموع أيها المحروم من لذة البكاء اعلم أنه متى أقحطت العين من البكاء من خشية الله فاعلم أن قحطها من قسوة القلب وأبعد القلوب من الله القلب القاسي والعياذ بالله فقل يا أيها المحروم قل لنفسك قل لها وآسفا واحسرتاه كيف ينقضي الزمان وينفذ العمر والقلب محجوب محروم ما شم رائحة القرآن دخل الدنيا وخرج وما ذاق أطيب ما فيها بل عاش فيها عيش البهائم وانتقل منها انتقال المفاليس فكانت حياته عجزاً وكسلاً وموته غبناً وكمداً ألم تسمع أيها المحروم ، ألم تسمعي أيتها المحرومة ، لقول النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ "والقرآن حجة لك أو عليك" فأيهما تختار وأيهما تختارين لك أو عليك قال أحد الصالحين أحسست بغم لا يعلمه إلا الله وبهم مخيم فأخذت المصحف وبقيت أتلو فزال عني والله فجأة هذا الهم وأبدلني الله سروراً وحبوراً مكان ذلك الكدر فيا أيها الأخ الحبيب ويا أيتها المسلمة إن هذا القرآن رحمة وهو هدى ونور وشفاء لما في الصدور كما وصفه الله ـ سبحانه وتعالى ـ فاسمع أيها المحروم من قراءة القرآن إن قراءة القرآن بتدبر وتمعن من أعظم أسباب السعادة ومن أعظم أسباب انشراح الصدر في الدنيا والآخرة.
ومن المحرومين من حرم لذة الأخوة في الله حرم الرفقة الصالحة التي تذكره الخير وتعينه عليه إن الجليس الصالح لا تسمع منه إلا كلاماً طيباً أو دعاء صالحاً أو دفاعا عن عرضه فيا أيها المحروم من الأخوة في الله إنك بأمس الحاجة إلى دعوة صالحة وإلى كلمة طيبة إنك بأمس الحاجة إلى من تبث له أشجانك وأحزانك إنك بأمس الحاجة إلى صادق أمين وناصح مخلص إنك بأمس الحاجة إلى أخ يتصف بالرجولة والشهامة أتراك تجد هذه الصفات في صديق الجلسات والضحكات والرحلات والمنكرات . أيها المحب أعد النظر في صداقاتك استعرض أصدقائك واحداً بعد الآخر اسأل نفسك ما نوع الرابط بينكما أهي المصالح الدنيوية أو الشهوات الشيطانية أم هي الأخوة الإسلامية كل أخوة لغير الله هباء وفي النهاية هم أعداء لا شك مر بك قول الحق – عز وجل ـ (الإخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين) ، أيها المحروم من لذة الأخوة في الله راجع صداقاتك قبل أن تقول يوم القيامة (يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلاناً خليلاً ، لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولاً) ، راجع أحباءك وخلانك فإنك ستحشر معهم يوم القيامة فقد قال حبيبك ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ "المرء مع من أحب" فمن أي الفريقين أحباؤك ، من أي الفريقين أحبابك.
قرينك في الدنيا وفي الحشر بعدها فأنت قرين لي بكل مكان
فإن كنت في دار الشقاء فإنني
وأنت جميعاً في شقاء وهوان
أيها المحروم كم كسبت من صفات ذميمة ، وكم خسرت من صفات حميدة ، بسبب أصحابك تقول لماذا أقول لك لأن الطبع سراق وقل لي من تصاحب أقل لك من أنت والنبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ يقول "الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل"
أبل الرجال إذا أردت إخاءهم
وتوسمن أمورهم وتفقد
فإذا وجدت أخ الأمانة والتقى
فبه اليدين قرير عين فاسجد
إن للأخوة في الله حلاوة عجيبة ولذة غريبة لا يشعر بها إلا من وجدها، وفي الصحيح أن النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ قال "ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان ، وذكر منها وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله" وفي الأثر المشهور لولا ثلاث ما أحببت البقاء في الدنيا، وذكر منها ومجالسة اخوة ينتقون أطايب الكلام كما ينتقون أطايب الثمر.
ومن الناس من حرم أكل الحلال ومن ثم حرم إجابة الدعاء ففي صحيح مسلم حديث أبي هريرة قال، قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ "أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال (يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم) وقال (يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم) ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يده إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب له"!!.
كم من الناس حرموا لذة الأكلة الحلال وحرموا بركة المال وحرموا صلاح العيال بسبب أكل الحرام من ربا وغش وخداع وسرقة وحلف كاذب.(/45)
مسكين أنت أيها المحروم ربما أنك تركع وتسجد وترفع يدك بالدعاء فأنى يستجاب لك ، أيها الأخوة أخشى أن نكون من المحرومين ونحن لا نشعر فنحن نرفع أيدينا في الدعاء ونلح على الله فيه وربما سالت الدمعات على الخدين انظر لحال المصلين ، انظر لحال المصلين ودعاء القنوت في رمضان فربما لا نرى أثرا لدعائنا وبكائنا "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم " وقال تعالى : (وما أصابكم من مصيبة فبما كسب أيديكم ويعفو عن كثير) لنراقب أموالنا ولنحرص على أكلنا وشربنا ولبسنا وربما دخلنا من إهمالنا في أعمالنا ووظائفنا فيا أيها المحروم إن لأكل الحلال أثراً عجيباً على القلب وراحته وسعادته إن لأكل الحلال أثراً كبيراً على صلاح الأولاد وبرهم بآبائهم بل إن لأكل الحلال أثراً كبيراً على سعة الرزق ونماء المال فكم من المحرومين بسبب المعاصي والذنوب، ففي المسند من حديث [ثوبان] قال ، قال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ " إن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه " والحديث أخرجه أحمد والنسائي وابن ماجة- وابن حبان والحاكم وصححه فكم من المحرمين بسبب المعاصي والذنوب وانتبه أيها المحب فليس كثرة المال دليلاً على بركته ليس كثرة المال عند بعض الناس دليلاً على بركته بل قد يكون شقاء على صاحبه وكم سمعنا عن من ملك المال والقصور يعيش في تعاسة وهموم وقد قال ـ صلى الله عليه و آله وسلم ـ "إذا رأيت الله ـ عز وجل ـ يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراج ثم تلا قوله عز وجل (فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شئ حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون) "، والحديث أخرجه أحمد والطبري وابن أبي الدنيا في كتاب الشكر وقال الألباني في المشكاة إسناده جيد واسمع لابن القيم رحمه الله وهو يقول عن أثر الذنوب والمعاصي ومن عقوباتها أي المعاصي والذنوب أنها تمحق بركة العمر وبركة الرزق وبركة العلم وبركة العمل وبركة الطاعة وبالجملة تمحق بركة الدين والدنيا فلا تجد أقل بركة في عمره ودينه ودنياه ممن عصى الله وما محقت البركة من الأرض إلا بمعاصي الخلق قال الله تعالى (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ) وقال تعالى ( وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيانهم ماء غدقاً ) فإن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه ...انتهى كلامه رحمه الله ومن الناس من حرم كثرة ذكر الله تهليلاً وتسبيحاً وتحميداً وتهليلاً فلسانه يابس من ذكر الله رطب ببذيء الكلام والسباب واللعان والعياذ بالله إذا أردت أن تعرف شدة الحرمان والخسارة للغافل عن ذكر الله فاسمع لهذه الآيات فاسمع لهذه الأحاديث والربح العظيم فيها فعن أبي هريرة – رضى الله عنه "أن فقراء المهاجرين أتوا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقالوا ذهب أهل الدثور بالدرجات العلا والنعيم المقيم يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم ولهم فضل من أ موال يحجون ويعتمرون ويجاهدون ويتصدقون فقال : ـ صلى الله عليه وآله و سلم ـ : ألا أعلمكم شيئاً تدركون به من سبقكم وتسبقون به من بعدكم ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثلما صنعتم ، قالوا بلى يا رسول الله قال : تسبحون وتحمدون وتكبرون خلف كل صلاة ثلاثاً وثلاثين "قال أبو صالح الراوي عن أبى هريرة لما سئل عن كيفية ذكرهن قال يقول . سبحان الله والحمد لله والله أكبر حتى يكون منهن كلهن ثلاثاً وثلاثين متفق عليه ، وزاد مسلم في روايته "فرجع فقراء المهاجرين إلى ر سول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقالوا سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا ففعلوا مثله فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء" وأهل الدثور هم أهل المال الكثير عنه أبي عن أبي هريرة عن رسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال "من سبح الله في دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين وحمد الله ثلاثا وثلاثين وكبّر الله ثلاثا وثلاثين وقال تمام المائة لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير غفرت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر "والحديث أخرجه مسلم في صحيحه وعن [سعد بن أبي وقاص] رضى الله عنه قال كنا عند رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال "أيعجز أحدكم أن يكسب في كل يوم ألف حسنة فسأله سأل من جلسائه كيف يكسب ألف حسنة قال يسبح مائة تسبيحه فيكتب له ألف حسنة أو يحط عنه ألف خطيئة" والحديث أخرجه مسلم في صحيحه والأحاديث في مثل هذه الفضائل كثيرة جداً ومستفيضة أسألك بالله أليس محروماً من ترك مثل هذه الأذكار فمن منا لا يرغب أن تغفر خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر ومن منا لا يرغب أن يكسب ألف حسنة أو يحط عنه ألف خطيئة ولكن بعض الناس لم يسمع لهذه الأحاديث قط فضلاً على أن يحرص على فضلها أليس هذا من الحرمان ؟(/46)
إنها كلمات قصيرة في أوقات يسيرة مقابل فضائل كثيرة وهى سلاح للمؤمن تحفظه من شياطين الإنس والجن وهى اطمئنان للقلب وانشراح للصدر والله ـ عز وجل ـ يقول ( والذاكرين الله كثيراً والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجراً عظيماً ) ولكن سبق المفردون وتأخر وخسر المحرومون والمفردون هم الذاكرون الله كثيراً والذاكرات كما أخبر ـ صلى الله عليه و آله وسلم ـ عند مسلم في صحيحه . فيا أيها المحروم من ذكر الله احرص على هذه الأذكار لعلها أن تمحو عنك السيئات وإياك إياك وبذاءة اللسان والسب واللعان فتزيد الطين بلّة ومن الناس من حرم السعادة الزوجية والعيشة الهنية فهو لا يجد السكن النفسي يعيش في قلق واضطراب وشجار وخصام كم شكا هؤلاء لنا كم شكوا حياتهم مع أزواجهم وفي بيوتهم يعيشوا بدون مودة ولا رحمة وبدون لذة ولا متعة بينه وبين زوجه وحشة فلماذا كل هذا ؟ قال بعض السلف – اسمع يرعاك الله – قال بعض السلف إني لأعصي الله فأرى ذلك في خلق دابتي وامرأتي . أيها الزوجان ربما تحرمان السعاة الزوجية والراحة النفسية بسبب المعاصي والذنوب منكما أو من أحدكما انظرا إلى البيت وما فيه من وسائل فساد تغضب رب العباد أنظرا إلى حرصكما على الفرائض والطاعات والاهتمام بها والصلاة في أوقاتها قفا مع بعضكما وستجدان أن السبب معصية الله لا شك قال الله تعالى ( وما أصابكم من مصيبة فيما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير ) إنه ما من مشكلة ، تقع بين الزوجين إلا بمعصية أو ذنب فكم في البيوت من المحرومين بسبب معصية رب العالمين وأقف هنا فقد سبق الحديث عن هذا الموضوع بدرسين بعنوان السحر الحلال فمن أراد أن يرجع لهما ومن الناس من حرم بر الوالدين والأنس بهما والجلوس معهما وقضاء حوائجهما حرم المسكين من فضل عبادة قرنت بتوحيد الله ـ عز وجل ـ فقد ثنى بهما فقال ( واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً وبذي القرب واليتامى والمساكين) ويدل هذا على فضلهما وعظم القيام بهما اسمع يا من حرمت برهما قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ "الوالد أوسط أبواب الجنة فإن شئت فأضع ذلك الباب أو احفظه " ، والحديث في الترمذي وقال حسن صحيح ويروي عن [عبد الله بن المبارك] أنه بكى لما ماتت أمه فقيل له فقال إني لأعلم أن الموت حق ولكن كان لي بابان بالجنة مفتوحان ، كان لي بابان في الجنة مفتوحان فأغلق أحدهما والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول" رغم أنف ثم رغم أنف ثم رغم أنف من أدرك أبويه عند الكبر أحدهما أو كلاهما فلم يدخل الجنة" كما في مسلم، وقال ـ صلى الله عليه وآله وسلم" من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه" والحديث متفق عليه فأي فضل حرمه بعض الناس بغفلته عن بر والديه ومن برهما ميتين الدعاء لهما وزيارة صديقهما وإنفاذ وعدهما إن قصص العقوق التي نسمعها لينفطر لها الفؤاد أسى وتذوب النفس لها حسرة أيها المحروم برهما إن العقوق من الكبائر فلا يدخل الجنة عاق ويحرم التوفيق في الدنيا وربما عجلت له العقوبة وربما ابتلى بأولاده ،الجزاء من جنس العمل أبو هريرة كان لا يخرج ولا يدخل حتى يسلم على أمه وكان يحملها وينزلها فقد كانت كبيرة مكفوفة و[ابن الحنفية] يغسل رأس أمه و وينشطها ويقبلها ويقبضها وكان [على بن الحسين] من أبر الناس بأمه وكان لا يأكل معها فسئل فقال ، أخاف أن تسبق عينها إلى شئ من الطعام وأنا لا أعلم به فآكله فأكون قد عققتها ، وطلبت [أم مسعر] ماء في ليلة فجاء بالماء فوجدها نائمة فوقف بالماء عند رأسها حتى أصبح، وسئل [عمر بن ذر] عن بر ولده به فقال : ما مشى معي نهاراً قط إلا كان خلفي ولا ليلاً إلا كان أمامي ولا رقى على سطح أنا تحته فنستغفر الله حالنا مع آبائنا ونعوذ بالله من الحرمان ، إليك أيها السامع هذه العناوين السريعة أنقلها لك من رسالة صغيرة بعنوان أبناء يعذبون آباءهم قصص واقعية ،ابن يتهرب من المستشفى حتى لا يتسلم والده ، وآخر يتخلص من أمه يرميها بجوار القمامة ، وآخر يأتي بأبيه الذي بلغ الثمانين إلى دار النقاهة ويقول : خذوا أبي عندكم وإذا أردتم شيئاً اتصلوا على ، وآخر يبخل على أمه بمائة ريال ثمناً لخاتم أعجبها بل أخذ الخاتم من يدها ورماه على طاولة البائع ، وابنة تطرد والدتها من منزلها وأخرى غضبت بعد أن علمت أن والدتها ستعيش معها . هذه عناوين قصص واقعية وتفاصيلها تدمي القلوب وتقرح الأكباد فإنا لله وإنا إليه راجعون ، نعوذ بالله من حال هؤلاء محرومون ومعذبون في الدنيا والآخرة اللهم اغفر لنا ولوالدينا ، اللهم اغفر لنا ولوالدينا وأجزهم عنا خير الجزاء اللهم أعنا على برهما اللهم أعنا على برهما اللهم ارفع درجتهم وأسكنهم الفردوس الأعلى برحمتك يا ارحم الراحمين .(/47)
ومن المحرومين من حرم حسن الخاتمة نسأل الله ـ عز وجل ـ حسنها عجيب أمرك أيها المحروم إنك تعلم أن الموت حق وأنه نهاية الجميع ومع ذلك تصر على حالك تصر على حالك وأنت تسمع هذه الكلمات مراراً وتكراراً ، أيها الأخ ويا أيتها الأخت ليس العيب أن نخطأ ولكن العيب الاستمرار على الخطأ أيهما تريد أن تموت على خير أو على شر أقول هذا لأننا نرى ونسمع نهاية بعض المحرومين نسأل الله حسن الخاتمة . قال ابن القيم في الجواب الكافي ثم أمر أخوف من ذلك وأدهى وأمر وهو أن يخونه قلبه ولسانه عند الاحتضار والانتقال إلى الله تعالى فربما تعذر عليه النطق بالشهادة كما شاهد الناس كثيراً من المحتضرين ممن أصابهم ذلك ثم ذكر رحمه الله صوراً لبعضهم منها قيل لبعضهم قل لا إله إلا الله فجعل يهذي بالغناء ويقول كانت ……وقيل الآخر فقال كلما أردت أن أقولها فلساني يمسك عنها إلى آخر الصور التي ذكرها رحمه الله تعالى ـ إلى قوله وسبحان الله كما شاهد الناس من هذا عبراً والذي يخفى عليهم من أحوال المحتضرين أعظم وأعظم ونحن اليوم نشاهد ونسمع ونقرأ صوراً كثيرةً لسوء الخاتمة ومنها أن رجلاً ذهب إلى أحد البلاد المعروفة بالفساد وهناك في شقته شرب الخمر ـ أعزكم الله ـ قارورة ثم الثانية ثم الثالثة هكذا حتى شعر بالغثيان فذهب إلى دورة المياه ـ أعزكم الله ـ ليتقيىء أتدري أيها المحب ماذا حدث له ؟ مات في دورة المياه ورأسه في المرحاض – أعزكم الله ومنها أن شاباً كان لا يعرف من الإسلام إلا اسمه وكان لا يصلي أضاع طريق الهداية عندما نزلت به سكرات الموت قيل له : قل لا إله إلا الله يا لها من لحظات حرجة كربات وشدائد وأهوال أتدرون ماذا قال؟ أخذ يردد أنه كافر بها نسأل الله حسن الخاتمة ومنها أن شاباً حصل له حادث على إحدى الطرق السريعة فتوقف بعض المارة لإسعافه فوجدوه يحتضر والموسيقى الغربية تنبعث بقوة من مسجل السيارة فأطفئوه وقالوا للشاب قل لا إله إلا الله فأخذ يسب الدين فأخذ يسب الدين ويقول لا أريد أن أصلي لا أريد أن أصوم ومات على ذلك والعياذ بالله يقول أحد العاملين في مراقبة الطرق السريعة فجأة سمعنا صوت ارتطام قوي فإذا سيارة مرتطمة بسيارة أخرى حادث لا يكاد يوصف شخصان في السيارة في حالة خطيرة أخرجناهما ووضعناهما ممددين أسرعنا لإخراج صاحب السيارة الثانية فوجدناه قد فارق الحياة عدنا للشخصين فإذا هما في حال الاحتضار هب زميلي يلقنهما الشهادة ولكن ألسنتهم ارتفعت بالغناء أرهبني الموقف وكان زميلي على عكسي يعرف أحوال الموت أخذ يعيد عليهما الشهادة وهما يستمران في الغناء لا فائدة بدأ صوت الغناء يخفت شيئاً فشيئاً سكت الأول وتبعه الثاني فقد الحياة لا حراك يقول لم أر في حياتي موقفاً كهذا حملناهما في السيارة قال زميلي إن الإنسان يختم له إما بخير أو شر بحسب ظاهره وباطنه قال فخفت من الموت واتعظت من الحادثة وصليت ذلك اليوم صلاة خاشعة قال وبعد مدة حصل حادث عجيب شخص يسير بسيارته سيراً عادياً وتعطلت وتعطلت سيارته في أحد الأنفاق المؤدية إلى المدينة ترجل من سيارته لإصلاح العطل في أحد العجلات جاءت سيارة مسرعة فارتطمت به من الخلف سقط مصاباً بإصابات بالغة فحملناه معنا في السيارة وقمنا بالاتصال بالمستشفى لاستقباله وسرنا شاب في متقبل العمر متدين يبدو ذلك من مظهره ، عندما حملناه سمعناه يهمهم فلم نميز ما يقول ولكن عندما وضعناه في السيارة وسرنا سمعنا صوتاً مميزاً إنه يقرأ القرآن وبصوت فلم نميز ما نادي سبحان الله لا تقول هذا مصاب الدم قد غطى ثيابه وتكسرت عظامه بل هو على ما يبدو على مشارف الموت استمر يقرأ بصوت جميل يرتل القرآن فجأة سكت التفت إلى الخلف فإذا به رافع إصبع السبابة يتشهد ثم انحنى رأسه ، قفزت إلى الخلف لمست يده قلبه أنفاسه لا شئ فارق الحياة نظرت إليه طويلاً سقطت دمعة من عيني أخبرت زميلي أنه قد مات انطلق زميلي في البكاء أما أنا فقد شهقت شهقة وأصبحت دموعي لا تقف أصبح منظرنا داخل السيارة مؤثراً وصلنا إلى المستشفى وأخبرنا كل من قابلنا عن قصة الشاب الكثير تأثروا ذرفت دموعهم أحدهم بعد ما سمع قصته ذهب وقبّل جبينه الجميع أصروا على الجلوس حتى يصلي عليه اتصل أحد الموظفين بمنزل المتوفى كان المتحدث أخوه قال عنه أنه يذهب كل أثنين لزيارة جدته الوحيدة بالقرية كان يتفقد الأرامل الأيتام والمساكين كانت تلك القرية تعرفه فهو يحضر لهم الكتب والأشرطة وكان يذهب وسيارته مملوءة بالأرز والسكر لتوزيعها على المحتاجين حتى حلوى الأطفال كان لا ينساها وكان يرد على من يثنيه عن السفر ويذكر له طول الطريق كان يرد عليه بقوله إنني أستفيد من طول الطريق بحفظ القرآن ومراجعته وسماع الأشرطة النافعة وإنني احتسب إلى الله كل خطوة أخطوها يقول ذلك العامل في مراقبة الطريق كنت أعيش مرحلة متلاطمة الأمواج تتقاذفني الحيرة في كل اتجاه لفترة فراغي وقلة معارفي وكنت بعيد عن الله فلما(/48)
صلينا على الشاب ودفناه واستقبل أول أيام الآخرة استقبلت أول أيام الدنيا تبت إلى الله عسى أن يعفو عما سلف وأن يثبتني على طاعته وأن يختم لي بخير انتهت القصة بتصرف من رسالة لطيفة بعنوان الزمن القادم ، قلت صدق ابن القيم رحمه الله بقوله وسبحان الله كم شاهد الناس من هذا عبراً أي من سوء الخاتمة والذي يخفى عليهم من أحوال المحتضرين أعظم وأعظم أقول كيف يوفق لحسن الخاتمة من حرم نفسه الاستقامة والطاعة لله فقلبه بعيد عن الله غافل عنه عبد لشهوته وهواه اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها وتب علينا أنك أنت التواب الرحيم وهذا موقف آخر قال أبو عبد الله لا أعرف كيف أروي قصتي التي عشتها منذ فترة والتي غيرت مجرى حياتي كلها والحقيقة أنني لم أقرر الكشف عنها إلا من خلال إحساسي بالمسئولية تجاه الله ـ عز وجل ـ ولتحذير بعض الشباب الذي يعصي ربه وبعض الفتيات اللاتي يسعين وراء وهم زائف اسمه الحب يقول كنا ثلاثة من الأصدقاء يجمع بيننا الطيش والعبث كلا بل أربعة فقد كان الشيطان رابعنا فكنا نذهب لاصطياد الفتيات الساذجات بالكلام المعسول ونستدرجهن إلى المزارع البعيدة وهناك يفاجئن بأننا قد تحولنا إلى ذئاب لا ترحم لا نرحم توسلاتهن بعد أن ماتت قلوبنا ومات فينا الإحساس هكذا كانت أيامنا وليالينا في المزارع وفي المخيمات وفي السيارات وعلى الشاطئ إلى أن جاء اليوم الذي لن أنساه ذهبنا كالمعتاد إلى المزرعة كان كل شئ جاهز الفريسة لكل واحد منا الشراب الملعون شئ واحد نسيناه هو الطعام وبعد قليل ذهب أحدنا لشراء طعام العشاء بسيارته كانت الساعة الثالثة تقريباً عندما انطلق ومرت الساعات دون أن يعود وفي العاشرة شعرت بالقلق عليه فانطلقت بسياراتي أبحث عنه وفي الطريق شاهدت بعض ألسنة النار تندلع على جانبي الطريق وعندما وصلت فوجئت بأنها سيارة صديقي والنار تلتهمها وهى مقلوبة على أحد جانبيها يقول أسرعت كالمجنون أحاول إخراجه من السيارة المشتعلة وذهلت عندما وجدت نصف جسده وقد تفحم تماماً لكنه كان لا يزال على قيد الحياة فنقلته إلى الأرض وبعد دقائق فتح عينيه وأخذ يهذي النار النار فقررت أن أحمله بسيارتي وأسرع به إلى المستشفى لكنه قال لي بصوت باك لا فائدة لن أصل فخنقتني الدموع وأنا أرى صديقي يموت أمامي وفوجئت به يصرخ ماذا أقول له ، ماذا أقول له ، فنظرت إليه بدهشة وسألته من هو ، قال بصوت كأنه قادم من بعيد الله أحسست بالرعب يجتاح جسدي ومشاعري وفجأة أطلق صديقي صرخة مدوية ولفظ آخر أنفاسه ومضت الأيام لكن صورة صديقي الراحل وهو يصرخ والنار تلتهمه ماذا أقول له، ماذا أقول له ، وجدت نفسي أتساءل وأنا ماذا سأقول له، وليتساءل كل محروم ماذا سيقول لله ، يقول ففاضت عيناي واعترتني رعشة غريبة وفي نفس اللحظة سمعت المؤذن لصلاة الفجر ينادي الله أكبر الله أكبر حي على الصلاة أحسست أنه نداء خاص بي يدعوني لأسدل الستار على فترة مظلمة من حياتي يدعوني إلى طريق النور والهداية فاغتسلت وتوضأت وطهرت جسدي من الرذيلة التي غرقت فيها لسنوات وأديت الصلاة ومن يومها لم يفتني فرض ، لقد أصبحت إنساناً آخر فسبحان مغير الأحوال انتهت من رسالة لطيفة بعنوان :للشباب فقط ،إذن فلعل كثيراً من المحرومين يتساءلون أين الطريق وما هو العلاج؟ أين الطريق ؟ وما هو العلاج؟ وأقول العلاج ما قال النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ لـ[سفيان بن عبد الله الثقفي] لما قال له سفيان يا رسول الله قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحداً غيرك فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ "قل آمنت بالله ثم استقم " قيا أيها المحروم ويا أيتها المحرومة لنقل كما قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ آمنا بالله ثم لنستقم على طاعة الله لنؤدي ما طلب الله ـ عز وجل ـ منا لزوم الصراط المستقيم من غير ميل عنه يمنة ولا يسرة يظن البعض يظن البعض السامعين لهذا الكلام أن الاستقامة أنها نفل فمن أرادها كان مستقيما ومن لم يرد فلا بأس عليه وهذا مفهوم خاطئ فإن كل مسلم مطالب بالاستقامة كل مسلم مطالب بالاستقامة قال تعالى (فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ) ، وثمرات الاستقامة ثمرات عظيمة تدفع سامعها إلى الالتزام بشرع الله ومجاهدة النفس يقول الحق ـ عز وجل ـ (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون) ويقول عز وجل ( وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيانهم ماءً غدقاً لنفتنهم فيه ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذاباً صعداً) فكم كم من المحرومين المعذبين كم من المحرومات المعذبات من شبابنا ورجالنا وإخواننا وأخواتنا نسأل الله ـ عز وجل ـ لهم الهداية لقد كان العرب في جوف الصحراء يعيشون في شظف حتى استقاموا على الطريقة ففتحت لهم الأرض التي يغدقون فيها الماء وتتدفق فيها الأرزاق ثم حادوا عن الطريق فاستلبت منهم الخيرات استلاباً والله يقول (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم(/49)
بركات من السماء والأرض ) ، وكل ما سبق أيها الأخ الحبيب، كل ما سبق أيها الأخ الحبيب من صور الحرمان إنما هو بسبب البعد عن الاستقامة وينال الإنسان من الحرمان بقدر بعده عن طاعة الله ، أخي الحبيب أيتها الأخت الغالية قف مع نفسك لحظات بعيداً عن الدنيا بذهبها ومناصبها وقصورها اجلس مع نفسك بعيداً عن الأصحاب والأولاد وأخل بنفسك واسألها لماذا أعيش وماذا أريد ، وما هي النهاية ؟ من أين أتيت؟ وأين سأذهب ؟ ولكن إياك إياك أن تكون كذلك البائس المحروم الشاعر النصراني الذي يقول:
جئت لا أعلم من أين ولكن أتيت
ولقد أبصرت قدامى طريقاً فمضيت
وسأبقي سائراً إن شئت هذا أم أبيت
كيف جئت ؟ كيف أبصرت طريقي لست أدري
إلى آخر تلك الطلاسم والأسئلة التي يثيرها في قصيدته حيرة وتردد ذهول يشعر به المحرومون من نعمة الإيمان أما نحن المسلمون المؤمنون لا تقلقنا هذه الأسئلة ولله الحمد والمنة ، فإننا نجد في ديننا الإجابات المفصلة عليها إننا نجد في قرآننا وفي أحاديث نبينا عليه الصلاة والسلام الكلام الشافي الصادق عنها إن قرآننا علمنا أننا نعيش لغاية وهدف ، (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) فهل أنت تعيش لهدف ؟ هل أنت تعيش لهدف أيها الأخ الحبيب وعلمنا أن كل شئ في حياتنا إنما هو لله (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له ) ، فهل كل شئ في حياتك لله فلا نعمل إلا ما يرضي الله ولا نتكلم إلا بما يرضي الله ، فلا نرضي إلا الله ولو سخط الناس كلهم فنحن نردد كل لحظة لا إله إلا الله، ونعلم أن من عاش عليها صادقاً مخلصاً عاش عزيزا سعيداً وأن من مات عليها صادقاً مخلصاً مات شهيداً في جنة عرضها السموات والأرض إذا فاسمع واعلم أيها المحروم :إن من يعيش لهدف ومبدأ يتحرك ويعمل ويركع ويسجد ويذهب ويجئ ويحرص على وقته ولا يجعل دقيقة للفراغ فإن الفراغ قاتل والعطالة بطالة وأكثر الناس هموماً وغمومًا العاطلون الفارغون إنك يوم تفرغ يدخل عليك الهم والغم والوساوس والهواجس وتصبح ميداناً لألاعيب الشياطين أيها الأخ، أيتها الأخت اجعل الهم هماً واحداً هم الآخرة هم لقاء الله ـ عز وجل ـ هم الوقوف بين يديه (يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية ) اجعل عملك خالصاً لوجه الله احرص على رضا الله لا تنتظر شكراً من أحد.(/50)
أيها الأخ ويا أيتها الأخت ماذا قدمت لنفسك ؟ وماذا قدمتي لنفسك ؟ والله تعالى يقول (وقدموا لأنفسكم واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه وبشر المؤمنين) إن من ركب ظهر التفريط والتواني نزل به بدار العسرة والندامة إذا فأول العلاج التفكير الجاد في طريق الاستقامة والالتزام فكن صاحب هدف وكن صاحب مبدأ لتشعر بقيمة الحياة واجعل همك دائماً رضا الله وحده لا رضا غيره وطاعة الله لا طاعة غيره ومن العلاج أيضاً أو من أسباب الاستقامة إرادة الله الهداية للعبد قال تعالى : (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السماء) وبعض الجهال والجاهلات يقولون ماذا أفعل إذا لم يرد الله هدايتي وأقول هذه شبهة وحيدة نفسية ومدخل شيطاني لدى كثير من المحرومين والإجابة على هذا نقول لابد من فعل الأسباب فاطلب الهداية واسع لفعل أسبابها وجاهد النفس وسترى بمشيئة الله النتائج وهكذا بكل أمر تريده لابد من فعل الأسباب أتراك أيها المحروم إذا طلبت النجاح في الامتحان تدرس وتقرأ وتحفظ وتسهر لو قلنا لك مثلاً لا تدرس ولا تقرأ ولا تسهر وإن كان الله أراد نجاحك فستنجح أتوافق على هذا ؟ أتوافقين على هذا ؟ بالطبع لا ، إذن لابد من فعل الأسباب من ترك جلساء السوء وترك وسائل الفساد والحرص على مجالس الصالحين وكثرة الذكر والإلحاح بالدعاء أن يفتح الله على قلبك وأن يثبتك على طريق الحق فإن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يكثر في سجوده من قوله " اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك" فكيف بي وبك وبمن شابهنا من ضعاف الإيمان ادع الله بصدق ادع الله بصدق وبإلحاح أن يرزقك طريق الاستقامة وها أنت تدعو في اليوم أكثر من سبعة عشر مرة إن كنت ممن يحافظ على الصلوات المفروضة تقول (اهدنا الصراط المستقيم ) لكن وللأسف بدون حضور قلب بدون تدبر للمعنى فاصدق مع الله في طلب الهداية جاهد النفس جاهد النفس فإن الله ـ عز وجل ـ يقول (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين ) إذن فقبل مرحلة الهداية لابد من مرحلة المجاهدة وحبس النفس عن شهواتها تذكر حلاوة الصلة بينك وبين الله يهن عليك مر المجاهدة اعلم أن شراب الهوى حلو ولكنه يورث الشرك فاطلب الهداية من الله بصدق واحرص على فعل أسبابها لعلك أن تشعر بالسعادة والراحة في الدنيا والآخرة وأسباب الهداية كثيرة لعلي ألخصها لك في النقاط التالية لتحرص على فعلها فكن صاحب هدف وعش لمبدأ واعلم لماذا خلقت ثانياً اعلم أن إرادة الله فوق كل شئ لكنها في علم الغيب فما عليك إلا أن تحرص على الخير وفعل الأسباب للوصول إليه مع التنبه لحيل النفس ومداخل الشيطان ثالثاً الإلحاح الشديد في الدعاء وكثرة ذكر الله رابعا : الحرص على مصاحبة الصالحين ونبذ أهل الفسق والفجور فإنهم لا يهدءون حتى تكون مثلهم وصدق من قال ودت الزانية أن النساء كلهم زواني.(/51)
خامساً : مجاهدة النفس ومحاسبتها وهل أنت مستعد للموت أم لا . سادساً : اتبع السيئة الحسنة تمحها وكلما وقعت بذنب أو معصية أكثر من فعل الخيرات تصدق أطعم المساكين ، صل ركعتين ، أحسن إلى الوالدين ، احرص على كل خير فإن الله ـ عز وجل يقول( إن الحسنات يذهبن السيئات) والرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول : "واتبع السيئة الحسنة تمحها " سابعاً : تب كلما وقعت بذنب أو معصية وإياك إياك والملل من التوبة إياك إياك والملل من التوبة ولو تبت من الذنب الواحد ألف مرة أحذر من ضعف النفس وحيل الشيطان فربما يحدثك أنك منافق أو أنك مخادع لله بكثرة توبتك والمهم أن تكون صادقاً في التوبة والندم والإقلاع وكلما رجعت للذنب بضعف النفس ارجع للتوبة قال الإمام النووي باب قبول التوبة من الذنوب وإن تكررت الذنوب والتوبة ،وأنصحك بقراءة كتاب التوبة في صحيح مسلم لترى الأحاديث في عظم رحمة الله وفرحته بتوبة عبده وهو غني عني وعنك وعن العالمين جميعاً ولكن إياك إياك والاغترار بسعة رحمة الله إياك والاغترار بسعة رحمة الله مع الإصرار على المعاصي واعلم أن الله شديد العذاب كما أنه غفور رحيم فالخلاصة؛ أكثر من الاستغفار والتوبة واعلم أن خير البشر حبيبنا وقدوتنا ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ صح عنه أنه كان يستغفر الله في اليوم سبعين مرة وفي رواية مائة مرة فكيف بي وبك أيها الحبيب على كثرة ذنوبنا وضعف نفوسنا فيا أيها المحب فيا أيها الأخوة أيتها الأخوات لنكثر من التوبة مهما تكرر الذنب لنكثر من التوبة مهما تكرر الذنب ففي الحديث المتفق عليه من حديث أبي هريرة أن الله ـ عز وجل ـ قال لذلك الرجل الذي تكرر منه الذنب فكرر التوبة قال الله له "علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به غفرت لعبدي غفرت لعبدي غفرت لعبدي فليعمل ما شاء "والحديث متفق عليه وعن [عقبة بن عامر] "أن رجلاً أتى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال يا رسول أحدنا يذنب قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ يكتب عليه قال : ثم يستغفر منه ويتوب قال :ويغفر له ويتاب عليه ، قال : فيعود فيذنب قال : يكتب عليه . قال : ثم يستغفر منه ويتوب . قال : يغفر له ويتاب عليه ، قال : فيعود فيذنب قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : يكتب عليه ولا يمل الله حتى تملوا "، أخرجه الحاكم وقال هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه ووافقه الذهبي وأخرجه الطبراني في الكبير وقال في المجمع إسناده حسن . فيا أخي الكريم إياك وإهمال التوبة مهما كانت معاصيك والمهم أن تكون جاداً في التوبة صادقاً فيها فاغلق الباب اغلق أبواب الشيطان وسد المنافذ وافعل الأسباب وستجد أثر ذلك على قلبك حفظك الله ورعاك من كل سوء وأعانك ووفقك للتوبة النصوح . أيها الأخ الحبيب ويا أيتها الأخت الغالية لست بعيدة وإنك قريب جداً إن السعادة والراحة في الاستقامة وأنت قريب منها المهم أن يكون عندك العزم والهم الصادق، قال ابن القيم في الفوائد اخرج بالعزم من هذا الفناء الضيق المحشو بالآفات إلى ذلك الفناء الرحب الذي فيه مالا عين رأت فهناك لا يتعذر مطلوب ولا يفقد محبوب انتهى كلامه- فيا أيها المحب ارجع إلى فطرتك وإلي الخير في نفسك ستجد أنك قريب من الهداية والهداية قريبة منك ؛
فإذا استقام على الهداية ركبنا
يخضر فوق هضابها الأقدام وترف أغصان السعادة فوقنا
وتزول من أصقاعنا الأسقام إن الدنيا بأموالها ومناصبها وقصورها لا تستأهل قطرة دمع منك حتى ولا هما أو زفرة من زفراتك فالرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول : " الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه وعالماً ومتعلماً " كما عند الترمذي والله ـ عز وجل ـ يقول ( وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب ) فيا أيها المحب إن نفسك غالية وربما اليوم أو غداً أو بعد غد قالوا مات فلان والموت حق ولكن شتان بين من مات على صلاح وهداية 39582*1وبين من مات على فسق وغواية فإياك والغفلة وطول الأمل والاغترار بالصحة ؛
فكم من صحيح مات من غير علة
وكم من سقيم عاش حيناً من الدهر
ربما تضحك وتسعد وتنام مسروراً وقد لا تصبح
يا راقد الليل مسروراً بأوله
إن الحوادث قد يطرقن أسحاراً .
فيا أيها الأخ ويا أيتها الأخت بادرا إلى الفضائل وسارعا إلى الصفات الحميدة والأفعال الجميلة و كل ذلك بالإيمان الصادق بالله ـ عز وجل ـ نسأل الله ـ عز وجل ـ أن يتوب علينا جميعاً ، وأن يغفر لنا جميعاً وأن يجعلنا من الصادقين الصالحين المصلحين، اللهم تب علينا توبة صادقة نصوحةً اللهم اغفر لنا وارحمنا برحمتك يا أرحم الراحمين سبحانك اللهم وبحمدك نستغفرك ونتوب إليك نشهد أن لا إله إلا أنت .
وصلى الله علي سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً .(/52)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ، أما بعد فعنوان هذا الدرس روحانية صائم وينعقد في يوم الاثنين اليوم الثامن من الشهر الثامن في العام 1418 في هذا الجمع المبارك في مدينة > الرس <
أيها الاخوة هذا الدرس هو فوائد وشرائد ومشاعر وأحاسيس جمعت من العام الماضي من رمضان حرصت على طرحها هذه الأيام لينتفع منها الصائمون هذه الأيام أسأل الله أن ينفع بها وأن يغفر لي الخطأ والذلل والتقصير.
وهو ينقسم إلي قسمين:
أولاً: كيف السبيل إلي هذه الروحانية وفيه حقيقة الروح وزادها وعلاقتها بالصيام
ثانياً: مشاعر هذه الروح وهي أحاسيس ومشاعر لمن ذاق حلاوة الإيمان في شهر رمضان وعرف أن الصيام غذاء للروح وطعام.
وأقدم المقدمة في استقبال رمضان فأقول معاشر الاخوة أقبل علينا رمضان سيد الشهور فمرحباً به وأهلاً وكان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا دخل رجب قال "اللهم بارك لنا في رجب وشعبان وبلغنا رمضان" كما في حديث [أنس] قال [الهيثمي] عنه رواه [الطبراني] في الأوسط وفيه [زائدة بن أبي الرقاد] وفيه كلام وقد وثق… انتهى .
بعد أيام نستقبل شهرنا العظيم شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن شهر الصيام والذكر شهر التوبة والغفران شهر العزة والكرامة اللهم بلغنا رمضان ،اللهم بلغنا اللهم بلغنا رمضان فكم ممن أَمَّل أن يصوم هذا الشهر فخانه أمله فسار قبله إلي ظلمة القبر كم من مستقبل يوماً لا يستقبله ومؤمل غداً لا يدركه
كم كنت تعرف ممن صام في سلف
من بين أهل وجيران وإخوان
أفناهم الموت واستبقاك بعدهم حياً
فما أقرب القاصي من الداني
أيها الاخوة والأخوات أحد عشر شهراً ظلت تجري بسرعة عجيبة في دهشة وذهول من العاقلين وغفلة ومجون من اللاهين.
(قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم فاسأل العادين) هكذا تنقضى الليالي والأيام وتنقضي الشهور والأعوام والعاقل اللبيب وهو من يفكر ويعتبر في تلك الأيام التي عاشها والليالي التي قضاها نعم هي ماضي تركه خلفه لن يعود لن يعود له مرة أخرى لكنها تسجل عليه فالله تعالي يقول(هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون) كل الناس يغدو يغدو في أهداف وآمال ورغبات وأماني ولكن أين الجادون أين الجادون فرمضان آتٍ بعد أيام فكيف حال الناس؟ بل كيف حال الأمة هل من وقفة صادقة للمحاسبة وهل من وقوف جاد للتأمل وما هي مراسم الاستقبال معاشر الصائمين والصائمات إن رمضان آتٍ بعد أيام وفي الأمة تعساء يستقبلونه على أنه شهر الجوع النهاري والشبع الليلي نوم في الفراش إلي ما بعد العصر وسمر في الليل إلي الفجر تراهم ذئاباً في الليل جيفاً في النهار جعلوا من رمضان موسم طرب وسهر ودعايات وقنوات، إنهم يقتلون رمضان ويفسدون حلاوته وطعمه ،حُرِمُوا وحَرَمُوا أنفسهم وغيرهم من جمال رمضان وروعة الحياة فيه عبادة للبدن والجسد بنزواته ولذاته وأسر للروح والعقل مساكين هؤلاء
رمضان رُبَّ فَمٍ تمنع عن شراب أو طعام
ظن الصيام عن الغذاء هو الحقيقة في الصيام
وهوى على الأعراض ينهشها ويقطع كالحمام
يا ليته إذ صام صام عن النمائم والحرام
واستاك إذ يستاك عن كذب وزور وإجرام
وعن القيام لو أنه فيما يحاوله استقام
رمضان نجوى مخلص للمسلمين وللسلام
تسمو بها الصلوات والدعوات تضطرم اضطرام(/53)
قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأبي هو وأمي ـ فقد كان يبشر أصحابه ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقدوم رمضان كما أخرجه [أحمد] و[النسائي] عن [أبي هريرة ] رضي الله عنه قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يبشر أصحابه "قد جاءكم شهر مبارك افترض الله عليكم صيامه يفتح فيه أبواب الجنة ويغلق فيه أبواب الجحيم وتغل فيه الشياطين فيه ليلة خير من ألف شهر من حرم خيرها فقد حرم" ، صححه [الألباني] كما في صحيح النسائي وقال [مُعَلاَّ بن الفضل] عن السلف: كانوا يدعون الله ستة أشهر أن يبلغهم رمضان ثم يدعونه ستة أشهر أن يتقبل منهم وقال [أبو يحيى ابن كثير] كان من دعائهم: اللهم سلمني إلي رمضان وسلم لي رمضان وتسلمه مني مُتَقَبَّلا ، وباع قوم من السلف جارية فلما قرب شهر رمضان رأتهم يتأهبون له ويستعدون بالأطعمة وغيرها فسألتهم فقالوا نتهيأ لصيام رمضان فقالت وأنتم لا تصومون إلا رمضان!! لقد كنت عند قوم كل زمانهم رمضان ردوني إليهم ، هكذا كان السلف استقبال لرمضان فرمضان له طعم خاص ولذة عجيبة في نفوسهم رضوان الله عليهم فهو يبعث في نفوسهم قوة الإيمان والشجاعة والعزة والكرامة ولهذا كانت أكثر غزوات ومعارك المسلمين في رمضان لماذا ؟ نعم لماذا ؟ اسمع للإجابة إنها حياة الروح حتى وإن كانت البطون خاوية والشفاه يابسة فالحياة حياة الروح حياة القلب حياة الانتصار على النفس والشهوات ومن انتصر على نفسه انتصر على الأعداء من انتصر على نفسه انتصر على الأعداء إنها حياة الصلة والثقة بالله تعالي وهنا يكمن جمال رمضان وروعة هذا الشهر بتلك الروحانية العجيبة التي توقظ المشاعر وتؤثر في النفوس فرمضان له في نفوس الصالحين الصادقين بهجة وفي قلوب المتعبدين المخلصين فرحة فهو شهر الطاعات ولنا فيه جميل الذكريات إنه زاد الروح تتغلب الروح فيه على البدن والجسد.
وحتى لا أطيل عليكم فإلى الحديث عن تلك الروحانية وفيه حقيقة الروح وزادها وعلاقتها بالصيام .
حقيقة الروح:
الروح والنفس واحد غير أن الروح مذكر والنفس مؤنث عند العرب ولما سأل اليهود الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن الروح نزل قوله تعالي (يسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي) .
وروى [الأزهري] بسنده عن [ابن عباس] في قوله (ويسألونك عن الروح) قال إن الروح قد نزل في القرآن بمنازل ولكن قولوا كما قال الله جل وعلا (قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) . قال [ابن الأثير] وقد تكرر ذكر الروح في الحديث كما تكرر في القرآن ووردت فيه على معانٍ الغالب منها أن المراد بالروح الذي يقوم به الجسد وتكون به الحياة وقد أطلق على القرآن والوحي والرحمة وعلى جبريل إلي آخر كلامه رحمه الله والروح سماوية علوية والجسد أرضي سفلي وعند موت الإنسان كل يتجه إلي أصله فالروح إلي السماء والجسد إلى الأرض ومن الناس من همته في الثرى ومنهم من همته في الثريا فمنهم من يسعى لحياة الروح ومنهم من يسعى لحياة الجسد وحياة الروح باتصالها بالسماء بالخوف والخشية والمراقبة والإخلاص لله عز وجل والروح والجسد لا غنى لأحدهما عن الآخر إلا إذا أصبح الجسد لا هم له إلا شهوته وهواه وفيه قول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ "تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتفش"
ومن الناس من نسي روحه وغفل عنها وعن حقوقها فَعَبَّدَها لجسده وشهواته فأصبحت حياته هموماً وغموماً وأكداراً وأحزاناً، ليس له هم إلا أن يرضى هواه مساكين أهل الدنيا خرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها وأطيب ما فيها حلاوة الإيمان ولذة الطاعة فالإنسان جسد وروح وشهوة وعقل والجسد تتبع له الشهوة والروح يتبع لها العقل والصراع دائم بين الفريقين الجسد والشهوة معاً والروح والعقل معاً ومتى شبع البطن تحركت الشهوة وإذا خلا البطن هدأ الجسد وانطلقت الروح تنمو وتنشط ففي الصيام حلاوة لا يدركها إلا من صام من أجل الله بصدق في الصيام حلاوة لا يدركها إلا من صام من أجل الله بصدق ولا يعرفها إلا الذين خالطت بشاشة الإيمان قلوبهم وهذه هي الروحانية العجيبة التي نحياها في رمضان روحانية صائم بذرها بالجوع وسقاها بالدموع وقواها بالركوع لتنبت الخشوع والخضوع روحانية صائم فيها السعادة واللذة والأفراح والأشواق فيها ما لا يبثه لسان ولا يصفه بيان .
روحانية صائم فيها الأرواح تهتز وترتاح وتطير بغير جناح فهي في أفراح وأفراح ، روحانية صائم فيها من الحرير لجنات النعيم ما تورمت له أقدام المتهجدين وبذر له الثمين وسمع الأنين ، روحانية صائم لا يعرفها العاشقون ولا المتصوفة الواجدون بل هي والله حكر على المحقين الصادقين والمخلصين العارفين ، روحانية صائم تخلصت من أسر الهوى والشهوة وحيل النفس والشيطان ، باختصار روحانية صائم عاش في جنة الدنيا ، وفي الدنيا جنة من لم يدخلها لا يدخل جنة الآخرة .(/54)
ولكن كم بين خلي وشجي وواجد وفاقد وكاتم ومُبْدٍ ، معاشر الصائمين والصائمات هذه أفراح الروح عند انتصارها وفك أسرها من شهوات الجسد ولذلك قال [ابن القيم] رحمه الله ، فللروح المطلقة من أسر الهوى ومن أسر البدن وعلائقه وعوائقه من التصرف والقوة والنفاذ والهمة وسرعة الصعود إلي الله والتعلق بالله ما ليس للروح المهينة المحبوسة في علائق البدن وعوائقه انتهى كلامه رحمه الله.
أطلق الأرواح من أصفادها
... في بهيج من رياض الأتقياء
غاديات رائحات كالسنا
سابحات بين آفاق الضياء
إنها يا شهر ظمأى فاسقها
مشتهاها من ينابيع الصفاء
شهوة الأجساد قد ألقت بها
في قفارٍ ليس فيها من رواء
ما غذاء الجسم في ألوانه
فيه للأرواح شيء من حباء
إنما الأرواح تحيا بالذي
في صيام الجسم تسجيه السماء
يا ربيع الروح أقبل واعطها
صولجان الحكم في دنيا الشقاء
كي يعيش الناس من آلائها
في رفاءٍ وازدهارٍ وارتقاء
هل درى أهل الحجا أن الذي
شيطن الإنسان في الأرض اشتهاء
زورق الشيطان في وجدانه
... طعمة فيها من الإفراط داء
ما ارتقت إلا بزهد أنفس
في طعام عنه عاشت في غناء
واطمأنت في حياة الروح
... لا تبتغي إلا لقيمات وماء
إنما سلطانها من دونه ... ...
كل سلطان به الإنسان باء
حسبه أن أخضع النفس التي
... تسترق الناس حتى الأقوياء
أي سلطان يكف النفس عن
موبقات غير قيد كالوجاء
إنه الصوم الذي أوحى به
رحمة بالناس رب الحكماء
فيه ترويض لطبع جامح
فيه روح فيه للمرضي شفاء
فيه للإحساس إرهاف فلا
يأخذ الدنيا بعين الأغبياء
أيها الأحبة هذه الروحانية لا نعرف كنهها ولا نستطيع وصفها حتى من ذاق طعمها وعرف حلاوتها من أولئك الأفذاذ الذين تسعى بهم أعمالهم سوقا إلي جنات سوق الخيل بالركبان صبروا قليلاً فاستراحوا دائماً يا عزة التوفيق للإنسان رفعت له في السير أعلام السعادة والهدى يا ذلة الحيران أقول حتى هؤلاء والله حتى هؤلاء الذين ذاقوا طعمها وعرفوا حلاوتها ما استطاعوا وصفها ولا التعبير عن وجدها إلا بألفاظ عامة لم تفصح عن حقيقة الشعور واسمع بعضهم يقول إنه يمر في القلب لحظات أقول إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي نعيم إنه شعور عام لا يستطيع وصفه بأكثر من هذا فإن لم ترها العين فقد أبصرها القلب واسمع للآخر يقول أنا جنتي وبستاني في صدري فماذا يفعل أعدائي بي سجني خلوة ونفيي سياحة وقتلى في سبيل الله شهادة وهذا ثالث لم يجد ما يعبر به عن السعادة واللذة التي يجدها إلا بقوله إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة إنها حلاوة الإيمان وطعم الصلة بالله إنها أفراح الروح لا تنقل بالكلمات إنما تسرى في القلب فيستروحها ويهش لها ويندى بها وكأني بك أيها الصائم كأني بك تقول أيها المتحدث ترفق فنفوسنا تشقق وقلوبنا تخرق ودموعنا تدفق فكيف السبيل لهذا النعيم كيف نصوم؟ وكيف نقوم لنجد ما وجد أولئك الرجال؟
فأقول أما الكيفية فصم وقم كما كان يصوم ويقوم قدوتنا وحبيبنا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله) ولكن الأهم لماذا نصوم؟ نعم لماذا نصوم سؤال مهم يجب أن يسأله المسلم نفسه خاصة في شهر رمضان وحتى لا يتحول هذا الشهر من عبادة لها أهداف ومقاصد عظيمة إلي عادة ثقيلة كان لابد من الإجابة على هذا السؤال فكثير من الناس يصومون ولكن قليل أولئك الذين يعرفون لماذا يصومون؟ هذا هو الفرق بين العادة والعبادة لماذا نصوم يحدد لك الهدف والغاية التي من أجلها فرض الصوم رمضان ووضوح الهدف وضوح الهدف في أي عملٍ تقوم به يسهل عليك هذا العمل ويدفعك للاجتهاد والمجاهدة للوصول إليه أي الهدف.
وفي رمضان أنت تمسك عن الطعام والشراب والجماع أكثر من نصف اليوم لماذا؟ تجوع وتعطش لماذا ؟ تسهر وتتعب لماذا ؟
أصناف الطعام بين يديك والماء البارد أمام عينيك أنت جائع عطشان فلا تمد يدك إليها لماذا؟ ماذا تريد من كل هذا؟ ما هو الهدف؟ إلي أي شيء تريد أن تصل؟ ربما حدثتك نفسك فقالت لماذا الله يأمرنا بالصيام؟ ولماذا فرض علينا شهر رمضان؟ فأقول حاشى لله ـ عز وجل ـ أن يكون المراد تجويعنا وتعطيشنا وإتعابنا وهو أرحم الراحمين وهو أرحم من الأم بولدها بل إن الله قال في آخر آيات الصيام (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) وربما تقول أيها الأخ إننا نصوم رمضان لأن الله أمرنا بصيامه فتجب الطاعة والاستجابة لله بما أمر فأقول نعم إن الاستجابة لله ورسوله واجب علي كل مسلم ومسلمة ولو لم تتبين لنا الثمرة والحكمة من هذا الأمر فنحن أسلمنا واستسلمنا لله جل وعلا فيجب علينا طاعة الله فإن الخير كل الخير فيما أمر الله ورسوله به لكن هناك ثمرة وغاية عظيمة بينها الله ـ عز وجل ـ من شهر الصيام بقوله: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون)
رمضان قد يستبد الجوع بي
ويهدني ظمأ ويخفت في مداي كفاح
لكن تقوى الله تحفز همتي
ويشد من أزرى لديك صلاح(/55)
وأراك يا رمضان رحلة مؤمن
ألف الطريق وآنسته بطاح
وأراك حين تجيء توقظ ما
غفا عاماً بقلب أثخنته جراح
فإذا بآلاء اليقين تظلني
وإذا المحبة غدوة ورواح
وإذا أنا روح تحلق في المدى
بسناً يلوح وللصفاء يتاح
إذاً فالغاية الأولي والهدف الأسمى من صيام رمضان هو إعداد القلوب للتقوى ومراقبة إعداد القلوب للتقوى ومراقبة الله لخشية الله فالصوم يجعل القلوب لينة رقيقة يجعلها ذات شفافية وحساسية يجعلها وجلة حية فالصوم يوقظ القلوب فإذا فسد الناس في زمن من الأزمان فإن صلاحهم لا يكون بالتشدد والتنطع بل يبدأ الصلاح بإعداد القلوب وبث حرارة الإيمان فيها وخوف الله ومراقبته فالإسلام، الإسلام لا يقود الناس بالسلاسل إلي الطاعات إنما يقودهم بالتقوى ومراقبة الله والخوف منه ومن أعظم ثمار الصيام تربية القلوب على مراقبة الله وتعويدها على الخوف والحياء منه يقول [القسطلاني] رحمه الله معدداً لثمرات الصوم يقول منها رقة القلب وغزارة الدمع وذلك من أسباب السعادة فإن الشبع مما يذهب نور العرفان ويقضي بالقسوة والحرمان انتهى كلامه رحمه الله إذاً ما علاقة الأكل والشراب بالتقوى فالأكل والشرب للبطن والتقوى مكانها القلب فما دخل ذا بذا اسمع رعاك الله اسمع للإجابة أليس كثرة الطعام والشراب لها أثر كبير على فساد القلب وغفلته فالبطنة تذهب الفطنة كما يقال والشبع يقسي القلب ويعميه والرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول "ما ملأ آدمي وعاء شراً من بطنه" كما في الترمذي وحسنه وقال [عمرو بن قيس] إياكم والبطنة فإنها تقسي القلب وقال [الحارث بن كلدة] الطبيب العربي المشهور: الحمية رأس الدواء والبطنة رأس الداء وقال [سفيان الثوري]: إن أردت أن يصح جسمك ويقل نومك فأقلل من الأكل ولذلك فإن تقليل الطعام والشراب ومباشرة النساء ينور القلب ويوجب رقته ويزيل قسوته فالصيام فيه كسب للنفس وتخلية القلب للذكر والفكر والصيام يضيق مجارى الدم التي هي مجاري الشيطان من ابن آدم فإن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم فتسكن بالصيام وساوس الشيطان وتنكسر ثورة الشهوة والغضب واسمع لأهل التجارب والخبرات ممن عاشوا في عالم الروحانيات فقد روي عن [ذي النون المصري] رحمه الله وهو العبد الصالح أنه قال: تَجَوَّعْ بالنهار وقم بالأسحار ترى عجباً من الملك الجبار وقال [يحيى بن معاذ]: من شبع من الطعام عجز عن القيام فعل عرفت أيها الأخ الحبيب بعد هذا كله علاقة الشراب والطعام بالتقوى معاشر الصائمين والصائمات إن الإمساك عن الطعام والشراب في رمضان ليس هدفاً في ذاته بل هو وسيلة لرقة القلب وانكساره وخشيته لله ولذلك قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه" كما في البخاري وقال أيضاً ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "ليس الصيام من الطعام والشراب إنما الصيام من اللغو والرفث" رواه [ابن خزيمة] وابن حبان والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم فهل الهدف من صيام رمضان واضح لك الآن هذه حقيقة الصيام فلا تحرم نفسك منها أيها الأخ أما إن كان الأمر ترك الشراب والطعام فما أهون الصيام ولكن إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمحارم وجماع ذلك خوف القلب من الله ومراقبته وإلا فتنبه واحذر فربما دخلت في قول الرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ :"رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش ورب قائم حظه من قيامه السهر" نعوذ بالله من حال هؤلاء والحديث أخرجه النسائي وابن ماجة والحاكم وابن حبان وقال صحيح على شرط البخاري، إذاً فليس رمضان إمساكاً عن الطعام والشراب فقط وسجوداً أو ركوعاً والقلب هو القلب قاسٍ عاصٍ غافل عن الله الغناء يطرب الآذان وللعينين أطلق العنان واللسان كذب وغش وغيبة ونميمة وسب ولعان وصدق من قال إذا لم يكن للسمع مني تصاون وفي البصر غضٌ وفي منطقي صمت فحظي إذاً من صومي الجوع والظمأ فإن قلت إني صمت يومي فما صمت فَأُفٍّ ثُمَّ تُف لنفوس لم يهذبها الجوع ولم يدربها السجود والركوع فالصيام تدريب للنفوس وتعويد لها على الصبر وترك الشهوات يدخل رمضان ويخرج وبعض النفوس لم تتغير يجوع ويعطش وقلبه هو قلبه ومعاصيه هي معاصيه وربما يركع ويسجد ويسهر ويتعب وحاله هي حاله ولسانه هو لسانه نعوذ بالله من حال هؤلاء فلو قيل لأهل القبور تمنوا لتمنوا يوماً من رمضان وهؤلاء كلما خرجوا من ذنب دخلوا في آخر بل ربما لا تحلو لهم الشهوات والتفنن في المعاصي والسيئات إلا في شهر رمضان والله المستعان يا هؤلاء أنتم في رمضان شهر التوبة والغفران يا هؤلاء فيه تغلق أبواب النيران وتفتح الجنان وتصفد الجان فدونك نفسك أيها الإنسان يا هؤلاء أما تنفعكم العبر أما عصيتم وستر اعرفوا قدر من قدر فقد آن الرحيل وأنتم على خطر لكن عند الممات يأتيكم الخبر نعوذ بالله من طول الأمل فإنه يمنع خير العمل.(/56)
قال [ابن رجب] رحمه الله كل قيام لا ينهي عن الفحشاء والمنكر لا يزيد صاحبه إلا بعداً ، كل صيام لا يصان عن قول الزور والعمل به لا يورث صاحبه إلا مقتاً ورداً يا قوم أين آثار الصيام أين أنوار القيام
إن كنت تنوح يا حمام البانِ
للبين أين شواهد الأحزانِ
أجفانك للدموع أم أجفاني
لا تقبل دعوة بلا برهانِ
انتهي كلامه رحمه الله أيها الاخوة والأخوات ليس الصيام في الإسلام تعذيب النفوس لا والله بل هو لتربيتها وتزكيتها ولينها ورقتها فالقرآن يعلمنا أن الصوم إنما فرض لنذوق طعم الإيمان ونشعر براحة القلب وسعادة النفس ولذة الحياة وكل ذلك في مراقبة الله والخوف منه فتقوى الله تقوى الله أعظم كنز يملكه العبد في الدنيا وليس أشقى والله على وجه الأرض من يحرمون طمأنينة الأنس بالله بتقوى الله .
وقد يقول قائل كيف نصل للهدف أو كيف تحصل ثمرة الصيام؛ تقوى الله
فأقول :
علاقة الصيام بتقوى الله تظهر من وجوه كثيرة فأرعني سمعك وانتبه لهذه الأسئلة أقول لك ألا يمكن وأنت صائم في نهار رمضان أن تختفي عن أعين الناس فتأكل وتشرب وتفعل ما تشاء لا يعلم بك أحد من الناس ولا تطلع عليك عين من عيون الخلق إذاً اسأل نفسك ما الذي يمنعك ما الذي يردك؟
لأنك تعلم أن الله يراك ومطلع عليك ويعلم ما تخفي وما تعلن
أيها الأخ الحبيب ايتها الأخت أليس في هذا تربية للقلب وارتباطاً بخالقه وخوفه وخشيته منه أليس من صام بمثل هذه المعاني وبمثل هذه المشاعر ازداد صلة بالله وخشية وخوفاً من الله وازداد تذوقاً لصيام رمضان وراحة للنفس والبال وهذا أعظم زاد للروح فالصوم أمر موكول إلى نفس الصائم لا رقيب عليه إلا الله، فهو سر بينك وبين ربك سر بين العبد وربه ولولا استشعاره لرقابة الله وأنه يراه لما صبر عن هذه الشهوات
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل
خلوت ولكن قل عليَّ رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ساعة
ولا أن ما تُخْفِي عليه يغيب
لهونا لعمر الله حتى تتابعت
ذنوب على آثارهن ذنوب
فياليت أن الله يغفر ما مضى
ويأذن في توباتنا فنتوب
سؤال ثان: عن الوضوء للصلاة وفى المضمضة والاستنشاق لماذا تحرص أيها الأخ الحبيب كل الحرص ألا يفوت إلى حلقك قطرة ماء؟ لماذا كل هذا الحرص مع أنه لا يطلع عليك أحد من الناس ولا يعلم بك أحد ، لو أدخلت جرعة ماء فكيف بقطرة كيف بقطرة سبحانه ،الله من علمك هذا الأدب؟ من علمك هذا الحرص العجيب ، إنها رقابة الله فأنت على يقين أنه يرى قطرة الماء هذه لو سالت إلى حلقك فيا سبحان الله أي تربية عظيمة وأي أدب جم مع الله هذا الذي أحدثه الصيام في قلبك.
تعالى لسؤال ثالث: إنا لنرى المرأة في رمضان نراك أيتها الأخت الكريمة من بعد صلاة الظهر إلى غروب الشمس وأنت في مطبخك تقفين أمام أصناف المأكولات والمشروبات تراها بعينها وتشم روائحها المغرية بأنفها وربما ذاقت ذلك بطرف لسانها فأخرجته بحركة سريعة عجيبة سبحان الله تأملوا هذا الموقف تأمليه أيتها الأخت هي جائعة وعطشى ولوحدها لا يراها أحد من الناس فلماذا لا تمد يدها فتأكل وتشرب؟ من الذي يمنعها؟ من يردها؟ إنها حلاوة الروح حلاوة الروح بصلتها بالله بخوفها من الله فهي تعلم أن الله يراها ومطلع عليها ويعلم حالها فأي تهذيب وأي تأديب هذا الذي أحدثه الصيام في النفوس فما رأيكم أيها الصُوَّام هل عرفنا لماذا نصوم؟(/57)
إذاً فخلاصة الأمر نقول: إن تجويع البطن والفرج لبضع ساعات فيه حياة للروح فيه حياة للقلب وأنت أيها الأخ إنسان بروحك وقلبك لا ببطنك وفرجك فنحن نأكل لنعيش ولسنا نعيش لنأكل ومن ذاق حلاوة الروح وراحة القلب بان له الفرق فانكسار النفس وخلو البطن وتضييق مجارى الدم فوائد للصيام مفادها حياة الروح المتمثلة برقة القلب ولينه وخوفه وخشيته من الله جل وعلا ، وإذا ملك العبد قلباً بهذه الصفات انضبط قوله وفعله وحاله إذ لا يمكن أبداً أن يمتثل بترك هذه الشهوات الطعام والشراب والجماع وهى حلال فيتعداها إلى الحرام من كذب وظلم وغش ومشاهدة للحرام وسماع للغناء سواء كان في الليل أو النهار وسواء كان في رمضان أو غير رمضان فالذي صلى وصام وترك الشراب والطعام في رمضان لعلمه أن الله رقيب عليه مطلع عليه سيترك الحرام في غير رمضان ، في غير رمضان أيضاً لأن الله ما يزال مطلعاً عليه عليما بحاله وهنا هنا يشعر الإنسان بلذة الصيام ، هنا تشعر أيها الأخ الحبيب بلذة شهر رمضان تشعر بالمعاني الجميلة لشهر رمضان فهو يصوم لبناء ذلك السد المنيع بين النفس وشهواتها وصدق [بشر بن الحارث] بقوله لا تجد حلاوة العبادة حتى تجعل بينك وبين الشهوات سداً ، هذا السد هو خوف الله ومراقبته في السر والعلن هذا السد ، هذا السد الذي جعلك تمسك في رمضان تمسك عن الطعام والشراب بهذه الدقة العجيبة ، هو السد الذي جعل ذلك الرجل في غير رمضان والمرأة ذات المنصب والجمال تدعوه فيقول لها بملء فيه إني أخاف الله إني أخاف الله مع وجود المغريات فهي ذات منصب وذات جمال وهى التي تدعوه لكنها تقوى القلوب لكنها حياة الإيمان لكنه الخوف من الله الذي من أجله فرض الصيام . فأين حال هذا الرجل أين حاله من حال هؤلاء الذين لا يجدون لملاحقة النساء وبنات المسلمين لذة إلا في شهر رمضان نعوذ بالله من حال هؤلاء هدانا الله وإياهم لما فيه الحق واتباع هذا الدين ، هذا السد هو الذي جعلك تحرص على صلاة الجماعة في رمضان هذا السد الذي جعلك تحرص على صلاة الجماعة في رمضان هو السد نفسه الذي جعل تلك الصغيرة في غير رمضان تمتنع عن مزج اللبن بالماء وتقول كلمتها المشهورة إن كان عمر لا يرانا فإن رب عمر يرانا وهذا السد الذي جعلك أيتها المرأة المسلمة تحرصين كل الحرص على ألا يفوت لحلقك شيء عند المذاق خوفاً ومراقبة لله في رمضان هو السد المنيع الذي جعل تلك المرأة تمتنع في غير رمضان عن الوقوع في الزنا لما غاب عنها زوجها طويلاً مع جيش المسلمين وكانت تردد هذه الأبيات:
تطاول هذا الليل واسود جانبه
وأرقني ألا خليل ألاعبه
فوالله لولا الله أنى أراقبه
لَحُرِّكَ من هذا السرير جوانبه
ولكن تقوى الله عن ذا تصدني
وحفظاً لبعلي أن تنال مراكبه
قال [ابن القيم]: بالحب والخوف والرجاء يذوق المسلم حلاوة الإيمان ومن استطال الطريق ضعف مشيه انتهى كلامه رحمه الله.
إذاً فلماذا نخاف الله ونراقب الله في رمضان فنصوم ونصلي ونفعل الخير كله ونهمل بل ويترك البعض ذلك في غير رمضان عجيب أمر تلك النفوس إن الله الذي يطلع عليك في رمضان يطلع عليك في رجب وشعبان وغيرهما من الشهور فالله فرض الصيام ثلاثين يوماً تدريباً وتذكيرا للنفوس برقابة الله عليها وصدق الله لعلكم تتقون أي من أجل أن تتقون ومن لم يصم بهذه المعاني فليتذكر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الآنف الذكر "رُبَّ صائم حظه من صيامه الجوع والعطش ورُبَّ قائم حظه من قيامه السهر والتعب"
أيها الراجي ثمار الصوم أعطي الصوم حقه
من خشوع واصطبار والتزام بالمشقة
وانطلاق في سبيل العيش في رفق ورقة
طارحا عن روحك المغلول بالشهوات ربقه
إن في هذا لعبد الجسم طول العام عتقه(/58)
أما القسم الثاني من هذا الدرس: مشاعر هذه الروح وهو تصوير لمشاعر وأحاسيس وروحانيات وأشجان لمن ذاق حلاوة الإيمان وطعم الصلة بالله في رمضان وعرف حقيقة الصيام وهي للجميع فلا يختص بها الرجال دون النساء ولا الكبار دون الصغار لعل الله أن ينفع بها الجميع فإن من ذاق طعم الشيء حرص عليه وتمسك به ومن ذاق طعم الإيمان بذل من أجله النفس والنفيس وقد قيدت أيها الأخوة قيدت هذه المشاعر والأحاسيس في رمضان المنصرم ، تقبل الله من صيامنا وقيامنا وحرصت يعلم الله أن أنقلها لكم ونحن نترقب حلول ضيفنا العزيز رمضان هذا العام تذكيراً وتشجيعا لنا جميعاً وخاصة أولئك المحرمون الذين لم يذوقوا لرمضان طعماً وليس له في قلوبهم حلاوة ولا أثر لا يرون في رمضان إلا جوعاً لا تتحمله أمعاؤهم وعطشاً لا تقوى عليه عروقهم فإلى هؤلاء بل لنا جميعاً أقول: تعالوا لنسمع أفراح الروح وهى تسري في القلب فتتلذذ بالصيام والقيام والصدقة وقراءة القرآن والتوبة والغفران ، تعالوا لأفراح الروح لنسمع أفراح الروح في شهر رمضان كيف تعيش تلك الروح فهذا صائم يحاول التعبير عن هذه الروحانية فيقول في نهار يوم من أيام رمضان اشتد بي الجوع فيبس اللسان وقرصت الشفتان وغارت العينان فنظرت عن يميني فإذا أصناف الطعام وعن شمالي أنواع الشراب فتذكرت قول الله في الحديث القدسي "ترك طعامه وشرابه من أجلي" فرق قلبي ودمعت عيني وانتابني شعور جميل له حلاوة وعليه طلاوة لا أستطيع وصفه ولا بيانه قلت لعله أثر من آثار الإخلاص في هذه العبادة العظيمة ،
ولكن من أنا عبد من عبيده فقير إليه ذليل بين يديه من أنا فيخاطبني وهو العظيم الجليل ذو الجبروت والملكوت ترك طعامه وشرابه من أجلي من أنا حتى يخاطبني بقوله من أجلي فتأمل قوله من أجلي رقة وشفافية عجيبة بهذه الرقة وبهذه الشفافية وبهذا الإيناس نسيت جوعي يعلم الله نسيت جوعي وتعبي فأي مشقة في الصوم في ظل هذا الود والقرب من السيد لعبده فشعرت بحرص واطمئنان ثقة ويقين بقربي من الله جل وعلا
قَلِّب فؤادك في محاسن شرعنا
تلقى جميع الحسن فيه مصورا
كم من معانٍ في صيام نبينا
نفح أرق من النسيم إذا سرى
انظر لفرق صيامهم وصيامنا
نهراً تفجر أحمديا كوثرا
فدهشت بين جماله وجلاله
وغدا لسان الحال عني مخبرا
لو أن كل الحسن أكمل صورة
ورآه كان مهللا ومكبرا
وهذه مشاعر متصدق صائم قائم قال فيها: في رمضان الصدقة لها طعم خاص ولذة عجيبة ولا غرو فإن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان، أخذت عهداً على نفسي ألا يمر يوم من رمضان إلا ولي فيه نصيب من الصدقة والإحسان فقليل دائم خير من كثير منقطع وبعد صولات وجولات بين بيوت الأرامل واليتامى والفقراء والمحتاجين لا يعلم بي أحد إلا الله شعرت برقة في قلبي ولذة عجيبة في نفسي فعرفت حقيقة الصيام وأحسست بقرصة الجوع ولذة الحرمان وقفت على أرملة لها صبية صغار وبيت بالإيجار ودموع غزار ربما عبث الهم بقلبها ففضلت الموت على الحياة أو سلكت طريقة البغاة عندها تبين لي قول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ "القائم على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله" أو "القائم الليل الصائم النهار" كما في البخاري ومسلم وجلست مع اليتيم فنظرت في عينيه فكأنه يسألني عن أبويه ولماذا هو ليس كغيره من الصغار معهم الألعاب والحلوى والطعام وهل سأشتري له ثوباً جديداً ليلبسه في العيد فمسحت بيدي على رأس اليتيم فإذا بقلبي يلين ودمعي يسيل تذكرت قول الحبيب صلى الله عليه وسلم في المسند من حديث أبى هريرة" أن رجلاً شكا إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قسوة قلبه فقال له ـ صلى الله عليه وسلم ـ إن أردت تليين قلبك فأطعم المسكين وامسح على رأس اليتيم"
هكذا رمضان فهو مدرسة يستثير الشفقة ويحث على الصدقة وهو شهر يعلمنا الجود والإحسان ليس فقط في رمضان بل والله على الدوام (وما تنفقوا من خير فلأنفسكم)(/59)
حدثني أحد الاخوة بكلام عجيب كان له وقع في نفسي قال إنه قرأ[ للشعبي] ـ رحمه الله ـ كلاماً جميلاً قال فيه من لم ير نفسه إلى ثواب الصدقة أحوج من الفقير إلى صدقته فقد أبطل صدقته وضرب بها وجهه فما تركت بعدها الصدقة فما تركت الصدقة بعدها فأنا الفقير وأنا المحتاج نعم والله أنا الفقير وأنا المحتاج أنا الفقير إلى عفو ربي وأنا المحتاج إلى غفران الله جل وعلا لنفسي كان [ابن عمر] يصوم ولا يفطر إلا مع المساكين فإذا منعه أهله عنهم لم يتعش تلك الليلة وجاء سائلا إلى [الأمام أحمد] فدفع إليه رغيفين كان يعدهم لفطره ثم نام جائعاً ثم أصبح صائماً ، عائشة ـ رضي الله عنه ـ أم المؤمنين أنفقت في يوم واحد مائة ألف درهم وهى صائمة فقالت لها خادمتها لو أبقيت لنا ما نفطر به اليوم فقالت عائشة لو ذكرتني لفعلت ، لو ذكرتني لفعلت سبحان الله ما هذه الروحانية العجيبة وما هذا السمو المذهل في النفس الصائمة حتى إنها تنسى حاجاتها ومطالبها وكأنها لا تذكر إلا أمتها وحاجات الفقراء والمحتاجين ، لا إله إلا الله ، أما حديث التائبين وخاصة في شهر التوبة فهو عجيب غريب واسمع لهذا التائب في رمضان وهو يحاول أن يصف فرحته وسعادته فيقول ما أجمل رمضان وما أحسن أيامه سبحان الله كل هذه اللذة وهذه الحلاوة ولم أذق طعمها إلا هذا العام أين هي عني كل هذه السنوات إيهٍ بل أين أنا عنها فإن من تحرى الخير يُعْطَه ومن بحث عن الطريق وجده ومن أقبل على الله أعانه وسدده صدق الله صدق الله في الحديث القدسي "من تقرب مني شبراً تقربت منه ذراعاً" كما في الصحيحين سبحان الله أشعر أن حملاً ثقيلاً انزاح عن صدري وأشعر بانشراح فسيح في نفسي ، أول مرة في حياتي أفهم تلك الآية التي أسمعها تقرأ في مساجدنا (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجا كأنما يصعد في السماء)
أين ذلك الضيق أين ذلك الضيق وتلك الهموم التي كانت تكتم نفسي حتى أكاد أُصْرَع ، أين تلك الهواجس والأفكار والوساوس ، أين شبح الموت الذي كان يلاحقني فيفسد على المنام إنني أشعر بسرور عجيب وبصدر رحيب وبقلب لين رقيق أريد أن أبكي أريد أن أنثر الدم لا أريد أن أرفع جبيني عن الأرض أريد أن أناجي ربى وأعترف له بذنبي لقد عصيت وأذنبت وصليت وتركت وأسررت وجهرت وأبعدت وأقربت وشرقت وغربت وسمعت وشاهدت
ويح قلبي من تناسيه مقامي يوم حشري
واشتغالي عن خطايا أثقلت والله ظهري
ليتني أقبل وعظي ليتني أسمع زجري
والله لولا الحياء ممن بجواري لصرخت بأعلى صوتي
أبوء لك بنعمتك عليَّ وأبوء بذنبي
فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنب إلا أنت
لسان حالي يقول للإمام لماذا قطعت عليَّ حلاوة المناجاة يا إمام لماذا رفعت من السجود فحرمتني من لذة الاعتراف والافتقار للواحد القهار يا إمام أريد أن أبكى فأنا لم أبك منذ أعوام ، ألا يا عين ويحك أسعفيني بطول الدمع في ظُلَمِ الليالي لعلك في القيامة أن تفوزي بخير الدهر في تلك العلالي، يا إمام أسمعني القرآن فقد مللت ملاهي الشيطان يا إمام لماذا يذهب رمضان وفيه عرفنا الرحمن وأقلعنا عن الذنب والعصيان
في صيام الشهر طب ليس يدريه طبيب
فيه أسرار يعيها صائمٌ حقاً أريب
فيه غيث من صفاء ترتوي فيه القلوب
فيه للأرواح شبع دونه الكون الرحيب
صائم في دِرْعِ تَقْوَى تَنْجَلِي عنه الكروب
ما أحلاك يا رمضان وما أجملك سأستغل أيامك ولياليك بل ساعاتك وثوانيك كيف لا وقد وجدت نفسي فيك أليس في الحديث "رَغِمَ أنف رجل دخل عليه رمضان ثم انسلخ قبل أن يغفر له" كما في الترمذي وقال حسن غريب
إذا هجا عن دُوَّام أسبلت عورتي
وأنشدت بيتاً وهو من ألطف الشعر
أليس من الخسران أن ليالياً
تمر بلا علم وتحسب من عمري
يا معشر العاصين لا يأس من قلب خلا وجمد وقسي وتبلد فإنه يمكن أن تدب فيه الحياة ويمكن أن يشرق فيه النور ويمكن أن يخشع لذكر الله فنحن في شهر رمضان شهر التوبة والغفران شهر تصفيد الشياطين وفتح أبواب الجنان وإغلاق أبواب النيران والله يحيي الأرض بعد موتها فتنبت وتزهر.
يا معشر التائبين
تعالوا كل من حضر لنطرق بابه سحراً
ونبكى كلنا أسفا على من بات قد هجر
كيف نصنع إذا نودي للرحيل وما تأهبنا ، ألسنا الذين بارزنا بالكبائر وما راقبنا يا معشر المذنبين لنبسط لسان الاعتذار ولنظهر العجز والافتقار وليردد كل واحد منا
إلهي لئن خبت وطردتني
فمن ذا الذي أرجو ومن ذا أشفع
إلهي لئن أعطيت نفسي سؤلها
منها أنا في روض الندامة أرتع
إلهي ترى حالي وفقري وفاقتي
وأنت مناجاتي الخفية تسمع
إلهي فلا تقطع رجائي ولا تزغ
فؤادي فلي في سيب جودك مطمع
إلهي أجرني من عذابك إنني
أسير ذليلاً خائفا لك أخضع
إلهي لأن جلت وجمت خطيئتي
فعفوك من ذنبي أجل وأوسع
…. انتهى كلامه.
فقلت سبحان الله في رمضان رياح الأسحار تحمل أنين المذنبين وأنفاس المحبين وقصص التائبين ورحم الله مبرزا بقوله اللهم ارض عنا فإن لم ترض عنا فاعف عنا.(/60)
وهذا مودع لرمضان ذاق طعمه وعرف حلاوته وها هو ذا يتألم ويتحسر على فراقه فيقول في الأيام الأخيرة من رمضان شعرت بتسارع الأنفاس وكثرة الهاجس والوسواس أتمنى أن أمسك الشمس فلا تزول لا أصدق أن رمضان سيرحل بعد أيام لقد ذقت حلاوة الصيام ولذة القيام لقد وقفت مع الصالحين وركعت مع الراكعين وسجدت مع الساجدين ، بالأمس كنت أذرف دموع الفرح لاستقباله واليوم تسيل دموع الحزن لرحيل هلاله آه لرمضان فقد هَيَّمَ نفسي وَتَّيمَ قلبي تلاقينا وكأنها لحظات وتناجينا وكأنها همسات فمن منا لا تؤلمه ساعات الفراق ومن منا يحتمل لحظات العناق رمضان أيها الحبيب ترفق دموع المحبين تدفق وقلوبهم من ألم الفراق تشقق ، رمضان أطفأت أنوار المساجد وتفرق الراكع والساجد رمضان هل أنا مقبول أم مطرود وهل تعود أيامك أولا تعود وإن عادت هل أنا في الوجود أم في اللحود، سأعلن الأحزان وأبث الأشجان وسأرسل العبرات والزفرات والآهات ، فربما هذه آخر ليلة منك يا رمضان ولا أدري أنا رابح فيك أم خسران
يا ربي إن فراق الخل عذبني
وأورث النفس آلاما وأحزانا
وأذهب العين حتى صار ناظرها
يقول ويحك قد تلقاه عميانا
ألقاه أعمى ولكن لا يفارقني
يبقى وتبقى معاً في القلب سكنانا
يا رب رد غريباً في ظل وجهته
يقلب الطرف بين الناس حيراناً
يبيت يبكى ويصحوا باكياً أبداً
قد جرب الحزن أشكالا وألواناً
وأخيراً هذه مشاعر مسلم في صبيحة العيد فيقول تذكرت في صبيحة العيد- وأنا أقبل أولادي -يتامى لا يجدون من يقبلهم أو حتى يبتسم لهم ،تذكرت في صبيحة العيد وأنا مع زوجي أيامي لا يجدن حنان الزوج ورقته، تذكرت في صبيحة العيد ونحن على الطعام والطيب والشراب البارد الجموع التي تموت من الجوع وتذكرت في صبيحة العيد وأنا ألبس الجديد ذلك الذي لا يجد ما يستر به عورته وربما غطى بالأوراق والجلود سوأته، تذكرت في صبيحة وقد اجتمع شملنا وأنسنا بآبائنا وأمهاتنا إخوانا لنا شردتهم الحروب لا راحة ولا استقرار ولا أمن ولا أمان فعيدهم دموع وأحزان وذكريات وأشجان…
جالت في خاطري هذه الذكريات ومع ذلك لبست الجديد وزرت القريب والبعيد وأكلت وشربت وابتسمت ومازحت لكن شعور الجسد الواحد وشعور الإخاء قوي في نفسي لا أنساهم في حديثي وأنسى وإن ضحكت تبدو مسحة الحزن على وجهي
يلهج بالدعاء لهم لساني وأحدث عنهم أهلي وجيراني
وفى صحيح مسلم "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر"
ومن عمل صالحا فلنفسه ومن علت همته اتصف بكل جميل ، ومن دنت همته اتصف بكل خلق رديء.
سأصرف همتي بالكل عما نهاني الله من أمر المزاح
إلى شهر الخضوع مع الخشوع إلى شهر العفاف مع الصلاح
يجازي الصائمون إذا استقاموا بدار الخلد والحور الملاح
وبالغفران من رب عظيم وبالملك الكبير بلا براح
فيا أحبابا اجتهدوا وجدوا لهذا الشهر من قبل الرواح
عسى الرحمن أن يمحو ذنوبي ويغفر ذلتي قبل افتضاحي
أيها الأحبة أيها الأخوة والأخوات ، هكذا نحيا رمضان عند ما نفهم حقيقة الصيام ونشعر بحلاوة الإيمان ، هذه الأحاسيس الجميلة والمشاعر النبيلة هذه الروحانية الندية ما هي إلا عاجل بشرى المؤمن، فسبحان من أشهد عباده جنته قبل لقائه وفتح لهم أبوابها في دار العمل فآتاهم من روحها ونسيمها وطيبها فاستفرغ قواهم لطلبها والمسابقة إليها، أما الحلاوة الحقيقية فيكفي قول الحق عز وجل:(فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون)
أيها الاخوة هلموا إلى دار لا يموت سكانها نحن في رمضان ، نحن في رمضان موسم الخيرات فهلموا إلى دار لا يموت سكانها ولا يخرب بنيانها ولا يهرم شبانها ولا يتغير حسنها وإحسانها هواؤها النسيم ماؤها التسنيم يتقلب أهلها في رحمة أرحم الراحمين ، ويتمتعون بالنظر إلى وجهه الكريم كل حين ، دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام ، وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين ، طعامهم ما تشتهيه نفوسهم ولحوم طير ناعم وسمان وفواكه شتى بحسب مناهم يا شبعةً كملت لذي الإيمان لحم وخمر والنساء وفواكه والطيب مع روح ومع ريحان وصحافهم ذهب تطوف عليهم بأكف خدام من الولدان ، نسأل الله الكريم من فضله اللهم إنا نسألك جنة الفردوس برحمتك يا أرحم الراحمين.
أيها الأخوة أكرموا هذا الوافد العظيم استقبلوه بالتوبة الصادقة والرجوع إلى الله أروا الله من أنفسكم في هذا الشهر المبارك فإن لله نفحات من حرمها حرم خيراً كثيراً جاهدوا أنفسكم أخلصوا النية لله في الاستعداد له فربما قطع هادم اللذات تلك الأماني فبلغ صاحبها بنيته ما لم يبلغه بعمله ، كم ، كم من إخواننا الذين كانوا يخططون لشهر رمضان وعمل الخيرات فيه وقد حملناهم على الأكتاف ودفناهم تحت الأجداث لكنهم بلغوا إن شاء الله بنياتهم ، اللهم اجعل مواسم الخيرات لنا مربحاً ومغنماً ، اللهم بلغنا رمضان ووفقنا لصيامه وقيامه ، واقبلنا فيه وتقبله منا(/61)
اللهم اجعلنا من الفائزين فيه اللهم اختمه لنا بالقبول والغفران ، اللهم إنا نسألك رحمة من عندك تهدى بها قلوبنا ، وتجمع بها أمرنا وتلم بها شعثنا وتصلح بها غائبنا ، وترفع بها شاهدنا وتزكى بها عملنا وتلهمنا بها رشدنا ، وترد بها ألفتنا وتعصمنا بها من كل سوء اللهم أعطنا إيمانا ويقيناً ليس بعده كفر ورحمة ننال بها شرف كرامتك في الدنيا والآخرة اللهم أنا نسألك الفوز في العطاء ونزل الشهداء
وعيش السعداء والنصر على الأعداء اللهم إنا ننزل بك حاجاتنا وإن قصر رأينا وضعف عملنا افتقرنا إلى رحمتك ، فنسألك يا قاضي الأمور ويا شافي الصدور كما تجير بين البحور أن تجيرنا من عذاب السعير ومن دعوة الثبور ومن فتنة القبور ، اللهم ما قصر عنه رأينا ولم تبلغه نيتنا ولم تبلغه مسألتنا من خيرٍ وعدته أحداً من خلقك أو خيراً أنت معطيه أحدا من عبادك فإنا نرغب إليك فيه برحمتك يا أرحم الراحمين ونسألك برحمتك يا رب العالمين اللهم ذا الحبل الشديد والأمر الرشيد نسألك الأمن يوم الوعيد والجنة يوم الخلود مع المقربين الشهود والركع السجود الموفين بالعهود، إنك رحيم ودود وأنت تفعل ما تريد اللهم انصر إخواننا المستضعفين في كل مكان اللهم انصر إخواننا المسلمين المستضعفين في كل مكان اللهم اشف مريضهم واجبر كسيرهم اللهم ارحم الأطفال اليتامى والنساء الثكالى وذي الشيبة الكبير اللهم اجعلنا هادين مهتدين غير ضالين ولا مضلين سلما لأوليائك وعدوا لأعدائك نحب بحبك من أحبك ونعادي بعداوتك من خالفك اللهم عليك بأعداء الدين ومن ناصرهم اللهم عليك بأعداء الدين ومن ناصرهم وأعانهم يا رب العالمين اللهم يا حي يا قيوم أصلح ولاة أمورنا وولاة أمور المسلمين اللهم وفقهم وأعنهم لما فيه صلاح الإسلام والمسلمين اللهم يا ربي يا ذا الجلال والإكرام اجمع على التوحيد كلمة المسلمين وانصرهم على اليهود والنصارى والمنافقين اللهم هذا الدعاء وعليك الإجابة وهذا الجهد وعليك التكلان اللهم اجعل لنا نورا في قلوبنا ونورا في قبورنا اللهم اجعل لنا نورا من بين أيدينا ومن خلفنا ونورا عن أيماننا ونورا عن شمائلنا ونورا من فوقنا ونورا من تحتنا ونورا في أسماعنا ونورا في أبصارنا ونورا في شعرنا ونورا في بشرتنا ونورا في لحمنا ونورا في دمنا ونورا في عظامنا .
بسم الله الرحمن الرحيم ، إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا أما بعد أيها الأحبة في الله السلام عليكم ورحمة الله وبركاته هذه ليلة الثلاثاء الموافق السادس عشر من شهر شوال للعام السادس عشر بعد الأربعمائة والألف وفي هذا الجامع المبارك في مدينة >الرس< ومع هذا الموضوع والذي هو بعنوان رمضان والرحيل المر وها هو نصف شهر أيها الأحبة يمضي بعد رحيل رمضان بعد رحيلك أيها الحبيب رمضان ويا لها من أيام مرة المذاق ليسأل كل إنسان منا نفسه كيف حالك أيتها النفس بعد رمضان أيها الإخوة والأخوات لقد تعمدت تأخير هذا الموضوع إلى هذه الأيام لنقارن بين حالنا في رمضان وحالنا بعد رمضان رغم أنه لم يمض عليه سوي أيام إيه أيتها النفس كنت قبل أيام في صلاة وقيام وتلاوة وصيام وذكر ودعاء وصدقة وإحسان وصلة للأرحام قبل أيام كنا نشعر برقة القلوب واتصالها بعلام الغيوب كانت تتلي علينا آيات القرآن فتخشع القلوب وتدمع العيون فنزداد إيمانا وخشوعا وإخباتا لله سبحانه وتعالى ، ذقنا حلاوة الإيمان وعرفنا حقيقة الصيام ذقنا لذة الدمعة ذقنا لذة الدمعة وحلاوة المناجاة في السحر كنا نصلي صلاة من جعلت قرة عينه في الصلاة وكنا نصوم صيام من ذاق حلاوته وعرف طعمه وكنا ننفق نفقة من لا يخشى الفقر كنا وكنا مما كنا نفعله في هذا الشهر المبارك العظيم الذي رحل عنا كنا ننفق نفقة من لا يخشى الفقر وهكذا نتقلب في أعمال الخير وأبوابه حتى قال قائلنا يا ليتني مُتُّ على هذه الحال لما يشعر به من حلاوة الإيمان ولذة الطاعة فتذكرت حينها [ابن مسعود] ـ رضي الله تعالى عنه ـ لما بكي في مرض موته فسئل ما الذي يبكيك فقال رضي الله عنه إنما أبكي لأنه أصابني في حال فترة أي الموت أصابني في حال فترة ولم يصبني في حال اجتهاد كما في مجمع الزوائد للهيثمي وهكذا مضت الأيام ورحل رمضان ثم ماذا ؟
رحلت يا رمضان
ولم يمض على رحيلك سوى ليالٍ وأيام ، ولربما رجع تارك الصلاة لتركه ، وآكل الربا لأكله ، وسامع الغناء لسماعه، ومشاهد الفحش لفحشه ، وشارب الدخان لشربه
رحلت يا رمضان ، ولم يمض على رحيلك سوي ليالٍ و أيام ، وأيام ولربما نسينا لذة الصيام ، فلا الست من شوال ولا الخميس و الاثنين ولا الثلاثة الأيام ، رحلت يا رمضان ولم يمض على رحيلك سوي ليال وأيام ، ولربما لم نذق فيها طعم القيام .(/62)
سبحان الله أين ذلك الخشوع وتلك الدموع في السجود والركوع أين ذلك التسبيح والاستغفار وأين تلك المناجاة لله الواحد القهار رحلت يا رمضان ولم يمض على رحيلك سوي ليالٍ وأيام ولربما هجرنا القرآن وقد كنا نقرأ بعد الفجر وبعد الظهر وبعد العصر وفي الليل والنهار وها هو نصف شهر مضى فكم قرأنا فيه من القرآن
خَلِيلَيَّ شهر الصوم ذُمَّت مطاياه
... وسارت وفود العاشقين بمسراه
فيا شهر لا تبعد لك الخير كله
... وأنت ربيع الوصن يا طيب مرعاه
نشرق بدموع الفراق أيها الأحبة فلا نستطيع أن نبث المشاعر والآلام والأحزان لما نجده من فقد لذة الطاعة وحلاوة الإيمان هكذا حال الدنيا اجتماع وافتراق ومن منا لا تؤلمه لحظات الفراق ودموع العناق ، رمضان أيها الصديق أيها الجليس الصالح وأيها الحبيب
أُحِسُّ بجرحي يا صديقي كأنه
يدب إلى أعماق قلبي ويوغل
ونفسي أمام المغريات قوية
ولكنها عند الأحبة تسهل
كأن فؤادي لو تأملت ما به
بما فيه من شَتَّى المشاعر معمل
رمضان كيف ترحل عنا وقد كنت خير جليس لنا بفضل ربنا كنت عونا لنا ونحن بين قارئ وصائم ومنفق وقائم ونحن بين بَكَّاء ودامع وداع وخاشع رمضان فيك المساجد تعمر والآيات تذكر والقلوب تجبر والذنوب تغفر كنت للمتقين روضة وأنساً وللغافلين قيدا وحبسا كيف ترحل عنا وقد ألفناك وعشقناك وأحببناك رمضان ألا تسمع لأنين العاشقين وأهات المحبين
اسمع أنين العاشقين
إن استطعت له سماعا
راح الحبيب فشيعته
مدامع انذرفت سراعا
لو كل كالجبل الأصم
فرط إلث ما استطاعا
قال [ابن رجب] في وداع رمضان واسمعوا واسمعوا لقلوب السلف رضوان الله عليهم كيف كانت تخرق لفراق هذا لشهر قال ابن رجب رحمه الله
يا شهر رمضان ترفق
دموع المحبين تدفق
قلوبهم من ألم الفراق تشقق
عسى وقفة الوداع تطفئ
من نار الشوك ما أحرق
عسى ساعة توبة وإقلاع
ترقع من الصيام ما تخرق
عسى منقطع عن ركب المقبولين يلحق
عسى أسير الأوزار يطلق
عسى من استوجب النار يعتق
عسى وعسى من قبل يوم التفرق
إلى كل ما نرجو من الخير نرتقي
فيجبر مكسور ويقبل تائب
ويعتق خطاء ويسعد من شقي
انتهي كلامه رحمه الله رحلت يا رمضان والرحيل مر على الصالحين فابكوا عليه بالأحزان وودعوه وأجروا لأجر فراقه الدموع وشيعوه
دع البكاء على الأطلال والدار
واذكر لمن بان مِن خلٍّ ومن جارِ
وذر الدموع نحيباً وابك من أسفٍ
على فراق ليالٍ ذات أنوار
على ليالٍ لشهر الصوم ما جعلت
إلا لتمحيص آثامٍ وأوزارِ
يا لائمي في البكاء زدني به كلفا
واسمع غريب أحاديث وأخبار
ما كان أحسننا والشمل مجتمع
منا المصلي ومنا القانت القاري
الناس بعد رمضان فريقان فائزون وخاسرون أيا ليت شعري من هذا الفائز منا فنهنئه ومن هذا الخاسر فنعزيه ورحيله مُرٌ على الجميع الفائزين والخاسرين الرحيل مر على الفائزين لأنهم فقدوا أيام ممتعة وليال جميلة نهارها صدقة وصيام وليلها قراءة وقيام نسيمها الذكر والدعاء وطيبها الدموع والبكاء شعروا بمرارة الفراق فأرسلوا العبرات والآهات كيف لا وهو شهر الرحمات وتكفير السيئات وإقالة العثرات كيف لا والدعاء فيه مسموع والضر مدفوع والخير مجموع كيف لا نبكي على رحيله ونحن لا نعلم أمن المقبولين نحن أم من المطرودين كيف لا نبكي على رحيله أيها الأحبة ونحن لا ندري أيعود ونحن في الوجود أم في اللحود ، الفائزون من خشية ربهم مشفقون نعم هم فائزون ولكنهم من خشية ربهم مشفقون يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة على رغم أنهم في نهاره صيام وقراءة قرآن وإطعام وإحسان وفي ليله سجود وركوع وبكاء وخشوع وفي الغروب والأسحار تسبيح وتهليل وذكر واستغفار ، الفائزون شمروا عن سواعد الجد فاجتهدوا واستغفروا وأنابوا ورجعوا ما تركوا بابا من أبواب الخير إلا ولجوا، ولكن مع ذلك كله قلوبهم وجلة خائفة وجلة خائفة بعد رمضان أقبلت أعمالهم أم لا أكانت خالصة لله أم لا أكانت على الوجه الذي ينبغي أم لا ، كان السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم يحملون هم قبول العمل أكثر من القيام بالعمل نفسه قال [عبد العزيز ابن أبي رواد] أدركتهم يجتهدون في العمل الصالح فإذا فعلوا وقع عليهم الهم أيقبل منهم أم لا ، لا يغفلون عن رمضان فإذا فعلوا وانتهوا يقع عليهم الهم أيُقْبَلُ منهم أم لا وقال على ـ رضي الله تعالى عنه ـ كونوا لقبول العمل أشد اهتماما منكم بالعمل ، ألم تسمعوا لقول الحق عز وجل "إنما يتقبل الله من المتقين" وقال [مالك ابن دينار] الخوف على العمل ألا يتقبل أشد من العمل وروي عن علي ـ رضي الله تعالى عنه ـ أنه كان ينادي في آخر رمضان يا ليت شعري من هذا المقبول فنهنيه ومن هذا المحروم فنعزيه وعن [ابن مسعود] أنه قال : مَن هذا المقبول منا فنهينه ومَن هذا المحروم منا فنعزيه
أيها المقبول هنيئا لك أيها المردود جبر الله مصيبتك ليت شعري من فيه يقبل منا فَيُهَنَّى يا خيبة المردود من تولي عنه بغير قبول، أرغم الله أنفه بخزي شديد(/63)
فيا ليت شعري أيها الأحبة بعد هذه الأيام ، مَن منا أشغله هذا الهاجس وقد مضي نصف شهر على رحيل رمضان من منا أشغله هاجس هل قبلت أعماله أم لا ؟ هل نحن من الفائزين في رمضان أم لا ؟ من منا لسانه يلهج بالدعاء أن يقبل الله منه رمضان ؟ إننا نقرأ ونسمع أن سلفنا الصالح كانوا يدعون الله ستة أشهر ستة أشهر أن يقبل الله منهم رمضان ونحن لم يمض على رحيله سوى أيام فهل دعونا أم لا أم أننا نسينا رمضان وغفلنا عنه وكأننا أزحنا حملا ثقيلا كان كاتما على صدورنا ، نعم رحل رمضان لكن ماذا استفدنا من رمضان وأين أثاره على نفوسنا وعلى سلوكنا وعلى أقوالنا وأفعالنا هكذا حال الصالحين العاملين فهم في رمضان صيام وقيام وتقلب في أعمال البر والإحسان وبعد رمضان محاسبة للنفس وتقدير للربح والخسران وخوف من عدم قبول الأعمال لذا فألسنتهم تلهج بالدعاء والإلحاح بأن يقبل الله منهم رمضان ، أما المُفَرِّطون نعوذ بالله من حالهم فهم نوعان أناس قَصَّروا فلم يعملوا إلا القليل نعم صلى التراويح صلوا التراويح والقيام سراعا فهم لم يقوموا إلا القليل ولم يقرءوا من القرآن إلا القليل ولم يقدموا من الصدقات إلا القليل الصلوات المفروضة تشكو من تخريقها ونقرها والصيام يئن من تجريحه وتضييعه والقرآن يصرخ من هجره ونثره والصدقة ربما يتبعها مَنٌّ وأذى ، الألسن يابسة من ذكر الله غافلة عن الدعاء والاستغفار فهم في صراع مع الشهوات حتى في رمضان لكن فكرة الخير تجذبهم فتغلبهم تارة ويغلبونها تارات فهم يصلون التراويح لكن قلوبهم معلقة بالرياضة ومشاهدة المباريات ورمضان هذا العام يشهد بمثل ذلك سبحان الله حتى في رمضان حتى في العشر الأواخر أفضل الأيام سبحان الله كيف أصبحت الرياضة تعبد من دون الله لا حول ولا قوة إلا بالله هم يقرءون القرآن في النهار لكنهم يصارعون النوم بعد سهر الليالي والتعب والإرهاق من الدورات الرياضية والجلسات الفضائية أما الصلاة فصلاة الظهر عليه السلام وربما صلاة العصر بل وربما الفجر كل ذلك بسبب التعب والإرهاق كما يقولون فهؤلاء لم ينتبهوا إلا والحبيب يرحل عنهم فتجرعوا مرارة الرحيل بكاء وندما حزنوا ولكن بعد ماذا ؟ بعد فوات الأوان بعد أن انقضت أفضل الأيام أما النوع الثاني من المفرطين هم الخاسرون نعوذ بالله من الخسران فهناك من لم يقم رمضان ولم يقرأ القرآن وربما لم يصم في رمضان فنهاره ليل وليله ويل لا الأواخر عرفوها ولا ليلة القدر قدروها متي يصلح من لا يصلح في رمضان متي يصح من كان من داء الجهالة والغفلة مرضان متي من فرط في الزرع في وقت البدار لم يحصد غير الندم والخسار مساكين هؤلاء فاتهم رمضان وفاتهم خير رمضان فأصابهم الحرمان وحلت عليهم الخيبة والخسران قلوب خلت من التقوى فهي خراب بلقع لا صيام ينفع ولا قيام يشفع قلوب كالحجارة أو أشد قسوة حالها في رمضان كحال أهل الشقوة ،لا الشاب منهم ينتهي عن الصبوة ولا الشيخ ينذجر فيلحق بالصفوة ، أيها الخاسر رحل رمضان وهو يشهد عليك بالخسران فأصبح لك خصماً يوم القيامة رحل رمضان وهو يشهد عليك بهجر القرآن فيا ويل من جعل خصمه القرآن وشهر رمضان فيا من فرط في عمره وأضاعه كيف ترجو الشفاعة أتعتذر برحمة الله أتقول لنا إن الله غفور رحيم نعم لكن إن رحمة الله قريب من المحسنين العاملين بالأسباب الخائفين المشفقين سُئل [ابن عباس ] عن رجل يصوم النهار ويقوم الليل ولا يشهد الجمعة والجماعات فقال ـ رضي الله تعالى عنه ـ هو في النار وفي صحيح [ابن حبان] عن [أبي هريرة] ـ رضي الله تعالى عنه ـ "أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ صعد المنبر فقال آمين آمين آمين قيل يا رسول الله إنك صعدت المنبر فقلت آمين آمين آمين فقال إن جبريل أتاني فقال من أدرك شهر رمضان فلم يغفر له فدخل النار فأبعده الله" فأبعده الله فكم أولئك المبعدين والعياذ بالله من رحمة الله قل آمين فقلت آمين إلى آخر الحديث ، فيا أيها الخاسر نعم رحل رمضان وربما خسرت خسارة عظيمة ولكن الحمد لله فمازال الباب مفتوحا والخير مفسوحا وقبل غرغرة الروح ابك على نفسك وأكثر النوح وقل لها:
تَرَحَّلَ الشهر وا لهفاه وانصرمَ
واختص بالخوض في الجنات من خدمَ
وأصبح الغافل المسكين منكسرا
مثلي فيا ويحه يا عُظم ما حُرِم
من فاته الزرع في وقت البدار
فما تراه يحصد إلا الهم والندمَ
طوبى لمن كانت التقوى بضاعته
في شهره وبحبل الله معتصما
يا من بليت بالتفريط بصلاة الجماعة ها هو نصف شهر يمضي بعد رحيل رمضان(/64)
فما هو حالك والصلاة يا من بليت بالتفريط في صلاة الجماعة و بالإفراط في المعاصي والشهوات شهر كامل وأنت تحافظ على الصلاة مع جماعة المسلمين تركع مع الراكعين وتسجد مع الساجدين فما شعورك وأنت تري المصلين عن يمينك ويسارك إنهم بشر مثلك اسأل نفسك يحرصون على صلاة الجماعة كل الشهور وأنت لا لماذا ؟ جاهدوا أنفسهم وتغلبوا عليها وأنت لا لماذا ؟ يتقدمون وأنت تتأخر والله لا أشك أنك تحب الله كما يحبون وترغب في الجنة كما يرغبون فلماذا يتقدمون وأنت تتأخر ويواظبون وأنت تهمل ؟ حدثني عن الراحة والسعادة يوم وطئت قدماك عتبة المسجد حدثنا عن اللذة والحلاوة يوم سجدت مع الساجدين وركعت مع الراكعين تسلم عليهم ويسلمون عليك تحدثهم ويحدثوك إن الله لم يعذُر المجاهد في سبيله في ترك الجماعة وهو في ساحة الجهاد يقاتل العدو ؛فقال الله سبحانه وتعالى فليصلوا معك والنبي صلى الله عليه وسلم لم يعذُر الأعمى فبيته بعيد وبينه وبين المسجد واد فيه سباع وهوام وليس له قائد يقوده للمسجد كل هذه الظروف ولم يعذره صلى الله عليه وسلم لأنه يسمع النداء ، أجب فإني لا أجد لك عذرا أجب فإني لا أجد لك عذرا ، فيا أيها المفرط في صلاة الجماعة هل تجد لك عذرا بعد هذا هل تجد لك عذرا بعد هذا نعوذ بالله من العجز والكسل والخمول إذاً فلتكن هذه الأيام وليكن نصف الشهر هذا فرصة وانطلاقة للمحافظة على الصلاة والجماعة وكل شيء يهون إلا ترك الصلاة إلا ترك الصلاة فهو كفر وضلال كفر وضلال والعياذ بالله يا من بليت ببعض الذنوب إياك إياك بعد رمضان أن تعود ، شهر كامل وأنت تجاهد النفس وتصبرها وتجمع الحسنات وتحسبها فهل بعد هذا تراك تنقضها فالله عز وجل يقول (ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا) . فيا من أعتقه مولاه من النار إياك أن تعود إلى الأوزار أيبعدك مولاك من النار وأنت تتقرب منها وينقذك منها وأنت توقع نفسك فيها ولا تحيد عنها يا من بليت بالتدخين شهر كامل وأنت تفارقه ساعات طويلة وإذا حدثناك عن أخطاره وحكمه قلت لم أستطع تركه فمن أين لك هذه الإرادة وهذه العزيمة في رمضان وقد صبرت عنه حوالي اثنتي عشرة ساعة أو أكثر ، إذاً فاعلم أن رمضان فرصة للإقلاع عنه وفي رمضان في أخره جاءني أحد الإخوة يبشرني بتركه التدخين فقلت أخشى عليك من العودة قال لا فأنا تركته بعزيمتي وإرادتي قلت ابتعد عن أسبابه وأهله قال والله إني أري المدخن يدخن وكأني لم أر الدخان في حياتي فأنا تركته برغبتي وإرادتي إلى غير رجعة إن شاء الله قلت الحمد لله وكنت أعلم أن خلفه زوجة صالحة تذكره تارة بالكلمة الطيبة وتارة بالكتاب والشريط وتارة بتخويفه بالله فيا كل مدخن ومُبْتَلى رمضان فرصة ونصف الشهر هذا فرصة لمقارنة الحال ولكنها الهزيمة النفسية والهمة الدنية يوم يهزمك عود سيجارة قيل لبعض العباد من شر الناس قال من لا يبالي أن يراه الناس مسيئا وربما أيها المدخن أشعلت سيجارتك أمام الناس فرأوك مسيئا أيها المدخن إن إصبع السبابة الذي يشهد لله بالوحدانية في الصلاة ليرفض أن يمسك بعود سيجارة يعصي بها الله أيها المدخن أيها الحبيب هل تعلم أن التدخين مفتاح لكل شر وفجور لا تقل لا فإن من رآك تدخن تجاسر عليك في كل بلاء وفتنة وربما يدعوك اللواط والزنا والمخدرات والربا إلا من عصم الله أسأل الله أن يحفظك ويرعاك من كل سوء أيها الحبيب اسأل نفسك ما الفرق بين من في يده عود سواك ومن بيده عود هلاك أجب بكل صراحة أجب واترك الهوى واعلم أن هذه الأيام فرصة لا تعوض لترك هذا البلاء وخاصة أنك نجحت في رمضان فاستعن بالله وتوكل عليه وكن صاحب همة عالية وعزيمة صادقة أيها المسلم شهر كامل وأنت في ركوع وسجود تصلي في الليلة ساعات لا تمل ولا تكل ثم بعد رمضان تتغير أحوالنا وتنقطع صلاتنا، سبحان الله أنعجز أن نصلي ساعة أو نصف ساعة وقد كنا نصلي الثلاث والأربع ساعات في رمضان ، أيها الصالح لست غريبا عن قيام الليل فقد ذقت حلاوة الدمعة عند السَحَر في رمضان ولذة المناجاة وحلاوة السجود ورأيت كيف بنفسك استطعت أن تروض نفسك هذا الترويض العجيب في رمضان همة وعزيمة وإصرار فيا سبحان الله أين هذا في غير رمضان إنك قادر فقد حاولت ونجحت لا بل وشعرت بالأثر العجيب والأنس الغريب وأنت تناجي الحبيب، فما الذي دهاك فما الذي دهاك وأنت تُذَكِّر الغافلين بأن رب رمضان رب غيره من الشهور فلماذا تركت قيام الليل عاهد نفسك عاهد نفسك أيها الحبيب ألا تترك قيام الليل ليلة واحدة وإن حدثتك بالتعب والإرهاق فذكرها بلذة وحلاوة القيام برمضان أيها المسلم شهر كامل وأنت تقرأ وتبكر للصلاة فتقرأ قبلها وتقرأ بعدها وتحرص على ختمه مرات نعم خرج رمضان والقرآن هو القرآن والأجر هو الآجر والرب هو الرب فما الذي حدث للنفوس أيها الأحبة هجر غريب هجر عجيب لقراءة القرآن وختمه ربما قرأ الإنسان منا في يومه أكثر من خمسة أجزاء في رمضان ويجلس الساعات أفلا نستطيع أن(/65)
نجلس ثلث ساعة في اليوم الواحد لقراءة جزء واحد فنختم القرآن كل شهر مرة على الأقل إنها ثلث ساعة في غير رمضان فإذا ثقل ذلك تذكر الساعات التي تقرأها في رمضان أي شهر قد تولي يا عباد الله عنا ؟حُقَّ أن نبكي عليه بدماء لو عقلنا كيف لا نبكي لشهر مر بالغفلة عنا ثم لا نعلم أنا قد قُبِلْنا أو طُرِدنا ليت شعري من هو المحروم والمطرود منا ومن المقبول ممن صام منا فَيُهَنَّى كان هذا الشهر نوراً بيننا يزهر حسنا فاجعل اللهم لنا عقباه نورا وحسنا، اللهم آمين ، أيها المسلم شهر كامل وأنت تدعو وتلح على الله بالدعاء مرات بالسجود ومرات عند السَحَر والغروب لماذا تسأل الله رضاه والجنة .وتعوذ به من سخطه والنار فهل ضمنت الجنة بعد ؛تركت الدعاء بعد رمضان وتسأله العفو والغفران عن الذنوب والتقصير فهل ضمنت الغفران أم انتهت الغفلة والتقصير يوم تركت الدعاء بعد رمضان أيها الأحبة إن من ندعوه في رمضان هو الذي في غير رمضان وإن من نسأله في رمضان هو الذي نسأله في غير رمضان فما الذي حدث ولماذا نتوقف أو نفتر عن الدعاء نعم رمضان وقت إجابة للدعاء لكن أدبار الصلوات وعند الغروب وآخر الليل وساعة الجمعة وفي السجود وبين الأذانين كلها أوقات إجابة بل ودعاء المظلوم والمسافر والوالد لولده والأخ لأخيه بظهر الغيب كلها لا ترد بفضل الله فما الذي جرى ما الذي دهانا والمدعو هو المدعو والحاجات هي الحاجات والمسلمون بأمس الحاجة لدعواتك الصادقة التي لا تنقطع في كل مكان كيف يقطع العبد صلته بالله واستعانته بمولاه وهو يعلم أن لا حول ولا قوة له إلا بالله كيف يفتر العبد عن الدعاء وهو أكبر العبادة وربه يقول (أجيب دعوة الداعي إذا دعان) ولم يقل في رمضان فقط بل في رمضان وغيره أما الصيام أيها الأحبة الصيام وما أدراك ما الصيام العبادة التي اختصها الله لنفسه فقال "إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به" فلا يعلم جزاء الصائمين إلا الله وإن غفر لهم ما تقدم من الذنوب وإن اختصوا بالدخول للجنة من باب الريان وإن باعد الله بينهم وبين النار سبعين خليفة وإن جاء الصيام شفيعا لأصحابه يوم القيامة فإن هذه وغيرها من ثمرات الصيام أما جزاء الصائمين فلا يعلمه إلا الله لا يعلمه إلا الله قال ابن حجر المراد بقوله وأنا أجزي به أي: إني أنفرد بعلم مقدار ثوابه وتضعيف حسناته انتهي كلامه وقال [المناوي] وأنا أجزي به إشارة إلى عظم الجزاء عليه وكثرة الثواب لأن الكريم إذا أخبر بأنه يعطي العطاء بلا واسطة اقتضى سرعة العطاء وشرفه انتهي كلامه رحمه الله قل هذه الفضائل للصوم وهي أخروية فما بالك بثمراته وفوائده الدنيوية ومع ذلك فإن بعض الناس وخاصة من الصالحين والصالحات لا يعرف الصيام إلا في رمضان يعتذر لنفسه تارة بالعمل وتارة بالتعب وتارة بشده الحر وهكذا تمضي الأيام فإذا برمضان الآخر أتى وهكذا تذهب الأيام وتفنى الأعمار أخي الحبيب صمت شهرا كاملا متتابعا فهل تعجز عن صيام ثلاثة أيام من كل شهر أو يومي الاثنين والخميس فاتق الله وكن حازما مع نفسك عارفا حيلها إن بعض الناس كل ما هَمَّ أن يسمو إلى المعالي ختم الشيطان على قلبه عليك ليلٌ طويل فارقد وكلما سعي في إقالة عثرته والارتقاء بهمته عادلته جيوش التسويف والبطالة والتمني وزعترته ونادته نفسه الأمارة بالسوء أنت أكبر أم الواقع قال [ابن القيم] : والنفس كلما وسعت عليها ـ اسمع لهذه الكلمة الجميلة ـ والنفس كلما وسعت عليها ضيقت على القلب حتى تصير معيشته ضنكا وكلما ضيقت عليها وسعت على القلب حتى ينشرح وينفسح… انتهي كلامه رحمه الله .(/66)
ورمضان يشهد بهذا رمضان يشهد بهذا وما كنا نشعر به من رقة القلب واتصاله بالله سبحانه وتعالى أما أنت أيتها المرأة فالكلام للرجال هو لكي أيضا وإن كنت أعجب على حرصك في رمضان على التراويح وقراءة القرآن وقيام الليل أسأل الله عز وجل أن يقبل منا ومنك ولكني أقول ما بالك إذا طلبنا منك هذه الأمور في غير رمضان اعتذرتِ بالأولاد وأعمال المنزل وغيرها من الأعمال مع أن كل هذه الأعذار لم تتغير في رمضان فالأولاد هم الأولاد وأعمال المنزل هي أعمال المنزل بل ربما أكثر في رمضان فما الذي يجعلك تحرصين على القيام وقراءة القرآن والصلاة في وقتها والصيام في رمضان وينقطع كل هذا في غير رمضان وتتعذرين بكثرة الأعذار إذا طلبنا منك ذلك في غير رمضان هذا حال النساء وحال الرجال كما أسلفت في هذه الأيام القصيرة التي مضت بعد رحيل رمضان فما هو سر نشاطنا في رمضان وما هو سر فتورنا وربما انقطاعنا في غيره أيها الأحبة سألت هذا السؤال واستنطقت الأفواه لمعرفة السر قالوا رمضان له شعور غريب ولذة خاصة قلت لماذا له هذا الشعور وهذه اللذة قالوا لأن الناس من حولك كلهم صائمون وقائمون ومتصدقون وقارئون ومستغفرون قلت أحسنتم إذاً فالسر صلاح المجتمع من حولنا والمجتمع هو نحن هؤلاء الأفراد أنا وزوجتي وأولادي وأبي وأمي وإخواني وأخواتي فلماذا لا يصلح هؤلاء الأفراد ؟ لماذا لا نربي في أنفسهم استمرار الطاعة ومراقبة الله ؟ لماذا لا نربي في أنفسهم استمرار الطاعة ومراقبة الله ؟ لماذا لا نشجعهم على صيام التطوع وقيام الليل وقراءة القرآن ؟ فنصوم البيض مثلا ونجتمع على الإفطار ونوقظ بعضنا ونجتمع على القيام ولو لوقت يسير ونخصص ساعات نجلس لقراءة القرآن وهكذا في سائر الأعمال هنا ألا تستشعرون أن السنة أصبحت كلها رمضان وأن المجتمع يشجع بعضه بعضا وليس معني هذا أن نكون كما نحن في رمضان مع أننا نتمنى هذا نحن لا نقول كونوا كما كنتم في رمضان من الاجتهاد والحرص على الخيرات فالنفس لا تطيق ذلك ورمضان له فضائل وخصائص ولكنا نقول لا للانقطاع عن الأعمال الصالحة نعم لا للانقطاع عن الأعمال الصالحة فلنحرص ولو على القليل من صيام النفل ونداوم ولو على القليل من القيام ولنقرأ ولو كل يوم القليل من القرآن ولنتصدق ولو بالقليل من المال والطعام وهكذا في سائر الأعمال ولنحيي بيوتنا ونشجع أولادنا وأزواجنا وفي الحديث الصحيح المتفق عليه قال فيه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ "أحب الأعمال إلى الله أَدْوَمُها وإن قل" أَدْوَمُها وإن قل وقد كان عمله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ديمة كما كانت تقول [عائشة] رضي الله تعالى عنها ، فهل تعلمنا من رمضان الصبر والمصابرة على الطاعة وعن المعصية وهل عودنا أنفسنا على المجاهدة ضد الهوى والشهوات هل حصلنا التقوى التي هي ثمرة القيام الكبرى واستمرت معنا حتى بعد رمضان فإن الصلة بالله وخوف الله هي السر في حياة الصالحين والصالحات أيها المحب إياك والعُجْبَة والغرور بعد رمضان ربما حدثتك نفسك أن لديك الآن رصيدا كبيرا من الحسنات كأمثال جبال تهامة أو أن ذنوبك غفرت فرجعت كيوم ولدتك أمك فما يزال الشيطان يغريك والنفس تلهيك حتى تكثر من المعاصي والذنوب ربما تعجبك نفسك وما قدمته خلال رمضان فإياك إياك والإدلال على الله بالعمل فإن الله عز وجل يقول (ولا تمنن تستكثر) ولا تمنن تستكثر فلا تمن على الله بما قدمت وعملت فما الذي يدريك ما الذي يدريك أن أعمالك قُبِلَت وهل قدمتها كما ينبغي وهل كانت لله أم لا ألم تسمع لقول الحق عز وجل : (وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون) وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون فاحذر مفسدات الأعمال الخفية نعوذ بالله من الشقاق والنفاق والرياء ومساوئ الأخلاق أيها الإخوة والأخوات إن من خالط الإيمان بشاشة قلبه لا يمكن أن يهجر الطاعات كيف وقد ذاق حلاوتها وطعمها وشعر بأنسها ولذتها في رمضان ، إن [هرقل] لما سأل [أبا سفيان] عن المسلمين أيرجعون عن دينهم أم لا قال أبو سفيان لا ، قال هرقل وكذلك الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب إن هرقل يعلم أن من ذاق حلاوة الإيمان وعرف طعمه لا يمكن أن يرجع عن دينه أبدا مهما فعل به طعم الإيمان لذة الطاعة هي السر في الاستمرار وعدم الانقطاع نعم يفتر المسلم ويتراخى ويمر به ضعف وكسل خاصة بعد عمل قام به ونَشِط وذلك مصداق حديث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ "إن لكل عمل شرَّة والشِرَّة إلى فترة فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد ضل" والحديث أخرجه [أحمد] في مسنده وهو صحيح وإسناده صحيح وقد صححه [الألباني] كما في *** وأيضا قال [الهيثمي] عنه رواه [البزار] ورجاله رجال الصحيح وأيضا أُخْرِجَ من وجوه كما في [الترمذي] وقد قال عنه الترمذي حسنٌ صحيحٌ غريب من هذا الوجه كما في صحيح الجامع الألباني؛ إذاً فالمسلم يفتر ويضعف لكنه لا ينقطع واسمع لهذا الكلام الجميل أيضا لـ(/67)
[ابن القيم] رحمه الله قال: تَخَلَّل الفترات للسالكين أمر لابد منه ، تخلل الفترات أي الفترة والكسل للسالكين أمر لا بد منه فمن كانت فترته إلى مقاربة وتسديد ولم تخرجه من كرب ولم تدخله في محرم رجي له أن يعود خيرا مما كان رجي له أن يعود خيرا مما كان انتهي كلامه رحمه الله . فلعلنا أيها الأحبة لعلنا نقارن بين حالنا في رمضان بعد سماع هذا الكلام وبين حالنا خلال هذه الأيام لنشعر بما فقدناه من اللذة والطاعة وحلاوة الإيمان والله المستعان .
همسة لصناع الحياة يا صناع الحياة يا دعاة الهدي ويا دُلاَّل الخير رمضان كشف عن الخير في نفوس الناس مهما تلطخ بعضهم بالمعاصي والسيئات حتى الفاسق حتى الفاسق فكم من المرات رأيناه انتصر على نفسه فتخطى عتبة المسجد ليركع مع الراكعين في صلاة التراويح والقيام أي والله أي والله رأينا ممن ظاهرهم الفسق رأيناهم يركعون ويسجدون وربما تدمع عيونهم ويبكون وقد يصلون ساعات طويلة مع المسلمين في آخر الليل هذه دلالات دلالات على كثرة الخير في نفوس الناس لكن أين من يحسن فن التعامل معهم ، نعم يا شباب الصحوة نعم يا دعاة الخير نعم أيتها الفتيات كأني برمضان يصرخ هذا العام فينا فيقول إن الدعوة إلى الله فنٌ وأخلاق إن الدعوة إلى الله فن وأخلاق إن الدعوة إلى الله فن وأخلاق فيا ليت شعري من يجيد هذا الفن ومن يتمثل هذه الأخلاق فلماذا نعتذر بصدود الناس وغفلتهم لنبرر فتورنا وعجزنا وكسلنا ولكن لا أقول إلا اللهم إنا نشكو لك جَلَد الفاسق وعجز الثقة اللهم إنا نشكو جلد الفاسق وعجز الثقة فكم من الثقات فكم من الثقات استجابوا لخمولهم وكسلهم إنا لله وإنا إليه راجعون رمضان والعيد ، انتهت أيام العيد أيها الأحبة وللعيد فقه يجهله كثير من الناس حتى من الصالحين فعيد رمضان عيد الفطر يوم فرح وحزن معا يوم فرح وحزن معا ، فرح بتوفيق الله لنا بإكمال شهرنا وإتمام صيامنا وليس فرحاً بإنهاء الصيام وخروج رمضان كما يظن بعض الناس ويوم العيد يوم حزن أيضا يوم حزن على فراق رمضان وأيامه الغُرِّ ولياليه الزاهرة ولكن من يتقن فن الحزن والفرح معا فكيف كان عيدنا الذي مضي بعض الناس ربما قاده أو قادته فرحته بالعيد إلى المعصية والغفلة والبعد عن الله عز وجل فليس العيد لمن لبس الجديد إنما العيد لمن إيمانه يزيد وخاف يوم الوعيد وخاف يوم الوعيد واتقى ذا العرش المجيد وهل تعلمون أيها الأحبة أن العيد يحزن نعم يحزن العيد خاصة إذا جاء هلال العيد في مثل هذا الواقع المرير للأمة فمتي يحزن العيد يحزن العيد عندما نلبس الجديد ونأكل الثريد ونطلب المزيد ونقول لبعضنا عيد سعيد وإخوانٌ لنا عراة في الجليد ودماء وجروح وصديد طفل شريد وأب فقيد وأم تئن تحت فاجر عنيد ذي صراخ وتهديد ووعيد ونحن نقول لبعضنا عيد سعيد ولسان حالهم يقول لماذا جئت يا عيد ؟
أقبلت يا عيد والأحزان أحزان
وفي ضمير القوافي صار بركان
أقبلت يا عيد والظلماء كاشفة
عن رأسها وفؤاد البدر حيران
أقبلت يا عيد والأحزان نائمة
على فراشي وطرف الشوق سهران
من أين نفرح يا عيد الجراح وفي
قلوبنا من صنوف الهم ألوان
من أين نفرح والأحداث عاصفة
وللدُّما مقل ترنو وآذان
من أين والمسجد الأقصى محطمة
آماله وفؤاد القدس ولهان
من أين نفرح يا عيد الجراح
وفي دروبنا جدر قامت وكثبان
من أين والأمة الغراء نائمة
على سرير الهوى والليل نشوان
من أين والذل يبلي ألف منتجع
في أرض عزتنا والربح خسران
من أين نفرح والأحباب ما اقتربوا
منا ولا أصبحوا فينا كما كانوا
كيف حال إخواننا أيها الأحبة كيف حال إخواننا في هذا العيد الذي مضي يا تري ما هو شعورهم كيف كانت فرحتهم بالعيد هل كانوا يلبسون الجديد هل كانوا يجلسون مع الأباء والأمهات هل كانت الأزواج تجلس وتفرح بالهدايا من الأزواج لعلنا نكتفي لعلنا نكتفي بمشاعر هذه الطفلة المتشردة وهي تخاطب هلال العيد وتتمنى أنه لم يأتي فتقول له
غب يا هلال
إني أخاف عليك من قهر الرجال
قف من وراء الغيم
لا تنشر ضياءك فوق أعناق التلال
غب يا هلال
إني لأخشى أن يصيبك حين تَلْمَحُنا الخَبَال
أنا يا هلال
أنا طفلة عربية فارقت أسرتنا الكريمة
لي قصة دموية الأحداث باكية أليمة
أنا يا هلال
أنا من ضحايا الاحتلال
أنا من ولدت وفي فمي ثدي الهزيمة
شاهدت يوما عند منزلنا كتيبة
في يومها
كان الظلام مكدسا من حول قريتنا الحبيبة
في يومها
ساق الجنود أبي وفي عينيه أنهار حبيسة
وتجمعت تلك الذئاب الغبر في طلب الفريسة
ورأيت جندياً يحاصر جسم والدتي بنظرته المريدة
ما زلت أسمع يا هلال
ما زلت أسمع صوت أمي
وهي تستجدي العروبة
ما زلت أبصر خنص خنجرها الكريم
صانت به الشرف العظيم
مسكينة أمي فقد ماتت وما علمت بموتتها العروبة
إني لأعجب يا هلال
يترنح المذياع من طرب
وينتعش القدح وتهيج موسيقي المرح
والمطربون يرددون على مسامعنا ترانيم الفرح
وبرامج التلفاز تعرض لوحة للتهنئة(/68)
عيد سعيد يا صغار والطفل في لبنان يجهل منشأه
وبراعم الأقصى عرايا جائعون
واللاجئون يصارعون الأوبئة
غب يا هلال غب يا هلال
قالوا ستجذب نحونا العيد السعيد
عيد سعيد
والأرض مازالت مبللة الثَرَى بدم الشهيد
والحرب ملت نفسها
وتقززت ممن تبيد
عيد سعيد في قصور المترفين
عيد سعيد في قصور المترفين
عيد شقي في خيام اللاجئين
حرمت خطانا يا هلال
ومدي السعادة لم يزل عنا بعيد
غب يا هلال
لا تأت بالعيد السعيد مع الأنين
لا تأت بالعيد السعيد مع الأنين
أنا لا أريد العيد مقطوع الوتين
أتظن أن العيد في حلوي وأثواب جديدة
أتظن أن العيد تهنئة تسطر في جريدة
غب يا هلال واطلع علينا حين يبتسم الزمن
وتموت نيران الفتن
واطلع علينا حين يورق بابتسامتنا المساء
ويذوب في طرقاتنا ثلج الشتاء
اطلع علينا بالشدى بالعز بالنصر المبين
اطلع علينا بالتئام الشمل بين المسلمين
هذا هو العيد السعيد وسواه ليس لنا بعيد
غب يا هلال
حتى تري رايات أمتنا ترفرف في شمم
فهناك عيد
أي عيد
وهناك يبتسم الشقي مع السعيد
اللهم ارحم المسلمين المستضعفين في كل مكان ، اللهم كن لهم ناصرا يوم يتخلى عنهم الناصر ، وكن معينا لهم يوم تخلي عنهم المعين ، اللهم ارحم الأطفال اليتامى والنساء الثكالى وذي الشيبة الكبير .
وهذه صورة مودع أيها الأحبة وهو يودع رمضان في آخر ليلة من رمضان كأني بمودع مفجوع وهو يراقب بعينيه رحيل الحبيب وقد تلاشي خياله من بعيد يصرخ فيقول شهر رمضان وأين هو شهر رمضان
ألم يكن منذ أيام بين أيدينا ،ألم يكن مِلء أسماعنا ومِلء أبصارنا، ألم يكن هو حديث منابرنا ، ألم يكن هو زينة منائرنا ، ألم يكن هو بضاعة أسواقنا ومادة موائدنا وحياة مساجدنا ، فأين هو الآن ؟ أين هو الآن ؟ ارتحل وخَلَّفَنا كسيرة أنفسنا دامعة أعيننا ثم أخذ ينوح فيقول أي شهرنا الكريم أي شهرنا الكريم وموسم خيرنا الوسيم أي شهر المكرمات تجاهد فيك الظلمات وتضاعف فيك الحسنات وفتحت أبواب السماوات فآه ثم آه على الفراق ، أي شهرنا الذي هيم نفوسنا وخرق قلوبنا وأدمع عيوننا ثم أجهش بالبكاء وفاضت عيناه بالدموع فقلت سبحان الله لكل محب حبيب ورمضان حبيب الصالحين ، تذكرت أياما مضت وليالي خلت فجرت من ذكرهن دموع ،
ألا هل ليوم من الدهر عودة
وهل لي إلى يوم الإيثار رجوع
وهل بعد إعراض الحبيب تواصل وهل لبذور قد أفلن طلوع
أيها المسلمون بعد شهركم أكثروا من الاستغفار فإنه من الأعمال الصالحة فقد كتب [عمر بن عبد العزيز] إلى الأنصار يأمرهم بختم رمضان بالاستغفار ويروي عن [أبي هريرة] رضي الله تعالى عنه أنه قال : الغيبة تخرق الصيام والاستغفار يرقعه ومن استطاع منكم أن يجئ بصوم مرقع فليفعل أكثروا من الشكر لله فإن الله قال في آخر آية الصيام (ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون) وقال (لئن شكرتم لأزيدنكم) وقال (وسيجزى الله الشاكرين) فاشكروا الله على إتمام رمضان وعلى حسن الصلاة والقيام وعلى الصحة والعافية في الأبدان وليس الشكر باللسان أيها الأحبة وإنما هو بالأقوال والأعمال معاً فهل جزاء الإحسان
سلام من الرحمن كل أوان
على خير شهر قد مضي وزمان
سلام على شهر الصيام فإنه
أمان من الرحمن ، أي أمان
ترحلت يا شهر الصيام بصومنا
وقد كنت أنوارا بكل مكان
لئن فنيت أيامك الزهر بغتةً
فما الحزن من قلبي عليك بفان
عليك سلام الله كن شاهداً لنا
بخير رعاك الله من رمضان
رمضان كان نهارك صدقة وصياما وليلك قراءة وقياما فإليك منا تحية وسلاما أترى ستعود بعدها علينا أو يدركنا المنون فلا تؤول إلينا ، رمضان سوق قام ثم انفض ، ربح فيه من ربح وخسر فيه من خسر ، هاهو شهر رمضان رحل عنا بعد أن قضت أيامه وتسربت لياليه ولسان حال الصائم منا يقول:
فيا شهر الصيام فدتك نفسي
تمهل بالرحيل والانتقال
فما أدري إذا ما الحول وَلَّى
وعدت بقابل في خير حال
أتلقاني مع الأحياء حيا
أو أنك تلقني في اللحد بال(/69)
أيها الأحبة هذه نصائح وتوجيهات عن رحيل رمضان قصدت تأخيرها بعد رمضان بأيام لنري ونشعر بالفرق الكبير بين حالنا في رمضان وحالنا هذه الأيام على قلتها فكيف يا تري بحالنا بعد شهر وشهرين وأكثر والعاقل اللبيب من جعل عقله مدرسة لبقية الشهور رغم أنني أكرر وأؤكد أننا لا نطالب النفوس أن تكون كما هي في رمضان ولكننا نطالبها بالاستمرار والمداومة على الطاعات والواجبات وتذكر الله والخوف بالله والصلة بالله ولو كانت هذه الطاعات قليلة فقليل دائم خير من كثير منقطع ، اللهم يا حي يا قيوم اللهم يا حي يا قيوم إن كان في سابق علمك أن تجمعنا في هذا الشهر المبارك فلتجمعنا فيه يا حي يا قيوم وإن قضيت بقطع أجلنا وما يحول بيننا وبينه فأحسن الخلافة على باقينا وأوسع الرحمة على ماضينا اللهم تقبل منا رمضان اللهم تقبل منا رمضان اللهم تقبل منا رمضان واعفُ عنا ما كان فيه من تقصير وغفلة اللهم اجعلنا فيه من الفائزين اللهم ارحم ضعفنا وتقصيرنا وأعنا على ذكرك وشكرك وعلى حسن عبادتك لا حول لنا ولا قوة لنا إلا بك اللهم لا حول لنا ولا قوة لنا إلا بك فلا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين اللهم لا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين اللهم لا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين اللهم إنا نسألك الهدي والتقى والعفاف والغنى اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار سبحانك اللهم وبحمدك اشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك وصل الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى أله وصحبه وسلم تسليما كثيرا .
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. في هذه الليلة الطيبة المباركة ليلة الاثنين الموافق الحادي والعشرين من شهر رجب لعام ألف وأربعمائة وأربعة عشر للهجرة في جامع ابن عيد في مدينة <الدوائم> المباركة ألتقي وإياكم على مائدة من موائد النبوة وعلى ذكر نسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا به جميعا.
أشكر الله جل وعلا وأحمده على تيسير هذا اللقاء ثم أشكر أولئك الرجال المجهولين الذين يعملون ليل نهار لا يرجون نحسبهم كذلك من الناس جزاء ولا شكورا وإنما رجاؤهم بالله جل وعلا الإخوة القائمين على مكتب الدعوة في هذه المدينة فهم الذين تسببوا في هذا اللقاء فشكر الله سعيهم ووفقهم وسدد خطاهم ورعانا وإياكم أجمعين.
أيها الأحبة موضوع هذا اللقاء السر في حياة النبلاء أو إن شئت فقل السر العجيب فيا ترى ما هو هذا السر؟ إن حديثي هذه الليلة هو حديث للقلوب ولعله أن يكون إن شاء الله حديث من القلب للقلب ولذلك يشترط أن يخلو القلب من أمور الدنيا ومن زينتها جئتم وجلستم في بيت من بيوت الله ليكون الحديث طيبا والقلب مصغياً يبعد الهواجس وملذات الدنيا خلال هذه الساعة جرب مع نفسك أن تترك الدنيا خلف ظهرك هذه الساعة وتعال واسمع ونحن نصول ونجول ونبحث في السر في حياة أولئك الرجال الذين هم أموات في قبورهم ولكنهم أحياء في ذكرهم ونحن نسمع ليل نهار تلك الأسماء على المنابر وعلى كل لسان وفى بطون الكتب وفى كل مكان فلا إله إلا الله من أحيا هذه الأسماء وهذه هي والله الحياة الحقيقية أيها الأخيار .
أول عناصر هذا الموضوع السر العجيب يتحدث إلى القلب عذراً أيها القلب أعرفتني لا تقل إنك لا تعرفني فقد وقفت على مشارف أسوارك وقرعت أبوابك كثيراً كنت أحوم لأجد منفذاً أنفذ إليك منه إيه أيها القلب لقد أصبحت أقسى من الحجر لماذا تحاول الهروب مني ولماذا هذا الصدود عني فكلما هممت بأمر سوء حاولت الوقوف أمامك لتراني لتذكرني لترجع عن همك لكنك تتجاهلني كأنك لا تراني ويحك أيها القلب إنني السر العجيب في حياة القلوب ويحك إنني السر العجيب في ترك الفجور والهوان إنني أريدك أن تحيا حياة السعداء أريدك أن تكون علما من الأعلام وصالحا من الصالحين أريدك أن تكون مباركا أينما كنت في أعمالك وأقوالك.
تعال أيها القلب تعال واسمع لحياة النبلاء وسير الرجال يوم أن كنت أتربع على العرش في قلوبهم وأصول وأجول في صدورهم..
كانوا جبالاً في الجبال وربما
صاروا على موج البحار بحارا
لمعابد الإفرنج كان أذانهم
قبل الكتائب يفتح الأمصارا
كانوا يروا الأصنام من ذهب
فتهدم ويهزم فوقها الكفارا
لن تنسى أفريقيا ولا صحراؤها
سجداتهم والأرض تقذف نارا
اسمع أيها القلب يوم أن فتح لي أولئك الرجال قلوبهم فأصبحوا سادة في كل شيء نعم في كل شيء ذكر[ الذهبي ] في سير أعلام النبلاء قال: قال [الحسن بن عيسى] مولى [ابن المبارك] اجتمع جماعة فقالوا تعالوا نعد خصال ابن المبارك من أبواب الخير فقالوا العلم والفقه والأدب والنحو واللغة والزهد والفصاحة والشعر وقيام الليل والعبادة والحج والغزو والشجاعة والفروسية والقوة وترك الكلام في ما لا يعنيه والإنصاف وقلة الخلاف على أصحابه والتجارة وسخاء النفس والتصديق والورع والتقى وكل ذلك عنده وأكثر
إذا سار عبد الله من مرو ليلة
فقد سار منها نورها وجمالها
إذا ذكر الأحبار في كل بلدة
فهم أنجم فيها وأنت هلالها(/70)
أسمعت أيها القلب بفضل الله ثم بفضلي أنا السر العجيب كان كل ذلك
فهل عرفتني؟
بل تعال واسمع لعلم ثان من هؤلاء النبلاء إنه[ أبو جعفر محمد بن جرير الطبري] مؤرخ مفسر محدث مقرئ فقيه أصولي من أكابر الأئمة المجتهدين قال [الخطيب البغدادي] فيه كان أحد أئمة العلماء ويحكم بقوله ويرجع إلى رأيه لمعرفته وفضله وكان قد جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره وكان حافظا لكتاب الله عارفا بالقراءات وفيرا بالمعاني فقيها في أحكام القرآن عالما بالسنن وطرقها وصحيحها وسقيمها وناسخها ومنسوخها عارفا بأقوال الصحابة وأقوال التابعين ومن بعدهم من المخالفين في الأحكام ومسائل الحلال والحرام عارفا بأيام الناس وأخبارهم وله الكتاب المشهور في تاريخ الأمم والملوك وكتاب في التفسير أو لم يصنف أحد مثله انتهى كلام الخطيب .
أسمعت أيها القلب ألا تسأل ما هو السر في حياة النبلاء إنه أنا السر العجيب فأين أنت من أولئك قل لي هلا ذكرت لي منقبة واحدة من تلك المناقب واحدة فقط من كل منقبة واحدة من جل المناقب فيك أيها الأخ مسكين أيها القلب أنت غرقت في الشهوات والملذات أصابك الكسل والخمول أصبحت عبداً للدنيا دون أن تشعر كل ذلك يوم هجرتني أيها القلب إن الأمثلة في حياة النبلاء كثيرة وطويلة ولكن خذ مثلاً ثالثاً وأخيراً لتقنع أسمعت[ بابن تيميه] لا شك نعم إذا فاسمع كلام [ابن سيد الناس] فيه قال عنه كاد يستوعب السنن والآثار حفظا إذا تكلم في التفسير فهو حامل رايته أو أفتى في الفقه فهو مدرك غايته أو ذاكر في الحديث فهو صاحب علمه وروايته أو حاضر في النحل والملل لم تر أوسع من مشيته في ذلك ولا أرفع من درايته برز في كل فن على أبناء جنسه ولم تر عين من رآه مثله إلى آخر ما قال عنه.
وهو العالم المجاهد العابد الآمر بالمعروف الناهي عن المنكر فعجيب أمر أولئك الرجال جمعوا الخير كله جمعوا الخير كله لكنه السر العجيب الذي حولهم إلى أعلام وأبطال فافتح لي أبوابك أيها القلب وتذكرني جيداً واجعلني ملازما لك في كل حال تنال الخير كله في الدنيا والآخرة فهل عرفتني أيها القلب أو ما زلت تجهلني لا شك أنك عرفتني فالآن أتركك وسأرجع إليك بين الحين والحين حتى تعد لي منزلا في سويداك أيها القلب.
العنصر الثاني أهمية السر في طريق الصحوة:
ولعلى نسيت أن أقول لكم أن هذه المحاضرة هي المحاضرة الثالثة في سلسلة تلقى بعنوان الإصلاح على طريق الصحوة كانت الأولى بعنوان سلامة الصدر مطلب وكانت في <الزلفى > والثانية تعال نتعاتب فكانت في <الرس> وهذه هي الثالثة فتعال وانظر يا أخي الحبيب لأهمية السر في طريق الصحوة وأقصد به هذا السر العجيب.
إن الجميع بحاجة لهذا السر كباراً وصغاراً نساء ورجالا علماء ومتعلمين مع شدة غفلتهم عنه ويعجبك أجسام أولئك الرجال رجال الصحوة وأشكالهم وأحوالهم لكنك تبحث عنهم في الميدان لأعمال لترى الأعمال فتجد الخمول والكسل والهوان إن هذا السر مهم جداً ومؤثر فعال في حياة شباب الصحوة والدعاة إلى الله جل وعلا وما أكثرهم والحمد لله فنسأل عن السبب في هذا الخمول والكسل والهوان فإذا هو هذا السر نقرأ الآيات فلا قلب يتأثر ونسمع الأحاديث والمواعظ فلا عين تدمع ننظر للقصص والعبر فلا جسد يقشعر ويخشع نحمل الموتى وندخل المقابر ونخرج والقلب هو القلب ونسمع أنين الثكالى وصرخات اليتامى والأحداث في الشرق والغرب تتوالى والقلب هو القلب لا إله إلا الله، لا إله إلا الله ماذا أصاب هذا القلب فنسأل عن السبب ونبحث عن العلاج فإذا هو أيضا في هذا السر.
أصبحنا نكذب وأصبحنا نغتاب وأصبحنا نأكل الشبهات وربما المحرمات فنسأل عن السبب فإذا هو غيبة هذا السر، هذا السر أيقظ مضاجع الصالحين وأزعج قلوبهم وأسال دموعهم فعرفوا حقيقة الحياة هذا السر يحفظ الأمن والأمان وتكثر الخيرات وتنزل البركات وبغيبته ينتشر الفساد ويعق الأولاد فهل عرفتني أيها الأخ الحبيب لابد أنك عرفتني إنني الحارث الأمين لقلبك المسكين إنني المراقب ولكني لست المراقب الإداري ولست المراقب الصحي لا فأنا المراقب الشرعي إنني مراقبة الله، إنني مراقبة الله أو الخوف من الله أو إن شئت فقل الخشية أو التقوى فلا بأس فكلنا من عائلة واحدة المهم أن تعرف أنك بحاجة في كل لحظة فاتق الله حيثما كنت وانتبه لقوله جل وعز (وما ربك بغافل عما تعملون) (واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه) وردد يا أخي الحبيب في كل لحظة (وكان الله على كل شيء رقيبا) وتذكر أنه (يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور) ويا أخي الحبيب أين المفر (وهو معكم أينما كنتم) وويل لذلك العاصي (ألم يعلم بأن الله يرى)
وداو ضمير القلب بالبر والتقى
فلا يستوي قلبان قاس وخاشع
فاسمع لما يقال رعاك الله آثار هذا السر في حياة السلف:(/71)
وبعد أن تهيأت أيها القلب وسمعت لهذه التقدمة ولعلك لنت إن شاء الله فتعال واسمع وانظر ما هي آثار هذا السر العجيب في حياة أولئك الرجال كيف قلبها فأصبحت حياة حقيقية حياة ذات معنى وذات روح ؟
الأثر الأول: استشعار عظم الذنب مهما كان صغيرا أو كبيرا نعم ما زال هذا السر وهو مراقبة الله وخوف الله في قلوب الصالحين وقلوب أولئك الرجال حتى جعلهم يستشعرون عظم الذنب مهما كان هذا الذنب كان صغيرا أو كبيرا نعم فإن من يخاف الله ويراقب الله هو صاحب مبدأ وصاحب عقيدة وصاحب لا إله إلا الله ولا يهمه الذنب إن كان كبيرا أو صغيرا المهم أنه أخطأ ووقع في الذنب فإذا أخطأ فسرعان ما يرجع سرعان ما يتوب سرعان ما يندم والبشر كلهم خطاءون وخير الخطاءين التوابون. عن [ابن مسعود] قال " إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مر على أنفه فقال به هكذا –فأشار [أبو شهاب] راوي الحديث بيده- فطار" أي طار ذلك الذباب أخرجه البخاري في كتاب الدعوات باب التوبة وهذا شأن المسلم دائم الخوف والمراقبة يستغفر ويستصغر عمله الصالح ويخشى من صغيرها السيئ والقبيح.
تعال وخذ أمثلة تعال ننتقل لحياة أولئك النبلاء لترى هذا الأثر جليا واضحاً في حياتهم في سلوكهم وتصرفاتهم في أقوالهم وأفعالهم صغيرها وكبيرها.
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قدوتنا وحبيبنا روى البخاري في صحيحه في كتاب اللقطة باب إذا وجد تمرة في الطريق من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إني لأنقلب إلى أهلي فأجد التمرة ساقطة علي فراشي فأرفعها لآكلها ـ الرسول يقول ذلك ـ فأرفعها لآكلها ثم أخشى أن تكون صدقة فألقيها " سبحان الله هذه هي المدرسة المحمدية التي تخرج منها أولئك النبلاء فرسول الله يرسم الخطوط العريضة بالتعامل مع الله بالتعامل في هذه الدنيا في أي أمر من أمورها حتى ولو كانت تمرة حتى ولو كانت تمرة لم يأكلها صلى الله عليه وآله وسلم لماذا ألأنها من تمر الصدقة ؟ لا لأنه خشي أن تكون من تمر الصدقة خشي أن تكون من تمر الصدقة..
القضية عند رسول الله شبهة صلوات الله وسلامه عليه فلم يأكلها بأبي هو وأمي رسول الله.
وفى حديث آخر وفي القصة نفسها وأخرجه أحمد من طريق [عمرو بن شعيب] عن أبيه عن جده قال "تضور النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة ـ أي توجع وتقلب ـ فقيل له ما أسهرك؟ قال : إني وجدت تمرة ساقطة فأكلتها ثم ذكرت تمرا كان عندنا من تمر الصدقة فما أدري أمن ذلك كانت التمرة أو من تمر أهلي فذلك أسهرني" فذلك أسهرني، الله أكبر هو السر العجيب الذي تربى عليه أولئك الرجال تمرة تمنع صاحبها ،قد يقول قائلنا في هذه الدنيا هي تمرة ولكنه المبدأ الذي يحمله صاحب لا إله إلا الله في قلبه يتعامل به مع الكبير والصغير مع العالم والمتواضع في أي مكان كان.
ومثل آخر لأبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه وأرضاه أخرج البخاري في صحيحه في مناقب الأنصار باب أيام الجاهلية من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها قالت كان لأبي بكر غلام يخرج له الخراج أي يأتيه بما يكسبه من بيعه وشرائه وكان أبو بكر يأكل من خراجه أي من كسب هذا الغلام فجاء يوماً بشيء فأكل منه أبو بكر فقال له الغلام أتدري ما هذا فقال أبو بكر وما هو قال الغلام كنت تكهنت لإنسان في الجاهلية وما أحسن الكهانة إلا أني خدعته فأعطاني بذلك فهذا الذي أكلت منه فماذا فعل أبو بكر الصديق أيضا القضية شبهة عند أبي بكر رضي الله عنه ثمن كهانة تكهنها غلامه في الجاهلية ومع ذلك وهو قد أكل الطعام فماذا فعل الصديق رضي الله تعالى عنه تقول عائشة فأدخل أبو بكر يده فقاء كل شيء في بطنه أدخل أبو بكر يده في فيه فقاء كل شيء في بطنه هكذا الورع هكذا التقى هكذا مراقبة الله جل وعلا يا أخي الحبيب لا يريد أن يختلط في بطنه أو أن يبني جسده على شيء من الشبهات فضلا على شيء من المحرمات فأين الناس اليوم من هؤلاء.(/72)
مثل ثالث أو أثر ثان وهذا الأثر هو بيوت تتربى على الورع ومراقبة الله نعم إن مما أحدثه هذا السر العجيب أن جعل بيوتا كاملة رجالها ونساءها صغارها وكبارها تتربى على الخشية والورع ومخافة الله ولذلك يذكر لنا [القصطلاني] في إرشاد الساري يقول أن امرأة جاءت إلى [الإمام أحمد] والإمام أحمد بن حنبل إمام أهل السنة وناصر السنة وقامع البدعة رضي الله تعالى عنه ورحمه صاحب الورع والتقى فقد ألف كتاباً اسمه الورع جاءت المرأة لتسأل الإمام أحمد سؤالا جعل الإمام يبكي هذا السؤال جعل الإمام أحمد يبكي فتقول المرأة واسمع للسؤال جيداً إننا نغزل على سطوحنا فيمر بنا مشاعل الظاهرية ـ أي نور الحرس الذين يجوبون الطرقات بالليل ـ ويقع الشعاع علينا ـ يعني لحظات ـ أفيجوز لنا الغزل في شعاعها أرأيت دقة المسألة ويذكرها ابن المبارك في كتابه بلفظ آخر في كتابه الزهد والرقائق فيقول إن المرأة قالت للإمام أحمد يا إمام إنني أغزل في السطح على ضوء السراج وربما انطفأ السراج فأغزل على ضوء القمر أفيجب علي يا إمام عند بيعي لغزلي أن أبين للمشتري ما غزلته تحت السراج مما غزلته تحت ضوء القمر سبحان الله!! إلى هذا الحد يبلغ الخوف من الله ومراقبة الجبار في قلوب أولئك الرجال هذه امرأة فأين نساؤنا من هذه المرأة هكذا مراقبة الله فيبكي الإمام أحمد رضي الله تعالى عنه من هذا السؤال ويقول لها من أنت يا أمة الله من أنت عافاك الله فتذكر أنها أخت لـ[بشر الحافي] فيبكي ويشتد بكاؤه ويقول: من بيتكم يخرج الورع الصادق.
نعم يوم أن كانت أمة المسلمين تتربى على الورع وعلى خشية الله وخوف الله تعال وانظر لبيوت المسلمين على أي شيء تتربى اليوم...
نعم أيها الولي ستسأل من الجبار لا من البشر ستسأل عن وسائل التربية التي ربيت عليها قلوب أهل بيتك فبماذا ستجيب أبالتلفاز أم بالمجلات أم بالأفلام أم بأشرطة الغناء أم بماذا ستكون الإجابة كيف تريد أن تكون المرأة صالحة والفتاة خاشية لله والابن مراقب لله سبحانه وتعالى كيف تريد الصلاح وهذه هي وسائل التربية اسمع يقول سليمان بن حرب سمعت [سلمان بن زيد] يقول كنت مع أبى فمررت من حائط فيه تبن وقد كنت صغيرا آنذاك فأخذت عود تبن ـ أي من الحائط ـ فوقف أبي وقال لي لم أخذت كأنه ينهرني فقلت إنما هي تبنه ببراءة الصغير أي لا تساوى شيئا فقال له أبوه يا سلمان لو أن كل إنسان أخذ تبنة هل كان يبقى في الجدار تبن؟ هكذا يربون أبناءهم وصغارهم على أحقر الأشياء وأصغرها حتى إذا شب وعقل لا تمتد يده علي أي شيء مهما كان كبيرا أو صغيرا هذه هي التربية بيوت تربت على الخوف والورع.
بائعة اللبن وما أدراك ما بائعة اللبن قصة مشهورة معلومة معروفة عند الجميع قرأناها عندما كنا صغارا تتكرر علينا كثيرا لكنها تبحث عن الموجه ليوجه هذه القصة للناس وتبحث عن الأب ليربي أبناءه علي هذه القصة فيذكرها ويستخرج الدروس والعبر منها لزوجه لابنته لطفله لنفسه..
عمر بن الخطاب كان ليلة من الليالي يعس في شوارع المدينة فاتكأ على أحد بيوتات المدينة فسمع الحوار التالي بين الأم وابنتها:
تقول الأم: يا بنية أمزجت اللبن بالماء ؟
فتقول البنية: يا أماه أما علمت أن أمير المؤمنين عمر قد نهى أن يمزج اللبن بالماء. فتقول الأم التي تعلق قلبها بالدنيا وبشهواتها وملذاتها والقلب يغفل والعين تغفل فتقول الأم التي غفلت: يا بنية وما يدري أمير المؤمنين عمر بنا !!
نعم من كان يراقب الناس فإن الناس يغفلون وينامون والناس بشر وعرضة للسهو والخطأ فتأتى الإجابة من قلب تلك الفتاة الصغيرة البريئة التي تربت على خشية الله وخوف الله تأتي لتصرخ وتقول لأمها: يا أماه إن كان عمر لا يرانا فإن رب عمر يرانا..
الله أكبر على هذه القلوب التي تتربى في سرها وعلنها هكذا هي التربية هكذا والله يا عزة الإسلام عندما يرتعد هذا القلب ويشعر بالحرية والعبودية لله جل وعلا.
قصة رابعة وما أكثر تلك البيوت التي تربت على خشية الله وخوف الله ومراقبة الله عمر أيضا كان يعس كعادته رضي الله تعالى عنه وستأتي لنا سيرة عمر إن شاء الله أو شيء منها كان يعس في شوارع المدينة وأيضا يتكئ على جدار من بيوتاتها وفى ظلمة الليل يسمع أنين تلك المرأة التي تخاطب نفسها وهي على فراشها وقد ذهب زوجها مع جيش المسلمين جنديا في سبيل الله فغاب عنها طويلا فإذا بالمرأة تتمثل هذه الأبيات فتقول:
تطاول هذا الليل واسود جانبه
وأرقني ألا خليل ألاعبه
فوالله لولا الله لا شيء غيره
لحرك من هذا السرير جوانبه
يعني بالزنا والعياذ بالله
فو الله لولا الله لا شيء غيره
لحرك من هذا السرير جوانبه0
ولكن ما هو السر العجيب
ولكن تقوى الله عن ذا تصدني
وحفظي لبعلي أن تنال مراكبه(/73)
الله أكبر ما أحلى هذا البيت وما أكبر اطمئنان قلبك يا أخي الحبيب وأنت تغادر باب المنزل وقد خلفت امرأة صالحة تخشى الله وطفلا صغيرا يراقب الله وذرية تدمع من خشية الله هكذا تكون بيوت المسلمين وهكذا يكون الوجل والخوف من الله
الأثر الثالث من آثار هذا السر العجيب في حياة النبلاء كثرة الخلوة بالنفس والدمعة المباركة كثرة الخلوة بالنفس نقرأ في سير أولئك الرجال في أولئك سرا أو في حياة أولئك النبلاء نجد كثرة خلوتهم بأنفسهم في ظلمة ليل أو في قطع من خلاء ثم سرعان ما تسيل الدموع على الخدود ما الذي أحدث هذا الأثر إنه السر العجيب رقابة الله وخشية الله جل وعلا.
ومن السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله كما في الحديث الصحيح "رجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه" تأمل هذه الصورة جيدا أيها القلب تفكر في هذه الصورة جيدا ذكر الله خاليا ففاضت عيناه هل مرت عليك هذه اللحظة؟ هل شعرت يوما من الأيام بهذا الموقف؟ هل وقفت ليلة من الليالي وتمثلت هذه الصورة؟ إن الرجال الصالحين وشباب الصحوة والدعاة من الرجال والنساء بحاجة شديدة لهذه الخلوة لننظر إلى أنفسنا وفى عملنا وقولنا وننظر إلى حقيقة أمرنا وسلامة صدورنا إننا بحاجة لهذه الصورة بحاجة لهذا الموقف نذكر نعمة الله ومنته علينا إننا أيها الأخيار بحاجة ماسة وصادقة وملحة لتلك الدمعة الغالية وتلك الدمعة الحارة التي تسيل على الخد في لحظة خلوة بتذكر نعمة الله ثم تذكر عظم الذنب والتقصير في حق الله فلعل الدمع أن يأتي ولعل القلب أن يلين فيترجم ذلك إلى الدمعة الحارة الغالية ما أحوج قلوبنا لمثل هذه الدمعة التي فقدناها في مثل هذا العصر.
إن عمر بن الخطاب وما أدراك ما عمر أمير المؤمنين ما قرأت يوما في سيرة هذا الرجل وأخطأ دمع العين مجراه نعم لا تقل إنه رجل مشهور لا تقل إن عمر رجل مشهور لا، اقرأ في سيرته فتجد العجب العجاب في حياة ابن الخطاب رضى الله تعالى عنه عمر الذي كان في الجاهلية أقسى قلبا وأغلظه كان يرعب المسلمين فيجلس لهم في الطرقات وفوق الأشجار فيرمي عليهم الأشواك والأحجار حتى وصل الحقد والجفاء في قلب عمر إلى أن يحمل السيف مصلتا ليقتل به أعز البشر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهل بعد هذا الحقد حقد ؟ لا ومع ذلك تدخل لا إله إلا الله وتفعل الأعاجيب في قلب هذا الرجل تدخل رقابة الله لتجعل هذا القلب من قلب قاس غليظ كالحجر إلى قلب رقيق لين قريب الدمعة سريع الدقة رضى الله تعالى عنه وأرضاه حتى أن عمر قال عنه صلى الله عليه وآله وسلم يا عمر إذا رآك الشيطان من فج سلك فجا آخر تخاف منه الشياطين وبشره النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالجنة فهو من العشرة المبشرين ومع ذلك هل اتكل على هذا لا بل كان إمام الخاشعين والخائفين رضى الله تعالى عنه وأرضاه.
ويروى [ابن أبى شيبة] في مصنفه أن عمر يأتي لـ[حذيفة] ويقول له يا حذيفة قل لي بالله أعدني رسول الله من المنافقين ؟ سبحان الله يتهم نفسه بالنفاق رضى الله عنه وأرضاه.
عمر كان يمر بالآية في ورده فتخنقه فيبقى في البيت أياما يعاد يحسبونه مريضا كما ذكر ذلك الإمام أحمد في كتاب الزهد.
وعمر يذكر الذهبي في السير من صفاته أنه كان في خديه خطان أسودان من أثر البكاء من خشيته لله رضى الله عنه وأرضاه قرأ يوما (إذا الشمس كورت) حتى انتهى إلى قوله تعالى (وإذا الصحف نشرت) فخر مغشيا عليه رضى الله تعالى عنه وأرضاه هذا هو عمر يأخذ عود نبات فيقول يا ليتني كنت هذا العود يا ليت أم عمر لم تلد عمر يا ليتني كنت شجرة تعضد أي تقطع سبحان الله أهذا الخوف وهذه الخشية تخرج من عمر المبشر بالجنة فأين نحن من أنفسنا أيها الأخيار نراجع قلوبنا أيها الأحبة..
فمن يبارى أبا حفص وسيرته
أو من يحاول للفاروق تشبيها
يوم اشتهت زوجه الحلوى فقال لها
من أين لي ثمن الحلوى فأشريها
وهو أمير المؤمنين
يوم اشتهت زوجه الحلوى فقال لها
من أين لي ثمن الحلوى فأشريها
لا تمطتي شهوات النفس جامحة
فكسرة الخبز عن حلواك تجزيها
وهل يفي بيت مال المسلمين بما
توحي إليك إذا طاوعت موحيها
أي طاوعت نفسك
قالت الزوجة:
قالت لك الله إني لست أرزؤه
مالي بحاجة نفس كنت أبغيها
يعني لم أكن أعتمد على بيت مال المسلمين إنما هو مال عندنا أي سأشتري الحلوى من مال كان موجودا عندي.
قالت أي الزوجة:
قالت لك الله إني لست أرزؤه
مالي بحاجة نفس كنت أبغيها
يقول لها عمر
ما زاد عن قوتنا فالمسلمون به أولى
فقومي لبيت المال رديها
سبحان الله وهو مالها
ما زاد عن قوتنا فالمسلمون به أولى
فقومي لبيت المال رديها
قد فر شيطانها لما رأى عمر
إن الشياطين تخشى بأس مخزيها
هذى مناقبه في عهد دولته
للشاهدين وللأعقاد أحكيها
في كل واحدة من هن نابلة
من الطبائع تغدو نفس راعيها
لعل في أمة الإسلام نابتة
تجلو لحاضرها مرآة ناظرها
حتى ترى بعض ما شابت أوائلها
من الصروح وما عاناه بانيها
وحسبها أن ترى ما كان من عمر(/74)
حتى ينبه منها عين غافيها
رحمك الله يا عمر وفى الحديث عن أبى هريرة رضى الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وعلى وآله وسلم "لا يلج النار أحد بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع" فبشراك يا أخي الحبيب..
أحمد بن حنبل رضى الله تعالى عنه وأرضاه وهو صاحب الورع والخشية يوما من الأيام كان جالسا مع تلاميذه يحدثهم فاقشعر بدنه وشعر بحلاوة الإيمان فقام وتأخر على التلاميذ وذهب أحد التلاميذ ليرى أين ذهب الإمام فاقترب من باب الغرفة أو الحجرة فوجد وسمع الإمام أحمد يتمثل البيتين ويبكي بكاء شديدا رضى الله تعالى عنه سمع الإمام أحمد يقول:
إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل
خلوت ولكن قل علي رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ساعة
ولا أن ما تخفي عليه يغيب
الإمام أحمد يختلي بنفسه ويردد هذين البيتين ما أحوجنا أيها الأحبة لترداد هذين البيتين والخلوة بالنفس والدمعة المباركة في مثل هذا الوقت.
ذكر الذهبي في السير أن [القاضي الحسين] حكى عن [القفال] أستاذه أنه كان في كثير من الأوقات يقع عليه البكاء حالة الدرس يعني وهو يلقى الدرس
أن القفال كان كثيرا من الأوقات يقع عليه البكاء في حالة الدرس ثم يرفع رأسه ويقول أي القفال ما أغفلنا عما يراد بنا فأين نحن من هذا وأين المدرسون عن هذا أين المربون الذين يربون أبناء المسلمين على هذه الخشية وعن هذا الورع إنك تجول ببصرك في مدارس المسلمين شرقها وغربها وترى سمات الصلاح والتقى والورع على كثير من المدرسين والمدرسات فتسمع ذلك الذي يتناقله القريب والبعيد بوجود الصالحين والصالحات ولكنك تتساءل دائما سبحان الله أين البركة أين الأثر أين أثر أولئك على أبناء المسلمين أين البصمات أين الأطفال الذين تربوا على خشية الله قليل أولئك.
فإذا كان كذلك فلماذا لا نسأل عن السبب ولماذا لا نحاسب النفس ولماذا لا نبحث عن العلاج ؟
في قصة تربوية يذكرها بعض علماء التربية أن شيخا قال لتلاميذه الصغار يا أبنائي ـ وهذه القصة رسالة للمدرسين والمدرسات ـ قال لهم يا أبنائي إذا كان من الغد فلا يأتي أحد منكم إلا وقد جاء معه بدجاجة قد ذبحها في مكان لا يراه فيه أحد فجاء التلاميذ من الغد وكل منهم قد علق دجاجة في يده اليمنى إلا غلاما واحدا فسأله الشيخ يا غلام أين الدجاجة ؟ فقال الغلام ـ اسمعوا التربية ـ فقال الغلام يا شيخ إنك قلت أن أذبح الدجاجة في مكان لا يراني فيه أحد وإنني دخلت الحجرة فوجدت أن أحدا يراني فصعدت السطح فوجدت أن أحدا يراني وما طرقت مكانا إلا وكان ذلك الأحد يراني فقال الشيخ من هذا الذي يراك فقال الصغير فقال القلب الخاشع لله إنه الله إن الله معي في كل مكان يراني.
أرأيت التربية فأين أنت يا أخي الحبيب أين أنت أيها المدرس الفاضل أين أنت أيها الداعية الصادق أين أنت يا أيتها المدرسة الصالحة أين أنتم من تربية أبناء وبنات المسلمين على مثل هذا السر العجيب إننا نحتاج إلى وقفة مراجعة ونظرة إلى النفس فإننا نسمع ونقرأ في حياة النبلاء أنه إذا كان الرجل الصالح لوحده في قريته ومدينته أصلح الله به أهل المدينة إذا فما دهانا وما بالنا وأين أثرنا وأين نتائجنا ؟ والله المستعان وإليه المشتكى ولا حول ولا قوة إلا بالله.
الأثر الرابع من آثار هذا السر العجيب في حياة النبلاء حمل هم الآخرة وتعلق القلوب بها نعم إن هذا السر مراقبة الله ما زال يفعل الأفاعيل في قلوب الصالحين حتى جعل تلك القلوب تتعلق بالآخرة فهمومها هي الآخرة وأحاديثها هي الآخرة ودندنتها هي حول الآخرة ولذلك أخرج [ابن ماجة] بسند صحيح أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال "من كانت همه الآخرة جمع الله شمله وجعل غناه في قلبه وأتته الدنيا راغمة ومن كانت همه الدنيا فرّق الله عليه أمره وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب الله له" أخرجه ابن ماجة بسند صحيح.
نسمع هذا الحديث ثم نرى الأمور الدنيوية هي حديث مجالسنا فتارة عن المشاريع التجارية وتارة عن المعمارية وتارة عن الوظيفة ودرجاتها وأخرى عن المركب وأخرى عن الملبس وأخرى عن المشرب وهكذا حتى الصالح من الناس إن حمل الهم فإذا هو هذا همه.(/75)
ابن المبارك رضى الله تعالى عنه وأرضاه كان يوما من الأيام جالسا مع تلاميذه ويروى هذه القصة [القاسم بن محمد] قال كنا نسافر مع ابن المبارك فكثيرا ما كان يخطر ببالي ـ الذي كان يقول ذلك القاسم بن محمد ـ فأقول في نفسي بأي شيء فضل هذا الرجل علينا وقد سمعتم قبل قليل مناقب ابن مبارك في أي شئ فضل هذا الرجل علينا حتى اشتهر في الناس بهذه الشهرة إن كان يصلى إنا لنصلى وإن كان يصوم إنا لنصوم وإن كان يغزو فإنا لنغزو وإن كان يحج إنا لنحج قال وكنا في بعض مسيرنا في طريق الشام ليلة نتعشى في بيت إذ انطفأ السراج فقام بعضنا لإصلاح السراج أي خرج للسراج لإصلاحه فمكث هنيهة ـ لحظة من الزمن ـ ثم جاء السراج فنظرت إلى وجه ابن المبارك ولحيته وقد ابتلت بكثرة الدموع فقلت في نفسي بهذه الخشية فضل هذا الرجل علينا ولعله فقد السراج فصار إلى الظلمة فذكر القيامة.
سبحان الله لحظة من لحظات هنيهة قد تعد دقائق أو لا تعد أو ثواني أو لا تعد فيرجع السراج فإذا الدموع قد ملأت وجه ولحية ابن المبارك رضى الله تعالى عنه.
قلوب حملت هم الآخرة تعلقت بالآخرة فإذا رأت ظلمة تذكرت ظلمة القبر وإذا رأت نارا تذكرت نار جهنم وإذا رأت نعيما وخضرة تذكرت جنان الفردوس هكذا القلب متعلق بهموم الآخرة يفكر في أحوال القيامة وكل أمر يلحظه في دنياه ويمر على مخيلته ينتقل مباشرة تنتقل تلك الصورة إلى مواقف القيامة وأحوال الآخرة.
ذكر الذهبي في السير أن [أشعب بن شعبة المصيصي] قال قدم [الرشيد] <الرقة> فانجفل الناس خلف ابن المبارك وتقطعت النعال وارتفعت الغبرة فأشرفت أم ولد لأمير المؤمنين من برج من قصر الخشب فقالت ما هذا يعني ما هذه الغبرة وما هذا الجمع وهذا العدد من الناس قالوا عالم من أهل <خراسان> قدم قالت هذا والله هو الملك لا ملك هارون الرشيد هذا والله هو الملك لا ملك هارون الذي لا يجمع الناس إلا بشرط وأعوان.
وهكذا الخشية هكذا نتائج الخشية ومراقبة الله تورث المحبة للعبد في قلوب الناس وتضع له القبول في الأرض بكلمته.
وذكر أحمد في الزهد أن ابن مسعود مر على هؤلاء الذين ينفخون الكير فوقع رضي الله تعالى عنه وأرضاه وأنه مر مرة أخرى على الحدادين فبصر بحديدة قد أحميت فبكى رضى الله تعالى عنه وأرضاه. أرأيت القلب كيف يتعلق بالآخرة وبهمومها.
وذكر [ابن الجوزي] في صفة الصفوة أن [مطرا البرّاق] وصاحبه التابعي [هرم بن حيان] كانا يصطحبان أحيانا بالنهار فيأتيان صوب الرياحين أو الريحان فيسألان الله الجنة ويدعوان ثم يأتيان الحدادين فيعوذان بالله من النار ثم يتفرقان إلى منازلهما يخرجان لهذا الأمر تربية للقلب يعلمون أن القلب يغفل ويسهى وتتراكم عليه الشهوات حتى يصبح والعياذ بالله أسود مربادا كالكوز مجخيا لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا هذا حال كثير من قلوب الناس اليوم ونستثني الصالح إن شاء الله أمثالكم ونحسبكم كذلك نعم حتى أصبحت قلوب كثير من الناس لا تعرف المعروف ولا تنكر المنكر والعياذ بالله.
ومثال رابع وأخير حول الأثر الرابع وهو حمل هم الآخرة وتعلق القلوب بها وهو التابعي الجليل [الحسن البصري] رحمه الله تعالى وما أدراك ما الحسن الحسن البصري صاحب الدمعة واقرأ في سيرته إن شئت تجد العجب في خشيته وخوفه فقد كان يشتكي جيرانه من كثرة بكائه في الليل وكم من المرات قرع بابه في الليل يظن جيرانه أن به أذى وما به إلا خوف وخشية لله.
اسمع هذه القصة لهذا الرجل يقول [صالح بن حسان] قال أمسى الحسن صائما فجئناه بطعام عند إفطاره قال فلما قرب إليه قال عرضت له هذه الآية (إن لدينا أنكالا وجحيما وطعاما ذا غصة وعذابا أليما) قال فقرصت يده عنه فقال ارفعوه فرفعناه قال فأصبح صائما فلما أراد أن يفطر ذكر الآية أي في اليوم الآخر ذكر الآية ففعل ذلك أيضا فلما كان اليوم الثالث انطلق ابنه إلى [ثابت البناني] و[يحيى البكاء] وأناس من أصحاب الحسن فقال أدركوا أبي فإنه لم يذق طعاما منذ ثلاثة أيام كلما قربنا إليه ذكر هذه الآية (إن لدينا أنكالا وجحيما وطعاما ذا غصة وعذابا أليما) قال فأتوه فلم يزالوا به حتى أسقوه شربة من سويق.
إنه رضي الله تعالى عنه لا يتعمد ترك الطعام تزهدا وإنما غلبه هم الآخرة وتذكر أهوالها فجعله لا يشتهي الأكل وتأباه نفسه إن هذه النماذج ليتعثر اللسان وهو يتكلم عنها ويضطرب القلب وهو يفكر بها إجلالا وهيبة لهم رحمهم الله تعالى.
كنا قلادة جيد الدهر وانفرطت
وفى يمين العلا كنا رياحينا
كانت منازلنا في العز شامخة
لا تشرق الشمس إلا في مغانينا
فلم نزل لصروف الدهر ترمقنا
شجرا وتخدعنا الدنيا وتلهينا
حتى غدونا ولا جاه ولا نصب
ولا صديق ولا خل يواسينا(/76)
الأثر الخامس من آثار هذا السر في حياة النبلاء وهو الأخير من هذه الآثار في هذه المحاضرة وآثاره كثيرة هضم النفس والإجراء عليها مهما بلغت من الصلاح نعم فإن خشية الله ومراقبة الله جعلت أولئك الرجال يهزمون أنفسهم وجعلتهم يحتقرون هذه النفس فما زالوا في هضمها واحتقار شأنها تربية لها ومحاسبة وإن كثيرا من أهل الخير والصلاح غفل عن قلبه حتى ظن أنه يذكر ولا يذكر ويحدث ولا يحدث وأنه ليس بحاجة إلى موعظة تذكره بالجنة والنار والحساب والعذاب فلا يسمع وإن سمع فللانتقاد والملاحظات ولا يقرأ وإن قرأ فللتدريس والتعليم ولا يصح هذا أبدا يا أخي الحبيب فمن آثار استشعار مراقبة الله في حياة السلف أنهم عرفوا حقيقة أنفسهم وحرصوا على تربيتها فاسمع لـ[سفيان الثوري] أمير المؤمنين في الحديث اسمع لهذا الرجل يقول عنه الإمام الذهبي هو شيخ الإسلام إمام الحفاظ سيد العلماء العاملين في زمانه كان سفيان رضى الله عنه لشدة تعلقه بالآخرة واستيلاء همها عليه لكأنه جاء منها فهو يحدثك عنها رأي العين يقول أبو نعيم كان سفيان إذا ذكر الموت لم ينتفع به أياما..،ويقول ابن مهدي كنا نكون عنده فكأنما وقف للحساب.
أرأيت هذه الصفات في هذا لرجل من شدة الخشية والورع، تعال واسمع لهذه القصة العجيبة في حياته اسمع لهذا الموقف العجيب في حياة سفيان يقول أحد تلامذته كنت أتتبع الإمام في خلواته وجلواته في سره وعلنه يقول فرأيت عجبا ومن هذا العجب أنني رأيت أن الإمام سفيان يخرج رقعة من جيبه فينظر إليها يفعل ذلك في اليوم مرارا يقول فعجبت لهذا الفعل وبت إصرارا في معرفة السر فما زلت خلف الإمام أتبعه وألحظه حتى وقعت الورقة في يدي يقول فنظرت إليها فإذا مكتوب فيها ما تتصور يا أخي الحبيب ماذا كتب سفيان في هذه الورقة يقول: فإذا مكتوب فيها يا سفيان اذكر وقوفك بين يدي الله عز وجل لا إله إلا الله سفيان الذي بلغ ما بلغ من خشيته وخوفه لله علم أن نفسه تغفل وحرص على تربية هذه النفس فما زال في هضمها وتربيتها حتى أنه كتب رقعة يذكر بها نفسه كلما حدثته بمعصية، لا إله إلا الله عجبا لهؤلاء الرجال فنقول ما هو السر الذي جعلهم يصلون لهذا نعم إنها رقابة الله وخشية الله نسأل الله جل وعلا أن يملأ قلوبنا بخشيته وخوفه.
إذا يا أخي الحبيب يا أيها الصالح أيها الخير يا من تجلس أمامي ويا من تسمع كلامي رب نفسك على صلاحها ورب نفسك وقل لها وردد عليها في كل لحظة قل لها يا نفس إني أخاف الله يا نفس اتقي الله في ربها على هذا المبدأ تجد عجبا وتشعر بحلاوة الإيمان وأثر اللذة في الحياة الدنيا قبل الآخرة جرب هذا يا أخي الحبيب اسمع لهذا الموقف وهذه الصورة العظيمة التي يرسمها لنا صلى الله عليه وآله وسلم في حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله نسأل الله أن نكون وإياك وجميع المسلمين منهم بمنه وفضله وكرمه وجوده يقول النبي في آخر هذه الصور ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال ما هي الإجابة؟ انظر لتربية النفس انظر لأثر الخشية والمراقبة على العبد فقال إني أخاف الله أيضا تأمل هذه الصورة جيدا فكر واسرح بخيالك معها امرأة وليست أية امرأة إنها امرأة ذات منصب قادرة على أن تسوي الأمر إذا افتضح وهي ذات جمال وقلوب الرجال تهفو للجمال وهى التي دعته ولم يذهب هو للبحث عنها كل هذه الأحوال وهذا الجو مهيأ للأمور كلها ومع ذلك خوف الله وخشية الله تغطي على هذه الأمور كلها تأتي الإجابة من القلب الخائف الخاشع لله ليقول لتك المرأة إني أخاف الله فرسالة نوجهها إلى أولئك الرجال الذين يركضون خلف النساء والذين يسافرون لأقصى الأرض شرقا وغربا يبحثون عن اللذة نقول أليس لكم في هذا الموقف وفي هذه الصورة عبرة بلى والله لكنها عبرة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
العنصر الآخر كيف الوصول لهذا السر العجيب؟ لعلك يا أخي بسماعك لهذه المواقف ولهذه الآثار ولهذه القصص وأنت كأنك تقول لي:
كرر علي حديثهم يا حادي
فحديثهم يجلو الفؤاد الشادي(/77)
أقول لك إن المواقف كثيرة وتكرارها يزيد الإيمان ويرفع حلاوته ولكنما الوقت قصير ولكني أيضا أقول أين أنتم من تكرارها على أنفسكم وأين أنتم من عرضها على أهليكم وأولادكم ثم أين أنتم عنها من الحديث في مجالسكم إنني لأعجب من حديث الناس في مجالسهم حول القصص الغريبة وحول فلان وعلان تارة غيبة وتارة نميمة وتارة كذب وتارة غش وهكذا هى المجالس إلا ما شاء الله منها فأقول هذه هي المواقف وهذه هي سير الصالحين وهذه هي أحاديث رسول الله وهذه هي بضاعتنا أيها الأخيار لماذا لا تعرض في المجالس لماذا لا نحدث بها نساءنا وأولادنا وفتياتنا وأصحابنا في مجالسنا ومنتدياتنا أسألك بالله ألم تحفظ قصة مما ذكر لا شك نعم إذا فلماذا لا تحمل هذه القصة لعلها أن يكون لها أثر في قلب زميل من الزملاء أو ولد من الأولاد أو أنثى ممن يعيش في بيتك فتكون قد نلت الأجر في هداية شخص ولأن يهدين الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم فأقول ولعلك تقول إذا قل بالله عليك وأسرع بالمقال كيف الوصول لهذه الخشية كيف نربي قلوبنا على خشية الله إننا نتأثر ورقت قلوبنا ولانت ولكني أشعر سرعان ما نخرج من هذا المكان وتلفنا الدنيا بشهواتها وملذاتها ننسى كثيرا من هذه المبادئ أما صاحب المبدأ وصاحب العقيدة فلا لأن هذا هو همه دائما فحديثه عن هذا الأمر وكلامه عن هذا الأمر وفعله لهذا الأمر وصفاته حول هذا الأمر وحول مراقبة الله وخشية الله يدندن دائما.
أول الأمور للوصول لهذا السر أولا المعرفة الحقيقية بالله سبحانه وتعالى نعم إننا نقول دائما إننا نعرف الله ولكن هل هذا يكفي لو قلت لك من الله ما هو صفاته ما هي أسماؤه ما هي عقيدتك وتوحيدك في أسماء الله وصفاته لوقفت فاغرا فاك لا تعلم شيئا ولذلك وصل الناس إلى ما وصلوا إليه ولو كان الله يعرف حقيقة لعظم في القلوب وقدر حق قدره سبحانه وتعالى لذلك فأقول من أراد الخشية من الله والخوف من الله سبحانه وتعالى فليتعرف على الله حقيقة المعرفة من خلال أسمائه وصفاته وذلك متمثل في توحيد الأسماء والصفات أليس من أسماء الله عز وجل الرقيب ومن أسمائه الحفيظ ومن أسمائه السميع والعليم والبصير فمن عقل هذه الأسماء وتعبد بمقتضاها حصلت له المراقبة فالمراقبة كما يعرفها أهل العلم قالوا هي ثمرة علمك بأن الله سبحانه وتعالى رقيب عليك ناظر إليك سامع لقولك مطلع على عملك كل وقت وفى كل نفس وكل لحظة وكل طرفة عين فكلما ازداد العبد معرفة بأسماء الله وصفاته ازداد إيمانه وقوي يقينه بالله وهذه المعرفة تحصل بمراتب ثلاث في توحيد الأسماء والصفات احفظها:
أولا: إحصاء هذه الأسماء بألفاظها وحفظها.
ثانيا: فهم معانيها ومدلولها دون تحريف ولا تعطيل ولا تشويه ولا تتليف.
ثالثا: دعاء الله بها وهو على نوعين دعاء الثناء ودعاء المسألة ومن عرف الله عظمه وأجله ومن عظمه عظم حرماته وأتمر بأمره وانتهى عن نهيه (ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه) ودوام تأمل الأسماء والصفات بالله يورث ذلك حقيقة (وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون) فلذلك تعرف إلى الله حقيقة المعرفة.
الأمر الثاني للوصول لهذا السر الإكثار من ذكر الموت وأحوال الآخرة وأنا أعرف يا أخي الحبيب أنني عندما أقول مثل هذا الأمر أنغص عليك عيشك وأقطع عليك لذة حياتك وما بودي ذاك والله ولكنه الأمر الذي لا مفر منه إنه الحقيقة الحق البرهان الموت الذي لا بد كل منا شاربه ولذلك فإن أردت الخشية والخوف فتذكر الموت وسكراته وشدته تذكر القبر وسؤاله وعذابه ونعيمه وضيقه وظلمته وضمته تذكر أهوال يوم القيامة وشدته وطوله والعرض على الله سبحانه وتعالى وتذكر تطاير الصحف وتذكر الميزان والصراط وتذكر حيرة الخلق وهم كالسكارى وزهول العباد يوم الحساب تخيل انخراط الناس من الموقف فمنهم من يساق إلى الجحيم وتسحبهم الملائكة إلى أبوابها عياذا بالله ومنهم من يدخل الجنة فتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي توعدون نسأل الله أن نكون من أولئك إن تذكر ذلك كله يدفع الإنسان إلى العمل الجاد المتواصل فالبكاء والندم بتذكر هذه الأمور لا ينفعان صاحبهما إذا لم يقرنا بالعمل .(/78)
الأمر الثالث شهود المنة والفضل وهو أن تتذكر فضل الله سبحانه وتعالى عليك ومنته ولا يعرف الفضل لأهل الفضل إلا ذووا الفضل نعم إن الكرماء هم الذين يعرفون الفضل لأهله وأحسبك يا أخي الحبيب إن شاء الله من أولئك الكرماء فانظر لنعمة الله عليك انظر لنعمة الإسلام وحدها انظر إليها ويتضح ذلك عندما ترى أحوال الكفار والبدع وانظر لنعمة الهداية ويتضح ذلك أيضا عندما ترى أحوال الفساق والفجار وانظر لنعمة العافية ويتضح ذلك عندما ترى أحوال المرضى وأهل العاهات فاحمد الله واشكر الله جل وعلا على هذه النعم وهكذا نعم الله سبحانه وتعالى التي لا تحصي فتذكر أنه قادر سبحانه وتعالى على سلبها بكلمة بكن فيكون وقادر سبحانه وتعالى فكن ذاكرا شاكرا رعاك الله حتى تعبد الله كأنك تراه.
الأمر الرابع تقوية القلب بالجلوس للمؤمنين والصالحين أصحاب القلوب الرقيقة والدمعة الدفيقة احرص على الجلوس مع أولئك الذين يخشون الله ويهابونه وهذا على نوعين إما بمخالطة من بمجالسهم الحسية للصالحين والأتقياء وهم الذين قال عنهم (الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين) الذين يخشون الله ويراقبونه أو تكون بالإكثار من قراءة قصص الصالحين والنظر في سيرهم أكثر وأدمن في قراءة مثل هذه المواقف فإن الإنسان إذا قرأ وأكثر حاول أن يحاكي تصرفات أولئك وحاول أن يتمثل أفعالهم ويتصف بصفاتهم.
قيل لابن المبارك كما ذكر ذلك الذهبي في السير قال[ شقيق البلخي] قيل لابن المبارك إذا أنت صليت لما لم تجلس معنا قال ابن المبارك أجلس مع الصحابة والتابعين أنظر في كتبهم وآثارهم فما أصنع معكم أنتم تغتابون الناس. فعليك يا أخي الحبيب بالنظر في سير أولئك الرجال حتى يتعلق قلبك بأحوالهم وصفاتهم. وأخيرا اعلم أن الرقابة تتنوع أن رقابة الله عليك تتنوع فلا مفر لك يا أخي الحبيب إن كثيرا من الناس اليوم يتساءلون كيف نقاوم هذا الفساد المنتشر في شرق البلاد وغربها كيف نقاومه؟ يقول قائل إنني أشكي نفسي ويقول قائل إنني أشكي ولدي وضعفه وربما فسقه ويقول قائل أشكو حال زوجي وتمردها علي ويقول قائل أشكو المعاصي ويقول قائل أشكو الشيطان ويقول قائل وهكذا يشكو الناس كثير أو كلهم من أشياء تجمعت وتكالبت على قلوبهم فأين المفر ؟ ما هو العلاج لمثل هذا الأمر؟
أقول إنه السر العجيب إنه تربية النفس سواء كانت نفسك أو نفس زوجك أو ولدك أو بنتك أو غيرهم على رقابة الله فاملأ هذه القلوب برقابة الله ثم انظر يا أخي الحبيب أسألك بالله ألا تعجب في نهار رمضان من المرأة وهى في مطبخها أمام أصناف الأطعمة والمأكولات ومع ذلك هي جائعة وهي عطشى وتريد أن تأكل ولو لقمة أو أن تشرب ولو شربة ومع ذلك لا تفعل سبحان الله من الذي ردها من الذي منعها أن تأكل والطعام أمامها إنها رقابة لا إله إلا الله إنه الخوف من الله ألا تعجب من الرجل في نهار رمضان وفى القيلولة وشدة حر الشمس وهو جائع عطشان ومع ذلك يتوضأ ويتمضمض ويستطيع أن يدخل إلى فيه شيئا من قطرات الماء وهو يتمضمض ويتوضأ ولكنه يحرص كل الحرص على أن لا يدخل فيه أو حلقه شيء ولو كانت قطرة واحدة سبحان الله من الذي رباه على هذا الحرص من الذي جعله يحرص على هذا الأمر وعلى هذه الشدة وهذا الحال إنها رقابة الله أولا تعجب من المسافر وحده في الخلاء وفى الطريق ينظر ساعته ثم يركن سيارته ثم يتوضأ ثم يؤذن ثم يستقبل القبلة ثم يصلي سبحان الله لا يطلع عليه أحد من الناس ولكنها خشية الله ورقابة الله إذا امتلأت بها النفوس والقلوب.
فإذا علمت ذلك فاعلم أن الرقابة تتنوع وهو آخر المطاف رقابة الله على أشكال ولا مفر لك فذكر بهذا نفسك وذكر بهذا أهل المعصية وأهل الشهوة.
أول هذه الأنواع رقابة الملائكة يقول جل وعز (أم يحسبون أنا لا نعلم سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون) ويقول سبحانه وتعالى (وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون).
الرقابة الثانية رقابة الكتب فلكل عبد كتاب فيه كل صغيرة وكبيرة قال تعالى (وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا).
رقابة ثالثة رقابة الجوارح (يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون).
رقابة رابعة: رقابة الجلود (وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين).(/79)
ورقابة خامسة وأخيرة رقابة الأرض" قرأ صلى الله عليه وآله وسلم يوما سورة الزلزلة فلما وصل إلى قوله تعالى (يومئذ تحدث أخبارها) قال لأصحابه أتدرون ما أخبارها ؟ قالوا الله ورسوله أعلم. قال إن أخبارها يوم تحدث أو تشهد على كل عبد وأمة بما عمل على ظهرها تقول عمل علي يوم كذا كذا وكذا فهذه أخبارها." أخرجه الحاكم في مستدركه وصححه والترمذي في سننه وقال حسن صحيح وتعقب الذهبي الحاكم وقال فيه [شريح بن سليمان] وهو منكر الحديث وكذلك أخرجه الإمام أحمد في مسنده وقال عنه [الألباني] في ضعيف الترمذي ضعيف أو ضعيف الإسناد.
هذه الرقابة المتنوعة أين المفر منها يا أخي الحبيب لعلك علمت إذا أنه لا مفر إذا الأبواب موصدة فما بقي أمامك إلا باب واحد مفتوح وهو باب تربية النفس على خشية الله ومراقبة الله هذا هو السر العجيب الذي أردت أن أطلعك عليه الذي قلب حياة أولئك الرجال فجعل حياة النبلاء حياة ذات معنى وذات لذة وذات حلاوة فهل تريد يا أخي الحبيب هذه الحياة ؟ هل تريد أن تشعر بمعنى قيمة الحياة جرب ذلك وحاول أن تتمثل هذا السر فستجد العجب العجاب في حياتك كلها كبيرها وصغيرها.
نسأل الله جل وعلا أن يرزقنا خشيته في السر والعلن اللهم آت نفوسنا تقواها وزكها أنت خير من زكاها اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك اللهم ألن قلوبنا يا حي يا قيوم اللهم وفقنا لما تحب وترضى اللهم تقبل منا واغفر لنا أجمعين اللهم لا نقوم من مجلسنا هذا إلا وقد قلت لنا جميعا صغيرنا وكبيرنا ذكرنا وأنثانا قوموا مغفورا لكم أنت ولي ذلك والقادر عليه برحمتك ومنك ولطفك يا أرحم الراحمين أستغفر الله وأتوب إليه وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك وصل الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا.(/80)
أما بعد أيها الأحبة في الله السلام عليكم ورحمة الله وبركاته هذه هي ليلة الأربعاء الموافق للرابع عشر من الشهر الثالث للعام التاسع عشر بعد الأربعمائة والألف وفي هذا المكان الطيب المبارك في الجامع الكبير في مدينة <الطائف> نلتقي وإياكم في موضوع بعنوان التوحيد وأثره في النفوس فاعلم رحمني الله وإياك أن التوحيد هو إفراد الله تعالى بالعبادة وهو دين الرسل الذين أرسلهم الله به إلى عباده بل هو أعظم سلاح يتسلح به المسلم سلاح العقيدة سلاح التوحيد العقيدة الصحيحة المستمدة من الكتاب والسنة وما عليه سلف هذه الأمة فأصل ما تزكو به القلوب والأرواح هو التوحيد قال شيخ الإسلام [ابن تيميه] رحمه الله في الفتاوى: ولهذا كان رأس الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله وهي متضمنة عبادة الله وحده وترك عبادة ما سواه وهو الإسلام العام الذي لا يقبل الله من الأولين والآخرين دينا سواه انتهى كلامه رحمه الله ،فلا إله إلا الله كلمة التوحيد ؛الكلمة التي قامت بها الأرض والسماوات، لا إله إلا الله فطر الله عليها جميع المخلوقات ؛عليها أسست الملة ونصبت القبلة وجردت سيوف الجهاد. لا إله إلا الله مَحْضُ حَطِّ الله على جميع العباد ،هي الكلمة العاصمة للدم والمال والذرية في هذه الدار، هي المنجية من عذاب القبر ومن عذاب النار هي المنشور الذي لا يدخل أحد الجنة إلا به لا إله إلا الله؛ الحبل الذي لا يصل إلى الله من لم يتعلق بصدده، لا إله إلا الله كلمة الإسلام ومفتاح دار السلام ينقسم بها الناس إلى شقي وسعيد ومقبول وطريد انفصلت دار الكفر من دار الإيمان وتميزت دار النعيم من دار الشقاء والهوان بلا إله إلا الله ؛هي العمود الحامل للفرض والسنة ومن كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة ، نسأل الله الكريم من فضله ، قال[ ابن القيم] كلاما جميلا عن التوحيد في الفوائد قال رحمه الله: التوحيد أشق شيء وأنزهه وأنظفه وأصفاه وأدنى شيء يخدشه ويدنسه ويؤثر فيه فهو كأضيق ثوب يكون ، يؤثر فيه أدنى أثر وكالمرآة الصافية جدا أدنى شيء يؤثر فيها ولهذا وتنبهوا لهذا تشوشه اللحظة واللهفة والشهوة الخفية فإن بادر صاحبه وقلع ذلك الأثر بوده وإلا استحكم وصار طبعا يتعثر عليه قلعه… إلى آخر كلامه رحمه الله وكثير من الناس يغفل عن حقيقة التوحيد فيتصور أن التوحيد هو قول لا إله إلا الله فقط أو أنه الاعتراف بربوبية الله فقط يردد: أن الله هو الخالق الرازق المحيي المميت ويجهل شمولية هذه العقيدة جميع جوانب الحياة لذلك ربما تزعزعت عقيدة التوحيد في نفوس كثير من المسلمين ،فلا إله إلا الله في كل صغيرة وكبيرة، لا إله إلا الله في كل حركة وسكنة ،لا إله إلا الله في البيت وفي المسجد وفي الوظيفة وفي الشارع وفي كل مكان ،هنا باختصار يتبين لنا جميعا أثر لا إله إلا الله على نفوسنا يا أهل التوحيد يا أهل التوحيد إليكم أمثلة سريعة على أن العقيدة والتوحيد ربما تتزعزع في قلوب بعض الناس فانظروا مثلا إلى الحلف بغير الله والتوسل والاستعانة بالمخلوقين دون الله بل والاحتكام إلى الأعراف والعادات والتقاليد وتقديمها على حكم الله ورسوله عند البعض من الناس انظروا إلى تقديم القرابين والنذور والهدايا للمزارات والقبور وتعظيمها بل انظروا إلى التشبه بالكافرين في أخلاقهم وعاداتهم السيئة وموالاتهم انظروا إلى لجوء الناس عند الشدائد للأسباب المادية نعم تعلقهم بالأسباب المادية فقط من دون الله عز وجل انظروا لانتشار السحرة والمشعوذين والكهان والعرافين والتمائم والرقى غير الشرعية بل انظروا إلى إدعاء علم الغيب في قراءة الكف والفنجان والتنجيم وعالم الأبراج التي تملأ صفحات بعض المجلات اليوم والإذاعات ،انظروا إلى الاحتفالات بالمناسبات الدينية كالإسراء والمعراج والهجرة النبوية وبدعة المولد وغيرها مما لا أصل له في الشرع انظروا إلى الاستهزاء بالدين ،إلى السخرية بأهله إلى الاستهانة بحرماته وأنه تأخر ورجعية ووصف أهله بالتطرف والتشدد انظروا إلى التمسك بأقوال الرجال ، حتى أصبحت تفوق الكتاب والسنة عند كثير من الناس وللأسف، بل انظروا إلى ضعف اليقين نعم إلى ضعف اليقين بالله وإلى دخول اليأس والقنوط لقلوب كثير من المسلمين انظروا إلى الخوف والرعب مِنْ مَنْ ؟ من المخلوقين عند حدوث الفتن والمصائب انظروا إلى تمجيد الغرب والخوف منه حتى وصف ببعض الصفات الإلهية كالقوة والقدرة وإدارة الكون كما نسمع ونقرأ انظروا إلى نظرة الناس المادية للحياة مما ابتلي به المسلمون اليوم نظرة الناس المادية للحياة تحصيل اللذات والشهوات تعليق أهداف الأمة واهتماماتها بأشياء لا قيمة لها كاللهو والطرب والغناء والمتعة الحرام والله عز وجل يقول (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون) هذه من مظاهر زعزعة التوحيد في قلوب الناس وتناقصه والأمثلة كثيرة تلك التي توضح حال عقيدة التوحيد في نفوس المسلمين اليوم(/81)
ولهذا غفل كثير من الناس عن آثار التوحيد وعن حقيقته بل جهل كثير من المسلمين هذه الآثار فأصبح يردد لا إله إلا الله في اليوم عشرات المرات لكن تعال وانظر تعال وانظر لحاله مع نفسه وأهله وانظر لحال بيته وما فيه وانظر لحاله في البيع والشراء وانظر لأقواله وأفعاله وتصرفاته فلربما ليس للا إله إلا الله أثر في حياته والله المستعان مع أنه مسلم ويردد أن لا إله إلا الله . فيا أمة التوحيد يا أمة التوحيد المراد من هذه الكلمة معناها لا مجرد لفظها؛ الكفار الجهال يعلمون أن مراد النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الكلمة هو إفراد الله بالتعلق والكفر بما يعبد من دون الله نعم إفراد الله هذا معنى التوحيد إفراد الله بالتعلق والكفر بما يعبد من دون الله والبراءة منه فإنه صلى الله عليه وسلم لما قال لهم قولوا لا إله إلا الله ماذا قالوا كما أخبر الحق عز وجل عنهم (أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب) فإذا عرفت أن جهال الكفار يعرفون ذلك فالعجب ممن يدعي الإسلام من أهل الإسلام وهو لا يعرف من تفسير هذه الكلمة ما عرفه جهال الكفار بل يظن أن معنى ذلك هو التلفظ بحروفها من غير اتخاذ القلب بشيء من المعاني. والحازق اليوم من هؤلاء من ظن أن معناها فقط ألا يخلق لا يخلق ولا يرزق إلا الله ولا يدبر الأمر إلا الله هكذا يفهم بعض الناس معنى لا إله إلا الله فلا خير في رجل جهال الكفار أعلم منه بمعنى لا إله إلا الله . لا نعجب أن نجد من الكفار من هم أصحاب مبادئ وعقيدة لكنهم يحترمون عقيدتهم ومبادئهم ويقفون عندها ويختمونها بينما ذلك المسلم ليردد أن لا إله إلا الله لكن ليس لمبدئه ولا لعقيدته شيء من الإخلاص الحقيقي في ذلك ، الناس يتفاوتون في التوحيد ويتفاوتون في فهم معنى هذه الكلمة يقول شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله في الفتاوى فإن المسلمين وإن اشتركوا في الإقرار بها فهم متفاضلون في تحقيقها تفاضلا لا نقدر أن نضبطه انتهى كلامه رحمه الله ويقول تلميذه ابن القيم في طريق الهجرتين فالمسلمون كلهم مشتركون في إتيانهم بشهادة أن لا إله إلا الله وتفاوتهم في معرفتهم بمضمون هذه الشهادة وقيامهم بحقها باطلا وظاهرا أمر لا يحصيه إلا الله . انتهى كلامه رحمه الله ويقول أيضا في الداء والدواء فإن من الناس من تكون شهادته ميتة ، انتبهوا يا أحبة إن من الناس من تكون شهادته ميتة ومنهم من تكون نائمة إذا نبهت انتبهت ومنهم من تكون مضطجعة ومنهم من تكون إلى القيام أقرب وهي أي الشهادة في القلب بمنزلة الروح من البدن فروح ميتة وروح مريضة إلى الموت أقرب وروح إلى الحياة أقرب وروح صحيحة قائمة بمصالح البدن إلى آخر كلامه الجميل هناك رحمه الله تعالى. فيا أمة التوحيد أيها الاخوة أيتها الأخوات إن للتوحيد ثماراً عظيمة وآثاراً جميلة ذاق حلاوتها ذلك الصادق في توحيده وحرمها ذلك المسكين الذي لم يعلم حقيقة التوحيد وأثره في الحياة ومن أهم هذه الآثار ولعلي أختصر في بعضها لكثرتها من أهمها:(/82)
أولا: تحقيق معرفة الله عز وجل تحقيق معرفة الله سبحانه وتعالى وهي من أعظم الآثار لكن قد يقول قائل كيف نعرفه قال ابن القيم في الفوائد وأنقله بتصرف ولهذه المعرفة بابان واسعان وانتبهوا لأن الكثير من المسلمين اليوم لم يؤت بضعفه وفتوره وقلة الآثار التوحيد في نفسه إلا لقلة معرفته بالله حق المعرفة يقول ابن القيم رحمه الله ولهذه المعرفة بابان واسعان الأول التفكر والتأمل في آيات القرآن كلها والثاني الفقه في معاني أسمائه الحسنى وجلالها وكمالها وتفرده بذلك إلى آخر كلامه فمثلا أنت تعرف فلانا وتحبه وتبغضه من خلال اسمه وصفاته وأفعاله ولله المثل الأعلى فالفقه في معاني أسماء الله وصفاته ومقتضياتها وآثارها وما تدل عليه من الجلال والكمال أقرب طريق لمعرفة الله أقرب طريق لمعرفة الله والإيمان بأسمائه الحسنى وصفاته العليا الواردة في كتابه العزيز الثابتة عن رسوله الأمين من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل بل يجب أن تمر كما جاءت بلا كيد مع الإيمان بما دلت عليه من المعاني العظيمة هذا الغائب عند الكثير من المسلمين اليوم مع الإيمان بما دلت عليه من المعاني العظيمة هذا عقيدة لأهل السنة والجماعة وكما قيل من كان بالله أعرف كان لله أخوف من كان بالله أعرف كان لله أخوف فيا أيها المسلم الموحد إنك لا تعبد مجهولا، تعبد الواحد الأحد الذي تقرأ أسماءه وصفاته في كل حين في القرآن، في السنة .إن توحيد الأسماء والصفات الذي يردده بعض من المدرسين على أبنائنا وعلى المسلمين بدون فهم بحقيقة هذا التوحيد لهو من أعظم الطرق لمعرفة الله سبحانه وتعالى ؛ فمعرفة الله من خلال أسمائه وصفاته هي نقطة البداية حياة الإنسان البداية الحقة في طريق التوحيد فإذا وفق العبد بهذه المعرفة فقد أوتي خيرا كثيرا واهتدى إلى ربه ووضع قدميه على الطريق الصحيح فمن كان بالله وأسمائه وصفاته أعرف وفيه أرغب وأحب وله أقرب وجد من حلاوة الإيمان في قلبه ما لا يمكن التعبير عنه ومتى ذاق القلب ذلك متى ذاق القلب ذلك لم يمكنه أن يقدم عليه حب غيره وكلما ازداد له حبا ازداد له عبودية وذلا وخضوعا ورقا فمثلا نقرأ في القرآن :أن الله سميع وبصير وعليم فهل فكرت يا أخي الحبيب هل فكرت في معانيها وهل لها أثر في نفسك يوم قرأتها في كتاب الله ، السميع الذي أحاط سمعه بجميع المسموعات، سميع بما في العالم العلوي والسفلي من الأصوات يسمع سرها وعلنها وكأنها لديه صوت واحد لا تختلط عليه الأصوات ولا تختلف عليه جميع اللغات القريب والبعيد، السر والعلانية عنده سواء سبحانه وتعالى، وأنت تقرأ القرآن وتتدبره بهذه المعاني يمتلئ القلب ثقة وخوفا وإجلالا لله تعالى ، البصير الذي يبصر كل شيء وإن دق وصغر ويبصر ما تحت الأراضين السبع كما يبصر ما فوق السماوات السبع فيرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء وجميع أعضائها الباطنة وسريان القوت في أعضائها الدقيقة يرى سريان الماء في أغصان الأشجار وعروقها وجميع النباتات على اختلاف أنواعها وصغرها يري نياط عروق النملة والنحلة والبعوضة وأصغر من ذلك فإذا علمت أنه يرى ذلك بهذه الصفة امتلأ قلبك إجلالا وهيبة من الله وتحقق في النفس مبدأ عظيم مبدأ المراقبة لله سبحانه وتعالى
يا من يرى مد البعوض جناحها
في ظلمة الليل البهيم الأَلْيَلِ
ويري مناط عروقها في صدرها
والمخ في تلك العِظَام النُّحَلِ
امنن عليّ بتوبة تمحو بها ما
كان مني في الزمان الأولِ
وكذلك في جميع أسماء الله وصفاته العزيز الجبار العليم الخبير القدير هكذا يكون لتوحيد الأسماء والصفات أثر عجيب في نفوسنا نعم يا أخي إن علمنا بالله ومعرفتنا به يصلنا بالله ويزكي نفوسنا ويصلحها وهذا هو الطريق الذي أضاعه الكثير من المسلمين اليوم أيها المسلم إن الله عز وجل يقول (ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها) وأنا أسمعك تدعو الله وتتوسل إليه بأسمائه وصفاته لكن وأنت تردد هذه الأسماء وهذه الصفات هل تستشعر معانيها هل تفهم مقاصدها إنك إن فعلت هذا تزداد تعلقا بالله وحبا وهيبة وإجلالا له ولذلك أثر كبير على القلب بل والله له أثر كبير على استجابة الدعاء وقبوله فلنعلم حقيقة توحيد الأسماء والصفات كيف يكون نتعرف على الله عز وجل حق المعرفة من خلاله .(/83)
الأثر الثاني من آثار التوحيد في النفس راحة النفس الموحدة واطمئنانها وسعادتها فهي لا تقبل الأوامر إلا من واحد ولا تمتثل للنواهي إلا من واحد وبهذا راحة للنفس ولذلك ترتاح النفس وتطمئن ويسكن القلب ويهدأ ومن المعلوم لكل عاقل أن النفس لا تحتمل الأوامر من جهات متعددة فلا يعقل أن يكون للعبد أكثر من سيد ولا للعامل أكثر من كفيل وإلا عندها سيقع ضحية لأهوائهم فكل يأمر وكل ينهى وعندها لا يدري ماذا يعمل فيصبح القلب شذر مدر وفي هم وغم لا يدري من يرضي قال ابن القيم رحمه الله في الفوائد وكما أن السماوات والأرض لو كان فيهما آلهة غيره سبحانه لفسدتا كما قال تعالى (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) فكذلك القلب إذا كان فيه معبود غير الله تعالى فسد فسادا لا يرجى صلاحه إلا بأن يخرج ذلك المعبود منه ويكون الله تعالى وحده إلهه ومعبوده الذي يحبه ويرجوه ويخافه ويتوكل عليه وينيب إليه انتهى كلامه رحمه الله ، إذاً فلا يأمل إلا لله الموحد لا يأمل إلا لله ولا يحب إلا لله ولا يغضب إلا لله ولا يكره إلا لله وهنا يشعر القلب بالراحة والسعادة فهو مطالب بإرضاء الله ولو غضب عليه أهل الأرض قاطبة هذه هي حقيقة التوحيد بل هذا هو الإخلاص لله في كل شيء (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين) هل سألنا أنفسنا هل سألنا أنفسنا يوما من الأيام ما هو هدفنا في الحياة لماذا خلقنا ؟ كثير من المسلمين اليوم من يتلفظ بلا إله إلا الله لو سئل عن هدفه في الحياة ربما لم يجب وربما أجاب لكنها إجابة فيها تردد وحيرة ربما تذكر تلك الأسئلة التي درسها يوم أن كان صغيرا في المراحل التعليمية الأولي لماذا خلقنا الله فكانت الإجابة خلقنا الله لعبادته وما هو الدليل (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) وما هو تعريف العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة أظننا لا نجهل هذا ، الكبير منا والصغير يعرفه الذكر والأنثى تعلمه بل حفظه عن ظهر قلب العجيب أن الكثير من الناس لا يفكر في هذه الكلمات التي حفظها وقرأها ورددها يوم أن كان صغيرا بل لم يفهم معناها وإن فهم معناها لم يعمل بمقتضاها لماذا يا أحبة لماذا الفصل بين العلم والعمل لماذا الفصل بين العلم والعمل فالعلم يهتف بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل. في حياتنا ندرس ونقرأ ونسمع فإذا خرجنا من مدارسنا أو من مساجدنا تغيرت الأحوال وتركنا العلم جانبا وحكمنا الأهواء والمصالح الشخصية والله المستعان أيها الأخ الله عز وجل يقول (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) أي أن هدفك في الحياة هو عبادة الله عز وجل تلك العبادة التي أخطأ كثير من المسلمين اليوم في فهمها ولذلك ربما يقول قائل الله عز وجل يريد منا دائما إذاً أن نركع ونسجد فقط وأن نصلي ونصوم فقط وأن نحج ونقرأ القرآن فقط هذه هي الحياة هكذا تريدون منا لماذا ؟ لأنهم فهموا الحياة على أنها فقط أو أن العبادة على أنها فقط مقيدة بتلك العبادات الأربعة المشهورة عند الناس كالصلاة والصيام والحج والزكاة هكذا يفهم بعض المسلمين الإسلام أيها المحب ليس هذا هو مفهوم العبادة التي يريدها الله عز وجل منا فنحن نردد أن العبادة كما أسلفنا اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة على الجوارح الباطنة في القلب إذاً فكل فعل وكل قول وكل حركة وكل سكون في حياتك هي عبادة لله جل وعلا بشرط أن يحبها الله ويرضاها أن تكون خالصة لله وكما جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا هو هدف المسلم في الحياة هدف المسلم في الحياة رضا الله رضا الله عز وجل في كل صغيرة وكبيرة وفي كل حركة وسكون فإذا اتضح الهدف للمسلم ارتاح قلبه واطمأنت نفسه وشعر بالسعادة لأنه يعيش من أجل هدفٍ سامٍ وغاية واضحة ومبدأ عظيم هو رضا الله وبهذا المفهوم الصحيح للعبادة فكل شيء في الحياة مع النية الخالصة لله عبادة يؤجر عليها العبد ولو أردنا أن نأخذ الأمثلة لطال بنا المقام ولكن خذوا على سبيل المثال يقول النبي صلى الله عليه وسلم "وفي بضع أحدكم صدقة "إذاً وأنت تقضي وترك وشهوتك تؤجر عليها وإن لأهلك عليك حقا وأنت تجالس أهلك وأولادك وتقضي شأنهم وتعولهم تؤجر. حتى اللقمة تضعها في فم امرأتك وأنت تسعى لكسب الرزق لأولادك إذاً تؤجر، ابتسامتك في وجه أخيك صدقة ، بل حتى النوم النوم تؤجر عليه بشرط أن يكون ذلك النوم على هيئة يرضاها الله عز وجل ألم يقل بعض السلف إني لأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي. إذا عشت بمثل هذا المفهوم تشعر بالاطمئنان والسعادة والراحة لأن كل حياتك ترضي الله عز وجل فتؤجر عليها يوم تقدم على الله وكل صغيرة وكبيرة قد كتبت وسجلت في حسناتك الله أكبر ما أحلى هذه الحياة ما أحلى الدنيا في همومها وغمومها إذا عاش المسلم بمثل هذا المفهوم الواضح البين في حياته حتى الهم سبحان الله في حياة(/84)
المسلم الموحد الصادق حتى الهم حتى المرض حتى التعب يؤجر عليها إذا كانت في رضا الله عز وجل ألم يقل الحبيب صلى الله عليه وسلم "ما من هم ولا غم ولا نصب ولا وصب ولا حزن حتى الشوكة يشاكها المسلم إلا كفر الله بها من خطاياه" لا إله إلا الله لا إله إلا الله ما أحلاها في حياتنا قولا وعملا لا كما يريد أعداء الله عز وجل أن يصوروها للناس أنها في المسجد فقط وأنها في شهر رمضان وموسم الحج فقط أما ما عداه فلا ولذلك ربما سمعنا من بعض المسلمين وللأسف كلمة أو عبارة يقول أَدْخَلُوا الدين في كل شيء أَدْخَلُوا الدين في كل شيء ونقول له ولأمثاله نعم الدين في كل شيء ونحن مسلمون والإسلام هو الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والخلوص له من الشرك حفظناها أيضا يوم أن كنا صغارا ، تسليم واستسلام لله تعالى في كل شئون حياتنا لا حرية لك إلا في حدود الشريعة لا حرية لك بلباسك ولا بقولك ولا ببيعك ولا بشرائك ولا بذهابك ولا بمجيئك إلا بهذه الحدود ، نعم أيتها المسلمة الإسلام حقيقة يضبط حتى لباسك وفعلك وصفتك ، إذا رضى الله عز وجل عن هذا الفعل وعن هذه الصفة فتوكلي على الله هنا تتضح حقيقة الإسلام أن تستسلم لله عز وجل إلا والعياذ بالله لو قال قائل أنه خرج عن الإسلام نقول له افعل ما أردت بالحرية المزعومة التي ينادي بها كثير من الناس اليوم كما قال تعالى للمشركين الذين تمردوا على دينه وشرعه مهددا لهم (قل الله أعبد مخلصا له ديني فاعبدوا ما شئتم من دونه)، فاعبدوا ما شئتم من دونه؛ هناك يوم للحساب وللجزاء لا يمكن أن يغفل عنه الموحد أبدا أما أنت أيها المسلم فلك حرية لكن في حدود الشريعة فأنت أسلمت وجهك لله وخضعت لدين الله فعليك أن تلتزم الأوامر وتجتنب النواهي كما يريد الله سبحانه وتعالى قلت بلسانك رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا نبيا فلماذا أراك تخالف هذا الرضا في فعلك وحياتك والله المستعان يا ليتنا يا ليتنا نردد هذا المفهوم الصحيح للعبادة على نسائنا وصغارنا وعلى طلابنا وزملائنا بل على كل من نقابل مسلما كان أو كافرا لماذا نردد ذلك للجميع؛ لتتضح حقيقة هذا الدين لتتضح حقيقة هذا الدين ويسره وسهولته وسعته وفضل الله عز وجل علينا والله اسمعوها يا أحبة والله ثم والله لو عاش المسلمون بهذا المفهوم لما كان هناك انفصام في شخصية كثير من المسلمين يأتي للمسجد يركع ويسجد وربما بكى وسالت الدمعة على الخد خوفا من الله بل ربما كان في الصف الأول لكن تعال وانظر لبيعه وشرائه وانظر لتعامله في الربا تعال وانظر للسانه تعال وانظر لبيته وما فيه من وسائل الفساد تعال وانظر لتلك المرأة في لباسها وفعلها وتبرجها يا سبحان الله أين أثر التوحيد وحقيقة التوحيد في نفوسنا بل إن للتوحيد أثرا عجيبا في سعادة الزوجين في حياتهما نعم والله هذا سر من أسرار الحياة الزوجية للتوحيد أثر عجيب في سعادة الزوجين في حياتهما فالقاعدة الأساسية للبيت السعيد أهلا وسهلا بما يرضي الله وبعدا وسخطا لما يغضب الله فلو صار البيت على هذه القاعدة لوجد والله السعادة والراحة يتفق الزوجان على هذه القاعدة الجميلة فكل ما يرضي الله فأهلا وسهلا به في بيتنا وكل ما يغضب الله فبعدا له وسخطا لأنه يغضب الله يا أهل التوحيد لنحقق التوحيد كما يريده الله سبحانه وتعالى في نفوسنا لنراجع أنفسنا ونحاسب أنفسنا أين أثر التوحيد في نفوسنا لماذا بدأ يتناقص لماذا بدأ يتناقص ويتراجع ويظهر هذا النقص وهذا التراجع على بعض المسلمين الموحدين اليوم وللأسف نسأل الله عز وجل أن يحيينا حياة طيبة وأن يميتنا على التوحيد وأن يجعل آخر كلامنا من الدنيا لا إله إلا الله؛ ذلك من أثر التوحيد تواضع النفس الموحدة وخوفها وانكسارها لخالقها بل وافتقارها إليه سبحانه وتعالى لماذا ؛لشعورها أنها في حاجة إليه في كل لحظة فهو مالكها وهو مدبرها مما يزيد العبد افتقارا والتجاءً إليه عز وجل ويزيده ترفعا عن المخلوقين ومما في أيديهم فالمخلوق ضعيف فقير عاجز أمام قدرة الحق عز وجل الذي إذا أراد شيئا قال له كن فيكون هنا يشعر الموحد يشعر الموحد بأنه يأوي إلى ركن شديد وأنه في سعادة عظيمة كيف لا وهو يشعر بذله وانكساره وافتقاره وعبوديته لملك الملوك ، الكثير من أهل التوحيد غفل اليوم عن هذا الأثر الافتقار والانكسار أيها الإخوة أيها المسلمون بل أيها المسلمون المستقيمون إننا ضعفاء ومساكين لا حول لنا ولا قوة والله بأنفسنا إلا بربنا جل وعلا، إلا بالواحد الأحد فمن منا جعل له ساعة يخلو فيها مع ربه من منا جعل له ساعة يخلو فيها مع ربه يعترف له بضعفه وذله وفقره يرفع يديه يناجي ربه بتواضع فالنفس منكسرة منكسرة لله القلب يخفق العين تدمع اللسان يلهج فيقول
أنت الذي صورتني وخلقتني
... وهديتني لشرائع الإيمان
أنت الذي علمتني ورحمتني
... وجعلت صدري واعي القرآن
أنت الذي أطعمتني وسقيتني(/85)
... من غير كسب ولا دكان
وجبرتني وسترتني ونصرتني
... وغمرتني بالفضل والإحسان
أنت الذي آويتني وحبوتني
... وهديتني من حيرة الخذلان
وزرعت لي بين القلوب مودة
... والعطف منك برحمة وحنان
ونشرت لي في العالمين محاسنا
... وسترت عن أبصارهم عصياني
وجعلت مثلي في البرية شائعا
... حتى جعلت جميعهم إخواني
والله لو علموا قبيح سريرتي
... لأبى عليّ السلام من يلقاني
ولأعرضوا عني وملوا صحبتي
... ولبؤت بعد كرامة بهوان
لكن سترت معايبي ومثالبي
... وحلمت عن سخطي وعن طغياني
فلك المحامد والمدائح كلها
... بخواطري وجوارحي ولساني
ولقد مننت عليّ ربي بأنعم
... مالي بشقه أقلهن يدامي
هذه الثمرة أيها الاخوة والأخوات هذه الثمرة من أعظم ثمرات التوحيد على النفوس حرمها الكثير منا فراحة النفس وسعادة القلب والله الذي لا إله غيره راحة النفس وسعادة القلب في الذل والانكسار للخالق سبحانه وتعالى والافتقار إليه والانكسار بين يديه فلنلجأ إلى الله عز وجل لنلجأ إلى الله لنعلن ضعف أنفسنا لله وحده هنا سيشعر الموحد بالقوة العجيبة وبالصبر والثبات لأنه يعلم أنه يأوي إلى الذي بيده ملكوت السماوات والأرض الذي يدفعه ويحوطه ويحفظه كما سيأتي من آثار التوحيد إن شاء الله.(/86)
رابعا: من آثار التوحيد اليقين والثقة بالله عز وجل فصاحب التوحيد على يقين من ربه مصدق بآياته مؤمن بوعده ووعيده كأنه يراه رأي العين فهو واثق بالله متوكل عليه راض بقضائه وقدره محتسب الأجر والثواب منه .النفس الموحدة تمتلئ بالطمأنينة والسكينة حتى في أشد المواقف وأصعبها ألم نقرأ في القرآن (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون) يقول ابن تيميه رحمه الله :والناس وإن كانوا يقولون بألسنتهم لا إله إلا الله فقول العبد لها مخلصا من قلبه له حقيقة أخرى ما هذه الحقيقة ؟ يقول تلميذه ابن القيم يقول عن شيخ الإسلام ذلك الذي ذاق هذه الحقيقة كما نحسبه والله حسيبه يقول: وعلم الله ما رأيت أحدا أطيب عيشا منه قط مع ما كان فيه من ضيق العيش وخلاف الرفاهية والنعيم بل ومع ما كان فيه من الحبس والتهديد والإرهاق وهو مع ذلك من أطيب الناس عيشا وأشرحهم صدرا وأقواهم قلبا وأسرهم نفسا تلوح نظرة النعيم على وجهه وكنا إذا اشتد بنا الخوف وساءت منا الظنون وضاقت بنا الأرض أتيناه فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه فيذهب ذلك كله وينقلب انشراحا وقوة ويقينا وطمأنينة فسبحان من أشهد عباده جنته قبل لقائه وفتح لهم أبوابها في دار العمل فآتاهم من روحها ونسيمها وطيبها ما استفرغ قواهم بطلبها والمسابقة إليها إلى آخر كلامه رحمه الله هكذا النفس الموحدة مهما أصابها في الدنيا ومهما كانت الابتلاءات والامتحانات مهما كانت الشدائد على مثال تلك النفس فإنها تعلم أنها قد تجزى بسيئاتها في الدنيا في المصائب التي تصيبها ولذلك لما سأل [أبو بكر] النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) قال أبو بكر يا رسول الله وأينا لم يعمل سوءا فقال الحبيب صلى الله عليه وسلم "يا أبا بكر ألست تنصب ألست تحزن ألست تصيبك اللأواء فذلك ما تجزون به نعمة الله على عباده "إذاً فما يصبك أيها الموحد من بلاء أو مرض أو نصب أو تعب فإنك مأجور مخلوف فإنك مأجور مخلوف عند الله سبحانه وتعالى؟ التوحيد يسليك عند المصائب ويهون عليك الآلام وبحسب مقدار ما في القلب من لا إله إلا الله يكون الصبر والتسليم والرضا بأقدار الله سبحانه وتعالى المؤلمة يقول :ابن القيم رحمه الله كلاما جميلا في إغاثة اللهفان يقول: إن ابتلاء المؤمن كالدواء له يستخرج منه الأدواء التي لو بقيت فيه أهلكته أو نقصت ثوابه وأنزلت درجته فيستخرج الابتلاء والامتحان منه تلك الأدواء ويستعد به لتمام الأجر وعلو المنزلة ومعلوم أن وجود هذا خير للمؤمن من عدمه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم "والذي نفسي بيده لا يقضي الله للمؤمن قضاءً إلا كان خيرا له وليس ذلك إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له" إذاً فهذا الابتلاء والامتحان منك ما لنصره وعزه وعافيته إلى آخر كلامه رحمه الله من آثار التوحيد أيضا اليقين بنصرة الله وتحقيق وعده فقد تكفل الله لأهل التوحيد بالفتح والنصر والعزة والشرف كما قال تعالى (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا) هذا هو الشرط ؛التوحيد يعبدونني لا يشركون بي شيئا (ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون) ومن آثار التوحيد أيضا الأثر الخامس تفريج الكربات التوحيد الخالص هو السبب الأعجب في الدنيا والآخرة وقصة يونس عليه السلام من الأدلة على ذلك قال تعالى (وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات) بماذا نادى بماذا استغاث بماذا لجأ، بكلمة التوحيد (فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين) فماذا كانت النتيجة (فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين) بل حتى المشركين يعلمون أن في التوحيد تفريجا للكربات قال الله تعالى (فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون) يقول الإمام [محمد بن عبد الوهاب] رحمه الله تعالى في القواعد الأربع يقول وانتبهوا لهذا الكلام القاعدة الرابعة أن مشرك زماننا أغلظ شركا من الأولين لأن الأولين يشركون في الرخاء ويخلصون في الشدة ومشركو زماننا فشركهم دائم في الرخاء والشدة. انتهي كلامه رحمه الله ، إلى أن قال أي –ابن القيم- رحمه الله فما دفعت شدائد الدنيا انتبهوا يا أهل المصاعب والآلام والأحزان فما دفعت شدائد الدنيا بمثل التوحيد ولذلك كان دعاء الكرب في التوحيد ودعوة المؤمن التي ما دعا بها مكروب إلا فرج الله كربه في التوحيد فلا يلقي في الكرب العظام إلا الشرك ولا ينجي منها إلا التوحيد فهذا مفزع الخليقة وملجأها وحصنها وبياتها وبالله التوفيق….. إلى آخر كلامه رحمه الله0(/87)
سادسا: من الآثار أيضا الحزم والجد في الأمور نعم الحزم والجد في الأمور فإن الموحد جاد حازم لأنه عرف هدفه وعرف لماذا خُلِق وما المطلوب منه وهو توحيد الله عز وجل والدعوة إليه فلذلك حرص على عمره فاستغل كل يوم وشهر بل والله استغل كل ساعة في عمره فلا يفوت فرصة للعمل الصالح إلا واستغلها ولا يفوت شيئا فيه رجاء الله إلا وحرص عليه ولا يرى موقع الإثم إلا وابتعد عنه خوفا من العقاب لأنه يعلم أن من أسس التوحيد الإيمان بالبعث والجزاء على الأعمال والله عز وجل يقول( ولكل درجات مما عملوا) وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الغاية أي على الحزم والجد والقوة فقال صلى الله عليه وسلم "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل الخير احرص على ما ينفعك واستعن بالله وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا وكذا لكان كذا ولكن قل قدر الله وما شاء فعل فإن لو تفتح باب الشيطان" أخرجه مسلم في صحيحه لكن شتان بين المؤمن الجاد الحازم الذي يستغل اللحظات ويقضي العمر برضا الله عز وجل وبالعمل الصالح وبين المؤمن الضعيف الذي يصارع النفس والشهوات ومغريات الحياة نعم ابتلي الكثير الكثير من المسلمين اليوم بل حتى من الصالحين ابتلوا بمصارعة النفس والشهوات هكذا المؤمن بين أمرين بين رضا الله وثوابه وبين الدنيا وشهواتها وتنبهوا كلما ضعف أحدهما قوي الآخر واشتد ، أيها الموحد كن جادا حازما فأنت صاحب عقيدة تحمل همها في الليل والنهار وفي اليقظة والمنام هكذا المسلم إن حزن فللتوحيد وإن ابتسم فلتوحيده وإن أحب فلعقيدته وإن أبغض فلعقيدته وإن ذهب فلها وإن جاء فلها حياته كلها جد وعمل فهي وقف لله تعالى ،أثر آخر من آثار التوحيد ، التوحيد هو الذي يحرر النفوس من رق المخلوقين ومن التعلق بهم وخوفهم ورجائهم والعمل لأجلهم وهذا والله هو العز الحقيقي والشرف العالي فيكون بذلك متألها متعبدا لله فما يرجو سواه ولا يخشى غيره ولا ينيب إلا إليه ولا يتوكل إلا عليه وبذلك يتم فلاحه ويتحقق نجاحه فإن العبودية لله عز ورفعة والعبودية لغير الله ذل ومهانة فيا عجبا يا عجبا ممن يخاف من المخلوقين كالسحرة والمشعوذين وغيرهم ويحسب لهم حسابا فيطلب ربما عطاءهم ويلجأ إليهم ويخاف منعهم وقد شرع له أن يردد بعد كل صلاة اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت أين حقيقة التوحيد أين حقيقة هذه الكلمة يرددها كثير من المسلمين بعد كل صلاة لكن ربما بدون تدبر لمعناها ولا عمل بمقتضاها واسمع لهذا الكلام الجميل من شيخ الإسلام رحمه الله يقول :المشرك يخاف المخلوقين ويرجوهم فيحصل له رعب كما قال تعالى (سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا) أما الخالص الخالص من الشرك يحصل له الأمن كما قال تعالى (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون) وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم الظلم هنا بالشرك كما في الحديث0 انتهى كلامه فكان من آثار التوحيد إذاً القوة والشجاعة واسمع لهذا المثل العجيب قال الله تعالى (يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوي عزيز) وأذكر لكم مثلا واحدا لعزة المسلمين يوم أن تعلقوا بالله ولم يخافوا إلا الله ذكر [جبيل بن شدة] فقال ندبنا [عمر] واستعمل علينا [النعمان بن مقرن] حتى إذا كنا بأرض العدو خرج علينا عامل [كسرى] في أربعين ألفا فقام فقال ليكلمني رجل منكم ليكلمني رجل منكم وفي رواية [للطبري] أن كسرى قال له إنكم معشر العرب أطول الناس جوعا وأبعدهم وأبعد الناس من كل خير وما منعني أن آمر هؤلاء الأساور أن ينتظموكم بالنشاب أي يقتلوكم إلا تنجس لجيفكم إلا تنجس لجيفكم فقال [المغيرة] رضي الله تعالى عنه ما أخطأت شيئا من حقنا نحن أناس من العرب كنا في شقاء شديد وبلاء شديد نمص الجلد والنوى من الجوع ونلبس الوبر والشعر ونعبد الشجر والحجر فبينما نحن كذلك إذ بعث رب السماوات ورب الأراضين تعالى ذكره وجلت عظمته إلينا نبيا من أنفسنا نعرف أباه وأمه فأمرنا نبينا رسول ربنا صلى الله عليه وسلم أن نقاتلكم حتى تعبدوا الله وحده أو تؤدوا الجزية وأخبرنا نبينا عليه الصلاة والسلام عن رسالة ربنا أنه من قتل منا صار إلى الجنة في نعيم لم يُري مثله قط ومن بقي منا ملك رقابكم 0هكذا يكون التوحيد الخالص عزة ورفعة وثقة بالله وقوة في الدين والعقيدة يقول شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله فإن المخلص لله ذاق ، المخلص لله ذاق من حلاوة عبوديته لله ، ومن حلاوة محبته لله ما يمنعه من محبته لغيره ، إذ ليس عند القلب أحلى ولا ألذ ولا أطيب ولا ألين ولا أنعم من حلاوة الإيمان المتضمن لعبوديته لله ومحبته له وإخلاصه الدين له… انتهى كلامه رحمه الله .(/88)
ثامنا: من آثار التوحيد أيضا في النفوس أنه يسهل عليها فعل الخيرات وترك المنكرات ، المخلص في توحيده تخف عليه الطاعات لما يرجوه من الثواب ويهون عليه ترك المنكرات وما تهواه نفسه من المعاصي لما يخشى من سخط الله وأليم عقابه وكلما حقق العبد الإخلاص في قول لا إله إلا الله خرج من قلبه تأله ما يهواه وتصرف عنه المعاصي والذنوب نعم إذا صدق العبد في توحيده ؛ صرف عنه الكثير من الذنوب والمعاصي ألم يقل الحق عز وجل في القرآن (كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين) فلعل صرف السوء والفحشاء عنه بأنه من عبادنا المخلصين ويقول الحق عز وجل (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا) فالمسلم بقدر ما في نفسه من التوحيد يكون إقدامه وحرصه على فعل الخيرات والعكس بالعكس ، لما عدم تحقيق التوحيد في قلوبهم أي في قلوب المنافقين ثقلت عليهم الطاعات وكرهوها كما أخبر الله عز وجل عنهم في القرآن واسمع لـ ابن القيم رحمه الله يقول في مدارج السالكين كلاما جميلا يقول: اعلم أن أشعة لا إله إلا الله تبدد من ضباب الذنوب وغيومها بقدر قوة ذلك الشعاع وضعفه فلها نور وتفاوت أهلها في ذلك النور قوة وضعفا لا يحصيه إلا الله تعالى فمن الناس من الناس من نور هذه الكلمة في قلبه كالشمس نسأل الله الكريم من فضله ومنهم من نورها في قلبه كالكوكب الدري ومنهم من نورها في قلبه كالمشعل العظيم وآخر كالسراج المضيء وآخر كالسراج الضعيف ولهذا تظهر الأنوار يوم القيامة بأيمانهم وبين أيديهم على هذا المقدار وبحسب ما في قلوبهم من نور هذه الكلمة علما وعملا ومعرفة وحالا وكلما عظم نور هذه الكلمة واشتد أَحْرَقَ مِن الشبهات والشهوات بحسب قوته وشدته، انتهى كلامه رحمه الله فأهمس في أذن أولئك العاجزين هذه الكلمات إلى أسرى الذنوب والشهوات والمعاصي الذين إذا ذكروا تعللوا بالمشقة والعجز فإذا قيل لأحدهم اترك يا أخي تلك المعصية قالوا والله ما استطعت. أقول لألئك كما يقول ابن القيم رحمه الله إنما يجد المشقة في ترك المألوفات والعوائد من تركها لغير الله أما من تركها صادقا مخلصا من قلبه لله فإنه لا يجد من تركها مشقة إلا في أول وهلة ليمتحن أصادق هو في تركها أم كاذب.. انتهى كلامه رحمه الله 0(/89)
تاسعا: من آثار التوحيد أنه ينير القلب ، القلب يستنير بنور التوحيد ويشرح الصدر ويجعل للحياة معنى وحلاوة بل أن لا إله إلا الله إذا خرجت من قلبٍ صادق تقلب الحياة رأسا على عقب تعال يا أخي الكريم تجعل النفس من لا شيء إلى كل شيء انظر لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم رضوان الله تعالى عليهم وخاصة الموالي هذا [بلال] عبد حبشي ليس له من الأمر شيء فأصبح بلال أصبح بلال بلا إله إلا الله المؤذن الأول ورجل من أهل الجنة وسيد من سادات الإسلام تهتز له القلوب ذكر عمر قبل أبي بكر فجعل يصف مناقبه ثم قال وهذا سيدنا بلال حسنة من حسناته سبحان الله بأي شيء أرتفع ووصل بلال إلى هذه المرتبة بلا إله إلا الله بكلمة التوحيد تلك الكلمة التي وقرت في قلبه التي كان يعبر عنها بقوله أَحَدٌ أَحَدْ وهو يسحب على رمضاء مكة فكان يقول عندما يسأل عن شدة العذاب وتحمله كان يقول واسمعوا لكلمته الجميلة كان يقول رضي الله تعالى عنه كان عندي حلاوة الإيمان ومرارة العذاب فامتزجت مرارة العذاب بحلاوة الإيمان فاستعذبت العذاب في ذات الله ، سبحان الله كان مولى من الموالي فلما آمن بالله وقف في وجه أسياد مكة يتحداهم بلا إله إلا الله فرضي الله تعالى عنه وأرضاه يوم أن نصر ذلك العبد ورفع اسمه وأعلى مكانته -سبحان الله -بلا إله إلا الله وانظروا أيضا لحال عمر ابن الخطاب رضي الله تعالى عنه وأرضاه من ينظر في سيرته ألم يتقلد سيفه كما في بعض السير ليقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم امتلأ قلبه حقدا وبغضا لرسول الله صلوات الله وسلامه عليه وإذا به لحظات فيشهد أن لا إله إلا الله ؛ فينقلب ذلك القلب ويتغير الحال فيا سبحانه مقلب القلوب يصبح الرسول صلى الله عليه وسلم أحب إليه من كل شيء بل حتى من نفسه كما قال ويتحول ذلك القلب القاسي المتجبر إلى قلب لين رقيق كثير الخشية والبكاء ومن لا شيء إلى ثاني رجل بعد أبي بكر رضي الله تعالى عنهما؛ إنها شمس التوحيد إنها شمس التوحيد لامست شغاف القلوب فتجلت بها ظلمات النفس والطبع وحركت الهمم والعزائم عاشرا من آثار التوحيد في النفوس حفظ هذه النفوس ، أيها الإخوة بِمَ حفظت دماؤنا وبِمَ حفظت أعراضنا وأموالنا إلا بكلمة التوحيد لا إله إلا الله قال النبي صلى الله عليه وسلم "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إذاً فمن قال هذه الكلمة حرم ماله ودمه فقد قال صلى الله عليه وسلم "من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله" كما في صحيح مسلم بل اسمع لهذا الموقف العجيب أخرجه [مسلم] في صحيحه من حديث [أسامة بن زيد] رضي الله تعالى عنهما قال بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية فصبحنا <الطرقات> وهي موضع في بلاد جهينة قال فأدركت رجلا فقال لا إله إلا الله ـ أي مشركا ـ فقال لا إله إلا الله قال أسامة فطعنته فوقع في نفسي من ذلك فذكرت للنبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله أقال لا إله إلا الله وقتلته قال أسامة يا رسول الله إنما قالها خوفا من السلاح فقال الحبيب صلى الله عليه وسلم أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا قال فما زال يكررها علي حتى تمنيت أني أسلمت يومئذٍ" بماذا حفظت بماذا حفظت هذه النفس ؛ بتوحيد الله بالتوحيد بلا إله إلا الله ولذلك ترجم [النووي] لهذا الحديث فقال باب تحريم قتل الكافر بعد أن قال لا إله إلا الله.(/90)
الحادي عشر من آثار ، الإنصاف وتربية النفس على العدل فمن أظلم الظلم يا أحبة أن يكون الله هو الذي أوجدك فيخلق ويحسن الخلق وينعم ويحسن الإنعام ويتفضل سبحانه عليك بكل شيء وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ثم بعد ذلك كله نقابل ذلك بالنكران والجحود فنجعل له ندا نمتثل لأمره ونحبه من دون الله بل نخافه من دون الله ونرجوه أو نرجوا عنده الشفاء بل ربما صرف له شيء من العبادة من دون الله فأين من يعبد الحجر وأين من يطوف بالقبر وأين من يتوسل بالضعفاء والمساكين بل أين من يذهب للسحرة والمشعوذين بل أين من ملكت الدنيا قلبه سبحان الله، الذل والانكسار لأمثال هؤلاء الطواف وصرف الأموال واللجاءة والاستغاثات لهؤلاء وتنصرف عن الخالق سبحانه وتعالى الذي أنعم وقدر وخلق وأحسن وتفضل عليك أليس هذا هو الظلم العظيم هل جزاء الإحسان إلا الإحسان ولذلك كان أعظم ذنب عصي الله به هو الشرك بالله (يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم) وكما قال الحق عز وجل (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) وفي بعض الآثار الإلهية أن الله عز وجل قال" إني والجن والإنس في نبأ عظيم أخلق ويعبد غيري وأرزق ويشكر سواي خيري على العباد نازل وشرهم إليَّ صاعد أتحبب إليهم بالنعم ويتبغضون إليَّ بالمعاصي" هذا واقع كثير من المسلمين للأسف ولا حول ولا قوة إلا بالله فانظر لمن تعلق قلبه بالمال انظر لمن تعلق قلبه بالقبور وبالأشجار والأحجار انظر لمن تعلق قلبه بالنساء والشهوة وانظر لمن تعلق قلبه بالأمور والشهوات كالمتعة الحرام والغناء والرياضة وغير ذلك حتى أصبحت أو ملكت قلبه والله المستعان انظر لمن تعلق قلبه بالصور ربما أصبحت مثل تلك هذه الوسائل أصنام تعبد من دون الله ليس شرطاً أن يسجد لها وأن يركع فهو يخفق لها ويفرح لها ويبكي لها ويحب لها ويعادي لها ويبغض لها أليست هذه صور من صور الشرك والله المستعان ولله در ابن القيم رحمه الله ، يقول في المدارج: فلا إله إلا الله كم في النفوس من علل وأغراض وحظوظ تمنع الأعمال أن تكون لله خالصة .(/91)
الثاني عشر: من الآثار في آثار التوحيد في النفوس زوال الحيرة والتردد عند الإنسان وهذا مما ابتلي به الكثير من المسلمين اليوم القلق ، الحيرة ، التردد ، الهم الاكتئاب النفسي وانظروا في العيادة النفسية لتروا الدليل على ذلك كلما كان الإنسان موحدا مخلصا لله منيب إليه كلما كان أكثر اطمئنانا وراحة وسعادة وكلما كان الإنسان بعيدا عن الله كلما كان أكثر حيرة وضلالا وترددا اقرأ إن شئت قول الحق عز وجل (قل أندعوا من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا قل إن هدى الله هو الهدى وأمرنا لنسلم لرب العالمين) نقل [ابن كثير] في التفسير قال عن [ابن عباس] قال هو الذي لا يستجيب إلى هدى الله وهو رجل أطاع الشيطان وعمل في الأرض بالمعصية وحاد عن الحق وضل عنه وله أصحاب يدعونه إلى الهدى ويزعمون أن الذي يأمرونه به هو الهدى انتهى إلى آخر كلامه رحمه الله لكن الهدى هدى الله فأهل التوحيد أكثر الناس برا ويقينا وطمأنينة وإيمانا وأبعدهم عن الحيرة والانفراد والتخبط والتنافر أما الكفار أما أهل البدع والخرافات فلا تسلهم بؤسهم وشقاهم فالحيرة والقلق واليأس والفراغ الملل والضيق الاكتئاب كلمات تتردد كثيراً في كتاباتهم ومؤلفاتهم وعلى ألسنتهم بل وفي حياتهم وواقعهم وما ذلك الشباب والله ما ذلك الشباب الضائع الذي يعيش حياة البهائم وقد دمر نفسه بالمخدرات والجنس والعنف والشذوذ والجرائم والانتحار إلا من الدلائل والبراهين لتلك الحيرة وذلك التخبط والضلال الذي مزق الإنسان هناك في بلاد الكفر والخرافات والبدع بل إن من أبناء المسلمين وللأسف من وقع فريسة لهذه الأفكار والتصورات نعم انطفأت شعلة التوحيد في نفوسهم فامتلأت حيرة وشكا واضطرابا وترددا ؛ فهي تبحث عن السعادة تبحث عن النور تبحث عن الحق وليس ذلك والله ليس ذلك والله إلا بتوحيد الله؛ بالتوحيد الخالص لله بالتوحيد تعرف من أنت من أين أتيت لماذا أتيت ماذا يريد الله منك ولولا الله ما كنت موجودا في الوجود (يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم الذي خلقك فسواك فعدلك في أي صورة ما شاء ركبك) بالتوحيد تعلم أنه خالق الكون وموجد هذه النعم سخرها لسعادتك وراحتك فلا يمكن أبدا لا يمكن أبدا أن توجد الشمس أو القمر أو النجوم كل هذه الأمور مسخرات لنعمتك مسخرات لك أنت أيها العبد فلا يمكن أبداً أن توجد هذه المخلوقات نفسها ولا أن توجد صدفة فتعين إذاً أن يكون لها موجد وهو الله رب العالمين ولهذا لَمَّا سمع [جبير ابن مطعم] رضي الله تعالى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في صورة الطور فبلغ هذه الآيات (أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون أم خلقوا السموات والأرض بل لا يوقنون أم عندهم خزائن ربك أم هم المسيطرون) قال جبير وكان مشركا يومئذ قال كاد قلبي أن يطير كاد قلبي أن يطير وذلك أول ما وقر الإيمان في قلبي والحديث رواه [البخاري] فدعوة لأحبابنا وإخواننا أولئك الذين أصابتهم الحيرة والتردد ، دعوة إلى أن ينظروا في حولهم أو من حولهم ويتفكروا في خلق الله وفي قدرة الله وهذا الكون العجيب فيجد الراحة والسعادة بتوحيد الله عز وجل ولا يمكن أبداً أن يكون ذلك إلا إذا كان هدفك أيها المسلم هو رضا الله لا رضا غيره أما الحائرون المترددون الغافلون الضائعون فيعبر عن ضياعهم أحدهم في قصيدة له سماها طلاسم وهي طلاسم تسجل أفكار الضائعين وخواطرهم وقلقهم وحيرتهم واضطرابهم وتورد نماذج لسؤالهم واستفساراتهم يقول فيها:
جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت
ولقد أبصرت طريقا قدامي فمضيت
وسأبقي سائرا إن شئت هذا أم أبيت
كيف جئت كيف أبصرت طريقي
لست أدري …
أجديد أم قديم أنا في هذا الوجود
هل أنا حر في الطريق أم أَسِيرٌ في قيود
هل أنا قائد نفسي في حياتي أم مقود
أتمني أنني أدري ولكن لست أدري
وطريقي ما طريقي أطويل أم قصير
هل أنا أصعد أم أهبط فيه وأغور
أنا سائر في الدرب أم الدرب يسير
أم كلانا واقف والدهر يجري
لست أدري
إلى أن قال:
ألهذا اللغز حلٌ أم سيبقي أبديا
لست أدري
ولماذا لست أدري؟ لست أدري
أوراء القبر بعد الموت بعث ونشور
فحياة فخلود أم فناء فدسور
أكلام الناس صدق أم كلام الناس زور
أصحيح أن بعض الناس يدري
لست أدري(/92)
هذه الأسئلة التي أثارها في قصيدته هي أسئلة يرددها المحرومون من نعمة الإيمان الفاقدون حلاوة التوحيد وأنسه وطعمه ورائحته أما هذه الأسئلة عند الموحدين عند المؤمنين فلا تقلقهم بفضل الله تعالى ومنته؛ فبدينه الإجابات المفصلة عليها وفي قرآننا وفي أحاديث نبينا عليه الصلاة والسلام الكلام اليقيني الصحيح الصادق عنها فهذه الأسئلة ليست طلاسم في تصور المسلم الموحد وتفكيره وشعوره بل على العكس هذه الأسئلة وإجاباتها هي مصدر اطمئنان المسلم وثباته وسعادته وراحته بل هي والله التي تحرك مشاعره وتجري مدامعه وتزيده استقامة وتوحيدا فلا قلق في النفس ولا اضطراب في الفكر فالمنهج واحد والمبدأ واضح ثابت لا يتغير فأنا أعلم من خلقني ولماذا خلقني وإلى أين سأذهب كل هذه أسئلة مصدرها اطمئنان المسلم أو مصدر اطمئنان المسلم وراحته ولله در شيخ الإسلام ابن تيميه وهو يقول: من أراد السعادة الأبدية فليلزم عتبة العبودية ويقول أيضا إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة ، نسأل الله الكريم من فضله.
أخيرا ومن آثار التوحيد في النفوس جمع كلمة المسلمين الموحدين وتوحيد صفوفهم جمع الله بالتوحيد القلوب المشتتة والأهواء المتفرقة فما اتحد المسلمون وما اجتمعت كلمتهم إلا بالتوحيد وما تفرقوا واختلفوا إلا لبعدهم والله عنه؛ فربهم واحد ودينهم واحد ونبيهم واحد وقبلتهم واحدة ودعوتهم واحدة هي لا إله إلا الله ولا معبود بحق إلا الله أهل التوحيد لا يختلفون في أصول الدين وقواعد الاعتقاد يرون السمع والطاعة لولاة أنفسهم ولولاة أمورهم بالمعروف ما لم يأمروا بمعصية ولا يجوز الخروج عليهم وإن جاروا إلا أن يرى منهم كفر بواح عليه من الله برهان ، أهل التوحيد تتفق في الغالب وجهات نظرهم وردود أفعالهم مهما تباعدت الأمصار والآثار فالمصدر واحد.
ومن آثار التوحيد أيضا جود نفوس الموحدين بالمال والنفس في سبيل الله ونصرة دينه؛ فأمة التوحيد أمة قوية تبذل كل غال ونفيس من أجل دينها وعقيدتها وتثبيت دعائمه غير مبالية بما يصيبها في سبيل ذلك يقول الحق عز وجل (إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا) لم يدخلهم شك ولا ريب ولا خوف ولا يأس ولا قنوط في حقيقة توحيدهم وعقيدتهم بل في حقيقة نصرة الله لهم (ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون) ، الصادقون في قول لا إله إلا الله أهل التوحيد أمة واحدة يأمرهم ربهم بقوله (انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون) أسألكم بالله أسألك بالله أيها الموحد أيتها الموحدة هل جعلت نفسك ومالك وولدك وكل ما تملك في خدمة هذه العقيدة في سبيل لا إله إلا الله ماذا قدمت لدينك وعقيدتك ماذا قدمت لهذا المبدأ العظيم نعجب ونتحسر يوم أن يضحي الكافر من أجل دينه وعقيدته وهو على باطل ويوم أن يفتر ويهمل ذلك المسلم من أجل عقيدته وتوحيده وهو على حق إنما المؤمنون إنما المؤمنون أولئك هم الصادقون في توحيدهم وفي قولهم لا إله إلا الله لا يستطيع ذلك إلا من ذاق طعم الإيمان وتحقق التوحيد صادقا من قلبه مثال واحد أسوقه لكم والأمثلة كثيرة ؛أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه وأرضاه انظر لحياة هذا الرجل أسرة كاملة أولاده عبد الله ومحمد بناته عائشة وأسماء أسرته ماله جهده وقته كلها في سبيل الله ونصرة دين الله فلما نصروا دين الله بأموالهم وأنفسهم وأولادهم نصرهم الله ومكنهم وأعلى شأنهم وصدق الله (إن تنصروا الله ينصركم) أما الخذلان أيها الأحبة الخذلان والبخل والكسل والفتور فهي من صفات المنافقين فلما عدم تحقيق التوحيد في قلوبهم تركوا الجهاد وفرحوا بالتخلف عنه ورضوا بشهوات الدنيا وبخلوا بأموالهم وتقلبت مواقفهم وتقلبت مواقفهم وردود أفعالهم تبعا لأهوائهم فذمهم القرآن بسبب ذلك .(/93)
ومن آثار التوحيد أيضا: شعور النفس الموحدة بمعية الله عز وجل ، قال ابن القيم في الفوائد فإن قلت بأي شيء أستعين على التجرد من الطمع ومن الفزع قلت بالتوحيد والتوكل على الله والثقة بالله وعلمك بأنه لا يأتي بالحسنات إلا هو ولا يذهب بالسيئات إلا هو وأن الأمر كله لله ليس لأحد ليس مع الله أو ليس لأحد مع الله شيء انتهى كلامه رحمه الله ، قال الحق عز وجل (إن الله يدافع عن الذين آمنوا) وقال (أليس الله بكافٍ عبده) وقال (وذلك بأن الله مولي الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولي لهم) وقال (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون لهم البشري في الحياة الدنيا وفي الآخرة) وقال جل وعلا في الحديث القدسي "من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما فرضته عليه وما زال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه" فأي فضل يناله صاحب التوحيد فالله معه يحفظه وينصره ويدافع عنه مما يزيده قوة وشجاعة وإقبالا على الله عز وجل قال ابن رجب في رسالته الجميلة ؛الإخلاص قال كلام جميل اسمعوه : من صدق في قول لا إله إلا الله لم يحب سواه ولم يرج سواه ولم يخش أحدا إلا الله ولم يتوكل إلا على الله ولم يبق له بقية من آثار نفسه وهواه ومع هذا فلا تظن أن المحب مطالب بالعصمة وإنما هو مطالب كلما ذل أن يتلافى تلك الوصمة… انتهى كلامه رحمه الله .
وأخيرا من آثار التوحيد في النفوس العلم والبصيرة فمن عرف التوحيد وحقيقته عرف عكسه من الشرك وحقائقه وأباطيله بل عرف احتيالات أهل الشرك ومكرهم فيجزم الموحد بكفرهم وعداوتهم ولذلك ذكر الإمام محمد بن عبد الوهاب أن الناقض الثالث من نواقض الإسلام قال من لم يكفر المشركين أو شك في كفرهم أو صحح مذهبهم كفر ، إذاً فالعلم والبصيرة من آثار التوحيد على النفوس أو في النفوس وفي صحيح مسلم من طريق [أبي مالك سعد بن طارق] عن أبيه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله" فلا يكفي إذاً لا يكفي لعصمة دم المسلم أن يقول لا إله إلا الله بل لا بد أن يضيف إليها الكفر بما يعبد من دون الله فإن لم يكفر بما يعبد من دون الله لم يحرم دمه وماله ، ومن الآثار محبة أهل الإيمان وموالاتهم وبغض المشركين ومعاداتهم .(/94)
التوحيد يظهر الأعاجيب في النفوس الموحدة فمن حقد وبغض وعداء إلى حب ومودة وإخاء وما صنعه التوحيد في نفوس المهاجرين والأنصار مواقف يجب ألا تنسى بل لا بد أن تروى وتروى لنرى الأثر من السر العجيب بالتوحيد الصادق أخرج البخاري في صحيحه من كتاب المساقات باب كتاب القطائع عن أنس رضي الله تعالى عنه قال دعا النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار ليخضع لهم البحرين فقالوا يا رسول الله إن فعلت فاكتب لإخواننا من قريش بمثلها فلم يكن ذلك عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال إنكم سترون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني قال [ابن حجر] وفي الحديث فضيلة ظاهرة للأنصار لتوقفهم عن الاستئثار بشيء من الدنيا دون المهاجرين وقد وصفهم الله تعالى بأنهم كانوا (يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة) فحصلوا في الفضل على ثلاث مراتب إيثارهم على أنفسهم ومواساتهم لغيرهم والاستئثار عليهم انتهي كلامه رحمه الله وأخرج البخاري أيضا في صحيحه كتاب المناقب مناقب الأنصار باب إخاء النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار عن [إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف] قال لما قدموا المدينة أي المهاجرين لما قدموا المدينة فآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين عبد الرحمن [وسعد ابن الربيع] أي بين [عبد الرحمن ابن عوف] وسعد ابن الربيع قال سعد لعبد الرحمن: إني أكثر الأنصار مالا فأقسم مالي نصفين ولي امرأتان فانظر أعجبهما إليك فسمها لي أطلقها فإذا انقضت عدتها فتزوجها فقال عبد الرحمن بارك الله لك في أهلك ومالك أين سوقكم ..…الحديث سبحان الله أي حب هذا الذي أحدثه التوحيد في نفوس المؤمنين أي مودة بين المسلمين الموحدين الصادقين هكذا التوحيد يفعل بأهله أما بغض المشركين فنحن وإياهم على طريق نقيض فقد يتسائل البعض لماذا نبغض المشركين ولماذا يأمرنا الإسلام ببغض المشركين فأقول لأننا نحن وإياهم على طرفي نقيض فنحن أهل توحيد وهم أهل شرك وبيننا وبينهم عداوة وبغضاء حتى يؤمنوا بالله وحده كما قال تعالى بل العجب أنهم إن آمنوا بالله وحده كانوا من إخواننا ومن أحب الناس إلى قلوبنا كما قال الحق عز وجل (قد كان لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برءاء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده) فكيف بمن ينصرونه من أهل التوحيد وكيف بمن يعينونهم على المسلمون في بعض الأحايين بل كيف بمن يحبهم ويقربهم والله عز وجل يقول (ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين) كيف بمن يأتي بهم وربما يفضلهم عن المسلمين فأين هم عن حقيقة التوحيد وصدق [ابن الجوزي] رحمه الله إنما يتعثر من لم يخلص ، إنما يتعثر من لم يخلص ولا شك أن هذا كله بسبب الإعراض عن تعلم العلوم الشرعية وعدم الفقه في دين الله خاصة في التوحيد والعقيدة ولو أن المسلمين صاروا يداً واحدة وحققوا معاني التوحيد كما يريده الله عز وجل وتناصروا فيما بينهم لصار لهم شأن على غير ما نحن فيه الآن ولصار الكفار أذلاء وهنا نرى حال الناس وكيف تنقض عرى الإسلام عروة عروة ومما انتقض من عرى الحب في الله والبغض في الله والمعاداة لله وفي الله كما جاء في الحديث المشهور" إن أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله" وأنت ترى حال الكثير حبه لهواه حبه لهواه وبغضه لهواه ولا يسكن إلا لمن يلائمه في طبعه وهواه وإن غره أغراه فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، أيها الأحبة إن للتوحيد آثارا على النفس الموحدة لابد أن تظهر عليها فمن لم يجدها فليراجع توحيده وليحاسب نفسه ذكرنا من الآثار ما ذكرنا وتركنا ما تركنا ما تركناه لحال المقام فالمقام هنا مقام تفكير وإرشاد وليس تعليم وتحذير وتقصيد أسأل الله عز وجل أن ينفع بما قيل وأن يغفر لنا الذلل والخطأ والتقصير، اللهم لك الحمد على نعمة الإيمان ولك الحمد على نعمة التوحيد ولك الحمد على ما أنعمت به علينا من نعم تترى اللهم يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام يا من بيده ملكوت السماوات والأرض اللهم احفظ أمننا وإيماننا اللهم احفظ توحيدنا اللهم احفظ عقيدتنا في قلوبنا ونفوسنا اللهم من أردانا وأراد الإسلام وأراد هذه البلاد وسائر بلاد المسلمين بسوء اللهم فاجعل كيده في نحره اللهم نجعلك في نحورهم ونعوذ بك من شرورهم اللهم اجعل تدبيرهم تدميرا عليهم اللهم اكفناهم بما شئت اللهم اكفناهم بما شئت فإنهم لا يعجزونك يا قوي يا عزيز اللهم اهدي أهل البدع والضلالات اللهم اهدهم إليك وردهم إليك ردا جميلا اللهم افتح على قلوبهم اللهم أرهم الحق حقا وأرزقهم اتباعه والباطل باطلا وارزقهم اجتنابه اللهم يا قوي يا عزيز اللهم قوي إيماننا وأعنا على أنفسنا اللهم أصلح ولاة أمورنا اللهم وفقهم لما تحبه وترضاه اللهم ارزقهم البطانة الصالحة الناصحة اللهم وفقهم وأعنهم لما فيه صلاح المسلمين اللهم يا حي يا قيوم من علينا بتوبة صالحة(/95)
صادقة تمحوا بها فساد قلوبنا وتصلح بها نفوسنا اللهم أصلح أزواجنا وأصلح أولادنا وأصلح بناتنا اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا اللهم أنت ولي ذلك والقادر عليه اللهم لا تحرمنا أجر هذا المجلس اللهم لا نخرج من مجلسنا هذا إلا وقد قلت لنا بمنك وفضلك يا كريم قوموا مغفورا لكم اللهم اغفر لنا وتب علينا لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين سبحانك اللهم وبحمدك نشهد أن لا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى أله وصحبه أجمعين .(/96)
بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أما بعد، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .هذه ليلة الاثنين الموافق الثامن والعشرين من الشهر التاسع ؛شهر رمضان المبارك للعام الخامس عشر بعد الأربع مائة والألف وفي هذا المكان الطيب المبارك في مدينة <الرس> نلتقي بهذه الوجوه في هذا المجلس وعنوان هذا الموضوع هو: الفائزون في رمضان؛ يوم أو يومان ثم تعلن النتائج وتوزع الجوائز فيفرح الفائزون برمضان سبق قوم ففازوا وتخلف آخرون فخابوا بعد غد يفوز المحسنون ويخسر المخسرون غدا تُوَفَّى النفوس ما كسبت ويحصد الزارعون ما زرعوا إن أحسنوا فقد أحسنوا لأنفسهم وإن أساءوا فبئس ما صنعوا من هذا الفائز منا فنهنيه ومن هذا الخاسر فنعزيه أيها الفائز برمضان هنيئا لك أيها الخاسر جبر الله مصيبتك بعد غد تعلن أسماء الفائزين برمضان في مسليات الأعياد يوم رجعوا إلى بيوتهم كيوم ولدتهم أمهاتهم اللهم اجعلنا من الفائزين برمضان ، ولعلكم أيها الأخيار تتساءلون عن هؤلاء الفائزين برمضان من هم ؟ وما صفاتهم ؟ وما أعمالهم؟ تعالوا لنحلق اليوم وإياكم إلى عالم الفائزين برمضان إلى عالم الحب والإخاء عالم المجتهدين والمتهجدين والمستغفرين عالم الرقة والخشوع والذلة والخضوع عالم الحرص والاستزادة والتمرغ بأنواع العبادة كأني بك تقول هذه صفات عرفناها في سلفنا الصالح فَنِعْمَ العالم عالمهم ونِعْمَ الصفات صفاتهم فأقول: أي والله فأنا معك ولكن عالمنا اليوم هم فئة من أهل زماننا وأحباء لنا فبهم تفرح قلوبنا وبالنظر إلى وجوههم تكتحل عيوننا وبمجالستهم تأنس نفوسنا وبالحديث معهم تحلو ساعاتنا إنهم من آبائنا وإخواننا وهن من أمهاتنا وأخواتنا إنهم التالون لكتاب الله الراكعون والساجدون المتأثرون الباكون المتصدقون المنفقون المتحدثون الناصحون العاملون المخلصون ( وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ) من قال أيها الأحبة من قال إن أعمال الخير والبر وقف على السلف فقط ؟ من قال إن الرقة والبكاء حكر على [بشر الحافي] و[مالك بن دينار] و[رابعة العدوية] ؟! رحمة الله عليهم أجمعين من قال إن المتصدقين هم فقط أبو بكر وعمر وعائشة وفاطمة ـ رضي الله عنهم ـ أجمعين انظروا لبيوت الله هذه الأيام صلاة وقيام ،ركوع وسجود إطعام للطعام بر وإحسان تذكير بأطيب الكلام تدبر وترتيل وأزيز وخنين عندها تذكرت قول النبي -صلي الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- ذلك الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الطهارة من حديث [أبي هريرة] " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى المقبرة فقال السلام عليكم دار قوم مؤمنين أنتم السابقون وإنا إن شاء الله بكم لاحقون وددت أنا قد رأينا إخواننا وددت أنا قد رأينا إخواننا قالوا أولسنا إخوانك يا رسول الله قال أنتم أصحابي وإخواننا الذين لم يأتوا بعد فقالوا كيف تعرف من لم يأت بعد من أمتك يا رسول الله قال أرأيتم لو أن رجلا له خيل غر محجلة بين ظهري خيل بُهْم تهم ألا يعرف خيله قالوا: بلى يا رسول الله، قال فإنهم يأتون غرا محجلين من الوضوء وأنا فرطهم على الحوض أي قائدهم ألا ليزادن رجال عن الحوض كما يزاد البعير الضال أناديهم ألا هلم فيقال: إنهم قد بدلوا بعدك فأقول سحقا سحقا أي بعدا بعدا " اللهم اجعلنا من إخوان نبيك الذين ذكرهم في هذا الحديث اللهم اجعلنا ممن يرد حوضه ويشرب منه شربة هنية لا نظمأ بعدها أبدا أيها الأحبة إن الذي دعاني لمثل هذا الحديث مواقف وصور رأيتها بأم عيني هذه الأيام وما لم أر أكثر وما لا نعلمه لا يحصر فأسوقها إليكم لأسباب منها لأعطر الأسماع ولنعلم أن لصالح زماننا سِيَرٌ ومواقف ومنها تنبيه الأمة لعلو الهمة وقوة الإرادة وصدق العزيمة ومنها ذكر الفضل لأهل الفضل والإحسان فحرام أن يُبْخَسَ حقهم أو يُنْقَصَ قدرهم ومنها تنبيه وتذكير لإخواننا معلمي الخير وصناع الحياة ألا يبخس حق المحسنين فمن العدل أن نقول للمحسن أحسنت كما نقول للمسيء أسأت ثم أيضا من واجبنا أن نتلمس الخير في صفوف الخير بين الناس فينشر ويشكر فهو نسمة الصباح الذي ننتظره وبريق الأمل الذي نرجوه بمثل هذا تكسب النفوس التعامل مع النفوس فن يجب أن نتعلمه لماذا ننسى خير الخيرين وصلاة العابدين وصدقة المنفقين وبكاء المخبتين لماذا نغفل عن جهد العاملين و تضحية المخلصين الصالحين وصدق المخلصين ودمعة التائبين لماذا لا نذكر صلاح المؤمنات وقيام القانتات وصدق الصادقات وصبر الصابرات لماذا لا نتحدث عن عطاء المتصدقات وعفاف الحافظات ودعاء الذاكرات وبكاء الخاشعات لماذا ننسى الحديث عن هؤلاء وما أعد الله لهم من الأجر والثواب وقد أعلن الرحيم الرحمن ذلك في القرآن فقال جل وعز وهو الكريم المنان ( إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين(/97)
والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرةً وأجرا عظيما ) نسأل الله عز وجل أن نكون منهم0 هذه الصور أيها الأحبة وهذه المواقف وقفت عليها بأم عيني فإلى هذه الصور:
الأولى :
في صلاة التراويح والقيام كنت في طريقي إلى أحد المساجد لصلاة التراويح وقبل الأذان بدقائق مررت بمسجد آخر ورأيت ذلك الرجل الكبير يَتَّكِئ على عكازتين ويدب على الأرض بمهلٍ شديد يسحب قدميه فتخط في الأرض خطا كان واضحا أن المرض قد أنهكه وأن التعب بلغ منه مبلغه ومع ذلك خرج لماذا خرج كل ذلك من أجل صلاة الجماعة ومن أجل صلاة التراويح فذكرت عندها قول [ابن مسعود] رضي الله تعالى عنه عند [مسلم] وفيه: ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف، ولا أنسى تلك العجوز مُحْدَوْدِبَة الظهر متقاربة الخطى متسارعة الأنفاس وهى تزحف إلى المسجد زحفا والعجب أنها صلت واقفة رفضت الجلوس إيهٍ أيتها النفوس أليس لكي بهذا معتبر فما ملكت نفسي إلا ودمعة تسيل على الخد وأنا أردد اللهم أعنها اللهم يسر عليها اللهم تقبل منها اللهم إن لم يكن هؤلاء من الفائزين برمضان فمن ؟ نحن الكسالى نحن الشباب أصحاب السواعد الفتية أين أنت يا ابن العشرين أين أنت يا ابن الثلاثين والأربعين من هؤلاء هذه صورة وما أكثر صور الآباء والأمهات الذين نعجب من حرصهم رغم الأيدي المرتعشة والأقدام المهتزة والعظام الواهنة والله إن الإنسان ليحتقر نفسه وعمله وهو يرى هؤلاء الكبار من رجال ونساء وكيف يتحاملون على أنفسهم على عجز وثقل ومرض ولأواءٍ وقد عذرهم الله ورغم ذلك قلوبهم متعلقة بالمساجد فهم إن شاء الله في ظل الله يوم لا ظل إلا ظله كما في حديث السبعة ربما أصاب الإنسان منا التعب والإرهاق في صلاة التراويح أو القيام فإذا شاهد حال هؤلاء الآباء ونشاطهم على ما هم فيه كأنما نشط من عقال أفلا تُسَجَّل مواقفهم وتسطر لتعيها الأجيال اللهم تقبل منهم واجعلهم من الفائزين برمضان.(/98)
صورة أخرى : رجل وَسَّع الله عليه بماله وحسن سمته ودماسة خلقه فهو ينفق إنفاق من لا يخشى الفقر بحثت عنه عصرا من رمضان توجهت إلى محلاته فلم أجده سألت عنه فلم أجد جوابا غير أن أحد العاملين قال: ربما وجدته في الجامع دخلت الجامع فوجدت العجب وجدت الموائد ممدودة، ممدودة بالطول والعرض حتى أنك لا تجد مكاناً لموضع قدميك وفيها ما لذا وطاب من أنواع المأكولات والمشروبات بحثت عن صاحبي فوجدته يصول ويجول لحظات قبل الغروب فإذا بمئات العمالة تتوافد على الجامع من كل صوب ألفاً أو يزيدون قلت: سبحان الله في الوقت الذي انشغل أهل الأموال ببيعهم وشرائهم ففي رمضان موسم تجاري لا يعوض أما هذا الرجل فهو في تجارة أخرى تجارةٍ مع الله فلم يكفه أن دفع المال في تفطير الصائمين بل وقف بنفسه وعمل بيده ولم يعتذر يوم أن دُعِي إلى الإنفاق في مشروع ثان بل وفي مشروع ثالث وربما في رابع وخامس وعاشر فيما لا نعلمه ولكن الله يعلمه عندها ذكرت حديث [أبي كبشة عمر ابن سعد الأنماري] أنه سمع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول "ثلاثة أقسم عليهن فأحدثكم حديثا فاحفظوه ما نقص مال عبد من صدقه ما نقص مال عبد من صدقه " رواه [الترمذي] وقال حسن صحيح حدثت صاحبي والأُنْس والبِشْر على مُحَيَّاه يعلم الله ما فقدت الابتسامة في وجهه يوما من الأيام، الجميع يشهد له بالفضل والإحسان والورع وحسن الخلق وكثرة العبادة هكذا نحسبه ولا نُزَكِّي على الله أحدا خرجت من الجامع بصعوبة بالغة لكثرة المتوافدين من الصائمين والمتوافدين من المساكين خرجت وأنا أردد عند الغروب اللهم تقبل منه اللهم وسع عليه من ماله وولده اللهم بارك له وزده وأعطه ولا تحرمه فإن لم يكن هذا من الفائزين برمضان فمن أيها الأحبة ؟ أولئك الذين يكنزون الأموال ويقبضون أيديهم ؟عندها ذكرت قول الحبيب صلى الله عليه وسلم لـ[أسماء بنت أبي بكر] "لا توقي فيوقي الله عليك" أي: لا تمنعي ما في يدك فيقطع الله عليك مادة الرزق وذكرت قول الملكين الذين ينزلان في كل صباح فيقول أحدهما "اللهم أعط منفقا خلفا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكا تلفا" كما في الحديث المتفق عليه، و ذكرت قول الحق عز وجل كما في الحديث القدسي " انفق يا ابن آدم ينفق عليك " وهو متفق عليه فقلت في نفسي الموفق من وفقه الله مع علمي أن هناك من تذهب نفسه حسرات أن لو كان يملك فينفق ويتصدق ولكنه لا يجد أو يجد القليل القليل فينفقه مع أنه أحوج الناس إليه وبعضهم يسمع عن هذه الفضائل فلا يجد ما يتصدق به سوى الدمعة تسيل على الخدين هل لو كان ذا مالٍ فيتصدق عند هذا تذكرت قول الحق جل وعلا (ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون) اللهم اجعلنا وإياهم من الفائزين برمضان ومن عتقائك من النار برحمتك يا رحيم يا رحمن.
صورة ثالثة : تصلي التراويح والقيام فتسمع آيات القرآن وتسمع الخنين والبكاء ينبعث في جنبات المسجد فيسجد المصلون فإذا بأزيز كأزيز المرجل ينبعث من الصدور، غلبهم خوف الله وخشيته فوجلت القلوب وذرفت العيون عندها تذكرت قول الرسول صلى الله عليه وسلم "لا يلج النار رجل بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع " رواه [الترمذي] وقال حسن صحيح0 في صلاة القيام وفي ثلث الليل الأخير يرفعون ويسجدون ويدعون ويتضرعون يبكون ويتأثرون منكسرة قلوبهم دامعة عيونهم شاحبة وجوههم هجروا الفراش ولذة النوم من أجل أي شيء ؟ طلبا لمرضاة الله طلبا لرحمة الله (تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون فلا تعلم نفس ما أخفي لها من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون) القانتون المقنتون لربهم الناطقون بأصدق الأقوال يحيون ليلهم بطاعة ربهم بتلاوة وتضرع وسؤال وعيونهم تجرى بفيض دموعهم مثل انهمال الوابل الهطال بوجوههم أثر السجود لربهم وبها أشعة نوره المتلالي إن لم يكن هؤلاء من الفائزين برمضان فمن؟ الذين ينامون أو يذهبون ويجيئون أم أولئك الذين يلعبون ويلهون اللهم لا تحرمنا أجر الصيام والقيام واجعلنا ممن قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا اللهم اجعلنا من الفائزين المقبولين يا رحمن .
صورة رابعة :(/99)
رأينا وسمعنا حرص بعض النساء على الصدقة ورمضان الخير يشهد للنساء بحسن السخاء والبذل والعطاء سمعت عن تلك التي جمعت رواتبها فتصدقت بها دفعة واحدة وسمعت عن تلك التي كفلت يتيما وأعطت مسكينا ووزعت شريطا وفَطَّرَتْ صائما حتى قلت في نفسي ماذا بقى لها فأجابت بلسان حالها تقول ( وما عند الله خير وأبقى ) فذكرت قول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ"يا معشر النساء تصدقن فإني رأيتكن أكثر أهل النار" فقلت أبشرن أيتها الصالحات فإن هذا لمن أكثرت السب واللعن ونسيت نعمة الله عز وجل عليها أما أنتي فإني أحسبك إن شاء الله من الفائزين برمضان ثُلَّة فتيات عرفت فيهن الخير كله الهاجس في نفوسهن إصلاح الأخريات ودعوتهن يسألن وبكثرة عن المواضيع والعناصر والمسائل الرمضانية المناسبة للطرح في مثل هذا الشهر يسألن وبإلحاح عن المناسب من الأشرطة والرسائل والإهداء للتوزيع انتهت المكافأة الشهرية اقترضن حتى لا ينقطع هذا الخير يا سبحان الله تركن اللباس والموديلات وآخر الصيحات وأدوات الزينة لا لعدم الرغبة فهي جِبِلَّة المرأة بل لأن هَمَّ الإصلاح والغيرة على الدين كان أكبر ولسان حالهن يقول: رمضان فرصة لا تعوض فالقلوب منكسرة والشياطين مصفدة والإيمان يزيد وعلمت أنهن يجتمعن لقراءة القرآن وبحث بعض مسائل الصيام ويحرصن على النوافل والسنن الرواتب وصلاة القيام ويقمن ببر الوالدين وصلة الأرحام وخدمة الأهل والإخوان وإعداد الطعام هذا كله بعد صلاة الفرض في وقتها والقيام بحق زوجها فنالت رضا ربها وفازت بشهرها فهنيئا لها ثم هنيئا لها الحياة يبنيها صناع كل منهم يؤثر في جانب منها ومن جد وجد وإما أنا وإما الفاسق فإن الفاسق يصنع الحياة على طريقته إن الفاسق يصنع الحياة على طريقته وكل منا له موهبة يحبها فيجب أن ينميها ويبرع فيها ويبتكر لها لكي يستطيع أن يجمع الناس حوله في تخصصه ومهارته. رمضان هذا العام رأيت إقبال الشباب والفتيات من صناع الحياة ودُلاَّل الخير ودعاة الهدى وكل منهم على خير هؤلاء يصولون ويجولون من حي إلى حي ومن مسجد إلى مسجد لإرشاد الناس وتذكيرهم حرموا أنفسهم لذة العبادة خلف إمام واحد تذهب أنفسهم حسرات لختم القرآن مرات ومرات لكن هيهات هيهات فالوقت ينصرف في البحث والاطلاع لتفسير آية أو شرح حديث أو بحث مسألة فلسان حالهم يقول رمضان فرصة للتوبة وموسم للإقبال على الله والندم على ما فات فكم من ضال فرح بكلمته وكم من جاهل اهتدى بعبارته وكم من تائب نَوَّرَ الله به بصيرته وهؤلاء قاموا على تخفيض العمالة في مسجدهم حرموا أنفسهم فرحة الإفطار مع أهلهم وأزواجهم ضاعت اللغات وتلاشت الجنسيات لا كفيل ولا مكفول (إنما المؤمنون اخوة) اخوة في توادهم اخوة في تراحمهم وتعاطفهم
وقل ساعدي يا نفس بالصبر ساعة
فعند اللقا بالكد يصبح زائلا
فما هي إلا ساعة ثم تنقضي
ويصبح ذو الأحزان فرحانا جابلا
وأولئك يجمعون المال لشراء الأشرطة والرسائل والمطويات وتوزيعها على المصلين والمصليات وآخرون حملوا الطعام والأرزاق وقطعوا الفيافي والمسافات وهم صيام تحت حرارة الشمس المحرقة والرمال الملتهبة ليقفوا مع المحتاجين والمساكين والأرامل واليتامى فيطعم الطعام ويلبس اللباس مع كلمة طيبة وشريط نافع .
من كان حين تصيب الشمس جبهته
أو الغبار يخاف الشين والشعثا
ويألف الظل كي تبقى بشاشته
فسوف يثقل يوما راغما جدثا
في ظل مقفرة قفراء مظلمة يطيل
تحت الثرى في ضيقها اللبسا
تجهزي بجهاز تبلغين به
يا نفس قبل الردى لم تخلقي عبثا(/100)
أما حراس الفضيلة وأعداء الرذيلة رجال الحسبة الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر فحدث ولا حرج فنحن في صلاة وقيام وتدبر للقرآن أما هم ففي أعظم الأيام تبرج وسفور ومشكلات ومعاكسات ومنكرات وسيئات وكأني بهم والألم يعصر قلوبهم على ليالي رمضان ولكن أبشر أيها الأخ الحبيب فأنت على خير عظيم إن لم تكن للحق أنت فمن يكون؟ إن لم تكن للحق أنت فمن يكون؟ والناس في محراب لذات الدنايا عاكفون أبشر أيها الأخ الحبيب أبشر فأنت على خير ولن يضيع الله جهدك أبدا فإن شاء الله أنت من الفائزين برمضان ذكرت حينها بعض هذه الصور ذكرت حينها حديث [أبي ذر] ـ رضي الله تعالى عنه ـ عند [ابن حبان] في صحيحه أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال:" ليس من نفس ابن آدم إلا عليها صدقة في كل يوم طلعت فيه الشمس قيل يا رسول الله ومن أين لنا صدقة نتصدق بها قال إن أبواب الخير لكثيرة التسبيح والتحميد والتكبير والتهليل والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وتميط الأذى عن الطريق وتُسْمِع الأصم وتَهْدِى الأعمى وتَدُل المستدل على حاجته وتسعى بشدة ساقيك مع اللهفان المستغيث وتحمل بشدة ذراعيك مع الضعيف هذا كله صدقة منك على نفسك" فأبواب الخير كثيرة فلله در شبابنا وفتياتنا فلسان حالهم يردد في كل لحظة أنا مسلم أنا مسلمة فلما لا أكون محور حق ومركز إشعاع ومشعل هداية عندها قلت إن لم يكن أمثال هؤلاء من الفائزين برمضان فمن إذن؟ ذلك الذي لا يفكر إلا في وظيفته ونفسه وماله وولده (إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين)
صورة أخرى : في العشر الأواخر وفي صلاة القيام في آخر الليل وفي جلسة الاستراحة انظر للمصلين وأحوالهم هذا يقرأ القرآن وهذا لسانه يلهث بالذكر والاستغفار وذاك رفع يديه بالدعاء وعلامات الانكسار والتذلل على محياه ورابع قد سالت دموعه على خديه وخامس يركع ويسجد وسادس يغالب النوم هجر فراشه وحرم عينيه .
أرواحهم خشعت لله في أدب
قلوبهم من جلال الله في وجل
نجواهم ربنا جئناك طائعة
نفوسنا وعصينا خاضع الأمل
إذا سجى الليل قاموه وأعينهم
من خشية الله مثل الجاهد الهضل
هم الرجال فلا يلهيهم لعب
عن الصلاة ولا أكذوبة الكسل
رياح الأسحار تحمل أنين المذنبين وأنفاس المحبين وقصص التائبين شابٌّ في زاوية من المسجد وقد عرفته بفسقه وشدة غفلته وضع وجهه بين يديه والدمع يسيل على خديه وقد أجهش بالبكاء لعله تلطخ بمعصية أو تذكر ما سلف من الذنوب والمعاصي
أثار التذكر أحزانه
فسار وأبدى لنا شانه
وقام وستر الدجى مسبل
فأسبل بالدمع أجفانه
وبَكَّى ذنوبا له قد مضت
فأبكى عداته وخلانه
ومن لم يكن قلبه جمرة
فهذا لعمرك قد كانه
ومن ذا أحق بها من
جهول تحقق لله عصيانه
وأخلق في اللهو جثمانه
كما أخلق الذنب إيمانه
فلولا تفضل من فضله
عرفناه قدما وعرفانه
لَعَنَّ على وجهه آية
تكون على الخزي عنوانه
{لَعَنَّ: أي ظهر}
شدني إليه شدة مناجاته لربه علم أن له ربا يغفر الذنب فاستغفره سارع يقرع الباب لعلمه أن الله سريع الحساب فذل وانكسر لغافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب تمنيت لو ضممته فقلت له هنيئا لك بالتوبة والاستغفار هنيئا لك بعينيك اللتين ذرفتا بالدمع لله هنيئا لك بصيامك وقيامك وأسأله وهو صاحب الفضل والمَنّ أن يلحقك بركاب الفائزين برمضان تمنيت لو ذكرته بقول الحق جل وعلا ( قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم)
يا رب عبدك قد أتاك
وقد أساء وقد هفا
يكفيك منه حياؤه
من سوء ما قد أسلفا
حمل الذنوب على الذنوب
الموبقات وأسرفا
وقد استجار بذيل عفوك
من عقابك ملحفا
يا رب فاعف وعافه
فلأنت أولى من عفا(/101)
صورة أخرى : حريصة على صغارها فهي معهم ترقبهم وتلحظهم تعلم هذا وتوجه ذاك ومع هذا فقلبها يهفو لصلاة التراويح مع المسلمين ولكن هيهات هيهات فتصلي في بيتها تريد أن تخشع وأن يرق قلبها وأن تشعر بلذة المناجاة لربها لكن الأصوات والضحكات والتعلق بثوبها من صغارها حرمها كل ذلك فما ملكت سوى الدمعات والعبرات على ليالي رمضان ثم جاءت العشر الأخيرة فإذا بها تهدهد صبيانها وتخادع صغارها حتى ناموا ثم قامت فانسلت في هدوء وحظر فجهزت سحورها ورتبت أمورها ثم توضأت وتلحفت في جلبابها ثم سارت إلى مسجد حيها الظلام يلفها فركعت وسجدت وقامت فبكت وخشعت وربما تذكرت صغارها فخافت عليهم فوجلت فلا تدري قلبها لصلاتها أو على صغارها فرجعت وصلت في بيتها بجوار صغارها وهي تسمع صوت الإمام يردد ( أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون ) فانخرطت في البكاء أن لو كانت من السابقين فقلت لها أبشري أيتها الصالحة فأنت على خير لكن احرصي وأخلصي واحتسبي الأجر على الله ولن يخيب ظنك وهو أعلم بحالك ثم إني أهمس إليك بهذا الحديث المتفق عليه " من ابتلي من هذه البنات بشيء فأحسن إليهن كُنَّ له سترا من النار" فأسأل الله اللطيف المنان أن يجعلك من الفائزين برمضان فإن لم تكوني أنت فمن؟ تلك الولاجة الخراجة الجوالة في الأسواق التي لم ترع حق ولد، أم تلك السافرة الساهرة أمام الأفلام والمسلسلات العاهرة ؟
فكم بين مشغول بطاعة ربه
وآخر بالذنب الثقيل مُقَيَّدُ
فهذا سعيد بالجنان مُنَعَّم
وذاك شقي في الجحيم مُخَلَّدُ
كأني بنفسي في القيامة واقف
وقد خاب دمعي والمفاصل ترعد
فيا لتلك المرأة الصالحة التي عرفتها أو التي عرفت فضائل هذا الشهر فحرصت على استغلال ساعاته فهي محافظة على الصلوات في أوقاتها جالسة بعد الصلوات في مصلاها تقرأ القرآن وقد تنتقل إلى الذكر والتسبيح والتحميد والتهليل والتكبير. وتقدير لها يوم أن كانت خلف كل عمل صالح في بيتها كانت خلف كل عمل صالح في بيتها فهي خلف أولادها وإخوانها بالمحافظة على الصلوات فتوقظ هذا وتنبه ذاك وهى خلفهم لتشجيعهم ودفعهم لقراءة القرآن وصلاة القيام واستغلال رمضان، تلهب الحماس وتقوى العزائم بالكلمة الطيبة تارة وبالشريط النافع تارة وبالهدية المشجعة تارة أخرى ووفاء لتلك الزوجة الوفية يوم أن كانت لزوجها حقا وفية أصبحت وجه سعد على زوجها أنارت جنبات بيتها فهي وراء زوجها بالتذكير والتنبيه إن نام أو غفل وهى معينة له إن ذكر فلا تقطع عليه ساعات الطاعة في الشهر بكثرة طلباتها ولا تُعَرِّضه لفتن المتبرجات السافرات في شهر الفضل والإحسان وفي أعظم الأيام العشر الأواخر بكثرة دخولها وخروجها للأسواق وهى وفية لزوجها يوم أن قالت إن الذكر وقراءة القرآن واستغلال رمضان لا يجتمعان أبدا في بيت مع ملاهي الشيطان فقم وتوكل على الله وطهر البيت لتحل علينا ملائكة الرحمن ويرحل مردة الجان وما هي إلا عزيمة و إرادة و خوف و توبة ومن ترك شيئاً لله عوضه الله خيرا منه، إعجاب وإكبار لكي أيتها الصالحة وأنت في المدرسة والعمل فها أنت قد حرصت كل الحرص على إتقان العمل وإخلاصه لله ليتم صومك فأنت تخافين من خيانة الأمانة التي وكلها الله لك فكلنا إعجاب وإكبار يوم أن جاءت بناتنا وأخواتنا ليحدثنا أنك تحدثت عن فضائل هذا الشهر وكيفية استغلاله والحرص عليه وأنك قمت بوضع مسابقة رمضانية لتفقيه الطالبات بأحكام الصيام وأنك أهديت لكل واحدة منهن شريطا لتعليم آداب الصيام وأحكامه وأنك ما زلت تذكرين ثمرة الصيام وسره العظيم و تقوى الله ومراقبته في السر والعلن وأنها العبادة الوحيدة التي خصها الله لنفسه لأنها عبادة خفية بينك و بينه فلا أحد يعلم عن حقيقة صومك إنك أيتها المخلصة لا تتصورين عظيم فرحتي عندما أسمع مثل هذه الكلمات إعجاب أسطره لك أيتها المعلمة وأنا أرى أختي وابنتي وقد حرصن على رمضان وعلى الصلاة والقيام وكثرة الأعمال فيحضرني قول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ" الدال على الخير كفاعله " وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ "ولأن يهد الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم " وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ " من سن في الإسلام سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة" وأنا لا أملك إلا أن أرفع يدي إلى السماء قائلا: اللهم لا تحرم تلك المعلمة أجر تلك الأعمال فتتوارد الأدعية لك أنت أيتها الصادقة وتفيض تلك الدمع لحسن رعايتك للأمانة وحملك هم إصلاح الأخريات فشكر الله سعيك وبارك فيك وأجزل الصبر والمثوبة لك فأنت أهل لذلك فابشري بالقبول بإذن الله قبول الصيام والقيام والعتق من النيران والبحور الجنان والفوز برمضان كل ذلك بفضل ورحمة من الكريم المنان ثم بفضل ما قدمت وفعلت ابتغاء وجه الله وهكذا فلتكن المرأة المسلمة في رمضان .(/102)
صورة أخيرة : رأيته، سلمت عليه وفجاءة أجهش بالبكاء وفاضت عيناه بالدمع أوجست في نفسي خيفة قلت: ابتلي بموت قريب أو حبيب له أصيب فقال بصوت كئيب جبر الله مصيبتك بخروج رمضان انكسر قلبه وهطل دمعه وانتحب صوته وقلت يا سبحان الله لكل محب حبيب ورمضان حبيب الصالحين
يا شهر رمضان ترفق دموع المحبين تدفق قلوبهم من ألم الفراق تشقق
بين الجوانح في الأعماق سكناه
فكيف أنسى ومن في الناس ينساه
في كل عام لنا لقيا محببة
يهتز كل كياني حين ألقاه
بالعين والقلب بالآذان أرقبه
وكيف لا وأنا بالروح أحياه
ألقاه شهرا ولكن في نهايته
يمضى كطيف خيال قد لمحناه
في موسم الطهر في رمضان الخير
تجمعنا محبة الله لا مال ولا جاه
من كل ذي خشية لله ذي ولع
في الخير تعرفه دوما بسيماه
قد قدروا موسم الخيرات فاستبقوا
والاستباق هو المحمود عقباه
صاموه قاموه إيمانا ومحتسبا
أحيوه طوعا وما في الخير إكراه
فالأذن سامعة والعين دامعة
والروح خاشعة والقلب أواب
وكلهم بات بالقرآن مندمجا
كأنه الدم يسرى في خلاياه
فوداعا يا رمضان وإلى أن نلقاك في عام قادم إن شاء الله اللهم تقبل منا رمضان واجعلنا من الفائزين برمضان هذه صور ومواقف للفائزين برمضان ولعلها تكفي لضيق الوقت وخشية الإملال وإنما هي على سبيل المثال، والحصر يصعب وهى أيضا من الخير ومحبو الخير كثر وأبواب الخير كثيرة ولكنها مشاهد ومواقف لبعض الصالحين والصالحات ذكرناها لأسباب سبقت فيا باغي الخير أقبل فرمضان فرصة قد لا تتكرر وموسم قد لا يعوض فالبدار البدار قبل فجأة موت أو مصيبة مرض وعندها لا ينفع الندم (سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم) السعيد أيها الأحبة من أدرك رمضان فغفر له (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين) وقبل الختام أذكر لكم أمورا تعينكم على الفوز برمضان واستغلال أيامه ولياليه أعددها لكم تعدادا بدون تعليق للذكرى فإن الذكرى تنفع المؤمنين
أولا : المجاهدة قال تعالى ( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا ) تريد الهداية تريدين الهداية نريد الاستقامة لنجاهد هذه النفس لنقبل على الأسباب فإن أقبلنا أقبل الله عز وجل علينا .
ثانيا : الهمة والعزيمة قال ابن الجوزي من علامة ثمار العقل علو الهمة والراضي بالدون ذليل
ولا أرى في عيوب الناس
عيبا كنقص القادرين على التمام
ثالثا : معرفة فضائل الشهر ومزاياه فإن من عرف شيئا اهتم به وحرص عليه ولو لم يكن فيه سوى ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر لكفى .
رابعا : قلة أيامه وسرعة ذهابه وصدق الله عز وجل يوم أن قال ( أياما معدودات) بالأمس القريب نهنئ بعضنا بعضا بدخول الشهر واليوم نعزي بعضنا بعضا بخروجه، هكذا هي الأيام البدار البدار انتبه للعمر أيها الحبيب .
خامسا: التنافس؛ الصالحون يتنافسون للخيرات ففازوا بالحسنات وأنت أيها المسكين ما زلت أسيرا للشهوات وعبدا للذات وصدق الله يوم أن قال ( فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق للخيرات) .
سادسا : تذكر الموت والجذع من مفاجأته فقد لا تدرك رمضان آخر فانتبه لنفسك هذه مناجاة متهجد ونفسات صدر ونشجات قلب وخلجات نفس وكلمات ناصح ودمعات محب وهى حديث أنس وصدقة قائم ومشاعر صائم بل هي والله آهات متوجع وأنات مذنب وزفرات مقصر سبحانك خالقي فأنا تائب إليك فاقبل توبتي واستجب دعائي وارحم شبابي وأقم لي عسرتي وارحم طول عبرتي ولا تفضحني بالذي قد كان مني اللهم لا تفضحني بالذي كان منى اللهم استر على عيوبي يا حي يا قيوم اللهم ارحمنا برحمتك واجعلنا من الفائزين برمضان واجعلنا ممن قام رمضان إيمانا واحتسابا فغفرت له ما تقدم من ذنبه اللهم اجعلنا ممن قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا وغفرت له ما تقدم من ذنبه اللهم اجعلنا من الفائزين برمضان سبحانك اللهم وبحمدك نشهد أن لا إله ألا أنت نستغفرك ونتوب إليك وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
**********8(/103)
من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا أما بعد أيها الأحبة في الله السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ويعلم الله كما أسلف أخي وقدم فإني أنا الذي أشعر بالسعادة والغبطة والسرور وأنا بين أخوة لي في هذه البلدة وشكر الله لأهل >الأحساء< حسن استقبالهم وترحيبهم ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يجمعنا وإياهم في جنات النعيم وأن يجعلنا أخوة متحابين هذه ليلة الأحد الموافق للحادي عشر من الشهر الثاني في العام السادس عشر بعد الأربعمائة والألف وفي هذا الجامع المبارك جامع الخالدية بـ >الأحساء< نلتقي وإياكم في موضوع كما ذكر المقدم شطره الأول بعنوان فن التعامل مع الزوجة و أسال الله عز وجل أن يعيننا وأن يوفقنا لما يحبه ويرضاه وأن شطر هذا الموضوع الثاني الذي هو بعنوان السحر الحلال وفن التعامل مع الزوجة لا شك أيها الأحبة أن الزواج كلمة يرقص القلب لها طربا وينشرح الصدر لها طلبا وهي نعمة من أعظم نعم الله عز وجل على عباده قال تعالى (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون) وركنا هذا الزواج هما الزوج والزوجة جمع الله بين هذين القلبين الغريبين وجعل بينهما مودة ورحمة وطمأنينة وسكينة وراحة واستقرارا وأنسا وسعادة وجعل القوامة بيد الرجل فقال عز وجل (الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم) وحديثي الليلة إلى صاحب هذه المملكة الصغيرة نعم فالزوج ملك لهذه الأسرة الصغيرة فيا أيها الملك إن أردت السعادة لهذه المملكة الصغيرة وأردت الاستقرار والراحة النفسية فلا بد من تحقيق هذه القوامة بأركانها وشروطها وآدابها الشرعية.
معنى القوامة في أسمى مراتبها
أن يحفظ المرء أنثاه ويكفيها
وإن تَخَلَّى فهل تغني قوامته
هذا الذي يرخص الأنثى ويرديها
إذاً فلا بد أن تختار من عقلت
كفئا لتحفظ مرساها ومجريها
شكا بعض الإخوة حالهم مع أزواجهم فقائل يقول: أين السعادة والراحة النفسية فإنني لم أشعر بشيء من ذلك وقائل يقول: لم أعد أطيق تصرفاتها وحنقها، وقائل آخر: أزعجتني بكثرة خروجها وزياراتها وقائل آخر يقول أرهقتني بكثرة طلباتها ومصاريفها وقائل: تعبت من كثرة هجرها للفراش وتمنعها ، وقائل: لم أعد أري ذلك الجمال ولا التجمل إلا في المناسبات والأفراح وقائل يقول: لا تهتم بأولادها وتربيتهم ومتابعتهم ، وقائل: تعبت من إلحاحها بجلب خادمة أعتورها وأفتن بها ، وقائل : لا تهتم بي ولا ترعى خاطري ، وقائل: لم اسمع منها كلمة طيبة أو عبارة رقيقة وقائل : لم أعد أطيق فسأطلق ، وغير ذلك مما تسمعون و تقرءون وتشاهدون ، وكأن حال لسان كل واحد من أولئك يلقي باللوم كله على الزوجة المسكينة ويبرئ نفسه وأنا هنا أعرف أنني أوقعت نفسي في موقف حرج فهل أنتصر لبني جنسي من الرجال فتغضب عليّ النساء ، أو أنني أميل للجنس الآخر فيغضب عليّ الرجال وبعد جهد جهيد وتفكير عميق عرفت أنه لا نجاة لي إلا بالرجوع إلى المصدر الأصلي إلى الاعتصام بالكتاب والسنة إلى الله عز وجل الذي خلق الرجال والنساء وفضل كلا منهما بفضائل ومميزات فيكمل كل منهما الآخر فخرجت أن سبب تلك المشاكل كلها يتحملها الرجل والمرأة بحد سواء فكلٌ عليه تبعات وله مهمات فإن كنت تشكو أيها الرجل فإن المرأة تشكو أيضا فقائلة تقول: الصباح في وظيفته وفي الليل مع شلته ولا نراه إلا قليلا وقائلة: لا يسمح لي بزيارة أهلي والجلوس معهم ، وقائلة: لا ينظر إلى أولاده ولا يهتم بهم ولا بمطالبهم وقائلة : لا ينظر إلى أولاده ولا يهتم بهم ولا بمطالبهم وقائلة: يشتمني ويضربني ويسيء إليّ أمام أولادي ، وقائلة: آذاني برائحة الدخان وتركه للصلاة وقائلة: كثير النقد والملاحظات والسباب واللعان، قائلة : دائما يهددني بالطلاق والزواج من أخرى ، و قائلة تقول: أتجمل وأتزين ولم أسمع منه كلمة إعجاب أو غزل وقائلة تقول : يمنعني من الدروس والمحاضرات ولم يحضر لي شريطا أو كتابا فيه خير ، وقائلة : كثير السهر والجلوس أمام الأفلام و المباريات وقائلة: لا يشاورني ولا يجلس معي ويثور لأتفه الأسباب ، وقائلة: آذاني بكثرة جلساء السوء تدخين وغناء وشقاء ، وقائلة: لا يهتم بي وبطلباتي الخاصة ، حتى ولا بالمنزل وطلباته ، وقائلة: يسافر كثيرا وليس لنا نصيب ولو عمرة في السنة ، وأقول : الحياة الزوجية تعاون وتآلف وحب ووئام وإنَّ أمثل قاعدة للسعادة والراحة أن نفهم جيدا قول الحبيب صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم : "كل بنى آدم خطاء وخير الخطائين التوابون" وقول أبي ذر لزوجه إذا رأيتني غَضِبْتُ فَرَضِّنِي ، وإذا رأيتك غَضْبَى فإني رَضَّيْتُكِ وإلا لم نصطحب، وقول الشاعر:
وعين الرضا عن كل عيب كليلة
كما أن عين السخط تبدي المساويا(/104)
لنفهم المعنى من هذه الكلمات وعندها نعلم أن كل مشكلة سببها الزوجان وليس واحدا منهما ولذلك سيكون حديثي لكل منهما إن شاء الله تعالى أما الليلة فهو خاص بالأزواج وقد يقول الرجال: لماذا بدأت بنا ؟ فأقول لأمور ، لأن الرجال أكثر تحملا وتعقلا وصبرا ، وثانيا لقوامة الرجل على المرأة ولأنه السيد ولأنه الآمِر الناهي فلا أحد غيره يملك حق التصرف في مملكته هذه فهل يعقل الرجال هذا ؟ وسبب ثالث لأن الرجل لو عرف كيف يتعامل أي مع زوجه لعلم أن مفتاح السعادة بيده ، لو عرف الرجل كيف يتعامل مع زوجه لعلم أن مفتاح السعادة بيده ، كيف كان التعامل مع الزوجة فناً ؟ أقول نعم إن التعامل مع الزوجة فن ويجب علينا نحن معاشر الرجال أن نتعلم هذا الفن فليس الزواج مجرد متعة وشهوة وليس الزواج القيام بالبيت وتأسيسه وليس الزواج هو إنجاب الأولاد والبنات وليس الزواج هو مجرد إطعامهم الطعام أو إلباسهم الثياب فإن الكثير من الرجال قادر على ذلك والرزاق هو الله لا الزوج لكن الزواج حقوق شرعية وحسن تعاون ومسئولية فللمرأة حقوق وواجبات جاء بها الإسلام بالأدلة القرآنية والنصوص النبوية (ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف) لابد أن يعرفها الرجل جيدا ولا يفضُّ الخاتم إلا بحقه ، ومن أين نأخذ هذا الفن ؟ لا نأخذه عبر وسائل الإعلام ولا نأخذه من المجلات الهابطة وإنما نأخذه بالرجوع إلى سيرته صلى الله عليه وعلى آله وسلم وشتان بين الأمرين ، لما لجأ كثير من الناس إلى مثل هذه المصادر رأينا الفرقة والخصام ورأينا كثرة الأخطار التي تهدد كيان هذه الأسرة وغفلنا في خِضَمِّ هذه الحياة وشهواتها أن نرجع حقيقة إلى سيرته صلى الله عليه وسلم نستقي منها الدروس والعبر في كل شأن من شئون حياتنا (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا) ولذلك كيف كان يتعامل مع أزواجه صلى الله عليه وسلم ؟ لذلك أمر الله عز وجل نساء النبي أن يخبرن بكل ما يدور في بيته صلى الله عليه وسلم حتى ولو كانت هذه الأخبار أسرارا زوجية فقال عز وجل خطاب لنساء النبي (واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة) أمر من الله عز وجل فلنتخذ هذه الحياة دستورا ومنهجا للتعامل مع الأزواج ، أسباب اختيار الموضوع كثيرة منها ، بيان منهج الإسلام وشرعه في حسن معاشرة الزوجة وصحبتها وبيان كثير من حقوقها مما يجهله كثير من الناس وخاصة بعض الرجال أو أن بعضهم يتجاهلون هذه الحقوق ، ثانيا: تلك الصورة السيئة والمفهوم الخاطئ عند بعض الرجال عن أن المرأة يجب الحذر منها وأن تشد عليها الوطأة من أول ليلة يدخل بها الرجل ، وقد يتواصى بعض الشباب وبعض الرجال بمثل هذه الوصية وكما يقال في المثل العامي والعود على أول ركزة. فيتناقل الناس والرجال والشباب مثل هذه الأمثال ومثل هذه الوصايا ويحدث مالا تحمد عقباه ومن الخطأ أن نقول كما قال ذاك الشاعر:
رأيت الهم في الدنيا كثيرا
وأكثره يكون من النساء
فلا تأمن لأنثي قط يوما
ولو قالت نزلت من السماء
ولا نقول كما قال الآخر أيضا:
إن النساء شياطين خلقن لنا
نعوذ بالله من شر الشياطين
فهن أصل البليات التي ظهرت
بين البرية في الدنيا وفي الدين
لا نقول كما قال هذا ولا ذاك وإنما نقول كما قال ذلك الشاعر المنصف:
إن النساء رياحين خلقن لنا
وكلنا يشتهي شم الرياحين
ثالثا : شكوى كثير من النساء لسوء معاملة زوجها وقبح أخلاقه معها وقد يصل الأمر في بعض الأحايين إلى ضربها وحبسها وقد يتمنى البعض موتها كما قال أحدهم:
لقد كنت محتاجا إلى موت زوجتي
ولكن قرين السوء باق معمر
فيا ليتها صارت إلى القبر عاجلا
وعذبها فيه نكير ومنكر
وكقول الآخر يخاطب زوجه :
تنحى فاجلسي منى بعيدا
أراح الله منك العالمين
أغربالا إذا استودعت سرا
وكانونا على المتحدثين
حياتك ما علمت حياة سوء
وموتك قد يسر الصالحين(/105)
أقول: ليس هذا هو النهج النبوي في معاملة الزوجة وإنما كما سنعرض له بعد قليل ، ومن الأسباب أيضا الحياة الزوجية في بيته صلى الله عليه وسلم وآله وسلم نموذج رائع يذكر به الرجال للاتباع والتأسي هذه الأسباب الأربعة هي التي جعلتني أتحدث عن مثل هذا الموضوع وأبدأ الآن بعناصر فن التعامل مع الزوجة وأقول بدءا أول فن من الفنون التلطف والدلال ، التلطف مع الزوجة والدلال لها ومن صور الملاطفة والدلال نداء الزوجة بأحب الأسماء إليها أو بتصغير اسمها للتلميح أو ترخيمه يعني تسهيله و تليينه ، وهذا أيضا من حياته صلى الله عليه وسلم وقد كان صلى الله عليه وسلم يقول لـ[عائشة] :" يا عائش ، يا عائش هذا جبريل يقرئك السلام "والحديث متفق عليه وكان يقول لعائشة أيضا: يا حميراء والحميراء تصغير حمراء يراد بها البيضاء كما قال ذلك [ابن كثير] في النهاية وقال [الذهبي]: الحمراء في لسان أهل الحجاز البيضاء بحمرة وهذا نادر فيهم ، إذاً فقد كان صلى الله عليه وسلم يلاطف عائشة ويناديها بتلك الأسماء مصغرة مرخمة وأخرج [مسلم] من حديث عائشة في الصيام قالت "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل إحدى نسائه وهو صائم ثم تضحك رضي الله تعالى عنها" أى تعني أنه كان يقبلها وأخرج [النسائي] في عشرة النساء أنها قالت أى عائشة: "أهوى النبي صلى الله عليه وسلم ليقبلني فقالت: إني صائمة، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: وأنا صائم" وأيضا أنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يظل صائما فيقبل ما شاء من وجهي" وفي حديث عائشة أيضا أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثم ذكر كلمة معناها أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا وألطفهم بأهله" والحديث أخرجه النسائي و[الترمذي] و[أحمد] وفيه انقطاع، من خلال هذه الأحاديث يتبين لنا ملاحظة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأزواجه وحسن التعامل معها أي مع عائشة رضي الله تعالى عنها ومن صور المداعبة والملاطفة أيضا إطعام الطعام فقد أخرج [البخاري] و[مسلم] من حديث [سعد بن أبي وقاص] أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ثم ذكر الحديث إلى قوله: "وإنك مهما أنفقت من نفقة فإنها صدقة حتى اللقمة التي ترفعها إلى فِي امرأتك" حتى اللقمة التي ترفعها بيدك إلى فم امرأتك هي صدقة ليست فقط كسباً للقلب وليست فقط حسن تعاون مع الزوجة بل هي صدقة تؤجر بها من الله عز وجل وذكر [النووي] في هذه الحديث قال: "إن وضع اللقمة في فِي الزوجة "ـ في فم الزوجة يعني ـ يقع غالبا في حال المداعبة ولشهوة النفس في ذلك مدخل ظاهر ومع ذلك إذا وجه القصد في تلك الحالة إلى ابتغاء الثواب حصل له بفضل الله ، قلت والقائل [الحافظ ابن حجر]: وجاء ما هو أصرح من ذلك وهو ما أخرجه مسلم عن [أبي ذر] فذكر حديثا فيه: "وفي بضع أحدكم صدقة قالوا: يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويؤجر؟ قال: نعم ، أرأيتم لو وضعها في حرام.." إلى آخر الحديث إذاً فمن صور المداعبة والملاطفة للزوجة إطعامها للطعام وكم لذلك من أثر نفسي على الزوجة وإني أسألك أيها الأخ أيها الرجل ماذا يكلفك مثل هذا التعامل ؟ لا شيء إلا حسن التأسي والاقتداء وطلب المثوبة وحسن التعاون وبناء النفس فالملاطفة والدلال والملاعبة مأمور أنت بها شرعا بما تفضي إليه من جمع القلوب والتآلف ولذلك قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم [لجابر بن عبد الله]: "هلا بكراً تلاعبها وتلاعبك وتضاحكها وتضاحكك" إذن فالمضاحكة والملاعبة والملاطفة والدلال للمرأة مطلوب منك شرعا.(/106)
أيضا من الفن التجاوز عن الأخطاء في الحياة الزوجية وغض البصر ، خاصة إذا كانت هذه الأخطاء في الأمور الدنيوية فأقول لا تنس أيها الأخ الحبيب أنك تتعامل مع بشر وكل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون ولا تنس أنك تتعامل مع امرأة وكما قال صلى الله عليه وسلم: "قد خلقت من ضلع أعوج" لا تكن شديد الملاحظة لا تكن مرهف الحس فتجزع عند كل ملاحظة أو كل خطأ انظر لنفسك دائما فأنت أيضا تخطئ لا تنس أن المرأة كثيرة أعمالها في البيت ومع الأولاد والطعام والنظافة والملابس وغيرها ولا شك أن كثرة هذه الأعمال يحدث من خلالها كثير من الأخطاء لا تنس أن المرأة شديدة الغيرة سريعة التأثر احسب لهذه الأمور كلها حسابها واسمع لهذه الأمثلة عائشة رضي الله تعالى عنها وأرضاها كما تحدث [أم سلمة] "أنها أتت بطعام في صحفة لها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصحابه ، من الذي جاء بالطعام ؟ أم سلمة، فجاءت عائشة متزرة الكساء ومعها فهر أي: حجر ناعم صلب ففلقت به الصحفة فجمع النبي صلى الله عليه وسلم بين فلقتي الصحفة وقال: كلوا ، يعنى أصحابه ، كلوا غارت أمكم غارت أمكم ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم صحفة عائشة فبعث بها إلى أم سلمة وأعطى صحفة أم سلمة لعائشة"، والحديث أخرجه البخاري والنسائي، واللفظ للنسائي فأقول انظر لحسن خلقه صلى الله عليه وسلم وإنصافه وحلمه وانظر لحسن تصرفه عليه الصلاة والسلام وحله لهذا الموقف بطريقة مقنعة معللا هذا الخطأ من عائشة رضي الله عنها بقوله: "غارت أمكم، غارت أمكم" فهو يقدر نفسية عائشة زوجه اعتذارا منه صلى الله عليه وسلم لعائشة هو لم يحمل عائشة نتيجة هذا الخطأ ونتيجة هذا العمل ولم يذمها صلى الله عليه وآله وسلم ولماذا ؟ لأن أم سلمة هي التي جاءت إلى بيت عائشة تقدم للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه هذا الطعام ولذلك قَدَّرَ صلى الله عليه وآله وسلم هذا الموقف وتعامل معه بلطف وحكمة صلوات الله وسلامه عليه وقدر ما يجرى عادة بين الضرائر من الغيرة لمعرفته صلى الله عليه وسلم أنها مركبة في نفس المرأة لم يؤدب النبي صلى الله عليه وآله وسلم عائشة وبين أنها غارت مع أنها كسرت الإناء ومع أنها تصرفت أيضا أمام أصحابه هذا التصرف ولكن (وإنك لعلى خلق عظيم) انظر للحكمة وانظر لحسن التعامل وتصور لو أن هذا الموقف حصل معك كيف سيكون حالك أيها الزوج ؟ بل ربما لو حصل هذا الموقف بينك وبين زوجك مثلا في المطبخ والرجال موجودون في المجلس ، كيف ستكون نفسيتك وكيف سيكون التصرف ؟ إذن فالعفو والصفح إذا قصرت الزوجة وشكرها والثناء عليها إن أحسنت كل ذلك من شيم الرجال ومن محاسن الأخلاق وبعض الأزواج قد يختلق المشاكل ويَنْفَخُ فيها وقد تنتهي هذه المشاكل بحقيقة مرة وهي الطلاق ، واسمع لهذا الموقف روي أن رجلا جاء إلى [عمر بن الخطاب] رضى الله تعالى عنه وأرضاه ليشكو سوء خلق زوجته فوقف على بابه ينتظر خروجه فسمع هذا الرجل امرأة عمر تستطيل عليه بلسانها وتخاصمه وعمر ساكت لا يرد عليها فانصرف الرجل راجعا وقال: إن كان هذا حال عمر مع شدته وصلابته وهو أمير المؤمنين فكيف حالي؟ وخرج عمر فرآه موليا عن بابه فناداه وقال: ما حاجتك أيها الرجل؟ فقال: يا أمير المؤمنين جئت أشكو إليك سوء خلق امرأتي واستطالتها عَلَيّ فسمعت زوجتك كذلك فرجعت وقلت: إذا كان هذا حال أمير المؤمنين مع زوجته فكيف حالي ؟ قال عمر ـ يا أخي اسمع لمواقفهم رضوان الله تعالى عليهم ـ يا أخي إني أحتملها لحقوق لها عليّ إنها لطباخة لطعامي، خبازة لخبزي، غسالة لثيابي، مرضعة لولدي وليس ذلك كله بواجب عليها ويسكن قلبي بها عن الحرام فأنا أحتملها لذلك ، فقال الرجل: يا أمير المؤمنين وكذلك زوجتي قال عمر: فاحتملها يا أخي فإنما هي مدة يسيرة (فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا) هذه الآية تسلية لوعد قدري لكل زوج بُلِىَ بما يكره في زوجته بأن يجعل الله لمن صبر على بليته خيرا موعودا وجزاء موفورا وحظا قادما لا يعلمه إلا هو سبحانه ، هكذا كانت حياتهم الزوجية ذكر للحسنات وغض البصر عن الأخطاء والسيئات ويقال أن بدوية جلست تحادث زوجها وتطرق الحديث إلى المستقبل كعادة الأزواج فقالت : أنها ستجمع صوفا وتغزله وتبيعه وتشترى به بكرا، فقال زوجها إذا اشتر يتيه فسأكون أنا الذي سأركبه، قالت: لا، فألح زوجها فرفضت وأصرت ولم ترجع هي حتى غضب زوجها فطلقها الأصل لا يوجد هناك مشكلة القضية قضية أماني في المستقبل لو كان تقول: أنني سأعمل صوفا وأغزله ثم أبيعه ثم أشترى به بكرا فتخاصما على هذا البَكْر من يركبه الأول فحصل الطلاق هذا المثل يوضح حقيقة حال كثير من الطلاق الذي يحصل بين الرجل والمرأة لأسباب تافهة عندما يقف أهل الخير أو القضاة أو غيرهم على بعض أسباب الطلاق يجد أن أسباب الطلاق أسبابا تافهة لا تذكر وهكذا كثير من المشكلات وهمية تافهة تنتهي بنهاية للحياة الزوجية وللأسف ،(/107)
ويروى أن عائشة قالت مرة للنبي صلى الله عليه وسلم وقد غضبت عليه قالت له: "أنت الذي تزعم أنك نبي" فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم واحتمل ذلك حلما وكرما وما أروع هذا التوجيه النبوي الذي يجعل البيت جنة فإذا غضب أحد الزوجين وجب على الآخر الحلم فحال الغضبان كحال السكران لا يدرى ما يقول وما يفعل.
يا ليت الرجل ويا ليت المرأة يسحب كل منها كلام الإساءة وجرح المشاعر والاستفزاز يا ليت أنهما يذكران الجانب الجميل المشرق في كل منهما ويغضان الطرف عن جانب الضعف البشري في كليهما.
أيضا من الفن التزين والتجمل والتطيب للزوجة أما الجمال والزينة للرجل فبحدودها الشرعية فلا إسبال ولا حلق للحية ولا وضع للمساحيق والأصباغ كما يفعل بعض شبابنا سُئِلَتْ عائشة: "بأي شيء كان يبدأ النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل بيته؟ قالت: بالسواك" والحديث أخرجه مسلم، ذكر بعض أهل العلم فائدة ونكتة علمية دقيقة قالوا: فَلَعَلَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك ليستقبل زوجاته بالتقبيل وعند البخاري أن عائشة قالت: "كنت أُطَيِّبُ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأطيب ما أجد حتى أجد وبيص الطيب في رأسه ولحيته" وفي البخاري أيضا أن عائشة قالت: كنت أُرَجِّلُ رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني أسرح شعره "كنت أُرَجِّلُ رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا حائض" وفي الصحيحين من حديث [أبي هريرة] أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خمس من الفطرة: الختان ، والاستحداد ، ونتف الإبط ، وتقليم الأظافر، وقص الشارب" والحديث أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب اللباس وفي البخاري أيضا من حديث [ابن عمر] أنه صلى الله عليه وسلم قال: "خالفوا المشركين ووفروا اللحى وأَحِفُّوا الشوارب" في هذه الأحاديث كلها وغيرها بيان ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من التجمل والتزين الشرعي الذي يحبه الله بخلاف ما عليه بعض الرجال اليوم من إفراط في قضية الزينة أو حتى من تفريط في قضية الزينة والتجمل للمرأة ومن مبالغة في التجمل وعجيب للمتناقضات التي يعيشها بعض الرجال فتجده يحلق لحيته للتجمل والزينة كما يقول ، ثم تشم منه رائحة كريهة عفنة وهي رائحة التدخين فأين أنت والتجمل أيها الأخ الحبيب ؟ أين أنت والتجمل الذي تريده يوم أن حلقت لحيتك وشربت الدخان ؟ وآخر وقع في تفريط عظيم وتقصير عجيب في قضية التجمل والزينة تبذل في اللباس وإهمال للشعر وترك للأظافر والشوارب والآباط وروائح كريهة والخير كل الخير في امتثال المنهج النبوي في التجمل والتزين والاهتمام بالمظهر وهو حق للمرأة هو حق شرعي للمرأة وسبب أكيد في كسب قلبها وحبها فالنفس جُبِلَتْ على حب الأفضل والأنظف والأجمل وتعال واسمع لحال السلف رضوان الله تعالى عليهم جميعا وكيف كانوا في هذا الباب، قال [ابن عباس]: إني لأتزين لامرأتي كما تتزين لى وما أحب أن أستطف كل حقي الذي لي عليها فتستوجب حقها الذي لها عليَّ لأن الله تعالى يقول: (ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف) وقد دخل على الخليفة عمر زوج أشعت أغبر ومعه امرأته وهي تقول: لا أنا ولا هذا لا تريده ، لا أنا ولا هذا ، ما هو السبب ؟ اسمع فعرف كراهية المرأة لزوجها فأرسل الزوج ليستحم ويأخذ من شعر رأسه ويقلم أظافره فلما حضر أمره أن يتقدم من زوجته فاستغربته ونفرت منه ثم عرفته فقبلت به ورجعت عن دعواها رجعت تراجعت إذن عن طلب الطلاق فقال عمر: وهكذا فاصنعوا لهن فوالله إنهن ليحببن أن تتزينوا لهن كما تحبون أن يتزين لكم ، وقال [يحيى بن عبد الرحمن الحنظلي]: أتيت [محمد بن الحنفية] فخرج إلى في ملحفة حمراء ولحيته تقطر من الغالية ، والغالية هي خليط الأطياب بل خليط أفضل الأطياب ، ولحيته تقطر من الغالية ، يقول يحيى فقلت له: ما هذا ؟ قال محمد : إن هذه الملحفة ألقتها على امرأتى ودهنتنى بالطيب وإنهن يشتهين منا ما نشتهيه منهن ، ذكر ذلك القرطبي في تفسيره الجامع لأحكام القرآن إذن فالمرأة تريد منك كما تريد أنت منها في التجمل والتزين .(/108)
فن آخر القناعة والرضا بالزوجة وعدم الاستجابة لدعاة التبرج ودعاة الفتنة والسفور وذلك بالنظر إلى النساء ، وهذا حال كثير أو حال بعض الرجال النظر إلى النساء في الأفلام وفي التلفاز والمجلات وقد زيفتها الألوان والمكاييج وغير ذلك ونفخ الشيطان في بعض الرجال فقارن وصَوَّرَ زوجته العفيفة الطاهرة بتلك السافرات العاهرات وأطق ذلك الرجل لبصره العنان في تتبع هذه النساء (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون) ولا شك أن ذلك شر مستطير وأنه سبب أكيد في تدمير كيان الأسرة وهذا أمر ملموس ومشاهد وعلاج ذلك ما أخبر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم من حديث جابر "أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأى امرأة فأتي امرأته زينب وهي تمعس منيئة لها" أي: تدلك جلدا "فقضى حاجته ثم خرج إلى أصحابه فقال: إن المرأة تُقْبِلُ في صورة شيطان وتُدْبِرُ في صورة شيطان فإذا أبصر أحدكم امرأة فليأت أهله فإن ذلك يرد ما في نفسه" صلى الله عليه وآله وسلم علاج لا نبحث عنه في المجلات الطبية والمجلات الأسرية إنما نبحث عنه في سنته النبوية صلى الله عليه وآله وسلم والحديث أخرجه مسلم في صحيحه، والنفس دائما ترغب كل جديد خاصة عند الرجل النفس ترغب كل جديد وكما يقال كل ممنوع مرغوب ولو ملك أي الرجل لو ملك أجمل النساء ثم سمع بامرأة أخرى لتهافتت نفسه ولكزه شيطانه ولم أجد مثل القناعة والرضا حلا لذلك ولذلك نهى صلى الله وعليه وسلم الرجل أن يطلب عثرات زوجته فأخرج مسلم من حديث [جابر] قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطرق الرجل أهله ليلا أن يتخونهم أو يلتمس عثراتهم" إنما على الزوج أن يغض الطرف وأن يقنع بما وهبه الله إياه ولينظر إلى من هو أسفل منه ليزداد قناعة ورضا وليشكر نعمة الله عز وجل عليه ثم إني أقول لك أيضا إن بليت بمثل هذه الأمور وبمثل حديث النفس هذا الجأ إلى الله عز وجل بالدعاء ولسان حالك يقول كما قال الحق عز وجل على لسان يوسف عليه السلام: (وإلا تصرف عنى كيدهن أصبُ إليهن وأكن من الجاهلين) إذن ادعُ الله عز وجل وألح عليه بالدعاء وأنت موقن بالإجابة لأن الله تكفل بها ليوسف فقال: (فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم).
فن آخر من فن التعامل مع الزوجة الجلوس مع الزوجة والتحدث إليها والشكاية لها ومشاورتها فإنه كثيرا من الأزواج كثير الترحال ،كثير الخروج ، كثير الارتباطات ، بل سمعنا عن الكثير منهم أنه يخرج للبراري والاستراحات كل يوم وليلة ، بل سمعنا أن بعض الأزواج يسهر كل ليلة إلى ساعة متأخرة من الليل فأي حياة هذه وأين حق الزوجة وحق الأولاد والجلوس معهم ؟(/109)
وانظر مثال لهذا الفن للجلوس مع الزوجة والحديث معها حديث [أم زرع] الطويل ورسول الله صلى الله عليه وسلم يسمع لعائشة تحكيه عائشة تروي هذا الحديث الطويل ورسول الله صلى الله عليه وسلم يسمع لحكاية عائشة قال ابن حجر : وفيه ـ أي وفي هذا الحديث من الفوائد ـ حسن عشرة المرء أهله بالتأنيس والمحادثة في الأمور المباحة ما لم يفض ذلك إلى ما يمنع ، انتهي كلامه رحمه الله ، والشكاية للزوجة واستشارتها فهذا مما يشعرها أيضا بقيمتها وحبها استشر المرأة ولو لم تكن أيها الأخ الحبيب بحاجة إلى هذه المشورة فإنك تشعر هذه الزوجة بقيمتها وحبك لها ولن تعدم الرأي والمشورة أبداً إن شاء الله لن تعدم الرأي والمشورة وربما فتحت عليك برأي صائب كان السبب في سعادتك ومثال ذلك انظر للنبي ولحبيبنا صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي يا رسول الله كان يستشير حتى أزواجه ومن ذلك استشارته صلى الله عليه وسلم لأم سلمة في صلح الحديبية عندما أمر أصحابه بنحر الهدي وحلق الرأس فلم يفعلوا لأنه شق عليهم أن يرجعوا ولم يدخلوا مكة ، فدخل مهموما حزينا على أم سلمة في خيمتها فما كان منها إلا أن جاءت بالرأي الصائب : أخرج يا رسول الله فاحلق وانحر فحلق ونحر وإذا بأصحابه كلهم يقومون قومة رجل فيحلقوا وينحروا ، أيضا أنظر لاستشارته لـ[خديجة] رضي الله تعالى عنها في أمر الوحي ووقوفها معه وشدها من أزره رضوان الله تعالى عليها هكذا المرأة فإنها معينة لزوجها متى ؟ إذا أشعرها زوجها بقيمتها ولذلك أقول : العلاقة بين الزوجين تنمو وتتأصل كلها تجددت ودارت الأحاديث بينهما فالأحاديث وسيلة التعارف الذي يؤدي إلى التآلف وكما قال صلى الله عليه وسلم "فالأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تنافر منها اختلف" فالحذر من تعود الصمت الدائم بينهما فتتحول الحياة إلى روتين بغيض كأنها ثكنة عسكرية فيها أوامر من الزوج وطاعة من الزوجة خذي هاتى كلى اشربي قومي اقعدي تعالي اذهبي نامي استيقظي ماذا تريدين؟ متى تخرجين؟ أسطوانة مكرورة مكروهة تجعل الحياة الزوجية بغيضة باهتة باردة فأين الحب وأين اللطافة ؟ وأين المودة والرحمة وما بينهما ؟ أين الأحاديث الحسان منك أيها الرجل عن جمال عيونها وعذوبة ألفاظها ورقة ذوقها وحسن اختيارها للباسها وأين كلمات الشكر والثناء عند الطبخ والغسل والكنس ، وأين الحديث عن تربية الأولاد وصلاحهم ؟ وأين الحديث عن هموم المسلمين ومشاكلهم ، فيا أيها الرجل العاقل إن من فن التعامل مع الزوجة أن تخصص وقتا للجلوس معها تحدثها و تحدثك وتفضي إليك بما في نفسها بدل أن تكبت ذلك الحديث الذي في النفس اجعلها تفضفض تعطي بما يدور في نفسها بدل ذلك الكبت وسيتضح ذلك جليا على سلوكها وتصرفاتها ثم ينعكس ذلك على أولادها وأعمالها وأشغالها ثم ينعكس ذلك على تصرفاتها وسلوكها معك أنت كزوج ، أرأيت أيها الأخ الحبيب أنك تملك مفتاح السعادة وهذه المملكة الصغيرة بحسن تصرفاتك وأفعالك ، ومن فن التعامل أيضا مداراة المرأة وعدم التضييق عليها والاعتذار إليها ، فعن [أبي هريرة] قال صلى الله عليه وسلم: "واستوصوا بالنساء خيرا فإنهن خلقن من ضلع وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه فإن ذهبت تقيمه كسرته" لا تطلب المحال افهم جيدا نفسية المرأة وافهم جيدا خلقة المرأة "فإن ذهبت تقيمه كسرته وإن تركته لم يزل أعوجا فاستوصوا بالنساء خيرا" والحديث أخرجه البخاري ومسلم في صحيحهما ومعنى استوصوا؛ أي أوصيكم بهن خيرا فاقبلوا وصيتي فيهن واعملوا بها قاله [البيضاوي]، انتبه في الحديث إشارة إلى ترك المرأة على اعوجاجها في الأمور المباحة ، وألا يتركها على الاعوجاج إذا تعدت ما طبعت عليه من النقص كفعل المعاصي وترك الواجبات ، وأيضا في الحديث سياسة النساء بأخذ العفو منهن والصبر عليهن وعلى عوجهن فقال صلى الله عليه وسلم أيضا في الحديث الآخر: "لا يفرك مؤمن مؤمنة إن كره منها خلقا رضي منها آخر" والحديث في صحيح مسلم ومعنى يفرك أي يبغض منها شيئا يفض به إلى تركها، وقال صلى الله عليه وسلم: "ألا واستوصوا بالنساء خيرا فإنما هن عوان عندكم" انظر للتصوير أنظر للصورة الجميلة فإنما هن عوان عندكم والعوان أي هن كأسيرات عندك أيها الرجل أي المرأة كأسيرة عندك فهي أشبه بالأسير كسيرة القلب مهيضة الجناح فوجب على الرجل أن يجبر قلبها وأن يرفع من معنوياتها ويحسن إليها ويكرمها أما الاعتذار إليها عند الخطأ والاعتراف به فهو أدب جَم وخلق رفيع خاصة عند غضبها واسمع لهذه الأحاديث أرجعكم دائما إلى حياته صلى الله عليه وسلم حتى نتبين أيها الأحبة أن حياته صلى الله عليه وآله وسلم في كل شئون الحياة هي قدوة ونبراس ومرجع يجب أن نرجع إليه وأن ندرسه أي حياته صلى الله عليه وآله وسلم (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا) روى النسائي في كتابه عِشْرَة النساء عن أنس قال: "كانت صفية مع رسول الله صلى(/110)
الله عليه وسلم في سفر وكان ذلك يومها فأبطأت في المسير" تأخرت في المسير عنهم "فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تبكى وتقول "ـ اسمع الذنب الذي وقع به النبي صلى الله عليه وسلم ـ "حملتني على بعير بطئ "فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم انظر التصرف ماذا فعل؟ قال والله أيش أسوى السيارة هذه وضعها وهذه خربانة ؟ لا، ما ناقش صلى الله عليه وسلم "وإنما جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح بيديه عينيها ويسكتها فأبت إلا بكاء" يعني كأنها طورت فأبت إلا بكاء فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركها فقدمت فأتت عائشة" أي صفية ذهبت إلى عائشة فقالت: "يومي هذا لك من رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أنت أرضيتيه عنى" فماذا فعلت عائشة ؟ انظر أيضا واسمعي أيتها المرأة أنت وإن كان هذا الحديث سيأتيك بمشيئة الله لكن انظري إلى عقل عائشة رضي الله تعالى عنها وانظري إلى تصرفها كيف تملكين أيتها المرأة مفتاح قلب الزوج ، أو اعلمي أيتها الأخت أنك ساحرة لقلب الرجل ولذلك قلت: إن موضوع الدرس القادم سيكون بعنوان السحر الحلال ، لأن المرأة تملك فعلا هذا السحر بما وهبها الله عز وجل من عذوبة ورقة ونعومة فماذا فعلت عائشة ، تقول: "فعمدت عائشة إلى خمارها وكانت صبغته بورس وزعفران فنضحته بشيء من ماء حتى تخرج رائحته ثم جاءت حتى قعدت عند رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها: مالك هذا اليوم ليس لك ، فقالت: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث فرضي عن صفية" وانظر أيضا واسمع لمثال آخر في حياته صلى الله عليه وسلم، فعن [النعمان بن بشير] رضي الله تعالى عنهما قال جاء [أبو بكر] رضي الله عنه يستأذن على النبي صلى الله عليه وسلم فسمع عائشة وهي رافعة صوتها على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأذن له أي الرسول أذن لأبى بكر بالدخول فدخل فقال أي أبو بكر: يا ابنة أم رومان ؟ يعني كأنه يهددها أو يغضب عليها يا ابنة أم رومان ؟ وتناولها ، أترفعين صوتك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال أنظر لتصرف النبي صلى الله عليه وسلم قال:" فحال النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبينهما" يعنى كأنه جعلها خلفه يريد أن يخلصها من أبيها ، رضي الله تعالى عنه ، فلما خرج أبو بكر جعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول لها يترضاها يقول لها: "ألا ترين أني قد حلت بين الرجل وبينك ؟ قال: ثم جاء أبو بكر فاستأذن عليه فوجده يضاحكها" رجعت العلاقة مرة أخرى بملاطفة النبي، بحسن مداراته لزوجه بالاعتذار منه صلى الله عليه وسلم انظر لقمة الأخلاق (وإنك لعلى خلق عظيم) صلوات الله وسلامه عليه" فرجع أبو بكر فوجد العلاقة قد رجعت ووجد النبي صلى الله عليه وسلم يضاحكها فأذن له النبي صلى الله عليه وسلم بالدخول فقال أبو بكر: يا رسول الله أشركاني في سلمكما كما أشركتماني في حربكما "، وفي الحديث بيان ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من الحلم والتواضع وحسن معاشرة زوجه فلم تدفعه مكانته أو قوامته للتكبر أو المكابرة عن الاعتذار ، وأن يكون هو البادئ بالإصلاح صلى الله عليه وسلم إذاً فأقول لك أيها الرجل عليك بكسر حاجز المعاندة والمكابرة وإنك إن فعلت هذا فإنك أنت بنفسك تعود زوجك على هذا العمل تعودها على هذا التصرف ، عودتها على هذا الأدب إذا أخطأت وكان الخطأ منك ذهبت إليها واعتذرت منها فإنها ستأخذ هذا التصرف فإن قصرت وإن أخطأت فستذهب هي وترجع إليك بالاعتذار ونذكر هنا مرة أخرى بقاعدة [أبي الدرداء] رضي الله تعالى عنه وأرضاه مع [أم الدرداء] بقوله: إذا رأيتني غضبت فرضني وإذا رأيتك غضبي رضيتك وإلا لم نصطحب ، تعامل بهذه القاعدة في بيتك.(/111)
ومن الفن أيضا إظهار المحبة والمودة للزوجة وذلك بالقول والفعل أما القول فقد قال صلى الله عليه وسلم في حديث أم زرع الطويل قال لعائشة : "كنت لك كأبي زرع لأم زرع" والحديث عند البخاري أي في الوفاء والمحبة فقالت عائشة واسمع أيضا لحكمة عائشة واسمع لعقل هذه المرأة رضى الله عنها وأرضاها لما قال لها النبي: كنت لك كأبي زرع لأم زرع يعني في الوفاء والمحبة قالت عائشة بأبي وأمي لأنت خير لي من أبي زرع لأم زرع، وأما الفعل أي إظهار المحبة بالفعل فكثير في حياته صلى الله عليه وسلم ومن ذلك ففي صحيح مسلم في كتاب الحيض عن عائشة قالت: "كنت أشرب وأنا حائض ثم أناوله النبي صلى الله عليه وسلم فيضع فاه على موضع فِيَّ" اسمع انظر للتصرف "فيضع فاه على موضع فِيَّ فيشرب، وأتعرق العَرْقَة وأنا حائض ثم أناوله النبي فيضع فاه على موضع فِيَّ" والعَرْق: العظم عليه بقية من اللحم وأتعرق أي آخذ عنه اللحم بأسناني ونحن ما نسميه بالعرمشة فكان النبي صلى الله عليه وسلم يضع فمه مكان فم عائشة رضى الله تعالى عنها في المأكل أو المشرب يفعل ذلك صلى الله عليه وسلم وعائشة حائض وهنا نكتة أيضا أشار إليها بعض أهل العلم قالوا : لم يكن يفعل ذلك لشهوة صلى الله عليه وسلم وإنما إظهار المودة والمحبة لأن المرأة حائض وإنما إظهار المودة والمحبة ثم لا بأس أيضا من تقديم الزوجة عليك بالشرب والأكل قبلك كل ذلك إظهارا للمودة والمحبة ومن ذلك أيضا حديث عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتكئ في حجري وأنا حائض فيقرأ القرآن" انظر للتصرف يتكئ في حجري وأنا حائض فيقرأ القرآن وذكر ابن كثير في البداية والنهاية هذا الموقف الجميل [للمهدي] قال: حدث [الخيزران] زوجة المهدي في حياة المهدي فكتب إليها وهي بمكة كتب إليها يستوحش لها ويتشوق إليها بهذا الشعر ، قال المهدي:
نحن في غاية السرور ولكن
ليس إلا بكم يتم السرور
عيب ما نحن فيه يا أهل ودي
أنكم غُيَّبُ ونحن حضور
فأجدوا في السير بل إن قدرتم
أن تطيروا مع الرياح فطيروا
تصور هذه الكلمات لما يقولها الرجل لزوجه كيف ستكون الزوجة ولذلك لما وصلت هذه الأبيات للخيزران أجابته أو أمرت كما يقول ابن كثير أجابته بهذه الأبيات:
قد أتانا الذي وصفت من
الشوق فكدنا وما قدرنا نطير
ليت أن الرياح كن يؤدين
إليكم ما قد يكن الضمير
لم أزل صبةً فإن كنت بعدي
في سرور فدام ذاك السرور
هذا من المواقف التي تبين كيف كان التعامل أيضا مع الأزواج وإظهار المحبة والشوق لها.(/112)
ومن الفن أيضا بل من أعظم وسائل السعادة للبيت المسلم تعاون الزوجين على العبادات والنوافل والأذكار ففي ذلك مرضاة لله وفي ذلك إحياء للبيت وطرد لروتين الحياة الممل فما أحلى أن ترى زوجين صالحين يتعاونا على طاعة الله فالدنيا متاع وخير متاعها الزوجة الصالحة ومثال ذلك ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما عن أم المؤمنين [جويرية بنت الحارث] رضي الله عنها "أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من عندها بكرة حين صلى الصبح وهي في مسجدها ثم رجع بعد أن أضحى وهي جالسة فقال: مازلت على الحال التي فارقتك عليها؟ قالت: نعم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: لقد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرات لو وزنت بما قلت منذ اليوم لوزنتهن: سبحان الله وبحمده عدد خلقه ، ورضا نفسه ، وزنة عرشه ، ومداد كلماته " والحديث عند مسلم في صحيحه وأخرجه أيضا [الإمام أحمد] في مسنده. الشاهد انظر لحرص النبي صلى الله عليه وآله وسلم على إرشاد وتعليم زوجه وأسألكم بالله أيها الأحبة من منا وقف مع زوجه ساعات أو لحظات يعلمها ويذكرها في بعض الأذكار أو النوافل أو العبادات ؟ وأيضا أخرج البخاري في كتاب الوتر في صحيحه باب إيقاظ النبي صلى الله عليه وسلم أهله في الوتر اسمع للباب اسمع للترجمة، عن عائشة قالت "كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلى وأنا راقدة معترضة على فراشه فإذا أراد أن يوتر أيقظني فأوترت" وعن أبي هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رحم الله رجلا قام من الليل فصلى وأيقظ امرأته فصلت فإن أبت نضح في وجهها الماء ، ورحم الله امرأة قامت من الليل فصلت وأيقظت زوجها فإن أبي نضحت في وجهه الماء" والحديث أخرجه [أبو داود] وقال [الألباني] عنه: حسن صحيح وانظر قضية مبادلة إن قصرت الزوجة فإذا بالزوج يذكر ويعين وإن قصر الزوج فإذا بالزوجة تذكر وتعين فكل منهما مطالب بتذكير الآخر فنحن مطالبون بالتعاون التعاون بين الزوجين في العبادات والنوافل ، وعن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضى الله تعالى عنهما قالا : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من استيقظ من الليل وأيقظ امرأته وصليا ركعتين جميعا كتبا من الذاكرين الله كثيرا والذاكرات" وأيضا الحديث أخرجه أبو داود في سننه وقال الألباني: صحيح، صلاة النافلة في البيت نغفل عنها كثيرا صلاة النافلة في البيت بعض الرجال يحرص كثيرا أن يصلى النافلة في المسجد مع أن السنة أن تصلى النوافل في البيت والسنن الرواتب في البيت ولذلك قال صلى الله عليه وسلم "فإن أفضل صلاة الرجل في بيته إلا المكتوبة" لماذا ؟ ليذكر الأهل ويشجعهم بل ويربى أولاده وصغاره على هذه الأفعال وما أجمل البيت يوم أن تغيب الشمس ذلك اليوم وقد استعد الزوجان للجلوس لجلسة الإفطار معا ما أحلى هذه الجلسة وما أسعد هذين الزوجين في التعاون على مثل هذه العبادات ، وقل مثل ذلك في قراءة القرآن وفي حضور على الأقل ولو درس أسبوعي أو محاضرة ، القيام على الفقراء والمساكين في الحي وغيرها من الأعمال الصالحة والخيرة التي لو تعاون الزوجان على مثل هذه الأمور لكان ذلك عماد السعادة الزوجية وحلاوتها وروحها ومن جرب هذا وجد طعم هذه الحياة (من عمل صالحا من ذكر أو أنثي وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون).(/113)
من الفن الممازحة والمرح مع الأهل ومن هذا ما أخرج النسائي أيضا في كتابة عشرة النساء من حديث عائشة رضى الله تعالى عنها قالت: "زارتنا سودة يوما" اسمع لهذا الموقف وهذه القصة الجميلة زارتنا سودة يوما تعنى أم المؤمنين "فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم بيني وبينهما" ضرتين "جلس النبي صلى الله عليه وسلم بيني وبينها إحدى رجليه في حجري والأخرى في حجرها ، فعملت لها حريرة أو قال خزيرة" والخزيرة أو الحريرة: لحم مع دقيق مع ماء يخلط في بعضه وهو نوع من أنواع الطعام، تقول عائشة: فعملت لها حريرة أو قال: خزيرة، فقلت: كلى أى لسودة ، فأبت فقلت: لتأكلي أو لألطخن وجهك فأبت" تقول عائشة: "فأخذت من القصعة شيئا فلطخت به وجهها، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجله من حجرها تستقيد منى" أي تأخذ حقها مني "فأخذت من القصعة شيئا فلطخت به وجهي ورسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك فإذا عمر يقول: يعني عند الباب يا عبد الله بن عمر يا عبد الله بن عمر فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قوما فاغسلا وجوهكما فلا أحسب عمر إلا داخلا" هذا موقف وانظر لحياته صلى الله عليه وسلم والممازحة بين الأزواج وأيضا أخرج النسائي في عشرة النساء من حديث عائشة رضى الله تعالى عنها و[ابن ماجة] أيضا في كتاب النكاح "أنها كانت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر وهي جارية فقال لأصحابه: تقدموا ، ثم قال: تعالى أسابقك فسابقته فسبقته ، تقول : فَسَبَقْتُهُ على رجلي فلما كان بعد خرجت معه في سفر فقال لأصحابه: تقدموا" ما أشغله ما كان فيه صلى الله عليه وآله وسلم ثم قال" تعالى أسابقك، ونسيت الذي كان وقد حملت اللحم فقلت: كيف أسابقك يا رسول الله وأنا على هذه الحال فقال: لتفعلن، فسابقته فسبقني فقال: هذه بتلك السبقة" (وإنك لعلى خلق عظيم) وأيضا أخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: "كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء بيني وبينه تختلف أيدينا عليه فيبادرني حتى أقول: دع لي دع لي، قالت: وهما جُنُبَان" فالمزاح والمرح حتى أثناء الغسل من الجنابة فينبغي للزوج أن ينمي في نفسه صفات الفكاهة والمرح في بعض الأحايين مع زوجة لتقوية أواصر المحبة ، و[علي بن أبي طالب] يروى عنه رضي الله تعالى عنه أنه كان يمازح زوجه فدخل عليها في يوم من الأيام فوجد في فيها عود أراك فأراد أن يمازحها فنظر إلى عود الأراك يخاطبه بهذين البيتين الجميلين قال
قضيت يا عود الأراك بثغرها
أما خفت يا عود الأراك أراكا
لو كنت من أهل القتال قتلتك
ما فاز منى يا سواك سواكا
وهذا يبين حالهم التي كانوا عليها مع أزواجهم رضوان الله تعالى عليهم ، فلا بأس أن ينظم الزوج أوقاتا خاصة للعب والمرح مع الزوجة فهذه سنة فهي تضفي على الحياة الزوجية البهجة والسعادة وتقطع الروتين البغيض في الحياة الزوجية وصدق صلى الله عليه وسلم يوم أن قال لجابر كما أسلفنا "هلا أخذتها بكرا تلاعبها وتلاعبك".
أيضا من الفن في التعامل مع الزوجة إعانتها ومساعدتها إذا تعبت ، فالزوجة بشر تمرض وتتعب فعلى زوجها أن يراعي ذلك فيقوم بمساعدتها وقضاء حوائجها والقيام ببعض أعمال المنزل عنها فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يقوم على خدمة أهله بنفسه يخصف نعله ويرقع ثوبه ويكنس الدار حتى إذا أذن المؤذن كأنه لا يعرفنا كما تقول عائشة إذاً فالتواضع والبساطة مع شريكة العمر من أسباب السعادة ، والمرأة في البيت ليست هَمَلاً أو متاعا بل هي إنسان كالرجل تشاركه وتشاطره الأفراح والأتراح فعلى الزوج أن يقف مع زوجه ويعينها واسمع لهذه المرأة وهي تمدح زوجها الوفي المخلص فقالت : زوجي لما عناني كاف ولما أسقمني شاف ، عرقه كالمسك ، ولا يمل طول العهد ، إذا غضبت لطف ، وإذا مرضت عطف ، أنيسي حين أفرد ، صفوح حين أحفد ، إذا دخل الدار دخل بساما ، وإن خرج خرج ضحاكا ما غضب عليَّ مرة ولا حقد ، يأكل ما وجد ويدرك ما قصد ، ويفي بما وعد ولا يأسي على ما فقد ، أديب أريب حسيب نسيب ، كسوب خجول لا كسول ولا ملول ، إذا طلبت منه أعطاني وإن سكتُّ عنه ابتداني ، وإذا رأى مني خيرا ذكر ذلك ونشر ، أو رأى تقصيرا ستر ذلك وغفر" فهنيئا لهذه المرأة بزوجها .(/114)
أيضا من الفن مراعاة شعورها ونفسيتها ، عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إني لأعلم إذا كنت عنى راضية " اسمع لكلامه صلى الله عليه وسلم "إني لأعلم إذا كنت عني راضية وإذا كنت على غضبي ، قالت : فقلت : من أين تعرف ذلك ؟ قال : أما إذا كنت عني راضية فإنك تقولين لا ورب محمد وإذا كنت غضبى قلت : لا ورب إبراهيم ، قالت : قلت : أجل والله يا رسول الله ، ما أهجر إلا اسمك " والحديث عند البخاري ومسلم في صحيحيهما وهذا الحديث يتبين لنا كيف كان صلى الله عليه وسلم بدقة ملاحظته ومراعاة شعور نفسية زوجه حتى عرف عنها هذا الأمر فإذا استقر الزوجان واستقر حال كل منهما عرف كل منهما ما يغضب الآخر وما يرضيه وأسباب كل ذلك فقد تمكنا بإذن الله من توطيد أسس العلاقة الزوجية والسير بها في الدروب الآمنة المفروشة بالورود والرياحين وأمكنهما أيضا تجنيب أسرتها مسالك العسر ومواضع الزلل والنكد ونلحظ في هذا الحديث دقة عناية رسول الله صلى الله عليه وسلم بمشاعر عائشة رضي الله تعالى عنها حتى صار يعلم رضاها وغضبها عند مجرد حلفها ، إذاً فمراعاة النفسيات أمر مهم لدوام المحبة ، والزوج الذكي يحرص على احترام نفسية زوجته فيغض الطرف ولا يكثر العتاب إلا في التجاوزات الشرعية فلابد أن يأخذ على يدها أما ما عداها فالكمال عزيز ، وبعض الخصال جبلة في المرأة يصعب تغييرها فاصبر ، واحتسب (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب). ومن الفن أيضا الحذر من شتمها أو ضربها والإساءة إليها قال الله تعالى: (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك الآيات لقوم يتفكرون) وقال سبحانه وتعالى آمراً الزوج بحسن عشرة زوجته فقال: (وعاشروهن بالمعروف) وكلمة العشرة هنا مشتقة من المعايشة والمخالطة والمعروف كلمة جامعة شاملة لكل خير وقد بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن رجالا يضربون زوجاتهم ، فقال صلى الله عليه وآله وسلم : "وما أولئك من خياركم خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي " وقال صلى الله عليه وسلم: "أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا وخياركم خياركم لنسائهم" والحديث أخرجه أبو داود في سننه وأحمد في مسنده وهو صحيح كما في صحيح الجامع فإن احتجت لشيء من الضرب أو من تأديب المرأة فأقول: بحقه الشرعي فاهجروهن في المضاجع واضربوهن ضربا غير مبرح كما قال صلى الله عليه وآله وسلم والحديث عند الترمذي وعند النسائي وروى لـ[شريح] أنه قال:
رأيت رجالا يضربون نساءهم
فشلت يميني حين أضرب زينبا.
وزينب شمس والنساء كواكب
إذا طلعت لم تبق منهن كوكبا
ومن الفن أيضا التوسيع على الزوجة في المطعم والملبس والنفقة قال تعالى (أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن) وقال صلى الله عليه وسلم: "فاتقوا الله في النساء فإنكم أخذ تموهن بكلمة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله" إلى أن قال صلى الله عليه وسلم: " ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف"(/115)
والحديث أخرجه مسلم في صحيحه ، وقال صلى الله عليه وسلم: "كفي بالمرء إثما أن يضيع من يعول" وهو متفق عليه، وقال صلى الله عليه وسلم: "إنك إن شاء الله لا تنفق نفقة إلا أجرت حتى اللقمة ترفعها إلى في امرأتك" والحديث أيضا متفق عليه، فأقول: التوسيع عليها في بعض المباحات أمر مطلوب وانظر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كان إذا هويت زوجه شيئا لا محذور فيه تابعها عليه أي وافقها، فعن عائشة زوج النبي أنها قالت: "دخل الحبشة المسجد يوما يلعبون فقال لي: يا حميراء أتحبين أن تنظري إليهم؟ فقالت: نعم، فقام بالباب وجئته فوضعت ذقني على عاتقه فأسندت وجهي إلى خده قالت: ومن قولهم يومئذ أبا القاسم طيبا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حسبك، فقلت: يا رسول الله لا تعجل فقال لي قال: حسبك فقلت: لا تعجل يا رسول الله، قالت: وما بي حب النظر إليهم ولكنى أحببت أن يبلغ النساء مقامه لي ومكاني منه" والحديث أخرجه أيضا النسائي في عشرة النساء وصححه الحافظ ابن حجر في الفتح وتابعه أيضا على تصحيحه الشيخ الألباني في آداب الزفاف، وأصل الحديث في الصحيحين، وأخرج النسائي أيضا في السنن الكبرى أنه قال صلى الله عليه وسلم: "أفضل دينار دينار ينفقه الرجل على عياله" إلى آخر الحديث وروى [ابن أبي الدنيا] في كتاب العيال أن [ابن عائشة] قال: حدثت أن أيوب كان يقول لأصحابه كثيرا: تعاهدوا أولادكم وأهليكم بالبر والمعروف ولا تدعوهم تطمع أبصارهم إلى أيدي الناس، قال وكان له زنبيل يغدو به إلى السوق في كل يوم فيشترى فيه الفواكه والحوائج لأهله وعياله هكذا كانوا في التوسيع على الزوجة والأولاد في المطعم والملبس والنفقة ، ومن الفن أيضا وهو آخرها عدم التساهل مع الزوجة فيما يغضب الله (لُعِنَ الذين كفروا من بنى إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون) قال تعالى (يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون) والله عز وجل يقول: (الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم) وبعض الرجال وللأسف تنازل عن هذه القوامة وضعف أمام إغراءات المرأة وأمثلة ذلك تبرج زوجته أو بناته في المناسبات والأفراح ولبس الملابس الضيقة والمفتوحة والبنطلونات وغير ذلك مما نسمعه ويتناقله الناس وأيضا من ذلك خروج نسائه إلى الأسواق بدون محرم فتخاطب البائع وتجادله وربما تكثرت بكلماتها وقد يحدث هذا والزوج الضعيف موجود وأيضا من ذلك إدخال الأجهزة والأفلام والمجلات وغير ذلك من وسائل الإعلام الهابطة لبيته بدون أن يحرك ساكنا أو أن يفعل تجاه ذلك شيئا وغير ذلك من المحرمات التي استهان بها كثير من الأزواج فغلبته نساؤه عليها وكل ذلك مما جعل حياته جحيما والدليل فمن أرضى الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط الناس لا زوجته ولا أولاده ولا هو راضى حتى عن نفسه فهو في هم وغم وانتبهوا واسمع أيها الزوج واسمعي أيتها الزوجة لهذه الكلمة أقول: كل خلاف يجرى بين الزوجين كبر الخلاف أم صغر إنما هو بمعصية الله تعالى، وقال سبحانه وتعالى (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير) واسمع لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكيف كان يتعامل مع أزواجه ففي صحيح مسلم عن عائشة قالت "دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا متسترة بقرام فيه صورة فتلون وجهه" لم يرض "فتلون وجهه ثم تناول الستر فهتكه ثم قال: إن من أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين يشبهون بخلق الله" فيا سبحان الله كم من صورة وكم من تمثال في بيوت المسلمين اليوم كم من صورة في بيوتنا أيها الأحبة؟ وقد أخبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: "لا تدخل الملائكة بيتا فيه صورة" كما في حديث [أبي طلحة] عند مسلم والبيت إن لم تدخله الملائكة دخلته الشياطين ثم نعرف بعد ذلك سبب كثرة المشاكل في كثير من البيوت لماذا؟ عشعش الشيطان في هذا البيت بسبب كثرة الصور وكثرة المشاكل وكثرة وسائل الإعلام والفساد في البيت ؛عشعش الشيطان فلم يكن هناك وجود للملائكة ولم يكن هناك تطهير لهذا البيت فلا شك حلت المصائب والهم والغم بين الزوجين، والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول أيضا: "كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته" إلى قوله "والرجل راع في أهله وهو مسئول عن رعيته" وقال أيضا صلى الله عليه وآله وسلم: "ما من عبد يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة" والحديث متفق عليه اسمع لهذا الحديث مخيف مرعب "ما من عبد يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة" أليس من الغش إدخال وسائل الإعلام والأفلام والمجلات الهابطة أو حتى السماح بدخولها والله إن لم يكن من الغش فما ندري ما هو الغش، أليس من الغش عدم مراقبة الزواج للباس زوجه وبناته وأولاده عند الخروج(/116)
للمناسبات والأسواق إن لم يكن هذا من الغش فلا ندري والله ما هو الغش، وأيضا في الحديث السابق الذي ذكرناه عن صفية "أن النبي صلى الله عليه وسلم انطلق إلى زينب فقال لها: إن صفية قد أعيا بها بعيرها فما عليك أن تعطيها بعيرك، قالت زينب: أتعمد إلى بعيري فتعطيه ليهودية "، كلمة منها فماذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم انظر عدم الرضا فيما يغضب الله عز وجل " فهاجرها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أشهر فلم يقرب بيتها، وعطرت زينب نفسها وعطرت بيتها وعمدت إلى السرير فأسندته إلى مؤخرة البيت وأيست أن يأتيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فبين هي ذات يوم إذ بوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم أي بخياله فدخل البيت فوضع السرير موضعه فقالت زينب: يا رسول الله جاريتي فلانة قد طهرت من حيضتها اليوم هي لك فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنها" وفي حديث أيضا أخرجه مسلم في صحيحه رواه [عبد الله بن مسعود] في حديث أيضا أخرجه مسلم في صحيحه رواه عبد الله بن مسعود في حديث الواشمة والمستوشمة واللعن لهما والمتنمصة والمتفلجة إلى آخر الحديث قال في آخر الحديث: فقالت المرأة: فإني أرى شيئا من هذا على امرأتك تقصد عبد الله بن مسعود الآن قال اذهبي فانظري قال: فدخلت على امرأة عبد الله فلم تر شيئا فجاءت إليه فقالت: لم أر شيئا، قال: أما لو كان ذلك لم أجامعها أي لم أصاحبها ولم نجتمع نحن وهي بل كنا نطلقها ونفارقها هكذا كانوا رضوان الله تعالى عليهم لم يكونوا يرضون عن فعل المرأة إن كان فعلها يغضب الله عز وجل (ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى).
وأخيرا أقول خلاصة هذا الموضوع : اعلم أيها الأخ الحبيب يا أيها الرجل إني أخاطب فيك الرجولة والعقل والحكمة والتروي وحسن الخلق فإن السعادة مفتاحها بيدك فلا تضيعه فأنت القادر أن تجعل حياتك نعيما أو أن تجعلها جحيما متى؟ إذا علمت أن التعامل مع الزوجة فن، وأخيرا تنبيه للمرأة فأقول أيتها المرأة إني أعلم أنك ستحرصين على سماع هذا الموضوع وهو خاص بالرجل وكما أسلفنا كل ممنوع مرغوب وستعلمين كيف نخاطب الرجل بمثل هذه الكلمات فإذا حرصت وسمعت هذه الكلمات فإني أذكرك أيضا بأن لهذا الدرس بقية وجزء لا يتجزأ عنه فكما حرصت وسمعت هذا فاحرصي واسمعي بقيته حتى تتكامل سعادتك فإن السعادة لا تتحقق للبيت إلا بالتعاون وقيام كل من الزوجين بحقوقه تجاه الآخر وكما أن التعامل معك فن فإن التعامل مع زوجك فن آخر ستسمعينه بمشيئة الله في الدرس القادم بعنوان السحر الحلال، أسأل الله عز وجل أن ينفع بما قلنا الجميع وأن يجمع بين قلبي كل زوجين وأن يوفق بيوت المسلمين وأن يحفظ بيوتهم وأن يحفظ أحوال المسلمين مع أزواجهم اللهم يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام اللهم من على بيوت المسلمين بعيشة هنية راضية ترضيك يا حي يا قيوم وفق المسلمين لكل ما تحبه وترضاه اللهم من أراد بهم سوءا فأشغله بنفسه واجعل كيده في نحره واجعل تدبير تدميرا عليه يا حي يا قيوم أنت ولي ذلك والقادر عليه سبحانك اللهم وبحمدك نشهد أن لا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا .
أما بعد أيها الأحبة في الله السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وهذه ليلة الاثنين الموافق للسادس والعشرين من شهر صفر للعام السادس عشر بعد الأربعمائة والألف، وهذا هو الدرس التاسع والعشرون من سلسلة الدروس العلمية العامة والتي ينظمها المكتب التعاوني لمدينة <الرس> نسأل الله عز وجل أن يوفق الجميع لما يحبه ويرضاه وموضوع هذا اللقاء هو موضوع يعاد للمرة الثانية للحاجة وهو بعنوان السحر الحلال وهو بقية لدرس سابق كان بعنوان فن التعامل مع الزوجة وقد أسلفت في ذلك الدرس أن التعامل مع الزوجة فن يجهله كثير من الرجال وأقول اليوم أيضا أن التعامل مع الزوج فن يجهله كثير من النساء وأقول للزوجين لو أن أحدًا منكما كان ملاكا بحسن خلقه ولطفه ومعاملته فإن ذلك لا يكفى فلابد من قيام كلٍ منكما بحق الآخر فإن الحياة شركة بينكما.
ومن هنا كان لكل منكما حديث، حديث من قلب محب يتمنى أن يرى السعادة ترفرف على كل بيت مسلم، ويعلم الله أن هذه المحاولة عصارة اطلاع ومشاورات ووقفات وتأملات في بيت النبوة، أسأل الله عز وجل بلطفه ومنه وكرمه أن يجمع بين كل زوجين وأن يبارك لهما في حياتهما وأن يرزقهما الصلاح والفلاح والأنس والمحبة وكم أفرحتني وسرتني تلك النتائج والآثار للدرس الماضي فقد كثرت الاتصالات والأحاديث والأخبار وما كنت أحسب أن تؤتي ثمارها بهذه السرعة ولكنه فضل الله فلله الحمد والشكر .(/117)
أما هذا الدرس فهو رسالة إلى كل زوجة مسلمة تريد السعادة في حياتها الزوجية وتبحث عن علاج ناجع لكل مشاكلها فلا يكفى أن تسمع المرأة هذا الحديث مرة أو مرتين بل لتسمعه كلما أرادت رأب الصدع الذي وقع في الحياة الزوجية لخطأ أو تعجل من أحد الزوجين أو كليهما فيا أيتها المباركة اسمعيه مرة ومرتين وثلاثة واحتفظي به للحاجة بل وأرشدي إ ليه كل زوجة تشعرين أنها بحاجته ولا أدعى فيه الكمال فهو كغيره من جهد البشر فيه الزيادة والنقصان والصواب والخطأ، بيد أني حرصت على النهل من بيت النبوة مستقرئا الأحداث بينه صلى الله عليه وآله وسلم وبين أزواجه فحسبي أني اجتهدت فما كان فيه من صواب فمن الله وحده لا شريك له وما كان فيه من خطأ فمن نفسي الضعيفة والشيطان والله ورسوله منه بريئان .
لماذا السحر الحلال والمقصود بالسحر هنا الاستعارة وإلا فإن حقيقة السحر عزائم ورقى وعقد تؤثر في القلوب والأبدان فيمرض ويقتل ويفرق بين المرء وزوجه أعاذنا الله وإياكم منه وهذا النوع لا يوجد فيه حلال بل هو حرام وكبيرة من الكبائر وصاحبه يكفر ويقتل ولا يستتاب وأما قصدنا هنا فهو المدح ومنه قوله صلى الله عليه وآله وسلم" إن من البيان لسحرا " والحديث أخرجه [مالك] و[أحمد] و[البخاري] عن [ابن عمر] فيجوز أن يكون في معر ض المدح لأنه تستمال به القلوب ويرضى به الساخط ويستنزل به الصعد كما جاء في لسان العرب ولا أظنه يختلف اثنان فيما تفعله المرأة في قلوب الرجال فهي بما وهبها الله إياها من جمال ورقة ونعومة وعزوبة ألفاظ استمالت كثيرا من قلوب الرجال حتى طارت ألبابهم وعقولهم وقلوبهم ومن هذا قول [الكميت] :
وقاد إليها الحب فانقاد صعبه
بحب من السحر الحلال المحبب
وهل يشك أحد في أن المرأة فتنة فقد أخرج البخاري ومسلم من حديث [أسامة] أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال " ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء " والله عز وجل يقول ( زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب ) فجعلهن في أول الشهوات المحببة للناس فكيف لو استغلت المرأة فتنتها في الحلال فكانت عونا لزوجها فإن الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة ( فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله ) وخلاصة الدرس في هاتين الوصيتين من أمين فاضلتين عاقلتين فيا أيتها الزوجة المخلصة اسمعي لهذه الوصايا الثمينة فأنت أحوج ما تكونين لها فأصغي سمعك وأوعى قلبك فإن العاقل من أضاف إلى عقله عقول الآخرين .
النصيحة الأولى كانت [أمامة بنت الحارث] التغلبية من فضليات النساء في العرب ولها حكم مشهورة في الأخلاق والمواعظ لما تزوج [الحارث بن عمرو ملك كندة] ابنتها أم إياس بنت عوف وأرادوا أن يحملوها إلى زوجها أوصتها أمها في ليلة الزفاف إلى زوجها بوصية قيمة قالت فيها: -وأسمعي أيتها المرأة- قالت فيها : يا بنية إن الوصية لو كانت تترك لفضل أدب أو لتقدم حسب لرويت ذلك عنك ولأبعدته منك ولكنها تذكرة للعاقل ومنبهة للغافل، أي بنية لو استغنت امرأة عن زوج بفضل مال أبيها لكنتِ أغنى الناس عن ذلك ولكنا للرجال خلقن كما خلقوا لنا بنيتي إنك قد فارقتِ الحمى الذي منه خرجت والعش الذي فيه درجتِ إلى وكر لم تعرفيه وقرين لم تألفيه أصبح بملكه عليكِ مليكا فكوني له أمة يكن لكِ عبدا وشيكا واحفظي عنى خلالا عشرة يكن لك ذكرى وذخرا :
أما الأولى والثانية فالصحبة بالقناعة والمعاشرة بحسن السمع والطاعة فإن في القناعة راحة القلب وفى حسن المعاشرة مرضاة الرب .
وأما الثالثة والرابعة فالمعاهدة لموضع عينيه والتفقد لموضع أنفه فلا تقع عيناه منك على قبيح ولا يشم أنفه منك إلا أطيب ريح واعلمي يا بنية أن الكحل أحسن الحسن الموجود والماء أطيب المفقود .
والخامسة والسادسة التعاهد لوقت طعامه والتفقد لحين منامه فإن حرارة الجوع ملهبة وتنغيص حاله مكربة .
وأما السابعة والثامنة الاحتفاظ ببيته وماله والرعاية لحشمه وعياله فإن حفظ المال أصل التقدير والرعاية للحشم والعيال من حسن التدبير .
وأما التاسعة والعاشرة فلا تفشين له سرا ولا تعصين له أمرا فإنك إن أفشيت سره لم تأمني غدره وإن عصيت أمره أوغرت صدره واتقىِ مع ذلك كله الفرح إذا كان ترحا والاكتئاب إذا كان فرحا فإن الأولى من التقصير والثانية من التكدير وأشد ما تكونين له إعظاما أشد ما يكون لك إكراما وأشد ما تكونين له موافقة أطول ما يكون لك مرافقة واعلمي يا بنيتي أنك لا تقدرين على ذلك حتى تؤثري رضاه على رضاك وتقدمي هواه على هواك فيما أحببت أو كرهت والله يضع لك الخير وأستودعك الله .(/118)
هذه الوصية الأولى من هذه الأم أما الوصية الثانية فهي وصية أم ممزوجة بالفرح أو بالفرحة والدموع نصحت أم ابنتها المقبلة على حياتها الجديدة قائلة : يا بنيتي أنت مقبلة على حياة جديدة حياة لا مكان فيها لأمك أو لأبيك أو لأحد من اخوتك فيها ستصبحين صاحبة لرجل لا يريد أن يشاركه فيك أحد حتى لو كان من لحمك ودمك كوني له زوجة يا ابنتي وكوني له أمًا اجعليه يشعر أنك كل شيء في حياته وكل شيء في دنياه اذكري دائما أن الرجل أي رجل طفل كبير أقل كلمة حلوة تسعده لا تجعليه يشعر أنه بزواجه منك قد حرمك من أهلك وأسرتك إن هذا الشعور نفسه قد ينتابه هو فهو أيضا قد ترك بيت والديه وترك أسرته من أجلك ولكن الفرق بينك وبينه هو الفرق بين المرأة والرجل المرأة تحن دائما إلى أسرتها إلى بيتها الذي ولدت فيه ونشأت وكبرت وتعلمت ولكن لابد لها أن تعود نفسها على هذه الحياة الجديدة لابد لها أن تكيف حياتها مع الرجل الذي أصبح لها زوجا وراعيا وأبا لأطفالها هذه هي دنياك الجديدة يا ابنتي هذا هو حاضرك ومستقبلك هذه هي أسرتك التي شاركتما أنت وزوجك في صنعها أما أبواك فهما ماضٍ إنني لا أطلب منك أن تنسى أباك وأمك واخوتك لأنهم لن ينسوك أبدا يا حبيبتي وكيف تنسى الأم فلذة كبدها ولكن أطلب منك أن تحبي زوجك وتعيشي له وتسعدي بحياتك معه .
هاتين الوصيتين الجميلتين كما أسلفت من أمين فاضلتين عاقلتين ويا ليت أن الأمهات يحرصن على وصية بناتهن بمثل هذه الوصايا الجميلة خاصة إذا كانت البنية قد أقبلت على بيت زواجها وعلى الأنس بزوجها فإنها بحاجة لمثل هذه الوصايا .
من أساليب السحر الحلال أو من فن التعامل مع الزوج استقباله والبشاشة في وجهه .
خرج الرجل من عمله متعبا مرهقا فقد قضى يوما شاقا مليئا بصخب المراجعين ومشاكل العمل وكثرة المعاملات وزاد الزحام في الشوارع تعبه تعبا ثم فتح باب بيته يريد الهدوء والراحة والسكن النفسي في مملكته الخاصة، فتح الباب فإذا الساحرة قباله دخل ليجد السعادة مع زوجته وأطفاله فإذا زوجته بجمالها تستقبله وقد ارتسمت ابتسامة جميلة على محياها وإذا هي تطبع قبلة حانية على خده مهللة مرحبة فوقع السحر ونسى هموم يومه وذهب التعب والإرهاق يلتفت يمنة ويسرة وإذا البيت جميل ونظيف وإذا الطعام الشهي قد أعد وإذا بأطفاله كالورود بجمال لباسهم وإذا بالروائح الزكية تفوح من أركان البيت فيا لها من سعادة وأنس ورحابة كل ذلك بفضل الله ثم بفضل اللمسات الساحرة من يدين تلك الزوجة الغالية التي تعدل الدنيا وما فيها .
وانظري لزوجة [أبى مسلم الخولاني] واستقبالها له فقد كان أبو مسلم كان أبو مسلم الخولاني إذا انصرف من المسجد إلى منزله كبر على باب منزله فتكبر امرأته فإذا كان في صحن داره كبر فتجيبه امرأته فإذا بلغ إلى باب بيته كبر فتجيبه امرأته فانصرف ذات ليلة فكبر عند باب داره فلم يجبه أحد فلما كان في الصحن كبر فلم يجبه أحد فلما كان في بيته كبر فلم يجبه أحد وكان إذا دخل بيته وهو الشاهد اسمعي أيتها المرأة وكان إذا دخل بيته أخذت امرأته رداءه ونعليه ثم أتته بطعام قال فدخل فإذا البيت ليس فيه سراج وإذا امرأته جالسة منكسة تنكس بعود معها فقال لها مالك فقالت أنت لك منزلة من [معاوية] وليس لنا خادم فلو سألته فأخدمنا أي جعل لنا خادما وأعطاك فقال اللهم من أفسد علىّ امرأتي فأعمى بصره وقد كان معروفا بإجابة الدعاء قال وقد جاءتها امرأة قبل ذلك وقالت لها زوجك له منزلة من معاوية فلو قلت له يسأل معاوية أن يخدمه ويعطيه عشا قال فبينا تلك المرأة جالسة في بيتها إذ أنكرت بصرها فقالت ما لسراجكم أطفئ قالوا لا فعرفت ذنبها فأقبلت إلى أبى مسلم تبكى وتسأله أن يدعو الله عز وجل لها يرد عليها بصرها قال فرحمها أبو مسلم فدعا الله عز وجل لها فرد عليها بصرها والشاهد أقول انظري أيتها الأخت الصالحة كان إذا دخل إلى بيته استقبلته زوجه فأخذت رداءه ونعليه ثم أتته بالطعام إذن فالزوجة الذكية التي تعرف كيف تكسب قلب زوجها وأن تكون دائما زوجة جديدة في حياته فالكلمة الحلوة زينة والبسمة المشرقة جمال والرائحة الطيبة بهجة والفستان الأنيق واللمسات اللطيفة للشعر والاختيار الموفق لبعض الحلي البسيط المنسجم مع لون البشرة والثوب والنظافة المستمرة طهارة وعبادة فأنت حورية الدنيا وسيدة القصور في جنات النعيم بإذن الله تعلمي أيتها الزوجة تعلمي من القرآن أخلاق الحور وتسابقي معهن إلى قلب زوجك واجعلي دنياه جنة البسي له الحرير وضعي له العطور وغني له كما تغني الحور : لزوجة مطيعة عينك عنها راضية وطفلة صغيرة محفوفة بالعافية وغرفة نظيفة نفسك فيها هانية ولقمة لذيذة من يد أغلى طاهية خير من الساعات في ظل القصور العالية تعقبها عقوبة يصلى بنار حامية وإليك هذه الصورة بدون تعليق .(/119)
دخل الزوج إلى بيته فوجد في المدخل الرئيسي ألعاب وملابس الأطفال مرمية يمنة ويسرة قابله الأطفال بملابس متسخة وراوئح كريهة لماذا أفاجئ بملابس أطفالي متسخة وبوجوههم غير نظيفة وبشعورهم شعسة وليس هناك روائح طيبة تنبعث منهم إنني احب أن أرى أطفالي وهم زهرات حياتي بالروائح الطيبة والمنظر الحسن فإذا رأيتهم سررت لذلك وإذا قدمتهم للآخرين قدمتهم بفخر واعتزاز شكوى زوج قابلته الزوجة بتكشير وتذمر من الأطفال وصراخ وشكوى وتبرم وضيق ووجه عابس غاضب وجد البيت فوضى إزعاج وقذارة وهم وغم أراد وجبة الغداء فبعد زعيق وصراخ أعد الغداء ذهب الرجل إلى غرفته ليأخذ قسطا من الراحة بعد التعب من الدوام وجد الغرفة مبعثرة والسرير غير مرتب وعليه بقايا من بسكويت الأطفال وربما وجد رضاعة أحد الأطفال على المخدة وفرشة الغرفة متسخة وسال عليها حليب أحد الأطفال فتمنى لو انه عاد من حيث أتى وبدون تعليق
ومن أساليب السحر الحلال أيضا التجمل والتزين له إن المرأة بأنوثتها ونعومتها فقط قادرة على كسر قلب الرجل والتأثير فيه فكيف إذا أضيف إليه التزين والتحلي عندها وقع السحر فأصبح الرجل أسيرا كسيرا فعن[ أسامة ابن زيد] قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما تركت بعدى فتنة هي أضر على الرجال من النساء " والحديث أخرجه مسلم في صحيحه فسماها صلى الله عليه وآله وسلم فتنة فيا أيتها الزوجة إنك تشتكين كثرة خروج زوجك وعدم جلوسه معك وتشتكين سوء أخلاقه وتصرفاته وربما أوجع قلبك بكثرة ذكره للنساء والزواج من أخرى وربما اشتكيت من عدم حبه لك أو عدم قضائه حوائجك أو اشتكيت من تغيره فلم يعد ذلك الزوج الذي عرفتيه أيام الزواج أو غير ذلك من المشاكل فأقول لك أيتها المباركة فقط انظري إلى حالك وهيأتك داخل البيت فمع مرور الأيام والشهور والسنين تركت ذلك السلاح الذي كنت تستعملينه معه لم يعد يرى ذلك الجمال وتلك الزينة لم يعد يسمع تلك الكلمات الرقيقة والهمسات الحانية فهو لا يرى سوى التبذل ولبس الثياب البالية والشعر المنفوش والوجه العبوس ولا يسمع سوى صراخ الأطفال والسب والشتائم وكثرة الطلبات ورنين الهاتف وكثرة التشكي فما هذه الأسنان التي فيها بقايا البيض والبقل والمكسرات وما هذه الحموضة تنبعث من العنق ساعة الاعتناق حتى إذا أصابه الاختناق وأراد الافتراق ونادى بالطلاق ذهبت تبحثين عن مشعوذ أو ساحر ليعيد لك الوفاق وأنت عندك السحر الحلال ولكن لا تشعرين أو أنك تهملين قال الله تعالى ( أو من ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين ) أي المرأة قد جبلت من صغرها على حب التزين والتحلي فهي فطرة عند المرأة أصبح كثير من الأزواج اسمعي أيتها الصالحة اسمعي أيتها المرأة أصبح كثير من الأزواج اليوم لا يرى جمال زوجته إلا عند خروجها للمناسبات والعزائم فيراها في أبهى صورة وأجمل حلة وإذا حدثها ضحكت وقالت أنت لست غريبا حجة شيطانية ووسوسة إبليسية كانت سببا في هدم بيوت كثيرة إذن فعلاج المشاكل كلها بيدك أيتها الساحرة فأنت تملكين السحر الحلال الذي قد يكون سببا لدخولك الجنة فهل تعقل النساء أنه لا حق عندها أعظم من حق زوجها إلا حق ربها سبحانه فليتنبه لهذا نساء زماننا قال [ ابن الجوزي] واسمعي أيتها المرأة قال ابن الجوزي في صيد الخاطر ومن الناس من يستهين بهذه الأشياء فيرى المرأة مبتذلة تقول هذا أبو أولادي ويتبذل هو ويرى كل واحد من الأخر ما لا يشتهيه فينظر القلب وتبقى المعاشرة بغير محبة. ولى مع التجمل والتزين وقفات الوقفة الأولى أقف هذه الوقفة وأرجو ألا يسمعها الرجال فهي سر للنساء فقط فأقول إن أكثر ما تصرفه المرأة من المال اليوم إنما هو لشراء أدوات الزينة من العطورات ومستحضرات التجميل إلى آخره وأكثر ما نشاهده في الأسواق محلات الخياطة النسائية ومعارض الملابس النسائية مما يدل على كثرة الإقبال عليها وأغلب أوقات المرأة ينصرف في الوقوف أمام المرآة والاهتمام بشكلها كل ذلك يصرف ويضيع والمصيبة أن الزوج ليس له من هذا نصيب فلمن إذن لا يهمها كثيرا إعجاب زوجها إنما المهم إعجاب صديقاتها ومعارفها فهي تباهى وتفاخر لانتزاع عبارات الإغراء والإعجاب من أفواه النساء إذن فالدافع لتجمل أكثر النساء اليوم هو حب الظهور والبروز وامرأة تصرف جهدها ووقتها ومالها واهتمامها في مطلب كهذا لا شك أن لديها سفها وشعورا بالنقص على أن هذه النزعة تختلف من امرأة إلى أخرى فالنساء لسن سواء وغالب من تعمد إلى تلك الأساليب وإلى تطبيق أحدث الموضات على نفسها الغالب أن يكون عندها نقص فيما حباها الله من الجمال فتبالغ بل وتفرط في أمور الزينة للتعويض عن ذلك .(/120)
الوقفة الثانية إن لهذه الزينة ضوابط وحدودا يجب أن تراعى فعن [ابن مسعود] رضى الله عنه قال " لعن الله الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات بالحسن المغيرات لخلق الله" فاحذري سخط الله ولعنته فهذه الأعمال محرمة وإذا كان التزين والتجمل فيه تشبه بالكفار أو تشبه بالرجال أو كان لباس شهرة فكل ذلك محرم فعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال " من لبس ثوب شهرة ألبسه الله إياه يوم القيامة ثم ألهب في النار " والحديث أخرجه أبو داود في سننه وهو صحيح أو كان التزين للأجانب أو الخروج للأسواق أو غير ذلك فهو كذلك محرم مغضب لله تعالى ولا أنسى أن أقول إن أجمل وسائل الزينة السواك وكثرة المضمضة وكثرة العبادة فإن كثرة العبادة لها نور وجمال في الوجه قال تعالى ( سيماهم في وجوههم ) وقال صلى الله عليه وآله وسلم " الصلاة نور" نور حسي ومعنوي أما الحسي فنور الوجه وجماله .
ومن الأساليب أيضا من أساليب السحر الحلال أيتها المرأة المرح والمزاح واللطف والدلال وهذا أسلوب آخر من أساليب السحر الحلال ولذلك فإني أسمع كثيرا من الشباب عند البحث عن الزوجة يقولون فإنهم يجمعون على قولهم أريدها مرحة يجمعون على ذلك فإنها بكلماتها الرقيقة وبسماتها العذبة تملأ أركان البيت سعادة وبحركاتها الخفيفة وألعابها الجديدة تبدد الروتين والملل في حياتها الزوجية فتذكروا جيدا تلك الكلمات الغالية من قدوتها وحبيبها صلى الله عليه وآله وسلم عندما قال لجابر رضى الله تعالى عنه" هلا بكرا تلاعبها وتلاعبك وتضاحكها وتضاحكك "وهى بتوددها إلى زوجها والاقتراب منه والقعود إلى جنبه وملاطفته تكسر عين زوجها وتملك قلبه ولبه فلا ينظر إلى غيرها.
اسمعي لهذا الموقف اسمعي لهذا الموقف من أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها قالت "وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم على صفية أي غضب على صفية فقالت لي قالت صفية لعائشة قالت لي هل لك إلى أن ترضين رسول الله صلى الله عليه وسلم عنى وأجعل لك يومي قالت عائشة قلت نعم انظري ماذا فعلت عائشة رضى الله تعالى عنها قالت عائشة نعم فأخذت خمارا لها مصبوغا بزعفران فرشته بالماء تقول ثم اختمرت به فدخلت عليه في يومها أي في يوم صفية فجلست إلى جنبه فقال إليك يا عائشة فليس هذا بيومك فقلت فضل الله يؤتيه من يشاء ثم أخبرته خبري" والحديث أخرجه ابن ماجة في سننه وقال الألباني في الإرواء رجاله ثقات رجال مسلم غير شومية هذه وهى مقبولة عند الحافظ ابن حجر أرأيت يا ابنة التوحيد إلى فن التعامل مع الزوج استفيدي من معلمة الرجال والأجيال عائشة رضى الله عنها تجمل وتطيب واقتراب وتغسل للزوج فتملكين القلب وتأثرين النفس فسبحان من أودع هذا السحر في المرأة ولذلك كانت الدعوات الأولى في أول لقاء وأول نظرة وأول لمسة اللهم إني أسألك خيرها وخير ما جبلت عليه وأعوذ بك من شرها وشر ما جبلتها عليه ومن شرها مزاج نكد ونفسية متعكرة وشكاية وتبرم وضيق وهم وغم وانطواء ووسوسة وعبوس وتكشير نعوذ بالله من شرها ( ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما ) ومن الأساليب أيضا الاعتراف بجميله وشكره فقد قال صلى الله عليه واله وسلم " يا معشر النساء تصدقن فإني رأيتكن أكثر أهل النار قالت أي امرأة بما يا رسول الله قال صلى الله عليه وسلم تكثرن اللعنة وتكفرن العشير قالت وما كفرانه قالت لو أحسنت إلى إحداهن الدهر ثم رأت منك شيئا قالت ما رأيت منك خيرا قط " والحديث أخرجه البخاري في صحيحه .
لقد فعلت ما في وسعى في أداء حقوق زوجتي والإحسان إليها فقد اشتريت وأكرمت وبالغت وبذلت ما أستطيع ولكن قلما أسمع من زوجتي كلمة شكر أو دعاء إنني أنتظر السماع؛ جزاك الله خيرا خلف الله عليك شكر الله مسعاك وما أشبه ذلك من الكلمات الطيبة زوج عاتب .
وعن [عبد الله بن عمرو] رضى الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لا ينظر الله تبارك وتعالى إلى امرأة لا تشكر زوجها وهى لا تستغني عنه" والحديث أخرجه [النسائي] و[البزار] بإسنادين رواة أحدهما رواة الصحيح ورواه الحاكم وقال صحيح الإسناد . فيا أيتها الزوجة المسلمة اتق الله وأد الأمانة أد الأمانة التي أنت مسئولة عنها وهى طاعة زوجك والإحسان إليه والاعتراف بحقه وشكره .
وعن [أبى هريرة ]أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لو أمرت أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها ، ولا تجد حلاوة الإيمان حتى تؤدى حق زوجها ولو سألها نفسها وهى على ظهر قتب " والحديث أخرجه [أحمد] و[ابن ماجة] و[ابن حبان] فيا أيتها المباركة كلمات شكر وثناء عذبة الألفاظ رقيقة المعاني سحر تفعل في الرجل الأفاعيل .(/121)
ومن الأساليب التي تسحر بها المرأة زوجها إن صح التعبير الاعتذار إليه إن المرأة بشر وهى عرضة في التقصير في حق زوجها مهما حرصت فكيف إذا أهملت أو غفلت عن هذا الحق ولذلك فمن أعظم الأساليب التي تعوض بها المرأة هذا التقصير الاعتذار للزوج والرجوع إليه وإني على يقين أن أحلى كلمة سمعها أو يسمعها الرجل من زوجته عندما تعتذر إليه مهما كان الخطأ وهذا ليس إذلالا للمرأة كما يتصوره بعض النساء ليس إذلالا للمرأة أن تعتذر لزوجها ولا تكبرا من الرجل كما يصوره الشيطان وأعوانه إذن فلماذا لأن نفس الرجل جبلت على محبة المرأة والفتنة بكلماتها وإن كلمة التأسف والاعتذار من الزوج أو الزوجة لزوجها لها سحر عجيب ولها تأثير غريب مجرد كلمات طيبات وفجأة ينقلب الغضب إلى رضا والعبوس إلى ابتهاج فيصبح الأسد حملا وديعا وتتحول الحمرة من حمرة غضب إلى حمرة خجل مسكين أنت أيها الرجل كل ذلك سببه السحر الحلال الذي أنعم الله عز وجل به على المرأة المسلمة فعن [ابن عباس] عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال " نساؤكم من أهل الجنة الودود الولود العئود على زوجها التي إذا غضب جاءت حتى تضع يدها في يد زوجها وتقول لا أذوق غمضا حتى ترضى " والحديث أخرجه النسائي وغيره وله شاهد أيضا من حديث [أنس ]أخرجه [الطبراني] في الصغير وهو حسن بمجموعهما كما في الصحيحة للألباني قال [المنوي ] في فيض القدير فمن اتصفت بهذه الأوصاف منهن فهي خليقة لكونها من أهل الجنة وقلما نرى فيهن من هذه صفاتها انتهى كلامه رحمه الله فأين أنت أيتها الصالحة أين أنت لتكوني من أهل الجنة لماذا تحرمين نفسك أن تكوني من أهل الجنة اسمعي أيتها المباركة نعيم في الدنيا في السعادة الزوجية ونعيم في الآخرة بأن تكوني من أهل الجنة فقط اتصفي بهذه الصفات الودود المتحببة لزوجها الولود كثيرة الأولاد العئود المعتذرة الراجعة لزوجها عند التقصير أيتها الحانية إنها كلمات فقط استعيذي بالله من الشيطان وجاهدي النفس الأمارة بالسوء ثم ضعي يدك في يدي زوجك وعندها عندها يقع السحر فتصفو الحياة وهكذا عند كل خلاف وعند كل غضب فالعلاج بيدك وإياك إياك تفريق الشمل ونكادة العيش فالبيت السعيد ليس الذي خلا من المشاكل البيت السعيد ليس الذي خلا من المشاكل بل الذي عرف كيفية علاجها والتعامل معها .(/122)
ومن الأساليب أيضا ومن فن التعامل مع الزوج معاشرته بحسن السمع والطاعة بشرط أن تكون هذه المعاشرة طاعة في غير معصية الله عز وجل وهذا نوع آخر من أنواع السحر التي تملكه المرأة لكسر قلب زوجها بل وفوق ذلك كسب رضا ربها فطاعته من قمة العبادات فهي مقرونة بالصلاة والصيام فعن [عبد الرحمن بن عوف] قال إن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إذا صلت المرأة خمسها وصامت شهرها وحفظت فرجها وأطاعت زوجها قيل لها أدخلي الجنة من أي أبواب الجنة شئت " ما أعظم هذا الفضل ما أعظم هذا الفضل أيتها المرأة قيل لها ادخلي الجنة من أي أبواب الجنة شئت وروى البزار الطبراني أن امرأة جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت أنا وافدة النساء إليك هذا الجهاد كتبه الله تعالى على الرجال فإن أصيبوا أثيبوا أي أسرا وإن قتلوا كانوا أحياء عند ربهم يرزقون ونحن معشر النساء نقوم عليهم فما لنا من ذلك الأجر تسأل فقال عليه الصلاة والسلام اسمعن أيتها النساء قال عليه الصلاة والسلام "أبلغي من لقيت من النساء أن طاعة للزوج واعترافا بحقه يعدل ذلك "يعدل ماذا أي يعدل أجر الجهاد في سبيل الله وقليل منكن من يفعله ولا شك أن من طاعته أن تلبى طلبه إذا دعاها للفراش وكم نسمع من المشاكل في مثل هذا الباب فإن أعظم غايات الزواج أن يعف الرجل نفسه فلا يقع في الحرام فإذا دعاها وامتنعت ذهبت هذه الغاية وكان الرجل معرضا للوقوع في الحرام فعن أبي هريرة رضى الله تعالى عنه قال قال الرسول صلى الله عليه وسلم "إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فلم تأته فبات غضبان عليها لعنتها الملائكة حتى تصبح " والحديث متفق عليه إذن فتمنعها في الفراش من أغلظ المحرمات فإن فعلت ذلك تقلبت في لعنة الله وملائكته والعياذ بالله وقال صلى الله عليه وسلم " والذي نفسي بيده ما من رجل يدعو امرأته إلى فراشه فتأبى عليه إلا كان الذي في السماء ساخطا عليها حتى يرضى عنها "أي زوجها والحديث أيضا أخرجه البخاري ومسلم وقال صلى الله عليه وسلم "إذا دعا الرجل زوجته لحاجته فلتأته وإن كانت على التنور " والحديث أخرجه الترمذي وحسنه والنسائي وابن حبان و في الحديث قال صلى الله عليه وسلم " وإن سألها نفسها وهى على ظهر قتب لا تمنعه نفسها " والحديث أخرجه الطبراني إذن فيا أيتها المرأة لا يجوز للزوجة أن تمنع نفسها عن زوجها ولا يحل لها ذلك باتفاق المسلمين بل يجب عليها أن تطيعه إذا طلبها إلى الفراش وذلك فرض واجب عليها فاحذري أيتها الصالحة من غضب الجبار ثم أيضا قبول الأعمال متوقف على طاعة الزوج فعن ابن عمر رضى الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اثنان لا تجاوز صلاتهما رءوسهما عبد أبق من مواليه حتى يرجع وامرأة عصت زوجها حتى ترجع " والحديث أخرجه الطبراني بإسناد جيد والحاكم وله شواهد وعن[ ابن أو في ] في الحديث قال صلى الله عليه وسلم " والذي نفسي بيده لا تؤدى المرأة حق ربها حتى تؤدى حق زوجها " والحديث أخرجه ابن ماجة وابن حبان والطبراني وإسناده جيد ؛ومن طاعته الحرص على إرضائه مهما كان الأمر فعن [أم سلمة] رضى الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أيما امرأة ماتت وزوجها عنها راض دخلت الجنة " ما أسهل دخولك الجنة أيتها المرأة فمتى تعقلين وتنتبهين لمثل هذه الأمور والحديث أخرجه ابن ماجة والترمذي والحاكم قال صحيح الإسناد. ما أجمل الزوجة حين تحسن التبعل لزوجها وما أعظم مكانتها في قلبه واستيلائها على مشاعره حين تقول له سمعا وطاعة لا تغمض لي عين حتى ترضى والمرأة تملك وسائل الإرضاء جمالها عذوبة ألفاظها رقتها كل ذلك من نعم الله عليها وستسأل عن شكرها واستعمالها عن حقها هل استعملتها في حقها أم لا ثم إليك سرا من أسرار الرجال وأعتذر للرجال فقد فضحت أسرارهم في مثل هذا الدرس فأليك سرا من أسرار الرجال أيتها المرأة الرجل سريع الغضب سريع الرضا وخاصة أمام المرأة فأين سحرك الحلال ومن الأساليب أيضا خدمتها لزوجها والقيام بشئونه فالزوجة الصالحة تتقرب إلى الله بخدمة زوجها وبعض النساء قد حباها الله عز وجل حسن تصرف وعقلا وتدبيرا حتى إنها تقوم ببعض الأعمال الخاصة بزوجها نيابة عنه وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء فلماذا لا تحرص الزوجة على خدمة زوجها وهو جنتها ونارها كما في حديث [الحصين بن محصن] أن عمة له أتت النبي صلى الله عليه وسلم في حاجة ففرغت من حاجتها فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم " أذات زوج أنت قالت نعم قال كيف أنت له قالت ما آلوه إلا ما عجزت -أي لا أقصر في طاعته وخدمته ما آلوه إلا ما عجزت عنه- قال فانظري أين أنت منه فإنما هو جنتك ونارك " والحديث أخرجه أحمد و[ابن أبي شيبة] وصححه الحاكم ووافقه [الذهبي] وقال [المنذري] في الترغيب رواه احمد والنسائي بإسنادين جيدين(/123)
قال [المناوي] رحمه الله في شرح هذا الحديث انظري أين أنت منه أي في أي منزلة أنت منه أقريبة من مودته مسعفة له عند شدته ملبية لدعوته أم متباعدة من مرامه كاسرة لعشرته وإنعامه فإنما هو جنتك ونارك أي هو سبب لدخولك الجنة لرضاه عنك وسببا لدخلوك النار لسخطه عليك فأحسني عشرته ولا تخالفي أمره فيما ليس بمعصية انتهى كلامه رحمه الله من فيض القدير وأيضا من خدمتها لزوجها اذكر هذا المثال مثال من حال نساء الصحابة وكيف كن يخدمن أزواجهن فعن [أسماء بنت أبى بكر] رضى الله عنهما قالت تزوجني [الزبير] وما له في الأرض من مال ولا مملوك ولا شيء غير ناضح وغير فرسه فكنت أعلف فرسه واستقى الماء وأخرج غرضه والغرض أي أخيط دلوه وأعجن ولم أكن أحسن أخبز وكان يخبز جارات لي من الأنصار وكنا نسوة صدق وكنت أنقل النوى من أرض الزبير الذي أقطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأسي وهي مني على ثلثي فرسخ فجئت يوما والنوى عل رأسي فلقيت رسول الله ومعه نفر من الأنصار فدعاني ثم قال اخ اخ كلمة تقال للبعير ليبرك اخ اخ ليحملني خلفه فاستحييت أن أسير مع الرجال وذكرت الزبير وغيرته وكان أغير الناس فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أنى قد استحييت فمضى فجئت الزبير فقلت لقيني رسول الله وعلى رأسي النوى ومعه نفر من أصحابه فأناخ لأركب فاستحييت منه وعرفت غيرتك فقال والله لحملك النوى كان أشد عليّ من ركوبك معه حتى تقول أسماء حتى أرسل إلى [أبو بكر] بعد ذلك بخادم تكفيني سياسة الفرس فكأنما أعتقني انظري أيتها المرأة كيف كن رضوان الله تعالى عليهن يحرصن على خدمة الزوج؟ اليوم البيوت مليئة بالخادمات وبالسائقين وربما الأطفال أيضا يجلس عندهم في الصباح وكثير من مشاغل البيت يقوم بها كثير من الخدم والحشم والمرأة لا تدرى ماذا تفعل ولذلك كثر وقت الفراغ عند المرأة فلما كثر الفراغ كثرت الهموم والمشاكل والوساوس وبالتالي كثرت المشاكل بين الزوجين فانظري أيتها الصالحة إلى حال هذه المرأة الصالحة وكيف كانت تقوم بخدمة زوجها وبيتها .
فمها يرتل آي ربك بينما
يدها تدير على الشعير رحاها
بلت وسادتها لآلئ دمعها
من طول خشيتها ومن تقواها
[محمد إقبال] في وصف [فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم] وهى تقوم بأعمال المنزل وينبغى ... أن تتصف بذلك كل زوجة مؤمنة.
ومن الأساليب أيضا من أساليب السحر الحلال في الوظيفة فإياك أنت تكون الوظيفة سببا لزعزعة الأسرة إياك إياك أيتها المرأة أن تكون الوظيفة سببا لزعزعة الأسرة والكلام هنا يطول ولكنى أكتفي بما يناسب الموضوع وأترك بقيته في موضوع آخر أسأل الله أن ييسره بعنوان أخطار تهدد المرأة وعمل المرأة بالشروط التالية أن يكون مباحا أن يناسب المرأة إلا تختلط بالرجال أن تلتزم حجابها الشرعي أن تراقب الله فيه وهو أهمها الشرط الثالث أن لا يؤثر العمل سلبيا على مهمتها الأولى والذي يهمنا هنا هو الأخير هل تستطيع المرأة حقا الجمع بين حق الزوج والأولاد وبيتها وبين الوظيفة الأمر يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال والأمكنة والأزمان ولسنا نستطيع ذكرا تفصيليا فيه يقول سماحة الشيخ [عبد العزيز بن باز] حفظه الله تعالى أن عمل المرأة بعيد عن الرجال إن كان فيه مضيعة للأولاد وتقصير بحق الزوج من غير اضطرار شرعي لذلك يكون محرما لأن ذلك خروج على الوظيفة الطبيعية للمرأة وتعطيل للمهمة الخطيرة التي عليها القيام بها مما ينتج عنه سوء بناء الأجيال وتفكك عرى الأسرة التي تقوم على التعاون والتكامل والتضامن ومساهمة كل من الزوجين بما هيئ الله له من الأسباب التي تساعد على قيام حياة مستقرة آمنة مطمئنة يعرف فيها كل فرد واجبه أولا وحقه ثانيا انتهى كلامه حفظه الله تعالى فعلى المرأة أن تراجع نفسها وتراقب ربها وتتقى الله في حق زوجها وأطفالها وإن اضطرها ذلك لترك العمل فليس كثيرا فمن ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه هذا ما أستطيع قوله هنا والموضوع فيه أخذ ورد ولكن قبل ترك هذا العنصر إليك هذه الصورة .
نهارها بالمدرسة أطفالها عند الخادمة طعامهم تعده الخادمة وربما تطبخ بالليل غداء النهار في الظهر متعبة جدا وفى العصر نائمة وربما في زيارة في الليل تحضير للدروس واهتمام بالرءوس ثم هي متعبة فترمى بنفسها على فراشها جثة هامدة وزوجها المسكين ينظر إليها بعين الشفقة والرحمة واللوم والعتاب فما يملك إلا أن يتجرع الهم وعليه بالصبر ولا ينسى الصوم فإنه له وجاء والفتن في كل مكان ففي الأسواق نساء وفى المحلات نساء وفى التلفاز نساء وفى وسائل الإعلام نساء ومن فوقه نساء ومن تحته نساء وعن يمينه نساء وعن شماله نساء والنبي صلى الله عليه وسلم يقول "وما تركت بعدى فتنة هي أضر على الرجال من النساء " وإياك وإياك مجرد التفكير في التعدد فستغضب عليك النساء إذن فما العمل عليك بقراءة القرآن لكن احذر سورة النساء لا شيء يشوب المرأة مثل صدها عن زوجها ولا شيء يشينها مثل صبر زوجها عليها .(/124)
ومن الأساليب أيضا إعانته على طاعة الله وحثه على فعل الخيرات وإليك هذه الوصية إليك أيتها الصالحة هذه الوصية أقول كل خلاف يجرى بين الزوجين إنما هو بمعصية الله فاحذري المعاصي وطهري بيتك من كل ما يغضب الله واسمعي قول الحق عز وجل ( وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير ) فمن أعظم نتائج السحر الحلال وتأثيره يوم أن تكون بجمالها ورقتها وأنوثتها وعذوبة ألفاظها وحسن تعاملها سببا في فلاح زوجها وإعانته على طاعة الله وحثه على الأعمال الصالحة وإلا فاحذري فإن من أعطاك هذه النعم قادر على إزالتها بكن فيكون فكوني شاكرة لهذه النعم وتذكري قول الحق ( وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد ) تذكري وانظري من حولك من النساء كم من البيوت هدمت بسبب كثرة المعاصي اللاتي يقعن فيها أو اللاتي امتلأت البيوت بها فانتبهي رعاك الله واسمعي أيتها الغالية قالت كنا معا في أطيب حال وأهنأ بال زوجين سعيدين متعاونين على طاعة الله وعندنا القناعة والرضا طفلتنا مصباح الدار كركراتها تفتح الزهور إنها ريحانة تهتز فإذا جن علينا الليل ونامت الصغيرة قمت معه نسبح الله يؤمني ويرتل القرآن ترتيلا وتصلي معنا الدموع في سكينة وخشوع وكأني أسمعها وهي تفيض قائلة أنا إيمان فلان وفلانة وذات يوم أردنا أن تكثر فيه الفلوس اقترحت على زوجي أن نشتري أسهما ربوية لتكثر منها الأموال فندخرها للعيال فوضعنا فيها كل ما نملك حتى حلي الشبكة ثم انخفضت أسهم السوق وأحسسنا بالهلكة فأصبح الريال قرشا وشربنا من الهموم كأسا وكثرت علينا الديون والتبعات وعلمنا أن الله يمحق الربا ويربي الصدقات وفى ليلة حزينة خوت فيها الخزينة تشاجرت مع زوجي وطلبت منه الطلاق فصاح أنت طالق أنت طالق فبكيت وبكت الصغيرة وعبرت دموعي الجارية تذكرت جيدا يوم أن جمعتنا الطاعة وفرقتنا المعصية إذن فيا أيتها الزوجة لا يختلف اثنان على أن المعصية تجلب الهم والغم وتورد الشقاء والتعاسة وتجلب سوادا في الوجه وقسوة في القلب وتتبدل السعادة إلى شقاء والحب إلى كره إلى غير ذلك قال أحد السلف واسمعي جيدا اسمع أيها الرجل قال أحد السلف إني لأعصي الله فأرى ذلك في خلق امرأتي ودابتي قال [ابن القيم]:
وللمعاصي من الآثار القبيحة المذمومة المضرة في القلب والبدن في الدنيا والآخرة ما لا يعلمه إلا الله ومن المعاصي التي انتشرت وكانت سببا في شقاء كثير من البيوت .
أولا: ترك الصلاة وتأخيرها عن وقتها خاصة من المرأة ثم ثانيا امتلاء البيوت بوسائل الإعلام الفاسدة التلفاز الفيديو وربما الدش ثالثا مشاهدة الأفلام واستماع الأغاني وشراء وقراءة المجلات الماجنة دخول السائق والخادمة إلى المنزل بلا ضرورة الخروج إلى الأسواق بملابس الزينة وبدون محرم الأزياء الفاضحة والتشبه بالكافرين وغيرها من الآثام والمعاصي اعلمي أيتها الزوجة أن دور الزوجة في تقوى زوجها المسلم وثباته على دينه وعطائه لدعوته دور هام وخطير وإنا لنعلم عددا غير قليل من الشباب الدعاة والمتحمسين الباذلين بردت حماستهم وقل بذلهم بعد زواجهم حتى إن بعض الاخوة وصف الزواج بأنه مقبرة الدعاة وعلى هذا فإن دورك أيتها الأخت المتزوجة في زيادة إيمان زوجك أو نقصانه دور فاعل احرصي دائما على تذكير زوجك بالإشارة اللطيفة والتوجيه غير المباشر بصلاة الجماعة وصيام النافلة وفعل الخير والصدقة وكوني عونا له على ذلك ولا تكوني عامل فرط وتفريط حدثيه عن جاركم الذي يحرص على صلاة الفجر جماعة في المسجد دون أن تقولي له لماذا لا تفعل مثله اكتفي بتلك الإشارات غير المباشرة أخبري عن زوج صديقتك فلانة وحرصه على صيام الاثنين والخميس دون أن تطلبي منه صيام الاثنين والخميس استعملي سحرك للتأثير عليه فإنك قادرة على ذلك وكم شكت كثير من النساء حالهن مع أزواجهن ولكن تغيرت أحوالهن لما عرفن كيف يتعاملن مع أزواجهن ثم إليك أيتها الساحرة بعض أساليب السحر الحلال لكن على عجل لضيق الوقت منها: أن تتصرف -أي المرأة -أن تتصرف حسب رغبته أن تكون حافظة لمال زوجها فلا ترهقه بكثرة طلباتها. من أكثر الأسباب التي تهدد الحياة الزوجية في كثير من الأسر طلبات المرأة المالية التي تفوق قدرات الزوج ويكون ذلك تقليدا أعمي لبعض الصديقات أين هؤلاء النسوة من قول الحكيم الخبير ( لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما أتاه الله ) أن تتعرف على كل ما يفرحه وتكثر منه، أن تنتقي ألطف الكلام وأحلاه عند التحدث والجلوس معه أن تكون حريصة على إشعاره بالحب والاحترام والتقدير له من واجب الزوجة احترام زوجها وتقديره في المعاملة والخطاب(/125)
يروى عن ابنة [سعيد بن المسيب] ما كنا نكلم أزواجنا إلا كما تكلمون أمراءكم أن تراعي أقاربه وأهله وتقديره وخاصة والديه وإخوانه أن لا تخرج المرأة من بيت زوجها ألا بإذنه وألا تدخل البيت أحدا إلا من يرضى له الزوج وألا تصوم تطوعا وزوجها حاضر إلا بأذنه وألا تنفق من ماله إلا بإذنه أو برضاه والأحاديث في الأمور الآنفة الذكر كثيرة لا يتسع المجال لذكرها .
وأخيرا قصص ومواقف سريعة .
امرأة تخطب في ليلة زفافها اجتمع ذات مرة اثنان من العلماء هما [الشعبي] و[شريح] فنصح شريح الشعبي بان يتزوج من نساء بني تميم فقال شريح يا شعبي عليك بنساء بني تميم فإني رأيت لهن عقولا قال الشعبي وما رأيت من عقولهن فحكى له شريح أنه مر ذات يوم بامرأة عجوز على باب دار وبجوارها جارية جميلة فطلب منهما أن تسقياه فقالت الجارية لشريح أي الشراب أحب إليك قال شريح ما تيسر قالت العجوز ويحك أيتها الجارية ائتيه باللبن فإني أظن الرجل غريبا ثم سأل شريح العجوز عن الجارية وعرف اسمها واسم أبيها وعلم أنها غير متزوجة فتقدم إلى أهلها وطلبها منهم فزوجوه منها قال شريح فلو رأيتني يا شعبي وقد أقبل نساؤهم يهدينها حتى أدخلت علي فقلت إن من السنة إذا دخلت المرأة على زوجها أن يقوم فيصلي ركعتين فيسأل الله من خيرها ويعوذ به من شرها فصليت وسلمت فإذا هي من خلفي تصلى بصلاتي لما قضيت صلاتي أتتني جواريها فأخذن ثيابي وألبستني ملحفة قد صبغت في عقد العصفر فلما خلا البيت دنوت منها فمددت يدي إلى ناحيتها فقالت على رسلك يا أبا أمية كما أنت ثم قالت خطبة: الحمد لله أحمده وأستعينه وأصلي على محمد و آله المرأة تقول ذلك في ليلة دخلتها تقول الحمد لله أحمده وأستعينه وأصلي على محمد وآله إني امرأة غريبة لا علم لي بأخلاقك فبين لي ما تحب فآتيه وما تكرهه فأزدجر عنه فقالت إنه قد كان لك في قومك منكح وفى قومي مثل ذلك ولكن إذا قضى الله أمرا كان وقد ملكت فاصنع ما أمرك الله به إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولك قال شريح فأحوجتني والله يا شعبي إلى الخطبة في ذلك الموضع فقلت الحمد لله أحمده وأستعينه وأصلي على محمد النبي وآله وسلم وبعد فإنك قد قلت كلاما إن تثبتي عليه يكن ذلك حظك وإن تدعيه يكن حجة عليك أحب كذا وأكره كذا ونحن جميعا فلا تفرقي وما رأيت من حسنة فانشريها وما رأيت من سيئة فاستريها وقالت كيف محبتك لزيارة الأهل قلت ما أحب أن يملني أصهاري قالت فمن تحب من جيرانك أن يدخل دارك آذن له ومن تكرهه أكرهه قلت بنو فلان قوم صالحون وبنو فلان قوم سوء ثم ذكر شريح للشعبي أنه مكث مع زوجته لا يري منها إلا ما يحبه حولا كاملا وفي نهاية الحول زارته امرأة عجوز قريبة زوجته وهى التي كانت قد قامت بتربيتها في صغرها قالت العجوز السلام عليك أبا أمية قال شريح وعليك السلام من أنت قالت العجوز أنا فلانة خدنك قال شريح قربك الله قالت العجوز كيف رأيت زوجتك قال شريح خير زوجة قالت العجوز أبا أمية إن المرأة لا تكون أسوء منها في حالتين إذا ولدت غلاما أو حظيت عند زوجها فإن رابك ريب فعليك بالسوط فوالله ما حاز الرجال في بيوتهم شرا من المرأة المدللة قال شريح أما والله لقد أدبت فأحسنت الأدب ورضت فأحسنت الرياضة قالت العجوز أتحب أن يزورك خلانك قال شريح متى شاءوا قال شريح فكانت تلك العجوز تأتيه في رأس كل حول وتوصيه تلك الوصية ثم ذكر شريح القاضي للشعبي أنه لم يجد من تلك الزوجة ما يغضبه لمده عشرين سنة إلا مرة واحدة فقط كان هو المخطئ والسبب في الخطأ الذي أغضبه وذلك أنه كان إمام الحي يصلي بالناس فأخذ المؤذن في إقامة صلاة الفجر فشعر أبو أمية شريح بعقرب تدب وتتحرك فأخذ إناء وأكفأه عليها وقال شريح لزوجته زينب يا زينب لا تتحركي حتى آتي فالتزمت زينب المرأة المطيعة لزوجها لكلامه ولم تتحرك كما قال لها وكان ذلك سببا في أن خرجت العقرب من تحت الإناء ولدغتها في إصبعها لك أن تتصوري أيتها المرأة وتتأملي مثل هذا الموقف الجميل خذي العبر والدروس من هذه القصة وانظري فيها فإنك تملكين كثيرا من وسائل ترويض الزوج واسمعي أيضا لهذا الموقف الأخير والجميل كيف أن المرأة قادرة على ترويض زوجها يحكى أن امرأة كانت تعيش في خلاف تام مع زوجها فذهبت في ذات يوم إلى صديقة لها وشرحت لها حالها مع زوجها عندئذ نصحتها الصديقة أن تذهب إلى حكيم لعله يستطيع أن يبعد عن بيتها تلك الخلافات فذهبت المرأة إلى الحكيم وعرضت عليه مشكلتها ووعدها الرجل أن يساعدها على شرط أن تحضر له ثلاث شعرات من جسم أسد وخرجت المرأة من عنده وهي تفكر في وسيلة تحضر بها ثلاث شعرات من جسم الأسد فأخذت حملا وراحت إلى الغابة وعندما هجم عليها الأسد رمت بالحمل فأخذ يلتهمه وانصرف عنها وأخذت المرأة تفعل هذا الفعل كل يوم حتى ألفها الأسد وأصبح يقترب منها في ود وذات يوم ربتت المرأة على ظهر الأسد فوجدت نفسها قادرة على ثلاث شعرات من(/126)
لبدته فأخذتها على الفور وذهبت إلى الحكيم فلما رأى الحكيم الشعرات الثلاث قال لها إذا كنت استطعت أن تروضي الأسد أفلا تستطيعين أن تروضي زوجك فأقول لنساء المسلمين اليوم إن بمقدورك أن تروضي زوجك كيف شئت متى إذا أحسنت استعمال السحر الحلال الذي وهبه الله إياك وأخيرا ليعلم كل من الزوجين أن الحياة الزوجية فن جميل قل من يعرفه بل هي عبادة لله عز وجل . من المهم جدا أن يتذكر الزوجين أن الحياة هي فن ممكن فليرض كل منهما بما قسمه الله له وليحاول الوصول إلى أفضل ما يمكن في حدود المتاح فليتق الله كل منهما في الآخر فإن الحياة السعيدة يبنيها كل منكما فتأملا الأساليب الآنفة الذكر وكررا سماعها وتعاهدا على المعاشرة بحلوها ومرها فأنت بسحرك الحلال وأنت بفن التعامل وحسن الخلق وإلا فقد تتعرض الأسرة إلى هزات عنيفة كثيرا ما تؤدى إلى زعزعة أركانها وتشريد أطفالها.
أسأل الله عز وجل أن يجمع بين كل زوجين أن يجمع بين كل قلبي زوجين على خير وأن يبارك لهما في حياتهما وأن يسعدهما في الدنيا والآخرة هو ولى ذلك و القادر عليه.
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كبيرا.
بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادى له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ـ صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً ـ أما بعد أيها الأحبة في الله السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وهذا هو الدرس الثامن والعشرون من سلسلة الدروس العلمية العامة والتي ينظمها المكتب التعاوني لمدينة <الرس> وفي هذا الجامع المبارك في ليلة الاثنين الموافق للتاسع عشر من شهر صفر للعام السادس عشر بعد الأربعمائة والألف ومع هذا الموضوع الذي هو بعنوان توجيهات وأفكار في تربية الصغار وهذا الموضوع هو ضمن سلسلة سبق أن بدأنا بها وهي سلسلة وسائل وتوجيهات وقد كانت الحلقة الأولي بعنوان أربعون وسيلة لاستغلال رمضان ثم أربعون وسيلة لاستغلال موسم الحج ثم أربعون وسيلة لاستغلال الإجازة الصيفية ثم هذه هي الحلقة الرابعة وهي أيضا أربعون وسيلة وهذه التوجيهات وهذه الأفكار هي مجموعة توجيهات وأفكار ووسائل في تربية الصغار كنت قد جمعت شيئاً منها في درس قبل خمس سنوات تقريباً وكان يراودني تجديد هذا الدرس وإلحاق بعض الوسائل والتوجيهات وكان للتسويق والانشغال وقلة البضاعة دور في التأخير حتى وقع بين يدي بحث تكميلي لنيل درجة الماجستير بعنوان مسئولية الأب المسلم في تربية الولد في مرحلة الطفولة ،والحق يقال فهو كتاب جامع فريد أنصح الآباء والأمهات بالقراءة فيه والنظر والاستفادة منه فقد جمع صاحبه الأستاذ/ عدنان حسن باحارث كثيراً من الفوائد والشوارد والتوجيهات والتجارب لعلماء التربية والمتخصصين في هذا الشأن جزى الله كاتبه خير الجزاء ونفع الله به ورعاه ولو كمل هذا الكتاب بتخريج الأحاديث والآثار فيه والحكم عليها من متخصص في هذا الفن لزاد العقد بهاء وجمالاً وقد استفدت منه كثيراً في هذا الموضوع الذي أسأل الله ـ عز وجل ـ أن ينفع به الآباء والأمهات في وقت تخلى كثير منهم عن هذه المسئولية العظيمة تربية الأبناء فالأب في وظيفته وتجارته وربما الأم في وظيفتها وزياراتها والضحية هم الأولاد وربما تُركوا للأعاجم والجهال من السائقين والخادمات ألا تتق الله أيها الأب واتق الله أيتها الأم فإنكما مسئولان أمام الله عن هذه الأمانة وتذكرا جيداً هذا الموقف عند السؤال والحساب قال ـ صلى الله عليه وآله سلم ـ في الحديث المشهور "كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته فالإمام راع ومسئول عن رعيته والرجل راع في أهله ومسئول عن رعيته والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها" إلي آخر الحديث والحديث متفق عليه وقال ـ صلى الله عليه وآله سلم ـ "ما من عبد يسترعيه الله رعية فلم يحطها بنصحه إلا لم يجد رائحة الجنة" والحديث أيضاً متفق عليه وقال تعالى (يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون) إذاً فاعلما أن مسئولية تربية الأولاد بينكما مشتركة تقتضي التعاون والتفاهم واعلما أيضاً أن مرحلة الطفولة مرحلة مهمة جداً في توجيه الولد وتأديبه قال ]الإمام الماوردي[ مؤكداً على هذا المعنى فأما التأديب اللازم للأب فهو أن يأخذ ولده بمبادئ الآداب ليأنس بها وينشأ عليها فيسهل عليه قبولها عند الكبر لاستئناسه بمبادئها عند الصغر لأن نشأة الصغير على شيء تجعله متطبعاً به ومن أُغفِل في الصغر كان تأديبه في الكبر عسيراً وإليك مقطوعة [لأحمد شوقي] تلخص هذا المعنى وتعرضه في أبهى صورة يقول:(/127)
بين الحديقة والنهر وجمال ألوان الزهر
سارت مها مسرورة مع والد حان أبر
فرأت هنالك نخلة معوجة بين الشجر
فتناولت حبلاً وقالت يا أبي هيا انتظر
حتى نقوم عودها لتكون أجمل في النظر
فأجاب والدها لقد كبرت وطال بها العمر
ومن العسير صلاحها فات الأوان ولا نفر
قد ينفع الإصلاح والتهذيب في عهد الصغر
والنشء إن أهملته طفلاً تعثر في الكبر
وأول هذه التوجيهات الحرص على تعويده على مراقبة الله وغرس ذلك في نفسه كل لحظة وتخويفه بالله سبحانه وتعالى لا بأبيه ولا بالحرامي ولا بالبعبع كما تفعل كثير من الأمهات فإن الصغير يتعلق بالله فلا يرجو إلا الله ولا يخاف إلا الله وهذا ما يسميه علماء التربية بالوازع الديني وهذا جانب مهم جداً يغفل عنه الآباء والأمهات واسمع لقول الحق ـ عز وجل ـ حاكياً عن [لقمان] وهو يؤصل هذا الجانب في نفس ولده يقول سبحانه وتعالى على لسان لقمان (يا بنى إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله إن الله لطيف خبير) انظر للتربية العميقة ملءُ نفس الولد بعظمة الله بعظمة علم الله واطلاعه عليه حتى وإن كانت هذه الحبة في حقارتها لا وزن لها ولا قيمة ولو كانت هذه الحبة داخل صخرة صلبة محشورة أو كانت هذه الحبة في السماوات؛ ذلك الكيان الهائل الشاسع الذي يبدو فيه النجم الكبير ذرة تائهة فكيف بهذه الحبة الحقيرة أو حتى كانت هذه الحبة في الأرض ضائعة فإن الله سبحانه وتعالى سيبديها ويظهرها بلطيف علمه فأين الآباء والأمهات عن هذه التربية أقول عن هذه التربية املأ قلب صغيرك بخوف الله وأخبره بأن الله يراه في كل مكان وأنه مطلع عليه في كل حال فإذا كذب قل له إن الله يعلم ما تخفى وأن الكاذب في النار وإذا سرق قل له إن الله يراك وأن الله يغضب على السارق وإذا عصاك فقل له إن الله يغضب عليك وإذا أطاعك فقل له إن الله يحبك وإذا…... هكذا في كل أفعاله ذكره بالله سبحانه وتعالى إذاً لنربي أبناءنا على هذا المنهج ثم بعد ذلك أطلق له العنان فكلما حدثته نفسه بأمر سوء تذكر أن الله ـ عز وجل ـ معه يراه ويعلم ما يصنع.
ويؤكد النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ على هذا المنهج فنجده يوصي [ابن عباس] وهو صغير فيقول له ـ صلى الله عليه وآله وسلم "يا غلام ـ وفي رواية يا غليم ـ إني أعلمك كلمات احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده أمامك إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك وأن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك رفعت الأقلام وجفت الصحف" هكذا كان ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ يغرس هذه المعاني الجميلة في نفس ابن عباس وهو صغير. [حماد بن زيد] يقول كنت أسير مع أبي فمررنا بجدار فيه تبن فأخذت عود تبن فقال لي أبي لم أخذت؟ ينهوني.. فقلت إنه عود تبن فقال أبي: لو أن الناس كلهم مروا من هاهنا فأخذوا عود تبن هل كان يبقى في الجدار تبن يا بنى هل كان يبقى في الجدار تبن؟ هكذا كانوا يربونهم على أحقر الأشياء لا تمتد اليد على أحقر الأشياء حتى إذا كبر لا تمتد يده على أصغر الأشياء أو على أي شيء مهما كان صغيراً أو كبيراً [سهل الدستوري] يقول كنت مع خالي صغيراً وكان يقول لي وأنا ابن ثلاث سنين يقول لي انظر ألا تذكر الله الذي خلقك قال كيف أذكره قال لي خالي [محمد بن سوار] قل بقلبك من غير أن تحرك به لسانك الله معي الله ناظر إلي الله شاهدي ثلاثا ثم سبعا ثم أحد عشر.
تأصيل رقابة الله ـ عز وجل ـ في نفس الصغير حتى وإن كان ابن ثلاث سنين ، بائعة اللبن تقول لأمها يا أماه إن كان أمير المؤمنين لا يرانا فإن رب أمير المؤمنين يرانا..
فعلم الصغير من هو الله وأنه هو الذي خلقه وأنعم عليه ليمتلئ قلبه بحب الله فيحرص بعد ذلك أن لا يغلب الله بقول أو فعل ذكر [ابن سعد] في الطبقات أن [أم سُلَيْم] كانت تلقن [أنسا] ولدها الشهادتين قبل أن يبلغ سنتين.(/128)
التوجيه الآخر التأكيد على تعليمه للوضوء والصلاة وأن أخطر شيء نلحظه اليوم على صغارنا هو إهمال هذا الجانب فتجد غالب الأولاد يبلغ العاشرة من عمره لا يعرف كيف يصلي فهذا أمر مشاهد محسوس فانظر إليهم في المساجد عند ركوعهم وسجودهم ولعبهم وضربهم لبعض فلماذا لا يجلس الأب أو الأم وقتاً يسيراً لتعليم صغارهم هذا الركن العظيم وذلك بالتطبيق العلمي أمامه ثم ليطبق الولد ما يراه فإن أخطأ وَجّهَهُ أو وجِّهه بدون تعنيف ؛ إن أولادنا الصغار كثيراً ما يندفعون لتقليد آباءهم وأمهاتهم في الصلاة فيقفون بجوارهم ويفعلون كما يفعل آباؤهم ولذلك نوصي الأب بأن يحرص على صلاة النوافل والرواتب في البيت بل هذه هي السنة فقد قال ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ "صلوا أيها الناس في بيوتكم فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا الصلاة المكتوبة" والحديث أخرجه [البخاري] في صحيحه من حديث [زيد بن ثابت] وفي هذا فوائد كثيرة في صلاة النافلة في البيوت فوائد كثيرة منها تشجيع الزوجة والأهل على العبادة وإحياء البيت وطرد الشياطين وكثرة مشاهدة الصغار والدهم وهو يصلى وهذا ما يسمى عند علماء التربية بأسلوب التربية بالعادة وهو من أسهل الأساليب وأفضلها.
وكم نغفل عن هذا المنهج النبوي في أمر الصلاة فقد قال ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ "مروا أولادكم بالصلاة لسبع واضربوهم لعشر وفرقوا بينهم في المضاجع" إذاً في هذا الحديث يمر الصغير بثلاث مراحل قبل السبع وهذا أمر مندوب إليه أن يشجع الصغير بالتلميح والتعرض للصلاة وما بعد السبع وهنا يجب على الأب وعلى الأم أن تعلم أو يعلم صغيرهما على الصلاة وأركانها وما يقول فيها ثم المرحلة الثالثة عند العشر وما بعدها فإن لم يستجب الصغير فكما قال النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ "فاضربوهم عليها لعشر" ولا يستعمل العقاب البدني ـ أي الضرب ـ إلا بعد فشل جميع الوسائل والعقوبات الأخرى من وعظه وتعنيفه وهجره أي لا يكلمه ولا يمازحه ويحرمه بعض ما يحب.
وكم نقع في أخطاء تربوية جسيمة مع الصغار في أمر الصلاة بدون أن نشعر ومن هذا الحرص مثلا الحرص الشديد على إيقاظه للمدرسة والاهتمام بذلك ألا يتأخر لحظات وربما عقابه لو تأخر أما صلاة الفجر فتأخذ الأم الشفقة والرحمة بإيقاظ ولدها لها أي لصلاة الفجر فلا يصليها إلا عند ذهابه للمدرسة مع أن الولد بلغ العاشرة وتجب عليه الصلاة في وقتها مع جماعة المسلمين ولا شك أن الأم آثمة في مثل هذا الفعل وأن الشفقة والرحمة في إيقاظه وصلاته مع المسلمين ولذلك قال الحق ـ عز وجل ـ (يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا) فإذا أردنا الشفقة ووقاية أولادنا لا شك أن ذلك بحرصهم أو بتعليمهم وبتأكيد أهمية صلاة الفجر مع المسلمين في وقتها.
وكما يروى في سيرة [الإمام أحمد] أن أمه كانت توقظه في ثلث الليل الأخير فتسخن له الماء ليصلي ما شاء الله أن يصلي ثم إذا أذن لصلاة الفجر أخذت بيده وسارت معه حتى أدخلته المسجد ثم قبعت عند عتبة المسجد تنتظر صغيرها حتى ينتهي من الصلاة فإذا انتهى أخذت بيده وأرجعته إلي بيتها هكذا كانت الأم رضوان الله تعالى عليهن في الحرص على تربية الصغير والاهتمام به ولذلك كان خلف [الإمام أحمد] من خلفه من أم صالحة تحرص على تربية هذا الصغير تربية ربانية.
ثالثاً من توجيهات القدوة الصالحة:
فإن الصغار يبدءون التقليد من السنة الثانية أو قبلها بقليل وهم يتعلمون بالقدوة والمشاهدة أكثر مما نتصوره فالطفل يحاكى أفعال والده والطفلة تحاكى أفعال أمها وهذا يؤكد أموراً عدة منها ألا نظهر أمامه إلا بصورة حسنة
وليس النبت ينبت في جنان
كمثل النبت في الفلاة
وهل يرجى لأطفال كمال
إذا ارتضعوا ثدي الناقصات(/129)
فانتبهي أيتها الأم لأفعالك وأقوالك خاصة أمام صغارك ثم أيضاً الابتعاد عن المتناقضات في الحياة فإنها تهلك الطفل وتمزق نفسيته وخذ أمثلة على ذلك المدرس يحذر الطفل من الدخان ومن التدخين مثلاً وخطره وأنه محرم يغضب الله ـ عز وجل ـ ثم إذا رجع الطفل إلي بيته وجد أباه يدخن وأخاه أيضاً فما رأيكم وما هو تأثير ذلك على هذه النفسية وأيضاً الطفل يسمع عن الصلاة وأهميتها وأن تركها جريمة وكفر ثم يرى والده أو أخاه لا يصلون أولا يحرصون عليها هذا في أمور العبادة وخذ أمثلة في الأمور الاجتماعية عند إعطائه علاجا مراً مثلاً ماذا تفعل الأم تؤكد لصغيرها أن هذا العلاج حلو؛ فإذا شربه الصغير وإذا به مراً علقماً وانظر لتأثير ذلك في نفسية الصغير ،أو لو أن الطبيب مثلاً كتب حقنة أو إبرة لذلك الصغير فربما أن أباه قال للصغير إنها لا تؤلم أو مَثَّلَ ذلك له بشيء ما فإذا بالصغير عندما تضرب هذه الحقنة يجد ألمها في نفسه ولك أن تتصور كيف تكون نفسية هذا الصغير أو ربما أيضاً عند غيابه عن المدرسة بسبب نومه ونوم أيضاً والده فغاب هذا الصغير هذا اليوم عن المدرسة فإذا بأبيه غداً يأخذ بيد الصغير فيدخل على مدير المدرسة فيقول له مثلاً إن الصغير أو إن فلاناً كان مريضاً ويسمع الصغير هذه الكلمات فماذا ستحدث هذه الكلمات في نفس هذا الصغير وهو يعلم أنه لم يكن مريضاً ؟
هذه أمثلة فأي جريمة نرتكبها بحق هؤلاء الصغار ونحن لا نشعر إنك مهما وعظت ومهما سمعوا من المدرسين فإنهم لن يحملوا في داخل نفوسهم سوى الصور التي يرونها أمامهم إن خيراً فخير وإن كان شراً فشر .
وقد تنبه السالف الصالح رضوان الله تعالى عليهم إلي هذا الأمر وأهميته فهذا [عمرو بن عتبة] ينبه معلم ولده لهذا الأمر فيقول ليكن أول إصلاحك لولدي إصلاحك لنفسك فإن عيونهم معقودة بعينك فالحسن عندهم ما صنعت والقبيح عندهم ما تركت. إذاً فليسمع الآباء ولتسمع الأمهات وليسمع المدرسون ولتسمع المدرسات إنكم مهما قلتم فأولادكم وطلابكم يفعلون ما فعلتم فالله الله في القدوة وأن الأزمة التي يعيشها التعليم اليوم بل الأمة أجمع هي أزمة قدوات.
توجيه آخر: الدعاء ، للدعاء واللجوء إلي الله ـ عز وجل ـ أثر عجيب في صلاح الأولاد واستقامتهم ولقد كان الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أكثر الناس دعاء له بإصلاح أولادهم فهذا إبراهيم عليه السلام يقول كما يخبر الله عنه (واجنبني وبني أن نعبد الأصنام) وهذا زكريا يقول كما يخبر الله عنه أيضاً (قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء) ويقول الله ـ عز وجل ـ على لسان إبراهيم عليه السلام (رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء) ويخبر الله سبحانه وتعالى على لسان المؤمنين الصالحين (ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماماً ) واحذر واحذري أيتها الأم من الدعاء على الأولاد خاصة أنت أيتها الأم خاصة عند الغضب فربما أطلقت الأم للسانها العنان في السب واللعن فعن [أبي هريرة] ـ رضي الله تعالى عنه ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ قال : "ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن دعوة الوالد لولده ودعوة المسافر ودعوة المظلوم" والحديث أخرجه [أبو داود] و[الترمذي] و[ابن ماجة] وقال الترمذي هذا حديث حسن وقال ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ" لا تدعوا على أنفسكم ولا تدعوا على أولادكم ولا تدعوا على خدمكم ولا تدعوا على أموالكم لا توافقوا من الله ساعة يسأل فيها عطاء فيستجاب لكم" والحديث أخرجه [ابن حبان] في صحيحه وصححه [الألباني] في صحيح الجامع وهذا نهي صريح في عدم الدعاء على الأولاد فأكثروا أيها الآباء والأمهات من الدعاء لأولادكم وألحوا عليه في ركوعكم وسجودكم واستعينوا بالله في تربيتهم فإنه خير معين وإذا استعنت فاستعن بالله.
توجيه آخر وهو الخامس الحرص على تعويذ الأولاد وتعليمهم الأذكار فعن [ابن عباس] ـ رضي الله عنهما ـ قال كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يُعَوِّذَ [الحسن] و[الحسين] ويقول "إن أباكما كان يعوذ بها [إسماعيل] و[إسحاق] أعوذ بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة" والحديث أخرجه [البخاري] في صحيحه في كتاب الأنبياء وعند [البيهقي] في الآداب بلفظ كان صلى الله عليه وسلم يعوذ [حسنا] و[حسينا] فيقول "أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة، ويقول صلى الله عليه وسلم عوذوا بها أولادكم فإن إبراهيم عليه السلام كان يعوذ بها إسماعيل وإسحاق عليهما السلام "ولذلك ليحرص الوالدان على تشجيع صغارهم على تعلم الأذكار وحفظها ومن أفضل الوسائل لذلك ما يلي:(/130)
القدوة: أن يري الصغار حرص آبائهم وأمهاتهم على الذكر، ثم أيضاً أن يرفع الأب والأم أصواتهما ليسمع الصغار فإذا سمع الصغار كثرة الذكر بلسان الأب أو بلسان الأم تجد أن الصغير يردد هذه الأذكار بدون أن يشعر ثم أيضاً الحرص على اختيار القصير من الأذكار وأيسرها لفظاً فعند النوم مثلاً رددي أيتها الأم على الصغير أو على الصغار قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ" ربي قني عذابك يوم تبعث عبادك" أو رددي قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ "باسمك اللهم وضعت جنبي وباسمك اللهم أرفعه."
أيضاً استغلال الأوقات وبعض المناسبات السارة لتلقينهم بعض الأذكار كالخروج للنزهة في البر أو الحدائق وتعليمهم دعاء نزول المكان أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق ثم أيضاً وضع المسابقات والحوافز التشجيعية والهدايا كلما حفظ الصغير شيئا من هذه الأذكار وسيرى الوالدان بعد فترة قصيرة أن الصغير يعتمد على نفسه بترديد هذه الأذكار بل أقول ربما ذكّر هو أمه أو أباه بهذه الأذكار.(/131)
ومن التوجيهات أيضاً الحذر من جهاز التلفاز عامة ومن أفلام الكرتون أو الصور المتحركة خاصة وهذا موضوع يطول ولكن اسمع لهذه التوجيهات أكثر أفلام الكرتون خيالية تحمل عقائد وثنية وهذا النوع من الخرافة يفسد عقلية الطفل وتفكيره ويطبعه بطابع خيالي بعيد عن الواقع أيضاً بعض أفلام الكرتون تدور قصصها حول الحب والغرام كما هو الحال بالنسبة لمسلسلات الكبار ولك أن تتصور أثر ذلك على الطفل فهو يرى كل يوم ولعدة ساعات تلك الغراميات والقبلات سواء كانت ذلك بين ذكر وأنثى من البشر أو من الحيوانات أو الحشرات تعريض بالفاحشة وتحريض على تكوين علاقات الحب والغرام وأيضاً بعض الأفلام تظهر أي بالصور المتحركة تظهر أو تظهر فيها علامات العنصرية وتشويه الصورة مثال ذلك أذكر قصة واحدة مثال ذلك قصة بوباى وهي تحكي البحار الأبيض الموحي شكله ولونه بالرجل الغربي صاحب الغليون وصراعه المستمر مع خصمه الأسمر الشرير ذي الشعر الأسود واللحية السوداء الموحي شكله ولونه بالرجل العربي ثم في النهاية الانتصار المؤزر في نهاية الصراع للأبيض صاحب الحق على الأسمر صاحب الباطل إلي آخر القصة وأقل أثر تحدثه هذه الصور المتحركة في الولد فساد التفكير والإثارة والعنف هذا فضلاً عن الإعلانات التجارية وإقبال الصغار عليها وضياع شخصية الطفل وذوبانها مع هذه الإعلانات فلم يعد لنا حتى الكبار فكيف بالصغار لم يعد لنا اختيار واستغلال للرأي أمام المؤثرات الجذابة ذات الألوان والموسيقى والكلمات القصيرة وأيضاً كم يسأل جهاز التلفاز من رسم قدوات فاسدة وبطولات زائفة لأولادنا من الفنانين والرياضيين وقد أجريت دراسة في كلية التربية بجامعة [الملك سعود] بـ>الرياض< حول المثل الأعلى والقدوة عند الطلاب فأسفرت النتائج أن أكثر قدوات الشباب من عينة الدراسة تركزت في المجال الرياضي بالدرجة الأولي ثم في مجال الأسرة بالدرجة الثانية ثم في المجال الديني مما يدل على سوء التوجيه الأسري وضعف المفاهيم المتعلقة بحسن اختيار القدوة وضعف حب الرسول صلى الله عليه وسلم في نفوس بعض الشباب وعدم استحضار شخصه الكريم على الأقل عند إجابة الاستبيان وهذا ما حدث أو أقول هذا ما حدث بالنسبة للكبار ذوي العقول المُمَيِّزَة المتعلمة فكيف بالصغار وأثر الإعلام عليهم، والحديث عن التلفاز وأخطاره كما أسلفت يطول والعجيب أن الناس على الرغم من قناعاتهم بأخطاره لا يمكن أن يتصوروا كيف يعيشون بدونه وقد تخلص أعداد كبيرة من الناس من هذه الأوهام والحيل الشيطانية وعاشوا بدون تلفاز عيشة هنية سعيدة بل والله وجدوا راحة القلب والاستقرار النفسي لما جربوا هذا وأصبح أولادهم من الأوائل والمتفوقين هذا من الناحية الاجتماعية أما من الناحية الشرعية فيكفيك لضيق الوقت هذا الحديث المفزع الذي قال فيه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ" ما من عبد يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا لم يجد رائحة الجنة " فأسألك بالله أيها الأب وأسألك بالله أيتها الأم هل إدخال مثل هذه الوسائل للبيت وعكوف الصغار عليها ليل نهار هل إدخال مثل هذه الأمور للبيت هو نصح للرعية أم غش لها هذا نصح لأولادك أم غش لهم اسأل نفسك قبل أن يسألك الله ـ عز وجل ـ عن هذا الأمر. ومن المقترحات للبديل عن التلفاز لأنني أعلم أن كثيراً من الآباء والأمهات سيقول طيب ما هو البديل إذاً للتلفاز أقول قبل أن أذكر المقترحات المسلم لا يطلب دائما البديل فإن المسلم إذا علم أن هذا الأمر محرم فإنما عليه أن يقول سمعت وأطعت سمعنا وأطعنا هذا هو الأصل في المسلم فلماذا كل ما ذكرنا محرماً طالبنا كثير من الناس بقولهم ما هو البديل ؟ هو أصل يجب أن يتربى المسلمون عليه ولا بأس أن أذكر بعض البدائل للتلفاز مثلا شراء الحاسبة الآلي أو الكمبيوتر والحرص على اختيار الألعاب العقلية التي تنمي عقل الصغير وتفيده ومن البدائل أيضاً اجعل لأولادك الصغار مكتبة صغيرة خاصة بهم تحتوى على أشرطة خاصة للصغار من تلاوات للقرآن مناسبة لهم وقصص ومواقف وأذكار وأناشيد وتحتوى أيضاً على بعض الكتيبات والقصص والمجلات الإسلامية الخاصة بالأطفال ولتكن بشكل جذاب جميل ذي ألوان مميزة ليحرص عليها الصغار وتشد انتباههم ولو تم أيضاً وضعها في غرفة مستقلة لوحدها ولا تفتح لهم إلا في أوقات خاصة وساعات معينة لكانت الفائدة أكبر فإن كل ممنوع مرغوب كما يقال ، وعودهم على تنظيمها والمحافظة عليها ولا بأس من مشاركتهم والجلوس معهم في بعض الأحيان بل والقراءة لبعض القصص وروايتها لهم بأسلوب مناسب جذاب فإن لهذا أثرا كبيرا على سلوكيات وعقلية الصغار وجرب فالتجربة خير برهان لماذا لا يجلس الأب أو الأم في بعض الأحايين مع صغارهم لرواية بعض القصص المناسبة لهم ومن المقترحات كبديل اللعب ، واللعب في حياة الصغار أصل في خلقتهم وتكوينهم فلا يجزع الوالدان من كثرة حركة أولادهما ولعبهم فهو ضرورة لنموهم ومن ذلك تخصيص وقت للعب وربطه(/132)
بالتفاهم مع الصغار خصص وقت معين للعب الصغار وليكن ذلك باستشارتهم وأخذ آرائهم فإن لذلك آثراً كبيرا على نفسياتهم أيضاً محاولة توفير مكان خاص بالمنزل للعب الأولاد وألعابهم أيضاً الحرص على شراء الألعاب التي تنمي قدرات ومواهب الصغار بدلاً من إضاعة المال بأشياء لا معنى لها سرعان ما تتلف وذلك كما أسلفت كالحاسب الآلي أو كألعاب الفك والتركيب وهذه كلها تكون معينة للصغير في نمو عقله واحرص عند شراء أفلام للحاسب الآلي أو الكمبيوتر لأنه بدأت تغزو الأسواق أفلام للحاسب الآلي مليئة بالفساد الأخلاقي والعقدي بل ربما تبادل بعض الصغار هذه الأفلام خفية بينهم فليتنبه الوالدان لذلك ثم أيضاً في التوجيهات في اللعب الابتعاد قدر المستطاع عن الألعاب المجسمة والصور محاولة تعريف الصغير أن هذا النوع من الألعاب تغضب الله ـ عز وجل ـ وأذكر هنا بالحديث المتفق عليه الذي قال فيه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ "إن البيت الذي فيه صورة لا تدخله الملائكة" وسيأتي مزيد من التفصيل إن شاء الله ،في مثل هذا الحديث أيضاً إعطاء الصغير حق اختيار اللعبة مع التوجيه والإرشاد للأنفع أعط الصغير حق الاختيار للعبة فإن أيضاً لمثل هذا العطاء سيكون أثرا كبيرا في نفسية الصغير .أيضا من التوجيهات اصطحابهم في بعض الأوقات في نزهة خارج المدينة لممارسة بعض الألعاب وقد ينشغل بعض الآباء بالجلسات والدوريات عن أولادهم والجلوس معهم وأقول ما دمت تريد أن تخرج مثل هذه الوسائل عن البيت لابد أن تحرص على أن تجالس الأولاد وأن تقضي بعض أوقات الفراغ معهم وهذا كان أيضا من عهد السلف رضوان الله تعالى عليهم فقد أخرج [الحاكم] في المستدرك من حديث [فاطمة] ـ رضي الله تعالى عنها ـ" أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أتاها يوما فقال أين ابناي ؟ فقالت: ذهب بهما [علي] ـ يقصد [الحسن] و[الحسين] ـ فتوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدهما يلعبان في مشربة والمشربة هي المكان الذي يشرب فيه وهي أرض لينة دائمة النبات وبين أيديها فضل من تمر فقال يا علي ألا تطلب ابني قبل الحر" والشاهد أن عليا ـ رضي الله تعالى عنه ـ أخرج الحسن والحسين للنزهة.
ومن المقترحات أيضاً والتوجيهات الحرص على مشاركة الأطفال في لعبهم ولو في بعض الأحايين وتوجيه الأخطاء من خلال اللعب وهذا أفضل وسائل التوجيه ومداعبة الصغار وملاطفتهم ويتوسط في هذا الأمر فلا إفراط ولا تفريط فقد كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يضع في فمه قليلا من الماء البارد ويمجه في وجه الحسن فيضحك وكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ يمازح الحسن والحسين ويجلس معهما ويركبهما على ظهره وكان صلى الله عليه وسلم يخرج لسانه للحسين فإذا رآه أخذ يضحك وكان صلى الله عليه وسلم يخطب مرة الجمعة فإذا بالحسن يتخطى الناس ويتعثر في ثوبه الطويل فينزل ـ صلى الله عليه وسلم ـ من منبره فيرفع الحسن معه وكانت الجارية تأتيه فتأخذ بيده ـ صلى الله عليه وسلم ـ في شوارع المدينة حتى تعيده لمكانه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ هكذا كان بأبي وأمي رسول الله صلى الله عليه وسلم هكذا كان منهجه مع الصغار فلماذا يتكبر بعض الآباء أو بعض الأمهات من تخصيص وقت للجلوس مع الصغار واللعب معهم وقد كان [عمر] يمشي على يديه ورجليه وأولاده على ظهره يلعبون وهو يسير بهم كالحصان فيراه بعض الناس فيقولون له تفعل ذلك وأنت أمير المؤمنين فيقول نعم ينبغي للرجل أن يكون في أهله كالصبي أي في الأنس والسهولة هكذا نكون معهم في البيت فإذا كان في القوم كان رجلاً وعندما تخلى الآباء والأمهات عن أطفالهم وملاعبتهم نشأ بعضهم معقداً وبعضهم منطوياً وكان أكثر عرضة للانحراف والضياع كما نرى على كثير من الصغار.(/133)
ومن العجيب في هذا ما أخرجه [البخاري] من حديث [عائشة] قالت كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يؤتى بالصبيان فيدعو لهم فأتي بصبي فبال على ثوبه فدعا بماء فأتبعه إياه ولم يغسله هذا في [البخاري] وأخرج أو ذكر [الهيثمي] في المجمع عن [أبي ليلى] قال "كنت عند النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعلى صدره أو بطنه الحسن أو الحسين عليهما السلام فبال فرأيت بوله أساريع يعنى طرائق يمشي فقال دعوا ابني لا تفزعوه حتى يقضى بوله ثم أتبعه الماء وفي رواية لا تستعجلوه" وقال [الهيثمي] ورجال الحديث ثقات وهذا أنموذج تربوي فريد منه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ الوسيلة والتوجيه الخامس عشر الحرص على المظهر الخارجي للطفل من لباس وشعر ونحوه فالطفل عوده على المظهر الرجولي كلبس الثياب أو الشمام حتى والبعد عن ملابس الميوعة، والطفلة عودها على الستر في الصغر تلتزمه في الكبر وعلى الحجاب وإياك واللباس القصير خاصة للفتيات وهذا مما ابتلي به المسلمون وللأسف فربما نجد أن كثيرًا من المعارض أو أصحاب المعارض يبيعون الملابس القصيرة وإذا سألناهم أو وجهنا ذلك قالوا لنا الناس يطلبون ذلك من هؤلاء الناس؟ هم المسلمون ولذلك علينا أن نحرص فإنه كما يقال العلم في الصغر كالنقش على الحجر ، الصغير يتربى وتترسخ مثل هذه المفاهيم في نفسه لا تشعر أيضا التمييز بين لباس الذكور والإناث حتى رأينا بعض الأطفال لا نميز بينهم هل هم ذكور أم إناث لمجرد لباسهم ، الابتعاد أيضا عن الملابس التي فيها صور فكما أسلفنا أن الملائكة لا توجد في المكان الذي فيه صورة فهل ترضى أن يحيط الشياطين بطفلك لأن المكان الذي فيه صورة ما الذي يحل فيه الشياطين بلا شك ولذلك لعل هذا يفسر لنا قضية هيجان بعض الأطفال وصراخهم وتعكر نفسياتهم لماذا تجد ربما أن لباسه فيه صورة لماذا الشياطين تحيط به من كل جانب فلننتبه لمثل هذا الأمر فكما أخبر النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ لا تدخل الملائكة بيتاً فيه صورة .أيضاً من التوجيهات تعويده على احترام الكبير وتقديره وذلك بتقبيل رأسه والسلام عليه ومنه احترام الضيوف والسكون عندهم هذا بالنسبة للذكور وعدم السماح للإناث بالدخول على الرجال في المجالس خاصة بعد سن الرابعة .أيضاً من التوجيهات الحذر من تحطيم المعنويات العالية عند الطفل بل العكس ارفع من معنوياته وأشعره بأنه مهم وأنه يستطيع أن يفعل أفعالاً عظيمة فإن هذا من الأسس لبناء شخصية قوية متميزة للصغير وإذا كان الطفل كثير الحركة وفيه شدة وشراسة فإن هذا دليل على فطنته وذكائه لا كما يعتقده بعض الآباء أنه دليل على فساده فقد أكد البحث الحديث الذي قام به بعض علماء النفس أنه هناك رابطة لا تنفصل بين الحركة والعقل فعلى الوالدين توجيه الصغير لاستغلال نشاطه وحركته فيما يفيده وينفعه وتشجيعه على هذا وربما لاحظ الأبوان بعض التصرفات والكلمات العجيبة من الصغير التي تدل على ذكائه وتفوقه ، إذاً فمن الخطأ هنا كثرة التعليق والصراخ والكبت لهذا الصغير وإنما الأسلم هو التوجيه بل لابد من تنمية ذكائه ومن ذلك تكليفه ببعض المهام المناسبة وإعطاؤه الفرصة للكلام والحديث والإجابة على أسئلته والاهتمام به .وأيضاً من التوجيهات لماذا نلاحظ بعض الصغار مزعجا لوالديه معانداً لهما لا شك أن لذلك سببا والسبب هو القسوة على الصغير وضربه بشدة من قبل أبويه أو أحدهما وعدم إظهار المحبة والمودة له ولذلك فإن الصغير يعاند قاصدا إزعاج والده والانتقام منه وعلاج ذلك أن يظهر الوالد لولده أنه يحبه ويعزه وربما كان سبب المعاندة هو شعوره بتفضيل إخوانه عليه وقد اتفق الباحثون على أن أشد العوامل إثارة للحسد في نفوس الأطفال هو تفضيل أخ على أخ أو أخت أو العكس والموازنة بين الواحد والآخر أمام عينيه أو على مسمع منه ومع ذلك لابد أن يعود الصغير على الطاعة إذا أمره أحد أبويه أو من هو أكبر منه وأن يعالج فيه العناد برده إلى الحق طوعا إن أمكن وإلا فلا شك أن الإكراه على الحق خير من بقاء الصغير على العناد والمكابرة ولئلا ينشأ على ذلك فيذيق أهله الأمرين ولا بأس بالضرب الغير مبرح إذا دعت الحاجة لذلك ومن التوجيهات أيضاً تعويده على الآداب الاجتماعية والإسلامية مثل آداب الطعام والشراب والاستئذان والسلام والدخول والخروج وآداب العطاس وغير ذلك وأيضاً تعويده على التنظيم لغرفته وملابسه وكتبه وألعابه وغيرها وتعويده على النوم المبكر خاصة إذا كان يذهب إلي المدرسة وللسهر على الأطفال خاصة أولئك الذين يذهبون إلي المدرسة أثار سيئة في استيعابه وسلوكه وصحته فيجب إذن تعويده على هذه الآداب كلها وتشجيعه عليها وتكراره عليه خاصة من قبل أمه لكثرة التصاقه بها والذي يلحظ على كثير من أبناء المسلمين وللأسف أنهم ربما لا يتقنون حتى السلام أو حتى تشميت العاطس وغيرها من الآداب أيضاً من التوجيهات الحذر من رشوة الصغار مثل أن يقال له خذ هذه الحلوى وافعل كذا أو(/134)
خذ هذه النقود وكف عن العبث أو الصراخ فيعتاد على هذا فلا يعمل شيئا إلا بمقابل وهذا لا يخالف مبدأ المكافأة والتشجيع فعند الفعل الحسن لا بأس من المكافأة أو التشجيع للصغير ومن التوجيهات أيضا لابد من مخالفة هواه أحياناً فلا يعطى على ذلك كل ما يطلبه من أكل أو لعب أو غير ذلك فإنه إن اعتاد على ذلك ولم يسمع كلمة لا أو غير موجود في منزله فسيؤثر ذلك على سلوكه وتصرفاته فلا يخطر بباله أن يقال له لا وإذا تعود على هذا السلوك أصبح من الصعب مستقبلا أن يتحمل عدم تحقق رغباته فيصطدم بمشكلات الحياة المتنوعة فيصيبه اليأس وربما الانحراف ومن التوجيهات أيضاً تشجيع الصغير على الإقدام وإعطاؤه الثقة بنفسه فإذا وقع في مشكلة كمحاولته الأكل بالملعقة مثلاً أو لبسا عليه أو خلع ملابسه فلابد من إعطائه الفرصة لمحاولة بل وتشجيعه بشرط أن يكون تحت عيني أحد أبويه فمن الخطأ إذاً المبادرة بمساعدته أو القيام بالعمل عنه بل لابد أن يعتاد على مواجهة الصعوبات والتغلب عليها.
ومثل ذلك أيضا في تدريبه على تحمل المسئولية فإذا أفسد تركيب لعبة جديدة له مثلا وأتى إليك لإصلاحها فاجعله يتحمل خطأه ويحاول هو إصلاحها ولا بأس لو سكب شيئا مثلا على السجاد فطالبه بتنظيفه وإن لم يستطع وشجعه إن رأيت منه إقبالا وحسن عمل في مثل التنظيف مثلاً ليزداد ثقة بنفسه ولهذا أثر كبير في مستقبله.
ومن التوجيهات أيضا الحرص على تنمية مواهب الصغير وهواياته النافعة وتشجيعه كالإلقاء مثلا والخطابة أو الاهتمام بالأجهزة والمخترعات فإننا نرى بعض الصغار لديهم بعض هذه الأمور أو تنظيم البيت وتجميله عند بعض الفتيات الصغيرات ولابد أن يتحمل الأبوان كثرة الأخطاء والمحاولات بل وتشجيعه ومكافأته.
وأيضا من التوجيهات :أسئلة الصغار كثيرة جدا وبعضها مهم وبعضها تافه ومن الخطأ إهمالها وعدم الإجابة عليها ظنا بأنه صغير لا يعقل أو أن الأم أو الأب مشغولان عنه بل إن بعض الآباء والأمهات ينهر الصغير ويغضب عليه إذا كثرت أسئلته وهذا من أكبر الأخطاء التربوية وكسر نفس الطفل وربما كان له أثر عكسي على الصغير بل إن أفضل وقت لتوجيه الصغار ـ انتبه ـ عندما يكون متطلعا لأجوبة والده أو والدته مقبلا على سماعها بل ربما سأل الصغير أسئلة غريبة لا يملك الكبير لها إجابة إلا التهرب والتوبيخ وهذا خطأ بل عليه أن يحرص على توجيه الصغير بحسب عقله وإدراكه وربما بعض الآباء يقول لا أجد إجابة على أسئلة الصغير نقول وجهه بأنه صغير وإذا كبر سيعرف الإجابة لأن الصغير إن لم يجد الإجابة عندك فربما أجابه أحد آخر فأعطاه إجابة منحرفة والطفل كثير الأسئلة دليل على سعة إدراكه وسعة عقله.
ومن التوجيهات أيضا الحرص على تعليمه في سنواته الخمس الأولى وانتبه أيها الأب وانتبهي أيتها الأم الحرص على تعليمه في سنواته الخمس الأولى يتعلم الطفل في سنواته الأولى أكثر بكثير مما يتصور الآباء فإن العادات يمكن أن يكتسبها بسهولة كلما كان سنه أصغر فإن تسعين بالمائة من العملية التربوية تتم في السنوات الخمس الأولى كما أن الطفل في هذه الفترة يميل إلى إرضاء والده ويحاول أن يخرج منه عبارات الثناء والإعجاب فمن البديهي أن يستغل الوالد هذه الفترة الهامة في تعليمه وتوجيهه الوجهة الحسنة يقول [ابن الجوزي] ـ رحمه الله تعالى ـ في هذا المجال: أقوم التقويم ما كان في الصغر فأما إذا ترك الولد وطبعه فنشأ عليه ومُرْدِنَ كان رده صعبا قال الشاعر:
إن الغصون إذا قومتها اعتدلت
ولا يلين إذا قومته الخشب
قد ينفع الأدب الأحداث في مهل
وليس ينفع في ذي الشيبة الأدب
أيضا التغافل عن الطفل وعدم فضحه إذا أخطأ وحاول هو ستر خطئه وإخفائه فإن إظهار ذلك ربما عوده وجرأه على ارتكاب الخطأ مرة أخرى وأصبح لا يبالي بظهور أخطائه ولذلك نقول للأب أو الأم إذا أخطأ الطفل خطأ غير مقصود أو حرص الطفل على إخفاء ذلك الخطأ لا تفضح الطفل وإنما حاول التغافل عنه وعدم انتباهك لمثل هذا الأمر لأنه إذا تعود كثرة المعاتبة خاصة والصغير كثير الأخطاء الغير مقصودة فإنه إذا عاد للخطأ مرة أخرى وتعود على كثرة المعاتبة تعود على الرجوع لهذه الأعمال أيضا مرات ومرات وإن عاد للخطأ مرة أخرى الذي أخفاه ثانية فأقول ينبغي أن يعاقب سرا وليس كل خطأ أو ذلة توجب العقاب والزجر.
ومن التوجيهات أيضا تذكير الصغير بشكل مستمر بمواقف بطولية لأبناء الصحابة والسلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم ليتأسى بهم وتمتلئ نفسه عزيمة وقوة فإن الصغار يتعلقون بالقصص بل ويطلبونها من آبائهم بإلحاح فلماذا لا يروي الأب قصة من هذه القصص لأولاده قبل النوم ويبسطها لهم بأسلوب يناسبهم وسيلحظ الأبوان عند الاستمرار على هذا الأمر سعة ثقافة الصغار ونمو عقولهم بسرعة عجيبة بعكس رواية القصص الخيالية كما يفعل بعض الآباء.(/135)
ومن التوجيهات أيضا الحرص على انتقاء المدرسة الجيدة بإدارتها ومدرسيها فإن هناك من المدارس من تحرص وتخلص في توجيه الصغار وإفادتهم وزرع الخير في نفوسهم ولا أنسى ذلك الطفل الذي يردد ويحفظ كثيرا من الأدعية والأذكار فلما سألته من علمك هذا ؟ قال الأستاذ فلان وجزى الله المخلصين كل خير وبر وسيرون أثر ذلك على أولادهم وصدق الله عز وجل قال: (وكان أبوهما صالحا) وليحذر أولاء المدرسون الذين لا هم لهم سوى ضياع الحصص وانتظار آخر الشهر وهذا يقودنا إلى توجيه آخر وهو أقول: اعلم أيها الأب أن لأكل الحلال أثرا كبيرا وواضحا على صلاح الأولاد وأن لأكل الحرام أثرا كبيرا على فسادهم وسوء أخلاقهم وهذا أمر محسوس مشاهد واللبيب بالإشارة يفهم فاحفظ الله في أبناء المسلمين وأموالهم يحفظك الله في مالك وأولادك والجزاء من جنس العمل وكما تدين تدان.
الوسيلة الثلاثون على الآباء والأمهات الاجتهاد في توزيع الحب والعواطف على جميع أولادهم بالتساوى وقبولهم جميعا على علاتهم ولا يفرق بينهم حتى وإن كان بعضهم أفضل من بعض ولا تعقد المقارنات بينهم فإن هذا كله يولد فيهم الأحقاد والضغائن ومثال هذا بغض الولد الكبير لأخيه الصغير عندما يجد أن الاهتمام من الوالدين قد اتجه نحو أخيه الصغير فيلجأ إلى الانطواء على النفس أو البكاء أو التبول اللاإرادي أو ربما ادعى المرض والألم ليجذب نظر والديه إليه فهذه الأحوال لا ينبغي أن يساق الولد إليها بل ينبغي أخذ الاحتياطات اللازمة لمنع حدوث هذا فيذكر له أثناء الحمل محاسن الطفل الجديد وأنه قادم ليلعب معه إذا كبر وأنه يحبه إلى آخر ذلك مما يشعر الكبير بحب الصغير له.
ومن التوجيهات أيضا يمتاز الصغار بقدرة عجيبة على الحفظ فعلى الوالدين استغلال هذه الفرصة وعدم إهمالها وأقصد بإهمالها أن يترك الطفل يحفظ أي شيء ولذلك نرى بعض الصغار يحفظ عبارات الدعاية والإعلان أو يحفظ بعض القصص والأغاني التي يسمعونها من التلفاز أو من زملائهم ولذلك على الآباء استغلال هذه الفرصة والحرص على وجود المُرَبِّي الخاص إن استطعت وهذا اقتراح وفكرة الحرص على وجود مرب خاص لأولادك إن استطعت ذلك أو مؤدب أو مدرس للقرآن سمه بما شئت ويبدأ بتلقين الصغار القرآن منذ الصغر وإني أعجب من بعض الآباء فإن لديه عددا كبيرا من العمالة في مؤسسته أو متجره ويعجز أو يغفل عن إحضار واحد لتربية أولاده والاهتمام بهم خاصة إذا كان الأب مشغولا بعمله وتجارته وقد كان هذا هو منهج السلف رضوان الله تعالى عليهم فقد كانوا يدفعون بأولادهم لِمُرَبٍّ خاص يؤدبهم ويقرئهم القرآن فقد ذكر [ابن خلدون] في مقدمته أن [هارون الرشيد ] لما دفع ولده [الأمين] إلى المؤدب قال له يا [أحمر] إن أمير المؤمنين قد دفع إليك مهجة نفسه وثمرة قلبه فصير يدك عليه مبسوطة وطاعته لك واجبة فكن له في حيث وضعك أمير المؤمنين وأقرئه القرآن وعرفه الأخبار وروه الأشعار وعلمه السنن وبصره بمواقع الكلام وبدئه وامنعه من الضحك إلا بأوقاته ولا تمرن بك ساعة إلا وأنت مغتنم فائدة تفيده إياها من غير أن تحزنه فتميت ذهنه ولا تمعن في مسامحته فيستحلي الفراغ ويألفه وقَوِّمْهُ ما استطعت بالقرب والملاينة فإن أباهما فعليك بالشدة والغلظة إلى آخر كلامه..
إذاً فاحرص على الإتيان بمرب خاص لصغارك ولا يكلفك ذلك شيئا كم ؟ ألف ريال ؟ ليس بشيء أمام صلاح أولادك وحفظهم للقرآن وإني أؤكد على هذا الاقتراح وأتمنى أن يجد طريقه لقلوب الآباء ولا بأس أن يشترك ثلاثة أو أربعة من الآباء بإحضار مرب واحد لأولادهم جميعا المهم أن يكون ثقة عدلا حافظا للقرآن أو ربما مجيدا له ، أيضا مجيدا لفن التعامل مع الصغار ولابد من تقديره أي تقدير هذا المربي أو المدرس أو سمه بما شئت واحترامه خاصة أمام الأولاد ليتقبلوا منه ويسمعوا منه.
ومن الاقتراحات أيضا الحرص على بعض الأشرطة المفيدة الخاصة بالأطفال والتسجيلات بحمد لله تتوفر أو مليئة بأعداد من هذه الأشرطة فيها برامج تعليمية بأسلوب مميز جميل يساعد الصغير على التركيز والانتباه وسرعة التعلم والحفظ ففي أشرطة القرآن هناك القراءة البطيئة المركزة تردد الآيات مرات كثيرة وفي بعضها ترديد من الصغار خلف القارئ وكان لهذا نتائج طيبة على كثير من الصغار وهي ما تسمى بطريقة التلقين وهناك أشرطة قصصية جميلة مثل شريط أم سلمة أو أسرة الشهداء أو حديقة الحيوان أو الأصابع الخمسة أو غيرها مما تمتلئ به التسجيلات الإسلامية وهناك أشرطة أناشيد خاصة بالصغار جميلة بكلماتها التي تزيد الصغير إيمانا وحبا لله ليست أية أناشيد وإنما تلك الأناشيد التي تزيد الصغير إيمانا وحبا بالله واسمع لكلمات مثل هذا النشيد:
عندما يسمع الصغير ويحفظ مثل هذه الكلمات إن لذلك أثرا كبيرا على نفسه
هذه الأزهار الحمراء
من أين سيأتيها الماء
من يسقيها وينميها
ويزينها بالألوان
الله رب الأكوان
هذا نمل ما أصغره
يمشى هونا ما أصبره(/136)
من علمه هذا الصبر
من أسكنه هذا الوكر
الله تعالى علمه
الله تعالى ألهمه
هذا نحل من علمه
من زهرات قد أطعمه
من ألهمه من يعطينا
عسلا فيه شفاء للناس
الله تعالى الرحمن
هذا جمل ما أكبره
لا يعصينا إذ نأمره
طفل مثلى يمشي معه ... ...
كي يركبه في الصحراء
الله تعالى ألهمه
أن يبرك حتى نركبه
هذا طفل دون الفهم ...
من علمه ثدي الأم
من عوده أن يرضعه ... ...
أن يأخذه عند الجوع
الله تعالى الرحمن
هذا بصر من واهبه
من بالإنسان يركبه
من يملك هذا الإنسان
وله قد أعطى الآذان
أقول أي أثر ستبقيه مثل هذه الكلمات في نفس الطفل.
ومن هذا أيضا من التوجيهات من الخطأ أن يكون الصغار ضحية لمزاجية الأم أو الأب فإذا حصل خصام أو سوء فهم بينهما صبت الأم جام غضبها على الصغار أو الأب أيضا وهذا من الظلم الذي لا يرضاه الله وما ذنب هؤلاء حتى نغضب عليهم أيضا وهذا أمر مشاهد فإن طلبات وأسئلة الصغار بعد خصام بين الأبوين مرفوضة مهانة ولا يسلم الصغار في الغالب من الزجر وربما الضرب في مثل هذه الظروف وعلى الأبوين ضبط النفس قدر الإمكان وعدم الخصام بين الأولاد وإن ظهر هذا فأقول من الظلم العظيم أن ينتقل هذا الأمر إلى الأولاد بدون سبب.
ومن التوجيهات أيضا ألا يُعَوَّدُ الطفل الوقوف على باب الدار ولا الخروج إلى الشارع أو الجلوس مع أولاد الحي في الشارع فهي قاصمة الظهر فمنه أي من الشارع يتعلم الألفاظ السيئة وبذاءة اللسان ومنه أي الشارع أيضاً يبدأ الضياع فالتدخين فاللواط فالمخدرات إلى آخر سلسلة الضياع التي يعيشها بعض شباب المسلمين اليوم وللأسف ..
ومع ذلك ما زلنا نرى الصغار يملئون شوارع الأحياء فمتى يتنبه الآباء والأمهات إلى خطر خروج الصغار إلى الشارع ؟ فإن ما يُبْنَى في سنوات يهدمه الشارع في أيام إننا نريد وقفة جادة منك أيها الأب تجاه هذا الموضوع.
توجيه آخر أيضاً وسيلة أخرى وهي حل لآثار الشارع وأخطائه: وجود ملعب أو استراحة في وسط الحي لأطفال وصغار الحي ويتم تجهيزه والإشراف عليه ومتابعته من قبل أولياء الأمور ولا أظن أن المسئولين في البلديات مثلاً إلا ويشجعون ويمدون يد العون قدر المستطاع لإيجاد مثل هذه الطرح ، المهم هو الجدية في تبني مثل هذه الفكرة من الآباء والتحمس لها بدل التخبط والضياع الذي يعيشه صغارنا في الشوارع والأرصفة يتخطفهم تجار الرذيلة فأتمنى أن يجد هذا الطرح طريقه لقلوب الآباء. أيضاً وسيلة أخرى أو توجيه آخر فكرة المراكز الصيفية للصغار فكرة جديدة جميلة نشكر القائمين عليها ونتمنى أن نرى تطويرا لها واهتماما ببرامجها لحفظ أولاد المسلمين ولعلنا نستفيد مما يفعله النصارى ـ وللأسف ـ أقول لعلنا نستفيد وللأسف مما يفعله النصارى من تبني الصغار والتركيز عليهم والاهتمام بالنوابغ والمتفوقين منهم ولو أن مُدَرَاء المدارس والمدرسين حرصوا على متابعة المتفوقين والتركيز عليهم لنفع الله بهم في المستقبل نفعاً عظيماً.
ومن التوجيهات أيضاً وهى السابعة والثلاثون احرص أيها الأب على أخذ أولادك معك لمجالس نافعة كالدروس والمحاضرات واجعل عيونهم تكتحل برؤية الصالحين والمشائخ فإنهم يفخرون بذلك أمام أقرانهم ويتمنون الوصول لمكانتهم وعودهم على مجالس الرجال والتأدب فيها واحرص على إلحاقهم بمجالس تحفيظ القرآن في المساجد مع المتابعة والحرص وإذا أردت أيها الأب ويا أيتها الأم أن تريا مقدار الربح لهذه الحلقات فانظر لحفظ أبناء فلان وبنات فلانة فأعمارهم الآن في الثامنة والعاشرة ويحفظون من القرآن عشرين جزءا تزيد أو تقل وأبناؤك ما زالوا على أوضاعهم إنه أعظم كسب يفوز به الوالدان في الدنيا والآخرة ونحن نسمع ونقرأ في كتب السير والتراجم أن كثيرا من العلماء الأفذاذ حفظوا القرآن قبل العاشرة فـ[أحمد بن حنبل] و[البخاري] و[ابن تيميه] و[محمد بن عبد الوهاب] وغيرهم وذلك يعني شيئا ذلك يعني أن حفظ القرآن هو الركيزة والقاعدة التي انطلق منها هؤلاء العلماء وغيرهم فاحرصا أيها الأبوان فليس بعيدا إن شاء الله تعالى أن يكون ابنكما عالما من علماء هذه الأمة ولن يكون ذلك إلا بالصبر والمتابعة.
توجيه آخر عَوِّدْ الصغار على البذل والعطاء وحب الضعفاء والمساكين وأخبره وأخبريه أيتها الأم أن له إخوانا من المسلمين لا يجدون ما يأكلون ولا ما يلبسون أعطه بعض الريالات وشجعه على التبرع والتصدق ببعضها ليتعود البذل في الكبر ويأخذ عليه أشركه في الإنفاق على بعض مشتريات البيت البسيطة وبعض حاجياته وليدفع هو من حصالته الخاصة على شراء كيس رغيف للبيت مثلا قص عليه قصة ذلك الصغير الذي تبرع ببعض ألعابه لأولاد جيرانه المحتاجين فإن هذه الوسائل تحرره من البخل وحب جمع المال ، وحب الفقراء والمساكين والبذل والعطاء.(/137)
أيضا توجيه آخر لنحذر من كثرة خوف الصغير مما حوله من الأشياء والأشخاص فإن كثرة مخاوفه تدل على جبنه وهلعه وذلك أن نجنبه قدر الإمكان ما يؤذيه ويخيفه كالتخويف بالحرامي مثلا أو البعبع كما أسلفت أو بخروج الدم من الجرح كما تفعل بعض الأمهات بقولها دم فلان خرج على سبيل التخويف للصغير أو من تخويفه ببعض القصص المرعبة حول الشياطين والجن فإن هذه الأمور تزرع في نفس الطفل الرعب والفزع وينشأ خوافا رعديدا كما نرى في بعض الصغار.
أيضا الوسيلة الأخيرة وهي الأربعون اعلم أيها الأب وأنت أيتها الأم أن الصغير لا يدرك الكذب إلا بعد الخامسة من العمر أما قبل هذا فإن خياله واسع فيكون كذبه في هذه الفترة غير مقصود ولا متعمد وهو بحاجة للتوضيح والتوجيه في هذه المرحلة بدلا من عقابه وزجره كما يفعل بعض الآباء ظنا منا أنه تعمد الكذب علينا واعلما أيضا أن الكذب خلق يكتسبه الصغير من بيئته فالوالد الذي لا يفي بوعوده لأولاده يزرع الكذب فيهم بدون أن يشعر وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم "من قال لصبي تعال هاك ثم لم يعطه فهي كذبة" كما في المسند عند [أحمد] والأب الذي يمثل أنه يضرب ولده لأنه ضرب أخاه الصغير وهو في الحقيقة لا يضربه يزرع الكذب في نفس ولديه الضارب والمضروب وهو لا يشعر إذا جاءك الصغير يشكي أخاه الأكبر فإذا بك تضرب ذلك الأخ الأكبر أو تمثل أنك تضربه وأنت حقيقة تزرع الكذب من حيث لا تشعر في قلب الضارب قبل أن تزرعه أيضا في قلب المضروب.
ومن الأسباب التي تدفع الصغير للكذب قد يكذب الطفل تقليدا لوالديه تقليدا لهما وقد يكذب الطفل حتى يتجنب العقاب الشديد وقد يكذب الطفل لنيل شيء يريده وغيرها من الأسباب التي يحرص الآباء على معرفتها لماذا لجأ الصغير إلى الكذب حاول دائما أن تبحث عن السبب لماذا لجأ الصغير إلى الكذب حتى يصل لعلاج مناسب وصحيح مع استخدام أسلوب الترغيب واللين والرفق والتشجيع حتى لا يتأصل عنده هذا الخلق الذميم.
هذه أربعون وسيلة وتوجيه لتربية الصغار ..
فأقول أيها الوالدان إن أجركما عند الله عظيم ؛متى ؟ إن حرصتما على القيام بالواجب عليكما تجاه أولادكما فلابد من الصبر وعدم الملل في متابعة الصغار وتربيتهم واحتساب الأجر والثواب من الله وثقا أن كل شيء بالتدريب والمتابعة والمجاهدة ممكن وهذا ما أكده [الغزالي] بقوله :
ولو كانت الأخلاق لا تقبل التغيير لبطلت الوصايا والمواعظ والتأديبات
ولَمَا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" حسنوا أخلاقكم"
وكيف ينكر هذا في حق الآدمي وتغيير خلق البهيمة ممكن إذ ينقل البازي ـ أي الصقر ـ من الاستيحاش إلى الأنس والكلب من شره الأكل إلى التأديب والإمساك والتقلية والفرس من الجماح إلى السلاسة والانقياد وكل ذلك تغيير للأخلاق فإذا كان هذا ممكنا في حق الحيوان الأعجم ففي حق الولد الذي هو أعقل وأقدر على الفهم من البهيمة أولى.
لذلك أقول علينا أن نحرص وأن نصبر على تربية أولادنا ونحتسب الأجر عند الله عز وجل ولن يكون ذلك إلا بالتدريب والمتابعة .
فأهدي هذه الكلمات وهذه التوجيهات إلى الآباء والأمهات معطرة بالحب والتقدير والدعاء بالتوفيق لكل أبوين حريصين على تربية أولادهما وصلاحهم وغفر الله لمن تجاوز عن الزلات والهنات والتمس لي العذر في النقص والتقصير..
اللهم أصلح أولاد المسلمين وبناتهم اللهم اجعلهم قرة أعين لآبائهم وأمهاتهم ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار اللهم أصلح أبناء المسلمين والمسلمات اللهم نسألك الذرية الصالحة التي تكون عزا للإسلام والمسلمين اللهم أصلح أبناء المسلمين وحبب إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان واجعلهم من الراشدين سبحانك اللهم وبحمدك نشهد أن لا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك وصل اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً .
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته هذه ليلة الخميس الموافق للرابع والعشرين من الشهر الخامس للعام الثامن عشر بعد الأربعمائة والألف وفي هذا الجامع المبارك جامع شيخ الإسلام [ابن تيميه] في مدينة <الجبيل> نلتقي وإياكم في مثل هذا الموضوع ، الشباب وما أدراك ما الشباب .(/138)
الشباب أيها الأحبة الشباب ألم وأمل وأتعرض في هذا الموضوع لاستبانة قام بها بعض الباحثين أعرض لبعض نتائجها من خلال الطرح وكان عدد العينة في هذه الاستبانة مائتين وسبعة وسبعين شابا وأشكر ـ حقيقة ـ كل من شارك في هذا الموضوع وأدعو الله جل وعلا ألا يحرمهم الأجر والثواب في الدنيا والآخرة ثم إن سبب هذا الموضوع إصرار الكثير من الشباب التائبين والغافلين النادمين على توجيه كلمات للشباب الذين غرقوا في وحل الغفلة والشهوات ومستنقع الرذيلة واللذات فكانت هذه الكلمات وإذا قلت الشباب ألم وأمل فألم وأمل كلمتان ليس هناك فرق بينهما في الحروف ولكن هناك بون شاسع جدا بين معناهما فهل أنت أيها الشاب أمل فنعقد عليك الآمال أما أنت ألم فتزيد الآلام آلاما. أيها الشباب أنتم أمل تعلقت به القلوب وأمل تنتظره هذه الأمة فأنتم ثروتها وأنتم سر قوتها وإذا أردتم أن تنظروا للمستقبل كيف يكون فانظروا للشباب اليوم كيف هم ولو نظرت أنت لنفسك بثقة وشجاعة ربما انتقل هذا الأمر وهذا الأمل إلى ألم ومرارة فكيف لو نظرت إلى أصحابك وجلسائك بل كيف لو نظرت إلى مئات وآلاف من شبابنا وحالهم وواقعهم لكني أتمني أن يحرك هذا الألم قلبك الطيب فيعيد الأمل لنفسك بل لنا بل للأمة كلها فهي تنتظرك تنتظر عودتك إلى الجادة لتبني حضارتها وتساهم في نهضتها والمصيبة أن يتعثر الأمل فيصرخ من شدة الألم لكن :
ما زال في الأرض ميدان ومتسع
للخير يدركه من جد في الطلب
ولم يزل في نفوس الناس منطقة
محمية سكنت بالخوف والرعب
ولم تزل نخلة الإسلام باسقة
مليئة بعروق التمر والرطب
ولم تزل واحة الأخلاق مخصبة
فيها مشاتل من تين ومن عنب
أيها الاخوة لو أقسمت بالله أن كل شاب مهما كان بعيدا عن الله فإن فيه خيرا ما حنثت لولا أنه أوتي من سوء فهمه أو غفلة أو شهوة ولا أدل على ذلك من تلك الدمعات التي ينثرها الكثير من الشباب بعد الوقوع بالمعصية وتلك الحسرات التي يطلقها على حاله وحال إخوانه عند الحديث عن واقع الشباب بل وتلك الصيحات والنداءات منهم والتي تنادي أن أمسكوا بأيدينا قبل الوقوع بالهاوية.
مشاعر وعواطف قلب:
أخي الشاب أيها الحبيب الغالي هل رأيت يوما من الأيام أو حتى سمعت في عالم الأحلام عن قلب يتكلم ، نعم إنه قلب المحب يتكلم ويتألم وهذا حديث القلب من المحب للحبيب نعم فأنا المحب وأنت الحبيب أنت الحبيب فأنت الأمل وأنت المستقبل وأنت غراس المجد ونبت الهدى أنت أخي وصديقي وأنيسي ورفيقي لا تظنه نثرا من الأدب ولا شعرا من الطرب إنه حديث القلب بعيدا عن المداهنة والمجاملة والثناء المتصنع لكنه خفقان الجنان الذي يسبق اللسان فيحبس البيان والله العظيم لو كنت أملك الهداية والسعادة لبذلتها لك لكنى أستطيع كغيري فعل السبب من كلمة طيبة ونصح صادق وتوجيه وإرشاد فهاك إياها من قلب المحب فهل قلب الحبيب يسمع ..
يا اخوتي
يا شباب الحق همتكم تسمو
بكم عن دروب الطيش والصخب
أحبكم يا شباب الحق محتسبا
ولن يضيع ربي أجر محتسب
أدعو لكم بصلاح الأمر في زمن
سواد ظلمته يطغى على الشهب
أقول لا تفتحوا باب العقول لمن
يدعو إلى اللهو والتهريج واللعب
لا يجرمنكم شنآن من فسقوا
على سلوك طريق العنف والشغب
أيها الشاب يعجبني فيك الحياء والخجل مهما كان منك فقد جلست مع عشرات الشباب ممن وقعوا في كبائر الجرائم والآثام وقد لاحظت على الجميع بدون استثناء في بداية كل لقاء الاستحياء والتردد والخجل بل وصل الأمر عند بعضهم أن لا يرفع طرفه عن الأرض وهو يتحدث عن ماضيه وكأن لسان حاله يقول
لا تحسبوا أني جمدت عاطفتي
إني لأبكي على حالي وأنتحب
لست الغريب دياراً عن بني وطني
ولا إلى ساقط الأقوام أنتسب
لكنهم رفقة السوء الذين قضوا
أيامهم لعباً وما مثله لعب
رافقتهم آكلاً من جنس ما أكلوا
وقد شربت من الكأس التي شربوا
ياه……………….. ،
قاتل الله من باعوا ضمائرهم
وألبسوني لباس الخوف وانسحبوا
كانوا معي اخوة حتى إذا علموا
أنى فقدت معاني همتي ذهبوا(/139)
فيا أخي الحبيب أعرف أن فيك خيراً كثيراً فاسمح لي أن آخذك بعيداً بمفردك بعيداً عن الجلساء بعيداً عن طيش الشباب وشهوات النفس بعيداً عن وسائل الفساد والضياع بعيداً عن المعاصي بعيداً عن التقليد بعيداً عن كل المؤثرات أريدك أن ترجع معي إلى الوراء إلى زهرة شبابك إلى يوم فتحت عيناك على الدنيا بقلبك الأبيض ونفسك الطاهرة وبراءتك يوم كانت الدنيا صافية في عينيك لا تعرف غشاً ولا كذبا ولا حقدا ولا حسداً لا تعرف التدخين ولا الغناء ولا اللواط ولا الزنا لا تعرف السهر ولا السفر لا تجرؤ على النظر للمحرمات ولا تدرى ما المخدرات أريد أن أجلس معك على انفراد بقلبك الطيب ونظراتك البريئة وفطرة الخير فيك نعم أريد أن أخاطب فيك الشاب البسيط الحيي لألتقي معك لقاء لا يرتبط بالمادة ولا بالمجاملة لقاء الأخ الشفيق بأخيه الرحيم البر به اسمعها مني كلمات وادعة ومشاعر نابعة من القلب فأرجو أن يكون هذا اللقاء لقاء القلب بالقلب يعبر عنه اللسان ببيان رقيق جميل وحس مرهف فأدعو الله جل وعلا أن تصل كلماتي إلى شغاف القلوب وأن تغوص في أعماق الروح فإن في قلبي شفقة مليئة بالحب لك وفى صدري حُرقة يدفعها النصح لك فسماعك لي يملأ نفسي نوراً وقلبي لذة وسروراً فأزداد شوقاً إليك وحزناً عليك فمن يناجيك مناجاتي ومن يرجوك رجائي
لا تعدل المشتاق في أشواقه
حتى يكون حشاك في أحشائه
قبول النصيحة مشكلة أيها الشاب قال [أبو حامد الغزالي] النصيحة سهلة و المشكل قبولها لأنها في مذاق متبع الهوى مر إذ المناهي محبوبة في قلوبهم انتهى كلامه.
والشباب مع النصيحة بين ذكي قد وهبه الله سلامة الفطرة وصفاء القلب وسلامة الوجدان ما يعده لاستماع القول واتباع أحسنه ها أنا أحمد الله في أمره وضعيف قد حيل بينه وبين نفسه فهو لا يرضى إلا عما يعجبه ولا يسمع إلا ما يطربه فَأَكِلُ أمره إلى الله وأستلهمه صواب الرأي فيه حتى يجعل الله له من بعد عسرٍ يسراً.
أخي الشاب قف وتفكر في أي الطريقين أنت تمضي وإلى أي الغايتين أنت تجري فالشاب إن كان جاداً صادقاً مفكراً مثقفاً قوياً مؤمناً رسم لنفسه مستقبلا مشرقا وإن كان لاهيا عابساً غارقاً في الشهوات والمعاصي ورغبات النفس الأمارة كان المستقبل مظلماً مخيفاً والأمر لله من قبل ومن بعد لكنها علامات ودلالات فالله تعالى يقول:
(ألم نجعل له عينين ولساناً وشفتين وهديناه النجدين) والنجدان هما طريقا الخير والشر فأيهما تختار؟؟ أرأيت أخي الشاب أرأيت المسكن الجميل لا يقوم إلا على قواعد وأسس متينة بعد تخطيط وتنظيم هكذا أنت تبني نفسك ومستقبلك تأمل هذه الآية جيداً إذ يقول تعالى:
(أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أمن أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين)
الشباب وراحة القلب:
إن القلب مهما تلطخ بسواد المعصية فإن فيه رقة ورأفة وحباً وعطفاً قل لي بربك كم من المرات دمعت عيناك لسماع كلمات أغنية فيها من الولع والشوق وهجران الحبيب بل كم من المرات دمعت عيناك وأنت تشاهد الأحداث المؤلمة في فيلم من الأفلام؟؟
إذاً تحركت العواطف ورق القلب ودمعت العين لمجرد كلمات ومشاهد خيالية صورتها عدسة فنان أو كتبتها يد إنسان فهذه العواطف والدموع مزيفة فالوسائل التي اسْتَدَرَّتْها مُمَثَّلَة مُرَكَّبَة فكيف لو انتعش هذا القلب وذاق طعم العواطف والدموع الصادقة كيف لو ذاق حلاوة الإيمان وعرف الحياة الطيبة التي قال الله تعالى عنها (من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون)...
كيف لو كان هذا الحب لله ؟؟ كيف لو كانت هذه الدمعة من خشية الله ؟؟
أيها الشاب هل ذقت حلاوة الإيمان التي أخبر عنها حبيبك محمد صلى الله عليه وسلم فقال "ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان" هل ذقت طعم الإيمان الذي أخبر عنه قدوتك صلى الله عليه وسلم قدوتك محمد قال "ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً نبيا" .
شاب يصرخ فيقول سافرت لكل مكان شاهدت كل القنوات جربت كل شيء .. فراغ وضيق وطيش ويتحسر آخر فيقول أُرْكِبُ الأصدقاء ونتجول في السيارة ذهاباً وإياباً ثم ماذا وإلى متى ؟؟
ويعترف لص من لصوص الليل بمكالمات الحب والغرام ولقاءات الليل ومعاكسات النهار ويقول أسمع أن الزنا دين وكما تدين تدان وأذكر بيت الشعر الذي يقول:
إن الزنا دين إن استقرضته
كان الوفا من أهل بيتك فاعلم
يقول:
فأنظر لمن حولي بعين الشك والارتياب أفكر في الزواج ولكن ما الذي يضمن لي سلامتها وعفتها هكذا أنا في دوامة وحيرة وتردد.(/140)
ويقول رابع في مقدمة مشكلته التي كتبها أسألكم بالله العلي العظيم أن تعرضوا هذه المشكلة ثم قال: أنا أعيش في قلق وهم وغم ولا أخفيك سرا أني حاولت الانتحار وربي يشهد عليَّ من فوق سابع سماء مرة بشرب كمية من الدواء ولكن الله ستر وأدخلت المستشفى وعوفيت ثم ذكر قصته التي يهتز لها عرش الرحمن إلى أن قال هل يغفر الله لي وما نصيحتك والرجاء الدعاء الدعاء حتى قال في آخرها قدروا ما أعيش فيه من عذاب نفسي.
أيها الاخوة ارحموا الشباب أيها المجتمع رويداً رويداً بالشباب..
أيها الآباء والأمهات عطفاً ورفقاً بالشباب
جسد ناحل ودمع يفيض
وهوى قاتل وقلب مريض
وسقام على التنائي شديد
وهموم وحرقة ومغيض
هذه حال الشباب فالمشاكل تفترسهم: الفراغ ، جلساء السوء ، التدخين ، المخدرات الزنا ، اللواط ، سماع الغناء ، ترك الصلاة ، التهاون بها ، السفر للخارج ، القنوات الفضائية ، السهر ، المجلات الهابطة ، الأفلام الساقطة ، العادة السرية ، تقليد الغرب ، فقدان الشخصية ، الدوران بالشوارع والتضحيد ، الكذب ، السرقة ، المعاكسات ، اللعان وبذاءة اللسان ، الكبر والغرور ، البلوت ولعب الورق ، التشبه بالنساء ، جنس وشهوة وإثارة للغرائز وغيرها من مشاكل الشباب.
معاشر الاخوة لماذا بعض الشباب جعل نفسه كالذباب ـ أكرمكم الله ـ فهو لا يقع إلا على القاذورات فهو من وحل إلى وحل ومن مستنقع إلى مستنقع مرة مع القنوات الفضائية ومرة مع المجلات الهابطة ومرة في المعاكسات ثم الزنا أو اللواط وهكذا فهو غارق في أوحال الفساد والشهوات أيها الشباب قلب تفرق بين هذه المشاكل فإذا مل هذه انتقل إلى تلك كيف حاله كيف حال هذا القلب كيف سيكون قلب في الشهوات منغمس وعقل في اللذات منتكس همته مع السفليات ودينه مستهلك بالمعاصي والمخالفات قبع في سجن الهوى ولم يخرج إلى ساحة الهدى فيا أسير دنياه يا أسير دنياه يا عبد هواه إلى متى إلى أن يفجؤك الموت على غفلة منك ربما وأنت تنتقل من قناة إلى قناة أو وأنت ممسك بسماعة الهاتف أَوَ تَرْضَى أن تموت وأنت تسمع الغناء وأنت تفكر بالزنا ألم تسمع بذلك الطبيب وقد وضع سماعته على صدر المريض الذي يشتكي من قلبه وفجأة انحنى الطبيب على صدر المريض ميتاً!!
كتب أحد شباب الاستبانة عن موقف أثر فيه كثيراً كما يقول وهو عودة أحد زملائه من سفر خارج المملكة للسياحة الخارجية السيئة كذا قال ، قال وعند عودته إلى المطار توفي في الطائرة قبل هبوطها سبحان الله ما أسرع قدوم تلك اللحظات (قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم) أينما كنا وعلى أي حال كنا فإنه ملاقينا والله يا أحبة رأيت بعيناي ووقفت قدماي على أحوال شباب خارج هذه البلاد وكأنهم هربوا من عين الله جل وعلا تخيل نفسك أيها الشاب وقد نزل بك الموت ودخلت القبر وظلمته ووحشته أتهرب من عين الله بكى [سفيان الثوري] ليلة حتى الصباح فلما أصبح قيل له أَكُلُّ هذا خوف من الذنوب فأخذ ـ رضي الله عنه ـ حفنة من الأرض وقال الذنوب أهون من هذه وإنما أبكي خوفا من سوء الخاتمة. هذا من أعلام الفقه يخاف الرجل أن تخدعه ذنوبه عند الموت فتحول بينه وبين الخاتمة الحسنة فإلى متى أخي الحبيب إلى متي وأنت بين هذه القاذورات أين عقلك ؟ أين غيرتك ؟ أين العزيمة ؟ أين الصبر ؟ أين الرجولة ؟ أين دينك ؟
عاتبت قلبي لما
رأيت جسمي نحيلا
فلام قلبي طرفي
وقال كنت الرسولا
فقال طرفي لقلبي
بل كنت أنت الدليلا
فقلت كُفَّا جميعاً
تركتماني قتيلاً
إلا الصلاة والتهاون فيها ؛كان أول أسئلة الاستبانة هل أنت من المحافظين على الصلاة ؟ فكانت الإجابة المؤلمة المُرَّة أن تسعة وثلاثين بالمائة قالوا أحياناً و أربعة بالمائة قالوا لا وستة وخمسين قالوا نعم علماً أن العينة التي أجري عليها البحث فئة تميل إلى اللهو والغفلة لكن لا ننسي أننا في بلاد التوحيد ومنبع الإسلام وبلاد الأمن والإيمان والمساجد وحِلَقٍ العلم والقرآن ولذا فإن النتيجة مؤلمة مبكية لأنها تتعلق بركن من أركان الإسلام وعمود الدين ومن خلال المحادثات واللقاءات مع بعض الشباب تبين لي التفريط العجيب في فريضة الصلاة فبعضهم أقسم أنه لم يدخل المسجد وبعضهم قال لم أُصَلِّ إلا مجاملة أو حياء وبعضهم قال على حسب المزاج وبعضهم يتهاون فيها كثيرا وبعضهم قال إنه لا يمكن أن يترك الصلاة في حال من الأحوال ومهما بلغ من الفساد وأنا هنا لن أسرد لك الأدلة من القرآن والسنة وأقوال سلف الأمة على وجوب صلاة الجماعة فهي معلومة مشهورة لمن أرادها وأعرف أيها الشاب أنك تعرفها لكني أخاطب فيك عقلك فأقول أولاً هل ترضى أن يعلم الناس عنك أنك لا تصلى ؟ إن قلت لا فاعلم أن الله تعالى يعلم .(/141)
ثانيا : أنت تبحث عن السعادة والراحة النفسية وتشتريها بمال الدنيا كلها كما تقول ولو ألقيت نظرة على العيادات النفسية وعلى أماكن قراءة الرقى الشرعية لوجدت عجبا من حالات الاكتئاب والضيق والهموم والغموم والنبي صلى الله عليه وسلم يقول "الصلاة نور" فهي نور للقلوب والله تعالى يقول (ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى) فهل بعد ترك الصلاة إعراض عن الله جل وعلا فهي الصلة بينك وبين الله جل وعلا ؟؟ سبحان الله أنظر لسؤال في الاستبانة يقول هل أنت سعيد في حياتك فإذا خمسة وخمسون بالمائة يجيبون أحيانا وستة بالمائة يجيبون بلا وهذه الأرقام ليست بعيدة عن أرقام التفريط في الصلاة الآنفة الذكر ، فاعقد المقارنة إنها الصلاة مفتاح السعادة فيها العلاج من حافظ عليها فهو على خير مهما وقع منه.
ثالثا : إن الله تعالى يقول (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين) وهو نص في وجوب صلاة الجماعة ولو كان المقصود إقامتها فقط لاكتفى بقوله في أول الآية (وأقيموا الصلاة) واعلم أن الله لم يعذر المسلم في حال الحرب بتركه للجماعة بل أمره بها في وقت عصيب فقال (وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم) والنبي صلى الله عليه وسلم لم يعذر الأعمى الذي جمع بين فقد البصر وبعد الدار وخوف الطريق وليس له قائد يقوده للمسجد ومع ذلك لم يعذره الله بترك الصلاة" فقال له النبي صلى الله عليه وسلم أتسمع الآذان قال نعم قال أجب" وفي رواية "لا أجد لك عذرا "فيا أيها الشاب التارك للصلاة أو المتهاون فيها هل تجد لك عذرا بعد هذه الأدلة فإن لم يعذر هؤلاء فما هو عذرك غدا أمام الله في أول سؤال ستسأله يوم القيامة ما هو عذرك وأنت صحيح آمن مطمئن .
رابعا وأخيرا : هل يسرك أيها الشاب أن تموت وأنت تارك للصلاة أو متهاون فيها . يقول أحد المغسلين للموتى جيء بميت يحمله أبوه وإخوانه ودخلنا لغسله فجردناه من ملابسه وأخذنا نقلبه بأيدينا لقد آتاه الله قوة في جسمه وبياضا ناصعا في بشرته وبينما نحن نقلب الجثة وفجأة وبدون مقدمات انقلب لونه كأنه فحمة سوداء فتجمدت يداي وشخصت عيناي خوفا وفزعا يقول فخرجت من مكان التغسيل وأنا خائف فسألت أباه ما شأن هذا الشاب فقال إنه كان لا يصلي يقول الغاسل فقلت لهم خذوا ميتكم فغسلوه فرفض المغسل أن يغسله ورفض إمام المسجد أن يصلي عليه لا إله إلا الله لا يغسل ولا يصلي عليه المسلمون ولا يدفن في مقابر المسلمين هذا حكم الله فيه فأي خاتمة سيئة لهذا الشاب أيها الشاب اسمع قبل ألا يصلى عليك استجب ما دمت في مهل لا يغرنك إمهال الله لك إننا نفرح إذا رأيناك في المسجد ونحزن إذا فقدناك وليس لنا من الأمر شيء (من اهتدى فلنفسه ومن ضل فعليها) لكن إلى متى وأنت تحرم نفسك السعادة والطمأنينة إن أعظم لذة في الدنيا اسمع إن أعظم لذة في الدنيا أن تمشي بقدميك في المسجد واسأل لمصلين المشائين في الظلم يخبروك .. نصف الليل .
أيها الشاب هل من الرجولة أن تفخر أمام أقرانك بالتغرير ببنات المسلمين والإيقاع بهن هل هي شجاعة أن تدغدغ عواطف الغافلات القاصرات بمعسول الكلام وقصص الحب والغرام هل التلصص والتسلل لبيوت المسلمين في الليل أو إخراج الضعيفات من خدورهن بطولة حتى وإن عرضت هي أو بدأت كما يقول البعض فهي امرأة ضعيفة قاصرة أما أنت فرجل ومن العرب الذين يتصفون بالغيرة والشهامة والشجاعة والكرامة وأنت مسلم فيك إيمان وخوف وهناك جنة ونار أليست الحيوانية أن تشبع نهمتك وتقوي شهوتك وإن كان الثمن العار والدمار لحياة ومستقبل فتاة مسلمة كان الأولى أن تخاف على عرضها وأن تدفع عن شرفها بدل تهديدها بالأشرطة المسجلة والصور التي تؤخذ في حالة ضعف واستسلام للهوى إحدى الأخوات ظلت ترفض كل من يتقدم لخطبتها لماذا خوفا من ذلك الخبيث أن يفضحها بعد أن هددها بذلك وعنست وهو يتفرج عليها!!
صرخات موجعة تمزق القلب وتقطع الأحشاء من فتاة أخرى سلبت أثمن ما تملك فأين الغيرة عند هؤلاء سبحان الله كيف يتبلد الإحساس وينتقص القلب يوم يعرض عن الله أين النخوة لحماية أعراض فتيات المسلمين يا لصوص الأعراض ترضون هذا لأخواتكم أترضونه لأزواجكم ألا تخافون أن ينتقم الله منكم والله لا أنسى ذلك الشاب المهموم وقد احمرت عيناه من كثرة البكاء وهو يقول أعيش في عذاب وجحيم منذ شهرين منذ أن تزوجت فسألته عن السبب فقال تبين لي أن الزوجة ليست بكرا وأنها تعلل ذلك بأسباب صحية ولا أدري ماذا أفعل فأنا أعيش في شك واضطراب وكنت أعرف أنه صاحب مغامرات ومعاكسات فقلت في نفسي سبحان الله الجزاء من جنس العمل.(/142)
الشهوة ، شكا الكثير من الشباب من الشهوة وهي ليست عيبا فهي جِبِلَّة في الإنسان لكنها متى انحرفت عن مسارها أصبحت كالسيل الجارف وكالبركان الثائر وقد يقول شاب متى وكيف تنحرف عن مسارها فأقول ألست تترك العنان للتفكير في الشهوة وتسترسل في رسم الصور والتخيلات ألست تخرج للأسواق ومدارس البنات فتأجج نار الشهوة في نفسك بإطلاق البصر هنا وهناك ألست تنظر للمجلات التي تعرض صور النساء بتبرجهن وزينتهن وتتبع أخبار الساقطات وعرضهن بأبهى صورة بل وجعلهن قدوات لخروجهن عن تعاليم الإسلام وآداب الحشمة والعفاف ألست تقلب صفحاتها التي تحمل صور العري والفساد والخلاعة والمجون مما يثير في نفسك الشهوة الجامحة ألست فتى الأحلام وفارس الظلام الذي يرفع سماعة الهاتف لساعات طويلة لتخطط للحياة الوردية والسعادة الأبدية وتلهب المشاعر وكأنك شاعر فتتغزل بالعيون وتبث الشجون فتقع أسيرة الفؤاد وتحملها على الجواد وعلى ضوء القمر يحلو السمر ألست تسمع الغناء بل وتدمن عليه ألم تسمع أنه بَرِيد الزنا وداع من دواعيه لا سيما إذا صحبه كلمات الفحش والعشق وقد أجاب ستون بالمائة من شباب الاستبانة بأنهم يسمعون الغناء دائما وأجاب ثلاثة وعشرون بالمائة أنهم يسمعون الغناء أحيانا واعترف بعضهم بأنه يثير العاطفة والغريزة والميل إلى النساء والتذكير بالعشق والهيام وأنه يشجع على المعاكسات ألست تنظر للقنوات الفضائية بل وتلاحق بجنون لقطات العري والتفسخ حتى يجتمع بركان الشهوة فتخرج كالمجنون لتبحث عن متنفس .
في جريدة المدينة في العدد اثني عشر ألفا وخمسمائة وواحد وعشرين أوضحت رسالة ماجستير أن نسبة عالية من الشباب الخليجي في سن المراهقة يترجمون ما يقدم في القنوات الفضائية من أعمال تمثيلية إباحية وإجرامية إلى وقائع حية في حياتهم ويعود أثر ذلك على أنفسهم وأهلهم وأشارت الدراسة إلى أن نسبة خمسين بالمائة يفكرون فور مشاهدتهم لبرنامج إجرامي أو إباحي بشكل جدي في تطبيق ما شاهدوه بشكل فعلي إلى آخر الكلام هناك وإن كنت متزوجا زهدت بالعفيفة الطاهرة التي بين يديك والتي أحلها الله لك لما تراه من الجمال المزيف بالمساحيق وأدوات التجميل أو المشوه بالعري والتفسخ وربما أنك قرأت في جريدة القبس في العدد ثمانية آلاف وستمائة وإحدى عشر عنوانا يقول القنوات الفضائية اللبنانية تأسر ألباب الخليجيين وذكر فيه قول ذلك التاجر أنه يبكي لمشاهدة القنوات اللبنانية عندما يقارن المذيعات الجميلات بزوجته وأن مشاهدا آخر طلب من مقدمة البرنامج وعلى الهواء مباشرة أن تقبل به زوجة وهكذا تهيج الغرائز وتثار الشهوات حتى لا يبقى للعقل مكان وإذا لم تستح فاصنع ما شئت وقد أجاب سبعة وثلاثون بالمائة أنهم يتابعون القنوات الفضائية دائما وست وثلاثون بالمائة يتابعونها أحيانا إذاً فثلاثة وسبعون من شباب الاستبانة يشاهدون هذه القنوات فمتى نقتنع أيها الاخوة أنها حرب فضائية تستهدف الدين والأخلاق اسمع ماذا قال أحدهم [ماليس روثن ] كتب مقالا في صحيفة [ صنداي تايمز] في شهر كانون الثاني يناير خمسة وتسعين وستمائة وألف يقول فيه سلاح الغرب السري ضد الإسلام ليس سلاح الدبابات وإنما هو سلاح الفضاء والأقمار الصناعية فهل تعلم أيها الشاب أن في دول مجلس التعاون الخليجي حوالي مليون وثلاثة مائة ألف طبق يشاهد قنواتها تقريبا أو أكثر من أربعين بالمائة من سكان الخليج ذكرت هذه الإحصائيات مجلة الأسرة في عددها الخمسين وقالت برامجها غاية في التبذل والضحالة وإثارة الغرائز وقالت العجيب أن يبرر أحد مديري القنوات اللبنانية هذا الموقف بأن المحطة تجارية تستهدف الربح ولذا فهو يعترف بأنهم استعملوا الجنس في محطتهم ،هذا واستغلوا المرأة كعنصر جذاب واستهدفوا منطقة الخليج بالذات وتبالغ الفضائيات العربية في تقليد أفراد التمثيل والغناء والرقص والرياضة وجعلهم القدوة والمثل لأبنائنا إلى آخر الكلام هناك في مجلة الأسرة .
أقف عند هذا الحد بالنسبة لحرب الفضاء حتى لا يصيبكم الدوار بسبب هذا الغثاء ولأن الحديث عن الشباب وليس على القنوات الفضائية وقد سمعنا وقرأنا عبر إعلامنا عن أصوات غيورة تدق أجراس الخطر وتنادي بالارتقاء بوعي المشاهد وذوقه وتحصين دينه وتنشئته إسلاميا فجزى الله خيرا كل صوت وقلم حمل الأمانة بصدق وإخلاص.
أيها الشاب أَبَعْد هذا كله تشتكي الشهوة وتشتكى العادة السرية ، تفكير ومجلات وروايات وهاتف ومعاكسات ومطاردات وغناء وأفلام وقنوات ثم بعد ذلك تشتكي من هيجان الشهوة!! يداك أوكتا وفوك نفخ..(/143)
أتعرف قصة هذا المثل أصله أن رجلا كان في جزيرة فأراد أن يعبر إلى الشاطئ على قربة نفخ فيها فلم يحسن إغلاقها حتى إذا توسط البحر خرج الهواء منها فغرق فلما غشيه الموت استغاث برجل آخر فقال له الرجل يداك أوكتا وفوك نفخ وهو يضرب لمن يجنى على نفسه وأنت أيها الشاب جنيت على نفسك تلاحق أسباب إثارة الغريزة وهيجان الشهوة وأنت تعرف أنك ضعيف لا تصبر ثم تشكو منها عجبا لك أين عقلك كن عاقلا إذا كنت تريد مصلحة نفسك وتريد أن تكون رجلا جادا صابرا مهتما بشئونه ومصالحه الدينية والدنيوية فاقطع التفكير مباشرة واستعذ بالله من الشيطان الرجيم فإن الله تعالى يقول (إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون).
هذا أولا ، ثانيا ابتعد عن وسائل الإثارة بل واحرص على وسائل الحصانة واستثمار أوقات فراغك في القراءة وزيارة الأقارب وصلة الرحم وقراءة القرآن وحفظه وممارسة الرياضة وبعض الهوايات المباحة ومصاحبة الصالحين وغيرها مما يعود عليك بالنفع ويرضي الله عنك جاهد نفسك وابتعد عما يغضب الله عليك من وسائل الشهوات ووسائل الفساد أبشر بالخير فإن الله تعالى يقول (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين) فقد وعد الله من جاهد نفسه لله أن يهديه.
ثالثا: أما الشهوة فقد جعل الإسلام لها مصرفا شرعيا وهو الزواج ولما وضعنا في طريقه العقبات وردمناه بالسدود والحدود أصبح التفكير بالحرام أسهل من التفكير بالحلال عند بعض الشباب بل لا مانع لديه أن يرتقي المصاعب والمخاطر من أجل الحرام أما الحلال فينهزم أمام أول عقبة تقف في طريقه ولو جد الشاب في طلبه واستعان بالله ودعاه وتبسط في أموره لتيسر أمره ووفقه الله فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول "ثلاثة حق على الله تعالى عونهم" وذكر منهم "والناكح الذي يريد العفاف" أخرجه [أحمد] و[الترمذي] و[النسائي] وحسنه [الألباني] كما في صحيح الجامع وفى لفظ آخر "حق على الله عونه من نكح التماس العفاف عما حرم الله" وأستغلها فرصة لأقول للآباء والأمهات اتقوا الله في أولادكم وبناتكم لا تقولوا هم صغار وقد أحرقتهم الشهوة لا تكونوا عقبة في طريق صلاحهم وسعادتهم فإن في تيسير أمور الزواج وتشجيعهم وحثهم عليه صلاح وسعادة لهم وحفظ من دعاة الرذيلة والمخدرات ووسائلهم والأولاد أمانة في عنق كل أب حتى يزوجهم "وما من عبد يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة" كما في الصحيحين. وتأخير الزواج بدون عذر شرعي من الغش لهم فاتق الله أيها الأب في هذه الأمانة.
الشباب والرياضة:
أما الرياضة فقد حث عليها الإسلام فالمؤمن القوى خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفى كل خير وقد سابق النبي صلى الله عليه وسلم [عائشة] رضى الله تعالى عنها جريا بقدميه وثبت في صحيح [البخاري] أن الصحابة كانوا يتسابقون على الإبل ولها فوائد عظيمة كتنشيط الدورة الدموية وتقوية العضلات الجسدية واللياقة البدنية وتربية العقل وهى وسيلة للتعارف والتآلف لكنها لا تتعارض أبدا مع الهدف الأسمى لكل مسلم ولو سألتك أيها الشاب ما هو هدفك في الحياة لماذا أنت تعيش لماذا خلقك الله وحتى أقرب لك الصورة أكثر فإليك هذا المثال: اللاعبون في الملعب عددهم اثنان وعشرون لاعبا ولمدة ساعة ونصف ما هو هدفهم ماذا يريدون الهدف هو المرمى ولنفرض أن شخصا دخل الملعب وسحب أبواب المرمى من الملعب فما الذي سيحدث سيفسد اللعب ويتخبط اللاعبون فليس هناك هدف يسددون إليه وأصبح اللعب خبط عشواء كل هذا لضياع الهدف إذن فسد اللعب لضياع الهدف وهكذا إذا ضاع الهدف في حياة الشاب تخبط أيضا في حياته وأصبح لا هم له إلا أن يرضي شهواته ونزواته أما الشاب العاقل المسلم فهدفه عبادة الله (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة إذاً باختصار هدفك في الحياة هو رضا الله ، رضا الله هدفك في الحياة.(/144)
أقول هذا الكلام بمناسبة حديث أحد الشباب الرياضيين وقد تبين لي من خلال الحديث معه أنه في العصر يمارس الرياضة وفى المساء أمام التلفاز لمشاهدة المباريات وفي الصباح وفى قاعات الدراسة تحليل لمباراة البارحة ونقاش حاد وصراخ ربما وصل لبذاءة اللسان بل ربما للرفس والطعان وفى الظهر القراءة في الصحف الرياضية هذا هو برنامج صاحبي في اليوم والليلة ويظن نفسه معتدلا إذا نظر لغيره فغيره يسافر من أجل المباراة ويصرف الأموال ليشتري تذاكر السفر ودخول الملعب وغيرها ثم تراه من على المدرجات يقفز ويصرخ وربما بح صوته وتعال وانظر لحرق الأعصاب بل ربما بكى لانهزام فريقه وإن فاز خرج بعد المباراة ليعلن مشاعر الفرح بفوز فريقه دوران وتبحيط وتزوير قلت لصاحبي أصبحت الرياضة غاية وهدفا لا وسيلة فمن أجلها نبكي ونفرح ونحب ونبغض ونشد الرحال ونصرف الأموال ونضيع الأوقات فيا شباب :الرياضة وسيلة لا غاية فمن ذا الذي يرضى أن يموت وهمه كله في الرياضة بل ربما قدمها على طاعة الله وأمره ونهيه أما معتدلا محتسبا أجرك فمارسها كيفما شئت وفي هذا في تعدي الحد في جعلها غاية وهدفا فالله عز وجل قال (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه).
أما التدخين والمخدرات فالكلام عنها يطول لكن يكفي هنا أن أقول إن التدخين مفتاح الفساد نعم هو مفتاح الفساد ومن يريد الإفساد لا يأتي لمن بيده عود سواك وأتعجب كيف تهزمك قطيفة سيجارة فأين الرجولة وأين العزيمة وأين الإصرار والتحدي وأنت تصارع قطيفة سيجارة بل تحرق نفسك ومالك أما المخدرات فيكفيك اسمها أيها الشاب فأعداء الإسلام يعرفون خطر الشباب خاصة إذا صدقوا وتمسكوا بدينهم وعقيدتهم حماس وقوة وحرارة إيمان فكان التركيز عليهم في تخديرهم وشل عقولهم وجهودهم وإنهاك قواهم وهناك المئات من القصص المبكية التي تحكي تفكك الأسر وبيع الأعراض وضياع كثير من الشباب وتمزيق الحياء بسبب هذا الوباء لكنى أقول أيها الشاب أنت الخصم وأنت الحكم ولن ينفعك مثل نفسك وإن لم ترحم نفسك أنت إن لم ترحم نفسك أنت فكيف تطالب الآخرين أن يرحموك فتجرد من العناد وحب الذات وأجب بصراحة لماذا جعلت نفسك هدفا لسهام الأعداء والمنتفعين الذين يروجون لهذه المشاكل والذين لا يريدون إلا دينك ومالك فأنت من شجعهم وأنت من قدم المال لهم ليضروك في صحتك ويفتنوك في دينك وليغتنوا ويفقروك فمن ذا الذي يدفع هذه الأموال إلا أنت ومن الذي يشترى إلا أنت وقل مثل ذلك في علب التدخين والمجلات والأفلام وأشرطة الغناء وغيرها من وسائل اللهو والفساد المحرمة .
وأنتقل لعنصر آخر هو سبب رئيسي في صناعة حياتك إنهم:
رفقاء السوء ، بداية كل شر والنقطة الأولى للانحراف والضياع فكم من الشباب هلكوا بسببهم وكم قادوا أصحابهم إلى المهالك والسجون شعروا أو لم يشعروا بل هم العامل المشترك في كل مشاكل الشباب يقول أحد الشباب أنا شاب في العشرين من عمري نشأت في أسرة متدينة وكنت متمسكا بالإسلام إلى أن قال فذهبت إلى مدينة لمواصلة تعليمي وهناك تعرفت على أصدقاء وكانوا بئس الأصدقاء فعلى أيديهم تعلمت كل أنواع الفساد ومعهم سلكت طريق الغواية والضلال وابتعدت عن طريق الهدى والنور يقول: تركت الصلاة أصبحت مسلما بالاسم فقط وفى هذا الجو المفعم بالإحباط استمرت حياتي مع هؤلاء اللئام وأصبحت أعيش في فراغ قاتل تنقصه السعادة وكنت كلما عزمت على التوبة يلاحقني أصدقاء السوء فأعود إلى الضلال و التشرذم إلى آخر كلامه.
لكن المشكلة عند الكثير من الشباب من هم رفقاء السوء فكل شاب يرى أن أصحابه طيبين أو على الأقل ليس فيهم شر كما يقول البعض ففي الاستبانة سؤال يقول من هو الصديق المثالي من وجهة نظرك اسمعوا الإجابات قال بعضهم هو الإنسان المرح وقال بعضهم هو الذي تتفق طباعه مع طباعي وقال آخر هو الذي يحترمني ويقدرني وقال آخر هو الذي يكون غير متشدد في الدين وقال آخر هو الذي عنده دِش هكذا قال بعض الشباب وهذه هي نظرتهم للصديق المثالي فأقول أيها الشاب من كان ميزان الصداقة لديه هو الهوى والمصلحة الشخصية فكيف سيفرق بين الجليس الصالح والجليس السوء هذه هي المشكلة عند الكثير من الشباب في قضية اختيار الصديق فالميزان عندهم أن تتوافق الطباع أو أن يكون مشهورا أو وسيما أنيقا أو ذا مال وغنى هذه هي المعايير لاختيار الصديق عند غالب الشباب هذا إذا كان هناك اختيار لأن المشاهد أن الواقع يفرض عليك الصديق كالزميل في المدرسة أو في العمل والجار في الحي والقريب ، هذا كله يحدث للشباب في ظل غياب الموجه من والد ناصح أو مدرس صالح فالكثير من الآباء لا يعرف شيئا البتة عن أصحاب أولاده وهذا من تضييع الأمانة والله فإن أخطر شيء على الشاب رفقته يقول أحد الشباب إن أولياء أمورنا هم المسئولون بالدرجة الأولى فأنا لم أر والدي يسألني أين أذهب ومع أي شخص أمشي انتهى كلامه .(/145)
اسمع لهذا الشاب وهو يقول ويروي تجربته بألم وبحسرة فيقول صادقت أحد شياطين الأنس فكانت بداية السقوط حيث شجعني على تعلم ضرب العود كرمكم الله وبالفعل أنقل كلامه بلفظه تماما يقول وبالفعل بدأت التعلم وشرب الدخان بصور متقطعة وأثناء هذه المرحلة كنت أكره المسكرات والمخدرات وأخاف من أهلها وبدأت تتوسع بعد ذلك شبكة أصدقاء السوء أو بمعنى أصح سقط المجتمع وكنت في بداية الأمر كالغريب بينهم أتفحص أشكالهم أتعجب من حالهم ولم أكن أتصور أني سأكون منهم في يوم من الأيام ولكن من أنا أجالسهم ولا أكون منهم يقول وبالفعل تعلمت على أيديهم شتى أنواع المعاصي التي خفت منها وكرهتها في صغري هذا حصل أثناء المرحلة الثانوية إلى آخر قصته التي كتبها بخط يده ثم قال لي بلسانه أقسم بالله لقد حاولت الانتحار عددا من المرات ودخلت العيادات النفسية كثيرا لقد عذبت والدتي معي ثم انخرط بالبكاء ثم قال في رسالته التي كتبها في دفتر صغير كامل لم أكن راضيا عن نفسي وكنت دائم اللوم لها وفى أثناء هذه الحياة القاسية وما كنت أعانيه من ملل هيأ الله لي أحد الاخوة والذي أدين له بالفضل الكبير بعد الله عز وجل في إيقاظي وتنبيهي من هذا الكابوس المزعج المؤلم المدمر الذي لا أستطيع وصفه لأنه يدمي القلب ويدمع العين ويقرب الارتباك ويقول كل ذلك حصل بسبب صديق السوء وعدم التوجيه المطلوب من الأهل ثم قال بقي ندائي الحار والصادق والله على ما أقول شهيد يا إخواني الشباب المعاصي بأنواعها من زنا ولواط ومخدرات وخمور وغناء حبائل الشيطان وأعوانه من الإنس وعند الوقوع في هذه المعاصي أو أحدها يخيل لكم الشيطان اللذة الوهمية التي تحس بها إنك قد انتصرت على همومك وحققت مرادك من السعادة التي تطلبها فتمر الشهور تلو الشهور والسنون تلو السنون فتبدأ المشكلة أو بمعنى أصح الغدر الشيطاني وأعوانه من شياطين الإنس وأصدقاء السوء يقول وقد تتساءلون ما هذه المشكلة وأنا أعذركم على هذا السؤال لأنكم لم تتعمقوا في الدخول في هذه المعاصي صدقوني يا اخوة بحكم جهلكم بها من ناحية وصغر سنكم من ناحية أخري المشكلة هي التعلق بالمعصية وعدم القدرة على الانفكاك منها فتصبح عبدا أسيرا ضعيفا أمام هذه المعصية غير قادر على الهروب منها وقد كنت قبل تتباهى بها وتجاهر وتفاخر أثناء فعلها هذه المرحلة صدقوني بحكم التجربة أقول في هذه المرحلة تحدث النهاية التي كتبتها أنت بنفسك وتتنازعك الهموم من كل جانب والقلق والاضطراب النفسي والعقوبات الدنيوية غير الأخروية نسأل الله أن يتوب علينا إلى آخر كلامه الذي حرصت أخي الشاب أن أنقله بأسلوبه وعباراته لعله أدعى للقبول والاستفادة منه فهذه صرخات وإنذارات من اخوة لك سبقوك في الميدان والله إن هذا الشاب حدثني وهو معي في سيارتي حدثني وهو يبكي في ساعات طويلة كتبوها ما كتبوا هذه المواقف وحياتهم إلا حبا لك وغيرة عليك لتراجع نفسك وتحاسبها ففك أسرها من الهوى وأطلق قيدها من الغفلة أيها الشاب لماذا لا تستفيد من تجارب هؤلاء لماذا تصر وتكابر أنك لا يمكن أن تصل لحال هؤلاء وأن جلساءك طيبين نعم أتمنى يعلم الله أن يحفظك الله وأن يرعاك وإياهم من كل سوء ولكن طريق الشر يبدأ من أول خطوة والسيل من أول قطرة فالنجاة النجاة وربما أنك شاب ما زلت في أول الطريق فكن عاقلا ذكيا واستفد من تجارب الآخرين وليس عيبا أن تسمع النصيحة والتوجيهات من الكبار كأبيك وأخيك فهذا لا يعنى أنك صغير ولا يعنى أنك بدون شخصية كما يردد بعض الشباب لا بل العكس فهذا يعني أنك عاقل متزن فإن العاقل من أضاف إلى رأيه آراء الآخرين واستفاد من نصحهم وتجاربهم.
أيها الشاب اعلم أن الجليس السوء من أكبر أسباب الوقوع في أوحال الشهوات من أكبر أسباب الضياع خاصة من فرط في الصلاة.(/146)
ومن العجائب في الاستبانة أن أربعة وثلاثين من الشباب قالوا إن أصحابهم يفرطون في الصلاة وقال اثنا عشر بالمائة إن أصحابهم أصحاب منكرات كثيرة تاركين للصلاة بل الأعجب من ذلك أن أربعين بالمائة قالوا إن أصحابنا لو طلبوا منا أمرا فيه معصية لله فإنا نلبي طلبه أحيانا وقال خمسة بالمائة لو طلبوا منا فعل أمر فيه معصية لله نفعل هذا الأمر حتى لا يزعل منا فأي مصيبة أن تستجيب لصديق يأمرك بمعصية الله فأرجوك أيها الشاب أعد النظر في صداقاتك وانظر لمن هم على يمينك وشمالك واسأل نفسك هل يرضى الله عنهم عن أفعالهم عن تصرفاتهم هل ترضى أن تحشر معهم يوم القيامة "المرء مع من أحب" كما في الصحيحين هل ينفع الندم يوم القيامة عندما تقول بل هل سمعت هذه الآية في القرآن هل قرأتها يوما من الأيام (يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا) لماذا وهو صاحب الجلسات والسهرات والسفرات والضحكات لماذا وهو صاحب المرح والمزاح فتأتي الإجابة (لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا) نعم لأنه ما أعانني يوما على ذكر الله ما قال لي مرة قف لنصلي الصلاة في وقتها بل كلما انتبهت وتذكرت أو نصحني ناصح سخر مني واستهزأ بي.
يقول أحد العائدين لدار الملاحظة من الشباب إن سبب عودتي أني عدت إلى نفس الشلة ونفس رفقاء السوء لأني إذا خرجت من الدار أجدهم ينتظرونني ويدعونني إلى العودة إلى المشاكل السابقة بعد أن حسنوا لي القبيح وقبحوا لي الحسن فأنسوني توبتي وعزمي على الاستقامة فلذلك عدت إلى الدار بسبب هذه الشلة الفاسدة انتهى كلامه.(/147)
أقول الحمد لله أيها الشاب أنك عدت وأمهلك الله لكن ما حال من لا يستطيع العودة من مات وهو على غَيِّه بل من مات وهو مع رفقة السوء في حادث أو سفر عندها لا ينفع الندم فكن عاقلا واستعرض أصدقائك واحدا واحدا واصحب الأخيار المحافظين على الصلاة ستجد عندهم الابتسامة والمرح والترويح عن النفس في غير ما يغضب الله تعالى فاسأل نفسك لماذا رفضوا مشاهدة القنوات لماذا منعوا أنفسهم من فتنة المعاكسات لماذا حطموا أشرطة الغناء لماذا يترددون للمسجد خمسة مرات في اليوم والليلة لماذا صبروا في حِلَق تحفيظ القرآن اسأل نفسك ما الفرق بينك وبينهم أنت رجل وهم رجال ولك عقل ولهم عقول غير أنهم جاهدوا أنفسهم فمنعوها من الحرام وأطلقت لنفسك العنان فأجبتها (إن النفس لأمارة بالسوء إلا من رحم ربي) إن الذي أمرهم وأمرك ونهاهم ونهاك هو الله لكنهم قالوا أطعنا وقلت أنت ومن معك عصينا في قلوبهم خوف من الله خوف من عذابه وعقابه وفى قلبك غفلة عن الله وعن عذابه وعقابه فجاهد نفسك أخي الحبيب وامنعها من الحرام من أجل الله امنعها من الحرام إخلاصا لله الذي أنعم عليك من أجل الذي يراك ويطلع عليك من أجل الله القادر على تغيير حالك من صحيح إلى مريض من عاقل إلى مجنون من بصير إلى أعمي من متحرك إلى مشلول من سعيد إلى شقي من غني إلى فقير انظر لأحوال الناس من حولك انظر للمستشفيات انظر لدور النقاهة انظر لأحوال الناس أسأل الله أن يحفظك ويعافيك من كل سوء ، لكنه قادر جل وعلا نعم هو غفور رحيم لكنه شديد العقاب شديد العذاب هو بر رحيم لكنه عزيز ذو انتقام نعم هو يمهل لكنه لا يهمل ( وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون) أيها الشاب إني عليك مشفق ولك محب وناصح فاصبر نفسك مع الصالحين استجب للقرآن وهو يقول (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا) كان أمره فرطا قال [ابن كثير] ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا أي شُغِلَ عن الدين وعبادة ربه بالدنيا وكان أمره فُرُطا أي أعماله وأفعاله سفه وتفريط وضياع ولا تكن مطيعا له ولا محبا لطريقته ولا تغبطه بما هو فيه كما قال (ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى) والواقع أن بعض الشباب يغبط اللاعب أو الفنان الفلاني لشهرته بل ربما يحبه وقد يكون مُفَرِّطاً في الصلاة والأخلاق بل قد يكون كافرا فأين من تعلق بما يسمى [مارادونا] أو من تعلق بمن يسمى [مايكل جاكسون] وهما كافران الأول مدمن مخدرات والثاني شاذ جنسيا هكذا قالت وسائل الإعلام فيا لهف نفسي على شباب الإسلام أيرضى أحد أن يحشر مع هؤلاء فالمرء مع من أحب أين نحن من أمر الله وهو يقول (ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا) فإن كنت عاقلا إن كنت ذا عقل فاحذر من المفرطين الغافلين وأحب الصالحين الناصحين قال عمر بن الخطاب عليك بإخوان الصدق فعش في أكنافهم فإنهم زين في الرخاء وعدة في البلاء وقال [الجوهري] إن من أحب أهل الخير نال من بركتهم كلب أحب أهل فضل وصحبهم فذكره الله في محكم تنزيله يعنى كلب أصحاب الكهف قال [القرطبي] في تفسيره بعد كلام الجوهري هذا ، قال إذا كان بعض الكلاب قد نال هذه الدرجة العليا بصحبته ومخالطته الصلحاء والأولياء حتى أخبر الله تعالى بذلك في كتابه جل وعلا فما ظنك بالمؤمنين الموحدين المخالطين المحبين للأولياء والصالحين انتهى كلامه رحمه الله .
أيها الشاب اسأل نفسك هل أصدقاؤك أصدقاء مصالح ثم أسألك أنا هل ذقت طعم الصداقة الحقيقية والاخوة الصادقة قال النبي صلى الله عليه وسلم "من أحب أن يجد طعم الإيمان فليحب المرء لا يحبه إلا لله" كما في مسند [أحمد] و[البزار] وصححه [الحاكم] ووافقه [الذهبي] وقال صلى الله عليه وسلم "ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان وذكر منها "وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله" كما في الصحيحين وقال صلى الله عليه وسلم "قال الله عز وجل وجبت محبتي للمتحابين في والمتجالسين في" وذكر النبي صلى الله عليه وسلم من السبعة الذي يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلى ظله وقال "ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه" كما في البخاري ومسلم والله تعالى يقول (الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين) وقل لي من تصاحب أخبرك من أنت فـ "المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل" كما في سنن [أبي داود] و[الترمذي] و[أحمد] وصحح إسناده [النووي] كما في رياض الصالحين فهل تصدق بالقرآن والسنة وتكون ممن قالوا سمعنا وأطعنا أو ممن قالوا سمعنا وعصينا.(/148)
أخيرا أيها الشاب الطيب فتش في نفسك فتش في أصحابك واحذر رفقة السوء فإنهم لا يقر لهم قرار ولا يهدأ لهم بال حتى تكون مثلهم وأداة طيعة في أيديهم إما لكراهتهم امتيازك عنهم بالخير وإما حسدا لك فإن الله تعالى أخبر عن المنافقين فقال (ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء) وقال [عثمان] رضي الله تعالى عنه ودت الزانية لو زنى النساء كلهن..
فإياك وقطاع الطريق إلى الآخرة الذين يصدون عن ذكر الله اسمع لهذا النصح واستجب وفكر وراجع نفسك كن عاقلا وتنبه ثم انتبه أن تكون من مفاتيح الشر مفاتيح للشر أنبهك أيها الأخ لأمر مهم غفل عنه الكثير من الشباب فبعض الشباب لا يكفيه أن يقع هو بالمعصية ويتحمل ذنبه بل لا يزال بزملائه يشجع هذا على السفر للخارج ويدل ذاك على تلك القناة ويعطى الآخر أرقام ذلك الهاتف ويمدح تلك الأغنية ويهدي شريطها لزميله وهكذا هو في كل جديد في عالم المتعة والشهوة فأصبح مرشدا للفساد وهو لا يشعر فحمل ذلك المسكين وزره وأوزار غيره فكما أن الدال على الخير كفاعله فإن الدال على الشر أشد من فاعله وأشنع فهو أهلك نفسه وغيره أصبح مفتاحا للشر وأنا على يقين أنك لم تقف وتفكر بقول الحق عز وجل (ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون) وأنك غفلت عن قول النبي صلى الله عليه وسلم "ويل لمن كان مفتاحا للشر مغلاقا للخير" وأنك لم تتذكر قوله صلى الله عليه وسلم "ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة" أنا على يقين أنك غفلت عن هذه الأدلة القوية في خطورة الدلالة والتشجيع على الفساد وأنك ظننته من حديث المجالس والتفاخر بالمغامرات والعنتريات بين الشباب وإلا فلا أحد يتحمل ذنبه فكيف بذنوب الآخرين فاحفظ لسانك واستر على نفسك واحذر أن تكون مفتاحا للشر وأنت لا تعلم فكفاك ذنبك غفر الله لي ولك وللمسلمين أجمعين.
بل إن مجرد الحديث عن معصية فعلتها حتى وإن كان سرا لصديق عزيز بينك وبينه فإن ذلك من المجاهرة بالمعصية كما في حديث [أبي هريرة] يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "كل أمتي معافى إلا المجاهرون وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملا ثم يصبح وقد ستره الله عليه فيقول يا فلان عملت البارحة كذا وكذا وقد بات يستره ربه ويصبح يكشف ستر الله عنه" أيها الشاب كن عاقلا فإذا ابتليت بشهوة فإن كان بينك وبين ربك احرص أن يكون ذلك بينك وبين ربك فهو خطأ بشر وضعف نفس وهو أحرى أن يغفر أما الحديث عنه وتشجيع الآخرين عليه أي على الذنب فهو عناد وكبر وصاحبه على خطر عظيم ألا فليتق الله أولئك الذين يصورون جرائمهم والكبائر التي يفعلونها ويحدثون بها الآخرين من زملائهم (أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا فستعلمون كيف نذير).
التقليد واتباع كل جديد قصات الشعر القبعات الملابس الغربية النظارات السوداء التميع والتشبه بالنساء المبالغة في التجمل سلوكيات شاذة عن مجتمعنا المسلم نراها في الآونة الأخيرة هنا وهناك فهل هي من إفرازات القنوات الفضائية من فرق البريك دانس أو الهيبز أو البي جاز أو غيرها من فرق الرقص والمجون ومغني الخلاعة والفجور أم هو التقليد الأعمى "ومن تشبه بقوم فهو منهم" كما قال صلى الله عليه وسلم بل قال صلوات الله وسلامه عليه "ليس منا من تشبه بغيرنا لا تتشبهوا باليهود والنصارى" كما في صحيح سنن [الترمذي] وحسنه [الألباني] .
والغريب انتشارها بهذه السرعة بين الشباب بل وصرف الأموال والأوقات في صوالين الحلاقة فما لي أراك بدل أن تنكر على أصحابها وتشمئز من هذه الحركات وتردها بيقينك وعاداتك الطيبة ما لي أراك تحاكيها وكأنها راقت لك عجيب أمرك أليس لك دين ترجع إليه لترى أهذا الفعل حلال أم حرام؟؟
وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن القزع وقال أهل العلم بل قال صلى الله عليه وسلم "احلقه كله أو دعه كله" وذكر أهل العلم أن جميع أخذ أطراف الشعر من أي جهة من جهة الرأس إنما يدخل في حكم القزع.(/149)
فإن غاب الدين أقول أليس لك عقل لتسأله أتناسب هذه التصرفات مجتمعنا الطاهر أم هي من خوارم المروءة ونقصان الرجولة فلماذا لا تسأل نفسك وتكون عاقلا فإن غاب الدين وغاب العقل أليس لك شخصية مستقلة تعتز بها وتتميز بها عن عالم السفليات وسلوك الساخطين إن الذي يدفع الكثير من شبابنا لمثل هذه الحركات هو الشعور بالنقص نعم انظر لنفسك الشعور بالنقص فالشاب يحب الظهور والبروز والشهرة فلما عجز عنها بصفات الكمال بحث عنها بصفات النقص قاعدة خالف تذكر وهو يظن الناس ينظرون إليه بعين الإعجاب وهم والله العظيم يزدرونه ويسخرون منه وما سمعت لا صالحا ولا طالحا يثني على أحد منهم بل العكس فمتى يعقل شبابنا أن المجتمعات الإسلامية شيء والمجتمعات الكافرة شيء آخر وأن الإسلام هو الاستسلام لله في كل شيء حتى في اللباس والشكل ولا تكن إِمَّعَة تقول إن أحسن الناس أحسنت وإن أساءوا أسأت فقد أجاب وللأسف اثنان وسبعون بالمائة من شباب الاستبانة أنهم يعلمون أن الأغاني ومشاهدة القنوات والمجلات لحرام ولكنهم يشاهدونها لأن كثيرا من الناس يسمعونها ويشاهدونها فيا أيها الشاب كن عاقلا ولا تنظر للهالك كيف هلك ولكن انظر للناجي كيف نجا إني أخاف الله لماذا أراك أيها الشاب تنهزم بسهولة أمام كل معصية وشهوة نعم كلنا ذو خطأ وكلنا ذاك الرجل وكل بني آدم خطاء لكن شتان بين شاب كالإسفنج يمتص كل شهوة ويستجيب لكل رغبة ويدفع كل جديد حتى عطل تفكيره وعقله وألغى شخصيته ومبدأه شتان بين هذا وبين شاب يخاف الله ويجاهد نفسه فهو ينتصر عليها مرات وتنتصر عليه مرات ثم اعلم أن هناك شيئا اسمه الخوف من الله غاب عن قاموس كثير من شباب اليوم أيها الشاب هب أنك لا تستحي من نفسك بل هي غرقت وضاعت في وحل الشهوات واللذات وهب أنك لم تعد تستحي من الناس أو اجتهدت في التخفي والتستر عنهم هب أنك أغلقت الباب على نفسك هب أنك سافرت بعيدا عن معارفك كما تقول وهربت لخارج البلاد من قيود وأحكام الشريعة كما يقول البعض ألم تعلم أن الله يراك وأنه معك في كل حال ومكان إنه قريب وعليك رقيب فأين عظمة الله في نفسك أين عظمة الله انظر للكون من حولك انظر في خلق نفسك انظر في تقدير الله جل وعلا أنسيت أنه العليم فيعلم كل شيء وأنه السميع فيسمع كل شيء وأنه القدير فيقدر على كل شيء نعم تستطيع أن تختفي عن أعين الناس ولكنك لا تستطيع أن تختفي عن عين الله .
وإذا خلوت بريبة في ظلمة
والنفس داعية إلى الطغيان
فاستحي من نظر الإله وقل لها
إن الذي خلق الظلام يراني
إنه الخوف من الله الصخرة التي تتهاوى أمامها الشهوات الحصن الحصين بينك وبين الفساد السد المنيع الذي يمنعك من المعاصي في حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله قال "ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال" انتبه أيها الشاب دعته فهي التي دعته فهو لم يقطع الفيافي ويصرف الأموال من أجلها لم يطاردها في الأسواق ولم يتلاعب بأرقام الهاتف لصيدها بل هي التي دعته وهى امرأة ذات منصب أي أمن العقوبة فهي تستر عليه عند الفضيحة وهي ذات جمال وقلوب الرجال تهفوا إلى الجمال إذن فالأسباب مهيأة والفرصة مواتية فما الذي يردك ما الذي يردك أيها الرجل هيا لكن تأتي الإجابة من قلب تربى على خشية الله من قلب بين جنبيه شيء اسمه الخوف من الله فيصرخ في وجه تلك المرأة فيقول لها بملء فِيه إني أخاف الله مهما بلغت الشهوة ومهما كانت النفس والمغريات إني أخاف الله حصن الإيمان السد المنيع عند الأزمات فقل لنفسك كلما همت بمعصية يا نفس إني أخاف الله عود لسانك على هذه الكلمة ألا تخاف الله ألا تخاف من الموت (قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم) معاشر الشباب احفظوا هذا الاسم جيدا وتذكروه [علي بن الفُضَيْل بن عياض] شاب مشهور لكن شهرته ليست في عالم الرياضة ولا في عالم الفن له قصة غريبة على مسامع شبابنا في مثل هذا الواقع اسمعوها قال [أبو بكر بن عياش] صليت خلف [فضيل بن عياض] صلاة المغرب وإلى جانبي علي ابنه فقرأ الفضيل (ألهاكم التكاثر) فلما بلغ (لترون الجحيم) سقط علي مغشيا عليه وبقي [الفضيل] لا يقدر أن يجاوز الآية ثم صلى بنا صلاة خائف قال ثم رابطت عند علي فما أفاق إلا في نصف الليل.
وكان علي يوما عند [سفيان بن عيينة] فحدث سفيان بحديث فيه ذكر النار وفى يد علي قرطاس فيه شيء مربوط فشهق شهقة ووقع وسقط القرطاس من يده فالتفت إليه سفيان وقال: لو علمت أنك هنا ما حدثت بهذا لأنه عرف أنه مشهور بالبكاء خوفا من النار وتدبرا للقرآن. قال فما أفاق إلا بعد ما شاء الله قال [محمد بن ناجية] صليت خلف الفضيل فقرأ ؛الحاقة في الصبح فلما بلغ إلى قوله (خذوه فغلوه) غلبه البكاء فسقط ابنه علي مغشيا عليه..(/150)
أعرفتم يا شباب بأي شيء اشتهر علي بن الفضيل بشدة خوفه من الله وخشيته عند سماع القرآن حتى اشتهر بقتيل القرآن نعم سمي قتيل القرآن وكان قتيلا للقرآن فعلا فقد قال [الخطيب] مات علي قبل أبيه بمدة بآية سمعها تقرأ وغشي عليه وتوفي في الحال لا إله إلا الله ما أرق هذه القلوب هكذا تحي القلوب بصلتها بالله جل وعلا لله درك يا ابن الفضيل أي خوف من الله هذا الذي بلغ بك قال [إبراهيم بن بشار] الآية التي مات فيها علي بن الفضيل في الأنعام (ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد) قال مع هذا الموضع مات وكنت فيمن صلى عليه رحمه الله . يا شباب هذا هو علي بن الفضيل وهذه هي شهرته وهذا لقبه قتيل القرآن ، القرآن الذي هجره بعض الشباب فربما مر الشهر والشهران والثلاثة لم يقرأ آية في كتاب الله فضلا عن أن يحفظ منه شيئا أو يتدبر الآيات فيبكي لماذا أنت بعيد عن الله كيف بلغت القسوة بنا قسوة قلوبنا بنا إلى هذا الحد ذكر بعض شباب الاستبانة أن من آثار الغناء عليهم نسيان القرآن وهذه نتيجة أكيدة فلا يجتمع كلام الرحمن ورقية الشيطان في قلب ووالله ما أصابك من قسوة في القلب وبعد عن الله إلا بسبب الغناء أقسم بالله إلا بسبب الغناء فهو رقية الشيطان اسأل نفسك بصراحة كم مرة تسمع الغناء في الشهر الواحد وكم مرة قرأت القرآن في هذا الشهر أعلم أن الإجابة مخيفة لكن هل ترضى أن تموت على هذا ؟ هل دمعت عيناك يوما خوفا من الله اسمع لهذه السورة واسأل نفسك هل مر بك هذا الموقف في حياتك فمن السبعة الذين يظلهم الله في ظله قال "ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه" ذكر الله لوحده لا يعلم به أحد فذكر نعمة الله عليه وتذكر تقصيره في حق ربه وتذكر كثرة ذنوبه ومعاصيه وجرأته على الله فرق قلبه ودمعت عينه فسالت على خده خشية وخوفا من الله فكان من السبعة الذين يظلهم الله في ظله فيا أيها الشاب جرب حاول اخل بنفسك بغرفة أو ظلمة ليل ناج ربك اعترف بذنبك اشك إليه قسوة قلبك تب واستغفر وردد رب إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت حاول لا تتردد فربما كان هذا الموقف منجيا لك عند الله يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم فإنك إن خفت الله فالله يقول (ولمن خاف مقام ربه جنتان) أما إن استجبت للنفس الأمارة فالله يقول (فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى) أما إن جاهدت النفس وذكرتها بأنك تخاف الله فأبشر فإن الله يقول (وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى) أبشر أخي الحبيب إنه الله الذي إذا خفت منه هربت إليه لتشعر بالراحة والسعادة وكلما ابتعدت عن الله كنت عرضة للهموم والأحزان والطفش والضيق فاحذر خداع النفس وغرور الشيطان.
وأخيرا التوبة التوبة أيها الاخوة أبشركم أن سبعة وستين من شباب الاستبانة قالوا نعم نفكر في طريق الاستقامة واثنين وعشرين قالوا نفكر أحيانا في طريق الاستقامة ولم يقل لا نفكر إلا ثلاثة ولم يجب البقية وهم تسعة وعشرون وقال خمسة وتسعون بالمائة من الشباب إن طريق الاستقامة هي طريق السعادة الحقيقية.
فأقول: أيها الشباب ها أنتم بأنفسكم تقولون إن طريق الاستقامة هو طريق السعادة فإلى متى وأنتم تحرمون أنفسكم السعادة والراحة فمن يحول بينكم وبين التوبة ، أخي الحبيب (ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق) قل بأعلى صوتك قل بلى والله لقد آن قل كفاني ذنوبا وعصيان اعترف وقل
كم ليلة أودعتها مآثما أودعتها
لشهوة أطعتها في مرقد ومضجع
وكم خطى حذذتها بخزية أحدثتها
وتوبة نكثتها لملعب ومرتع
كم تجرأت على رب السماوات العلا
ولم أراقبه ولا صدقت فيما أَدَّعِي(/151)
فرغ قلبك من الشهوات نحترق والله لأننا نراك فيها وفى المعاصي وبُعْد الله عز وجل يقول ربك (والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما) انتصر لنفسك ، انتصر على نفسك لا تستجيب لدعاة الرذيلة استعذ بالله من الشيطان الرجيم ارجع إلى ربك تب إليه قم فتوضأ صل ركعتين ابك على ذنوبك وتقصيرك في حق ربك استمع للبشارة للغفور الرحيم وهو يقول لك (إلا من تاب وآمن وعمل عمل صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما) ما أعظمها من بشارة لك أنت أيها الشاب من ربك الرحيم الغفور جل وعلا فكل الذنوب تبدل حسنات فما الذي تنتظره قم فأبدل الانحراف بالاستقامة والأرصفة بالمساجد والملاعب بحلق القرآن والأغاني بالذكر والتسبيح ذق طعم الدموع من أجل الله انكسر بين يدي الله اظهر الخضوع والذل لله استعن بالله والله إنك بحاجة لربك جل وعلا أنت بحاجة لعونه اصدق مع الله ، قف في ظلمة الليل وحيدا وانطرح بين يديه ذليلا وقل أسألك بعزك وذلي إلا رحمتني أسألك بقوتك وضعفي إلا غفرت لي أسألك بغناك عني وفقري إليك هذه ناصيتي الكاذبة الخاطئة بين يديك عبيدك سواي كثير وليس لي سيد سواك لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك قل لربك أسألك مسألة المسكين وأبتهل إليك ابتهال الخاضع الذليل وأدعوك دعاء الخائف الضرير قل لربك أنت وحدك تعلم جلوتي وخلوتي أنت وحدك تعلم سري وعلانيتي قل يارب يارب عُبَيْدُك الضعيف بين يديك يارب ها أنا أعود إليك خضعت رقبتي ورَغِمَ أنفي وفاضت عيني وذل قلبي فيارب يارب يا غفور اغفر ذنبي وطهر قلبي وأنت عفو كريم فاعف عني..
القلب محترق والدمع مستبق
والكرب مجتمع والصبر مفترق
كيف القرار على من لا قرار له
مما جناه الهوى والشوق والقلق
يا رب إن كان شيء فيه لي فرج
فامنن علي به ما دام في رمق
كن صادقا في التوبة توكل على الله ولن يردك خائبا ولو بلغت ذنوبك عنان السماء افرح بالتوبة اسمع [لكعب بن مالك] رضى الله تعالى عنه وهو يقول فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني أي بتوبة الله عليه قال كعب فنزعت له ثوبيّ فكسوتهما إياه لبشارته يقول والله ما أملك غيرهما يومئذ واستعرت ثوبين فلبستهما فانطلقت أتأمم رسول الله يتلقاني الناس فوجا يهنئوني بالتوبة ويقولون لتهنئك توبة الله عليك إلى أن قال فسلمت على رسول الله قال وهو يبرق وجهه من السرور ويقول "أبشر بخير يوم مر عليك مذ ولدتك أمك".
كن صادقا في التوبة وأبشر بخير يوم مر عليك مذ ولدتك أمك أيها الشاب هذه مشاعر تائب ذاق حلاوة التوبة من صحابة رسول الله عرف طعمها رغم قربه من الله مشاعر التائب جياشة عباراته صادقة دموعه حارة ففي قلبه حُرقة وفى دمعه أسرار يجد للطاعة حلاوة وللعبادة لذة عرف طعم الحياة وذاق طعم السعادة والراحة بحلاوة الإيمان فما هي إلا ساعة حتى يبعثر ما في القبور ويحصل ما في الصدور ما هي إلا ساعة ويقال فلان مات ما هي إلا ساعة ويعلم الغافلون أنهم كانوا سادرون لاهون فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله أما التائبون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم التائبون ترى أعينهم تفيض مما عرفوا من الحق أيها الشاب ويحك من ذا الذي يصلى عنك بعد الموت من ذا الذي يصوم عنك بعد الموت من ذا الذي يرضي ربك عنك بعد الموت..
ألا تبكي على نفسك وتنبه
قبل رمسك فعندها لا ينفع الندم
تنام ولم تنم عنك المنايا تنبه للمنية يا نؤوم
أيها الشباب: سئل شاب من شباب الاستبانة هل أنت راضٍ عن حالك وواقعك فأجاب تسعة وعشرون بالمائة بـ :لا وأجاب ثمانية وعشرون بالمائة أنهم راضون أحيانا وأجاب ثلاثة وعشرون بالمائة بـ :نعم وقد أجاب ثلاثة وخمسون بـ :نعم أرغب في تغيير حالي وواقعي وثمانية وعشرون بالمائة أرغب في تغيير حالي وواقعي أحيانا وأنا أقول هذه من البشائر ومن علامات الخير فيكم أيها الشباب أن لا يرضى الكثير منكم عن حاله بل ويتمنى تغيير واقعه فأقول أبشر فلا يزال هناك فرصة للتغيير لكن بادر وأسرع فواقعنا يستحي أحدنا من الحديث عنه أمام الآخرين فكيف بالحديث عنه أمام الله فسيسأل الشاب يوم القيامة عن شبابه فيم أبلاه ولا يزال أمامك فرصة للتغيير من واقعك لكن أسرع فالدنيا قليل ولم يبق من القليل إلا القليل فخذ من القليل للكثير فكل عمل تكره الموت من أجله فاتركه ابتعد عنه ثم لا يضرك متى مت فهل فكرت في مصيرك بعد الرحيل هل فكرت كيف حالك في القبر هل فكرت كيف سيكون حالك في الصراط يوم البعث والنشور أجاب واحد وخمسون بالمائة من الشباب نعم وأجاب تسعة وثلاثون بالمائة أحيانا نفكر وأجاب ستة بـ :لا وأقول للذي لم يفكر اعلم أن الموت لا يفكر (وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد)
هو الموت ما منه ملاذ ومهرب
متى حط ذا عن نعشه ذاك يركبُ
نشاهد ذا عين اليقين حقيقةً
عليه مضى طفل وكهل وأشيبُ
ولكن على الران القلوب كأننا
بما قد علمناه يقينا نُكَذِّبُ
إلى الله نشكو قسوة في قلوبنا(/152)
وفى كل يوم واعظ الموت يندبُ
وفى الختام وبعد هذا كله كن شجاعا واتخذ القرار ولا تتردد وكن من الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفى الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون نزلا من غفور رحيم) فلماذا تحرم نفسك ثمرات الاستقامة وثمرات الإصلاح في الدنيا والآخرة.
في النهاية أعتذر إليك أيها الشاب فربما قسوت عليك ولكنه الحب ، فإن صديقك من صدقك وليس من صدقك هي الغيرة يعلم الله
فحبيبك من يغار إذا زللت
ويغلظ في الكلام متى أسأت
يسر إذا اتصفت بكل فضل
ويحزن إن نقصت أو انتقصت
ومن لا يكترث بك لا يبالي
أَحِدْتَ عن الصواب أو اعتدلت
هي كلمات لك بل والله هي كلمات لكل الشباب وخاصة أولئك الذين ظلموا أنفسهم وأسرفوا عليها بالمعاصي والذنوب فإن أصبت فيها فذلك من فضل الله ومنته علي فله الحمد وله الشكر وإن أخطأت فيها أو شيء منها فمن نفسي والشيطان وأعلن الرجوع عنها تائبا ومستغفرا ربي غافر الذنب وقابل التوب.
أيها الأخ يعلم الله أنني أعزي نفسي بكلماتي فكم أنا بحاجة لهذه الكلمات فأعظ بها نفسي أولا وهي لك ثانيا لا إله إلا هو الرحمن الرحيم.
اللهم رد شبابنا إليك ردا جميلا اللهم خذ بأيديهم إلى الحق اللهم اغفر لهم ذنوبهم اللهم استر عيوبهم اللهم ارحمهم برحمتك اللهم ارحم معذبهم يا حي يا قيوم اللهم طهر قلوبهم اللهم خذ بأيديهم اللهم من كان منهم في صلاح واستقامة فزده ثباتا وهداية ومن كان منهم غافلا ضالا فخذ بناصيته لطريق الحق والاستقامة اللهم من أرادهم بسوء فأشغله بنفسه واجعل كيده في نحره واجعل تدبيره تدميرا عليه يا قوي يا عزيز اللهم يا رب من عزم على التوبة والرجوع إليك فوفقه وأعنه يا حي يا قيوم برحمتك يا أرحم الراحمين اللهم احفظ الإسلام والمسلمين اللهم عليك بأعداء الدين اللهم انصر عبادك الصالحين اللهم وفق ولاة أمور المسلمين جميعا لما فيه صلاح الإسلام والمسلمين اللهم وفق ولاة أمورنا خاصة لما تحبه وترضاه وارزقهم البطانة الصالحة الناصحة اللهم وفقهم وأعنهم لما فيه صلاح الإسلام والمسلمين اللهم احفظ بلادنا وسائر بلاد المسلمين بالأمن والإيمان اللهم اجمع كلمتهم على التوحيد والقرآن لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك وصل الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى أهله وصحبه أجمعين .(/153)
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ـ صلي الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا، أما بعد أحبتي في الله السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وهذه ليلة الجمعة الموافق للعاشر من شهر الله المحرم للعام السادس عشر بعد الأربعمائة والألف للهجرة النبوية الشريفة وفي هذا الجامع المبارك جامع الراجحي بمدينة >جدة< نلتقي وإياكم مع موضوع بعنوان :غثاء الألسنة والغُثاء بالمد والضم ما يجيء فوق السيل مما يحمله من الزبد والوسخ وغيره وغثاء الألسنة أراذل الناس وسقطهم ، والغث هو الرديء من كل شيء وغث حديث القوم فسد وردأ وغث فلان في حديثه إذا جاء بكلام غث لا معني له وما أكثر الكلام الفاسد الذي يدور في مجالس المسلمين أيا كانوا كبارا أو صغارا رجالا أو نساء إن غثاء الألسنة اليوم يزكم الأنوف ويصم الآذان ويصيبك بالغثيان والدوار ويصيبك الغثيان والدوار وأنت تسمع حديث المجالس اليوم لا نقول ذلك في مجالس العامة ودهماء الناس فقط بل وللأسف وأقولها بكل أسى حتى في مجالس الصالحين وفي مجالس المعلمين والمتعلمين غثاء الألسنة في الكذب والنفاق والغش والخداع غثاء الألسنة في الغيبة والنميمة والقيل والقال غثاء الألسنة في أعراض الصالحين والمصلحين والدعاة والعلماء في الوقت الذي سلم فيه أعداء الإسلام من اليهود والنصارى والرافضة والمنافقين غثاء الألسنة في التدليس والتلبيس وتزييف الحقائق وتقليب الأمور غثاء الألسنة في التجريح والهمز واللمز وسوء الظن غثاء الألسنة في الدخول في المقاصد والنيات وفقه الباطن غثاء الألسنة بكل ما تحمله هذه الكلمة من غثائية وغث وغثيث وغثيان وما هي النتيجة؟ النتيجة بث الوهم والفرقة والخصام والنزاع بين المسلمين وقطع الطريق علي العاملين وإخماد العزائم بالقيل والقال إنك ما إن ترى الرجل حسن المظهر وسيماه الخير وقد تمسك بالسنة في ظاهره إلا وتقع الهيبة في قلبك والاحترام والتقدير في نفسك وما أن يتكلم فيجرح فلانا ويعرض بعلان وينتقص عمرا ويصنف زيدا إلا وتنزع المهابة من قلبك ويسقط من عينك وإن كان حقا ما يقول نعم وإن كان حقا ما يقول وإن كان صادقا فيه فلا حاجة شرعية دعت لذلك وإن دعت تلك الحاجة فبالضوابط الشرعية وبالقواعد الحديثية فإن لم تعلمها أيها الأخ الحبيب وإن لم تعلميها أيتها المسلمة فما نستطيع أن نقول إلا أمسك عليك لسانك إن للمصنفات في الجرح والتعديل أو إن المصنفات في الجرح والتعديل مئات المجلدات لكن اقرأ فيها وتمعن فيها وكيف كان الجرح فيها فشتان بين الجرحين لقد كان خوف الله عز وجل ميزان دقيق لألسنتهم رحمهم الله تعالى وكان هدفهم هو تمييز صحيح السنة من سقيمها ولكن ما هو الهدف اليوم؟ نعوذ بالله من الهوى ومن الحسد ومن الشقاق والنفاق ومساوئ الأخلاق أيها الأخ الحبيب أيتها الأخت المسلمة إلى متى ونحن نجهل أو نتجاهل أو نغفل أو نتغافل عن خطورة هذا اللسان؟ مهما كان صلاحك ومهما كانت عبادتك ومهما كان خيرك ومهما كان علمك ومهما كانت نيتك ومهما كان قصدك فرحم الله [ابن القيم] رحمة واسعة يوم أن قال في الجواب الكافي: من العجب أن الإنسان يهون عليه التحفظ والاحتراز من أكل الحرام والظلم والسرقة وشرب الخمر ومن النظر المحرم وغير ذلك ويصعب عليه التحفظ من حركة لسانه ويصعب عليه التحفظ من حركة لسانه حتى ترى الرجل يشار إليه بالدين والزهد والعبادة وهو يتكلم بالكلمات من سخط الله لا يلقي لها بالا يذل بالكلمة الواحدة أبعد مما بين المشرق والمغرب والعياذ بالله وقال أيضا في الكتاب نفسه: إن العبد ليأتي يوم القيامة بحسنات أمثال الجبال فيجد لسانه قد هدمها عليه كلها ويأتي بسيئات أمثال الجبال فيجد لسانه قد هدمها من كثرة ذكر الله تعالى وما اتصل فيه وما أجمل هذا الكلام ولذلك أقول أيها الأخ الحبيب ويا أيتها الغالية: احذر لسانك وانتبهي للسانك واحبس لسانك وأمسك عليك لسانك أمسك عليك لسانك هو جزء من حديث نبوي أخرجه الترمذي في سننه وأحمد في مسنده وابن المبارك و الطبراني وغيرهم من حديث عقبة بن عامر رضي الله تعالى عنه قال قلت: يا رسول الله ما النجاة؟ قال صلي الله عليه وآله وسلم: "أملك عليك لسانك وليسعك بيتك وابك على خطيئتك" وفي لفظٍ "أمسك عليك لسانك" والحديث صحيح بشواهده وأنا هنا لا أدعوك للعزلة وإنما أقول أمسك عليك لسانك إلا من خير كما في الحديث الآخر "فإن لم تطق فكف لسانك إلا من خير" والحديث رواه [أحمد] و[ابن حبان] وغيرهما وهو صحيح كما سيأتي إن شاء الله وحفظ اللسان علي الناس أشد من حفظ الدنانير والدراهم كما يقول [محمد بن واسع] رحمه الله تعالى ولأن كثرة الكلام تذهب بالوقار ومن كثر كلامه كثر سقطه ولأننا نرى الناس أطلقوا العنان لألسنتهم فأصبح ذلك اللسان(/154)
سلاحا لبث الفرقة والنزاع والخصام والشتائم وفي مجالات الحياة كلها وبين الرجال والنساء بحد سواء ولكثرة الجلسات والدوريات والاستراحات ولأن الكلام فاكهة لهذه الجلسات كان لابد من وضع ضابط ولابد من تحذير وتذكير للناس في مثل هذه الجلسات ولأنك ستسمع الكثير إن شاء الله تعالى من الأسباب التي جعلتني أختار مثل هذا الموضوع من خلال هذه العناصر وهي: خطر اللسان أدلة من الكتاب والسنة، السلف الصالح مع اللسان، صور من الواقع، النتيجة النهائية ، واسمع قبل ذلك كلاما جميلا جدا للإمام [النووي] رحمه الله تعالى في كتاب الأذكار يوم أن قال: فصل؛ اعلم أنه ينبغي لكل مكلف أن يحفظ لسانه عن جميع الكلام إلا كلاما تظهر المصلحة فيه ومتى استوى الكلام وتركه في المصلحة ، اسمع للفقه اسمع لفقههم رحمهم الله تعالى ومتى استوى الكلام وتركه في المصلحة يعني كان قول الكلام أو تركه المصلحة واحدة فالسنة الإمساك عنه لأنه قد ينجر الكلام المباح إلى حرام أو مكروه بل هذا كثير أو غالب في العادة والسلامة لا يعدلها شيء …انتهى كلامه رحمه الله ، خطر اللسان أدلة من الكتاب والسنة هل قرأت القرآن ومر بك قول الحق عز وجل (ما يلفظ من قولٍ إلا لديه رقيب عتيد) هل تفكرت في هذه الآية إنها الضابط الشرعي (لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد) أسمعت أيها الإنسان أسمعت أيها المسكين إنها رقابة شديدة دقيقة رهيبة تطبق عليك إطباقا كاملا شاملا لا تغفل من أمرك دقيقا ولا جليلا ولا تفارقك كثيرا ولا قليلا كل نَفَسٍ معدود وكل هاجسة معلومة وكل لفظ مكتوب وكل حركة محسوبة في كل وقت وفي كل حال وفي أي مكان عندها قل ما شئت وحدث بما شئت وتكلم بمن شئت ولكن اعلم أن هناك من يراقبك اعلم اعلم أن هناك من يسجل وأن هناك من يعد عليك هذه الألفاظ (إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد) إنها تعنيك أنت أيها الإنسان إنها تعنيكِ أنت أيتها المسلمة (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد) هذه الآيات والله إنها لتهز النفس هزا وترجها رجا وتثير فيها رعشة الخوف ، الخوف من الله عز وجل قال ابن عباس: (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد) قال: يكتب كل ما تكلموا به من خير وشر حتى إنه ليكتب قوله أكلت شربت أو قولك أكلت شربت ذهبت جئت رأيت حتى إذا كان يوم الخميس عُرِضَ قوله وعمله فأقر فيه ما كان من خير أو شر وألقي سائره واسمع للآيات من كتاب الله تقرع سمعك وتهز قلبك إن كان قلبا مؤمنا يخاف من الله عز وجل (وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون) (إن الذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا) (ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا) (إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون) وأخيرا (إن ربك لبالمرصاد) فربك راصد ومسجل لكلماتك ولا يضيع عند الله شيء أما أنت أيها المؤمن أما أنت يا من يقال عنك ويدور عنك الحديث في المجالس أما أنت أيها المظلوم فإن لك بهذه الآية تطمينا فلا تخف ولا تجزع فإن ربك لبالمرصاد ، لبالمرصاد لمن أطلقوا لألسنتهم العنان في أعراض العباد ، لبالمرصاد للطغيان والشر والفساد فلا تجزع بعد ذلك أيها الأخ الحبيب ولنزداد بينة في خطر هذا اللسان الذي بين لحييك فاسمع لهذه الأحاديث باختصار، فعن [بلال بن الحارث المزني] ـ رضي الله تعالى عنه وأرضاه ـ أن رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ قال: "إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله بها رضوانه إلى يوم يلقاه" اسمع : يكتب الله بها رضوانه إلى يوم يلقاه "وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله له بها سخطه إلى يوم القيامة" والعياذ بالله والحديث أخرجه [البخاري] في صحيحه وكان [علقمة] يقول: كم من كلام قد منعنيه حديث بلال بن الحارث أي هذا الحديث، اسمع لحرصهم ـ رضي لله عنهم وأرضاهم: كم من كلام قد منعنيه حديث بلال بن الحارث كما ذكر ذلك [ابن كثير] في تفسيره فأين أنت يا علقمة من أولئك الذين يلقون الكلمات على عواهنها فلا يحسبون لها حسابا كم نلقي أيها الأحبة وكم نلقى أيتها المسلمة من الكلمات تظن أنها ذهبت أدراج الرياح وهي عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينساه احسب لهذا الأمر حسابه حتى تعلم أن كل كلمة مسجلة عليك أيها الأخ الحبيب ، وعن أبي هريرة ـ رضي الله تعالى عنه ـ قال: سمعت رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ يقول : "إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يزل بها في النار أبعد ما بين المشرق" والحديث أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما، وفي رواية لمسلم: "إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يهوي بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب" أسألك العفو يا(/155)
إلهي، إن شغلنا الشاغل اليوم في مجالسنا أيها الأحبة هو بث الكلمات ونشر الشائعات وكم من كلمة قصمت ظهر صاحبها وهو لا يعلم ولا شك أن فساد المجالس بسبب قلة العلم والإطلاع ، إذ لو وجد هذا العلم لاستغلت المجالس أحسن استغلال ولسمعت النكت العلمية والفوائد الشرعية والمسائل الفقهية بدلا عن القيل والقال والغرائب والعجائب ولكن فاقد الشيء لا يعطيه وهذا أثر من آثار الجهل الذي يتفشى اليوم بين كثير من الناس إسهال فكري، وإسهال كلامي أصاب كثيرا من مجالس المسلمين اليوم إنك تجلس المجالس الكثيرة بل ربما لم يمر عليك يوم من الأيام ولا ليلة من الليالي إلا وجلست مجلسا فبماذا خرجت من هذه المجالس؟ ما هي النتيجة وما هي الثمرة من هذه المجالس التي جلستها أيها الأخ الحبيب لا شك أن هذا أثر من آثار الجهل الذي يتفشى في صفوف المسلمين اليوم وقلة البركة حيث أصبح العلم مصدر رزق لكثير من الناس ولذلك تجد في المجلس الواحد عشرات المدرسين والمتعلمين ومع ذلك يذهب المجلس هباء بدون فائدة بل ربما ذهب والعياذ بالله بالآثام وجمع السيئات وفي حديث [معاذ] الطويل قال رضي الله تعالى عنه ـ أو قال النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ: "ألا أخبرك بملاك ذلك كله ؟ قال معاذ قلت: بلى يا رسول الله، فأخذ بلسانه ثم قال" انظر الوصية "فأخذ بلسانه ثم قال: كف عليك هذا، كف عليك هذا، قلت: يا رسول الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به" بعض الناس قد يجهل أنه سيؤاخذ بكل كلمة تكلمها كانت خيرا أو شرا "وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم" والحديث أخرجه الترمذي في سننه وقال: حديث حسن صحيح ، وفي حديث [سهل بن سعد] رضي الله تعالى عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ قال: "من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة" والحديث أخرجه البخاري في صحيحه وفي آخر حديث [سفيان بن عبد الله ] ـ رضي الله تعالى عنه ـ قال في آخره "قال: قلت : يا رسول الله، ما أخوف ما تخاف علي؟ فأخذ بلسان نفسه ثم قال: هذا" والحديث أخرجه مسلم في صحيحه وأحمد في مسنده والترمذي في سننه، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، ثم يوجه المصطفي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ لأمته تلك القاعدة الشرعية والمعيار الدقيق ولمن اختلطت عليه الأوراق وليقطع الشك باليقين وليسلم من الحيرة والتردد فيقول كما في حديث [أبي هريرة] ـ رضي الله تعالى عنه ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ "من كان يؤمن بالله واليوم الأخر فليقل خيرا أو ليصمت" قاعدة شرعية تربوية منهجية نبوية ميزان معيار دقيق لك أيها المسلم ولك أيتها المسلمة يوم أن تجلس مجلسا "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر" انظر للتربية ربى هذه القلوب باليوم الآخر "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت" ولأن النفوس اليوم غفلت عن اليوم الآخر وتعلقت بالدنيا وشهواتها ولذاتها غفلت عن هذه القاعدة الشرعية النبوية ونسيت الحساب والعذاب في اليوم الآخر ونسيت الجنة والنار أو غفلت عنها وبالتالي انطلق اللسان يفري في لحوم العباد فريا بدون ضوابط وبدون خوف ولا وجل لماذا؟! لماذا هذه القاعدة؟ لأنه لا يصح أبدا أن يؤذي المسلم إخوانه بلسانه ولأن المسلم الصادق والمحب الناصح هو من سلم المسلمون من لسانه ويده كما في حديث [أبي موسى الأشعري] المتفق عليه والأحاديث في الباب كثيرة مستفيضة وكم نحن بحاجة إلى من يردد هذه الأحاديث على مسامع الناس كم نحن بحاجة أيها الأخيار يا طلبة العلم أيها الصالحون كم نحن بحاجة إلى أيتها الصالحات إلى أيتها الخائفات القانتات العابدات الساجدات كم نحن بحاجة إلى من يردد على المسلمين والمسلمات أمثال هذه الأحاديث ليتذكروها وليعوها وليفهموها جيدا حتى تتذكر النفس كلما أراد اللسان أن ينطلق في كلمة يحسبها ، يحسب لها حسابها قبل أن يخرج لسانه بهذه الكلمات واسمع لرواة هذه الأحاديث من السلف الصالح ـ رضوان الله تعالى عليهم ـ يوم أن سمعوها علما وعملا وامتثالا للمصادر الشرعية الكتاب والسنة وإليك الأدلة من حياتهم العملية ـ رضوان الله تعالى عليهم ـ السلف الصالح مع اللسان ، أسوق إليك أيها الأخ الحبيب مواقف قليلة، قليلة جدا، كيف كان حال السلف الصالح مع ألسنتهم؟ ذكر الإمام [مالك] في الموطأ عن [عمر بن الخطاب] ـ رضي الله تعالى عنه وأرضاه ـ أنه دخل على [أبي بكر الصديق] وهو يجبذ لسانه أي: يجره بشدة وهو يجبذ لسانه فقال له عمر: مه غفر الله لك فقال أبو بكر: إن هذا أوردني الموارد ، من القائل؟ الرجل الأول بعد الأنبياء والرسل ـ رضي الله تعالى عنه وأرضاه ـ القائل أبو بكر انظر لحرصه على لسانه ـ رضي الله تعالى عنه وأرضاه ـ قال رجل رأيت [ابن عباس ] آخذا بثمرة لسانه وهو يقول أي ممسكا بلسانه وهو يقول: ويحك قل خيرا تغنم واسكت عن شر تسلم ، قال:(/156)
فقال له رجل: يا ابن عباس مالي أراك آخذ بثمرة لسانك تقول كذا وكذا قال ابن عباس: بلغني أن العبد يوم القيامة ليس هو على شيء أحنق منه على لسانه ، يعني لا يغضب على شيء من جوارحه أشد من غضبه علي لسانه والأثر أخرجه [ابن المبارك] وأحمد و[أبو نعيم] وأيضا أخرجه أحمد في كتاب الزهد والمتن بمجموع طرقه حسن والله أعلم، وقال [عبد الله بن أبي زكريا]: عالجت الصمت عشرين سنة ، انظر للحساب أنظر النفس، عالجت الصمت عشرين سنة فلم أقدر منه على ما أريد ، وكان لا يدع يعاتب في مجلسه أحد ويقول: إن ذكرتم الله أعناكم وإن ذكرتم الناس تركناكم والأثر ذكره أبو نعيم في الحلية وكان [طاووس بن كيسان] ـ رضي الله تعالى عنه ـ يعتذر من طول السكوت ويقول: إني جربت لساني فوجدته لئيما *** هؤلاء هم رضي الله تعالى عنهم ـ فماذا نقول نحن على ألسنتنا وذكر [هناد بن السري] في كتابه الزهد بسنده إلى الحسن أنه قال يخشون أن يكون قولنا حميد الطويل غيبة ، حميد الطويل لأنهم بينوه أو نسبوه لأنه طويل حميد الطويل يخشون أن يكون غيبة رحمة الله عليهم أجمعين وأخرج [وكيع] في الزهد وأبو نعيم في الحلية من طريق [جرير بن حازم] قال: ذكر [ابن سيرين] رجلا فقال: ذلك الرجل الأسود، يريد أن يعرفه، ذلك الرجل الأسود ثم قال أستغفر الله إني أراني قد اغتبته، وكان [عبد الله بن وهب] رحمه الله يقول: نذرت أني كلما اغتبت إنسانا انظر للمحاسبة مرة أخري نذرت أني كلما اغتبت إنسانا أن أصوم يوما فأجهدني يعني تعبت فكنت أغتاب وأصوم فنويت أني كلما اغتبت إنسانا أن أتصدق بدرهم فمن حب الدراهم تركت الغيبة جرب هذا كلما اغتبت إنسانا أو ذكرته بسوء ادفع ولو ريالا واحدا، الله العالم بحالنا الآن سنجد أنه في آخر الشهر لم يبق من الراتب ولا ريال واحد لأننا أعرف بأنفسنا أيها الأحبة في مجالسنا والله والمستعان، قال الذهبي معلقا في السير علي قول [عبد الله بن وهب] قال: هكذا والله كان العلماء وهذا هو ثمرة العلم النافع، قال [النووي] في الأذكار: بلغنا أن [قس بن ساعدة]، و[أكثم بن صيفي] اجتمعا فقال أحدهما لصاحبه: كم وجدت في ابن آدم من العيوب؟ فقال: هي أكثر من أن تحصى والذي أحصيته ثمانية آلاف عيب ووجدت خصلة إن استعملتها سترت العيوب كلها خصلة إن استعملتها سترت العيوب كلها كما قال: ما هي؟ قال حفظ اللسان، قال [إبراهيم التيمي]: أخبرني من صحب [الربيع بن خثيم] عشرين عاما ما سمع منه كلمة تُعَاب ، الله المستعان، عشرين عاما ما سمع منه كلمة تعاب والأثر أخرجه وذكره [ابن سعد] في الطبقات وقيل له أي للربيع :يا أبا يزيد ألا تذم الناس؟ فقال: والله ما أنا عن نفسي براض فأذم الناس، إن الناس خافوا الله علي ذنوب الناس وأمنوه على ذنوبهم، وصدق رحمه الله صدق ألا ترون أيها الأحبة الآن أننا في مجالسنا نقول: نخشى عذاب الله من فعل فلان، ونخاف من عذاب الله عز وجل من قول علان ولا نخشى من عذاب الله عز وجل من أفعالنا وأقوالنا هذا ظاهر في مجالسنا نتحدث ونقول والله نخشى من عذاب الله من أفعال فلان وعلان ولكننا ننسى أن نخاف على أنفسنا من عذاب الله من ذنوبنا وأفعالنا وأقوالنا ارجع لنفسك وانظر لعيوبها قبل أن تنظر لعيوب الآخرين وتتكلم فيهم وقال [حماد بن زيد] :بلغني أن محمد ابن واسع كان في مجلس فتكلم رجل فأكثر الكلام، فقال له محمد: ما على أحدهم لو سكت فتنقى وتوقى، أي اختار كلماته وحسب لها حسابها وقال[ بكر بن مُنَيَّر]: سمعت أبا عبد الله البخاري أمير المؤمنين صاحب الصحيح ـ رضي الله تعالى عنه وأرضاه ـ يقول: أرجو أن ألقي الله ولا يحاسبني أني اغتبت أحدا اسمع للثقة أرجو أن ألقى الله ولا يحاسبني أني اغتبت أحدا، والبخاري له كتب في الجرح والتعديل له مؤلفات في الجرح والتعديل ويقول الذهبي في السير أيضا معلقا على قول البخاري هذا: صدق رحمه الله ومن نظر في كلامه في الجرح والتعديل علم ورعه في الكلام في الناس وإنصافه فيمن يضعفه فإن أكثر ما يقول يعني أشد ما يقول البخاري إذا أراد أن يجرح رجلا يقول: منكر الحديث، سكتوا عنه، فيه نظر ونحو هذا وقل أن يقول فلان كذاب أو كان يضع الحديث حتى إنه قال إذا قلت فلانا في حديثه نظر فهو متهم واهن وهذا معنى قوله لا يحاسبني الله أني اغتبت أحدا وهذا هو والله غاية الورع انتهى كلام الذهبي، هذه مواقف للسلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم مع اللسان والآن تعال إلى صور من الواقع وهي عبارة عن مواقف مبعثرة وأحداث متعددة تتكرر في مجالسنا كثيرا اخترت منها عشرة مشاهد أسوقها إليك فأصغني سمعك وفهمك وأحسن الظن في فلعلي لا أحسن التصوير أو ربما خانني التعبير وما أريد يعلم الله إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله ومن الصور المشاهدة في مجالسنا وأولى هذه الصور حديث العامة أن فلانا فيه أخطاء وفلان الآخر فيه تقصير والثالث فيه غفلة والرابع لا يسلم من العيب الفلاني وهكذا أقاموا أنفسهم(/157)
لتقييم الآخرين وجرحهم ولمزهم فيا سبحان الله نسينا أنفسنا نسينا عيوبنا وتقصيرنا وغفلتنا وكثرة أخطائنا ولو أعمل عاقل فكره في الجالسين أنفسهم لوجدوا فيهم بذاءة في اللسان وسوءا في المعاملة والأخلاق فهو إن حدث كذب أو وعد أخلف أو باع واشترى فغش وخداع وإن جاء للصلاة نقرها نقر غراب ؛مقصر في الفرائض مهمل للنوافل في وظيفته تأخر وهروب وإهمال واحتيال وفي بيته وسائل للفساد وضياع للأولاد وعقوق للأرحام كل هذه النقائص وهذه المصائب عميت عليه فنسيها في نفسه عميت عليه فنسيها في نفسه وذكرها في إخوانه فلم يسلم منه حتى ولا الصالحون المخلصون فيا أيها الأخ والله إني عليك لمشفق ولك محب فأمسك عليك لسانك وكف عن أعراض الناس وإذا أردت أن تذكر عيوب صاحبك فاذكر عيوبك كما قال [ابن عباس] وقال أبو هريرة: يبصر أحدكم القذى في عين أخيه وينسى الجبء في عينه وقال [عون بن عبد الله]: ما أحسب أحدا تفرغ لعيوب الناس إلا من غفلة غفلها عن نفسه وقال [بكر بن عبد الله المزني]: إذا رأيتم الرجل مولعا بعيوب الناس ناسيا لعيبه فاعلموا أنه قد مكر به.
إذا رمت أن تحيا سليما من الأذى
ودينك موفور وعرضك صين
فلا ينطقن منك اللسان بسوءة
فكلك سوءات وللناس ألسن
وعينك إن أبدت إليك معائبا
فدعها وقل يا عين للناس أعين
وعاشر بمعروف وسامح من اعتدى ...
ودافع ولكن بالتي هي أحسن(/158)
صورة ثانية من الصور التي تقع في واقعنا ، جلسوا مجلسهم فبدأ الحديث فذكروا زيدا وأن فيه وفيه ثم ذكروا قول عَمْرٍ فأتقنوا فن الهمز واللمز والعجيب أن معهم فلانا الصالح العابد الزاهد القائم الصائم والأعجب أن من بينهم طالب العلم فلانا الناصح الأمين والحمد لله لم يتكلما وسكتا ولكنهما ما سلما لأن الساكت عن الحق شيطان أخرس، ولأن المستمع شريك للقائل ما لم يتبع المنهج الشرعي "من رد عن عرض أخيه بالغيبة كان حقا على الله أن يعتقه من النار"من رد عن عرض أخيه بالغيبة كان حقا على الله أن يعتقه من النار والحديث أخرجه أحمد والترمذي وغيرهما من حديث [أبي الدرداء] والحديث حسن بشواهده فيا أيها المسلم إذا وُقِعَ في رجل وأنت في ملأ فكن للرجل ناصرا وللقوم زاجرا وانصر أخاك ظالما أو مظلوما وقل للمتحدث أمسك عليك لسانك فإن استجاب وإلا فقم عنهم (أيحب أحدكم أن يأكل لخم أخيه ميتا فكرهتموه) واسمع لكلام [ابن الجوزي] الجميل في تلبيس إبليس قال رحمه الله: وكم من ساكت عن غيبة المسلمين إذا اغتيبوا عنده فرح قلبه وهو آثم بذلك من ثلاثة وجوه أحدها: الفرح فإنه حصل بوجود هذه المعصية من المغتاب، والثاني: لسروره بسلب المسلمين والثالث: أنه لا ينكر، انتهى كلامه رحمه الله، ويقول[ ابن تيميه] رحمه الله في الفتاوى في الجزء الثامن والعشرين صفحة سبع وثلاثين ومائتين يقول: ومنهم من يخرج الغيبة في قوالب شتى وانتبه لهذا الكلام النفيس الجميل ومنهم أي من الناس من يخرج الغيبة في قوالب شتى تارة في قالب ديانة وصلاح فيقول: ليس لي عادة أن أذكر أحدا إلا بخير ولا أحب الغيبة ولا الكذب وإنما أخبركم بأحواله ويقول والله إنه مسكين أو رجل جيد ولكن فيه كيت وكيت أو ربما يقول دعونا منه الله يغفر لنا وله وإنما قصده استنقاصه وهضما لجنابه ويخرجون الغيبة في قوالب صلاح وديانة يخادعون الله بذلك كما يخادعون مخلوقا وقد رأينا منهم ألوانا كثيرة من هذا وأشباهه انتهى كلامه رحمه الله ، صورة ثالثة اتهام النيات والدخول في المقاصد من أخطر آفات اللسان يتبعه تبديع الخلق وتصنيف الناس وتقسيمهم إلى أحزاب وهم منها براء وقد يتبع ذلك أيمان مغلظة وأقسام وأحلاف بأنه العليم بفلان والخبير بأقواله فيا سبحان الله أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم قصده ومبتغاه؟ أين أنت من قول القدوة الحبيب صلى الله عليه وسلم "إني لم أؤمر أنقب قلوب الناس ولا أشق بطونهم" والحديث أخرجه البخاري في صحيحه ومسلم في صحيحه ورحم الله ابن تيميه يوم أن قال في الفتاوى في الجزء التاسع عشر صفحة اثنين وتسعين ومائة قال: وكثير من مجتهدي السلف والخلف قد قالوا وفعلوا ما هو بدعة ولم يعلموا أنه بدعة إما لأحاديث ضعيفة ظنوها صحيحة وإما لآيات فهموا منها ما لم يرد منها وإما لرأي رأوه وفي المسألة نصوص لم تبلغهم وإذا اتقى الرجل ربه ما استطاع دخل في قوله: (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا) وفي الصحيح قال: قد فعلت، والحديث عند مسلم في كتاب الإيمان فيا أخي الحبيب أمسك عليك لسانك والزم الورع والتقى ومراقبة الله عز وجل وأشغل نفسك في طاعة الله أنفع لك عند الله فعن البراء ـ رضي الله تعالى عنه ـ قال: "جاء أعرابي إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال دلني على عملٍ يدخلني الجنة ـ انظر للحرص ـ دلني على عمل يدخلني الجنة قال صلى الله عليه وسلم أطعم الجائع، واسق الظمآن وأمر بالمعروف وانه عن المنكر فإن لم تطق فكف لسانك إلا من خير" والحديث أخرجه أحمد وابن حبان وغيرهما وهو صحيح وعند مسلم قال: "تكف شرك عن الناس فإنها صدقة منك على نفسك" سبحان الله انظر لفضل الله عز وجل علي عباده، إن كفك شرك عن الناس صدقة تكتب لك عند الله عز وجل، فيا أيها الأخ الكريم إن أبواب الخير كثيرة وأعمال البر عديدة فأشغل نفسك فيها فإن عجزت فكف لسانك إلا من خير وإن أبيت إلا أن تكون راصدا لأقوال الناس حارسا لألسنتهم فقيها ببواطنهم فحسبنا وحسبك الله . صورة أخري سمع ذلك المتحدث أو بعضا من كلماته بدون إصغاء جيد المهم أنه فهم فحوى الكلام وعرف قصد المتكلم أو هكذا زعم، انتبهوا لهذه الصورة لأنها تحصل لكثير منا، سمع ذلك المتحدث أو بعضا من كلماته بدون إصغاء جيد ، المهم كما يزعم أنه فهم فحوى الكلام وعرف قصد المتكلم أو هكذا زعم، أو قرأ ذلك الخبر أو الكتاب ها هو يلتهم الأسطر نظراته تتقافز بسرعة بين الكلمات التي تساقط منها الكثير لفرط السرعة ، المهم كما يزعم أنه فهم فكرة الكاتب وعرف قصده، ثم انتقل إلى المجالس ليؤدي ما تحمله ويزكي علمه، هكذا سولت له نفسه فذكر حديث فلان وخبر علان وأنه قال كذا وكذا فشرق وغرب وأبعد وأقرب فقلب الأقوال وبدل الأحوال وما أوتي المسكين إلا من سوء فهمه والتسرع في نقله أو في القراءة قول الآخرين ما لم يقولوا وقديما قيل: وما آفة الأخبار إلا رواتها
وكم من عارف قولا صحيحا
... وآفته من الفهم السقيم
ولكن تأخذ الأذهان منه(/159)
على قدر القرائح والفهوم
صورة أخري إننا نغفل أو نتغافل فنتكلم في المجالس ونذكر العشرات بأسمائهم فإذا ذكرنا مذكر أو حذرنا غيور بأن هذه غيبة قلنا: هذا حق وما قلنا فيه صحيح وقد يسرد لك الأدلة والبراهين على ما يقول فيزيد الطين بلة فيا سبحان الله أليس النص واضح وصريح ألم يقل الصحابي لرسول الله صلي اله عليه وسلم: "أرأيت إن كان في أخي ما أقول قال ـ أي النبي صلى الله عليه وسلم ـ إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته" والحديث أخرجه مسلم في صحيحه إذاً فلا مفر فإن كان ما ذكرته صحيحا فهذه هي الغيبة وإن كان ما ذكرته كذبا فهو ظلم وبهتان فكلا الأمرين ليس لك خيار، فأمسك عليك لسانك، فعن [أنس بن مالك] ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: "لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم" والحديث أخرجه أحمد في مسنده وأبو داود في سننه وإسناده صحيح ، وعن عائشة ـ رضي الله تعالى عنها أنها ذكرت امرأة ـ اسمعي أيتها المسلمة اسمعي يا من في قلبك خوف من الله عز وجل ـ عائشة رضي الله تعالى عنها ذكرت أنها ذكرت امرأة فقالت: أنها قصيرة، وفي رواية أنها أشارت إشارة أنها قصيرة فقال النبي ـ صلي الله عليه وسلم: "اغتبتيها" وفي رواية قال صلى الله عليه وسلم: "اغتبتها" والحديث أيضا عند أبي داود في سننه وعند أحمد في مسنده وغيرهما وهو صحيح إذا ما بال نسائنا اليوم يجلسن في المجلس فيعرضن لعشرات من النساء فلانة وعلانة وتلك فيها والأخرى فيها وهكذا ألا يخشين الله عز وجل؟ ألا يخفن يوم أن تقف المرأة أمام الله عز وجل فيسألها عن قولها، يا سبحان الله ألهذا الحد وصلت الغفلة في نساء المسلمين!!! أن يغفلن أن مثل هذا القول سيجزين عليه أمام الله سبحانه وتعالى!!! تذكري وقوفك بين يدي الله عز وجل، احرصي أيتها المسلمة لنحرص على أنفسنا إننا ابتلينا بقلة الأعمال الصالحة في مثل هذا الزمن وابتلينا بكثرة الذنوب والتقصير في حق أنفسنا وفي حق ربنا أيها الأحبة فلماذا إذاً نزيد الطين بلة ونجمع على ذلك ذنوب الآخرين في غيبتهم وتنقصهم وغير ذلك وليس معنى هذا السكوت عن الأخطاء إنني لا أطالب أن نسكت عن أخطاء الآخرين أو حتى نتغاضى عن العصاة والفاسقين والمجاهرين وليس معنى ذلك ألا نحذر منهم وألا نفضحهم ، لا بل هذه أمور كلها مطالبون فيها شرعا هذه مطالب شرعية ولكن بالمنهج الشرعي، وبالقواعد العلمية كما جاءت عن سلفنا الصالح رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، ولكني على يقين أن أكثر ما يقال في مجالسنا لمجرد التحدث والتفكه وربما الهوى وأحقاد وأضغان عافانا الله وإياكم منها ورحم الله عبدا قال خيرا فغنم، أو سكت عن سوء فسلم، صورة أخرى قلت لبعض إخواني الزم الأدب وفارق الهوى والغضب أو أمسك عليك لسانك وابك على خطيئتك وانظر لحالك وردد ما ذكرته لك على أمثالك وقد كنت سمعت منه قيلا وقالا وجرحا وسلبا وهمزا ولمزا في أناس ما سمعنا عنهم إلا خيرا وهم من أهل الفضل فما رأيناهم إلا يعملون الخير ويدعون له ويسعون للبر وينهون عن الإثم فما استجاب لي وما سمع مني فرأيت أن ألزم الصمت معهم وفيهم ولهم وعليهم فأقبلت على واجباتي أيما إقبال، وأرحت قلبي من الأحقاد والأغلال وذهني من الهواجس والأفكار ثم جاء بعض الفضلاء وقال: يقولون فيك كيت وكيت فيعلم الله ما التفتُّ إليهم ولا تأذيت وقلت لهم: رُبَّ كلام جوابه السكوت ورُبَّ سكوت أبلغ من كلام وعلمتني الحياة أن الصفح الجميل من أحسن الشيم .
قالوا سكت وقد خوصمت قلت لهم ...
... إن الجواب لباب الشر مفتاح
الصمت عن جاهل أو أحمق شرف ...
أيضا وفيه لصون العرض إصلاح
أما ترى الأُسْدَ تخشى وهي صامتة
والكلب يخشى لعمري وهو نباح(/160)
ونقل [ الإمام الشاطبي] عن [أبي حامد الغزالي] رحمة الله عليهما كلاما متينا يغفل عنه بعض الناس فقال: أكثر الجهالات إنما رسخت في قلوب العوام بتعصب جهلة أهل الحق أظهروا الحق في معرض التحدي والإذلال ونظروا إلى ضعفاء الخصوم بعين التحقير والازدراء فثارت من بواطنهم دواعي المعاندة والمخالفة ورسخت في قلوبهم الاعتقادات الباطلة وتعذر على العلماء المتلطفين محوها مع ظهور فسادها ، انتهى كلامه رحمه الله من كتاب الاعتصام للشاطبي . صورة أخرى من صور الواقع مع اللسان في مجالسنا اليوم جلس مع صاحب له أو أصحاب فتكلموا وخاضوا، ولم يكن لهم من الأمر شيء إلا أنه شريك في المجلس ومن باب المشاركة قالها كلمة أو كليمات لم يحسب لها حسابها ولم يتبين خطرها، ظنها حديث مجالس، كان يسمع لها حسابها ولم يتبين خطرها، ظنها حديث مجالس، كان يسمع ثم يهز رأسه علامة للرضا ثم قالها، لم يظن أنه يزل بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب فعن أبي هريرة رضي الله عنه كما في الحديث الذي أسلفناه أنه سمع النبي صلي الله عليه وسلم يقول: "إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يزل بها إلى النار أبعد مما بين المشرق والمغرب" اسمع للنصوص الشرعية واستجب لها فإن فيها حياتك ونجاتك فقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ما يتبين أي: لا يتأملها بخاطره ولا يتفكر فيها ولا في عواقبها ولا يظن أنها ستؤثر شيئا وهو من نحو قوله تعالى (ويحسبونه هينا وهو عند الله عظيم) هكذا يلقي بعض الناس هذه الكلمات فيا أخي الكريم انتبه للسانك، إن خطر اللسان عظيم وآفاته كثيرة فأمسك عليك لسانك. صورة أيضا أخرى كثير من الجلساء إذا ذكر له صديقه أثنى عليه ولو كان يعلم أنه لا يستحق ذلك الثناء وإذا ذكر له خصمه ذمه ولو كان يعلم أنه خلاف ما يقول، فيا أيها المؤمن أسألك بالله هل تستطيع أن تذكر العيوب الموجودة في أقرب الناس إليك عند الحاجة الشرعية لذلك؟ اسأل نفسك، وهل تستطيع أن تثني بصدق على إنسان تختلف معه في بعض الأمور؟ أنا لا أريد الإجابة ولكن الواقع يشهد أن أكثر الناس يجورون على خصومهم فيذمونهم بما ليس فيهم ويجورون أيضا على أصدقائهم فيمدحونهم بما ليس فيهم فإن من أثنى عليك بما ليس فيك فقد ذمك، نعم لأن الناس يطلبونها فيك فلا يجدونها فيذمونك على فقدها لا بل الأمر أدهى من ذلك وأشد فإن الحقيقة أنه كثيرا ما تنسينا العيوب القليلة المحاسن الكثيرة وننسى القاعدة الشرعية إذا كان الماء قُلَّتَين لم يحمل الخبث أفلا نتقى الله عند الجرح والتعديل وننزل الناس منازلهم أليس قد أثنى صلى الله عليه وسلم على [النجاشي] ووصفه بأنه ملك لا يظلم عنده أحد مع أنه حينها أي النجاشي كان كافراً لم يسلم ، فيا أيها المحب أسمعت رعاك الله أنصف الناس وأنصف نفسك فإن غلب عليك الهوى فأمسك عليك لسانك لا أبا لك . صورة أخرى تناظر اثنان في مجلس أي تجادلاً وتناقشاً فارتفعت أصواتهما وانتفخت أوداجهما وتقاذفا بالسب والشتائم قلت: إن التشنج والانفعال ليس هو الأسلوب الأمثل لنصرة الحق أبداً هذه القاعدة في رأسك يا أيها الحبيب .. ولكن كم من هادئ عف اللسان حليم كاظم للغيظ أقدر على نصرة الحق من غيره وقد قال [أبو عثمان بن الإمام الشافعي] رحمة الله عليهما أجمعين ما سمعت أبي يناظر أحداً قط فرفع صوته ولهذا كان الإمام الشافعي رحمة الله تعالى عليه يقول :
إذا ما كنت ذا فضل وعلم
بما اختلف الأوائل والأواخر
فناظر من تناظر في سكون
حليماً لا تلح ولا تكابر
يفيدك ما استفاد بلا امتنان
من النكت اللطيفة والنوادر
وإياك واللجوج ومن يرائي
بأني قد غلبت ومن يفاخر
فإن الشر في جنبات هذا
يمني بالتقاطع والتدابر(/161)
فبعض الاخوة غفر الله للجميع يظن أنه من تمام غيرته على المنهج وعظيم نصرته للحق لابد أن يقطب جبينه ويحمر عينيه و يرفع صوته وتتسارع أنفاسه وهذا لا يصح أبداً إن اختلاف الآراء لا يدعو إلى الأحقاد والأضغان إن اختلاف الآراء ووجهات النظر لا يدعو إلى الأحقاد والأضغان فإن المرجو البحث عن الحق وطلبه وليس التشفي والانتقام فينطلق اللسان بالسباب والشتائم ومقاطعة الكلام، فما من الناس أحد يكون لسانه منه على بال إلا رأيت صلاح ذلك في سائر عمله واسمع للأدب الجم والخلق الرفيع عند الحوار والمناقشة قال عطاء بن أبي رباح : إن الشاب ليتحدث بالحديث فأسمع له كأني لم أسمعه ، ولقد سمعته قبل أن يولد ، سمعت هذا الكلام الذي يقوله قبل أن يولد هذا الشخص الذي يتحدث ومع ذلك أسكت كأني لم أسمع الكلام إلا الساعة هكذا يكون الأدب عند الحوار وعند المناظرة ، وأخيرا من أعظم الصور في مجالسنا ومن أخطرها على كثير من الناس إطلاق العنان للسان في التحليل والتحريم والسخرية والاستهزاء بالدين هذه من أخطر الصور التي نرى أنها تفشت اليوم في مجالس المسلمين أياً كانوا رجالاً أو نساء ، صغارا أو كباراً ، وخاصة بين الشباب وبين العوام قضية التحليل والتحريم والسخرية والاستهزاء بالدين ولذلك إنك تسمع وترى تسرع فئات من الناس في إطلاق ألفاظ التحليل والتحريم وقد نهى الله عز وجل عن ذلك ، ونهى عن المسارعة في إصدار التحليل والتحريم فقال : (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون) وكان السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم مع سعة علمهم وفقههم لا يكثرون من إطلاق عبارات التحليل والتحريم وهذا من شدة ورعهم ومحاسبتهم لأنفسهم يقول الإمام مالك رحمة الله تعالى عليه: لم يكن من أمر الناس ولا من مضى من سلفنا ولا أدركت أحداً أقتدي به يقول في شئ : هذا حلال وهذا حرام ما كانوا يجترئون على ذلك وإنما كانوا يقولون : نكره هذا ، ونرى هذا حسناً ونتقي هذا ولا نرى هذا ، ولا يقولون حلالا ولا حراما . انتهى كلامه من جامع بيان العلم وفضله أما نحن فنسمع عبارات التحليل والتحريم على كل لسان وخاصة من العامة بدون علم ولا ورع ولا دليل مما أثار البلبلة عند الناس والتقول على الله بغير علم بل والمصيبة أن بعض الناس يسخر ببعض أحكام الدين ويهزأ بالصالحين والناصحين ربما سخر باللحية أو سخر بالثوب القصير أو سخر ببعض سنن المرسلين والعياذ بالله هؤلاء والله إنهم لعلى خطر عظيم ، ألم يسمع أمثال هؤلاء قول النبي صلى الله عليه وسلم : " وإن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يهوي بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب" ألم يسمع هؤلاء قول الحق عز وجل (ويل لكل همزة لمزة) الهُمَزَة: الطَعَّان في الناس واللمز الذي يأكل لحوم الناس، ألم يسمع هؤلاء قول الحق عز وجل: (يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيراً منهن) ألم يسمع هؤلاء لقول الحق عز وجل : ( ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد ) سبحان الله غابت عليهم هذه النصوص من القرآن والسنة ، غفلوا عن خطر ما يتقولونه في الليل والنهار في السخرية والاستهزاء بالدين ربما خرج بعضهم والعياذ بالله من الدين بسبب كلمة يقولها وهو لا يشعر فحق على العاقل أن يكون عارفاً بزمانه حافظاً للسانه مقبلاً على شأنه . النتيجة النهائية لإطلاق العنان للسان أقول يا أيها الحبيب ويا أيتها المسلمة إنك أحوج ما تكون إلى العمل الصالح أحوج ما نكون إلى العمل الصالح أيها الأحبة أحوج ما نكون إلى الحسنات ،وأراك تحرص على مجاهدة النفس لعلها أن تعينك على القيام بعمل صالح من صلاة أو صيام أو صدقة وقد تنتصر عليها وقد لا تنتصر وقد لا تنتصر وإن انتصرت وقمت بالعمل فلا يسلم من شوائب كثيرة مثل الرياء والنقص وحديث النفس وغيرها من مفسدات الأعمال ومع ذلك كله فإني أراك تبذ هذه الحسنات في المجالس أراك تبذ هذه الحسنات وتنثرها في المجالس والمنتديات ماذا تراكم تقولون أيها الأخيار تقولون في رجل أخرج من جيبه عشرات الريالات ثم نثرها في المجلس وبددها ماذا تقولون عنه أهو عاقل أو مجنون ؟ إن من جلس مجلسا ثم أطلق للسانه العنان فهذه علامة أكيدة على إفلاسه في الدنيا والآخرة فعن أبي هريرة أن رسول الله صلى لله عليه وسلم قال: "أتدرون من المفلس ؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ويأتي قد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته فإذا فنيت حسناته قبل أن يُقْضَى ما عليه أُخِذَ من خطاياهم فَطُرِحَتْ عليه ثم طرح في النار" والعياذ بالله ، والحديث أخرجه مسلم في صحيحه وعن أبي هريرة أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم(/162)
القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء" رواه مسلم حتى البهائم يفصل بينها يوم القيامة فاحفظ حسناتك فأنت أحوج لها واسمع لفقه [الحسن البصري] رحمه الله يوم أن جاء رجل فقال له : إنك تغتابني فقال : ما بلغ قدرك عندي أن أحكمك في حسناتي ، وعن [ابن المبارك] رحمه الله قال : لو كنت مغتاباً أحداً لاغتبت والدي لأنهما أحق بحسناتي ، ففقها رضي الله تعالى عنهما أن آفات اللسان تأتي على الحسنات وقد لا تبقي منها شيئاً فضياع الحسنات نتيجة أكيدة لإطلاق العنان للسان والعياذ بالله ، نتيجة ثانية لإطلاق العنان للسان فضحه وبيان عواره وهتك أستاره ذلك الذي أطلق لسانه وأصبح يتكلم بلا ورع في المجالس والمنتديات وربما أصبح بذيء اللسان والجزاء من جنس العمل فعن [أبي برزة] رضى الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا معشر من آمن بلسانه ولم يؤمن بقلبه لا تتبعوا عورات المسلمين ولا عثراتهم فإنه من يتبع عثرات المسلمين يتبع الله عثرته ومن يتبع الله عثرته يفضحه وإن كان في بيته" والحديث أخرجه أبو داود وأحمد والبيهقي والحديث صحيح بمجموع طرقه والواقع يشهد بذلك فكم فضح الله حقيقة أولئك الذين آذوا إخوانهم بألسنتهم حتى عرفهم الناس وانكشف أمرهم . أيضاً من النتائج لإطلاق العنان للسان أنه يعد من شرار الناس فيتجنبه الناس ويحذرونه اتقاء فحشه وإن ضحكوا له وجاملوه هذه حقيقة نشاهدها في مجالسنا كثيراً أن من أطلق للسانه العنان يعد من شرار الناس فلذلك تجد أن الناس يتجنبونه ويحرصون على الابتعاد عنه اتقاء فحشه وإن جلس معهم في مجالسهم وإن ضحكوا وإن جاملوه فإنه اتقاءً لفحشه ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة : "شر الناس منزلة عند الله يوم القيامة من ودعه أو تركه الناس اتقاء شره" ، والحديث أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما .
رابعاً: من النتائج أيضاً وهى أخيرة باختصار شديد البلاء موكل بالقول فيُبْلَى المتكلم بما كان يذكره في أخيه واحذر أيها الأخ الحبيب واحذري أيتها المسلمة احذر أن تظهر الشماتة بأخ أو بأخت لك فيعافيها الله عز وجل ثم يبتليك بما كان فيها فالبلاء موكل بالقول فعن [واصلة بن الأسمر] رضي الله عنه قال ، "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تظهر الشماتة بأخيك فيرحمه الله ويبتليك " والحديث أخرجه الترمذي في سنته وقل : حسن ، وقال[ إبراهيم التيمي] إني أجد نفسي تحدثني بالشيء فلا يمنعني أن أتكلم به إلا مخافة أن أبتلى به والأثر عند [وكيع] في الزهد وقال [ابن مسعود] : البلاء موكل بالقول ولو سخرت من كلب لخشيت أن أحول كلباً هذه نتائج أربع باختصار من نتائج إطلاق العنان للسان وأخيراً أقول أيها المسلم ويا أيتها المسلمة في نهاية المطاف هذه شذرات حول اللسان حسبي أني اجتهدت فيها فما كان فيها من صواب فمن الله عز وجل وما كان فيها من خطأ فمن نفسي والشيطان والله ورسوله منه بريئان وأسأل الله عز وجل أن يعفو وأن يصفح عن هذا الخطأ وعن هذا التقصير ، أظن الجميع بحاجة ماسة للتذكير فيها فالعاقل يحرص والغافل يتذكر والمبلي يحذر فيا أيها السامع ، يا أيها السامع لهذه الكلمات كن أنت المستفيد الأول من هذه الكلمات ثم اعلم أنك تجالس كثيراً من الناس من أحبابك وخلانك وأصدقائك ولا تخلو المجالس من غثاء قل أو كثر فمن حقهم عليك أن يسمعوا مثل هذا الكلام ومن حقهم عليك أن يذكروا بمثل هذه الآيات وهذه الأحاديث فإن القلب يغفل وأن النفس تسلو فما أكثر الاستراحات الآن وما أكثر الجلسات وما أكثر المنتديات فاسمع وأسمع فلمثل هذا كان الموضوع فاسمع و أسمع واستفد وأفد والدال على الخير كفاعله أسأل الله عز وجل أن يجعله خالصاً لوجهه وأن ينفع به الجميع ووفقنا الله وإياكم إلى ما يحبه ويرضاه اللهم طهر قلوبنا من النفاق وأعيننا من الخيانة وألسنتنا من الكذب والمراء والجدال اللهم طهر ألسنتنا من الغيبة والنميمة وجنبنا الوقوع في الأعراض اللهم جنبنا الوقوع في الأعراض اللهم اجعل ألسنتنا حرباً على أعدائك سلما لأوليائك اللهم إنا نسألك سكينة في النفس وانشراحاً في الصدر اللهم اجعلنا من الصالحين المصلحين اللهم انفعنا وانفع بنا اللهم اجعلنا من الصالحين المصلحين ومن جندك المخلصين وانصر بنا الدين واجعل لنا لسان صدق في الآخرين سبحانك اللهم وبحمدك ونشهد ألا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً .(/163)
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا أما بعد أيها الأحبة في الله السلام عليكم ورحمة الله وبركاته هذا هو الدرس الواحد والأربعون من سلسلة الدروس العلمية العامة والتي ينظمها المكتب التعاوني بمدينة >الرس< وينعقد في هذه الليلة المباركة ليلة الثلاثاء الموافق للسابع من شهر ذو القعدة للعام السادس عشر بعد الأربعمائة والألف وعنوان هذا الدرس واجبنا تجاه المسلمين أو إن شئت فقل أفتش عن إنسان ولماذا أفتش عن إنسان ذلك ما قاله الفيلسوف اليوناني [يوتين] حينما سئل ما يصنع بمصباحه وكان يدور به في بياض النهار فقال أفتش عن إنسان لماذا هذا الموضوع؟ أولا عندما يسمع المسلمون بالمصائب والمحن التي تقع على المسلمين يتساءل الكثير منهم ما دورنا نسمع هذه الكلمة كثيرا ما دورنا وهذا الطرح محاولة للإجابة على هذا السؤال ؛ثانيا: لحال المسلمين في كل مكان وما يلاقونه من ذل وهوان وضياع وفرقة وقتل وتشريد وجوع وتنصير وما نعيشه نحن من ترف وإسراف وبذخ وتبذير فهل يصح شرعا أو عرفا بل في كل المعايير الإنسانية من شفقة ورحمة وإحسان ورأفة أن يموت الناس بالتخمة والبدنة وآخرون بالجوع ؟لا والله ثالثا الإعذار إلى الله الإعذار إلى الله ونحن نسمع عن أنهار الدماء وأكوام الأشلاء ونحن نسمع صرخات العذارى وأنين الثكالى الإعذار إلى الله ونحن نري دموع الأرامل وعيون اليتامى ولن نعذر والله إلا بالقيام بواجبنا لن نعذر والله إلا بالقيام بواجبنا ومن واجب طلاب العلم التوجيه والبلاغ بقدر المستطاع رابعا كان هذا الطرح دلالة وتوجيها ليقوم كل منا بواجبه تجاه المسلمين فيتحرك القادرون ويهتم الموسرون لنساعد المعنيين ونضع أيدينا بأيد المسئولين فإن أرض هذه الجزيرة قد أنعم الله عليها بنعم لا تحصي والحمد لله ومن كثرت نعم الله عليه كثر تعلق الناس به فإن قام بما يجب عليه للناس فيها شكرها وحافظ عليها وإن قصر ومل وتبرم فقد عرضها للزوال أخرج [الطبراني] في الأوسط و[ابن أبي الدنيا] من حديث [ابن عمر] أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إن لله أقواما يختصهم بالنعم لمنافع العباد يقرها فيهم ما بذلوها فإذا منعوها نزعها منهم فحولها إلى غيرهم " والحديث حسن بمجموع طرقه وله شاهد من حديث [ابن عباس] مرفوع بلفظ "ما من عبد أنعم الله عليه نعمة فأسبغها عليه ثم جعل حوائج الناس إليه فتبرم فقد عرض تلك النعمة للزوال" قال [المزري] وتبعه [الهيثمي] رواه [الطبراني] وإسناده جيد .
معاشر الإخوان فلنقم بنعمة الله علينا ولنحذر من التبرم والملل والتقصير لذا حرى بنا أن نحرص على هذه التوجيهات وأن نُسْمعها كل الفئات ليعمل الجميع ليعمل الجميع من أجل رضا الله ؛وبالطاعة تدوم النعم نسأل الله أن يحفظها علينا وعلى بلادنا وسائر بلاد المسلمين المواساة، والرحمة والإحسان منبعها قلب الإنسان ولذلك قلت أفتش عن إنسان فمن لي بقلب هذا الإنسان فعنه أفتش وعنه نفتش ملايين المستضعفين وقبل أن أبدأ بما أريد اسمع ما قاله [ابن رجب] رحمه الله عن الرسول صلى الله عليه وسلم قدوتنا وحبيبنا ومرشدنا بأبي هو وأمي عليه أفضل الصلاة والتسليم قال ابن رجب وكان جوده بجميع أنواع الجود من بذل العلم والمال وبذل نفسه لله تعالى في إظهار دينه وهداية عباده وإيصال النفع إليهم بكل طريق من إطعام جائعهم ووعظ جاهلهم وقضاء حوائجهم وتحمل أثقالهم ولم يزل صلى الله عليه وسلم على هذه الخصال الحميدة منذ نشأ ولهذا قالت له [خديجة] في أول مبعثه والله لا يخزيك الله أبدا إنك لتصل الرحم وتقر الضيف وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتعين على نوائب الدهر، ثم تزايدت هذه الخصال فيه بعد البعثة وتضاعفت أضعافا كثيرة .انتهي كلامه رحمه الله، أفتش عن إنسان وأنا أطالع خبرا في مجلة الدعوة السعودية بتاريخ الثاني عشر من شهر رمضان لهذا العام تقول المجلة -وأختصر الخبر-: مسلسل هدم المساجد في الهند مستمر صواريخ هندية على رؤوس المصلين في كشمير في تمام الساعة الثانية عشر الثانية عشر ظهرا وأثناء أداء المصلين لصلاة الجمعة مما أدي إلى مقتل أكثر من عشرين شخصا وقال الخبر إن عدد القتلى يزيد عن عشرين شخصا وهناك عشرات من الجرحى وإن صاروخا أصاب المسجد بينما سقط الصاروخ الثاني في السوق الواقع خلف المسجد .هذا هو الخبر مختصرا والتفصيل هناك لكني أترك تحليلات هذا الخبر لكم وأقول لو كان هذا المسجد كنيسة هل تتجرأ الهند على هدمه وتصويب صواريخها نحوه ولا أقول إلا إنا لله وإنا إليه راجعون وحسبنا الله وحسبنا الله ونعم الوكيل :
ما خالط العمر يوم فيه متكأ
لفرحة القلب إلا شابه كدر
ولا سألت زماني فرحة وغدت
في الروح تبحر إلا غالها خبر(/164)
كأن فرحة أمتي لم تزل وهجا
بين السراب فلا غيث ولا مطر
دم الأحبة يجري في مساجدنا
ونحن ندعو على الكفار مذ كفروا
لن يقبل الله منا زيف أدعية
وفي القلوب أَمانٍ لفها خبر
أفتش عن إنسان وأنا أسمع أحاديث أحد الاخوة وقد كان في الشيشان فأخبرنا بما رأته عيناه وما وقفت عليه قدماه من الدمار والمآسي التي يعيشها المسلمون هناك حدثني؛ قصص الأسر والأمهات والأطفال ومآس وأحزان وأهوال حتى لم تعد الآذان تسمع له فقد أصابها الصمم من فزع القلب واضطراب النفس وحشرجة الصدر ضاقت علي نفسي حتى لم أعد أسمع لحديثه شيئا وكان آخر ما سمعته منه قصة تلك الأسرة المكونة من اثنتي عشر نفسا رضيع وصبية صغار وفتاة وأم وأب قال محدثي كنت وصاحب لي في سيارة في أحد المدن الشيشانية وبينما ونحن نسير في أحد شوارعها وقد سلكنا المنعطف الأيمن لشارع آخر وفجأة سمعنا صوتا هادرا مزعجا على بعد أمتار قليلة من فوق رؤوسنا فإذا بانفجار مدو مفزع فأوقفنا السيارة ونزلنا فإذا بمكاننا الذي مررنا فيه منذ ثوان قليلة قد أصبح حفرة كبيرة قطرها أكثر من عشرة أمتار سبحان الله منظر مفزع طائرة روسية تسبق صوتها ألقت صاروخا وقع على بيت تلك الأثرة المسكينة فجعلتهم وأثاثهم أشلاء ممزقة في كل مكان قال محدثي فبدأنا بجمع الجثث فبدأنا بجمع الجثث الرضيع والصغير لا تكاد تري شيئا من وجهه، الصبية الصغار فقدوا بعض أطرافهم وأجزاء من أجسادهم الفتاة لا تكاد تعرفها الوالدان كل منهما في جهة وبعد ساعة من الزمن جاء جد هذه الأسرة فقد خرج في الصباح الباكر من البيت وقد ترك أحفاده على خير حال وإذا به يرجع فيجد نفسه بلا أبناء ولا أحفاد ولا منزل ولا طعام يقول محدثي فأخذ يبكي بكاء الأطفال قال فتأثرنا والله من بكائه أكثر من تأثرنا بالحادث نفسه فمن الصعب أن تري أمامك رجلا في السبعين من عمره يبكي بهذه الصورة إلى هذا الحد سمعت وأدركت من حديث صاحبي ثم بدأت خلجات النفس ودقات القلب في الاضطراب وأنا أفكر بحال هذه الأسرة وجدها فلم أعد أسمع شيئا مما قاله بعد ذاك سبحان الله أسرة كاملة تنتهي في لحظة واحدة قبل الحادث بلحظات تراهم ماذا كانوا يفعلون وبماذا كانوا يتكلمون أهم مستيقظون أم نائمون وهل كانوا يأكلون أو يضحكون أو يبكون نعوذ بالله من الموت الفجأة أيها المسلم أيتها المسلمة أعرفتم لماذا أفتش عن إنسان هذه حال أسرة شيشانية واحدة علمناها لأن صاحبنا رآها فحدثنا وحدثناها فكيف بحال بقية الأسر التي لم نرها ولم نسمع رواها ولم تجد أحداً يحدث عن حالها وأساها وهذا حال أسرة شيشانية فما حال الأسر البوسناوية والأسر الصومالية والأسر الكشميرية والأسر الفلبينية والأسر الطاجيكية والأفغانية و الجورجية والكردية وغيرها من الصرخات والاستغاثات الجماعية من أسر إسلامية ولكن
يموت المسلمون ولا نبالي
ونعرف بالمكارم والخصال
ونحيا العمر أوتارا وصفا
ونحيا العمر في قيل وقال
وننسي أخوة في الله جرت
بهم كف الزمان على الرمال
تمزقهم نيوب الجوع حتى
يكاد الشيخ يعذر بالعيال
يشدون البطون على خوالٍ
ويقتسمون أرغفة الخيال
وتضربهم رياح الموت هوجا
وفي أحداقهم نزف الليال
وناموا في العراء بلا غطاء
وساروا في العراء بلا نعال
كأن البيد تلفظهم فتجري
بهم بيد إلى بيد خوال
يسير لعابهم لهفا وتدوي
عيونهم على جمر السؤال
وليت جراحهم في الجسم لكن
جراح النفس أقتل للرجال
يمدون الحبال وليت شعري
أنقطع أم سنمسك بالحبال
وقبل الجوع تنهشهم كلاب
من الإفرنج دامية النصال
يؤدون الضريبة كل يوم
بما ملكوا ودين الله غال
سِلابٌ إنما الأيام رُقط
ويثني الجوع أعناق الرجال
أتوا للشرق عل الشرق درب
إذا بالشرق ينفر كالثعال
لماذا كل طائفة أغاثت
بنيها غيركم أهل الهلال
ترى الصلبان قد نفرت وهبت
يهود بالدواء وبالغلال
هبوهم بعض صائمة البراري
هبوهم بعض سابلة النمال
نسيتم واتقوا يوما ثقيلا
به النيران تقذف كالجبال
تفور وتزفر الأحشاء زفرا
كأن شرارها حمر الجمال
ونحن المسلمين ننام حتى
يضيق الدهر بالنوم الخبال
جلستم والأرائك فاخرات
وأوجفتم على الفرش الغوال
ورصعتم قصوركم مرايا
لتنطق بالبهاء وبالجمال
وماج العطر وأتلق الجنان
كأن العمر ليس إلى زوال
ننام على الريال وإن صحونا
فإن الفجر فاتحة الريال(/165)
نعم أفتش عن إنسان ونحن نرى ونسمع ونقرأ عن التنكيل بالإنسان في الشيشان وفي غير الشيشان وربما كان ذلك باسم حقوق الإنسان أين من يتألم بحال المسلمين أين من يحترق للمنكوبين أين من يمسح على رأس اليتيم ويطعم المسكين بل أين من يتابع أخبار المسلمين إن الكثير الكثير من المسلمين بل من الصالحين وللأسف لا يعلمون شيئا عن أخبار المسلمين فلا يقرءون ولا يسمعون ولا يحرصون ولسان حالهم يقول تكاثرت الضباع على خراش فما يدري خراش ما يصيبه ففي كل بقعة مأساة وفي كل مكان مصيبة أيها المسلم أيتها المسلمة هذا واقعنا وهذا حالنا فما العمل ما هو الحل هل الحل أن نتغافل وندس رءوسنا بالتراب وننشغل في أكلنا وشربنا وبيعنا وشرائنا بل وفرقتنا وأكل لحوم بعضنا بحجة كثرة المآسي والمصائب على المسلمين هل الحل أن تموت أخوة الدين وينعدم الشعور بالجسد الواحد بسبب كثرة الجراح هل الحل أن ننسى الأحداث وهي تطحن الجسد المسلم في الشرق والغرب إنه الجسد الواحد وربما أتى عليك الدور أسأل الله أن يحفظك ويرعاك وكل مسلم، ما هو الحل وما هو العمل لعلك لا تعجب من العنوان إذاً فأنا أفتش عن إنسان وربما قلت لماذا لم تقل أفتش عن مسلم فأقول هب أن أخوة الدين قد تلاشت من القلب وهب أن الشعور بالجسد الواحد مات وهب أن الهم للمسلمين عدم أليس في قلبك رحمة أليس فيه عطف وشفقة ألست إنسانا ألا تحمل بين جنبيك مضغة لحم تسميها قلبا أين قلبك أيها الإنسان وأنت بعينيك تري الأشلاء والدماء تناثرت مبعثرة أين قلبك وأنت ترى الرضع الصغار وقد اخترق أجسادهم الطرية رصاص الغدر والخيانة أين قلبك وأنت تسمع عن نصف مليون مسلم تفنن الصرب في قتلهم وذبحهم بالسكاكين والمناشير ودفنهم أحياء في مقابر جماعية فقد نقلت محطات التليفزيون العالمية مؤخرا صور العديد من المقابر الجماعية التي حفرها الصرب في أنحاء مختلفة على أرض البوسنة ودفنوا فيها آلاف الضحايا المسلمين المدنين الأبرياء وقالت جريدة الشرق الأوسط في السابع عشر من شهر رمضان لهذا العام ؛ويتبين بعد جمع الشهادات والتحقيقات الصحفية بصورة شبه أكيدة أن هناك خمسة عشر موقعا لهذه المقابر وتعتبر منظمات لحقوق الإنسان أن ثمة مائتي مقبرة جماعية تقريبا في أنحاء مختلفة من البلاد تحتوي على جثث تم دفنها بسرعة إلى جانب الآلاف من جثث المسلمين إلى آخر الخبر. أين هذا القلب أين هذا القلب وهو يسمع أن مائة ألف شيشاني قتلهم الروس الشيوعيون حتى الآن وما يزال الآلاف يتساقطون مع وقع هذه الأخبار على قلبك أيها الإنسان أين هذا القلب وهو يسمع أنين وصرخات أكثر من ستين ألف مسلمة انتهك عرضها وضاع شرفها وملئت بأولاد الكافرين أحشاؤها هي تصرخ وتئن من تحت ذلك العلج الكافر فمن يسمع لصراخها ومن يجيب نداءها أين قلبك وكيف حالك وأنت تسمع هذا الخبر الذي نشرته جريدة عكاظ في الثاني من الشهر الثاني للعام الرابع عشر بعد الأربعمائة والألف تقول الجريدة هربت إسرائيل عشرين ألف طفل صومالي إلى إسرائيل خلال شهر يونيو للعام الثاني والتسعين بعد التسعمائة والألف من الميلاد بهدف تربيتهم في المستعمرات الإسرائيلية وضمهم للجيش الإسرائيلي مستقبلا وتمت عملية التهريب بعد أن قام وفد رفيع المستوى يمثل الحكومة والكنيسة بزيارة إلى الصومال والالتقاء بمسئولين صوماليين. أين قلوبنا وماذا عملنا لإخواننا ونحن نسمع مثل هذه الأخبار عذرا أيها المسلمون المستضعفون في كل مكان فها نحن نبلغ إخوانكم شيئا من أحوالكم
عذرا ربا المجد إن القوم قد هانوا
وإنهم في أيادي المعتدي لانوا
عذرا فما ردهم عما يحاك لهم
وعيا ولا رده دين وقرآن
عذرا فأروقة الأحزان حافلة
وساحة الفرح المقتول قيعان
عذرا فبحر المآسي لم يزل لجبا
يموج في مائه قرش وحيتان
عذرا فإن بلاد العُرْبِ لاهية
تضج في صدرها عبس وذبيان(/166)
أقف عند هذا الحد فالأخبار والأرقام عن مآسي المسلمين وأحوالهم لا تنتهي لكني ما زلت أفتش عن ذلك الإنسان صاحب القلب الرحيم يمسح على رأس اليتيم ويطعم المسكين وتدمع عينه لصرخات المكلومين ويخفق قلبه لأنين المتوجعين ويلهث لسانه بالدعاء لرب العالمين أن ينصر المستضعفين ويهلك المعتدين أيها المسلمون" إنما يرحم الله من عباده الرحماء" ، "أفضل الأعمال أن تدخل على أخيك المؤمن سرورا أو تقضي عنه دينا أو تطعمه خبزا" كما في قضاء الحوائج لابن أبي الدنيا وإسناده حسن "ومر رجل بغصن شجرة على ظهر طريق فقال والله لأمحين هذه لأمحين هذا عن المسلمين لا يؤذيهم فأدخل الجنة" كما في صحيح مسلم أدخل الجنة لأنه أبعد غصن شجرة كانت في طريق المسلمين فما رأيك بمن يحمل هم المسلمين ويتحسس أحوال المساكين و"خير الناس أنفعهم للناس "كما في الطبراني في الكبير والبيهقي في الشعب وحسنه،" الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله أو القائم الليل الصائم بالنهار" كما في البخاري ومسلم وأحمد وغيرهم هذه أصول في المنهج الشرعي لك أيها المسلم فأنت رحيم أنت رحيم تصنع السرور للآخرين تنفع الناس وتطعمهم الطعام وتسعى على الأرملة والمسكين وتمسح رأس اليتيم تنفس عن مسلم وتيسر على معسر وتفرج الكرب هذا هو ديننا وهذا هو إسلامنا وهذه عقيدتنا ديننا دين الشفقة والرحمة والعطف والإحسان رقة في القلوب وشفافية في النفوس ليس مع الإنسان فقط بل مع الحيوان أيضا فإن بَغياً من بني إسرائيل غفر لها لأنها سقت كلبا كاد يقتله العطش وإن امرأة دخلت النار في هرة حبستها حتى ماتت لا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض أيها المحب هذا في كلب وهرة فما ظنك بالإنسان الذي يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله أيها الإنسان لن تكون ذلك الإنسان الذي يفتش عنه مئات الآلاف من الثكالى واليتامى إلا لهذا المنهج وهذه العقيدة فأحيي قلبك وامتثل شرعك أيها المسلم في رمضان تجوع وتعطش والصوم حرمان مشروع وتأديب بالجوع وخشوع لله وخضوع فهل عرفت الجوع كيف يقع هل عرفت الجوع كيف يقع وهل شعرت بألم الجوع إذا لذع واسمع لهذه المختارات لـ[المنفلوطي] من كتاب النظرات قال :لو أعطى الغني الفقير ما فضل عن حاجته من الطعام ما شكى واحد منهما سقما ولا ألما وقال إن الرحمة كلمة صغيرة ولكن بين لفظها ومعناها من الفرق مثل ما بين الشمس في منبرها والشمس في حقيقتها وقال لو تراحم الناس لما كان بينهم جائع ولا عار ولا محروم ولا مغبون وقال ليتك تبكي كلما وقع نظرك على محزون أو مفقود فنبتسم سرورا ببكائك واغتباطا بدموعك لأن الدموع التي تتحدر على خديك في مثل هذا الموقف إنما هي سطور من نور تسجل لك في تلك الصحيفة البيضاء أنك إنسان …انتهي كلامه ، أيها المسلم مراد الله من الناس رقة قلوبهم رقة قلوبهم وأكرم بها من نعمة؛ فرقة القلب وغزارة الدمع من أسباب السعادة والنبي صلى الله عليه وسلم يقول "يدخل الجنة أقوام مثل أفئدة الطير" كما في مسلم وأحمد من حديث أبي هريرة فأين رقة القلب فيك وغزارة الدمع في عينيك مما يجري للمسلمين الآن إذاً فأول ما يطالبك به الملايين من المسلمين المجروحين في كل مكان أن تحمل همهم في قلبك أن تشعر بشعورهم فتحس بجوعهم وهم جوعى وبفقرهم وهم حفاة عراة يفترشون الأرض ويلتحفون السماء وأنت تنظر لأطفالك تذكر الأطفال في البوسنة والهرسك ومشردي بورما والصومال فكم من يتيم ينشد عطف الأبوة الحانية ويلتمس حنان الأم الرؤوم يرنو إلى من يمسح رأسه ويخفف بؤسه، وأنت مع زوجك تهنئين بالعيش والراحة تذكري كم من أرملة توالت عليها المحن وفقدت عشيرها بعد أن كانت تحت كنف زوج عطوف واسمع اسمع لهذا الشاعر المرهف وهو يخاطب طفلته الصغيرة يقول:
آه لو أبصرت طفلا في ربوع القدس يشكو غربته
وصغيرا في ربا كابول يلقي نظرته ويداري دمعته
لو رأيت المدفع الثرثار يلقي خطبته
آه لو أبصرت طفلا في حماس وحلبجة
ودعايات عن التحرير فجة
لو أبصرت أطفال الفلبين الضحايا
وجراحاً في إريتريا وصيحات الصبايا
كيف لو أبصرت طفلا حين يرميه
الجبان برصاص ودخان
كيف لو أبصرت طفلا لم يذق منذ
رأى دنياه طعما للحنان
لم يذق إلا الأسى المر ولم
يسمع سوي صوت الطعان
يا ابنتي قولي معي :
أيها العالم سحقا حينما
تغدو حياة الناس ميدان رهان
حينما يفتقد الطفل الأمان(/167)
تذكر وأنت تصلي وأنت تصلي الصلاة في المسجد بأمن وأمان وراحة وسلام حال أولئك المصلين وقد فرقهم صاروخ يهودي أو هندوسي أو روسي أو صربي فأصبح المسجد بركا من الدماء إننا نريد أن نشعر بشعور الجسد الواحد الذي أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم فقال "مثل المؤمنين في توادهم وفي تراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى" وفي الحديث الآخر "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا وشبك بين أصابعه "إن دمعة من عينيك إن دمعة من عينيك وزفرة من صدرك لهي دليل على صدق الانتساب إلى هذا الدين بل هي عبادة تؤجر عليها فالدمعة والزفرة علامة للشعور بالجسد الواحد إنك حينما تحمل هم المسلمين في قلبك يتأوه القلب وتدمع العين ويتحدث اللسان فهل نسمعك تتحدث عن المسلمين وما يجري لهم هل نسمعك أيتها الأخت المسلمة وأنت تقرئين وتنقلين أخبارهم للأمهات والجدات والأولاد هل نَسْمَعُكِ ؟ أو هل نسمعك أيها الشاب وأنت تنقل الأخبار والأحداث للأهل والآباء والأصحاب هل نسمعك أيها الأب وأنت تحدث أبناءك عما سمعته عبر المذياع أو قرأته عبر المطبوعات عن أخبار المسلمين نعم نعم مجرد الحديث فيه خير كثير نريد أن نسمع الجميع يتحدث عن مصائب المسلمين فإن في هذا الحديث أثرا على القلب ورقته وأثرا على النفس فهي تحزن لحزنهم وتفرح لفرحهم إنهم- أعني المسلمين- في كل مكان يطالبوننا ولو بدموع العيون وآهات الصدور فإن في ذلك تسلية لهم وعزاء لمصابهم إننا نريد أن تسيل دموع المسلمين وأن تظفر صدورهم لحال إخوانهم فإذا نجحنا فإن أول السيل قطرة ولكن كم يحز في النفس ويملأ القلب أسا وكمدا أن كثيرا من ذوي الكفاءات والمواهب البارزة من الصالحين قعدوا عن هذه المهمة يثقلون الأرض من كثرتهم ثم لا يغرون في أمر جلل ولو سألتهم عن السبب لذكروا فساد الأحوال وقلة الرجال وكثرة الأدعياء وخلو الساحة فيا سبحان الله لمن تركتم الساحة إذاً أيجوز أن يقتصر الدور على الحوقلة والاسترجاع بل ربما لم تدمع أعينهم ولم تخفق قلوبهم بل ربما لم يعلموا عن أخبار وأحوال إخوانهم من المسلمين شيئا إن ثروة الأمة بحق إن ثروة الأمة بحق هو ذلك الإنسان الجاد الذي يشعر بالمسئولية وعظم الأمانة فمن يحمل هم المسلمون إذاً أيها الصالحون إذاً فهذا أولا فنحن نطالبك أيها المسلم وأيتها المسلمة أن تشعر بشعور المسلمين وتعلم حالهم وتتألم لمصابهم ففي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال" من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه" وفي الصحيحين أيضا "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة" في الحديث الأول تنفيس وفي الثاني تفريج قال أهل العلم إن تفريج الكروب أعظم من تنفيسها إذ التفريج إزالتها أما التنفيس فهو تخفيفها والجزاء من جنس العمل فمن فرج كربه أخيه فرج الله كربته والتنفيس جزاؤه تنفيس مثله إذاً أيها المسلم اشعر بشعور المسلمين تعرف على أحوالهم تألم لمصابهم تحدث عن أخبارهم أحرق القلب واذرف الدمع من أجلهم هذا أولا.(/168)
ثانيا: أنت مطالب بالدعاء لإخوانك والتضرع إلى الله عز وجل والإلحاح عليه فهو سلاح الخطوط وهو سلاحك أيها المؤمن سيدفع به البلاء ويرد به شر القضاء وهل شيء أكرم على الله من الدعاء لكنه يحتاج إلى لسان صادق وقلب خافق يعتصره الألم ويفرقه الهم أيها الاخوة اعلموا أنه سبحانه بفضله ومنه وكرمه يجيب الدعاء ويحقق الرجاء ويكشف البلواء لكننا نريد حقيقة الدعاء وحقيقة الالتجاء وحقيقة التضرع والشكوى فإن الله لا يقبل دعاء من قلب غافل ،إن للدعاء أثرا في تحقيق الرغائب ودفع المصائب وحصول الطمأنينة والسكينة فأين أثر دعائنا إننا لا نستعجل الإجابة ولكننا نريد الصدق في الدعاء نريد من يرفع يديه في ظلمة الليل من أجل إخوانه سبحان الله أليس فينا أشعث أغبر لو أقسم على الله لأبره إن إخواننا بشر مكلفون وهم مسلمون وفيهم الصالحون والمؤمنون فإلى كل مسلم ومسلمة يريد نصرة إخوانه أقول الله الله بالدعاء كما ينبغي وإلى كل بلد أصيب ببلاء وضراء أقول الله الله بالتضرع والإلحاح على الله فإن الله يقول(ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء و الضراء لعلهم يتضرعون فلولا جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون) إياك إياك والملل من الدعاء أو استبطاء الإجابة فقد قال صلى الله عليه وسلم "يستجاب لأحدكم ما لم يعجل ويقول قد دعوت فلم يستجب لي" إننا لا نحمل هم الإجابة إننا لا نحمل هم الإجابة فإن الله وعدنا بها ولكننا نحمل هم الدعاء بآدابه وشروطه فهل من مجيب.(/169)
ثالثا: نطالبك بالبذل والإنفاق والإحسان من مال الله الذي أعطاك فأنت بنفسك تذكر كثرة المصائب والمحن على المسلمين وأن في كل مكان مأساة فلماذا إذاً تبخل فإن هذا داع لك للإكثار لماذا يضيق بعض الناس ويتبرم من كثرة الهيئات الخيرية والمؤسسات الدولية التي تطالبه بالبذل والعطاء إنها ظاهرة صحية ودليل على صحوة الأمة وقيامها بواجباتها تجاه المسلمين في كل مكان إن الجميع يشهد بالخير لجميع البلاد بهيئاتها ومؤسساتها الخيرية ويذكرها بالفضل والإحسان لمد يد العون للمسلمين في كل مكان وفق الله القائمين عليها لما يحبه ويرضاه وأعانهم لما فيه خير الإسلام ونصرة هذا الدين ولكن لكن الخرق اتسع على الراقع ومن حق إخواننا في الهيئات والمؤسسات الوقوف معهم وبذل المال لهم والذب عن أعراضهم والدعاء لهم فأنت تدفع المال فقط أنت تدفع المال فقط وهم ينظمون ويخططون ويسافرون ويتعرضون للأخطار قاموا بواجب النصرة ومد يد العون على قدر ما يجدون وما يستطيعون فهل بعد هذا نضيق بكثرة طلباتهم إنهم لا يطلبون لأنفسهم شيئا ولا يعملون بالمقابل إنما هو لك يصل لمستحقيه لتعذر أمام الله (وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون) ثم لماذا هذا الإمساك العجيب فعندما ينادي منادي لإنفاق المسلمين يا سبحان الله هل حدثتك نفسك وأنت تدفع مائة ريال أو ألف ريال أنك دفعت ثلث مالك هنا يأتي الدليل على صدق الانتساب إلى هذا الدين والدليل على حمل هم المسلمين والدليل على الصدق لنصرة المسلمين والدليل على صدق الدمعة التي تسيل (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم) أيها الاخوة إن [أبا بكر] تبرع بماله كله وعمر بنصفه وعثمان جهز جيشا للمسلمين هكذا فلتكن النصرة للمسلمين وهذا هو صدق اليقين بما عند رب العالمين (ما عندكم ينفد وما عند الله باق)( وما عند الله خير وأبقي) بمثل هذه الصراحة مع أنفسنا وبمثل هذا التفكير نجد الإجابة للذل الذي نعيشه والهوان الذي أصابنا نجد الإجابة لحال المسلمين ومآسيهم في كل مكان إنها حب الدنيا وكراهية الموت الإسراف على الشهوات والإمساك، الإسراف على الشهوات والإمساك في الواجبات انظر لنفسك عند شراء الطعام والشراب بل عند شراء الجرائد والمجلات انظر لنفسك عند بناء البيت وتحديثه، انظري لنفسك أيتها الأخت عند شراء اللباس وأدوات الزينة وملابس الأطفال وألعابهم كم ننفق على أنفسنا وشهواتها وكم ننفق لنصرة ديننا وعقيدتنا (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير) لنغير ما بأنفسنا ولنقوي الصلة بيننا وبين ربنا لنحيي قلوبنا بكثرة ذكر الله لتكون لينة رحيمة رقيقة شفيقة لنبذل أموالنا وأنفسنا من أجل ديننا وعقيدتنا أيها الأحبة إن من منع ماله في سبيل الله منع نفسه من باب أولى( إن الله اشتري من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة) أفلا تريد الجنة لماذا إذاً هذا الصيام لماذا هذا القيام إن الأمر إعداد للقلوب لتتصل بعلام الغيوب ليس تجويعا وتعطيشا أو تعبا أو سهرا بل لتعويد هذه القلوب على الصبر والمرابطة والسهر من أجل الله عندها يهون عليها بذل المال بل حتى بذل النفس في سبيل الله لهذا كان الرجل ينفق ماله كله أو نصفه في سبيل الله وما قيمة المال وقد بذل نفسه من قبل فإياك والبخل( ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه) وإن كنت فقيرا معدما أو لن تجد ما تنفقه على إخوانك فهناك وسيلة أخري فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قال" الدال على الخير كفاعله" فلماذا لا تجمع المال من أهلك وجيرانك وأحبابك وخلانك نعم كن حصالة للمسلمين تجد الخير العميم والأجر العظيم من رب العالمين ، اسمع لهذا الموقف لعله أن يهز كيانك ويحرك أركانك للعمل بهذا الدين والولاء للمسلمين والبراءة من الكافرين ذكر لي أحد الاخوة أنه قبض على مزارع في أحد المزارع هنا هندوسي هندوسي لا يقرأ ولا يكتب وكان يدور على المزارعين من الهندوس في المزارع القريبة منه ويجمع التبرعات أتدري لماذا إنه يجمع الأموال من أجل بناء المعبد الهندوسي مكان المسجد البابري بعد أن تنادي الهندوس بجمع التبرعات لبناء المعبد وقبل ذلك تجمع آلاف الهندوس وهم يحملون فؤوسهم ومعاولهم لهدم المسجد وهُدِمَ حجرا حجرا وقتلوا الآلاف من المسلمين الذين تحركوا لحماية مسجدهم لكنهم ضعفاء لا حول لهم ولا قوة ثم تنادوا لجمع التبرعات لبناء المعبد الوثني على مرأى ومسمع العالم الإسلامي بأسره إنه رجل رجل وثني عامي جاهل كبير في السن جاء يبحث عن لقمة العيش ليسد به جوعته وهو في غربة بعيد عن الأهل والزوج والولد ومع ذلك ما شغله ذلك كله أن يتحرك لنصرة وثنيته أن يتحرك لنصرة وثنيته وحمل الهم لحجر لا يضر ولا ينفع يُعْبَدُ من دون الله فأين أنتم يا أهل التوحيد يا من تسجدون وتركعون لله وحده أين أنتم من نصرة دينكم أين الهم لإخوانكم المستضعفين(/170)
المضطهدين في كل مكان أنتم أنتم يا من تنعمون بمال الله إن من يبخل اليوم بماله يبخل غدا بنفسه وبئس القوم نحن إذا لم نقدم أموالنا وأنفسنا من أجل ديننا وعقيدتنا إن هناك ثمة صورا نسمعها تتردد هنا وهناك تحكي جانبا مشرقا لنفوس مسلمة نجد فيها ذلك الإنسان الذي نفتش عنه أذكر منها ذلك الغلام الصغير يوم أن جاء لمناسبة عائلية يحمل بين يديه علبة حليب فارغة وقد كتب عليها تبرعوا لإخوانكم المسلمين أخذ يدور بها على الرجال فردا فردا فلما انتهي نقلها إلى النساء فلما سألته من أين لك هذه الفكرة ذكر أن أستاذه تكلم اليوم عن أطفال الصومال الجائعين وما يجب لهم علينا كمسلمين فهل نعجب من هذا الطفل الصغير أم من أستاذه الكبير وسمعت عن ذلك العامل المصري الذي جاء يبحث عن لقمة العيش لما لسمع منادي الصدقة وحال إخوانه لم يجد ما يتصدق به إلا ساعة كانت تلف معصمه مدها لإمام المسجد وهو يقول والله الذي لا إله غيره لا أملك سواها فلما علم به تاجر غيور اشتراها بألف ريال وأولئك الأطفال الذين تبرعوا بكراتهم لأطفال الصومال كما يقولون وتلك الفتاة المعوقة التي تبرعت بعربتها لمعوقي البوسنة والهرسك وتلك المرأة التي جمعت حليها فتصدقت بثمنه لمسلمي البوسنة والهرسك وذلك الطفل الصغير في الصف الأول الابتدائي يدفع فسحته ريالا واحدا لأستاذه نصرة منه لأطفال البوسنة وتلك الطفلة الصغيرة التي جاءت لأبيها تدفع له حصالة العمر تبرعا للمسلمين كما تقول وذلك التاجر الذي ما كفاه دفعه لآلاف المسلمين بل سافر بنفسه ليري بعينه ويمد بيده ويقيم المساجد والمشاريع، والصور والمواقف كثيرة وليست غريبة على قلوب خالط الإيمان شغافها إنها عواطف ومشاعر ذلك الإنسان الذي نفتش عنه لو صاحبها هم دائم ودعاء لا ينقطع وجهد مستمر مستطاع.(/171)
رابعا: نطالب كل مسلم صاحب مكتب استقدام للعمالة أو صاحب مؤسسة أو تجارة وكل محتاج لخادم وسائق للسيارة أن يعلن البراءة من الكافرين والوثنيين وألا يأتي إلا بالمسلمين فإن هذا أقل شيء تعلن فيه غضبك واستنكارك لما يفعلونه بإخوانك في العقيدة والدين أيها التاجر المسلم إنك ترى وتسمع ما يفعله الكفار بالمسلمين وترى وتسمع أنين الأرامل واليتامى وصرخات الضعفاء والثكالى وإني على يقين أنك لا ترضى أبدا أن تأتي بالهندوسي ليقتل المسلمين في الهند بأموال المسلمين في الشرق ويهدم مساجد رب العالمين ليقيم بأموال المسلمين المعابد للشياطين إنك سمعت قصة المزارع الهندوسي أعد سماعها مرة أخرى ومرتين لترى كيف انتصر لإلهه وهو صنم من حجر أفلا تنتصر لربك أفلا تنتصر لربك وهو رب بر رحيم ينعم عليك بالسر والعلن هل فكرت كيف يعامل التاجر الهندوسي العامل المسلم فما تراك تفعل وأنت تحمل لا إله إلا الله فيغضبك ما يغضب الله ويسرك ما يسره أفلا يغضبك هدم بيت من بيوت الله وقتل المصلين الساجدين لله يقول أحد زعماء الجمعيات الإسلامية في الهند نقلا عن مجلة الدعوة لا يمر أسبوع واحد إلا ويدمر الهند العديد من المساجد وهناك وثيقة سرية تم الكشف عنها بوجود ثلاثة آلاف مسجد في الهند مطلوب هدمها لإقامة معابد للإله الهندوسي المزعوم [راما] وبعد نشر الوثيقة لم تكذب الجماعات الهندوسية المتطرفة ذلك بل أكدت أنها ماضية في سياسة هدم المساجد والدور القادم على المسجد الذي يصلي فيه المسلمون صلاة العيدين ثم تتوالى القائمة انتهي الخبر فيا كل مسلم يتعامل مع الهندوس ألا يهزك هذا الخبر ويحرك فيك مشاعر التوحيد بالله فتعلنها غضبة لله فيوسع الله فيها عليك في الدنيا والآخرة إن من واجبنا أن نذكر كل أخ وقريب يتعامل مع الكافرين بالحكمة والموعظة الحسنة فلا نمل ولا نكل فإذا رحل كافر حل محله مسلم ولا شك هذا نوع من أنواع نصرة المسلمين ثم إن من واجبنا تجاه المسلمين المستضعفين الذين يعيشون بيننا ومعنا من العاملين والخدم والسائقين حسن الخلق والمعاملة الطيبة وإعطاؤهم حقوقهم بدون ظلم ولا مماطلة إنهم إخوان لنا في الدين يعيشون أياما قاسية تغربوا عن الأوطان وتركوا الأهل والإخوان تشردوا في كل صقع ثقلت عليهم أعباء الحياة وتوالت عليهم نوائب الدهر واشتد عليهم صلف العيش تراكم كل ذلك على ظهورهم الضعيفة وملأ نفوسهم الحزينة فتساقطوا في طريق الحياة فأصبحوا عرضة لأرباب الجشع والطمع أخبرني قبل أيام فقط أحد الاخوة عن عامل أصيب بالشلل النصفي يرقد الآن في المستشفي لكثرة مماطلة وظلم الكفيل له هذه صورة من ظلم العمال أعرف أنها تتكرر عشرات المرات مع عشرات الأشخاص من ذا يسمع هذه الأنباء فلا يذوب قلبه حزنا كيف يصلح الحال وأنت ترى في الناس من يقف موقف المتفرج يسمع الأنين ولا يقترب ويرى الدمع فلا يلتفت بل يأبى بعضهم إلا أن يجرعهم غصصا من الذل والهوان إنا نخوف هؤلاء بالله الذي يقول (ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار) نخوفهم بالله الذي يقول (إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم) أيها الإنسان اتق دعوة المظلوم فإنها ليس بينها وبين الله حجاب احذر دعوة المظلوم أن تصيبك في نفسك أو في زوجك أو في ولدك أو مالك في صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال "من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة فقال رجل وإن كان شيئا يسيرا يا رسول الله فقال صلى الله عليه وسلم وإن كان قضيبا من أراك" الله أكبر ولو عودا من سواك ولو عودا من سواك إنها عدالة السماء عدالة السماء (وما ربك بغافل عما تعملون) أيها الاخوة بدل أن يرجع لبلده لينقل الصورة المضيئة للمسلمين وحسن تعاملهم في بلاد التوحيد رجع وهو يحمل انطباعات سيئة وذكريات مؤلمة يحدث بها كل من قابله بسبب أمثال هؤلاء بسبب أمثال هؤلاء وهم قلة إن شاء الله أيها الاخوة كيف لو استفدنا من مجيء هؤلاء إلينا أخلاقا ومعاملة ودعوة للدين الصحيح لكسبنا الدين والدنيا معا.(/172)
خامسا: نطالب كل مستطيع من المسلمين القيام بواجب الدعوة والتعليم بين المسلمين المستضعفين في كل مكان فهم بين جوع وقتل وتشريد وجهل جهل شديد في أركان الدين ومبادئه فأين الأساتذة والمعلمون وأين شباب المسلمين والمؤسسات الدعوية والهيئات الإغاثية تنادي في كل صيف بل وفي كل مناسبة من يحتسب أجره على الله ليعلم الجاهل ويمسح على رأس اليتيم ويكفكف دموع المنكوبين ومن لا يستطيع بنفسه فبماله يطبع كتابا وينسخ شريطا فهم في تعطش شديد لكتاب وشريط بل والله يقدمونه على الطعام والشراب في كثير من الأحيان إننا نطالب الجميع كلا بحسب تخصصه ومواهبه بنصرة إخوانه المسلمين فنقول للطبيب مثلا أين أنت من إخوانك والأمراض بأنواعها تفتك بالصغير والكبير كم كنا نتمنى أن نراك مكان صاحب العيون الزرقاء والشعرات الشقراء في أدغال أفريقيا حيث الجوع والجفاف والشمس الحارقة تحمل أطفال المسلمين بين يديك تداوي جراحهم فترسم البسمة على وجه أم منكوبة فأنت أحق بإخوانك من ذلك الصليبي إنهم بحاجة للمدرس وللطبيب وللتاجر وللمهندس إنهم بحاجة إلى الصحفي الأمين الذي سخر قلمه لخدمة الإسلام والمسلمين وهم بحاجة إلى الشاعر الإنسان الذي يصور المأساة ويحرك المشاعر ولكل من فتح الله عليه بنعمة من عنده فالطريق واضح والأمر سهل ميسور لكنه يحتاج إلى عزم وإيمان وتحمل واحتساب
طريقنا واضح كالشمس تعرفه
أجيالنا بابه عزم وإيمان
آمالنا لم تزل خضراء يانعة
في القلب منتجع منه وبستان
وَلِيُّنا الله لا نرضى به بدلا
وكيف ييأس من مولاه رحمان
سادسا: أيها المسلم إن من واجبنا تجاه المسلمين تشجيع منتجات البلاد الإسلامية وتقوية اقتصادها وذلك بشراء السلع المنتجة في تلك البلاد وتسويقها وبث الدعاية والإعلان لها وفي هذا خير كبير وله مردود كبير كبير على الإسلام والمسلمين في كل مكان وهو أمر يستطيعه كل أحد وبمقدور كل فرد فهل نحمل هم المسلمين وإصلاح معيشتهم ولو بأكلنا وشربنا وأثاثنا ولباسنا وقل مثل هذا في تشجيع الصحف والمجلات التي تهتم بشئون المسلمين وتنقل أخبارهم وأحوالهم بأمانة وإخلاص بشرائها ونشرها والإعلان عنها وفي هذا تشجيع واستمرار لها وفيه أيضا متابعة وتعريف للناس بأخبار المسلمين(/173)
سابعا: من واجبك تجاه المسلمين أن تعرف أعداءك الحقيقيين الذين يحملون الحقد والضغينة للإسلام والمسلمين وبعض الناس بعض الناس وللأسف اختلطت عليه الأوراق واشتبهت عليهم المفاهيم فلا يعرف الأعداء من الأصدقاء بل ربما وصل الحال بهم كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه "يقتلون أهل الإسلام ويَدَعُون أهل الأوثان" فلا يسلم إخوانهم من ألسنتهم و لا المستضعفون المحتاجون من التشتيت بهم والتفضيل والتفويت من عونهم فيا أخا الإسلام أخرج الترمذي في السنن في كتاب الفتن من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف على ناس جلوس فقال:" ألا أخبركم بخيركم من شركم؟ فسكتوا ،فقال ذلك ثلاث مرات فقال رجل: بلى يا رسول الله. فقال: أخبرنا بخيرنا وشرنا فقال صلى الله عليه وسلم: خيركم من يرجى خيره ويؤمن شره خيركم من يرجى خيره ويؤمن شره" وقال هذا حديث حسن صحيح فيا أخا الإسلام إن من أهم ركائز العقيدة والإيمان الولاء والبراء وقد أوضح الله عز وجل الأعداء بجلاء قال: (لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا) والتاريخ القديم والمعاصر أكبر شاهد على ذلك فعلى كل مسلم ومسلمة وبخاصة العاملين في حقل الدعوة والتعليم غرس القيم والمبادئ الإسلامية في نفوس الناس خاصة الطلاب والطالبات ونقل أخبار المسلمين لهم وإشعارهم بالجسد الواحد للأمة أخي الحبيب زيادة على هذه المطالب إليك هذه التنبيهات الأربعة الأول كما أن هناك الملايين من المستضعفين في الخارج فلا ننسى إخوانا لنا في الداخل انقطعت بهم السبل وضاقت بهم الحيل رجلا فقيرا أسيرا لمرض كثير العيال أو أرملة ضعيفة كثيرة العيال شديدة الحال وأيتاما يبحثون عمن يؤنس وحشتهم ويمسح دمعتهم ومغتربا أتى يبحث عن لقمة العيش ترك بلده وزوجه وأهله يعرق جبينه من كثرة العمل وتدمع عينه من شدة الظلم والإهانة أقول كل هؤلاء وأمثالهم يفتشون عن ذلك الإنسان صاحب القلب الرقيق والضمير الحي صاحب القلب الذي يخاف الله يخاف الله ويخشاه يمد يده البيضاء لكل مسلم أثقلته الهموم وأوهنته الحاجات كل هؤلاء وأمثالهم يفتشون عن ذلك الإنسان ينظرون إلى عينه هل تدمع وإلى شفتيه هل يبتسم وإلى الكلمة الطيبة من لسانه وإلى يده يشد بها على يد الضعيف والمحتاج أيها الإنسان إياك وحيل النفس ومداخل الشيطان فلربما قيل لك إن هذا يخدعك ويدلس عليك وإن هذا يكذب عليك نعم هناك من يكذب وهناك من يخدع وهناك من يتلبس بلباس الفقراء والمساكين يشكو أمرهم إلى الله وهذا يدعوك للتثبت والتحقق للبحث عن المحتاجين و الصادقين وسؤال العارفين المخلصين لكنه لا يدعوك إلى الإمساك وعدم البذل والعطاء ونشر قصص الكاذبين المدلسين وإساءة الظن بالجميع هذا أمر، واسمع لحال هذا الأخ وقد هده الفقر والعوز في العيد.
أخ في العيد قد مدت يداه
وفوق الخد تدمع مقلتاه
بدا في العيد كهم وغم
كأن الناس قد قتلوا أباه
ويوم العيد والدنيا سرور
فتىً قد هان تسنده عصاه
يصارع وطأة الأيام حتى
رنا بالأفق فاسودت رؤاه
ويحمل فوق عاتقه هموما
ينوء بها وقد صقلت خطاه
يسير هناك متئدا هزيلا
فهل تدري لما خارت قواه
يعاني الفقر لا يدري لماذا
يغالبه ويمعن في أذاه
تعامي الناس عنه فلم يواسوا
وقد صموا فما سمعوا نداه
فصار وفي حناياه دموع
وفي عينيه نار من لظاه
وقد سلك الطريق بدون وعي
فلا يدري إلى أين اتجاه
وبين ضلوعه ألم دفين
تردد في جوانحه صداه
وجاء العيد والدنيا ضياء
وكل الناس أبهجهم لقاه
وجاء العيد فامتلأت قلوب
بنور فاض يرسله ثناه
وهذا البائس المسكين أضحى
بلا أمل وطال به أساه
وبين الناس صنف ذو ثراء
وفي الدنيا يحقق مشتهاه
فيرتع في النعيم بلا حساب
ويعمى عن أخيه فلا يراه
وما أدري ولست إخال أدري
لِمَ ، لماذا ينكر الهاني أخاه
ويوم الدين والأعمال تدنو
سيرى المرء ما صنعت يداه
أخا الإسلام إن البر شيء
يسرك في القيامة أن تراه
أخوك البائس المسكين يبدو
بلا مال ويخجله حياه
فجد بالخير واستبدي العطايا
فيوم الدين يجزيك الإله(/174)
وأمر آخر نسمعه في حديث المجالس خاصة عندما ينادي منادي الإنفاق والصدقة للمسلمين في الخارج فقائل يقول إنهم ليسوا مسلمين وقائل يقول لا يصلون حتى الصلاة وآخر يقول انظر للتبرج والسفور والفساد عندهم وأخر يقول انظر للبدع والخرافات وفساد العقيدة لديهم وهكذا نسمع القيل والقال من البعض فلا هم قاموا بواجبهم ولا تركوا غيرهم يقوم بالواجب فأصبحوا قطاع طريق على الآخرين عجيب أمر أولئك أين عقولهم لماذا ينظرون بعين واحدة إن كانوا فعلا يريدون النصح للمسلمين أيها المشككون إن هؤلاء الذين يتكلمون عنهم غُيِّبَ عنهم دين الله عشرات السنين حرب عشواء على كل أمر له صلة بالإسلام حتى أعدم من وجد في بيته نسخة من القرآن أو تسمى باسم شرعي أو حتى ذكر الله في بيته بل صدرت قوانين رسمية تعاقب كل من يؤدي شعائر تعبدية وزوجت المسلمات من غير المسلمين وسلط الولد على والده حتى خاف الأباء على أن يعلموا أبناءهم كلمة التوحيد فقد كانت المعلمة تسأل التلاميذ ماذا تقول والدتك وجدتك، هدمت مساجدهم وحرفت مناهجهم حتى تخرج جيل ممسوخ الهوية مسخا تاما إلا من شاء الله تعالي منهم ومع ذلك كله وبعد هذا الكيد المرير وهذا العمر الطويل لما جاءهم من يدلهم على الإسلام ويعلمهم الأحكام اجتمعوا عليه بالمئات بالمئات والآلاف وكلهم شوق ورغبة في التعلم والتعليم بل منهم من يسمع حقيقة الإسلام فيبكي والله العظيم حرقة وألما لأنه لم يجد من يعلمه قراءة القرآن وكيفية الصلاة على الأقل ثم يأتي بعضنا يجلس في المجالس وعلى الموائد العامرة وقد فرط في كثير من أمور دينه رغم كثرة الدروس والكتب والأنشطة والعلماء والمساجد ثم نسمع من القيل والقال والتشكيك والتنفير فلنتق الله ولنقل خيرا أو لنصمت.
وأمر ثالث إلى من يشترط بناء المسجد هنا ويرفض بناءه في بلد إسلامي إنك ترى عشرات المساجد في الحي الواحد هنا والحمد لله وهناك عشرات المدن ومئات القرى لا يوجد فيها مسجد واحد والمسجد إذا بني هناك أصبح مركز إشعاع ومنبع خير ومركز اتصال لأهل المدينة كلهم فما رأيك وهناك لا يكلف بناء المسجد مائة ألف ريال فأيهما أعظم أجرا وأكثر خيرا أيها المسلم إنك تبني مسجدا وغيرك يبني عشرات الكنائس فاتق الله واعلم أن المسلمين في كل مكان يفتشون عمن يأخذ بأيديهم ويعلمهم دينهم ويشعر بشعورهم فكن أنت ذلك الإنسان.
رابعا لنعلم أنه لن يصلح حال هذه الأمة إلا بما صلح به أولها والرجوع إلى الله بقوة فلنراجع أحوالنا ولنغير ما بأنفسنا حتى يغير الله حالنا إلى سيادة وعزة ورفعة لماذا هذا الإفراط العجيب في الشهوات والملذات لماذا هذا الإسراف والتبذير لماذا هذا التهاون والتكاسل بفرائض الدين لماذا نحتقر الآخرين ونبخس جهدهم لماذا هذه الأنا العجيبة عند بعض المسلمين لماذا نعادي ونبغض إخوانا لنا من المسلمين وربما نحب ونوالي الكثير من المشركين أيها الأحبة لا يكفي أن نكون صالحين بل لا بد أن نكون مصلحين فلماذا لا نحرص على صلاح المسلمين في كل مكان فالوسائل والفرص متاحة بجميع اللغات والجنسيات والحمد لله فلا عذر لأحد اسمعوا لهذه الآية جيدا قال تعالى ( والذين يُمَسِّكُون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين ) قال المصلحين ولم يقل الصالحين وقال يُمَسِّكُون بالتشديد ولم يقل يُمْسِكُون فهل نعتبر؟ وخلاصة القول إليك عرضا سريعا لصفات ذلك الإنسان الذي نفتش عنه وهي :
أولا: صدق الإيمان وقوة اليقين بالله ، إيمان يلهب القلب ويقين يحرك العبد وهو واثق بنصر الله فإن هذه المصائب والبلايا والمحن والرذايا التي تضيق بها النفوس تحتاج إلى يقين وإيمان بالله فكم من محنة في طيها منح ورحمات ومن فقد الثقة بربه اضطربت نفسه وساء ظنه وكثرت همومه وضاقت عليه المسالك وعجز عن تحمل الشدائد فلا ينظر إلا إلى مستقبل أسود ولا يترقب إلا الأمل المظلم.
ثانيا: الشعور بشعور المسلمين والتعرف على أحوالهم والتألم لمصابهم والتحدث عن أخبارهم يحكى عن [محمد رشيد رضا] رحمه الله كانت أمه إذا رأت عليه علامات الأسى والحزن قالت له مالك يا بني أمات مسلم في الصين اليوم لِمَا تعلم من حمله هم المسلمين وأعرف أشخاصا لا ينامون الليل والله إذا سمعوا خبرا عن مآسي المسلمين.
ثالثا: مما نطالبك به الدعاء والتضرع إلى الله عز وجل والإلحاح له هو سلاحك أيها المسلم فداوم عليه واتق الله.
رابعا: البذل والإنفاق في سبيل الله بدون من ولا ملل ولا استكثار.
خامسا: تحقيق عقيدة الولاء والبراء بنفع وحب وجلب المسلمين وحسن الأخلاق والتعامل معهم وبغض الكافرين الحاقدين والبراءة منهم.
سادسا: تشغيل الطاقات والمواهب لخدمة الإسلام والمسلمين كالمعلم والطبيب والشاعر والصحفي وغيرهم فكل قادر على إعانة إخوانه في كل مكان من خلال عمله وتخصصه ومن عرف قدر الحاجة له عرف كيف يعمل وكما قيل الحاجة أم الاختراع.(/175)
سابعا: الحرص على شراء وتشجيع كل المنتجات في البلاد الإسلامية وبث الدعاية لها.
ثامنا: وأخيرا اعرف عدوك من صديقك من خلال الكتاب والسنة لا من خلال الهوى وحظوظ النفس.
هذه أهم الصفات التي نفتش عنها فيمن يحمل الهم للمسلمين وأخيراً فإني أفتش عن إنسان يحمل في قلبه هذه المطالب يترجمها لواقع وعمل وإني على يقين أن صاحب هذا القلب لن يكون إلا ذلك المسلم الصادق بإيمانه فإلى كل مسلم ومسلمة أقول لتكن ذلك الإنسان التي يفتش عنه الملايين من المسلمين المنكوبين عندها نُعْذَرُ أمام الله أن قمنا بما نستطيع تجاه إخواننا واعلم أن صنائع المعروف تقي مصارع السوء فإن الأمن والإيمان والنعمة التي نعيش فيها اليوم ربما هي رحمة من الله بسبب أيدٍ أمينة مخلصة محسنة امتدت لإخواننا وإننا نخشى والله أن تنقطع أو تقطع والحال كما نرى فلنقدر نعمة الأمن حق التقدير ولنرعها حق رعايتها (فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون ) ولنعلم أنه بالشكر تدوم النعم فالله الله والجدية في حياتنا فكيف سينفع غيره من لم ينفع نفسه ومن لم يكن جادا صادقا وهو يرى حال أمته وما يحل فيها من النكبات والمصائب والذل والهوان فأحسن الله عزاءه في نفسه وسيعلم هؤلاء أي منقلب ينقلبون، أما أنت أيها الصادق فإذا قمت بهذه المطالب خير قيام ترفع بعدها يديك إلى السماء وقل اللهم إنك تعلم حال إخواننا وتعلم حالنا وضعفنا وقلة حيلتنا اللهم إنا بذلنا جهدنا وعملنا ما بوسعنا فارض اللهم عنا وأعنا على القيام بحق إخواننا على الوجه الذي يرضيك عنا اللهم إنا نعوذ بك من العجز والكسل والجبن والبخل والقسوة والغفلة والذلة والمسكنة واجعلنا مفاتيح للخير في كل مكان اللهم قوي المسلمين المستضعفين في كل مكان اللهم احفظ المسلمين المنكوبين في كل مكان اللهم أعنهم وأطعمهم وأسقهم واكسهم برحمتك يا أرحم الراحمين اللهم انصرهم على من بغى عليهم اللهم انصرهم على من بغى عليهم وانتقم لهم من الظالمين يا قوي يا عزيز اللهم ألف بين قلوب المسلمين اللهم ألف بين قلوب المسلمين واجمع كلمتهم على التوحيد يا أرحم الراحمين اللهم ارحم الأطفال اليتامى والنساء الثكالى وذي الشيبة الكبير اللهم أصلح ولاة أمورنا ووفقهم لما تحبه وترضاه اللهم من أرادنا والمسلمين بسوء فأشغله بنفسه واجعل كيده في نحره وتدبيره تدميرا عليه اللهم اكفناهم اللهم اكفناهم بما شئت فإنهم لا يعجزونك أنت ولي المؤمنين أنت ولي المؤمنين اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين سبحانك اللهم وبحمدك ونشهد أن لا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك وصلى الله وسلم وبارك على محمد.
بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أما بعد السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وهذه ليلة الاثنين الموافق للتاسع عشر من الشهر العاشر للعام الخامس عشر بعد الأربعمائة والألف وفي هذا الجامع المبارك بمدينة <عيون> .....يتجدد اللقاء مع هذه الوجوه الطيبة المباركة وموضوع هذا اللقاء هو بعنوان بشائر ومبشرات وفي وقت تكالبت فيه المصائب والمحن على المسلمين وفي وقت الجراح تنزف في كل جزء من جسد هذه الأمة في وقت تحشرجت فيه النفوس وضاقت فيه القلوب حتى أصاب كثيرا من الناس اليأس والقنوط فما أن تذكر الأمة الإسلامية حتى تسمع الزفرات والآهات والحوقلة والاسترجاع وكأن الأسباب تقطعت والآمال تدثرت في هذا الوقت العصيب وفي مثل هذه الظروف أزف إليكم أيها الأحبة هذه المبشرات أزفها إليكم لترسم أشعة الفجر الجديد ولتملأ النفوس المسلمة باليقين وأزفها إليكم لتشعر القلوب الحية بالعز والتمكين وليشرق بها أعداء الدين وليغص بها الكافرون والمنافقون أسوق إليكم هذه البشائر وهذه المبشرات وأزفها إليكم تذكيرا للغافل وتنشيطا للذاكر أزف إليكم هذه المبشرات لتحيى بها النفوس الأبيّات بشراكم أيها الأحبة إن ميلاد الأمة قريب ولا بد للميلاد من مخاض ولا بد للمخاض من آلام ومن رحم الظلام يخرج النور والليل إن تشتد ظلمته فإن الفجر لاح
أبشر فهذا الفجر لاح
ها نحن جئنا يا صلاح
قد أدبر الليل العميل
وجاء للدنيا صباح
ما دام عرقي نابض
لن تعرف النفس ارتياح
حتى أرى شعبي
وليس له عن الأقصى براح(/176)
إن العالم الإسلامي بأسره يعيش لحظات عصيبة وساعات حرجة يخطها القلم ويسجلها التاريخ ما عليك فقط إلا أن تقرأ إن كنت ممن يقرأ صحيفة أو تنظر مجلة أو تسمع لنشرة أخبار لتقف بنفسك على حال المسلمين في كل مكان وما لم يذكر أو يغفل فهو أكثر ففي البوسنة والهرسك ملايين القتلى والمشردين الأطفال اليتامى والنساء الثكالى والمساجد مهدمة والدماء تسيل أكثر من خمسين ألف مسلمة ينتهك عرضها في البوسنة والهرسك فقط فما بالك <بكشمير> و<الفلبين >و< طاجاكستان >و<الشيشان> و<الصومال> و<أفغانستان> و<أراكان> و<ألبانيا >و<كوسوفو> بل في كل بقعة يذكر فيها اسم الله تعالى إنه التحدي السافر أيها الأحبة إنه التحدي السافر لهذه الأمة في عقيدتها وفي تاريخها وفي إسلامها ومستقبلها أمر مفزع مروع هذا الواقع جعل كثيرا من المسلمين عرضة لليأس نعم جعل كثيرا من المسلمين عرضة لليأس والقنوط ومن ثم للخمول والقعود وأقول إن اليأس في قلوب أنفار هؤلاء ناتج عن الأسباب التالية وباختصار شديد:
أولا : ما نراه أو ما يرونه من جهود الأعداء ومحاربة الإسلام ومواجهة أهله مستخدما أي هذا العدو مستخدما كل طاقاته من تقدم تكنولوجي في العدة والعتاد وكل وسيلة من وسائل الاستعمار الفكري .
ثانيا : بعد الناس عن دين الله وموت الإحساس لدى الكثير منهم فهو لا يعلم عما يجري لإخوانه وإن علم فكأن الأمر لا يعنيه المهم نفسه وماله وهذا هو الهوان الذي أشار إليه الحبيب صلى الله عليه وآله وسلم عن حب الدنيا وكراهية الموت.
ثالثا : من أسباب اليأس والقنوط عند بعض الناس يقظة الأعداء ومواجهتهم لأي جهد يبذله المسلمون مما حدا بكثير من المسلمين والمسلمات إلى الاستسلام والخمول والتثبيط عند بذل أي جهد فالخوف والرعب يأكل قلوبهم الخوف والرعب يأكل قلوبهم ومما سبق من هذه الأسباب فإنها تقودنا إلى:
سبب رابع من أسباب اليأس وهو سبب مهم جدا غفل أو تغافل عنه كثير من الناس ألا وهو الجهل بالغاية التي خلق من أجلها الإنسان إن كثيرا من الناس لا يعلم لماذا خلق وإن علم فإنه يتغافل عن الهدف الحقيقي الذي من أجله خلق فيا أيها الإنسان أنت خلقت لهدف خلقت لغاية عظيمة نبيلة هي عبادة الله عز وجل عبادة الله بمفهومها الحقيقي الذي عرفه أهل العلم اسم جامع لكل ما يحبه الله من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة هذا هو تعريف العبادة هذه هي العبادة الحقيقية التي يريدها الله سبحانه وتعالى من عباده لا كما يريده الأعداء العبادة في المسجد لا كما يرسمها الأعداء أن العبادة هي تلك العبادة الكبيرة الصلاة والصيام الحج والزكاة هذه هي عبادة المسلم وما هكذا يريد الله أيها الأحبة إن العبادة التي يريد الله بمفهومها الحقيقي ذلك المعنى العام الذي يشمل كل نواحي الحياة فاسأل نفسك لماذا خلقت أمن أجل أن تأكل وتشرب وتنام وتقوم أمن أجل الملذات والشهوات هذا والله هو شأن الحيوان بل إن ذلك الإنسان أضل من الحيوان اسمع لقول الحق عز وجل يوم أن قال ( وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ
بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ) غفلوا عن الهدف وغفلوا عن الحقيقة التي من أجلها خلقوا فعاشوا أضل من الأنعام عياذا بالله لمجرد الملذات والشهوات لمجرد البيع والشراء لمجرد أن يحيى الإنسان ويذهب في هذه الدنيا بئس الحياة إن كانت هذه هي الحياة التي يعيشها المسلم إنك خلقت لهدف أسمى إنك خلقت لرضى الإله أيها الأخ الحبيب ففكر في نفسك وارجع لنفسك واسألها بصدق هل أنت راض عن نفسك الآن هل أنت راض عن هذا العمر الطويل الذي أمد الله عز وجل به إلى يومك هذا ماذا قدمت لله ماذا قدمت لنفسك يوم أن تقدم على الله عز وجل عندها تقول بملء فيك لا لا وألف لا لعبادة العباد لا وألف لا لعبادة الشهوات والملذات تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش هذه هي عبادة الدنيا كما تبعها كثير من الناس .(/177)
والسبب الخامس الجهل بطبيعة هذا الدين هذه الأمور وهذه الأسباب الخمسة وغيرها جعلت كثيرا من الناس يصيبه اليأس وتداخله الشكوك لنصرة هذا الدين وتمكينه في هذه الأرض وحتى نقطع الطريق على هؤلاء المخدرين اليائسين الخائفين فإني أقول وبكل قوة وبكل ثقة ويقين ابشروا أيها الأحبة ابشروا بنصر الله فإن البشائر والمبشرات كثيرة ولله الحمد المهم أن نتفاءل ولنملأ أنفسنا بالتفاؤل وقد يقول قائل لماذا وكيف نتفاءل وواقع المسلمين كما ذكرت وكما نرى ونسمع فأقول يجب أن نتفاءل لأسباب كثيرة منها ومن أهمها أن القرآن الكريم حرم اليأس وندد باليائسين وهذه من أولى البشارات ومن أول البشائر أن القرآن حرم اليأس وندد باليائسين فعالج هذا المرض الخطير بالتحريم القاطع لينقطع دابره من النفوس فلا يجوز للمسلم أن ييئس أبدا فاليأس قرين للكفر واسمع لقول الحق عز وجل ( ولا تيئسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون ) فاليأس صفة للكافرين واليأس قرين الضلال قال تعالى ( ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون ) حذر الله عز وجل من اليأس والقنوط إذن نقول لليائسين المخذلين إن اليأس في دين الله لا يجوز فاحذره فاحذر من اليأس واحذر من التيئيس فإنه أول علامة للهزيمة والفتور والخور النفسي إن أول علامة للهزيمة النفسية التي أصابت كثير من المسلمين اليوم هي في قضية اليأس والقنوط عياذا بالله .(/178)
ومن هذه البشائر وهي البشارة الثانية بشائر الكتاب والسنة ولم لم يكن سوى هذه البشائر لكفى فهي نصوص وهي وعود ممن ؟ ممن بيده ملكوت السماوات والأرض ممن بيده الأمر كله فلماذا إذن الضعف والهوان ولماذا الخوف والخور والله سبحانه وتعالى معك مؤيدا لك ناصرا لك أين الثقة في الله أيها الأحبة أين اليقين في قدرة الله وقوته اسمع لهذه الآيات وتدبرها عندما قال الحق عز وجل ( هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ) إظهار دين الله أمر تكفل به الله سبحانه وتعالى وقال سبحانه وتعالى ( وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ) إذن فهذا هو عهد الله واسمع لقول الحق عز وجل يوم أن قال ( ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز ) ( الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة ) هذا هو الهدف هذا هو الذي يريد الله عز وجل من عباده ( الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور ) وقال سبحانه وتعالى ( يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم ) وقال ( وكان حقا علينا نصر المؤمنين ) في هذه الآيات أخبر سبحانه وتعالى أن من سنته في خلقه أن ينصر عباده المؤمنين لكن متى إذا قاموا بنصرة دينه إذا قاموا بواجب الدعوة إلى الله وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر فقد وعد الله المؤمنين باستخلافهم في الأرض وأن يمكن لهم دينهم وأي أمل للمسلم فوق وعد الله عز وجل وأي رجاء بعد ذلك للمؤمن الصادق يوم أن وعده الحق سبحانه وتعالى هذه بعض نصوص القرآن تعالى واسمع لبعض نصوص السنة النبوية فقد روى الإمام [أحمد] و[البزار] و[الطيالسي] وقال [الهيثمي] عن الحديث ورجاله رجال الصحيح أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال "إن أول دينكم نبوة ورحمة وتكون فيكم ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها الله جل جلاله ثم تكون خلافة على منهاج النبوة تكون فيكم ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها الله جل جلاله ثم تكون ملكا عاضا فيكون ما شاء الله أن يكون ثم يرفعه الله جل جلاله ثم يكون ملكا جبريا فيكون ما شاء الله أن يكون ثم يرفعه الله جل جلاله ثم تكون خلافة على منهاج النبوة تعمل بسنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويلقي الإسلام بجيرانه في الأرض يرضى عنها ساكن السماء وساكن الأرض لا تدع السماء من قطر إلا صبته مدرارا ولا تدع الأرض من نبات ولا من بركاتها شيئا إلا أخرجته "وروى[ الدارمي ] وأحمد و[ابن أبي شيبة ] عن [أبي خبيب] قال كنا عند [عبد الله بن عمرو بن العاص] وسئل أي المدينتين تفتح أولا <القسطنطينية> أم< رومية> والقسطنطينية هي الآن عاصمة تركيا استنبول وقد فتحت أما رومية فهي عاصمة إيطاليا الآن التي فيها مقر الصليبية والتي فيها دولة الفاتيكان التي تقود الأمة النصرانية في هذا الوقت فجاء عبد الله بصندوق له حلق قال فأخرج كتابا فقال عبد الله "بينما نحن حول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نكتب إذ سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أي المدينتين تفتح أولا فقال مدينة هرقل يعني القسطنطينية "والحديث حسنه المقدسي وصححه الحاكم ووافقه الذهبي على تصحيحه وقد تحقق الفتح الأول على يد الخليفة العثماني [محمد الفاتح] رحمه الله تعالى وذلك عام ثلاثة وخمسين وأربعمائة وألف للميلاد أي بعد تقريبا ثماني مائة سنة من وعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونحن ننتظر الآن صدق الوعد الآخر سقوط روما بفضل الله وبمشيئة الله وهذا وعد منه صلى الله عليه وآله وسلم لا بد صائب بمشيئة الله وأيضا روى مسلم وغيره وأصحاب السنن إلا النسائي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال " إن الله زوى لي الأرض أي ضمها وجمعها فرأيت مشارقها ومغاربها وأن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها " وفي الحديث الذي رواه [ابن حبان] " ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار بعز عزيز وبذل ذليل عزا يعز الله به الإسلام وذلا يذل الله به الكفر" وأيضا هذان الحديثان يؤكدان رجوع الإسلام إلى مركز الريادة وموضع القيادة ومقام السيادة من شرق الدنيا إلى غربها لتتحقق إرادة الله التي اقتضاها لهذه الأمة الإسلامية منذ الأزل وروى الشيخان والأحاديث كثيرة ولكني اختصرها عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال " لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود حتى يختبئ اليهود من وراء الحجر والشجر فيقول الحجر والشجر يا مسلم هذا يهودي تعال فاقتله إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود " وهذا الحديث يشير إلى أن اليهود سيجتمعون في مكان ثم يتسلط عليهم المسلمون وهذا هو الواقع الكائن الآن الدلائل تشير إلى هذا فإن اليهود يجمعون أعوانهم ويجمعون أهلهم من كل مكان في فلسطين هذه الأحاديث وأيضا لا ننس أحاديث الطائفة المنصورة(/179)
وقد وردت عن عدد من الصحابة منها حديث [سعد بن أبي وقاص] رضي الله عنه عند مسلم في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال" لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك" وحديث [أنس ابن مالك] رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال "مثل أمتي مثل المطر لا يدرى أوله خير أم آخره "والحديث رواه أحمد والترمذي وقال الترمذي حديث حسن وصححه الألباني في صحيح الترمذي وقوله صلى الله عليه وآله وسلم " بشر هذه الأمة بالثناء والنصر والتمكين ومن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة نصيب" والحديث رواه أحمد وابنه عبد الله في زوائده وابن حبان والحاكم وقال صحيح الإسناد ووافقه الذهبي على ذلك وقال الألباني في أحكام الجنائز قال إن إسناد عبد الله صحيح على شرط البخاري. من هذه النصوص من القرآن والسنة يتبين لنا أن هذه النصوص كلها بشائر لنصرة الإسلام وتمكينه ألا فليثق الدعاة إلى الله عز وجل في هذه المبشرات مهما كان في الطريق من عثرات (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين ) ولو لم يكن من البشائر والمبشرات سوى هذه النصوص لكفت فكيف والتاريخ يشهد بذلك وكيف والواقع يتفجر عن ينابيع الإسلام الواقع الآن أيها الأحبة يتفجر عن ينابيع الإسلام وعن قدومه في كل يوم ففي كل يوم نسمع عن حرب للإسلام والمسلمين قادمة من بقاع لم نكن نعرفها ولم نسمع بها وإليك تفصيل ذلك :
من البشائر ثالثا الصراع القائم الآن بين الحق والباطل فصولات الباطل وانتفاش أهله دليل على قوة الحق وقدومه وتململه إن صراع الباطل وانتفاش أهله الآن دليل على قوة الحق وقدومه وتململه فقبل سنوات قليلة لم يكن للمسلمين صوت لا في البوسنة ولا في طاجاكستان ولا في الفلبين ولا في الشيشان ولا في غيرها من بلاد المسلمين أما الآن فإننا نسمع تلك الأمور وتلك الصولات والجولات للمسلمين في كل مكان وفي كل سفح من أنحاء المعمورة هذه الأمور إننا نعتبرها أيها الأحبة ينابيع للإسلام تتفجر عن قدومه وبقوة فماذا قدمنا وما هو دورنا فالإسلام ماض في طريقه للعزة والتمكين سواء بنا أو بغيرنا فيا أيها المسلم ويا أيتها المسلمة سجل لنفسك موقفا يشهد لك عند الله عز وجل كن ممن شارك في نصرة هذا الدين ولو بكلمات صادقة ناصحة من قلب يحترق ويتألم كن ممن شارك في نصرة هذا الدين ولو بشريط أو بكتاب يفتح الله به قلوبا عميا أو أذانا صما كن ممن شارك في نصرة هذا الدين ولو بريالات قليلة تعين بها ملهوفا وتنصر بها مظلوما المهم أن تعمل أن تشعر أنك تقدم فكر وابحث وقلب الأمور وستجد أن بيدك الخير الكثير فلا يقل قائل ماذا أقدم وماذا أعمل فإننا تعدينا مرحلة هذا السؤال والوقوف عند هذا السؤال بكثير .(/180)
ومن البشائر أيضا أيها الأحبة وهي بشارة رابعة ذلك الخوف الرهيب والرعب الشديد من الإسلام فلماذا يتعرض الإسلام في هذه الأيام لهجمات مسعورة ولماذا تزداد هذه الهجمات شراسة كلما ظهرت صحوة إسلامية في بلد ما لماذا يتفق أصحاب الشعارات والمبادئ المتناقضة لماذا يتفقون هؤلاء على عدائهم للإسلام وأهله لماذا تثار الشبهات حول الإسلام ومبادئه ومناهجه وعقائده وأحكامه لماذا تثار الحملات الشعواء التي تشنها صحافة الغرب والشرق على الإسلام وأهله لماذا تغزى بلاد الإسلام بوسائل الشهوات والمخدرات ووسائل الخلاعة والمجون المحطمة لقوى الشباب المستنزفة لطاقاتهم وأفكارهم وعقولهم الإجابة واحدة إنهم يخافون الإسلام إنهم يخافون من رجعة قوية للإسلام والمسلمين إنهم يخافون من وحدة المسلمين لقد درس أعداؤنا من الكافرين وأذنابهم الإسلام وعقيدته فعرفوا أنه يربي الرجال والنساء على تقديم كل غال ونفيس في سبيل الله حتى ولو كان المقدم هو الروح فهي رخيصة من أجل الإسلام وفي ذات الله علموا هذه الحقيقة رأوها في الواقع في ساحات الجهاد فلذلك خافوا وهلعوا وأصابهم الرعب الشديد من الإسلام ولتعلم حقيقة هذا الرعب وهذا الفزع الذي أصابهم اسمع لبعض أقوالهم فالحق ما شهدت به الأعداء كما يقال وإني أسوق إليك نذرا يسيرا قليلا مما قالوه عن الإسلام والصور والمقالات التي تبرهن على خوفهم ورعبهم الشديد من هذا الدين هذا قول لـ[مور بيجر] في كتابه العالم العربي المعاصر يقول إن الخوف من العرب واهتمامنا بالأمة العربية ليس ناتج عن وجود البترول بغزارة عند العرب بل بسبب الإسلام يجب محاربة الإسلام للحيلولة دون وحدة العرب التي تؤدي إلى قوتهم لأن قوة العرب تتصاعد دائما مع قوة الإسلام وعزته وانتشاره .ونحن نسمع مثل هذه المقالة نقول أين شبابنا ليعلموا أن تمزيق وحدة الصف المسلم وبث الفرقة والنزاع وتقسيم المسلمين إلى جماعات وأحزاب إنما هو هدف خلفه من خلفه ألا فليتق الله ألا فليتق الله ذلك المسلم الذي يكون وسيلة لتنفيذ مخططات الأعداء قد يكون وسيلة لتنفيذ مخططاتهم وهو لا يشعر باسم الغيرة على الدين باسم تأصيل العقيدة فافهم العقيدة جيدا وطبقها على الواقع كما يريد الله عز وجل ذلك فإنها صالحة لكل زمان ومكان وإياك أن تكون وسيلة في أيدي أعداء الدين لبث الفرقة والنزاع وتمزيق صف وحدة المسلمين وها هو [فيلب ونداسي] يصرح في كتابه المسمى الاستعمار الفرنسي في أفريقيا السوداء يقول إن من الضروري لفرنسا أن تقاوم الإسلام في هذا العالم وأن تنتهج سياسة عدائية للإسلام وأن تحاول على الأقل إيقاف انتشاره ويقول المستشرق الفرنسي [كيرون] في كتابه باثولوجيا الإسلام يقول وأعتقد أن من الواجب إبادة خمس المسلمين والحكم على الباقين بالأشغال الشاقة وتدمير الكعبة ووضع محمدا وجثته في متحف اللوفر ويقول [البرمارشادور] يقول إن هذا المسلم الذي نام نوما عميقا مئات السنين قد استيقظ وأخذ ينادي ها أنا ذا لم أمت إنني أعود إلى لحياة لا لأكون أداة طيعة أو ثقلا من البشر تسيره العواصم الكبرى ويقول أيضا معقبا هو نفسه يقول ومن يدري ربما يعود اليوم الذي تصبح فيه بلاد الإفرنج مهددة بالمسلمين فيهبطون من السماء لغزو العالم مرة ثانية في الوقت المناسب ثم يقول لست أدعي النبوءة ولكن الأمارات الدالة على هذه الاحتمالات كثيرة ولا تقوى كثيرة لا تقوى الذرة ولا الصواريخ على وقف تيارها انتهى كلامه هنا ثم تعال واسمع إلى تلك الرسالة السرية التي أرسلها رئيس الوزراء البريطاني [جون ميجور] حين أرسلها إلى الوزير البريطاني للشئون الخارجية يخبره بأنهم لن يوافقوا أبدا على تزويد مسلمي البوسنة والهرسك بالسلاح أو تدريبهم عليهم مهما كانت الظروف وهذه الرسالة نشرتها مجلة الرابطة عدد محرم وصفر وربيع الأول من عام أربعة عشر بعد الأربع مائة والألف من السنة الماضية والرسالة نشرتها المجلة باللغتين العربية والإنجليزية وإليك النص الأصلي واعذرني أن لا أقرأ عليك النص كاملا لطول الرسالة وأقرأ عليك مقاطع من هذه الرسالة يقول في بداية الرسالة مكتب رئيس وزراء ثم يقول السيد دوبلس هوف مكتب الشئون الخارجية والمملكة المتحدة لندن وتاريخ الرسالة ألف وأربعمائة وإحدى عشر يقول السيد دوبلس المحترم أشكرك على التقرير المفصل حول الأوضاع الماضية والحالية في جمهورية البوسنة والهرسك التي كانت جزءا من دولة يوغسلافيا السابقة ثم يقول كما تعرف جيدا من خلال الأحاديث السابقة في المكتب والمناسبات الأخرى فإن حكومة جلالة الملكة لن تغير موقفها تجاه حل القضايا السياسية التالية :(/181)
1 – يقول لا نوافق الآن كما أنا لن نوافق في المستقبل على تزويد مسلمي البوسنة والهرسك بالسلاح أو تدريبهم على استخدامه إننا سنواصل دعمنا الحازم لإبقاء الحذر بالسلاح المفروض من قبل الأمم المتحدة على دول هذه المنطقة رغم معلوماتنا الموثقة الواردة عن دعم دول اليونان وروسيا وبلغاريا للجيش الصربي وقيامها بتدريبه والمعلومات أيضا عن قيام ألمانيا والنمسا وسلوفينيا وحتى الفاتيكان بالدور المماثل لدعم كرواتيا والقوات الكرواتية في البوسنة والهرسك ومن المهم جدا أن أننا نعلم يقينا أن جميع الجهود المماثلة المبذولة من قبل الدول والمنظمات الإسلامية لدعم المسلمين قد باءت بالفشل التام ثم يقول إنه يتعين علينا اتباع هذه السياسة حتى لحظة الوصول إلى الهدف النهائي ما هو الهدف وهو تقسيم جمهورية البوسنة والهرسك ومنع قيام الدولة الإسلامية في أوربا وهو الأمر الذي لا يمكن أن نسمح به أبدا وإنه من غير المسموح أن نرتكب في البوسنة والهرسك أو في أي مكان في العالم الخطأ الذي ارتكبناه بتسليح وتدريب المقاتلين الأفغانيين أثناء قتالهم مع الاتحاد السوفيتي وأترك كثيرا من كلامه في الرسالة إلى أن يقول ثانيا من نقاط الرسالة يجب أن نؤكد ضرورة إخفاء حقيقة التحركات السياسية الغربية وبأي ثمن عن كل الدول التي يمكن أن نسميها بالإسلامية وبالذات عن تركيا فيما يتعلق بهذه المنطقة إلى أن تهدأ الأمور في يوغسلافيا السابقة ومن أجل هذا السبب نفسه يتعين علينا الاستمرار في الخدعة التي سميناها بوايس أوين لإحلال السلام بهدف عرقلة كل التحركات إلى أن نقضي على دولة البوسنة والهرسك ويتم تهجير المسلمين منها إلى مختلف دول العالم ثم يقول قد يظهر للبعض أن هذه السياسة قاسية إلا أنه من واجبي أن أطالب بها كل العاملين في مكتب الخارجية لشئون المجموعة الأوربية الذين لهم صلة مباشرة بصنع القرارات السياسية والعاملين في الأجهزة العسكرية ولكني متأكد أن هذه السياسة في حقيقة الأمر السياسة الوحيدة الناجحة من أجل المصلحة العليا وهي مستقبل الأمن الأوربي إلى آخر رسالته وهذه صورة من الرسالة باللغة الإنجليزية .
البشارة الرابعة من البشائر واقع الحضارة المادية الغربية الآيلة للانهيار ومن هذا انهيار الشيوعية فإن انهيار المذهب الشيوعي في ذاته لا بد أن يوضع من المبشرات فقد كانت الشيوعية فتنة لكثير من الشباب في العالم العربي ومن كان يصدق أن تنهار الإمبراطورية الروسية ثم ها هي تلتمس الأعطيات والمساعدات من بقية الدول الأخرى فأين من يعقل ويتدبر روسيا القوة الثانية في العالم التي كانت تنافس الرأسمالية أصبحت اليوم تتلمس المساعدات والأعطيات وأما الرأسمالية التي تمثلها اليوم أمريكا فإن واقع المجتمع الأمريكي في كل مجالاته الدينية والسياسية والثقافية والاقتصادية والإعلامية والتعليمية والاجتماعية وغيرها واقع مفزع مخيف بالنسبة لهم ليس أنا من يقول هذا الكلام ولكي اختصر عليك الوقت وأوثق المعلومات لك فإني أطالبك بالرجوع إلى كتاب بعنوان يوم أن اعترفت أمريكا بالحقيقة ارجع لهذا الكتاب وانظر الأرقام والإحصاءات هذا الكتاب تأليف [جيمس باترسون] و[باتر كام] وترجمه للعربية الدكتور [محمد بن سعود البشر] صدر الكتاب بالإنجليزية عام واحد وتسعين وتسعمائة وألف ميلادي يقع في مائتين وسبعين صفحة من القطع المتوسط وهذا الكتاب هو دراسة قامت على إحصاءات واستبانه وأرقام من واقع المجتمع الأمريكي ونتائج هذا الكتاب نتائج مفزعة مخيفة بالنسبة للأمريكيين اسمعوا ماذا يقول الأمريكيون أنفسهم عن هذا الكتاب يقول [إلكس هلي] مؤلف كتاب عن هذا الكتاب كتاب يوم أن اعترفت أمريكا بالحقيقة يقول : كتاب مفزع عندما أنهيت قراءته لم أعرف ماذا أفعل هل أصدع بالحقائق أي التي فيه أم أركض للتلال وأختبئ إنه يعرض لنا حقائق عن أنفسنا لم نشاهدها في أية دراسة أو في أية استطلاعات أو في استطلاعات الرأي ولا حتى في الأحاديث الشخصية وتقول صحيفة نيويورك ديلي نيوز عن الكتاب كلمة واحدة قالت عن الكتاب نتائج مفزعة وأيضا يقول [سيدني جينز] نائب الرئيس التنفيذي لشركة كولومبيا للإنتاج السينمائي يقول كتاب باتر سون وكيم أي المؤلفان يقول قد يكون نقطة الالتقاء حتى تجنب الولايات المتحدة نفسها من كارثة محققة الحقائق المفزعة التي يقدمانها في هذا الكتاب الآن وإلا فلا جدوى .هذا ما قالوه عن هذا الكتاب الذي يعلن عن التصدع الكبير في بنية مجتمعهم وانظر إن شئت كتاب آخر بعنوان السقوط من الداخل ترجمات ودراسات في المجتمع الأمريكي للدكتور محمد بن سعود البشر أيضا وهو عبارة عن مناقشات للقضايا والمشكلات الراهنة التي يعاني منها المجتمع الأمريكي في جميع النواحي .(/182)
أقول إن الحضارة المادية الغربية تتهالك اليوم وتسقط سقطت الشيوعية والنذر قادمة لسقوط الرأسمالية ،العالم اليوم بجميع أحواله أيها الأحبة يشكو من إفلاس الأنظمة الأسرية ويتجرع ويلات ومرارة هذه النظم التي دمرت حياتهم فما أكثر الانتحارات وما أكثر اللجوء للخمر والضياع والفساد والشهوات في تلك المجتمعات وطغت هذه النظم على كل جوانب الخير عند ذلك الإنسان وها هو ذلك الإنسان يتطلع اليوم إلى المنقذ الذي يخلصه من ذلك وليس المنقذ أبدا إلا الإسلام هو الذي يتوافق مع الفطرة وهو الذي يحقق للناس مصالحهم في الدنيا والآخرة ويكفي الأنظمة البشرية قصورا وفشلا أنها من صنع البشر يكفيها قصورا وفشلا أنها من صنع البشر وأن دين الإسلام من صنع خالق البشر سبحانه وتعالى .
ومن البشائر وهي البشارة السادسة واقع الأمة البشرية هذا الواقع الذي بدأت تصحو على نداءات المخلصين إن ما نشاهده الآن في أنحاء العالم الإسلامي من صحوة مباركة ومن رجوع صادق إلى دين الله يزداد ولله الحمد والمنة يوما بعد يوم مما يدل دلالة صادقة على إقبال هذه الشعوب عن بكرة أبيها على الالتزام بحقيقة دينها والنهوض بأمتها ناهيك عن إقبال غير المسلمين على الدخول في دين الله عز وجل أقرءوا الصحف اقرءوا المجلات انظروا في اليوم الواحد كم يسلم من المشركين والكفار كم أعداد أولئك الذين يدخلون الإسلام سواء من الرجال أو النساء هذا ما يذكر في الصحف والمجلات وما لم يذكر فهو أكثر فأقول هذا كله رغم قلة الإمكانات وقلة الجهود المبذولة للدعوة فكيف لو تحرك المسلمون كيف لو تحرك الصادقون كيف لو تألفت القلوب وعرفت الهدف الذي من أجله تعيش فتحركوا للدعوة إلى الله عز وجل كيف لو عاشرنا أولئك العمالة من الكفار والمشركين الذين يعيشون معنا في تجاراتنا ومؤسساتنا كيف لو عاشرناهم بخلق حسن وكيف لو دللناهم على دين الله عز وجل بحق كيف لو وجهنا هذه الأمة كيف لو نصحنا وأمرنا بمعروف ونهينا عن منكر بكلمة طيبة لينة لوجدنا أثر ذلك أيها الأحبة هذه النتائج رغم قلة العاملين فالله الله أن تكون ممن سلك نصرة هذا الدين فإن الدين منصور بك أو بغيرك أيها الحبيب .
ومن البشائر أيضا وهي بشارة سابعة وأخيرة التاريخ الذي برهن على انتصارات الأمم المغلوبة برهن على انتصارات الأمم المغلوبة على أعداءها ونحن لسنا أمة مقطوعة إن لنا تاريخا نستلهم منه الدروس والعبر وما أكثر تلك اللحظات الحرجة وأوقات الفتن والمحن التي مرت بالأمة الإسلامية فقط ما عليك ألا أن تقلب صفحات التاريخ لتقف على تلك اللحظات ففي التاريخ عجائب الأمور وفيه تقلبات الزمن وتصاريف القدر وفيه سنة الصراع بين الإيمان والجاهلية اقرأ التاريخ لتربط هذه الأحداث اليوم بتاريخنا العريق يوم أن يبين لنا الدروس والعبر فيه ما يصيب الدعاة من المحن والبلاء وعاقبة الصبر على الطريق تعالى أيها المسلم لأقلب وإياك صفحات ثلاث فقط صفحات ثلاث من تاريخنا كانت هذه الصفحات لحظات رهيبة وحرجة عصيبة على المسلمين فكيف تعامل معها المسلمون وكيف نجى الله سبحانه وتعالى الصادقين ولماذا ينتصر أعداء الدين على المسلمين ويحصل لهم التمكين في بعض الأحايين .
الصفحة الأولى إنها تلك اللحظات الحرجة التي عاشها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في غزوة الأحزاب ذلك الرعب الذي روع أهل المدينة وأفزعهم خلاصة حال المسلمين في هذه اللحظات أعددها لكم في النقاط التالية :
تجمع الأحزاب من كل مكان قريش غطفان بنو أسد بنو سليم بنو مرة قبيلة أشجع فزارة ومن اليهود أيضا بنو قريظة وبنو النضير تجمعت هذه الأعداد وضرب حصار محكم منها على المدينة وهذا يذكرنا بتجمع أعداء الدين اليوم كلهم على هذا الدين وعلى الأمة الإسلامية .
ثانيا غدر اليهود وخيانتهم ونقضهم للعهد في المدينة وهذا هو ديدنهم الذي أخبر الله عز وجل عنهم في الكتاب وستظل هذه الصفات إلى يوم القيامة لأنها إخبار من الله عز وجل في القرآن وإخبارات منه صلى الله عليه وآله وسلم في السنة .
ثالثا : مكائد المنافقين وتسللهم لواذا متعللين بالأكاذيب وتثبيطهم للنفوس وبثهم للرعب والفزع في القلوب المريضة وقد قال منافق منهم ويدعى[ معاتب بن قشير] قال في هذه اللحظات قال كان محمد يعدنا أن نأخذ كنوز كسرى وقيصر وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط كلمات تثبيط وتخذيل كما يفعله كثير اليوم من المنافقين .
رابعا الجوع المقعد وفقدان الزاد حتى ربط النبي صلى الله عليه وآله وسلم على بطنه حجرا من شدة الجوع وكما جاء في حديث أنس رضي الله تعالى عنه عند البخاري قال يؤتون بملء كف من الشعير فيصنع لهم في إهالة والإهالة هي ودق تحلب من دسم اللحم وشحمه سنخة أي متغيرة فاسدة الطعم توضع بين يدي القوم والقوم جياع وهي بشعة في الحلق ولها ريح منتنة ثم قال في الحديث وقد لبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذواقا ولا نطعم شيئا ولا نقدر عليه .(/183)
نقطة خامسة من وصف حال المسلمين في تلك اللحظات حفر الخندق والأحوال الجوية فالبرد شديد ونقلهم التراب على أكتافهم وظهورهم كما في حديث البراء عند البخاري قال "كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم ينقل التراب يوم الخندق حتى أغمر بطنه "أو كما في رواية أغبر بطنه وفي لفظ حتى وارى عنه التراب جلدة بطنه صلى الله عليه وآله وسلم
سادسا الخوف على النساء والعجزة والأطفال وهم من وراء المجاهدين في أطم المدينة والسعي لحمايتهم بعد غدر اليهود من وراءهم .(/184)
سابعا : قلة المسلمين وقلة السلاح والعتاد أمام تجمع الأحزاب وقوتهم وكثرة عتادهم كل هذه الظروف تجمعت على المسلمين في تلك اللحظات في تلك الساعات الحرجة العصيبة وتعال واسمع لوصف الحق عز وجل اسمع لوصف الله سبحانه وتعالى وهو يصف حال المسلمين في هذه اللحظات الحرجة يقول سبحانه وتعالى (إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا ) هذا وصف الله سبحانه وتعالى للموقف (إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا ) ثم يقول سبحانه وتعالى (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا ) (وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا ) انظر التثبيط والتخذيل وقد يقع في ذلك كثير من ضعاف المسلمين اليوم (وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا ) إنها صورة الهول الذي روع المدينة والكرب الذي يشن لها الذي لم ينج منه أحد من أهلها وقد أطبق عليها المشركون من قريش وغطفان واليهود من بني قريظة من كل جانب من أعلاها ومن أسفلها قال [محمد بن مسلمة] وغيره كان ليلنا بالخندق نهارا وكان المشركون يتناوبون بينهم فيغدو [أبو سفيان بن حرب ]في أصحابه يوما ويغدو [خالد بن الوليد] يوم كان مشركا يوما ويغدو [عمرو بن العاص] يوم كان مشركا يوما ويغدو [هبيرة بن أبي وهب] يوما ويغدو [عكرمة بن أبي جهل] يوما ويغدو [ضرار بن الخطاب] يوما حتى عظم البلاء وخاف الناس خوفا شديدا تقول [أم سلمة] رضي الله تعالى عنها شهدت أي مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم شهدت معه مشاهد فيها قتال وخوف <المريسيع> و<خيبر> وكنا <بالحديبية> وفي <الفتح> و<حنين> ولم يكن من ذلك أتعب لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا أخوف عندنا من <الخندق> وذلك أن المسلمين كانوا في مثل الحرجة وأن قريظة لا نأمنها على الذراري فالمدينة تحرس حتى الصباح نسمع فيها تكبير المسلمين حتى يصبحوا خوفا حتى ردهم الله بغيظهم لم ينالوا خيرا كيف تعامل المسلمون مع هذه اللحظات الحرجة ومع هذا الموقف وكيف كان حالهم في وقت الفتن والشدة ماذا فعلوا في هذه الساعات العصيبة لم يترددوا لحظة في نصرة الله عز وجل ولا في نصرة دينه بل كانت هذه الشدائد وهذه الفتن وهذه المحن مادة للطمأنينة والثقة والاستبشار واليقين لقد كانوا رضوان الله تعالى عليهم ناسا من البشر يجزعون ويضعفون ويضيقون بالشدة لكنهم كانوا مرتبطين بالعروة الوثقى التي تشدهم إلى الله عز وجل وتمنعهم من السقوط وتجدد فيهم الأمل وتحرسهم من اليأس والقنوط ولذلك اسمع لموقفهم كما يصفه الله تعالى اسمع لموقف المؤمنين الصادقين في الفتن ومواقف الشدة يوم أن تمسكوا بالعروة الوثقى يوم أن تمسكوا بلا إله إلا الله فعرفوا أنه لا قادر على شيء في هذا الكون إلا الله وبعد إذن الله سبحانه وتعالى يقول سبحانه وتعالى (وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا ) في الفتنة والشدة ما في تراجع بل هذه دلائل وهذه بشائر ومبشرات على أن هذه نصرة للإسلام ولذلك (وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ ) لما رأوا الأحزاب تجمعت عليهم من كل ناحية وتكالبت الظروف عليهم التي ذكرناها قالوا (هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا ) هذه صورة الإيمان الواثق المطمئن هذه صورة مشرقة مضيئة للمؤمنين الصادقين وهم في مواجهة المحن والشدائد ولا عجب فهم تلامذة المدرسة المحمدية ففي هذه اللحظات الحرجة وفي هذه المصائب والشدائد التي تجمعت على المسلمين فإذا به صلى الله عليه وآله وسلم يبشرهم بسقوط حكم كسرى وقيصر في هذه اللحظات العصيبة فإذا به صلى الله عليه وآله وسلم يقول عندما يضرب الحجر بمعوله يقول "الله أكبر أعطيت مفاتيح الشام والله إني لأبصر قصورها الحمر الساعة سبحان الله ثم يضرب الثانية فيقول الله أكبر أعطيت مفاتيح فارس والله لأبصر قصر المدائن ثم يضرب الثالثة فيقول الله أكبر أعطيت(/185)
مفاتيح اليمن والله إني لأبصر أبواب صنعاء في مكاني هذه الساعة "والحديث أخرجه أحمد والنسائي من حديث [البراء بن عازب] وإسناده حسن وأصل الحديث عند البخاري في صحيحه في كتاب المغازي والأعجب من هذا أنه لما وصله صلى الله عليه وآله وسلم غدر اليهود غدر بني قريظة ونقضهم للعهد وهي مصيبة أخرى على تلك المصائب التي تجمعت عليه وعلى أصحابه رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ومع ذلك كله اسمع لليقين قال صلى الله عليه وآله وسلم "الله أكبر ابشروا بنصر الله وعونه إني لأرجو أن أطوف بالبيت العتيق وأخذ المفتاح وليهلكن كسرى وقيصر ولتنفقن أموالهما في سبيل الله "هذا في اللحظات التي يأتيه الخبر أن اليهود قد غدروا قال صاحب الظلال رحمه الله وحين نرانا ضعفنا مرة أو زلزلنا مرة أو فزعنا مرة أو ضقنا مرة بالهول والخطر والشدة والضيق فعلينا ألا نيأس من أنفسنا وألا نهلع ونحسب أنا هلكنا وأننا لم نعد نصلح لشيء عظيم أبدا ولكن علينا في الوقت ذاته ألا نقف إلا جوار ضعفنا لأنه من فطرتنا البشرية ونصر عليه لأنه يقع لمن هم خير منا هنالك العروة الوثقى عروة السماء وعلينا أن نستمسك بها لننهض من الكبوة ونسترد الثقة والطمأنينة ونتخذ من الزلزال بشيرا للنصر فنثبت ونستقر ونقوى ونطمئن ونسير في الطريق وهذا هو التوازن الذي صاغ ذلك النموذج الفريد في صدر الإسلام فأقول ما أحوجنا لمثل هذا التوازن في مثل هذا الزمن .(/186)
الصفحة الثانية : لما استولى الصليبيون على كثير من البلاد الإسلامية والمسجد الأقصى ما يقارب قرنا من الزمن حتى ظن الكثير من المسلمين وغير المسلمين أنه لا أمل في انتصار المسلمين على الصليبيين وأنه لا رجاء في رد أرض فلسطين مع المسجد الأقصى إلى حوزة المسلمين ولا سيما بعد أن فتكوا في الأنفس وذبحوا من المسلمين في اليوم الواحد فقط أكثر من ستين ألفا حتى أن الدماء سالت أنهارا في شوارع القدس وقد بلغت حد الركب واسمع [لابن كثير] يقول في البداية والنهاية لما كان ضحى يوم الجمعة لسبع بقين من شعبان سنة سنتين وتسعين وأربعمائة أخذت الإفرنج لعنهم الله بيت المقدس شرفه الله وكانوا في نحو ألف ألف مقاتل وقتلوا في وسطه أزيد من ستين ألفا من المسلمين وجاسوا خلال الديار وتبروا ما علو تتبيرا قال [الجوزي] وأخذوا من حول الصخرة اثنين وأربعين قنديلا من فضة زنة كل واحد منها ثلاثة آلاف وستمائة درهم وأخذوا تنورا من فضة …وثلاثة وعشرين قنديلا من ذهب وذهب الناس على وجوههم هاربين من الشام إلى العراق مستغيثين على الإفرنج إلى الخليفة والسلطان منهم [القاضي أبو سعد الهروي] فلما سمع الناس في بغداد هذا الأمر الفظيع هالهم ذلك وتباكوا وقد نظم أبو سعد الهروي كلاما قرئ في الديوان وعلى المنابر فارتفع بكاء الناس وندب الخليفة الفقهاء إلى الخروج للبلاد ليحرضوا الملوك على الجهاد وخرج [ابن عقيل] وغير واحد من أعيان الفقهاء فساورا في الناس فلم يفد ذلك شيئا إذا ماتت قلوب الناس وأصابها الخوف والهلع والعياذ بالله ماتت فلم يفد ذلك شيئا فإن لله وإنا إليه راجعون حتى إن [إرناط] أمير <الكرك> ولم يكن في الإفرنج أشد منه عداوة للمسلمين سطا على قافلة ذاهبة من مصر إلى الشام فأخذ أموالهم وضرب رقابهم وهو يقول أين محمدكم دعوه ينصركم من كان يظن أن هذه البلاد ستتحرر في يوم من الأيام على يد البطل [صلاح الدين] في معركة حاسمة ويصبح للمسلمين من الكيان والقوة والعزة والسيادة ما شرف التاريخ قال ابن كثير في البداية والنهاية في الجزء الثاني عشر فتواجه الفريقان وتقابل الجيشان وأسفر وجه الإيمان واغبر وأقتم وأظلم وجه الكفر والطغيان ودارة دائرة السوء على عبدة الصلبان وذلك عشية الجمعة فبات الناس على مصافهم وأصبح صباح يوم السبت الذي كان يوما عسيرا على أهل الأحد وذلك لخمس بقين من ربيع الآخر فطلعت الشمس على وجوه الإفرنج واشتد الحر وقوي بهم العطش وكان تحت أقدام خيولهم حشيشا قد صار هشيما وكان ذلك عليهم مشئوما فأمر السلطان النفاطة أن يرموه بالنفط فرموه فتأجج أي ذلك الحشيش نارا تحت سنابك خيولهم فاجتمع عليهم حر الشمس وحر العطش وحر النار وحر السلاح وحر رشق النبال وتبارز الشجعان ثم أمر السلطان بالتكبير والحملة الصادقة فحملوا وكان النصر من الله عز وجل فمنحهم الله أكتافهم فقتل منهم ثلاثين ألف في ذلك اليوم وأسر ثلاثون ألفا من شجعانهم وفرسانهم وكان في جملة من أسر جميع ملوكهم سوى قومس طرابلس فإنه انهزم في أول المعركة واستلبهم السلطان صليبهم الأعظم وهو الذي يزعمون أنه صلب عليهم مصلوب وقد غلفوه بالذهب واللآلئ والجواهر النفيسة ولم يسمع بمثل هذا اليوم في عز الإسلام وأهله ودمغ الباطل وأهله حتى ذكر أن بعض الفلاحين رآه بعضهم يقود نيفا وثلاثين أسيرا من الإفرنج وقد ربطهم بطنب خيمة وباع بعضهم أسيرا بنعل ليلبسها في رجله وجرت أمور لم يسمع بمثلها إلا في زمن الصحابة والتابعين فلله الحمد دائما كثيرا طيبا مباركا …انتهى كلامه رحمه الله تعالى ،من كان يظن أنه ستحدث هذه الأحداث وستتحرر هذه البلاد بعد تلك الأمور التي سمعتموها من تسلط الصليبيين ومن أذاهم للمسلمين .(/187)
صفحة ثالثة وأخيرة من صفحات التاريخ التي تبرهن على أنه مهما كان حال بيت المسلمين إلا أن العز والتمكين سيكون النصر للمؤمنين وهذه الصفحة هي لما خرب المغول والتتار العالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه ونهبوا الأموال وداسوا القيم وفتكوا في الأنفس والأعراض فتكا ذريعا حتى قيل إن جبالا شامخة وأهرامات عالية أقامها [هولاكو] من جماجم المسلمين واسمع [لابن الأثير] وهو يروي لنا الخطب والحدث في كتابه الكامل في الجزء التاسع يقول ثم دخلت سنة سبع عشرة وستمائة ذكر خروج التتر إلى بلاد الإسلام لقد بقيت عدة سنين هذا كلام ابن الأسير لقد بقيت عدة سنين معرضا عن ذكر هذه الحادثة استعظاما لها كارها لذكرها فأنا أقدم إليه رجلا وأأخر أخرى فمن الذي يسهل عليه أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين ومن الذي يهون عليه ذكر ذلك فيا ليت أمي لم تلدني ويا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا إلا أني حفني جماعة من الأصدقاء على تصديرها وأنا متوقف ثم رأيت أن ترك ذلك لا يجدي نفعا فنقول هذا الفعل يتضمن ذكر الحادثة العظمى والمصيبة الكبرى التي عقمت الأيام والليالي عن مثلها عمت الخلائق وخصت المسلمين وقال قائل إن العالم ومذ خلق الله سبحانه وتعالى آدم إلى الآن لم يبتلوا بمثلها لكان صادقا فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا ما يدانيها إلى أن وصف هذا الحدث بصفات عجيبة قريبة من أرادها يرجع إليها هناك قال وهؤلاء لم يبقوا على أحد بل قتلوا النساء والرجال والأطفال وشقوا بطون الحوامل وقتلوا الأجنة كأنه يسوق لنا ما يدور الآن في بعض الدول العربية هؤلاء لم يبقوا على أحد بل قتلوا النساء والرجال والأطفال وشقوا بطون الحوامل وقتلوا الأجنة فإنا لله وإنا إليه راجعون ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم لهذه الحادثة التي استطار شرها وعم ضررها وصارت في البلاد كالسحاب استدبرته الريح فإن قوما خرجوا من أطراف الصين وبلغوا إلى <طاجاكستان> مثل <كاشر> و<بلاسعون> ثم منها إلى بلاد ما وراء النهر مثل <سمرقند> و<بخارى> وغيرهما فيملكونها ويفعلون بأهلها ما نذكره ثم تعبر طائفة منهم إلى <خراسان> فيفرغون منهم ملكا وتخريبا وقتلا ونهبا ثم يتجاوزونها إلى <الري> و<همذان> و<لاد الجبل> وما فيه من البلاد إلى حد <العراق> ثم بلاد< أذربيجان> و<أرانية >ويخربونها ويقتلون أكثر أهلها ولم ينج إلا الشريد النادر كل هذا في أقل من سنة هذا ما لم يسمع بمثله إلى أن قال أيضا ففعلوا فيها أي في بلاد <الهند> و<سيجستان> و<كرمان> وغيرها ففعلوا فيها مثل ما فعل هؤلاء وأشد ما لم يطرق الأسماع مثله فإن [الإسكندر] الذي اتفق المؤرخون على أنه ملك الدنيا لم يملكها في هذه السرعة إنما ملكها في نحو عشرين سنة ولم يقتل أحدا إنما رضي من الناس بالطاعة وهؤلاء قد ملكوا أكثر المعمورة في الأرض وأحسنه وأكثره عمارة وأهلا وأعدل أهل الأرض أخلاقا وسيرة في نحو سنة شوف إذا سلط الله عز وجل الأعداء والعياذ بالله في نحو سنة ولم يبت أحد من البلاد التي لم يطرقوها إلا وهو خائف يتوقعهم ويترقب وصولهم إليه ثم إنهم لا يحتاجون إلى ميرة ومدد يأتيهم فإنهم معهم الأغنام والبقر والخير وغير ذلك إلى أن قال ولقد بلي الإسلام والمسلمين بمصائب لم يبتل بها أحد من الأمم منها ثم قال في آخر الأمر فإنا لله وإنا إليه راجعون .
نسأل الله أن ييسر للإسلام والمسلمين نصرا من عنده فإن الناصر والمعين والذاب عن الإسلام معدوم (وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال ) أقول ونحن نسمع هذا الوصف من ابن الأثير رحمه الله تعالى نتعجب ونفرغ أفواهنا اندهاشا ونحن نسمع مثل هذه الكلمات ونقول من كان يظن أن تقوم للمسلمين قائمة بعد هذه الأحداث من كان يظن أن تقوم للمسلمين قائمة وتدول لهم دولة بعد هذه الأحداث التي وصفها ابن الأثير رحمه الله تعالى كل هذه الأحداث أيها الأحبة والتاريخ مليء بمثل هذه الصفحات وغيرها من مواقف الشدة والمحن التي أصابت المسلمين أقول كل هذه بشارات وبشائر تدل على أن ما يحدث للمسلمين اليوم من ضيق وشدة ومحن أن بعدها فرج وأن بعدها نصر لكن المهم أن ننصر نحن دين الله أن نقوم بواجبنا كما سأبين بعد قليل .(/188)
أقول مفهوم خاطئ يجب ألا يفهم من كان يظن أننا نقصد بالتفاؤل إذا طلبنا التفاؤل لمجرد الفرح والاطمئنان وبالتالي الركون ودنو الهمة ووهن العزائم والانشغال في الدنيا والتغني بهذا التفاؤل ليل نهار وذكر مثل هذه البائر وأعداء الإسلام يخططون ويعملون ويكيدون فهو مخطئ أو من كان يظن أننا نقصد بذلك مجرد السرور والاطمئنان المؤدي للثقة المفرطة والحماس المؤدي بدوره إلى التهور والانفعال اللذين يؤديا إلى عاقبة غير مرضية ونتائج محرجة إنما نقصد بالتفاؤل الثقة بنصر الله والفوز والنجاح وعدم تأثر المسلمين جميعا بما يوضع لهم من عراقيل بل إن ذلك يزيدهم طموحا وتفاؤلا لأنهم واثقون بنصر الله الثقة واليقين بنصر الله هذا هو ما نقصده بالتفاؤل والأمل في نصر الله وتأييده لجنده هو سبيل الراشدين والفائزين بالنصر ( وإنا جندنا لهم الغالبون ) فالمؤمنون وحدهم هم المتفائلون وغيرهم هم اليائسون فاسلك أخي المسلم فاسلك رعاك الله طريق المؤمنين العاملين المتفائلين فالفوز حليفك إن شاء الله وتذكر قول الحق عز وجل ( هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما ) .
سؤال قد يرد على الخاطر يسأله كثير من الناس اليوم في مجالسهم ومنتدياتهم لماذا يمكن الله الكافرين من المسلمين ولماذا ينصرهم عليهم ولماذا ينتصر أعداء الله عز وجل على المسلمين ؟ هذا السؤال قد يرد على خاطر كثير من الناس أقول الإجابة أسوقها إليك من كلام ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه إغاثة اللهفان في الجزء الثاني صفحة ثلاثة وسبعين ومائتين عندما قال رحمه الله وانتبه إلى هذا الكلام فإنه كلام نفيس جميل جدا الأصل أن نتناقله وأن نردده على مسامعنا وعلى الناس حتى يتبين لنا لماذا يبتلينا الله عز وجل بمثل هذه المصائب يقول الأصل الثاني أن ابتلاء المؤمنين بغلبة عدوهم لهم وقهرهم وكسرهم لهم أحيانا فيه حكم عظيمة لا يعلمها على التفضيل إلا الله عز وجل فمنها استخراج عبوديتهم لله وانكسارهم له وافتقارهم إليه وسؤالهم نصرهم على أعدائهم ولو كانوا دائمين منصورين قاهرين غالبين لبطروا وأشروا ولو كانوا دائما مقهورين مغلوبين منصور عليهم عدوهم لما قامت للدين قائمة ولا كانت للحق دولة فاقتضت حكمة أحكم الحاكمين أن صرفهم بين غلبهم تارة وكونهم مغلوبين تارة فإذا غلبوا تضرعوا إلى ربهم وأنابوا إليه وخضعوا له وانكسروا له تابوا إليه وإذا غلبوا أقاموا دينه وشعائره وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وجاهدوا عدوه ونصروا أولياءه .
ومنها أي من الحكم أنهم لو كانوا دائما منصورين غالبين قاهرين لدخل معهم من ليس قصده الدين ومتابعة الرسول فإنه إنما ينضاف إلى من له الغلبة والعزة ولو كانوا مقهورين مغلوبين دائما لم يدخل معهم أحد فاقتضت الحكمة الإلهية أن كانت لهم الدولة تارة وعليهم تارة فيتميزوا بذلك بين من يريد الله ورسوله ومن ليس له مراد إلا الدنيا والجاه إذن التمييز بين الصادق من غيره من حكم ابتلاء الله للمؤمنين تمييز الخبيث من الطيب ( ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب ) هذا هو الأصل حتى يميز الله الخبيث من الطيب كيف نكتشف أن هذا المؤمن مسلم بحق كيف نكتشف إسلام هذا الإنسان إلا بالابتلاءات والفتن والشدائد هنا يتضح المؤمنون الصادقون ويتضح المنافقون الذين صابوا قلوبهم بالخوف والهلع عند الشدائد والمحن .
يقول ابن القيم ومنها أنه سبحانه يحب من عباده تكميل عبوديتهم على السراء والضراء وفي حال العافية والبلاء وفي حال إدالاتهم والإدالة عليهم فلله سبحانه على العباد في كلتا الحالتين عبودية بمقتضى تلك الحال لا تحصل إلا بها ولا يستقيم القلب بدونها كما لا تستقيم الأبدان إلا بالحر والبرد والجوع والعطش والتعب والنصب وأضدادها فتلك المحن والبلايا شرط في حصول الكمال الإنساني والاستقامة المطلوبة منه ووجود الملزوم بدون لازمه ممتنع .(/189)
يقول ومنها أن امتحانهم بإدالة عدوهم عليهم يمحصهم ويخلصهم ويهذبهم كما قال تعالى في حكمة إدالة الكفار على المؤمنين يوم أحد قال ( ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين أمنوا ويتخذ منكم شهداء ) إذن من الحكمة ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين) (ويمحص الله الذين أمنوا ويمحق الكافرين ) وليمحص الله الذين أمنوا يخلصهم من ذنوبهم من غفلتهم مما تراكم عليهم من الغفلة والذنوب فإن في هذه الابتلاءات تمحيص وتخليص وتهذيب لهم من الله عز وجل وأيضا اتخاذ للشهداء منهم في مثل هذه الأمور ثم يقول سبحانه وتعالى (َأمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ) (وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ) (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ
اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ ) .
ذكر سبحانه أنواعا من الحكم التي أديل عليهم الفار بعد أن ثبتهم وقواهم وبشرهم بأنهم الأعلون بما أعطوا من الإيمان وسلاهم بأنعم وإن مسهم القرح في طاعته وطاعة رسوله فقد مس أعداؤه القرح في عداوته وعداوة رسوله فقد مس القوم قرح بعداوته وعداوة رسوله أنت على حق يا أخي الحبيب أنت على مذهب صادق أنت على عقيدة صادقة أنت على مبدأ لا إله إلا الله إن مت ففي الجنة وإن حييت فبعزة وكرامة أما أعداء الله عز وجل فهم على أي حال خسروا الدنيا والآخرة ذكر بمثل هذا حتى تقوم حتى تعمل حتى تتحرك لنصرة هذا الدين بما تستطيع ثم يقول ابن القيم رحمه الله ثم أخبرهم أنه سبحانه بحكمته يجعل الأيام دولا بين الناس فيصيب كلا منه نصيب منها كالأرزاق والآجال ثم أخبرهم أنه فعل ذلك ليعلم المؤمنين منهم وهو سبحانه بكل شيء عليم قبل كونه وبعد كونه ولكن أراد أن يعلمهم موجودين وشاهدين فيعلم إيمانهم واقعا ثم أخبر أنه يحب أن يتخذ منهم شهداء فإن الشهادة درجة عالية عنده ومنزلة رفيعة لا تنال إلا بالقتل في سبيله فلولا إدالة العدو تحصل درجة الشهادة التي هي من أحب الأشياء إليه وأنفعها للعبد ثم أخبر سبحانه أنه يريد تمحيص المؤمنين أي تخليصهم من ذنوبهم بالتوبة والرجوع إليه واستغفاره من الذنوب التي أديل بها عليهم العدو وأنه مع ذلك يريد أن يمحق الكافرين ببغيهم وطغيانهم وعدوانهم إذا انتصروا ثم أنكر عليهم حسبانهم وظنهم دخول الجنة بغير جهاد ولا صبر وأن حكمته تأبى ذلك فلا يدخلونها إلا بالجهاد والصبر ولو كانوا دائما منصورين غالبين لما جاهدهم وأحد ولما ابتلوا بما يصبرون عليه من أذى أعدائهم فهذه بعض حكمه في نصرة عدوه عليهم وإدانته في بعض الأحيان انتهي كلامه رحمه الله تعالى .
وهذا الكلام كما ذكرت كلام يجب أن نرجع إليه وننظر فيه ونتناقله بين المجالس ونبينه للناس حتى يعلم الناس حقيقة الابتلاءات التي تحصل للمسلمين .
أخيرا وصايا ونتائج ولكي تتم الفرحة بهذه البشائر ولكي تلحق أنت أيها الأخ الحبيب بالركب ولتنال شرف نصرة هذا الدين فإليك هذه الوصايا التي لا يتم الموضوع إلا بها :
أولا : يتعجب بعض الناس من هيمنة الغرب ودوره القيادي فأقول لا تعجب لا تعجب أيها الحبيب فإن من سنة الله عز وجل في خلقه أن من عمل وسعى وبذل جهده وطاقته في تحصيل مقصد أو هدف وصل إليه ما لم تقم بعض الموانع والأسباب الحائلة دون ذلك فالمسلمون حين يستجمعون قوتهم حين يستجمعون أسباب التوفيق والتمكين المادية والمعنوية فإنهم يصلون إلى ما وصل إليه الغرب وأكثر أقصد في القيادة والريادة فهم مع ذلك أي المسلمون يملكون العون من الله والتوفيق لأنهم حملة دينه وحماة شريعته إذن فالغرب وصل إلى ما وصل إليه الآن بالجد والعمل والمثابرة ولو عمل المسلمون بهذه الأسباب لنالوا ذلك لأننا نتفوق على الغرب بالعقيدة بلا إله إلا الله فإن تخلينا عن لا إله إلا الله وتخلينا عن هذا الدين انخفضنا وارتقى الغرب علينا وأصبحت القيادة والريادة كما هو حال الناس اليوم .(/190)
ثانيا : متى يكون هذا النصر للإسلام : اليوم أم غدا أم بعد سنوات هذا سؤال ربما خطر على بعض الناس فأقول المهم أن تثق بنصرة هذا الدين وقد لا تشهد أنت هذه النصرة ولكن اسأل نفسك هل أنت ممن صنع هذه النصرة هل أنت ممن شارك في هذه النصرة ما هو رصيدك من العمل والدعوة والعبادة ما هو رصيدك من البذل والتضحية والصبر في سبيل الله ومن أجل هذا الدين إن النصر لا ينزل كما ينزل المطر وإن الإسلام لا ينتشر كما تنتشر أشعة الشمس حين تشرق ألم تقرأ في القرآن قول الحق عز وجل حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا بعد الشدة وبعد وصول الأمر منتهاه جاء الفرج وجاء النصر ألم تسمع قول الحق عز وجل (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ ) بلغ الأمر منتهاه (أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ ) إذن فالأمر يتطلب منا أن نبذل ما نستطيع من جهود مالية وبدنية وفكرية لنشر الخير ابذل يا أخي الحبيب ما تستطيع من أي جهد مالي أو فكري أو بدني لنشر الخير فالصور كثيرة وأبواب الخير كثيرة جدا والدعوة في هذا المجتمع وإصلاح ما نراه فيه من خلل مهما بذل الإنسان من جهد فإنه قليل في ذات الله عز وجل .
الوصية الثالثة الاستمرار بالدعاء والإلحاح فيه وعدم الانقطاع خاصة عند حدوث الفتن ونزول المصائب وهذا الأمر مطلب شرعي تركه والغفلة عنه سبب للعذاب اسمع لقول الحق عز وجل يوم أن قال (وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ) نعوذ بالله من قسوة القلب
وصية رابعة موتانا في الجنة وموتاهم في النار فالدنيا لهم والآخرة لنا حقيقة نسيها المسلمون حتى أصبحت الدنيا لكثير من المسلمين غاية وهدفا فأصابهم الهوان والذل وهذا هو واقع كثير من المسلمين والله يقول ( ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين ) والهوان قد يكون الالتفات إلى الدنيا وشهواتها وملذاتها.
الأمر الخامس والأخير لا ننس ضعف كيد الكافرين مهما كان عملهم ومهما كانت قوتهم فإن سعيهم في ضلال مهما كان هذا الكيد ومهما كان هذا الجهد لحرب الإسلام والمسلمين ومهما اتبعوا من وسائل فإن الله عز وجل يقول (الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ ) انظر المبادئ انظر العقيدة (الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ ) يكفي هذا فخرا ونصرا ( والَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا) .
الله عز وجل أيها الأحبة يخبرنا أن كيد الشيطان ضعيف أن كيد الشيطان وأولياء الشيطان كيد ضعيف لكن هذا الكيد المهم أنه كيد ما دام أنه وجد ضعفا في المسلمين فسيكون الأعلى مع ضعفه ومع هوانه وحقارته ما دام وجد من المسلمين هوانا وضعفا فإن هذا الكيد الضعيف مادام كيدا وعملا ارتقى وأصبح عاليا على المسلمين وإلا فكيد الشيطان وأولياء الشيطان كيد ضعيف وقال عز وجل (ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ ) المهم اعمل تحرك فكر ابذل لهذا الدين ادع لله عز وجل كيفما استطعت سجل في موازين أعمالك وفي حسناتك أعمالا صالحة سجل فيها أناسا اهتدوا وصلحوا على يديك وستجد أثر ذلك تحرك إلى الله عز وجل ابذل ما تستطيع حرك الأمة معك فكر في حال الأمة احمل هم الدنيا وهم هذه الأمة ستجد بعد ذلك نصرة الله عز وجل وستجد التوفيق من الله عز وجل لأن الله عز وجل أخبرنا أنه موهن كيد الكافرين مهما كان هذا الكيد ومهما بلغ وقال عز وجل ( وما كيد الكافرين إلا في ضلال ) وقال (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ ) هذه هي الحقيقة بعد ذلك توكل على الله عز وجل بعد ذلك قم يا أيها الأخ الحبيب ولا يصيبك الهوان ولا يصيبك الخمول ما دمت واثقا بنصرة هذا الدين وواثقا في هذه البشائر وهذه المبشرات .(/191)
اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة رب كل شيء ومليكه اللهم إنا نسألك للإسلام نصرا مؤزرا ، اللهم إنا نسألك للإسلام نصرا مؤزرا في كل مكان اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك اللهم انصر عبادك المخلصين في كل مكان الله أعل مكانتهم الله احفظهم بحفظك يا حي يا قيوم اللهم إنك خير حافظ وأنت أرحم الراحمين اللهم من أراد بالإسلام والمسلمين سوء فأشغله بنفسه اللهم أشغله بنفسه اللهم اجعل كيده كيدا عليه اللهم اجعل كيده تدبيرا عليه اللهم من كاد للإسلام بأمر سوء فكده يا حي يا قيوم اللهم اجعل تدبيره تدبيرا عليه اللهم اجعلنا من جندك المخلصين اللهم اجعلنا من الصالحين المصلحين اللهم انفع بنا اللهم انفعنا وانفع بنا اللهم أقر أعيننا بعزة الإسلام والمسلمين سبحانك اللهم وبحمدك نشهد أن لا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك نشهد أن لا إله إلا أنت وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وسلم تسليما كثيرا.(/192)
محاضرات
المحاضرة التالية
المحاضرة السابقة
فهرس المحاضرات
درس في العفة
المحتويات
مقدمة
وقفات تفسيرية
الوقفة الأولى
الوقفة الثانية
الوقفة الثالثة
الوقفة الرابعة
كيف برأ الله يوسف عليه السلام
قوارب النجاة في قصة يوسف عليه السلام
دروس أخيرة من القصة
مقدمة
موضوعنا هذه الليلة هو درس في العفة، وفي الواقع أن من أشد ما يعاني منه الشباب خاصة في هذا العصر الشهوات ومشكلة هذه الشهوة العارمة مع انتشار دواعيها وتنوعها وكثرتها ، وفي خضم هذه المثيرات وهذه الفتن يبقى الشاب صريعاً بين وازع الخير والإيمان والتقوى الذي يدعوه للعفة والمحافظة وبين الاستجابة للنفس الأمارة قصة قديمة فقد كنت قَد ألقيت محاضرة قبل سنوات بعنوان الشباب والشهوة ثم أصدرت كتاباً بعنوان "أخي الشباب كيف تواجه الشهوة " وبعد أن أصدرت هذا الكتيب وردت إلى رسائل كثيرة جدًّا رسائل بريدية أو مكالمات هاتفية من كثير من الشباب يعرض مشكلات كثيرة حول هذا الموضوع بمعدل رسالة أو رسالتين أسبوعيا منذ أن صدر الكتاب إلى الآن وأحرص أن أرد على كل رسالة ولو تأخرت في ذلك ولكن هذه الرسائل وتواليها أعطاني شعورا بأن لهذا الموضوع أهمية وبأن الشباب مازالوا يحتاجون وأنهم فعلا يعانون من مشكلة الشهوة، وهناك رسائل مؤثرة ومؤلمة في الواقع ولكن كثيراً من الشباب عندما يبعث لي بالرسالة يقول أرجو أن لا تقرأ هذه الرسالة في محاضرة أو تذكرها في كتاب مع أني لو قرأت جزءا منها فإنني لن أشير من قريب أو بعيد إلى واقع هذا الشباب ولكن من حقه علينا ما دام قد طلب منا هذا الطلب واستأمننا على سره أن لا نذكره، مع أني لو أعرضه لم يفهم الناس مَنْ المراد.
وهذا أشعرني بأن الموضوع يحتاج إلى معالجة أكثر وإلى تنويع الأساليب.
ومن ذلك النموذج ذكره اللّه سبحانه وتعالى في كتابه عن قصة يوسف عليه السلام كيف واجه الفتنة وكيف صبر ونجاه اللّه سبحانه وتعالى منها، ومن القضايِا المهمة التي يحتاج إليها الشباب: القدوة العملية، الصورة التي يراها شاخصة أمامه ويتخيل هذه الصورة، ويتخيل تلك الحال والمغريات والمثيرات التي فيها وكيف نجا يوسف من هذا الابتلاء فيعتبره قدوة ونموذجاً له يحتذيه.
وسنتناول الموضوع من خلال النقاط الآتية:
عوامل الإغراء ،ثم قوارب النجاة ، ثم وقفات حول القصة ، وأخيراً دروس أخيرة ، أما عوامل الإغراء فنحن عندما نتأمل هذه القصة وحتى نعرف الثبات الذي ثبته يوسف عليه السلام وحتى نعرف فعلا أن هذا البلاء لنبي اللّه. لا بد أن نتصور ونعيش جو القصة ونتصور عوامل الإغراء والإثارة التي كانت موجودة لدى يوسف عليه السلام ويستطيع كل منا أن يتصورها عندما يقرأ القصة ويتصورها ويتخيلها بنفسه ويستطيع أن يدرك هذه العوامل.
وقد أشار الحافظ ابن القيم حفظة اللّه إلى عدة أمور أوصلها إلى (13) كلها كانت وسائل وأمور تغري وتهيج الفتنة لدى يوسف عليه السلام في مثل هذا الموضوع.
* " أولها: العامل الطبع أي أن الرجل يميل إلى المرأة أصلا ، الرجل وكل الرجال إلا من شذي لديه هذه الشهوة فهذا العامل موجود أصلا.
الأمر الثاني: كونه شابًّا ولا شك أن الشهوة عند الشاب تكون أكثر توقداً منه عند غيره خاصة مع ذلك فقدرته على ضبط نفسه أقل من غيره ، ومن هنا تكون الصعوبة أكثر، فتعرفون أن يوسف عليه السلام رمي وهو صغير ثم أخذ رقيقاً وهو لا يزال غلاماً حتى قال عز رجل: " ولما بلغ أشده آتيناه حكماً وعلماً وكذلك نجزي المحسنين. وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلقت الأبواب".
ولا يهمنا الآن كم كان سن يوسف ولكن كان لاشك أنه قريب من العشرين يزيد عنها قليلا أو ينقص عنها قليلا، المهم أنه في مرحلة زهرة الشباب التي تشتد فيها هذه الشهوة.
العامل الثالث: أنه كان عَزَباً لم يتزوج بعد ولا شك أن هنا أيضاً أمر له أهميته فالمتزوج قد يسر اللّه له طريق الحلال فلو أثاره ما آثاره فأمامه المصرف الشرعي ، أما هذا الشاب الذي لم يتزوج بعد ولم يحصن نفسه فإنه أكثر عرضة للوقوع في المعصية والداعي للوقوع في المعصية والإغراء أكثر من غيره ومن هنا أمر الرسول صلى اللّه عليه وسلم الشباب قال: " يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطيع فعليه بالصوم فإنه له وجاء".
- الجانب الرابع: كونه في بلد غريب فالإنسان عندما يكون غريباً بعيداً عن أهله -خاصة لمّا يتركهم في سن مبكرة- فإن هذا يدعوه إلى أن يمارس ما يمارس ، فوجود الغربة يدعوه إلى أن ينطلق وينفلت من هذه القيود التي تقيده وتحجمه ، وكما نلاحظ الآن أن المرء عندما يغترب عن بلده يصبح أكثر عرضة للانفلات والضياع منه عندما يكون عند قومه وعشيرته وأهله.
- الأمر الخامس: أن المرأة كانت ذات منصب وذات جمال، أما كونها ذات منصب فهذا واضح وأما كونها ذات جمال فقال رحمه الله: إن مثل العزيز العادة أن لا يتزوج إلا امرأة ذات جمال.(/1)
الأمر السادس: كونها غير ممتنعة ولا آبية فإن مما يصد المرء أحيانا عن المعصية أن تمتنع المرأة وتأبى.
الأمر السابع: أنها طلب وأرادت وراودت و بذلت الجهد فكفته مؤنة الطلب وبذل الرغبة. فهي الراغبة الذليلة وهو العزيز المرغوب فيه. فالشاب قد تدعوه الشهوة إلى أن يواقع المعصية، لكن قد تبقى أمامه عقبه وهي الجرأة والتصريح بالرغبة والطلب.
وتجاوز الأمر إلى قضية التهديد والوعيد له، فاجتمع عليه الترغيب والترهيب، فلو لم تكن لدى الشاب الرغبة ابتداءً فهذا الموقف كفيل بإيجادها.
الأمر الثامن: أنه في دارها وتحت سلطانها وقهرها بحيث يخشى إن لم يجبها إلى ما تطلب أن يناله أذاها فاجتمع له الرغبة والرهبة.
الأمر التاسع: أنه لا يخشى أن تنم عليه لأنها الراضية الراغبة، فيزول لديه خوف الفضيحة ومعرفة الناس بما قارف من سوء.
الأمر العاشر: قربه منها وكونه مملوكاً لها مما يؤرث طول الأنس، فهو يلقاها كل يوم ويراها، ويدخل عليها في أحوال لا يدخل عليها فيها غيره، وهذا يدعوه إلى أن يرى منها ما لا يرى منها غيره.
الأمر الحادي عشر: استعانتها بأئمة المكر و الاحتيال وهن النساء، قال تعالى: (وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حبا إنا لنراها في ضلال مبين. فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن وأعدت لهن متكئا وآتت كل واحدة منهن سكينا وقالت اخرج عليهن) فهي هنا استعانت عليه بالنساء وهن أئمة المكر والاحتيال، بل قال بعض أهل العلم : إن كيد المرأة قد فاق كيد الشيطان فقد قال :(إن كيدكن عظيم) واللّه قد قال في آية أخرى: (إن كيد الشيطان كان ضعيفا) . ولكن لاشك أن المرأة الصالحة القانتة التائبة العابدة بعيدة عن هذا كله المهم.
والمقصود أن المرأة استعانت عليه أيضا بالنسوة مرة أخرى، فالموقف قد تكرر مرة أخرى فهي بعدما راودته عن نفسه وامتنع، استعانت عليه بالنسوة لتصيد عصفورين بحجر واحد؛ أن تكيد للنسوة وتنتقم مما قلنه في حقها، وأن تستعين عليه بهن، فتجمع النسوة وتعطيهن الطعام، وتأمره بأن يخرج عليهن، فيبهرهن جماله، ويقطعن أيديهن دون أن يشعرن بذلك، فكيف بيوسف عليه السلام وهو يتعرض للمراودة مرة أخرى، ويسمع هذا الوصف من النسوة، ويسمع هذه المرأة تصرح بالسوء وتعلنه بكل جرأة ووقاحة.
الأمر الثاني عشر: التوعد بالسجن والصغار؛ فإنها قالت (لئن لم يفعل ما آمره به ليسجنن وليكوناً من الصاغرين) وهي تملك ذلك؛ فهي زوجة العزيز، والأمر بيديها، وهي ممن وصفت بالكيد العظيم وقد ثبتت قدرتها على ذلك فدخل يوسف عليه السلام السجن ولبث فيه بضع سنين.
- الأمر الثالث عشر: أن الزوج لم يظهر الغيرة والنخوة التي تليق بالأزواج، فحين شهد الشاهد واتضح الأمر أمامه. قال هذا الزوج الديوث ليوسف عليه السلام (أعرض عن هذا) وقال للمرأة (استغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين) وانتهى الموضوع، فليس هناك ما يدعو لإثارة الموضوع ولا إثارة المشكلات((ينقل كلام سيد قطب رحمه الله))
وهناك أمر رابع عشر: يمكن أن نضيفه إلى ماذكر الحافظ بن القيم رحمه اللّه : أن يوسف نشأ في هذا البيت، بيت أحسن أحواله على الأقل أن يقول إن قضية الفاحشة قضية سهلة. وحتى الرجل الذي يفعل الفاحشة لا يمكن أبدأ أن يقبل أو يرضى أن يكون هذا في أهله. بل مجرد التهمة تدعوه إلى قتل زوجته أو مفارقتها لكن يوسف عليه السلام قد حفظه الله، فلم يتأثر بهذا المجتمع الذي يعيش فيه.
هاهو يوسف عليه السلام يعيش هذا الموقف بظروفه وملابساته، وتجتمع عليه هذه المثيرات، فينجيه الله تبارك وتعالى منه ويثبته على طاعته.
إن الشاب المسلم اليوم ليتطلع إلى هذا النموذج ويتخذه مثلاً له يسير عليه، كيف لا وقد أخبر الله تبارك في مبدأ هذه السورة بشأن هذه القصة بقوله تعالى :(نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذه القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين). وقال: (وكلاً نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين) وقال :(أولئك الذين هدى اللّه فبهداهم أقتده فل لا أسألكم عليه أجراً إن هو إلا ذكرى للعالمين).
وشهد النبي صلى الله عليه وسلم ليوسف عليه السلام بأنه من خير الناس، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قيل يا رسول الله: من أكرم الناس؟ قال :"أتقاهم" فقالوا: ليس عن هذا نسألك، قال:"فيوسف نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله" ، قالوا: ليس عن هذا نسألك، قال:"فعن معادن العرب تسألون؟ خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا". متفق عليه.
هذه نماذج يتطلع إليها الشاب المسلم اليوم، وهو قد لايصل إلى هذه المنزلة ولن يصل إليها، وأنَّى لامرئ أن يصل منزلة أنبياء اللّه، لكنه يجعل هؤلاء مثلا وقدوة يقتدي بهم.
وقفات تفسيرية
ليس الحديث عن تفسير السورة وآياتها مجال حديثنا هنا، لكن هناك بعض الآيات تحتاج إلى وقفة عاجلة وذكر لما قاله المفسرون فيها، ومنها:
الوقفة الأولى(/2)
قال تعالى: " ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه " فدلت هذه الآية على أن كلا من يوسف والمرأة قد هم بصاحبه، أما هم المرأة فقضية واضحة لا إشكال فيها، والإشكال إنما هو في هم يوسف عليه السلام بالمرأة. فما معنى الهم هنا؟
أقوال المفسرين كثيرة نشير إليها بإيجاز ثم نختار بعد ذلك مايظهر أنه يليق بمقام أنبياء الله. وقبل ذلك هناك مقدمة لا بد منها وهي: أننا نعتقد نزاهة أنبياء اللّه ونزاهة يوسف عليه السلام، ويوسف ما أورد اللّه قصته في هذه السورة إلا أنه نموذج ومثل يحتذى. ولا ينبغي أن نستطرد في ذكر الأقوال التي هي منقولة عن بني إسرائيل وفيها اتهام ليوسف عليه السلام، وتصوير لا يليق بنبي من أنبياء اللّه.
ومن سوء الأدب مع نبي الله الكريم بن الكريم بن الكريم : ما يروى عن بعض الناس أنه دعته أعرابية فامتنع فرأى يوسف في المنام فقال من أنت؟ قال: أنا يوسف الذي هممت وأنت لم تهم. فكأن مثل هذا يرى أن منزلته أفضل وأعلى من منزلة يوسف عليه السلام.
المهم أننا عندما نقرأ في كتب التفسير حول هذه القصة أو غيرها يجب أن لا ننساق وراء بعض الإسرائيليات التي تحط من شأن الأنبياء ومنزلتهم عليهم السلام، وعلينا أن نقرأ هذه الأخبار ونتعامل معها بروح التقدير واعتقاد العفة والمنزلة العالية لأنبياء اللّه عليهم صلوات الله وسلامه.
نعود إلى الحديث عن أقوال المفسرين:
القول الأول: أنه هم بهذه الخطيئة ولم يعملها والنبي صلى الله عليه وسلم قال: " من هم بسيئة ولم يعملها كتبت له حسنة كاملة". ومثل ذلك: أن الرجل يحدث نفسه لكنه لا يقدم على الفعل، كما يحدث الصائم نفسه أن يشرب الماء البارد.
فهذه حسنة يثاب عليها كما أخبر صلى الله عليه وسلم . في شأن من هم ولم يفعل.
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إن اللّه عز وجل لم يذكر عن أي نبي من أنبيائه أنه وقع في معصية إلا وذكر أنه تاب منها واستغفر منها. فهو هنا لم يذكر أن يوسف عليه السلام تاب واستغفر وهذا يعني أنه لم يقع منه أي معصية.
القول الثاني: قالوا إنه هم بضربها.
القول الثالث: إنه حدث نفسه أن تكون زوجة له، لما رأى جمالها.
القول الرابع: قال به ابن حيان واختاره الشنقيطي في أضواء البيان وأطال في استظهاره، ومؤداه أن يوسف عليه السلام لم يقع منه الهم أصلا لأن اللّه تعالى قال: (ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه). ولولا حرف امتناع لوجود ، فهو هنا قد امتنع منه الهم نظرا لأنه رأى برهان ربه. وكأن الكلام فيه تقديم وتأخير مثل قول اللّه عز وجل :(إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها". فهي لم تبد به أصلا لأن اللّه ربط على قلبها. وهنا يوسف عليه السلام لم يهم بها أصلا لأنه رأى برهان ربه. وهو قول له وجاهته.
وإن لم يصح هذا فالقول القول الآخر الذي لا ينبغي خلافه : هو أن يوسف عليه السلام حدثته نفسه لكنه لم يفعل شيئا. وأما ما يذكرونه أنه قعد منها مقعد الرجل من امرأته ثم رأى صورة يعقوب، ثم أقدم ثم رأى كفه، ثم أقدم حتى دفعه جبريل بيده، فيوسف عليه السلام أبعد من ذلك.
والواجب على المسلم أن يعتقد تنزيه أنبياء الله تبارك وتعالى، وألا يقبل من الأخبار في حقهم إلا ماجاء في القرآن الكريم، أو صح عن النبي صلى الله عليه وسلم.
الوقفة الثانية
قوله تعالى (لولا أن رأى برهان ربه) فما المقصود ببرهان ربه؟
للمفسرين في ذلك أقوال عدة، منها:
أنه رأى صورة يعقوب عاضا على أنامله.
ومنها: أنه رأى كف يعقوب.
ومنها: أنه رأى آية ( ولا تقربوا الزنا).
ومنها: أنه رآها مكتوبة على جبهتها.
ومنها: أنه رآها مكتوبة على الحائط.
ومنها: أنه خرجت له كف مكتوب عليها (ولا تقربوا الزنا) ثم لم يمتنع ثم خرجت له كف مكتوب عليها (و اتقوا يوما ترجعون فيه إلى اللّه) ولم يمتنع حتى جاء جبريل ومنعه وهذا كما قلت لا يليق بحال يوسف عليه السلام.
ومنهم من قال: إن جبريل دفعه بيده حتى هرب بعد ذلك.
ومنهم من قال: إنه كان هناك صنم في الغرفة وجاءت تغطيه فقال لماذا؟ قالت استحي من إلهي، قال وأنا أحق أن استحي.
هذه الأقوال مروية عن بني إسرائيل وليس عليها دليل صحيح، وليس لنا حاجة أن نعرف ما هذا البرهان ولو كان هناك حاجة لأخبرنا به اللّه سبحانه وتعالى. واللّه عز وجل أبهمه كما أبهم أسماء أصحاب الكهف، أو القرية…وغير ذلك، وإنما ذكرناها لأن هناك من يتساءل عنها ويثيرها.
والأمر المهم في ذلك أن الله تبارك وتعالى أكرم نبيه وحماه من الوقوع في المعصية بأن أراه هذا البرهان.
الوقفة الثالثة
قوله تعالى: (وشهد شاهد من أهلها)وما قلناه في البرهان نقوله هنا، فلا حاجة للاستطراد فيما قاله المفسرون حول هذا الشاهد حتى نتربى ونتعود على هذا المنهج.
فما هذا الشاهد؟ هل هو رضيع؟ أم رجل كبير؟ أم القميص؟ هذا أمر لا يعنينا المهم أن اللّه وفقه ورأى هذا الشاهد على براءته ونزاهته عليه السلام.
الوقفة الرابعة(/3)
قال يوسف عليه السلام(معاذ اللّه إنه ربى أحسن مثواي) ما المقصود بربي هنا؟ والمقصود هو العزيز وهذا اللفظ كان مستعملا عندهم ومثله قوله (ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن) وقوله (اذكرني عند ربك) كل هذه مقصود بها العزيز؛ فهو قد أحسن مثوى يوسف عليه السلام فلا يليق أن يخونه في أهله.
ولكن لماذا اعتذر بهذه الحجة ولم يخوفها باللّه والمانع الأقوى والحقيقي هو الخوف من اللّه؟ قالوا:لأن هذه المرأة قد استحكمت لديها الشهوة، فلو خوفها بالله عز وجل لم ترتدع، فأراد أن يصرفها عنه بأقوى مايعتقد أنه رادع لها، وقد كان يوسف عليه السلام يظن أن زوجها يملك قدرا من الغيرة يحمله على ردعها.
وهذا فيه درس : أن الإنسان يصرف الفتنة والسوء بما يناسب المخاطب، فقد يكون شخص ضعيف الإيمان فحين تحدثه عن الأمراض الجنسية والعقوبات الدنيوية التي يعاقب بها من وقع في الفاحشة كان أردع له، فينبغي أن يردع بما يردعه، ومع ذلك لابد من الاعتناء بتأصيل الخوف من الله والاستجابة له عز وجل.
كيف برأ الله يوسف عليه السلام
هناك أمور عدة أظهرت براءة يوسف عليه السلام، منها:
أولها: تبرئة اللّه سبحانه وتعالى له (كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين) وأعظم بها شهادة وتزكية.
الثاني: الشاهد الذي شهد من أهلها (وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين . وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين).
الثالث: العزيز نفسه فإنه قال (يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين). وفي هذا دليل على أن العزيز يرى أن يوسف عليه السلام بريء من هذه التهمة.
الرابع: المرأة نفسها فقد قالت (ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكوناً من الصاغرين). وفي الآية الأخرى ( قالت امرأة العزيز الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين)
الخامس: النسوة فقد قلن (حاش للّه ما علمنا عليه من سوء).
السادس: يوسف عليه السلام نفسه حين قال (معاذ اللّه إنه ربي).
وأخيرا: قالوا إن الشيطان قد شهد ليوسف عليه السلام بالبراءة فقد قال (فبعزتك لأغوينهم أجمعين . إلا عبادك منهم المخلصين) . واللّه عز وجل قد شهد ليوسف عليه السلام بأنه من عباده المخلصين فقال ( كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين).
فقد حكم اللّه ليوسف أنه من المخلصين إن والشيطان قد أخبر أنه ليس لديه سلطان على هؤلاء المخلصين.
قوارب النجاة في قصة يوسف عليه السلام
ما هي الأمور التي تمسك بها يوسف عليه السلام فكانت سببا بعد اللّه وتوفيقه لحمايته ولنجاحه في هذا الابتلاء؟
أولا: الخوف من اللّه عز وجل، والخوف من اللّه سبحانه وتعالى هو العاصم من الوقوع في أي معصية و أي فاحشة، فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لاظل إلا ظله…وذكر منهم: ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إن أخاف اللّه" فالإنسان قد تدعوه للمعصية مغريات لكنه عندما يعلم أن اللّه سبحانه وتعالى مطلع عليه، وأنه عز وجل يراقبه فلن يتجرأ على هذه المعصية قال تعالى :(إن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير) ، وقال :(وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد. هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ .من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب).
فإذا أردت النجاة فربَّ في نفسك الخوف من اللّه سبحانه وتعالى فهذا أعظم مانع وحاجز ورادع للمرء من الإقدام على المعصية.
ثانيا: توفيق اللّه وإعانته، فقد قال سبحانه وتعالى (ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه) . فإنه لو لم ير برهان ربه لهمَّ بها. وقال اللّه عز وجل في آيه أخرى: (كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين) ، وتأمل كيف أن اللّه لم يقل: لنصرفه عن السوء والفحشاء، بل قال :(لنصرف عنه السوء والفحشاء) ، فالسوء والفحشاء صرفت عنه وهذا أبلغ من أن يصرف عنها هو.
وكلما ازداد المرء توكلا باللّه وأخذا بالأسباب،كان ذلك أولى أن يحفظه اللّه ويعينه، وقد قال صلى الله عليه وسلم لابن عباس رضي الله عنهما :"احفظ الله يحفظك" وحفظ الله تبارك وتعالى لعبده يشمل حفظه في أمور دينه وحفظه في أمور دنياه، والأول أتم وأولى.
الثالث: فراره من أسباب المعصية، فقد خاف من ربه، وحين رأى البرهان لم يقف بل فر وسابقها إلى الباب، وقد قميصه من دبر.
إن مفارقة الإنسان لموطن المعصية وفراره منه مما يعينه على تركها وهو دليل على تفويضه أمره لله عز وجل، ولذا فقد نصح الرجل العالم ذاك الذي أتاه يستفتيه وقد قتل مائة شخص، نصحه بأن يخرج من قريته فهي قرية سوء ومعصية، ويغادرها إلى قرية يعمرها الصالحون الأتقياء.(/4)
ولذا كان النبي لى الله عليه وسلم يقول في دعائه لربه :"اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين ولا أقل من ذلك"، فعلى الشاب المسلم الحريص على مجانبة معصية الله أن يبتعد عن أسباب المعصية وطرقها، وأن يتخلى عن كل ما يذكره بها أو يدعوه إليها، وليحذر من الثقة المفرطة بنفسه في هذا الباب.
الرابع: الدعاء، فقد دعا يوسف عليه السلام ربه فقال :(رب السجن أحب إلى مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين) سأل اللّه أن يصرف عنه كيد النسوة متبرئاً من حوله وقوته، ومسلمًّا أمره لخالقه ومولاه عز وجل.
وإذا كان يوسف عليه السلام لا يستغني عن دعاء اللّه عز وجل وسؤاله فغيره من باب أولى؛ فالدعاء هو الوسيلة التي يتصل بها المرء باللّه عز وجل، وقد قال عز وجل :(وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجبِ دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون) ، وفي آية أخرى :(وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين) ، وقال صلى الله عليه وسلم في حديث جامع: " ما على وجه الأرض مسلم يدعو الله بدعوة إلا آتاه اللّه إياها، أو صرف عنه من السوء مثلها"، فما بالك إذا كان هذا الداعي مقبلا على اللّه قد نفى عن نفسه الحول والطول؟ وما بالك إذا كان مضطرًّا؟ وقد وعد الله المضطر بإجابة دعائه (أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء) ، وهل هناك أمر أكثر ضرورة للإنسان من حفظ دينه؟
إذاً ينبغي لنا أن ندعو اللّه عز وجل في كل شيء نريده في دينينا ودنيانا ومهما بلغ العبد من التقوى والطاعة والإقبال على اللّه عز وجل فإنه لا يستغني عن استهداء اللّه وسؤال التثبيت، أليس اللّه فد افترض على كافة عباده الأتقياء قبل الفجار أن يتوجهوا إليه كل يوم بقولهم (اهدنا الصراط المستقيم. صراط الذين أنعمت عليهم)؟
أليس اللّه يقول في الحديث القدسي "يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم"؟
وهاهو نبينا صلى الله عليه وسلم يدعو اللّه عز وجل فيقول :"اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرائيل فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدى من تشاء إلى صراط مستقيم ".
ويسأل النبي صلى الله عليه وسلم ربه فيقول :" يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ".
وقبله إبراهيم عليه السلام يدعو اللّه سبحانه وتعالى بعد أن حطم الأصنام وواجه من قومه ما واجه يقول (واجنبني وبني أن نعبد الأصنام) :إذا لا ينبغي أن نترك الدعاء أو نقصر فيه، ومهما شعر المرء بثباته وتقاه وطاعته فإنه لا يستغني أبدا عن دعاء اللّه تعالى أن يثبته وأن يعينه وأن يهديه إلى صراطه المستقيم.
الخامس: صلاحه وطاعته وتقواه وكان ذلك من أسباب توفيِق اللّه له (كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين)". فكلما كان المرء مطيعا للّه حافظا لحدوده كان ذلك أدعى إلى أن يحفظه اللّه وأن يثبته على طاعته.
ومن هنا فازدياد المرء على الطاعة والعبادة وحرص الشاب على ذلك. هذا مما يؤهله لتوفيق اللّه وإعانته له بعد ذلك.
السادس: اختياره الأذى على فعل الفاحشة فهو يقول (رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه) يختار يوسف عليه السلام السجن ومرارته ولا أن يقع في هذه المعصية، فحينما وصل الأمر به إلى هذا الحد أعانه اللّه ووفقه، أما الأذى الذي ناله فهو أذى الدنيا وما هذه الدنيا إلا دار مصائب " فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى).
وقد يستجيب المرء لداعي الفاحشة فيواقعها فتكون النتيجة بدلا من مقاساته الصبر على هذه الشهوة أن يقاسي بعد ذلك مرضا جنسيا يناله فيه من شقاء الدنيا والآخرة أضعاف أضعاف ما حصله من تلك الشهوة العاجلة.
دروس أخيرة من القصة
الأمر الأول : ضرورة البعد عن أسباب المعصية: فيوسف عليه السلام بعد أن نجح واجتاز هذا الابتلاء استبق الباب وأصبح يريد أن يخرج من الباب فلا بد أن يبتعد الشاب عن أسباب المعصية.
- ضرورة التضحية والتحمل فمن الضروري أن يتحمل المرء في سبيل اللّه سواء ما يلاقيه من الدعوة إلى اللّه أو ما يلاقيه في طاعة اللّه أو ما يلاقيه في البعد عن المعصية.
- حسن العاقبة لمن اتقى الله وأطاعه، فهاهي المنزلة التي وصل إليها يوسف عليه السلام (وكذلك مكنا ليوسف في الأرض). أما أجر الآخرة فهو خير وأبقى.
- مراقبة اللّه سبحانه وخشيته، وأثر ذلك في حماية العبد من المعصية.
- دعاء اللّه سبحانه وتعالى والاستعانة به واللجوء إليه.
- خطورة كثرة الخلطة؛ فإنها قد تكون مدعاة إلى الجرأة على الفساد، فالذي دعا امرأة العزيز إلى أن تصل إلى هذا الأمر وتدعو يوسف وترواده عن نفسه هو كثرة مخالطتها له، ومن هنا يجب أن يحذر الشباب من كثرة مخالطة من قد تكون مخالطته سببا ومدعاة إلى أن يقع في مثل هذه المعصية أو غيرها.(/5)
- عدم استغناء العبد عن اللّه سبحانه تعالى؛ فمهما بلغ من الإيمان والتقوى فإنه لا يمكن أبدا أن يستغني عن توفيق اللّه له وإعانته، فاللّه عز وجل يقول عن نبيِه صلى اللّه عليه وسلم :(ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا). فإذا كان الرسول لى الله عليه وسلم لا يستغني عن اللّه سبحانه وتعالى ويحتاج إلى إعانته وتثبيته، فغيره من باب أولى، ومن هنا فمن أكبر المخاطر على العبد المطيع للّه هو غروره وإعجابه بنفسه وتقواه وطاعته فإن إعجابه بنفسه وثقته بها فهذا بحد ذاته ذنب يؤاخذ عليه وقد يؤاخذ عليه بذنب آخر.
والأمر الثاني: أن العجب مدعاة لأن يكله اللّه إلى نفسه فكأن هذا الإنسان الذي أعجب بنفسه يرى أنه مستغن عن اللّه ولا يحتاج إلى أن يدعو اللّه وأن الناس الذين يحتاجون إلى أن يسألوا اللّه الهداية والثبات هم الفساق، أما هو فقد من اللّه عليه بالهداية.
فإذا كان يوسف عليه السلام يحتاج إلى أن يريه اللّه برهان ربه وأن يصرف عنه السوء والفحشاء فغيره مهما بلغ من الإيِمان والطاعة لا يمكن أن يصل منزلة يوسف عليه السلام.
الثالث: أنه عندما يعجب بنفسه فلا يأخذ الأسباب؛ فالذي يجعل الإنسان يترك أسباب فعل المعصية ويجتنب كل دواعيها ومثيراثها هو أنه يخاف ولا يثق بنفسه ولا يطمئن إليها.
الرابع: أن هذا هو سبب أول معصية وقعت وهي معصية الشيطان؛ فإنه لما أعجب بنفسه أضله اللّه سبحانه إلى يوم الدين.
وقد قال صلى اللّه عليه وسلم " لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله قالوا: ولا أنت يارسول اللّه قال ولا أنا".(/6)
محاضرة في مخيم
المحتويات
مقدمة
أولاً : الشاب غير الملتزم مسلم كسائر المسلمين
ثانياً : كيف تتعامل مع المعصية ؟
ثالثاً : حين لاتلتزم
العلاقة بين الشباب الملتزم و الشاب غير الملتزم
أسباب هذه الفجوة
مقدمة
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد :
فهي فرصة طيبة أن نلتقي بالإخوة الكرام في هذا اللقاء المبارك، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يثبت القائمين على هذا المخيم وأن يجعل ما يقومون به في ميزان حسناتهم، ونحن في الواقع بحاجة إلى مثل هذا التوسع في أنشطتنا الإسلامية وفي دعوتنا وفي برامجنا، وهي فكرة رائدة سرتني كثيراً، وأتمنى أن نرى في المستقبل المزيد من مثل هذه الأفكار ومثل هذه الجهود لأن المسلم يرى أن دينه وأن دعوته تتطلب منه جهداً أكثر في التفكير والابتكار والعمل والجهد، فلئن كان أصحاب التجارة وأصحاب الأموال يبتكرون الوسائل والأساليب في الدعاية والإعلان وترويج منتجاتهم، ولئن كان أصحاب الفساد والفجور يبذلون المستحيل ويجلبون الأفكار، ويطورون ويبتكرون، كل ذلك لإبداع واكتشاف ألوان من الفساد،والحصول على ما يريدون والتحايل على الناس، لئن كان أولئك كذلك فأهل الحق أولى،ألا يكونوا مجرد أسرى تجارب ووسائل ورثوها، أو أفكار اعتادوا عليها فصاروا لا ينطلقون إلا من خلالها، أسأل الله سبحانه وتعالى أن يعظم الأجر والمثوبة لإخواننا وأن يجعل ما قدموا في ميزان حسناتهم وأن يجعلنا وإياكم جميعاً ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه .(/1)
معشر الشباب ..لقد أدرك أعداء الإسلام أنه لا مجال للانتصار على هذه الأمة والقضاء عليها إلا بسلخها عن دين الله سبحانه وتعالى،وأدرك أولئك جميعاً أن الشباب هم الأمة وليست الأمة إلا شباب- وليسوا عدة الأمة وأملها فحسب- بل على أكتافهم وسواعدهم تقوم المجتمعات، وهم في المستقبل القادة، وهم الرجال الذين يوجهون المجتمعات والأمم على أساس ما نشأوا عليه في شبابهم وفتوتهم، وبناءًا على ما أدركه أولئك الأعداء من قيمة هؤلاء الشباب وخطر شأنهم في الأمة، سعوا لإضلالهم وفتنتهم وصدهم عن دين الله سبحانه وتعالى،فقامت تلك الجهود ومن ورائها تلك الفئات من الطابور الخامس المنتشر في مجتمعات المسلمين في عرض الأمة وطولها، يمهد للأعداء ويقوم بتنفيذ خططهم نيابة عنهم، و لا يزيد على أن يأخذ وكالة فقط حتى تتغير الواجهة و اللافتة، والمقصود من وراء ذلك كله واحد هو سلخ شباب هذه الأمة وصدهم عن دين الله سبحانه وتعالى، فتنوعت أساليب الإغراء والإثارة والصد،بدءاً بتشكيك أولئك بدين الله سبحانه وتعالى وإخراج أجيال ممن يتشكك في الدين ويرتضي الإلحاد والردة عن دين الله سبحانه وتعالى، وصار يبحث له عن مناهج بديلة عن منهج الدين ومنهج الإسلام،ومروراً بوسائل سعى فيها أولئك الأعداء إلى إثارة غرائز الشباب، وإلى إثارة اهتمامات الشباب وصرف الهمة الجادة والعالية،فخرج لنا جيل همه فرجه، وشهوته، صار يسعى إلى تحصيل هذه الشهوة بكل وسيلة وكل طريق، وإن لم تتح له في بلده وفي موطنه فهو على استعداد أن يوفر جزءًا كبيراً من ماله حتى يسافر إلى بلاد الكفر ليقضي شهوته ويمتع نفسه باللذة الحرام، وخرج لنا جيل يتعلق بالرياضة ويفتن بها حتى صارت هي كل همه وأساس تفكيره، وخرج لنا جيل يعتني بما يسمى بالفن،وصار أولئك مرايا عاكسة لآخر صرعات الفن في عالم الغرب إنه – معشر الأخوة الكرام - نتاج جهد متواصل من أولئك الأعداء قابله تخاذل من هذه الأمة وانشغال من الصالحين الذين كان أولى بهم أن يقفوا على بوابات الحراسة في مجتمعات المسلمين، ليحموا هذه الأمة من هذا الغزو الماكر، وبقيت مجتمعات المسلمين وبالأخص الشباب دهراً في سبات عميق، وما كان لهذا النوم أن يطول، وما كان لهذه الأمة أن تطيل في الغيبوبة، وهي الأمة الشاهدة، وهي الأمة القائمة بدين الله عز وجل للبشرية جميعاً إلى قيام الساعة، فأذن الله سبحانه وتعالى بانبلاج فجر الصحوة، وخرجت تلك الصحوة مع هذا الجيل الذي كان ينتظره الأعداء متشبعا من كل ألوان الفساد والانحراف،خرجت الصحوة في هذا الجيل ليعود إلى دين الله عز وجل، وأصبحنا مرة أخرى نرى الأفواج تتقاطر إلى طريق الاستقامة والصلاح والخير، صارت الأفواج تتسابق إلى المساجد وهي الأفواج نفسها التي كانت تسابق إلى الملاعب وإلى أماكن اللهو والرقص، بل صار أصحاب السفر والفساد والمجون والمخدرات والفن هم الآخرون يعودون إلى هذا الطريق وينضوون تحت لوائه، وصار العدد يتضاعف يوماً بعد يوم،وعاماً بعد عام، وهي مسيرة بإذن الله سائرة فحين أشعل الفتيل وحين أعلنت المسيرة، فهذا إيذان باستمرار المسيرة إلى أن يتحقق وعد الله عز وجل: ( هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ) ( ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون ) إنها مسيرة – معشر الأخوة – لا بد أن تصل بإذن الله عز وجل، ولا بد أن تؤتي ثمارها بإذن الله سبحانه وتعالى رغم الكيد، رغم التآمر رغم ألوان المكر والتحايل الذي تواجَه به هذه الأمة، فإن استيقاظ الأمة إعلان لبدء المسيرة، إعلان لهذا التيار الجارف أن بالإمكان إيقافه ولم تعد القضية معلقة بشخص أو بفرد أو بلد أو مجتمع حتى يمكن إيقافها، فهو تيار لا يمكن أن يقف أحد في طريقه .
معشر الإخوة الكرام .. ليس هذا موضوع حديثنا، هذه مقدمة بين يدي هذا الموضوع، أقول: حين عاد الجيل الناشئ بإذن الله عز وجل والذي نؤمل عليه - بعد توفيق الله عز وجل -آمالاً عريضة أصبح عندنا فئتان من الشباب: فئة من الشباب الذين عادوا إلى الله عز وجل ..الذين عادوا إلى الأصل، عادوا إلى الفطرة فاستقاموا على دين الله سبحانه وتعالى، وفئة مقصرة،وهي لا تزال الأكثر والأغلب.
صار لدينا فئة من الشباب اصطلح على أن يسمى (الشاب الملتزم)، وفئة أخرى من الشباب (غير الملتزم)، نحن لسنا في موضوع تحديد المصطلحات ومدى سلامة هذا المصطلح أو ذاك وأيهما أولى ولكن هذه القسمة نشأت عنها مفاهيم مغلوطة هي ما سنحاول إلقاء الضوء عليه في هذه الدقائق، نشأ عن هذه القسمة مفاهيم ومشاعر أصبحت جزءًا أصيلاً من تفكيرنا،وهكذا شأن الأخطاء الخطأ، يبدأ الخطأ ثم ينتشر ويتوسع،حتى يصبح بعد ذلك جزءًا من التفكير أصلاً، فيصبح الإنسان يفكر في هذه الزاوية ولا يستطيع أن يتخلص بحال من هذه النظرة التي تسيطر على تفكيره.(/2)
سأتحدث بصراحة مع الجميع وفي محضر الجميع عن أخطاء يقع فيها الشباب الملتزم تجاه أخيه، وعن أخطاء يقع فيها الشاب غير الملتزم، ونحن ينبغي أن نكون جميعاً صرحاء ولو أدى ذلك إلى أن تكشف الأوراق بمحضر الجميع،وأن نتحدث عن الأخطاء بمحضر الجميع مادام المقصود هو النصيحة، هناك الكثير يتحدثون عن الأخطاء، وهناك الكثير ينتقدون، ومن ثم فنحن حين نريد أن نقطع الطريق على أولئك الذين يتخذون من النقد سلماً ووسيلة للإثارة، وسيلة للفتنة، وسيلة للتعويض، حين نريد أن نقطع الطريق على أولئك فلن نقطعه إلا حين نبني منهجاً سليماً للنقد، ومنهجاً واضحاً صريحاً يتحدث عن الأخطاء تحت ضوء الشمس وفي وضح النهار، وحينئذ نقطع الطريق على من يريد أن يتكئ على هذه الأخطاء وأن يستثمر هذه الزلات ليجعل منها تكأة يهدم من خلالها.
أولاً : الشاب غير الملتزم مسلم كسائر المسلمين
إن الشاب غير الملتزم مسلم يجب عليه ما يجب على المسلمين جميعاً، وهو مخاطب بكل التكاليف الشرعية وبكل النصوص الشرعية، إنه يتخيل أحياناً أنه مادام غير ملتزم فينبغي ألا يوجه له هذا الخطاب، إنه يعتقد أنه يجب أن يخاطب بلغة واحدة فقط لا غير هي:تب إلى الله عز وجل وتخلّ عن طريق الإعراض والغفلة،وكن سائراً في ركب الصالحين والملتزمين، وهذا لا شك خطاب وكلمة لا بد أن تقال وهي أساس ومبدأ حديثنا وهي التي حولها ندندن، ولكن .. مع ذلك يبقى لنا حديث آخر، فمثلاً ..: هذا الشاب حينما تطالبه بطاعة من الطاعات، وهب أنها من النوافل، فتقترح عليه أن يصوم يوم الإثنين أو يصوم يوم الخميس أو يقوم الليل أو يصلي النافلة يفاجئك فيقول : لست ملتزماً، ويتخيل أنه مادام كذلك فلا ينبغي له أن يخادع نفسه، ويرى أن صيامه أو تلاوته لكتاب الله عز وجل أو قيام الليل أو عمل أي عمل صالح-أيًّا كان هذا العمل- إنما هو من المخادعة و النفاق، بل حينما يرى زميلاً له غير متدين يعمل طاعة من مثل هذه الطاعات فإنه يتهمه بالنفاق والمخادعة ، إنه منطق عجيب فلماذا كانت هذه المعاصي التي وقعت فيها مانعة لك من تلك الطاعات ؟إن الطاعة ثقيلة على العصاة لكن ذلك لا يعني تركها، أو اعتقاد أن فعلها من باب النفاق،إن الشاب غير المتدين مسلم ومخاطب – شأنه شأن الآخرين – يصدق عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم : " من قرأ حرفاً من كتاب الله فله حسنة والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول ألف لام ميم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف "، ويصدق عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم : " ينزل ربنا إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول : هل من سائل فأعطيه سؤاله، هل من مستغفر فأغفر له، هل من تائب فأتوب عليه ".
عهدتك لا تنام إلا قبيل الفجر فها أنت مستيقظٌ في الثلث الأخير من الليل، فما رأيك لو طرحت عليك هذا الاقتراح : اختصر من وقت السهرة التي تقضيها مع زملائك ومع أقرانك وربما كانت على معصية الله عز وجل ،نصف ساعة واقضها في صلاة ركعتين لله عز وجل أو أربع ركعات وتتضرع فيها إلى الله -عز وجل- في سجودك وتدعوه -سبحانه وتعالى- أن يهديك ويعينك ويوفقك، لأني أجزم تماماً أنك تتمنى أن يهديك الله سبحانه وتعالى.
إنك -أخي الكريم- أحوج إلى الطاعة من غيرك لأنك تملك رصيداً أو ركاماً هائلاً من المعاصي والذنوب،وأنت تراه كالجبل يوشك أن يهوي عليك، فأنت أحوج الناس إلى التخفف،وإلى ما يكفر الذنوب.
ثانياً : كيف تتعامل مع المعصية ؟
إن الكثير من الشباب يضع أمامه خيارين لا ثالث لهما، الخيار الأول: أن يتوب ويترك المعاصي ويكون من الناس الصالحين الأخيار، وهذا لا شك هو المطلوب، الخيار الثاني :حين يفشل في هذا فإنه يبقى على المعصية دون أي وازع ودون أي رادع، ويرى أنه لم يبق أمامه خيار ثالث . إن هناك خياراً ثالثاً وقبل أن أبينه أقول:أن هذا الخيار لا يعني أن نتنازل عن الخيار الأول الذي هو الأصل، الذي هو ترك المعصية وتوديعها والتوبة الصادقة النصوح إلى الله سبحانه وتعالى، لكن هب أنك فشلت ولم تستطع أن تتوب –مع أنك غير صادق في هذه الدعوى- فكل مسلم وكل إنسان قادر أن يسلك هذا الطريق، وما كلف الله عز وجل الإنسان إلا ما يطيق، هب أنك لم تستطيع ذلك،فلماذا تجاهر بالمعصية وأنت تعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول :" كل أمتي معفى إلا المجاهرون " ؟ إنك تفعل المعصية بالليل بينك وبين نفسك لا يعلم عنها أحد، وربما لا يعلم عنها إلا شريكك في المعصية فما بالك إذا أصبحت تلقى زميلك في المدرسة فتخبره ماذا عملت وماذا صنعت؟فإذا كنت تدعي أنك لا تستطيع التخلص منها..ألا تستطيع أن تبقيها سرًّا بينك وبين الله -سبحانه وتعالى- ؟ فإن ذلك أدعى إلى توبتك وإقبالك على الله سبحانه وتعالى،إن الذي يجاهر بالمعصية حين يهم بالتوبة بعد ذلك تثقل عليه التوبة،ويصعب عليه أن يسلك طريقها لأنه أصبح مشهوراً بين الناس وبين زملائه وأقرانه بالسوء والفساد، وهو الذي جنى على نفسه.(/3)
ومما يتعلق بالمعصية: الدعوة إليها فلماذا لا تقتصر على نفسك ؟ لماذا تدعو غيرك إلى المعصية ؟ ولماذا تسعى إلى تسهيل المهمة على غيرك ؟ فأنت كثيرا ما تتحدث مع زميلك فتخبره ماذا فعلت بطريقة تمارس فيها دعاية بالمجان لهذه المعصية، بل ربما تدله على الوسيلة التي يمكن أن تعينه على فعل المعصية،وربما وظفت نفسك مستشاراً دون مقابل لزملائك وأقرانك تدلهم على أسباب ووسائل الاحتيال على تحصيل المعصية .
أليست هذه دعوة للمعصية والفساد ؟ ألا تخشى أن ينطبق عليك قول النبي صلى الله عليه وسلم: " ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الوزر مثل أوزار من تبعه لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئاً " وأن ينطبق عليك قول الله عز وجل: ( وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم) وقال ( ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون ) ؟ ألا تخشى أن تأتي يوم القيامة وأنت تحمل وزرك على ظهرك ووزر من أضللته ؟
قد تقول مرة أخرى، إن لك مبرراً وعذراً في فعل المعصية، ولكن ما العذر والمبرر أن تدعو غيرك للمعصية وتسهلها عليه ؟
ومما يتعلق بالمعصية أيضاً الاستهانة بها: فما بالك تستخف بالمعصية وتستهين بها ؟ لقد حدثنا أحد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وضرب لنا مثلاً بليغاً، أرجو أن ترعي سمعك حتى لا ينطبق عليك المثل بل لعلك أن تصف نفسك مع الفئة الأخرى : " المؤمن يرى ذنبه كالجبل يوشك أن يقع عليه، والمنافق يرى ذنبه كالذباب طار على أنفه فقال به هكذا " ما بالك حين تواجه بالنصيحة والإنكار تستخف وتستهون شأن المعصية؟
إن فعل المعصية شيء والاستخفاف بها والاستهانة معصية أخرى، بل إن الاستخفاف بالصغيرة يحولها إلى كبيرة، فما بالك بالاستخفاف بالكبيرة والاستهانة بها ؟ مرة أخرى أقول لك : حين تفشل في ترك المعصية وتعجز عن تركها فهذا لا يعني أن تفتح لنفسك الباب على مصراعيه، فهناك خيار ثالث وخطوة ثالثة أرجو وآمل أن تكون مقدمة وبداية لتوبتك إلى الله عز وجل، التوبة الصادقة النصوح، مع أننا نطالب بالمطلب الأساسي والمهم ولا زلنا نرفع صوتنا به، بالتوبة الصادقة النصوح التي تودع فيها المعصية إلى غير رجعة .
ثالثاً : حين لاتلتزم
إن إعراضك وإدراجك لنفسك ضمن قائمة غير الملتزمين ليس مبرراً لك أن تتخاذل، إنك ترى الجميع الآن يأتي إلى المسجد فترى فيه محاضرة، هذه المحاضرة سُلِكَت خطوات في إعدادها و الإعلان عنها، في دعوة الحضور، في ترتيب اللقاء إلى غير ذلك، ترى مثل هذا المخيم الذي تستمع فيه لمثل هذه الكلمة، وترى الجهد الذي بذله الشباب الذين قاموا عليه، ترى من يوزع الشريط، ترى من يوزع الكتاب، وربما تكون أنت تلقيت منه الشريط و الكتاب، ترى زميلك في المدرسة وهو يمد يده ليناولك كتاباً أو شريطاً، وتراه يحرك لسانه ليقول لك كلمة صادقة ناصحة، ترى الجهود تبذل لخدمة دين الله عز وجل هنا وهناك فما بالك لا تبحث لك عن موقع في هذا الميدان؟ نعم ..إنني أقدر موقعك، إنني لا أنتظر منك وأنت على هذه الحال أن تتحول إلى واعظ أو تتحول إلى خطيب أو محاضر أو رجل يتحدث باسم الإسلام،فيؤلف ويصنف ويكتب وينافح عن دين الله عز وجل، لا أريد ذلك بل لو أردت ذلك لقلت لك رويدك وليس هذا مكانك، لكن تستطيع أخي الكريم أن تقدم خدمة جليلة لدين الله عز وجل،تستطيع أن تساهم في خدمة دين الله سبحانه وتعالى.
نقرأ في تاريخ الإسلام فنرى نماذج كثيرة من أولئك الذين ساهموا في خدمة دين الله عز وجل وحملة العلم الشرعي، ولكننا مع ذلك نرى نماذج من أولئك الذين لم يكونوا على حال أهل الصلاح والاستقامة، كانت لهم مساهمات في دين الله عز وجل والوقت يطول فلعلي أذكر مثلاً واحداً، كان الإمام أحمد رحمه الله وهو إمام أهل السنة الذي قال كلمة الحق في وجه المبتدعة ونصر دين الله عز وجل في وقت كادت أن تطغى فيه البدعة وتعم، الإمام أحمد رحمه الله كان كثيراً ما يدعو لرجل يقال له أبو إسحاق، فكان يقول : اللهم اغفر لأبي إسحاق إذا قام و إذا جلس، فسأله أحد أبنائه : من يكون ؟ وكان الابن ينتظر أن يكون زاهداً، رأى منه الإمام رحمه الله قدوة في الزهد أو قدوة في العبادة، كان ينتظر أن يكون شيخاً للإمام أحمد تعلم منه علمه، فأخبره الإمام أحمد رحمه الله أن هذا الرجل كان لصًّا، كان قاطع طريق، حينما جيء بالإمام أحمد رحمه الله ليجلد في فتنة خلق القرآن، جذبه بردائه فقال : أتعرفني ؟ قال : لا أعرفك . قال : أنا أبو إسحاق العيار اللص الطرار مكتوب في ديوان أمير المؤمنين أني جلدت كذا وكذا في السرقة ومع ذلك ما صدني ذلك، وأنت تجلد على كلمة الحق، فأنت أولى مني أن تثبت .(/4)
أرأيت هذا اللص الذي في السجن ولا يزال مصرًّا على جريمته ومع ذلك يرى أنه يستطيع أن ينصر الإسلام، يستطيع أن يقدم خدمة، وما هذا الجهد ؟!! إنها ليست تأليفاً لكتاب، ولا إقامة درس ولا إلقاء خطبة، ولم يكن هذا الرجل مؤهلاً لذلك، إن هذه الخدمة كانت تتمثل في أن يقف مع الإمام أحمد رحمه الله ويقول له تلك الكلمة التي زادته تثبيتاً ولم يجد هذا اللص في تاريخه شيئاً يمكن أن يستثمره إلا تاريخه المليء بالإجرام والسرقة فوظف ذلك التاريخ ليكون شاهداً وليكون معيناً للإمام أحمد رحمه الله، بل تراه يستعين بتاريخه السابق السيئ فيقول للإمام أحمد : أنا وأنا صاحب المعصية وصاحب الهوى أتحمل في سبيل السرقة، فأنت أولى مني أن تتحمل وأنت تقول كلمة حق، إننا نطلب منك أن تساهم، أن تشعر أن الدين يعني الجميع وأن الدين دين الناس جميعاً وأنك مادمت مسلماً فإنه ينبغي لك أن تسير مع القافلة بل لعل هذا يكون بمشيئة الله عز وجل بداية خير وطريق توبة.
فماذا عليك لو أخرجت مبلغاً من المال في سبيل الله وأنت تخرج مبالغ كثيرة مماثلة لتقدم لزملائك بعض المشروبات والمأكولات ؟ والذي تقدم أضعافاً منه ليكون وسيلة لتشتري به ما يعينك على المعصية، ماذا عليك مثلاً لو أخرجت جزءًا من هذا المبلغ فأعطيته أحد الصالحين والأخيار أو أحد الدعاة إلى الله عز وجل وقلت له : اصرف هذا المبلغ في الدعوة إلى الله عز وجل في سبيل الله سبحانه وتعالى، ماذا عليك حين تستمع إلى شريط أن تهديه إلى أحد زملائك، أن تشتري كتاباً،أن تشتري شريطاً ولو أردت مجالاً للخير ونصرة دين الله عز وجل لاستطعت أن تجد الآلاف من الوسائل والسبل فقد عهدناك مفكراً، عهدناك في البحث عن شهواتك ورغباتك لا تعتمد على التقليد، بل أنت مجتهد فيها، أنت تبتكر ولا ترضى بحال أن تستعير فكرة غيرك، فأنت كل يوم تخرج لنا بفكرة جديدة وطريقة جديدة، فوظف هذا التفكير، ووظف العقل أيضاً لتقدم شيئاً يسيرًا في نصرة دين الله سبحانه وتعالى، علّ هذا أن يكون خطوة لك تنقلك إلى طريق الاستقامة والخير بإذن الله عز وجل.
العلاقة بين الشباب الملتزم و الشاب غير الملتزم
إن هناك أخطاء ترتكب من الجميع - ولا ننزه أنفسنا - وحين نقول إن هناك أخطاء فإننا نعرف وبجزم أن هذه الأخطاء أو معظم هذه الأخطاء قد لا تكون بالضرورة صادرة عن عمد وسبق إصرار، بل ربما عن اجتهاد وحسن نية، وهناك أخطاء ألفانها فصارت جزءًا من تفكيرنا.
إن أول خطأ هو هذه الهوة السحيقة، وهذه الفجوة بين هذين الجيلين، بين الشباب الملتزم وبين غير الملتزم فكل منهم يعتقد أنه في ميدان والطرف الآخر في ميدان آخر يقابله،بل نرى انهما قد أصبحا في ميدان تنازع وتنافس،وربما في ميدان صراع، ولا شك معشر الأخوة الكرام أن سلوك المرء واستقامته ودينه يؤثر على علاقته ونظرته للناس، والمشابهة في الظاهر تورث المحبة واللقاء في الباطن، والتنافر في الظاهر يورث التنافر في الباطن، ولكن هذا شيء والواقع الذي نعاني منه شيء آخر.
والسؤال الذي ينبغي أن يطرح:من المستفيد من هذه الفجوة وهذه القطيعة ؟ إنهم الأعداء لأنهم يحولون دون وصول الخير،والكلمة الناصحة الصادقة إلى الطرف الآخر،ودون وصول النقد والتقويم إلى الآخر.
ويمكن أن نعيد طرح السؤال نفسه بطريقة أخرى : من الخاسر ؟ الخاسر نحن جميعاً، ولست أقول غير الملتزم، بل حتى الملتزم، إن الشاب غير الملتزم يخسر، يخسر خسارة كبرى حين يساهم – وهو يساهم فعلاً – في إيجاد هذه الهوة وهذه الفجوة، إنه يخسر حين يقيم هذه الهوة وهذه الفجوة، فيقيم أمامه سُحباً تمنعه من الرؤية وتمنعه من وضوح الرؤية المستقيمة،وتجعل حاجزاً بينه وبين طريق الخير وطريق الصلاح والاستقامة، فيفرض حواجز ويفترض عوائق تحول بينه وبين طريق الخير وبين الكلمة الصادقة، فهو الخاسر الأكبر.
إن مثل هذا الشاب كما أنه يحتاج إلى دعوتك ويحتاج إلى جهدك وإلى نصيحتك،فأنت أيضاً تحتاج إلى أن تبني معه هذه العلاقة وتفتح معه هذه الصفحة لتقدم بين يديك عملاً صالحاً تدخره عند الله عز وجل : ( ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين )، " من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً "، وقول النبي صلى الله عليه وسلم : " ولأن يهدي الله بك رجلاً خيراً لك من حمر النعم ".
إن مثل هذه القطيعة المفتعلة بل القطيعة التي نمارسها نحن ونسعى إليها،تحول بيننا وبين هذا الميدان الواسع الفسيح من الدعوة، بل تكون عقبة لنا عن أداء هذا العمل الصالح الذي هو من أفضل الأعمال التي نتقرب بها إلى الله عز وجل، ويخسر الشاب غير الملتزم حين يحول بين نفسه وبين طريق الهداية وطريق الكلمة الناصحة.(/5)
ويخسر أيضا خسارة آخرى ويقع في خطأ شنيع خطأ قد يكون محبطاً لعمله الصالح،وهو السخرية من الشاب الملتزم والاستهزاء به، وهذا أمر قد يقود الإنسان عافانا الله وإياكم إلى أن ينطبق عليه قول الله عز وجل : ( ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبا لله آياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين )، وهذه الآية نزلت كما تعلمون جميعاً في قوم كانوا يقولون في قرّاء النبي صلى الله عليه وسلم: هؤلاء قراؤنا أرغبنا بطوناً وأكذبنا ألسنة وأجبننا عند اللقاء، إنه يخشى أن ينطبق عليه قول الله عز وجل : ( إنه كان فريق من عبادي يقولون، ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين، فاتخذتموه سخرياً حتى أنسوكم ذكري وكنتم منهم تضحكون، إني جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون )، يخشى أن ينطبق عليه قول الله عز وجل : ( إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون، وإذا مروا بهم يتغامزون، وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين، وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون،وماأُرسلوا عليهم حافظين، فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون على الآرائك ينظرون ).
وفي المقابل فالشاب الملتزم هو عرضة لآفة تنشأ عن هذه القطيعة، آفة تنشأ عن هذه الهوة المفتعلة، هي الاستكبار والاستعلاء والشعور بالعلو واحتقار ذاك الذي يقع في المعصية، يُخشى أن يكون كأحد صاحبي بني إسرائيل الذي كان مطيعاً لله عز وجل مقبلاً على الله سبحانه وتعالى، وكان صاحبه مفرطاً كان صاحبه مهملاً لنفسه فكان يدعوه، ويدعوه إلى ترك المعصية وينصحه فيدعوه إلى الصلاح، ونتيجة لأن هذه الدعوة الملحة قد طالت دون نتيجة قال له صاحبه : مالك ولي، دعني وربي يفعل بي ما يشاء فقال : والله لا يغفر الله لك، فقال الله عز وجل : من ذا الذي يتألى علي، قد غفرت له وأحبطت عملك بل أول معصية نشأت إنما نشأت من الكبر والعجب ممن قال:(خلقتني من نار وخلقته من طين)، وهي ثالثاً أيضاً تنشئ عند الشاب غير الملتزم سلوكاً آخر مرفوضاً، سلوك حرصه على فتنة هذا الشاب وصده و إغوائه بأي وسيلة، أحياناً عن طريق السخرية، أحياناً بالناقشة، أحياناً بإثارة الفتنة أمامه، أيًّا كان .. وكم نرى من الشباب من يمارس الفتنة والصد، وهذه جريمة أخرى وشنيعة أخرى، إنك حين تقع في المعصية وحين تستحقرها فأنت على خطر وأنت قد قصّرت –نسأل الله عز وجل أن يعيننا وإياك على التوبة النصوح لله سبحانه وتعالى – ولكن حين تساهم في دعوة غيرك للمعصية فحين تساهم في فتنة وصد ذاك الشاب العفيف، الشاب الخير الشاب المستقيم حين تساهم في فتنته وصده عن دين الله عز وجل فأنت ترتكب جريمة أخرى، وأنت تقف مع الأعداء في خندق واحد وصف واحد، سواء شعرت بذلك أم لم تشعر، وأيضاً يقابل ذلك آفة أخرى عند الشاب الملتزم هي نتيجة من نتاج هذه الهوة، هي نتيجة من نتاج هذه القطيعة، وهي أنه يُعرِض عن دعوة ذاك الشاب وعن الإنكار عليه، وعن أمره ونهيه، فقد يكون عُرضة بأن يحق عليه وعيد من ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعيد من رأى أمراً لله عليه فيه مقال ثم لم يقل، يكون عرضة لأن يوقفه هذا أمام الله عز وجل فيحتج عليه بأنه رآه على المعصية فلم ينكره، فلم يأمره ولم ينهه .
أيها الاخوة الكرام .. معشر الشباب الملتزمين .. وغير الملتزمين .. إن هذا كله نتاج ومواليد غير شرعيين لتلك العلاقة السيئة، لتلك الهوة المفتعلة التي نفتعلها بيننا، فنرى أنفسنا في معسكرين ؛ معسكر الشاب الملتزم ومعسكر الشباب غير الملتزم، ونفتعل القطيعة بل نسعى إلى إذكاء القطيعة والعداوة وإلى إشعال نارها، ونرى أن ديننا و استقامتنا وصلاحنا يفرضان علينا ذلك، إذن فنحن بعد أن أدركنا هذا النتاج وبعد أن أدركنا تلك المقدمات كلها، بحاجة إلى أن نسعى إلى كسر الحواجز وتحطيمها، و حين نكسر هذه الحواجز ونحطمها فإننا بإذن الله عز وجل سنرى نتاجاً أكبر وسنرى جهوداً خيرة قد أثمرت ، لقد تضاعف عدد المسلمين بعد صلح الحديبية، فالذين أسلموا بعد صلح الحديبية إلى فتح مكة كانوا مثل الذين أسلموا منذ أن جاء الإسلام إلى صلح الحديبية بل كانوا أكثر، والسبب في ذلك كما يقول أهل السير أن صلح الحديبية كان مجالاً للقاء والمناقشة والدعوة، كانت هدنة أوقفت الحرب فصارت مجالاً لنشر الدعوة واللقاء مما زاد بعد ذلك من عدد المهتدين والداخلين في دين الله عز وجل.(/6)
وحين ندعو إلى كسر الحواجز فإننا ندعو الطرفين جميعاً ؛ ندعو الشاب الملتزم لأنه هو الذي يحمل الهمة العالية، لأنه هو الذي يرى أن هذه الدعوة وظيفته، وأن هذه الدعوة شغله الشاغل، وأن هذه الدعوة هي همه وهي حياته، وندعو أيضاً الشاب غير الملتزم والعاصي ونقول له : إن الخطأ مشترك وإن الذي يجني الثمرة المرة الجميع، وأنت تجني أمرّ الثمرتين، وأنت تجني أسوأ النتيجتين، ونقول له : إن الشاب قد فاقك في سلوك طريق الخير والاستقامة وقطع خطوة وله حسنات، فعليك أن تبادر أنت وتقطع هذه الخطوة فتكون أنت السابق ولو على الأقل في هذا الميدان، إننا ندعو الجميع أن يساهموا في إزالة هذه الحواجز وأن يساهموا في ردم هذه الخنادق وبناء الجسور على مثل تلك الهوة التي كانت حاجزاً ومانعاً عن كلمة صادقة كان يمكن أن تصل، كانت حاجزاً ومانعاً عن مناصحة وعن مناقشة وعن حديث صريح .
معشر الشباب .. إنها دعوة صادقة، دعوة ملحة إلى كسر الحواجز وتحطيمها وإزالتها فنفتح صفحة من الحوار والنقاش والمجادلة بالتي هي أحسن ( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة وجادلهم بالتي هي أحسن )، النقاش والحوار الهادئ بين الجميع وبين الطرفين، فسنرى أن الشاب غير الملتزم سيطرح عوائق وعقبات يراها أمامه في طريق الالتزام، فيساهم له صاحبه وأخوه في تذليل هذه العقبات والإجابة عن هذه التساؤلات وإعانته عليها، وأن نرى في المقابل، الشاب غير الملتزم يطرح بعض الانتقادات وبعض الأخطاء وبعض العيوب التي يرى أن أخاه وزميله الملتزم يقع فيها فتكون مدعاة لتوضيح الرؤية ووضوح الصورة ومدعاة لتصحيح الأخطاء أيضاً . إن هذا النقاش وهذا الجدل يكون بالتي أحسن وحين نفتح حلقات للحوار والنقاش في المدرسة في الشارع في المنزل في كافة اللقاءات، نقاشاً يضبطه الضابط الشرعي فسنستفيد منه جميعاً ولو على الأقل أن تقترب وجهات النظر.
وحتى ينجح هذا الحوار فلابد أن نكون واضحين و صرحاء، فأتحدث لك عن خطئك بوضوح وصراحة، وتحدثني أنت كذلك ومع هذا فالصراحة ليست مبرراً لسوء الأدب.
ويتطلب أيضاً مني أن أعترف بأخطائي وأن أعترف بعيوبي، وأن أكون واضحاً صريحاً مع نفسي ومعك، وحين يفتقد النقاش الصراحة والوضوح فلن يجدي ولن ينتج الثمرة الطيبة المرجوة، بل لعله أن يزيد في اتساع الهوة.
أسباب هذه الفجوة
حين نريد تقويم هذه الهوة فلابد أن نكون واقعيين وأن نبحث عن أسبابها.
فمن ذلك أن الشاب الملتزم يرى أن دينه و استقامته وصلاحه تفرض عليه أن يحب في الله ويبغض في الله،و أن يحب فلاناً ويبغض فلاناً، ومادام فلان يجاهر بالمعصية فإن عليه أن يبغضه وأن يظهر له البغضاء،وهذا من دين الله عز وجل ولا نطلب إلغائه ولا زواله، لكن هذا شيء والدعوة والملاطفة وحسن العشرة شيء آخر.
إنه لا يضيرني أن آخذ صاحبي بحديث ودي فأقول له إنك مسلم وإني أجزم أنك تحب الله ورسوله وإنني أحب فيك الطاعة وأحب فيك أن أراك في المسجد، أن أراك تشهد ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ولكني واضح صريح معك، فلست أدعي أني أحبك كما أحب أخي، لست أدعي أني أحبك من سويداء قلبي، إنني مع ذلك أرى عليك أثر المعصية وأثر الانحراف وأرى أن هذا يفرض علي سواء أردت أم لا، أن أبغض فيك هذه المعصية، فإني أتمنى أن تكمل المحبة وأن يتم اللقاء، ولن تكمل هذه المحبة ولن يتم هذا اللقاء إلا حين تزيل سبب القطيعة وسبب البغضاء وهو هذه المعصية.
ومن أسباب القطيعة أن الشاب الملتزم يرى أنه حين يحسن العشرة معه فإن هذا مدعاة لأن يصحبه فيتأثر به، فيدعوه ذاك من حيث لا يشعر إلى الارتكاس وإلى الانتكاس عافانا الله وإياكم، إنه يرى أن هذه الاستقامة وأن هذا الالتزام وأن هذا الخير الذي حصله مكسب لا يقاس بثمن،وثمرة لا تعادلها ثمرة، فهو يريد أن يحيطها بهذا السياج،ويريد أن يضع عليها هذا السور المنيع حتى لا تخترق، فيرى أنه إن صاحب ذاك بالحسنى وأحسن له وعاشره فسيكون مدعاة إلى أن يكون وسيلة للصحبة السيئة التي تقوده من حيث لا يشعر إلى الانتكاس وإلى الحور بعد الكور، فهو يضع هذا السياج ويبني هذا السور حماية لنفسه من التأثر،و الوقوع في الزلل والخطأ والانحراف والحور بعد الكور.(/7)
ونحن نقرّه أن الثمرة التي حصلها غالية ونقره أن الاستقامة لا يعدلها شيء وأن السلامة لا يعدلها شيء وأنه ينبغي أن يحرص عليها، ولكن ما ندعوك إليه ليس أن تقضي لياليك ونهارك مع صاحبك، ليس أن تقضي وقتك كله معه، ليس أن تضاحكه وتمازحه وتعاشره، لا .. إنما ندعوك إلى كلمة تقولها، وابتسامة صادقة، إلى دعوة ناصحة، إلى نقاش حكيم .. ثم بعد ذلك يجب أيضاً أن تحرص وأن تحتاط وأن تعرف أن طول العشرة والألفة واللقاء قد يكون مدعاة لأن تتأثر أنت، فتتحول من مرسل إلى مستقبل، تتحول من داعي إلى مدعو، فيقودك معه إلى المستنقع حين أردت استنقاذه، وحينئذ فمع دعوتنا إلى كسر الحواجز ومع دعوتنا إلى اللقاء والنقاش والحوار فإننا ندعو أيضاً أن يكون هناك ضوابط تكفل عدم الانسياق،و ألا تتحول بعد ذلك إلى خسائر أخرى، إلى أن يكون أولئك أصحاب الشهوات هم الذين يدعون الآخرين ويجرونهم إلى طريقهم.
وليكن الأمر مقتصراً على كلمة صادقة وعلى هدية و ابتسامة وعلى حسن عشرة، ثم بعد ذلك نقطع الطريق ونقول لهم أيضاً بصراحة ووضوح - ونحن قد اتفقنا على الصراحة والوضوح -إننا نرى طول لقائنا بكم وإلفنا معكم قد يكون مدعاة لأن نقع نحن معكم، فنعتذر لكم عن طول اللقاء و طول المعاشرة، لأننا نخشى على أنفسنا، وحين تعودون وتسيرون في الجادة فنحن سنصبح وإياكم إخواناً .
معشر الإخوة الكرام إن ما أطرحه في هذا اللقاء لا يزيد على أن يكون محاولة من قلب يتفطر ألماً وحرقة على الواقع المرير الذي نعانيه، من قلب يرى مثلكم، يرى أولئك الشباب في الشارع، يراهم هنا في هذه المخيمات، بل يراهم أمامه في الفصل وقد أنصتوا إليه، يراهم أمامه في الحي فيتفطر قلبه ويبدأ يفكر، وقد يقوده هذا التفكير إلى مثل هذه الرؤى، وهذه النتائج، وهذه الرؤى ليست بالضرورة معصومة وليست بالضرورة نتائج مسلمة، بل هي ينبغي أيضاً أن تحاط دائماً بسياج الشرع الحكيم، وينبغي أن نكثر المراجعة وأن نكثر المناقشة لها مرة أخرى، وأن نكثر التفكير ونطيله في مدى اتفاق ما نقوله مع شرع الله عز وجل لأن هذه الدعوة وهذا الدين ينبغي أن يحاط بسياج الشريعة، ومهما كانت أهدافنا نبيلة ومقاصدنا عالية وسامية فإن ذلك ليس مبرراً لنا أن تنطلق أفكارنا واقتراحاتنا دون ضوابط من شرع الله عز وجل.(/8)
محاكمة التاريخ ..
في حوار مع الدكتور عماد الدين خليل
حاوره : هيثم الأشقر
الأستاذ الدكتور عماد الدين خليل من أهم المشتغلين بالتاريخ ، وكان قد ألف كتاب (التفسير الإسلامي للتاريخ) اعتمد فيه على النص القرآني الذي يصفه بأنه مدهش فيما ينطوي عليه من شبكة غنية لقوانين الحركة التاريخية ، واليوم يعد لتأليف كتاب (دليل التاريخ والحضارة في الأحاديث النبوية الشريفة) ليكمل به ما بدأه في كتاب (التفسير الإسلامي للتاريخ).
ومن خلال معرفتي الشخصية بالأستاذ الدكتور عماد الدين خليل أستطيع أن أقول : إنه من أفضل من يوظف التاريخ لخدمة اللحظة ، بل إنه من أحسن من أفتى بفقه اللحظة ، وذلك لما يتمتع به من موهبة الفهم والقدرة على استحضار التاريخ والدليل الشرعي.
وإذا كانت الأمة اليوم تعيش كل هذا الضياع فلأنها لم تستفد من أمثال أستاذنا الكبير الدكتور عماد الدين خليل ، ولأننا لا نملك أدوات صناعة التاريخ ، ومنها صناعة تاريخنا القديم إعلامياً بحيث نعمم الفهم والإحساس العام بآلام الأمة وأهدافها الضرورية ، ذلك أنها ما زالت حكراً على أبناء صهيون.
وإلى أن نتمكن من امتلاك زمام المبادرة الحضارية ندعو الله أن يمد في عمر الأستاذ الدكتور عماد الدين خليل وأن يبارك في عمله وصحته إنه سميع مجيب ، والآن أترككم مع إجابات سعادته على أسئلة المنار.
***
هل هناك إمكانية لمحاكمة التاريخ بدلاً من التحاكم إليه في ظل التناقض الروائي للتاريخ ، أو التوظيف السياسي له ؟
هذا وذاك ، فيمكن أن نحاكم التاريخ ، وهذا لا يتناقض مع فكرة أن نتحاكم إليه ، والتاريخ ينطوي على الصحيح وغير الصحيح ، على المرويات التي ثبتت صحتها وعلى حشود من المرويات لا تزال موضع أخذ ورد ، ولسنا نحن الذين سندخل على الخط ونحاكم التاريخ ، فقد كان أجدادنا نقاداً للتاريخ ، وهم تجاوزوا مرحلة الاستسلام للمرويات التاريخية ، وأعملوا مشرط النقد في المرويات ، ونتذكر هنا ابن خلدون في مقدمته والمسعودي وابن الأثير وابن العربي ، فهؤلاء دعوا إلى عدم الاستسلام لهذا الموروث ، إذن فهم حاكموا التاريخ.
ولكن محاكمة التاريخ يجب ألا تذهب بنا إلى المدى الأقصى الذي يجعلنا نتخذ موقفاً يكاد يكون عدمياً لإلغاء كل الموروث التاريخي بحجة أنه كان وقراً على ظهورنا فالتاريخ الإسلامي في بداياته الأولى هو الابن الشرعي لمدرسة الحديث ، وقد انطلق وهو يحمل أداتين للنقد ، النقد الخارجي بتثبيت سلاسل الإسناد التي قدمت المرويات لطبقة المؤرخين عبر مجموعة الإخباريين كما هو معروف عند دارسي التاريخ ، وهناك أيضاً النقد الداخلي الذي دعا إليه المؤرخون ، فمقدمة الطبري بما تنطوي عليه من مرويات خاطئة وضعيفة أو غير مقبولة ، يقول الطبري بخصوصها : إنه قدم للقارئ ما قد يقبل وما لا يقبل ، وأنه أداها على نحو ما أديت إليه والعهدة على الراوي ، فالرواة وضعوا بأمانة قبيل كل مروية أو رواية من أجل أن نمسك بطرف من أطراف النقد الذي يقودنا إلى مصداقية الرواية أو عدم مصداقيتها جنباً إلى جنب مع النقد الداخلي ، بمعنى أن نحيل الرواية إلى طبيعة العصر أو نبض العصر ، فهل ترتطم مع نبض العصر ، وبالتالي تخرج من دائرة القناعة ، أم أنها تعكس حالة ممكنة في تساوقها مع نبض العصر ومعطياته الأساسية ؟
على سبيل المثال : لا يمكن أن نقبل بأية حال من الأحوال فكرة أن هناك صراعاً على السلطة فيما حدثنا به أبو مخنف لوط بن يحيى عبر كم كبير من مرويات الطبري ، فيما ينتاقض مع الواقع التاريخي وطبيعة العصر الذي أنشأ دولة كبرى وأسس حضارة كبيرة ومضى فيها الخلفاء الراشدون ويعملون جنباً إلى جنب في تثبيت الدولة وتعميق معطيات الحضارة ، فلا يمكن أن نقبل مرويات تقول إن هناك صراعاً قاسياً غير أخلاقي على السلطة ، وقد تسلمها بعض المستشرقين المعاصرين كـ (ماسيه وكارل بروكلمان والأب اليسوعي لأمانس) وألفوا كتاباً سموه ( الحكومة الثلاثية) كادوا أن يصورا فيه أن هناك صراعاً وفق طريقة كرة القدم (خذ وهات) بين أبي عبيدة بن الجراح وأبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب على أن يتداولوا السلطة بعيداً عن أصحابها الشرعيين ، فهذا لا يمكن أن نقبله ، لأن التاريخ يؤكد لنا أنه لا يمكن لقادة بهذه الصفات أن يصنعوا دولة عظمى تبني حضارة وتمضي قدماً في مجابهة تحديات كبيرة كان يمثلها الفرس والروم ، فنحن نحيل المرويات التاريخية على طبيعة العصر ونبضه من أجل أن نقبلها أو لا نقبلها جنباً إلى جنب مع النقد الخارجي الذي يمثل أداة لا تملكها أمة من الأمم بهذا القدر من الاستقصاء وصولاً إلى الراوي الذي شهد الحدث ، وبالتالي تعطينا الفرصة الجيدة لنخل المرويات التاريخية وعدم الاستسلام لها.(/1)
في كتابكم (التفسير الإسلامي للتاريخ) أغفلتم دور السنة النبوية في ذلك واكتفيتم بالتفسير الإسلامي من القرآن فقط ، ولعل هذا من الانتقادات التي وجهها إليكم المؤرخ عبدالحليم عويس في كتابه (فقه التاريخ) فما أسباب إغفال دور السنة النبوية ؟
هذا صحيح ، وقد كانت تلك المحاولة الجزء الأول الذي أريد أن يتعامل مع النص القرآني ، لأن النص القرآني مدهش فيما ينطوي عليه من شبكة غنية لقوانين الحركة التاريخية ، أو فيما يسمى بالمصطلح الإسلامي (سنن الإله العاملة في التاريخ) فهي شبكة مدهشة لم تكتشف - للأسف الشديد – من قبل المفسرين القدماء، لأن الوعي التاريخي والوعي الحضاري لدى التفسير القديم كان ضعيفاً يومذاك ، أما الآن فقد أصدرت الجامعات في البلاد العربية والإسلامية حوالي عشر رسائل ماجستير ودكتوراه تبحث فيما قدمه القرآن الكريم في هذا السياق ، سياق قوانين الحركة التاريخية أو سنن الإله العاملة في التاريخ ، ويومذاك لم يكن قد صدر بعد كتاب أو محاولة جادة فقلت في نفسي : أقف في الجهد الأول عند ما قدمه النص القرآني في تفسيره للتاريخ ، وهو عطاء خصب يكاد لا يترك صغيرة ولا كبيرة في قضية نشوء الأمم والجماعات والحضارات وانهيارها إلا وسلط عليها الإضاءة الإلهية المحكمة التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها. فقد تحدث في سياقات ثلاث : نشوء الحضارات ، نمو الحضارات ، أفول الحضارات ، وتابعت هذا في النص القرآني ، ثم قمت استكمالاً للجانب الآخر - الذي اعترض الآخرون عليه – بإنجاز مؤلف جديد سيصدر قريباً إن شاء الله عن المعهد العالمي للفكر الإسلامي بمعية أخ مهندس يمتلك قدرتين (في مجال الحديث وفي مجال توظيف آليات الكمبيوتر في هذا الشأن) وفي الكتاب استقصاء لكل الأحاديث الصحيحة التي تنطوي على بعد تاريخي أو حضاري فيما سيسمى (دليل التاريخ والحضارة في الأحاديث النبوية الشريفة) مع دراسة في الكتاب تبين أن الرسول صلى الله عليه وسلم قدم في مجال الفكر التاريخي والظاهرة الحضارية الشيء الكثير ، وذلك في سياقات خمسة ، وقد صنفت هذه الأحاديث الخاصة بالتاريخ والحضارة إلى خمسة سياقات.
السياق الأول : ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم عن التاريخ الذي سبق عصر الرسالة ، وهو يخص صراع الحق مع الباطل ، والتوحيد مع الشرك.
السياق الثاني : يتناول ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم عن وقائع عصر الرسالة.
السياق الثالث : المستقبليات ، وتضمنت الملاحم والفتن وأشراط الساعة الصغرى والكبرى ، وقضية المهدي الذي سيخرج لكي يملأ الأرض عدلاً بعدما ملئت جوراً.
والسياقان الأخيران (وهما باعتقادي أكثر أهمية من الفصول الأولى) حول ما قدمه الرسول صلى الله عليه وسلم من شبكة خصبة في سياق شروط نهوض الأمم والجماعات والحضارات ، ثم السياق الأخير عن عوامل الأفول والتدهور والانهيار.
فهذا الكتاب سيكون متمماً للكتاب الأول ، وستكون الرؤية متوازنة بين النص القرآني والحديث النبوي.
في كتابكم الرائع : ( التأصيل الإسلامي للتاريخ) ذكرتم أربعة عشر ضابطاً ومعياراً في منهج كتابة التاريخ ، ما السبيل لإخراج هذا المنهج في الواقع الملموس ؟
لقد قلت في الكاتب نفسه : إن هذا العمل تنوء به العصبة أولو القوة ، فلا يستطيع أفراد القيام بهذا العمل ، فهو يحتاج إلى جهد مؤسسي ، وقد حاولت مؤسسات عديدة وعلى مستوى الجامعات والمعاهد العلمية أن تمضي خطوات باتجاه ما أسمته بإعادة كتابة التاريخ الإسلامي أو العربي ، ولكن ما إن قطعت خطوات في الطريق ، حتى توقفت كتلك المحاولة التي قامت بها جامعة الكويت في وقت ما ، أو كتلك المحاولة التي قام بها مجموعة من الإسلاميين في مصر كان من بينهم الشهيد سيد قطب رحمه الله ، وصادق إبراهيم عرجون الذي قدم أعمالاً رائعة في نقد الرواية التاريخية في كتابيه (خالد بن الوليد) و (عثمان بن عفان المفترى عليه) ولكن هذه المحاولات الأهلية والرسمية قطعت خطوات وباءت بالفشل ، والسبب أن هذا العمل يتطلب – فضلاً عن التغطية المالية الكبيرة جداً – كادراً أو مجموعة كبيرة من المتخصصين في التاريخ الإسلامي في كل تخصصاته الدقيقة (سيرة ، راشدي ، أموي ، عباسي أول ، عباسي متأخر ، مملوكي ، عثماني).(/2)
هذه واحدة ، والمسألة الأخرى أن يحمل هؤلاء جميعاً رؤية أصيلة واحدة تنبض بتوجه واحد ، إذ يصعب أن تكتب تاريخاً للأمة وتعيد كتابته بروئ متناقصة بعضها علماني وبعضها قومي ، وبعضها إسلامي وبعضها صوفي متطرف ، وبعضها وبعضها ، وربما تكون في جذور بعضها مادية ماركسية ، فعليك أن تجمع مجموعة من المؤرخين تنبض بهم واحد وتحمل رؤية مشتركة لتاريخ الإسلام ، لأنه الابن الشرعي لهذا الدين في الزمان والمكان ، أي تحوله إلى واقع ، بغض النظر عن الانحرافات التي حدثت.. النبض العام يوحي بأنه تاريخ إسلامي وليس تاريخاً صينياً أو غربياً أو أمريكياً.. وعلى الذين سيتحملون عبء إعادة قراءته أن يكونوا مؤمنين – ابتداء – بالعمق الغيبي لوقائع هذا التاريخ ، والذي حدث أن كثيرين دخلوا الساحة وهم لا يؤمنون بالعمق الغيبي ، في حين أن العمق الغيبي مسألة ضرورية جداً بدءاً من عصر النبوة ومروراً بظواهر كبيرة ذات عمق غيبي أصيل في بنية تاريخنا.
فالغربيون ماديون في تصورهم ، والشرقيون كان بعضهم علمانياً وبعضهم ملحداً لا يؤمنون بالعمق الغيبي للتاريخ الإسلامي ، لذلك وقعوا في الخطأ ، فلا يمكن – على المستوى الرياضي – جمع تفاحة إلى برتقالة لكي نقول : إن الناتج هو اثنان ، كذلك الحال لا تستطيع أن تكتب تاريخاً إسلامياً وأنت – ابتداء – تنكر العمق الغيبي، لأن الغيب هو الله سبحانه وتعالى ، وهو الوحي ، وهو ظاهرة النبوة ، وهي أربعة أخماس لا ترى بالعين المجردة ، غائصة في العمق غير المنظور ، والذي يظهر هو الخمس ، فالمؤرخ الذي لا يحترم الأخماس الأربعة ولا ينظر بتقدير وثقة مطلقة لهذا العمق لا يمكن له أن يكتب تاريخاً إسلامياً.
الذي حدث أن هذه المحاولات مضت وتوقفت إما لعجز في التمويل المالي ، وإما لعجز في لم العدد الكافي من المؤرخين المتخصصين بتخصصات دقيقة تغطي كل مساحات التاريخ الإسلامي ، أو وجود تناقض في الفكر بين مؤرخ وآخر لا يمكن أن يجمعهم على قاسم مشترك.
فهذه الشروط الأربعة عشر التي طرحتها في الكتاب ، تتطلب جهدا مؤسسياً ، ولعله يتاح في المستقبل ، فنحن أصبحنا في زمن المؤسسات التي تتولى الأعمال ذات العبء الكبير ، وما ذلك على الله وعلى الجادين في هذه الأمة بعزيز.
ما رأيكم بمناهج التاريخ التي تدرس لأبنائنا الطلاب في المراحل الدراسية المختلفة ؟ وما هي رؤيتكم للمنهج الصحيح ؟
هناك خطأ كبير في تدريس مادة التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية ، مارسناه منذ بدايات تشكل النواة الأولى لمعاهدنا ومدارسنا وجامعاتنا ، هذا الخطأ هو أننا أعطينا تسعة أعشار الزمن الدراسي للتاريخ السياسي ، وضيقنا الخناق على التاريخ الحضاري ، وبما أن الحلقة الأضعف في تاريخنا هي الحلقة السياسية ، والحلقة الأقوى في تاريخنا هي الحلقة الحضارية الدعوية العقدية نكون كمن يبحر ضد نفسه بتضييق الخناق على الحلقة المضيئة القوية ، وفتح المجال أمام الحلقة الضعيفة لكي نملأ عقول طلبتنا بصراع بين القيسية واليمنية وبالفتن والثورات والويلات التي شهدها التاريخ الإسلامي حتى منتهاه ، كان يجب علينا أن نقدم هذا للمستوى الأكاديمي في الدراسات العليا أما أن نعطيه لطلاب هم في عمر الزهور في المدارس الابتدائية والمتوسط والتوجيهية ، وحتى في مرحلة البكالوريوس فهذا خطأ قاتل.
فلكي نركز على بعد تربوي بنائي في تدريس التاريخ لا بد من إعادة النظر في هذه الخطيئة الكبرى التي مارسناها على مدار مئة سنة ضيقنا فيها الخناق على البعد الحضاري ، وآن لنا أن نعكس المعادلة ونعطي تسعة أعشار ساعاتنا الدراسية للبعد الحضاري ، ونعطي العشر للتاريخ السياسي.
بعض كتب الدكتور عماد الدين خليل :
- دراسة في السيرة.
- ملامح الانقلاب الإسلامي في خلافة عمر بن عبد العزيز.
- رؤية إسلامية في قضايا معاصرة.
- حول إعادة تشكيل العقل المسلم.
- فوضى العالم في المسرح المعاصر.
- في النقد التطبيقي.
- الإعصار والمئذنة (رواية).
- المأسورون (مسرحية).
- التأصيل الإسلامي للتاريخ.
- التفسير الإسلامي للتاريخ.
- دليل التاريخ والحضارة في الأحاديث النبوية الشريفة.
مجلة المنار العدد 71 ، جمادى الآخرة 1424هـ.
- كان هذا جزءاً من الحوار الذي أجرته مجلة المنار مع الدكتور عماد الدين خليل ، والذي تطرق إلى قضايا أخرى في الجانب الأدبي والدعوي وأوضاع العراق بعد الاحتلال اقتصرنا منه على الجزء المتعلق بالحوار التاريخي فقط.(/3)
محاور للتربية الاجتماعيّة
د. عبد الكريم بكار 14/2/1426
24/03/2005
نستطيع القول: إننا نعيش في مرحلة كونيّة فريدة، بسبب ما أحدثته ثورة الاتصالات والبثّ الفضائي من تداخل واختلاط بين البيئات الثقافية المتباينة. كان الناس في الماضي يربّون صغارهم في بيئات مغلقة، ووفق معايير ومفاهيم تربوية محدّدة وخاصة، ولهذا فإن الأطر التربوية السائدة كانت في موضع إجماع، أو ما يشبه الإجماع. ومن ثم فإن الأزمات التربوية كانت تفسّر على نحو دائم على أنها بسبب مشكلات في التنفيذ وقصور في التطبيق ليس أكثر. النماذج والقدوات في المجتمعات المختلفة كانت ترمز باستمرار إلى نجاح الأصول التربوية المشتركة وتغري بالدفاع عنها.
لا يعني هذا كله بالطبع أن الأمور كانت على ما يرام، كما لا يعني أن التطورات التي قلبت تلك الأوضاع رأسًا على عقب كانت من الشر الخالص، لكن ذلك يعني أننا أمام فرص وتحدّيات جديدة. أما الفرص فتتجلّى في كسر العزلة التي كانت سائدة بين الشعوب المختلفة، وكسر حدّة البرمجة المحلية –والتي تتسم غالبًا بالتشوّه والقصور- للعقول والنفوس كما تتجلّى في توفّر قدر هائل من الخبرات المتقدمة والمطلوبة لتحقيق قفزات نوعية في تنمية الأفراد والمجتمعات، إلى جانب إنعاش حاسّة المقارنة.
أما التحدّيات فتتجسد أساسًا في إضعاف المحاور والأسس التي كانت تقوم عليها التربية في المجتمعات الإسلامية، مما أدّى إلى نوع من الانقسام في الوعي، وإلى إرباك عام في الأساليب التربوية الموروثة.
في حال الانفتاح وتعدد المحكّات والنماذج التي تتم الإحالة الشعورية واللاشعورية عليها، تكون المشكلة الجوهرية في فقْد الأرضية المشتركة، مما يدفع في اتجاه التناحر والتفكّك الاجتماعي، يحدث كل هذا في الوقت الذي يتمّ فيه تهميش سلطة الدولة والمدرسة والأسرة والمجتمع لصالح سلطة المال والإعلام. أي إن التربية تواجه تحدّيين في وقت واحد: سحب الكثير من الصلاحية والتأثير من المؤسسات التربوية المهمة، وصيرورة الأسس التربوية موضع جدل ونزاع واعتراض. وهذا شيء خطير للغاية.
في حالة كهذه يكون علينا أن نستنبط من عقيدتنا وثوابتنا محاور أساسية ننسج حولها مئات المفاهيم والرموز التربوية ذات الدلالة الاجتماعية، ونحاول نشرها وتعميمها على أوسع نطاق ممكن. ومع أنني أكره المبالغة في كل شيء، وأعتقد أن من اليسير على التربية أن تنجح فيما أخفقت فيه السياسة والاقتصاد والإعلام والتعليم إلا أنني أظل أميل إلى أن التربية الأسرية تظل قادرة على ممارسة فن الممكن أي إنقاذ ما يمكن إنقاذه.
استطاع علماؤنا القدامى من خلال نظرهم الثاقب، واستقرائهم لمجمل أحكام الشريعة الغراء –أن يستنبطوا مقاصد أساسية سموها (الكليات الخمس)، وهذه الكليات هي: حفظ الدين، والنفس، والعقل، والعرض وحفظ المال. وأوجدوا بعض الترتيبات بين هذه الكليات، حيث يُضحّى بالأنفس من أجل حفظ الدين، ويُضحّى بالمال من أجل سلامة الأنفس والأعراض. ولم يتحدث الأصوليون عن هذه الكليات بوصفها منطلقات وأسسًا لتربية اجتماعية راشدة ومتماسكة؛ لأن هذا كان خارج اهتمامهم واختصاصهم. لكن نستطيع نحن اليوم أن نقوم بذلك من أجل جعل تربيتنا الاجتماعية أشد تمحورًا حول قطعيّات الشريعة، وأشد استجابة لمقتضيات التديّن العميق، ولعلي أبدي هنا الملاحظتين الآتيتين:
1- إن التربية الاجتماعية على أساس هذه الكليات، توفّر لنا الحدّ الأدنى من وحدة الاتجاه، ووحدة المعايير التربوية، فالمسلم مطالب بالمحافظة على تديّنه والتزامه من خلال ممارسة الشعائر. ومطالب أيضًا بالدفاع عنه بالوسائل المشروعة والممكنة وبالمجادلة عن مبادئه وأدبيّاته. وهو في الوقت نفسه مطالب بأن يساعد إخوانه المسلمين على الالتزام من خلال تقديم العون لهم، ومن خلال أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر. والمسلم مطالب بالمحافظة على نفسه من خلال توفير أسباب الصحة ودفع الأذى والضّرر عنها. وهو مطالب بالمحافظة على نفوس المسلمين. وعليه أيضًا أن يحافظ على عقول المسلمين وأعراضهم، وأموالهم، كما يحافظ على عقله وعرضه وماله. تصوّر معي أماً تتحدث في تفاصيل تربوية تتعلق بالجانب العقلي لأبنائها، ماذا كانت تقول؟(/1)
ستقول لهم: العقل نعمة كبرى من الله –تعالى- وشكر هذه النعمة يكون في المحافظة عليها واستخدامها على أحسن وجه ممكن. الكذب حرام؛ لأنه يؤذي العقل إذ يمدّه الكاذب بمعلومات خاطئة. والمسكرات، والمخدرات تؤذي العقل؛ لأنها تضعف ارتباطاته السببيّة. التقليد يؤذي العقل؛ لأنه يحرمه من التفتّح ومن التحفيز على إبداع آراء ونظريّات جديدة… إنها تقول هذا في مجال التربية الفردية. فإذا أرادت لمس الجانب الاجتماعي قالت: بيع المسكرات وتهريب المخدرات حرام؛ لأن على المؤمن ألاّ يُلحق الضرر بإخوانه المسلمين، وألاّ يساعدهم على الوقوع في المعاصي. وتقول أيضًا: إن الكذب على الناس ينطوي على نوع من الغشّ والخديعة لهم. وعلى المسلم كما يكره أن يُخدع من قبل الآخرين أن يتجنّب خديعتهم وهكذا..
وتصوّر معي باقي الأمهات في البلدة يتحدثن بهذه المفاهيم أمام صغارهن، ماذا يعني هذا؟
إنه يعني أن المربيات صرن يتحدثن لغة واحدة، وصرن يؤكدن على مفاهيم واحدة. ويعني أيضًا توليد وحدة فكرية وشعورية عظيمة ورائعة، إن العولمة تنشر معاني الأنانية والخلاص الشخصي. أما التربية القائمة على الكليات الخمس فإنها تؤكد للناشئة أن الخلاص إما أن يكون جماعيًا أو لا يكون، وإنّ من غير الممكن للمسلم أن يعيش آمنًا هانئًا في جزيرة يحيط بها الشقاء من كل مكان.
2- إن الترتيب بين الكليات الخمس –كما أشرت إليه- ينطوي على مغزًى تربوي كبير؛ إنه يشكّل خطًا أساسيًا في الرؤية الإسلامية للكثير من جوانب الحياة. إن فداء الدين بالنفوس والأموال يعني الارتباط المطلق بالهدف السامي والنهائي لوجودنا على هذه الأرض، وهو الفوز برضوان الله –تعالى- وفداء النفوس بالأموال يعني التعزيز لمركز الإنسان في الكون، ويعني الرد على الهجمة المادية الحديثة التي تجعل من المال المحور الأساس للحياة، وتجعل من الإنسان أداة لتحقيق المزيد من الثراء لأصحاب الحظوة والنفوذ.
نحن حتى نتمكن من جعل (الكليات الخمس محاور للتربية الاجتماعية، نحتاج إلى صبّها في قوالب تربوية حديثة وإغنائها بالتفاصيل والمعاني الجزئية. وهذا يحتاج إلى بحث معمّق وجهد تربوي متميز. لكنّ شيئًا من هذا لن يحدث إذا ما ظلّت الدونيّة تسيطر على نظرتنا لكل هو اجتماعي وعام.
إننا إذا أدركنا أن التقدّم الحقيقي هو في جوهره تقدم روحي واجتماعي أكثر من أن يكون تقدمًا عمرانيًا، فإننا سنبذل الكثير في سبيل الارتقاء بالمفاهيم التربويّة، وسيتغير بذلك الكثير من الأشياء(/2)
محاوراتٌ في الدِّين
(محاضرات نخبة من العلماء وعلى رأسهم الإمام محمد قاسم النانوتوي في معرض
معرفة الذات الإلهية المنعقد 7/مايو 1876م في "تشاندافور"
بمديرية "شاه جهان فور" بولاية أترا براديش ، الهند)
(الحلقة 3)
تعريب : الأستاذ محمد ساجد القاسمي / أستاذ بالجامعة
التثليث في التوحيد يعارض العقل :
إنَّ عقيدة تعدُّد الآلهة وعقيدة التكفير معارضتانِ العقلَ كلَّ المعارضة وباطلتان كلَّ البطلان . ثم إنَّ عقيدة تعدُّد الآلهة مع وحدة الاله مما لايقبله أحد من الناس ، صغيرًا كانَ أو كبيرًا ، شابًا كان أو شيخًا ، كاملَ العقل كان أو ناقصه ، حتى إنَّ النصارى أنفسهم يرون – بموجب العقل – اجتماع التعدد والوحدة الحقيقيَّيين من جملة المستحيلات ؛ فكل ذي عقل يراه باطلاً . فما يدركه العقل دونما دليلٍ أي لايحتاج في إدراكه إلى دليلٍ ، لايُثْبِتُه حتى ألف دليل ؛ لأنَّ ما ثبت بدون دليل فهو كالمشَاهَد، وما ثبتَ بالدليل فهو كالمسموع ، وشتّان ما بين المشاهد والمسموع .
ومثله كمثل عالم رياضيٍ بارع يقول عند غروب الشمس وهو ينظر إلى ساعته : "قد غربت الشمس" ورجل غير مثقف واقف على مكانٍ مرتفع ينظر بأم عينيه أنَّ الشمس لم تغرب حتى الآن. فكما أنَّ هذا الرجل – بالرغم من قلّة ثقافته وعدم معرفته بالأوقات بالساعات واعترافه بفضل العالم الرياضي البارع – لايصدِّق العالم الرياضي في قوله المبرهن بالدليل لما شاهده بأم عينيه ، مهما ادّعى حتى ألف عالم رياضي غروب الشمس مستدلين بالساعات . فكذلك العقل يرى – لما حصل له العلم دونما دليل والذي هو بمثابة المشاهدة عن هذه المستحيلات – هذه المستحيلات المبرهنة بالدلائل – مهما قدَّمَها العقلاء – خاطئةً .
العقل يقضي :
فكما أنَّ ذلك الرجل غير المثقف يرى ما تُشِيْرُ إليه الساعة خاطئًا ويقول عنها : "إنها متعطلة وأما مشاهدتي فليست خاطئة" وإن لم يعلم ما فيها من التعطل ، فكذلك عقول عامة الناس وخاصتهم لن تُسَلِّمَ وتُصدِّق – لما تدركه من استحالة اجتماع التوحيد والتثليث دونما دليل – دعوى التثليث في الإنجيل المُسْتَخْرَجة من بعض نصوصِه التي لاتحتمل إضافةً ولازيادةً ولو فرضًا بلْهَ الإذعان بالإضافة والزيادة ، وإنما ترى الإنجيل محرَّفًا ، وتقول: إنه قد دَخَلَه التحريف والخطأ . وإن لم تعلم ما فيه من التحريف .
لم يتمَّ محاضرة الشيخ محمد قاسم لقلَّة الوقت :
كان الشيخ محمد قاسم يلقي محاضرتَه ، وإذا الأسقف أخبره بأنَّه وقته المحدَّد – وهو خمس عشرة دقيقة – قد انتهى ، فأوقف الشيخ محاضرته ، فأَسِف المسلمون على انتقاص محاضرته .
وقد كان الشيخ يوضَّح الفرق بين المستحيلات والمتشابهات ، لأنَّ المتشابهات كذات الله تعالى وصفاته وأرواح بني آدم يحتار العقل في إدراكها، وأما المستحيلات فلا يحتار العقل في إدراكها ، وإنما يدرك عدمها واستحالتها دونما صعوبة ، والفرق بين إدراك العدم وعدم الإدراك كالفرق بين الأرض والسماء .
اعتراض سخيف :
انتهت محاضرة الشيخ فعاد إلى مجلسه ، ونهض الأسقف وقال: "إنَّ الشيخ لم يُبيِّن من فضائل دينه شيئًا ، وإنَّما وجَّهَ اعتراضًا إلى ديني". إنَّ الأسقف لم يستطع أن يعترض على ما اشتملت محاضرته من الحقائق ، وكان اعتراضه هذا غايةً في السخافة . أراد الشيخ أن ينهض ويردَّ عليه ، إلا أنه لم يأتِ دوره حتى قام الشيخ أحمد علي النكينوي أحد المحامين في محكمة "شاه جهانفور" وقال: "هذه هي فضائل ديني . وأما الأديان الأخرى ففيها معائب سردها الشيخ محمد قاسم في محاضرته، وأما الإسلام فليس فيه منها شيء".
يُلْقِي الأسقف "مولا دادخان" محاضرةً مثيرةً للغضب :
ثم قامَ بعض الأساقفة الهنود الذين أصَمُّو آذان الحضور في الحفل ، وكان منهم الأسقف "مولا دادخان" الذي ألقى محاضرةً فارغةً عن المعنى تَشِفُّ عن الإساءة إلى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، وكانت الإساءة حيلةً احتالها . ومن دأب الأساقفة أنّهم يسيؤون الأدب إلى نبيّ الإسلام في حوارهم تخلُّصًا من المسلمين . ولما كان المسلمون يتورعون عن مثل هذه الأمور ولايبادلون الإساءة بالإساءة؛ لأن سيدنا عيسى عليه السلام وحواريه والأنبياء السابقين محترمون ومعظمون لديهم كذلك ، فيضطرُّونَ إلى الردِّ عليهم باليد دون اللسان مما يتيح لهم الفرصة أن يُشَهِّروا بأنَّ المسلمين إذا لم يتمكنوا من الردِّ أو لم يتوصلوا إلى الإجابة بدؤوا يحاريون أو يلوذون بالفرار ، فينتصر الأساقفة .
على كلٍ فهم ينبذون الإنصاف والخوف من الله وراء ظهورهم ويسيؤون الأدب ؛ فقد حذا الأسقف مولا داد خان حذوهم ، وأسوق خلاصة ما قالَه في محاضرته ، ولايطاوع القلم واللسان لشناعة ما قاله فيها ، فقال: "ادّعى نبيُّ المسلمين النبوّة كما ادّعى سيِّد الحُوْلِ . وقال عيسى عليه السلام : الذين يأتون بعدي يكونون سُرَّاقًا وقطاع الطريق" وذلك يعني أنه لن يأتي بعده نبي.(/1)
يؤاخذ الشيخ السيد أبو المنصور الأسقفَ على إساءته:
ردَّ الشيخ السيد أبوالمنصور علي الأسقف قائلاً: "أسفًا عليك أيها الأسقف! لقد أمضيت طول عمرك في دراسة الإنجيل ، ولاعِلْمَ لك بما فيه. ليس فيه "الذين يأتون بعدي يكونون سُرّاقًا وقطاع الطريق" وإنما جاء فيه "الذين أتوا قبلي كانوا سُرَّاقًا وقطاعَ الطريق" فأصرَّ الأسقف على ما قاله. فقال الشيخ السيد أبوالمنصور: هَلُمَّ الإنجيل . فقاطع الأسقف "نولس" الحديث وقال: لقد أخطأ صاحبنا، والشيخ على الصواب . إلا أنَّ اللفظ العبري المترجَم إلى "بعد" مشترك بين معنيين: "قبل" و "بعد" كالمضارع . فرَدَّ السيد أبو المنصور قائلاً: إن كان اللفظ العبري مشتركاً بين معنيين فلا بأس. فترجمة اللفظ العبري المشترك إلى "قبل" تدل على أنَّ المراد به "قبل" لا "بعد" .
سُقِطَ الأسقف "مولا داد خان" في يده ، وأطرقَ رأسه خجَلاً ، وظلَّ صامتًا إلى نهاية الحوار. كما أنحى المسلمون والهندوس عليه بالملام ؛ فقد قام "أجوديا برساد" الهندوسي وأطالَ الكلام في الموضوع قائلاً : "لاينبغي الإساءة إلى الشخصيات المقدَّسة في أيِّ دين" فتكرر اعتذار الأسقف أنه لم يتعمّد صاحبنا الإساءة إلى إيِّ شخصٍ ، وكان لايضرّ المسلمين أن يُسَلِّموا ترجمة اللفظ إلى "بعد" وإنّما يضرُّنا أنفسنا ذلك ؛ لأنه حينئذ يصير الحواريون سُرّاقًا وقطاع الطريق أولاً ثم غيرهم .
على كلٍ فترجمة اللفظ إلى "قبل" أو "بعد" تُشَكِّل صعوبةً ومشكلةً للأساقفة ؛ لأنه يؤدِّي إلى أنكار نبوَّة الأنبياء السابقين في صورةٍ و إنكار رسالة الحواريين في صورة أخرى .
فلما آخذ الشيخ السيد أبو المنصور الأسقف المتقدِّم ذكره ، وصدَّقه الأسقف "نولس" فيما آخذه، وقد كان الأسقف يهدف إلى إبطال نبوّة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بالإنجيل ، جرى النِّقاش عن إثبات نبوّة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بالإنجيل ؛ فذكر الشيخ السيد أبو المنصور نبوءاتٍ عن نبوّة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وردت في التوراة ، ومنها أنَّ الله تعالى قال لسيدنا موسى عليه السلام : "أبعث نبيًا مثلك من إخوانك ، وألقي كلامي في فيه". ثم أضاف الشيخ قائلاً: "أنا أستطيع أن أُثْبِتَ المماثلة بين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وسيدنا موسى عليه السلام في أربعين خصلةً .
الأساقفة يُلْقُونَ كلماتٍ فارغةً :
لم يَجْرِ في هذا اليوم من الحوار بين المسلمين والنصارى إلا ما قدَّمته آنفًا . ومن الجدير بالذكر أنه لم يكن من بين النصارى من يكون أهلاً للحوار إلا الأسقفَ "نولس" . فلو قلت إن غيره من الأساقفة كانوا يلقون كلماتٍ فارغةً لكنت مصيبًا.
المسلمون ينتصرون :
ابتدأ الحوار في التاسعة ضحىً وانتهى في الثانية ظهرًا . ثم صلى علماء المسلمين الظهر وتغدَّوا ، وتبادلوا التهانئ فيمابينهم ، وشكروا الله على ذلك. وقد طار في المدينة أنه انتصر المسلمون ؛ فتدَفَّقَ الناس كالسيل في اليوم التالي .
وبالجملة قد أصبح ذلك حديث القوم ، فقال الشيخ محمد قاسم : تأكَّدت – ولله الحمد – أنه ليس في الأساقفة من نخشاه إلا أنَّ عنادهم وقلَّة إنصافهم يُحْزِنُنا .
علماء المسلمين يلقون خطبًا في المعرض :
ثم قال الشيخ محمد قاسم لعلماء المسلمين بأن يتفرقوا في المعرض ويلقوا خطبًا على عامة الناس ؛ فتفرَّق علماء المسلمين وألقوا خطبًا في حقانية الإسلام وإبطال المسيحية ، فما إن أمسى المساء حتى تبدَّل الوضع غير الوضع ، ولم يتشجَّع أحد من الأساقفة للردِّ عليهم . وغابوا كأنهم اختفوا في مغارة .
وقد كان الشيخ محمد قاسم أعدَّ كتابة(1) على عجَلٍ في حقانية الإسلام و كان أخذها معه ، كما ألقى الشيخ خطبةً في إبطال عقيدة التكفير عند النصارى ، فقال الشيخ : سجِّلوا خطبتي هذه ، فإن مسَّت الحاجة غدًا اقرؤا كتابتي وخطبتي في الحوار. ثم تشاوروا وصلُّوا العشاء وتعشَّوا ثم ناموا هادئين مطمئنين . ثم استيقظوا صباحًا مبكرا وصلُّوا الفجر. وكانوا كما قال الشاعر الأردي :
"إنَّ الناس ينصرفون إلى أعمالهم في الصباح الباكر ، وأما المحبّون فهم يُؤمِّمون وجوههم شطر منزل الحبيب" .
ثم أمر الشيخ علماء المسلمين بانصرافهم إلى مهمتهم ، فتفرَّقوا في المعرض وألقوا خطبًا في حقانية الإسلام ، فجزاهم عن جميع المسلمين خير الجزاء ، فيما يبدو أنَّ النفع بإلقاء الخطب كان أمرا موهومًا ، إلا أنَّ الحال قد تبدَّلت في هذا اليوم منذ ذلك الوقت .
استمرّ الإلقاء إلى التاسعة ضحىً ، وكان الأساقفة يتجولون في المعرض ، وكان عامة الناس يُعيِّرونهم قائلين : "مالكم لاتنطقون ؟ وقد كنتم تهدِّدوننا من قبل" . وكان الهندوس فرحين مسرورين كذلك .
كيفية الاجتماع الثاني يومَ الاثنين 8/ مايو 1876م :
المستمعون يزدحمون :(/2)
فما إن كانت الساعة التاسعة حتى ذهب المحاورون من المسلمين والمستمعون إلى الخيام ، وإذا الكراسي الموضوعة فيها حافلة بالجالسين ولم يبق إلا عدد من الكراسي خالية ، وهم قد سبقوا إليها شوقًا إلى استماع الحوار، وبعضهم كانوا يندفعون إلى الاجتماع اندفاعًا ، وبعضهم كانوا واقفين على الأقدام حول الخيام ، فحالَ رجال البوليس دون اندفاعهم . فنظراً إلى ازدحام الناس وكثرتهم أمر المشرفون على الاجتماع بالكراسي فجُلِبَتْ وصُفَّتْ متجاورةً ، مع هذا فكان كثير من الناس بين قِيَامٍ وجُلوس .
يتلَهف الناس شوقًا إلى استماع الحوار:
نصبت الخيام القائمة على الأعمدة الدقيقة ، فتوسَّعت ظلالها التي استظل بها الواقفون ، وكانت الكثرة الكاثرة من الناس واقفين خارجها حيث يصل الصوت لايبالون بالشمس وحرارتها. وكان فصل الصيف ، وكان الحر شديدًا ، وكان موقع الاجتماع في الصحراء بعيدًا عن المدينة ، لاتُظِلُّه إلا الخيام وأشجار الأنبج ، مع هذا فكان الزحام شديدًا، ولو كانت الترتيبات كاملةً لاغتصَّ المعرض بالجموع الحاشدة من الناس .
شروط الحوار :
فلما أخذ الحضور مجالِسَهم أعلَنَ الأسقف "نولس" – طبقًا لما اصطلحوا عليه – أنَّه تمَّ اختيار خمسة ممثِّلين من كلِّ دين ، ولايكون الإذن بإلقاء الكلمة والمحاضرة عامًا . وذلك لأنَّ كثيرا من النصارى والهندوس أصمُّوا الآذان وضيَّعوا الوقت دونما جدوى في الاجتماع السابق ، فكان الاجتماع ثقيلاً غير مُمْتِع ؛ فطلب علماء المسلمين من الأسقف "نولس" ألاّ يسمح كلَّ من هبَّ ودبَّ من الناس بالإلقاء ؛ لأنَّ ذلك لايُجْدِي نفعًا . والأولى أن يتمَّ اختيار عدد من الممثلين من كل دين. على هذا فتَمَّ اختيار خمسة ممثلين من كل دين.
الممثِّلون من الإسلام :
تمَّ اختيار الشيخ السيد أبو المنصور المعروف بالشيخ منصور علي ، والشيخ السيد أحمد علي ، والشيخ ميرزا موحد ممثلين من الإسلام ، وهؤلاء الثلاثة بارعون في فنّ المناظرة ، وإفحام الخصم . كما تمَّ اختيار اثنين من العلماء ، وهما الشيخ أحمد حسن الأمروهوي ، والشيخ محمد قاسم ، إلا أنَّ اسمه كُتِبَ لمصلحةٍ "الحافظ خورشيد حسين"(2) بدلاً من اسمه المعروف محمد قاسم .
الممثلون من المسيحية والهندوسية :
كما اخْتِيْرَ من النصارى الأسقف "نولس" وأربعة غيره ، وخمسة من الهندوس . بل طلب الهندوس أن يُخْتَار ممثلوهم من كل فرقةٍ من الديانة الهندوسية ففُعِلَ .
علماء المسلمين يطالبون الأسقف "نولس" بالإجابة :
فلما انتهى الأسقف من تغيير النظام في الاجتماع طالبه علماء المسلمين بالإجابة عما أوردوا عليه من الاعتراضات في الاجتماع بالأمس تتميمًا للبحث . فقال الأسقف: "لقد مضى الأمس بما فيه" فتبادل الفريقان الإصرار والإنكار، فحزِنَ على ذلك بعض علماء المسلمين وقالوا: "إن كان الأسقف على ماهو عليه من قلة الإنصاف فما ذا نرجو من حوار اليوم ، فأرادوا أن ينهضوا من الاجتماع. إلا أنَّ الشيخ محمد قاسم لم يوافقهم ، وقام وقالَ بصوت جهوري : اسمعوا أيها الحضور! قد بقي الإجابة في ذمة الأسقف عن الاعتراضات التي أوردناها بالأمس ، وكنا لانتوقع من عدل الأسقف وإنصافه أنه لايجيب عن اعتراضاتنا . فلما أبى كلَّ الإباء اضطررنا أن نصبر ونأذن ببدء الحوار وقال للشيخ "موتي ميان" أن يسجِّلَ ذلك .
* * *
(1) هي رسالته المعروفة بحجة الإسلام .
(2) كان الاسم التاريخي للشيخ محمد قاسم خورشيد حسين(/3)
محاوراتٌ في الدِّين
(محاضرات نخبة من العلماء وعلى رأسهم الإمام محمد قاسم النانوتوي في معرض
معرفة الذات الإلهية المنعقد 7/مايو 1876م في "تشاندافور"
بمديرية "شاه جهان فور" بولاية أترا براديش ، الهند)
(الحلقة 4)
تعريب : الأستاذ محمد ساجد القاسمي / أستاذ بالجامعة
يُتِمُّ الشيخ محاضرته التي كانت قد بقيت ناقصة:
لعلَّ بعض علماء المسلمين قالوا: لِيُتِمَّ الشيخ محمد قاسم محاضرته التي كانت قد بقيت ناقصةً بالأمس، ووافَقَهم الأسقف على ذلك قائلاً: "فليبدأ عُلماء المسلمين بالحوار اليوم" فأشار علماء المسلمين إلى الشيخ أن يبدأ على اسم الله وبركته، إلا أنه قبل أن يذهب إلى مخيّم الحوار تقدّمَ إليه القاضي "سرفراز علي" الشاهجهانفوري – الذي كان إقطاعيًا كبيرًا ثم ساءت أوضاعه في ثورة 1857م، وكان عالمًا جليلاً وبارعًا في فنّ المناظرة – وقرأ عليه مقالته التي أعدّها من قبلُ. لايحضرني الآن ماجاء فيها بشكل جيدٍ، أظنُّ أنه كان قدجاء فيها: "لما جاء سيدنا عيسى عليه السلام رسولاً ؛ كفر به اليهود، ثم جاء سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم رسولاً؛ فكفر به اليهود والنصارى جميعًا. لايحضرني أكثر من ذلك وا أسفاه! ولو حضرني لكان ممتعًا جدًا.
وبالجملة أنَّ علماء المسلمين قرؤوا هذه المقالة وتسامعوا، واتفقوا على أن تلقى هذه المقالة كمحاضرةٍ، فقال الشيخ محمد قاسم للقاضي: "تقدَّم واقرأ المقالة على الحضور" فتقدّمَ القاضي، فقال له الأسقف: "هل أنت من الممثلين الخمسة الذين تمَّ اختيارهم لإلقاء المحاضرة؟".
فقال القاضي: لا! فقال الأسقف: فلماذا تقدَّمت للإلقاء؟ فقال القاضي مشيرًا إلى الشيخ محمد قاسم: إنه مسموح بالإلقاء، وإنه يسمح لي به. فقال الأسقف: لايلقي إلا هو. فقام الشيخ محمد قاسم لإلقاء المحاضرة، فقال له الشيخ أحمد علي: "بيِّن فضائل دينك اليومَ ولا توجِّهْ اعتراضًا إلى أيّ دين".
التوحيد:
فتقدّمَ الشيخ محمد قاسم إلى المنصَّة، وقامَ حيث يقوم المحاضر، وحَمِدَ الله وأثنى عليه، ثمَّ تصدّى لموضوع التوحيد والرسالة. ولايحضرنِي جيدًا ما قال عن التوحيد والرسالة في هذا اليوم. وأظنُّ أنَّ حديث اليوم كان أقرب إلى ما قال بالأمس. إلا أنه قال: المسلمون يتمسكون بالتوحيد لحدِّ أنهم يرون محمدًا صلى الله عليه وسلم أفضل من الجميع بعد الله تعالى . ولا يجوِّزون القيام له واضعًا إحدى يديه على الأخرى الذي هو أدب من آداب العبادة .
هل تتوقف النبوة على الأعمال الصالحة أم على المعجزات؟:
ثم تحدَّث عن الاحتياج إلى النبوة والرسالة، وقالَ ما قاله بالأمس، وخلاصته: يجب أن ننظر من هو نبي ومن هو ليس بنبيٍّ، ومعرفة ذلك تتوقف على معرفة أساس النبوة ومبناها، وفيما يبدو أنَّ النبوَّةَ تتوقف إما على الأعمال الصالحة وإما على المعجزات. أما المعجزات فلا تتوقف النبوة عليها، لأنَّ ذلك يعني أن يظهر المدعي للنبوة المعجزات ثم يُشَرَّف بالنبوة، ويعلم الجميع أنه لاتُعْطى النبوةُ بعد الامتحان في المعجزات وإنما تظهر المعجزات على يده بعد ما يُشرَّف بالنبوة. أما الأعمال الصالحة فلا تتوقف النبوة عليها كذلك ؛ لأنّ العمل الصالح عبارة عن عملٍ يُرضي الله تعالى، وإنما لمعرفة أحكام الله تعالى نحتاج إلى النبوة، ومعرفة الأعمال الصالحة والقيام بها تتوقف على النبوة كذلك ، فلماذا تتوقف النبوة على الأعمال الصالحة؟.
الأخلاق الفاضلة :
وإذا نظرنا – سِوَى الأعمال والمعجزات – إلى الأخلاق الفاضلة، وجدنا أنها لاتتوقف على النبوة، وإنما يُجبَلُ عليها الإنسان، فإذا كان رجلٌ صاحب الأخلاق الفاضلة أي عاملاً بما يُرضي الله تعالى فكيف لاتلتفت إليه العناية الإلهية؟.
الفرق بين النبي وأفراد أمته :
والجدير بالذكر أنه كما أنَّ الشمس، والقمر، والكواكب ، والمرآة المصقولة وذرّات الأرض المتلالئة تتفاوت في النور فكذلك بنو آدم يتفاوتون في الأخلاق والفهم؛ فالذين هم بمنزلة الشمس والقمر والكواكب في النور فهم أنبياء، وأما الذين هم بمنزلة ذرات الأرض المتلالئة فهم أفراد أمتهم، مهما كانوا صالحين أولياء الله .
أخلاق الأنبياء أصيلة ، وأخلاق أمتهم تابعة :
ثم إنَّ أخلاق الأنبياء أصيلة ، وأخلاق أمتهم تابعة لها، كما أنَّ أنوار الشمس والقمر والكواكب أصيلة ، وأنوار المرآة والذرّات والأرض تابعة لها. فالذين أصلاء في الأخلاق فهم جُدراء بالجوائز والمكافآت؛ لأنهم إذا فاقوا غيرهم كانوا أكثر تقربًا إلى الله الذي هو أعلى رتبةً من كلِّ شيء. فهم يحظون بالتقرب الذي يجب أن يحظى به الأنبياء، ويستحقون خلافة الله؛ لأنَّ نيابة الملك وخلافته لايحظى بها إلا من كانوا مقربين إليه. وما النبوة إلا خلافة الله ، فكما أنّ أحكام من تحت السلطان من الحكام هي نفس أحكام السلطان فكذلك أحكام الأنبياء عليهم السلام هي نفس أحكام الله تعالى.
محمد صلى الله عليه وسلم يفوق الأنبياء في مكارم الأخلاق :(/1)
وجملة القول أنَّ أساس النبوة على كمال كرم الأخلاق، فلما نظرنا من هذه الناحية؛ وجدنا محمدًا صلى الله عليه وسلم يفوق النّاس جميعًا في مكارم الأخلاق ، وأكبر دليلٍ على كرم أخلاقه هو الجهاد في سبيل الله – الذي هو موضع اعتراضٍ كبير على الإسلام، مع أنه يُوجَد في الأديان الأخرى، وأنّه خير وسيلةٍ لتهذيب العالم ورفع الشرك والإلحاد والفتنة والفساد منه – الذي لم يكن سهلاً ميسورًا له إلا بالجيش الجرار. فكيف أمكن له إعداد الجيش الجرار الذي دَاخَ الروم والشّام والعراق وإيران ومصر؟. وفيما يبدو أنه يَتِمُّ إعداد الجيش بالمال أو الحكومة . أما المال فلم يكن محمد صلى الله عليه وسلم ثريًا ولا تاجرًا ولا إقطاعيًا استأجَرَ الجيش وغزا الغزوات، وأما الحكومة فلم يكن ملكاً ولا أميرًا ولاحاكماً اكتتب له رجل أو رجلان من كل بيت فتكَوَّن الجيش شأنَ الحكومات في الماضي، واستولى به على البلاد. لم يكن إعداد هذا الجيش إلا بكرم أخلاقه . تأتَّر إخوانه بأخلاقه الفاضلة بحيث أصبحوا يضحون له بنفسهم ونفيسهم وغاليهم ورخيصهم . ولم تكن هذه التضحية والتحمس ليوم أو يومين، وإنما قضوا أعمارهم مُتَحمسين ومُضَحِّيين له ، ففارقوا له أهلهم وأسرتهم وبلادهم، وقاتلوا أقاربهم وبني جلدتهم ؛ فقتلوهم أو قُتِلوا بأيديهم . ألم يكن ذلك بفضل أخلاقه ومحبته؟.
فقد استأسَرَ – بفضل أخلاقه – العرب العصاة العتاة بشكلٍ لم يعهده أحد أن يستأسر قومًا ألين طبعًا. فهل كانَ مثلَ أخلاقه أخلاق سيدنا آدم عليه السلام، أو سيدنا نوح عليه السلام، أو سيدنا إبراهيم عليه السلام، أو سيدنا موسى عليه السلام، أو سيد عيسى عليه السلام ؟.
كأنَّ على رؤوسهم الطير :
كان الشيخ يلقي محاضرته، وإذا النّاس كأنَّ على رؤوسهم الطير، وكانوا آذانًا مصغيةً، وعيونًا باكيةً، وإذا الأساقفةُ ساكتون لاحراكَ بهم، فلما أبلَغَ الأسقف الشيخَ بأنَّ دوره قد انتهى، بقي في نفوس السامعين حسرة لم تُقْضى، فقال الشيخ محمد قاسم: أيها الحضور! أنا معذور لقلَّة الوقت، وإلا استمررت في الإلقاء حتى المساء، وما قُلْتُ أنه غيض من فيض. فقال الشيخ موتي ميان: "اسمعوا أيها الناس، ما قال هو غيض من فيض".
يستدل الأسقف "نولس" على التثليث مع التوحيد بدلائل سخيفة:
عاد الشيخ محمد قاسم إلى مجلسه، ثم قام الأسقف "نولس" وقال: "إنَّ عقيدة التوحيد عند المسلمين أمر محمود، وليتهم اعتقدوا التثليث مع التوحيد" ثمَّ استدل على إثبات التثليث بنصٍ من كتاب في العهد القديم، وقال: "إنَّ هذا الكتاب يَنُصُّ على ثبوت التثليث" ثمَّ استدل بدلائل عقلية، وزعَمَ أنه لايمكن فهم التوحيد بدون التثليث، فمثلاً لفظة الواحد "1" يشتمل على الطول والعرض والعمق. فهذه اللفظة واحدة لايمكن وجودها بدون هذه الثلاثة. وروح الإنسان، فيها الهوى، والخيال، وشيء آخر نَسِيْتُه، فالروح واحدة، وهي لاتتحقق إلا بدون هذه الثلاثة. والشجر واحد، وفيه الأصل، والغصون، والأوراق. فهو لايكون بدون هذه الثلاثة .
الأسقف يُوَجِّهُ اعتراضًا على عقيدة القدر في الإسلام :
تحدَّث الأسقفُ عن ثبوت التثليث بأحاديث مضحكة، ثمَّ تعرَّضَ لعقيدة القدر عند المسلمين، وقال: إنَّ في الإسلام نقيصةً أخرى ، وهي عقيدة القدر، واستدل بالقرآن ؛ حيث قال تعالى: "هُوَالَّذِيْ خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَّمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ". وذلك يعني أنَّ الله تعالى خلَقَ الناس فيكون بعضهم مؤمنين وبعضهم كافرين .
يفتح الشيخ محمد قاسم النانوتوي على الأسقف :
فقال الشيخ محمد قاسم للأسقف أثناء حديثه: أريد أن أقول شيئًا، ثم تحدث أنت، "قد وجّهت إليَّ اعتراضًا بالأمس قائلاً: "إنّك لم تُبيِّن فضائل دينك، واعترضتَ على ديني" وقد سلكت اليوم نفس المسلك، ثم إن تعرُّضك لعقيدة القدر يدل على فشلك ومغلوبيتك. وآخر حيلة يحتالها الأساقفة أنهم إذا انسَدَّ في وجوههم المسالك، تعرَّضوا لقضية القدر زاعمين أن المسلمين لايحيرون جوابًا. غير أني أسمح لك بطرح الاعتراض، وأنا أجيب إن شاء الله، ثم قال، تحدَّث .
الأسقف "نولس" ينهي حديثه الباقي :
تحدَّث الأسقف عن الموضوع قائلاً: "فإن سلَّمنا بالقدر كان العبد بريئًا، والله تعالى ظالماً ؛ لأنه كتَبَ لكثيرٍ من الناس النار قبل مدة طويلة، وعملوا هم وفق ما كتب، وكان له أن لايخرجهم من النّار ولا يُدْخِلَهم فيها، وإنما كان عليه أن يتركهم وشأنهم. على أنَّ النّاس كلهم سواسية كأسنان المشط، فكما أنهم سواسية في اليد والرجل والعين والأنف والأذن فكذلك أنهم سواسية في الأرواح. والكفر والإيمان طارئان عليهم، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر.
لطيفة :
عندما كان الأسقف يقول: إن الناس كلهم سواسية في العين والأذن والأنف قالَ الشيخ نعمان: يا أيها الأسقف ! إلا أنت وأنا؛ لأننا أصلعان. أو قال مثل ذلك رجلٌ من المسيحيين . فتبسَّم الأسقف، وأغرق في الضحك المعلم "جعل" ومن حوله من المسيحيين .(/2)
فَشِلَت الحيلة :
تحدَّثَ الأسقف وأطنبَ حتى انقضت مدة خمس عشرة دقيقةً، فزعم أنه لم يكمل حديثه، والتفت إلى الشيخ محمد قاسم قائلاً: "لوتفضَّلتم عليّ ببعض الوقت لتحدثتُ بمزيد من الحديث" لم يرض المسلمون بأن يوسَّع له في المدة، لأنه لم يوسع لهم فكيف يوسعون له؟ وخير أن يكون حديثه ناقصًا، إلا أنَّ الشيخ محمد قاسم فكَّر بأنه إن وسَّع له في المدة فهو يوسع له كذلك، ولا يكون له متسع بأن يقول لوكان لي سعة في الوقت لأشبعت الاعتراض بحثًا ولكشفت اللثام عن الحقيقة. فقال الشيخ: يا أيها الأسقف لسنا مثلكَ، فنحن نوسع لك، فلك أن تتحدث مكان خمسة عشر أو عشرين أو خمسة وعشرين أو ثلاثين دقيقةً، وتتحدث ما بدا لك، وأنا أقوم بالإجابة عن جميع ما توجه إلينا من الاعتراضات .(/3)
محاوراتٌ في الدِّين2
(محاضرات نخبة من العلماء وعلى رأسهم الإمام محمد قاسم النانوتوي في معرض
معرفة الذات الإلهية المنعقد 7/مايو 1876م في "تشاندافور"
بمديرية "شاه جهان فور" بولاية أترا براديش ، الهند)
(الحلقة 2)
تعريب : الأستاذ محمد ساجد القاسمي / أستاذ بالجامعة
محاضرة الشيخ محمد قاسم النانوتوي :
ثم جاء دور علماء المسلمين ، فوسَّدوا مسؤولية المحاضرة إلى الشيخ محمد قاسم . لم يرد الشيخ – لأسباب – أن يلقي محاضرته ، إلا أنهم لما أصرُّوا عليه قامَ وحمد الله وأثنى عليه ، وأبدى تواضعه وعجزه ثم تشهَّد شأنَ الخطباء المسلمين وألقى محاضرته .
حقانيةُ دينٍ تتوقف على حقانية معتقداته لا على أحكامه :
وخلاصة ما قال في محاضرته أنَّ حقانية دين وبطلانه تتوقف على حقانية معتقداته وبطلانها ، ولا دخلَ للأحكام في حقانيته وبطلانه ؛ لأنَّ الحاكم – نظرا إلى حكومته – حُرٌّ في إصدار كل نوع من الأحكام ، ولولم يكن حرا في ذلك أي إن لم يستطع أن يصدر كل نوع من الأحكام بالنسبة إلى رعيته ومحكوميه لكان محكومًا لاحاكما . وأما تخصيص الأحكام السيئة فنظرًا إلى العدل والنصفة والرأْفة والرحمة والتؤدة والحكومة ، لا إلى الحكومة.
أساس المعبودية :
إنَّ أساس المعبودية على الحكومة فحسب ، والعبادة عبارة عن الطاعة والخضوع القلبي ، إذا اعتقد المطيع والخاضع صاحبَه – الذي يطيعه ويخضع له – حُرَّ التصرف في أوسع معناه واعتقد غيره مكتوف اليد عاجزًا . وهذه هي الحكومة ؛ فأساس معبودية المعبود الحقيقي على الحكومة العالية التي يتمتع بها والتي يُوْصَفُ بها أحكم الحاكمين ، إذًا فتحقيق حكمٍ من أحكامه أهو صحيح أم خاطِئ ينافي إخلاص العبادة ، وإن لم يكن حكم من أحكامه يضادُّ الرأفة والحكمة والصفات التي أشرنا إليها من قبل .
إن كان لابدَّ من تحقيق الحكم فالتحقيق بأنَّ هذا الحكم هو حكم الله تعالى أم لا ؟ أي التحقيق بأن الذي ادَّعى النبوة والرسالة والذي وصل إلينا عن طريقه هذا الحكم أهو كريم الأخلاق وجميل الصفات وذو معجزاتٍ خارقة أم لا ؟ ثم إننا إن لم نزره عندما بلَّغ رسالة الله وأحكامه فلابدَّ من تحقيق ذلك الطريق الذي وصل إلينا عنه أحكامه أهو طريق موثوق به أم لا ؟.
على أنَّ الأحكام كثيرة ، وتحقيق كل حكم يتطلب أمدًا طويلاً ، وذلك لايمكن في غضون خمس عشرة دقيقة ، فلو حصرنا حقانية دينٍ على المعتقدات لكان الأمر أسهل ؛ لأنَّ العقيدة نوع من الخبر فإن كانت صحيحةً فذلك يعني أنَّ الخبر مطابق للواقع ، وإن كانت باطلة فذلك يعني أنَّ الخبر كاذب ، فإن سلَّمنا بحكومة الله وكونه أحكم الحاكمين وما تستلزمه حكومته لزم أن نُسَلِّمَ بأنه معبود ، وإلا لا يُسَلَّمُ بكونه معبودًا ، فيطيعه النَّاس . ثم إنَّ المعتقدات الضرورية قليلة معدودة على الأصابع لايتطلب تحقيقها صعوبة ولا مدة طويلة .
الإسلام أفضل الأديان :
فإذا تأملنا في الأديان من الناحية العقدية وجدنا الإسلام أفضلها وأحسنها ؛ فأول عقيدة يعتقدها المسلمون ويبتني عليها أساس الإسلام هي "لا إله إلا الله محمد رسول الله" .
التوحيد في كل دين من الأديان :
فالتوحيد التي تُعَبِّر عنه الفقرة الأولى من الكلمة لايجحد به أتباع دينٍ من الأديان ، فمعظم الجاحدين بالتوحيد هم المشركون ، وهم ثلاث فرق : الفرقة الأولى عرب الجاهلية ، والفرقة الثانية: الهندوس في بلاد الهند ، والفرقة الثالثة : النصارى. أما عرب الجاهلية فهم على إشراكهم بالله وعبادتهم للآلهة كانوا يرون الله خالق الأرض والسموات ، فقد قال القرآن عن شأنهم : "ولَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماوَاْتِ والأَرْضَ لَيَقُوْلُنَّ اللهُ" .
أما الهندوس فهم على كونهم عُبَّادَ الرسل والآلهة يرون الخالق والمحيي واحدًا . وأما النصارى فهم – وإن كانوا أشدَّ إشراكاً بالله لأن المشركين يشركون بالله في الصفات وأما النصارى فهم يشركون به في الذات – يقولون بالتوحيد بأنّ الآلهة في الحقيقة ثلاثة عندهم فهم واحد في الحقيقة.
خلاصة القول أنهم اعتقدوا أمرًا محالاً وهو الوحدة الحقيقية والكثرة الحقيقية . ومع ذلك كله قالوا بالتوحيد . فعُلِمَ أنَّ التوحيد لامحيد عنه لدين من الأديان . فلما كان أساس الأسس في كل دين من الأديان هو التوحيد فما خالفَ التوحيد كان بدوره باطلاً ، وهو الإشراك بالله وعبادة الآلهة .
التوحيد في ضوء العقل :
على أنَّ العقل السليم يَدُلُّ على أنَّ المعبود الحقيقي واحد ؛ ذلك أنَّ العالم بأسره يشمله الوجود، فكلمة "الموجود" تطلق على كل شيء ، ويُسَمَّى وجود كل شيء وجودًا لاغير .(/1)
ثم إنَّ معظم موجودات العالم حادثة لاقديمة ، لم تكن موجودةً في زمن من الأزمان ثم وُجِدَتْ ، ثم تنعدم ؛ فعُلِمَ أنَّ وجود الأشياء كحرارة الماء والنور المنتشر على الأرض ، أي إنَّ الماء كان باردًا والأرض كانت مظلمة ، ثم صار الماء حارًا والأرض متنوِّرة ، ثم يصير الماء باردًا والأرض مظلمة . فكما أنَّ كل واحد من الناس يعرف من مجيئ الحرارة والنور وذهابهما أنهما ليس للماء والأرض من صنع ذاتهما ، وإنما هما مستعاران ، فتوصلنا من ذلك إلى النار والشمس . فكذلك يُعْرَفُ من مجيئ وجود الأشياء الحادثة وذهابه أن وجودها ليس من صنع ذاتها ، وإنما هو مستعار من الذي هو له من صنع ذاته لامستعار له .
أما الموجودات التي تدوم على حالٍ واحدةٍ والتي لم يُشَاهِد أحد من الناس عدمها كالأرض، والسماء ، والشمس، والقمر والكواكب. فيما يبدو أنه ليس لها معطٍ للوجود . فإذا أمعنا النظر وجدنا أنها حادثة كذلك ، وذلك أنَّ هذه الأشياء تشترك في الوجود وتتمايز بالحقائق ، ولولا ذلك لما أمكن لتمييز ؛ فلزِم الاعتراف بأن وجود هذه الأشياء شيء وحقائقها شيء آخر، فكما أنّ اجتماع شيئين ممكن فكذلك افتراقهما ممكن ، فلما أمكن الافتراق لزِمَ القول بأن وجودها مستعار كذلك .
ما هو اللّه ؟ :
ولما كان الشيءُ المُعَارُ يجب أن يكون مُعِيْرُه من يملكه بالذات وجَبَ أن يكون للوجودٍ المُعَارِ مُعِيْرٌ، أي وجَبَ أن يكون للوجود موصوف بالوجود بالذات ، وذلك هو الله الصمد الغني الذي يحتاج إليه الناس وهو لايحتاج إليهم .
وحدانية اللّه تعالى :
ثم إنَّ هذا النوع من الموجود واحد لاغير ، وذلك أنه لما اعتبرنا الوجود وحدةً – كما تقدَّم – كان الموجود الأصلي – الذي له الوجود من صنع ذاته – واحدا .
على أنه ليس شيء أعمَّ من الوجود ، فلزِمَ الاعتراف بأنَّ الوجود شيء لا متناهٍ ، فإن كان متناهيًا وجب القول بشيء فوقه ، وكان متناهيًا بالنسبة إليه وكان هو أعمَّ منه .
ولما كان الوجود متناهيًا فذلك يعني أنَّ الوجود يحيط بجميع مواضعه فإن كان هناك وجود آخر فأين موضعه ؟ وليس من الممكن ان يتحدا وينضما و يصيرا شديدين شدةَ النور المشَعّ من مصباحين ؛ لأنه ليس شيء أكثر اتصافًا بالصفة من الموصوف الأصلي ، وليست صفة أشدّ وأزيد من الصفة الأصلية لاسيما الوجود الأصلي ؛ لأنه ليس فوقه مرتبة ؛ ولذلك كان لا متناهيًا ، وإلا كان متناهيًا ، أما صيرورته أزيد وأشد فنهاية كذلك .
إنَّ الشرك لظلمٌ عظيم :
وجملة القول أنه وجب الاعتراف بوحدانية الله تعالى بالدليل العقلي ، ولما دلَّ الدليل العقلي والنقلي على أنَّ الله واحد لاشريك له ، كانَ عبادة غيره ظلمًا عظيمًا ، لأنه لايستحق العبادة إلا الله .
وبيان هذا الإجمال أنه لما كان الوجود يملكه الله تعالى بالذات كان إعطاء الوجود وسلبه منه ، فكما أنَّ الشمس تعطي نورها الأرض وتسلبه إياها فكذلك الله تعالى يعطي الوجود ويسلبه ، فوجود كل شيء : ذاته وصفاته كان منه ، وعدمه : سلب الوجود كان منه كذلك .
عاملان أساسيان للطاعة :
ثم إنَّ الطاعة لها عاملان أحدهما : الأمل في النفع وثانيهما : الخوف من الضرر . فالموظف يخدم سيده أملاً في راتبه ، والرعية تطيع حاكمها أو المظلوم يخضع لظالمه خوفًا من ضرره . ولما كان الله تعالى يملك العطاء والسلب والنفع والضرر فمن يُطَاعُ غيره ولماذا ؟ ومن يملك النفع والضرر غيره ؟ وإنما يملك النفع والضرر من له الوجود من صنع ذاته . وأما طاعة ممثليه ومبلغي أحكامه فطاعته هو، وهم رسله وإنما الأحكام أحكام الله .
لن يكون إنسان الهاً :
إذًا فعبادة غير الله كما يعبد الهندوس والنصارى تعارض العقل والنقل . ولايستحق العبادة إلا الله ، فاعتقاد سيدنا عيسى عليه السلام والسيد راما والسيد كرشنا آلهة مما يعارض العقل كذلك من حيث أنهم محتاجون إلى الطعام والشراب ومكرهون بالدواعي الطبيعية من البول والبراز والمرض والصحة . وإنما الاله هو الغني الصمد . والذي يحتاج ويُكْرَه بمثل هذه الأشياء من البول والبراز لن يكون الهاً .
اعتراض الأسقف "نولس" :
على هذا فقامَ الأسقف "نولس" أثناء محاضرة الشيخ وقال له : "لاتقل كلمة البول والبراز" فقال له الشيخ : لعلك شعرت بالإهانة إلى سيدنا عيسى عليه السلام" لوكانت الكلمة توحي إلى الإهانة لما قلت ؛ لأنَّ إهانة سيدنا عيسى عليه السلام عندنا كإهانة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم توجب الكفر والردة .
محاضرة الشيخ الباقية :
جملة القول أنَّ الشيخ قال : من كان محتاجًا ومكرهًا هذا الإكراهَ فكيف ألوهيته ؟ فقول النصارى بأنَّ الله ثلاثة في واحد باطل بيّنُ البطلان ، لايستسيغه عقل عاقلٍ ، حتى النصارى هم الآخرون يذهبون من الوجهة العقلية مذهبَ الآخرين ، فيقولون : إنَّ التثليث سر من أسرار الله لاتدركه عقولنا الناقصة .
الحاجة إلى الرسالة :(/2)
فلما علمنا أنه لايستحق العبادة إلا الله فاعلموا أنَّ العبادة عبارة عن الطاعة ، والطاعة هي العمل بما يرضي غيره ، وأما رضا الغير وعدم رضاه فلا يمكن معرفتهما إلا أن يُخْبِرَبهما ، فإن لم يُخْبِرْبهما فليس إلى معرفتهما من سبيل . ونحن أولو أجسامٍ وذواتٍ كثيفة لايمكن لأحد أن يعرف ما في ضمائرنا وما نرضاه وما لا نرضاه مالم نحبره ، مهما وضعنا الصدر على الصدر أو كشفنا عن القلب ، فكيف يمكن لأحد أن يعرف ما يرضاه الله اللطيف الخبير وما لا يرضاه .
فطاعة الله تتطلب أن يخبر هو بأحكامه ، والعقل الضعيف لايدركها ؛ فإن عرف واحد أو إثنان من الآلاف المؤلفة من الناس حُسْنَ أو قُبْحَ أمرٍ أو أمرين من أوامره فذلك لايُغْني شيئًا ؛ لأنه ليس يُسْتَبْعَد من الله وهو الحاكم المطلق أن يتقيَّد في إصدار أوامره بالحسن والقبح ، فإن تقيَّد بشيء لأجل الاضطرار كان محكومًا لاحاكمًا ، والمحكوم لن يكون الها . فإن لم يكن مضطرًا ومكرهًا كان حرَّ التصرف في تغيير أحكامه وأوامره ، فلا يكون متقيدًا بالحسن والقبح .
فلا بدَّ من انتظار أمر من الله في باب الأحكام، إلا أنَّ ملوك الدنيا لايبلِّغون بأنفسهم بأحكامهم كلَّ واحد من النّاس ، فالله تعالى الذي هو أحكم الحاكمين والذي تتضاءل دون حكومته حكومات ملوك الدنيا كيف يبلِّغ أحكامه كلَّ من هبَّ ودبَّ من الناس ؟ فكما أنَّ ملوك الدنيا يستخدمون رجالهم ومقربيهم لتبليغ أحكامهم فكذلك الله تعالى يُبلِّغ أحكامه عن طريق رسله ومقربيه .
التقرب إلى اللّه :
وكما أنَّ المقربين إلى ملوك الدنيا هم الذين يُرضُوْنهم وينصحونهم ولايعصون لهم أمرا ، وإلا لماكانوا مقربين ، وإنما كانوا مغضوبًا عليهم ، كذلك المقربون إلى الله يطيعونه كل الطاعة ولايعصون له أمرًا .
الأنبياء لايُعْزَلون عن مناصبهم :
إنما الفرق بين الله وبين ملوك الدنيا أنهم قد يخطئون في معرفة الناصح من المنافق والمطيع من العاصي ؛ فيولون المنصبَ أحيانًا ويعزلون عنه أحيانًا أخرى ، ويرحمون مرة ويغضبون أخرى . والله تعالى وهو العليم الخبير لايخطئ في المعرفة وإلا لزِم القول – إيضاحًا للحقيقة – بأنَّ علمه كنور القمر والكواكب لايُرى به – لضآلته – الأشياء والفروق الدقيقة ، ومن كان وجوده كاملاً ليست له صفةٌ ناقصةٌ ، وإلا كان وجوده ناقصًا ، ولما كان علمه كاملا وكان لايمكن الخطأ في معرفة المطيع من العاصي فمن جعلهم من مقربيه كان طرده إياهم من الجناب وعزلهم من المناصب مضادًا للعقل .
عصمة الأنبياء :
وخلاصة القول أن الأنبياء ليس فيهم صفة لاترضاها الله ، فكانوا مرضيّ الأخلاق جميل الصفات ، فلزِمَ القول بعصمتهم لأنهم لما أعوزتهم الصفات السيئة وتحلَّوا بالقوى والصفات الجميلة فلا تصدر عنهم الأعمال السيئة ؛ لأنّ صدور كل عمل يقتضي قوةً وصفةً ، فالرؤية تقتضي القوة الباصرة ، والسمع يقتضي القوة السامعة فكذلك الأعمال الصالحة تتطلب الصفة الجميلة ، والأعمال السيئة تتطلب الصفة السيئة ، فلما كانوا مبرَّئين من الصفات السيئة كانوا معصومين عن الأعمال السيئة.
شفاعة الأنبياء :
فلما كانوا طوع أمر الله ومحكومين له فلايكون لهم امتيازات وسلطات بأن يغفروا أحدًا ويعذبوا آخر؛ فلو تمتعوا بهذه الامتيازات كانوا حاكمين لامحكومين ، نعم يمكن لهم أن يدعوا لأحد أو يدعوا عليه أو يقولوا خيرا في شأن أحد أو يقولوا كلمة سيئة في شأن آخر، إلا أنهم لما كانوا مقدسين ومعصومين ، يبذلون النصح لناصحيهم ولا يضمرون لهم العدواة والنفاق، ويقولون خيرًا لا كلمة سيئة في شأنهم ، وهذا ما يُسَمَّى بالشفاعة .
عقيدة التكفير عند النصارى :
وجملة القول أنَّ شفاعة الرسل عليهم السلام أمر ممكن ، وأما تكفير سيدنا عيسى عليه السلام عن أمته فلايمكن ، أي ما يعتقده النصارى من أن عيسى عليه السلام لُعِنَ عن أمته وعُذِّبَ في جهنم ثلاثة أيام عوضًا عنهم يعارض العقل كلَّ المعارضة؛ لأنَّ لكل شيء سببًا : ففي المحبوب سبب للمحبة، وفي العدو سبب للعداوة ، وفي المرحوم سبب للرحمة، وفي الملعون سبب للعنة . وليس من الممكن أن يكون رجل حسن الوجه ويُحَبَّ غيره، ويطيع رجل ويُرْحَم آخر، وأن يكون رجل قبيحَ المنظر ويُكْرَه من كان قسيمًا وسيمًا ، ويعصي رجل ويغضب على من كان بارًا مطيعًا ؛ فنحن المسلمين نعتقد أنّه لاتزر وازرة وزر أخرى .
* * *(/3)
محاولة جادة لفهم العدو 1-5
بعد أن فشلنا في تحكيم شرع الله بين أظهرنا ، كان طبيعياً أن يطمع بنا الأعداء ، ويتداعوا علينا ، كما تتداعى الأكلة على قصتها ، فالظلم والاضطهاد والغاء الآخر ، واتباع الأعداء وطرح النظريات المتخلفة كبديل عن الإسلام ، كل ذلك شكل أرضية خصبة لقبول الاحتلال والإذلال . ولقد قصرنا في فهم الواقع ومتطلبات العصر وما زلنا نفتقد إلى نظريات واضحة لإدارة الحضارة المعاصرة التي تدين لنا بما هي فيه من رخاء ، ولكن الإشكال في أن نستخرج من كنوز حضارتنا ما ينفع العصر في جهد يحثي جاد.
لقد انتشر بيننا المؤمركون وأصحاب الأفكار الغربية فداخوا وأضلوا وقادو الأمة من فشل إلى آخر ، ولما أدرك الشارع المسلم عقم هذه الأفكار كانوا قد استولوا على مقدرات الأمة فزجوا بالناس في السجون واغتالوا فيهم الإبداع والإحساس بكرامة الإنسان وعندما زاد الوعي لدرجة أصبحت تهدد به الشعوب مصالح الغرب المحروس من هؤلاء العلمانيين التائهين شعروا بأنهم غير قادرين على حماية مصالحهم فبدأوا بإزالتهم وتغيير خريطة المنطقة بحجة تحرير الجماهير وهكذا ما زلنا ندور في دائرة مفرغة حتى نعي ما نريد وفق ما أراد رب العزة والجلالة ونبدأ بالتطبيق حينئذ فقط ستكون قد بدأنا المسير في الاتجاه الصحيح.
وفي محاولة لفهم الواقع وتحليل التاريخ الذي أدى إلى هذا الواقع توجهنا إلى نخبة من مفكري وعلماء الأمة ليسهموا عبر صفحاتها في توضيح الأمور وتعليل الحدث ونصيحة الأمة.
الدكتورة سهيلة زين العابدين :
الكاتبة والداعية الدكتورة سهيلة زين العابدين فقد كتبت لنا عن علاقة اليهود باليمين المسيحي وسيطرة اليهود على القرار الأمريكي فقالت : يرجع عداء الغرب المسيحي للإسلام إلى بدء ظهوره ، وقد كان لليهود دور كبير في بذر بذور هذا العداء ، وإشعال فتيله في الحروب الصليبية وفي إسقاط الخلافة العثمانية ، لقد جاءت أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001م لتأجيج العدوان على الإسلام للقضاء على الإسلام ضمن مخطط تقويض الأديان كما جاء نصه في البروتوكول الرابع عشر : (عندما نصبح حكاماً ، سنعتبر وجود أية ديانة باستثناء ديانتنا أمراً غير مرغوب فيه ، معلنين وجود إله واحد ، يرتبط به مصيرنا بوصفنا شعب الله المختار الذي جعل من مصيرنا شيئاً مرتبطاً بمصير العالم ، وعلينا لهذا السبب أن ندمر جميع الديانات الأخرى.
إن اليهود الصهاينة همالذين خططوا لاحتلال العراق ، وتغيير خريطة المنطقة . قد يقول قائل : كيف يستطيع اليهود تسيير الغرب المسيحي ضد الإسلام وفق مصالحهم والقيام بحروب من أجل تحقيق أهداف اليهود ومخططاتهم ؟
يجيب عن هذا السؤال المؤرخ البريطاني (أرنولد توينبي) في تحليله للشخصية اليهودية ، ومدى سيطرة الفكر اليهودي على الإنسان المسيحي ، ويوضح هذا في كتابه (مشكلة اليهودية العالمية) فيقول : (وهم يعتبرون غيرهم أقل منهم منزلة ، وأنهم الشعب المختار ، أما شعوب العالم فهي في مركز منحط يطلقون على أفرادها كلمة (الأميين) وهم بتعبير الشاعر البريطاني كيلينج Kippling سلالات دنيا لا شريعة لها) .
ثم يقول : ( وتقبلت الكنيسة المسيحية دون مناقشة تفسير اليهود لتاريخهم كما ورد في التوراة ، بما تضمه بين طياتها من المطاعن ضد الشعوب التي احتكوا بها كالفينيقيين ، والفلسطينيين ، والآرمويين ، والموابين ، والمعمورين ، والدمشقيين ، وانفرد اليهود في الميدان بإقدامهم على رفع سجل تاريخهم إلى منزلة التقديس ، ونجاحهم نجاحاً لا يبارى في إيهام مئات الملايين من البشر على مدى الأحقاب ، ومن الناحية الأخرى لا يوجد لأعداء اليهود القدامى من ينهض للدفاع عن قضيتهم إلا أصوات العلماء والباحثين الخافتة ، وتعتبر المذاهب المسيحية على اختلافها التاريخ اليهودي تاريخاً مقدساً للمسيح ، ومهما يكن نصيب الفرد المسيحي من الاستفادة الفكرية ، ومقدار تحرره الذهني ، فيصعب عليه بمكان أن يتخلص من التراث اليهودي في المسيحية ، لأنه كامن في شعوره الباطني ، ويوجه مسار تفكيره ، وبالتالي فإذا كانت الكشوف الأثرية تهدم ادعاءات اليهود ، وتلقي أضواء صادقة على المجتمعات الأخرى ، فما برحت جمهرة المسيحيين تأخذ التاريخ اليهودي كما ورد في التوراة قضية مسلماً بها).
فاليهود مسيطرون على العقلية المسيحية دينياً ، كما هم مسيطرون عليها سياسياً واقتصادياً وإعلاميا ، ويكفي أنهم قاموا بتحريف الديانة المسيحية بعدما حولوها من ديانة خاصة ببني إسرائيل إلى ديانة عامة ، وكلام المسيح عليه السلام واضح بهذا الصدد في إنجيل متى الإصحاح 15 آية 24 ( لم أرسل إلا لخراف بني إسرائيل الضالة) كما أن عقيدة التثليث لم توجد أصلاً في المسيحية القائمة على عقيدة التوحيد وإنما أوجدها بولس ( شاؤول اليهودي).(/1)
والأناجيل الأربعة والمعتمدة عند المسيحيين ( مرقص ، يوحنا ، ومتى ، ولوقا) وأيضا إنجيل برنابا تقر بعقيدة التوحيد ، وأن عيسى عليه السلام عبد الله ورسوله ، وليس إلهاً ولا ابناً للآلهة وأنه رسول بني إسرائيل فقط ، فقد روى مرقص على لسان عيس عليه السلام في الإصحاح الاثنى عشر الآيتين 30 ، 31 ( الرب إلهنا إله واحد وليس آخر سواه) ، ويروي متى عن عيسى عليه السلام قوله : ( إن أباكم واحد الذي في السماوات) إصحاح 32 آية 8 ، وجاء في إنجيل يوحنا أن المسيح عليه السلام قال في دعائه : ( إن الحياة الدائمة إنما توجب للناس أن يشهدوا أنك أنت الله الواحد الحق ، وأنك أرسلت اليسوع المسيح) ، وجاء في أنجيل لوقا (أن عيسى رسول الله وليس أكثر من رسول ، وقد خرج نبي عظيم).
وعلينا أن نلاحظ أن ما يكل هارت يعتبر بولس من مؤسسي المسيحية ، فقد قسم فضل تأسيس المسيحية بين كل من القديس بولس وبين عيسى عليه السلام ، ويرجع الفضل الأكبر لبولس ، بل يعتبره المؤسس الحقيقي للمسيحية وليس عيسى عليه السلام ، ويرى أنه يتفوق بأنه كتب أناجيل أكثر مما كتب أي من الحواريين ، بينما لم يكتب عيسى كلمة واحدة ، ويشير إلى أن بولس يهودي الأصل دخل المسيحية لتدميرها.
هذا ولقد طرحت عقيدة التثليث التي جاء بها بولس (اليهودي الأصل) في المجامع الكنسية واستقر الأمر عليها بعد مجمع نيقيا الذي عقد في عام 325م ، وكان المسيحيون قبله مختلفون في هذه العقيدة ، فمنهم من كان يؤمن بالتوحيد ويدعو إليه ، وينكر ألوهية المسيح وعقيدة التثليث ، ويشن الحرب على بولس وأتباعه ، ويتهمه بأنه أفسد الديانة المسيحية بعد أن عجز عن القضاء عليها بالسيف والسلطان فدخل في المسيحية وأخرجها من التوحيد إلى الوثنية.
لقد دار نقاش طويل حول الأقانيم الثلاثة ، وقد أصدر سبعة من علماء اللاهوت البريطانيين كتاباً عام 1977 م ، تحت عنوان the myth of god incarenate وترجمته( أسطورة التجسيد الإلهي ) والمقصود بها أسطورة تجسيد الإله في السيد المسيح ، وهي الدعوة التي تستند إليها مسيحية الغرب في دعوى البنوة والتثليث ، وأجمع هؤلاء العلماء أن دعوى تجسيد الله سبحانه وتعالى في جسد المسيح دعوى غير حقيقية وباطلة ولا يسندها شيء من المنطق ، بل لا تعدو أن تكون أسطورة مقحومة على الفكر المسيحي مأخوذة من الفكر اليهودي والتراث الوثني الإغريقي.
مما تقدم يتضح لنا الخلفية التاريخية والعقدية التي ينطلق منها الغرب لمحاربة الإسلام ، الأمر الذي يبين لنا البعد العقدي في العلاقة بين اليهود والنصارى في الحرب المعلنة ضد الإسلام.
حركة الاستشراق بداية العدوان :
لقد عمدت البابوية إلى إنشاء حركة الاستشراق منذ انعقاد مجمع فينا الكنسي (1311 – 1312م) ؛ وذلك نزولاً على قرار البابا إكليمنص الخامس (16) ، إذ أوصى بتأسيس كراسي الأستاذية للعربية واليونانية والعبرية والسريانية في جامعات باريس وأكسفورد ، وبولونيا وغيرها.
ويرى ايرنست باركرE. Barker أن اجتياز المسيحية اللاتينية ما وراء البحار لمحاربة الإسلام تعد مرحلة تاريخية هامة ذات أبعاد خطيرة سعى الاستشراق البدائي لتصويرها بشكل معاكس يؤكد على انتصار الغرب المنهزم ، وهزيمة الشرق المنتصر. لقد جسد المشروع الصليبي عصبية الغرب تجاه الإسلام إذ يعتبر توماس أرنولد الحروب الصليبية بمثابة ( حركة روحية) ووصفها بأنها عبارة عن حرب مقدسة ، حرب عادلة عند رجال الدين من الوجهة النظرية ، فضلاً عن أنها حرب مباركة عند رجال الدين ، من الوجهة النظرية ، فضلاً عن أنها حرب مباركة يصح أن يعول الناس مصائرهم عليها ، بينما يرى المستشرق الروسي (إليكسي فاسيلينتس جورافسكي) أن التصورات الأوربية عن الإسلام قد تشكلت ما بين القرنين الثاني عشر والرابع عشر للميلاد ، في كثير من جوانبها وخطوطها الكبرى على خلفية التفسير المسيحي الشرقي للعقيدة الإسلامية ، مشيراً في ذلك إلى مؤلفات (يوحنا الدمشقي) التي ناقش فيها الإسلام كبدعة ، وأن المسلمين لا يعتقدون بألوهية المسيح وصلبه ، وأن يوحنا يرفض أن محمداً صلى الله عليه وسلم نبي الله وهو خاتم المرسلين ، وأن القرآن كلمة الله المنزلة إلى محمد صلى الله عليه وسلم من السماء : إذ يرى أن سلسلة الرسالات النبوية ختمت بيوحنا المعمدان (20) ولم تكن الكوميديا الإلهية لدانتس الإيطالي وقصائد لوجيت الإنجليزي سوى أمثلة على تلك العصبية الغربية التي وضعت الإسلام أمام محاكمة تاريخية ، ودعت إلى إعدامه ونفيه خارج عقل الغرب وروحه.
ومن الملاحظ أن الدراسات المتعلقة بالإسلام والمسلمين هي فقط التي تتسم بالتحيز والتعصب والغضب ، بينما لا نجد ذلك في الديانات الأخرى كالبوذية مثلا أو المجوسية أو اليهودية .(/2)
هذا إحدى الملاحظات التي سجلها إدوارد سعيد ، وكما نعلم فإن الدكتور إدوارد مسيحي الديانة ، ودليل قاطع على أننا لا نبالغ نحن المسلمون بقولنا إن هناك حقداً دفينا من الغرب المسيحي ضد الإسلام.
وملاحظات كهذه جديرة بالانتباه كما يقول الدكتور أكرم العمري خاصة إذا رجعنا إلى الاستشراق في بداية نشاطه ، لأن بداياته الأولى ترجع إلى فترات مبكرة ، وترتبط بقصة الصراع بين المسلمين والغرب من خلال فتح الأندلس والحروب الصليبية والصراع في صقلية وجنوب أوروبا ، الأمر الذي جعل الإسلام يحتك بصورة مباشرة بالنصرانية التي كانت مؤسساتها الكنسية تسود العالم الغربي ، وكانت هي التي تتوج الأباطرة والملوك مما دفع عدداً من القساوسة لدراسة الإسلام ، في منهج يتسم بالتشنج والعاطفية والانطباعات الشخصية.
ولعل من أهم أسباب تحامل الغرب على الإسلام أن أوروبا كانت تخشى من وعي علمائها وطلبتها لطبيعة الفكر الإسلامي الذي صحح ما في الحضارة اليونانية وأضاف عليها الكثير فخشي الرهبان من احتكاك الطلبة القادمين من أوروبا إلى الأندلس لتلقي العلم بالبيئة الإسلامية ، ومن هنا نشأت مراكز الدراسات الاستشراقية المختلفة في أوروبا بإذن من الباباوات وبتنسيق المجالس الكنسية ، ووضعت في كمبردج واكسفورد ، وفي مراكز أخرى مثل ألمانيا.
وهذا دليل قاطع على أن الاستشراق قام لهدف ديني في المقام الأول ، ولكن هذا لا يمنع من وجود أهداف أخرى دنيوية وفي مقدمتها الأهداف السياسية والاقتصادية ويوضح هذا تقرير المراجع الأكاديمية المسؤولة في جامعة كمبردج بالنسبة إلى إنشاء كرسي اللغة العربية فيها ، فقد قررت هذه المراجع في خطاب مؤرخ في 9 مارس سنة 1636م ، وموجه إلى مؤسس هذا الكرسي جاء فيه: ونحن ندرك أننا لا نهدف من هذا العمل الاقتراب من الأدب الجيد بإلقاء الضوء على المعرفة ، المحتبسة في نطاق هذه اللغة التي نسعى لتعلمها ، ولكننا نهدف أيضاً إلى تقديم خدمة نافعة إلى الملك والدولة عن طريق تجارتنا مع الأقطار الشرقية وإلى تمجيد الله بتوسع حدود الكنيسة والدعوة إلى الديانة النصرانية بين هؤلاء الذين يعيشون في الظلمات.
ومما يؤكد أن الهدف الديني كان في مقدمة أهداف نشأة الاستشراق أن أول جالس على كرسي اللغة العربية في جامعة كمبردك أعد مشروعاً - لم يكتمل تنفيذه- لتفنيد القرآن الكريم.
وهذا الموقف العدائي للإسلام من قبل الغرب المسيحي مستمر حتى الآن : إذ أعلن الباب يوحنا الثاني في المجمع المسكوني الذي عقد في الفترة من 1965 – 1962 أنهم سيعملون من أجل استقبال الألفية الثالثة بلا إسلام ، وأعلن المؤتمرون في مؤتمر التنصير الذي عقد في كلورادو بالولايات المتحدة عام 1978م أن الحضارة الإسلامية شر برمتها ينبغي اقتلاعها من جذورها ، وأن كلمتا مسجد ومسلم تستفزهم ، وأن الحوار الإسلامي المسيحي أحد وسائل تنصير المسلمين ، كما أعلن نائب الرئيس الأمريكي في احتفال الأكاديمية البحرية في ميرلاند عام 1992م أنهم أخيفوا في القرن العشرين بثلاث تيارات هي : النازية والشيوعية والأصولية الإسلامية ، وقد تمكنوا من القضاء على النازية والشيوعية ، وبقيت الأصولية الإسلامية ، إذ ما أعلنه الرئيس جورج بوش بأن حربه على الإرهاب حرب صليبية لم تكن زلة لسان .(/3)
والذي يؤكد أن الحرب التي أعلنتها الإدارة الأمريكية على الإرهاب هي حرب صليبية تستهدف الإسلام وتنصير المسلمين ما نشرته صحيفة (الأسبوع) في عددها 319 بتاريخ 12 صفر 1424هـ الموافق 14 إبريل 2003 عن (النيورك تايمز) الأمريكية بتاريخ يوم السبت الموافق الخامس من إبريل الحالي تحت عنوان (في انتظار تقديم الدعم للعراق) كتب الصحفي الأمريكي لوري جورستينم يقول : إن الجماعات التنصيرية المسيحية التي سبق لقادتها وزعمائها الهجوم ، والتطاول على الدين الإسلامي تقف ضمن جماعات تقديم المساعدات على الحدود الكويتية العراقية حاملة معها المعونات والرسالة الإنجيلية لدولة العراق ذات الأغلبية المسلمة الساحقة ، فوجود أعضاء تلك الجماعات التنصيرية ضمن جماعات تقديم المعونات الأمريكية للشعب العراقي فضح شدة نفوذها على سياسات إدارة الرئيس الأمريكي جورج بوش وصبغ عدوانه على العراق بصبغة الحروب الصليبية والسعي نحو تنصير دولة مسلمة ، وأدى هذا لإثارة الجدل داخل المجتمع الأمريكي ، وقد ذكر ممثلو الكنيسة المعمدانية أنه منذ بدأت الحرب الأمريكية على العراق تطوع نحو 800 مبشر من خلال مجلسها التبشيري لتقديم الدعم الروحي والمادي للشعب العراقي ومن بين هؤلاء المبشرين فرانكلين جراهام الذي دشن حفل تنصيب جورج بوش رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية ووالده بيل جراهام الذي أثار عاصفة داخل المجتمعات الإسلامية العام الماضي عندما وصف النبي محمداً بأنه إرهابي ، ووثني ، وكلاهما الآن في الكويت لتقديم الماء المطهر والمعدات الطبية والأدوية لأبناء الشعب العراقي حيث اتخذ أعضاء تلك الجماعات من الكويت قاعدة لهم .
أما فرانكلين جراهام فقد أثار هو الآخر الجدل داخل الدول الإسلامية العام الماضي من خلال كتاب نشره وعدد من اللقاءات التلفزيونية التي أجريت معه وصف فيها الدين الإسلامي بالشر والإرهاب والعنف.
إن أعضاء الجماعات التبشيرية يشعرون بأنهم يحملون فوق أكتافهم مسؤولية تحقيق النظام في العالم كله وأنهم لا بد أن يوصلوا رسالة المسيح إلى بلدان العالم الإسلامي وفي إطار تحقيق ذلك طور المبشرون من أساليبهم التنصيرية فلم تعد تلك الأساليب قاصرة على تقديم الخبز والإغراءات لإقناع غير المسيحيين بالارتداد عن دينهم حيث يعلق مارك كيلي المتحدث باسم المجلس التبشيري للكنيسة المعمدانية بقوله : إن المبشرين التنصيريين تحركهم دوافع حب الرب كما تحركهم الرغبة لجعل الآخرين يفهمون أن الرب يحبهم ويريد إقامة علاقة شخصية معهم .. في حين يعلق فرانكلين جراهام بقوله : لقد جئت إلى هنا تمهيداً لدخول العراق فرغم أن نسبة المسلمين في العراق تشكل 97% من إجمالي تعداد السكان إلا أننا يجب ألا ننسى أن المسيحية سبقت الإسلام في دخول العراق ، إنني هنا لدعم مسيحيي العراق لكننا في الوقت ذاته نخطط لتقديم الدعم للمسلمين ، لكن كلام فرانكلين ليس مقنعاً حيث إن تلك الجماعات التبشيرية استغلت تعاقداتها الحكومية والدعم الحكومي لها في تنفيذ مشروعات تنصيرية حتى أنها خصصت 194مليون دولار للتنصير هذا العام وحده.(/4)
وحول نزاعات جورج بوش الدينية التنصيرية نشرة جريدة نيويورك تايمز في عددها الصادر بتاريخ السادس من إبريل الحالي مقالا جاء فيه: من جديد تثير لغة الخطاب الديني للرئيس جورج بوش أزمة فالرئيس الأمريكي بوش لا يخفي معتقداته المسيحية التنصيرية في القرارات التي يتخذها فهو لم يتردد في الربط بين تلك المعتقدات وحربه على العراق ، وهو ما لفت نظر المعارضين لسياسة شن بوش للحرب على العراق، حيث يعبر هؤلاء المعارضون عن قلقهم من أن فكرة التنصير أصبحت مهيمنة على كل تفكير بوش والذي يقسم العالم ببساطة إلى معسكرين معسكر الخير ومعسكر الشر، وأهم ما يشغل بوش هو الظهور بمظهر المسيحي النقي المتمسك بالتعاليم المسيحية والمبادئ التنصيرية التبشيرية وهو نفس ما ينطبق على باقي أعضاء إدارته ممن يعدون واضعي سيناريو الحرب ضد العراق من أمثال ديك تشيني نائب الرئيس الأمريكي وزير الدفاع دونالد رامسفيلد ونائب وزير الدفاع بول وولفوتيز إضافة لوزير الخارجية كولن باول ومستشارة الرئيس الأمريكي للأمن القومي كونداليزا رايس مما جعل معارضي تلك الإدارة يتهمونها بأنها تتأثر في سياستها بالمعتقدات الدينية ويفصلون أمريكا وسياساتها عن كونها دولة علمانية ، فالسيد باول يصف نفسه بأنه عاشق للطقوس الكنسية المسيحية الصهيونية ، والسيدة كونداليزا رايس والدها كان قسيساً بإحدى كنائس المسيحية الصهيونية بولاية الاباما.. أما نائبه ديك تشيني فمؤمن بنفس المنهج التبشيري للرئيس جورج بوش والقائم على فكرة أن الطريق إلى التبشير يبدأ بالمدفع والإنجيل ، ونفس الأمر ينطبق على وزير الدفاع الأمريكي دونالد رامسفيلد في حين تؤثر ديانة بول وولفوتيز نائب وزير الدفاع اليهودية على توجهاتهم السياسية مما دفع بعض المراقبين للقول إن السياسة الخارجية للإدارة الأمريكية الحالية تتم صياغتها والتعبير عنها طبقاً للمعتقدات التنصيرية وتقسيم العالم إلى مؤمنين ووثنيين ، وهو نفس ما عبر عنه السيد كابلان في كتابه سياسة المحاربين والذي أكد في حوار أخير له بشأن الحرب الأمريكية على العراق بأنها حرب جيدة من أجل الخير ، ومما لا شك فيه أن هذا الفكر التبشيري ألقى بظلاله على شخصية جورج بوش والذي قال عن القس بيل جراهام المعروف بتوجهاته التنصيرية : إنه الرجل الذي قادني إلى الرب ، وهو نفس الرجل الذي جعل من جورج بوش شخصا حريصا على القراءة يوميا في كتاب للقس أوزوالد شامبرز الذي سبق أن وصفته مجلة نيوزويك بأنه مات عام 1917 وهو يعظ الجنود البريطانيين والاستراليين بالزحف إلى القدس وانتزاعها من المسلمين.
فالهدف من المخطط الصهيوني الأمريكي لدول العالم الإسلامي ، وتغيير خريطته ، وإخضاعه للهيمنة الصهيونية الأمريكية هدف ديني في المقام الأول ، يستهدف القضاء على الإسلام ، وما رأيناه عند دخول القوات الأمريكية والبريطانية إلى العراق وتحريضها للمجرمين واللصوص وقطاع الطرق على السلب والنهب والتخريب والحرق خاصة المتاحف والمكتبات والجامعات والمؤسسات العلمية ، وإشاعة الفوضى له أسباب كثيرة منها إفقاد الشعب العراقي تاريخه وهويته الثقافية ، ومنها اقتصادي لرفع فاتورة إعمار العراق التي ستتولاها الشركات الأمريكية ، ولتصوير الشعب العراقي أنه شعب همجي بربري يحتاج إلى حكم عسكري صارم للحفاظ على الأمن ، ولجعل الشعب العراقي نفسه يطالب السلطات الأمريكية بحفظ الأمن لينال الشرعية المفتقدة لحكمه للعراق ، وأخيراً ليقنع بوش نفسه أن حقق نبوءة النبي إشعيا الواردة في الإصحاح الثالث عشر من سفر النبي أشعيا بن آموس ، والذي ينص على ظهور الهدف الديني والغاية الأساسية من هذا الغزو ، وهو اعتقاد (جورج بوش) بأنه قد حقق ما جاء في نبؤوة أشعيا التي نص عليها الإصحاح (13) من سفر النبي أشعيا بن آموس ، ففي هذا الإصحاح تنبأ أشعياء بخراب بابل (العراق) ، وأن جيوش الأمم سوف تأتي من كل مكان من الأرض والسماء لتقضي على كل شيء ، وأن بابل (العراق) سوف تلقى مصير مدينتي الفساد : سودوم وعمورة وسوف تظلم السماء فلا نرى الشمس والقمر والأطفال يموتون البيوت المنهوبة تسكناه البوم والذئاب ، فهذا هو الخراب المكتوب على بابل التي كانت (بهاء المماليك) فلم تكن زلة لسان من الرئيس بوش بأنها حرب صليبية! فهو يؤمن بأنه مبعوث العناية الإلهية لتحقيق رؤيا النبي أشعياء ونبوءة العراق نوسترداموس بخراب العراق.
وهو مؤمن بالنصر على جيوش بابل إيمانه بالفوز في الانتخابات المقبلة ، وكلنا يعرف أن اليهود حرفوا في توراتهم ، وهذه النبوة من تحريف اليهود ، ليبرروا لأنفسهم تخريب العراق وتدميرها.
القوى المسيطرة على القرار السياسي في الولايات المتحدة الأمريكية :(/5)
مما يجري الآن في الولايات المتحدة يظهر لنا أن هناك أربع قوى أساسية تسيطر على القرار السياسي ، والمجموعة الأولى : صقور المحافظين في الإدارة الأميركية ، والمجموعة الثانية : اللوبي اليهودي المسيحي المتصهين ، وهو جناح يدعي أنه مسيحي ، وأخيراً هناك شركات النفط ، وشركات السلاح التي يمتلكها صناع القرار الأمريكي ، وهذه المجموعات الأربع لها مراكز أبحاث وصحف وصحفيين مثل السيد فريدمان الصهيوني في جريدة (نيويورك التايمز) الأمريكية التي يملكها أحد اليهود الصهاينة ، وهم يعبرون عن مصالحها ، وهؤلاء هم الذين يتحكمون في القرار السياسي ، وكلنا يعرف مدى سيطرة اليهود الصهاينة على الإعلام الغربي بصورة عامة ، والإعلام الأمريكي بصورة خاصة، أما الشعب الأمريكي فهو يتعرض لعملية تجهيل وتضليل وغسل دماغ من قبل الإعلام الصهيو أمريكي بالقدر الذي يجعل هذا الشعب يؤيد كل مخططاتهم الاستعمارية بدعوى محاربة الإرهاب وحماية حقوق الإنسان المهدرة في هذه الدول وتحرير الشعوب المضطهدة وإحلال الديمقراطية محل الظلم والاستبداد.
اللوبي اليميني الصهيوني يدفع بالإدارة الأميركية لتأجيج الصراع :
هذا وقد نشر الكاتب الأمريكي (مارك وبر) تقريراً على موقع Reports نشرته (الخليج) الإماراتية في 15 أكتوبر عام 2002م يقول فيه : أن اللوبي الصهيوني في الإدارة الأمريكية هو الذي يدفع بالحرب ضد العراق لمصلحة إسرائيل . وفي 26 سبتمبر الماضي نشرت صحيفة (الحياة) تقريراً عن نيويورك الأمريكية (New York Review of books) نشرته في نفس اليوم قالت فيه: إن اللوبي المحيط ببوش يحضه على قتال العراق لأن إحاطة صدام هي التي سوف تمكن إسرائيل من اختيار السلام الذي تريد في المنطقة ، فالأمر ليس بيد بوش ، وإدارته الحالية مكونة من يهود صهاينة وإسرائيليون يحملون الجنسية الإسرائيلية مثل : (ريتشارد بيرل) أحد مستشاري سياسة بوش الخارجية وهو مهندس حرب العراق والمخطط لها ، ورئيس مجلس سياسة الدفاع في البنتاجون معه جنسية إسرائيلية، (بول وولفوريتس) نائب وزير الدفاع أحد أصدقاء (بيرل) المقربين ، (دوجلاس فيس) مساعد مستشار السياسة والدفاع في البنتاجون أيضاً يهودي ، (إدوار لوك) عضو فريق أبحاث الأمن القومي في وزارة الدفاع ، أخطرهم (كولن باول) وزير الخارجية لأن جده الجامايكي الأصل يهودي وهو يتقن (البيدية) وهي لغة يهودية، والحقيقة أنه يوجد في إدارة بوش 32 شخصية أكثرهم يحملون الجنسية الإسرائيلية . كتبت (الواشنطن بوست) تقريراً يوم السبت الماضي عن كاتب خطابات بوش (مايكل جيرسون) جاء فيه (أنه كان واعظاً دينياً يمينياً متطرفأً ، وأنه الآن أكثر كتاب خطابات الرئيس نفوذاً داخل البيت الأبيض وأنه يضع عبارات دينية في خطاباته للحض من أجل الحرب ضد المسلمين وضد العالم الإسلامي. فالقرار الأمريكي يصدر من تل أبيب وليس من البيت الأبيض في واشنطن.
من هنا يتضح لنا أبعاد المخطط الصهيو أمريكي ، فاليهود يسعون إلى حكم العالم والسيطرة عليه ، وقد صرحوا بهذا في بروتوكولاتهم ، التي يحاولون الآن أن يتبرأوا منها ويدعون أنها مزيفة نسبت زوراً وبهتاناً ، ومهما تبرأوا منها فهي ملصقة بهم لأنها لا تختلف في نصوصها على ما نص عليها تلمودهم وتوراتهم المحرفة، والخطة الصهيوأمريكية لإعادة رسم خريطة منطقة الشرق الأوسط ، والحرب على العراق وما سيتلوها من حروب في المنطقة – تشمل السعودية وسوريا ولبنان ومصر وإيران وسائر البلاد العربية والإسلامية – تستهدف القضاء على الإسلام وتمكين اليهود الصهاينة من السيطرة والهيمنة الاقتصادية والثقافية.
وهنا قد يطرح هذا السؤال : ما هي المستجدات التي دفعت بالأعداء للخوف من الإسلام ، واعتباره خطراً عليهم ، رغم الضعف الذي ألم بالمسلمين مما جعلهم يدينون بالتبعية للهيمنة الأمريكية وأصبحوا لا يقوون على معارضتها.
والمستجدات هي الصحوة الإسلامية التي شهدتها دول العالم الإسلامي في العقدين الأخيرين من القرن العشرين وازدياد نشاط المؤسسات والمنظمات والجمعيات الخيرية الإسلامية التي تقدم خدماتها لمساعدة المسلمين في أرجاء المعمورة ، وتقديم كافة الخدمات لمنكوبي الحروب والمجاعات والقحط والزلازل ، وهذا يفسد على البعثات التنصيرية مزاولة أنشطتها بين هذه المجموعات التي تعتبر مجالاً خصباً للبعثات التنصيرية ، ومن هنا جاء هجوم الإدارة الأمريكية على المنظمات الإسلامية التي وصفتها بأنها منظمات إرهابية بما فيها رابطة العالم الإسلامي ، وأخيراً ضمت الإدارة الأميركية جامعة الأزهر إلى قائمة المؤسسات الإرهابية بعد إصدارها فتوى وجوب الجهاد في العراق.(/6)
إضافة إلى أن هذه الصحوة تشير إلى فشل الغزو الفكري والثقافي الذي ظل يداهم العالم الإسلامي أكثر من قرنين ، وبالرغم من وجود عدد كبير من الشباب في العالم الإسلامي ممن يدين بالتبعية للفكر الغربي ، الذين تم احتواؤهم أثناء دراستهم في الجامعات الغربية ، ولا سيما الأمريكية حتى أصبحوا (مؤمركين) إن جاز لي استخدام هذا التعبير ، في فكرهم في عاداتهم ، في مأكلهم ، ومشربهم ويعتبرون كل ما يأتي من أمريكا محمدة ، حتى لو احتلت بلادهم ، ورغم وجود عدد كبير من أبناء وبنات الإسلام من العلمانيين الذين يهاجمون الإسلام ، ويكنون له العداء ، ومنهم أدباء وأرباب فكر وقلم ، بل أضحى معظم رواد الحركة الأدبية والإعلامية في عالمنا العربي والإسلامي من معتنقي المذهب العلماني الذي يحضر الشعوب للاحتلال والإذلال.
رغم كل هذا فإن الغرب ، ولا سيما الولايات المتحدة الأمريكية يخشون من هذه الصحوة الصامدة القوية التي تتصدى بجرأة وثبات لكل الافتراءات التي تفترى على الإسلام ، وهم الذين يتظاهرون احتجاجاً على ما تعرض له المسلمون من حروب واضطهادات في فلسطين وأفغانستان والشيشان والبوسنة والهرسك وألبانيا والعراق ، وهم يريدون من الدول الإسلامية وضع مناهج تنشئ أجيالاً تدين بالولاء لأمريكا ، ولا ترفض الوجود الأمريكي.
مجلة المنار ، العدد 68 ، ربيع الأول 1424هـ
==============
الأستاذ الدكتور عماد الدين خليل :
حيث تفضل مشكوراً بالكتابة ( للمنار) بالرغم من انشغاله بمهام علمية في الأردن ، وكان ذلك أثناء القصف الأمريكي الغاشم على العراق حيث تقيم أسرته وأهله ، وقد بدأ حديثه بالإجابة على ماذا كان الأعداء يراهنون في اعتمادهم على الاستعمار الثقافي ؟
فقال : كانت مراهنتهم تقوم على تخريج نخب علمانية في ديارنا العربية والإسلامية ، تعكس الرؤية الغربية للحياة ، وتحاصر كل ما يرتبط بالإسلام عقيدة وشريعة وثقافة وسلوكاً.
والجهد الاستعماري أوضح من أن يتطلب إثباتاً في تمهيد الطريق لهذه النخب كي تتربع على المفاصل الحساسة لكل دولة عربية أو إسلامية ، وتسعى إلى تدمير الجسور بين المواطن وعقيدته ، في الوقت نفسه الذي تبذل فيه جهداً استثنائياً لتأكيد قيم الثقافة الغربية من خلال آليات التربية والتعليم والإعلام – بل حتى – إذا اقتضى الأمر – الجيش والبوليس.
وليس ثمة – كالآليات الثقافية – أداة ذات قدرة عالية على التبديل والتفكيك وإعادة الصياغة في البنية الحضارية للأمم والشعوب ، بسبب كونها تنبثق عن خلفيات رؤية شاملة وتنهض قائمة على منظومة من التصورات والمذاهب والفلسفات التي تغذيها وتمنحها الملامح والخصائص وتنحاز بها – بالتالي – صوب هذا المنظور أو ذاك ، إنها ليست محايدة كالعلوم الصرفة أو التطبيقية ومن ثم فإن تقبلها في نسيج أية ثقافة مغايرة ، سيقود تلك الثقافة ، بدرجة أو بأخرى ، ليس إلى مجرد إضافة عناصر غريبة عن المناخ الذي تتشكل فيه وتتنفس ، وإنما إلى أن تفقد شيئاً فشيئاً مقوماتها الأساسية ، وتضحي بتميزها، وتمارس - هي الأخرى - انحيازاً قد يؤذن بتفككها وسقوطها.
كان هذا أحد مداخل الغزو الفكري عبر القرنين الأخيرين أن نتقبل عن الحضارة الغالبة معطياتها التي تتعامل مع الإنسان والتي قد تتقاطع منذ لحظات تشكلها الأولى ، ليس مع المفردات الإسلامية فحسب ، وإنما مع أسسها وبداهاتها.
لقد تموضعت الحضارة الغربية شيئاً فشيئاً في دائرة صنمية ترفض الله سبحانه وتصنع على هواها شبكة من الطقوس تنسجها المصالح والأهواء حيناً ، والظنون والأوهام حينا آخر ، وما يسمى بالأنشطة العلمية الإنسانية في معظم الأحيان ، لقد أريد لنا – لسبب أو آخر – أن ندخل اللعبة نفسها – أن نفقد اليقين بالأساس الإيماني الموغل في بنياننا الثقافي ، وأن ننسى الله.
إن هذا التقابل المحزن بين صنميات الثقافة الغربية وبين ثقافتنا التي يراد لها أن تنسلخ عن جوهرها الإيماني القائم على التوحيد ، يذكرني بعبارة قالها ( رجاء جاردوي) في (وعود الإسلام) وهو يتحدث عن (الصنمية التمائمية) التي تتفرخ وتتكاثر) في المجتمعات الغربية : (صنم النمو، صنم التقدم ، صنم التقنية العلموي، صنم الفردانية ، وصنم الأمة بمحذوراتها جميعاً ، ومحرماتها ، وبرموزها المقدسة وبطقوسها) وأنه ليس ثمة في مواجهة هذا كله سوى أن نتشبث أكثر فأكثر بـ (لا إله إلا الله) هذا الإثبات الأساسي للإيمان الإسلامي ، وإننا لنعرف بالتأكيد ما لهذا اليقين في العقيدة من قوة هدم وتحرير فالحوار هكذا مع الإسلام يمكن أن يساعدنا على ابتعاث خميرة عقيدتنا الحية فينا ، تلك التي تستطيع نقل الجبال من مواضعها).(/7)
وأتذكر – كذلك – عبارة أخرى في الكتاب المذكور نفسه تبين أننا نمارس لعبة خاسرة ونحن نتعامل مع ثقافة الغير دونما أي قدر من التريث أو النقد والتحميص : (لم نشدد على الوجوه التي لعب بها العلم الإسلامي باكتشافاته دور (الرائد) للعلم الغربي الحالي ، وإنما على صفاته الخاصة في تبعيته وخضوعه للوسائل الإنسانية ذات الغايات الإلهية ، في هذا المنظور على القرن الواحد والعشرين أن يتعلم كثيراً من الإسلام).
فالذي يحدث منذ حوالي قرنين هو أننا لم نمارس تعليم الآخرين ، أو نحاوله على الأقل ، وإنما رحنا نأخذ منهم معارف إنسانية تقطعت وشائجها بالإنسان – في أقصى حالات توازنه وأدناها – وفقدت أية غاية إيمانية تتجاوز الحاجات القريبة ، وتبعد بالحياة البشرية عن أن تكون مجرد حركة في الطول والعرض.
فما لم تكن ثقافتنا متلبسة بمطالب العقيدة ومقاصد الشريعة التي انبثقت عنها ، ما لم تكن هذه الأنشطة ذات طموحات كبيرة بمستوى المنظور العقدي للإسلام نفسه ، فمعنى هذا أن هناك نقصاً ، ثغرة ما أو فراغاً قد يكون فرصة ملائمة لتقبل ثقافة الآخر الصنمية حيث لا نزداد إلا ضياعاً وتضاؤلا وتبعية وانحساراً.
لقد دلت التجربة نفسها ، كما يقول رجل القانون الدولي المعاصر (مارسيل بوازار) في (إنسانية الإسلام) (على أن محاكاة العقائد المستوردة من أوساط ثقافية أجنبية، غير ملائمة ، والحركات التي تستلهم الإسلام - بما فيها شبكة التعامل المعرفي- قادرة وحدها على أن تدمج عند الاقتضاء مختلف التيارات الباقية على الساحة لتقدم منها حلولاً مركبة تظهر الفضائل الأخلاقية من خلالها إحدى القوى الأساسية للحضارة).
ومنذ أكثر من نصف القرن كان ( ليوبلود فايس : محمد أسد) قد حذر في كتابه (الإسلام على مفترق الطرق) من ممارسة انهزامية كهذه ، وأن يكون المسلمون أكثر تأصيلا ثقافياً ، مشدداً على أن الإسلام بخلاف سائر الأيادن ، إنما هو فلك ثقافي اجتماعي واضح الحدود ، فإذا امتدت مدنية أجنبية بشعاعها إلينا ، وأحدثت تغييراً في جهازنا الثقافي – كما هو الحال اليوم – وجب علينا أن نتبين لأنفسنا إذا كان هذا الأثر الأجنبي يجري في اتجاه إمكانياتنا الثقافية أو يعارضها ، وما إذا كان يفعل في جسم الثقافة الإسلامية فعل المصل المجدد للقوى أو فعل السم.
ويخلص (محمد أسد) إلى القول بأن الشيء الوحيد الذي لا يستطيع المسلمون أن يتمنوه هو أن ينظروا بعيون غربية ويروا الآراء الغربية ، إنهم لا يستطيعون إذا أرادوا أن يظلوا مسلمين ، أن يتبدلوا بحضارة الإسلام الروحية تجارب مادية من أوروبا.
وعلى مدى قرنين من الزمن ، وبسبب من ضغط لا يرحم من الإحساس بالدونية تجاه ثقافة الآخر ، تناولنا سما كثيراً ، بدلاً من البحث عن المصل المجدد القوى ، ولقد قاد هذا السم إلى انحلالنا الثقافي أكثر فأكثر.
واليوم ندرك أننا كنا مخطئين ، وأننا خسرنا زمناً طويلاً كان بمقدوره لو أحسنا التحميص والتخير ، أن يجعلنا ، ليس فقط أكثر أصالة ، وإنما – أيضاً – أن نقلل الهوة بيننا وبين الآخر ، وأن نرغمه على احترامنا ، وربما مد اليد لطلب العون منا.
غياب فقه الواقع عن العمل الإسلامي :
وحول غياب فقه الواقع عن العمل الإسلامي إلى حد كبير قال الدكتور عماد الدين خليل :
إن الحديث أية محاولة للنقد الذاتي ، أو تعديل الوقفة ، أو تقديم البدائل الأكثر فاعلية وجدوي ، أو طرح مقترحات عمل ، إلى آخره لن تأخذ مسارها الصحيح بالضرب على غير هدى ، ولا بد - أولاً – من تحديد طبقات أو محاور الجهد الإسلامي .
وهي ، إذا أردنا أن نبدأ بالأكثر عمومية ، تأخذ الترتيب التالي :
1- المستوى الحضاري : الأمة والعالم.
2- المستوى السياسي : الدولة والسلطة.
3- المستوى الدعوي : القطر.
4- المستوى الاجتماعي : المدينة.
5- المستوى السلوكي والشعائري الفرد.
وهي مستويات يفضي بعضها إلى بعض ، ويقوم أحدها على الآخر ، كما أنها لا تعمل بمعزل عن الأخريات ، فهي تنطوي في اللحظة الواحدة ، على السياقات كافة، لكن البؤرة الأساسية لكل مستوى تتركز عند الحضاري حيناً ، وعند السياسي أو الدعوي حينا آخر ، وعند الاجتماعي أو السلوكي أو الشعائري حيناً ثالثاً.
في الإسلام والنشاط الإنساني عموماً ليس ثمة فواصل أو جدران نهائية في الفاعلية ، هذه مسألة معروفة ، لكن التخصص له أحكامه ، ولا بد – ابتداء – من إدراك مركز الثقل في الفاعلية وهدفها الأساس في ضوء خارطة نستطيع بواسطتها أن نحيل كل مفردة أو مقترح إلى مستواها النوعي ، ثم نتحدث عن أهميتها ودورها في الإضافة أو التعديل ، وصيغ معالجتها التي تمكنها من تجاوز الأخطاء والمضي إلى الهدف بأكبر قدر من الفاعلية والاقتصاد في الجهد والزمن.(/8)
إننا في ضوء هذه الخارطة سنحدد هدف الجهد ابتداء ، فلا يتداخل أو يتميع أو يضرب في التيه ، وسواء كان هذا الجهد درساً يعطى أو محاضرة تلقى أو مقالاً يكتب أو بحثاً يؤلف ، وسواء كان تبادلاً في الرأي أو حواراً ، فإن الذي يقوده إلى هدفه ويحميه من الهدر والتشتت والضياع إنما هو تحديد المحور الذي يتحرك فيه، أو المستوى الذي يتعامل مع بعض ظواهره ومفرداته ، هل هو المستوى الحضاري ؟ أم السياسي ؟ أم الدعوي ؟ أم الاجتماعي ، أم السلوكي ، أم الشعائري ؟
والذي حدث في كثير من الأحيان ، تداخل الحضاري بالدعوي والسياسي بالاجتماعي ، حيث اختلطت الأوراق وضاعت البؤرة التي يتحتم أن يتمحور عندها الجهد لكي يكون أكثر فاعلية وعطاء.
هذه هي واحدة من البوابات التي دخل منها الاضطراب فضيع على الإسلاميين الكثير من الجهد والزمن ، وجعلهم يدورون أحياناً في حلقة مفرغة حيث ما يلبثون أن يجدوا أنفسهم ، بين فترة وأخرى ، عند نقطة البداية.
وعلى سبيل المثال ، فإن (المشروع الحضاري) الذي تدعو إليه بعض المؤسسات والجماعات الإسلامية ، ينطوي على فضاء واسع قد يمتد إلى العالم كله ، فيتعامل معه بمنطق الصراع أو الحوار الحضاري الذي يتطلب إدراكاً لقوانين الحركة التاريخية ، وصيرورة الحضارات ، ويسعى لاكتشاف عناصر القوة والضعف في هذه الحضارة أو تلك ، والميزات الجوهرية لحضارة الإسلام التي تؤهلها لأن تكون البديل المترجى ، ليس على مستوى جغرافية الإسلام وحده ، وإنما على مدى العالم كله ، تلك الميزات الخصبة المتنوعة من مثل : الرؤية التوازنية لهذه الحضارة بين الوحي والوجود ، والمادة والروح ، والعدل والحرية ، والفرد والجماعة ، والعقل والوجدان ، وسائر الثنائيات الأخرى ، ومن مثل قدرة هذه الحضارات المندثرة – على التجدد والانبعاث انطلاقا من شبكة تأسيساتها في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
إن مشروعاً كهذا ينطوي على فضاء عالمي يمثل جهداً يختلف في طبيعة توجهه مع أي جهد دعوي محدد تمارسه هذه الجماعة أو تلك ، وهذا الفرد أو ذاك في دائرة حيّ أو مدينة أو قطر أو بيئة جغرافية ، كما أنه يختلف عن أي جهد اجتماعي يستهدف إقامة بعض المؤسسات الاقتصادية أو الاجتماعية أو الترفيهية التي تحكمها قيم الإسلام وضوابطه ، وهو يختلف بالضرورة كذلك – عن أي نشاط سياسي قد يعتمد هذه الفرصة (الديمقراطية) إذا جاز التعبير ، أو تلك ، لرفع خطابه وتأكيد مصداقيته أمام الجماهير ، والتقدم خطوات إلى الأمام.
صحيح أن هذه الأنشطة ، بدءاً من حجر الزاوية ونقطة الانطلاق المتمثلة بإعادة صياغة السلوك ، والالتزام التعبدي ، بما يجعل الفرد مهيئاً تماماً للمراحل التالية مروراً بالأنشطة السياسية أو الدعوية أو الاجتماعية ، إنما تؤول جمعياً إلى هدفها الحضاري الشامل وتصب في البؤرة الواحدة التي تستهدف إعادة صياغة السعي البشري في هذا العالم ، بما يريده الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
إلا أن هذا المنطوق التكاملي في الجهد يجب ألا يسوق الإسلاميين إلى تداخل الرؤية واضطراب الحلقات ، وعدم تبين الحدود الممكنة للجهد الإسلامي في هذا المجال أو ذاك.
إننا إذا استطعنا منذ البدء أن نحدد طبيعة الجهد ، أو أن نحيله إلى مستواه المحدد على خارطة العمل : حضارياً أو سياسياً أو دعوياً أو اجتماعيا أو سلوكياً قدرنا على الوصول إلى الهدف بأقل قدر من الإسراف في الطاقة والزمن ، وبالتركيز الضروري الذي يعطي ثماراً أكثر نضجاً.
لا يتسع المجال في لقاء كهذا للدخول في المزيد من التفاصيل ، وقد تكفي هذه التأشيرات العامة من أجل تبين موضع أقدامنا في كل حلقة من حلقات الجهد الإسلامي وإحالة هذا الجهد إلى دائرته الحقيقية لكي يتسلسل العمل وفق برنامج مرسوم ، يبدأ بأعمق نقطة في وجدان الإنسان الفرد لكي يمضي إلى العالم كله مبشراً بمشروعه الحضاري البديل.
والآن ، فإن هذا – بإيجاز شديد – هو أحد وجهي (المشكلة المتعلقة بفقه الواقع ، ويبقى هناك الوجه الآخر الذي لا يقل أهمية ، والذي مارس – هو الآخر – دوراً خطيراً في عرقلة الجهد الإسلامي وتفتيته).
فإذا كانت المعضلة في الوجه الأول تنطوي على اضطراب في حلقات التسلسل العمودي الصاعد للجهد الإسلامي الذي يبدأ بالفرد وينتهي بالمشروع الحضاري ، فإن هذه المعضلة في الوجه الآخر ، تبدو في غياب أو اضطراب المنظور الأفقي ، وضياع خرائط العمل المحكم الذي يضع في حساباته وهو يعاين المنظور ، تغاير البيئات ، بكل ما ينطوي عليه مصطلح البيئة من مفردات ومواصفات وبالتالي ملاحظة اختلاف المطالب والحاجات وصيغ العمل بين بيئة وأخرى.(/9)
إن المقتل الأشد خطورة ، كان عبر القرن ونصف القرن الأخير يتمثل في عدم الالتفات إلى هذه الحقيقة ، والبداية الصحيحة تكون هنا هنا : إن الجهد أو النشاط يجب أن يضع نصب عينيه مواصفات البيئة التي يتحرك فيها وينسج خيوطه ، فإذا كانت بيئة ما تصلح للنشاط الديمقراطي أو السياسي ، فإن بيئة أخرى فقد تتطلب ، في لحظة تاريخية محددة نشاطاً جهادياً أو تربوياً أو علمياً أو عقلياً أو اجتماعياً أو حتى روحياً صرفاً.
إن التاريخ لا يقاس بالمسطرة والبركاد ، والحركة التاريخية تستعصي على الأسر في نمطية محددة والتعامل مع البيئات كلها كما لو كانت (حالة واحدة) بغض النظر عن موقعها في الزمن أو المكان ، يتناقض – ابتداءً – مع منهج الدعوة وطرائقها في عصر الرسالة ، حيث يلاحظ أن صيغ العمل في العصر المكي هي غيرها في العهد المدني ، بل إنها في العهد المكي نفسه كانت تتعامل مع اللحظة التاريخية بصيغ مختلفة ، فكانت هناك سنوات العمل السري ، والنشاط المعلن ، واعتماد الهجرة الموقوتة وسيلة للتخفيف عن الضغط وحماية الذات ، كما أن العهد المدني شهد هو الآخر ، إلى جانب أو بموازاة الخط الجهادي العام ، وخط بناء الدولة الإسلامية ، تغايراً في صيغ العمل ، فكان هناك التحالف المرحلي والصلح الموقوت، والإعلان العام لتصفية الوجود الوثني إلى آخره.
لقد اجتازت الدعوة الإسلامية في عصر الرسالة مراحل شتى بدء ببناء الإنسان المسلم ، مروراً بإقامة دولة الإسلام ، وانتهاء بصياغة التأسيسات الأولى لشبكة الشروط الحضارية التي وضعت الجماعة والأمة المسلمة قبالة العالم بخصائصها المتميزة وفاعليتها التي مكنتها عبر عقود معدودة من الزمن أن تصوغ حضارتها الخاصة بها.
وما لم ننصت جيداً لنداء اللحظة التاريخية ، ونتابع بوعي وتبصر عميقين مواصفات المكان ، ما لم ندرك – ابتداء – أن الحركة التاريخية تنطوي دائماً على الثابت والمتحول معاً ، وأن علينا أن نضع في المنظور كل القطبين ، فإننا سننزلق – شئنا أم أبينا – إلى مواقع الخطأ والهدر ، وسنحكم على أنفسنا كرة أخرى ، بالدوران في الحلقة المفرغة ، حيث العودة بين الحين والآخر إلى نقطة البداية.
إن العديد من الحركات الإسلامية فشل أو تباطأت حركته على أقل تقدير لأنه لم يلتفت لهذه الحقيقة ، أو لم يعرها اهتماماً كبيراً ، فمضى لكي يتعامل بمنطوق الإعداد التربوي مع وضع تاريخي يتطلب جهاداً ، أو أعلن الكفاح المسلح في وضع يتطلب إعداداً تربوياً ، أو نزل تحت الأرض في بيئة تسمح له بالعمل في الهواء الطلق ، أو كشف عن نفسه في ظرف يعد فيه الانكشاف انتحاراً ، أو اصطرع مع خصومه سياسياً بينما كان الأمر يتطلب نشاطاً تثقيفياً أو دعوياً صرفاً أو انعزل في وقت يكون فيه العمل الجبهوي فرصة جيدة .
الإسلام في ضوء المعطيات التاريخية :
وثمة في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم مؤشرات وضوابط غنية تؤكد ثقل المتغيرات التاريخية وضرورة التعامل الحذر معها ، يمكن الاكتفاء بشواهد محدودة منها في لقاء سريع كهذا :
1- الآيات القرآنية الخاصة بالتقابل العددي التي نزلت بمعدلات القوة من واحد إلى عشرة باتجاه الواحد إلى اثنين.
2- حرب السرايا في بدء العصر المدني والحروب النظامية فيها بعد.
3- السرية المطلقة في فتح مكة، وإعلان النفير العام وكشف الهدف في تبوك ، واعتماد قادة احتياطيين في مؤتة ، وأسلوب الشورى في بدر وأحد ، والانفراد في اتخاذ القرار في الحديبية .
4- تدمير الجماعات الكافرة الذي يعتمد قوى الطبيعة (من مثل : الصيحة ، الحاصب ، الخسف ، الطوفان .. إلخ ، في مراحل تاريخية معينة ، واستبدالها بإعجاز الكلمة الإلهية في مرحلة أخرى تتميز بالرشد العقلي).
5- إعادة تصنيف خصوم الإسلام في ضوء المعطيات التاريخية.
وعن الآليات الأفضل لنشر الثقافة الضرورية لفقه الواقع في مواجهة التحديات قال الدكتور عماد الدين خليل : تظل المؤسسات المدرسية والجامعية هي الآليات الأفضل في هذا المجال ، جنباً إلى جنب مع المسجد ، ويتممها دور الكتاب والصحيفة والمجلة ، وقد انضافت إلى ذلك – عبر العقود الأخيرة – آليات المعلوماتية من خلال أجهزة الكمبيوتر أو الإنترنت فضلاً عن التلفاز والفضائيات. ويمثل مربع الشاشة الصغيرة هذا تحدياً للأمة يتحتم أن تشمر عن ساعد الجد للإفادة القصوى منه ، في ذات الوقت الذي يفرض عليها جهداً موازياً في مجابهة حلقات السوء التي ينطوي عليها والتي قد تلحق بأبناء الأمة كسوراً فكرية ونفسية وسلوكية ليس جبرها بالأمر اليسير.
البعد عن منهج الوحي :
• أصبحنا عالة على الأمم وتمردنا على أصول الحضارة الإسلامية.
• هذا العصر يحتاج إلى رعاية الإبداع والاهتمام بالموهوبين والمبدعين.
• ما يتعرض له الإسلام ليس جديداً ومن واجبنا أن نعود إلى التاريخ من وقت لآخر.
• قال تعالى : (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم).(/10)
• على المسلم أن لا يستهين بدوره ولو بالقليل يدعم به إخوانه ولو بالدعاء.
================
الدكتور أحمد نوفل :
الدكتور أحمد نوفل كان له مداخلة أيضاً في هذا الملف فقدأكد أن الأعداء يراهنون في اعتمادهم على الاستعمار الثقافي والحضاري ، بعد ( توهم) انتهاء الاستعمار العسكري ، على أمور كثيرة :
أولها: التبعية السياسة التي مهدت للهجمة الثقافية والحضارية، ونفذت ما يرسم من مخططات لمناهج التعليم والإعلام ، وأزعم أن أمريكا داخلة في مفاصلنا الثقافية، ومنتدياتنا ، ومؤسساتنا ، بشكل مؤثر أكثر من أثر الدول المعنية نفسها. وإن كثيراً من (الأنتلجنسيا) العربية والإسلامية، والمثقفين تابعون للمعسكر الغربي والأمريكي تحديداً، مفتونون إلى حد الهوس بالنموذج الثقافي والحضاري الغربي ، منخلعون إلى حد الافتراق المطلق من تراب أمتهم وتراث حضارتهم .
كما عمل الاستعمار الثقافي وعملاؤه على تغييب الشعوب ، بشكل يشل فاعليتها ، ويجعلها مضيعة للطاقات مبددة القدرات ، مشلولة الإرادات ، مغلولة العزمات ، والمصيبة أن هذا التغييب الذي تأمر به أمريكا ، هو ذات المبرر الذي تأتي من أجله أمريكا لتمارس تغيير أنظمة العالم الإسلامي والعرب مستغلة حالة الضياع العام مع العلم أن أمريكا تملك أتفه ثقافة في الوجود وحضارة بالغة الحقارة ، ربما لم يشهد التاريخ مثيلاً لها ، لا نقول هذا بداعي الغيظ ، ولكنه الحقيقة الموضوعية ، إن بنياناً شيد وأنشئ على استئصال الشعوب من أول يوم لن يكون إلا على هذه الدرجة من الوضاعة ، فكيف إذن تروج ثقافتها وحضارتها كل هذا الرواج ؟
إنها تعتمد على قوة الدولة: اقتصادياً وعسكرياً وسياسياً وإعلامياً ونحن في زمن القوة فيه هي الحق وإن حقاً ضعيفاً لن يعدو في نظر العالم أن يكون باطلاً ، وهذا شأن العالم الإسلام وإسلامه العظيم إننا بمواتنا نظهر إسلامنا مفلساً من العطاء الحضاري عاجزاً من مواكبة العصر ، وحاشاه.
كما تعتمد القوة الغربية على سياسة تفريغ المنطقة من العقول والخبرات ، والاستنزاف المنظم للطاقات ، وذلك كفيل بأن يجعل العالم الإسلامي منطقة ضغط منخفض ، قابلة لنشر ثقافات الآخرين . ويوم نملك السياسات المبنية للعقول والمتعهدة للطاقات ، والمعتزة بقدرات أبنائها ، تنعكس اتجاهات الريح..
كما أن تفككنا أقوى أسلحة عدونا فبينما الحضارة الغربية تبدو متجانسة إلى حد بعيد ، لا نستطيع نحن أن نتعايش على سبيل المثال: سنة وشيعة ويحذر بعضنا من بعض في عز اشتداد الهجمة علينا.
العمل الإسلامي والمتغيرات :
ويضيف الدكتور أحمد نوفل قائلاً : لا شك أن العمل الإسلامي يزداد صعوبة وإحراجاً يوماً بعد يوم ، ويضيق عليه الخناق في اتساع متلاحق يبهر الأنفاس ، ولكن هذه هي طبيعة الصراع بين الحق والباطل ، المهم أن لا تأخذنا ( الروعة) من هذه الهجمة ، ونحكم العقل في تصرفنا مزيداً ومزيداً ، ونرتب الأولويات ، ونتجاوز الصغائر التي ندور في حلقتها دوران من تدير السواقي.
وأقول: إن الصعوبات قد تفتق من الإبداعات وتفتح من المكنونات والمخزونات ما لا يتفتح في ظل الأوضاع الراكدة لكن المسألة تحتاج اليوم إلى قيادات استثنائية متفانية متوازنة مقدامة هائلة التفكير ، حكيمة التدبير ، شورية القرار ، ملمة بالعصر ، شاملة الطرح ، واسعة الأفق ، رحبة النظر والرؤى ، متسامحة ، وإلا فلا داعي للمواجهة من الأساس.
إن التحديات لا تخيف ، لكن التخلف هو الذي يخيف ، بمعنى أن تظل الأطروحات المكرورة والمهزوزة والممجوجة ، والخلافات تسود العمل الإسلامي ، هذا يخيف أكثر من الصهيونية ومكرها ، وأمريكا وغدرها.
الآن زمن التشمير ، لكن التشمير الحكيم ، لا العمل الهزر النزر الذي لا حب تحته ولا طائل وراءه ، ولربما كان العمل بحاجة إلى شيء من التكتم ، والمراجعة الدائمة ، والنقد الذاتي ، واستغلال كل طاقة ، والاستماع إلى كل صوت.. إن الفردية جنت علينا ، أفننقلها إلى العمل الإسلامي ؟
ثم لا بد من التركيز على مشروع المواجهة في فلسطين ، إن انتهاء المواجهة مؤذن بانهزام مشروعنا الثقافي والحضاري كله لعدة سنين فلا بد من المواصلة ولتكن التضحيات ما تكون.
ثم لا بد من الخروج من قوقعة التحزبات ، فهذا أوان الخروج من الشرائق ، للتعاون والتلاقي والتناصح والتآخي ، والانفتاح على الجميع ، فالهجمة أكبر من الجميع ، والموج طاغ ، والعدو باغ ، والإمكانات – إن حشدت - مباركة ، والفارق الهائل مع عدونا لا يجسره ولا يردمه إلا تعاوننا وشحذ قدراتنا ، التخطيط الجيد ، العمل الدؤوب ، الطرح الواسع ، الأخوة الحقيقية بين المؤمنين ، التسامح مع الآخرين ونبذ التعصب ، الانفتاح على العصر وفهمه بعمق ، اليقين المطلق بالحق الذي نحمل.. كل ذلك من معينات المرحلة الحرجة التي تعيش.
تلاحم الأجيال :(/11)
كما دعا فضيلة الشيخ أحمد نوفل إلى تلاحم الأجيال فقال: إن الحركة ناموس الوجود ، والتجدد سنة الكون ، والحركات لا بد أن تستوعب هذا ، فحكمة الشيوخ مطلوبة، ودماء الشباب الفوارة وحماسهم الجياش مطلوب كذلك ، في تناغم وتعايش بين الأجيال ، لكن يحصل أحياناً فجوة وجفوة بين الأجيال ، وعين هذا على هذا والعكس ، ولقد مضى زمان مثل هذا العبث والضياع ، والحرص على الموقع مصيبة، فمن عاقل يحرث على موقع في الذروة في هذا الريح العاتي ؟ اللهم إلا إذا كان لا يستوعب المرحلة ، فالمفروض أن يتصدى للإمامة والقيادة الأكفأ والأمضى عزماً ، بقطع النظر عن الزمن ، فلرب من أفنت الأيام عمره يملك من مضاء العزيمة ما لا يملك من هو قادم إلى الوجود حديثاً ، هذه معركة مصير ، ومعركة وجود ، ينبغي أن يفسح فيها لكل صاحب طاقة ، ولكل صاحب قدرة وعقل وحكمة ورؤية وروية ، وأن يثق بعضنا ببعض ، وأن تتناغم الأجيال وتتعايش ، مضى زمان النوم ، مضى وقت التردد والحساب ، وآن أوان الجد والعمل ورص الصف وحشد الطاقة واستنفار كل مخزون الأمة الروحي والنفسي والعقائدي والحضاري.
==================
الدكتور محمد خضر عريف
فشل المشروع السياسي :
من جهته أكد الدكتور محمد خضر عريف أنه ينقص عالمنا العربي في الوقت الحاضر الكثير من المشروعات كي يخرج من ضائقته المزمنة ، وينهض من الضعف المدقع الذي ألم به ، حتى أصبح من الكتلة البشرية الأكثر ضعفاً في بدايات القرن الحادي والعشرين.
ومن تلك المشروعات التي تنقص العالم العربي : المشروع الاقتصادي ، والمشروع العسكري ، والمشروع الإعلامي ، وقبلها جميعاً : المشروع السياسي ، إذ ما تزال السياسة العربية هائمة على وجهها منذ نهاية القرن الماضي ومطلع القرن الحالي.
ولم يستطع العرب منذ تحرر كل بلدانهم من نير الاستعمار الغربي – أو الإمبريالية الغريبة وهو التعبير الأدق – لم يستطيعوا أن يحددوا لأنفسهم طريقة ما ، فتشتتوا بين القومية والاشتراكية – وهي الاسم الملطف للشيوعية – والانغلاق والانفتاح والرأسمالية ، حتى أفلست هذه جميعا وأخفقت في تمثيل المشروع السياسي العربي ففكر العرب في بدائل كثيرة لم يكن الإسلام يوماً واحداً منها ، بل على العكس ظلوا يعتقدون أن الإسلام – بوصفه بديلاً لكل الأيدلوجيات التي اعتنقوها – مرفوض تماماً ، بل ويجب حربه والتصدي له : إذ يمثل الخطر الأكبر ، وبناء عليه بقي العرب تحت وطأة الإمبريالية ولكن بشكل غير مباشر ، وهذا الشكل غير المباشر أنكى وأشد بلاء من الشكل المباشر الذي تنكشف فيه كل الأوراق ، بينما تلعب الإمبريالية في الخفاء في الشكل غير المباشر ، وبالنسبة لهؤلاء الإمبرياليين فإن غايتهم الكبرى متمثلة في عدد من الأمور أهمها : إحكام السيطرة على القرار السياسي في البلدان التي تقع تحت سيطرتهم فلا يكون هذا القرار إلا مناسباً لتطلعاتهم وأطماعهم بغض النظر عن مصالح تلك البلدان أو مصائرها ، ومنها السيطرة على مقدرات تلك البلدان وامتصاص خيراتها بحيث ينتعش اقتصاد الدولة المسيطرة ويتردى اقتصاد الدول المسيطر عليها ، ومنها كذلك الهيمنة والعربدة العسكرية التي تهدد بالثبور وعواقب الأمور كل من يخرج عن الطوع وقد تبادر إلى الذهن (ضرب المربوط فيخاف السايب) كما يقول المثل العربي .
وهكذا تحقق الإمبريالية غير المباشرة الأهداف نفسها التي تحققها الإمبريالية المباشرة ، ويحدث ذلك كله في ظل غياب المشروع السياسي العربي ، ويبدو في تقديري أن العرب لم يبدأوا معركتهم من أجل تحرير بلدانهم وشعوبهم من وطأة الاستعمار أو الإمبريالية بعد ، مع أن عشرات السنين قد انقضت منذ إعلان استقلال الدول العربية عن المستعمر الغربي في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ، وبعد كل الضوائق التي مر بها العرب في هذا القرن ، لا بد من التفكير في كيفية الخروج منها في مطلع القرن الحالي ، وإلا فإن هذه الضوائق ستحكم الخناق عليهم فلا يجدوا ما يأكلونه أو يشربونه أو يلبسونه.
تتار الأمة يرسمون لها الدوائر :(/12)
ويحذر الدكتور محمد خضر عريف من الإسراف في التفاؤل ، فيقول : يتفاءل البعض ويقول : إنه قد مرت على الأمة العربية والإسلامية عهود ضعف أشد وطأة من العهد الحالي ويضربون لذلك الأمثلة بعهد التتار ، حيث كان الواحد منهم يرسم للمسلم دائرة ويأمره بالوقوف فيها دون حراك حتى يذهب ويحضر سيفه ليقتله ، فيتمثل المسلم لذلك ولا يجرؤ على مغادرة الدائرة حتى يعود التتري فيقتله ، ونقول رداً على ذلك إنه في الواقع الأليم لم تمر على الأمة عهود كانت فيها أضعف مما هي عليه في الوقت الحاضر ، فإن كانت حادث التتار المشار إليها تمثل حادثة مزرية وقعت لشخص وعدد لا يمثل بقية الأمة التي ما فتئت أن انتفضت وتحررت من التتار وقضت عليهم قضاء مبرماً ، فإن ( تتار) هذا العصر يرسمون للأمة العربية كلها دوائر عديدة لا يجوز لها الخروج منها فإن خرجت وجدت الصواريخ والقنابل والمدافع في انتظارها.
وقد أصبحت الدوائر كثيرة جداً بعد أن كانت دائرة واحدة في عهد تتار الماضي ، فهناك دائرة اقتصادية تحيط بالعالم العربي الإسلامي تحظر عليه تنويع مصادر دخله وتحرم عليه بيع منتوجاته الصناعية في الغرب لتنافس المنتوجات الغربية، وتضمن الحصول على منتوجاته الطبيعية بأبخس الأثمان ، وتضمن في الوقت ذاته إبقاءه تحت طائلة الفقر والعوز ليظل تحت رحمة الدول الكبرى ، وهناك دائرة إعلامية تحيط بالعالم العربي تحظر عليه عرض الحقيقة المجردة أو التعرض لرموز سياسية وعسكرية طاغية في العالم كي تخفي على أبنائه حقيقة تلك الرموز وما تمثله من خطر على حاضرهم ومستقبلهم ، ودائرة عسكرية يبقى العالم العربي داخلها أضعف بكثير من إسرائيل ولا يحق لأي دولة فيه أن تملك السلاح النووي أو أسلحة الدمار الشامل كما تسمى بينما تملك إسرائيل ترسانات ضخمة من هذه جميعا ، ولا يحق لأحد الاعتراض على ذلك ، ويجب على العرب في الوقت نفسه داخل الدائرة العسكرية شراء أسلحة تقليدية بأغلى الأثمان بينما توهب إسرائيل الأسلحة غير التقليدية على مرأى ومسمع منهم ، ولا يسمح لهم بالاعتراض.
أما الدائرة السياسية فتمثل في عدم قدرة العرب على اتخاذ القرار السياسي المستقل ، دون الرجوع إلى القوى الطاغية المسيطرة ، وعليه فإن جميع القرارات تتسم بالضعف ، وفي كثير من الأحيان يمكن وصفها بالتخاذل والخور.
ورغم القوة البشرية والاقتصادية والجغرافية الهائلة التي تتمتع بها الكتلة العربية إلا أن كتلاً كثيرة في العالم قد تكون أقل قوة منها بكثير أثبتت أنها أقوى من الكتلة العربية على اتخاذ القرار السياسي ، وعدم الاكتراث بالقوى العالمية الضاربة ، من تلك الكتل الكتلة الأفريقية التي تحدت ما يسمى (الحظر الدولي ) الذي لا يمثل إلا دائرة من الدوائر التي يضيع فيها العالم العربي في الوقت الحاضر ، ومن ذلك أيضاً ما أقدمت عليه باكستان وهي دولة فقيرة من إجراء تفجيراتها النووية غير عابئة بتهديدات الإمبريالية التي عادت وتراجعت بعد أن أحست بالقوة ، ومن يجرؤ ، نقولها ، في العالم العربي على التصريح بامتلاكه لسلاح نووي أو سلاح غير تقليدي كما يسمى.
ونقول مجدداً : إن العالم العربي بحاجة ماسة إلى مشروع سياسي في مطلع القرن الحادي والعشرين وإلا فإن الدوائر التي وضع فيها سوف تزداد وربما تتضاعف في القرن الحالي.
11 سبتمبر والإجهاز على الإسلام :
الدكتور / محمد خضر عريف أجاب على تساؤل في غاية الأهمية وهو : هل كانت الدول العربية والإسلامية تعزز الاتجاهات الإسلامية قبل 11 سبتمبر ؟ فقال: من الأوهام التي يعيشها العالمان العربي والإسلامي هذه الأيام ما يردد اليوم بعد 11 سبتمبر من أن الهجمة الغربية على الإسلام والمسلمين في الوقت الحاضر تهدف إلى تعزيز الاتجاهات العلمانية وتعزيز مفاهيم وقيم الحضارة الغربية السياسية والاجتماعية في المجتمعات الإسلامية وتصويرها على أنها البديل المنقذ من حالة الضياع والوحدانية التي يعيشها المسلمون اليوم.
أقول : إن ذلك من الأوهام لأنه يفترض أن دول العالمين العربي والإسلامي كانت قبل 11 سبتمبر ماضية في تعزيز الاتجاهات الإسلامية وتعزيز مفاهيم وقيم الحضارة السياسية والاجتماعية.(/13)
والواقع هو أن معظم هذه الدول قد وجدت فرصة في هذه الهجمة المفتعلة تنفض أيديها مما تبقى من الإسلام لديها وتنقض على أية أحزاب أو جماعات إسلامية لتصفي ما بقي منها ، ذلك أن الرغبة في التخلص من كل ما هو إسلامي موجودة عند العرب والمسلمين منذ زمن طويل ، فانظر يمنة ويسرة لترى جميع الأنظمة العربية والإسلامية - إلا من رحم ربك – وقد أعلنت علمانيتها التامة وفصلها الكامل ما بين الدين والدولة حتى أصبح الدين في كثير من تلك الدول تهمة يعاقب عليها القانون ، وربما بالإعدام ومسحت بعض الدول كل مظاهر الإسلام الدينية الاجتماعية فمنعت الحجاب ، بل وحظرت وطردت المتحجبات من الأعمال الحكومية ومن البرلمانات ، وأباحت زواج المسلمة بغير المسلم ، وضيعت الصيام في رمضان في وقت العمل الرسمي ، وحرمت تعدد الزوجات ، وفتحت الأبواب على مصارعها أمام كافة أنواع التعاملات الربوية وغير ذلك من الممارسات التي تجعل من المجتمعات الإسلامية مجتمعات غير إسلامية البتة.
ناهيك عن حظر أي أحزاب أو تكتلات إسلامية دون غيرها فيسمح للشيوعيين وسواهم تسجيل أحزابهم والعمل الحزبي السياسي الكامل على سبيل المثال ، بينما تحظر الأحزاب الإسلامية ويلاحق أفرادها ويعتقلون وقد يسجنون أو يقتلون.
فمن الواضح أن الكثير من الدول العربية والإسلامية قد وجدت في هذه الحملة الغربية الجديدة فرصة سانحة لها لاستكمال مشروعها العلماني والارتماء في أحضان الغرب.
الحاجة لصحوة بعيدة عن التشنج :
ودعا الدكتور محمد خضر عريف إلى صحوة إسلامية وعصرية بعيدة عن كل مظاهر التشدد والتشنج قائمة على استراتيجية مدروسة تعتمد على الوسطية المطلوبة منذ وقت بعيد فقد كان العالم الإسلامي واقعاً بين مطرقة العلمانية وسندان التشدد خلال عشرات من السنين أعقبت استقلال الدول الإسلامية عن المستعمر الغربي.
ولا بد من مشروع إسلامي حضاري في مطلع القرن الحادي والعشرين يحدد طبيعية علاقة المسلمين بالغرب من جهة وطبيعة التكوين الاجتماعي والسياسي والاقتصادي للدول الإسلامية من جهة أخرى .. هذا المشروع لا أتصور أن الأنظمة السياسية القائمة في العالم الغربي والإسلامي مهتمة به كثيراً ، فيجب على علماء الأمة أن يتبنوه ويقدموه لأولياء الأمر من باب النصيحة في كل أنحاء العالم عسى أن يجد له قبولاً ، ويكون مخرجاً للعالم الإسلامي من ضائقته الحالية.
===============
الدكتور محمد موسى الشريف :
لماذا ضعفت الأمة :
الدكتور محمد موسى الشريف ركز على العوامل التي أدت إلى ضعف الأمة وطمع الأعداء بها وحددها في :
• الابتعاد عن المصادر الأصلية التي تستقي منها العزة والكرامة ، وترسم لها طريقها في الحياة ، وتقيم نظامها ودستورها بها ، وأعني كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
• توقف عجلة الإبداع والاكتشاف والاختراع منذ نهاية القرن العاشر الهجري.
• انقطاع الصلة بالأحداث العالمية من مكتشفات ومخترعات وإبداعات في الجوانب الصناعية والتقنية ، مما أدى إلى تأخر كل محاولات اللحاق بالركب العالمي.
• الظلم الشديد الذي مورس على المسلمين في كثير من الأحيان إلى اهتمامهم بتحصيل رزقهم والابتعاد عن كل مشاركة سياسية ، أو علمية ، وهذا قتل روح الإبداع لديهم وقلل إلى حد كبير قدرتهم على العطاء والبذل.
• قلة الاستعداد العسكري وعدم الأخذ بقوله تعالى : (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم). ومثال على هذا : لما جاء نابليون بقوة ضخمة لاحتلال مصر كان في الإسكندرية مدفعان عثمانيان عتيقان يدافعان عنها ، أحدهما كان معطلاً !!
• محدودية حركات الإصلاح ، وعجز أكثرها عند وضع البرنامج المناسب الذي ترتقي به الأمة وتتجاوز مشكلاتها.
• استشراء ألوان وأصناف من الفساد الإداري والاجتماعي.
• الحركات الانفصالية التي قامت في جسد الدولة العثمانية وأدت إلى إخفاقها.
• وجود عملاء كثر للغرب من الأقليات غير المسلمة الموجودة في البلاد الإسلامية.
• عدم اجتماع العالم الإسلامي تحت راية واحدة ، وضياع الخلافة الإسلامية.
الهجمة الإعلامية الغربية :
لقد علل الدكتور محمد موسى الشريف موجة الكراهية التي تبثها أجهزة الإعلام الغربية ضد الإسلام بعدة أسباب منها :
• صد قومهم عن التعرف على محاسن الدين الإسلامي وتنفيرهم منه ، والأجهزة الإعلامية هنا تقوم مقام الاستشراق القديم في تزييفه للحقائق ، وتنفير الغربيين الأوائل من الإسلام والمسلمين.
• الخوف من تصاعد قوة المسلمين ليشككوهم في دينهم وصلاحيته لكل زمان ومكان.
• التناغم مع الحملات السياسية والعسكرية الغربية ضد الإسلام والمسلمين ، فذراع الإعلام هو الذراع الأقوى في الهجمة الغربية الصليبية على الإسلام والمسلمين.
• التمهيد لأهداف اليهود في الاستيلاء على المنطقة وتركيع شعوبها.
أسباب اعتداء الغرب :(/14)
وحول أسباب العدوان الغربي قال فضيلة الشيخ محمد موسى : إن هناك دوافع عدة منها :
• دافع اقتصادي بغرض السيطرة على منابع النفط والتحكم في ثروات العالم الإسلامي.
• بالإضافة للتمهيد لليهود للاستقرار في فلسطين بل التوسع ، وذلك عن طريق القضاء على أية قوة تقف في وجه اليهود ، أو يحتمل أن تقف في المستقبل هذا الموقف.
• بالإضافة إلى التحكم في اقتصاد العالم العربي ، ومحاولة إفقار هذا الجزء المهم من العالم الإسلامي.
• القضاء على الحركات الإسلامية أو إضعافها لينفتح الطريق أمام اليهود للعبث في المنطقة.
• تغيير المناهج التي تعلم الأجيال خطورة اليهود وكفرهم وضلالهم.
• التحكم في منابر الوعظ والتوجيه في الإعلام والمساجد حتى لا يتفوه واعظ أو عالم مثقف بكلمة تؤثر في اليهود أو تكشف مؤامراتهم.(/15)
محاولة خائبة لجاهليّ معاصر
"قسّ ونبي: بحث في نشأة الإسلام"
أ. د. عماد الدين خليل 2/11/1426
04/12/2005
[ 1 ]
هذا هو عنوان بحث صدر حديثاً لرجل يدّعي أن اسمه ( أبو موسى الحريري )! يعالج فيه قضية تاريخية تنطوي على بعدها الديني بكل تأكيد، إلاّ أنها ـ ابتداءً ـ حلقة تاريخية تتطلب، للتعامل العلمي الجادّ مع مفرداتها، منهجاً تاريخياً يستقصي المرويّات
كافة حول الموضوع بأكبر قدر من الأمانة، ويحذر عن مظنة الانتقاء الكيفي لتأكيد استنتاج مسبق، فيما هو ضد المنهج أساساً.
وبإحالة هذا الذي كتبه (أبو موسى الحريري) في (قس ونبيّ: بحث في نشأة الإسلام) على عشرات، بل مئات الدراسات التي شهدتها مكتبة السيرة النبوية، سيجد المرء نفسه إزاء حالة استثنائية شاذة لا تدعمها المرويّات التاريخية واليقين العلمي، وإنما تستند إلى جملة من الأوهام والظنون والتخمينات التي تنتقي وتستبعد وتفترض، وأحياناً ترغم الواقعة التاريخية على ما لم يكن في تكوينها أساساً.
ليس بحثاً جاداً هذا الذي أنجزه الرجل، وإنما عبث بالحقائق التاريخية التي أجمع عليها الباحثون في الشرق والغرب بخصوص هذه المفردة الصغيرة في سيرة رسول الله
(صلى الله عليه وسلم)؛ إذ لم يكن قد التقى ورقة قبل أن تأخذه إليه زوجته البارّة خديجة
(رضي الله عنها) لتلقّي جوابه إزاء هزة الوحي الأولى التي أصابته بالحمى لوقعها المفاجئ الثقيل، وحيث أكّد ورقة، وهو الرجل الذي كان قد قرأ العهدين القديم والجديد بالعبرانية حتى كلّت عيناه، وعرف من خلال ما تبقى من معطياتهما الأصيلة، أن هذا الرجل هو النبي الذي بشّر به عيسى (عليه السلام)، والذي سيتلقى الناموس الذي تلقاه موسى (عليه السلام)، والذي يعرفه اليهود والنصارى من كتبهم كما يعرفون أبناءهم!
إن هذا الذي يتخيّله (أبو موسى الحريري) ويفرضه على الواقعة التاريخية لكي يطوّعها لاستنتاجاته المسبقة، ليس كشفاً جديداً، لقد قاله العرب الأميّون قبله، زمن رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وحاولوا - من أجل حماية وثنيتهم- اتهام الرسول (صلى الله عليه وسلم) بتلقّي كتابه عن القسس والرهبان، دون أن يدركوا أنهم وضعوا أنفسهم في مفارقة لا يمكن قبولها: إن هؤلاء الذين يلقّنون رسول الله (صلى الله عليه وسلم) (أعاجم) في أصولهم أو في ثقافتهم ولغتهم، وإن القرآن يتنزّل بأسلوب عربي معجز مبين: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ). [النحل:103] وها هو ذا (أبو موسى الحريري) يعيد الدور نفسه، ويقع في الأكذوبة ذاتها. فإذا كان القدماء قد فاتتهم المفارقة المذكورة، فإن هذا الباحث المحدث، وهو يحاول أن يدعم نصرانيته في مواجهة الإسلام، فاتته مفارقة لا تقل ثقلاً: تلك هي أن المضامين القرآنية تنطوي على جملة خصائص تجعل مسألة التلقّي المزعومة عن (القسّ ورقة) مستحيلة بكل المقاييس. ولن يتسع المجال للاستفاضة فيها، ولذا سيتم الاكتفاء بمجرد التأشير على ثلاثة منها فحسب.
[ 2 ]
إن القرآن الكريم نفسه، بسبب من مطابقته التامة للحقيقتين التاريخية والدينية، يؤكد في حوالي عشرين موضعاً، أنه مصدّق لما بين يديه من التوراة والإنجيل، أي مطابق لبعض ما ورد في هذين الكتابين. ولكنه لا يقف عند هذا الحدّ قبالة كتابيْن تعرّضا لتحريف خطير، وإنما يمضي لتأكيد وظيفته الأخرى: تعديل الانحراف وكشف الزيف، واستئصال الأكاذيب، وإعادة الخطاب الديني الذي جاء به الأنبياء جميعاً (عليهم السلام) إلى قاعدته التوحيدية التي هي أسّ الأسس في النبوات جميعاً: ()وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ...) [المائدة: من الآية48].
فها هو ذا كتاب الله يحقّ الحق، ويبطل الهوى، ويدعو إلى الالتزام بهذا الحق، وعدم اتباع أهواء الآخرين من اليهود والنصارى (أي المغضوب عليهم والضالين) ، ولن يتحقق هذا على يد نبيّ أريد له أن يكون تلميذاً مخلصاً لقسّ يبشر بموروث أهل الكتاب.(/1)
وامتداداً لهذا الصدق الرّباني، يدعو القرآن الكريم المؤمنين كافة إلى الإيمان، ليس بالقرآن فقط، وإنما بالكتب التي نزلت قبله. ولكن أية كتب هذه؟ إنها الكتب الأصيلة قبل أن تطالها يد التزوير، وليست تلك المساحات الواسعة من الكذب والتحريف التي تولّى كبرها اليهودي السابق: (القدّيس بولص) وكل المحرّفين الذين سبقوه وأعقبوه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيداً) [النساء:136]
ليس هذا فحسب، بل إن القرآن الكريم يكشف، بمعطياته الإلهية المنزّهة عن المداخلات البشرية الوضعية، ما كان أهل الكتاب أنفسهم يخفونه من كتبهم: (يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبيّن لكم كثيراً مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير، قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين) ( سورة المائدة 15 ).
ويمضي القرآن الكريم لكي يؤكد علم أهل الكتاب السابقين بأن القرآن منزّل من الله سبحانه بالحق، وليس بالتلقّي عن قسّ يحمل في موروثه الصدق والكذب .. الأصيل والمحرّف.. اليقيني والظنّي على السواء، بغض النظر عن أن مؤلف الكتاب يسعى لإعادة تشكيل شخصية القسّ (ورقة) بما يشتهي لكي يحقق المطابقة الجاهزة بين الدعوتين:
(أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) [الأنعام:114-116]. مهما يكن من أمر فان السؤال الذي يتبادر إلى الذهن هو: ألم يكن الأولى بالنسبة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أجل التعتيم على تلقّيه عن كتب السابقين، ألاّ يشير إلى تصديقه لهذه الكتب والأخذ عنها؟!
هذا إلى أن القرآن الكريم محّض مساحات واسعة لسياقات ثلاثة لا نكاد نجد لها مكاناً في العهدين القديم والجديد، ولاسيما آخرهما، وهي:
أ ـ التشريع.
ب ـ يوم القيامة: البعث والحساب والجنة والنار.. إلى آخره ..
جـ ـ الإبداع الإلهي في الخلق الكوني ..
فإذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- عاجزاً عن أن يأتي بمواعظ التوراة
والإنجيل وقصصهما التاريخي، فكيف كان قديراً، وبالأسلوب نفسه من الأداء اللغوي والبياني المعجز، على أن يأتي بهذه المساحات الواسعة، والمؤكدة في كتاب الله، بخصوص السياقات الثلاثة المذكورة؟ وأين هو القسّ الذي تعلمّ منه النبي؟ أم لعل (الحريري) يعمل فكره في البحث عن قسّ آخر تلقى منه النبي هذا الجانب من القرآن الذي لا نكاد نجد له أثراً في التوراة والإنجيل؟!
[ 3 ]
أخيراً .. لنفترض مع أبي موسى الحريري أن محمداً - صلى الله عليه وسلم- تلقى كتابه عن القسّ ورقة، فمن الذي أعطاه القدرة التي تتجاوز الحدود البشرية بكل المقاييس على إخضاع الكتب الدينية السابقة بخصوص المعطيات المعرفية، للاختبار الدقيق الصارم في ضوء كشوف لم يزح عنها النقاب وتدخل دائرة الضوء إلاّ بعد ثلاثة عشر قرناً من لقاء النبي بالقس؟!
إن الباحث الفرنسي المعاصر (موريس بوكاي) في دراسته المقارنة للكتب السماوية الثلاثة، والتي استغرقت عشرين عاماً، وصدرت بعنوان: (القرآن الكريم والتوراة والإنجيل والعلم: دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة) (عن دار المعارف ، القاهرة ـ 1978 م) يمارس مهمته كما يقول بعقل علماني ملحد لا يؤمن بأي من الأديان، ولا يسلّم بكتبها، ولكنه يخلص إلى جملة من الحقائق والاستنتاجات التي سأورد بعضها نصّاً نظراً لأهميتها البالغة فيما نحن بصدده:
(1) " لقد قمت أولاً بدراسة القرآن، وذلك دون أي فكر مسبق، وبموضوعية تامة، باحثاً عن درجة اتفاق نصّ القرآن ومعطيات العلم الحديث. وكنت أعرف ، قبل هذه الدراسة، وعن طريق الترجمات، أن القرآن يذكر أنواعاً كثيرة من الظاهرات الطبيعية، ولكن معرفتي كانت وجيزة. وبفضل الدراسة الواعية للنصّ العربي استطعت أن أحقق قائمة أدركت بعد الانتهاء منها أن القرآن لا يحتوي على أية مقولة قابلة للنقد من وجهة
نظر العلم في العصر الحديث. وبنفس الموضوعية قمت بنفس الفحص على العهد(/2)
القديم والأناجيل. أما بالنسبة للعهد القديم فلم تكن هناك حاجة للذهاب إلى أبعد من الكتاب الأول، أي سفر التكوين. فقد وجدت مقولات لا يمكن التوفيق بينها وبين أكثر معطيات العلم رسوخاً في عصرنا. وأما بالنسبة للأناجيل.. فإننا نجد نصّ إنجيل متي يناقض بشكل جليّ إنجيل لوقا، وأن هذا الأخير يقدم لنا صراحة أمراً لا يتفق مع المعارف الحديثة الخاصة بقدم الإنسان على الأرض" (صفحة 13).
(2) لقد أثارت الجوانب العلمية التي يختص بها القرآن دهشتي العميقة في البداية. فلم أكن أعتقد قط بإمكان اكتشاف عدد كبير إلى هذا الحدّ من الدعاوى الخاصة بموضوعات شديدة التنوّع، ومطابقته تماماً للمعارف العلمية الحديثة، وذلك في نصّ كتب منذ أكثر من ثلاثة عشر قرناً. في البداية لم يكن لي أي إيمان بالإسلام. وقد طرقت: دراسة هذه النصوص بروح متحررة من كل حكم مسبق وبموضوعية تامة " (صفحة 144).
(3) تناولت القرآن منتبهاً بشكل خاص إلى الوصف الذي يعطيه عن حشد كبير من الظاهرات الطبيعية. لقد أذهلتني دقة بعض التفاصيل الخاصة بهذه الظاهرات، وهي تفاصيل لا يمكن أن تدرك إلاّ في النص الأصلي. أذهلتني مطابقتها للمفاهيم التي نملكها اليوم عن نفس هذه الظاهرات، والتي لم يكن ممكناً لأي إنسان في عصر محمد أن يكوّن عنها أدنى فكرة" (صفحة 145).
(4) " كيف يمكن لإنسان ـ كان في بداية أمره أمّياً ـ.. أن يصرح بحقائق ذات طابع علمي لم يكن في مقدور أي إنسان في ذلك العصر أن يكوّنها، وذلك دون أن يكشف تصريحه عن أقل خطأ من هذه الوجهة؟" (صفحة 150).
(5) إن اليهود والمسيحيين والملحدين في البلاد الغربية يجمعون على الزعم، وذلك دون أدنى دليل، بأن محمداً كتب أو استكتب القرآن محاكياً التوراة. مثل هذا الموقف لا يقل استخفافاً عن ذلك الذي يقود إلى القول بأن المسيح أيضاً قد خدع معاصريه باستلهامه للعهد القديم. فكل إنجيل متي يعتمد على تلك الاستمرارية مع العهد القديم. أي مفسّر هذا الذي تعنّ له فكرة أن ينزع من المسيح صفته كرسول لله، لذلك السبب؟ ومع ذلك فهكذا يعلن في الغرب .. " (صفحة 148 ـ 149) وذيوله من أمثال الحريري!!
(6) " مقارنة العديد من روايات التوراة مع روايات نفس الموضوعات في القرآن تبرز الفروق الأساسية بين دعاوى التوراة غير المقبولة علمياً، وبين مقولات القرآن التي تتوافق تماماً مع المعطيات الحديثة.. وعلى حين نجد في نصّ القرآن .. معلومات ثمينة تُضاف إلى نصّ التوراة .. نجد فيما يتعلق بموضوعات أخرى فروقاً شديدة الأهمية تدحض كل ما قيل من ادّعاء ـ دون أدنى دليل ـ على نقل محمد للتوراة حتى يعدّ نصّ القرآن".(صفحة 285 ـ 286).
(7) لو كان كاتب القرآن إنساناً، كيف استطاع في القرن السابع (الميلادي) أن يكتب ما اتضح أنه يتفق مع المعارف العلمية الحديثة، في الخلق وعلم الفلك وعلوم الأرض والحيوان والنبات والتناسل الإنساني، التي تعكس التوراة أخطاء علمية ضخمة بشأنها؟ ليس هناك أي مجال للشك، فنصّ القرآن الذي نملك اليوم هو فعلاً نفس النص الأول.. وليس هناك سبب خاص يدعو للاعتقاد بأن أحد سكان شبه الجزيرة العربية.. استطاع
(يومها) أن يملك ثقافة علمية تسبق بحوالي عشرة قرون ثقافتنا العلمية فيما يخص بعض الموضوعات" (صفحة 145).
هذه التأشيرات تكفي، وهناك عشرات غيرها لن يتسع لها المجال، والأفضل
ألاّ يتسع؛ إذ ليس مقبولاً أن يضيّع المسلم الجاد وقته وجهده في الردّ على ترّهات كهذه التي نجدها في كتاب رجل يوحي حتى اسمه بالتعتيم والتزييف لتمرير اللعبة الماكرة، وهي ـ مرة أخرى ـ لعبة سبق وأن مارسها الجاهليون القدماء، وها هم الطائفيون الجدد يعيدون تمثيلها من جديد:(وقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْماً وَزُوراً وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً) [لفرقان:4-6].(/3)
محبة الله لعبده بين الادعاء والحقيقة الإمام أبي حامد الغزالي (رحمه الله)
ن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله تعالى قال: من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه".
وروى الطبراني في الكبير عن أمامة: يقول الله تبارك وتعالى في الحديث القدسي: (ما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فأكون سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ولسانه الذي ينطق به، وعقله الذي يعقل به، فإذا دعاني أجبته، وإذا سألني أعطيته، وإن استنصرني نصرته، وأحب ما تعبدني به النصح لي).
لا شك أن كل مسلم في هذه الحياة يتمنى محبة الله جل وعلا له ويطمع إلى أن يكون أحد المقربين من الله والنصوص في القرآن والسنة الدالة على محبة الله لعباده المؤمنين كثيرة جدا منها قوله تعالى "يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين . "
ومن الضروري لكل من طلب محبة الله جل وعلا أن يعرف معنى هذه المحبة وما يترتب عليها وبعض العلامات الدالة عليها وهذا ما يعرضه لنا الإمام أبو حامد الغزالي (رحمه الله في كتابه إحياء علوم الدين) فيقول:
إن شواهد القرآن متظاهرة على أن الله تعالى يحب عبده، فلابد من معرفة معنى ذلك، فقد قال تعالى: "يحبهم ويحبونه" وقال: "إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً" وقال: "إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين"
وكذلك رد سبحانه على من ادعى أنه حبيب الله فقال: "قل فلم يعذبكم بذنوبكم" وهذه المحبة لا تفهم إلا بمثال وهو أن الملك قد يقرب عبده من نفسه ويأذن له في كل وقت حضور بساطة لميل الملك إليه، إما لينصره بقوته أو ليستريح بمشاهدته أو ليستشيره في رأيه أو ليهيئ أسباب طعامه وشرابه، فيقال: إن الملك يحبه، ويكون معناه ميله إليه لما فيه من المعنى الموافق الملائم له. وقد يقرب عبداً ولا يمنعه من الدخول عليه لا للانتفاع به ولا للاستنجاد به ولكن لكون العبد في نفسه موصوفاً من الأخلاق المرضية والخصال الحميدة بما يليق به أن يكون قريباً من حضرة الملك وافر الحظ من قربه، مع أن الملك لا غرض له فيه أصلاً، فإذا رفع الملك الحجاب بينه وبينه يقال: قد أحبه، وإذا اكتسب من الخصال الحميدة ما اقتضى رفع الحجاب يقال: توصل وحبب نفسه إلى الملك. فحب الله للعبد يكون بالمعنى الثاني لا بالمعنى الأول.
فإذن محبة الله للعبد هي تقريبه من نفسه سبحانه بدفع الشواغل والمعاصي عنه وتطهير باطنه عن كدورات الدنيا ورفع الحجاب عن قلبه حتى يشاهده كأنه يراه بقلبه.
وقال العلماء: إن محبة الله تعالى لعبده هي إرادته الخير له وهدايته وإنعامه عليه ورحمته.
وقد روى مسلم عن أبي هريرة (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله إذا أحب عبداً دعا جبريل، فقال: إني أحب فلاناً فأحبه، قال : فيحبه جبريل ثم ينادي في السماء فيقول: إن الله يحب فلاناً فأحبوه فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض. وإذا أبغض عبداً دعا جبريل فيقول: إني أبغض فلاناً فأبغضه قال: فيبغضه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء: إن الله يبغض فلاناً فأبغضوه، قال: فيبغضونه ثم يوضع له البغضاء في الأرض"
وجاء في صحيح مسلم أن سهيل بن أبي صالح قال: كنا بعرفة فمر عمر بن عبد العزيز وهو على الموسم فقام الناس ينظرون إليه فقلت لأبي: يا أبت إني أرى الله يحب عمر بن عبد العزيز قال: وما ذاك . قلت: لما له من الحب في قلوب الناس، فقال: بأبيك أنت سمعت أبا هريرة يتحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا …. ثم ذكر الحديث السابق.
وأخص علامات حب الله لعبده أن يتولى الله تعالى أمره: ظاهره وباطنه، سره وجهره، فيكون هو المشير عليه، والمدبر لأمره والمزين لأخلاقه، والمستعمل لجوارحه، والمسدد لظاهره وباطنه، والمؤنس له بلذة المناجاة في خلواته، والكاشف له عن الحجب بينه وبين معرفته.
وقد روى أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس من حديث أم سلمة- رضي الله عنها- "إذا أحب الله عبداً جعل له واعظاً من نفسه، وزاجراً من قلبه، يأمره وينهاه".
ومن علامات حب الله تعالى لعبده أن يضع له القبول والحب من أهل السماء وأهل الأرض- كما مر في الحديث الذي رواه مسلم- فيكرمونه وترتفع منزلته عندهم، كما صنع الله تعالى مع موسى عليه السلام حيث جعل عدوه يحبه، فقال تعالى ممتناً على موسى: "وألقيت عليك محبة مني"
فهذا وأمثاله هو علامة حب الله تعالى للعبد.(/1)
محبة الله لعبده بين الادعاء والحقيقة / الإمام أبي حامد الغزالي - رحمه الله -
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الله تعالى قال: من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه".
وروى الطبراني في الكبير عن أمامة: يقول الله - تبارك وتعالى - في الحديث القدسي: (ما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فأكون سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ولسانه الذي ينطق به، وعقله الذي يعقل به، فإذا دعاني أجبته، وإذا سألني أعطيته، وإن استنصرني نصرته، وأحب ما تعبدني به النصح لي).
لا شك أن كل مسلم في هذه الحياة يتمنى محبة الله - جل وعلا - له ويطمع إلى أن يكون أحد المقربين من الله والنصوص في القرآن والسنة الدالة على محبة الله لعباده المؤمنين كثيرة جدا منها قوله - تعالى - "يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين".
ومن الضروري لكل من طلب محبة الله - جل وعلا - أن يعرف معنى هذه المحبة وما يترتب عليها وبعض العلامات الدالة عليها وهذا ما يعرضه لنا الإمام أبو حامد الغزالي - رحمه الله - في كتابه إحياء علوم الدين) فيقول:
إن شواهد القرآن متظاهرة على أن الله - تعالى - يحب عبده، فلابد من معرفة معنى ذلك، فقد قال - تعالى -: "يحبهم ويحبونه" وقال: "إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً" وقال: "إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين".
وكذلك رد - سبحانه - على من ادعى أنه حبيب الله فقال: "قل فلم يعذبكم بذنوبكم" وهذه المحبة لا تفهم إلا بمثال وهو أن الملك قد يقرب عبده من نفسه ويأذن له في كل وقت حضور بساطة لميل الملك إليه، إما لينصره بقوته أو ليستريح بمشاهدته أو ليستشيره في رأيه أو ليهيئ أسباب طعامه وشرابه، فيقال: إن الملك يحبه، ويكون معناه ميله إليه لما فيه من المعنى الموافق الملائم له. وقد يقرب عبداً ولا يمنعه من الدخول عليه لا للانتفاع به ولا للاستنجاد به ولكن لكون العبد في نفسه موصوفاً من الأخلاق المرضية والخصال الحميدة بما يليق به أن يكون قريباً من حضرة الملك وافر الحظ من قربه، مع أن الملك لا غرض له فيه أصلاً، فإذا رفع الملك الحجاب بينه وبينه يقال: قد أحبه، وإذا اكتسب من الخصال الحميدة ما اقتضى رفع الحجاب يقال: توصل وحبب نفسه إلى الملك. فحب الله للعبد يكون بالمعنى الثاني لا بالمعنى الأول.
فإذن محبة الله للعبد هي تقريبه من نفسه - سبحانه - بدفع الشواغل والمعاصي عنه وتطهير باطنه عن كدورات الدنيا ورفع الحجاب عن قلبه حتى يشاهده كأنه يراه بقلبه.
وقال العلماء: إن محبة الله - تعالى - لعبده هي إرادته الخير له وهدايته وإنعامه عليه ورحمته. (1)
وقد روى مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله إذا أحب عبداً دعا جبريل، فقال: إني أحب فلاناً فأحبه، قال: فيحبه جبريل ثم ينادي في السماء فيقول: إن الله يحب فلاناً فأحبوه فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض. وإذا أبغض عبداً دعا جبريل فيقول: إني أبغض فلاناً فأبغضه قال: فيبغضه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء: إن الله يبغض فلاناً فأبغضوه، قال: فيبغضونه ثم يوضع له البغضاء في الأرض"
وجاء في صحيح مسلم أن سهيل بن أبي صالح قال: كنا بعرفة فمر عمر بن عبد العزيز وهو على الموسم فقام الناس ينظرون إليه فقلت لأبي: يا أبت إني أرى الله يحب عمر بن عبد العزيز قال: وما ذاك. قلت: لما له من الحب في قلوب الناس، فقال: بأبيك أنت سمعت أبا هريرة يتحدث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكذا …. ثم ذكر الحديث السابق.
وأخص علامات حب الله لعبده أن يتولى الله - تعالى - أمره: ظاهره وباطنه، سره وجهره، فيكون هو المشير عليه، والمدبر لأمره والمزين لأخلاقه، والمستعمل لجوارحه، والمسدد لظاهره وباطنه، والمؤنس له بلذة المناجاة في خلواته، والكاشف له عن الحجب بينه وبين معرفته.
وقد روى أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس من حديث أم سلمة- رضي الله عنها- "إذا أحب الله عبداً جعل له واعظاً من نفسه، وزاجراً من قلبه، يأمره وينهاه".
ومن علامات حب الله - تعالى - لعبده أن يضع له القبول والحب من أهل السماء وأهل الأرض- كما مر في الحديث الذي رواه مسلم- فيكرمونه وترتفع منزلته عندهم، كما صنع الله - تعالى - مع موسى - عليه السلام - حيث جعل عدوه يحبه، فقال - تعالى - ممتناً على موسى: "وألقيت عليك محبة مني"
فهذا وأمثاله هو علامة حب الله - تعالى - للعبد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(/1)
(1)هذا المعنى لهذه الصفة غير صحيح وهو من تأويلات المعتزلة وغيرهم، والصحيح أن المحبة صفة حقيقية تليق به سبحانه.(/2)
محبطات الأعمال [1/4]
توفيق علي 18/3/1427
16/04/2006
- مقدمة
- لماذا هذا الموضوع
- معنى حبط لغة.
- الحبط في الاصطلاح الشرعي.
- من فوائد الأعمال الصالحة.
- هل الكبائر تحبط الأعمال؟
- خوف المؤمن أن يحبط عمله.
أولاً: الخوف من النفاق.
ثانياً: الإشفاق على العمل أن يصير إلى الضياع.
- حال السلف وتحقيرهم لأعمالهم.
ثالثاً: توفير الحسنات.
رابعاً: غيرة العبد لربه.
خامساً : الدعاء بعد إضاعة العمل.
مقدمة :
الحمد لله فاطر السموات و الأرض . الحمد لله القائل في كتابه الكريم :" "إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ"[هود:114].
فإن الحسنات و الذنوب هي أمراض قلبية، كما أن الحمى والأوجاع و السرطان أمراض بدنية، وكما الأمراض السرطانية تمثل تهديداً خطيراً فعلياً لحياة الإنسان المُصاب بها، فكذلك من الذنوب والمعاصي ما يؤدي إلى حبوط الأعمال الصالحة و بطلانها، و كما أن الأورام السرطانية تنتقل عبر الدم أو العقد الليمفاوية إلى بقية أعضاء الجسم، فإن محبطات الأعمال تنتقل إلى القلب و تؤدي إلى بطلان ثواب الأعمال .
و المريض إذا عُوفِيَّ من مرضه عافية تامة عادت إليه قوته و أفضل منها حتى كأنه لم يضعف قط .
فالقوة المتقدمة بمنزلة الحسنات ،و المرض بمنزلة الذنوب، و الصحة العافية بمنزلة التوبة.
و كما أن من المرضى من لا تعد إليه صحته أبداً لضعف عافيته ،و منهم من تعود صحته كما كانت لتقاوم الأسباب و تدافعها يعود البدن إلى كماله الأول ،و منهم من يعد أصح مما كان أقوى و أنشط لقوة أسباب العافية قهرها و غلبتها لأسباب الضعف المرض حتى ربما كان مرض هذا سبباً لعافيته كما قال الشاعر :
لعل عَتْبَك محمود عواقبه ***و ربما صَحَّتِ الأجسامُ بالعلل
و كما أن على المرء معرفة الأسباب التي تؤدي إلى إصابته بالأمراض فيتقيها، فعليه أيضاً معرفة محبطات الأعمال و مفسداتها، لأن الشأن ليس في العمل ،إنما الشأن في حفظ العمل مما يفسده ويحبطه .
لماذا هذا الموضوع؟
من أسباب اختيار هذا الموضوع :
1- تبصير المؤمنين بصيانة الأعمال الصالحة من المفسدات و المبطلات .
2- العمل بفقه حذيفة -رضي الله عنه- :عن حذيفة بن اليمان :قال : كان الناس يسألون رسول الله- صلى الله عليه وسلم - عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني.." (1).
معنى حبط لغة :
حبط عمله : حَبْطاً :بَطَلَ (2).
قال الراغب الأصفهاني :
أصل الحبط : من الحبط، وهو أن تكثر الدابة أكلاً حتى ينتفخ بطنها.
حبط العمل على أضرب:
أحدها: أن تكون الأعمال دنيوية: فلا تغني في القيامة غناءاً: كما أشار إليه بقوله: "وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً" [الفرقان:23]. والثاني: أن تكون أعمالا ً أخروية: لكن لم يقصد بها صاحبها وجه الله تعالى: كما روي : عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد، فأتى به فعرفه نعمه فعرفها. قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال: كذبت، ولكنك قاتلت لأن يقال: فلان جريء، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن، فأتى به فعرفه نعمه فعرفها. قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته، وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت ولكنك تعلمت ليقال: عالم، وقرأت القرآن ليقال: هو قارئ فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار... ) (3).
والثالث: أن تكون أعمالا صالحة: ولكن بإزائها سيئات توفي عليها، وذلك هو المشار إليه بخفة الميزان(4).
و قال القاضي أبو بكر بن العربي الإحباط إحباطان:
أحدهما: إبطال الشيء للشيء وإذهابه جملة:
كإحباط الإيمان للكفر والكفر للإيمان وذلك في الجهتين إذهاب حقيقي .
ثانيهما إحباط الموازنة :
إذا جعلت الحسنات في كفة والسيئات في كفة فمن رجحت حسناته نجا ومن رجحت سيئاته وقف في المشيئة إما أن يغفر له وإما أن يعذب فالتوقيف إبطال ما لأن توقيف المنفعة في وقت الحاجة إليها إبطال لها والتعذيب إبطال أشد منه إلى حين الخروج من النار ففي كل منهما إبطال نسبى أطلق علي اسم الإحباط مجازاً وليس هو إحباط حقيقة لأنه إذا أخرج من النار وأدخل الجنة عاد إليه ثواب عمله.
الحبط في الاصطلاح الشرعي :
قال ابن عاشور – رحمه الله - :
" وحبط الأعمال: زوال آثارها المجعولة مرتبة عليها شرعاً، فيشمل آثارها في الدنيا والثواب في الآخرة وهو سر قوله "في الدنيا والآخرة ".
فالآثار التي في الدنيا : هي ما يترتب على الإسلام من خصائص المسلمين وأولها آثار كلمة الشهادة من حرمة الأنفس والأموال والأعراض والصلاة عليه بعد الموت والدفن في مقابر المسلمين.(/1)
وآثار العبادات وفضائل المسلمين بالهجرة والأخوة التي بين المهاجرين والأنصار وولاء الإسلام وآثار الحقوق: مثل حق المسلم في بيت المال والعطاء وحقوق التوارث والتزويج فالولايات والعدالة وما ضمنه الله للمسلمين مثل قوله (من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة).
وأما الآثار في الآخرة: فهي النجاة من النار بسبب الإسلام وما يترتب على الأعمال الصالحات من الثواب والنعيم.
والمراد بالأعمال : الأعمال التي يتقربون بها إلى الله تعالى ويرجون ثوابها بقرينة أصل المادة ومقام التحذير؛ لأنه لو بطلت الأعمال المذمومة لصار الكرم تحريضاً، وما ذكرت الأعمال في القرآن مع حبطت إلا غير مقيدة بالصالحات اكتفاء بالقرينة"(5).
من فوائد الأعمال الصالحة :
• النجاة من النار .
• سرعة دخول الجنة .
• تبؤ الدرجات العُلا في الجنة .
و إحباط العمل قد يمنع من دخول الجنة، أو يبطئ في دخولها، أو يمنع نيل الدرجات العلا.
قال تعالى: "انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً" [الإسراء:21].
هل الكبائر تُحبط الأعمال ؟
قال الإمام ابن تيمية- رحمه الله - في الفتاوى : و " الخوارج والمعتزلة يقولون : إنه من فعل كبيرة أحبطت جميع حسناته،وأهل السنة والجماعة لا يقولون بهذا الإحباط، بل أهل الكبائر معهم حسنات وسيئات، وأمرهم إلى الله تعالى". .
و إذا كانت السيئات لا تُحبط جميع الحسنات، فهل تُحبط بقدرها وهل يحبط بعض الحسنات بذنب دون الكفر ؟
قال ابن تيمية – رحمه الله - فيه قولان للمنتسبين إلى السنة :
• منهم من ينكره.
• ومنهم من يثبته. كما دلت عليه النصوص، مثل قوله : "لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى" [البقرة:264] . دل على أن هذه السيئة تبطل الصدقة، وضرب مثله بالمرائي، وقالت عائشة : ابلغي زيدًا أن جهاده بطل (6).
وأما قوله : "أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ " [الحجرات:2] ، وحديث صلاة العصر ففي ذلك نزاع .
وقال تعالى : " وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ " [محمد:33].
• قال الحسن : بالمعاصي والكبائر.
• وعن عطاء : بالشرك والنفاق.
• وعن ابن السائب : بالرياء والسمعة.
• وعن مقاتل : بالمن . وذلك أن قومًا منوا بإسلامهم.
فما ذُكر عن الحسن يدل على أن المعاصي والكبائر تُحبط الأعمال" (7).
خوف المؤمن أن يُحبط عمله:
أولاً : الخوف من النفاق :
قال إبراهيم التيمي: ما عرضت قولي على عملي إلا خشيت أن أكون مكذباً.
وقال ابن أبي ملكية: أدركت ثلاثين من أصحاب النبي-صلى الله عليه وسلم- كلهم يخاف النفاق على نفسه، ما منهم أحد يقول: إنه على إيمان جبريل وميكائيل.
ويذكر عن الحسن قال : ما خافه إلا مؤمن ولا أمنه إلا منافق. وما يحذر من الإصرار على النفاق والعصيان من غير توبة، لقول الله تعالى: "ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون" [آل عمران:135].
ومن تأمل أحوال الصحابة -رضى الله عنهم- وجدهم في غاية العمل مع غاية الخوف ،ونحن جمعنا بين التقصير ـ بل التفريط ـ والأمن !
فهذا الصديق-رضي الله عنه- يقول :وددت أني شعرة في جَنْب عبد مؤمن(8).
وهذا عمر بن الخطاب- رضي الله عنه - قرأ سورة الطور إلى أن بلغ قوله "إن عذاب ربك لواقع" [الطور:7] فبكى، واشتد بكاؤه، حتى مرض وعادوه .
وقال لابنه وهو في سياق الموت : ويحك ! ضع خدي على الأرض؛ عساه أن يرحمني . ثم قال: ويل أمي إن لم يغفر الله لي ؛ ثلاثا ثم قضى (9).
وهذا عثمان بن عفان –رضي الله عنه - كان إذا وقف على القبر ؛ يبكى حتى تبل لحيته (10).
وقال : لو أنني بين الجنة والنار، لا أدري إلى أيتهما يؤمر بي ؛ لاخترت أن أكون رمادا قبل أن أعلم إلى أيتهما أصير (11).
وهذا علي بن أبي طالب –رضي الله عنه - وبكاؤه وخوفه، وكان يشتد خوفه من اثنتين : طول الأمل، وإتباع الهوى . قال : فأما طول الأمل فينسي الآخرة، وأما اتباع الهوى فيصد عن الحق، ألا وإن الدنيا قد ولت مدبرة ،والآخرة قد أسرعت مقبلة ،ولكل واحدة منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل (12).
وقرأ تميم الداري-رضي الله عنه- ليلة سورة الجاثية فلما أتى على هذه الآية : "أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات" [الجاثية:21] جعل يرددها ويبكي حتى أصبح (13).
وقال أبو عبيدة عامرُ بن الجراح : وددت أني كبش، فذبحني أهلي، وأكلوا لحمي وحسوا مرقي (14).
ثانياً : الإشفاق على العمل أن يصير إلى الضياع :(/2)
قال ابن القيم في منزلة الإشفاق :".. إشفاق على العمل أن يصير إلى الضياع .فيخاف على عمله أن يكون من الأعمال التي قال الله فيها :" "وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا"(الفرقان :23).و هي الأعمال التي كانت لغير الله و على غير أمره و سنة رسوله – صلى الله عليه وسلم - و يخاف أيضاً أن يضيع عمله في المستقبل ،إما بتركه ،و إما بمعاصي تفرقه و تحبطه فيذهب ضائعاً .و يكون حال صاحبه كحال التي قال الله تعالى عن أصحابها : "أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاء فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ" [البقرة:166].
قال عمر بن الخطاب-رضي الله عنه- للصحابة – رضي الله عنهم - :" فيمن ترون هذه الآية نزلت ؟فقالوا :الله أعلم .فغضب عمر و قال : قولوا : نعلم أو لا نعلم .فقال ابن عباس : في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين . قال : يا ابن أخي قل و لا تحقرن نفسك . قال ابن عباس :ضُربت مثلاً لعمل .قال عمر : أي عمل ؟ قال ابن عباس :لعمل .قال ابن عمر قال ابن عباس :لرجل غني يعمل بطاعة الله فبعث الله إليه الشيطان .فعمل بالمعاصي حتى أغرق جميع أعماله "(15).
قال القرطبي : " روي عن ابن عباس وغيره: " إن هذا مثل ضربه الله تعالى للكافرين والمنافقين, كهيئة رجل غرس بستاناً فأكثر فيه من الثمر فأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء - يريد صبياناً بنات وغلماناً - فكانت معيشته ومعيشة ذريته من ذلك البستان, فأرسل الله على بستانه ريحاً فيها نار فأحرقته, ولم يكن عنده قوة فيغرسه ثانية, ولم يكن عند بنيه خير فيعودون على أبيهم. وكذلك الكافر والمنافق إذا ورد إلى الله تعالى يوم القيامة ليست له كرة يُبعث فيُرد ثانية, كما ليست عند هذا قوة فيغرس بستانه ثانية, ولم يكن عنده من افتقر إليه عند كبر سنه وضعف ذريته غنى عنه".
حال السلف و تحقيرهم لأعمالهم :
عن بن أبي مليكه قال جاء عائشة عبد الله بن عباس يستأذن عليها قالت لا حاجة لي به قال عبد الرحمن بن أبي بكر إن بن عباس من صالحي بنيك جاءك يعودك قالت فأذن له فدخل عليها فقال يا أماه أبشرى فوالله ما بينك وبين أن تلقى محمدا –صلى الله عليه وسلم -والأحبة إلا أن تفارق روحك جسدك كنت أحب نساء رسول الله – صلى الله عليه وسلم - إليه ولم يكن يحب رسول الله إلا طيبة قالت وأيضا قال هلكت قلادتك بالأبواء فأصبح رسول الله – صلى الله عليه وسلم - فلم يجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فكان ذلك بسببك وبركتك ما أنزل الله لهذه الأمة من الرخصة فكان من أمر مسطح ما كان فأنزل الله براءتك من فوق سبع سماوات فليس مسجد يذكر فيه الله إلا وشأنك يتلى فيه آناء الليل وأطراف النهار فقالت يا بن عباس دعني منك ومن تزكيتك فوالله لوددت أنى كنت نسيا منسيا(16).
ثالثاً : توفير الحسنات :
قال ابن القيم في منزلة الورع : توفير الحسنات من وجهين :
أحدهما : توفير زمانه على اكتساب الحسنات .فإن اشتغل بالقبائح نقصت عليه الحسنات التي كان مستعداً لتحصيلها .
والثاني : توفير الحسنات المفعولة عن نقصانها ،بموازنة السيئات و حبوطها .لأن السيئات قد تحبط الحسنات ،و قد تستغرقها بالكلية أو تنقصها .فلابد أن تضعفها قطعاً ،فتجنُبِها يوفر ديوان الحسنات .وذلك بمنزلة من له مال حاصل .فإذا استدان عليه، فإما أن يستغرقه الدين أو يكثره أو ينقصه ،فهكذا الحسنات و السيئات سواء "(17).
رابعاً : غيرة العبد لربه :
غيرة العبد لربه نوعان:ٍ
أحدهما : غيرة من نفسه : أن لا يجعل شيئاً من أعماله و أقواله و أوقاته و أنفاسه لغير ربه".
والثاني : غيرة من غيره : أن يغضب لمحارمه إذا انتهكها المنتهكون ،و لحقوقه إذا تهاون بها المتهاونون "(18).
خامساً :الدعاء بعدم إضاعة العمل :
"فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِ مْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِّن عِندِ اللّهِ وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ" [آل عمران:195].(/3)
ومعنى نفي إضاعة عملهم نفي إلغاء الجزاء عنه: جعله كالضائع غير الحاصل في يد صاحبه. فنفي إضاعة العمل بالاعتداد بعلمهم وحسبانه لهم، فقد تضمنت الاستجابة تحقيق عدم إضاعة العمل تطميناً لقلوبهم من وجل عدم القبول، وفي هذا دليل على أنهم أرادوا في قولهم : " رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ"[آل عمران:194]. تحقيق قبول أعمالهم والاستعاذة من الحبط "(19).
1
2
3
4
________________________________________
(1) صحيح مسلم ، باب الإمارة ،رقم الحديث ،(3434).
(2) المعجم الوسيط ، (ج1/152).
(3) الحديث أخرجه مسلم والنسائي، والترمذي وحسنه، وابن حبان في صحيحه. انظر: الترغيب والترهيب 1/29؛ وعارضة الأحوذي 9/226؛ ومسند أحمد 2/321؛ وسنن النسائي 6/23؛ ومسلم في الإمارة، باب من قاتل للرياء برقم (1905) ؛ وانظر: شرح السنة 14/334).
(4) مفردات ألفاظ القرآن ،ص 216
(5) تفسير التحرير و التنوير ، (ج3/603).
(6) عن عائشة – رضي الله عنها – أنها قالت لأم ولد زيد بن أرقم :" أخبري زيداً أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله –صلى الله عليه وسلم - إلا أن يتوب ". رواه الدارقطني في سننه ،كتاب البيوع، (3/52).
(7) مجموع الفتاوى ،ابن تيمية .
(8) في الزهد ص 135 .
(9) الزهد لأحمد ص 149و155 .
(10) أخرجه : الترمذي (2308) .
(11) أخرجه : أحمد في الزهد ص 160 .
(12) أخرجه : أحمد في الزهد ص 162-163 .
(13) أخرجه : أحمد في الزهد ص 227 .
(14) أخرجه : أحمد في الزهد ص 230 .
(15) مدارج السالكين ،ص247.
(16) صحيح ابن حبان ، فضائل الصحابة ،(ج1/834 )، رقم الحديث (7108).
(17) مدارج السالكين ، ص 265 .
(18) مدارج السالكين ، ص 471
(19) التحرير و التنوير ،(ج4/876).
محبطات الأعمال [2/4]
توفيق علي 24/3/1427
22/04/2006
أسباب حبوط الأعمال في القرآن الكريم:
أولاً :كراهة ما أنزل الله
قال تعالى : "ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ"[محمد:9].
قال سيد قطب – رحمه الله - :" وهو تصوير لما يعتمل في قلوبهم ويختلج في نفوسهم من الكراهية لما أنزل الله من قرآن وشريعة ومنهج واتجاه . وهذا هو الذي يدفع بهم إلى الكفر والعناد والخصومة والملاحاة . وهي حالة كثير من النفوس الفاسدة التي تكره بطبعها ذلك النهج السليم القويم , وتصادمه من داخلها , بحكم مغايرة طبيعتها لطبيعته . وهي نفوس يلتقي بها الإنسان كثيراً في كل زمان وفي كل مكان , ويحس منها النفرة والكراهية لهذا الدين وما يتصل به ; حتى إنها لتفزع من مجرد ذكره كما لو كانت قد لذعتها العقارب ! وتتجنب أن يجيء ذكره أو الإشارة إليه فيما تسمع حولها من حديث ! ولعلنا نشاهد في هذه الأيام حالة من هذا الطراز لا تخفى على الملاحظة !
وكان جزاء هذه الكراهية لما أنزل الله , أن أحبط الله أعمالهم . فالحبوط انتفاخ بطون الماشية عند أكلها نوعاً من المرعى سام . ينتهي بها إلى الموت والهلاك . وكذلك انتفخت أعمالهم وورمت وانبعجت . ثم انتهت إلى الهلاك والضياع ! إنها صورة وحركة , ونهاية مطابقة لحال من كرهوا ما أنزل الله ثم تعاجبوا بالأعمال الضخام . المنتفخة كبطون الأنعام , حين ترعى من ذلك النبت السام" ! (1).
ثانياً : اتباع ما أسخط الله
قال تعالى : "ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ" [محمد:28].
قال ابن عاشور – رحمه الله - : "وإتباعهم ما أسخط الله: هو إتباعهم الشرك. والسخط مستعار لعدم الرضى بالفعل. وكراهتهم رضوان الله: كراهتهم أسباب رضوانه وهو الإسلام.
والجمع بين الإخبار عنهم باتباعهم ما أسخط الله وكراهتهم رضوانه مع إمكان الاجتزاء بأحدهما عن الآخر للإيماء إلى أن ضرب الملائكة وجوه هؤلاء مناسب لإقبالهم على ما أسخط الله، وأن ضربهم أدبارهم مناسب لكراهتهم رضوانه لأن الكراهة تستلزم الإعراض والإدبار.
فكان ذلك التعذيب مناسباً لحالي توقيهم في الفرار من القتال وللسببين الباعثين على ذلك التوقي.
وفرع على اتباعهم ما أسخط الله وكراهتهم رضوانه قال "فأحبط أعمالهم" فكان اتباعهم ما أسخط الله وكراهتهم رضوانه سبباً في الأمرين: ضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم عند الوفاة، وإحباط أعمالهم(2).
" فهم الذين أرادوا لأنفسهم هذا المصير واختاروه . هم الذين عمدوا إلى ما أسخط الله من نفاق ومعصية وتآمر مع أعداء الله وأعداء دينه ورسوله فاتبعوه . وهم الذين كرهوا رضوان الله فلم يعملوا له , بل عملوا ما يسخط الله ويغضبه . .فأحبط أعمالهم ..التي كانوا يعجبون بها ويتعاجبون ; ويحسبونها مهارة وبراعة وهم يتآمرون على المؤمنين ويكيدون . فإذا بهذه الأعمال تتضخم وتنتفخ . ثم تهلك وتضيع ! "(3).
ثالثاً : اتباع أهل الضلال من أهل الكتاب(/4)
قال تعالى: "كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاَدًا فَاسْتَمْتَعُواْ بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُم بِخَلاَقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُواْ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الُّدنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ" [التوبة:69].
قال الطبري – يرحمه الله - :" يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد لهؤلاء المنافقين الذين قالوا إنما كنا نخوض ونلعب: أبا لله وآيات كتابه ورسوله كنتم تستهزءون, كالذين من قبلكم من الأمم الذين فعلوا فعلكم فأهلكهم الله, وعجّل لهم في الدنيا الخزي مع ما أعدّ لهم من العقوبة والنكال في الآخرة؟ يقول لهم جل ثناؤه: واحذروا أن يحلّ بكم من عقوبة الله مثل الذي حلّ بهم, فإنهم كانوا أشدّ منكم قوّة وبطشا, وأكثر منكم أموالاً وأولادا. فاسْتَمْتَعُوا بخَلاقِهِمْ يقول: فتمتعوا بنصيبهم وحظهم من دنياهم ودينهم, ورضوا بذلك من نصيبهم في الدنيا عوضا من نصيبهم في الآخرة. وقد سلكتم أيها المنافقون سبيلهم في الاستمتاع بخلاقكم, يقول: فعلتم بدينكم ودنياكم كما استمتع الأمم الذين كانوا من قبلكم الذين أهلكتهم بخلافهم أمري, بخلاقهم, يقول: كما فعل الذين من قبلكم بنصيبهم من دنياهم ودينهم, وخضتم في الكذب والباطل على الله كالذي خاضوا, يقول: وخضتم أنتم أيها المنافقون كخوض تلك الأمم قبلكم".
و عن أبي هريرة, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وَالّذِي نَفْسِي بيَدِهِ لَتَتّبِعُنّ سُنَنَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ شِبْرا بِشِبْرٍ, وَذِرَاعا بذِرَاعٍ, وَباعا بباعٍ حتى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبّ لَدَخَلْتُمُوهُ" قالوا: وَمن هم يا رسول الله, أهل الكتاب؟ قال: "فَمَهُ؟".
وعن ابن عباس في قوله كالذين من قبلكم الآية قال : " ما أشبه الليلة بالبارحة" كالذين من قبلكم" هؤلاء بنو إسرائيل شبهنا بهم لا أعلم إلا أنه قال والذي نفسي بيده لتتبعنهم حتى لو دخل الرجل منهم جحر ضب لدخلتموه".
" أولئك حبطت أعمالهم أي بطلت مساعيهم فلا ثواب لهم عليها لأنها فاسدة في الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون لأنهم لم يحصل لهم عليها ثواب ".
رابعاً : الكفر و الصد عن سبيل الله و مشاقة الرسول –صلى الله عليه وسلم -
و قال تعالى : "إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدَى لَن يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ" [محمد:32].
قال ابن كثير – رحمه الله - :" يخبر تعالى عمن كفر وصد عن سبيل الله وخالف الرسول وشاقه, وارتد عن الإيمان من بعد ما تبين له الهدى أنه لن يضر الله شيئاً, وإنما يضر نفسه ويخسرها يوم معادها, وسيحبط الله عمله فلا يثيبه على سالف ما تقدم من عمله الذي عقبه بردته مثقال بعوضة من خير, بل يحبطه ويمحقه بالكلية كما أن الحسنات يذهبن السيئات"(4).
و قال سيد قطب – رحمه الله - :" إنه قرار من الله مؤكد , ووعد منه واقع: أن الذين كفروا , ووقفوا في وجه الحق أن يُبَلغ إلى الناس ; وصدوا الناس عنه بالقوة أو المال أو الخداع أو أية وسيلة من الوسائل , وشاقوا الرسول- صلى الله عليه وسلم- في حياته بإعلان الحرب عليه , والمخالفة عن طريقه , والوقوف في غير صفه . أو بعد وفاته بمحاربة دينه وشريعته ومنهجه والمتبعين لسنته والقائمين على دعوته . وذلك (من بعد ما تبين لهم الهدى). . وعرفوا أنه الحق ; ولكنهم اتبعوا الهوى , وجمح بهم العناد وأعماهم الغرض , وقادتهم المصلحة العاجلة .
قرار من الله مؤكد , ووعد من الله واقع أن هؤلاء (لن يضروا الله شيئاً). . وهم أضأل وأضعف من أن يُذكروا في مجال إلحاق ضرر بالله سبحانه وتعالى . فليس هذا هو المقصود إنما المقصود أنهم لن يضروا دين الله ولا منهجه ولا القائمين على دعوته . ولن يُحدِثوا حدثاً في نواميسه وسننه . مهما بلغ من قوتهم , ومهما قدروا على إيذاء بعض المسلمين فترة من الوقت . فإن هذا بلاء وقتي يقع بإذن الله لحكمة يريدها ; وليست ضراً حقيقيا لناموس الله وسنته ونظامه ونهجه وعباده القائمين على نظامه ونهجه . والعاقبة مقررة: (وسيحبط أعمالهم). . فتنتهي إلى الخيبة والدمار . كما تنتهي الماشية التي ترعى ذلك النبات السام ! "(5).
خامساً : سوء الأدب مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم -
قال تعالى : "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ" [الحجرات:2].(/5)
قال ابن عاشور :" ظاهر الآية التحذير من حبط جميع الأعمال لأن الجمع المضاف من صيغ العموم ولا يكون حبط جميع الأعمال إلا في حالة الكفر لأن من الأعمال الإيمان فمعنى الآية: أن عدم الاحتراز من سوء الأدب مع النبي- صلى الله عليه وسلم- بعد هذا النهي قد يفضي بفاعله إلى إثم عظيم يأتي على عظيم من صالحاته أو يفضي به إلى الكفر.
قال ابن عطية: أي يكون ذلك سبباً إلى الوحشة في نفوسكم فلا تزال معتقداتكم تتدرج القهقرى حتى يؤول ذلك إلى الكفر فحبط الأعمال.
وأقول: لأن عدم الانتهاء عن سوء الأدب مع الرسول – صلى الله عليه وسلم- يعود النفس بالاسترسال فيه فلا تزال تزداد منه وينقص توفير الرسول –صلى الله عليه وسلم - من النفس وتتولى من سيء إلى أشد منه حتى يؤول إلى عدم الاكتراث بالتأدب معه وذلك كفر. وهذا معنى "وأنتم لا تشعرون" لأن المنتقل من سيء إلى أسوأ لا يشعر بأنه آخذ في التملي من السوء بحكم التعود بالشيء قليلاً حتى تغمره المعاصي وربما كان آخرها الكفر حين تضرى النفس بالإقدام على ذلك.
ويجوز أن يراد حبط بعض الأعمال على أنه عام مراد به الخصوص فيكون المعنى حصول حطيطة في أعمالهم بغلبة عظم ذنب جهرهم له بالقول، وهذا مجمل لا يعلم مقدار الحبط إلا الله تعالى"(6).
ففي قوله) وأنتم لا تشعرون(تنبيه إلى مزيد الحذر من هذه المهلكات حتى يصير ذلك دربة حتى يصل إلى ما يحبط الأعمال، وليس عدم الشعور كائنا في إتيان الفعل المنهي عنه لأنه لو كان كذلك لكان صاحبه غير مكلف لامتناع تكليف الغافل ونحوه.
يا أيها الذين آمنوا . . ليوقروا النبي الذي دعاهم إلى الإيمان . . أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون . . ليحذروا هذا المزلق الذي قد ينتهي بهم إلى حبوط أعمالهم, وهم غير شاعرين ولا عالمين , ليتقوه !
أثر هذا النداء في نفوس الصحابة :
ولقد عمل في نفوسهم ذلك النداء الحبيب , وهذا التحذير المرهوب , عمله العميق الشديد:
قال البخاري: عن ابن أبي مليكة قال : كاد الخيران أن يهلكا . . أبو بكر وعمر رضي الله عنهما . . رفعا أصواتهما عند النبي – صلى الله عليه وسلم- حين قدم عليه ركب بني تميم "في السنة التاسعة من الهجرة " فأشار أحدهما بالأقرع بن حابس - رضي الله عنه - أخي بني مجاشع "أي ليؤمره عليهم" وأشار الآخر برجل آخر . قال نافع:لا أحفظ اسمه "في رواية أخرى أن اسمه القعقاع بن معبد" فقال:أبو بكر لعمر - رضي الله عنهما - ما أردت إلا خلافي . فقال:ما أردت خلافك . فارتفعت أصواتهما في ذلك . فأنزل الله تعالى:(يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي , ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض , أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون). قال ابن الزبير - رضي الله عنه -:فما كان عمر - رضي الله عنه - يسمع رسول الله – صلى الله عليه وسلم- بعد هذه الآية حتى يستفهمه ! وروي عن أبي بكر - رضي الله عنه - أنه قال لما نزلت هذه الآية:قلت:يا رسول الله , والله لا أكلمك إلا كأخي السرار "يعني كالهمس ! " .
منقبة عظيمة لثابت بن قيس – رضي الله عنه-:
عن أنس بن مالك – رضي الله عنه- :أن النبي – صلى الله عليه وسلم- افتقد ثابت بن قيس، فقال رجل: يا رسول الله، أنا أعلم لك علمه، فأتاه فوجده جالسا في بيته، منكسا رأسه، فقال: ما شأنك؟ فقال: شر، كان يرفع صوته فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم، فقد حبط عمله، وهو من أهل النار. فأتى الرجل فأخبره أنه قال كذا وكذا. فقال موسى بن أنس: فرجع المرة الآخرة ببشارة عظيمة، فقال: (اذهب إليه، فقل له: إنك لست من أهل النار، ولكن من أهل الجنة) (7).
قال أنس – رضي الله عنه- : فكنا نراه يمشي بين أظهرنا ونحن نعلم أنه من أهل الجنة.
قال النووي : في هذا الحديث :
- منقبة عظيمة لثابت بن قيس- رضي الله عنه - وهي أن النبي – صلى الله عليه وسلم- أخبر أنه من أهل الجنة.
- وفيه أنه ينبغي للعالم وكبير القوم أن يتفقد أصحابه ويسأل عمن غاب منهم.
فهكذا ارتعشت قلوبهم وارتجفت تحت وقع ذلك النداء الحبيب , وذلك التحذير الرعيب ; وهكذا تأدبوا في حضرة رسول الله – صلى الله عليه وسلم- خشية أن تحبط أعمالهم وهم لا يشعرون . ولو كانوا يشعرون لتداركوا أمرهم ! ولكن هذا المنزلق الخافي عليهم كان أخوف عليهم , فخافوه واتقوه !
ونوه الله بتقواهم , وغضهم أصواتهم عند رسول الله – صلى الله عليه وسلم- في تعبير عجيب:
"إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله , أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى . لهم مغفرة وأجر عظيم".
فالتقوى هبة عظيمة , يختار الله لها القلوب , بعد امتحان واختبار , وبعد تخليص وتمحيص , فلا يضعها في قلب إلا وقد تهيأ لها , وقد ثبت أنه يستحقها . والذين يغضون أصواتهم عند رسول الله قد اختبر الله قلوبهم وهيأها لتلقي تلك الهبة . هبة التقوى . وقد كتب لهم معها وبها المغفرة والأجر العظيم .(/6)
إنه الترغيب العميق , بعد التحذير المخيف . بها يربي الله قلوب عباده المختارين ويعدها للأمر العظيم . الذي نهض به الصدر الأول على هدى من هذه التربية ونور .
وقد روي عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه سمع صوت رجلين في مسجد النبي – صلى الله عليه وسلم- قد ارتفعت أصواتهما , فجاء فقال: من أين أنتما ? قالا:من أهل الطائف . فقال:لو كنتما من أهل المدينة لأوجعتكما ضربا !
وعرف علماء هذه الأمة وقالوا:إنه يكره رفع الصوت عند قبره – صلى الله عليه وسلم- كما كان يكره في حياته – صلى الله عليه وسلم- احتراماً له في كل حال .
ثم أشار إلى حادث وقع من وفد بني تميم حين قدموا على رسول الله – صلى الله عليه وسلم- في العام التاسع . الذي سمي "عام الوفود" . . لمجيء وفود العرب من كل مكان بعد فتح مكة , ودخولهم في الإسلام , وكانوا أعرابا جفاة , فنادوا من وراء حجرات أزواج النبي – صلى الله عليه وسلم- المطلة على المسجد النبوي الشريف:يا محمد . اخرج لنا . فكره النبي – صلى الله عليه وسلم- هذه الجفوة وهذا الإزعاج . فنزل قوله تعالى:
"إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون , ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم , والله غفور رحيم"
فوصفهم الله بأن أكثرهم لا يعقلون . وكره إليهم النداء على هذه الصفة المنافية للأدب والتوقير اللائق بشخص النبي – صلى الله عليه وسلم- وحرمة رسول الله القائد والمربي . وبين لهم الأولى والأفضل وهو الصبر والانتظار حتى يخرج إليهم . وحبب إليهم التوبة والإنابة , ورغبهم في المغفرة والرحمة .
وقد وعى المسلمون هذا الأدب الرفيع , وتجاوزوا به شخص رسول الله – صلى الله عليه وسلم- إلى كل أستاذ وعالم . لا يزعجونه حتى يخرج إليهم ; ولا يقتحمون عليه حتى يدعوهم . . يحكى عن أبي عبيد - العالم الزاهد الراوية الثقة - أنه قال:"ما دققت بابا على عالم قط حتى يخرج في وقت خروجه" (8).
سادساً :الردة
قال تعالى : "وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ" [البقرة:217].
قال القرطبي- رحمه الله - :" استظهر علماؤنا بقوله تعالى: "لئن أشركت ليحبطن عملك" [الزمر:65]:
قالوا: وهو خطاب للنبي- صلى الله عليه وسلم - والمراد أمته; لأنه – عليه السلام - يستحيل منه الردة شرعاً.
و قال أصحاب الشافعي: بل هو خطاب للنبي –صلى الله عليه وسلم - على طريق التغليظ على الأمة, وبيان أن النبي - صلى الله عليه وسلم - على شرف منزلته لو أشرك لحبط عمله; فكيف أنتم! لكنه لا يشرك لفضل مرتبته.
وقال علماؤنا: إنما ذكر الله الموافاة شرطاً ها هنا لأنه علق عليها الخلود في النار جزاء; فمن وافى على الكفر خلده الله في النار بهذه الآية, ومن أشرك حبط عمله بالآية الأخرى.
فهما آيتان مفيدتان لمعنيين, وحكمين متغايرين. وما خوطب به- عليه السلام - فهو لأمته حتى يثبت اختصاصه.
و قال السعدي – رحمه الله - :" دلت الآية بمفهومها ،أن من ارتد ثم عاد إلى الإسلام ، أنه يرجع إليه عمله و كذلك من تاب من المعاصي ،فإنها تعود إليه أعماله المتقدمة(9) ".
قال ابن عاشور – رحمه الله - :" والمقصد منه التحذير، لأنه لما ذكر حرص المشركين على رد المسلمين عن الإسلام وعقبه باستبعاد أن يصدر ذلك من المسلمين، أعقبه بالتحذير منه، وجيء بصيغة يرتدد وهي صيغة مطاوعة إشارة إلى أن رجوعهم عن الإسلام إن قدر حصوله لا يكون إلا عن محاولة من المشركين فإن من ذاق حلاوة الإيمان لا يسهل عليه رجوعه عنه ومن عرف الحق لا يرجع عنه إلا بعناء"(10).
" ومن يرتدد عن الإسلام وقد ذاقه وعرفه ; تحت مطارق الأذى والفتنة - مهما بلغت - هذا مصيره الذي قرره الله له . . حبوط العمل في الدنيا والآخرة . ثم ملازمة العذاب في النار خلوداً .
إن القلب الذي يذوق الإسلام ويعرفه , لا يمكن أن يرتد عنه ارتداداً حقيقيا أبداً . إلا إذا فسد فساداً لا صلاح له . وهذا أمر غير التقية من الأذى البالغ الذي يتجاوز الطاقة . فالله رحيم . رخص للمسلم - حين يتجاوز العذاب طاقته - أن يقي نفسه بالتظاهر , مع بقاء قلبه ثابتا على الإسلام مطمئنا بالإيمان . ولكنه لم يرخص له في الكفر الحقيقي , وفي الارتداد الحقيقي , بحيث يموت وهو كافر . . والعياذ بالله . .
وهذا التحذير من الله قائم إلى آخر الزمان . . ليس لمسلم عذر في أن يخنع للعذاب والفتنة فيترك دينه ويقينه , ويرتد عن إيمانه وإسلامه , ويرجع عن الحق الذي ذاقه وعرفه . . وهناك المجاهدة والمجالدة والصبر والثبات حتى يأذن الله . والله لا يترك عباده الذين يؤمنون به , ويصبرون على الأذى في سبيله . فهو معوضهم خيراً:إحدى الحسنيين:النصر أو الشهادة"(11).
سابعاً : الكفر بآيات الله و قتل النبيين و الذين يأمرون الناس بالقسط(/7)
قال تعالى : "إن الذين يكفرون بآيات الله , ويقتلون النبيين بغير حق , ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس , فبشرهم بعذاب أليم . أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ" [آل عمران:22].
قال الطبري – رحمه الله - :" أي يجحدون حجج الله وأعلامه فيكذّبون بها. وأما قوله: "وَيَقْتُلُوُنَ النّبِيّينَ بِغَيْرِ حَقّ"، فإنه يعني بذلك أنهم كانوا يقتلون رسل الله الذين كانوا يرسلون إليهم بالنهي عما يأتون من معاصي الله, وركوب ما كانوا يركبونه من الأمور التي قد تقدم الله إليهم في كتبهم بالزجر عنها, نحو زكريا وابنه يحيى وما أشبههما من أنبياء الله.
عن أبي عبيدة بن الجرّاح, قال: قلت يا رسول الله, أيّ الناس أشدّ عذابا يوم القيامة؟ قال: «رَجُلٌ قَتَلَ نَبِيّا, أوْ رَجُلٌ أمَرَ بالمُنْكَرِ وَنَهَى عَنِ المَعْرُوفِ». ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الّذِينَ يَقْتُلُونَ النّبِيّينَ بِغَيْرِ حَقّ وَيَقْتُلُونَ الّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النّاسِ» إلى أن انتهى إلى: {وَما لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ}. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أبا عُبَيْدَةَ قَتَلَتْ بَنُو إسْرَائِيلَ ثَلاَثَةً وَأرْبَعِينَ نَبِيّا مِنْ أَوّلِ النّهارِ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةً, فَقَامَ مِائَةُ رَجُلٍ وَاثْنَا عَشَرَ رَجُلاً مِنْ عُبّادِ بَنِي إسْرَائِيلَ, فأمَرُوا مَنْ قَتَلَهُمْ بِالمَعْرُوفِ وَنَهَوْهُمْ عَنِ المُنْكَرِ فَقُتِلُوا جَمِيعا مِنْ آخِرِ النّهَارِ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ, وَهُمُ الّذِينَ ذَكَرَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ"(12).
وأما قوله: "أُولَئِكَ الّذِينَ حَبِطَتْ أعْمَالُهُمْ فِي الدّنْيَا وَالاَخِرَةِ"
فأما قوله: "فِي الدّنْيَا" : فلم ينالوا بها محمدة ولا ثناء من الناس, لأنهم كانوا على ضلال وباطل, ولم يرفع الله لهم بها ذكرا, بل لعنهم وهتك أستارهم, وأبدى ما كانوا يخفون من قبائح أعمالهم على ألسن أنبيائه ورسله في كتبه التي أنزلها عليهم, فأبقى لهم ما بقيت الدنيا مذمة, فذلك حبوطها في الدنيا.
وأما في الآخرة: فإنه أعدّ لهم فيها من العقاب ما وصف في كتابه, وأعلم عباده أن أعمالهم تصير بورا لا ثواب لها, لأنها كانت كفرا بالله, فجزاء أهلها الخلود في الجحيم"(13).
" فهذا هو المصير المحتوم:عذاب أليم . لا يحدده بالدنيا أو بالآخرة . فهو متوقع هنا وهناك . وبطلان لأعمالهم في الدنيا والآخرة في تعبير مصور.. وهكذا أعمال هؤلاء قد تنتفخ وتتضخم في الأعين . ولكنه الانتفاخ المؤدي إلى البطلان والهلاك ! حيث لا ينصرهم ناصر ولا يدفع عنهم حام ! (14).
ثامناً :النفاق
قال تعالى : "أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاء الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا" [الأحزاب:19].
"إن الله وصف هؤلاء المنافقين بالجبن والشّحّ, ولم يخصُص وصفهم من معاني الشحّ, بمعنى دون معنى, فهم كما وصفهم الله به أشحة على المؤمنين بالغنيمة والخير والنفقة في سبيل الله, على أهل مسكنة المسلمين.
عن قتادة : فإذَا ذَهَبَ الخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بألْسِنَةٍ حِدادٍ أما عند الغنيمة, فأشحّ قوم, وأسوأ مُقاسَمَة: أعطُونا أعطُونا, فإنا قد شِهدنا معكم. وأما عند البأس فأجبن قوم, وأخذله للحقّ.
وقوله: لَمْ يُؤْمنُوا فأحُبَطَ اللّهُ أعمالَهُمْ يقول تعالى ذكره: هؤلاء الذين وصفتُ لك صفتهم في هذه الآيات, لم يصدّقوا الله ورسوله, ولكنهم أهل كفر ونِفاق. فأحبط الله أعمالهم يقول: فأذهب الله أجورَ أعمالهم وأبطلَها. وذُكر أن الذي وُصِفَ بهذه الصفة كان بَدْريّا, فأحبط الله عمله"(15).
" فهذه هي العلة الأولى . العلة أن قلوبهم لم تخالطها بشاشة الإيمان , ولم تهتد بنوره , ولم تسلك منهجه . (فأحبط الله أعمالهم). . ولم ينجحوا لأن عنصر النجاح الأصيل ليس هناك" (16).
و قال تعالى "وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُواْ أَهَؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُواْ خَاسِرِينَ"[المائدة:53].(/8)
قال الطبري – رحمه الله - : " يقول المؤمنون: أهؤلاء الذين حلفوا لنا بالله جهد أيمانهم كذبا إنهم لمعنا. يقول الله تعالى ذكره مخبرا عن حالهم عنده بنفاقهم وخبث أعمالهم: حَبِطَتْ أعمالُهُمْ يقول: ذهبت أعمالهم التي عملوها في الدنيا باطلاً لا ثواب لها ولا أجر, لأنهم عملوها على غير يقين منهم بأنها عليهم لله فرض واجب ولا على صحة إيمان بالله ورسوله, وإنما كانوا يعملونها ليدفعوا المؤمنين بها عن أنفسهم وأموالهم وذراريهم, فأحبط الله أجرها إذ لم تكن له فأصْبَحُوا خَاسِرينَ يقول: فأصبح هؤلاء المنافقون عند مجيء أمر الله بإدالة المؤمنين على أهل الكفر قد وكسوا في شرائهم الدنيا بالاَخرة, وخابت صفقتهم وهلكوا"(17).
" لقد جاء الله بالفتح يوماً , وتكشفت نوايا , وحبطت أعمال , وخسرت فئات . ونحن على وعد من الله قائم بأن يجيء الفتح , كلما استمسكنا بعروة الله وحده ; وكلما أخلصنا الولاء لله وحده . وكلما وعينا منهج الله , وأقمنا عليه تصوراتنا وأوضاعنا . وكلما تحركنا في المعركة على هدى الله وتوجيهه . فلم نتخذ لنا ولياً إلا الله ورسوله والذين آمنوا "(18).
تاسعاً :التكذيب بآيات الله و لقاء الآخرة
قال تعالى "وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَلِقَاء الآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ" [الأعراف:147].
" وإن الإنسان ليصادف هذا الصنف من الخلق بوصفه هذا وسمته وملامحه , فيرى كأنما يتجنب الرشد ويتبع الغي دون جهد منه , ودون تفكير ولا تدبير ! فهو يعمى عن طريق الرشد ويتجنبه , وينشرح لطريق الغي ويتبعه ! وهو في الوقت ذاته مصروف عن آيات الله لا يراها ولا يتدبرها ولا تلتقط أجهزته إيحاءاتها وإيقاعاتها ! وسبحان الله ! فمن خلال اللمسات السريعة في العبارة القرآنية العجيبة ينتفض هذا النموذج من الخلق شاخصاً بارزاً حتى ليكاد القارئ يصيح لتوه:نعم . نعم . أعرف هذا الصنف من الخلق . . إنه فلان !!! وإنه للمعنيّ الموصوف بهذه الكلمات !!!
وما يظلم الله هذا الصنف من الخلق بهذا الجزاء المردي المؤدي إلى الهلاك في الدنيا والآخرة . . إنما هو الجزاء الحق لمن يكذب بآيات الله ويغفل عنها , ويتكبر في الأرض بغير الحق , ويتجنب سبيل الرشد حيثما رآه , ويهرع إلى سبيل الغي حيثما لاح له ! فإنما بعمله جوزي ; وبسلوكه أورد موارد الهلاك"(19) .
" و حبوط الأعمال مأخوذ من قولهم:حبطت الناقة . . إذا رعت نباتاً ساماً , فانتفخ بطنها ثم نفقت . . وهو وصف ملحوظ فيه طبيعة الباطل الذي يصدر من المكذبين بآيات الله ولقاء الآخرة . فهو ينتفخ حتى يظنه الناس من عظمة وقوة ! ثم ينفق كما تنفق الناقة التي رعت ذلك النبات السام !
وإنه لجزاء كذلك حق أن تحبط وتهلك أعمال الذين كذبوا بآيات الله ولقاء الآخرة .
ولكن كيف تُحبط هذه الأعمال ?
" من ناحية الاعتقاد: نحن نؤمن بصدق وعيد الله لا محالة , أياً كانت الظواهر التي تخالف هذه العاقبة المحتومة . فحيثما كذب أحد بآيات الله ولقائه في الآخرة حبط عمله وبطل , وهلك في النهاية وذهب كأن لم يكن .
ومن ناحية النظر: نحن نجد السبب واضحاً في حياة البشر . . إن الذي يكذب بآيات الله المبثوثة في صفحات هذا الكون المنشور , أو آياته المصاحبة للرسالات , أو التي يحملها الرسل ; ويكذب تبعاً لهذا بلقاء الله في اليوم الآخر . . إن هذا الكائن المسيخ روح ضالة شاردة عن طبيعة هذا الكون المؤمن المسلم ونواميسه . . لا تربطه بهذا الكون رابطة . وهو منقطع عن دوافع الحركة الصادقة الموصولة بغاية الوجود واتجاهه . وكل عمل يصدر عن مثل هذا المسخ المقطوع هو عمل حابط ضائع , ولو بدا أنه قائم وناجح . لأنه لا ينبعث عن البواعث الأصيلة العميقة في بنية هذا الوجود ; ولا يتجه إلى الغاية الكبيرة التي يتجه إليها الكون كله . شأنه شأن الجدول الذي ينقطع عن النبع الأول ; فمآله إلى الجفاف والضياع في يوم قريب أو بعيد !
والذين لا يرون العلاقة الوثيقة بين تلك القيم الإيمانية وحركة التاريخ الإنساني ; والذين يغفلون عن قدر الله الذي يجري بعاقبة الذين يتنكرون لهذه القيم . . هؤلاء إنما هم الغافلون الذين أعلن الله - سبحانه - عن مشيئته في أمرهم , بصرفهم عن رؤية آياته , وتدبر سننه . . وقدر الله يتربص بهم وهم عنه غافلون . .
والذين يخدعهم ما يرونه في الأمد القصير المحدود , من فلاح بعض الذين يغفلون عن تلك القيم الإيمانية ونجاحهم ; إنما يخدعهم الانتفاخ الذي يصيب الدابة وقد رعت النبت السام ; فيحسبونه شحماً وسمنة وعافية وصحة . . والهلاك يترصدها بعد الانتفاخ والحبوط ! "(20).
عاشراً: إرادة الحياة الدنيا و زينتها(/9)
قال تعالى "مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ * أُوْلََئِكَ الّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الاَخِرَةِ إِلاّ النّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ"[هود:16-17].
قال ابن كثير – رحمه الله - :" عن ابن عباس في هذه الآية: إن أهل الرياء يعطون بحسناتهم في الدنيا وذلك أنهم لا يظلمون نقيراً يقول من عمل صالحاً التماس الدنيا صوماً أو صلاة أو تهجداً بالليل لا يعمله إلا التماس الدنيا يقول الله تعالى: أوفيه الذي التمس في الدنيا من المثابة وحبط عمله الذي كان يعمله لالتماس الدنيا وهو في الآخرة من الخاسرين".
و قال مجاهد وغيره: " نزلت في أهل الرياء, وقال قتادة: من كانت الدنيا همه ونيته وطلبته جازاه الله بحسناته في الدنيا ثم يفضي إلى الآخرة وليس له حسنة يعطىَ بها جزاء وأما المؤمن فيجازى بحسناته في الدنيا ويثاب عليها في الآخرة"(21).
و عن أنس بن مالك – رضي الله عنه - قال: قال: رسول الله – صلى الله عليه وسلم - إن الله لا يظلم مؤمنا حسنة يعطى بها في الدنيا ويجزى بها في الآخرة وأما الكافر فيطعم بحسنات ما عمل بها لله في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يجزى بها (22).
وعن أنس بن مالك أيضاً أنه حدث عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم -إن الكافر إذا عمل حسنة أطعم بها طعمة من الدنيا وأما المؤمن فإن الله يدخر له حسناته في الآخرة ويعقبه رزقا في الدنيا على طاعته(23).
قال الطبري – رحمه الله - : " من عمل عملاً صالحا في غير تقوى يعني من أهل الشرك أعطي على ذلك أجراً في الدنيا يصل رحماً, يعطي سائلاً, يرحم مضطرّا في نحو هذا من أعمال البرّ يعجل الله له ثواب عمله في الدنيا, ويوسع عليه في المعيشة والرزق, ويقرّ عينه فيما خوّله, ويدفع عنه من مكاره الدنيا في نحو هذا, وليس له في الاَخرة من نصيب"(24).
" إن للجهد في هذه الأرض ثمرته . سواء تطلع صاحبه إلى أفق أعلى أو توجه به إلى منافعه القريبة وذاته المحدودة . فمن كان يريد الحياة الدنيا وزينتها فعمل لها وحدها , فإنه يلقى نتيجة عمله في هذه الدنيا ; ويتمتع بها كما يريد - في أجل محدود - ولكن ليس له في الآخرة إلا النار , لأنه لم يقدم للآخرة شيئاً , ولم يحسب لها حساباً , فكل عمل الدنيا يلقاه في الدنيا . ولكنه باطل في الآخرة لا يقام له فيها وزن وحابط [ من حبطت الناقة إذا انتفخ بطنها من المرض ] وهي صورة مناسبة للعمل المنتفخ المتورم في الدنيا وهو مؤد إلى الهلاك !
ونحن نشهد في هذه الأرض أفراداً اليوم وشعوباً وأمما تعمل لهذه الدنيا , وتنال جزاءها فيها، زينة , ولدنياها انتفاخ ! فلا يجوز أن نعجب ولا أن نسأل : لماذا ? لأن هذه هي سنة الله في هذه الأرض:(من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون).
ولكن التسليم بهذه السنة ونتائجها لا يجوز أن ينسينا أن هؤلاء كان يمكن أن يعملوا نفس ما عملوه - ونفوسهم تتطلع للآخرة وتراقب الله في الكسب والمتاع - فينالوا زينة الحياة الدنيا لا يبخسون منها شيئاً , وينالوا كذلك متاع الحياة الأخرى"(25) .
" إن العمل للحياة الأخرى لا يقف في سبيل العمل للحياة الدنيا . بل إنه هو هو مع الاتجاه إلى الله فيه . ومراقبة الله في العمل لا تقلل من مقداره ولا تنقص من آثاره ; بل تزيد وتبارك الجهد والثمر , وتجعل الكسب طيباً والمتاع به طيباً , ثم تضيف إلى متاع الدنيا متاع الآخرة . إلا أن يكون الغرض من متاع الدنيا هو الشهوات الحرام . وهذه مردية لا في الأخرى فحسب , بل كذلك في الدنيا ولو بعد حين . وهي ظاهرة في حياة الأمم وفي حياة الأفراد . وعبر التاريخ شاهدة على مصير كل أمة اتبعت الشهوات على مدار القرون"(26).
حادي عشر :الشرك :
قال تعالى : "مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ" [التوبة:17].
فأعمالهم باطلة،و فاسدة أصلاً ، ومنها عمارة بيت الله التي لا تقوم إلا على قاعدة من توحيد الله.
إن العبادة تعبير عن العقيدة ; فإذا لم تصح العقيدة لم تصح العبادة ; وأداء الشعائر وعمارة المساجد ليست بشيء ما لم تعمر القلوب بالاعتقاد الإيماني الصحيح , وبالعمل الواقع الصريح , وبالتجرد لله في العمل والعبادة على السواء" (27).
وقال تعالى : "وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِين" [الزمر:65].
والله يقول للرسول صلى الله عليه وسلم : إن الله قد أوحى إليك كما أوحى إلى النبيين من قبلك أن الشرك يحبط العمل ويفسده، ويئول فى النهاية إلى الخسران الأكبر فى الآخرة بدخول النار والعياذ بالله.(/10)
و قال تعالى : "وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا" [الفرقان:23].
" هذا يوم القيامة حين يحاسب الله العباد على ما عملوه من الخير والشر فأخبر أنه لا يحصل لهؤلاء المشركين من الأعمال التي ظنوا أنها منجاة لهم شيء وذلك لأنها فقدت الشرط الشرعي :
إما الإخلاص فيها.
وإما المتابعة لشرع الله .
فكل عمل لا يكون خالصاً وعلى الشريعة المرضية فهو باطل فأعمال الكفار لا تخلو من واحد من هذين وقد تجمعهما معا فتكون أبعد من القبول حينئذ.
ولهذا قال تعالى: "وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثوراً".
قال مجاهد والثوري "وقدمنا" أي عمدنا وكذا قال السدي. وبعضهم يقول أتينا عليه.
وقوله تعالى: "فجعلناه هباء منثورا" قال سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي رضي الله عنه في قوله: "هباء منثورا" قال شعاع الشمس إذا دخل الكوة.
وكذا قال الحسن البصري هو الشعاع في كوة أحدكم ولو ذهب يقبض عليه لم يستطع.
و عن ابن عباس : "هباء منثوراً " قال هو الماء المهراق .
و عن علي: "هباء منثوراً ". قال الهباء وهج الدواب.
وقال قتادة في قوله: "هباء منثوراً " ، قال أما رأيت يبس الشجر إذا ذرته الريح ؟ فهو ذلك الورق. وعن عبيد بن يعلى قال : وإن الهباء الرماد إذا ذرته الريح .
" وحاصل هذه الأقوال التنبيه على مضمون الآية وذلك أنهم عملوا أعمالاً اعتقدوا أنها على شيء فلما عرضت على الملك الحكم العدل الذي لا يجور ولا يظلم أحداً إذا إنها لا شيء بالكلية وشبهت في ذلك بالشيء التافه الحقير المتفرق الذي لا يقدر صاحبه منه على شيء بالكلية ".
إن الناس فى الجاهلية المعاصرة قد انتفخوا من كثرة ما أعطاهم الله استدراجاً عن طريق التقدم العلمى من سيارات وثلاجات وطائرات وصواريخ وقنابل ذرية ونووية وأموال وخيرات من كل الأنواع0
انتفخوا بكل ذلك حتى وصلت بهم ((النفخة)) إلى الاستكبار على الله، يقول الله عن أمثالهم: ((فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم)) (غافر : 83)0
ولكنه انتفاخ كانتفاخ الناقة الحابطة بالغذاء المسموم 0
فاستثمار خيرات الأرض وصل حالياً إلى حد لم يبلغه فى التاريخ، والفقر الجاثم على كثير من ربوع الأرض ليس له كذلك مثيل فى التاريخ !
وتقدم الطب بلغ درجة لم يصلها من قبل قط، ونسبة المرض كذلك فى تزايد مستمر، وتنشأ أمراض جديدة لا عهد للبشرية بها من قبل، وآخرها مرض نقص المناعة المكتسبة المسمى بالإيدز 0
والتنادى بالحريات السياسية والحريات الإنسانية يشبه الدوى فى برلمانات الأرض، وصحفها ووسائل إعلامها، والعبودية التى يعيش الناس فيها فى أكثر بقاع الأرض أبشع عبودية فى التاريخ0
ووسائل المتاع التى اخترعها البشر ليتناولوا بها أكبر قسط من متاع الأرض لا مثيل لها فى كثرتها وتنوعها واستغراقها لحياة الناس، ودرجة الشقاء التى يحسها الناس من أول الاضطرابات النفسية إلى الجنون لا مثيل لها كذلك فى كل التاريخ (28)!
1
2
3
4
________________________________________
(1) في ظلال القرآن ،(ج 6/ 3289).
(2) التحرير و التنوير ،(ج17/4044).
(3) في ظلال القرآن ،(ج 6/ 3298).
(4) تفسير القرآن العظيم ،( ج4/195 ).
(5) في ظلال القرآن ،(ج6/ 3300 ).
(6) التحرير و التنوير ، (ج17/4090).
(7) صحيح البخاري ، كتاب المناقب ، باب: علامات النبوة في الإسلام،رقم الحديث (3417).
(8) في ظلال القرآن ،(ج 6 / 3340 ).
(9) تفسير السعدي ،(ص106).
(10) التحرير و التنوير ، الطاهر ابن عاشور ،(ج3/603).
(11) في ظلال القرآن ،( ج1/ 222).
(12) تفسير الطبري ،(ج3/216).
(13) تفسير الطبري ،(ج3/217).
(14) في ظلال القرآن ،(ج1/ 375-376).
(15) تفسير الطبري ،(ج10/276).
(16) المصدر السابق .
(17) تفسير الطبري ،( ج4/632).
(18) في ظلال القرآن ،(ج 2/917).
(19) في ظلال القرآن ،( ج3/ 1372).
(20) في ظلال القرآن ، (ج31373-1372 / ).
(21) تفسير القرآن العظيم ،( ج2/ 455).
(22) صحيح مسلم ،باب :جزاء المؤمن بحسناته في الدنيا والآخرة وتعجيل حسنات الكافر في الدنيا ،(ج1/97) ،رقم (2808).
(23) صحيح مسلم ،( ج1/98).
(24) (24) تفسير الطبري ،( ج7/14).
(25) (25) في ظلال القرآن ،(ج4/ 1862-1863 ).
(26) (26) في ظلال القرآن ،( ج4 / 1863 ) .
(27) (27) في ظلال القرآن ،(ج 3/ 1614).
(28) ركائز الإيمان ،محمد قطب ،(ص126).
محبطات الأعمال [3/4]
توفيق علي 1/4/1427
29/04/2006
أولاً: ترك الصلاة
ثانياً : المُفرِط في جمع الدنيا المانع من إخراجها في وجهها
ثالثاً: من تكلم فيما لا يعنيه
رابعاً: الرياء
خامساً: العجب
سادساً: الجرأة على المعاصي في الخلوات
سابعاً: ظلم الناس والاعتداء عليهم قولاً وعملاً
أسباب حبوط العمل في الحديث النبوي
أولاً : ترك صلاة العصر(/11)
عن أبي المليح قال: كنا مع بريدة في غزوة، في يوم ذي غيم، فقال: بكروا بصلاة العصر فإن النبي –صلى الله عليه وسلم - قال: (من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله) (1).
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال : قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم - من ترك صلاة العصر متعمداً فقد حبط عمله"(2).
وعن َابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مُرْسَلًا : " مَنْ تَرَكَ الْعَصْرَ حَتَّى تَغِيبَ الشَّمْسُ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ"
قال ابن حجر في الفتح :" وأما الجمهور فتأولوا الحديث فافترقوا في تأويله فرقاً:
- فمنهم من أَوَّل سبب الترك.
- ومنهم من أوَّل الحبط.
- ومنهم من أوَّل العمل.
أولاً : تأويل الترك : فقيل المراد من تركها جاحداً لوجوبها أو معترفاً لكن مستخفاً مستهزئاً بمن أقامها وتعقب بأن الذي فهمه الصحابي إنما هو التفريط ولهذا أمر بالمبادرة إليها وفهمه أولى من فهم غيره .
ثانياً : تأويل الحبط : وقيل المراد من تركها متكاسلاً لكن خرج الوعيد مخرج الزجر الشديد وظاهره غير مراد كقوله لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن وقيل هو من مجاز التشبيه كأن المعنى فقد أشبه من حبط عمله وقيل معناه كاد أن يحبط .
ثالثاً : تأويل العمل : وقيل المراد بالحبط نقصان العمل في ذلك الوقت الذي ترفع فيه الأعمال إلى الله فكأن المراد بالعمل الصلاة خاصة أي لا يحصل على أجر من صلى العصر ولا يرتفع له عملها حينئذ وقيل المراد بالحبط الإبطال أي يبطل انتفاعه بعمله في وقت ما ثم ينتفع به كمن رجحت سيئاته على حسناته فإنه موقوف على المشيئة فإن غفر له فمجرد الوقف إبطال لنفع الحسنة إذ ذاك وإن عذب ثم غفر له.
وقد شرح الترمذي الحبط على قسمين :
القسم الأول : حبط إسقاط وهو إحباط الكفر للإيمان وجميع الحسنات.
القسم الثاني : وحبط موازنة وهو إحباط المعاصي للانتفاع بالحسنات عند رجحانها عليها إلا أن تحصل النجاة فيرجع إليه جزاء حسناته .
وقيل المراد بالعمل في الحديث عمل الدنيا الذي يسبب الاشتغال به ترك الصلاة بمعنى أنه لا ينتفع به ولا يتمتع .
قال ابن حجر :" وأقرب هذه التأويلات قول من قال : "إن ذلك خرج مخرج الزجر الشديد وظاهره غير مراد والله أعلم".
لماذا خصَّ صلاة العصر :
قال النووي :" وإنما خصها بالذكر لأنها تأتي وقت تعب الناس من مقاساة أعمالهم وحرصهم على قضاء أشغالهم وتسويفهم بها إلى انقضاء وظائفهم".
و قال ابن تيمية- رحمه الله - في الفتاوى:" وحبوط العمل لا يتوعد به إلا على ما هو من أعظم الكبائر، وكذلك تفويت العصر أعظم من تفويت غيرها:
- فإنها الصلاة الوسطى المخصوصة بالأمر بالمحافظة عليها.
- وهى التي فرضت على من كان قبلنا فضيعوها، فمن حافظ عليها، فله الأجر مرتين.
- وهى التي لما فاتت سليمان- رضي الله عنه - فعل بالخيل ما فعل .
وفى الصحيح عن النبي –صلى الله عليه وسلم- أنه قال : [ من فاتته صلاة العصر فكأنما وَتِرَ أهله وماله ] . والموتور أهله وماله يبقى مسلوبًا ليس له ما ينتفع به من الأهل والمال، وهو بمنزلة الذي حبط عمله".
ثانياً : المُفرِط في جمع الدنيا المانع من إخراجها في وجهها
عن أبي سعيد الخدري –رضي الله عنه - :أن رسول الله-صلى الله عليه وسلم - قام على المنبر، فقال: "إنما أخشى عليكم من بعدي ما يفتح عليكم من بركات الأرض". ثم ذكر زهرة الدنيا، فبدأ بإحداهما وثنى بالأخرى، فقام رجل فقال: يا رسول الله، أو يأتي الخير بالشر؟ فسكت عنه النبي - صلى الله عليه وسلم -، قلنا: يوحى إليه، وسكت الناس كأن على رؤوسهم الطير، ثم إنه مسح عن وجهه الرحضاء، فقال: (أين السائل آنفا، أو خير هو - ثلاثا - إن الخير لا يأتي إلا بالخير، وإنه كل ما ينبت الربيع ما يقتل حبطاً أو يلم(3)، إلا آكلة الخضر(4) كلما أكلت، حتى امتلئت خاصرتاها(5)، استقبلت الشمس، فثلطت (6)وبالت ثم رتعت، وإن هذا المال خضرة حلوة، ونعم صاحب المسلم لمن أخذه بحقه فجعله في سبيل الله واليتامى والمساكين، ومن لم يأخذه بحقه فهو كالآكل الذي لا يشبع، ويكون عليه شهيدا يوم القيامة). (7).
قال ابن حجر في الفتح(8) :
قال الأزهري : وفيه مثلان :
أحدهما : للمفرط في جمع الدنيا المانع من إخراجها في وجهها : أي الذي يُقتل حبطاً.
والثاني : المقتصد في جمعها وفي الانتفاع بها : وهو آكلة الخضر فإن الخضر ليس من أحرار البقول التي ينبتها الربيع ولكنها الحبة والحبة ما فوق البقل ودون الشجر التي ترعاها المواشي بعد هيج البقول فضرب آكلة الخضر من المواشي مثلاً لمن يقتصد في أخذ الدنيا وجمعها ولا يحمله الحرص على أخذها بغير حقها ولا منعها من مستحقها فهو ينجو من وبالها كما نجت آكلة الخضر وأكثر ما تحبط الماشية إذا انحبس رجيعها في بطنها .
وقال الزين بن المنير:
آكلة الخضر: هي بهيمة الأنعام التي ألف المخاطبون أحوالها في سومها ورعيها وما يعرض لها من البشم وغيره.(/12)
والخضر النبات الأخضر وقيل حرار العشب التي تستلذ الماشية أكله فتستكثر .
وقال الطيبي: يؤخذ منه أربعة أصناف:
- فمن أكل منه أكل مستلذ مفرط منهمك حتى تنتفخ أضلاعه ولا يقلع فيسرع إليه الهلاك.
- ومن أكل كذلك لكنه أخذ في الاحتيال لدفع الداء بعد أن استحكم فغلبه فأهلكه .
- ومن أكل كذلك لكنه بادر إلى إزالة ما يضره وتحيل في دفعه حتى انهضم فيسلم.
- ومن أكل غير مفرط ولا منهمك وإنما اقتصر على ما يسد جوعته ويمسك رمقه.
- فالأول مثال : الكافر.
- والثاني مثال : العاصي الغافل عن الإقلاع والتوبة إلا عند فوتها.
- والثالث مثال: للمخلط المبادر للتوبة حيث تكون مقبولة.
- والرابع مثال: الزاهد في الدنيا الراغب في الآخرة .
وقال الزين بن المنير في هذا الحديث : وجوه من التشبيهات بديعة:
- أولها : تشبيه المال ونموه بالنبات وظهوره.
- ثانيها : تشبيه المنهمك في الاكتساب والأسباب بالبهائم المنهمكة في الأعشاب.
- وثالثها : تشبيه الاستكثار منه والادخار له بالشره في الأكل والامتلاء منه.
- و رابعها: تشبيه الخارج من المال مع عظمته في النفوس حتى أدى إلى المبالغة في البخل به بما تطرحه البهيمة من السلح ففيه إشارة بديعة إلى استقذاره شرعاً.
- وخامسها: تشبيه المتقاعد عن جمعه وضمه بالشاة إذا استراحت وحطت جانبها مستقبلة عين الشمس فإنها من أحسن حالاتها سكونا وسكينة وفيه إشارة إلى إدراكها لمصالحها .
- وسادسها : تشبيه موت الجامع المانع بموت البهيمة الغافلة عن دفع ما يضرها.
- وسابعها تشبيه المال بالصاحب الذي لا يؤمن أن ينقلب عدوا فإن المال من شأنه أن يحرز ويشد وثاقه حبا له وذلك يقتضي منعه من مستحقه فيكون سببا لعقاب مقتنيه.
- وثامنها : تشبيه آخذه بغير حق بالذي يأكل ولا يشبع.
وقال الغزالي: مثل المال مثل الحية التي فيها ترياق نافع وسم ناقع فإن أصابها العارف الذي يحترز عن شرها ويعرف استخراج ترياقها كان نعمة وان أصابها الغبي فقد لقى البلاء المهلك.
و من فوائد الحديث :
- جلوس الإمام على المنبر عند الموعظة في غير خطبة الجمعة ونحوها .
- وفيه جلوس الناس حوله والتحذير من المنافسة في الدنيا.
- وفيه استفهام العالم عما يشكل وطلب الدليل لدفع المعارضة.
- وفيه تسمية المال خيراً ويؤيده قوله تعالى: "وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ"[ العاديات:8] وقوله تعالى: "إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ " [البقرة:180].
- وفيه ضرب المثل بالحكمة وان وقع في اللفظ ذكر ما يُستهجن كالبول فإن ذلك يغتفر لما يترتب على ذكره من المعاني اللائقة بالمقام .
- ويستفاد منه ترك العجلة في الجواب إذا كان يحتاج إلى التأمل.
- وفيه لوم من ظن به تعنت في السؤال وحمد من أجاد فيه ويؤيد أنه من الوحي قوله يمسح العرق فإنها كانت عادته عند نزول الوحي كما تقدم في بدء الوحي "وإن جبينه ليتفصد عرقا".
- وفيه تفضيل الغني على الفقير ولا حجة فيه لأنه يمكن التمسك به لمن لم يرجح أحدهما على الآخر.
- وفيه الحض على إعطاء المسكين واليتيم وابن السبيل.
- وفيه أن المكتسب للمال من غير حله لا يبارك له فيه لتشبيهه بالذي يأكل ولا يشبع.
- وفيه ذم الإسراف وكثرة الأكل والنهم فيه وأن اكتساب المال من غير حله وكذا إمساكه عن إخراج الحق منه سبب لمحقه فيصير غير مبارك .
- و قال النووي :" قوله-صلى الله عليه وسلم- : "أين السائل" بمعنى : " أن هذا هو السائل الممدوح الحاذق الفطن ولهذا قال وكأنه حمده".
- قوله –صلى الله عليه وسلم - : "وإن هذا المال خضر حلو ونعم صاحب المسلم" هو لمن أعطى منه المسكين واليتيم وابن السبيل فيه فضيلة المال لمن أخذه، بحقه وصرفه في وجوه الخير".
ثالثاً : من تكلم فيما لا يعنيه
عن جندب- رضي الله عنه - قال : إن رسول الله – صلى الله عليه وسلم - حدث "أن رجلاً قال: والله! لا يغفر الله لفلان. وإن الله تعالى قال: من ذا الذي يتألى(9)علي أن أغفر لفلان. فإني قد غفرت لفلان. وأحبطت عملك" أو كما قال(10).
قال النووي: "قوله – صلى الله عليه وسلم -: "أن رجلاً قال: والله لا يغفر الله لفلان وإن الله تعالى: "قال من ذا الذي يتألى على أن لا أغفر لفلان فإني قد غفرت لفلان وأحبطت عملك" .
- فيه دلالة لمذهب أهل السنة في غفران الذنوب بلا توبة إذا شاء الله غفرانها.
- واحتجت المعتزلة به في إحباط الأعمال بالكبائر، ومذهب أهل السنة أنها لا تحبط إلا بالكفر.
- ويتأول حبوط عمل هذا على أنه أسقطت حسناته في مقابلة سيئاته وسمي إحباطاً مجازاً، ويحتمل أنه جرى منه أمر آخر أوجب الكفر، ويحتمل أن هذا كان في شرع من قبلنا وكان هذا حكمهم"(11).
قال ابن القيم – رحمه الله - :" فهذا العابد الذي قد عبد الله ما شاء أن يعبده أحبطت هذه الكلمة الواحدة عمله كله".
ثم قال أبو هريرة تكلم بكلمة أو بقت دنياه وآخرته.(/13)
وفى الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي-صلى الله عليه وسلم- أن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقى لها بالاً يرفعه الله بها درجات وأن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقى لها بالا يهوي بها في نار جهنم .
وعند مسلم أن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين ما فيها يهوي بها فى النار أبعد مما بين المغرب والمشرق.
وعند الترمذي عن النبي –صلى الله عليه وسلم- من حديث بلال بن الحارث المزني إن أحدكم ليتكلم بالكلمة من رضوان الله ما يظن أن تبلغ ما بلغت فيكتب الله له بها رضوانه إلى يوم يلقاه وإن أحدكم ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما يظن أن تبلغ ما بلغت فيكتب الله له بها سخطه إلى يوم يلقاه.
فكان علقمة يقول كم من كلام قد منعنيه حديث بلال بن الحارث .
وفى جامع الترمذي أيضاً من حديث أنس قال توفى رجل من الصحابة فقال رجل أبشر بالجنة فقال رسول الله –صلى الله عليه وسلم- أو لا تدري لعله تكلم فيما لا يعنيه أو بخل بمالاً ينقصه. قال حديث حسن.
وفى لفظ أن غلاماً ما استشهد يوم أحد فوجد على بطنه صخرة مربوطة من الجوع فمسحت أمه التراب عن وجهه وقالت هنيئا لك يا بني الجنة فقال رسول الله –صلى الله عليه وسلم - وما يدريك لعله كان يتكلم فيما لا يعنيه ويمنع مالا يضروه .
في الصحيحين من حديث أبى هريرة يرفعه من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت." (12).
ثالثاً : المنَّ والأذى
قال الله تعالى : "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ" [البقرة:264].
المنُّ: أن يمُنُّ بما أعطى .
أخبر أن الصدقة تبطل بما يتبعها من المن والأذى فما بقي ثواب الصدقة بخطيئة المن والأذى.
جاء عن النبي – صلى الله عليه وسلم- أنه قال :" إياكم والمنّ بالمعروف فإنه يُبِطل الشكر ويمحُ الأجر ". ثم تلا الآية.
وعن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لا يدخل الجنة مدمن خمر ولا عاق لوالديه ولا منان.
قال ابن حجر في الفتح :" قوله باب الرياء في الصدقة قال الزين بن المنير يحتمل أن يكون مراده إبطال الرياء للصدقة فيحمل على ما تمحض منها لحب المحمدة والثناء من الخلق بحيث لولا ذلك لم يتصدق بها .
قال الزين بن المنير : وجه الاستدلال من الآية أن الله تعالى شبه مقارنة المن والأذى للصدقة أو إتباعها بذلك بإنفاق الكافر المرائي الذي لا يجد بين يديه شيئا منه ومقارنة الرياء من المسلم لصدقته أقبح من مقارنة الإيذاء وأولى أن يشبه بإنفاق الكافر المرائي في إبطال إنفاقه .
قال بن عباس صلداً ليس عليه شيء .
قال الضحاك: والذي يتبع نفقته مناً أو أذى فقال "فمثله كمثل صفوان" : وهو الصفا وهو الصخر الأملس "عليه تراب فأصابه وابل" هو المطر الشديد "فتركه صلدا" أي فترك الوابل ذلك الصفوان صلدا أي أملس يابسا أي لا شيء عليه من ذلك التراب بل قد ذهب كله أي وكذلك أعمال المرائين تذهب وتضمحل عند الله وإن ظهرت لهم أعمال فيما يرى الناس كالتراب .
عن قتادة في هذه الآية قال : هذا مثل ضربه الله لأعمال الكفار يوم القيامة يقول لا يقدرون على
شيء مما كسبوا يومئذ كما ترك هذا المطر الصفا نقياً ليس عليه شيء .
سمع ابن سيرين رجلاً يقول لآخر :" أحسنت إليك وفعلت وفعلت ،فقال له ابن سيرين :" اسكُت فلا خير في المعروف إذا أحُصى "(13).
و أنشد الشافعي :
لا تحملنَّ من الآثام *** بأن يمنوا عليك منه
و اختر لنفسك حظَها*** و اصبر فإن الصبرَ جُنة
مننُ الرجالِ على القلوب *** أشدُ من وقعِ الأسنة
و قال آخر :
أفسدت بالمنِّ ما قدمن من حسن *** ليس الكريمُ إذا أعطى بمنانِ
ممن يقع المن؟
قال القرطبي – رحمه الله - :" المن يقع غالباً من البخيل والمعجب :
فالبخيل : تعظم في نفسه العطية وإن كانت حقيرة في نفسها .
والمُعجب : يحمله العُجب على النظر لنفسه بعين العظمة ،و أنه مُنعِم بماله على المُعْطَى .و موجب ذلك كله الجهل، و نسيان نعمة الله فيما أنعم به عليه ".
رابعاً : الرياء
قال تعالى: " كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ " [البقرة:264] .
أي: " تبطل صدقة من راءى بها الناس فأظهر لهم أنه يريد وجه الله وإنما قصده مدح الناس له أو شهرته بالصفات الجميلة ليشكر بين الناس أو يقال إنه كريم ونحو ذلك من المقاصد الدنيوية مع قطع نظره عن معاملة الله تعالى ابتغاء مرضاته وجزيل ثوابه .
و قال تعالى: "وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ" [فاطر:10].(/14)
قال مجاهد : هم المراءون بأعمالهم يعني يمكرون بالناس يوهمون أنهم في طاعة الله تعالى وهم بُغضَاء إلى الله عز وجل يراءون بأعمالهم.
"ولا يذكرون الله إلا قليلا" وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم هم المشركون.
والصحيح أنها عامة والمشركون داخلون بطريق الأولى ولهذا قال تعالى: "لهم عذاب شديد ومكر أولئك هو يبور" أي يفسد ويبطل ويظهر زيفهم عن قريب لأولي البصائر والنهى فإنه ما أسر أحد سريرة إلا أبداها الله تعالى على صفحات وجهه وفلتات لسانه وما أسر أحد سريرة إلا كساه الله تعالى رداءها إن خيراً فخير وإن شراً فشر.
فالمرائي لا يروج أمره ويستمر إلا على غبي، أما المؤمنون المتفرسون فلا يروج ذلك عليهم بل ينكشف لهم عن قريب وعالم الغيب لا تخفى عليه خافية.
و قال تعالى : "وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ" [الزمر:47].
قيل :" كانوا عملوا أعمالاً كانوا يرونها في الدنيا حسنات بدت لهم يوم القيامة سيئات ".
علامات المرائي :
قال علي –رضي الله عنه- : للمرائي ثلاث علامات :
1- يكسل إذا كان وحده .
2- ينشط إذا كان في الناس.
3-يزيد في العمل إذا أُثِنيَّ عليه ،ويُنقِص إذا ذُم به.
المُرائي رجل سوء :
قال الحسن :" المرائي يريد أن يغلب قدر الله فيه، هو رجل سوء، يريد أن يقول الناس هو صالح ،فكيف يقولون وقد حلَّ من ربه محل الاردياء ؟، فلابد من قلوب المؤمنين أن تعرفه" .
و قال قتادة :" إذا راءى العبد يقول الله :" انظروا إلى عبدي كيف يستهزئ بي"(14).
وقال ابن القيم – رحمه الله - الرياء يفسد العمل :" فيشفق على سعيه من هذا المفسد شفقة تصونه عنه " (15).
وعن عقبة بن مسلم أن شفيا الأصبحي حدثه أنه دخل مسجد المدينة فإذا هو برجل قد اجتمع عليه الناس فقال من هذا قالوا أبو هريرة قال فدنوت منه حتى قعدت بين يديه وهو يحدث الناس فلما سكت وخلا قلت له أنشدك بحقي لما حدثتني حديثا سمعته من رسول الله-صلى الله عليه وسلم -عقلته وعلمته فقال أبو هريرة أفعل لأحدثنك حديثا حدثنيه رسول الله – صلى الله عليه وسلم -عقلته وعلمته ثم نشغ أبو هريرة نشغة فمكث قليلا ثم أفاق فقال لأحدثنك حديثا حدثنيه رسول الله – صلى الله عليه وسلم - وأنا وهو في هذا البيت ما معنا أحد غيري وغيره ثم نشغ أبو هريرة نشغة أخرى فمكث كذلك ثم أفاق فمسح عن وجهه فقال أفعل لأحدثنك حديثا حدثنيه رسول الله – صلى الله عليه وسلم -وأنا وهو في هذا البيت ما معه أحد غيري وغيره ثم نشغ نشغة شديدة ثم مال خارا على وجهه واشتد به طويلا ثم أفاق فقال حدثني رسول الله – صلى الله عليه وسلم - أن الله تبارك وتعالى إذا كان يوم القيامة ينزل إلى العباد ليقضي بينهم وكل أمة جاثية فأول من يدعو به رجل جمع القرآن ورجل يقتل في سبيل الله ورجل كثير المال فيقول الله تبارك وتعالى للقارئ ألم أعلمك ما أنزلت على رسولي – صلى الله عليه وسلم- قال بلى يا رب قال فماذا عملت فيما علمت قال كنت أقوم به آناء الليل وآناء النهار فيقول الله تبارك وتعالى له كذبت وتقول له الملائكة كذبت ويقول الله بل أردت أن يقال فلان قارئ فقد قيل ذاك ويؤتى بصاحب المال فيقول الله له ألم أوسع عليك حتى لم أدعك تحتاج إلى أحد قال بلى يا رب قال فماذا عملت فيما آتيتك قال كنت أصل الرحم وأتصدق فيقول الله له كذبت وتقول الملائكة له كذبت ويقول الله بل إنما أردت أن يقال فلان جواد فقد قيل ذاك ويؤتى بالذي قتل في سبيل الله فيقال له في ماذا قتلت فيقول أمرت بالجهاد في سبيلك فقاتلت حتى قتلت فيقول الله له كذبت وتقول له الملائكة كذبت ويقول الله بل أردت أن يقال فلان جريء فقد قيل ذاك ثم ضرب رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ركبتي فقال يا أبا هريرة أولئك الثلاثة أول خلق الله تسعر بهم النار يوم القيامة قال الوليد بن أبي الوليد فأخبرني عقبة أن شفيا هو الذي دخل على معاوية فأخبره بهذا الخبر قال أبو عثمان الوليد وحدثني العلاء بن أبي حكيم أنه كان سيافا لمعاوية قال فدخل عليه رجل فحدثه بهذا عن أبي هريرة فقال معاوية قد فعل بهؤلاء مثل هذا فكيف بمن بقي من الناس ثم بكى معاوية بكاء شديدا حتى ظننا أنه هالك وقلنا قد جاءنا هذا الرجل بشر ثم أفاق معاوية ومسح عن وجهه فقال صدق الله ورسوله من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون(16).
من أقوال السلف في الرياء :
قال الفضيل :" ترك العمل من أجل الناس رياء ،و العمل من أجل الناس شرك ،و الإخلاص أن يعافيك الله عنهما "(17).
خوف السلف من الرياء :
كان أيوب السختياني في مجلس فجاءته عَبرة فجعل يتمخّط ويقول ما أشد الزكام "(18).
عن سحنون قال :" كان بعض من مضى يريد أن يتكلم بالكلمة ولو تكلم بها لانتفع بها خلق كثير فيحبسها، ولا يتكلم مخافة المباهاة "(19).
اتقاء الرياء :(/15)
عن أبي علي رجل من بني كاهل قال : خطبنا أبو موسى الأشعري-رضي الله عنه - فقال : خطبنا رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ذات يوم فقال : " أيها الناس ! اتقوا هذا الشرك، فإنه أخفى من دبيب النمل "، فقال له من شاء أن يقول : وكيف نتقيه وهو أخفى من دبيب النمل يا رسول الله ؟ قال " قولوا : اللهم إنا نعوذ بك من أن نشرك بك شيئاً نعلمه ونستغفرك لما لا نعلم " (20).
و قال سفيان الثوري :" كم أجتهد في تخليص الرياء من قلبي كلما عالجته من جانب ظهر جانب ".
خامساً :العُجب
قال تعالى :"لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ" [التوبة:25].
قال ابن كثير – رحمه الله - :" يذكر تعالى للمؤمنين فضله عليهم وإحسانه لديهم في نصره إياهم في مواطن كثيرة من غزواتهم مع رسوله وأن ذلك من عنده تعالى وبتأييده وتقديره لا بعددهم ولا بعدتهم ونبههم على أن النصر من عنده سواء قل الجمع أو كثر فإن يوم حنين أعجبتهم كثرتهم ومع هذا ما أجدى ذلك عنهم شيئاً فولوا مدبرين إلا القليل منهم مع رسول الله-صلى الله عليه وسلم- ثم أنزل نصره وتأييده على رسوله وعلى المؤمنين الذين معه، ليعلمهم أن النصر من عنده تعالى وحده وبإمداده وإن قل الجمع فكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين".
تعريف العُجب :
قال عبد الله بن المبارك :" أن ترى أن عندك شيئاً ليس عند غيرك "(21).
نصيحة أخ لأخيه :
قال يوسف بن الحسين للجنيد :"لا أذاقك الله طعم نفسك ،فإن ذقتها لا تُفلح "(22).
ماذا لو أعجبتك نفسك ؟
خطب منذر بن سعيد البلوطي يوماً : فأعجبته نفسه فقال : "حتى متى أعظ ولا أتعظ، وأزجر وأزدجر، أدل على الطريق المستدلين ،و أبقى مقيماً مع الحائرين ،كلاَّ إنَّ هذا لهو البلاء المبين، "اللهم فرغبني لما خلقتني له، ولا تشغلني بما تكلفت لي به "(23).
قال َالدَّيْلَمِيُّ : " إنَّ الْعُجْبَ يُحْبِطُ عَمَلَ سَبْعِينَ سَنَةً ".
وَكَذَلِكَ الْعُلَمَاءُ الَّذِينَ ظَهَرَتْ عَلَيْهِمْ سِيمَا الصَّالِحِينَ يُسْرِعُ إلَيْهِمْ الْكِبْرُ، لَكِنَّ النَّاسَ يَتَرَدَّدُونَ إلَيْهِمْ بِقَضَاءِ مَآرِبِهِمْ وَالْمُبَالَغَةِ فِي إكْرَامِهِمْ فَيَرَوْنَ حِينَئِذٍ أَنَّهُمْ أَرْفَعُ وَأَحَقُّ بِأَنْ يَكُونَ النَّاسُ دُونَهُمْ لِعَدَمِ وُصُولِهِمْ إلَى صُوَرِ أَعْمَالِهِمْ، وَمَا دَرَوْا أَنَّ ذَلِكَ رُبَّمَا يَكُونُ سَبَبًا لِسَلْبِهِمْ . كَمَا وَقَعَ أَنَّ خَلِيعًا مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ جَلَسَ إلَى عَابِدٍ لِيَنْتَفِعَ بِهِ فَأَنِفَ مِنْ مُجَالَسَتِهِ وَطَرَدَهُ، فَأَوْحَى اللَّهُ - تَعَالَى - إلَى نَبِيِّهِمْ أَنَّهُ غَفَرَ لِلْخَلِيعِ وَأَحْبَطَ عَمَلَ الْعَابِدِ . فَالْجَاهِلُ الْعَامِّيُّ إذَا تَوَاضَعَ وَذُلَّ هَيْبَةً لِلَّهِ وَخَوْفًا مِنْهُ فَقَدْ أَطَاعَ بِقَلْبِهِ فَهُوَ أَطْوَعُ مِنْ الْعَالِمِ الْمُتَكَبِّرِ وَالْعَابِدِ الْمُعْجَبِ . وَقَدْ يَنْتَهِي الْحُمْقُ وَالْغَبَاوَةُ بِبَعْضِ الْعِبَادِ إلَى أَنَّهُ إذَا أُوذِيَ يَتَوَعَّدُ مُؤْذِيَهُ وَيَقُولُ : سَتَرَوْنَ مَا يَحِلُّ بِهِ، وَإِذَا نُكِبَ مُؤْذِيهِ يَعُدُّ ذَلِكَ مِنْ كَرَامَاتِهِ لِعِظَمِ قَدْرِ نَفْسِهِ عِنْدَهُ وَاسْتِيلَاءِ الْجَهْلِ عَلَيْهِ لِجَمْعِهِ بَيْنَ الْعُجْبِ وَالْكِبْرِ وَالِاغْتِرَارِ بِاَللَّهِ تَعَالَى(24).
قال – صلى الله عليه وسلم - " شِرَارُ أُمَّتِي الْمُعْجَبُ بِدِينِهِ، الْمُرَائِي بِعَمَلِهِ، الْمُخَاصِمُ بِحُجَّتِهِ، وَالرِّيَاءُ شِرْكٌ " .
وَقال أَبُو نُعَيْمٍ : " مَنْ حَمِدَ نَفْسَهُ عَلَى عَمَلٍ صَالِحٍ فَقَدْ ضَلَّ شُكْرُهُ وَحَبِطَ عَمَلُهُ ".
سادساً :الجرأة على المعاصي في الخلوات
عن ثوبان -رضي الله عنه- قال : عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- أنه قال : " لأعلمن أقواماً من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بيضاء فيجعلها الله هباء منثورا قال ثوبان : يا رسول الله صفهم لنا :قال :" أما إنهم إخوانكم ومن جلدتكم ويأخذون من الليل كما تأخذون ولكنهم أقوام إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها !!."(رواه ابن ماجه ،و صححه الألباني ).
وجوب مراقبة الله :
المراقبة : هي التعبد بأسمائه :" الرقيب ،الحفي ،العليم، السميع ،البصير"، فمن عقل هذه الأسماء ،و تعبد بمقتضاها، حصلت له المراقبة .
وصف المراقبة :
قال ابن القيم – رحمه الله - :" مراقبة الحق تعالى في السير إليه على الدوام، بين تعظيم مذهل ومداناة حاملة ،و سرور باعث .(/16)
فأما التعظيم المذهل فهو : امتلاء القلب من عظمة الله عز وجل، بحيث يذهله ذلك عن تعظيم غيره، عن الالتفات إليه .فلا ينسى هذا التعظيم عند حضر قلبه مع الله .بل يستصحبه دائماً .فإن الحضور مع الله يوجب أنساً ومحبة، إن لم يقارنهما تعظيم ،أورثاه خروجاً عن حدد العبودية ورعونة، فكل حب لا يقارنه تعظيم المحبوب فهو سبب للبعد عنه ،و السقط من عينه .
و بذلك تضمن هذا الوصف خمسة أمور : سيراً إلى الله، واستدامة هذا السير، حضور القلب معه ،و تعظيمه، والذهول بعظمته عن غيره .
و أما المداناة الحاملة فهي : الدنو الحامل له على هذه الأمور الخمسة ،و هذا الدنو يحمله على التعظيم الذي يذهله عن نفسه، وعن غيره ،فإنه كلما ازداد قرباً من الحق ازداد له تعظيماً وذهلاً عن سواه وبعداً عن الخلق .
و أما السرور الباعث : فهو الفرحة والتعظيم، واللذة التي يجدها في تلك المُداناة فإن سرور القلب بالله وفرحه به، قرة العين به، لا يشبهه شيء من نعيم الدنيا ألبتة ،و ليس له نظير يقاس به، وهو حال من أحوال أهل الجنة، حتى قال بعض العارفين :" إنه لتمر بي أوقات أقول فيها : إن كان أهل الجنة في مثل هذا ،إنهم لفي عيش طيب "(25).
للعمل الصالح حلاوة في القلب :
قال ابن تيمية – رحمه الله - :" إذا لم تجد للعمل حلاوة في قلبك وانشراحاً فاتهمه، فإن الرب تعالى شكور، يعني أنه لابد أن يثيب العامل على عمله في الدنيا حلاوة يجدها في قلبه ،و قة انشراح وقرة عين فحيث لم يجد ذلك فعمله مدخول"(26).
إن الله أعد لمن راقبه وخشيه أجراً عظيماً فقال - سبحانه -: "جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رضي الله عنهم وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ" (10) وخص من خشيه في الغيب والسر فقال: "وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب (33) ادخلوها بسلام ذلك يوم الخلود (34) لهم ما يشاؤون فيها".
أما أولئك الذين خف قدر الله في قلوبهم وضعف يقينهم وإيمانهم فسارعوا في ارتكاب الموبقات والتورط في الذنوب والمعاصي في أوقات الخلوات ولم يرعوا حق رب الأرض والسماوات فنذكرهم بقول تعالى :" يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ".
و كان من دعاء النبي –صلى الله عليه وسلم-: " أسألك خشيتك في الغيب والشهادة"(27).
وكان الإمام أحمد كثيراً ما ينشد قول الشاعر:
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل *** خلوت ولكن قل علي رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ساعة *** ولا أن ما يخفى عليه يغيب
سابعاً : ظلم الناس والاعتداء عليهم قولاً وعملاً
"وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ.مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء.وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُواْ رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُم مِّن قَبْلُ مَا لَكُم مِّن زَوَالٍ.وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ" [إبراهيم: 42-48].
" أي لا تحسبنه إذا أنظرهم وأجلهم أنه غافل عنهم مهمل لهم لا يعاقبهم على صنعهم بل هو يحصي ذلك عليهم ويعده عليهم عدا ".
و عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم - من كانت له مظلمة لأحد من عرضه أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه(28).
و عن أبي هريرة – رضي الله عنه - أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم- قال أتدرون ما المفلس قالوا المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع فقال إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصيام وصلاة وزكاة ويأتي قد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار(29).
قال النووي :" المفلس : هو الهالك الهلاك التام ،و المعدوم الإعدام المُقْطِع ،فتُأخذ حسناته لغرمائه ،فإذا فرغت حسناته ،أُخذ من سيئاته فوضع عليه ثم أُلقيَّ في النار فتمت خسارته وهلاكه وإفلاسه "(30).
قال المازري – رحمه الله - :" زعم بعض المبتدعة أن هذا الحديث معارض لقوله تعالى :"وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى" [الزمر:7].(/17)
وهذا الاعتراض غلط منه وجهالة بينة، لأنه إنما عُوقب بفعله ووزره وظلمه ،فتوجهت عليه حقوق لغرامائه فدُفِعت إليهم من حسناته ،فلما فرغت وبقيت بقية، قُوبلت على حسب ما اقتضته حكمة الله تعالى في خلقه وعدله في عباده ،فأُخذ قدرها من سيئات خصومه فوضِع عليه فُعوقب به في النار ،فحقيقة العقاب إنما هي بسبب ظُلمه ولم يعاقب بغير جناية وظُلم منه ،و هذا كله مذهب أهل السنُة".
و عن عبد الله بن أنيس قال : سمعت رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يقول :" يُحشر العباد يوم القيامة حفاة عُراة غرلاً فيناديهم مناد بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب، أنا الملك الديان لا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة لأحد من أهل النار وعنده ملمة أن أقصه حتى اللطمة فما فقها لا يظلم ربك أحداً .قلنا :يا رسول الله كيف وإنما نأتي حفاة عراة .فقال :بالحسنات السيئات جزاء ولا يظلم ربك أحداً .
1
2
3
4
________________________________________
(1) صحيح البخاري ، كتاب مواقيت الصلاة ، باب: إثم من ترك العصر ،رقم الحديث(528).
(2) صحيح الترغيب والترهيب ، الألباني ،(ج1/89). رواه أحمد بإسناد صحيح
(3) يُلم :يقرب من الهلاك .
(4) الخضر : وهو ضرب من الكلأ يعجب الماشية وواحده خضرة.
(5) خاصرتاه :جانبا البطن من الحيوان
(6) ثلطت : أي القت ما في بطنها رقيقا.
(7) صحيح البخاري ،كتاب الجهاد والسير ، باب: فضل النفقة في سبيل الله، رقم الحديث ، (2687).
(8) فتح الباري (11/244)، باب ما يحذر من زهرة الدنيا، ومسلم رقم (1052)
(9) معنى يتألى : يحلف والآلية اليمين.
(10) صحيح مسلم ، كتاب البر والصلة والآداب، باب النهي عن تقنيط الإنسان من رحمة الله تعالى،رقم الحديث (2621).
(11) صحيح مسلم بشرح النووي .
(12) الجواب الكافي ، ص 133.
(13) الكبائر ، الذهبي ،( ص152).
(14) الكبائر ، الذهبي ،(ص144).
(15) مدارج السالكين ، ص248.
(16) صحيح بن حبان ، ذكر البيان بأن من راءى في عمله يكون في القيامة من أول من يدخل النار ،(ج1/412)،رقم (408).
(17) نزهة الفضلاء ،( ج2/774).
(18) نزهة الفضلاء ،( ج2/626).
(19) نزهة الفضلاء ،(ج3/983).
(20) مصنف ابن أبي شيبة ،كتاب الدعاء ،في التعوذ من الشرك ،(61).
(21) نزهة الفضلاء ،( ج2/769).
(22) نزهة الفضلاء ،( ج3/1147).
(23) نزهة الفضلاء ،( ج3/1279-1280).
(24) الزواجر عن ارتكاب الكبائر ، (ج1/87).
(25) مدارج السالكين ،(ص 282) .
(26) المرجع السابق ، (ص 283).
(27) أخرجه: أحمد (17861)، والنسائي (1305) من طريقين في كل منهما ضعف محتمل فيقوي بعضهما بعضاً على قاعدة التقوية بمجموع الطرق، وصححه الألباني.
(28) صحيح البخاري ، باب من كانت له مظلمة عند الرجل فحللها له هل يبين مظلمته ، (ج1 /38 ).
(29) صحيح مسلم ، باب : تحريم الظلم ، (ج1/92)، رقم الحديث (2581).
(30) صحيح مسلم بشرح النووي .
محبطات الأعمال [4/4]
توفيق علي 12/4/1427
10/05/2006
- من صور الظلم.
- الحسد
- المؤمن الكامل
- من أقوال السلف
- الغيبة
- ثناء الناس لا يحبط العمل
من صور الظلم :
1- أكل مال اليتيم ظلماً : قال تعالى : "إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا" [النساء:10].
2- المماطلة بحق عليه مع قدرته على الوفاء : عن همام بن منبه أخي وهب بن منبه أنه سمع أبا هريرة – رضي الله عنه - يقول قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم - مطل الغني ظلم (1).
3- ظلم المرأة حقها من صداقها ونفقتها وكسوتها .
عن ابن مسعود قال :" يؤخذ بيد العبيد أ والأمة يوم القيامة فينادي به على رؤوس الخلائق هذا فلان ابن فلان من كان له عليه حق فليأت إلى حقه .فال :فتفرح المرأة أن يكون لها حق على أبيها أ وأخيها أ وزوجها ثم قرأ :" فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون ".
وقال تعالى : "يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيه"ِ [عبس:34]. قال القرطبي – رحمه الله – :" أي يهرب, أي تجيء الصاخة في هذا اليوم الذي يهرب فيه من أخيه، وأمه وأبيه .قيل: إنما يفر حذراً من مطالبتهم إياه, لما بينهم من التبعات".
4- أن يستأجر أجيراً أ وإنساناً في عمل ولا يعطيه أجرته : عن أبي هريرة – رضي الله عنه- قال: قال رسول –صلى الله عليه وسلم- قال: الله ثلاثة أنا خصمهم في القيامة ومن كنت خصمه اخصمه رجل أعطى بي ثم غدر ورجل باع حرا فأكل ثمنه ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يوفه أجره(2).
5- الركون إلى الظلمة ومداهنتهم : عن أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه - عن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال: "سيكون من بعدي أمراء يغشاهم غواش من الناس فمن صدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم فأنا منه بريء وه ومني بريء ومن لم يصدقهم بكذبهم ولم يعنهم على ظلمهم فأنا منه وه ومني(3).(/18)
قال سعيد بن المسيب – رحمه الله - :" لا تملأوا أعينكم من أعوان الظلمة إلا بإنكار من قلوبكم لئلا تُحبط أعمالكم الصالحة ".
قال أحد الشعراء :
توق دعا المظلوم إن دعاءه*** ليرفع فوق السحب ثم يجاب
توق دعا من ليس بين دعائه*** وبين إله العالمين حجاب
ثامناً : الحسد :
قال تعالى :"أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ" [النساء:54].
الحسد : تمني زوال النعمة عن صاحبها، سواء كانت نعمة دين أ ودنيا .
والحسد :مركوز في طباع البشر، وه وأن الإنسان يكره أن يتفوقه أحد من جنسه في شيء من الفضائل "(4).
أقسام الحسد :
قال النووي :" الحسد قسمان : حقيقي ومجازي .
أما الحقيقي :" تمني زوال النعمة عن صاحبها، وهذا حرام بإجماع الأمة مع النصوص الصحيحة .
قال ابن رجب – رحمه الله - :" وهو شرهما وأخبثهما، وهذا هو الحسد المذموم المنهي عنه، وهو ذنب إبليس حيث حسد آدم – عليه السلام - لما رآه قد فاق على الملائكة، بأن خلقه الله بيده، وأسجد له ملائكته، وعلمه أسماء كل شيء، وأسكنه في جواره، فما زال يسعى في إخراجه من حتى أُخرج منها"(5).
أما المجازي: فه والغبطة، وه وأن يتمنى مثل النعمة التي على غيره من غير زوالها عن صاحبها، فإن كانت من أمور الدنيا كانت مباحة، وإن كانت طاعة فهي مستحبة"(6).
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم- "لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً، فسلطه على هلكته في الحق. ورجل آتاه الله الحكمة، فهو يقضي بها، ويعلمها" متفق عليه.
قال السعدي – رحمه الله - :" وأعظم من يغبط: من كان عنده مال قد حصل له من حِلَّه، ثم سُلّط ووفق على إنفاقه في الحق، في الحقوق الواجبة والمستحبة؛ فإن هذا من أعظم البرهان على الإيمان، ومن أعظم أنواع الإحسان.
ومن كان عنده علم وحكمة علمه الله إياها، فوفق لبذلها في التعليم والحكم بين الناس. فهذان النوعان من الإحسان لا يعادلهما شيء.
الأول: ينفع الخلق بماله، ويدفع حاجاتهم، وينفق في المشاريع الخيرية، فتقوم ويتسلسل نفعها، ويعظم وقعها.
والثاني: ينفع الناس بعلمه، وينشر بينهم الدين والعلم الذي يهتدي به العباد في جميع أمورهم: من عبادات ومعاملات وغيرها.
ثم بعد هذين الاثنين: تكون الغبطة على الخير، بحسب حاله ودرجاته عند الله. ولهذا أمر الله تعالى بالفرح والاستبشار بحصول هذا الخير، وإنه لا يوفق لذلك إلا أهل الحظوظ العظيمة العالية. قال تعالى: "قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُ وخَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ" [يونس:58]، وقال: "وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ، وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُ وحَظٍّ عَظِيمٍ"[فصلت:34-35].
وقد يكون من تمنى شيئاً من هذه الخيرات، له مثل أجر الفاعل إذا صدقت نيته، وصمم عن عزيمته أن لو قدر على ذلك العمل، لَعَمِلَ مثله، كما ثبت بذلك الحديث. وخصوصاً إذا شرع وسعى بعض السعي"(7).
المؤمن الكامل :
قال ابن رجب – رحمه الله - :"إذا وجد من نفسه الحسد، سعى في إزالته وفي الإحسان إلى المحسود بإسداء الإحسان إليه، والدعاء له، ونشر فضائله، وفي إزالة ما وُجِدَ في نفسه من الحسد حتى يبدله بمحبة أن يكون أخوه المسلم خير منه وأفضل، وهذا من أعلى درجات الإيمان، وصاحبه هو المؤمن الكامل الذي يحب لأخيه ما يحب لنفسه"(8).
وعن أبي هريرة – رضي الله عنه - أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال لا يجتمع في جوف عبد مؤمن غبار في سبيل الله وقيح جهنم ولا يجتمع في جوف عبد الإيمان والحسد(9).
وعن أبي هريرة – رضي الله عنه - أن النبي – صلى الله عليه وسلم - قال :" إياكم والحسد، فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب، أو قال: العشب "(10).
وعن أبي هريرة – رضي الله عنه - عن النبي – صلى الله عليه وسلم - :" سيصيب أمتي داء الأمم قالوا : يا نبي الله، وما داءُ الأمم ؟ قال " الأشر، والبَطَر، والتكاثر، والتنافس في الدنيا، والتباغض، والتحاس،د حتى يكون البغي ثم الهرج "(11).
من أقوال السلف :
قال عبد الله بن مسعود: لا تُعَادوا نعم الله. قيل له: ومن يُعَادي نعم الله ؟ قال: الذين يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله.
يقول الله تعالى في بعض الكتب: الحسود عدو نعمتي مُتسخِط لقضائي غير راض بقسمتي.
ومن الشعر قال منصور الفقيه:
ألا قل لمن ظل لي حاسداً *** أتدري على من أسأت الأدب
أسأت على الله في حكمه *** إذا أنت لم ترض لي ما وهب
ويقال: الحسد أول ذنب عُصِيَ الله به في السماء, وأول ذنب ُعصِيَ به في الأرض; فأما في السماء فحسد إبليس لآدم, وأما في الأرض فحسد قابيل لهابيل.
ولأبي العتاهية في الناس:
فيا رب إن الناس لا ينصفونني *** فكيف ولو أنصفتهم ظلموني(/19)
وإن كان لي شيء تصدوا لأخذه *** وإن شئت أبغي شيئهم منعوني
وإن نالهم بذلي فلا شكر عندهم *** وإن أنا لم أبذل لهم شتموني
وإن طرقتني نكبة فكهوا بها *** وإن صحبتني نعمة حسدوني
سأمنع قلبي أن يحن إليهمـ و*** وأحجب عنهم ناظري وجفوني
وقيل: إذا سرك أن تسلم من الحاسد فغم عليه أمرك.
ولرجل من قريش:
حسدوا النعمة لما ظهرت *** فرموها بأباطيل الكلم
وإذا ما الله أسدى نعمة *** لم يضرها قول أعداء النعم
ولقد أحسن من قال:
اصبر على حسد الحسود *** فإن صبرك قاتله
فالنار تأكل بعضها *** إن لم تجد ما تأكله
وقال الشاعر:
إن الغراب وكان يمشي مشية *** فيما مضى من سالف الأحوال
حسد القطاة فرام يمشي مشيها *** فأصابه ضرب من التعقال
تاسعاً :الغيبة :
تعريف الغيبة : عن أبي هريرة أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم- قال أتدرون ما الغيبة قالوا الله ورسوله أعلم قال ذكرك أخاك بما يكره قيل أفرأيت إن كان في أخي ما أقول قال إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه فقد بهته(12).
الغيبة مُضِّيعة للحسنات :
قال جعفر بن محمد:" إذ بلغك عن أخيك ما يسوؤك، فلا تغتم، فإنه إن كان كما يقول كانت عقوبة عُجِّلت، وإن كان على غير ما يقول كانت حسنةً لم تعملها "(13).
وقال عبد الرحمن بن مهدي :" لولا أنَّي أكره أن يُعصى الله، لتمنيت أن لا يبقى أحد في المصر إلا اغتابني ! أي شيء أهنأ من حسنة يجدها الرجل في صحيفته لم يعمل بها؟ !" (14).
من لم يغتب أحد قط :
قال أبو عاصم :" منذ عقلت أن الغيبة حرام، ما اغتبت أحدا قط "(15).
وقال البخاري :" ما اغتبت أحداً قط منذ علمت أن الغيبة تضر أهلها"(16).
علاج الغيبة :
قال عبد الله بن وهب: "نذرت أني كلما اغتبت إنساناً أن أصوم يوماً فأجهدني، فكنت أغتاب وأصوم، فنويت أني كلما اغتبت إنساناً أن أتصدق بدرهم، فمن حب الدراهم تركتُ الغيبة "(17).
ثناء الناس لا يحبط العمل :
عن أبي ذر. قال : قيل لرسول الله- صلى الله عليه وسلم - : أرأيت الرجل يعمل العمل من الخير، ويحمده الناس عليه؟ قال " تلك عاجل بشرى المؤمن"(18).
قال النووي :" قال العلماء: معناه : هذه البشرى المعجلة له بالخير وهي دليل على رضاء الله تعالى عنه ومحبته له فيحببه إلى الخلق، ثم يوضع له القبول في الأرض، هذا كله إذا حمده الناس من غير تعرُض منه لحمدهم وإلا فالتعرُض مذموم".
وقال الشيخ السعدي – رحمه الله – في كتابه بهجة قلوب الأبرار :" أخبر –صلى الله عليه وسلم- في هذا الحديث: أن آثار الأعمال المحمودة المعجلة أنها من البشرى؛ فإن الله وعد أولياءه – وهم المؤمنون المتقون – بالبشرى في هذه الحياة وفي الآخرة.
و"البشارة" الخبر أ والأمر السار الذي يَعرف به العبد حسن عاقبته، وأنه من أهل السعادة، وأن عمله مقبول.
أما في الآخرة فهي البشارة برضى الله وثوابه، والنجاة من غضبه وعقابه، عند الموت، وفي القبر، وعند القيام إلى البعث يبعث الله لعبده المؤمن في تلك المواضع بالبشرى على يدي الملائكة، كم تكاثرت بذلك نصوص الكتاب والسنة، وهي معروفة.
وأما البشارة في الدنيا التي يعجلها الله للمؤمنين؛ نموذجاً وتعجيلاً لفضله، وتعرفاً لهم بذلك، وتنشيطاً لهم على الأعمال فأعمها توفيقه لهم للخير، وعصمته لهم من الشر، كما قال –صلى الله عليه وسلم- : "أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة".
فإذا كان العبد يجد أعمال الخير ميسرة له، مسهلة عليه، ويجد نفسه محفوظاً بحفظ الله من الأعمال التي تضره، كان هذا من البشرى التي يستدل بها المؤمن على عاقبة أمره؛ فإن الله أكرم الأكرمين، وأجود الأجودين. وإذا ابتدأ عبد بالإحسان أتمه. فأعظم منة وإحسان يمن به عليه إحسانه الديني. فيُسرّ المؤمن بذلك أكمل سرور: سرور بمنة الله عليه بأعمال الخير، وتيسيرها؛ لأن أعظم علامات الإيمان محبة الخير، والرغبة فيه، والسرور بفعله. وسرور ثان بطمعه الشديد في إتمام الله نعمته عليه، ودوام فضله.
ومن ذلك ما ذكره النبي –صلى الله عليه وسلم- في هذا الحديث: إذا عمل العبد عملاً من أعمال الخير – وخصوصاً الآثار الصالحة والمشاريع الخيرية العامة النفع، وترتب على ذلك محبة الناس له، وثناؤهم عليه، ودعاؤهم له - كان هذا من البشرى أن هذا العمل من الأعمال المقبولة، التي جعل الله فيها خيراً وبركة.
ومن البشرى في الحياة الدنيا، محبة المؤمنين للعبد: لقوله تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا" [مريم:96] أي محبة منه لهم، وتحبيباً لهم في قلوب العباد.
ومن ذلك الثناء الحسن؛ فإن كثرة ثناء المؤمنين على العبد شهادة منهم له. والمؤمنون شهداء الله في أرضه.
ومن ذلك الرؤيا الصالحة يراها المؤمن، أو تُرى له؛ فإن الرؤيا الصالحة من المبشرات.
ومن البشرى أن يقدر الله على العبد تقديراً يحبه أو يكرهه. ويجعل ذلك التقدير وسيلة إلى إصلاح دينه، وسلامته من الشر".(/20)
وعن أبي هريرة – رضي الله عنه - قال:- " قال رجل: يا رسول الله، الرجل يعمل العمل فيسره فإذا اطلع عليه أعجبه، قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم - : له أجران: أجر السر وأجر العلانية"(19).
وقد فسر بعض أهل العلم هذا الحديث: " إذا اطلع عليه فأعجبه" :
إنما معناه : أن يعجبه ثناء الناس عليه بالخير لقول النبي – صلى الله عليه وسلم - : "أنتم شهداء الله في الأرض" فيعجبه ثناء الناس عليه لهذا.
فأما إذا أعجبه ليعلم الناس منه الخير ويُكّرم ويُعظّم على ذلك فهذا رياء .
وقال بعض أهل العلم: إذا اطلع عليه فأعجبه رجاء أن يُعمل بعمله، فتكون له مثل أجورهم، فهذا له مذهب أيضاً.
1
2
3
4
________________________________________
(1) صحيح البخاري، الاستقراض وأداء الديون والحجر والتفليس (ج1/18)، رقم 2270.
(2) صحيح بن حبان، (ج1/189)، رقم 7339.
(3) صحيح ابن حبان، البر والإحسان (ج1/419)، رقم 286.
(4) جامع العلوم والحكم، (ج2/260).
(5) جامع العلوم والحكم، (ج2/262).
(6) صحيح مسلم بشرح النووي.
(7) بهجة قلوب الأبرار، السعدي، ( ص123).
(8) المرجع السابق .
(9) صحيح ابن حبان، (ج1/383 )،رقم الحديث (4606).
(10) رواه أب وداود، رقم(4903).
(11) رواه الحاكم، (ج4/168).صححه الحاكم ووافقه الذهبي .
(12) صحيح مسلم، باب: تحريم الغيبة، ( ج1 /100)، رقم( 89).
(13) نزهة الفضلاء، (ج2/648).
(14) نزهة الفضلاء، (ج2/817).
(15) نزهة الفضلاء، ( ج2/836).
(16) نزهة الفضلاء، (ج3/1016).
(17) نزهة الفضلاء، ( ج2/819).
(18) صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب إذا أثنى على الصالح فهي بشرى ولا تضره،(2642).
(19) سنن الترمذي، بواب الزهد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم،رقم (2491). هذا حديث غريب.(/21)
محرمات استهان بها الناس
المقدمة
إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله .
أما بعد :
فإن الله سبحانه وتعالى فرض فرائض لا يجوز تضييعها ، وحد حدودا لا يجوز تعديها ، وحرم أشياء لا يجوز انتهاكها .
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم ( ما أحل الله في كتابه فهو حلال ، وما حرم فهو حرام وما سكت عنه فهو عافية فاقبلوا من الله العافية ، فإن الله لم يكن نسيا ثم تلا هذه الآية [ وما كان ربك نسيا ] . ) [ رواه الحاكم 2/375 وحسنه الألباني في غاية المرام ص: 14 ]
والمحرمات هي حدود الله عز وجل ( ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه ) الطلاق 1 وقد هدد الله من يتعدى حدوده وينتهك حرماته فقال سبحانه : ( ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين ) سورة النساء 14
واجتناب المحرمات واجب لقوله صلى الله عليه وسلم ( ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم ) [ رواه مسلم : كتاب الفضائل حديث رقم 130 ط. عبد الباقي]
ومن المشاهد أن بعض متبعي الهوى ، ضعفاء النفوس ، قليلي العلم إذا سمع بالمحرمات متوالية يتضجر ويتأفف ويقول : كل شيء حرام ، ما تركتم شيئا إلا حرمتموه ، أسأمتمونا حياتنا ، وأضجرتم عيشتنا ، وضيقتم صدورنا ، وما عندكم إلا الحرام والتحريم ، الدين يسر، والأمر واسع ، والله غفور رحيم .
ومناقشة لهؤلاء نقول :
إن الله جل وعلا يحكم ما يشاء لا معقب لحكمه وهو الحكيم الخبير فهو يحل ما يشاء ويحرم ما يشاء سبحانه ، ومن قواعد عبوديتنا لله عز وجل أن نرضى بما حكم ونسلم تسليما .
وأحكامه سبحانه صادرة عن علمه وحكمته وعدله ليست عبثا ولا لعبا كما قال الله : ( وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم ) الأنعام 115
وقد بين لنا عز وجل الضابط الذي عليه مدار الحل والحرمة فقال تعالى : ( ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ) الأعراف 157 فالطيب حلال والخبيث حرام .
والتحليل والتحريم حق لله وحده فمن ادعاه لنفسه أو أقر به لغيره فهو كافر كفرا أكبر مخرجا عن الملة ( أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله .. ) الشورى 21
ثم إنه لا يجوز لأي أحد أن يتكلم في الحلال والحرام إلا أهل العلم العالمين بالكتاب والسنة وقد ورد التحذير الشديد فيمن يحلل ويحرم دون علم فقال تعالى : ( ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب .. ) سورة النحل 116
والمحرمات المقطوع بها مذكورة في القرآن وفي السنة كقوله تعالى : ( قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق .. الآية ) سورة الأنعام 151
وفي السنة كذلك ذكر لكثير من المحرمات كقوله صلى الله عليه وسلم ( إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام . [ رواه أبوداود 3486 وهو في صحيح أبي داود 977 ]
وقوله صلى الله عليه وسلم : ( إن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه ) . [ رواه الدارقطني 3/7 وهو حديث صحيح ]
وقد يأتي في بعض النصوص ذكر محرمات مختصة بنوع من الأنواع مثلما ذكر الله المحرمات في المطاعم فقال : ( حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام .. الآية ) [المائدة 3 ]
وذكر سبحانه المحرمات في النكاح فقال : ( حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة وأمهات نسائكم .. الآية ) [ النساء 23 ]
وذكر أيضا المحرمات من المكاسب فقال عز وجل : ( وأحل الله البيع وحرم الربا .. الآية ) [ البقرة 275 ]
ثم إن الله الرحيم بعباده قد أحل لنا من الطيبات مالا يحصى كثرة وتنوعا ولذلك لم يفصل المباحات لأنها كثيرة لا تحصر وإنما فصل المحرمات لانحصارها وحتى نعرفها فنجتنبها فقال عز وجل : ( وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه ..) [ الأنعام 119 ] أما الحلال فأباحه على وجه الإجمال مادام طيبا فقال : ( يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا ) [ البقرة 168 ] فكان من رحمته أن جعل الأصل في الأشياء الإباحة حتى يدل الدليل على التحريم ، وهذا من كرمه سبحانه وتعالى ومن توسعته على عباده فعلينا الطاعة والحمد والشكر .
وبعض الناس إذا رأوا الحرام معددا عليهم ومفصلا ضاقت أنفسهم ذرعا بالأحكام الشرعية وهذا من ضعف إيمانهم وقلة فقههم في الشريعة فهل يريد هؤلاء يا ترى أن يعدد عليهم أصناف الحلال حتى يقتنعوا بأن الدين يسر ؟ وهل يريدون أن تسرد لهم أنواع الطيبات حتى يطمئنوا أن الشريعة لا تكدر عليهم عيشهم ؟(/1)
هل يريدون أن يقال بأن اللحوم المذكاة من الإبل والبقر والغنم والأرانب والغزلان والوعول والدجاج والحمام والبط والوز والنعام حلال وأن ميتة الجراد والسمك حلال ؟.
وأن الخضراوات والبقول والفواكه وسائر الحبوب والثمار النافعة حلال
وأن الماء واللبن والعسل والزيت والخل حلال
وأن الملح والتوابل والبهارات حلال
وأن استخدام الخشب والحديد والرمل والحصى والبلاستيك والزجاج والمطاط حلال
وأن ركوب الدواب والسيارات والقطارات والسفن والطائرات حلال
وأن استعمال المكيفات والثلاجات والغسالات والنشافات والطاحونات والعجانات والفرامات والمعاصر وسائر أدوات الطب والهندسة والحساب والرصد والفلك والبناء واستخراج المياه والنفط والمعادن والتنقية والتحلية والطباعة والحاسبات الآلية حلال
وأن لبس القطن والكتان والصوف والوبر والشعر والجلود المباحة والنايلون والبوليستر حلال
وأن الأصل في النكاح والبيع والشراء والكفالة والحوالة والإجارة والمهن والحرف من النجارة والحدادة وإصلاح الآلات ورعي الغنم حلال
وهل يمكن يا ترى أن ينتهي بنا المقام إذا أردنا المواصلة في العد والسرد فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا ؟
أما احتجاجهم بأن الدين يسر فهو حق أريد به باطل فإن مفهوم اليسر في هذا الدين ليس بحسب أهواء الناس وآرائهم وإنما بحسب ما جاءت به الشريعة فالفرق عظيم بين انتهاك المحرمات بالاحتجاج الباطل بأن الدين يسر ـ وهو يسر ولاشك ـ وبين الأخذ بالرخص الشرعية كالجمع والقصر والفطر في السفر ، والمسح على الخفين والجوربين للمقيم يوما بليلته وللمسافر ثلاثة أيام بلياليهن، والتيمم عند الخوف من استعمال الماء وجمع الصلاتين للمريض وحين نزول المطر ، وإباحة النظر إلى المرأة الأجنبية للخاطب ، والتخيير في كفارة اليمين بين العتق والإطعام والكسوة ، وأكل الميتة عند الاضطرار وغير ذلك من الرخص والتخفيفات الشرعية .
وبالإضافة لما تقدم فينبغي أن يعلم المسلم بأن في تحريم المحرمات حكما منها : أن الله يبتلي عباده بهذه المحرمات فينظر كيف يعملون ومن أسباب تميز أهل الجنة عن أهل النار أن أهل النار قد انغمسوا في الشهوات التي حفت بها النار وأهل الجنة صبروا على المكاره التي حفت بها الجنة ، ولولا هذا الابتلاء ما تبين العاصي من المطيع . وأهل الإيمان ينظرون إلى مشقة التكليف بعين احتساب الأجر وامتثال أمر الله لنيل رضاه فتهون عليهم المشقة وأهل النفاق ينظرون إلى مشقة التكليف بعين الألم والتوجع والحرمان فتكون الوطأة عليهم شديدة والطاعة عسيرة .
وبترك المحرمات يذوق المطيع حلاوة : من ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه ويجد لذة الإيمان في قلبه .
وفي هذه الرسالة يجد القارئ الكريم عددا من المحرمات التي ثبت تحريمها في الشريعة مع بيان أدلة التحريم من الكتاب والسنة [ وقد صنف بعض العلماء في المحرمات أو في بعض أنواعها كالكبائر ومن الكتب الجيدة في موضوع المحرمات كتاب تنبيه الغافلين عن أعمال الجاهلين لابن النحاس الدمشقي رحمه الله تعالى ] ، وهذه المحظورات مما شاع فعلها وعم ارتكابها بين كثير من المسلمين ، وقد أردت بذكرها التبيان والنصح ، أسأل الله لي ولإخواني المسلمين الهداية والتوفيق والوقوف عند حدوده سبحانه وأن يجنبنا المحرمات ويقينا السيئات والله خير حافظا وهو أرحم الراحمين
المحتويات
الشرك بالله
عبادة القبور
الذبح لغير الله
تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحل الله
السحر والكهانة والعرافة
الاعتقاد في تأثير النجوم والكواكب في الحوادث وحياة الناس
اعتقاد النفع في أشياء لم يجعلها الخالق كذلك
الرياء بالعبادات
الطيرة
الحلف بغير الله تعالى
الجلوس مع المنافقين أو الفساق استئناسا بهم أو إيناسا لهم
ترك الطمأنينة في الصلاة
العبث وكثرة الحركة في الصلاة
سبق المأموم إمامه في الصلاة عمدا
إتيان المسجد لمن أكل بصلا أو ثوما أو ماله رائحة كريهة
الزنا
اللواط
امتناع المرأة من فراش زوجها بغير إذن شرعي
طلب المرأة الطلاق من زوجها لغير سبب شرعي
الظهار
وطء الزوجة في حيضها
إتيان المرأة في دبرها
عدم العدل بين الزوجات
الخلوة بالأجنبية
مصافحة المرأة الأجنبية
تطيب المرأة عند خروجها ومرورها بعطرها على الرجال
سفر المرأة بغير محرم
تعمد النظر إلى المرأة الأجنبية
الدياثة
التزوير في انتساب الولد لأبيه وجحد الرجل ولده
أكل الربا
كتم عيوب السلعة وإخفاؤها عند بيعها
بيع النجش
البيع بعد النداء الثاني يوم الجمعة
القمار والميسر
السرقة
أخذ الرشوة وإعطاؤها
غصب الأرض
قبول الهدية بسبب الشفاعة
استيفاء العمل من الأجير وعدم إيفائه أجره
عدم العدل في العطية بين الأولاد
سؤال الناس المال من غير حاجة
الاستدانة بدين لا يريد وفاءه
أكل الحرام
شرب الخمر ولو قطرة واحدة
استعمال آنية الذهب والفضة والأكل والشرب فيها
شهادة الزور
سماع المعازف والموسيقى
الغيبة
النميمة
الاطلاع على بيوت الناس دون إذن(/2)
تناجي اثنين دون الثالث
الإسبال في الثياب
تحلي الرجال بالذهب على أي صورة كانت
لبس القصير والرقيق والضيق من الثياب للنساء
وصل الشعر بشعر مستعار لآدمي أو لغيره للرجال والنساء
تشبه الرجال بالنساء والنساء بالرجال
صبغ الشعر بالسواد
تصوير ما فيه روح في الثياب والجدران والورق ونحو ذلك
الكذب في المنام
الجلوس على القبر والوطء عليه وقضاء الحاجة في المقابر
عدم الاستتار من البول
التسمع إلى حديث قوم وهم له كارهون
سوء الجوار
المضارة في الوصية
اللعب بالنرد
لعن المؤمن ولعن من لا يستحق اللعن
النياحة
ضرب الوجه والوسم في الوجه
هجر المسلم فوق ثلاثة أيام دون سبب شرعي
الشرك بالله
وهو أعظم المحرمات على الإطلاق لحديث أبي بكرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ألا أنبئكم بأكبر الكبائر (ثلاثا) قالوا قلنا بلى يا رسول الله ، قال : الإشراك بالله .. متفق عليه البخاري / رقم 2511 ط. البغا ) وكل ذنب يمكن أن يغفره الله إلا الشرك فلا بد له من توبة مخصوصة قال الله تعالى ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) [ النساء 48 ]
والشرك منه ما هو أكبر مخرج عن ملة الإسلام ، صاحبه مخلد في النار إن مات على ذلك .
ومن مظاهر هذا الشرك المنتشرة في كثير من بلاد المسلمين :
ـ عبادة القبور واعتقاد أن الأولياء الموتى يقضون الحاجات ويفرجون الكربات والاستعانة والاستغاثة بهم والله سبحانه وتعالى يقول : ( وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه سورة الإسراء 23 ) ، وكذلك دعاء الموتى من الأنبياء والصالحين أو غيرهم للشفاعة أو للتخليص من الشدائد والله يقول : ( أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء .. أإله مع الله ) [ النمل 62 ] وبعضهم يتخذ ذكر اسم الشيخ أو الولي عادته وديدنه إن قام وإن قعد وإن عثر وكلما وقع في ورطة أو مصيبة وكربة فهذا يقول يا محمد وهذا يقول يا علي وهذا يقول يا حسين وهذا يقول يا بدوي وهذا يقول يا جيلاني وهذا يقول يا شاذلي وهذا يقول يا رفاعي وهذا يدعو العيدروس وهذا يدعو السيدة زينب وذاك يدعو ابن علوان والله يقول : ( إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم سورة الأعراف 194 ) وبعض عباد القبور يطوفون بها ويستلمون أركانها ويتمسحون بها ويقبلون أعتابها ويعفرون وجوههم في تربتها ويسجدون لها إذا رأوها ويقفون أمامها خاشعين متذللين متضرعين سائلين مطالبهم وحاجاتهم من شفاء مريض أو حصول ولد أو تيسير حاجة وربما نادى صاحب القبر يا سيدي جئتك من بلد بعيد فلا تخيبني والله عز وجل يقول ( ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون سورة الأحقاف 5 ) وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( من مات وهو يدعو من دون الله ندا دخل النار رواه البخاري الفتح 8/176 ) وبعضهم يحلقون رؤوسهم عند القبور ، وعند بعضهم كتب بعناوين مثل : "مناسك حج المشاهد" ويقصدون بالمشاهد القبور وأضرحة الأولياء ، وبعضهم يعتقد أن الأولياء يتصرفون في الكون وأنهم يضرون وينفعون والله عز وجل يقول : ( وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله سورة يونس 107 ) وكذلك من الشرك النذر لغير الله كما يفعل الذين ينذرون الشموع والأنوار لأصحاب القبور .
ــ ومن مظاهر الشرك الأكبر الذبح لغير الله والله يقول : ( فصل لربك وانحر ) [ سورة الكوثر 2 ] أي انحر لله وعلى اسم الله وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لعن الله من ذبح لغير الله رواه الإمام مسلم رحمه الله في صحيحه رقم 1978 ط. عبد الباقي ) وقد يجتمع في الذبيحة محرمان وهما الذبح لغير الله والذبح على غير اسم الله وكلاهما مانع للأكل منها ، ومن ذبائح الجاهلية - الشائعة في عصرنا - " ذبائح الجن " وهي أنهم كانوا إذا اشتروا دارا أو بنوها أو حفروا بئرا ذبحوا عندها أو على عتبتها ذبيحة خوفا من أذى الجن ( انظر تيسير العزيز الحميد ط. الإفتاء ص : 158 )(/3)
ــ ومن أمثلة الشرك الأكبر العظيمة الشائعة تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحل الله أو اعتقاد أن أحدا يملك الحق في ذلك غير الله عز وجل ، أو التحاكم إلى المحاكم والقوانين الجاهلية عن رضا واختيار واعتقاد بجواز ذلك وقد ذكر الله عز وجل هذا الكفر الأكبر في قوله : ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ) [ التوبة 31 ] ولما سمع عدي بن حاتم نبي الله صلى الله عليه وسلم يتلوها قال : فقلت : إنهم لم يكونوا يعبدونهم قال : ( أجل ولكن يحلون لهم ما حرم الله فيستحلونه ويحرمون عليهم ما أحل الله فيحرمونه فتلك عبادتهم لهم ) [ رواه البيهقي السنن الكبرى 10/116 وهو عند الترمذي برقم 3095 وحسنه الألباني في غاية المرام ص:19 ] وقد وصف الله المشركين بأنهم ( لا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق .. سورة التوبة 29 ) وقال الله عز وجل : ( قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون سورة يونس 59 )
ــ ومن أنواع الشرك المنتشرة السحر والكهانة والعرافة :
أما السحر فإنه كفر ومن السبع الكبائر الموبقات وهو يضر ولا ينفع قال الله تعالى عن تعلمه ( فيتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ) [ البقرة 102 ] وقال ( ولا يفلح الساحر حيث أتى ) [ طه 69 ]والذي يتعاطى السحر كافر قال الله تعالى : ( وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر ) ( البقرة 102 )
وحكم الساحر القتل وكسبه حرام خبيث ، والجهال والظلمة وضعفاء الإيمان يذهبون إلى السحرة لعمل سحر يعتدون به على أشخاص أو ينتقمون منهم ومن الناس من يرتكب محرما بلجوئه إلى الساحر لفك السحر والواجب اللجوء إلى الله والاستشفاء بكلامه كالمعوذات وغيرها .
أما الكاهن والعراف فكلاهما كافر بالله العظيم لادعائهما معرفة الغيب ولا يعلم الغيب إلا الله وكثير من هؤلاء يستغفل السذج لأخذ أموالهم ويستعملون وسائل كثيرة من التخطيط في الرمل أو ضرب الودع أو قراءة الكف والفنجان أو كرة الكريستال والمرايا وغير ذلك وإذا صدقوا مرة كذبوا تسعا وتسعين مرة ولكن المغفلين لا يتذكرون إلا المرة التي صدق فيها هؤلاء الأفاكون فيذهبون إليهم لمعرفة المستقبل والسعادة والشقاوة في زواج أو تجارة والبحث عن المفقودات ونحو ذلك وحكم الذي يذهب إليهم إن كان مصدقا بما يقولون فهو كافر خارج عن الملة والدليل قوله صلى الله عليه وسلم : " من أتى كاهنا أو عرافا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد " [ رواه الإمام أحمد 2/429 وهو في صحيح الجامع 5939] أما إن كان الذي يذهب إليهم غير مصدق بأنهم يعلمون الغيب ولكنه يذهب للتجربة ونحوها فإنه لا يكفر ولكن لا تقبل له صلاة أربعين يوما والدليل قوله صلى الله عليه وسلم : " من أتى عرافا فسأله عن شئ لم تقبل له صلاة أربعين ليلة " [ صحيح مسلم 4/1751 ] هذا مع وجوب الصلاة والتوبة عليه .
ــ الاعتقاد في تأثير النجوم والكواكب في الحوادث وحياة الناس :
عن زيد بن خالد الجهني قال : صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية ـ على أثر سماء كانت من الليلة ـ فلما انصرف أقبل على الناس فقال : " هل تدرون ماذا قال ربكم ؟ " قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : " أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر ، فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي وكافر بالكوكب . وأما من قال بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي ومؤمن بالكوكب " [رواه البخاري أنظر فتح الباري 2/333 ] . ومن ذلك اللجوء إلى أبراج الحظ في الجرائد والمجلات فإن اعتقد ما فيها من أثر النجوم والأفلاك فهو مشرك وإن قرأها للتسلية فهو عاص آثم لأنه لا يجوز التسلي بقراءة الشرك بالإضافة لما قد يلقي الشيطان في نفسه من الاعتقاد بها فتكون وسيلة للشرك .
ــ ومن الشرك اعتقاد النفع في أشياء لم يجعلها الخالق عز وجل كذلك كما يعتقد بعضهم في التمائم والعزائم الشركية وأنواع من الخرز أو الودع أو الحلق المعدنية وغيرها بناء على إشارة الكاهن أو الساحر أو اعتقاد متوارث فيعلقونها في رقابهم أو على أولادهم لدفع العين بزعمهم أو يربطونها على أجسادهم أو يعلقونها في سياراتهم وبيوتهم أو يلبسون خواتم بأنواع من الفصوص يعتقدون فيها أمورا معينة من رفع البلاء أو دفعه وهذا لاشك ينافي التوكل على الله ولا يزيد الإنسان إلا وهنا وهو من التداوي بالحرام وهذه التمائم التي تعلق في كثير منها شرك جلي واستغاثة ببعض الجن والشياطين أو رسوم غامضة أو كتابات غير مفهومة وبعض المشعوذين يكتبون آيات من القرآن ويخلطونها بغيرها من الشرك وبعضهم يكتب آيات القرآن بالنجاسات أو بدم الحيض وتعليق كل ما تقدم أو ربطه حرام لقوله صلى الله عليه وسلم : ( من علق تميمة فقد أشرك ) [ رواه أحمد 4/156 وهو في السلسلة الصحيحة رقم 492 ](/4)
وفاعل ذلك إن اعتقد أن هذه الأشياء تنفع أو تضر من دون الله فهو مشرك شركا أكبر ، وإن اعتقد أنها سبب للنفع أو الضرر ، والله لم يجعلها سببا ، فهو مشرك شركا أصغر وهذا يدخل في شرك الأسباب
ــ الرياء بالعبادات :
من شروط العمل الصالح أن يكون خالصا من الرياء مقيدا بالسنة والذي يقوم بعبادة ليراه الناس فهو مشرك وعمله حابط كمن صلى ليراه الناس ، قال الله تعالى : ( إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا ) ( النساء/ 142 ) وكذلك إذا عمل العمل لينتقل خبره ويتسامع به الناس فقد وقع في الشرك وقد ورد الوعيد لمن يفعل ذلك كما جاء في حديث ابن عباس رضي اله عنهما مرفوعا : " من سمع سمع الله به ومن راءى راءى الله به " [رواه مسلم 4/2289 ] . ومن عمل عبادة قصد بها الله والناس فعمله حابط كما جاء في الحديث القدسي : " أنا أغنى الشركاء عن الشرك ، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه " [ رواه مسلم رقم 2985 ]
ومن ابتدأ العمل لله ثم طرأ عليه الرياء فإن كرهه وجاهده ودافعه صح عمله وإن استروح إليه وسكنت إليه نفسه فقد نص أكثر أهل العلم على بطلانه .
ــ الطيرة:
وهي التشاؤم قال تعالى : ( فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه ، وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه ) (الأعراف / 131 )
وكانت العرب إذا أراد أحدهم أمرا كسفر وغيره أمسك بطائر ثم أرسله فإن ذهب يمينا تفاءل ومضى في أمره وإن ذهب شمالا تشاءم ورجع عما أراد وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم حكم هذا العمل بقوله : " الطيرة شرك " [ رواه الإمام أحمد 1/389 وهو في صحيح الجامع 3955] .
ومما يدخل في هذا الاعتقاد المحرم المنافي للتوحيد : التشاؤم بالشهور كترك النكاح في شهر صفر ، وبالأيام كاعتقاد أن آخر أربعاء من كل شهر يوم نحس مستمر أو الأرقام كالرقم 13 أو الأسماء أو أصحاب العاهات كما إذا ذهب ليفتح دكانه فرأى أعور في الطريق فتشاءم ورجع ونحو ذلك فهذا كله حرام ومن الشرك وقد برئ النبي صلى الله عليه وسلم من هؤلاء فعن عمران بن حصين مرفوعا : " ليس منا من تطير ولا تطير له ولا تكهن ولا تكهن له ( وأظنه قال :) أو سحر أو سحر له " [ رواه الطبراني في الكبير 18/162 أنظر صحيح الجامع 5435 ] . ومن وقع في شئ من ذلك فكفارته ما جاء في حديث عبدالله بن عمرو قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من ردته الطيرة من حاجة فقد أشرك قالوا يا رسول الله ما كفارة ذلك قال أن يقول أحدهم : " اللهم لا خير إلا خيرك ولا طير إلا طيرك ولا إله غيرك " [ رواه الإمام أحمد 2/220 السلسلة الصحيحة 1065 ] والتشاؤم من طبائع النفوس يقل ويكثر وأهم علاج له التوكل على الله عز وجل كما في قول ابن مسعود : " وما منا إلا ( أي : إلا ويقع في نفسه شئ من ذلك ) ولكن الله يذهبه بالتوكل " [ رواه أبو داود رقم 3910 وهو في السلسلة الصحيحة 430]
ــ الحلف بغير الله تعالى :
الله سبحانه وتعالى يقسم بما شاء من مخلوقاته وأما المخلوق فلا يجوز له أن يقسم بغير الله ومما يجري على ألسنة كثير من الناس الحلف بغير الله والحلف نوع من التعظيم لا يليق إلا بالله عن ابن عمر مرفوعا : " ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت " [ رواه البخاري أنظر الفتح 11/530 ] . وعن ابن عمر مرفوعا : " من حلف بغير الله فقد أشرك " [ رواه الإمام أحمد 2/125 أنظر صحيح الجامع 6204] . وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " من حلف بالأمانة فليس منا " [ رواه أبو داود 3253 وهو في السلسلة الصحيحة رقم 94 ]
فلا يجوز الحلف بالكعبة ولا بالأمانة ولا بالشرف ولا بالعون ولا ببركة فلان ولا بحياة فلان ولا بجاه النبي ولا بجاه الولي ولا بالآباء والأمهات ولا برأس الأولاد كل ذلك حرام ومن وقع في شيء من هذا فكفارته أن يقول لا إله إلا الله كما جاء في الحديث الصحيح : " من حلف فقال في حلفه باللات والعزى فليقل لا إله إلا الله .. " [ رواه البخاري فتح 11/536 ]
وعلى منوال هذا الباب أيضا عدد من الألفاظ الشركية والمحرمة التي يتفوه بها بعض المسلمين ومن أمثلتها : أعوذ بالله وبك ـ أنا متوكل على الله وعليك ـ هذا من الله ومنك ـ مالي إلا الله وأنت ـ الله لي في السماء وأنت لي في الأرض ـ لولا الله وفلان ـ أنا بريئ من الإسلام ـ يا خيبة الدهر ( وكذا كل عبارة فيها سب الدهر مثل هذا زمان سوء وهذه ساعة نحس والزمن غدار ونحو ذلك وذلك لأن سب الدهر يرجع على الله الذي خلق الدهر ) ـ شاءت الطبيعة ـ كل الأسماء المعبدة لغير الله كعبد المسيح وعبد النبي وعبد الرسول وعبد الحسين
ومن المصطلحات والعبارات الحادثة المخالفة للتوحيد كذلك : اشتراكية الإسلام ـ ديموقراطية الإسلام ـ إرادة الشعب من إرادة الله ـ الدين لله والوطن للجميع ـ باسم العروبة ـ باسم الثورة .(/5)
ومن المحرمات إطلاق لفظة ملك الملوك وما في حكمها كقاضي القضاة على أحد من البشر ـ إطلاق لفظة سيد وما في معناها على المنافق والكافر ( سواء كان باللغة العربية أو بغيرها) ـ استخدام حرف لو الذي يدل على التسخط والتندم والتحسر ويفتح عمل الشيطان ـ قول اللهم اغفر لي إن شئت ـ [ وللتوسع انظر معجم المناهي اللفظية : بكر أو زيد ]
الجلوس مع المنافقين أو الفساق استئناسا بهم أو إيناسا لهم :
يعمد كثير من الذين لم يتمكن الإيمان من قلوبهم إلى مجالسة بعض أهل الفسق والفجور بل ربما جالسوا بعض الذين يطعنون في شريعة الله ويستهزئون بدينه وأوليائه ولاشك أن هذا عمل محرم يقدح في العقيدة قال الله تعالى : ( وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين ) (الأنعام/68)
فلا يجوز الجلوس معهم في هذه الحالة وإن اشتدت قرابتهم أو لطف معشرهم وعذبت ألسنتهم إلا لمن أراد دعوتهم أو رد باطلهم أو الإنكار عليهم أما الرضا أو السكوت فلا ، قال الله تعالى : ( فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين ) (التوبة/96)
ترك الطمأنينة في الصلاة :
من أكبر جرائم السرقة السرقة من الصلاة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أسوأ الناس سرقة الذي يسرق من صلاته قالوا يا رسول الله : وكيف يسرق من صلاته قال : لا يتم ركوعها ولا سجودها " [ رواه الإمام أحمد 5/310 وهو في صحيح الجامع 997 ]. وإن ترك الطمأنينة وعدم استقرار الظهر في الركوع والسجود وعدم إقامته بعد الرفع من الركوع واستوائه في الجلسة بين السجدتين كل ذلك مشهور ومشاهد في جماهير المصلين ولا يكاد يخلو مسجد من نماذج من الذين لا يطمئنون في صلاتهم . والطمأنينة ركن والصلاة لا تصح بدونها والأمر خطير قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تجزئ صلاة الرجل حتى يقيم ظهره في الركوع والسجود" [ رواه أبو داود 1/533 وهو في صحيح الجامع 7224 ] . ولا شك أن هذا منكر يستحق صاحبه الزجر والوعيد ، عن أبي عبد الله الأشعري قال صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه ثم جلس في طائفة منهم فدخل رجل فقام يصلي فجعل يركع وينقر في سجوده فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أترون هذا ؟ من مات على هذا مات على غير ملة محمد ينقر صلاته كما ينقر الغراب الدم ، إنما مثل الذي يركع وينقر في سجوده كالجائع لا يأكل إلا التمرة والتمرتين فماذا تغنيان عنه " [ رواه ابن خزيمة في صحيحه 1/332 وأنظر صفة صلاة النبي للألباني 131 ] وعن زيد بن وهب قال رأى حذيفة رجلا لا يتم الركوع والسجود قال : ما صليت ولو مت مت على غير الفطرة التي فطر الله محمدا صلى الله عليه وسلم [ رواه البخاري أنظر الفتح 2/274 ] ، . وينبغي على من ترك الطمأنينة في الصلاة إذا علم بالحكم أن يعيد فرض الوقت الذي هو فيه ويتوب إلى الله عما مضى ولا تلزمه إعادة الصلوات السابقة كما دل عليه حديث ارجع فصل فإنك لم تصل .
العبث وكثرة الحركة في الصلاة :
وهذه آفة لا يكاد يسلم منها أعداد من المصلين لأنهم لا يمتثلون أمر الله ( وقوموا لله قانتين البقرة 238) ولا يعقلون قول الله ( قد أفلح المؤمنون ، الذين هم في صلاتهم خاشعون ) ( المؤمنون /1-2 )، ولما سئل صلى الله عليه وسلم عن تسوية التراب في السجود قال " لا تمسح وأنت تصلي فإن كنت لا بد فاعلا فواحدة تسوية الحصى " [ رواه أبو داود 1/581 وهو في صحيح الجامع 7452 ] ، وقد ذكر أهل العلم أن الحركة الكثيرة المتوالية بغير حاجة تبطل الصلاة فكيف بالعابثين في صلواتهم يقفون أمام الله وأحدهم ينظر في ساعته أو يعدل ثوبه أو يلقم إصبعه أنفه ويرمى ببصره يمينا وشمالا وإلى السماء ولا يخشى أن يخطف بصره وأن يختلس الشيطان من صلاته .
سبق المأموم إمامه في الصلاة عمدا :(/6)
الإنسان من طبعه العجلة ( وكان الإنسان عجولا ) [ الإسراء 11 ] وقال النبي صلى الله عليه وسلم ( التأني من الله والعجلة من الشيطان رواه البيهقي في السنن الكبرى 10/104 وهو في السلسلة 1795) . وكثيرا ما يلاحظ المرء وهو في الجماعة عددا من المصلين عن يمينه أو شماله بل ربما يلاحظ ذلك على نفسه أحيانا مسابقة الإمام بالركوع أو السجود وفي تكبيرات الانتقال عموما وحتى في السلام من الصلاة وهذا العمل الذي لا يبدو ذا أهمية عند الكثيرين قد جاء فيه الوعيد الشديد عن النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : " أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار " [ رواه مسلم 1/320-321 ] . وإذا كان المصلي مطالبا بالإتيان إلى الصلاة بالسكينة والوقار فكيف بالصلاة ذاتها وقد تختلط عند بعض الناس مسابقة الإمام بالتخلف عنه فليعلم أن الفقهاء رحمهم الله قد ذكروا ضابطا حسنا في هذا وهو أنه ينبغي على المأموم الشروع في الحركة حين تنقطع تكبيرة الإمام فإذا انتهى من ( راء ) الله أكبر يشرع المأموم في الحركة لا يتقدم عن ذلك ولا يتأخر وبذلك ينضبط الأمر وقد كان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم في غاية الحرص على عدم استباق النبي صلى الله عليه وسلم فيقول أحدهم وهو البراء بن عازب رضي الله عنه إنهم كانوا يصلون خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا رفع رأسه من الركوع لم أر أحدا يحني ظهره حتى يضع رسول الله صلى الله عليه وسلم جبهته على الأرض ثم يخر من وراءه سجدا ) [ رواه مسلم رقم 474 ط. عبد الباقي ] . ولما كبر النبي صلى الله عليه وسلم وصار في حركته نوع من البطء نبه المصلين خلفه فقال ( يا أيها الناس إني قد بدنت فلا تسبقوني بالركوع والسجود .. ) [ رواه البيهقي 2/93 وحسنه في إرواء الغليل 2/ 290 ] وعلى الإمام أن يعمل بالسنة في التكبير إذا صلى وهو ما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة يكبر حين يقوم ثم يكبر حين يركع .. ثم يكبر حين يهوي ثم يكبر حين يرفع رأسه ثم يكبر حين يسجد ثم يكبر حين يرفع رأسه ثم يفعل ذلك في الصلاة كلها حتى يقضيها ويكبر حين يقوم من الثنتين بعد الجلوس ) [ رواه البخاري رقم 756 ط. البغا ] فإذا جعل الإمام تكبيره مرافقا ومقترنا بحركته وحرص المأموم على الالتزام بالكيفية السابق ذكرها صلح أمر الجماعة في صلاتهم .
إتيان المسجد لمن أكل بصلا أو ثوما أو ما له رائحة كريهة : -
قال الله تعالى : ( يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد ... ) (الأعراف/31)
عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من أكل ثوما أو بصلا فليعتزلنا أو قال : فليعتزل مسجدنا وليقعد في بيته " [ رواه البخاري أنظر الفتح 2/339 ] وفي رواية لمسلم " من أكل البصل والثوم والكراث فلا يقربن مسجدنا فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم " [ رواه مسلم رواه 1/395 ] . وخطب عمر بن الخطاب الناس يوم الجمعة فقال في خطبته : " ثم إنكم أيها الناس تأكلون شجرتين لا أراهما إلا خبيثتين : هذا البصل والثوم لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وجد ريحهما من الرجل في المسجد أمر به فأخرج إلى البقيع فمن أكلها فليمتهما طبخا " [ رواه مسلم 1/396 ] .
ويدخل في هذا الباب الذين يدخلون المساجد بعد أعمالهم مباشرة والروائح الكريهة تنبعث من آباطهم وجواربهم .
وأسوأ من هذا المدخنون الذين يتعاطون التدخين المحرم ثم يدخلون المساجد يؤذون عباد الله من الملائكة والمصلين .
الزنا :
لما كان من مقاصد الشريعة حفظ العرض وحفظ النسل جاء فيها تحريم الزنا قال الله تعالى : ( ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا ) (الإسراء/32) بل وسدت الشريعة جميع الذرائع والطرق الموصلة إليه بالأمر بالحجاب وغض البصر وتحريم الخلوة بالأجنبية وغير ذلك .
والزاني المحصن يعاقب بأشنع عقوبة وأشدها وهي رجمه بالحجارة حتى يموت ليذوق وبال أمره وليتألم كل جزء من جسده كما استمتع به في الحرام والزاني الذي لم يسبق له الوطء في نكاح صحيح يجلد بأكثر عدد في الجلد ورد في الحدود الشرعية وهو مائة جلدة مع ما يحصل له من الفضيحة بشهادة طائفة من المؤمنين لعذابه والخزي بإبعاده عن بلده وتغريبه عن مكان الجريمة عاما كاملا .
وعذاب الزناة والزواني في البرزخ أنهم يكونون في تنور أعلاه ضيق وأسفله واسع يوقد تحته نار يكونون فيه عراة فإذا أوقدت عليهم النار صاحوا وارتفعوا حتى يكادوا أن يخرجوا فإذا أخمدت رجعوا فيها وهكذا يفعل بهم إلى قيام الساعة .(/7)
ويزداد الأمر قبحا إذا كان الرجل مستمرا في الزنا مع تقدمه في السن وقربه من القبر وإمهال الله له فعن أبي هريرة مرفوعا : " ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم ولهم عذاب أليم : شيخ زان وملك كذاب وعائل مستكبر " [ رواه مسلم 1/102-103 ] . ومن شر المكاسب مهر البغي وهو ما تأخذه مقابل الزنا ، والزانية التي تسعى بفرجها محرومة من إجابة الدعوة عندما تفتح أبواب السماء في نصف الليل [ الحديث في صحيح الجامع 2971 ] وليست الحاجة والفقر عذرا شرعيا مطلقا لانتهاك حدود الله وقديما قالوا تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها فكيف بفرجها .
وفي عصرنا فتح كل باب إلى الفاحشة وسهل الشيطان الطريق بمكره ومكر أوليائه واتبعه العصاة والفجرة ففشا التبرج والسفور وعم انفلات البصر والنظر المحرم وانتشر الاختلاط وراجت مجلات الخنا وأفلام الفحش وكثر السفر إلى بلاد الفجور وقام سوق تجارة الدعارة وكثر انتهاك الأعراض وازداد عدد أولاد الحرام وحالات قتل الأجنة فنسألك اللهم رحمتك ولطفك وسترك وعصمة من عندك تعصمنا بها من الفواحش ونسألك أن تطهر قلوبنا وتحصن فروجنا وأن تجعل بيننا وبين الحرام برزخا وحجرا محجورا .
اللواط :-
كانت جريمة قوم لوط هي إتيان الذكران من الناس قال الله تعالى : ( ولوطا إذ قال لقومه إنكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين . أئنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل وتأتون في ناديكم المنكر ) ( العنكبوت/29 ).
ولشناعة هذه الجريمة وقبحها وخطورتها عاقب الله مرتكبيها بأربعة أنواع من العقوبات لم يجمعها على قوم غيرهم وهي أنه طمس أعينهم وجعل عاليها سافلها وأمطرهم بحجارة من سجيل منضود وأرسل عليهم الصيحة
وفي هذه الشريعة صار القتل بالسيف ـ على الراجح ـ هو عقوبة الفاعل والمفعول به إذا كان عن رضا واختيار فعن ابن عباس مرفوعا : " من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به " [ رواه الإمام أحمد 1/300 وهو في صحيح الجامع 6565 ] . وما ظهر في زماننا من الطواعين وأنواع الأمراض التي لم تكن في أسلافنا الذين مضوا بسبب الفاحشة كمرض الإيدز القاتل يدل على شئ من حكمة الشارع في تعيين هذه العقوبة البليغة .
امتناع المرأة من فراش زوجها بغير عذر شرعي :
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت فبات غضبان عليها لعنتها الملائكة حتى تصبح " [ رواه البخاري أنظر الفتح 6/314 ] .
وكثير من النساء إذا صار بينها وبين زوجها خلاف تعاقبه - بظنها - بمنعه حقه في الفراش وقد يترتب على هذا مفاسد عظيمة منها وقوع الزوج في الحرام وقد تنعكس عليها الأمور فيفكر جادا في الزواج عليها
فعلى الزوجة أن تسارع بإجابة زوجها إذا طلبها امتثالا لقوله عليه الصلاة والسلام : " إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فلتجب وإن كانت على ظهر قتب " [ أنظر زوائد البزار 2/181 وهو في صحيح الجامع 547 والقتب ما يوضع على ظهر الجمل للركوب ] . وعلى الزوج أن يراعي زوجته إذا كانت مريضة أو حاملا أو مكروبة حتى يدوم الوفاق ولا يقع الشقاق .
طلب المرأة الطلاق من زوجها لغير سبب شرعي :-
تسارع كثير من النساء إلى طلب الطلاق من أزواجهن عند حصول أدنى خلاف أو تطالب الزوجة بالطلاق إذا لم يعطها الزوج ما تريد من المال وقد تكون مدفوعة من قبل بعض أقاربها أو جاراتها من المفسدات وقد تتحدى زوجها بعبارات مثيرة للأعصاب كقولها إن كنت رجلا فطلقني ومن المعلوم أنه يترتب على الطلاق مفاسد عظيمة من تفكك الأسرة وتشرد الأولاد وقد تندم حين لا ينفع الندم ولهذا وغيره تظهر الحكمة في الشريعة لما جاءت بتحريم ذلك فعن ثوبان رضي الله عنه مرفوعا : " أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة " [ رواه أحمد 5/277 وهو في صحيح الجامع 2703 ] . وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه مرفوعا : " إن المختلعات والمنتزعات هن المنافقات " [ رواه الطبراني في الكبير 17/339 وهو في صحيح الجامع 1934 ] . أما لو قام سبب شرعي كترك الصلاة أو تعاطي المسكرات والمخدرات من قبل الزوج أو أنه يجبرها على أمر محرم أو يظلمها بتعذيبها أو بمنعها من حقوقها الشرعية مثلا ولم ينفع النصح ولم تجد محاولات الإصلاح فلا يكون على المرأة حينئذ من بأس إن هي طلبت الطلاق لتنجو بدينها ونفسها .
الظهار :-
من ألفاظ الجاهلية الأولى المنتشرة في هذه الأمة الوقوع في الظهار كأن يقول الزوج لزوجته أنت علي كظهر أمي أو أنت حرام علي كحرمة أختي ونحو ذلك من الألفاظ الشنيعة التي استبشعتها الشريعة لما فيها من ظلم المرأة وقد وصف الله ذلك بقوله سبحانه :( الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا وإن الله لعفو غفور ) ( المجادلة 2 )(/8)
وجعلت الشريعة الكفارة في ذلك مغلظة مشابهة لكفارة قتل الخطأ ومماثلة لكفارة الجماع في نهار رمضان لا يجوز للمظاهر من زوجته أن يقربها إلا إذا أتى بالكفارة فقال الله تعالى : ( والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ذلكم توعظون به والله بما تعملون خبير . فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله وتلك حدود الله وللكافرين عذاب أليم ) ( المجادلة/3-4).
وطء الزوجة في حيضها :-
قال تعالى : ( ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن) ( البقرة/222) فلا يحل له أن يأتيها حتى تغتسل بعد طهرها لقوله تعالى : ( فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله .. ) ( البقرة/222) ويدل على شناعة هذه المعصية قوله صلى الله عليه وسلم : " من أتى حائضا أو امرأة في دبرها أو كاهنا فقد كفر بما أنزل على محمد " [ رواه الترمذي عن أبي هريرة 1/243 وهو في صحيح الجامع 5918 ]
ومن فعل ذلك خطأ دون تعمد وهو لا يعلم فليس عليه شيء ومن فعله عامدا عالما فعليه الكفارة في قول بعض أهل العلم ممن صحح حديث الكفارة وهي دينار أو نصف دينار ، قال بعضهم هو مخير فيهما وقال بعضهم إذا أتاها في أول حيضها في فورة الدم فعليه دينار وإن أتاها في آخر حيضها إذا خف الدم أو قبل اغتسالها من الحيض فعليه نصف دينار والدينار بالتقدير المتداول 25,4 غراما من الذهب يتصدق بها أو بقيمتها من الأوراق النقدية .
إتيان المرأة في دبرها :
بعض الشاذين من ضعاف الإيمان لا يتورع عن إتيان زوجته في دبرها ( في موضع خروج الغائط ) وهذا من الكبائر وقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم من فعل هذا فعن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا : " ملعون من أتى امرأة في دبرها " [ رواه الإمام أحمد 2/479 وهو في صحيح الجامع 5865 ] بل إن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من أتى حائضا أو امرأة في دبرها أو كاهنا فقد كفر بما أنزل على محمد " [ رواه الترمذي برقم 1/243 وهو في صحيح الجامع 5918 ] . ورغم أن عددا من الزوجات من صاحبات الفطر السليمة يأبين ذلك إلا أن بعض الأزواج يهدد بالطلاق إذا لم تطعه ، وبعضهم قد يخدع زوجته التي تستحي من سؤال أهل العلم فيوهمها بأن هذا العمل حلال وقد يستدل لها بقوله تعالى ( نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم ) (البقرة/223) ومعلوم أن السنة تبين القرآن وقد جاء فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بأنه يجوز أن يأتيها كيف شاء من الأمام والخلف مادام في موضع الولد ولا يخفى أن الدبر ومكان الغائط ليس موضعا للولد . ومن أسباب هذه الجريمة الدخول إلى الحياة الزوجية النظيفة بموروثات جاهلية قذرة من ممارسات شاذة محرمة أو ذاكرة مليئة بلقطات من أفلام الفاحشة دون توبة إلى الله . ومن المعلوم أن هذا الفعل محرم حتى لو وافق الطرفان فإن التراضي على الحرام لا يصيره حلالا .
عدم العدل بين الزوجات :-
مما وصانا الله به في كتابه العزيز العدل بين الزوجات قال الله تعالى : ( ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفورا رحيما ) (النساء/129) فالعدل المطلوب هو أن يعدل في المبيت وأن يقوم لكل واحدة بحقها في النفقة والكسوة وليس العدل في محبة القلب لأن العبد لا يملكها وبعض الناس إذا اجتمع عنده أكثر من زوجة ينحاز إلى واحدة ويهمل الأخرى فيبيت عند واحدة أكثر أو ينفق عليها ويذر الأخرى وهذا محرم وهو يأتي يوم القيامة بحال جاء وصفها عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل " [ رواه أبو داود 2/601 وهو في صحيح الجامع 6491 ] .
الخلوة بالأجنبية :-
الشيطان حريص على فتنة الناس وإيقاعهم في الحرام ولذلك حذرنا الله سبحانه بقوله : ( يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر .. الآية) (النور/21) والشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم ومن سبل الشيطان في الإيقاع في الفاحشة الخلوة بالأجنبية ولذلك سدت الشريعة هذا الطريق كما في قوله صلى الله عليه وسلم : " لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان " [ رواه الترمذي 3/474 أنظر مشكاة المصابيح 3118 ] . وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا يدخلن رجل بعد يومي هذا على مغيبة إلا ومعه رجل أو اثنان " [ رواه مسلم 4/1711 ] . فلا يجوز لرجل أن يختلي في بيت أو حجرة أو سيارة بامرأة أجنبية عنه كزوجة أخيه أو الخادمة أو مريضة مع طبيب ونحو ذلك وكثير من الناس يتساهلون في هذا إما ثقة بنفسه أو بغيره فيترتب على ذلك الوقوع في الفاحشة أو مقدماتها وتزداد مأساة اختلاط الأنساب وأولاد الحرام .(/9)
مصافحة المرأة الأجنبية :
وهذا مما طغت فيه بعض الأعراف الاجتماعية على شريعة الله في المجتمع وعلا فيه باطل عادات الناس وتقاليدهم على حكم الله حتى لو خاطبت أحدهم بحكم الشرع وأقمت الحجة وبينت الدليل اتهمك بالرجعية والتعقيد وقطع الرحم والتشكيك في النوايا الحسنة ... الخ، وصارت مصافحة بنت العم وبنت العمة وبنت الخال وبنت الخالة وزوجة الأخ وزوجة العم وزوجة الخال أسهل في مجتمعنا من شرب الماء ولو نظروا بعين البصيرة في خطورة الأمر شرعا ما فعلوا ذلك . قال المصطفى صلى الله عليه وسلم " لأن يطعن في رأس أحدكم بمخيط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل له " [رواه الطبراني 20/212 وهو في صحيح الجامع 4921 ] . ولا شك أن هذا من زنا اليد كما قال صلى الله عليه وسلم " العينان تزنيان واليدان تزنيان والرجلان تزنيان والفرج يزني " [ رواه الإمام أحمد 1/412 وهو في صحيح الجامع 4126 ] ، وهل هناك أطهر قلبا من محمد صلى الله عليه وسلم ومع ذلك قال " إني لا أصافح النساء" [ رواه الإمام أحمد 6/357 وهو في صحيح الجامع 2509 ] ، وقال أيضا " إني لا أمس أيدي النساء" [ رواه الطبراني في الكبير 24/342 وهو في صحيح الجامع 7054 وأنظر الإصابة 4/354 ط. دار الكتاب العربي ] . وعن عائشة رضي الله عنها قالت : ولا والله ما مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة قط غير أنه يبايعهن بالكلام [ رواه مسلم 3/1489 ] . ألا فليتق الله _أناس يهددون زوجاتهم الصالحات بالطلاق إذا لم يصافحن إخوانهم .
وينبغي العلم بأن وضع حائل والمصافحة من وراء ثوب لا تغني شيئا فهو حرام في الحالين .
تطيب المرأة عند خروجها ومرورها بعطرها على الرجال :
وهذا مما فشا في عصرنا رغم التحذير الشديد من النبي صلى الله عليه وسلم بقوله " أيما امرأة استعطرت ثم مرت على القوم ليجدوا ريحها فهي زانية " [ رواه الإمام أحمد 4/418 أنظر صحيح الجامع 105 ] . وعند بعض النساء غفلة أو استهانة يجعلها تتساهل بهذا الأمر عند السائق والبائع وبواب المدرسة ، بل إن الشريعة شددت على من وضعت طيبا بأن تغتسل كغسل الجنابة إذا أرادت الخروج ولو إلى المسجد . قال صلى الله عليه وسلم " أيما امرأة تطيبت ثم خرجت إلى المسجد ليوجد ريحها لم يقبل منها صلاة حتى تغتسل اغتسالها من الجنابة " [ رواه الإمام أحمد 2/444 وأنظر صحيح الجامع 2703 ] . فإلى الله المشتكى من البخور والعود في الأعراس وحفلات النساء قبل خروجهن واستعمال هذه العطورات ذات الروائح النفاذة في الأسواق ووسائل النقل ومجتمعات الإختلاط وحتى في المساجد في ليالي رمضان وقد جاءت الشريعة بأن طيب النساء ما ظهر لونه وخفي ريحه نسأل الله أن لا يمقتنا وأن لا يؤاخذ الصالحين والصالحات بفعل السفهاء والسفيهات وأن يهدي الجميع إلى صراطه المستقيم .
سفر المرأة بغير محرم :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر مسيرة يوم إلا مع ذي محرم " [ رواه مسلم 2/977 ]. وسفرها بغير محرم يغري الفساق بها فيتعرضون لها وهي ضعيفة فقد تنجرف وأقل أحوالها أن تؤذى في عرضها أو شرفها، وكذلك ركوبها بالطائرة ولو بمحرم يودع ومحرم يستقبل ـ بزعمهم ـ فمن الذي سيركب بجانبها في المقعد المجاور ولو حصل خلل فهبطت الطائرة في مطار آخر أو حدث تأخير واختلاف موعد فماذا يكون الحال والقصص كثيرة . هذا ويشترط في المحرم أربعة شروط وهي أن يكون مسلما بالغا عاقلا ذكرا .
عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر سفرا يكون ثلاثة أيام فصاعدا إلا ومعها أبوها أو ابنها أو زوجها أو أخوها أو ذو محرم منها " [ رواه مسلم 2/977] .
تعمد النظر إلى المرأة الأجنبية :
قال الله تعالى ( قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون ) ( النور /30) وقال صلى الله عليه وسلم " ...فزنا العين النظر ..." ( أي إلى ما حرم الله ) [ رواه البخاري أنظر فتح الباري 11/26 ] . ويستثنى من ذلك ما كان لحاجة شرعية كنظر الخاطب والطبيب . ويحرم كذلك على المرأة أن تنظر إلى الرجل الأجنبي نظر فتنة قال تعالى ( وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ) ويحرم كذلك النظر إلى الأمرد والحسن بشهوة ، ويحرم نظر الرجل إلى عورة الرجل والمرأة إلى عورة المرأة وكل عورة لا يجوز النظر إليها لا يجوز مسها ولو من وراء حائل . ومن تلاعب الشيطان ببعضهم ما يفعلون من النظر إلى الصور في المجلات ومشاهدة الأفلام بحجة أنها ليست حقيقية وجانب المفسدة وإثارة الشهوات في هذا واضح كل الوضوح .
الدياثة :
عن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعا : " ثلاثة قد حرم الله عليهم الجنة : مدمن الخمر والعاق والديوث الذي يقر في أهله الخبث " [ رواه الإمام أحمد 2/69 وهو في صحيح الجامع 3047] .(/10)
ومن صور الدياثة في عصرنا الإغضاء عن البنت أو المرأة في البيت وهي تتصل بالرجل الأجنبي يحادثها وتحادثه بما يسمى بالمغازلات وأن يرضى بخلوة إحدى نساء بيته مع رجل أجنبي وكذا ترك إحدى النساء من أهل البيت تركب بمفردها مع أجنبي كالسائق ونحوه وأن يرضى بخروجهن دون حجاب شرعي يتفرج عليهن الغادي والرائح وكذا جلب الأفلام أو المجلات التي تنشر الفساد والمجون و_إدخالها البيت .
التزوير في انتساب الولد لأبيه وجحد الرجل ولده :
لا يجوز شرعا لمسلم أن ينتسب إلى غير أبيه أو يلحق نفسه بقوم ليس منهم وبعض الناس يفعلون ذلك لمآرب مادية ويثبتون النسب المزور في الأوراق الرسمية وبعضهم قد يفعله حقدا على أبيه الذي تركه وهو في صغره وكل ذلك حرام ويترتب على ذلك مفاسد عظيمة في أبواب متعددة كالمحرمية والنكاح والميراث ونحو ذلك وقد جاء في الصحيح عن سعد وأبي بكرة رضي اله عنهما مرفوعا : " من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلم فالجنة عليه حرام " [ رواه البخاري أنظر فتح الباري 8/45 ] . ويحرم في الشريعة كل ما فيه عبث بالأنساب أو تزوير فيها وبعض الناس إذا فجر في خصومته مع زوجته اتهمها بالفاحشة وتبرأ من ولده دون بينة وهو قد جاء على فراشه وقد تخون بعض الزوجات الأمانة فتحمل من فاحشة وتدخل في نسب زوجها من ليس منه وقد جاء الوعيد العظيم على ذلك فيما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لما نزلت آية الملاعنة : " أيما امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم فليست من الله في شيء ولن يدخلها الله جنته وأيما رجل جحد ولده وهو ينظر إليه احتجب الله منه وفضحه على رؤوس الأولين والآخرين " [ رواه أبو داود 2/695 أنظر مشكاة المصابيح 3316 ].
أكل الربا :
لم يؤذن الله في كتابه بحرب أحد إلا أهل الربا قال الله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين ، فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله ) (البقرة / 278-279 ) وهذا كاف في بيان شناعة هذه الجريمة عند الله عز وجل .
والناظر على مستوى الأفراد والدول يجد مدى الخراب والدمار الذي خلفه التعامل بالربا من الإفلاس والكساد والركود والعجز عن تسديد الديون وشلل الاقتصاد وارتفاع مستوى البطالة وانهيار الكثير من الشركات والمؤسسات وجعل ناتج الكدح اليومي وعرق العمل يصب في خانة تسديد الربا غير المتناهي للمرابي وإيجاد الطبقية في المجتمع من جعل الأموال الطائلة تتركز في أيدي قلة من الناس ولعل هذا شيء من صور الحرب التي توعد الله بها المتعاملين بالربا .
وكل من يشارك في الربا من الأطراف الأساسية والوسطاء والمعينين المساعدين ملعونون على لسان محمد صلى الله عليه وسلم فعن جابر رضي الله عنه قال : لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم :" آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه " وقال : " هم سواء " [ رواه مسلم 3/1219 ] . وبناء عليه لا يجوز العمل في كتابة الربا ولا في تقييده وضبطه ولا في استلامه وتسليمه ولا في إيداعه ولا في حراسته وعلى وجه العموم تحرم المشاركة فيه والإعانة عليه بأي وجه من الوجوه .
ولقد حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تبيان قبح هذه الكبيرة فيما جاء عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه مرفوعا : " الربا ثلاثة وسبعون بابا أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه ، وإن أربى الربا عرض الرجل المسلم " [ رواه الحاكم في المستدرك /37 وهو في صحيح الجامع 3533] . وبقوله فيما جاء عن عبدالله بن حنظلة رضي الله عنهما مرفوعا : " درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشد من ستة وثلاثين زنية " [ رواه الإمام أحمد 5/225 أنظر صحيح الجامع 3375 ] . وتحريم الربا عام لم يخص بما كان بين غني وفقير كما يظنه بعض الناس بل هو عام في كل حال وشخص وكم من الأغنياء وكبار التجار قد أفلسوا بسببه والواقع يشهد بذلك وأقل ما فيه محق بركة المال وإن كان كثيرا في العدد قال النبي صلى الله عليه وسلم : " الربا وإن كثر فإن عاقبته تصير إلى قل " [ رواه الحاكم 2/37 وهو في صحيح الجامع 3542 ومعنى قل أي نقصان المال ] . وليس الربا كذلك مخصوصا بما إذا كانت نسبته مرتفعة أو متدنية قليلة أم كثيرة فكله حرام صاحبه يبعث من قبره يوم القيامة يقوم كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس والصرع .
ومع فحش هذه الجريمة إلا أن الله أخبر عن التوبة منها وبين كيفية ذلك فقال تعالى لأهل الربا : "( فإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون ) وهذا عين العدل .(/11)
ويجب أن تنفر نفس المؤمن من هذه الكبيرة وأن تستشعر قبحها وحتى الذين يضعون أموالهم في البنوك الربوية اضطرارا وخوفا عليها من الضياع أو السرقة ينبغي عليهم أن يشعروا بشعور المضطر وأنهم كمن يأكل الميتة أو أشد مع استغفار الله تعالى والسعي لإيجاد البديل ما أمكن ولا يجوز لهم مطالبة البنوك بالربا بل إذا وضع لهم في حساباتهم تخلصوا منه في أي باب جائز تخلصا لا صدقة فإن الله طيب لا يقبل إلا طيبا ولا يجوز لهم الاستفادة منه بأي نوع من الاستفادة لا بأكل ولا شرب ولا لبس ولا مركب ولامسكن ولا نفقة واجبة لزوجة أو ولد أو أب أو أم ولا في إخراج الزكاة ولا في تسديد الضرائب ولا يدفع بها ظلما عن نفسه وإنما يتخلص منها خوفا من بطش الله تعالى .
كتم عيوب السلعة وإخفاؤها عند بيعها :
مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على صبرة طعام فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بللا فقال " ما هذا يا صاحب الطعام ؟ قال أصابته السماء يا رسول الله قال أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس ؟ من غش فليس منا " [ رواه مسلم 1/99 ] ، وكثير من الباعة اليوم ممن لا يخاف الله يحاول إخفاء العيب بوضع لاصق عليه أو جعله في أسفل صندوق البضاعة أو استعمال مواد كيميائية ونحوها تظهره بمظهر حسن أو تخفي صوت العيب الذي في المحرك في أول الأمر فإذا عاد المشتري بالسلعة لم تلبث أن تتلف من قريب وبعضهم يغير تاريخ انتهاء صلاحية السلعة أو يمنع المشتري من معاينة السلعة أو فحصها أو تجريبها وكثير ممن يبيعون السيارات والآلات لا يبينون عيوبها وهذا حرام . قال النبي صلى عليه وسلم " المسلم أخو المسلم ولا يحل لمسلم باع من أخيه بيعا فيه عيب إلا بينه له " [ رواه ابن ماجة 2/754 وهو في صحيح الجامع 6705 ] . وبعضهم يظن أنه يخلي مسئوليته إذا قال للمشترين في المزاد العلني .. أبيع كومة حديد .. كومة حديد ، فهذا بيعه منزوع البركة كما قال صلى الله عليه وسلم " البيعان بالخيار ما لم يتفرقا فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما ". [ رواه البخاري أنظر الفتح 4/328 ]
بيع النجش :
وهو أن يزيد في السلعة من لا يريد شراءها ليخدع غيره ويجره إلى الزيادة في السعر، قال صلى الله عليه وسلم "لا تناجشوا" [ رواه البخاري أنظر فتح الباري 10/484 ] وهذا نوع من الخداع ولا شك وقد قال عليه الصلاة والسلام " المكر والخديعة في النار " [ أنظر سلسلة الأحاديث الصحيحة 1057 ] . وكثير من الدلالين في الحراج والمزادات ومعارض بيع السيارات كسبهم خبيث لمحرمات كثيرة يقترفونها منها تواطؤهم في بيع النجش والتغرير بالمشتري القادم وخداعه فيتواطؤن على خفض سعر سلعته أما لو كانت السلعة لهم أو لأحدهم فعلى العكس يندسون بين المشترين ويرفعون الأسعار في المزاد يخدعون عباد الله ويضرونهم .
البيع بعد النداء الثاني يوم الجمعة : -
قال الله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون ) ( الجمعة/9)
وبعض الباعة يستمرون في البيع بعد النداء الثاني في دكاكينهم أو أمام المساجد ويشترك معهم في الإثم الذين يشترون منهم ولو سواكا وهذا البيع باطل على الراجح وبعض أصحاب المطاعم والمخابز والمصانع يجبرون عمالهم على العمل في وقت صلاة الجمعة وهؤلاء وإن زاد ربحهم في الظاهر فإنهم لا يزدادون إلا خسارا في الحقيقة ، أما العامل فإنه لابد أن يعمل بمقتضى قوله صلى الله عليه وسلم : " لا طاعة لبشر في معصية الله " . [ رواه الإمام أحمد 1/129 وقال أحمد شاكر إسناده صحيح رقم 1065 ]
القمار والميسر :-
قال الله تعالى : ( إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون ) (المائدة/90 ).
وكان أهل الجاهلية يتعاطون الميسر ومن أشهر صوره عندهم أنهم كانوا يشتركون في بعير عشرة أشخاص بالتساوي ثم يَضرب بالقداح وهو نوع من القرعة فسبعة يأخذون بأنصبة متفاوتة معينة في عرفهم وثلاثة لا يأخذون شيئا .
وأما في زماننا فإن للميسر عدة صور منها :
ـ ما يعرف باليانصيب وله صور كثيرة ومن أبسطها شراء أرقام بمال يجري السحب عليها فالفائز الأول يعطى جائزة والثاني وهكذا في جوائز معدودة قد تتفاوت فهذا حرام ولو كانوا يسمونه بزعمهم خيريا .
ـ أن يشتري سلعة بداخلها شيء مجهول أو يعطى رقما عند شرائه للسلعة يجري عليه السحب لتحديد الفائزين بالجوائز .
ـ ومن صور الميسر في عصرنا عقود التأمين التجاري على الحياة والمركبات والبضائع وضد الحريق والتأمين الشامل وضد الغير إلى غير ذلك من الصور المختلفة حتى أن بعض المغنين يقومون بالتأمين على أصواتهم .(/12)
هذا وجميع صور المقامرة تدخل في الميسر وقد وجد في زماننا أندية خاصة بالقمار وفيها ما يعرف بالطاولات الخضراء الخاصة لمقارفة هذا الذنب العظيم وكذلك ما يحدث في مراهنات سباق الخيول وغيرها من المباريات هو أيضا نوع من أنواع الميسر ويوجد في بعض محلات الألعاب ومراكز الترفيه أنواع من الألعاب المشتملة على فكرة الميسر كالتي يسمونها "الفليبرز" ومن صور المقامرة أيضا المسابقات التي تكون فيها الجوائز من طرفي المسابقة أو أطرافها كما نص على ذلك جماعة من أهل العلم .
السرقة :
قال تعالى : ( والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم ) (المائدة / 38 ) .
ومن أعظم جرائم السرقة سرقة حجاج وعمار بيت الله العتيق وهذا النوع من اللصوص لا يقيم وزنا لحدود الله في أفضل بقاع الأرض وحول بيت الله وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في قصة صلاة الكسوف : ( لقد جئ بالنار وذلكم حين رأيتموني تأخرت مخافة أن يصيبني من لفحها ، وحتى رأيت فيها صاحب المحجن يجر قصبه [ أمعاءه ] في النار ، كان يسرق الحاج بمحجنه [ عصا معقوفة الطرف ] فإن فطن له قال : إنما تعلق بمحجني ، وإن غفل عنه ذهب به .. ) [ رواه مسلم رقم 904 ] .
ومن أعظم السرقات السرقة من الأموال العامة وبعض الذين يفعلونها يقولون نسرق كما يسرق غيرنا وما علموا أن تلك سرقة من جميع المسلمين لأن الأموال العامة ملك لجميع المسلمين وفعل الذين لا يخافون الله ليس بحجة تبرر تقليدهم وبعض الناس يسرق من أموال الكفار بحجة أنهم كفار وهذا غير صحيح فإن الكفار الذين يجوز _سلب أموالهم هم المحاربون للمسلمين وليس جميع شركات الكفار وأفرادهم يدخلون في ذلك ومن وسائل السرقة مد الأيدي إلى جيوب الآخرين خلسة وبعضهم يدخل بيوت الآخرين زائرا ويسرق وبعضهم يسرق من حقائب ضيوفه وبعضهم يدخل المحلات التجارية ويخفي في جيوبه وثيابه سلعا أو ما تفعله بعض النساء من إخفائها تحت ثيابها وبعض الناس يستسهل سرقة الأشياء القليلة أو الرخيصة وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : " لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده " [ رواه البخاري أنظر فتح الباري 12/81 ] . ويجب على كل من سرق شيئا أن يعيده إلى صاحبه بعد أن يتوب إلى الله عز وجل سواء أعاده علانية أو سرا شخصيا أو بواسطة فإن عجز عن الوصول إلى صاحب المال أو إلى ورثته من بعده مع الاجتهاد في البحث فإنه يتصدق به وينوي ثوابه لصاحبه .
أخذ الرشوة وإعطاؤها :
إعطاء الرشوة للقاضي أو الحاكم بين الناس لإبطال حق أو تمشية باطل جريمة لأنها تؤدي إلى الجور في الحكم وظلم صاحب الحق وتفشي الفساد قال الله تعالى : ( ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنت تعلمون ) (البقرة/ 188 ) . وعن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا : " لعن الله الراشي والمرتشي في الحكم " [ رواه الإمام أحمد 2/387 وهو في صحيح الجامع 5069 ] . أما ما وقع للتوصل لحق أو دفع ظلم لا يمكن إلا عن طريق الرشوة فلا يدخل في الوعيد .
وقد تفشت الرشوة في عصرنا تفشيا واسعا حتى صارت موردا أعظم من المرتبات عند بعض الموظفين بل صارت بندا في ميزانيات كثير من الشركات بعناوين مغلفة وصارت كثير من المعاملات لا تبدأ ولا تنتهي إلا بها وتضرر من ذلك الفقراء تضررا عظيما وفسدت كثير من الذمم بسببها وصارت سببا لإفساد العمال على أصحاب العمل والخدمة الجيدة لا تقدم إلا لمن يدفع ومن لا يدفع فالخدمة له رديئة أو يؤخر ويهمل وأصحاب الرشاوي الذين جاءوا من بعده قد انتهوا قبله بزمن وبسبب الرشوة دخلت أموال هي من حق أصحاب العمل في جيوب مندوبي المبيعات والمشتريات ولهذا وغيره فلا عجب أن يدعو النبي صلى الله عليه وسلم على الشركاء في هذه الجريمة والأطراف فيها أن يطردهم الله من رحمته فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لعنة الله على الراشي والمرتشي " [ رواه ابن ماجة 2313 وهو في صحيح الجامع 5114 ]
غصب الأرض :-
إذا انعدم الخوف من الله صارت القوة والحيلة وبالا على صاحبها يستخدمها في الظلم كوضع اليد والاستيلاء على أموال الآخرين ومن ذلك غصب الأراضي وعقوبة ذلك في غاية الشدة فعن عبد الله بن عمر مرفوعا :" من أخذ من الأرض شيئا بغير حقه خسف به يوم القيامة إلى سبع أرضين " [ رواه البخاري أنظر الفتح 5/103 ] .
وعن يعلى بن مرة رضي الله عنه مرفوعا : " أيما رجل ظلم شبرا من الأرض كلفه الله أن يحفره ( في الطبراني : يحضره ) حتى آخر سبع أرضين ثم يطوقه يوم القيامة حتى يقضى بين الناس " [ رواه الطبراني في الكبير 22/270 وهو في صحيح الجامع 2719 ].(/13)
ويدخل في ذلك تغيير علامات الأراضي وحدودها فيوسع أرضه على حساب جاره وهو المشار إليه بقوله صلى الله عليه وسلم : " لعن الله من غير منار الأرض " [ رواه مسلم بشرح النووي 13/141 ]
قبول الهدية بسبب الشفاعة :-
الجاه والمكانة بين الناس من نعم الله على العبد إذا شكرها ومن شكر هذه النعمة أن يبذلها صاحبها لنفع المسلمين وهذا يدخل في عموم قول النبي صلى الله عليه وسلم : " من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل " [ رواه مسلم 4/1726 ] . ومن نفع بجاهه أخاه المسلم في دفع ظلم عنه أو جلب خير إليه دون ارتكاب محرم أو اعتداء على حق أحد فهو مأجور عند الله عز وجل إذا خلصت نيته كما أخبر عن ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : " اشفعوا تؤجروا " [ رواه أبو داود 5132 والحديث في الصحيحين فتح الباري 10/450 كتاب الأدب باب تعاون المؤمنين بعضهم بعضا ]
ولا يجوز أخذ مقابل على هذه الشفاعة والواسطة والدليل ما جاء عن أبي أمامة رضي الله عنه مرفوعا : " من شفع لأحد شفاعة ، فأهدى له هدية (عليها) فقبلها (منه) فقد أتى بابا عظيما من أبواب الربا " . [ رواه الإمام أحمد 5/261 وهو في صحيح الجامع 6292 ] .
ومن الناس يعرض بذل جاهه ووساطته مقابل مبلغ مالي يشترطه لتعيين شخص في وظيفة أو نقل آخر من دائرة أو من منطقة إلى أخرى أو علاج مريض ونحو ذلك والراجح أن هذا المقابل محرم لحديث أبي أمامة المتقدم آنفا بل إن ظاهر الحديث يشمل الأخذ ولو بدون شرط مسبق [ من إفادات الشيخ عبد العزيز بن باز مشافهة ] وحسب فاعل الخير الأجر من الله يجده يوم القيامة . جاء رجل إلى الحسن بن سهل يستشفع به في حاجة فقضاها فأقبل الرجل يشكره فقال له الحسن بن سهل علام تشكرنا ونحن نرى أن للجاه زكاة كما أن للمال زكاة ؟ [ الآداب الشرعية لابن مفلح 2/176 ] .
ومما يحسن الإشارة إليه هنا الفرق بين استئجار شخص لإنجاز معاملة ومتابعتها وملاحقتها مقابل أجرة فيكون هذا من باب الإجارة الجائزة بالشروط الشرعية وبين أن يبذل جاهه ووساطته فيشفع مقابل مال فهذا من المحظور .
استيفاء العمل من الأجير وعدم إيفائه أجره :-
لقد رغب النبي صلى الله عليه وسلم في سرعة إعطاء الأجير حقه فقال : " أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه " [ رواه ابن ماجة 2/817 وهو في صحيح الجامع 1493 ] .
ومن أنواع الظلم الحاصل في مجتمعات المسلمين عدم إعطاء العمال والأجراء والموظفين حقوقهم ولهذا عدة صور منها :
ــ أن يجحده حقه بالكلية ولا يكون للأجير بينة فهذا وإن ضاع حقه في الدنيا فإنه لا يضيع عند الله يوم القيامة فإن الظالم يأتي وقد أكل مال المظلوم فيعطى المظلوم من حسنات الظالم فإن فنيت أخذ من سيئات المظلوم فطرحت على الظالم ثم طرح في النار .
ــ أن يبخسه فيه فلا يعطيه إياه كاملا وينقص منه دون حق وقد قال الله تعالى : ( ويل للمطففين ) [ المطففين 1 ] ومن أمثلة ذلك ما يفعله بعض أرباب العمل إذا استقدم عمالا من بلدهم وكان قد عقد معهم عقدا على أجر معين فإذا ارتبطوا به وباشروا العمل عمد إلى عقود العمل فغيرها بأجور أقل فيقيمون على كراهية وقد لا يستطيعون إثبات حقهم فيشكون أمرهم إلى الله ، وإن كان رب العمل الظالم مسلما والعامل كافرا كان ذلك البخس من الصد عن سبيل الله فيبوء بإثمه .
ــ أن يزيد عليه أعمالا إضافية أو يطيل مدة الدوام ولا يعطيه إلا الأجرة الأساسية ويمنعه أجرة العمل الإضافي .
ــ أن يماطل فيه فلا يدفعه إليه إلا بعد جهد جهيد وملاحقة وشكاوى ومحاكم وقد يكون غرض رب العمل من التأخير إملال العامل حتى يترك حقه ويكف عن المطالبة أو يقصد الاستفادة من أموال العمال بتوظيفها وبعضهم يرابي فيها والعامل المسكين لا يجد قوت يومه ولا ما يرسله نفقة لأهله وأولاده المحتاجين الذين تغرب من أجلهم . فويل لهؤلاء الظلمة من عذاب يوم أليم روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " قال الله تعالى : ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة رجل أعطى بي ثم غدر ورجل باع حرا وأكل ثمنه ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يعطه أجره " [ رواه البخاري أنظر فتح الباري 4/447 ] .
عدم العدل في العطية بين الأولاد :(/14)
يعمد بعض الناس إلى تخصيص بعض أولادهم بهبات وأعطيات دون الآخرين وهذا على الراجح عمل محرم إذا لم يكن له مسوغ شرعي كأن تقوم حاجة بأحد الأولاد لم تقم بالآخرين كمرض أو دين عليه أو مكافأة له على حفظه للقرآن مثلا أو أنه لا يجد عملا أو صاحب أسرة كبيرة أو طالب علم متفرغ ونحو ذلك وعلى الوالد أن ينوي إذا أعطى أحدا من أولاده لسبب شرعي أنه لو قام بولد آخر مثل حاجة الذي أعطاه أنه سيعطيه كما أعطى الأول . والدليل العام قوله تعالى ( اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله ) والدليل الخاص ما جاء عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما أن أباه أتى به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " إني نحلت ابني هذا غلاما ( أي وهبته عبدا كان عندي ) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أكل ولدك نحلته مثله ؟ فقال لا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرجعه " [ رواه البخاري أنظر الفتح 5/211 ] ، وفي رواية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم " قال فرجع فرد عطيته [ الفتح 5/211 ] ، وفي رواية " فلا تشهدني إذا فإني لا أشهد على جور " [ صحيح مسلم 3/1243 ] . ويعطى الذكر مثل حظ الأنثيين كالميراث وهذا قول الإمام أحمد رحمه الله [ مسائل الإمام أحمد لأبي داود 204 وقد حقق الإمام ابن القيم في حاشيته على أبي داود المسألة تحقيقا بينا ] . والناظر في أحوال بعض الأسر يجد من الآباء من لا يخاف الله في تفضيل بعض أولاده بأعطيات فيوغر صدور بعضهم على بعض ويزرع بينهم العداوة والبغضاء . وقد يعطي واحدا لأنه يشبه أعمامه ويحرم الآخر لأنه فيه شبها من أخواله أو يعطي أولاد إحدى زوجتيه مالا يعطي أولاد الأخرى وربما أدخل أولاد إحداهما مدارس خاصة دون أولاد الأخرى وهذا سيرتد عليه فإن المحروم في كثير من الأحيان لا يبر بأبيه مستقبلا وقد قال عليه الصلاة والسلام لمن فاضل بين أولاده في العطية " ...أليس يسرك أن يكونوا إليك في البر سواء ..." . [ رواه الإمام أحمد 4/269 وهو في صحيح مسلم رقم 1623 ]
سؤال الناس المال من غير حاجة :
عن سهل بن الحنظلية رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من سأل وعنده ما يغنيه فإنما يستكثر من جمر جهنم قالوا وما الغنى الذي لا تنبغي معه المسألة قال قدر ما يغديه ويعشيه" [ رواه أبو داود 2/281 وهو في صحيح الجامع 6280 ] ، وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من سأل وله ما يغنيه جاءت يوم القيامة خدوشا أو كدوشا في وجهه " [ رواه الإمام أحمد 1/388 أنظر صحيح الجامع 6255 ] . وبعض الشحاذين يقفون في المساجد أمام خلق الله يقطعون التسبيح بشكاياتهم وبعضهم يكذبون ويزورون أوراقا ويختلقون قصصا وقد يوزعون أفراد الأسرة على المساجد ثم يجمعونهم وينتقلون من مسجد لآخر وهم في حالة من الغنى لا يعلمها إلا الله فإذا ماتوا ظهرت التركة. وغيرهم من المحتاجين الحقيقيين يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف لا يسألون الناس إلحافا ولا يفطن لهم فيتصدق عليهم .
الاستدانة بدين لا يريد وفاءه
حقوق العباد عند الله عظيمة وقد يخرج الشخص من حق الله بالتوبة ولكن حقوق العباد لا مناص من أدائها قبل أن يأتي يوم لا يتقاضى فيه بالدينار ولا بالدرهم ولكن بالحسنات والسيئات والله سبحانه وتعالى يقول : ( إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ) ( النساء /58 ) ومن الأمور المتفشية في المجتمع التساهل في الاستدانة وبعض الناس لا يستدين للحاجة الماسة وإنما يستدين رغبة في التوسع ومجاراة الآخرين في تجديد المركب والأثاث ونحو ذلك من المتاع الفاني والحطام الزائل وكثيرا ما يدخل هؤلاء في متاهات بيوع التقسيط التي لا يخلو كثير منها من الشبهة أو الحرام .
والتساهل في الاستدانة يقود إلى المماطلة في التسديد أو يؤدي إلى إضاعة أموال الآخرين وإتلافها ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم محذرا من عاقبة هذا العمل : " من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه ومن أخذ يريد إتلافها أتلفه الله " [ رواه البخاري أنظر فتح الباري 5/54 ] . والناس يتساهلون في أمر الدين كثيرا ويحسبونه هينا وهو عند الله عظيم ، بل إن الشهيد مع ماله من المزايا العظيمة والأجر الجزيل والمرتبة العالية لا يسلم من تبعة الدين ودليل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : " سبحان الله ماذا أنزل الله من التشديد في الدين والذي نفسي بيده لو أن رجلا قتل في سبيل الله ثم أحيي ثم قتل ثم أحيي ثم قتل وعليه دين ما دخل الجنة حتى يقضى عنه دينه " [ رواه النسائي أنظر المجتبى 7/314 وهو في صحيح الجامع 3594 ] . فهل بعد هذا يرعوي هؤلاء المتساهلون المفرطون ؟!
أكل الحرام :(/15)
من لا يخاف الله لا يبالي من أين اكتسب المال وفيم أنفقه بل يكون همه زيادة رصيده ولو كان سحتا وحراما من سرقة أو رشوة أو غصب أو تزوير أو بيع محرم أو مراباة أو أكل مال يتيم أو أجرة على عمل محرم ككهانة وفاحشة وغناء أو اعتداء على بيت مال المسلمين والممتلكات العامة أو أخذ مال الغير بالإحراج أو سؤال بغير حاجة ونحو ذلك ثم هو يأكل منه ويلبس ويركب ويبني بيتا أو يستأجره ويؤثثه ويدخل الحرام بطنه وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : " كل لحم نبت من سحت فالنار أولى به ... " [ رواه الطبراني في الكبير 19/136 وهو في صحيح الجامع 4495 ] . وسيسأل يوم القيامة عن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه وهنالك الهلاك والخسار فعلى من بقي لديه مال حرام أن يسارع بالتخلص منه وإن كان حقا لآدمي فليسارع بإرجاعه إليه مع طلب السماح قبل أن يأتي يوم لا يتقاضى فيه بالدينار ولا بالدرهم ولكن بالحسنات والسيئات
شرب الخمر ولو قطرة واحدة :
قال الله تعالى : ( إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون ) ( المائدة / 90 ) والأمر بالاجتناب هو من أقوى الدلائل على التحريم وقد قرن الخمر بالأنصاب وهي آلهة الكفار وأصنامهم فلم تبق حجة لمن يقول إنه لم يقل هو حرام وإنما قال فاجتنبوه !!
وقد جاء الوعيد في سنة النبي صلى الله عليه وسلم لمن شرب الخمر فعن جابر مرفوعا : " ... إن على الله عز وجل عهدا لمن يشرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال " قالوا : يا رسول الله وما طينة الخبال ؟ قال : " عرق أهل النار أو عصارة أهل النار " [ رواه مسلم 3/1587 ] . وعن ابن عباس مرفوعا : " من مات مدمن خمر لقي الله وهو كعابد وثن " [ رواه الطبراني 12/45 وهو في صحيح الجامع 6525 ]
وقد تنوعت أنواع الخمور والمسكرات في عصرنا تنوعا بالغا وتعددت أسماؤها عربية وأعجمية فأطلقوا عليها البيرة والجعة والكحول والعرق والفودكا والشمبانيا وغير ذلك وظهر في هذه الأمة الصنف الذين أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عنهم بقوله : " ليشربن ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها " [ رواه الإمام أحمد 5/342 وهو في صحيح الجامع 5453 ] فهم يطلقون عليها مشروبات روحية بدلا من الخمر تمويها وخداعا ( يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون ) .
وقد جاءت الشريعة بالضابط العظيم الذي يحسم الأمر ويقطع دابر فتنة التلاعب وهو ما جاء في قوله صلى الله عليه وسلم : " كل مسكر خمر وكل مسكر حرام " [ رواه مسلم 3/1587 ] فكل ما خالط العقل وأسكره فهو حرام قليله وكثيره [ حديث " ما أسكر كثيره فقليله حرام " قد رواه أبو داود رقم 3681 وهو في صحيح أبي داود رقم 3128 ] ومهما تعددت الأسماء واختلفت فالمسمى واحد والحكم معلوم .
وأخيرا فهذه موعظة من النبي صلى الله عليه وسلم لشراب الخمور ، قال عليه الصلاة والسلام : " من شرب الخمر وسكر لم تقبل له صلاة أربعين صباحا وإن مات دخل النار فإن تاب تاب الله عليه وإن عاد فشرب فسكر لم تقبل له صلاة أربعين صباحا فإن مات دخل النار فإن تاب تاب الله عليه وإن عاد فشرب فسكر لم تقبل له صلاة أربعين صباحا فإن مات دخل النار فإن تاب تاب الله عليه وإن عاد كان حقا على الله أن يسقيه من ردغة الخبال يوم القيامة قالوا يا رسول الله وما ردغة الخبال قال : عصارة أهل النار . [ رواه ابن ماجة رقم 3377 وهو في صحيح الجامع 6313 ]
استعمال آنية الذهب والفضة والأكل والشرب فيها :
لا يكاد يخلو محل من محلات الأدوات المنزلية اليوم من الأواني الذهبية والفضية أو المطلية بالذهب والفضة وكذلك بيوت الأثرياء وعدد من الفنادق بل صار هذا النوع من الأواني من جملة الهدايا النفيسة التي يقدمها الناس بعضهم لبعض في المناسبات ، وبعض الناس قد لا يضعها في بيته ولكنه يستعملها في بيوت الآخرين وولائمهم ، وكل هذا من الأمور المحرمة في الشريعة وقد جاء الوعيد الشديد عن النبي صلى الله عليه وسلم في استعمال هذه الأواني فعن أم سلمة مرفوعا : " إن الذي يأكل أو يشرب في آنية الفضة والذهب إنما يجرجر في بطنه نار جهنم " [ رواه مسلم 3/1634 ] . وهذا الحكم يشمل كل ما هو من الآنية وأدوات الطعام كالصحون والشوك والملاعق والسكاكين وأواني تقديم الضيافة وعلب الحلويات المقدمة في الأعراس ونحوها .
وبعض الناس يقولون نحن لا نستعملها ولكن نضعها على رفوف خلف الزجاج للزينة ، وهذا لا يجوز أيضا سدا لذريعة استخدامها [ من إفادات الشيخ عبد العزيز بن باز مشافهة ] .
شهادة الزور :(/16)
قال الله تعالى : ( فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور حنفاء لله غير مشركين به ) ( الحج / 30-31 ) وعن عبد الرحمن بن أبي بكرة رضي الله عنهما عن أبيه قال : كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :" ألا أنبئكم بأكبر الكبائر " ثلاثا " الإشراك بالله وعقوق الوالدين ـ وجلس وكان متكئا ـ فقال : ألا وقول الزور قال فما زال يكررها حتى قلنا : ليته سكت " [ رواه البخاري أنظر الفتح 5/261 ] .
وتكرار التحذير من شهادة الزور هنا لتساهل الناس بها وكثرة الدواعي إليها من العداوة والحسد ولما يترتب عليها من المفاسد الكثيرة فكم ضاع من الحقوق بشهادة الزور وكم وقع من ظلم على أبرياء بسببها أو حصل أناس على مالا يستحقون أو أعطوا نسبا ليس بنسبهم بناء عليها .
ومن التساهل فيها ما يفعله بعض الناس في المحاكم من قوله لشخص يقابله هناك اشهد لي وأشهد لك فيشهد له في أمر يحتاج إلى علم بالحقيقة والحال كأن يشهد له بملكية أرض أو بيت أو تزكية وهو لم يقابله إلا على باب المحكمة أو في الدهليز وهذا كذب وزور فينبغي أن تكون الشهادة كما ورد في كتاب الله : ( وما شهدنا إلا بما علمنا ) ( يوسف / 81 ).
سماع المعازف والموسيقى:
كان ابن مسعود رضي الله عنه يقسم بالله أن المراد بقوله تعالى ( ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله ) هو الغناء [ تفسير ابن كثير 6/333 ] وعن أبي عامر وأبي مالك الأشعري رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف ... " [ رواه البخاري أنظر الفتح 10/51 ] . وعن أنس رضي الله عنه مرفوعا : " ليكونن في هذه الأمة خسف وقذف ومسخ وذلك إذا شربوا الخمور واتخذوا القينات وضربوا بالمعازف " [ أنظر السلسلة الصحيحة 2203 وعزاه إلى ابن أبي الدنيا في ذم الملاهي والحديث رواه الترمذي رقم 2212 ] .
وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الكوبة وهي الطبل ووصف المزمار بأنه صوت أحمق فاجر وقد نص العلماء المتقدمون كالإمام أحمد رحمه الله على تحريم آلات اللهو والعزف كالعود والطنبور والشبابة والرباب والصنج ولا شك أن آلات اللهو والعزف الحديثة تدخل في حديث النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن المعازف وذلك كالكمنجة والقانون والأورج والبيانو والغيتار وغيرها بل إنها في الطرب والنشوة والتأثير أكبر بكثير من الآلات القديمة التي ورد تحريمها في بعض الأحاديث بل إن نشوة الموسيقى وسكرها أعظم من سكر الخمر كما ذكر أهل العلم كابن القيم وغيره ولاشك أن التحريم يشتد والذنب يعظم إذا رافق الموسيقى غناء وأصوات كأصوات القينات وهن المغنيات والمطربات وتتفاقم المصيبة عندما تكون كلمات الأغاني عشقا وحبا وغراما ووصفا للمحاسن ولذلك ذكر العلماء أن الغناء بريد الزنا وأنه ينبت النفاق في القلب وعلى وجه العموم صار موضوع الأغاني والموسيقى من أعظم الفتن في هذا الزمان .
ومما زاد البلاء في عصرنا دخول الموسيقى في أشياء كثيرة كالساعات والأجراس وألعاب الأطفال والكمبيوتر وبعض أجهزة الهاتف فصار تحاشي ذلك أمرا يحتاج إلى عزيمة والله المستعان .
الغيبة :
صارت فاكهة كثير من المجالس غيبة المسلمين والولوغ في أعراضهم وهو أمر قد نهى الله عنه ونفر عباده منه ومثله بصورة كريهة تتقزز منها النفوس فقال عز وجل : ( ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه ) ( الحجرات / 12 ) .
وقد بين معناها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : " أتدرون ما الغيبة ؟ قالوا الله ورسوله أعلم . قال : ذكرك أخاك بما يكره قيل : أفرأيت إن كان في أخي ما أقول ؟ قال : إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه فقد بهته " [ رواه مسلم 4/2001 ] .
فالغيبة ذكرك للمسلم بما فيه مما يكرهه سواء كان في بدنه أو دينه أو دنياه أو نفسه أو أخلاقه أو خلقته ولها صور متعددة منها أن يذكر عيوبه أو يحاكي تصرفا له على سبيل التهكم
والناس يتساهلون في أمر الغيبة مع شناعتها وقبحها عند الله ويدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : " الربا اثنان وسبعون بابا أدناها مثل إتيان الرجل أمه وإن أربى الربا استطالة الرجل في عرض أخيه " [ السلسلة الصحيحة 1871 ] .
ويجب على من كان حاضرا في المجلس أن ينهى عن المنكر ويدافع عن أخيه المغتاب وقد رغب في ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : " من رد عن عرض أخيه رد الله عن وجهه النار يوم القيامة " [ رواه أحمد 6/450 وهو في صحيح الجامع 6238 ] .
النميمة :-
لا يزال نقل كلام الناس بعضهم إلى بعض للإفساد بينهم من أعظم أسباب قطع الروابط وإيقاد نيران الحقد والعداوة بين الناس وقد ذم الله تعالى صاحب هذا الفعل فقال عز وجل :( ولا تطع كل حلاف مهين هماز مشاء بنميم ) (القلم/11)(/17)
وعن حذيفة مرفوعا : " لا يدخل الجنة قتات " [ رواه البخاري أنظر الفتح 10/472 وفي النهاية لابن الأثير 4/11 : وقيل القتات الذي يتسمع على القوم وهم لا يعلمون ثم ينم . ]
وعن ابن عباس قال مر النبي صلى الله عليه وسلم بحائط * [ * بستان ] من حيطان المدينة فسمع صوت إنسانين يعذبان في قبورهما فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " يعذبان ، وما يعذبان في كبير - ثم قال - بلى [ وفي رواية : وإنه لكبير ] كان أحدهما لا يستتر من بوله وكان الآخر يمشي بالنميمة ... " [ رواه البخاري أنظر فتح الباري 1/317 ]
ومن الصور السيئة لهذا العمل تخبيب الزوج على زوجته والعكس وهو السعي في إفساد العلاقة بينهما وكذلك قيام بعض الموظفين في نقل كلام الآخرين للمدير أو المسؤول في نوع من الوشاية للإيقاع وإلحاق الضرر وهذا كله من المحرمات .
الاطلاع على بيوت الناس دون إذن :
قال تعالى ( يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها) ( النور/27 ) ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم موضحا أن العلة في الاستئذان هي مخافة الإطلاع على عورات أصحاب البيوت : " إنما جعل الاستئذان من اجل البصر" [ رواه البخاري أنظر فتح الباري 11/24 ] . واليوم مع تقارب المباني وتلاصق العمارات وتقابل النوافذ والأبواب صار احتمال كشف الجيران بعضهم بعضا كبيرا وكثيرون لا يغضون أبصارهم وربما تعمد بعض من في الأعلى الإطلاعمن نوافذهم وأسطحهم على البيوت المجاورة أسفل منهم ، وهذه خيانة وانتهاك لحرمة الجيران ووسيلة إلى الحرام ، وحصل بسبب ذلك الكثير من البلاء والفتنة ويكفي دليلا على خطورة الأمر إهدار الشريعة لعين المتجسس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم فقد حل لهم أن يفقئوا عينه " [ رواه مسلم 3/1699 ] ، وفي رواية " ففقئوا عينه فلا دية له ولا قصاص " [ رواه الإمام أحمد 2/385 وهو في صحيح الجامع 6022 ] .
تناجي اثنين دون الثالث :
وهذه من آفات المجالس ومن خطوات الشيطان ليفرق بين المسلمين ويوغر صدور بعضهم على بعض وقد قال عليه الصلاة والسلام مبينا الحكم والعلة " إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى رجلان دون الآخر حتى تختلطوا بالناس أجل ( أي من أجل كما ورد في بعض الروايات ) أن ذلك يحزنه " [ رواه البخاري أنظر فتح الباري 11/83 ] ، ويدخل في ذلك تناجي ثلاثة دون الرابع وهكذا وكذلك أن يتكلم المتناجيان بلغة لا يفهمها الثالث ولا شك أن التناجي فيه نوع من التحقير للثالث أو إيهامه أنهما يريدان به شرا ونحو ذلك .
الإسبال في الثياب :
مما يحسبه الناس هينا وهو عند الله عظيم الإسبال وهو إطالة اللباس أسفل من الكعبين وبعضهم يمس لباسه الأرض وبعضهم يسحبه خلفه
عن أبي ذر رضي الله عنه مرفوعا :" ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم : المسبل ( وفي رواية : إزاره ) والمنان ( وفي رواية : الذي لا يعطي شيئا إلا منه ) والمنفق سلعته بالحلف الكاذب " [ رواه مسلم 1/102 ] .
والذي يقول إن إسبالي لثوبي ليس كبرا فهو يزكي نفسه تزكية غير مقبولة والوعيد للمسبل عام سواء قصد الكبر أم لم يقصده كما يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم : " ما تحت الكعبين من الإزار ففي النار " [ رواه الإمام أحمد 6/254 وهو في صحيح الجامع 5571 ] . فإذا أسبل خيلاء صارت عقوبته أشد وأعظم وهي ما ورد في قوله صلى الله عليه وسلم : " من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة " [ رواه البخاري رقم 3465 ط. البغا ] وذلك لأنه جمع بين محرمين والإسبال محرم في كل لباس كما يدل عليه حديث ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعا : " الإسبال في الإزار والقميص والعمامة من جر منها شيئا خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة " [ رواه أبو داود 4/353 وهو في صحيح الجامع 2770 ] . والمرأة يسمح لها أن ترخي شبرا أو شبرين لستر قدميها احتياطا لما يخشى من الانكشاف بسبب ريح ونحوها ولكن لا يجوز لها مجاوزة الحد كما في بعض ثياب العرائس التي تمتد أشبارا وأمتارا وربما حمل وراءها .
تحلي الرجال بالذهب على أي صورة كانت
عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه مرفوعا : " أحل لإناث أمتي الحرير والذهب وحرم على ذكورها " [ رواه الإمام أحمد 4/393 أنظر صحيح الجامع 207 ] .
وفي الأسواق اليوم عدد من المصنوعات المصممة للرجال من الساعات والنظارات والأزرار والأقلام والسلاسل وما يسمونه بالميداليات بعيارات الذهب المختلفة أو مما هو مطلي بالذهب طلاء كاملا ومن المنكرات ما يعلن في جوائز بعض المسابقات : ساعة ذهب رجالي !!(/18)
عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى خاتما من ذهب في يد رجل فنزعه ، فطرحه ، فقال : " يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيجعلها في يده ؟! " فقيل للرجل بعدما ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم خذ خاتمك انتفع به قال : لا والله لا آخذه أبدا وقد طرحه رسول الله صلى الله عليه وسلم . [ رواه مسلم 3/1655 ].
لبس القصير والرقيق والضيق من الثياب للنساء :-
كان مما غزانا به أعداؤنا في هذا الزمان هذه الأزياء والموضات التي وضعوا أشكالها وتفصيلها وراجت بين المسلمين وهي لا تستر العورة لقصرها أو شفافيتها أو ضيقها وكثير منها لا يجوز لبسه حتى بين النساء وأمام المحارم وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم عن ظهور هذه الأنواع من الألبسة على نساء آخر الزمان كما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا : " صنفان من أهل النار لم أرهما : قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة ، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا " [ رواه مسلم 3/ 1680 والبخت هي الجمال طوال الأعناق ] . ويدخل في هذا الألبسة التي تلبسها بعض النساء تكون ذات فتحة طويلة من الأسفل أو مشقوقة من عدة جهات فإذا جلست ظهر من عورتها ما ظهر مع ما في ذلك من التشبه بالكفار واتباعهم في الموضات وما استحدثوه من الأزياء الفاضحة نسأل الله السلامة . ومن الأمور الخطيرة كذلك ما يوجد على بعض الملابس من الصور السيئة كصور المغنين والفرق الموسيقية وقوارير الخمر وصور ذوات الأرواح المحرمة شرعا أو الصلبان أو شعارات الأندية والجمعيات الخبيثة أو العبارات الرديئة المخلة بالشرف والعفة والتي كثيرا ما تكون مكتوبة بلغات أجنبية
وصل الشعر بشعر مستعار لآدمي أو لغيره للرجال والنساء :-
عن أسماء بنت أبي بكر قالت جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إن لي ابنة عريسا أصابتها حصبة فتمرق ( أي تساقط ) شعرها أفأصله فقال : " لعن الله الواصلة والمستوصلة " [ رواه مسلم 3/1676 ] . وعن جابر بن عبدالله قال : زجر النبي صلى الله عليه وسلم أن تصل المرأة برأسها شيئا " [ رواه مسلم 3/1679 ] .
ومن أمثلة هذا ما يعرف في عصرنا بالباروكة ومن الواصلات في عصرنا " الكوافيرات " وما تزخر به صالاتهن من المنكرات
ومن أمثلة هذا المحرم أيضا لبس الشعر المستعار كما يفعله بعض من لا خلاق لهم من الممثلين والممثلات في التمثيليات والمسرحيات .
تشبه الرجال بالنساء والنساء بالرجال في اللباس أو الكلام أو الهيئة :
من الفطرة أن يحافظ الرجل على رجولته التي خلقه الله عليها وأن تحافظ المرأة على أنوثتها التي خلقها الله عليها وهذا من الأسباب التي لا تستقيم حياة الناس إلا بها وتشبه الرجال بالنساء والنساء بالرجال هو مخالفة للفطرة وفتح لأبواب الفساد وإشاعة للانحلال في المجتمع وحكم هذا العمل شرعا هو التحريم وإذا ورد في نص شرعي لعن من يقوم بعمل فإن ذلك يدل على تحريمه وقد جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعا : " لعن رسول الله المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال " [ رواه البخاري أنظر الفتح 10/332 ] وعن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعا : " لعن رسول الله المخنثين من الرجال والمترجلات من النساء " [ رواه البخاري الفتح 10/333 ] . والتشبه قد يكون بالحركات والسكنات والمشية كالانخناث في الأجسام والتأنث في الكلام والمشي .
وكذلك لا يجوز تشبه كل من الجنسين بالآخر في اللباس ولا فيما هو من خصائصه فلا يجوز للرجل أن يلبس القلائد ولا الأساور ولا الخلاخل ولا الأقراط ونحوها كما هو منتشر عند أصناف الهبيين والخنافس ونحوهم وكذلك لا يجوز للمرأة أن تلبس ما اختص الرجل بلبسه من ثوب أو قميص ونحوه بل يجب أن تخالفه في الهيئة والتفصيل واللون ، والدليل على وجوب مخالفة كل من الجنسين للآخر في اللباس ما جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا : " لعن الله الرجل يلبس لبسة المرأة ، والمرأة تلبس لبسة الرجل " [ رواه أبو داود 4/355 وهو في صحيح الجامع 5071] .
صبغ الشعر بالسواد :(/19)
والصحيح أنه محرم للوعيد المذكور في قوله عليه الصلاة والسلام " يكون قوم يخضبون في آخر الزمان بالسواد كحواصل الحمام لا يريحون رائحة الجنة " [ رواه أبو داود 4/419 وهو في صحيح الجامع 8153 ] . وهذا عمل منتشر بين كثير ممن ظهر فيهم الشيب فيغيرونه بالصبغ الأسود فيؤدي عملهم هذا إلي مفاسد منها الخداع والتدليس على خلق الله والتشبع بحال غير حاله الحقيقية ولا شك أن لهذا أثرا سيئا على السلوك الشخصي وقد يحصل به نوع من الاغترار وقد صح أنه صلى الله عليه وسلم كان يغير الشيب بالحناء ونحوها مما فيه اصفرار أو احمرار أو بما يميل إلى اللون البني، ولما أتي بأبي قحافة يوم الفتح ورأسه ولحيته كالثغامة من شدة البياض قال عليه الصلاة والسلام " غيروا هذا بشيء واجتنبوا السواد " [ رواه مسلم 3/1663 ] . والصحيح أن المرأة كالرجل لا يجوز أن تصبغ بالسواد ما ليس بأسود من شعرها .
تصوير ما فيه روح في الثياب والجدران والورق ونحو ذلك :-
عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه مرفوعا : " إن أشد الناس عذابا عند الله يوم القيامة المصورون " [ رواه البخاري أنظر الفتح 10/382 ] . وعن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا : " قال الله تعالى : ( ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي فليخلقوا حبة و ليخلقوا ذرة ... ) " [ رواه البخاري أنظر فتح الباري 10/385 ] . وعن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعا : " كل مصور في النار ، يجعل له بكل صورة صورها نفسا فتعذب في جهنم " قال ابن عباس : إن كنت لا بد فاعلا فاصنع الشجر وما لا روح فيه " [ رواه مسلم 3/1671 ] . فهذه الأحاديث دالة على تحريم صور ذوات الأرواح من الآدميين وسائر الحيوانات مما له ظل أو ليس له ظل سواء كانت مطبوعة أو مرسومة أو محفورة أو منقوشة أو منحوتة أو مصبوبة بقوالب ونحو ذلك والأحاديث في تحريم الصور تشمل ذلك كله .
والمسلم يستسلم لنصوص الشرع ولا يجادل فيقول أنا لا أعبدها ولا أسجد لها !! ولو نظر العاقل بعين البصيرة والتأمل في مفسدة واحدة فقط لشيوع التصوير في عصرنا لعرف شيئا من الحكمة في هذه الشريعة عندما جاءت بتحريم التصوير وهو ما حصل من الفساد العظيم من إثارة الغرائز وثوران الشهوات بل الوصول إلى الوقوع في الفواحش بسبب الصور
وينبغي على المسلم أن لا يحتفظ في بيته بصور لذوات الأرواح حتى لا يكون ذلك سببا في امتناع الملائكة عن دخول بيته فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا تصاوير " [ رواه البخاري أنظر الفتح 10/380 ] . وتوجد في بعض البيوت تماثيل بعضها لمعبودات الكفار توضع على أنها تحف ومن الزينة فهذه حرمتها أشد من غيرها وكذلك الصور المعلقة أشد من غير المعلقة فكم أفضت إلى تعظيم وكم جددت من أحزان وكم أدت إلى تفاخر ولا يقال الصور للذكرى فإن الذكرى الحقيقية في القلب من عزيز أو قريب من المسلمين يدعى لهم بالمغفرة والرحمة فينبغي إخراج كل صورة أو طمسها اللهم إلا ما كان عسيرا وفيه مشقة بالغة كالصور التي عمت بها البلوى على المعلبات والصور في القواميس والمراجع والكتب التي يستفاد منها مع السعي لإزالتها ما أمكن والحذر مما في بعضها من الصور السيئة وكذلك يمكن الاحتفاظ بالصور التي تدعو الحاجة لها كما في إثباتات الشخصية ورخص بعض أهل العلم في الصور الممتهنة كالموطوءة بالأقدام ( فاتقوا الله ما استطعتم ) ( التغابن / 16 ).
الكذب في المنام :
يعمد بعض الناس إلى اختلاق رؤى ومنامات لم يروها لتحصيل فضيلة أو ذكر بين الخلق أو لحيازة منفعة مالية أو تخويفا لمن بينه وبينهم عداوة ونحو ذلك، وكثير من العامة لهم اعتقادات في المنامات وتعلق شديد بها فيخدعون بهذا الكذب وقد ورد الوعيد الشديد لمن فعل هذا الفعل ، قال صلى الله عليه وسلم " إن من أعظم الفرى أن يدعي الرجل إلى غير أبيه أو يري عينه ما لم تر ويقول على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقل " [ رواه البخاري أنظر الفتح 6/540 ] وقال صلى الله عليه وسلم " من تحلم بحلم لم يره كلف أن يعقد بين شعيرتين ولن يفعل ...الحديث " [ رواه البخاري أنظر الفتح 12/427 ] والعقد بين شعيرتين أمر مستحيل فكان الجزاء من جنس العمل .
الجلوس على القبر والوطء عليه وقضاء الحاجة في المقابر :(/20)
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه فتخلص إلى جلده خير له من أن يجلس على قبر " [ رواه مسلم 2/667 ] . أما الوطء على القبور فطائفة من الناس يفعلونه فتراهم عندما يدفنون ميتهم لا يبالون بالوطء ( وبأحذيتهم أحيانا ) على القبور المجاورة دون احترام لبقية الموتى وفي عظم هذا يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم "لأن أمشي على جمرة أو سيف أو أخصف نعلي برجلي أحب إلي من أن أمشي على قبر مسلم ... " [ رواه ابن ماجة 1/499 وهو في صحيح الجامع 5038 ]. فكيف بمن يستولي على أرض مقبرة ويقيم عليها مشروعا تجاريا أو سكنيا . أما التغوط في المقابر وقضاء الحاجة فيها فيفعله بعض من لا خلاق له إذا حضره قضاء الحاجة تسور مقبرة أو دخل فيها فآذى الموتى بنتنه ونجاسته ، يقول النبي صلى الله عليه وسلم " وما أبالي أوسط القبر قضيت حاجتي أو وسط السوق "[ التخريج السابق ] . أي أن قبح قضاء الحاجة في المقبرة كقبح كشف العورة وقضاء الحاجة أمام الناس في السوق ، والذين يتعمدون إلقاء القاذورات والزبالة في المقابر ( خصوصا المهجورة والتي تهدمت أسوارها ) لهم نصيب من ذلك الوعيد . ومن الآداب المطلوبة عند زيارة المقابر خلع النعال عند إرادة المشي بين القبور .
عدم الاستتار من البول :
من محاسن هذه الشريعة أنها جاءت بكل ما يصلح شأن الإنسان ومن ذلك إزالة النجاسة ، وشرعت لأجل ذلك الاستنجاء والاستجمار وبينت الكيفية التي يحصل بها التنظيف والنقاء وبعض الناس يتساهل في إزالة النجاسة مما يتسبب في تلويث ثوبه أو بدنه وبالتالي عدم صحة صلاته وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن ذلك من أسباب عذاب القبر فعن ابن عباس قال مر النبي صلى الله عليه وسلم بحائط * [ * بستان ] من حيطان المدينة فسمع صوت إنسانين يعذبان في قبورهما فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " يعذبان ، وما يعذبان في كبير - ثم قال - بلى [ وفي رواية : وإنه لكبير ] كان أحدهما لا يستتر من بوله وكان الآخر يمشي بالنميمة ... " [ رواه البخاري أنظر فتح الباري 1/317 ] . بل أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن : " أكثر عذاب القبر في البول " [ رواه الإمام أحمد 2/326 وهو في صحيح الجامع 1213 ] . وعدم الاستتار من البول يشمل من يقوم من حاجته بسرعة قبل أن ينقطع بوله أو يتعمد البول في هيئة أو مكان يرتد عليه بوله أو أن يترك الاستنجاء أو الاستجمار أو يهمل فيهما ، وقد بلغ من التشبه بالكفار في عصرنا أن صارت بعض المراحيض فيها أماكن لقضاء الحاجة مثبتة في الجدران ومكشوفة يأتي إليها الشخص فيبول أمام الداخل والخارج دون حياء ثم يرفع لباسه ويلبسه على النجاسة فيكون قد جمع بين أمرين محرمين قبيحين : الأول أنه لم يحفظ عورته من نظر الناس والثاني أنه لم يستنزه ولم يستبرئ من بوله .
التسمع إلى حديث قوم وهم له كارهون :
قال الله تعالى : ( ولا تجسسوا ... ) ( الحجرات / 11)
عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعا : " من استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون صب في أذنيه الآنك يوم القيامة ... " [ رواه الطبراني في الكبير 11/248-249 وهو في صحيح الجامع 6004 والآنك هو الرصاص المذاب ] .
فإذا كان ينقل حديثهم دون علمهم لإيقاع الضرر بهم فهو يضيف إلى إثم التجسس إثما آخر بدخوله في حديث النبي صلى الله عليه وسلم " لا يدخل الجنة قتات " [ رواه البخاري فتح 10/472 والقتات الذي يستمع إلى حديث القوم وهم لا يشعرون به ]
سوء الجوار
أوصانا الله سبحانه في كتابه بالجار فقال تعالى : ( واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا ) (النساء/36 ).
وإيذاء الجار من المحرمات لعظم حقه : عن أبي شريح رضي الله عنه مرفوعا : " والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن ، قيل ومن يا رسول الله ؟ قال : الذي لا يأمن جاره بوائقه " [ رواه البخاري أنظر فتح الباري 10/443 ]
وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم ثناء الجار على جاره أو ذمه له مقياسا للإحسان والإساءة فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله كيف لي أن أعلم إذا أحسنت أو إذا أسأت فقال النبي صلى الله عليه وسلم " إذا سمعت جيرانك يقولون : قد أحسنت فقد أحسنت ، وإذا سمعتهم يقولون : قد أسأت فقد أسأت " [ رواه الإمام أحمد 1/402 وهو في صحيح الجامع 623] .(/21)
وإيذاء الجار له صور متعددة فمنها منعه أن يغرز خشبة في الجدار المشترك أو رفع البناء عليه وحجب الشمس أو الهواء دون إذنه أو فتح النوافذ على بيته والإطلال منها لكشف عوراته أو إيذاؤه بالأصوات المزعجة كالطرق والصياح وخصوصا في أوقات النوم والراحة أو ضرب أولاده وطرح القمامة عند عتبة بابه والذنب يعظم إذا ارتكب في حق الجار ويضاعف إثم صاحبه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " لأن يزني الرجل بعشر نسوة أيسر عليه من أن يزني بامرأة جاره .. لأن يسرق الرجل من عشرة أبيات أيسر عليه من أن يسرق من بيت جاره " [ رواه البخاري في الأدب المفرد رقم 103 وهو في السلسلة الصحيحة 65 ] وبعض الخونة ينتهز غياب جاره في نوبته الليلية ويدخل بيته ليعيث فيه الفساد فالويل له من عذاب يوم أليم .
المضارة في الوصية : -
من قواعد الشريعة أنه لا ضرر ولا ضرار ومن الأمثلة على ذلك الإضرار بالورثة الشرعيين أو ببعضهم ومن يفعل ذلك فهو مهدد بقوله صلى الله عليه وسلم : " من ضار أضر الله به ومن شاق شق الله عليه " [ رواه الإمام أحمد 3/453 أنظر صحيح الجامع 6348 ] . ومن صور المضارة في الوصية حرمان أحد الورثة من حقه الشرعي أو أن يوصي لوارث بخلاف ما جعلته له الشريعة أو أن يوصي بأكثر من الثلث .
وفي الأماكن التي لايخضع فيها الناس لسلطان القضاء الشرعي يتعذر على صاحب الحق أن يأخذ حقه الذي أعطاه الله له بسبب المحاكم الوضعية التي تحكم بخلاف الشريعة وتأمر بإنفاذ الوصية الجائرة المسجلة عند المحامي فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون .
اللعب بالنرد :-
تحتوي كثير من الألعاب المنتشرة والمستعملة بين الناس على أمور من المحرمات ومن ذلك النرد ( المعروف بالزهر ) الذي يتم به الانتقال والتحريك في عدد كثير من الألعاب كالطاولة وغيرها وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من هذا النرد الذي يفتح أبواب المقامرة والميسر فقال : " من لعب بالنردشير فكأنما صبغ يده في لحم خنزير ودمه " [ رواه مسلم 4/1770 ] . وعن أبي موسى رضي الله عنه مرفوعا : " من لعب بالنرد فقد عصى الله ورسوله " [ رواه الإمام أحمد 4/394 وهو في صحيح الجامع 6505 ] .
لعن المؤمن ولعن من لا يستحق اللعن :-
لا يملك كثير من الناس ألسنتهم إذا ما غضبوا فيسارعون باللعن فيلعنون البشر والدواب والجمادات والأيام والساعات بل وربما لعنوا أنفسهم وأولادهم ولعن الزوج زوجته والعكس وهذا أمر جد خطير فعن أبي زيد ثابت بن الضحاك الأنصاري رضي الله عنه مرفوعا : " .... ، ومن لعن مؤمنا فهو كقتله " [ رواه البخاري أنظر فتح الباري 10/465 ] ولأن اللعن يكثر من النساء فقد بين عليه الصلاة والسلام أنه من أسباب دخولهن النار وكذلك فإن اللعانين لا يكونون شفعاء يوم القيامة وأخطر منه أن اللعنة ترجع على صاحبها إن تلفظ بها ظلما فيكون قد دعا على نفسه بالطرد والأبعاد من رحمة الله .
النياحة :-
من المنكرات العظيمة ما تقوم به بعض النساء من رفع الصوت بالصياح وندب الميت ولطم الوجه وكذلك شق الثوب وحلق الشعر أو شده وتقطيعه وكل ذلك يدل على عدم الرضا بالقضاء وعدم الصبر على المصيبة وقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم من فعل ذلك فعن أبي أمامة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن الخامشة وجهها والشاقة جيبها والداعية بالويل والثبور " [ رواه ابن ماجة 1/505 وهو في صحيح الجامع 5068 ] . وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه مرفوعا : " ليس منا من لطم الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية " [ رواه البخاري أنظر الفتح 3/163 ] . وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب " [ رواه مسلم رقم 934 ]
ضرب الوجه والوسم في الوجه :-
عن جابر قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الضرب في الوجه وعن الوسم في الوجه . [ رواه مسلم 3/1673 ]
أما ضرب الوجه فإن عددا من الآباء والمدرسين يعمدون إليه في معاقبة الأولاد حينما يضربون الوجه بالكف ونحوه وكذا يفعله بعض الناس مع خدمهم وهذا مع ما فيه من إهانة الوجه الذي كرم الله به الإنسان فإنه قد يؤدي أيضا إلى فقد بعض الحواس المهمة المجتمعة في الوجه فيحصل الندم وقد يطلب القصاص .
أما وسم الدواب في الوجه وهو وضع علامة مميزة يعرف بها صاحب كل دابة دابته أو ترد عليه إذا ضلت فهو حرام وفيه تشويه وتعذيب ولو احتج بعض الناس بأنه عرف قبيلتهم وعلامتها المميزة فيمكن أن يجعل الوسم في مكان آخر غير الوجه .
هجر المسلم فوق ثلاثة أيام دون سبب شرعي :-(/22)
من خطوات الشيطان إحداث القطيعة بين المسلمين وكثيرون أولئك الذين يتبعون خطوات الشيطان فيهجرون إخوانهم المسلمين لأسباب غير شرعية إما لخلاف مادي أو موقف سخيف وتستمر القطيعة دهرا وقد يحلف أن لا يكلمه وينذر أن لا يدخل بيته وإذا رآه في طريق أعرض عنه وإذا لقيه في مجلس صافح من قبله ومن بعده وتخطاه وهذا من أسباب الوهن في المجتمع الإسلامي ولذلك كان الحكم الشرعي حاسما والوعيد شديدا فعن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا : " لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث فمن هجر فوق ثلاث فمات دخل النار " [ رواه أبو داود 5/215 وهو في صحيح الجامع 7635 ] .
وعن أبي خراش الأسلمي رضي الله عنه مرفوعا : " من هجر أخاه سنة فهو بسفك دمه " [ رواه البخاري في الأدب المفرد حديث رقم 406 وهو في صحيح الجامع 6557 ] .
ويكفي من سيئات القطيعة بين المسلمين الحرمان من مغفرة الله عز وجل فعن أبي هريرة مرفوعا : " تعرض أعمال الناس في كل جمعة مرتين ، يوم الإثنين ويوم الخميس فيغفر لكل عبد مؤمن إلا عبدا بينه وبين أخيه شحناء فيقال : اتركوا أو أركوا ( يعني أخروا ) هذين حتى يفيئا " [ رواه مسلم 4/1988 ].
ومن تاب إلى الله من المتخاصمين فعليه أن يعود إلى صاحبه ويلقاه بالسلام فإن فعل وأبى صاحبه فقد برئت ذمة العائد وبقيت التبعة على من أبى ، عن أبي أيوب مرفوعا : " لا يحل لرجل أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام " [ رواه البخاري فتح الباري 10/492 ].
أما إن وجد سبب شرعي للهجر كترك صلاة أو إصرار على فاحشة فإن كان الهجر يفيد المخطئ ويعيده إلى صوابه أو يشعره بخطئه صار الهجر واجبا ، وأما إن كان لا يزيد المذنب إلا إعراضا ولا ينتج إلا عتوا ونفورا وعنادا وازديادا في الإثم فعند ذلك لا يسوغ الهجر لأنه لا تتحقق به المصلحة الشرعية بل تزيد المفسدة فيكون من الصواب الاستمرار في الإحسان والنصح والتذكير .
وختاما هذا ما تيسر جمعه من المحرمات المنتشرة [ والموضوع طويل وقد رأيت إتماما للفائدة أن أفرد فصلا خاصا بجملة من المنهيات الواردة في الكتاب والسنة مجموع بعضها إلى بعض ستكون في رسالة مستقلة إن شاء الله ] نسأل الله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى أن يقسم لنا من خشيته ما يحول بيننا وبين معاصيه ومن طاعته ما يبلغنا به جنته وأن يغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وأن يغنينا بحلاله عن حرامه وبفضله عمن سواه وأن يتقبل توبتنا ويغسل حوبتنا إنه سميع مجيب وصلى وسلم على النبي الأمي محمد وآله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين(/23)
محمد عليه السلام رائد الحفاظ على البيئة
ترجمها عن الإنجليزية: أ.د/إبراهيم عوض
ibrahim_awad9@yahoo.com
بقلم: فرانسيسكا دو شاتِلْ
(صحفية هولندية وكاتبة طليعية ومتخصصة فى أنثروبولوجيا الثقافة الإسلامية)
جاء فى الحديث النبوى: "ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهمة إلا كان له به صدقة".
الواقع أن القول بأن محمدا رائد من رواد الحفاظ على البيئة سوف يقع فى آذان الكثيرين فى البداية موقعا غريبا، إذ لا شك أن مصطلح "الحفاظ على البيئة" وما يرتبط به من مفاهيم مثل "البيئة" و"الوعى البيئى" و"ترشيد الاستهلاك" هى ألفاظ من اختراع العصر الحديث، أىْ مصطلحات صيغت لتواجه الاهتمامات المتزايدة بالوضع الراهن لعالم الطبيعة من حولنا.
ومع ذلك فإن قراءة الأحاديث النبوية عن قرب، أى تلك الروايات المتعلقة بالأحداث الهامة فى حياة محمد، لَتُرِينا أنه كان واحدا من أشد المنادين بحماية البيئة. بل إن بمستطاعنا القول إنه كان فى نصرته للبيئة سابقا لعصره، أى رائدا فى مجال المحافظة على البيئة والتطور الرشيد والإدارة الحكيمة للموارد الطبيعية، وواحدا من الذين يَسْعَوْن لإقامة توازن متناسق بين الإنسان والطبيعة. وبالاستناد إلى ما أوردته لنا الأحاديث من أعماله وأقواله يمكننا القول بأن محمدا كان يتمتع باحترام عميق لعالم النباتات والأزهار وأنه كان على صلة حميمة بعناصر الطبيعة الأربعة: التراب والماء والنار والهواء.
لقد كان محمد من الدعاة الأقوياء للاستخدام الرشيد للأرض والماء واستثمارهما، وكذلك المعاملة الكريمة للحيوانات والنباتات والطيور، والحقوق المتساوية لمن يتعاملون معها من البشر. وفى هذا السياق فإن حداثة رؤيته للبيئة وحداثة المفاهيم التى جاء بها فى هذا المجال لمما يَشْدَه العقل شَدْهًا، حتى لتبدو بعض أحاديثه وكأنها مناقشات عصرية حول قضايا البيئة.
المبادئ الثلاثة:
إن فلسفة محمد البيئية هى أولا وقبل كل شىء فلسفة شاملة مترابطة، إذ تقوم على أن هناك صلة أساسية وارتباطا متبادلا بين عناصر الطبيعة، كما أن نقطة انطلاقها هى الإيمان بأنه إذا أساء الإنسان استخدام عنصر من عناصر الطبيعة أو استنزفه استنزافا فإن العالم الطبيعى برُمّته سوف يضارّ أضرارا مباشرة. على أن هذا الاعتقاد لا يُنَصّ عليه فى حديث واحد نصا مباشرا، بل يمثل بالأحرى المبدأ الذى تنهض عليه جميع أقوال محمد وأفعاله. إنه فلسفة حياته التى على ضوئها نستطيع أن نبصر ملامح شخصيته.
إن أهم ثلاثة مبادئ فى الفلسفة المحمدية المتعلقة بالطبيعة تقوم على تعاليم القرآن ومفاهيم الوحدانية وخلافة البشر والثقة فى الإنسان. ويمثل التوحيد حجر الزاوية فى دعوة الإسلام، وهذا التوحيد يراعى الحقيقة التى تقول بوجود خالق واحد للكون وأن الإنسان مسؤول أمامه عن أعماله: "لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" (المائدة/ 120).
ويقر محمد بأن علم الله وقدرته يشملان كل شىء، ومن ثم كانت الإساءة إلى أى مخلوق من مخلوقاته، سواء كان كائنا حيا أو مصدرا من مصادر الطبيعة، ذَنْبًا من الذنوب يجازَى الإنسان عليه. وفى اعتقاده أن جميع مخلوقات الله متساوية أمامه سبحانه، وأن الحيوانات، وكذلك الأرض والغابات وينابيع المياه، ينبغى أن يكون لها حقوق تُحْتَرَم.
أما مفهوما الخلافة البشرية فى الأرض والثقة فى الإنسان فينبعان من مبدإ الوحدانية. ويوضح القرآن أن الإنسان يتمتع بوضع متميز بين مخلوقات الله على الأرض، إذ اصطفاه ليكون خليفة فيها وينهض بمسؤولية العناية بغيره من مخلوقات هذا الكوكب. وهذا واجب كل فرد فينا ووجه تميُّزه، ومجلى الثقة به. ورغم هذا نرى القرآن مرارا وتكرارا ينهى الإنسان عن الكِبْر منبها إياه إلى أنه ليس أفضل من سائر المخلوقات: "وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ" (الأنعام/ 38).
وكان محمد يؤمن بأن الكون بما فيه من مخلوقات: حيواناتٍ كانت هذه المخلوقات أو نباتاتٍ أو مياهًا أو أرضين، لم تُخْلَق لتكون للبشر. صحيح أن لهم الحق فى استخدام موارد الطبيعة، إلا أنهم لا يمكنهم أن يتملكوها تملُّكًا. ومن هنا ففى الوقت الذى يسمح الإسلام للإنسان بحيازة الأرض نراه يضع حدودا لذلك: فعلى سبيل المثال يمكنه أن يحوز الأرض فقط طالما كان يستعملها، لكنه ما إن يكفّ عن هذا الاستعمال حتى يصبح واجبا عليه التخلى عن هذه الحيازة.(/1)