عن عقبة بن مالك اللّيثي قال : بعث رسول الله صلّى اللّه عليه وأله وسلّم سريّة فأغارت على قوم فشذّ رجل فتبعه رجل شاهرا سيفه ، قال : فقال الشّاذّ : إنّي مسلم ! فلم ينظر فيما قال فضربه فقتله . فنما الحديث إلى رسول الله صلّى اللّه عليه وأله وسلّم فقال فيه قولا شديدا فبلغ القاتل فبينما رسول الله صلّى اللّه عليه وأله وسلّم يخطب إذ قال القاتل : والله ما قال الذي قال إلاّ تعوّذا من القتل ، فأعرض رسول الله صلّى اللّه عليه وأله وسلّم عنه وعمّن قبله من النّاس وأخذ في خطبته فقال : والله ما قال الذي قال إلاّ تعوّذا من القتل ، فأعرض رسول الله صلّى اللّه عليه وأله وسلّم عنه وعمّن قبله من النّاس وأخذ في خطبته فقال الرّجل : والله ما قال الذي قال إلاّ تعوّذا من القتل ، فأقبل عليه رسول الله تعرف المساءة ـ أي الغضب ـ في وجهه فقال : إنّ الله أبى على من قتل مؤمنا ثلاث مرّات " أي لا يدخل الجنّة !!!
قلت: وهذه النّصوص تثبت شرعيّة الإنكار العلني إذا كانت المخالفة علنيّة ، وهذا ما فعله الرّسول صلّى اللّه عليه وعلى آله وسلّم في أكثر من مناسبة.
2- في مسألة التّنطّع المتكلّف المتعنّت وكثرة السّؤال والكلام :
عن أبي موسى الأشعري قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أشياء كرهها فلمّا أكثروا عليه المسألة غضب وقال سلوني ، فقام رجل ، فقال يا رسول الله من أبي ؟ قال أبوك حذافة ثم قام آخر فقال يا رسول الله من أبي فقال أبوك سالم مولى شيبة.. وفي رواية فقام إليه رجل فقال أين مدخلي يا رسول اللّه ؟ قال النّار رواه البخاري رقم 7291 فلمّا رأى عمر ما بوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغضب قال إنّا نتوب إلى الله عزّ وجلّ..وفي رواية قام يوما وهو يعرف الغضب في وجهه لمّا أكثر عليه الصّحابة من السّؤال فذكر السّاعة ، وذكر قبلها أمورا عظاما ...قال أنس فأكثر النّاس من البكاء حين سمعوا ذلك ، وأكثر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم أن يقول سلوني .. فلمّا أكثر أن يقول سلوني ، برك عمر بن الخطّاب - رضي اللّه عنه – على ركبتيه ، فقال يا رسول الله رضينا باللّه ربّا ، و بالإسلام دينا ، وبمحمّد نبيّا . قال فسكت رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلّم حين قال عمر ذلك فنزلت آية يا أيّها الّذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم المائدة 101 .قال الإمام الشّاطبي – رحمه اللّه - وظاهر من هذا المساق أنّ قوله سلوني في معرض الغضب تنكيل بهم في السّؤال حتّى يروا عاقبة السّؤال .ولأجل ذلك جاء قوله تعالى إن تبد لكم تسؤكم . الموافقات 1/110 ...
وعن زيد بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ رَضِي اللَّهُ عَنْه قَالَ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ عَمَّا يَلْتَقِطُهُ! فقَالَ عَرِّفْهَا سَنَةً ثُمَّ احْفَظْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءهَا فَإِنْ جَاءَ أَحَدٌ يُخْبِرُكَ بِهَا وَإِلا فَاسْتَنْفِقْهَا قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ : فَضَالَّةُ الْغَنَمِ ! قَالَ : لَكَ أَوْ لأَخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ قَالَ ضَالَّةُ الإِبِلِ فَتَمَعَّرَ وَجْهُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ مَا لَكَ وَلَهَا مَعَهَا حِذَاؤُهَا وَسِقَاؤُهَا تَرِدُ الْمَاءَ وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ " . رواه البخاري فتح 2436 .
وعن عائشة - رضي اللّه عنها – قالت:” كان رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم إذا أمرهم من العمل بما يطيقون ، قالوا إناّ لسنا كهيئتك يا رسول اللّه ، إنّ اللّه قد غفر لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر. فيغضب حتّى يعرف الغضب في وجهه ثمّ يقول إنّ أتقاكم وأعلمكم باللّه أنا.. رواه البخاري رقم 20
ـ وقد يشتدّ غضبه على المجادل ولو كان عليّا بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه : روى البخاري رحمه الله عن عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه قَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَرَقَهُ وَفَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلام بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُمْ أَلا تُصَلُّونَ فَقَالَ عَلِيٌّ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا أَنْفُسُنَا بِيَدِ اللَّهِ فَإِذَا شَاءَ أَنْ يَبْعَثَنَا بَعَثَنَا فَانْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَالَ لَهُ ذَلِكَ وَلَمْ يَرْجِعْ إِلَيْهِ شَيْئًا ثُمَّ سَمِعَهُ وَهُوَ مُدْبِرٌ يَضْرِبُ فَخِذَهُ وَهُوَ يَقُولُ ( وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلا ) وكلام علي رضي الله عنه يحتمل أمورا يُنظر الفتح 7347 ...
ـ ومن ذلك غضبه صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم على بعض أصحابه حين قال لهم:" تعالوا أكتب لكم كتابا لن تضلّوا بعده ،فآعترض في ذلك بعض الصّحابة حتّى أمرهم بالخروج ولم يكتب لهم شيئا". آنظر البخاري 9 / 137، وأحمد 1/325.
في عصمة المؤمن ومساواته دون نظر إلى موازين الجاهليّة :(/15)
في صحيح مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه قال : كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ مِنْ إِخْوَانِي كَلامٌ وَكَانَتْ أُمُّهُ أَعْجَمِيَّةً فَعَيَّرْتُهُ بِأُمِّهِ فَشَكَانِي إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَقِيتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا أَبَا ذَرٍّ إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ سَبَّ الرِّجَالَ سَبُّوا أَبَاهُ وَأُمَّهُ قَالَ يَا أَبَا ذَرٍّ إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ هُمْ إِخْوَانُكُمْ جَعَلَهُمُ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ فَأَطْعِمُوهُمْ مِمَّا تَأْكُلُونَ وَأَلْبِسُوهُمْ مِمَّا تَلْبَسُونَ وَلَا تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ . صحيح مسلم رقم 1661
ـ و جاء في سنن أبي داود بسند حسنه بعض أهل العلم أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم حينما انصرف من رجم ماعز، سمع رجلين أحدهما يقول لصاحبه: انظر إلى هذا الذي ستر الله عليه فلم تدعه نفسه حتى رُجِم رَجْمَ الكلب. فسكت عنهما ثم سار ساعة حتى مرَّ بجيفة حمارٍ شائلٍ برجله فقال : " أين فلان وفلان ؟ " فقالا : نحن ذان يا رسول الله ، قال : " انزلا فكلا من جيفة هذا الحمار، فقالا : يا نبي الله من يأكل من هذا ؟ قال : " فما نلتما من عرض أخيكما آنفا أشد من أكلٍ منه ، والذي نفسي بيده إنّه الآن لفي أنهار الجنّة ينغمس فيها ".
ـ ومن ذلك شدّته مع أعزّ أصحابه ولم يشفع لهما ذلك الموقع: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال كانت العرب تخدم بعضها بعضا في الأسفار وكان مع أبي بكر وعمر رجل يخدمهما فناما فاستيقظا ولم يهيئ لهما طعاما فقال أحدهما لصاحبه إن هذا لنؤوم فأيقظاه فقالا: " ائت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقل له: " إنّ أبا بكر وعمر يُقرئانك السلام وهما يستأدمانك ـ أي يطلبان الإدام للطّعام ـ فقال: أقرهما السّلام وأخبرهما أنّهما قد ائتدما! ففزعا فجاءا إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقالا يا رسول الله بعثنا إليك نستأدمك فقلت قد ائتدما فبأيّ شيء ائتدمنا ؟ قال : بلحم أخيكما ، والذي نفسي بيده إنّي لأرى لحمه بين أنيابكما . يعني لحم الذي استغاباه ، قالا : فاستغفر لنا ، قال : هو فليستغفر لكما . السلسلة الصحيحة رقم 2608 وعزاه إلى الخرائطي في مساوئ الأخلاق والضياء في المختارة وأورده ابن كثير في تفسير سورة الحجرات 7/363 ط. دار الشعب ...
ـ بل أمر الرّسول الرّحيم صلّى الله عليه وآله وسلّم ب"لو أنّ آمرءا آطّلع عليك بغير إذن فحذفته بحصاة فقلعت عينه لم يكن عليك جناح" البخاري رقم 6902 ومسلم رقم 2158
ـ في منهج الورع والخوف على الأمّة من الوقوع في الذّنوب التي تمحق كلّ شيء ويظهر ذلك في غضبه الشّديد وهو يوجّه الأمّة و يحذّرها من الوقوع في ذلك : فعن أبي بكرة نفيع بن الحارث رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:"ألا أنبّئكم بأكبر الكبائر ؟ " ثلاثا ! ... قلنا : بلى يارسول الله ! قال : الإشراك بالله ، وعقوق الوالدين ، وكان متّكئا ،فجلس ، فقال : " ألا وقول الزّور وشهادة الزّور " فما زال يكرّرها حتّى قلنا : ليته سكت " البخاري رقم 2654 .(/16)
ـ ومنها غضبه الشّديد على من تسبّب في إلحاق الأذى بالأخوّة الشّرعيّة : عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ وَسَارُوا مَعَهُ نَحْوَ مَكَّةَ حَتَّى إِذَا كَانُوا بِشِعْبِ الْخَزَّارِ مِنَ الْجُحْفَةِ اغْتَسَلَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ وَكَانَ رَجُلًا أَبْيَضَ حَسَنَ الْجِسْمِ وَالْجِلْدِ فَنَظَرَ إِلَيْهِ عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ أَخُو بَنِي عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ وَهُوَ يَغْتَسِلُ فَقَالَ مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ وَلَا جِلْدَ مُخَبَّأَةٍ ( المخبأة : هي الفتاة في خدرها وهو كناية عن شدة بياضه ) فَلُبِطَ سَهْلٌ ( أي : صُرع وسقط على الأرض ) فَأُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقِيلَ لَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ لَكَ فِي سَهْلٍ وَاللَّهِ مَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ وَمَا يُفِيقُ قَالَ هَلْ تَتَّهِمُونَ فِيهِ مِنْ أَحَدٍ قَالُوا نَظَرَ إِلَيْهِ عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامِرًا فَتَغَيَّظَ عَلَيْهِ وَقَالَ عَلامَ يَقْتُلُ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ هَلاّ إِذَا رَأَيْتَ مَا يُعْجِبُكَ بَرَّكْتَ ثُمَّ قَالَ لَهُ اغْتَسِلْ لَهُ فَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ وَمِرْفَقَيْهِ وَرُكْبَتَيْهِ وَأَطْرَافَ رِجْلَيْهِ وَدَاخِلَةَ إِزَارِهِ فِي قَدَحٍ ثُمَّ صُبَّ ذَلِكَ الْمَاءُ عَلَيْهِ يَصُبُّهُ رَجُلٌ عَلَى رَأْسِهِ وَظَهْرِهِ مِنْ خَلْفِهِ يُكْفِئُ الْقَدَحَ وَرَاءَهُ فَفَعَلَ بِهِ ذَلِكَ فَرَاحَ سَهْلٌ مَعَ النَّاسِ لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ المسند 3/486 وقال الهيثمي : رجال أحمد رجال الصحيح ، المجمع 5/107.
قال أبو مسعود البدري:" كنت أضرب غلاما لي بالسّوط ، فسمعت صوتا من خلفي:" إعلم أبا مسعود فلم أفهم الصّوت من الغضب ، قال: فلمّا دنا منّي إذا هو رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فإذا هو يقول: " إعلم أبا مسعود إعلم أبا مسعود!!! قال: فألقيت السّوط من يديه فقال : إعلم أبا مسعود أنّ الله أقدر عليك منك على هذا الغلام !!! قال: " فقلت لا أضرب مملوكا بعده أبدا ". وفي رواية:" فقلت : يارسول اللّه هو حرّ لوجه اللّه تعالى " .فقال: " أما لو لم تفعل للفحتك النّار" ... رواه مسلم رقم 1659 . قلت : "أليست هذه شدّة ولكن في الحق ّ مبعثها حبّ الخير لصاحبه والرّحمة به ..
ـ ومن الذّنوب الماحقة:
عن عائشة رضي الله عنها قالت : " ما كان خلق أبغض إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكذب، ولقد كان الرجل يكذب عند رسول الله صلى الله عليه وسلم الكذبة، فما تزال في نفسه عليه حتّى يعلم أنّه قد أحدث منها توبة . السّنن الكبرى للبيهقي 10 / 196
ـ في منهج التّعامل مع المخالف والّتي منها الهجر فقد هجر النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم بعض أصحابه الّذين آرتكبوا مخالفات شرعيّة حتّى يتوبوا ، منهم الثّلاثة الّذين تخلّفوا عن غزاة تبوك ، وهجر زينب بنت جحش رضي اللّه عنها قريبا من شهرين لمّا عابت صفيّة رضي اللّه عنها . وهجره صاحب القبّة المشرفة بالإعراض عنه حتّى هدمها . وهجره عمّار بن ياسر رضي اللّه عنه بتركه ردّ السّلام عليه لملابسته الخلوق حتّى غسله . وإعراضه عن الرّجل الّذي رأى في يده خاتما من ذهب حتّى طرحه ، وعدم ردّه السّلام على الرّجل الّذي عليه ثوبين أحمرين ... من كتاب هجر المبتدع للعلاّمة بكر أبو زيد – حفظه اللّه - .
ـ في منهج السّعة والمرونة وتعدّد الحقّ الشّرعيّ وقبول اختلاف التّنوّع :
في الصّحيح روى عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال :" سمعت هشام بن حكيم بن حزام يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستمعت لقراءته، فإذا هو يقرؤها على حروف كثيرة، لم يقرئنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكدت أساوره في الصلاة، فانتظرته حتى سلم فلببته، فقلت : من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرأ؟ قال : أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت له : كذبت، فوالله إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لهو أقرأني هذه السورة التي سمعتك، فانطلقت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أقوده، فقلت : يا رسول الله، إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها، وإنك أقرأتني سورة الفرقان، فقال : (يا هشام أقرأها). فقرأها القراءة التي سمعته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (هكذا أنزلت). ثم قال : (اقرأ يا عمر). فقرأتها التي أقرأنيها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (هكذا أنزلت). ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم : " إن القرآن أنزل على سبعة حروف، فاقرؤوا ما تيسر منه "(/17)
ـ وعن عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – قال : " هاجرت إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم فسمع رجلين آختلفا في آية ، فخرج يعرف الغضب في وجهه وقال كلاكما محسن ولا تختلفوا ، فإنّ من كان قبلكم آختلفوا فهلكوا " . البخاري رقم 3476 .
ـ عن علقمة رضي الله تعالى عنه قال :" كنا بحمص، فقرأ ابن مسعود سورة يوسف، فقال رجل : ما هكذا أنزلت، قال : قرأت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : (أحسنت). ووجد منه ريح الخمر، فقال : أتجمع أن تكذب بكتاب الله وتشرب الخمر؟ فضربه الحد. صحيح لبخاري . الجامع الصحيح - رقم : 5001
3- في المنهج الحركي :
ينكر الرّسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ويشتدّ غضبه والصّحابة مستضعفون يتخطّفهم النّاس ليعالج الضّعف بالقوّة والجزع بالصّبر و الإستعجال بالثّبات واليقين في الله تعالى ، وما أكثر ما تصيب هذه الكوارث العاملين للإسلام .
فعن خبّاب بن الأرت أنّه قال : أتيت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وهو متوسّد بردة وهو في ظلّ الكعبة ـ وقد لقينا من المشركين شدّة ـ فقلت : يا رسول الله ألا تدعو الله لنا ، فقعد وهو محمرّ وجهه فقال :" لقد كان من قبلكم ليمشط بمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم أو عصب ما يصرفه ذلك عن دينه ، وليتمّنّ الله هذا الأمر حتّى يسير الرّاكب من صنعاء إلى حضر موت لا يخاف إلاّ الله " وفي رواية " قد كان من قبلكم يؤخذ الرّجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها ، ثمّ يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه ، فيجعل نصفين ، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه ما يصدّه ذلك عن دينه ، والله ليتمّنّ الله تعالى هذا الأمر حتّى يسير الرّاكب من صنعاء إلى حضر موت فلا يخاف إلاّ الله والذّئب على غنمه ، ولكنّكم تستعجلون !!! " . البخاري رقم 6943
ـ شدّته على التّمسّك بالوحي المعصوم وهو يرسم منهج الأمّة كلّما آعتلى منبره طريق الهداية والصّلاح :
عن جابر رضي الله تعالى عنه قال : " كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا خطب آحمرّت عيناه ، وعلا صوته ، وآشتدّ غضبه ، حتّى كأنّه منذر جيش يقول : " صبّحكم ومسّاكم " ويقول : " بعثت أنا والسّاعة كهاتين " ويقرن بين أصبعيه ، السّبّابة والوسطى ، ويقول :" أمّا بعد ، فإنّ خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمّد صلّى الله عليه وسلّم ، وشرّ الأمور محدثاتها ، وكلّ بدعة ضلالة " ثمّ يقول :" أنا أولى بكلّ مؤمن من نفسه ، من ترك مالا فلأهله ، ومن ترك دينا أو ضياعا فإليّ وعليّ " مسلم رقم 2002 .
ـ وفي صلح الحديبية حيث آشتدّ عليه صلّى الله عليه وسلّم حين فرغ من كتابة الكتاب ثمّ أمر أصحابه رضي الله عنهم أن ينحروا ويحلقوا فتباطؤوا فلم يفعل واحد منهم حتّى أعاد عليهم ذلك ثلاث مرّات فلم يقم منهم رضي الله عنهم أحد ، " فآشتدّ ذلك عليه ، فدخل على أمّ سلمة رضي الله عنها فقل لها :" ألا ترين الى النّاس ؟ انّي لآمرهم بالأمر فلا يفعلونه .! وفي رواية فآشتدّ ذلك عليه ، فدخل على أمّ سلمة فقال هلك المسلمون أمرتهم أن يحلقوا وينحروا فلم يفعلوا .. آنظر الفتح 5 / 415 الحديث رقم رقم 2731 و 2732 ...
ـ ويغضب على البليد المتكلّف فعن زيد بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ رَضِي اللَّهُ عَنْه قَالَ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ عَمَّا يَلْتَقِطُهُ فَقَالَ عَرِّفْهَا سَنَةً ثُمَّ احْفَظْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءهَا فَإِنْ جَاءَ أَحَدٌ يُخْبِرُكَ بِهَا وَإِلا فَاسْتَنْفِقْهَا قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَضَالَّةُ الْغَنَمِ قَالَ لَكَ أَوْ لأَخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ قَالَ ضَالَّةُ الإِبِلِ فَتَمَعَّرَ وَجْهُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ مَا لَكَ وَلَهَا مَعَهَا حِذَاؤُهَا وَسِقَاؤُهَا تَرِدُ الْمَاءَ وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ رواه البخاري فتح 2436
عن عبد الله بن مسعود لمّا كان يوم حنين آثر لما كان يوم حنين آثر رسول الله صلى الله عليه وسلم ناسا في القسمة فأعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل وأعطى عيينة مثل ذلك وأعطى أناسا من أشراف العرب وآثرهم يومئذ في القسمة فقال رجل والله إن هذه لقسمة ما عدل فيها وما أريد فيها وجه الله قال فقلت والله لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فأتيته فأخبرته بما قال ، فتغيّر وجهه حتى كان كالصرف ثم قال فمن يعدل إن لم يعدل الله ورسوله قال ثم قال يرحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر قال قلت لا جرم لا أرفع إليه بعدها حديثا . رواه البخاري رقم 61000.و مسلم رقم 2444 . وفي رواية فغضب غضبا شديدا ، وآحمرّ وجهه ..
ومثل هذا كثير جدّا ...وآرجع إن شئت أخي القارئ إلى نصوص التّهيب في الكتاب والسّنّة فسترى ما يقنعك أنّ الشّدّة في موقعها رأفة ورحمة وهي الحكمة عينها .إذ " ما يفعل اللّه بعذابكم ان شكرتم أو آمنتم وكان الله شاكرا عليما " .النّساء147(/18)
ـ في منهج عدله في الإنكار فلا يسقط مع المحبوب بل قد يعظم إنكاره صلّى الله عليه وسلّم بالشّدّة على أحبّ النّاس إليه عائشة رضي اللّه عنها لقربها منه ، ولشدّة رغبته في حملها على الأكمل في مناسبات عديدة منها :
أ ـ قالت عائشة رضي اللّه عنها :" دخل عليّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم وفي البيت قرام - أي ستر رقيق – فيه صور ، فتلوّن وجهه ، ثمّ تناول السّتر فهتكه ، وقالت ، قال النّبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم من أشدّ النّاس عذابا يوم القيامة الّذين يصوّرون هذه الصّور .. البخاري رقم 6109 . الفتح10 –633
ب ـ وعنها رضي الله عنها أنّها قالت : " واعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جبريل عليه السّلام في ساعة يأتيه فيها ، فجاءت تلك السّاعة ولم يأته ، وفي يده عصا فألقاها من يده ، وقال :" ما يخلف الله وعده ، ولا رسله " ثمّ آلتفت فإذا جرو كلب تحت سريره ، فقال : " يا عائشة ! متى دخل هذا الكلب ها هنا ؟ " فقالت : " والله ما دريت ، فأمر به فأخرج ، فجاء جبريل فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:" واعدتني فجلست لك فلم تأت ؟ " فقال : " منعني الكلب الّذي في بيتك ، إنّا لا ندخل بيتا فيه كلب ولا صورة " مسلم رقم 5478
ـ في منهج القول على الله بغير علم :
عن عبد الله بن عتبة قال : إنّ سبيعة بنت الحارث الأسلمية وضعت بعد وفاة زوجها بليال، فمر بها أبو السنابل بن بعكك، فقال: قد تصنعت للأزواج إنها أربعة أشهر وعشر، فذكرت ذلك سبيعة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كذب أبو السنابل أو ليس كما قال أبو السنابل: قد حللت فتزوجي – هذا لفظ حديث الشافعي وحديث سعدان مختصر أنّ سبيعة بنت الحارث وضعت بعد وفاة زوجها بشهر أو أقل، فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تنكح . حديث مرسل . السنن الكبرى للبيهقي7 / 429
وعنه أيضا أنّ سبيعة بنت الحارث وضعت بعد وفاة زوجها بخمسة عشر يوما فمر بها أبو السنابل، فقال: كأنك تريدين الزوج، فقالت: نعم، أو كما قالت، قال: لا، حتى تمضي أربعة أشهر وعشرا، فأتت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فذكرت ذلك له، فقال: كذب أبو السنابل ، إذا أتاك من ترضين فأخبريني . السنن الكبرى للبيهقي/ 10 : 210مرسل حسن وله شواهد .
ـ في العقيدة : العقيدة في الصّحابة وموقع أبي بكر الصّدّيق رضي الله عنه :
روى البخاري رحمه الله تعالى في كتاب التفسير من صحيحه عن أَبي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه قال : كَانَتْ بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ مُحَاوَرَةٌ فَأَغْضَبَ أَبُو بَكْرٍ عُمَرَ فَانْصَرَفَ عَنْهُ عُمَرُ مُغْضَبًا فَاتَّبَعَهُ أَبُو بَكْرٍ يَسْأَلُهُ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَهُ فَلَمْ يَفْعَلْ حَتَّى أَغْلَقَ بَابَهُ فِي وَجْهِهِ فَأَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ وَنَحْنُ عِنْدَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَّا صَاحِبُكُمْ هَذَا فَقَدْ غَامَرَ ( أي : دخل في خصومة ) قَالَ وَنَدِمَ عُمَرُ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ فَأَقْبَلَ حَتَّى سَلَّمَ وَجَلَسَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَصَّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخَبَرَ قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ وَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَعَلَ أَبُو بَكْرٍ يَقُولُ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لأَنَا كُنْتُ أَظْلَمَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فلمّا كان إسلام وإيمان وجهاد أبي بكر الصّدّيق - رضي الله عنه - متقدّماً على إسلام وإيمان وجهاد الصّحابة جميعا .. فقد فرّق بينهم في المنزلة :حتى في خلاف حصل بين أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- وبين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- .. نجد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- يراعي هذا الضابط والمقياس، فيقول -صلى الله عليه وسلم- لعمر بن الخطاب -رضي الله عنه- زاجراً وناهياً ـ والفاروق عمر هو من هو ـ:" إن الله بعثني إليكم فقلتم: كذبتَ، وقال أبو بكرٍ: صدقتَ، وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركو لي صاحبي .. فهل أنتم تاركو لي صاحبي " مرتين، وفي رواية " هَلْ أَنْتُمْ تَارِكُونَ لِي صَاحِبِي هَلْ أَنْتُمْ تَارِكُونَ لِي صَاحِبِي إِنِّي قُلْتُ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا فَقُلْتُمْ كَذَبْتَ وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ صَدَقْتَ آنظر إلى الفتح 4640 فما أُوذي بعدها. والحديث مخرج عند البخاري في صحيحه ، وفيه أن أبا بكر - رضي الله عنه - لما رأى من غضب النبي -صلى الله عليه وسلم - على عمر، أشفق على عمر .. وأخذ يهدئ من غضب النبي - صلّى الله عليه وسلّم- ويقول: " يا رسولَ الله، والله أنا كنتُ أظلمُ .. والله أنا كنت أظلمُ " مرّتين!.
ومن إنكاره العمليّ :(/19)
تعدّد إنكاره صلّى الله عليه وآله وسلّم العمليّ فهو إلى جانب إنكاره بالقول في الحالة الواحدة فيصاحبها أحيانا بحركة من حركات الجسد دلالة على شدّة غضبه صلّى الله عليه وآله وسلّم ومن هذه الحالات :
أن ينكر بالهجرالشّرعي : فقد هجر النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم بعض أصحابه الّذين آرتكبوا مخالفات شرعيّة حتّى يتوبوا ، منهم الثّلاثة الّذين تخلّفوا عن غزاة تبوك ، وهجر زينب بنت جحش رضي اللّه عنها قريبا من شهرين لمّا عابت صفيّة رضي اللّه عنها . وهجره صاحب القبّة المشرفة بالإعراض عنه حتّى هدمها . وهجره عمّار بن ياسر رضي اللّه عنه بتركه ردّ السّلام عليه لملابسته الخلوق حتّى غسله . وإعراضه عن الرّجل الّذي رأى في يده خاتما من ذهب حتّى طرحه ، وعدم ردّه السّلام على الرّجل الّذي عليه ثوبين أحمرين ..." من كتاب هجر المبتدع للعلاّمة بكر أبو زيد .
ـ أن ينكر بتبسّم المغضب : قد يتبسّم تبسّم المغضب على من يستحقّ في قصّة كعب الّذي تخلّف عن تبوك قال كعب بن مالك - رضي اللّه عنه – فلمّا سلّمت عليه تبسّم تبسّم المغضب .
ـ أن ينكر بحكّ النّخامة : وفي صحيح البخاري رحمه الله تعالى عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى نُخَامَةً فِي الْقِبْلَةِ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ حَتَّى رُئِيَ فِي وَجْهِهِ فَقَامَ فَحَكَّهُ بِيَدِهِ فَقَالَ إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا قَامَ فِي صَلاتِهِ فَإِنَّهُ يُنَاجِي رَبَّهُ أَوْ إِنَّ رَبَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ فَلا يَبْزُقَنَّ أَحَدُكُمْ قِبَلَ قِبْلَتِهِ وَلَكِنْ عَنْ يَسَارِهِ أَوْ تَحْتَ قَدَمَيْهِ ثُمَّ أَخَذَ طَرَفَ رِدَائِهِ فَبَصَقَ فِيهِ ثُمَّ رَدَّ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَقَالَ أَوْ يَفْعَلُ هَكَذَا فتح 405 .
ـ بل قد يذهب الإنكار من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى أعظم الأمور: في البخاري ومسلم أنّ رجلا آطّلع في حجر النّبيء صلى الله عليه وآله وسلّم ـ وفي رواية أخرى ـ في حجرة في دار النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ومع رسول اللّه مذرى يحكّ به رأسه ، فلمّا رآه رسول اللّه صلّ ى الله عليه وآله وسلّم قال : لو أعلم أنّك تنظرني لطعنت به في عينيك ، إنّما جعل الأذن من قبل البصر " البخاري رقم 6901 ومسلم رقم 40-2156
ـ أن ينكر برمي أصحابه بالتّراب دلالة على شدّة غضبه صلّى الله عليه وسلّم : عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه قال : لقد جلست أنا وأخي ، وإذا مشيخة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم جلوس عند باب من أبوابه ، فكرهنا أن نفرّق بينهم ، فجلسنا حجرة ، إذ ذكروا آية من القرآن ، فتماروا فيها ، حتّى آرتفعت أصواتهم ، فخرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم مغضبا قد آحمرّ وجهه ، يرمييهم بالتّراب ، ويقول :" مهلا يا قوم ! بهذا أهلكت الأمم من قبلكم ، بآختلافهم على أنبيائهم ، وضربهم الكتب بعضها ببعض ، إنّ القرآن لم ينزل يكذّب بعضه بعضا ، بل يصدّق بعضه بعضا ، فما عرفتم منه فآعملوا به ، وما جهلتم منه فردّوه إلى عالمه " . صحيح . أخرجه الإمام أحمد َوالبغوي في شرح السّنّة وصحّح الألباني في شرح الطّحاويّة برقم 174
ـ أن ينكر بالهتك : قالت عائشة رضي اللّه عنها :" دخل عليّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم وفي البيت قرام - أي ستر رقيق – فيه صور ، فتلوّن وجهه ، ثمّ تناول السّتر فهتكه ، وقالت ، قال النّبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم من أشدّ النّاس عذابا يوم القيامة الّذين يصوّرون هذه الصّور .. البخاري رقم 6109 . الفتح10 –633 .
ـ أن ينكر بضرب فخذه : قد يشتدّ غضبه على المجادل ولو كان عليّا بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه : روى البخاري رحمه الله عن عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه قَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَرَقَهُ وَفَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلام بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُمْ أَلا تُصَلُّونَ فَقَالَ عَلِيٌّ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا أَنْفُسُنَا بِيَدِ اللَّهِ فَإِذَا شَاءَ أَنْ يَبْعَثَنَا بَعَثَنَا فَانْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَالَ لَهُ ذَلِكَ وَلَمْ يَرْجِعْ إِلَيْهِ شَيْئًا ثُمَّ سَمِعَهُ وَهُوَ مُدْبِرٌ يَضْرِبُ فَخِذَهُ وَهُوَ يَقُولُ ( وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلا ) وكلام علي رضي الله عنه يحتمل أمورا يُنظر الفتح 7347 ...(/20)
ــ أن ينكر بنزع المنكر بشدّة على احد أصحابه لمجرّد مخالفة واحدة : عن آبن عبّاس – رضي اللّه عنهما – أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأى خاتما من ذهب في يد رجل فنزعه وطرحه ، وقال يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيطرحها في يده ؟ فقيل للرّجل بعدما ذهب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم خذ خاتمك آنتفع به . قال لا والله ، لا أخذه ، وقد طرحه رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم... رواه مسلم .
أن ينكر بالإعراض على من يأتيه من بعيد ولأوّل مرّة فيقسو عليه لمخالفة هي عند النّاس اليوم بسيطة. فهل يكون الرّسول صلّى الله عليه وآله وسلم بأبي هو وأمّي بذلك متشنّجا – حاشاه اللّه – عن أبي سعيد – رضي الله عنه - أنّ رجلا قدم من نجران إلى رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم وعليه خاتم من ذهب ، فأعرض عنه رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم وقال انّك جئتني وفي يدك جمرة من نار " .. رواه النّسائيّ وصحّحه الألباني .آنظر صحيح التذرغيب والتّرهيب 2/ 469
قلت: فهل يمكن أن نقول إنّ الرّسول صلّى الله عليه وآله وسلّم في سلوكه هذا مع الرّجل الغريب الّذي سيقابل الرّسول لأوّل مرّة أنّه متشنّج...
ومن ذلك: أنّ رجلا جاء يبايع الرّسول صلّى الله عليه وآله وسلّم فأعرض عنه لمخالفة شرعيّة والرّجل جاهل بذلك عن عقبة بن عامر – رضي الله عنه – أنّه جاء في ركب عشرة إلى رسول اللّّّّّّّه صلى الله عليه وآله وسلم فبايع تسعة ، وأمسك عن رجل منهم ، فقالوا ما شأنه ؟ فقال : " إنّ في عضده تميمة ، فقطّع الرّجل التّميمة ، فبايعه رسول اللّه صلّى الله عليه وآله وسلّم ثمّ قال : " من علّق فقد أشرك ".. رواه أحمد والحاكم واللّفظ له ، ورواة أحمد ثقات آنظر صحيح التّرغيب والتّرهيب 3 / 483 .
ـ أن ينكر بالرّكض برجله : عن يعيش بن طهفة الغفاري عن أبيه قال ضفت رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم فيمن تضيفه من المساكين فخرج رسول اللّه صلّى الله عليه وآله وسلّم في اللّيل يتعاهد ضيفه فرآني منبطحا على بطني ، فركضني برجله وقال:" لا تضطجع هذه الضّجعة فإنّها ضجعة يبغضها اللّه عزّ وجلّ ". وفي رواية " فركضه برجله فأيقظه فقال هذه ضجعة أهل النّار " رواه أحمد الفتح الرّبّاني14 / 244-245 . ورواه التّرمذي رقم 2798.. ورواه أبو داود في سننه رقم 5040 وهو في صحيح الجامع2270 -2271
ـ أن ينكر بالإنتهار : وعن المغيرة بن شعبة أنّ رسول اللّه صلّى الله عليه وآله وسلّم أكل طعاما ثمّ أقيمت الصّلاة فقام ، وقد كان توضّأ قبل ذلك ، فأتيته بماء ليتوضّأ منه ، فآنتهرني ، وقال وراءك ، فساءني واللّه ذلك ، ثمّ صلّى ، فشكوت ذلك إلى عمر ، فقال يا نبيّ اللّه ، انّ المغيرة قد شقّ عليه آنتهارك ايّاه ، وخشي أن يكون في نفسك عليه شيء ، فقال النّبيء صلى الله عليه وآله وسلّم ليس عليه في نفسي شيء إلاّ خير ، ولكن أتاني بماء لأتوضّأ به ، وانّما أكلت طعاما ، ولو فعلته ، فعل ذلك النّاس بعدي المسند 4/ 253 .
ـ أن ينكر بالدّعاء على من أفتى بغير علم : بل قد يشتدّ إنكاره بالدّعاء على من أفتى بغير علم أو من لا يراعي الأحوال روى جابر – رضي اللّه عنه - قال :" خرجنا في سفر، فأصاب رجلا منّا حجر فشجّه في رأسه ثمّ آحتلم ، فسأل أصحابه فقال: هل تجدون لي رخصة في التّيمّم ؟ فقالوا : ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء !!! فآغتسل فمات . فلمّا قدمنا على النّبيء صلّى الله عليه وآله وسلّم اخبر بذلك ، فقال:" قتلوه قتلهم الله ألا سألوا اذ لم يعلموا فإنّما شفاء العيّ السّؤال " . حسّنه الألباني في صحيح أبي داود رقم 325 وأشار إلى ضعف الزّيادة في آخره ...
ـ كما يدعو على من أصرّ على الأكل بالشّمال : روى مسلم رحمه الله : أَنَّ رَجُلا أَكَلَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشِمَالِهِ فَقَالَ كُلْ بِيَمِينِكَ قَالَ لا أَسْتَطِيعُ قَالَ لا اسْتَطَعْتَ مَا مَنَعَهُ إِلا الْكِبْرُ قَالَ فَمَا رَفَعَهَا إِلَى فِيهِ رقم 2021 .
وفي رواية لأحمد : عن إِيَاسِ بْنِ سَلَمَةَ ابْنِ الأَكْوَعِ أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لِرَجُلٍ يُقَالُ لَهُ بُسْرُ بْنُ رَاعِي الْعِيرِ أَبْصَرَهُ يَأْكُلُ بِشِمَالِهِ فَقَالَ كُلْ بِيَمِينِكَ فَقَالَ لا أَسْتَطِيعُ فَقَالَ لا اسْتَطَعْتَ قَالَ فَمَا وَصَلَتْ يَمِينُهُ إِلَى فَمِهِ بَعْدُ .المسند 4/45 .
قال النّووي رحمه الله تعالى : وفي هذا الحديث جواز الدعاء على من خالف الحكم الشرعي بلا عذر وفيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في كل حال حتى في حال الأكل . شرح صحيح مسلم 13/ 192. ولذلك قال عبد الرّحمان بن مهدي دخلت عند مالك وعنده رجل يسأله عن القرآن ، فقال لعلّك من أصحاب عمرو بن عبيد ، لعن اللّه عمرا فانّه آبتدع هذه البدعة من الكلام .. مناقب مالك للزّواوي ص147(/21)
قلت : ويؤخذ من هذا أن يجرّح المعاند تماما كما يصحّح الجاهل كما في قصّة الرّجل الذي بال في المسجد فما كان منه صلّى الله عليه وآله وسلّم إلاّ أن عذره وعلّمه .
ـ كما يدعو على من لم يرض بتفاؤل النّبيّ وبدعائه له وبقدر الله تعالى : روى عبد الله بن عبّاس رضي الله عنهما أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم دخل على أعرابي يعوده ، قال : وكان النّبيّ صلىّ الله عليه وسلّم إذا دخل على مريض يعوده قال له : " لا بأس ، طهور إن شاء الله " . قال : قلت : طهور ؟ كلا ، بل هي حمى تفور ، أو تثور ، على شيخ كبير ، تزيره القبور . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " فنعم إذن " الجامع الصّحيح رقم 5656 .
ـ أن ينكر بتحريض النّاس على المخالف : بل قد يدفع النّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النّاس إلى الإنكار الشّديد ولو أدّى ذلك إلى التّلاعن بينهم : فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْكُو جَارَهُ فَقَالَ اذْهَبْ فَاصْبِرْ فَأَتَاهُ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاثًا فَقَالَ اذْهَبْ فَاطْرَحْ مَتَاعَكَ فِي الطَّرِيقِ فَطَرَحَ مَتَاعَهُ فِي الطَّرِيقِ فَجَعَلَ النَّاسُ يَسْأَلُونَهُ فَيُخْبِرُهُمْ خَبَرَهُ فَجَعَلَ النَّاسُ يَلْعَنُونَهُ فَعَلَ اللَّهُ بِهِ وَفَعَلَ وَفَعَلَ فَجَاءَ إِلَيْهِ جَارُهُ فَقَالَ لَهُ ارْجِعْ لا تَرَى مِنِّي شَيْئًا تَكْرَهُهُ رواه أبو داود كتاب الأدب باب : في حق الجوار رقم 5153 وهو في صحيح أبي داود 4292 ...
إنكاره صلّى اللّه عليه وآله وسلّم في مسائل العقيدة والمنهج أشدّ:
التّعظيم البدعي ّلأبناء النّبيّ : يوم مات إبراهيم إبنه وآنكساف الشّمس : عن المغيرة بن شعبة قال انكسفت الشّمس يوم مات ابراهيم ، فقال النّاس انكسفت لموت إبراهيم فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إنّ الشّمس والقمر آيتان من آيات اللّه لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته ، فإذا رأيتموهما فادعوا اللّه وصلّوا حتّى ينجلي البخاري رقم 1061
ـ في ذات أنواط : عن أبي واقد اللّيثي أنّ رسول اللّه صلّى الله عليه وآله وسلّم لمّا خرج الى حنين مرّ بشجرة للمشركين يقال لها ذات أنواط ، يعلّقون عليها أسلحتهم ، فقالوا يارسول اللّه آجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط ، فقال النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم سبحان اللّه ، هذا كما قال قوم موسى اجعل لنا إلاها كما لهم آلهة قال انّكم قوما تجهلون انّها لسنن لتركبنّ سنن من كان قبلكم سنّة سنّة " لمسند 5/218
ـ في الخوض في القدر والتنازع في القرآن : ففي سنن ابن ماجة عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَصْحَابِهِ وَهُمْ يَخْتَصِمُونَ فِي الْقَدَرِ فَكَأَنَّمَا يُفْقَأُ فِي وَجْهِهِ حَبُّ الرُّمَّانِ مِنَ الْغَضَبِ فَقَالَ بِهَذَا أُمِرْتُمْ أَوْ لِهَذَا خُلِقْتُمْ تَضْرِبُونَ الْقُرْآنَ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ بِهَذَا هَلَكَتِ الأُمَمُ قَبْلَكُمْ قَالَ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو مَا غَبَطْتُ نَفْسِي بِمَجْلِسٍ تَخَلَّفْتُ فِيهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا غَبَطْتُ نَفْسِي بِذَلِكَ الْمَجْلِسِ وَتَخَلُّفِي عَنْهُ رواه ابن ماجة رقم 85 وقال في الزوائد : هذا إسناد صحيح رجاله ثقات وقال في صحيح ابن ماجة : حسن صحيح رقم 69 وعند ابن أبي عاصم في كتاب السنة : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه وهم يتنازعون في القدر ، هذا ينزع آية وهذا ينزع آية فكأنما سُفي في وجهه حب الرمان فقال ألهذا خلقتم أم بهذا أُمرتم لا تضربوا كتاب الله بعضه ببعض انظروا ما أُمرتم به فاتبعوه وما نُهيتم عنه فاجتنبوه . السّنّة لابن أبي عاصم ت: الألباني رقم 406 وقال : إسناده حسن
ـ بل قد يرميهم بالتّراب دلالة على شدّة غضبه صلى الله عليه وسلم : عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه قال : لقد جلست أنا وأخي ، وإذا مشيخة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم جلوس عند باب من أبوابه ، فكرهنا أن نفرّق بينهم ، فجلسنا حجرة ، إذ ذكروا آية من القرآن ، فتماروا فيها ، حتّى آرتفعت أصواتهم ، فخرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم مغضبا قد آحمرّ وجهه ، يرمييهم بالتّراب ، ويقول :" مهلا يا قوم ! بهذا أهلكت الأمم من قبلكم ، بآختلافهم على أنبيائهم ، وضربهم الكتب بعضها ببعض ، إنّ القرآن لم ينزل يكذّب بعضه بعضا ، بل يصدّق بعضه بعضا ، فما عرفتم منه فآعملوا به ، وما جهلتم منه فردّوه إلى عالمه " . صحيح . أخرجه الإمام أحمد َوالبغوي في شرح السّنّة وصحّح الألباني في شرح الطّحاويّة برقم 174(/22)
ـ وعلى المجادلين في القدر : قال أحمد في المسند حدثنا إسماعيل حدثنا داود بن أبي هند عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن نفراً كانوا جلوسا بباب النبي صلى الله عليه وسلم ( فقال بعضهم ألم يقل الله كذا وكذا وقال بعضهم ألم يقل الله كذا وكذا فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج فكأنما فقيء في وجهه حب الرمان فقال أبهذا أمرتم أو بهذا بعثتم أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض إنما ضلت الأمم قبلكم بمثل هذا إنكم لستم مما ههنا في شيء انظروا الذي أمرتكم به فاعملوا به والذي نهيتكم عنه فانتهوا عنه ) وقال حدثنا يونس حدثنا حماد بن سلمة عن حميد ومطر الوراق وداود ابن أبي هند أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على أصحابه وهم يتنازعون في القدر فذكر الحديث ، وقال أحمد : حدثنا أنس بن عياض حدثنا أبو حازم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال لقد جلست أنا وأخي مجلسا ما أحب أن لي به حمر النعم أقبلت أنا وأخي وإذا مشيخة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم جلوس عند باب من أبوابه فكرهنا أن نفرق بينهم فجلسنا حجرة إذ ذكروا آية من القرآن فتماروا فيها حتى ارتفعت أصواتهم ( فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مغضبا قد احمر وجهه يرميهم بالتراب ويقول مهلا يا قوم بهذا أهلكت الأمم من قبلكم باختلافهم على أنبيائهم وضربهم الكتب بعضها ببعض إن القرآن لم ينزل يكذب بعضه بعضا وإنما نزل يصدق بعضه بعضا فما عرفتم منه فاعملوا به وما جهلتم منه فردوه إلى عالمه) وقال أحمد : حدثنا أبو معاوية حدثنا داود بن أبي هند عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذات يوم والناس يتكلمون في القدر قال فكأنما تفقأ في وجهه حب الرمان من الغضب قال فقال لهم : " ما لكم تضربون كتاب الله بعضه ببعض بهذا هلك من كان قبلكم " قال فما غبطت نفسي بمجلس فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم أشهده ما غبطت نفسي بذلك المجلس إذا لم أشهده . هذا حديث محفوظ عن عمرو بن شعيب رواه عنه النسائي ورواه ابن ماجة في سننه من حديث أبي معاوية كما سقناه ، وقد كتب أحمد في رسالته إلى المتوكل هذا الحديث وجعل يقول لهم في مناظرته يوم الدار ، إنا قد نهينا أن نضرب كتاب الله بعضه ببعض وهذا لعلمه رحمه الله بما في خلاف هذا الحديث من الفساد العظيم وقد روى هذا المعنى الترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وقال حديث حسن غريب قال وفي الباب عن عمر وعائشة وأنس........ أ.هـ
ـ في مصدر التّلقّي : وممّا حصل من غضبه صلّى الله عليه وآله وسلّم إنكارا في مسألة من الأساسات ما حصل في قصّة عمر رضي الله عنه في قضيّة مصدر التّلقّي فقد روى أحمد رحمه الله تعالى في مسنده عَنْ جَابِرِ ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكِتَابٍ أَصَابَهُ مِنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكُتُبِ فَقَرَأَهُ (!) النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَغَضِبَ فَقَالَ أَمُتَهَوِّكُونَ فِيهَا يَا ابْنَ الْخَطَّابِ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً لا تَسْأَلُوهُمْ عَنْ شَيْءٍ فَيُخْبِرُوكُمْ بِحَقٍّ فَتُكَذِّبُوا بِهِ أَوْ بِبَاطِلٍ فَتُصَدِّقُوا بِهِ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ حَيًّا مَا وَسِعَهُ إِلا أَنْ يَتَّبِعَنِي مسند أحمد 3/387 وحسنه الألباني بشواهده في الإرواء رقم 1589 ومعنى متهوكون أي : متحيرون
وقد روى الحديث أيضا الدارمي رحمه الله تعالى عَنْ جَابِرٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنُسْخَةٍ مِنَ التَّوْرَاةِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذِهِ نُسْخَةٌ مِنَ التَّوْرَاةِ فَسَكَتَ فَجَعَلَ يَقْرَأُ وَوَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ يَتَغَيَّرُ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ ثَكِلَتْكَ الثَّوَاكِلُ مَا تَرَى مَا بِوَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَظَرَ عُمَرُ إِلَى وَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ وَغَضَبِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَضِينَا بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالإِسْلامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ بَدَا لَكُمْ مُوسَى فَاتَّبَعْتُمُوهُ وَتَرَكْتُمُونِي لَضَلَلْتُمْ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ وَلَوْ كَانَ حَيًّا وَأَدْرَكَ نُبُوَّتِي لاتَّبَعَنِي سنن الدارمي رقم 441 : المقدمة : باب ما يُتقى من تفسير حديث النبي صلى الله عليه وسلم وقول غيره عند قوله صلى الله عليه وسلم وقال المحقق عبدالله هاشم يماني : رواه أيضا أحمد بإسناد حسن وابن حبان بإسناد صحيح(/23)
ومن شواهده حديث أبي الدّرداء، قال : جاء عمر بجوامع من التوراة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله : جوامع من التوراة أخذتها من أخ لي من بني زريق فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عبد الله بن زيد ـ الذي أُريَ الأذان ـ أمسخ الله عقلك ؟ ألا ترى الذي بوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال عمر : رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا وبالقرآن إماما فسري عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم ثم قال : والذي نفس محمد بيده لو كان موسى بين أظهركم ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم ضلالا بعيدا أنتم حظي من الأمم وأنا حظكم من النبيين قال الهيثمي في المجمع : رواه الطبراني في الكبير وفيه أبو عامر القاسم بن محمد الأسدي ولم أر من ترجمه وبقية رجاله موثقون المجمع 1/174
في التّفضيل بين الأنبياء : ومنها إنكاره الشّديد على من أراد أن يفضّل بين الأنبياء فردّ على الصّحابيّ الذي غضب على اليهوديّ الذي أقسم ب والذذي ىصطفى موسى عليه السّلام على البشر ! فغضب النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم حتّى عرف تاغضب في وجهه ، ثمّ قال :" لا تفضّلوا بين أنبياء الله فإنّه ينفخ في الصّور فيصعق من في السّماوات ومن في الأرض إلاّ من شاء الله ، قال : ثمّ ينفخ فيه أخرى فأكون أوّل من بعث ، ، أو في أوّل من بعث ، فإذا موسى عليه السّلام آخذ بالعرش ، فلا أدري أحوسب يصعقته يوم الطّور ، أو بعث قبلي ، ولا أقول : إنّ أحدا أفضل من يونس بن متّى عليه السّلام " آنظر صحصح مسلم رقم 6102
لا إطراء في النّبيّ : ما رواه البخاري والترمذي عن الرُّبيِّع بنت مُعَوِّذ قالت: جاء رسول الله فدخل عليَّ غداة بُنِيَ بي فجلس على فراشي .. وجويريات لنا يضربن بدفوفهن ويندبن من قتل من آبائي يوم بدر ، إلى أن قالت إحداهن : وفينا نبي يعلم ما في غد . فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( اسكتي عن هذه ، وقولي الذي كنت تقولين قبلها )) فقد أنكر الرسول صلى الله عليه وسلم قول هذه الجارية ونهاها عن المقولة غير الجائزة .
في الطّعن في حقّ النّبوّة : ومنها ما يصدر من قول ينتهك فيها حقّ النّبوّة ويجرؤ على آتّهامها بالجور : عن عروة بن الزّبير أنّ عبد الله بن الزّبير حدّثه أنّ رجلا من الأنصار خاصم الزّبير عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في شراج الحرّة ـ أي مسائل الماء ـ الّتي يسقون بها النّخل ، فقال الأنصاري : سرّح الماء يمرّ ، فأبى عليهم ، فآختصموا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم للزّبير :" إسق يازبير ! ثمّ أرسل الماء إلى جارك " فغضب الأنصاري ، فقال : يا رسول الله ! أن كان إبن عمّتك ! فتلوّن وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثمّ قال :" يا زبير ! إسق ، ثمّ إحبس الماء حتّى يرجع إلى الجدر " . فقال الزّبير : والله ! إنّي لأحسب هذه الآية نزلت في ذلك : " فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم ّلا يجدوا في أنفسهم حرجا ممّا قضيت ويسلّموا تسليما " النّساء 65 ولتجلية الأمر فإنّ القاضي عياض قال : حكى الدّاودي : أنّ هذا الرّجل الذي خاصم الزّبير كان منافقا . وقوله في الحديث : أنّه أنصاري لا يخالف هذا ، لأنّه كان من قبيلتهم لا من الأنصار المسلمين " آنظر شرح صحيح مسلم للإمام النّووي 15 / 107
ولا بدّ أن أشير هنا إلى أمر تنبيه العلاّمة إبن حجر حينما قال :" قال العلماء في نهيه صلّى الله عليه وسلّم عن التّفضيل بين الأنبياء إنّما نهى عن ذلك من يقوله برأيه لا من يقوله بدليل أو من يقوله بحيث يؤدّي إلى تنقيص المفضول أو يؤدّي إلى الخصومة والتّنازع ... وقيل : النّهي عن التّفضيل إنّما هو في حقّ النّبوّة نفسها كقوله تعالى :" لا نفرّق بين رسله " البقرة 285 ولم ينه عن تفضيل بعض الذّوات على بعض لقوله تعالى " تلك الرّسل فضّلنا بعضها على بعض " البقرة 253 .
وكان شديد الحساسيّة لإصلاح كلّ عقائدهم حتّى فيما يتعلّق بالألفاظ :
قد تصدر ألفاظ طائشة عن أصحاب النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ولا يتركها الوحي تمرّ دون معالجة ومن ذلك :
قول ما شاء الله وشئت : قال رجل يارسول اللّه ما شاء اللّه وشئت ، فقال جعلتني للّه عدلا ؟ بل ما شاء اللّه وحده .. مسند الأمام أحمد 3/283
قول من يعصهما : أي الله ورسوله : خطب رجل عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من يطع الله ورسوله ، فقد رشد، ومن يعصهما، فقد غوى. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : "بئس خطيب القوم أنت " أخرجه مسلم في "الصحيح.(/24)
الحلف بغير الله تعالى كأن يحلف بأبيه : وكان الآنحراف في القسم مبرّرا لجمع الصّحابة والإنكار على من حلف بغير اللّه تعالى فعن آبن عمر – رضي الله عنهما – أنّه أدرك عمر آبن الخطّاب في ركب وهو يحلف بأبيه ، فناداهم رسول اللّه صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال " ألا إنّ اللّه ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم ، فمن كان حالفا فليحلف باللّه وإلاّ فليصمت " البخاري رقم 6108
وفي رواية عَنهْ رضي الله تعالى عنه َ أَنَّهُ :" قَالَ لا وَأَبِي ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :" مَهْ إِنَّهُ مَنْ حَلَفَ بِشَيْءٍ دُونَ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ " رواه الإمام أحمد 1/47 وقال أحمد شاكر : إسناده صحيح رقم 329
بل لقد أنكر الرّسول على من قال باطلا ولو نسب إلى راحلة فلمّا بلغته مقالة المشركين يوم الحديبية عندما بلغت ناقته الثّنيّة فقالوا : خلأت القصوا ، ردّ عليهم باطلهم بقوله :" ما خلأت وما ذاك لها بخلق "
قول مطرنا بكذا أو بكذا دون فضل الله تعالى : وهو في هذا الباب يحذّرالأمّة ممّا قد تقع فيه من شرك لفظي : فعَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّهُ قَالَ صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلاةَ الصُّبْحِ بِالْحُدَيْبِيَةِ عَلَى إِثْرِ سَمَاءٍ كَانَتْ مِنَ اللَّيْلَةِ فَلَمَّا انْصَرَفَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ هَلْ تَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ فَأَمَّا مَنْ قَالَ مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ وَأَمَّا مَنْ قَالَ بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا فَذَلِكَ كَافِرٌ بِي وَمُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ رواه البخاري : فتح رقم 846
ومنها سبّ الحمّى : وقد يكون الإنكار حتّى على المرأة في حال مرضها : عن جابر – رضي اللّه عنه – أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم دخل على أمّ السّائب أو أمّ المسيّب فقال مالك يا أم ّ السّائب - أو يا أمّ المسيّب - تزفزفين ؟ قالت الحمّى لا بارك اللّه قيها ؟ فقال لا تسبّي الحمّى فانّها تذهب خطايا بني آدم كما يذهب الكير خبث الحديد رواه مسلم .
ومنها لعن الرّيح : روى أبو داود رحمه الله تعالى في سننه عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ رَجُلًا لَعَنَ الرِّيحَ وَقَالَ مُسْلِمٌ إِنَّ رَجُلا نَازَعَتْهُ الرِّيحُ رِدَاءهُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَعَنَهَا فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا تَلْعَنْهَا فَإِنَّهَا مَأْمُورَةٌ وَإِنَّهُ مَنْ لَعَنَ شَيْئًا لَيْسَ لَهُ بِأَهْلٍ رَجَعَتِ اللَّعْنَةُ عَلَيْهِ أبو داود رقم 4908 وهو في صحيح أبي داود رقم 410
في المنهج في الدّماء :
إنكار النّبيّ الشّديد على أسامة بن زيد رضي الله عنه عندما قتل ذلك الرّجل المشرك الذي تلفّظ بكلمة التّوحيد والأحاديث الواردة في هذا المعنى كثيرة جدّا ، أذكر منها :
ـ عن جنْدَبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ أن رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ بَعْثًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى قَوْمٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَإِنَّهُمُ الْتَقَوْا فَكَانَ رَجُلٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِذَا شَاءَ أَنْ يَقْصِدَ إِلَى رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَصَدَ لَهُ فَقَتَلَهُ وَإِنَّ رَجُلا مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَصَدَ غَفْلَتَهُ قَالَ وَكُنَّا نُحَدَّثُ أَنَّهُ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ فَلَمَّا رَفَعَ عَلَيْهِ السَّيْفَ قَالَ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ فَقَتَلَهُ فَجَاءَ الْبَشِيرُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ فَأَخْبَرَهُ حَتَّى أَخْبَرَهُ خَبَرَ الرَّجُلِ كَيْفَ صَنَعَ فَدَعَاهُ فَسَأَلَهُ فَقَالَ لِمَ قَتَلْتَهُ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوْجَعَ فِي الْمُسْلِمِينَ وَقَتَلَ فُلانًا وَفُلانًا وَسَمَّى لَهُ نَفَرًا وَإِنِّي حَمَلْتُ عَلَيْهِ فَلَمَّا رَأَى السَّيْفَ قَالَ لا إِلَهَ إِلّا اللَّهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَتَلْتَهُ قَالَ نَعَمْ قَالَ فَكَيْفَ تَصْنَعُ بِلا إِلَهَ إِلا اللَّهُ إِذَا جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ اسْتَغْفِرْ لِي قَالَ وَكَيْفَ تَصْنَعُ بِلا إِلَهَ إِلا اللَّهُ إِذَا جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالَ فَجَعَلَ لا يَزِيدُهُ عَلَى أَنْ يَقُولَ كَيْفَ تَصْنَعُ بِلا إِلَهَ إِلا اللَّهُ إِذَا جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رواه مسلم ط. عبد الباقي رقم 97 .(/25)
ـ وفي رواية أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنه قَالَ بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَرِيَّةٍ فَصَبَّحْنَا الْحُرَقَاتِ مِنْ جُهَيْنَةَ فَأَدْرَكْتُ رَجُلا فَقَالَ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ فَطَعَنْتُهُ فَوَقَعَ فِي نَفْسِي مِنْ ذَلِكَ فَذَكَرْتُهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَالَ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَقَتَلْتَهُ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا قَالَهَا خَوْفًا مِنَ السِّلاحِ قَالَ صلى الله عليه وسلم: " هلاّ شققت عَنْ قَلْبِهِ حَتَّى تَعْلَمَ أَقَالَهَا أَمْ لا فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا عَلَيَّ حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي أَسْلَمْتُ يَوْمَئِذٍ رواه مسلم رقم 6 . قال الذّهبي رحمه الله :" إنتفع أسامة من يوم النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم إذ يقول له :" كيف بلا إلاه إلاّ الله يا أسامة ؟! " فكفّ يده ، ولزم بيته ، فأحسن " . السّير 2 / 500 ـ 501 . قلت : ألم تكن تلك الشّدّة عليه رضي الله عنه من نبيّه الحبيب صلّى الله عليه وآله وسلّم نافعة أيّام الفتنة فلم يقتل بعدها رجلا قال كلمة التّوحيد .
أن ينكر على من يشفع في الحدود : كما أشتدّ على أحبّ النّاس إليه أسامة لمّا جاءه بما يغضب النّبيء صلّى الله عليه وآله وسلّم لمّا جاءه ليشفع للمرأة الغنيّة ، فتلوّن وجهه صلّى الله عليه وآله وسلّم وقال له:" أتشفع في حدّ من حدود اللّه " ؟ فقال له أسامة :" استغفر لي يا رسول اللّه " .. لقد كانت هذه الحادثة سببا لتجميع الصّحابة جميعا رجالا ونساءا ليرسم لهم صلّى الله عليه وآله وسلّم معلما من معالم بناء الدّول والجماعات والحضارات واستمرارها : العدل ، فقال :" أمّا بعد فانّما أهلك الّذين من قبلكم أنّهم كانوا إذا سرق فيهم الشّريف تركوه ، وإذا سرق فيهم الضّعيف أقاموا عليه الحدّ ، وإنّي والّذي نفسي بيده ، لو أنّ فاطمة بنت محمّد سرقت ، لقطعت يدها ، ثمّ أمر بتلك المرأة الّتي سرقت فقطعت يدها " الصّحيحين واللّفظ لمسلم رقم 1688 ...
ـ ومنها التّهوّك في إطراء النّاس ومدحهم : روى البخاري رحمه الله في صحيحه عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ابْنِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ أَثْنَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( وفي رواية لمسلم : فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا مِنْ رَجُلٍ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ مِنْهُ فِي كَذَا وَكَذَا صحيح مسلم رقم 3000 ) فَقَالَ وَيْلَكَ قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ مِرَارًا ثُمَّ قَالَ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَادِحًا أَخَاهُ لا مَحَالَةَ فَلْيَقُلْ أَحْسِبُ فُلانًا وَاللَّهُ حَسِيبُهُ وَلا أُزَكِّي عَلَى اللَّهِ أَحَدًا أَحْسِبُهُ كَذَا وَكَذَا إِنْ كَانَ يَعْلَمُ ذَلِكَ مِنْهُ 2662 كتاب الشهادات وفي رواية البخاري في الأدب المُفرد عن محجن الأسلمي رضي الله عنه في قصة له قال : حتى إذا كنا في المسجد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا يصلي ويسجد ويركع فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا ؟ فأخذت أُطريه فقلت : يا رسول الله هذا فلان وهذا وهذا [ وفي رواية في الأدب المفرد أيضا هذا فلان وهو من أحسن أهل المدينة صلاة ] فقال : أمسك ، لا تُسمعه فتهلكه . صحيح الأدب المفرد 137 وقال الألباني : حسن
- و منها في الحكم على النّاس بالهلاك وحبط العمل وما شابهه : عن سلمة رضي الله عنه قال : " خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى خيبر، فقال رجل منهم : أسمعنا يا عامر من هنياتك، فحدا بهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " من السائق " ؟ قالوا : عامر، فقال : " رحمه الله " . فقالوا : يا رسول الله، هلاّ أمتعتنا به ، فأصيب صبيحة ليلته ، فقال القوم : حبط عمله ! ، قتل نفسه ، فلمّا رجعت وهم يتحدّثون أنّ عامرا حبط عمله ، فجئت إلى النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم فقلت : يا نبي الله ، فداك أبي وأمّي ، زعموا أنّ عامرا حبط عمله ، فقال :" كذب من قالها ، إنّ له لأجرين اثنين، إنّه لمجاهد مجاهد، وأيّ قتل يزيده عليه." الجامع الصحيح .رقم : 6891.(/26)
كما أنّه يجب أن يعلم أنّه صلّى الله عليه وآله وسلم لم يغضب لنفسه بل كان غضبه إذ آنتهكت محارم الله تعالى ، و كان من هديه صلىّ الله عليه وآله وسلم يسامح من أخطأ في حقّه فقد جاء في صحيح البخاري رحمه الله تعالى عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ كُنْتُ أَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِ بُرْدٌ نَجْرَانِيٌّ غَلِيظُ الْحَاشِيَةِ فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ فَجَبَذَهُ بِرِدَائِهِ جَبْذَةً شَدِيدَةً حَتَّى نَظَرْتُ إِلَى صَفْحَةِ عَاتِقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَثَّرَتْ بِهَا حَاشِيَةُ الْبُرْدِ مِنْ شِدَّةِ جَبْذَتِهِ ثُمَّ قَالَ يَا مُحَمَّدُ مُرْ لِي مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي عِنْدَكَ فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ ضَحِكَ ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ ..الفتح 5809 .
فبعد كلّ هذه النّصوص الصّحيحة ، وغيرها كثير لا يحصى ولا يعدّ ، هل يمكن لكلّ ذي عينين أن لا يرى الشّمس ، ويقول نحن في منتصف ليل بارد عاصف قارص شديد السّواد ؟ هذه ـ أخي الكريم ـ نصوص ناطقة لا ينكرها إلاّ عنيد مكابر أو حزبيّ متعصّب حاقد !! فهل إذا كان سيّد الخلق ، وزين الرّجال ، وأعظم النّاس خلقا يرى المنكر ويشتدّ غضبه وقد بيّنت لك أنّه قد يضرب برجله الشّريفة مخالفه و قد يدعو عليه ، وكما لاحظت أخي القارئ أنّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ كان إنكاره وغضبه في مسائل العقيدة والمنهج أعظم وأشدّ . فكيف يعيب علينا الحزبيّون الذين تخلّوا عن الدّفاع عن الإسلام وعن قيم الشّريعة وثوابتها في التّعامل مع المخالف ، ويأخذون عرض الأدنى من النّصوص التي تروق لهم بالتّشهّي ، ونحن على الوسطيّة وإنّ الرّدّ لا بدّ أن يكون بالّتي هي أحسن وينتهي عند ذلك ويصمّ أذنيه عن كلّ النّصوص القرآنيّة والحديثيّة الآنفة الذّكر . " ومن لم يجعل الله له نور فليس له من نور " والله المستعان !!!
الحلقة الرابعة
بقلم: خميس بن عليّ الماجري(1)
مرّ معك أخي القارئ الكريم من النّصوص القرآنيّة والحديثيّة ما يثبت أنّ الشّريعة في مصدريها كتبت على الأمّة حقّ الإنكار و التّشديد فيه والغلظة بل والتّعنيف أيضا ، ولا يلتفت إلى من كانت قلوبهم باردة يرى محارم الله تعالى تنتهك ، ولا يغضب ثمّ ينهى من يغضب لذلك ، بل يرميه بالتّشدّد والتّشنّج وغير ذلك من المصطلحات التي غرفوها من أقوام أحبّ لحم لديهم أكل لحوم المصلحين. والله المستعان !!!
وهذه أخي القارئ الكريم نصوص أخرى جرى عليها عمل السّلف الفاضل في طليعتهم الصّحابة الكرام رضي الله عنهم الذين سلكوا منهج القرآن الكريم وسنّة الحبيب الشّفيع صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم.
ردّ الصّحابة وإنكارهم القولي والعمليّ:
فأجمعوا على الإنكار على أوّل بدعة التّفريق بين الصّلاة والزّكاة فأنكروا بالسّيف والقتال كما أنكروا على الخوارج المكفّرين بالمعصية والمفرّقين للجماعة بالحجّة واللّسان والبيان ثمّ بالسّيف والسّنان ...ثمّ أنكروا بعد ذلك على كلّ من نال من الوحيين المعصومين من رفض ونصب وقدريّة وإرجاء وآعتزال ....
فهذا عمر أنكر بالضّرب والنّفي من تجرّأ على الخوض في دين الله تعالى بمنهج المبتدعة كما فعل مع صبيغ في المتشابه ، وحرّق عليّ من غالى فيه وقال بإلاهيّته كما جلد من فضّله على أبي بكر وعمر رضي الله عنهم حدّ المفتري...
ـ فعل أبي بكر مع من رفض أداء الزكاة فقد أعلن الحرب على من أراد أن ينقض عروة من عرى الإسلام
ـ إنكار عليّ على الخوارج بالحجّة والبرهان بإرسال إبن عبّاس لهم فناظرهم وناظر من لم يرجع منهم بالسّيف والبنان .
ـ قتال عليّ للّذين غلوا فيه وآعتقاله أصحاب النّرد غدوة ونحوها ونهيه عن السّلام عليهم . رواه البخاري في الأدب المفرد .
ـ ولم يمنع كبر سنّ الصّحابة بل إعاقتهم من الإنكار بقسوة ، فهذا عبد الله بن عبّاس رضي الله عنهما وقد سمع برجل يكذّب بالقدر، فقال :" دلّوني عليه ، فقالوا له : ما تصنع به ؟ فقال : " والّذي نفسي بيده ، لئن آستمكنت منه لأعضّنّ أنفه حتّى أقطعه ، ولئن وقعت رقبته بيدي لأدقّنّها " . أصول اللاّلكائي 3 / 625 و 669 . السّنّة لعبد الله بن الإمام أحمد 2 / 416
ـ ما روي عن أبي بكر قوله لعروة بن مسعود الثقفي ( أمصص بظر اللاّت ) وذلك في الحديبية .
ـ ما روى مسلم رحمه الله في صحيحه ، قول كعب بن عجرة عندما رأى عبد الرحمن بن أمّ الحكم يخطب قاعداً قال : ( انظروا إلى هذا الخبيث يخطب قاعداً ..) هذا في مسألة الخطبة.
ـ وعبد الله بن الزبير عندما قال لحبر الأمة ابن عباس إيماءً ، وهو تحت أعواد منبره قال : إنّ أقواماً أعمى الله قلوبهم كما أعمى أبصارهم ، لا يزالون يفتون بالمتعة ، فردّ عليه ابن عبّاس قائلاً : " إنك لجلف جاهل لقد فُعِلَت في عهد من هو خير منك عهد إمام المتّقين " .(/27)
ـ وفي صحيح البخاري، عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال:" لعن الله الواشمات والمستوشمات، والمتنمّصات والمتفلّجات للحُسن، المغيرات لخلق الله " ، مالي لا ألعن من لعن رسولُ الله، وهو في كتاب الله "
ـ ردّ الصّحابي بشير بن سعد رضي الله عنه على عمر بن الخطّاب الخليفة الرّاشد ، وهو يختبر حزم رجاله وجدّيّتهم وثباتهم على الأصول الّتي ربّاهم عليها النّبيّ محمّد صلّى الله عليه وسلّم قائلا له :" لو فعلت قوّمناك تقويم القدح " . قالوها له عندما قال لهم :" أرأيتم لو ترخّصت في بعض الأمر ما كنتم فاعلين " ، فسكتوا ، فأعاد مرّتين أو ثلاثا ... آنظر البخاري في التّاريخ الكبير 1825
قلت : رحم الله تعالى ذلك الجيل العزيز الفريد الّذي لم يسد إلاّ بتقويمه كلّ من أخطأ ولو كان خليفة راشدا مثل عمر الفاروق ...
ـ إنكار عائشة رضي الله تعالى عنها على من آدّعى أنّ الرّسول صلّى الله عليه وسلّم كتم شيئا من الدّين : ففي الصّحيح أنّ عائشة رضي الله تعالى عنها قالت :" من حدّثك أن محمّدا صلّى الله عليه وسلّم كتم شيئا مما أنزل عليه فقد كذب، والله يقول : " يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك " الآية.
ـ ما روي مسلمٌ أيضاً في صحيحه ، قول عمارة بن رويبة لما رأى بشر بن مروان على المنبر رافعاً يديه فقال قبّح الله هاتين اليدين ، لقد رأيت رسول الله ما يزيد على أن يقول بيده هكذا ، وأشار بإصبعه المسبحة .
ـ وعبد الله بن الزبير عندما قال لحبر الأمة ابن عباس إيماءً ، وهو تحت أعواد منبره قال : إنّ أقواماً أعمى الله قلوبهم كما أعمى أبصارهم ، لا يزالون يفتون بالمتعة ، فردّ عليه ابن عبّاس قائلاً إنك لجلف جاهل لقد فُعِلَت في عهد من هو خير منك عهد إمام المتّقين .
ـ " كثيرة هي ألفاظ الصّحابة فيما بينهم عندما يجانب أحدهم الصّواب يقولون: كذب فلان ، وكذب فلان ، ففي السّنن الصّغرى تكذيب عبد الله بن سلام لأبيّ بن كعب في مسألة وقت ساعة الاستجابة يوم الجمعة قال عبدالله بن سلام : " كذب أبيّ " . وسواءًا أراد به اللّغة الحجازيّة بمعنى أخطأ أو أراد به الكذب حقيقة ، المهمّ أنّ لفظة ( كذب ) صدرت مع إمكان استخدام ألطف منها ككلمة ( أخطأ ) وهذا في مسألة ميسورة الخلاف فيها خلاف تنوّع وليس خلاف تضادّ ، وما نحن بصدده ليس من هذا الخلاف إنّما نحن وسط معمعة عظيمة من مدّعي العلم يحاولون أن يزرعوا في النّاس تعظيم العقل و اطراح النّصوص الشّرعية ، وتبجيل الرّجال ، وتقديمهم على قال الله وقال رسوله والله جل ذكره يقول { إنّما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون } . ومن ذلك التّثريب ، قول عمر رضي الله عنه لحاطب في مسألة إخبار المشركين بغزو الرّسول صلّى الله عليه وآله وسلّم لهم قال عمر لما علم بالخبر : " نافق يا رسول الله دعني أضرب عنقه فلم ينكر الرّسول صلّى الله عليه وآله وسلّم الوصف بل قال : ( سالوه ) قال ابن تيمية في الصّارم المسلول 3/664 ما نصه :" فدل على أنّ ضرب عنق المنافق من غير استتابة مشروع إذ لم ينكر النبيّ على عمر استحلال ضرب عنق المنافق ولكن أجاب بأنّ هذا ليس بمنافق ، ولكنّه من أهل بدر المغفور لهم ...."
وفي حادثة الإفك ، وما جري بين الصّحابة رضى الله عنهم من المشادة الكلاميّة بمحضر الرّسول صلّى الله عليه وآله وسلّم كما في الصّحيحين ( فقام سعد بن معاذ أحد بني عبد الأشهل فقال يا رسول الله أنا والله أعذرك منه إن كان من الأوس ضربنا عنقه وان كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا فيه أمرك فقال سعد بن عبادة وهو سيّد الخزرج وكانت أمّ حسان بنت عمّه من فخذه وكان رجلا صالحا ولكن احتملته الحميّة فقال لسعد بن معاذ كذبت لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على ذلك فقام أسيد بن حضير وهو ابن عمّ سعد يعني ابن معاذ فقال لسعد بن عبادة كذبت لعمر الله لنقتلنّه فانّك منافق تجادل عن المنافقين فثار الحيّان الأوس والخزرج حتى همّوا أن يقتتلوا ورسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قائم هذا بالنسبة للصّحابة رضي الله عنهم " .بتصرّف من كتاب " الوارف في مشروعية التّثريب على المخالف " للشّيخ عبد العزيز بن صالح الجربوع ...
قال الإمام البخاري رحمه الله: "حدثنا الحميدي: حدثنا سفيان: حدثنا عمرو بن دينار، قال: أخبرني سعيد بن جبير، قال: "قلت لابن عباس: إن نوفا البكالي يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس هو موسى صاحب بني إسرائيل. فقال ابن عباس: كذب عدو الله، حدثني أبي بن كعب: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن موسى قام خطيبا في بني إسرائيل، فسئل: أي الناس أعلم، فقال: أنا، فعتب الله عليه، إذ لم يرد العلم إليه، فأوحى الله إليه: إن لي عبدا بمجمع البحرين هو أعلم منك. قال: يا رب! وكيف به... ". (كتاب العلم، حديث 122)، (كتاب التفسير، حديث 4725).(/28)
قال الحافظ ابن حجر: " قوله : " كذب عدوّ الله " : قال ابن التّين :" لم يرد ابن عبّاس إخراج نوف عن ولاية الله، ولكنّ قلوب العلماء تنفر إذا سمعت غير الحقّ ، فيطلقون أمثال هذا الكلام ، لقصد الزّجر والتّحذير منه، وحقيقته غير مرادة " .
قال الحافظ : " قلت : ويجوز أن يكون ابن عباس اتّهم نوفا في صحّة إسلامه، فلهذا لم يقل في حقّ الحرّ بن قيس هذه المقالة، مع تواردهما عليها .
وأمّا تكذيبه، فيستفاد أنّ للعالم إذا كان عنده علم بشيء ، فسمع غيره يذكر فيه شيئا بغير علم : أن يكذّبه ، ونظيره قوله صلّى الله عليه وسلّم : "كذب أبو السّنابل "، أي: أخبر بما هو باطل في نفس الأمر" الفتح (1/219)..
وروى الإمام مسلم بسنده قال :" كان ابن عمر رضي الله عنهما إذا قيل له : الإحرام من البيداء . قال: البيداء التي تكذبون فيها على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، ما أهلّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلاّ من عند الشّجرة حين قام به بعيره " . وفي مسلم : "بلغ عمر أنّ سمرة باع خمرا ، فقال : قاتل الله سمرة ! ألم يعلم... " الحديث. آنظر صحيح مسلم باب تحريم بيع الخمر والخنزير والأصنام ...
ـ فعل عمر مع حاطب بن أبي بلتعة .
ـ هجر عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ رجلا رآه يضحك في جنازة فقال له : " والله لا أكلّمك أبدا " . رواه أحمد في الزّهد .
ـ وفي البخاري مقاطعة عبد الله بن مغفل لابن أخيه عندما لم ينته عن الحذف وقال له : " والله لا كلّمتك بعدها أبداً " . هذا في مسألة ، الحذف ، قاطع ابن أخيه فكيف بتمييع الدّين ؟!
ـ وفي الصّحيح أنّ عائشة ـ رضي الله تعالى عنها ـ قالت : " من حدّثك أن محمّدا صلّى الله عليه وسلّم كتم شيئا ممّا أنزل عليه فقد كذب ، والله يقول : " يا أيّها الرّسول بلّغ ما أنزل إليك " الآية .
ـ عن أبي الدّرداء ـ رضي الله عنه ـ أنّه خطب ، فقال : " من أدركته الصبح فلا وتر له ، فذكر ذلك لعائشة رضي الله عنها فقالت : " كذب أبو الدّرداء ، كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصبح فيوتر " . السّنن الكبرى للبيهقي 2/479 .
وهذا عبد اللّه بن الزّبير عندما قال لحبر الأمّة ابن عبّاس – إيماء – وهو تحت أعواد منبره ، قال:" إنّ أقواما أعمى اللّه قلوبهم كما أعمى أبصارهم لا يزالون يفتون بالمتعة ، فردّ عليه أبن عبّاس:" إنّك لجلف جاهل ، لقد فعلت في عهد من هو خير منك عهد إمام المتّقين " .
ـ قال المنكدر: صلّى جابر ـ رضي الله تعالى ـ عنه في إزار قد عقده من قبل قفاه ، وثيابه موضوعة على المشجب . فقال له قائل :" تصلّي في إزار واحد ؟ فقال:" إنّما صنعت ذلك ليراني أحمق مثلك ، وأيّنا كان له ثوبان على عهد رسول اللّه صلّى الله عليه وآله وسلّم " .
قال الإمام ابن حجر:" قوله في إزار فكأنّه قال : صنعته عمدا لبيان الجواز إمّا ليقتدي بي الجاهل ابتداء أو ينكر عليّ فأعلمه أنّ ذلك جائز " ثمّ قال :" . وإنّما أغلظ لهم في الخطاب زجرا عن الإنكار على العلماء ، وليحثّهم على البحث عن الأمور الشّرعيّة." . فتح الباري في شرح صحيح البخاري1/ 467(/29)
ـ وفي صحيح البخاري قال سعيد بن جبير رحمه الله تعالى : قلت لابن عباس: إن نوفا البالكي يزعم : أن موسى بني إسرائيل ليس بموسى الخضر، فقال : كذب عدوّ الله. حدثنا أبي بن كعب، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : قام موسى خطيبا في بني إسرائيل، فقيل له : أي الناس أعلم؟ قال : أنا، فعتب الله عليه، إذ لم يرد العلم إليه، وأوحى إليه : بلى، عبد من عبادي بمجمع البحرين، هو أعلم منك. قال : أي رب، كيف السبيل إليه؟ قال : تأخذ حوتا في مكتل، فحيثما فقدت الحوت فاتبعه، قال : فخرج موسى ومعه فتاه يوشع بن نون، ومعهما الحوت، حتى انتهيا إلى الصخرة فنزلا عندها، قال : فوضع موسى رأسه فنام. قال سفيان : وفي حديث غير عمرو قال : وفي أصل الصخرة عين يقال لها الحياة، لا يصيب من مائها شيء إلا حيي، فأصاب الحوت من ماء تلك العين، قال : فتحرك وانسل من المكتل فدخل البحر، فلما استيقظ موسى قال لفتاه : {آتنا غداءنا}. الآية، قال : ولم يجد النصب حتى جاوز ما أمر به، قال له فتاه يوشع بن نون : {أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت}. الآية، قال : فرجعا يقصان في آثارهما، فوجدا في البحر كالطاق ممر الحوت، فكان لفتاه عجبا وللحوت سربا، قال : فلما انتهيا إلى الصخرة، إذ هما برجل مسجى بثوب، فسلم عليه موسى، قال : وأنى بأرضك السلام، فقال : أنا موسى، قال : موسى بني إسرائيل؟ قال : نعم، قال : هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشدا. قال له الخضر : يا موسى إنك على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه، وأنا على علم من علم الله علمنيه الله لا تعلمه. قال : بل أتبعك؟ قال : فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا. فانطلقا يمشيان على الساحل، فمرت بهما سفينة فعرف الخضر، فحملوهم في سفينتهم بغير نول، يقول : بغير أجر، فركبا السفينة. قال : ووقع عصفور على حرف السفينة، فغمس منقاره في البحر، فقال الخضر لموسى : ما علمك وعلمي وعلم الخلائق في علم الله، إلا مقدار ما غمس هذا العصفور منقاره، قال : فلم يفجأ موسى إذ عمد الخضر إلى قدوم فخرق السفينة، فقال له موسى : قوم حملونا بغير نول، عمدت إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها : {لقد جئت} الآية، فانطلقا إذا هما بغلام يلعب مع الغلمان، فأخذ الخضر برأسه فقطعه، قال له موسى : أقتلت نفسا زكية بغير نفس، لقد جئت شيئا نكرا، قال : ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا - إلى قوله - فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض، فقال بيده : هكذا فأقامه، فقال له موسى : إنا دخلنا هذه القرية فلم يضيفونا ولم يطعمونا، لو شئت لا تخذت عليه أجر، قال : هذا فراق بيني وبينك، سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وددنا أن موسى صبر حتى يقص علينا من أمرهما . قال : وكان ابن عباس يقرأ : وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصبا، وأما الغلام فكان كافرا. الجامع الصحيح رقم 472 .
عن عاصم الأحول قال : سألت أنس بن مالك رضي الله عنه عن القنوات في الصلاة ؟ فقال : نعم ، فقلت : كان قبل الركوع أو بعده ؟ قال : قبله ، قلت : فإنّ فلانا أخبرني عنك قلت إنّك قلت بعده ، قال : كذب ، إنّما قنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد الركوع شهرا : إنّه كان بعث ناسا يقال لهم القرّاء ، وهم سبعون رجلا ، إلى ناس من المشركين ، وبينهم وبين الرّسول الله صلّى الله عليه وسلّم عهد قبلهم ، فظهر هؤلاء الذين كان بينهم وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عهد ، فقنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد الرّكوع شهرا يدعو عليهم." الجامع الصحيح: صحيح البخاري رقم 4096 .
ردّ عمر على أحد أصحابه وقوله له : كذبت في معنى قوله تعالى " فبذلك فليفرحوا " .....
قال الإمام إبن كثير ـ رحمه الله تعالى ـ : " قال ابن أبي حاتم في تفسير هذه الآية وذكر بسنده عن بقية بن الوليد عن صفوان بن عمرو : سمعت أيفع بن عبد الله الكلاعي يقول لما قدم خراج العراق إلى عمر رضي الله عنه خرج عمر ومولى له فجعل عمر يعد الإبل فإذا هي أكثر من ذلك فجعل عمر يقول : الحمد لله تعالى ويقول مولاه هذا والله من فضل الله ورحمته فقال عمر : كذبت ليس هذا هو الذي يقول الله تعالى " قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير ممّا يجمعون " 58 يونس . وهذا ممّا يجمعون وقد أسنده الحافظ أبو القاسم الطبراني فرواه عن أبي زرعة الدمشقي عن حيوة بن شريح عن بقية فذكره . آنظر تفسير الإمام إبن كثير للآية .
إنكارهم على أمرائهم :
إن المؤمن يفضّل أن يكاشف بالخطأ في الحال ويبيَّن له ، فهذا أحبّ إليه من السّكوت ، الذي تكون عقوبته سوءًا عليه في الدّنيا والآخرة . ومن ثمّ قال أبو بكر الصّدّيق رضي الله عنه قال : " الحمد للّه الذي جعل فينا من يحفظ علينا ديننا " .(/30)
ولا يختلف عاقلان أنّ الخطأ لابدّ منه ، فإنّ قبول النّصح من الكمال البشريّ ، وإذا كان النّقص مركّبًا فيه وهو جزء من طبيعته ، فمن الكمال أن يعرف هذا النّقص، ويعمل على تلافيه من أجل ذلك كان عمر الفاروق رضي الله عنه من أكثر من أمر رعيّته أن تنتقده إذا بدا لهم منه شيء فلربّما يكون على المنبر، ويقول لهم :" أنشدكم الله ! لا يعلم أحد منّي عيبا إلاّ عابه ! فقال رجل : نعم يا أمير المؤمنين ! فيك عيبان !!! قال : وما هما ؟ قال : تديل بين البردين ـ أي تلبسه و تخلّيه وتلبس غيره ـ ، وتجمع بين الأدميين ولا يسع ذلك النّاس . قال : فما أدال بين بردين ولا جمع بين أدميين حتّى لقي الله تعالى " الدّارمي .. ولربّما يقال له يوما : " لو رأينا فيك اعوجاجًا لقومناه بسيوفنا " .
وخطب رضي الله تعالى عنه يوما قائلا : " أيّها النّاس اسمعوا وأطيعوا ، فقام رجل من الرّعيّة من عامّة النّاس، وقال : لا سمع ولا طاعة ! فقال: لم ، رحمك الله ؟ قال : أعطيتنا ثوبًا ثوبًا ولبست ثوبين ! فقال : قم يا عبد الله بن عمر ! ، فيقوم ابن عمر ويشرح القضية أنه قد أعطاه ثوبه ، فلبس عمر ثوبه وثوب ولده عبد الله ؛ لأنّه رجل فارع الطول " .
أنكر الصّحابة ذلك الجيل الفريد على بعضهم البعض بل خالفوا الأمراء الرّاشدين فهذا عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه ينكر عل عثمان رضي الله عنه لمّا نهى الأخير عن نسك التّمتّع في الحجّ ، فأهلّ عليّ بهما بأعلى صوته قائلا : لبّيك بعمرة وحجّ " ثمّ قال :" ما كنت لأدع سنّة النّبيّ صلى الله عليه وسلم لقول أحد " البخاري 1563. قلت : فهل جامل عليّ في الحقّ وعثمان يومها أمير للمؤمنين ..
وكذلك فعل أبو ذرّ الغفاري رضي اللّه عنه لم يطع إمامه عثمان بن عفّان رضي اللّه عنه حين نهاه عن الفتيا لمنازعة حصلت بين أبي ذرّ ومعاوية رضي اللّه عنهما في تأويل قوله تعالى والّذين يكنزون الذّهب والفضّة فقال معاوية نزلت في أهل الكتاب خاصّة ،وقال أبو ذرّ نزلت فيهم وفينا فنهاه عثمان عن الفتيا ، فقال لو وضعتم الصّمصامة أي السّيف الصّارم على هذه – وأشار إلى قفاه – ثمّ ظننت أنّي أنفذ كلمة سمعتها من النّبيء صلّى اللّه عليه وآله وسلّم قبل أن تجهزوا عليّ لأنفذتها ..رواه البخاري معلّقا في كتاب العلم من صحيحة في باب العلم قبل القول والعمل وقال ابن حجر في شرحه معلّقا أنّ أبا ذرّ كان لا يرى بطاعة الإمام إذا نهاه عن الفتيا لأنّه يرى أنّ ّذلك واجب عليه لأمر النّبيء صلّى اللّه عليه وآله وسلّم بالتّبليغ عنه كما تقدّم ، ولعلّه أيضا سمع الوعيد في حقّ من كتم علما يعلمه ...وفيه الحثّ على تعليم العلم و آحتمال المشقّة فيه والصّبر على الأذى فيه طلبا للثّواب فتح الباري1- 161
ـ ومنها ما حدث من إنكار إبن عبّاس على معاوية رضي الله عنهم لمّا آستلم الأخير أركان البيت كلّها ، فقال له أبن عبّاس رضي الله عنهما أمام النّاس علنا ومعاوية رضي الله عنه يستلم الأركان الأربعة : " إنّ رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم لم يستلم هذين الرّكنين " ، فقال معاوية :" دعني منك يا آبن عبّاس فإنّه ليس منها شيء مهجور " فطفق آبن عبّاس لا يزيده كلّما وضع يده على شيء من الرّكنين قال له ذلك " الإمام أحمد في مسنده عن أبي الطّفيل 2210 والبيهقي في الكبرى بنحوه 9023 والهيثمي في المجمع 3 / 240 . وقال : رواه أحمد ورجاله رجال الصّحيح .
ـ ومثل ذلك ما حدث مع عبادة بن الصّامت أو أبي الدّرداء - على رواية مالك والشّافعي – في خلاف له مع معاوية رضي الله عنهم جميعا في مسألة ربويّة فقال له عبادة أحدّثك عن رسول الله وتحدّثني عن رأيك ؟ لئن أخرجني الله لا أساكنك بأرض لك عليّ فيها إمرة . ولمّا خرج شكاه إلى عمر رضي الله عنه ، فكتب إليه عمر لا إمرة لك عليه وآحمل النّاس على ما قاله فانّه هو الأمر . رواه أبن ماجة 161
ـ ومنها إنكار المرأة المشهور على عمر الفاروق ...
ـ ومنها ما حصل لأبي سعيد الخدري عن طارق بن شهاب قال: أول من بدأ بالخطبة يوم العيد قبل الصلاة مروان , فقام إليه رجلٌ فقال : الصلاة قبل الخطبة , فقال : قد تُرك ما هنالك , فقال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه : أمّا هذا فقد قضى ما عليه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من رأى منكم منكراً فليغيّره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه, وذلك أضعف الإيمان). صحيح مسلم 49.
وفي بعض روايات الحديث أن أبا سعيد قال: خرجت مخاصراً مروان حتى أتينا المصلّى, فإذا كثير بن الصلت قد بنى منبراً من طين ولبن, فإذا مروان ينازعني يده كأنه يجرني نحو المنبر وأنا أجرُّه نحو الصّلاة فلما رأيت ذلك منه قلت: أين الابتداء بالصلاة ؟ فقال: لا يا أبا سعيد قد ترك ما تعلم قلت كلا والذي نفسي بيده لا تأتون بخير مما أعلم ثلاثاً ثم انصرف. صحيح البخاري 956؛ صحيح مسلم 889.(/31)
ـ ومنها ما روى عبد الرّزاق في مصنَّفه عن عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عُمَرو قد سَأَلَهُ رَجُلٌ ، أَتُحَرِّمُ رَضْعَةٌ أَوْ رَضْعَتَانِ ؟ فَقَالَ : مَا نَعْلَمُ الأُخْتَ مِنَ الرَّضَاعَةِ إِلاّ حَرَامًا ! فَقَالَ رَجُلٌ : إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ - يُرِيدُ ابْنَ الزُّبَيْرِـ يَزْعُمُ أَنَّهُ لا تُحَرِّمُ رَضْعَةٌ وَ لا رضعتان ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ : قَضَاءُ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ قَضَائِكَ وَ قَضَاءِ أَمِير الْمُؤْمِنِينَ . و رواه بنحوه الدارقطني و سعيد بن منصور كلّ منهما في سننه .
وأنكروا بمقاطعة أولادهم :
فقد بلغت شدّة الصّحابة في الإنكار إلى مقاطعة فلذات أكبادهم لمّا خالف الأبناء السّنّة ، فهذا ابن عمر ينكر على إبنه أشدّ الإنكار ويقسو عليه ويقاطعه حتّى الموت ولا يبالي فعنه رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلّى اللّه عليه وآله وسلّم يقول :" لا تمنعوا نساءكم المساجد إذا آستاذنّكم إليها ! قال فقال بلال بن عبد الله بن عمر : والله لمنعهنّ ! قال : فأقبل عليه عبد الله يسبّه سبّا سيّئا ما سمعته سبّه مثله قطّ ، وقال أخبرك عن رسول الله صلّى اللّه عليه وآله وسلّم وتقول والله لمنعهنّ ! متّفق عليه واللفظ لمسلم في صحيحه رقم 134و 140 . فلم يسكت رضي الله عنه على آبنه الّذي دفعته الغيرة لتغيّر بعض النّساء ولم يكلّمه حتّى فارق الحياة !
وأنكروا بمقاطعة المعاند وهجره :
عن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه انّه رأى رجلا يحذف ، فقال له لا تحذف فانّ رسول الله صلّى اللّه عليه وآله وسلّم نهى عن الحذف – أو كان يكره الحذف - وقال انّه لا يصاد به صيد ولا ينكأ به عدوّ ولكنّها قد تكسّر السّنّ وتفقأ العين . ثمّ رآه بعد ذلك يحذف فقال له أحدّثك عن رسول الله صلّى اللّه عليه وآله وسلّم أنّه نهى عن الحذف – أو كره الحذف – وأنت تحذف ؟ لا أكلّمك كذا وكذا ! . وفي رواية لمسلم لا أكلّمك أبدا ! متّفق عليه .
عن سعد بن عبيدة قال كنت مع آبن عمر في حلقة ، فسمع رجلا في حلقة أخرى وهو يقول لا ,أبي ، فرماه إبن عمر بالحصى ، وقال : إنّها كانت يمين عمر فنهاه النّبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم عنها وقال : " إنّها شرك " . الفتح الرّبّاني 164-14 وهجر عبد الله بن مسعود رضي الله عنه رجلا رآه يضحك في جنازة فقال والله لا أكلّمك أبدا . رواه أحمد في الزّهد .
وأنكر الولد على أبيه :
كان أهل العلم يجرّحون كلّ من خالف في أمر الدّين ولو كان أقرب قريب سئل عليّ بن المديني عن أبيه ماتقولون في فلان ؟ قال سلوا عنه غيري قالوا إنّما نسألك أنت ؟ قال أمّا إن أبيتم فانّه الدّين هو ضعيف لا تأخذوا عنه .
تعنيف الصّحابة للمخالف:
في حرب أبي بكر للمرتدّين . وحرب عليّ للخوارج ومن ألّهه ...
وهذا عمر الفاروق يضرب صبيغا ويعذّبه عذابا لم يعذّب به أحدا لمّا بدأ به من حديث عن متشابه القرآن رواه الدّارمي يقول سليمان بن يسار رحمه الله : إنّ رجلاً يقال له صبيغ قدم المدينة فجعل يسأل عن متشابه القرآن فأرسل إليه عمر ،وقد اعدّ له عراجين النّخل ، فقال له من أنت ؟ قال أنا عبد اللّه صبيغ ، فأخذ عمر عرجونا من تلك العراجين ، فضربه وقال أنا عبد اللّه عمر ، فجعل له ضربا حتّى دمي رأسه ، فقال له : " يا أمير المؤمنين حسبك قد ذهب الّذي كنت أجد في رأسي " .. سنن الدّارمي رقم 146 ثمّ إن عمر رضي الله عنه نفاه من المدينة وأمر أن لا يجالس هذا الرجل سنة كاملة ، فلمّا أظهر توبته وصدقه في هذه التوبة إذن بعد ذلك في مجالسته . ويروى أنّ الخوارج جاؤا إليه يوم خروجهم فقالوا له قد حضر يومك يا صبيغ فقال لا فقد نفعتني موعظة العبد الصّالح .
أفليست هذه هي الحكمة في قالب الشّدّة ..
وحوادث درّة عمر الفاروق معروفة وأشهر من أن أذكّر بها منها إنّ ذسيرين سال أنسا المكاتبة ، وكان كثير المال ، فأبى ، فآنطلق إلى عمر - رضي اللّه عنه – فقال كاتبه ، فأبى ، فضربه بالدّرّة ويتلو عمر فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا فكاتبه . الفتح 5- 184 محاربة عليّ للخوارج ومقاتلته للّذين غلوا فيه وآعتقاله أصحاب النّرد غدوة ونحوها ونهيه عن السّلام عليهم . رواه البخاري في الأدب المفرد .
وهذا آبن مسعود - رضي اللّه عنه – دخل على آمرأته وفي عنقها شيء معقود ، فجذبه فقطّعه ،ثمّ قال لقد أصبح آل عبد اللّه أغنياء أن يشركوا باللّه ما لم ينزّل به سلطانا ، ثمّ قال سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم يقول :" إنّ الرّقى والتّمائم والتّولة شرك " .. صحيح التّرغيب والتّرهيب للألباني رقم 3457
وهذا إبن عمر ينكر برمي الحصى عن سعد بن عبيدة قال كنت مع آبن عمر في حلقة ، فسمع رجلا في حلقة أخرى وهو يقول لا ,أبي ، فرماه أبن عمر بالحصى ، وقال أنّها كانت يمين عمر فنهاه النّبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم عنها وقال إنّها شرك . الفتح الرّبّاني 14 /164 .(/32)
بل قد يضرب الصّحابيّ إبنا لأمير المؤمنين مخالفا لأمر الشّرع . قال الإمام البخاري رحمه الله بسنده إلى أبي صالح السّمّان، قال: رأيت أبا سعيد الخدري في يوم جمعة يصلّي إلى شيء يستره من الناس، فأراد شاب من بني أبي معيط أن يجتاز بين يديه، فدفع أبو سعيد في صدره، فنظر الشاب، فلم يجد مساغا إلا بين يديه، فعاد ليجتاز، فدفعه أبو سعيد أشد من الأولى، فنال من أبي سعيد، ثم دخل على مروان، فشكا إليه ما لقي من أبي سعيد، ودخل أبو سعيد خلفه على مروان، فقال: مالك ولابن أخيك يا أبا سعيد ؟! قال: ما ضربته ، إنّما ضربت الشّيطان ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا صلّى أحدكم إلى شيء يستره من النّاس، فأراد أحد أن يجتاز بين يديه؟ فليدفعه، فإن أبى، فليقاتله، فإنّما هو شيطان " البخاري رقم 509 ، ومسلم رقم 505 وصحيح سنن النّسائيّ رقم 4518 بل قد يؤلم الصّحابيّ أخاه إيلاما شديدا ويوجعه على موقع ألمه الذي يتألّم منه : عن أبي النّضر أنّ أبا سعيد الخدري كان يشتكي رجله ، فدخل عليه أخوه وقد جعل إحدى رجليه على الأخرى وهو مضطجع فضربه بيده على رجله الوجعة فأوجعه ، فقال أوجعتني ، أو لم تعلم أنّ رجلي وجعة ؟ قال بلى ! قال: فما حملك على ذلك ؟ قال : أولم تسمع أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم قد نهى عن هذه ..مسند الأمام أحمد 3/ 42
وينكر الصّحابيّ على من لم ينته وقد نهي عن الأمر عدّة مرّات ولو كان زعيم فلاّّحي قرية بأكملها :
فعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ خَرَجْتُ مَعَ حُذَيْفَةَ إِلَى بَعْضِ هَذَا السَّوَادِ فَاسْتَسْقَى فَأَتَاهُ دِهْقَانٌ بِإِنَاءٍ مِنْ فِضَّةٍ قَالَ فَرَمَاهُ بِهِ فِي وَجْهِهِ قَالَ قُلْنَا اسْكُتُوا اسْكُتُوا وَإِنَّا إِنْ سَأَلْنَاهُ لَمْ يُحَدِّثْنَا قَالَ فَسَكَتْنَا قَالَ فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ قَالَ أَتَدْرُونَ لِمَ رَمَيْتُ بِهِ فِي وَجْهِهِ قَالَ قُلْنَا لا قَالَ إِنِّي كُنْتُ نَهَيْتُهُ قَالَ فَذَكَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لا تَشْرَبُوا فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ قَالَ مُعَاذٌ لا تَشْرَبُوا فِي الذَّهَبِ وَلا فِي الْفِضَّةِ وَلَا تَلْبَسُوا الْحَرِيرَ وَلا الدِّيبَاجَ فَإِنَّهُمَا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَكُمْ فِي الآخِرَةِ . مسند الإمام أحمد 5/396...
ويرمي الصّحابي بالحصى من يطلب الفتوى ويتسرّع فيها :
روى أبو داود بإسناد فيه مقبولان : دَخَلَ رَجُلانِ مِنْ أَبْوَابِ كِنْدَةَ وَأَبُو مَسْعُودٍ الأنْصَارِيُّ جَالِسٌ فِي حَلْقَةٍ فَقَالا أَلا رَجُلٌ يُنَفِّذُ بَيْنَنَا فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْحَلْقَةِ أَنَا فَأَخَذَ أَبُو مَسْعُودٍ كَفًّا مِنْ حَصًى فَرَمَاهُ بِهِ وَقَالَ مَهْ إِنَّهُ كَانَ يُكْرَهُ التَّسَرُّعُ إِلَى الْحُكْمِ " رواه أبو داود كتاب الأقضية باب في طلب القضاء والتسرّع إليه .
وينكر الصّحابيّ على المرأة وهي تمرّ بين الرّجال وريحها تعصف بالعطور :
في صحيح ابن خزيمة : مرّت بأَبِي هُرَيْرَةَ امْرَأَة وريحها تعصف فَقَالَ لها : إلى أَيْنَ تُرِيدِينَ يَا أَمَةَ الْجَبَّارِ ؟ َقَالَت إلى الْمَسْجِد . َقَالَ تَطَيَّبْتِ ؟ قَالَتْ : نَعَمْ . قَالَ فارجعي فاغتسلي ، فإني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول لا يقبل الله من امْرَأَةٍ صلاة خَرَجَتْ إلى الْمَسْجِد وريحها تعصف حَتَّى تَرْجِعَ فَتَغْتَسِلَ ,. صحيح ابن خزيمة رقم 1682 وقال الألباني في تعليقه : حديث حسن وهو في المسند 2/246 ، وصحّح أحمد شاكر الحديث بطرقه في تعليقه على المسند رقم 7350
لمّا بلغ ابن عمر رضي الله عنه أن أناساً في العراق يتقفَّرون العلم – يعني : يطلبون العلم يبحثون بجدّ عنه – لكنّهم قالوا : ( لا قدر ، وإن الأمر أُنُف ) ، فقال : ( أبلغوهم أنّي منهم براء وأنّهم منّي برآء والله لو أنفق أحدهم مثل أحد ذهباً ما نفعه ذلك حتّى يؤمن بالقدر ) الحديث أخرجه : مسلم في الإيمان (8) ، وأبو داود في السّنّة(4695) ، والتّرمذي في الإيمان (2610) ، والنّسائي في الإيمان وشرائعه (4990) وغيرهم .
قال إبن عمر هذا القول في قوم جدّوا في طلب العلم وآعتراهم خلل عقائدي واحد ! فماذا عساه يقول في قوم أرادوا أن يغيّروا فتغيّروا . فآعقل وآنتبه !!!
الحلقة الخامسة
بقلم: خميس بن عليّ الماجري(1)
وبعدما ذكرت لك أخي القارئ جزءا يسيرا من أقوال الصّحابة وأفعالهم ، فهذه ـ أخي الفاضل ـ بعض أقوال السّلف الصّالح وأعمالهم في الباب .
ردّ السّلف وإنكارهم العمليّ :
ـ قال عبد الرّحمان بن مهدي : " دخلت عند مالك وعنده رجل يسأله عن القرآن ، فقال :" لعلّك من أصحاب عمرو بن عبيد ، لعن اللّه عمرا فانّه آبتدع هذه البدعة من الكلام " .. مناقب مالك للزّواوي ص 147(/33)
ـ ما روي مسلمٌ أيضاً في صحيحه ، قول عمارة بن روجية لمّا رأى بشر بن مروان على المنبر رافعاً يديه فقال : " قبّح الله هاتين اليدين ، لقد رأيت رسول الله ما يزيد على أن يقول بيده هكذا ، وأشار بإصبعه المسبحة " .
ـ ما روى لنا مسلم رحمه الله في صحيحه ، قول كعب بن عجرة عندما رأى عبد الرحمن بن أم الحكم يخطب قاعداً قال : " انظروا إلى هذا الخبيث يخطب قاعداً .." هذا في مسألة الخطبة .
ـ وفي البخاري مقاطعة عبد الله بن مغفل لابن أخيه عندما لم ينته عن الخذف قال : والله لا كلّمتك بعدها أبداً . هذا في مسألة ، الخذف ، قاطع ابن أخيه فكيف بتمييع الدّين؟! " وأمّا من بعدهم من التّابعين فقد واصلوا طريق جهاد المبتدعة وقاوموا أهل الأهواء بالقلم واللّسان والسّيف والسّنان فكشفوا للخلق تلبيسهم وتدليسهم وقابلوهم بصريح المعقول وصحيح المنقول فجازاهم الله عن الإسلام والمسلمين خيرا .
ـ قال الإمام أحمد عندما نُقِلَ له قولٌ عن أبي ثور لا يتّفق مع الدّليل قال : " أبو ثور كاسمه " .
ونحواً من ذلك قال عن أبي حنيفة :" ما قوله عندي ، والبعرة إلاّ سواء " ، وقال عن الكرابيسي : " كذب هتكه الله الخبيث " وذلك في مسألة لفظي بالقرآن مخلوق ، وفي كتاب المجروحين لابن حبّان ترجمة أبي حنيفة كلام لسفيان الثّوري رحمه الله على أبي حنيفة حيث قال :" أستتيب أبو حنيفة من الكفر مرّتين " ، ولمّا جاءه خبر موته قال لمن أخبره :" اذهب إلى إبراهيم بن طهمان فأخبره ، فجاء الرّسول فقال : " وجدته نائماً قال : ويحك : اذهب فأنبئه ، وبشّره ، فإنّ فتّان هذه الأمّة مات ، والله ما ولد في الإسلام ، أشأم عليهم من أبي حنيفة ، ووالله لكان أبو حنيفة ، أقطع لعروة الإسلام عروة عروة من قحطبة الطاّئي بسيفه " . وحمد الله على موته لما جاء نعيه إليه ، وقال : " الحمد لله الذي أراح المسلمين منه " . وقال في موضع آخر عنه : " إنه غير ثقة ، ولا مأمون " ...
فهل نحن أفضل من الرّسول صلّى الله عليه وآله وسلّم والصّحابة رضي الله تعالى عنهم ، والسّلف الفاضل رحمهم الله تعالى ، وأعلم منهم وأحكم أم أنّ المميّعين والعابثين بقضايا الإسلام ، أشرف قدراً ممّن مضى ذكرهم هيهات هيهات إلاّ أن نساوي الثّرى بالثّريّا .. من كتاب " الوارف في مشروعية التّثريب على المخالف " للشّيخ عبد العزيز بن صالح الجربوع ...
ـ ومنه ردّ أهل العلم قاطبة على العلاّمة أبو الوليد الباجي المالكي المتوفّى سنة 474 هـ لمّا آدّعى بآرتفاع أمّيّة النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم لقصّة الحديبية ، فقام عليه أهل عصره وتطامنت الفتنة وأوضح المحقّقون بأنّ واقعة الحديبية لا سبيل إلى إنكارها لثبوتها ، لكنّها لا تنفي الأمّيّة . آنظر ترجمة الباجي في السّير للحافظ الذّهبي 18 / 540 . كما عيب كذلك على العلاّمة عبد الملك بن حبيب وهو من أعلام فقهاء المالكيّة في أشياء .
شمول الإنكار كلّ نواحي المعارف :
كما شمل الرّدّ والإنكار كلّ العلوم العربيّة ، فمثلا في علوم اللّغة ، عوقب اللّغويّ الشّاعر أحمد بن محمّد بن فرج الجبّائي لكلمة عامّية واحدة نطق بها زمن عبد الرّحمان النّاصر المتوفّى سنة 336 هـ . آنظر الصّلة لآبن بشكوال 1/ 5 . كما روجع علاّمة التّاريخ والحضارة عبد الرّحمان بن خلدون في أكثر من مسألة . آنظر التّعالم ص 105 و 106 للعلاّمة بكر أ بو زيد .
واليوم كما هو معلوم لا تجد فنّا من فنون العلوم والمعرفة إلاّ وله نقّاد ، وقد شمل ذلك المسائل القديمة والمحدثة فآفهم وآعقل ولا تركب رأسك وتقول بخلاف ذلك ألم يقل إمام دار الهجرة رحمه الله تعالى : كلّكم رادّ ومردود عليه إلاّ صاحب هذا القبر ـ وأشار إلى قبر النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ ...
ثمّ إنّ كتب الرّدود كانت من أهمّ الكتب وأنفسها وأنفعها ، ولا يكاد يخلو مصر وعصر منها ، وذلك يعبّر عن عمق علم القوم وتنافسهم على الخير وذبّهم عن الشّريعة ...
ردّ السّلف وإنكارهم التّنظيري :
لا بدّ من سلامة الشّريعة وبراءتها من آهتزاز المهزوزين ومن آرتباك المهزومين ولا بدّ أن تبقى الحنيفيّة سمحاء معتدلة نقيّة مضيئة صافية على ميراث النّبوّة كلّ ما آمتدّت يد إليها لا بدّ من قطعها ، وكلّ لسان نال منها لا بدّ من قطعه ، وإن بدا للجاهل أو الرّقيق خشونة ، فما هي في الحقيقة إلاّ الرّحمة الكاملة . قال شيخ الإسلام :" المؤمن للمؤمن كاليدين تغسل إحداهما الأخرى ، وقد لا ينقلع الوسخ إلاّ بنوع من الخشونة ، لكنّ ذلك يوجب من النّظافة والنّعومة ما نحمد معه ذلك التّخشين " الفتاوى 28 / 53 .(/34)
وقال ـ رحمه الله تعالى ـ : " فمن تكلّم بجهل وبما يخالف الأئمّة ، فإنّه ينهى عن ذلك ويؤدّب على الإصرار ، كما يفعل بأمثاله من الجهّال ، ولا يقتدى في خلاف الشّريعة بأحد من أئمّة الضّلالة ، وإن كان مشهورا عنه العلم ، كما قال بعض السّلف : لا تنظر إلى عمل الفقيه ولكن سله يصدقك " مجموع الفتاوى . وقال أيضا : " إذا كان من الواجب كشف الوهم والغلط والسّقط والسّهو وعبور النّظر ونحوها من الأسباب الصّارفة عن وجه الصّواب ـ مع أنّه لا غول فيها ولا تأثيم ـ لكن في ترك الوهم وما جرى مجراه ممّن علمه إبقاء لشرع مبدّل وهذا غشّ ...، فواجب على من علمه النّصح للأمّة ببيان الغلط والوهم حتّى يعاد الحقّ إلى نصابه . فإذا كان هذا فيما لا إثم فيه ، فكيف بكشف المخالفة والنّقض على المخالف لإنقاذ النّاس من ضلالة أو هوى ، هذا أوجب وألزم . والله أعلم وأحكم .آنظر إلى الرّدود للعلاّمة بكر أبو زيد ص 45
وقال رحمه الله تعالى :" ولهذا يسوغ بل يجب أن نبيّن الحقّ الّذي يجب آتّباعه ، وان كان فيه بيان خطأ من أخطأ من العلماء والأمراء .. مجموع الفتاوى 19/123-124 و قال الإمام إبن رجب رحمه الله تعالى:" إعلم أن ذِكر الإنسان بما يكره محرم إذا كان المقصود منه مجرد الذمِّ والعيب والنقص . فأمّا إن كان فيه مصلحة لعامّة المسلمين خاصة لبعضهم وكان المقصود منه تحصيل تلك المصلحة فليس بمحرّم بل مندوب إليه .
وقد قرّر علماء الحديث هذا في كتبهم في الجرح والتعديل وذكروا الفرق بين جرح الرّواة وبين الغيبة وردُّوا على من سوَّى بينهما من المتعبدين وغيرهم ممن لا يتسع علمه . ولا فرق بين الطّعن في رواة حفَّاظ الحديث ولا التّمييز بين من تقبل روايته منهم ومن لا تقبل ، وبين تبيين خطأ من أخطأ في فهم معاني الكتاب والسّنّة وتأوَّلَ شيئاً منها على غير تأويله وتمسّك بما لا يتمسّك به ليُحذِّر من الاقتداء به فيما أخطأ فيه ، وقد أجمع العلماء على جواز ذلك أيضاً .
ولهذا نجد في كتبهم المصنّفة في أنواع العلوم الشّرعيّة من التّفسير وشروح الحديث والفقه واختلاف العلماء وغير ذلك ممتلئة بالمناظرات وردِّ أقوال من تُضَعَّفُ أقواله من أئمّة السّلف والخلف من الصّحابة والتّابعين ومن بعدهم .
ولم يترك ذلك أحد من أهل العلم ولا ادّعى فيه طعناً على من ردَّ عليه قولَه ولا ذمَّاً ولا نقصاً... وسبب ذلك أنّ علماء الدّين كلُّهم مجمعون على قصد إظهار الحقّ الّذي بعث الله به رسوله صلّى الله عليه وسلّم ولأنْ يكون الدّين كلّه لله وأن تكون كلمته هي العليا ، وكلُّهم معترفون بأنّ الإحاطة بالعلم كلّه من غير شذوذ شيء منه ليس هو مرتبة أحد منهم ولا ادّعاه أحد من المتقدّمين ولا من المتأخّرين فلهذا كان أئمّة السّلف المجمع على علمهم وفضلهم يقبلون الحقّ ممّن أورده عليهم وإن كان صغيراً ويوصون أصحابهم وأتباعهم بقبول الحقّ إذا ظهر في غير قولهم ...
فحينئذٍ فردّ المقالات الضّعيفة وتبيين الحقّ في خلافها بالأدلّة الشّرعيّة ليس هو ممّا يكرهه أولئك العلماء بل ممّا يحبّونه ويمدحون فاعله ويثنون عليه ، و لا يكون داخلاً في الغيبة بالكلّيّة فلو فرض أنّ أحداً يكره إظهار خطئه المخالف للحق فلا عبرة بكراهته لذلك فإن كراهة إظهار الحق إذا كان مخالفاً لقول الرجل ليس من الخصال المحمودة بل الواجب على المسلم أن يحب ظهور الحق ومعرفة المسلمين له سواءٌ كان ذلك في موافقته أو مخالفته وهذا من النّصيحة لله ولكتابه ورسوله ودينه وأئمّة المسلمين وعامّتهم وذلك هو الدّين كما أخبر به النبيّ صلّى الله عليه وسلّم..
وأمّا بيان خطأ من أخطأ من العلماء قبله إذا تأدّب في الخطاب وأحسن في الّردّ والجواب فلا حرج عليه ولا لوم يتوجّه إليه وإن صدر منه الاغترار بمقالته فلا حرج عليه وقد كان بعض السلف إذا بلغه قول ينكره على قائله يقول : ( كذب فلان ) ومن هذا قول النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم : " كذب أبو السنابل " لمّا بلغه أنّه أفتى أنّ المتوفّى عنها زوجها إذا كانت حاملاً لا تحلّ بوضع الحمل حتّى يمضى عليها أربعة أشهر وعشر .
وقد بالغ الأئمّة الوَرِعون في إنكار مقالات ضعيفة لبعض العلماء وردِّها أبلغ الردِّ كما كان الإمام أحمد ينكر على أبي ثور وغيره مقالات ضعيفة تفرّدوا بها ويبالغ في ردّها عليهم هذا كلّه حكم الظّاهر .
وأمّا في باطن الأمر : فإن كان مقصوده في ذلك مجرّد تبيين الحقّ ولئلاّ يغترّ الناّس بمقالات من أخطأ في مقالاته فلا ريب أنّه مثاب على قصده ودخل بفعله هذا بهذه النّيّة في النّصح لله ورسوله وأئمّة المسلمين وعامّتهم .(/35)
وسواء كان الذي بين الخطأ صغيراً أو كبيراً فله أسوة بمن ردّ من العلماء مقالات ابن عباّس التي يشذّ بها وأُنكرت عليه من العلماء مثل المتعة والصّرف والعمرتين وغير ذلك . ومن ردَّ على سعيد بن المسيِّب قوله في إباحته المطلّقة ثلاثاً بمجرد العقد وغير ذلك ممّا يخالف السّنّة الصّريحة ، وعلى الحسن في قوله في ترك الإحداد على المتوفّى عنها زوجها ، وعلى عطاء في إباحته إعادة الفروج ، وعلى طاووس قوله في مسائل متعدّدة شذَّ بها عن العلماء ، وعلى غير هؤلاء ممّن أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم ومحبّتهم والثّناء عليهم .
ولم يعدّ أحد منهم مخالفيه في هذه المسائل ونحوها طعناً في هؤلاء الأئمّة ولا عيباً لهم ، وقد امتلأت كتب أئمّة المسلمين من السّلف والخلف بتبيين هذه المقالات وما أشبهها مثل كتب الشّافعي وإسحاق وأبي عبيد وأبي ثور ومن بعدهم من أئمّة الفقه والحديث وغيرهما ممّن ادّعوا هذه المقالات ما كان بمثابتها شيء كثير ولو ذكرنا ذلك بحروفه لطال الأمر جدّاً . وأمّا إذا كان مرادُ الرادِّ بذلك إظهارَ عيب من ردَّ عليه وتنقّصَه وتبيينَ جهله وقصوره في العلم ونحو ذلك كان محرّماً سواء كان ردُّه لذلك في وجه من ردِّ عليه أو في غيبته وسواء كان في حياته أو بعد موته وهذا داخل فيما ذمَّه الله تعالى في كتابه وتوعّد عليه في الهمز واللّمز وداخل أيضاً في قول النبي صلّى الله عليه وسلّم : "يا معشر من آمن بلسانه ولم يؤمن بقلبه لا تؤذوا المسلمين ولا تتّبعوا عوراتهم فإنّه من يتبع عوراتهم يتبع الله عورته ومن يتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف بيته " . وهذا كلّه في حقّ العلماء المقتدى بهم في الدّين فأمّا أهل البدع والضّلالة ومن تشبّه بالعلماء وليس منهم فيجوز بيان جهلهم وإظهار عيوبهم تحذيراً من الاقتداء بهم . وليس كلامنا الآن في هذا القبيل والله أعلم .
ومن عُرف منه أنه أراد بردِّه على العلماء النّصيحة لله ورسوله فإنّه يجب أن يُعامَل بالإكرام والاحترام والتّعظيم كسائر أئمّة المسلمين الذين سبق ذكرهم وأمثالهم ومن تبعهم بإحسان .
ومن عرف منه أنه أراد بردّه عليهم التّنقّص والذّمّ وإظهار العيب فإنّه يستحق أن يقابل بالعقوبة ليرتدع هو ونظراؤه عن هذه الرّذائل المحرّمة .
ويُعرف هذا القصد تارة بإقرار الرادِّ واعترافه ، وتارة بقرائن تحيط بفعله وقوله ، فمن عُرف منه العلم والدّين وتوقير أئمّة المسلمين واحترامهم لم يَذكر الردَّ وتبيين الخطأ إلاّ على الوجه الذي يراه غيره من أئمّة العلماء ... من كتاب الفرق بين النّصيحة والتّعيير للإمام الحافظ زين الدين ابن رجب الحنبلي المتوفى سنة (795هـ ).
وقال الإمام أحمد وهو يردّ على المستعظمين من عمليّة تجريح المخالف للأصول والثّوابت فقال :" انّه يثقل عليّ أن أقول فلان كذا وفلان كذا ، إذا سكتّ أنت وسكتّ أنا ، فمتى يعرف الجاهل الصّحيح من السّقيم " . الجامع لآداب الرّاوي والسّامع2 / 260 ومجموع الفتاوى28 231 .
روى أبو العبّاس بن سريج عن إسماعيل القاضي ، قال :" ودخلت مرّة ، فدفع اليّ كتابا ، فنظرت فيه فإذا قد جمع له فيه الرّخص من زلل العلماء ، فقلت مصنّف هذا زنديق .فقال ألم تصحّ هذه الأحاديث ؟ قلت بلى ، ولكن من أباح المسكر لم يبح المتعة ، ومن أباح المتعة لم يبح الغناء ، وما من عالم إلاّ وله زلّة ، ومن أخذ بكلّ زلل العلماء ذهب دينه . فأمر بالكتاب فأحرق .. الإمام البيهقي في سننه 21110. والإمام الذّهبي في السّير 13/465
قال نعيم بن حمّاد الخزاعي لمن أنكر عليه شدّّته على أهل البدع فعلّل ذلك بمعرفته لهم فقال رحمه الله :" ما أنا شديد عليهم ، لأنّي كنت منهم " مجموع الفتاوى 10 / 303 .
إنّ الأخطاء لا يسلم منها بشر وإنّما أعطيت العصمة للأنبياء فيما يبلّغونه عن الله ، ومن عداهم فقد يخطئ في أقواله الاجتهاديّة ، وفيما ينقله عن الرّسول وفيما ينقله عن غيره ، وقد استدركت عائشة على عدد من الصّحابة أخطاء وقعوا فيها ، وللإمام الشّافعي مذهبان القديم والجديد، وقد يكون مع ذلك الصّواب أحياناً في القديم وكان في غاية من الإنصاف والتّواضع ، فيقول : "أنتم أعلم بالحديث والرّجال منّي ، فأيّ حديث صحّ فأخبروني به لآخذ به". وقد ردّ على شيخه الإمام مالك وردّ على أبي حنيفة وصاحبيه أشياء كثيرة جدّاً ، وردّ اللّيث على الإمام مالك في رسالة معروفة . وهذا أبو حنيفة رحمه الله يخالفه صاحباه أبو يوسف ومحمّد بن الحسن في ثلث المذهب...حاشية ابن عابدين (1/62) . وهذا الإمام البخاري أمير المؤمنين في الحديث وعلومه بما في ذلك علم الرّجال ، انتقده الإمامان أبو زرعة وأبو حاتم الرّازيان في حوالي واحد وسبعين رجلاً وسبعمائة رجل ، ولم يسلما في نقدهما من الخطأ ، وقد اعتذر المعلّمي للإمام البخاري بأعذار فارجع إلى مقدمة كتاب (بيان خطأ البخاري) وقد انتقد الإمام الدّارقطني الإمامين البخاري ومسلما في أحاديث من صحيحيهما .(/36)
قال النّووي : " إنّها مائتا حديث " انظر مقّدمة شرح النّووي لصحيح مسلم (1/7) . ولابن حبّان أوهام كثيرة ، وكم أورد في كتابه الثّقات من المجهولين .
وقد ألّف عبد الغنيّ بن سعيد كتاباً في بيان أوهام الحاكم أبي عبد الله في كتاب (المدخل إلى الصّحيح) وألَّف الذّهبي كتاباً في الأحاديث الموضوعة في المستدرك حيث بلغت مائة حديث ، وكم فيه من الأحاديث الضّعيفة ؟!
وكم له من الأوهام في قوله على شرط الشّيخين أو على شرط البخاري أو على شرط مسلم ؟!
وألّف ابن القطّان كتاباً يقع في مجلّدين مخطوطين سمّاه (بيان الوهم والإيهام) بيّن فيه أوهام عبد الحقّ الإشبيلي .
وأخطاء العلماء من هذا النّوع وانتقادها كثير وكثير ، ولم يفكّر أحد من النّقّاد في إسقاط من ينتقده ويخطّؤه، ولم يقل أحد بذلك لأنّ هذه الأمور لا تعدّ ذنوباً ولا بدعاً يفسَّق أو يكفَّر بها أو يجرح بها في عدالة الرّاوي أو ضبطه.
هذا هو منهج العلماء من أهل السّنّة والجماعة من فجر تأريخهم إلى يومنا هذا ؛ ولكنّ أهل الأهواء والفتن ظهروا للنّاس بمناهج جديدة مثل منهج الموازنات لحماية أهل البدع الكبرى .الشّيخ ربيع بن هادي عمير المدخلي .من كتاب " بيان فساد المعيار " .
قال الشّيخ ابن باز- رحمه الله تعالى ـ في مجموع فتاويه3/203 : "لا شك أن الشّريعة الإسلامية الكاملة جاءت بالتحذير من الغلو في الدين، وأمرت بالدعوة إلى سبيل الحق بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن ، ولكنّها مع ذلك لم تهمل جانب الغلظة والشدّة في محلّها حيث لا ينفع اللّين والجدال بالتي هي أحسن ".
وقال أيضا ً3/204- 205 : " جمعت الشّريعة بين الشّدّة واللّين كلّ في محلّه : والخلاصة أنّ الشّريعة الكاملة جاءت باللّين في محلّه ، والشّدّة في محلّها ، فلا يجوز للمسلم أن يتجاهل ذلك ، ولا يجوز أيضاً أن يوضع اللّين في محلّ الشّدّة ، ولا الشّدّة في محلّ اللّين ، ولا ينبغي أيضاً أن ينسب إلى الشّريعة أنّها جاءت باللّين فقط ، ولا أنّها جاءت بالشّدّة فقط ، بل هي شريعة حكيمة كاملة صالحة لكلّ زمان ومكان ولإصلاح جميع الأمّة ، ولذلك جاءت بالأمرين معاً ! واتّسمت بالعدل والحكمة والسّماحة ، فهي شريعة سمحة في أحكامها وعدم تكليفها ما لا يطاق ، ولأنّها تبدأ في دعوتها باللّين والحكمة والرّفق ، فإذا لم يؤثر ذلك وتجاوز الإنسان حدّه وطغى وبغى أخذته بالقوّة والشّدّة وعاملته بما يردعه ويعرفه سوء عمله ، ومن تأمّل سيرة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وسيرة خلفائه الرّاشدين وصحابته المرضيّين وأئمّة الهدى بعدهم عرف صحّة ما ذكرناه".
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ذكر الناس بما يكرهون هو في الأصل على وجهين: أحدهما: ذكر النوع. والثاني: ذكر الشخص المعيّن الحيّ أو الميّت. أمّا الأوّل، فكلّ صنف ذمّه الله ورسوله يجب ذمّه، وليس ذلك من الغيبة، كما أنّ كل صنف مدحه الله ورسوله يجب مدحه ، وما لعنه الله ورسوله لعن ، كما أنّ من صلّى الله عليه وملائكته يصلّى عليه.
فالله ذمّ الكافر والفاجر والفاسق والظّالم والغويّ والضّالّ والحاسد والبخيل والسّاحر وآكل الرّبا وموكله والسّارق والزّاني والمختال والفخور والمتكبّر الجبّار وأمثال هؤلاء . كما حمد المؤمن التّقي ّوالصّادق والبارّ والعادل والمهتدي والرّاشد والكريم والمتصدّق والرّحيم وأمثال هؤلاء .
ولعن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه، والمحلّل والمحلّل له، ولعن من عمل عمل قوم لوط ، ولعن من أحدث حدثا أو آوى محدثا ، ولعن الخمر وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه وبائعها ومشتريها وساقيها وشاربها وآكل ثمنها، ولعن اليهود والنّصارى حيث حرّمت عليهم الشّحوم فجملوها فباعوها وأكلوا ثمنها ، ولعن الله الذين يكتمون ما أنزل الله من البيّنات والهدى من بعد ما بيّنه للنّاس... ".
ثمّ قال : " ........وأمّا الشّخص المعيّن فيذكر ما فيه من الشّرّ في مواضع منها:
- المظلوم: له أن يذكر ظالمه بما فيه :
إمّا على وجه دفع ظلمه واستيفاء حقّه ، كما قالت هند : يا رسول الله! إن أبا سفيان رجل شحيح ، وليس يعطيني من النّفقة ما يكفيني وولدي ، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف ".
وكما قال صلّى الله عليه وسلّم : "لي الواجد يحلّ عرضه وعقوبته ". قال وكيع: "عرضه شكايته، وعقوبته حبسه ".
وقال الله تعالى: {لا يحبّ الله الجهر بالسّوء من القول إلاّ من ظلم وكان الله سميعا عليما} النّساء : 148..
وقد روي أنّها نزلت في رجل نزل في قوم ، فلم يقروه ، فإن كان هذا فيمن ظلم بترك قراه الذي تنازع النّاس في وجوبه - وإن كان الصّحيح أنه واجب - ؟ فكيف بمن ظلم بمنع حقّه الذي اتّفق المسلمون على استحقاقه إيّاه ؟!
أو يذكر ظالمه على وجه القصاص، من غير عدوان ، ولا دخول في كذب ، ولا ظلم الغير ، وترك ذلك أفضل .(/37)
- ومنها: أن يكون على سبيل النّصيحة للمسلمين في دينهم ودنياهم.
كما في الحديث الصّحيح عن فاطمة بنت قيس: لما استشارت النبي صلى الله عليه وسلم من تنكح؟ قالت: إنه خطبني معاوية وأبو جهم. فقال: "أما معاوية، فصعلوك لا مال له، وأما أبو جهم، فرجل ضراب للنساء"، وروي: "لا يضع عصاه عن عاتقه "، فبين لها أن هذا فقير قد يعجز عن حقك، وهذا يؤذيك بالضرب، وإن هذا كان نصحا لها، وإن تضمن ذكر عيب الخاطب.
وفي معنى هذا نصح الرجل فيمن يعامله، ومن يوكله، ويوصي إليه، ومن يستشهده، بل ومن يتحاكم إليه، وأمثال ذلك.
وإذا كان هذا في مصلحة خاصة، فكيف بالنصح فيما يتعلق به حقوق عموم المسلمين من الأمراء، والحكام، والشهود، والعمال أهل الديوان، وغيرها ؟!
فلا ريب أن النصح في ذلك أعظم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الدين النصيحة، الدين النصيحة". قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: "لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم ".
وقد قالوا لعمر بن الخطاب في أهل الشورى: أمر فلانا وفلانا، فجعل يذكر في حق كل واحد من الستة - وهم أفضل الأمة - أمرا جعله مانعا له من تعيينه.
وإذا كان النصح واجبا في المصالح الدينية الخاصة والعامة، مثل نقلة الحديث الذين يغلطون أو يكذبون، كما قال يحى بن سعيد: سألت مالكا والثوري والليث بن سعد - أظنه - والأوزاعي عن الرجل يتهم في الحديث أو لا يحفظ ؟ فقالوا: بين أمره....
وقال أيضا :" ومثل أئمّة البدع من أهل المقالات المخالفة للكتاب والسّنّة أو العبادات المخالفة للكتاب والسّنّة، فإنّ بيان حالهم وتحذير الأمّة منهم واجب باتّفاق المسلمين، حتّى قيل لأحمد بن حنبل: الرجل يصوم ويصلي ويعتكف أحب إليك أو يتكلم في أهل البدع؟ فقال: إذا صام وصلى واعتكف، فإنما هو لنفسه، وإذا تكلم في أهل البدع فإنما هو للمسلمين، هذا أفضل.
فبيّن أنّ نفع هذا عام للمسلمين في دينهم، من جنس الجهاد في سبيل الله، إذ تطهير سبيل الله ودينه ومنهاجه وشرعته ودفع بغي هؤلاء وعدوانهم على ذلك واجب على الكفاية باتفاق المسلمين، ولولا من يقيمه الله لدفع ضرر هؤلاء ، لفسد الدين، وكان فساده أعظم من فساد استيلاء العدو من أهل الحرب، فإن هؤلاء إذا استولوا لم يفسدوا القلوب وما فيها من الدين إلا تبعا، وأما أولئك فهم يفسدون القلوب ابتداء" اهـ. مجموع الفتاوى (28/225-232).
وقال رحمه الله: "ومن قال عن مجتهد: إنّه تعمّد الظّلم وتعمّد معصية الله ورسوله ومخالفة الكتاب والسّنّة، ولم يكن كذلك، فقد بهته، وإذا كان فيه ذلك، فقد اغتابه، لكن يباح من ذلك ما أباحه الله ورسوله، وهو ما يكون على وجه القصاص والعدل، وما يحتاج إليه لمصلحة الدّين ونصيحة المسلمين
1 فالأوّل كقول المشتكي المظلوم: فلان ضربني وأخذ مالي ومنعني حقي ونحو ذلك، قال تعالى: {لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم }([119]) . وقد نزلت فيمن ضاف قوما فلم يقروه- لأن قرى الضيف واجب كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة -، فلما منعوه حقه، كان له ذكر ذلك، وقد أذن له النبي صلى الله عليه وسلم أن يعاقبهم بمثل قراه في زرعهم ومالهم، وقال: "نصره واجب على كل مسلم "، لأنه قد ثبت في الصحيح أنه قال: "انصر أخاك ظالما أو مظلوما". قلت: يا رسول الله ! أنصره مظلوما ، فكيف أنصره ظالما؟ قال: " تمنعه من الظلم، فذلك نصرك إياه ".
2 وأمّا الحاجة ، فمثل استفتاء هند بنت عتبة ، كما ثبت في الصحيح أنها قالت: يا رسول الله! إن أبا سفيان رجل شحيح، لا يعطيني وبني ما يكفيني بالمعروف. فقال صلى الله عليه وسلم : "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف " أخرجاه في الصحيحين، من حديث عائشة، فلم ينكر عليها قولها، وهو من جنس قول المظلوم.
3 وأما النّصيحة ، فمثل قوله صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس لما استشارته فيمن خطبها، فقالت: خطبني أبو جهم ومعاوية. فقال: "أما معاوية، فصعلوك لا مال له، وأما أبو جهم، فلا يضع عصاه عن عاتقه (وفي لفظ: يضرب النساء)، انكحي أسامة". فلما استشارته فيمن تتزوج، ذكر ما تحتاج إليه، وكذلك من استشار رجلا فيمن يعامله.
والنصيحة مأمور بها، ولو لم يشاوره، فقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "الدين النصيحة، الدين النصيحة"، ثلاثا. قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: "لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم ".
وكذلك بيان أهل العلم لمن غلط في رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو تعمد الكذب عليه أو على من ينقل عنه العلم، وكذلك بيان من غلط في رأي رآه في أمر الدين من المسائل العلمية والعملية، فهذا إذا تكلم فيه الإنسان بعلم وعدل وقصد النصيحة، فالله تعالى يثيبه على ذلك، لا سيما إذا كان المتكلم فيه داعيا إلى بدعة، فهذا يجب بيان أمره للناس، فإن دفع شره عنهم أعظم من دفع شر قاطع الطريق " اهـ. منهاج السنة (5/143-146).(/38)
وقال أيضا في نوع من النّاس تقصّدوا مخالفة النّصّ :" .. والمقصود هنا أن الله ذكر أن المختلفين جاءتهم البينة، وجاءهم العلم، وإنما اختلفوا بغيا، ولهذا ذمهم الله وعاقبهم؟ فإنهم لم يكونوا مجتهدين مخطئين، بل كانوا قاصدين البغي، عالمين بالحق، معرضين عن القول وعن العمل به. ونظير هذا قول الله: " إنّ الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم " آل عمران: 19..
قال الزجاج: "اختلفوا للبغي لا لقصد البرهان ". ثم ساق آيات في هذا المعنى... ثم قال: "فهذه المواضع من القرآن تبين أن المختلفين ما اختلفوا حتى جاءهم العلم والبينات، فاختلفوا للبغي والظلم، لا لأجل اشتباه الحق بالباطل عليهم.
وهذا حال أهل الاختلاف المذموم من أهل الأهواء، كلهم لا يختلفون إلا من بعد أن يظهر لهم الحق ويجيئهم العلم، فيبغي بعضهم على بعض، ثم المختلفون المذمومون كل منهم يبغي على الآخر، فيكذب بما معه من الحق مع علمه أنه حق، ويصدق بما مع نفسه من الباطل مع العلم بأنه باطل، وهؤلاء كلهم مذمومون.
ولهذا كان أهل الاختلاف المطلق كلهم مذمومين في الكتاب والسنة؟ فإنه ما منهم إلا من خالف حقا واتبع باطلا.
ولهذا؟ أمر الله الرسل أن تدعوا إلى دين واحد، هو دين الإسلام، ولا يتفرقوا فيه، وهو دين الأولين والآخرين من الرسل وأتباعهم. قال تعالى:" شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ " الشورى : 13 …..
ثم قال رحمه الله تعالى : " قال الإمام أحمد في خطبة مصنفه الذي صنفه في محبسه في الرد على الزنادقة والجهمية فيما شكت فيه من متشابه القرآن وتأولته على غير تأويله، وفيها الثناء على أهل الحق والسنة واجتهادهم في بيان الحق ودعوة الناس وهدايتهم إلى الحق، وفيها: ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، الذين عقدوا ألوية البدعة، وأطلقوا عنان الفتنة، فهم مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب، متفقون على مخالفة الكتاب، يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم، يتكلمون بالمتشابه من الكلام، يخدعون الجهال بما يلبسون عليهم ". ثم قال: "وهم كما وصفهم رحمه الله، فإن المختلفين أهل المقالات المذكورة في كتب الكلام - إما نقلا مجردا للأقوال، وإما نقلا وبحثا وذكرا للجدال - مختلفون في الكتاب، كل منهم يوافق بعضا ، ويجعل ما يوافق رأيه هو المحكم الذي يجب اتباعه، وما يخالفه هو المتشابه الذي يجب تأويله أو تفويضه، وهذا موجود في كل من صنف في الكلام، وذكر النصوص التي يحتج بها ويحتج بها عليه، تجده يتأول النصوص التي تخالف قوله تأويلات، لو فعلها غيره، لأقام القيامة عليه، ويتأول الآيات بما يعلم بالاضطرار أن الرسول لم يرده، وبما لا يدل عليه اللفظ أصلا، وبما هو خلاف التفسير المعروف عن الصحابة والتابعين وخلاف نصوص أخرى. ولو ذكرت ما أعرفه من ذلك، لذكرت خلقا، ولا أستثني أحدا من أهل البدع، لا من المشهورين بالبدع الكبار من معتزلي ورافضي ونحو ذلك، ولا من المنتسبين إلى السنة والجماعة من كرامي وأشعري وسالمي ونحو ذلك، وكذلك من صنف على طريقهم من أهل المذاهب الأربعة وغيرها. هذا كله رأيته في كتبهم، وهذا موجود في بحثهم في مسائل الصفات والقرآن ومسائل القدر ومسائل الأحكام والأسماء والإيمان والإسلام ومسائل الوعد والوعيد وغير ذلك، وقد بسطنا الكلام على ذلك في مواضع من كتبنا غير هذا الكتاب: "درء تعارض النقل والعقل " و منهاج السنة" (5/ 260-275). 102.(/39)
يقول شيخ الاسلام ابن تيمية – رحمه الله تعالى – في عقوبة من يذبّ عن المخالف: " ويجب عقوبة كل من انتسب إليهم، أوذبّ عنهم أو أثنى عليهم، أو عظم كتبهم، أو عرف بمساعدتهم، ومعاونتهم ، أو كره الكلام فيهم، أو أخذ يعتذر لهم بأن هذا الكلام لا يدري ما هو؟ أو قال: إنه صنف هذا الكتاب، وأمثال هذه المعاذير التي لا يقولها إلا جاهل أو منافق بل تجب عقوبة كل من عرف حالهم ولم يعاون على القيام عليهم فإن القيام على هؤلاء من أعظم الواجبات، لأنهم أفسدوا العقول و الأديان على خلق من المشايخ والعلماء والملوك والأمراء وهم يسعون في الأرض فسادا، ويصدون عن سبيل الله...) .قال الشّيخ بكر بن أبي زيد معلّقا على كلام شيخ الإسلام " وإذا كانت الأشباح التي تحمل نفوسا محشوة بمرض الشبهة وما تلقيه بين يدي الأمة من أمراض متنوعة هي أسوأ داء ينزل في ساحة المسلمين ، ويتجول بينهم ، ويدمر طلائعهم ، فإنّ المسلم الموحّد ليصاب بأذى مضاعف من المقرنين بالتخذيل، إذا خفقت في الصف ريحهم، فما أن يقبض عالم قبضة من الهداية ليرمي بها بدعة وعماية إلا وترى في الصف نزرا رغبت بطونهم ملتفين بملاآتهم، أشغلتهم دنياهم عن آخرتهم دأبهم (الموالسة) يرمون بالتخذيل، والتحطيم، صبرة بلا كيل ولا وزن ، فيبسطون ألسنتهم بالنقد حينا ، والاستعداء أحيانا ، وينزلون أنفسهم في (روزنة)، يفيضون منها الحكمة والتعقل، والذكاء الخارق في أبعاد الأمور، وهكذا من أمور ما إن تفور إلا وتغور؟ وهم في الحقيقة المخذولون المنزوون عن الواقع، الفرارون من المواجهة، وارثوا التأويل الخاطيء لقول الله تعالى (عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم... فهذا التخذيل المشوب بالإعراض عن مواجهة الباطل من باب تحريف الكلم عن مواضعه، والمعرض عن رد الباطل بعد تذكيره يخشى أن يدخل في الذين إذا ذكروا بآيات ربهم يخرون عليها صما وعميانا... إلا أن التخذيل في هذه المسيرة الآثمة كما أنه انصراف عن معاضدة العدل، ونصرة الحق، وتعرية لفرسان الدعوة وهز لموقفهم، فهو مظاهرة للمجرمين، من المبتدعين والمفسدين، والله سبحانه قد نهى عن ذلك فقال: (فلا تكوننّ ظهيرا للمجرمين)... والحاصل أن (التخذيل) يواجه المجاهدين بألسنتهم وأقلامهم وسنانهم... لكنه مع حامله كصحوة الموت يتقلص ويضمحل بين غمضة عين وانتباهها والعاقبة للمتقين. وهذه سنة الله الجارية بالنصر والتأييد لكل حامل حق وبخاصة (حراس الشريعة) الذين ينفون عن دين الله كل هوى وبدعة فيكون قولهم الأعلى ومقامهم الأسنى) الرد على المخالف ص (71-74). وقال أيضا : فرحم الله شيخ الإسلام ابن تيمية وسقاه من سلسبيل الجنة آمين، فإن هذا الكلام في غاية الدقة والأهمية وهو وإن كان في خصوص مظاهرة (الاتحادية) لكنه ينتظم جميع المبتدعة فكل من ظاهر مبتدعا ، فعظمه أو عظم كتبه ، ونشرها بين المسلمين ونفخ به وبها وأشاع ما فيها من بدع وضلال ، ولم يكشفه فيما لديه من زيغ واختلال في الاعتقاد – إن من فعل ذلك – فهو مفرط في أمره، واجب قطع شره لئلا يتعدى على المسلمين.
وقد ابتلينا بهذا الزمان بأقوام على هذا المنوال يعظمون المبتدعة وينشرون مقالاتهم، ولا يحذرون من سقطاتهم وما هم عليه من الضلال ، فاحذروا أبا الجهل المبتدع هذا . نعوذ بالله من الشقاء وأهله . هجر المبتدع ص (48 – 49).
ذكر الإمام الشّاطبي نقلا عن كتاب السّنّة للآجري أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وأله وسلّم قال:"إذا حدث في أمّتي البدع وشتم أصحابي فليظهر العالم علمه ، فمن لم يفعل فعليه لعنة اللّه والملائكة والنّاس أجمعين " . قال عبد اللّه بن الحسن : فقلت للوليد بن مسلم ما إظهار العلم؟ قال إظهار السّنّة الاعتصام 1/58
نقل عن أبي بكر الباقلاّني :" إنّ تأخير البيان إلى وقت الحاجة جائز عند الجمهور فأمّا تأخيره عن وقت الحاجة فممتنع بآتّفاق الشّرائع " .(/40)
وقال الإمام عثمان الدّارمي كلاما حولَ هذا يقول فيه : "وقد كان من مضَى من السَّلف يكرَهون الخوضَ في هذا وما أشبَهه، وقد كانوا رُزِقوا العافيةَ منهم، وابتُلينا بهم عند دروس الإسلام وذهابِ العلماء، فلم نجد بدًّا من أن نردّ ما أتوا به من الباطل بالحقّ " الرّدّ على الجهمية . ولأبي الحسَن الأشعريّ رحمه الله كلامٌ جيِّد في معرض ردّه على الجبّائي المعتزلي، يقول فيه: "ورأيتُ الجبائي ألّف في تفسيرِ القرآن كتابًا أوّلَه على خلافِ ما أنزل الله عزّ وجلّ ، وما روى في كتابه حرفًا عن أحدِ المفسِّرين ، ولولا أنه استغوَى بكتابه كثيرًا من العوامّ واستزلّ به عن الحقّ كثيرًا من الطّغام لم يكن للتّشاغُل به وجه ". ويتحدّث ابن القيّم رحمه الله عن الوقوف في وجوه المحرّفين والعابثِين بنصوص الشريعة والحاطّين من هيبتها قائلاً : "فكشفُ عوراتِ هؤلاء وبيان فضائحِهم وفساد قواعدهم من أفضلِ الجهاد في سبيل الله ، وقد قال النبي لحسّان بن ثابت رضي الله عنه: ((إنَّ روحَ القدُس لا يزال يؤيِّدك ما نافحتَ عن الله ورسوله)). أخرجه مسلم في فضائل الصحابة (2490) عن عائشة رضي الله عنها .
قال أبو إسحاق الجويني :" فإذا رأى العالم مثله ، يزلّ ويخطئ في شيء من الأصول والفروع ، وجب عليه من حيث وجوب الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر دعاؤه عن الباطل وطريقه ، إلى الحقّ وطريق الرّشَد والصّواب فيه ، فإذا لحّ في خطابه ، وقوّى على المحقّ شبهته بما أمكنه من طريق البرهان وحسن الجدال فحصل إذ ذاك بينهما المجادلة من حيث لم يجد بدّا منها في تحقيق ما هو الحقّ وتمحيق ما هو الشّبهة والباطل . وصار بذاك بهذا المعنى الجدال من آكد الواجبات والنّظر من أولى المهمّات . وذلك يعمّ أحكام التّوحيد والشّريعة ." الكافية في علم الجدل . ص 24 .
قال ابن رجب الحنبلي : " وممّا يختصّ به العلماء ردّ الأهواء المضلّة بالكتاب والسّنّة على موردها وبيان دلالتهما على ما يخالف الأهواء كلّها ، وكذلك ردّ الأقوال الضّعيفة من زلاّت العلماء وبيان دلالة الكتاب والسّة على ردّها " .. جامع العلوم والحكم ص 98
وقال شيخ الإسلام إبن تيميّة رحمه الله تعالى : " وإذا كان النّصح واجبا في المصالح الدّينيّة الخاصّة والعامّة مثل نقلة الحديث الذين يغلطون أو يكذبون كما قال يحيى بن سعيد : سألت مالكا والثّوري واللّيث بن سعد ـ أظنّه ـ والأوزاعي عن الرّجل يتّهم في الحديث أو لا يحفظ ؟ فقالوا : بيّن أمره . وقال بعضهم لأحمد بن حنبل : إنّه يثقل عليّ أن أقول فلان كذا وفلان كذا . فقال :" إذا سكتّ أنت وسكتّ أنا فمتى يعرف الجاهل الصّحيح من السّقيم ؟! ومثل أئمّة البدع من أهل المقالات المخالفة للكتاب والسّنّة أو العبادات المخالفة للكتاب والسّنّة ، فإنّ بيان حالهم وتحذير الأمّة منهم واجب بآتّفاق المسلمين .. فلا بدّ من التّحذير من تلك البدع وان آقتضى ذلك ذكرهم وتعيينهم." الفتاوى 28 / 231 ـ 233 .
قال الإمام البربهاري في كتابه السّنّة :" .... وآخر عاند الحقّ ، وخالف من كان قبله من المتّقين ، فهو ضالّ مضلّ ، شيطان مريد في هذه الأمّة ، حقيق على من يعرفه أن يحذّر منه ويبيّن لهم قصّته لئلاّ يقع أحد في بدعته فيهلك " ص60 . وقال رحمه اللّه :" لا يحلّ أن تكتم النّصيحة أحدا من المسلمين برّهم وفاجرهم في أمر الدّين ، فمن كتم ، فقد غشّ المسلمين ، ومن غشّ المسلمين فقد غشّ الدّين ومن غشّ الدّين فقد خان اللّه ورسوله والمؤمنين ."
الحلقة السادسة
بقلم: خميس بن عليّ الماجري(1)
وهذه بعض العناوين السّريعة التي تلخّص ما ذكرناه طيلة الحلقات السّابقة.
الرّدّ على المخالف هو الدّين كلّه وعليه مدار الإسلام كلّه :
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :" الدِّينُ النَّصِيحَةُ. قُلْنَا : لِمَنْ ؟ قَالَ : لِلَّهِ، وَلِكِتَابِهِ، وَلِرَسُولِهِ، وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَعَامَّتِهِمْ " قال النّووي : هَذَا حَدِيث عَظِيم الشَّأْن، وَعَلَيْهِ مَدَار الْإِسْلَام..، وَأَمَّا مَا قَالَهُ جَمَاعَات مِنْ الْعُلَمَاء : أَنَّهُ أَحَد أَرْبَاع الْإِسْلَام، أَيْ أَحَد الْأَحَادِيث الْأَرْبَعَة الَّتِي تَجْمَع أُمُورَ الْإِسْلَام، فَلَيْسَ كَمَا قَالُوهُ، بَلْ الْمَدَارُ عَلَى هَذَا وَحْدَهُ...، وَمَعْنَى الْحَدِيث : عِمَاد الدِّين وَقِوَامه النَّصِيحَة. كَقَوْلِهِ : الْحَجُّ عَرَفَة أَيْ عِمَاده وَمُعْظَمه عَرَفَة.
الرّدّ على المخالف من أعظم حقوق الله تعلى على عباده :
قال إبن القيّم رحمه الله تعالى : " ومن بعض حقوق الله على عبده ردّ الطّاعنين على كتابه ورسوله ودينه، ومجاهدتهم بالحجّة والبيان والسّيف والبنان، والقلب والجنان، وليس وراء ذلك حبّة خردل من الإيمان " هداية الحيارى من أجوبة اليهود والنّصارى ص 10
الرّدّ على المخالف إعطاء للإسلام حقّه :(/41)
الرّدّ على المخالف حقّ الإسلام على كلّ مسلم إذ كيف يدافع المرء عن نفسه وعن أهله وولده ولا يدافع عن دينه قال شيخ الإسلام :" فكلّ من لم يناظر أهل الإلحاد والبدع مناظرة تقطع دابرهم، لم يكن أعطى الإسلام حقّه، ولا وفّى بموجب العلم والإيمان، ولا حصل بكلامه شفاء الصّدور وطمأنينة النّفوس، ولا أفاد كلامه العلم واليقين ".
الرّدّ على المخالف منهج الأنبياء عليهم الصّلاة السّلام :
قال أوّلهم نوح عليه الصّلاة والسّلام {يا قوم ليس بي ضلالة ولكنّي رسول من رب العالمين أبلّغكم رسالات ربّي وأنصح لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون } - سورة الأعراف: 61-62 - وقال هود { يا قوم ليس بي سفاهة ولكنّي رسول رب العالمين أبلّغكم رسالات ربّي وأنا لكم ناصح أمين} - سورة الأعراف 68- وقال صالح بعد أن أهلك الله قومه المكذّبين { فتولّى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربّي ونصحت لكم ولكن لا تحبّون النّاصحين} - سورة الأعراف : 79 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله صلّى الله عليه و سلّم قال:[ إنّ الله يرضى لكم ثلاثاً، ويسخط لكم ثلاثا. يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا، ولا تفرّقوا، وأن تناصحوا من ولاّه الله أمركم، ويسخط لكم ثلاث : قيل وقال،وكثرة السؤال، وإضاعة المال].رواه مسلم ومالك وأحمد. وعن جرير بن عبد الله البجلي – رضي الله عنه- قال: [بايعت رسول الله صلى الله عليه و سلّم على إقام الصّلاة وإيتاء الزكاة والنّصح لكلّ مسلم] -أخرجه البخاري في الإيمان حديث (57 )ومسلم في الإيمان حديث ( 56 ) -، وعن زياد بن علاقة قال :" سمعت جرير بن عبد الله يقوم يوم مات المغيرة بن شعبة، قام فحمد الله و أثنى عليه، و قال : عليكم باتّقاء الله و حده لا شريك له و الوقار و السّكينة حتّى يأتيكم أمير، فإنّما يأتيكم الآن ثمّ قال: استعفوا لأميركم، فإنّه كان يحبّ العفو ثم قال أما بعد : فإني أتيت النبي صلى الله عليه و سلم قلت :أبايعك على الإسلام، فشرط عليّ (و النصح لكل مسلم ) فبايعته على هذا وربّ هذا المسجد إنّي لناصح لكم ثمّ استغفر ونزل".- أخرجه البخاري في الإيمان حديث (57 ) ومسلم في الإيمان حديث ( 56 ) -.
الرّدّ على المخالف من أعظم مهام الأنبياء والمرسلين بل هي خلاصة دعوتهم : قال شيخ الإسلام في قوله تعالى : " ولقد بعثنا في كلّ أمّة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطّاغوت " إلى قوله :" ليبيّن لهم الّذي يختلفون فيه وليعلم الّذين كفروا أنّهم كانوا كاذبين " فإنّ قوله سبحانه " ليبيّن لهم" متعلّق بقوله " ولقد بعثنا " ـ على أحد التّفسيرين ـ فيكون المعنى : بعثناه ليبيّن لهم الذي يختلفون فيه..." الفتاوى 11 / 435
وانظر إلى المقاصد العظيمة والمهام الجليلة لبعثة عيسى عليه السّلام في القول المبين لربّ العالمين " ولمّا جاء عيسى بالبيّنات قال قد جئتكم بالحكمة ولأبيّن لكم بعض الذي تختلفون فيه فآتّقوا الله وأطيعون " الّزخرف 63. وقال الله تعالى، عن صالح - عليه السلام - بعد أن دعا قومه ولم يستجيبوا له " فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ" الأعراف:79.
الرّدّ على المخالف إظهار للحقّ وتعريف به :
قال رسول الله صلّى الله عليه و على آله و سلّم : " إنّه لم يكن نبيّ قبلي إلاّ كان حقاً عليه أن يدلّ أمّته على خير ما يعلمه لهم وينذرهم شرّ ما يعلمه لهم. وإنّ أمّتكم هذه جعل عافيتها في أوّلها وسيصيب آخرها بلاء وأمور تنكرونها وتجيء فتن فيرقّق بعضها بعضاً وتجيء الفتنة فيقول المؤمن هذه مهلكتي ثمّ تنكشف، وتجيء الفتنة فيقول المؤمن هذه هذه، فمن أحبّ أن يزحزح عن النّار ويدخل الجنّة فلتأته منيّته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى النّاس الذي يحبّ أن يؤتى إليه، ومن بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع. فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر" - أخرجه مسلم في الإمارة حديث 1844 -.
إنّ من أعظم ثمار الرّدّ والإنكار على من خالف الشّرع الحنيف إظهار الحقّ الّذي أوجبه الشّرع العادل. قال ابن رجب رحمه اللّه:" الواجب على المسلم أن يحبّ ظهور الحقّ ومعرفة المسلمين له، سواء كان ذلك في موافقته أو مخالفته. وهذا من النّصيحة لله ولكتابه ورسوله ودينه وأئمّة المسلمين وعامّتهم، وذلك هو الدّين كما أخبر النّبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم." الفرق بين النّصيحة والتّعيير ص 32
قال ابن تيميّة :" ولهذا يسوغ بل يجب أن نبيّن الحقّ الّذي يجب آتّباعه، وإن كان فيه بيان خطأ من أخطأ من العلماء والأمراء.. مجموع الفتاوى 19/123-124
الرّدّ على المخالف قيام بالقسط وشهادة للّه تعالى :(/42)
أمر الله تعالى المؤمنين أن يقوموا بالقسط ويشهدوا لله عزّ وجلّ ولو على النّفس وأولى النّاس بالحقوق من أولياء و أقربين فكيف بمن هم أبعد من ذلك قال تعالى { يا أيّها الّذين آمنوا كونوا قوّامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيّا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتّبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإنّ الله كان بما تعملون خبيرا } والليّ هو الكذب والإعراض هو الكتمان كما قال إبن تيميّة. مجموع الفتاوى 28 / 235
الرّدّ على المخالف نصرة للرّسول صلّى اللّه عليه وعلى آله وسلّم:
وجعل أبو بكر الآجري – رحمه الله تعالى – من النّصح للرّسول صلّى اللّه عليه وعلى آله وسلّم تعلّم سنّته والذّبّ عنها والتّحذير ممّن انحرف عنها فقال : " وأماّ نصيحة المسلمين له بعد وفاته فالتزام التّوقير والإجلال وشدّة المحبّة له، والمثابرة على تعلّم سنّته والتّفقّه في شريعته ومحبّة آل بيته، وأصحابه ن ومجانبة من رغب عن سنّته وانحرف عنها وبغضه والتّحذير منه والشّفقة على أمّته والبحث عن تعرّف أخلاقه وسيره وآدابه والصّبر على ذلك "...الشّفا للقاضي عياض 2 /582
وقال الإمام القرطبي نحوا من ذلك فقال :".... وتعظيمه وتعظيم سنّته وإحياؤها بعد موته بالبحث عنها والتّفقّه فيها والذّبّ عنها ونشرها والدّعاء لها... تفسير القرطبي 8 /227
الرّدّ على المخالف من أعظم الجهاد وجعله بعض أهل العلم أفضله :
وجعل الإنكار أفضل الأعمال بل من أعظم الجهاد : روى ابن ماجة في سننه بإسنادٍ صحيح عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :" أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان الخدري رضي الله عنه جائر "، و في رواية : " كلمة حقًّ".
و ما صحّ في سننه أيضاً من حديث أبي أمامة رضي الله عنه، أنه قال : عرض لرسول الله صلى الله عليه و سلم رجل عند الجمرة الأولى، فقال : يا رسول الله أيُّ الجهاد أفضل ؟ فسكت عنه. فلمّا رمى الجمرة الثانية سأله، فسكت عنه. فلما رمى جمرة العقبة وضَعَ رِجْلَه في الغَرْز ليَركب، قال : أين السائل ؟ قال : أنا يا رسول الله. قال : " كلمة حقّ عند ذي سلطان جائر " .
كما صحّ بذلك الخبر عن النّبيّ صلّى الله عليه وعلى أله و سلَّم : " سيّد الشّهداء حمزة بن عبد المطّلب، و رجل قام إلى إمام جائر فأمره و نهاه فقتله " رواه الحاكم في مستدركه عن جابر بإسناد صحَّحه، و أقرَّه الذهبي.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنّ رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله سلم قال :" ما من نبيّ بعثه الله في أمّة قبلي إلاّ كان له من أمّته حواريّون وأصحاب يأخذون بسنّته ويقتدون بأمره ثمّ إنّها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن وليس وراء ذلك من الإيمان حبّة خردل " . صحيح مسلم ص80.
ومن ثمّ ذهب شيخ الإسلام إلى أنّ من الجهاد الرّدّ على المخالف. ومن نصوصه : – رحمه اللّه تعالى –"الرّادّ على أهل البدع مجاهد، حتّى كان يحيى بن يحيى شيخ البخاري ومسلم يقول :" الذّبّ عن السّنّة أفضل الجهاد ". نقض المنطق ص 12 ومجموع الفتاوى 4 / 13. ورواه الهرويّ بسنده إلى نصر بن زكريّا قال : " سمعت محمّد بن يحيى الذّهلي يقول : سمعت يحيى بن يحيى يقول :" الذّبّ عن السّنّة أفضل الجهاد في سبيل الله " قال محمّد :" قلت ليحيى : الرّجل ينفق ماله ويتعب نفسه ويجاهد، فهذا أفضل منه ؟! قال : نعم بكثير " ذمّ الكلام. ص: 111 ـ
وقال بعدما ذكر خطر تأويلات المحرّفين والعابثِين بنصوص الشريعة والحاطّين من هيبتها والمخالفين للسّلف الفاضل : "...فكشف عورات هؤلاء، وبيان فضائحهم، وفساد قواعدهم، من أفضل الجهاد في سبيل اللّه وقد قال النّبيء صلّى الله عليه وسلّم لحسّان بن ثابت :" إنَّ روحَ القدُس لا يزال يؤيِّدك ما نافحتَ عن الله ورسوله. أخرجه مسلم في فضائل الصّحابة (2490).
و عن عائشة رضي الله عنها : قال : " اهجهم أو هاجمهم وجبريل معك ". وقال " اللّهمّ أيّده بروح القدس ما دام ينافح عن رسولك ". وقال عن هجائه لهم " والّذي نفسي بيده لهو أشدّ فيهم من النّبل ". الصّواعق المرسلة 1 /301-302. وقال : "... فمن كان مجاهدا في سبيل الله باللّسان بالأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، وبيان الدّين، وتبليغ ما في الكتاب والسّنّة من الأمر والنّهي والخير، وبيان الأقوال المخالفة لتلك، والرّدّ على من خالف الكتاب والسّنّة. أو باليد، كقتال الكفّار.(/43)
فإذا أوذي في جهاده بيد غيره أو لسانه، فأجره في ذلك على الله، لا يطلب من الظّالم عوض مظلمته، بل هذا الظّالم إن تاب وقبل الحقّ الذي جوهد عليه، فالتّوبة تجبّ ما قبلها : " قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وإن يعودوا فقد مضت سنّة الأوّلين " الأنفال : 38. وإن لم يتب، بل أصرّ على مخالفة الكتاب والسّنّة، فهو مخالف لله ورسوله، وان كان- أيضا- للمؤمنين حقّ تبعا لحقّ الله، وهذا إذا عوقب، لحقّ الله، ولتكون كلمة الله هي العليا، ويكون الدّين كله لله، لا لأجل القصاص فقط " الاحتجاج بالقدر" (ص 50) نشر مكتبة أنصار السنة.
وقال : " فما أعظم المصيبة بهذا وأمثاله على الإيمان ! وما أشدّ الجناية به على السّنّة والقرآن ! وما أحبّ جهاده بالقلب واليد واللّسان إلى الرّحمن ! وما أثقل أجر ذلك الجهاد في الميزان ! والجهاد بالحجّة واللّسان مقدم على الجهاد بالسّيف والسّنان، ولهذا أمر به تعالى في السّور المكّيّة حيث لا جهاد باليد ؟ إنذارا وتعذيرا، فقال تعالى : " فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا "، فالجهاد بالعلم والحجّة جهاد أنبيائه ورسله وخاصّته من عباده المخصوصين بالهداية والتوفيق والإنفاق، ومن مات ولم يغز ولم يحدّث نفسه بالغزو، مات على شعبة من النّفاق، وكفى بالعبد عمى وخذلانا أن يرى عساكر الإيمان وجنود السّنّة والقرآن وقد لبسوا للحرب لامته، وأعدّوا له عدّته، وأخذوا مصافهم، ووقفوا مواقفهم، وقد حمي الوطيس، ودارت رحى الحرب، واشتدّ القتال، وتنادت الأقران : النّزال ! النّزال ! وهو في الملجأ والمغارات والمدخل، مع الخوالف كمين، وإذا ساعد القدر وعزم على الخروج، قعد فوق التّلّ مع النّاظرين، ينظر لمن الدّائرة، ليكون إليهم من المتحيّزين، ثمّ يأتيهم وهو يقسم بالله جهد أيمانه أنّي كنت معكم وكنت أتمنّى أن تكونوا أنتم الغالبين " شرح القصيدة النونية ا للشيخ محمد خليل هراس (1/ 8).
وقال الإمام يحيى بن يحيى النّيسابوري: "الذّبّ عن السّنّة أفضل من الجهاد " نقد المنطق ص 12.
وقال إبن القيّم – رحمه اللّه تعالى – : " والجهاد بالحجّة واللّسان مقدّم على الجهاد بالسّيف والسّنان " شرح العقيدة النّونيّة للشّيخ محمّد خليل هراس 1 / 12.
الرّدّ على المخالف في عيون الكفّار سبب من أسباب إنتصار المسلمين عليهم :
طلب هرقل من جنوده أن يصفوا له المسلمين الذين كلّما دخلوا معركة غلبوها مهما كان أعداءهم، فقال لجنده :" ويلكم ! أخبروني عن هؤلاء القوم الّذين يقاتلونكم أليسوا بشرا مثلكم ؟ قالوا : بلى ! قال : فأنتم أكثر أم هم ؟ قالوا : بل نحن أكثر منهم أضعافا في كلّ موطن. قال : فما بالكم تنهزمون ؟ فقال شيخ من عظمائهم : من أجل أنّهم يقومون اللّيل، ويصومون النّهار، ويوفون بالعهد، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويتناصفون بينهم " البداية والنّهاية 7 / 15 الحافظ إبن كثير.
الرّدّ على المخالف واجب شرعيّ بآتّفاق المسلمين :
قال شيخ الإسلام – رحمه اللّه تعالى – :"ومثل أئمّة البدع من أهل المقالات المخالفة للكتاب والسّنّة، أو العبارات المخالفة للكتاب والسّنّة، فانّ بيان حالهم وتحذير الأمّة منهم واجب بآتّفاق المسلمين ". الفتاوى28 /231.
وقال رحمه الله : " ويجب على أولي الأمر وهم علماء كلّ طائفة وأمراؤها ومشائخها أن يقوموا على عامّتهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر فيأمرونهم بما أمر الله به ورسوله، وينهونهم عمّا نهى الله عنه ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم ". الفتاوى 3 / 423
وقال الإمام الشّاطبي – رحمه اللّه تعالى – : " الحقوق الواجبة على المكلّف على ضربين كانت من حقوق الله كالصّلاة والصّيام والحجّ، أو من حقوق الآدميّين كالدّيون والنّفقات والنّصيحة وإصلاح ذات البين "... الموافقات 1/105.
وجعل أبو بكر الآجري – رحمه الله تعالى – من النّصح للرّسول صلّى اللّه عليه وعلى آله وسلّم تعلّم سنّته والذّبّ عنها والتّحذير ممّن انحرف عنها فقال :" وأماّ نصيحة المسلمين له بعد وفاته فالتزام التّوقير والإجلال وشدّة المحبّة له، والمثابرة على تعلّم سنّته والتّفقّه في شريعته ومحبّة آل بيته، وأصحابه، ومجانبة من رغب عن سنّته وانحرف عنها وبغضه والتّحذير منه والشّفقة على أمّته والبحث عن تعرّف أخلاقه وسيره وآدابه والصّبر على ذلك "...الشّفا للقاضي عياض 2 / 582 . وقال الإمام القرطبي نحوا من ذلك فقال : ".... وتعظيمه وتعظيم سنّته وإحياؤها بعد موته بالبحث عنها والتّفقّه فيها والذّبّ عنها ونشرها والدّعاء لها...". تفسير القرطبي 8 /227
قال الإمام البربهاري في كتابه السّنّة : " وآخر عاند الحقّ، وخالف من كان قبله من المتّقين، فهو ضالّ مضلّ، شيطان مريد في هذه الأمّة، حقيق على من يعرفه أن يحذّر منه ويبيّن لهم قصّته لئلاّ يقع أحد في بدعته فيهلك " . ص60(/44)
و قال صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم :" ائتمروا بالمعروف، وتناهوا عن المنكر، حتّى إذا رأيت شحّاً مطاعاً، وهوى متّبعاً، ودنياً مؤثرة، وإعجاب كلّ ذي رأي برأيه ؛ ورأيت أمراً لا يدان لك به، فعليك خويصة نفسك، ودع عنك أمر العوامّ، فإنّ من ورائكم أيّام الصّبر، الصّبر فيهنّ على مثل قبض على الجمر، للعامل فيهنّ مثل أجر خمسين رجلاً يعملون بمثل عمله ". أخرجه ابن ماجه في سننه (4045)، وأبو داود في سننه (3839)، والترمذي في سننه (3131).
الإنكار يعظم وجوبه ويتعيّن على من علمه :
عند رؤيتك المنكر وعلمك به، يصبح فرضا عينيّا عليك لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعلى آله وسَلَّمَ – " مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ ". صحيح مسلم رقم 49. فقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ و على آله وَسَلَّمَ : " فَلْيُغَيِّرْهُ "، فَهُوَ أَمْر إِيجَابٍ بِإِجْمَاعِ الأمَّة. وَقَدْ تَطَابَقَ عَلَى وُجُوب الأمْر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنْ الْمُنْكَر الْكِتَاب وَالسُّنَّة وَإِجْمَاعُ الأمَّّة وَهُوَ أَيْضًا مِنْ النَّصِيحَة الَّتِي هِيَ الدِّين. فَهِيَ وَاجِبَةٌ طَلَبُوا ذَلِكَ أَمْ لا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وعلى آله وَسَلَّمَ :" الدِّينُ النَّصِيحَةُ ! قُلْنَا لِمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ ". شرح مسلم للنووي ح 55.
ويعظم الوجوب العينيّ عليك عند علمك بالخطر الذي تتفطّن له. قال النّووي :" قَدْ يَتَعَيَّن كَمَا إِذَا كَانَ فِي مَوْضِعٍ لا يَعْلَم بِهِ إلاّ هُوَ أَوْ لا يَتَمَكَّنُ مِنْ إِزَالَته إلاّ هُوَ , وَكَمَنْ يَرَى زَوْجَته أَوْ وَلَده أَوْ غُلامه عَلَى مُنْكَر أَوْ تَقْصِير فِي الْمَعْرُوف ". شرح مسلم للنووي /ح 55 كما يتأكّد الإنكار إذا كنت قادرا على ذلك وكان لك السّلاح الضّروري لمقاومة ذلك الإنحراف، ولا يختلف إثنان أنّ السّلاح هنا هو سلاح الحجّة والعلم.
الرّدّ على المخالف واجب عند ظهور البدع ومنها شتم الصّحابة رضي الله عنه :
ذكر الإمام الشّاطبي رحمه الله تعالى نقلا عن كتاب السّنّة للآجري " إذا حدث في أمّتي البدع وشتم أصحابي فليظهر العالم علمه، فمن لم يفعل فعليه لعنة اللّه والملائكة والنّاس أجمعين ". قال عبد اللّه بن الحسن : فقلت للوليد بن مسلم :" ما إظهار العلم ؟ قال إظهار السّنّة " . الاعتصام للشّاطبي 1/58
الرّدّ على المخالف خير من النّوافل لأنّ النّوافل خيرها متوقّف على صاحبها في حين أنّ الإنكار خيرها متعدّ:
قال شيخ الإسلام – رحمه اللّه تعالى – :" قيل لأحمد بن حنبل : الرّجل يصوم ويصلّي ويعتكف أحبّ إليك أو يتكلّم في أهل البدع ؟ فقال : " إذا قام وصلّى وآعتكف فإنّما هو لنفسه، وإذا تكلّم في أهل البدع فإنّما هو للمسلمين هذا أفضل ". الفتاوى28 / 231
الرّدّ على المخالف من أفضل الأعمال الصّالحة :
قال شيخ الإسلام – رحمه اللّه تعالى – : " والأمر بالسّنّة والنّهي عن البدعة هو أمر بمعروف ونهي عن منكر، وهو من أفضل الأعمال الصّالحة " منهاج السّنّة 5 / 253 وقال ابن القيّم– رحمه اللّه تعالى – : " فالمدافعة عن كلام الله ورسوله والذّبّ عنه من أفضل الأعمال وأحبّها إلى الله وأنفعها للعبد "... الّصواعق المرسلة 1/ 302
ضرر شبهات المبتدعين أعظم من ضرر المحتلّ :
إنّ المهزوم المفتون الذي يلوّث الدّين والمنهج والشّرعة يسهم دون شكّ في الهزيمة العامّة للأمّة وأعظم الهزائم التي تبتلى بها شكّها في الحقّ الذي معها فتذهب باحثة عنه في أمم أخرى ومن هنا يكون المحرّفون للشّريعة أخطر من العدوّ لأنّهم يفسدون الدّين إبتداء ممّا يكون سببا للغزو، أمّا العدوّ فيفسده تبعا، ولذلك كان فساده أعظم من فساد استيلاء العدوّ من أهل الحرب، قال شيخ الإسلام :"
فبيّن أنّ نفع هذا عام للمسلمين في دينهم، من جنس الجهاد في سبيل الله، إذ تطهير سبيل الله ودينه ومنهاجه وشرعه ودفع بغي هؤلاء وعدوانهم على ذلك واجب على الكفاية باتّفاق المسلمين. ولو لا من يقيمه الله لدفع ضرر هؤلاء، لفسد الدّين، وكان فساده أعظم من فساد استيلاء العدوّ من أهل الحرب. فإنّ هؤلاء إذا استولوا لم يفسدوا القلوب وما فيها من الدّين، إلاّ تبعا، وأمّا أولئك، فهم يفسدون القلوب ابتداء " الفتاوى28 / 232
الرّدّ على شرّ المخالف أعظم من دفع شرّ قاطع الطّريق :(/45)
قال شيخ الإسلام – رحمه اللّه تعالى – : " وكذلك بيان أهل العلم لمن غلط في رواية عن النّبيّ، وتعمّد الكذب عليه، أو على من ينقل عنه العلم، وكذلك بيان من غلط في رأي رآه في أمر من أمور الدّين من المسائل العلميّة والعمليّة فهذا إذا تكلّم فيه الإنسان بعلم وعدل، وقصد النّصيحة فاللّه تعالى يثيبه على ذلك، لا سيما إذا كان المتكلّم فيه داعيا إلى بدعة، فهذا يجب بيان أمره للنّاس فإنّ دفع شرّه عنهم أعظم من دفع شرّ قاطع الطّريق "... منهاج السّنّة 3/36
الرّدّ على المخالف هو الواجب الذي يشترط لنجاة أهل الأعذار من الجهاد :
قال الله تعالى : { لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } 91 التّوبة .
الرّدّ على المخالف هو صاحب القلم الجامع :
قال إبن القيّم ـ رحمه الله تعالى ـ في بيان أنواع الأقلام : " القلم الثّاني عشر: القلم الجامع، وهو قلم الرّدّ على المبطلين، ورفع سنّة المحقّين، وكشف أباطيل المبطلين على آختلاف أنواعها وأجناسها، وبيان تناقضهم وتهافتهم وخروجهم عن الحقّ ودخولهم في الباطل، وهذا القلم في الأقلام نظير الملوك في الأنام، وأصحابه أهل الحجّة النّاصرون لما جاءت به الرّسل، المحاربون لأعدائهم. وهم الدّاعون إلى اللّه بالحكمة والموعظة الحسنة، المجادلون لمن خرج عن سبيله بأنواع الجدال. وأصحاب هذا القلم حرب لكلّ مبطل، وعدوّ لكلّ مخالف للرّسل. فهم في شأن وغيرهم من أصحاب الأقلام في شأن ". التّبيان في أقسام القرآن ص132
الرّدّ على المخالف عمل الأمّة ضدّ النّخبة حتّى ننجو من الهلاك :
إنّ ترك الإنكار يسبّب الهلاك العامّ والخاصّ ولذلك بوّب الإمام مالك في موطّئه " ما جاء في عذاب العامّة بعمل الخاصّة " الموطّأ 2 / 991. وخصّص الإمام البزّار في كتاب الفتن " باب فيمن داهن وسكت عن المعاصي ".
قال صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم : "إن الله لا يعذّب العامّة بعمل الخاصّة حتىّ تعمل الخّاصّة بعمل تقدر العامّة أن تغيّره ولا تغيّره فذاك حين يأذن الله في هلاك العامّة والخاصّة " أخرجه الطبراني في الكبير (13788) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (ج7 ص529): رجاله ثقات.
وقد روى التّرمذي عن ابن مسعود قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم : " لمّا وقعت بنو إسرائيل في المعاصي نهتهم علماؤهم فلم ينتهوا، فجالسوهم في مجالسهم وواكلوهم وشاربوهم ؛ فضرب الله قلوب بعضهم ببعض ولعنهم على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون، قال : فجلس رسول الله وكان متّكئاً فقال : لا، والّذي نفسي بيده حتى تَؤطِّرُوهم على الحقّ أطراً "، وفي رواية أبي داود : " أوّل ما دخل النّقص على بني إسرائيل كان الرّجل يلقى الرّجل، فيقول له : يا هذا اتّق الله ودع ما تصنع فإنّه لا يحلّ لك، ثمّ يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أَكِيلَهُ "وزاد في آخرها : " أو ليضربنّ الله بقلوب بعضكم بعضاً ثمّ ليلعنكم كما لعنهم ". ففي هذا الحديث توضيح أنّ مخالطة صاحب المنكر من أوائل الأمور التي سبّبت نقص الدّين عند بني إسرائيل، لما فيها من إقرار بالمنكر ورضا بالفاعل، وهذا سبب لترك الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر الأمر الذي يسبّب إفساد المجتمع وهلاكه. وقد حذرنا رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم من هذا المسلك وأرشد إلى ضرورة الإنكار والأخذ على يد العاص وإلاّ تكون مشاركا له ومنحازا إليه لأنّ السّاكت والمداهن كالفاعل تماما والواقع فيه. فالرّدّ على المخالف سياج حامي للأمّة، حيث يوجد الجوّ الصّالح والمناخ الغارس للفضائل ويكوّن الرّأي العام المسلم الحارس للآداب والفضائل.
الإنكار إعانة للمخالف على إنقاذ نفسه:(/46)
قال عمر رضي الله عنه :" حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا ؛ فإنّه أهون عليكم في الحساب غدًا أن تحاسبوا أنفسكم اليوم، وتزيّنوا، يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية " أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء 2 / 52 بإسناد حسن. بل كان الصّحابة من شدّة حرصهم على سلامة أنفسهم ومحاسبتها حتّى يتّهمون أنفسهم بالنّفاق فعَنْ حَنْظَلَةَ الْأُسَيِّدِيِّ وَكَانَ مِنْ كُتَّابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ و على آله وَسَلَّمَ قَالَ : " لَقِيَنِي أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ : كَيْفَ أَنْتَ يَا حَنْظَلَةُ قَالَ، قُلْتُ : نَافَقَ حَنْظَلَةُ ! قَالَ : سُبْحَانَ اللَّهِ، مَا تَقُولُ ؟ قَالَ : " قُلْتُ نَكُونُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ حَتَّى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَافَسْنَا الْأَزْوَاجَ وَالْأَوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ فَنَسِينَا كَثِيرًا ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ : " فَوَاللَّهِ إِنَّا لَنَلْقَى مِثْلَ هَذَا "، فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قُلْتُ : نَافَقَ حَنْظَلَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " وَمَا ذَاكَ ؟ قُلْتُ : " يَا رَسُولَ اللَّهِ نَكُونُ عِنْدَكَ تُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ حَتَّى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِكَ عَافَسْنَا الْأَزْوَاجَ وَالْأَوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ، نَسِينَا كَثِيرًا " ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :" وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنْ لَوْ تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُونُونَ عِنْدِي وَفِي الذِّكْرِ لَصَافَحَتْكُمْ الْمَلَائِكَةُ عَلَى فُرُشِكُمْ وَفِي طُرُقِكُمْ وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً ثَلَاثَ مَرَّاتٍ " صحيح مسلم رقم 2750.
وهذه الحالة لم تصاحب حنظلة وأبا بكر فقط، بل كانت حالة جميع الصّحابة رضي الله تعالى عنهم، يقول ابن أبي مليكة : " أدركت ثلاثين من أصحاب النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم كلّهم يخاف النّفاق على نفسه، ما منهم أحد يقول إنّه على إيمان جبريل وميكائيل ". البخاري في الصّحيح تعليقا 1/ 26 وأخرجه متّصلا في التّاريخ الكبير 5 / 137، وأخرجه محمّد بن نصر في تعظيم قدر الصّلاة 688.
الرّدّ على المخالف إستجابة للوضع الطّبيعي لخيريّة هذه الأمّة :
قال تعالى { كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ } آل عمران 110... قال الإمام الشّوكاني رحمه الله تعالى : " وقوله تأمرون بالمعروف الخ كلام مستأنف يتضمن بيان كونهم خير أمة مع ما يشتمل عليه من أنهم خير أمة ما أقاموا على ذلك واتصفوا به، فإذا تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر زال عنهم ذلك." فتح القدير ج1 ص 371. وقال تعالى { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} التّوبة:71 .
الرّدّ على المخالف من أخصّ أوصاف المؤمن :
وحكى القرآن عن صالح عليه السّلام أنّ أخلص عمل قام به تجاه قومه هو النّصح قال تعالى :" فتولّى عنهم وقال ياقوم قد أبلغتكم رسالة ربّي ونصحت لكم ولكن لا تحبّون النّاصحين ". 79 الأعراف.ولذلك قال القرطبي في تفسيره "أن أخصّ أوصاف المؤمن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"
الرّدّ على المخالف إستجابة لنداء الله تعالى :(/47)
قال الله عزّ وجلّ { وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } آل عمران 104. وقال { وإذ أخذ اللّه ميثاق الّذين أوتوا الكتاب لتبيّننّه للنّاس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم وآشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون} 157 آل عمران. قال قتادة في الآية " هذا ميثاق أخذه اللّه على أهل العلم، فمن علم علما فليعلّمه النّاس، و إيّاكم وكتمان العلم، فان ّكتمان العلم هلكة "، وعن الحسن البصريّ :" لولا الميثاق الذي أخذه اللّه على أهل العلم، ما حدّثتكم بكثير ممّا تسألون عنه ". تفسير الطّبري 3/ 544. وقال القرطبي في قوله تعالى { إنّ الّذين يكتمون ما أنزلنا من البيّنات والهدى من بعد ما بيّنّاه للنّاس في الكتاب أولئك يلعنهم اللّه ويلعنهم اللاّعنون } البقرة 159. قال رحمه اللّه :" أخبر اللّه تعالى أنّ الّذي يكتم ما أنزل اللّه من البّيّنات والهدى ملعون، وبها آستدلّ العلماء على وجوب تبليغ العلم الحقّ ". تفسير القرطبي20/185-184. وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم : " من رأى منكم منكراً فليغيّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان " أخرجه مسلم (49) وأبو داود (1140)،(4340) والترمذي (2172) وابن ماجه (1275)،(4013) والنسائي (8/111-112) وأحمد (3/54) من حديث أبي سعيد الخدري.
فالرّدّ إذن ضروريّ لابدّ منه لأنّه منهج قرآنيّ وعمل نبويّ وسبيل للمؤمنين الّذين آتّبعوا سنّته لأنّه تحقّق لفريضة النّصح للّه ولكتابه ولرسوله وللمؤمنين...
الرّدّ على المخالف كفيل برفع العقاب الإلاهيّ :
قال الله تعالى { وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } سورة الأنفال 25.
و قال صلّى الله عليه وآله وسلّم : "إنّ النّاس إذا رَأَوُا الْمُنْكَرَ لاَ يُغَيِّرُونَهُ، أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللهُ بعقابه." أخرجه أحمد في مسند أبي بكر(1 و16 و54)، التّرمذي في السّنن (3130)، ابن ماجه في السّنن (4036) وغيرهم . و قال ابن عباس: "أمر الله المؤمنين ألا يقروا المنكر بين أظهرهم فيعمهم العذاب ".
الرّدّ على المخالف هم النّاجون هم الظّاهرون على الحقّ :
قال صلّى اللّه عليه وعلى آله وسلّم :" لا تزال طائفة من أمّتي على الحقّ ظاهرين لا يضرّهم من خالفهم حتّى يأتي أمر اللّه "
أمر الشّرع بمقاطعة أصحاب المنكر وعدم مؤاكلتهم و مشاربتهم و مجالستهم ما دام لم ينته عن المنكر. وهذا الحكم قرّره الفقهاء استنباطا من حديث عن ابن مسعود عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: " إنّ أوّلَ مَا دَخَلَ النّقْصُ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ كَانَ الرّجُلُ يَلْقَى الرّجُلَ فَيَقُولُ: يَا هَذَا اتّقِ الله وَدَعْ مَا تَصْنَعُ فإنّهُ لا يَحِلّ لَكَ ثمّ يَلْقَاهُ مِنَ الْغَدِ فَلاَ يَمْنَعُهُ ذَلِكَ أنْ يَكُونَ أكِيلَهُ وَشَرِيبَهُ وَقَعِيدَهُ فلَمّا فَعَلُوا ذَلِكَ ضَرَبَ الله قُلُوبَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ، ثُمّ قالَ: لُعِنَ الّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى بنِ مَرْيَمَ - إلَى قَوْلِهِ – ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون "... أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه)، ومن حديث عن أبي موسى عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال:" إنه من كان قبلكم من بني إسرائيل إذا عمل فيهم العامل الخطيئة، فنهاه الناهي تعذيراً، فإذا كان من الغد جالسه وواكله وشاربه، كأنه لم يره على خطيئة بالأمس، فلما رأى الله تعالى ذلك منهم، ضرب قلوب بعضهم على بعض، ولعنهم على لسان داود وعيسى بن مريم والذي نفسي بيده لتأمرنّ بالمعروف، ولتنهنّ عن المنكر، ولتأخذنّ على أيدي المسيء، ولتؤطرنّه على الحق أطراً، أو ليضربنّ الله بقلوب بعضكم على بعض، ويلعنكم كما لعنهم ". قال الهيثمي في المجمع: رواه الطبراني و رجاله رجال الصّحيح.
تارك الإنكار غاشّ للمسلمين :
إنّ كتمان النّصيحة للمسلمين حرام لأنّه نوع من الرّضا بهلاكهم قال البربهاري – رحمه اللّه تعالى- : " ولا يحلّ أن تكتم النّصيحة أحدا من المسلمين برّهم وفاجرهم في أمر الدّين، فمن كتم فقد غشّ المسلمين ومن غشّ المسلمين فقد غشّ الدّّين ومن غشّ الدّين فقد خان اللّه ورسوله والمؤمنين ".
تارك الإنكار شيطان أخرس ميّت القلب :(/48)
قال إبن القيّم رحمه الله تعالى : " وأيّ دين وأيّ خير فيمن يرى محارم الله تنتهك وحدوده تضاع ودينه يترك، وسنّة رسول الله يرغب عنها وهو بارد القلب ساكت اللّسان شيطان أخرس كما أن المتكلّم بالباطل شيطان ناطق ؟ وهل بليّة الدّين إلاّ من هؤلاء الذين إذا سلمت لهم مآكلهم ورياساتهم فلا مبالاة بما جرى على الدين ؟ وخيارهم المتحزّن المتلمّظ، ولو نوزع في بعض ما فيه غضاضة عليه في جاهه أو ماله بذل وتبذل وجد واجتهد،واستعمل مراتب الإنكار الثلاثة بحسب وسعه، وهؤلاء مع سقوطهم من عين الله ومقت الله لهم قد بُلوا في الدّنيا بأعظم بليّة تكون، وهم لا يشعرون، وهو موت القلوب ؛ فإنّ القلب كلّما كانت حياته أتمّ كان غضبه لله ورسوله أقوى وانتصاره للدّين أكمل " . إعلام الموقّعين ( 2/164-165).
التّارك للإنكار فيه تشبّه باليهود الّذين لعنوا بسبب تركهم النّصح والإنكار :
قال تعالى { لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} المائدة: 78 - 9). قال السعدي : " وإنّما كان السّكوت عن المنكر - مع القدرة - موجبا للعقوبة لما فيه من المفاسد العظيمة ".
التّارك للرّدّ في خطر من أمره لمغبّة وقوعه فيما حذّر منه الرّسول :
إنّ من ترك الإنكار ما هو في حقيقة الأمر إلاّ رجل كلّ لا يتحمّل أمانة الأمّة . قال صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم " من لا يهتمّ بأمر المسلمين فليس منهم ".
ترك الإنكار مجلبة للعذاب :
قال الألوسي في تفسير قوله تعالى { وآتّقوا فتنة لا تصيبنّ الّذين منكم خاصّة } : " لا تختصّ إصابتها لمن يباشر الظّلم منكم، بل تعمّه وغيره، والمراد بالفتنة الذّنب، وفسّر بنحو إقرار المنكر والمداهنة في الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر وآفتراق الكلمة وظهور البدع والتّكاسل في الجهاد ". روح المعاني للألوسي ج5 ص 180 دار الكتب العلميّة. بيروت : وآنظر قول الألوسي في المداهنة وهو ما أشار إليه الرّسول صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم في إحدى روايات حديث السّفينة كما عند الإمام أحمد في مسنده (4/270) " مثل القائم على حدود الله تعالى والراتع فيها والمدهن فيها... "
إنّه متى تقاعس النّاس عن واجب الإنكار ومتى غلبت كلمة المداهنين فإنّ العقوبة الإلهيّة العادلة ستعمّ الجميع، وتلك سنّة إلهيّة ماضية لا تتبدّل ولا تتغيّر ؛ قال آبن عبّاس رضي اللّه عنه :" أمر اللّه المؤمنين أن لا يقرّوا المنكر بين ظهرانيهم فيعمّهم اللّه بالعذاب ".. قال الحافظ : " وهكذا إقامة الحدود يحصل بها النّجاة لمن أقامها وأقيمت عليه، وإلاّ هلك العاصي بالمعصية والسّاكت بالرّضا بها والمداهن بمصانعته ومحاباته ".
بترك الإنكار تفسد القلوب :
جعل النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم النّصيحة ممّا يصلح القلوب ويطهّرها من الخيانة والغلّ والخبائث فعن جبير بن مطعم أنّ النبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم قال: " ثلاثٌ لا يغلّ عليهن قلب امرئ مسلم: إخلاصُ العمل لله، ومناصحة ولاّةِ الأمر، ولزوم جماعة المسلمين ". رواه أحمد وابن حبّان. ولذلك قال الإمام ابن القيم _ رحمه الله ـ : " إنّ تركه _ أي الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر _ يوقع المخالفة بين القلوب والوجوه، ويحلّ لعنة الله كما لعن الله بني إسرائيل على تركه ".
صُلحاءُ هذه الأمّة هم المنكرون :
قال أبو بكر المزنيّ رضي الله عنه: "ما فاق أبو بكر رضي الله عنه أصحابَ رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم بصوم ولا بصلاةٍ، ولكن بشيء كان في قلبِه"، ثمّ قال : " الذي كان في قلبه الحبّ لله عز وجلّ والنّصيحة في خلقه ". وقال الفضيل بن عياض رحمه الله : "ما أدرك عندنا مَن أدرك بكثرةِ الصّلاة والصّيام، وإنّما أدرك عندنا بسخاوةِ الأنفس وسلامةِ الصّدر والنّصح للأمّة "، وسئل ابن المبارك رحمه الله : أيّ الأعمال أفضل ؟ قال : " النّصح لله "، وقال معمر : " كان يقال : " أنصحُ النّاس لك من خاف الله فيك ".
وقال عمر بن الخطاب :" لم يقم أمر الناس إلا امرؤ حصيف العقدة , بعيد الغور , لا يطلع النّاس منه على عورة. ولا يخاف في الله لومة لائم ". وعنه أيضا : " لا يقيم أمر الله في النّاس إلاّ رجل يتكلّم بلسانه كلمة يخاف الله في النّاس ولا يخاف النّاس في الله ".
ولعلي بن أبي طالب في أوّل كتاب كتبه : " أما بعد فإنه أهلك من كان قبلكم أنّهم منعوا الحقّ حتّى اشتري , وبسطوا الجور حتى افتدي ".
وهم من يعتقد أنّ من ترك الإنكار فقد سلم :(/49)
يقول ابن القيّم رحمه الله : " إذا رُزق العقلُ الغريزيّ عقلاً إيمانيًّا مستفادًا من مشكاةِ النبوّة، لا عقلاً معيشيًّا نفاقيًّا يظنّ أربابُه أنّهم على شيء، ألا إنّهم هم الكاذبون، فإنّهم يرونَ العقلَ أن يُرضوا الناسَ على طبقاتِهم ويسالِموهم ويستجلِبوا مودّتهم ومحبّتهم، وهذا مع أنّه لا سبيلَ إليه فهو إيثارٌ للرّاحة والدّعَة ومؤونةِ الأذى في الله والمحبّة فيه والبُغض فيه، وهو إن كان أسلمَ في العاجلةِ فهو الهَلك في الآجلة، فإنّه ما ذاق طعمَ الإيمان من لم يحبَّ في الله ويبغِض فيه، فالعقلُ كلّ العقل ما أوصَل إلى رضا الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم . " انتهى كلامه رحمه الله. مفتاح دار السعادة (1/117).
" والذين يؤثرون السلامة في أديانهم –فيما زعموا – وفي أبدانهم، ويتركون الأمر والنهي الواجب عليهم ـ مع القدرة عليه - لهذا السبب هم كالمستجير من الرمضاء بالنار،إذ صورة حالهم أنهم يهربون من ضرر متوقع إلى ضرر واقع،كما قال تعالى عن المنافقين { ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتنّي ألا في الفتنة سقطوا وإنّ جهنّم لمحيطة بالكافرين ...} من وسائل دفع الغربة ص 99 تأليف سلمان بن فهد.
الحلقة السابعة
بقلم: خميس بن عليّ الماجري(1)
إستخلاصا لهذه العناوين ولهذه النّصوص المرجعيّة من الكتاب والسّنّة وعمل الصّحابة الكرام والسّلف الصّالح، يتبيّن لك أخي القارئ بما لا يدعو مجالا للشّكّ أنّ الرّدّ على المخالف دين مشروع، وسنّة جارية متّبعة لأهل الحقّ والعدل، وسمة بارزة لأهل السّنّة والجماعة، حراسة للدّين وسلامة لعقيدة الأمّة ووحدة جماعتها وأمنها الإجتماعي.
وإنّ أهل الدّين ينظرون لمسألة النّصح من زاوية مصلحة الإسلام والأمّة وسيبقون رافعين هذا اللّواء مهما كانت التّضحيات، أمّا الّذين ينظرون من زاوية مصالحهم فيسعون إلى تعويق هذا المنهج بكلّ ما يملكون من صرف وصخب وتزيين ليصيّروا باطلهم حقّا وضلالهم هدى، وحزبيّتهم مرجعيّة محكّمة.
إنّ الباطل لا يصير حقّا أبدا مهما صرف له أصحابه من تزيين، وإنّ الحقّ ـ الّذي قد يكون نصيب فرد ـ لا يناله المضلّلون ولو كانوا أمّة، وما على المخالف إذا تبيّن له مخالفته للحقّ إلاّ أن ينجو بنفسه و يتوب إلى اللّه تعالى ممّا صدر عنه من قول أو فعل أو كتابة أو تصريح أو تلميح أو غير ذلك، وله في رسول اللّه صلّى اللّه عليه وعلى آله وسلّم أسوة حسنة حيث قعد يبكي مع أبي بكر بعد ما تبيّن لهما الحقّ في مسألة أسرى بدر.!
إنّي أدعو من علم أن يصحّح المسيرة، فمن علم تعيّن الإنكار في حقّه، ومن لم يفعل كان مشاركا في الكوارث، لأنّ المخالفة عندنا معشر المسلمين يشترك فيها أكثر من شخص، هذا بمباشرته لها، وهذا برضاه، وهذا بمداهنته، وهذا بسكوته، فأين الدّفاع عن العقيدة ؟ وأين الدّفاع المدنيّ والحصانة الإجتماعيّة ؟ وأين رجال " كنتم خير أمّة " ؟ وأين رجال " من رأى منكم منكرا فليغيّره " ؟
إنّ السّكوت والرّضا والمداهنة وغير ذلك مشاركة، بل تآمر على الأمّة و مشروع فتنة، وآستتباعات عذاب الفتنة كما هو معلوم يعمّ الجميع. قال الله تعالى :{ وآتّقوا فتنة لا تصيبنّ الّذين ظلموا منكم خاصّة }. قال الإمام الألوسي ـ رحمه الله تعالى ـ في تأويله لهذه الآية : " أي لا تختصّ إصابتها لمن يباشر الظّلم منكم بل تعمّه وغيره. والمراد بالفتنة الذّنب، وفسّر بنحو إقرار المنكر والمداهنة في الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، وآفتراق الكلمة وظهور البدع والتّكاسل في الجهاد ".. روح المعاني في تفسير القرآن العظيم ج5 ص180.
أرأيت ـ أيّها القارئ الكريم ـ كيف آعتبر الألوسي - رحمه اللّه تعالى – أنّ المداهنة في النّصح تكون سببا في آفتراق الكلمة والخلاف.. ومن ثمّ تدرك أخي القارئ أنّ إنكاري على من أراهم حرّفوا الشّريعة من أجل توحيد الكلمة ولمّ شتات المسلمين،بعكس ما يروّج المغرضون تماما.
كما ألفت إنتباه المشوّشين الذين يكرهون ما يتبيّن لي من حقّ وأدعو إليه، أنّهم في خطر عظيم حيث أنّهم يخلطون بين الشّخص وما أدعو إليه، وهذا ما يحسن الشّيطان تلبيسه لأنّ التّعصّب الأعمى يمنع أن تأخذ الحقّ من مخالفك، فتقع في الكارثة حيث تصير رافضا لكلّ ما يأتي من مخالفك، ولقد ذكر القرآن الكريم أنّ مشركي قريش ما صدّهم عن آتّباع الحقّ الذي جاء به محمّد من ربّه إلاّ الكبر والجحود " فإنّهم لا يكذبونك ولكنّ الظّالمين بآيات الله يجحدون ".
إنّ إنكارك على القوم يتعيّن وجوبا في حقّك إذا علمت بحالهم، قال الإمام النّووي رحمه الله تعالى :" قد يتعيّن كما إذا كان في موضع لا يعلم به إلاّ هو ".. شرح مسلم للنّووي ح رقم 55.(/50)
ولا يسقط أبدا هذا الواجب مهما تجاهله الجاهلون وناله المخذّلون أو ركبوا رؤسهم وأعموا أعينهم وأصمّوا آذانهم. قال النّووي : " قال العلماء - رضي اللّه عنهم – ولا يسقط عن المكلّف الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر لكونه لا يفيد في ظنّه، بل يجب عليه فعله، فانّ الذّكرى تنفع المؤمنين ". شرح مسلم للنّووي ح رقم 55 .
والله لقد رأيت أكثرهم إن لم أقل كلّهم يوافقونك على كلّ ما تقول إن كانوا معك، غير أنّ أهواءهم هي الّتي تعيقهم على نصرة الحقّ والتّوفيق للعمل به، بل يخاصمونك ويغدرون بك إذا خرجوا من عندك، إذ يلقي الشّيطان في قلوبهم العداوة والبغضاء لمن أعلن عن ذلك الحقّ الّذي لا يخالفه إلاّ من رانت قلوبهم بالأهواء فحرموا من التّعلّق بالحقّ والعمل به. وعجبا من قوم يعرفون الحقّ ولا يعملون به بل قد يجحدونه ويلوون عنقه ، ويا لها من أنفس دعتهم أهواؤكم إلى خلاف الحقّ وقد عرفوه .
أفلا يكون هؤلاء الذين يعلمون الحقّ ويعارضونه تحت أيّ نوع من التّعلاّت الحزبيّة من المخاصمين في الباطل وهم يعلمون، وقد نهت الشّريعة الغرّاء عن ذلك نهيا عظيما حيث قال الرّسول صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم :" من خاصم في باطل وهو يعلم لم يزل في سخط الله حتّى ينزع " رواه أبو داود في سننه.
أفلا يكون هؤلاء هم الّذين عناهم ابن مسعود رضي الله بقوله :" كيف بكم إذا ألبستم فتنة يربو فيها الصّغير ويهرم الكبير وتتّخذ سنّة، فان غيّرت يوما. قيل هذا منكر. قيل ومتى ذلك ؟ قال : إذا قلّت أمناؤكم وكثرت أمراؤكم وقلّت فقهاؤكم وكثرت قرّاؤكم وتفقّه لغير الدّين وآلتمست الدّنيا بعمل الآخرة ". الدّارمي والحاكم.
أفلا يكون هؤلاء من المتكبّرين على الله عزّ وجلّ ؟ لأنّهم "يتأفّفون من قبول النّصح ويتعالون على الدّاعي إلى الحقّ ويشوّشون على المصلحين بآدّعائهم الكمال الزّائف أن يقبلوا النّقد وينتهوا عن الكبر. والكبر كما بيّن الحبيب الشّفيع " بطر الحقّ وغمط النّاس " قال الشّيخ سعود بن إبراهيم الشّريم ـ حفظه الله تعالى ـ :" إنّ المسلمَ إذا نظرَ بعين الصّدق والتجرُّد والإنصاف وجعَل طلبَ الحقّ هو الدّيدنَ لقَبِل ما يُوجَّه إليه من نصحٍ ونقدٍ في الحقّ، ولعلِم أنّ الأمةَ الإسلامية لا تقوم إلا بالتناصح الجادِّ وبقولِها للمصيب : " أصبتَ " وللمخطئ : " أخطأتَ "، وأن لا يكونَ للسّخط والشنآن أو المودّة والقُربى تأثيرٌ في الميزان، وإنّما يكون العدلُ وحدَه في الغضَب والرّضا والمودّة والعداوة كما قال الباري جلّ شأنه:{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بالْقِسْطِ شُهَدَاء للَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالأقْرَبِين } [النساء:135]، وكقوله سبحانه : { يااأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } ]المائدة:8].
ورحِم الله الإمامَ أبا عبد الله ابن بطّة حينما تحدّث عن النّصح وقبولِ الصَّواب من الغير فقال : " واغتمامُك بصوابِه ـ أي: بصوابِ ناصحك ـ غشٌّ فيه وسوء نيّة في المسلمين، فاعلم ـ يا أخي ـ أنّ من كرِه الصّوابَ من غيرِه ونصَر الخطأ من نفسِه لم يؤمَن عليه أن يسلبَه الله ما علِمه وينسيَه ما ذكره، بل يُخاف عليه أن يسلبَه الله إيمانَه ؛ لأنّ الحقَّ من رسول الله إليك افتُرِض عليك طاعتُه، فمن سمِع الحقَّ فأنكرَه بعد عِلمه له فهو من المتكبّرين على الله " انتهى كلامه رحمه الله ". من خطبة الشّيخ سعود الشّريم يوم 8/10/1424 هجري.
أفلا يكون هؤلاء من الّذين لا يحبّون ظهور الحقّ، وإن كان فلا يريدونه إلاّ على أيديهم ؟ والله إنّ المرء العاقل ليعجب من إنكار هؤلاء علينا إذ كيف لا يحبّ مؤمن إظهار الحقّ ؟ قال ابن رجب رحمه اللّه : " الواجب على المسلم أن يحبّ ظهور الحقّ ومعرفة المسلمين له، سواء كان ذلك في موافقته أو مخالفته. وهذا من النّصيحة لله ولكتابه ورسوله ودينه وأئمّة المسلمين وعامّتهم، وذلك هو الدّين كما أخبر النّبيّ صلّى اللّه عليه وعلى آله وسلّم " شرح صحيح مسلم (2/37).
وليعلم من آختار معاداتنا لمجرّد قيامنا بواجب الذّبّ عن الشّرع المطهّر أنّه لا يضرّ ما نلاقيه من المتكبّرين بادِّعاء الكمالِ الزائِف الذي يستنِكرون بسببه نصحَ النّاصحين، بل يعدّونه ضربًا من ضروبِ التّعيير والتدخّل فيما لا يعني، ويا لله ما اعتذارُ المرءِ إذا عُدّت محاسِنُه التي يدلِي بها ذنوبًا وعُدوانًا؟!(/51)
ولقد أحسنَ ابن قتيبةَ وهو يشكو أهلَ زمانه في القرنِ الثالث الهجريّ وما يعانيه من بَعض الآبين للنّصح والمستنكفين عنه وما يلاقيه النّاصحُ في أوساطهم، فيقول رحمه الله: "إنّ الناصحَ مأجور عند الله، مشكورٌ عند عبادهِ الصّالحين الذين لا يميل بهم هوًى ولا تدفعهم عصبيّة ولا يجمعهم على الباطل تحزّبٌ ولا يلفتهم عن استبانةِ الحقّ حدٌّ، وقد كنّا زمانًا نعتذِر مِن الجهلِ فصِرنا الآن نحتاج إلى الاعتذار من العلم، نؤمّل شكرَ النّاس بالتّنبيه والدّلالة، فصرنا نرضَى بالسّلامة، وليس هذا بعجيبٍ مع انقلابِ الأحوال، ولا ينكَر مع تغيّر الزّمان، وفي الله خلفٌ وهو المستعان".
إنّني أدعو من عرف الحقّ وسكت ولم يبيّن، أن يتّقي الله عزّ وجلّ وليذكر ما عند الله تعالى في الآجل وليقطع ما عند المبطلين ومجاراتهم في العاجل، لأنّ المؤمن " إذا رُزق العقلُ الغريزيّ عقلاً إيمانيًّا مستفادًا من مشكاةِ النبوّة، لا عقلاً معيشيًّا نفاقيًّا يظنّ أربابُه أنّهم على شيء، ألا إنّهم هم الكاذبون، فإنّهم يرونَ العقلَ أن يُرضوا النّاسَ على طبقاتِهم ويسالِموهم ويستجلِبوا مودّتهم ومحبّتهم، وهذا مع أنّه لا سبيلَ إليه فهو إيثارٌ للرّاحة والدّعَة ومؤونةِ الأذى في الله والمحبّة فيه والبُغض فيه، وهو إن كان أسلمَ في العاجلةِ فهو الهَلك في الآجلة، فإنّه ما ذاق طعمَ الإيمان من لم يحبَّ في الله ويبغِض فيه، فالعقلُ كلّ العقل ما أوصَل إلى رضا الله ورسوله " ابن القيّم رحمه الله. مفتاح دار السعادة 1/117 ".
إنّ المؤمن الجادّ إذا تبيّن له الحقّ تبعه وعمل به، ولا ينظر إلى من قاله بل يقبله ولو كان بينه وبينه شنآن، والباطل يرفضه ويردّه ولو جاء من أحبّ حبيب إذ لا يغلو في متبوع لا حجّة له من الرّسول صلّى اللّه عليه وعلى آله وسلّم إلاّ منحرف ضال قال آبن القيّم - رحمه اللّه تعالى – : " فإذا عرف أنّها زلّة لم يجز له أن يتبعه فيها بآتّفاق المسلمين، فانّه آتّباع للخطأ على عمد "..إعلام الموقّعين2 /192 . فويل لأتباع للرّجال دون علم وهدي، فقد ينجو الرّجل المفكّر والمنظّر بتوبة أو قد يكون يمارس التّقيّة، وينافح عليه المتعصّب وقد يتردّى بذلك إلى الخسران وهو يحسب أنّه يحسن دينا فقد روي عن آبن عبّاس - رضي اللّه عنهما – " ويل للأتباع من عثرات العالم ؟ قيل وكيف ذلك، قال يقول العالم شيئا برأيه ثمّ يجد من هو أعلم منه برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ فيترك قوله ذلك، ثمّ يمضي الأتباع ".. الموافقات للشّاطبي3 /318 والفتاوى الكبرى لأبن تيميّة 6/ 96. ولهذا قال إبن مسعود رضي الله عنهما : " ألا يقلّدنّ أحدكم دينه رجلا ان آمن آمن وان كفر كفر فانّه لا أسوة في الشّرّ ".
إنّهم تعوّدوا على آستماع الباطل فألفوه وأشرب في قلوبهم، فلمّا جاءهم من خالفهم كفروا به. قال إبن القيّم – رحمه اللّه تعالى – :" إنّ العبد إذا آعتاد سماع الباطل أحبّه ورضيه، فإذا جاء الحقّ بخلافه ردّه وكذّبه إن قدر على ذلك وإلاّ حرّفه ".. إغاثة اللّهفان1 / 55 . إنّ المؤمن ديدنه الحقّ من أيّ كان والّذي لا يعرف الحقّ إلاّ من جهة واحدة لم ينتفع بهذا الدّين، كما لم ينتفع به من قبلنا حيث أخبر اللّه تعالى أنّ من أعظم أخطاء الّذين سبقونا أنّهم حصروا الحقّ من جهة واحدة ثمّ لم يعملوا به، فتحوّلت النّعم منهم إلى الأمّة العظيمة التي تبحث عن الحقّ وتنقاد له دون نظر إلى جهته. قال شيخ الإسلام رحمه اللّه تعالى : " فوصف اليهود بأنّهم كانوا يعرفون الحقّ قبل ظهور النّبيء النّاطق به والدّاعي إليه. فلمّا جاءهم النّبيء النّاطق به من غير طائفة يهوونها لم ينقادوا له، فإنّهم لا يقبلون الحقّ إلاّ من الطّائفة الّتي هم منتسبون إليها، مع أنّهم لا يتبعون ما لزمهم في آعتقادهم " اقتضاء الصّراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم ص8 دار الكتب العلميّة، بيروت، لبنان.
قلت وهذا مع الأسف كثيرا ما يبتلى به المتعصّبون المغالون في الأشخاص والهيئات حيث يجعلون ميزانهم الميزان. وقال رحمه اللّه تعالى : " وهذا يبتلى به كثير من المنتسبين إلى طائفة معيّنة في العلم أو الدّين من المتفقّهة أو المتصوّفة أو غيرهم أو إلى رئيس معظّم عندهم في الدّين غير النّبيء صلّى اللّه عليه وسلّم ، فإنّهم لا يقبلون من الدّين لا فقها ولا رواية إلاّ إذا ما جاءت به طائفتهم، ثمّ إنّهم لا يعلمون ما توجب طائفتهم، مع أن ّ دين الإسلام يوجب آتّباع الحقّ مطلقا رواية وفقها من غير تعيين شخص أو طائفة غير الرّسول صلّى اللّه عليه وعلى آله وسلّم " نفس المصدر.(/52)
ومن النّاس من ينظر إلى قائل القول لا إلى القول فيتبع القائل في كلّ حال أخطأ أم أصاب لأنّ الحقّ عند هؤلاء المساكين هو دائما ما جاء من عندهم، ويعظم الخطب إذا جاء القول الحقّ من مخالفهم،ويتبعون بعضهم وهم على خطإ " فإذا عرف أنّها زلّة لم يجز له أن يتبعه فيها بآتّفاق المسلمين، فانّه آتّباع للخطأ على عمد ". قال آبن القيّم ـ إعلام الموقّعين 2/192 إنّ من أعظم مقاتل الحزبيّة أنّها جعلت رجالها ومؤسّساتها موطن الحقّ والولاء والبراء، وجعلت أقوال " شيوخهم " نصوصا قطعيّة، أمّا الوحي فهو متشابه حمّال لمعاني. قال ابن القيّم رحمه الله تعالى :
جعلوا كلام شيوخهم نصّا له
وكلام ربّ العالمين وعبده ... ... الأحكام موزونا به النّصّان
متشابها متحمّلا لمعان
لقد سكت المتعصّبون على العلمانيّين ولمّعوهم ومدحوهم وأشبعوهم بالمدح والتّعظيم والأموال والهدايا ونالوا من إخوانهم نيلا عظيما، بل جعلوا النّيل منهم رأسمالهم السّياسي وورقتهم الأخيرة التي ستقضي عليهم. قال الشّيخ عبد العزيز الجربوع : " أجيبوا يا أصحاب المحاسن والإيجابيات، أيها الإحتوائيون، حيث ما بقي أحد من أهل الزيغ، والفساد، إلا وأحطتموه بسياج عظيم من الدفاع، وذكر المحاسن، إلا أن يكون من أهل الورع، والّزهد، وممن يحاول أن يقتفي أثر السّلف، فالسّهام الفتّاكة والقذائف المحرقة، فيوصف بالتّنطّع تارة، وأخرى بالشّذوذ، وثالثة بالخلل العقدي ورابعة بالتّهوّر، وخامسة بالتّجسّس والعمالة، وسابعة بالرّياء، و. و..و.. دون ذكر محاسنه، وسلم منكم في المقابل العلمانيّين، والمارقين عن الإسلام بل دافعتم عنهم محتجّين لهم بحديث الرّسول( صدقك وهو كذوب ) حقّاً وإن تعجب فعجب قولهم !!
لقد مللنا التّمييع إلى درجة أنّ الصّحوة الإسلاميّة لا تجد غضاضة في أن ترافق الزّنديق وأن يصبح العلمانيّ صديقاً باراً لها وأن ترتمي في أحظان المرتدّين، وتغشى مجالسهم دون اكتراث بحرمة ذلك، ولا مانع لديها من مشاركة، ومناصفة الرّافضة في كلّ شيء، كما هو دأب بعض رموز الصّحوة المشهورين، وهي مستعدّة أن تعقد صفقات الحبّ، والودّ لليهود والنّصارى !! أيّ صحوة هذه وأي موجّهين يوجّهونها نحو الهاوية، فإلى متى عدّ المحاسن التي تخفي حقيقة الرّجل وخبثه.
إذا كان هذا نصح عبد لنفسه ... ... فمن ذا الذي منه الهدى يُتعلمُ
إنّ من أبرز سمات المنهج الإسلاميّ، أن لا يساوي بحال من الأحوال بين تبرئة الأشخاص وتشويه المنهج، فإنّ تبرئة الأشخاص، تحمل بين طيّاتها تشويه المنهج الإسلاميّ بكامله وإظهاره بمظهر التّناقض !!! ومفسدة تشويه المنهج وتعتيمه وتمييعه أعظم من مصلحة تبرئة الأشخاص والدّفاع عنهم وعن أطروحاتهم الهشّة، والسّمجة في كثير من الأحيان.
لذا فإن المنهج الإسلامي، يصف المخطئين بالخطأ، إذا أخطاؤا، ويصفهم بالانحراف، إذا انحرفوا، ويصفهم بالضّلال إذا ضلوا، وبالإحسان إذا احسنوا، مهما كان قدرهم، ومهما علت منازلهم، ولا ينحرف المنهج معهم، ليجاري انحرافهم وضلالهم، إنّ منهج الله ثابت، وقيمه، وموازينه ثابتة، والبشر، يبعدون، أو يقربون من هذه القيم والموازين ومن المنهج ، ويخطئون، ويصيبون في قواعدهم، وتصوّراتهم إمّا اجتهاداً، أو عناداً، أو كبراً، أو ادّعاء امتلاك الحقيقة المطلقة، ولكن ليس شيئاً من ذلك محسوباً على الإسلام، ومنهجه، إنّما عليهم وحدهم.
لذا كان لزاماً نقدهم، وتخطيتهم ليبقى منهج الإسلام ثابتاً لا تشوبه شائبة، وخير شاهد على ذلك أنّ القرآن ذكر للأمّة بعضاً ممّا وقع فيه الأنبياء خلاف الأولى، وذكره لنا بعد توبتهم منه، وإقلاعهم عنه .
للشّيخ عبد العزيز الجربوع...من كتاب التّثريب على المخالف
إنّ الأمّة اليوم أحوج ما تكون إلى جمع دينها عبر توحّد مرجعيّتها وتوحيد ضبط فهمها لها، وانّ الجانح إلى مسائل الخلاف دون دليل يريد تضييع الدّين وتفريق الأمّة .(/53)
إنّ النصحَ بين المسلمين أفرادًا ومجتمعًا ليعدُّ أمارةً من أماراتِ الاهتمام بالصّلاح والإصلاح، وبإحياء الشّعيرة المفروضةِ شعيرةِ الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر في واقعِ حياتِهم وبيانِ حجّة أهل السنّة والجماعة وجهادهم لنصرةِ الحقّ بالقلم واللّسان كما قد كانت النّصرة كرّاتٍ ومرّات بالسّيف والسّنان، ولا أقلَّ من ذلك على وجهِ فرض الكفاية، فضلاً عن خطورةِ إهمال هذا الباب والوقوع في مغبّة مجانبته، ومن ثمَّ الاتِّصاف بما حذّر منه النبيّ صلّى اللّه عليه وعلى آله وسلّم بقوله: " من لا يهتمّ بأمر المسلمين فليسَ منهم " رواه الطبراني في المعجم الصّغير ص188 من حديث حذيفة رضي الله عنه، وفي سنده جعفر بن أبي عبد الله، هو وأبوه ضعيفان. وعزاه الهيثمي في المجمع 10/248 إلى الطبراني من حديث أبي ذر رضي الله عنه وقال: "فيه يزيد بن ربيعة الرحبي وهو متروك". وأخرجه الحاكم 4/320 من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، وفي سنده إسحاق بن بشر ومقاتل بن سليمان، قال الذهبي في التلخيص: "ليسا بثقتين ولا صادقين". وأخرجه البيهقي في الشعب 7/361 من حديث أنس رضي الله عنه وضعفه. وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة 309، 310، 311، 312 .
وبعد فهل يأتي مشوّش بعد كلّ الذي ذكرت في هذه الحلقات ويصرّ على الإنكار على أنّ من ينصح أو ينتقد، ويعتبرذلك خارج إطار الشّريعة الغرّاء. فلينته السّياسيّون عن صكّ من خالفهم بما من شأنه أن يشينهم فالعقلاء يدركون مكر السّياسيّين وسلعتهم الفاجرة في رمي كلّ من خالفهم من أجل إقصائهم وآستثنائهم من عمليّة الإصلاح الّتي يجب أن تكون هي الهمّ الأساسي لكلّ مسلم صادق وجادّ ومسؤول.
إنّ هذه النّصوص الحاضّة على الإنكار لتشحذ همم المسلمين الغيورين وخصوصاً أهل العلم والإصلاح منهم، فيقومون بهذا الواجب العظيم، وأن يقوموا بأعظم حقّ الإسلام عليهم بالدّفاع عنه وتخليصه ممّا علق به من تخليط، وأن لا تمنعهم شناعة المشنّعين من الصّدع بالحقّ دون خوف أو وجل، امتثالاً لقول الصّادق المصدوق : " ألا لا يمنعن أحدكم رهبة النّاس أن يقول بحقّ إذا رآه أو شهده، فإنّه لا يقرّب من أجل ولا يباعد من رزق أن يقول بحقّ أو يذكر بعظيم " أخرجه أحمد 3 /50 والطّبراني في الأوسط 2825،4903 وأبو يعلى 1411 من حديث أبي سعيد الخدري،قال الهيثمي في المجمع 7/274 : رواه أبو يعلى ورجاله رجال الصّحيح ، وصحّحه الشّيخ أحمد شاكر في كتابه كلمة حقّ ص : 11. وفي رواية الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا يمنعنّ رجلاً منكم مخافة النّاس أن يتكلم بالحقّ إذا رآه وعلمه ". وفي رواية أخرى " فإنّه لا يقرِّب من أجل ولا يباعد من رزق أن يقول بحقّ أو يذكر بعظيم ".
فلتشمّروا على ساعد العمل والجدّ والمصابرة وجهاد النّفس على تحمّل أعباء التّمسّك، فما أشقّه من طريق، وما أعظمه من جزاء، ولا تنظروا إلى أذى الخلق وآنظروا إلى ما عند الله عزّ وجلّ " فالسّعيدُ الرّابح من عامَل الله فيهم ولم يعامِلهم في الله، وخاف الله فيهم ولم يخَفهم في الله، وأرضى الله بسخَطهم ولم يرضِهم بسخطِ الله، وراقَب اللهَ فيهم ولم يراقبهم في الله ". والعبدَ المسلم مأمورٌ بالتماسِ رضا الله وحدَه ولو كان بسخطِ النّاس، فلقد كتَب معاوية رضي الله عنه إلى عائشةَ رضي الله تعالى عنها أن اكتبي إليّ كتابًا توصِيني فيه ولا تكثِري عليّ، فكتبَت عائشة إلى معاوية : " سلامٌ عليك، أمّا بعد : فإنّي سمعت رسول الله يقول: " مَن التمسَ رضا الله بسخَط النّاس كفاه الله مؤونةَ النّاس، ومن التمَس رضا النّاس بسخَط الله وكَلَه الله إلى النّاس " . أخرجه ابن المبارك في الزّهد 199، ومن طريقه التّرمذي في الزّهد 2414 عن رجل من أهل المدينة قال كتب معاوية إلى عائشة رضي الله عنها وذكر الحديث مرفوعا، وصحّحه ابن حبّان 276، والألباني في صحيح التّرغيب 2250، ثمّ أخرجه التّرمذي عقب المرفوع من طريق آخر عنها موقوفًا، ورجّح الوقف أبو حاتم وأبو زرعة كما في العلل لابن أبي حاتم 2/103 وكذا العقيلي في الضّعفاء. ولا يبعد أن يصحّ مرفوعا أيضا لأنّ له طرقًا أخرى كما بيّنه الألباني في تحقيق الطّحاوية 278 .(/54)
أنكر يا أخي الكريم وإيّاك أن يموت قلبك، وتكون ممّن لا يهمّهم دينهم طالما سلمت معيشتهم . قال إبن القيّم رحمه الله تعالى : " وأيّ دين وأيّ خير فيمن يرى محارم الله تنتهك وحدوده تضاع ودينه يترك، وسنّة رسول الله يرغب عنها وهو بارد القلب ساكت اللّسان شيطان أخرس كما أنّ المتكلّم بالباطل شيطان ناطق ؟ وهل بليّة الدّين إلاّ من هؤلاء الذين إذا سلمت لهم مآكلهم ورياساتهم فلا مبالاة بما جرى على الدّين ؟ وخيارهم المتحزّن المتلمّظ، ولو نوزع في بعض ما فيه غضاضة عليه في جاهه أو ماله بذل وتبذّل وجد واجتهد، واستعمل مراتب الإنكار الثّلاثة بحسب وسعه، وهؤلاء مع سقوطهم من عين الله ومقت الله لهم قد بُلوا في الدّنيا بأعظم بليّة تكون، وهم لا يشعرون، وهو موت القلوب ؛ فإنّ القلب كلّما كانت حياته أتمّ كان غضبه لله ورسوله أقوى وانتصاره للدّين أكمل " إعلام الموقّعين ( 2/164-165).
ولا تختر ما تتوهّم أنّه منهج السّلامة بتركك الإنكار وردّ الأمور إلى العلم الشّرعي "والذين يؤثرون السّلامة في أديانهم –فيما زعموا – وفي أبدانهم، ويتركون الأمر والنّهي الواجب عليهم –مع القدرة عليه- لهذا السّبب هم كالمستجير من الرّمضاء بالنّار، إذ صورة حالهم أنّهم يهربون من ضرر متوقّع إلى ضرر واقع، كما قال تعالى عن المنافقين: " ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتنّي ألا في الفتنة سقطوا وإنّ جهنّم لمحيطة بالكافرين " من وسائل دفع الغربة ص 99 تأليف سلمان بن فهد العودة،ط دار ابن الجوزي- الدمام- الطّبعة الأولى 1412هـ - 1992 م.
وقال ابن القيّم رحمه الله : " إذا رُزق العقلُ الغريزيّ عقلاً إيمانيًّا مستفادًا من مشكاةِ النبوّة، لا عقلاً معيشيًّا نفاقيًّا يظنّ أربابُه أنّهم على شيء، ألا إنّهم هم الكاذبون، فإنّهم يرونَ العقلَ أن يُرضوا الناسَ على طبقاتِهم ويسالِموهم ويستجلِبوا مودّتهم ومحبّتهم، وهذا مع أنّه لا سبيلَ إليه فهو إيثارٌ للرّاحة والدّعَة ومؤونةِ الأذى في الله والمحبّة فيه والبُغض فيه، وهو إن كان أسلمَ في العاجلةِ فهو الهَلك في الآجلة، فإنّه ما ذاق طعمَ الإيمان من لم يحبَّ في الله ويبغِض فيه، فالعقلُ كلّ العقل ما أوصَل إلى رضا الله ورسوله " انتهى كلامه رحمه الله. مفتاح دار السعادة (1/117).
وإذا كان لك يا أخي الكريم علم لا تنفع به أمّتك فمتى يحصل النفع لك ولأمّتك. قال مجاعة بن مرارة الحنفي لأبي بكر الصّدّيق " : إذا كان الرّأي عند من لا يقبل منه والسّلاح عند من لا يستعمله والمال عند من لا ينفقه ضاعت الأمور "..
لقد ضاعت الأمور فعلا، فإنّ كثيرا من أصحاب العصبيّات العمياء الذين تبيّن لهم مخالفات بعض منظّريهم الصّريحة للإسلام ـ دعك من الجهلة الذين همّوا بالدّفاع عن الباطل بالباطل ـ داهنوا وسكتوا ورضوا وتبعوا، حتّى صارت تلك الإنحرافات أصولا يعتمدون عليها في الرّخاء والشّدّة ، ومناهج يسيرون عليها في المنشط والمكره، لا يستطيع " العارف " منهم أن ينكر أو يغيّر، بل يخشى أن يتحدّث في الأمر ولو مناجاة، ولذلك لا تتعجّب لماذا أبّدوا الأزمات وخلّدوا الكوارث ورسّخوا الإنحراف حتّى أنّ أجهزتهم أصيبت بوباء النّفاق و حتميّة الدّمار.
إنّ المصرّين على التّعصّب للباطل سيفوتهم الخير الكثير، أسأل الله أن يهديهم، قال أبو بكر الصّدّيق رضي الله تعالى عنه :" إنّما ثقلت موازين من ثقلت موازينهم يوم القيامة لآتّباعهم الحقّ، والحقّ ثقيل على النّفوس وإنّما خفّت موازين من خفّت موازينهم يوم القيامة لآتّباعهم الهوى، والهوى خفيف على النّفوس ".
لقد تأبّدت الكوارث في تلك الجماعات ، فلا بدّ من الصّدع بالإنكار. أفيصدعون بالإنحراف ولا نصدع بالحقّ ؟ آسكتوا نسكت !!! ووالله الذي رفع السّموات بغير عمد لن أسكت مهما مكروا ومهما كذبوا ومهما زوّروا طمعا في أن يحشرني الله تعالى في رحمة منه في زمرة المجاهدين بالكلمة والبيان أميرنا في ذلك محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم وحتّى نرد عليه الحوض بأبي هو وأمّي صلّى الله عليه وآله وسلّم.
وإذا أتتك مذمّتي من حزبيّ متعصّب فهي الشّهادة لي بأنّي متّبع !!!
{ وإذ أخذ الله ميثاق الّذين أوتوا الكتاب لتبيّننّه للنّاس ولا تكتمونه }. آل عمران 187
{ إنّ الّذين يكتمون ما أنزلنا من البيّنات والهدى من بعد ما بيّنّاه للنّاس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاّعنون } البقرة 159
وقال :{ وإن تتولّوا يستبدل غيركم ثمّ لا يكونوا أمثالكم } 38 سورة محمّد. وقال { فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكّلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين } 89 الأنعام.(/55)
لماذا يُقتل المرتد عن الإسلام
سؤال:
رغم أني غير مسلم ، إلا إنني من المغرمين جدًا بعقيدتكم. لكن من الصعب فهم الداعي إلى الحكم بالموت على رجل بسبب كلام قاله فقط ، أعني سلمان رشدي . أعتقد أننا بصفتنا بشر ليس من حقنا إصدار مثل هذه القرارات، فقط الله هو الذي يحكم في مثلها.
الجواب:
الحمد لله
نشكر لك ثقتك لإرسال هذا السؤال ، وغرامك بعقيدتنا ، وحرصك على معرفة الجواب ، فأهلاً بك زائراً وقارئاً ومستفيداً .
أيها السائل : إن مما استوقفنا كثيراً في رسالتك هو تصريحك بالإعجاب بدين الإسلام ، وهذه بشارة خير لنا ولك ، أما من جهتنا فإننا نسعد بوصول ديننا إلى أمثالك ممن يبحث عن الحق ، وهو ما أخبرنا به نبينا صلى الله عليه وسلم من أن هذا الدين سيبلغ كل مكان على هذه الأرض فعَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الأَمْرُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَلا يَتْرُكُ اللَّهُ بَيْتَ مَدَرٍ وَلا وَبَرٍ إِلا أَدْخَلَهُ اللَّهُ هَذَا الدِّينَ بِعِزِّ عَزِيزٍ أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ عِزًّا يُعِزُّ اللَّهُ بِهِ الإِسْلَامَ وَذُلا يُذِلُّ اللَّهُ بِهِ الْكُفْرَ " رواه أحمد (16344) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (3) .
وأما بالنسبة لك فإن إعجابك بهذا الدين سيكون دافعاً لك للإطلاع على ما جاء به هذا الدين الحنيف ، من موافقته للفِطَر السليمة ، والعقول المُستَقِيمة ، فننصحك بالتجرد الكامل من كل مؤثر ، والقراءة المتأنية لتعاليم دين الإسلام ، ولعلك أن تقرأ ما يتعلق بالإسلام في هذا الموقع مثل الأسئلة (219)،(21613)،(20756)،(10590) .
أما قولك : " من الصعب فهم الداعي إلى الحكم بالموت على رجل بسبب كلام قاله فقط .... أعتقد أننا بصفتنا بشر ليس من حقنا إصدار مثل هذه القرارات ، فقط الله هو الذي يحكم في مثلها " فكلامك صحيح ، إذ ليس لأحد أن يحكم على شخص بالقتل بدون دليل من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم .
والحكم بالقتل من أجل كلمة يسمى عند علماء المسلمين بـ" الردة " ، فما هي الردة ؟ بماذا تكون الردة ؟
وما هو حكم المرتد ؟
أولاً : الردة ... هي كفر المسلم بقول صريح ، أو لفظ يقتضيه (أي يقتضي الكفر) أو فعل يتضمنه (أي : فعل يتضمن الكفر) .
ثانياً : بماذا تكون الردة ...
تنقسم الأمور التي تحصل بها الردة إلى أربعة أقسام :
أ - ردة بالاعتقاد ، كالشرك بالله أو جحده أو نفي صفةٍ ثابتة من صفاته أو إثبات الولد لله فمن اعتقد ذلك فهو مرتد كافر .
ب -ردة بالأقوال ، كسب الله تعالى أو سب الرسول صلى الله عليه وسلم .
ج- ردة بالأفعال ، كإلقاء المصحف في محلٍ قذر ؛ لأن فعل ذلك استخفاف بكلام الله تعالى ، فهو أمارة عدم التصديق ، وكذلك السجود لصنم أو للشمس أو للقمر .
د- الردة بالترك ، كترك جميع شعائر الدين ، والأعراض الكلي عن العمل به .
ثالثاً : ما هو حكم المرتد ؟
إذا ارتد مسلمٌ ، وكان مستوفياً لشروط الردة – بحيث كان عاقلاً بالغاً مختاراً - أُهدر دمه ، ويقتله الإمام – حاكم المسلمين – أو نائبه – كالقاضي – ولا يُغسَّل ولا يُصلى عليه ولا يُدفن مع المسلمين .
ودليل قتل المرتد هو قول النبي صلى الله عليه وسلم : " من بدل دينه فاقتلوه " رواه البخاري (2794) . والمقصود بدينه أي الإسلام .
وقول النبي صلى الله عليه وسلم : " لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث : النفس بالنفس ، والثيب الزاني ، والتارك لدينه المفارق للجماعة " رواه البخاري 6878 ومسلم 1676
أنظر الموسوعة الفقهية 22/180
وبهذا يتبين لك أيها السائل أن قتل المرتد حاصلٌ بأمر الله سبحانه حيث أمرنا بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم فقال : { وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم } ، وقد أمرنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بقتل المرتد كما تقدم بقوله : " من بدل دينه فاقتلوه " .
وقد تحتاج هذه المسألة منك إلى وقت للاقتناع ، وإلى تأملٍ فيها ، ولعلك تفكر في مسألة أن الإنسان إذا اتبع الحق ودخل فيه واعتنق هذا الدين الوحيد الصحيح الذي أوجب الله ، ثم نجيز له أن يتركه بكل سهولة في أي وقت يشاء وينطق بعبارة الكفر التي تُخرج منه ، فيكفر بالله ورسوله وكتابه ودينه ثم لا تحدث العقوبة الرادعة له ، كيف سيكون تأثير ذلك عليه وعلى الداخلين الآخرين في الدين .
ألا ترى أن ذلك يجعل الدين الصحيح الواجب اتباعه كأنه محل أو دكان يدخل فيه الشخص متى شاء ويخرج متى شاء وربما يُشجع غيره على ترك الحق .(/1)
ثم هذا ليس شخصاً لم يعرف الحق ولم يمارس ويتعبد ، وإنما شخص عرف ومارس وأدى شعائر العبادة ، فليست العقوبة أكبر مما يستحق وإنما مثل هذا الحكم القوي لم يُوضع إلا لشخص لم تعد لحياته فائدة لأنه عرف الحق واتبع الدين ، ثم تركه وتخلى عنه ، فأي نفس أسوأ من نفس هذا الشخص .
وخلاصة الجواب أن الله الذي أنزل هذا الدين وفرضه هو الذي حكم بقتل من دخل فيه ثم تخلى عنه ، وليس هذا الحكم من أفكار المسلمين واقتراحاتهم واجتهاداتهم ، وما دام الأمر كذلك فلابد من إتباع حكم الله ما دمنا ارتضيناه رباً وإلهاً .
والله يوفقنا وإياك لما يحب ويرضى ، ونشكرك مرة أخرى
والسلام على من اتبع الهدى .
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(/2)
لمحات من حياة شيخ الإسلام ابن تيمية
مقدمة
الحمد لله القائل أشهد الله أن لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد القائل: العلماء ورثة الأنبياء، وعلى آله وصحبه ومن سار على هديه ودعا بدعوته من أئمة الدين وعلماء الإسلام وعلى كل قائم لله بدعوة صحيحة داخل في قوله تعالى: {قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين}.
وبعد
الدوافع إلى تأليف هذا الكتاب:
فإن شيخ الإسلام ابن تيمية رضي الله عنه من النفر القليل الذين كانت حياتهم كلها لله، والذين دعوا إلى الله على بصيرة، شاهداً لله سبحانه وتعالى أنه لا إله إلا هو، قائماً بالقسط، فقد كتب وألف عشرات المجلدات بل مئات المجلدات في هذين المعنيين: إثبات وحدانية الله سبحانه وتعالى وتحذير الأمة من الشرك الذي تفشى فيها بعد صدر الإسلام، ثم إثبات عدل الله في تشريعاته وقضائه وقدره، ولقد تعرض شيخ الإسلام في سبيل ذلك إلى تفنيد مزاعم قوى الشر كلها التي انتشرت وسادت المسلمين في عصره في القرن السابع الهجري وأوائل الثامن. فتصدى بالرد على الفلاسفة وأذنابهم والرافضة وأكاذيبهم، والباطنية وخبثهم ونفاقهم، والصوفية وعقائدهم الفاسدة وترهاتهم، وللمتكلمين وخلفائهم وتأويلاتهم الباطلة، وللمقلدين وعبادتهم لشيوخهم وتعصبهم لآرائهم المخالفة للكتاب والسنة، والنصارى وضلالهم، واليهود وخبثهم وأفسادهم، وألف في كل ذلك وكتب ودرس وسافر وارتحل وناقش ولم يكتف بهذا أيضاً بل جرد سيفه لقتال التتار فجمع الجموع لملاقاتهم، ووحد صفوف المسلمين لحربهم، وخاض المعارك ونصره الله عليهم..
وهو في كل هذا عازف عن الدنيا، لم يتزوج ولم يكتنز مالاً أو يبني داراً ويتخذ عقاراً إلا ما أراده من دار الآخرة.
وعالم هذا شأنه لا شك أن يكثر أعداءه وحساده.. فقد عادى الدنيا كلها في الله وخاصم كل منحرف في ذات الله، ولم يداهن أميراً ولا وزيراً في الحق، بل صدع به حيث كان، ولذلك كثرت ابتلاءاته ومحنه فلا يخلص من محنة إلا ودخل في أخرى، ولا ينتهي من سجن حتى يزج به في سجن آخر، ولا ينصر في محاكمة حتى تعقد له محاكمة جديدة.. وكل ذلك وهو صابر محتسب، بل فرح مستبشر أن أكرمه الله بكل هذه الكرامات وهيأ له كل هذه الأسباب لينشر علمه وتعظم محبة أهل الخير له، فكان قدوة للعالمين من أهل الخير في زمانه، ونموذجاً للعلماء العاملين في وقته، بل كان من تلاميذه جهابذة الأمة في كل فرع من فروع المعرفة الدينية فمن تلاميذه ابن كثير إمام المؤرخين والمفسرين، والذهبي علم المحققين والحافظ المزي، إمام من أئمة النقل والرجال والحديث وابن عبدالهادي علم التحقيق، وابن القيم إمام الأمة وفارسها، وروحاني الإسلام.. وخلق كثيرون.. ثم أصبحت كتبه من بعده هي الهادي والمرشد لعقيدة أهل السنة والجماعة، بعد أن لبس الملبسون من أهل الكلام والزندقة على الناس، ونشروا عقائدهم الباطلة في الأمة فقام هذا المجدد الفرداني والعالم الرباني فكشف بنور القرآن والسنة أضاليل أهل الكلام والبدعة والزندقة والردة.
* أعود فأقول عالم هذا شأنه وكثر حساده وأعداؤه في حياته وبعد مماته ينقبون كتبه ويفتشون لعلهم يظفرون له بخطيئة أو بزلة وليس هو بمعصوم فيضخمون ما ظنوه خطأ. فيجعلون خطأه كفراً، وردة، ثم يفترون عليه ويكذبون، وكل ذلك يسعون جاهدين أن ينفروا الأمة عن طريقه ويصرفوا العالم عن مطالعة كتبه، ولكن هذا منهم كان ينقلب في كل مرة عليهم حيث يقف الناس على كذب شانئيه ومبغضيه فينقلب السحر عليهم، وتبتلع آية الله ما أفكه الظالمون، وما افتراه المفترون.
وكان من جملة ما افتراه بعض هؤلاء من زعم أمام مجموعة من الطالبات أن ابن تيمية وابن القيم قد خالفا إجماع المسلمين لقولهما بفناء النار.. وزعم أن هذا إجماع قطعي.
وقال عن شيخ الإسلام ابن تيمية أنه سجن من أجل ذلك ولو لم يمت في السجن لنفذ فيه حد الردة.. وبادرته طالبة من الطالبات قائلة: أنعتبر ابن تيمية كافراً بذلك: فقال: يمكن يكون رجع عن كلامه.. ولا نعلم له رجوعاً، ولكنه زعم في مقام آخر أيضاً أنه لو قام من قبره لنفذ فيه حكم الردة..
الأهداف البعيدة:
أعود فأقول إن السبب في إرادة هدم شيخ الإسلام ابن تيمية من هذا الرجل وأمثاله معروف. لأن كتب شيخ الإسلام أنوار هاديات لكل زيف وبهتان، وتضليل وهذيان، ولذلك يحاربها كل من أراد أن يبني له مجداً في الظلام، ويطمس بعض البصائر ويتخذ مجموعة من الخفافيش تعيش معه في الجحور.. ولذلك يحاذر كل المحاذرة أن يسمع أحد منهم كلمة حق، أو يقرأ كتاباً يفضح باطله وزوره وتخليطه..
وقد بادر مجموعة من الإخوة فكتبوا بعض المقالات في الصحف رداً على فرية هذا الأستاذ على شيخ الإسلام ابن تيمية، وكتبت مقالاً سريعاً في الجريدة رداً على هذه الفرية وكان هذا نصه:
متى يكون مخالف الإجماع كافراً؟(/1)
* يعرف علماء الأصول الإجماع بأنه اتفاق علماء الإسلام في عصر من العصور بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم على مسألة من مسائل الدين. ويضربون أمثلة لذلك باتفاق المسلمين على بيعة الصديق، وحروب الردة، وولاية الفاروق، وإعطاء الجدة السدس من الميراث. ونحو ذلك من أمور اشتهرت وعمل بها المسلمون وافتى بها جميع الصحابة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم.
ويجعلون مخالف هذا الإجماع الظاهر كافراً وخاصة إذا كان الإجماع مستنداً إلى نص شرعي صريح كتحريم الخمر، والصلوات الخمس وإيجاب التيمم عند فقد الماء ونحو ذلك ما لم يكن مخالف هذا الإجماع متأولاً أو جاهلاً.
وفي دراسة عن الإجماع عمد أحد أساتذة كلية الشريعة بجامعة الكويت أمام طالبات من الكلية إلى ضرب أمثلة لمن خالف إجماع المسلمين فلم يجد مثلاً لذلك إلا الإمامين الجليلين: شيخ الإسلام ابن تيمية والإمام ابن القيم فأعلن الأستاذ للطالبات أنهما خالفا إجماع المسلمين لأنهما قالا بفناء نار الآخرة بعد أحقاب طويلة من عذاب الكفار فيها.
أقول لم يجد الأستاذ إلا هذين الإمامين ليدلل على مخالفة الإجماع، ولم يكتف بذلك بل زعم أن الشيخ ابن تيمية سجن من أجل فتواه تلك وأنه مات في السجن من أجل ذلك، ولو لم يمت في السجن لنفذ فيه حكم الردة!!
وكلام الأستاذ هذا فيه كثير من الأغاليط بل والأكاذيب عدا عما فيه من عدوان، وإفساد لعقول الشباب والناشئة وتنفير من علماء الإسلام ونحن نبين كل ذلك بحمد الله سبحانه:
أولاً: الإمام ابن تيمية لم يدخل السجن قط في هذه المسألة بالرغم من أنه دخل السجن مراراً وتكراراً، ودخوله السجن من فضل الله عليه، وكذلك فإن هذه المسألة لم تكن قط مثارة في عهده ممن أنكر عليه شيئاً من أقواله وإنما كان آخر مرة سجن فيها شيخ الإسلام -رضي الله عنه- في مسألة شد الرحال لزيارة القبور التي أنكرها هو عملاً بالحديث الصحيح [لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد مسجدي هذا والمسجد الحرام والمسجد الأقصى] ولما أجمعت عليه الأمة، أن السفر لزيارة القبور سفر معصية، ولكن عباد القبور في زمانه ألبوا عليه بعض من لا فقه لهم من الأمراء فسجن لذلك ووافته المنية في سجن قلعة دمشق من أجل ذلك وليس من أجل قوله بفناء النار كما زعم أستاذ كلية الشريعة.
ثانياً: قضية القول بفناء النار ليست ابتداعاً لشيخ الإسلام ابن تيمية (الحق أن ابن تيمية ذكر في هذه المسألة قولين للسلف ولم يرجح واحداً منهما وإنما الذي رجح القول بالفناء هو ابن القيم رحمه الله) وابن القيم وإنما قال بها جمهور كبير من الصحابة والتابعين كعمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأبو سعيد الخدري، وأبو هريرة وعبدالله بن مسعود، وعلى بن أبي طالب، والحسن البصري، وكثير من أئمة التابعين وعلماء التفسير فكيف تكون هذه القضية من قضايا الإجماع وهؤلاء جميعاً مخالفون لذلك، بل قال الإمام ابن القيم أنه لو طلب ممن يقول بالإجماع في هذه المسألة: أن ينقل عن عشرة فقط من الصحابة فما دونهم إلى الواحد لم يجد إلى ذلك سبيلاً.. فكيف يدعي الإجماع في مثل ذلك؟
الكلام الذي رمى به الأستاذ شيخ الإسلام ابن تيمية كلام عظيم وبهتان كبير فتكفير المسلم شيء عظيم فكيف بتكفير إمام من أئمة المسلمين وعلم من أعلامهم لا يوجد لليوم عالم قد نال من ثناء العلماء عليه مثل ما نال هذا الرجل.
وحسبك من ذلك قول تلميذه الحافظ الذهبي: "لو حُلّفت بين الركن والمقام لحلفت أنني ما رأيت بعيني مثله، ولا رأى هو مثل نفسه في العلم"، وقول تلميذه الحافظ المزي: "ما رأيت مثله، ولا رأى هو مثل نفسه، وما رأيت أحداً أعلم بكتاب الله وسنة رسوله، ولا أتبع لهما منه"، وقول الإمام ابن دقيق العيد: "لما اجتمعت بابن تيمية رأيت رجع كل العلوم بين عينيه يأخذ ما يريد ويدع ما يريده".
ومثل هذا القول أيضاً عن أبي حيان شيخ النحاة.. ولم تؤلف تراجم في الإسلام لرجل مثله. وهو الذي اتبع جنازته أهل دمشق كلها، وقد حضر من النساء فقط خمسة عشر ألف امرأة، ومائتي ألف رجل، ولا يعرف جنازة مثلها في الإسلام إلا للإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه فالإقدام على تكفير رجل مثل هذا في حلقة من حلقات العلم وفي كلية الشريعة شيء عظيم جداً.
* وقد يقول قائل إن كلام الأستاذ لا يتضمن التكفير وأقول هذا قول خاطئ.. أولاً: لأن الأستاذ كان في معرض بيان من خالفوا الإجماع ومعلوم أن مخالف الإجماع كافر، وثانياً: أنه زعم أن علماء عصره حكموا بكفره.. وكان هذا إقرار منه بذلك، وثالثاً: أنه قال لو لم يمت لنفذ فيه حكم القتل وحكم القتل لا ينفذ في مثل هذه الحالة المزعومة إلا للردة.. ورابعاً: أنه زعم أنه لم يعرف له رجوع عن قوله هذا. وخامساً: أن هذا الأستاذ يلقي الكفر على كل من يتوهم أنه يخالفه وهذا دأبه أبداً.(/2)
رابعاً: كان بودنا ألا يستغل الأستاذ منصبه ومقامه وسط طالبات قد يظن أنهن لن يتمكن من البحث والمعرفة فيبتلعن السموم التي ينفثها لهن.. أقول كان بودنا ألا يستغل الأستاذ ذلك وأن يعمد إلى مخالفي الإجماع الحقيقيين كمن زعموا أن القرآن فقط كاف لنا دون السنة النبوية، ومن زعموا أن الدين أخلاق وعبادات فقط وليس حكماً وتشريعاً، ومن غيروا بعد الرسول وجعلوا ظاهر القرآن والسنة في زعمهم كفر، ونفوا عن الله أسماءه وصفاته العلية، ومن قالوا بوحدة الوجود وأن المخلوق هو عين الخالق، ومن أجازوا التوسل بالأموات والطواف بالقبور وشد الرحيل إلى المزارات، والسجود على العتبات ونحو هذا كثير من الذين أرادوا هدم دين الإسلام بالفعل. أما أن يعمد إلى إمام عاش طيلة دهره مجاهداً بسيفه وقلمه محارباً في كل اتجاه فلا يجد الأستاذ كافراً في الأمة مخالفاً لإجماعها غيره.. سبحان الله أين الفكر والنظر بل أين الدين والخلق؟
خامساً: نحن نقول للأستاذ: إن زمناً كان يمكن فيه التدليس على الناس وطمس الحقائق قد ولى، وأن الطالبات اللاتي ظننت أنهن ليس أهلاً للبحث والتحري ومعرفة الحق لسن كذلك وسيصلن حتماً بعون الله ومشيئته إلى معرفة الحق إن كان معك أو عليك وأن من يطاول ابن تيمية ويرميه بسهم حتماً سيعود سهمه إلى نحره.. وأن أناساً يدافعون عنك الآن، ولا يدافعون عن حرمة الأموات يغشونك ويغشون أنفسهم، وقد قال عز وجل في الحديث القدسي: [ومن عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب]، والرسول يقول أنتم شهداء في الأرض.. من شهد له وجبت له الجنة، وقد شهد أهل دمشق كلها في عصر ابن تيمية جنازته وشهدوا له وبكوه أحر ما يكون البكاء، ولم يكن ذلك اصطناعاً ولا دعاية وإنما كان شهادة وهداية من الله. فانظر أين وضعت نفسك. وانتظر غداً يوم يعرف الناس الحقائق، وتنجلي الأمور أن العلم ليس باعتجار العمامة، ولا تبديل البشوت، والاختيال في الأردية. وتكفير علماء الإسلام واحتقارهم وتحذير الشباب منهم.
سادساً: وفي الختام نسأل الأستاذ هذه الأسئلة نرجو جوابها.. من أين علمت أن شيخ الإسلام ابن تيمية سجن آخر مرة في قوله بفناء النار؟ وأين إجماع المسلمين الذي زعمته في هذه القضية؟ وهل يكون إجماعاً ما خالفه جمهور من الصحابة والتابعين؟ وماذا تقول في هؤلاء الصحابة الذين خالفوا إجماعك المزعوم؟ هل كفروا هم أيضا مع ابن تيمية وابن القيم؟ ومن الذي حكم في الشيخ بحكم الردة؟ وما هو حكم من كفر إماماً من أئمة المسلمين أجمعت الأمة على إمامته وعدله وعلمه وتقواه؟.. نرجو أن نتلقى رداً منكم على أسئلتنا هذه.
وقد رأيت من واجبي قياماً بحق إمام من أجل أئمة الأمة الإسلامية لا يوجد اليوم مسلم يعرف التوحيد حقاً إلا وهو مدين له بالعلم والفضل فهو الذي أنار للأمة بعده طريق الله بعد تمالأ الباطنية والقرامطة والغلاة والرافضة، والصوفية، والحلولية، والمتفلسفة على إفساد دين المسلمين وطمس طريق رب العالمين، فقام في هذه الأيام يصاول كل هذا الباطل بقلمه السيال، ونور كلماته الوقاد، وسيفه القاطع فما أبقى لهم شبهه إلا ورفعها، ولا تلبيساً إلا وكشفه، ولا ظلاماً إلا وبدده. أقول رأيت من واجبي أن أقتبس جذوة من نور هذا الشيخ الجليل، وأعرض على ناشئتنا الإسلامية لمحة من أضوائه اللامعة ولست في هذا إلا قابساً من جذوته، وناقلاً عمن كتب عنه، وإني لأرجو في مستقبل حياتي إن أطال الله في عمري أن أجمع ترجمة مستفيضة له أجعل القارئ يعيش بها مع هذا الرجل حياته ساعة بساعة، ويجلس في حلقات علمه تلميذاً حلقة حلقة، ودرساً درساً، ولعل الله أن يمكنني من ذلك وأما الآن فإلى هذه اللمحات من حياة شيخنا وأستاذنا شيخ الإسلام أحمد عبدالحليم بن تيمية رحمه الله.
كتبه: عبدالرحمن عبدالخالق
الكويت الأحد 15صفر 1404هـ
الموافق 20/11/1983
الباب الأول
ابن تيمية: الإعداد الرباني
أول ما يطالعنا في دراسة حياة شيخ الإسلام ابن تيمية هو هذا الإعداد والعناية الربانية التي كلأت هذا الإمام منذ أن كان صغيراً وإلى أن توفاه الله سبحانه وتعالى وهذا ما يكاد يجمع عليه كل الذين ترجموا له. وكتبوا عنه ممن أراهم الله حقيقة هذا الرجل العجيب فكأن كل الظروف والأحداث كانت تتهيأ لاستقبال هذا المجدد.. ولا شك أن القارئ الذي سيستمر معنا مطالعاً هذه المقتطفات واللمحات من حياة شيخنا شيخ الإسلام سيخرج بهذه النتيجة.(/3)
فالعالم الذي أظلم ظلاماً يكاد أن يكون كاملاً قبل أن يبدأ هذا الرجل دعوته قد كان يتطلع وينتظر قدوم مثل هذا الرجل ليبدد ظلمات الفلسفة والزندقة، والإلحاد، والشرك بكل مظاهره، والباطنية بكل أعلامها والإتحادية، وأيضاً ظلام الحكام المتجبرين والعملاء المأجورين، وأكثر من هذا ظلام وعدوان التتر المتسترين بالإسلام، والنصيرية والرافضة المعادين لأهل الإسلام، والموالين لأهل الكفر والطغيان لقد كان العالم الإسلامي في أمس الحاجة إلى عالم مجدد جرئ شجاع يستطيع أن يقول الحق لكل أولئك وهو لا يخاف في الله لومة لائم، ولا يخشى سجناً ولا تعذيباً، ولا غربة ولا نفياً.. بل ولا قتلاً.. فكان ابن تيمية الذي جعله الله أولا وعاء عظيما استوعب علم الكتاب والسنة، ثم وسع كل علوم وترهات وأكاذيب أولئك الضلال وعرف بعد ذلك كيف يكر عليها ويبطلها باطلا باطلا، ولا يستطيع أحد منهم أن يقف أمامه أو يحاربه أو يلبس على الناس عنده.. والآن تعالوا نطالع عناية الله بهذا الرجل منذ أن كان صبياً.
شهادة ابن عبدالهادي:
قال الحافظ محمد بن أحمد بن عبدالهادي في (العقود الدرية من مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية): انبهر أهل دمشق من فرط ذكائه، وسيلان ذهنه، وقوة حافظته، وسرعة إدراكه. واتفق أن بعض مشايخ العلماء بحلب قدم إلى دمشق، وقال: سمعت في البلاد بصبي يقال له: أحمد بن تيمية، وأنه سريع الحفظ، وقد جئت قاصداً، لعلي أراه، فقال له خياط: هذه طريق كتّابه، وهو إلى الآن ما جاء. فاقعد عندنا، الساعة يجيء يعبر علينا ذاهباً إلى الكتّاب (مدرسة صغيرة لتحفيظ القرآن). فجلس الشيخ الحلبي قليلاً، فمر صبيان، فقال الخياط: هذاك الصبي الذي معه اللوح الكبير: هو أحمد بن تيمية. فناداه الشيخ. فجاء إليه. فتناول الشيخ اللوح منه، فنظر فيه ثم قال له: امسح يا ولدي هذا، حتى أملي عليك شيئاً تكتبه، ففعل، فأملى عليه من متون الأحاديث أحد عشر، أو ثلاثة عشر حديثاً، وقال له: اقرأ هذا، فلم يزد على أن تأمله مرة بعد كتابته إياه. ثم دفعه إليه، وقال: اسمعه عليّ، فقرأه عليه عرضا كأحسن ما أنت سامع. فقال له: يا ولدي، امسح هذا، ففعل. فأملى عليه عدة أسانيد انتخبها، ثم قال: اقرأ هذا، فنظر فيه، كما فعل أول مرة. ثم أسمعه إياه كالأول. فقام الشيخ وهو يقول: إن عاش الصبي ليكونن له شأن عظيم. فإن هذا لم يُرَ مثله.
الباب الثاني
ابن تيمية: العالم الذي لم ير العلماء مثله
كان لا بد لابن تيمية الذي سيقابل هذا الواقع الأليم بكل مآسيه وعقباته أن يكون عالماً من طراز آخر، وأن يقر له العلماء جميعاً بالفضل والسبق عليهم، وأن يشهدوا أن أعينهم لم تر مثل هذا الرجل ، وذلك حتى يستطيع أن يشق طريقه إلى الإصلاح، ولا يستطيع أحد أن يتهمه بجهل أو قصور وتعالوا نشاهد شهادات العلماء له في عصره وبعد عصره بالعلم الذي لا يضارع ولا يماثل..
1- شهادة تلميذه الإمام الذهبي:
قال الذهبي في معجم شيوخه: أحمد بن عبدالحليم -وساق نسبه- الحراني، ثم الدمشقي، الحنبلي أبو العباس، تقي الدين، شيخنا وشيخ الإسلام، وفريد العصر علماً ومعرفة، وشجاعة وذكاء، وتنويراً إلهياً، وكرماً ونصحاً للأمة، وأمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر. سمع الحديث، وأكثر بنفسه من طلبه، وكتب وخرج، ونظر في الرجال والطبقات، وحصل ما لم يحصله غيره. برع في تفسير القرآن، وغاص في دقيق معانيه بطبع سيال، وخاطر إلى مواقع الإشكال ميال، واستنبط منه أشياء لم يسبق إليها. وبرع في الحديث وحفظه، فقلّ من يحفظ ما يحفظه من الحديث، معزواً إلى أصوله وصحابته، مع شدة استحضاره له وقت إقامة الدليل. وفاق الناس من معرفة الفقه، واختلاف المذاهب، وفتاوي الصحابة والتابعين، بحيث إنه إذا أفتى لم يلتزم بمذهب، بل يقوم بما دليله عنده. وأتقن العربية أصولاً وفروعاً، وتعليلاً واختلافاً. ونظر في العقليات، وعرف أقوال المتكلمين، وردّ عليهم، ونبّه على خطئهم، وحذّر منهم ونصر السنة بأوضح حجج وأبهر براهين. وأوذي في ذات الله من المخالفين، وأخيف في نصر السنة المحضة، حتى أعلى الله مناره، وجمع قلوب أهل التقوى على محبته والدعاء له، وكبت أعداءه، وهدى به رجالاً من أهل الملل والنحل، وجبل قلوب الملوك والأمراء على الإنقياد له غالباً، وعلى طاعته، وأحيى به الشام، بل والإسلام، بعد أن كاد ينثلم بتثبيت أولي الأمر لما أقبل حزب التتر والبغي في خيلائهم، فظنت بالله الظنون، وزلزل المؤمنون، واشرأّب النفاق وأبدى صفحته. ومحاسنه كثيرة، وهو أكبر من أن ينبه على سيرته مثلي، فلو حلفت بين الركن والمقام، لحلفت: أني ما رأيت بعيني مثله، وأنه ما رأى مثل نفسه (طبقات الحنابلة لابن رجب 389،390).
وقال الذهبي أيضاً:(/4)
وله خبرة تامة بالرجال، وجرحهم وتعديلهم، وطبقاتهم، ومعرفة بفنون الحديث، وبالعالي والنازل، والصحيح والسقيم، مع حفظه لمتونه، الذي انفرد به، فلا يبلغ أحد في العصر رتبته، ولا يقاربه، وهو عجيب في استحضاره، واستخراج الحجج منه، وإليه المنتهى في عزوه إلى الكتب الستة، والمسند، بحيث يصدق عليه أن يقال: كل حديث لا يعرفه ابن تيمية فليس بحديث (المصدر السابق).
وقال أيضاً:
ولما كان معتقلاً بالإسكندرية: التمس منه صاحب سبتة أن يجيز لأولاده، فكتب له في ذلك نحواً من ستمائة سطر، منها سبعة أحاديث بأسانيدها، والكلام على صحتها ومعانيها، وبحث وعمل ما إذا نظر فيه المحدث خضع له من صناعة الحديث. وذكر أسانيده في عدة كتب. ونبّه على العوالي. عمل ذلك كله من حفظه، من غير أن يكون عنده ثبت أو من يراجعه.
ولقد كان عجيباً في معرفة علم الحديث. فأما حفظه متون الصحاح وغالب متون السنن والمسند: فما رأيت من يدانيه في ذلك أصلاً.
قال: وأما التفسير فمسلم إليه. وله من استحضار الآيات من القرآن -وقت إقامة الدليل بها على المسألة- قوة عجيبة. وإذا رآه المقرئ تحير فيه. ولفرط إمامته في التفسير، وعظم اطلاعه. يبين خطأ كثير من أقوال المفسرين. ويوهي أقوالاً عديدة. وينصر قولاً واحداً، موافقاً لما دل عليه القرآن والحديث. ويكتب في اليوم والليلة من التفسير، أو من الفقه، أو من الأصلين، أو من الردعلى الفلاسفة والأوائل: نحواً من أربعة كراريس أو أزيد.
قلت: وقد كتب (الحموية) في قعدة واحدة. وهي أزيد من ذلك. وكتب في بعض الأحيان في اليوم ما يبيض منه مجلد. أ.هـ (المصدر السابق).
وقال الذهبي أيضاً في بيان حملاته على المنحرفين:
وغالب حطه على الفضلاء والمتزهدة فبحق، وفي بعضه هو مجتهد، ومذهبه توسعة العذر للخلق، ولا يكفر أحداً إلا بعد قيام الحجة عليه.
قال: ولقد نصر السنة المحضة، والطريقة السلفية، واحتج لها ببراهين ومقدمات، وأمور لم يسبق إليها، وأطلق عبارات أحجم عنها الأولون والآخرون وهابوا، وجسر هو عليها، حتى قام عليه خلق من علماء مصر والشام قياماً لا مزيد عليه، وبدّعوه وناظروه وكابروه، وهو ثابت لا يداهن ولا يحابي، بل يقول الحق المرّ الذي أدّاه إليه اجتهاده، وحدة ذهنه، وسعة دائرته في السنن والأقوال، مع ما اشتهر عنه من الورع، وكمال الفكر، وسرعة الإدراك، والخوف من الله، والتعظيم لحرمات الله.
فجرى بينه وبينهم حملات حربية، ووقعات شامية ومصرية، وكم من نوبة قد رموه عن قوس واحدة، فينجيه الله فإنه دائم الابتهال، كثير الاستغاثة، والاستعانة به، قوي التوكل، ثابت الجأش، له أوراد وأذكار يدمنها بكيفية وجمعية. وله من الطرف الآخر محبون من العلماء والصلحاء، ومن الجند والأمراء، ومن التجار والكبراء، وسائر العامة تحبه، لأنه منتصب لنفعهم ليلاً ونهاراً، بلسانه وقلمه.
(وله حدة قوية تعتريه في البحث، حتى كأنه ليث حرب. وهو أكبر من أن ينبه مثلى على نعوته. وفيه قلة مداراة، وعدم تؤدة غالباً، والله يغفر له. وله إقدام وشهامة، وقد نفس توقعه في أمور صعبة، فيدفع الله عنه) أ.هـ (المصدر السابق).
وقال أيضاً في وصف شجاعته:
وأما شجاعته: فبها تضرب الأمثال، وببعضها يتضبه أكابر الأبطال. ولقد أقامه الله تعالى في نوبة قازان (ملك من ملوك التتار قابله ابن تيمية وأنكر عليه وأمره بإطلاق أسرى المسلمين ففعل). والتقى أعباء الأمر بنفسه. وقام وقعد وطلع، ودخل وخرج، واجتمع بالملك -يعني قازان- مرتين، وبقطلوشاه، وبولاي. وكان قبجق يتعجب من إقدامه وجراءته على المغول).
وأقول: إن هذه والله الترجمة ما نال أحد من العلماء فيما أعلم منها قط ومن يستطيع أن يكتب الناس فيه كلاماً صحيحاً صادقاً كالذي يكتبه هذا الإمام المدقق الصادق رحمه الله.
2- شهادة تلميذه الشيخ محمد بن أحمد بن عبدالهادي المتوفي سنة 744هـ:
"قال الشيخ ابن عبدالهادي: ثم لم يبرح شيخنا في ازدياد من العلوم، وملازمة الاشتغال والإشغال، وبث العلم ونشره، والاجتهاد في سبيل الخير، حتى انتهت إليه الإمامة في العلم والعمل، والشجاعة والكرم، والتواضع والحلم والأناة والإنابة، والجلالة والمهابة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وسائر أنواع الجهاد، مع الصدق والعفة والصيانة، وحسن القصد والإخلاص، والابتهال إلى الله وكثرة الخوف منه، وكثرة المراقبة له، وشدة التمسك بالأثر، والدعاء إلى الله وحسن الأخلاق، ونفع الخلق، والإحسان إليهم، والصبر على من آذاه، والصفح عنه والدعاء له، وسائر أنواع الخير.
وكان رحمه الله سيفاً مسلولاً على المخالفين، وشجى في حلوق أهل الأهواء المبتدعين، وإماماً قائماً ببيان الحق ونصرة الدين. وكان بحراً لا تكدره الدلاء، وحبراً يقتدي به الأخيار الأولياء. طنّت بذكره الأمصار وضنّت بمثله الأعصار.(/5)
قال شيخنا الحافظ أبو الحجاج يوسف المزي (ولد سنة 654 بالمزة. وتوفي سنة 742): ما رأيت مثله. ولا رأى هو مثل نفسه، ولا رأيت أحداً أعلم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولا أتبع لهما منه.
وقال الشيخ الحافظ أبو الفتوح محمد بن سيد الناس اليعمري الأندلسي، ثم المصري (ولد سنة 671 وتوفي بالقاهرة سنة 734) -بعد أن ذكر ترجمة الحافظ جمال الدين المزي- وهو الذي حداني على رؤية الشيخ الإمام، شيخ الإسلام، تقي الدين، أبي العباس: أحمد بن عبدالحليم بن عبدالسلام بن تيمية- فألفيته: كاد يستوعب السنن والآثار حفظاً، إن تكلم في التفسير: فهو حامل رايته، أو أفتى في الفقه: فهو مدرك غايته، أو ذاكر بالحديث: فهو صاحب علمه وروايته، أو حاضر بالنّحل والملل لم ير أوسع من نحلته في ذلك ولا أرفع من رايته. برز في كل فن على أبناء جنسه. ولم تر عين من رآه مثله.
ولا رأت عينه مثل نفسه. كان يتكلم في التفسير، يحضر مجلسه الجم الغفير، ويرتوون من بحر علمه العذب النمير، ويرتعون من ربيع فضله في روضة وغدير، إلى أن دب إليه من أهل بلده داء الحسد. وألّب أهل النظر منهم ما ينتقد عليه في حنبليته من أمور المعتقد، فحفظوا عنه في ذلك كلاماً، أوسعوه بسببه ملاماً، وفوّقوا لتبديعه سهاماً، وزعموا أنه خالف طريقهم، وفرق فريقهم، فتنازعهم ونازعوه، وقاطع بعضهم وقاطعوه، ثم نازعه طائفة أخرى ينتسبون من الفقر إلى طريقة، ويزعمون أنهم على أدق باطن منها وأجلى حقيقة، فكشف عن عيوب تلك الطوائف، وذكر لها بوائق، فآضت إلى الطائفة الأولى من منازعيه، واستعانت بذوي الضعن عليه من مقاطعيه، فوصلوا بالأمراء أمره، وأعمل كل منهم في كفره فكره، فكتبوا محاضر. وألّبوا الرويبضة للسعي بها بين الأكابر، وسعوا في نقله إلى حضرة المملكة بالديار المصرية، فنقل وأودع السجن ساعة حضوره، واعتقل، وعقدوا لإراقة دمه مجالس، وحشدوا لذلك قوماً من عمار الزوايا وسكان المدارس، من كل متحامل في المنازعة، مخاتل بالمخادعة، ومن مجاهر بالتفكير مبارز بالمقاطعة، يسومونه ريب المنون {وربك يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون}. وليس المجاهر بكفره أسوأ حالاً من المخاتل، وقد دبت إليه عقارب مكره. فرد الله كيد كل في نحره. فنجاه الله على يد من اصطفاه، والله غالب على أمره ثم لم يخل بعد ذلك من فتنة بعد فتنة، ولم ينتقل طول عمره من محنة إلا إلى محنة، إلى أن فوض أمره إلى بعض القضاة، فقلّد ما تقلد من اعتقاله. ولم يزل بمحبسه ذلك إلى حين ذهابه إلى رحمة الله تعالى وانتقاله. وإلى الله ترجع الأمور. وهو المطلع على خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وكان يومه مشهوداً، ضاقت بجنازته الطريق. وانتابها المسلمون من كل فج عميق، وكان موته رحمه الله في ليلة العشرين من ذي القعدة سنة 728 سجيناً بقلعة دمشق (العقود الدرية في مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية).
3- شهادة قاضي الشافعية ومفتيهم ابن الزملكاني:
قال ابن كثير:-
وأثنى عليه وعلى علومه وفضائله جماعة من علماء عصره، مثل القاضي الخوبي، وابن دقيق العيد، وابن النحاس، والقاضي الحنفي قاضي قضاة مصر ابن الحريري وابن الزملكاني وغيرهم، ووجدت بخط ابن الزملكاني (قال ابن كثير في وصف ابن الزملكاني: شيخ الشافعية بالشام وغيرها، انتهت إليه رياسة المذهب تدريساً وإفتاء ومناظرة، ويقال نسبه السماكي نسبة إلى أبي دجانة سماك بن خرشة والله أعلم. البداية والنهاية ص140 ج14) أنه قال: اجتمعت فيه شروط الاجتهاد على وجهها، وأن له اليد الطولى في حسن التصنيف وجودة العبارة والترتيب والتقسيم والتدوين، وكتب على تصنيف له هذه الأبيات:
ماذا يقول الواصفون له ومحاسنه جلّت عن الحصر
هو حجة لله قاهرة هو بيننا أعجوبة الدهر
هو آية في الخلق ظاهرة أنوارها أربت على الفجر
وبالجملة كان رحمه الله من كبار العلماء وممن يخطئ ويصيب ولكن خطؤه بالنسبة إلى صوابه كنقطة في بحر لجي، وخطؤه أيضاً مغفور له كما في صحيح البخاري: [إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر] فهو مأجور. وقال الإمام مالك بن أنس: "كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب هذا القبر".
4- شهادة الحافظ جلال الدين السيوطي:
ابن تيمية الشيخ الإمام العلامة الحافظ الناقد الفقيه المجتهد المفسر البارع شيخ الإسلام، علم الزهاد، نادرة العصر، تقي الدين أبو العباس أحمد المفتي شهاب الدين عبدالحليم بن الإمام المجتهد شيخ الإسلام مجد الدين عبدالسلام ابن عبدالله بن أبي القاسم الحراني.
أحد الأعلام، ولد في ربيع الأول سنة إحدى وستين وستمائة.
وسمع ابن أبي اليسر. وابن عبدالدائم، وعدّة.
وعني بالحديث، وخرج وانتقى، وبرع في الرجال، وعلل الحديث وفقههه وفي علوم الإسلام وعلم الكلام، وغير ذلك. وكان من بحور العلم، ومن الأذكياء المعدودين، والزهاد، والأفراد، ألف وثلاثمائة مجلدة، وامتحن وأوذي مراراً.(/6)
مات في العشرين من ذي القعدة سنة ثمان وعشرين وسبعمائة (طبقات الحفاظ ص516،517).
5- شهادة أبو الحسن السبكي قاضي القضاة:
ومما وجد في كتاب كتبه العلامة قاضي القضاة أبو الحسن السبكي إلى الحافظ أبي عبدالله الذهبي في أمر الشيخ تقي الدين المذكور: أما قول سيدي في الشيخ فالمملوك يتحقق كبر قدره. وزخارة بحره. وتوسعه في العلوم الشرعية والعقلية. وفرط ذكائه واجتهاده. وبلوغه في كل من ذلك المبلغ الذي يتجاوز الوصف. والمملوك يقول ذلك دائماً. وقدره في نفسي أكبر من ذلك وأجل. مع ما جمعه الله له من الزهادة والورع والديانة. ونصرة الحق. والقيام فيه لا لغرض سواه. وجريه على سنن السلف. وأخذه من ذلك بالمأخذ الأوفى. وغرابة مثله في هذا الزمان. بل من أزمان.
6- شهادة الإمام الحافظ ابن حجر العسقلاني الشافعي رحمه الله:
قال ابن حجر العسقلاني المولود في القاهرة والمتوفي بها سنة 852هـ وصاحب كتاب فتح الباري شرح البخاري وكتاب التهذيب وهو الذي لقب بأمير المؤمنين في الحديث. قال تقريظاً لكتاب الرد الوافر للإمام ابن ناصر الدين الدمشقي وهو الذي كتبه مؤلفه رداً على أن من زعم من متعصبي الأحناف أنه لا يجوز تسمية ابن تيمية بشيخ الإسلام وأنه من فعل ذلك فقد كفر!! (انظر) فكتب ابن ناصر الدين الدمشقي كتاباً سماه الرد الوافر ذكر فيه أكثر من بضع وثمانين إماماً من أئمة المسلمين كلهم سمى ابن تيمية بشيخ الإسلام ونقل نقولهم من كتبهم بذلك، ولما قرأ الحافظ بن حجر رحمه الله هذا الكتاب الرد الوافر كتب عليه تقريظاً هذا نصه:
الحمد لله، وسلام على عباده الذين اصطفى.
وقفت على هذا التأليف النافع، والمجموع الذي هو للمقاصد التي جمع لأجلها جامع، فتحققت سعة اطلاع الإمام الذي صنفه، وتضلعه من العلوم النافعة بما عظمه بين العلماء وشرفه، وشهرة إمامة الشيخ تقي الدين أشهر من الشمس، وتلقيبه بشيخ الإسلام في عصره باق إلى الآن على الألسنة الزكية ويستمر غداً كما كان بالأمس، ولا ينكر ذلك إلا من جهل مقداره، أو تجنب الأنصاف، فما أغلط من تعاطي ذلك وأكثر عثاره، فالله تعالى هو المسؤول أن يقينا شرور أنفسنا وحصائد ألسنتنا بمنه وفضله، ولو لم يكن من الدليل على إمامة هذا الرجل إلا ما نبه عليه الحافظ الشهير علم الدين البرزالي في تاريخه: أنه لم يوجد في الإسلام من اجتمع في جنازته لما مات ما اجتمع في جنازة الشيخ تقي الدين، وأشار إلى أن جنازة الإمام أحمد كانت حافلة جداً شهدها مئات ألوف، ولكن لو كان بدمشق من الخلائق نظير من كان ببغداد أو أضعاف ذلك، لما تأخر أحد منهم عن شهود جنازته، وأيضاً فجميع من كان ببغداد إلا الأقل كانوا يعتقدون إمامة الإمام أحمد، وكان أمير بغداد وخليفة ذلك الوقت إذا ذاك في غاية المحبة له والتعظيم، بخلاف ابن تيمية فكان أمير البلد حين مات غائباً. وكان أكثر من بالبلد من الفقهاء قد تعصبوا عليه حتى مات محبوساً بالقلعة، ومع هذا فلم يتخلف منهم عن حضور جنازته والترحم عليه والتأسف (عليه) إلا ثلاثة أنفس، تأخروا خشية على أنفسهم من العامة.(/7)
ومع حضور هذا الجمع العظيم فلم يكن لذلك باعث إلا اعتقاد إمامته وبركته لا بجمع سلطان ولا غيره، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: [أنتم شهداء الله في الأرض] (رواه البخاري ومسلم). ولقد قام على الشيخ تقي الدين جماعة من العلماء مراراً بسبب أشياء أنكروها عليه من الأصول والفروع، وعقدت له بسبب ذلك عدة مجالس بالقاهرة وبدمشق، ولا يحفظ عن أحد منهم أنه أفتى بزندقته ولا حكم بسفك دمه مع شدة المتعصبين عليه حينئذ من أهل الدولة، حتى حبس بالقاهرة ثم بالإسكندرية، ومع ذلك فكلهم معترف بسعة علمه وكثرة ورعه وزهده، ووصفه بالسخاء والشجاعة، وغير ذلك من قيامه في نصر الإسلام، والدعوة إلى الله تعالى في السر والعلانية، فكيف لا ينكر على من أطلق أنه كافر، بل من أطلق على من سماه شيخ الإسلام الكفر، وليس في تسمية بذلك ما يقتضي ذلك فإنه شيخ في الإسلام بلا ريب، والمسائل التي أنكرت عليه ما كان يقولها بالتشهي ولا يصر على القول بها بعد قيام الدليل عليه عناداً، وهذه تصانيفه طافحة بالرد على من يقول بالتجسيم والتبري منه، ومع ذلك فهو بشر يخطئ ويصيب، فالذي أصاب فيه وهو الأكثر يستفاد منه ويترحم عليه بسببه، والذي أخطأ فيه لا يقلد فيه، بل هو معذور لأن أئمة عصره شهدوا له بأن أدوات الاجتهاد اجتمعت فيه، حتى كان أشد المتعصبين عليه، والقائمين في إيصال الشر إليه، وهو الشيخ كمال الدين الزملكاني شهد له بذلك، وكذلك الشيخ صدر الدين ابن الوكيل الذي لم يثبت لمناظرته غيره، ومن أعجب العجب أن هذا الرجل كان أعظم الناس قياماً على أهل البدع من الروافض والحلولية والاتحادية، وتصانيفه في ذلك كثيرة شهيرة، وفتاويه فيهم لا تدخل تحت الحصر، فيا قرة أعينهم إذ سمعوا بكفره، ويا سرورهم إذا رأوا من يكفر من لا يكفره، فالواجب على من تلبّس بالعلم وكان له عقل أن يتأمل كلام الرجل من تصانيفه المشتهرة، أو من ألسنة من يوثق به من أهل النقل، فيفرد من ذلك ما ينكر فيحذر منه على قصد النصح، ويثني عليه بفضائله فيما أصاب من ذلك كدأب غيره من العلماء، ولو لم يكن للشيخ تقي الدين من المناقب إلا تلميذه الشهير الشيخ شمس الدين بن قيم الجوزية صاحب التصانيف النافعة السائرة التي انتفع بها الموافق والمخالف، لكن غاية في الدلالة على عظم منزلته، فكيف وقد شهد له بالتقدم في العلوم، والتميز في المنطوق والمفهوم، أئمة عصره من الشافعية وغيرهم! فضلاً عن الحنابلة، فالذي يطلق عليه مع هذه الأشياء الكفر، أو على من سماه شيخ الإسلام، لا يلتفت إليه، ولا يعول في هذا المقام عليه، بل يجب ردعه عن ذلك إلى أن يراجع الحق ويذعن للصواب، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
صفة خطه أدام الله بقاءه.
قال وكتبه أحمد بن علي بن محمد بن حجر الشافعي عفا الله عنه، وذلك في يوم الجمعة التاسع من شهر ربيع الأول عام خمسة وثلاثين وثمانمائة حامداً لله، ومصلياً على رسوله محمد وآله ومسلماً. أ.هـ (الرد الوافر للإمام ابن ناصر الدين الدمشقي بتحقيق زهير الشاويش ص145-146).
الباب الثالث
ابن تيمية: العابد الورع
إن مجدداً يقوم في مثل تلك الظلمات التي كانت في القرن الثامن الهجري لا يمكن أن يفلح في دعوته بمجرد العلم حتى لو كان علماً لا يصارع ولا يصاول ولا يطاول.. بل لا بد وأن يكون مع هذا العلم إيمان وتقوى، واستمداد من الله ورجوع دائم إليه، وقيام بحق العباد، وإخلاص في كل ذلك لله حتى يبارك هذا العلم وتؤتي ثماره، وكذلك كان شيخنا شيخ الإسلام العابد الورع التقي وهذه شهادة تلميذه الحافظ أبي عمر بن علي البزار رحمه الله. قال في بيان عبادته وورعه:
قال أما تعبده رضي الله عنه فإنه قل أن سمع بمثله، لأنه كان قد قطع جل وقته وزمانه فيه، حتى إنه لم يجعل لنفسه شاغلة تشغله عن الله تعالى ما يراد له من أهل ولا من مال. وكان في ليلة متفرداً عن الناس كلهم، خالياً بربه عز وجل، ضارعاً، مواظباً على تلاوة القرآن العظيم. مكرّراً لأنواع التعبدات الليلية والنهارية. وكان إذا ذهب الليل وحضر مع الناس بدأ بصلاة الفجر يأتي بسنّها قبل إتيانه إليهم. وكان إذا أحرم بالصلاة يكاد يخلع القلوب لهيبة إتيانه بتكبيرة الإحرام. فإذا دخل في الصلاة ترتعد أعضاؤه حتى يميد يمنة ويسرة. وكان إذا قرأ يمد قراءته مداًّ كما صحّ في قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان ركوعه وسجوده وانتصابه عنهما من أكمل ما ورد في صلاة الفرض. وكان يخف جلوسه للتشهد الأول خفة شديدة، ويجهر بالتسمية الأولى حتى يسمع كل من حضر. فإذا فرغ من الصلاة أثنى على الله عز وجل هو من حضر بما ورد من قوله [اللهم أنت السلام.. الحديث]. ثم يقبل على الجماعة، ثم يأتي بالتهليلات الواردات حينئذ. ثم يسبّح الله ويحمده ويكبره ثلاثاً وثلاثين، ويختم المائة بالتهليل. كما أورد، وكذا الجماعة، ثم يدعو الله تعالى له ولهم وللمسلمين أجناس ما ورد.(/8)
وكان غالب دعائه (اللهم انصرنا ولا تنصر علينا، وأمكر لنا ولا تمكر علينا، وأهدنا ويسّر الهدى لنا، اللهم اجعلنا لك شاكرين، لك ذاكرين، إليك راغبين، لك مخبتين، إليك راهبين، لك مطاويع. ربنا تقبل توباتنا، وأغسل حوباتنا، وثبت حججنا، واهد قلوبنا، واسلل سخيمة صدورنا) يفتتحه ويختمه بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم يشرع في الذكر. وكان قد عرفت عادته لا يكلمه أحد بغير ضرورة بعد صلاة الفجر. فلا يزال في الذكر يسمع نفسه، وربما يسمع ذكره من الروحانية، مع كونه في خلال ذلك يكثر من تقليب بصره نحو السماء. هكذا دأبه حتى ترتفع الشمس وتزول، وقت النهي عن الصلاة.
وكنت مدة إقامتي بدمشق ملازمه جل النهار وكثيراً من الليل. وكان يدنيني منه حتى يجلسني إلى جانبه. وكنت أسمع ما يتلو وما يذكر حينئذ. فرأيته يقرأ الفاتحة ويكررها، ويقطع ذلك الوقت كله، أعني من الفجر إلى ارتفاع الشمس في تكرير تلاوتها. ففكرت في ذلك لم قد لزم هذه السورة دون غيرها. فبان لي، والله أعلم، أن قصده بذلك أن يجمع بتلاوتها حينئذ بين ما ورد في الأحاديث وما ذكره العلماء: هل يستحب تقديم الأذكار الواردة على تلاوة القرآن أو العكس؟ فرأى رضي الله عنه أن في الفاتحة وتكرارها حينئذ جمعاً بين القولين، وتحصيلاً للفضيلتين. وهذا من قوة فطنته وثاقب بصيرته. ثم إنه كان يركع، فإذا أراد سماع حديث في مكان آخر سارع إليه من فوره، مع من يصحبه. فقل أن يراه أحد ممن له بصيرة إلا وانكب على يديه فيقبلهما، حتى إنه كان إذا رآه أرباب المعايش يتخبطون من حوانيتهم للسلام عليه والتبرك به، وهو مع هذا يعطي كلا منهم نصيباً وافراً من السلام وغيره، وإذا رأى منكراً في طريقه أزاله، أو سمع بجنازة سارع إلى الصلاة عليها، أو تأسف على فواتها، وربما ذهب إلى قبر صاحبها بعد فراغه من سماع الحديث، فصلى عليه. ثم يعود إلى مسجده، فلا يزال تارة في إفتاء الناس، وتارة في قضاء حوائجهم حتى يصلي الظهر من الجماعة، ثم كذلك بقية يومه. وكان مجلسه عاماً للكبير والصغير، والجليل والحقير، والحر والعبد، والذكر والأنثى. وقد وسع كل من يرد عليه من الناس. يرى كل منهم في نفسه أن لم يكرم أحداً بقدره. ثم يصلّي المغرب، ثم يتطوع بما يسره الله. ثم أقرأ عليه من مؤلفاته أنا أو غيري، فيفدنا بالطرائف، ويمدنا باللطائف، حتى يصلي العشاء ثم بعدها كما كنّا وكان: من الإقبال على العلوم إلى أن يذهب هوي من الليل طويل. وهو في خلال ذلك كله، في النهار والليل، لا يزال يذكر الله تعالى ويوحده، ويستغفره.
وكان رضي الله عنه كثيراً ما يرفع طرفه إلى السماء، لا يكاد يفتر عن ذلك، كأنه يرى شيئاً يثبته بنظره. فكان هذا دأبه مدة إقامتي بحضرته. فسبحان الله ما أقصر ما كانت! يا ليتها كانت طالت. ما مرّ على عمري إلى الآن زمان كان أحبّ إليّ من ذلك الحين، ولا رأيتني في وقت أحسن حالاً منّي حينئذ، وما كان إلاّ ببركة الشيخ رضي الله عنه.
وكان في كل أسبوع يعود المرضى، خصوصاً الذي بالمارستان وأخبرني غير واحد ممن لا يشك في عدالته أن جميع زمن الشيخ ينقضي على من رأيته. فأي عبادة واجتهاد أفضل من ذلك؟ فسبحان الموفق من يشاء لما يشاء.
ورعه رضي الله عنه:
وكان رضي الله عنه في الغاية التي ينتهي إليها في الورع. لأن الله تعالى أجراه مدة عمره كلها عليه. فإنه ما خلط الناس في بيع ولا شراء ولا معاملة، ولا تجارة، ولا مشاركة، ولا زراعة، ولا عمارة. ولا كان ناظراً مباشراً لما وقف، ولا يكن يقبل جراية ولا صلة لنفسه من سلطان ولا أمير ولا تاجر، ولا كان مدخراً ديناراً ولا درهماً ولا متاعاً ولا طعاماً ، وإنما كانت بضاعته مدة حياته، وميراثه بعد وفاته، رضي الله عنه، العلم اقتداء بسيد المرسلين وخاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين، فإنه قال: [إن العلماء ورثة الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً ولكن ورثوا العلم فمن أخذ به فقد أخذ بحظ وافر].(/9)
وكان ينبّه العاقل بحسن الملاطفة ورقيق المخاطبة ليختار لنفسه طريقتهم، ويسلك سبيلهم. وإن كان دونها من الطرائق من اتخاذ المباحات جائز، لكان العاقل يدله عقله على طلب الأعلى. فانظر بعين الإنصاف إلى ما وفق الله له هذا الإمام وأجرى، مما أقعد عنه غيره وخذله عن طلبه، ولكن لكل شيء سبب، وعلامة عدم التوفيق سلب للأسباب. ومن أعظم الأسباب لترك فضول الدنيا التخلي عن غير الضروري منها، فلما وفق الله هذا الإمام لرفض غير الضروري منها انصبت عليه العواطف الإلهية فحصل بها كل فضيلة جليلة، بخلاف غيره من علماء الدنيا، مختاريها وطالبيها والساعين لتحصيلها، فإنهم لما اختاروا ملاذها وزينتها ورياستها انسدت عليهم غالباً طرق الرشاد فوقعوا في شركها يخبطون خبط عشواء، ويحطبونها كحاطب ليل، لا يبالون ما يأكلون ولا ما يلبسون ولا ما يتأولون إلا ما يحصل لهم أغراضهم الدنيئة ومقاصدهم الخبيثة الخسيسة، فهم متعاضدون على طلبها متحاسدون بسببها، أجسامهم ميتة، وقلوبهم من غيرها فارغة، وظواهرهم مزخرفة معمورة، وقلوبهم خربة مأبورة. ولم يكفهم ما هم عليه حتى أصبحوا قالين رافضها، معادين باغضها. ولما رأوا هذا الإمام عالم الآخرة، تاركاً هم عليه من تحصيل الحطام من المشتبه الحرام، رافضاً الفضل المباح فضلاً عن الحرام، تحققوا أن أحواله تفضح أحوالهم وتوضح خفي انفعالهم، وأخذتهم الغيرة النفسانية على صفاتهم الشيطانية، المباينة لصفاته الروحانية. فحرصوا على الفتك به أين ما وجدوا، وأنسوا أنهم ثعالب وهو أسد. فحماه الله تعالى منهم بحراسته، وصنع له غير مرة ما صنع لخاصته، وحفظه مدة حياته وحماه، ونشر له عند وفاته علماً في الأقطار بما والاه. انتهى (الأعلام العلية في مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية 37-43).
الباب الرابع
ابن تيمية: العالم المبتلى والإمام الممتحن
وكان لا بد لإمام للناس، وقدوة للعالمين في زمانه أن يمتحن ويبلى.. ألا تنظر إلى قوله تعالى {وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماماً} الآية.
فهل كان إماماً للناس بعد أن ابتلاه الله بأن يقول الحق لا يخاف في الله لومة لائم ويحطم الأصنام ويجادل قومه والنمرود في باطلهم، ويطرد من بلده ويهاجر ويؤمر بذبح ابنه.. باختصار لا إمامة إلا بعد بلاء..
وهذا ما كان من شأن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فكان والبلاء صاحبين لا يفترقان، وكيف لا وهو القائم بأمر الله الداعي إلى سبيل الله، المجاهد أهل الشر جميعاً على اختلاف طوائفهم في ذات الله. متفرغاً فلا زوجة ولا ولد ولا ضيعة ولا تجارة، بل ولا وطن ولا إقامة بل رحيل دائم في الله، ولذلك كان بلاؤه على قدر منزلته من العلم والعمل وإلا بماذا كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل يبتلى الرجل على قدر دينه فإن كان في دينه شدة زيد له في البلاء] (متفق عليه).
وتفاصيل البلاء التي تعرض لها شيخ الإسلام ابن تيمية شيء طويل جداً. فما كان رضي الله عنه ينتهي من محنة إلا ليدخل في أخرى ولا يخرج من سجن إلا ليوضع في آخر حتى مات مسجوناً آخر عمره، ولا ينتهي من قتال مع طائفة باغية إلا ويدخل قتالاً آخر.. وقد جمع الإمام ابن رجب الحنبلي خلاصة للفتن التي تعرض لها ابن تيمية فيقول:
الابتلاءات التي ابتلي بها الشيخ رضي الله عنه:
قال الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله المتوفي سنة 795هـ
وأما محن الشيخ: فكثيرة، وشرحها يطول جداً.
وقد اعتقله مرة بعض نواب السلطان بالشام قليلاً، بسبب قيامه على نصراني سب الرسول صلى الله عليه وسلم، واعتقل معه الشيخ زين الدين الفاروقي، ثم أطلقهما مكرمين.
ولما وصف المسألة (الحموية) في الصفات: شنع بها جماعة، ونودي عليها في الأسواق على قصبة، وأن لا يستفتي من جهة بعض القضاة الحنفية. ثم انتصر للشيخ بعض الولاة، ولم يكن في البلد حينئذ نائب وضرب المنادي وبعض من معه، وسكن الأمر.
ثم امتحن سنة خمس وسبعمائة بالسؤال عن معتقده بأمر السلطان؟ فجمع نائبه القضاة والعلماء بالقصر، وأحضر الشيخ، وسأله عن ذلك؟ فبعث الشيخ من أحضر من داره (العقيدة الواسطية) فقرأوها في ثلاث مجالس، وحاققوه، وبحثوا معه، ووقع الاتفاق بعد ذلك على أن هذه عقيدة سنية سلفية، فمنهم من قال ذلك طوعاً، ومنهم من قاله كرهاً.
وورد بعد ذلك كتاب من السلطان فيه: إنما قصدنا براءة ساحة الشيخ، وتبين لنا أنه على عقيدة السلف.(/10)
ثم إن المصريين دبروا الحيلة في أمر الشيخ، ورأوا أنه لا يمكن البحث معه، ولكن يعقد له مجلس، ويدعى عليه، وتقام عليه الشهادة، وكان القائمون في ذلك منهم: بيبرس الجاشنكير، الذي تسلطن بعد ذلك، ونصر المنجي وابن مخلوف قاضي المالكية، فطلب الشيخ على البريد إلى القاهرة، وعقد له ثاني يوم وصوله -وهو ثاني عشرين رمضان سنة خمس وسبعمائة- مجلس بالقلعة، وادعى عليه عند ابن مخلوف قاضي المالكية، أنه يقول: إن الله تكلم بالقرآن بحرف وصوت، وأنه على العرش بذاته، وأنه يشار إليه بالإشارة الحسية (قلت هذا الذي اتهموه به هو عين عقيدة السلف التي كان عليها الصحابة رضوان الله عليهم وقد أشار الرسول إلى الله وأنه في السماء غير مرة).
وقال المدعي: أطلب تعزيره على ذلك، التعزير البليغ -يشير إلى القتل على مذهب مالك- فقال القاضي: ما تقول يا فقيه؟ فحمد الله وأثنى عليه، فقيل له: أسرع ما جئت لتخطب، فقال أأمنع من الثناء على الله تعالى؟ فقال القاضي: أجب، فقد حمدت الله تعالى: فسكت الشيخ، فقال: أجب. فقال الشيخ له: من هو الحاكم في؟ فأشاروا: القاضي هو الحاكم، فقال الشيخ لابن مخلوف: أنت خصمي، كيف تحكم فيّ؟ وغضب، ومراده: إني وإياك متنازعان في هذه المسائل، فكيف يحكم أحد الخصمين على الآخر فيها؟ فأقيم الشيخ ومعه أخواه، ثم رد الشيخ، وقال: رضيت أن تحكم فيّ، فلم يمكن من الجلوس، ويقال: إن أخاه الشيخ شرف الدين ابتهل، ودعا الله عليهم في حال خروجهم، فمنعه الشيخ، وقال له: بل قل: اللهم هب لهم نوراً يهتدون به إلى الحق.
ثم حبسوا في برج أياماً، ونقلوا إلى الجب ليلة عيد الفطر، ثم بعث كتاب سلطاني إلى الشام بالحط على الشيخ، والزم الناس -خصوصاً أهل مذهبه- بالرجوع عن عقيدته، والتهديد بالعزل والحبس، ونودي بذلك في الجامع والأسواق. ثم قرئ الكتاب بسدة الجامع بعد الجمعة، وحصل أذى كثير للحنابلة بالقاهرة، وحبس بعضهم، وأخذ خطوط بعضهم بالرجوع. وكان قاضيهم الحراني قليل العلم.
ثم في سلخ رمضان سنة ست: أحضر سلار -نائب السلطان بمصر- القضاة والفقهاء، وتكلم في إخراج الشيخ، فاتفقوا على أنه يشترط عليه أمور، ويلزم بالرجوع عن بعض العقيدة، فأرسلوا إليه من يحضره، وليتكلموا معه في ذلك، فلم يجب إلى الحضور، وتكرر الرسول إليه في ذلك ست مرات، وصمم على عدم الحضور، فطال عليهم المجلس، فانصرفوا من غير شيء.
ثم في آخر هذه السنة وصل كتاب إلى نائب السلطنة بدمشق من الشيخ، فأخبر بذلك جماعة ممن حضر مجلسه، وأثنى عليه: وقال: ما رأيت مثله، ولا أشجع منه. وذكر ما هو عليه في السجن: من التوجه إلى الله تعالى، وأنه لا يقبل شيئاً من الكسوة السلطانية، ولا من الأدرار السلطاني، ولا تدنس بشيء من ذلك.
ثم في ربيع الأول من سنة سبع وسبعمائة دخل مهنا بن عيسى أمير العرب إلى مصر، وحضر بنفسه إلى السجن، وأخرج الشيخ منه، بعد أن استأذن في ذلك، وعقد للشيخ مجالس حضرها أكابر الفقهاء، وانفصلت على خير.
وذكر الذهبي والبزالي وغيرهما: أن الشيخ كتب لهم بخطه مجملاً من القول وألفاظاً فيها بعض ما فيها، لما خاف وهدد بالقتل، ثم أطلق وامتنع من المجيء إلى دمشق. وأقام بالقاهرة يقرئ العلم، ويتكلم في الجوامع والمجالس العامة، ويجتمع عليه خلق.
ثم في شوال من السنة المذكورة: اجتمع جماعة كثيرة من الصوفية، وشكوا من الشيخ إلى الحاكم الشافعي، وعقد له مجلس لكلامه في ابن عربي وغيره، وادعى عليه ابن عطاء (هو ابن عطاء الله السكندري الصوفي صاحب الحكم). بأشياء، ولم يثبت منها شيئاً، لكنه اعترف أنه قال: لا يستغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم، استغاثة بمعنى العبادة، ولكن يتوسل به، فبعض الحاضرين قال: ليس في هذا شيء.
ورأى الحاكم ابن جماعة: أن هذا إساءة أدب، وعنفه على ذلك، فحضرت رسالة إلى القاضي: أن يعمل معه ما تقتضيه الشريعة في ذلك، فقال القاضي: قد قلت له ما يقال لمثله.
ثم إن الدولة خيروه بين أشياء، وهي الإقامة بدمشق، أو بالإسكندرية، بشروط، أو الحبس، فاختار الحبس. فدخل عليه أصحابه في السفر إلى دمشق، ملتزماً ما شرط عليه، فأجابهم، فأركبوه خيل البريد، ثم ردوه في الغد، وحضر عند القاضي بحضور جماعة من الفقهاء، فقال له بعضهم: ما ترضى الدولة إلا بالحبس. فقال القاضي: وفيه مصلحة له، واستناب التونسي المالكي وأذن له أن يحكم عليه بالحبس، فامتنع، وقال: ما ثبت عليه شيء، فأذن لنور الدين الزواوي المالكي، فتحير، فقال الشيخ: أنا أمضي إلى الحبس، وأتبع ما تقتضيه المصلحة، فقال الزواوي المذكور: فيكون في موضع يصلح لمثله، فقيل له: ما ترضى الدولة إلا بمسمى الحبس، فأرسل إلى حبس القاضي وأجلس في الموضع الذي أجلس فيه القاضي تقي الدين ابن بنت الأعز لما حبس، وأذن أن يكون عنده من يخدمه. وكان جميع ذلك بإشارة نصر المنبجي.
واستمر الشيخ في الحبس يستفتي ويقصده الناس، ويزورونه، وتأتيه الفتاوى المشكلة من الأمراء وأعيان الناس.(/11)
وكان أصحابه يدخلون عليه أولاً سراً، ثم شرعوا يتظاهرون بالدخول عليه، فأخرجوه في سلطنة الششنكير الملقب بالمظفر، إلى الإسكندرية على البريد، وحبس فيها في برج حسن مضيء متسع، يدخل عليه من شاء، ويمنع هو من شاء، ويخرج إلى الحمام إذا شاء. وكان قد أخرج وحده، وأرجف الأعداد بقتله وتفريقه غير مرة، فضاقت بذلك صدور محبيه بالشام وغيره، وكثر الدعاء له. وبقي في الإسكندرية مدة سلطنة المظفر.
فلما عاد الملك الناصر إلى السلطنة وتمكن، وأهلك المظفر، وحمل شيخه نصر المنبجي، واشتدت موجدة السلطان على القضاة لمداخلتهم المظفر، وعزل بعضهم: بادر بإحضار الشيخ إلى القاهرة مكرماً في شوال سنة تسع وسبعمائة، وأكرمه السلطان إكراماً زائداً، وقام إليه، وتلقاه في مجلس حفل، فيه قضاة المصريين والشاميين، والفقهاء وأعيان الدولة. وزاد في إكرامه عليهم، وبقي يسّاره ويستشيره سويعة، وأثنى عليه بحضورهم ثناء كثيراً، وأصلح بينه وبينهم. ويقال: إنه شاوره في أمرهم به في حق القضاة، فصرفه عن ذلك، وأثنى عليهم، وأن ابن مخلوف كان يقول: ما رأينا أتقى من ابن تيمية، سعينا في دمه. فلما قدر علينا عفا عنا.
واجتمع بالسلطان مرة ثانية بعد أشهر، وسكن الشيخ بالقاهرة، والناس يترددون إليه، والأمراء والجند، وطائفة من الفقهاء، ومنهم من يعتذر إليه ويتنصل مما وقع.
قال الذهبي: وفي شعبان سنة إحدى عشرة: وصل النبأ: أن الفقيه البكري -أحد المبغضين للشيخ- استفرد بالشيخ بمصر، ووثب عليه، ونتش بأطواقه، وقال: احضر معي إلى الشرع، فلي عليك دعوى، فلما تكاثر الناس انملص، فطلب من جهة الدولة، فهرب واختفى.
وذكره غيره: أنه ثار بسبب ذلك فتنة، وأراد جماعة الانتصار من البكري فلم يمكنهم الشيخ من ذلك.
واتفق بعد مدة: أن البكري همّ السلطان بقتله، ثم رسم بقطع لسانه (أي أمر بقطع لسانه فانظر كيف رد الله كيد البكري في نحره)، لكثرة فضوله وجراءته، ثم شفع فيه، فنفى إلى الصعيد، ومنع من الفتوى بالكلام في العلم. وكان الشيخ في هذه المدة يقرئ العلم، ويجلس الناس في مجالس عامة.
قدم إلى الشام هو وإخوانه سنة اثنتي عشرة بنية الجهاد، لما قدم السلطان لكشف التتر عن الشام، فخرج مع الجيش، وفارقهم من عسقلان، وزار البيت المقدس.
ثم دخل دمشق بعد غيبته عنها فوق سبع سنين، ومعه أخواه وجماعة من أصحابه، وخرج خلق كثير لتلقيه، وسر الناس بمقدمه، واستمر على ما كان عليه أولاً، من اقراء العلم، وتدريسه بمدرسة السكرية، والحنبلية، وإفتاء الناس ونفعهم.
ثم في سنة ثمان عشرة: ورد كتاب من السلطان بمنعه من الفتوى في مسألة الحلف بالطلاق بالتكفير (أي من حلف بالطلاق لا يلزمه وإنما يكفر كفارة يمين)، وعقد له مجلس بدار السعادة، ومنع من ذلك، ونودي به في البلد.
ثم في سنة تسع عشرة عقد له مجلس أيضاً كالمجلس الأول، وقرئ كتاب السلطان بمنعه من على تأكيد المنع.
ثم بعد مدة عقد له مجلس ثالث بسبب ذلك، وعوتب وحبس بالقلعة. ثم حبس لأجل ذلك مرة أخرى. ومنع بسببه من الفتيا مطلقاً، فأقام مدة يفتي بلسانه، ويقول: لا يسعني كتم العلم (وقد عاد الناس اليوم بحمد الله إلى فتوى ابن تيمية هذه التي سجن فيها وأوذي مرارا).
وفي آخر الأمر: دبروا عليه الحيلة في مسألة المنع من السفر إلى قبور الأنبياء والصالحين، وألزموه من ذلك التنقص بالأنبياء، وذلك كفر، وأفتى بذلك طائفة من أهل الأهواء، وهم ثمانية عشر نفساً، رأسهم القاضي الإخناني المالكي وأفتى قضاة مصر الأربعة بحبسه، فحبس بقلعة دمشق سنتين وأشهراً، وبها مات رحمه الله تعالى.
وقد بين رحمه الله: أن ما حكم عليه به باطل بإجماع المسلمين من وجوه كثيرة جداً، وأفتى جماعة بأنه يخطئ في ذلك خطأ المجتهدين المغفور لهم، ووافقه جماعة من علماء بغداد، وغيرهم. وكذلك ابنا أبي الوليد شيخ المالكية بدمشق أفتيا: أنه لا وجه للاعتراض عليه فيما قاله أصلاً، وأنه نقل خلاف العلماء في المسألة، ورجح أحد القولين فيها.
وبقي مدة في القلعة يكتب العلم ويصنفه، ويرسل إلى أصحابه الرسائل، ويذكر ما فتح الله به عليه في هذه المرة من العلوم العظيمة، والأحوال الجسيمة.
وقال: قد فتح الله علي في هذا الحصن في هذه المرة من معاني القرآن، ومن أصول العلم بأشياء، كان كثير من العلماء يتمنونها، وندمت على تضييع أكثر أوقاتي في غير معاني القرآن، ثم إنه منع من الكتابة، ولم يترك عنده دواة ولا وقلم ولا ورق، فأقبل على التلاوة والتهجد والمناجاة والذكر.
قال شيخنا أبو عبدالله ابن القيم: سمعت شيخنا شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه، ونور ضريحه، يقول: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة. قال: وقال لي مرة: ما يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري، أين رحت فهي معي، لا تفارقني، أنا حبسي خلوة. وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة.(/12)
وكان في حبسه في القلعة يقول: لو بذلت ملء هذه القلعة ذهباً ما عدل عندي شكر هذه النعمة -أو قال: ما جزيتهم على ما تسببوا إلي فيه من الخير- ونحو هذا.
وكان يقول في سجوده، وهو محبوس: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، ما شاء الله.
وقال مرة: المحبوس من حبس قلبه عن ربه، والمأسور من أسره هواه ولما دخل إلى القلعة، وصار داخل سورها نظر إليه، وقال: {فضرب بينهم بسور له باب، باطنه فيه الرحمة، وظاهره من قبله العذاب} (الحديد:13) .
قال شيخنا: وعلم الله ما رأيت أحداً أطيب عيشاً منه قط، مع ما كان فيه من الحبس والتهديد والإرجاف، وهو مع ذلك أطيب الناس عيشا، وأشرحهم صدرا، وأقواهم قلبا، وأسرهم نفسا، تلوح نضرة النعيم على وجهه وكنا إذا اشتد بنا الخوف وساءت بنا الظنون، وضاقت بنا الأرض: أتيناه، فما هو إلا أن نراه، ونسمع كلامه، فيذهب عنا ذلك كله، وينقلب انشراحا وقوة ويقينا وطمأنينة. فسبحان من أشهد عباده جنته قبل لقائه، وفتح لهم أبوابها في دار العمل، فأتاهم من روحها ونسيمها وطيبها ما استفرغ قواهم لطلبها، والمسابقة إليها. أ.هـ.(الذيل على طبقات الحنابلة لابن رجب ص396 إلى 403 نشر دار المعرفة).
ابن تيمية والعفو عند المقدرة:
وقد يظن ظان أن ابن تيمية وقد ابتلي بهذه الابتلاءات جميعاً فكر يوماً ما أن ينال من مسلم آذاه أو وشى به حاشا وكلا لقد كان دائماً ذا نفس أبية لم ينتقم يوماً لنفسه مع قدرته ممن آذاه وألب عليه.
*حدث ابن عبدالهادي عن شيخ الإسلام أن سلطان مصر الناصر ابن قلاوون استقدم الشيخ عنده ورحب به ثم أخرج له من جيبه فتاوي لبعض علماء مصر الذين أفتوا بقتل ابن تيمية، واستفتى السلطان ابن تيمية في أن يقتل بعضهم ممن زوروا على ابن تيمية وافتوا في قتله. قال الشيخ ابن تيمية "ففهمت مقصود السلطان ابن قلاوون وعلمت أن عنده حنقاً شديداً عليهم لأنهم كانوا قد خلعوه وبايعوا ركن الدين بيبرس الجاشنكير يقول ابن تيمية فشرعت في مدح هؤلاء العلماء وشكرهم، وأنهم لو ذهبوا لم تجد مثلهم في دولتك، وأما أنا فهم في حل من حقي ومن جهتي".
قال ابن تيمية فكان القاضي زين الدين بن مخلوف قاضي المالكية يقول بعد ذلك: ما رأينا أنقى من ابن تيمية لم نبق ممكنا في السعي لقتله إلا وفعلناه، ولما قدر هو علينا عفى عنا. أ.هـ. (العقود الدرية لابن عبدالهادي ص281-283).
الباب الخامس
ابن تيمية وشهادات العلماء المعاصرين
كتب علماء معاصرون كثيرون لا أستطيع أن أحصيهم في هذه الرسالة الموجزة السريعة وكلهم أطبقوا كما ذكرت في أول الرسالة أن العالم في القرن الثامن كان ينتظر خروج هذا الرجل لحاجة الأمة إلى تجديد الدين، وإزالة الركام الذي ألقاه الظالمون والمنتحلون.. وكان هذا الذي ذكره العلماء المحدثون هو أيضاً ما أطبق عليه العلماء الذين عاصروا ابن تيمية وعايشوه. ولكن المعاصرين الآن من أهل الدين والفهم وممن له اشتغال بالدعوة والجهاد والعلم يرون أنه ما أشبه اليوم بالبارحة، وأنه ما أحوج العالم اليوم إلى ابن تيمية ليجدد لهذه الأمة شبابها، ويعلي للتوحيد مناره، وللإسلام الحق ركنه وفخاره.
وأقول الحمد لله نحن اليوم نعيش عصر ابن تيمية فرجال الدعوة المخلصون، وشباب الأمة العاملون ملهمهم وإمامهم وقدوتهم هو ابن تيمية، ومرجعهم هو كتبه ومؤلفاته، وأقواله ونظرياته.
وإن التجديد الحادث اليوم لدين الأمة هو بفضل الله أولاً ثم بفضل الذين تتلمذوا على كتب هذا الإمام الجليل، وتضلعوا من علمه الغزير وغاصوا في بحره الواسع وهآنذا أذكر طائفة من شهادات بعض العلماء المعاصرين.
*حاجة الأمة إلى ابن تيمية:
1- شهادة الشيخ أبي الحسن الندوي:
كتب الشيخ أبو الحسن الندوي كتاباً مطولاً عن ابن تيمية يقع في نحو ثلاثمائة وخمسين صفحة وكان منه هذه المقدمة الرائعة التي يصف فيها حاجة المسلمين في القرن الثامن إلى ظهور هذا الإمام الذي كان لا بد من ظهوره لإعادة استثارة العالم من جديد بعد أن غطاه الظلام.
كتب حفظه الله يقول:
ظهر علم الكلام لمقاومة الفلسفة ونصرة الدين، وكان ذلك أمراً لازماً، غير أنه تأثر بالفلسفة وتسربت إليه روحها حتى تكونت (فلسفة دينية) تنتهج نفس المنهج، وتبحث نفس الموضوع وتتبع نفس الأسلوب للبحث والإستدلال، وتعيد نفس الخطأ في اعتبار ذات الله وصفاته وقضايا ما وراء العقل أموراً عقلية يمكن إثباتها عن طريق العقل، وكذلك تسيطر عليه روح عدم الاقتناع بما جاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من شرح وتعبير في هذا الموضوع واستخدم مصطلحات يونانية تقوم على علم محدود ناقص وتثير شبهات، الأمر الذي دعا إلى تعقد القضايا وتوسعها بل أن تنحل أو تختصر، ووجدت (فلسفة إلهية) وكتب ضخمة في شرح العقائد إزاء أسلوب مقنع مؤثر كان جديراً بشحن النفوس بالإيمان والإذعان، وإقناع العقول في كل زمان، وكان مؤسساً على نصوص الكتاب والسنة.(/13)
وكانت هذه الفلسفة الإلهية الجديدة قد تأثرت بالفكر اليوناني رغم أنها ظهرت ضد الفلسفة اليونانية، فكانت روح الكتاب والسنة تحتج دائماً على هذا الموضوع ووجدت طبقة وجيهة للأمة الإسلامية معارضة لهذه التفاصيل الفلسفية والتآويل الكلامية، غير أن الحاجة إلى عالم كبير نافذ البصيرة، واسع العلم، قوي الإيمان كانت أكيدة لشرح الكتاب والسنة والتعبير القوي المؤثر عنهما، ذلك الذي يعتقد أجزم الاعتقاد أن في نصوص الكتاب والسنة حول ذات الله وصفاته وفي تعبيراتها عنها غنى وكفاية تامة، ذلك العالم الذي يتوصل بذكائه ودراسته إلى أعماق الفلسفة ويطلع على خباياها وكوامنها، ويتمكن من تناول أقوال فلاسفة اليونان ومذاهبهم الفكرية بالنقد العلمي، بما عنده من علم بموضع ضعفها الأساسية، ذلك الذي قد تعمق بتفكيره فوصل إلى أغوار علم الكلام واطلع على الخلافات الدقيقة بين الأديان والفرق الإسلامية ولا يخفى عليه شيء من تاريخ علم الكلام ونموه، ذلك الرجل الذي يكون على جانب عظيم من الثقة والاعتزاز بنصوص الكتاب والسنة ومذهب السلف بفضل دراسته وتجاربه، يفيض عزماً وحماساً بنصرته وشرحه، ويعيش على حسك السعدان لكي يثبت رجحان مذهب السلف وفضله من الناحية العقلية على غيره من الفلسفات والنظم العقلية، كما يكون متمتعاً بجميع تلك الوسائل والمؤهلات التي يتطلبها هذا العمل العظيم ومتميزاً في ذكائه وقوة بيانه واستدلاله وسعة نظره وعمق دراسته عن غيره، يكون فوق مستوى عصره وكفوا للقيام بهذه الخدمة بمعنى الكلمة.
في مواجهة المسيحية، ونقدها العلمي:
هذا وقد كان الإسلام هدفاً للهجمات الداخلية والخارجية بجانب آخر، وكان المسيحيون قد تحمسوا لإثبات أن المسيحية هي الدين الحق، وتوجيه الايرادات إلى الإسلام، أن الهجوم الصليبي المتتابع ووجود عدد وجيه من مسيحيي الغرب في الشام وقبرص شجعهم على مواجهة المسلمين في المجال العلمي وعلى تأليف كتب تثبت فضل دينهم وأخرى ترفض نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
وللرد على كل ذلك كانت الحاجة ملحة إلى عالم كبير ومتكلم، له دراسة عميقة في المسيحية والديانات الأخرى وله اطلاع واسع على الصحف السماوية وما واجهته من تغيير وتحريف ويستطيع أن يحسن المقارنة بين الديانات ويثبت فضل الإسلام وخلوده في أسلوب علمي مؤثر قوي، ويتمكن من دعوة أتباع الديانات الأخرى إلى الإسلام بحكمة وقوة.
فضح المذاهب المنحرفة والحركات الهدامة:
وقد كان أشد وأكثر خطورة من هذه الهجمات حملة شنها فرقة دخيلة عل الإسلام وهي الفرقة الباطنية التي كانت ديانتها وتعاليمها مجموعة عجيبة للعقائد المجوسية والأفكار الأفلاطونية والأغراض السياسية، وقد كانت هذه الفرقة وفروعها المختلفة من الاسماعيلية والحشاشية والدروزية والنصيرية تتعاون مع القوى العدوانية والمهاجمين الأجانب على الإسلام، وهي التي مهدت الطريق ودبرت المؤامرات للهجوم على الأقطار الإسلامية وساعدت الصليبيين في شن هجومهم على الشام وذلك ما جعل الصليبيين عند استيلائهم على الشام أن قربوا رجال الفرقة الباطنية وجعلوهم موضع ثقتهم ونجواهم وأحسنوا إليهم، اعترافاً بمساعداتهم المخلصة، وقد ظل هؤلاء الباطنيون مشتغلين بتبييت المؤامرات وتدبير الثورات في عهدي صلاح الدين ونور الدين فلما قصد وحوش التتر أرض الشام بهجماتهم العنيفة ساعدهم الباطنيون علناً وجهاراً، وأصابوا المسلمين بضرر بالغ، وذلك عدا ما كانوا يقومون به بصفة دائمة من نشر اضطراب فكري وتشاؤم بالدين وإلحاد وزيغ وثورة على الدين وكانوا (كالطابور الخامس) في حصن المسلمين الديني.
كل ذلك كان يحتم على المسلمين أن يقتلعوا جذور هذه الفرقة من الناحيتين العلمية والعملية، ويكشفوا القناع عن معتقداتها وأغراضها ليطلع المسلمون على نواياها ويعاقبوها معاقبة شديدة على أعمالها العدائية ومحاربتها للإسلام ولم يكن يقوم بهذه المهمة إلا من له اطلاع تام على حقيقة هذه الفرقة وأسرارها وتاريخها، وله معرفة بجميع فروعها ومعتقداتها وأفكارها مع قدرته البالغة على تناولها بالرد والنقد، مضافاً إلى ذلك حماسه الزائد للإسلام ودافعه القوي للجهاد مع أعداء الإسلام.
محاربة العقائد، والأعمال الشركية، والدعوة إلى الدين الخالص:(/14)
هذا وكانت الجماهير المسلمة فريسة العقائد الباطلة وأعمال الشرك بضغط عوامل عديدة منها اختلاطهم بغير المسلمين، وتأثير العجم، وتهاون العلماء، وقد أصبح الدين الخالص والتوحد النقي وراء حجاب وحجاب، ونشأ الغلو والإفراط في الاعتقاد في الأولياء والصالحين شأن اليهود والنصارى، حتى بدأت عقيدة التوسط والتقرب بالأولياء ترسخ، وينطبق عليهم ما حكاه القرآن من قول مشركي العرب الأولين {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} وتنتشر هذه الفكرة الجاهلية في أوساط المسلمين وأصبح كثير من العلماء لا يرون بأساً في الاستغاثة بغير الله والاستعانة به، واتخذت قبور الأنبياء والصالحين مساجد وتحقق الخطر الذي كان قد أنذر به النبي صلى الله عليه وسلم وشدد النهي عنه، ولم يكن المسلمون يشعرون بأي غضاضة في التخلق بأخلاق الذميين والكافرين واتخاذ شعائرهم وخصائصهم والحضور في أعيادهم الدينية ومهرجاناتهم واصطناع تقاليدهم وعاداتهم.
فكانت الحاجة ماسة إلى عالم مجاهد يتصدى لمحاربة هذه الجاهلية المشتركة والدعوة إلى التوحيد الخالص بكل قوة وإيضاح ويكون عارفاً بالفرق بين التوحيد والشرك معرفة دقيقة، ولا تخفى عليه الجاهلية مهما تقنعت وتنكرت أو ظهرت في مظاهر، ويكون قد حصل على حقيقة التوحيد مباشرة من الكتاب والسنة وحياة الصحابة الكرام رضي الله عنهم لا من كتب المتأخرين وتعامل المسلمين الجهلاء، وتقاليد الزمان وعادات الناس، ولا يبالي في الجهر بالعقيدة الصحيحة بمعارضة الحكومات وعداوة الناس ومخالفة العلماء ولا يخاف في ذلك لومة لائم، ويكون ذا نظر دقيق وعلم واسع بالكتاب والسنة ومصادر الدين الأولى الموثوق بها، وبأحوال القرون الأولى، وذا اطلاع كامل على تاريخ اليهود والنصارى وقصة انحرافهم ومسخهم وتحريفهم، وعلى عقلية الأمم الجاهلية ونفسيتهم، ويعيش في تأمل وقلق لكي يعيد المسلمين إلى تعاليم القرآن وعقيدة الصدر الأول ويراهم منتهجين طريق الصحابة الكرام رضوان الله عليهم وأتباعهم.
محاربة الانحرافات والمغالطات في الطوائف الدينية وتنقية الدين من الشوائب:
وقد تسرب إلى متصوفين -لأسباب تاريخية وعلمية عديدة- تأثير الفلسفة الاشراقية التي جاءت من يونان والهند، وامتزجت بالعقائد الإسلامية وأفكارها امتزاجاً لا يتسنى لكل واحد فصلها عنها، إن اشراقية الأفلاطونية الجديدة أو تنسك الهنود، وعقيدة الحلول والاتحاد، ومذهب وحدة الوجود، وتقسيم الظاهر والباطن، وفتنة الرموز والأسرار، والعلم الدفين، وسقوط التكاليف الشرعية عن (الكاملين) و (الواصلين) واستثناؤهم عن الأحكام الشرعية كل ذلك كانت معتقدات وأفكاراً نالت إعجاب طبقة كبيرة من المتصوفين، وبالرغم من إنكار أصحاب التحقيق والرسوخ في العلم من هذه الطائفة في كل زمان لهذه المعتقدات الفاسدة كانت طبقة من المتصوفين تلح عليها، حتى تسفل بعض فروع التصوف وسلاسله إلى حد الشعوذة والتهويل، ولا سيما بعض فروع السلسلة الرفاعية التي انحرفت في العهد الأخير (للأسف أن بعض المعاصرين من الرفاعية ما زالوا يفتخرون بمثل هذه الأعمال الشيطانية)، عن أصلها وتعاليم مؤسسها الكبير وآثر كثير من رجالها الذين لم ترسخ قدمهم في العلوم الشرعية والعقائد الإسلامية الأعمال البهلوانية، زاعمين أنها تؤثر في عقول المغول والتتار وترغبهم في الإسلام، وكان لذلك ضرر عظيم على سلامة العقيدة ومكانة الشريعة، وقد استفحلت هذه الفتنة في القرنين السابع والثامن، ووقع العامة وكثير من الخاصة فريسة هذه المغالطات.
ولقمع هذا الخطر الناجم أيضاً والحفاظ على الشريعة كانت الحاجة شديدة إلى مؤمن قوي، ومصلح جريء يتناول هذه الطوائف المنحرفة بالنقد اللاذع ويكشف القناع عن وجه أخطائها ومغالطاتها بكل حرية وجراءة، معرضاً عن صولتها وقوتها، وغير مبال بعدد أتباعها ونفوذهم.
تجديد الفكر الإسلامي:
وكانت الحلقات العلمية والتدريسية مصابة بجمود شديد، فكل طائفة تعتبر الخروج عن دائرتها الفقهية قيد شعرة جريمة لا تغتفر، وكان مألوفاً لدى كل طائفة أن ترى إلى الكتاب والسنة بمنظار مذهبها الفقهي، وتحاول تطبيق الكتاب والسنة في الخلافات الفقهية على آرائها في كل حال فضلاً عن تحكيمها فيها، وكان باب الترجيح والاختيارات الفقهية مغلقاً عملياً، وكانت مشكلات حديثة وقضايا جديدة قد حدثت مع تغير الزمان والأحوال، الأمر الذي كان يحتاج إلى إرشاد المسلمين فيها والبحث عن حلولها إلى رجل يجمع بين سعة النظر في ذخائر الفقه الإسلامي، والتعمق في الكتاب والسنة والاطلاع على تعامل القرون الأولى، والعلم العميق الدقيق بأصول الفقه، وقد كان يتضايق مجال العلم والنظر والدراسة على مر الزمان وتضمحل القوى الفكرية، ولم يكن عالم من علماء الإسلام يتجرأ على استنباط الأحكام الجديدة وكان الفقه الإسلامي قد فقد جدارة النمو والتقدم، ويعتبر من المستحيل أن يزداد إلى ثروة الفقه القديمة أي زيادة.(/15)
فكان إصلاح هذا الوضع كذلك يحتاج إلى محدث فقيه وأصولي ضليع يكون قد استعرض ذخائر المكتبة الإسلامية بأسرها ويستحضر الكتاب والسنة بحيث يحير الناس، ويعرف الحديث وأنواعه وطبقاته ومجموعاته معرفة دقيقة تضطر الناس إلى الاعتراف بمكانته في صناعة الحديث، حتى يقولوا: (إن الحديث الذي لا يعرفه هذا الرجل ليس حديثاً) (من الأقوال التي قالها كبار علماء العصر في شيخ الإسلام ابن تيمية كما سيأتي، قلت قاله تلميذه الذهبي) ويكون مستحضراً لخلافات الفقهاء ومراجعهم ودلائلهم في كل حين، كما يكون له اطلاع تام على المذاهب الفقهية الأخرى وفروعها أكثر من أصحاب الاختصاص فيها والمنقطعين إليها من أهل المذهب، ولا يتعدى حدود السلف مع قوة استنباطه وتحقيقه، عارفاً بمكانة الأئمة المجتهدين وفضلهم وحقهم ومتطفلاً على موائد علمهم ودينهم، ويكون ذا قدم راسخة في علوم اللغة وباع طويل فيها حتى تأهل لذلك للنقد والصيرفة في مجالها، يجمع إلى ذلك علو الكعب ودقة النظر في النحو حتى يأخذ على أئمة النحو الكبار أخطاءهم الفنية، ويجدد بقوة عارضته عهد المحدثين الأولين، يعتبر ذكاؤه آية من آيات الله وعلمه دليلاً على فضل الله، ويبرهن بشخصيته على خصوبة تربة الأمة الإسلامية وغضارة دوحة الإسلام، ونضارة العلوم الإسلامية ونموها وازدهارها، ويكون تصديقاً لما جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم من قولته الخالدة. [مثل أمتي مثل المطر، لا يدري أوله خير أم آخره] (رواه الترمذي عن أنس بن مالك رضي الله عنه).
جامع بين العلم والعمل، والسيف والقلم:
ويكون مع ذلك من فرسان العمل والكفاح، ويجمع بين القلم والسيف، جريئاً على الملوك في الصدع بالحق، لا يحجم عن قيادة الجيش الإسلامي أمام أضرى عدد ومثل الوحوش التتر، ويعرفه كل من حلق الدرس، وزوايا المكتبات، وخلوات المساجد، ومجالس المناظرة، ومعتقلات السجون، وساحات الحرب كفارس عظيم ورجل ذي شكيمة، مبجلاً في كل عين ومعترفاً بإمامته في كل طبقة.
كان القرن الثامن بحاجة إلى مثل هذا الرجل الكامل الذي يسع نشاطه كل مجال من مجالات الحياة من غير أن تنزوي جهوده وأعماله في زاوية واحدة أوتتركز على جانب واحد، كان ذلك الرجل هو شيخ الإسلام الحافظ ابن تيمية الذي ملأ العالم الإسلامي بنشاط وحياة تحركات علمية وعملية لا تزال آثارها خالدة باقية على مر القرون والأجيال.
2-شهادة الشيخ محمد أبي زهرة رحمه الله:
وكتب الشيخ محمد أبي زهرة ترجمة مستفيضة لشيخ الإسلام ابن تيمية، وفي مقدمتها يبين الباعث له على هذه الترجمة فيقول:
أ- الفقيه الذي اتصل بالحياة وتعلق قلبه بالكتاب والسنة:
برز إلى الخاطر إمام شغل عصره بفكره ورأيه ومسلكه، فدوى صوته بآرائه في مجتمعه، فتقبلتها عقول واستساغتها، وضاقت عنها أخرى وردتها، وانبرى لمنازلته المخالفون، وشد أزره الموافقون، وهو في الجمعين يصول ويجول، ويجادل ويناضل، والعامة من وراء الفريقين قد سيطر عليهم الإعجاب بشخصه وبيانه، وقوة جنانه وحدة لسانه، واعترتهم الدهشة لما يجيء به من آراء يجدد بها أمر هذه الأمة، ويعيد إليها دينها غضاً قشيباً كما ابتدأ.
ذلكم الإمام الجريء هو تقي الدين بن تيمية صاحب المواقف المشهودة، والرسائل المنضودة، اتجهت لدراسته مستعيناً بالله سبحانه، لأن دراسته دراسة لجيل، وتعرف لقبس من النور أضاء في دياجير الظلام، ولأن آراءه في الفقه والعقائد تعتنقها الآن طائفة من الأمة الإسلامية تأخذ بالشريعة في كل أحكامها وقوانينها، ولأننا نحن المصريين في قوانين الزواج والوصية والوقف قد نهلنا من آرائه، فكثير مما اشتمل عليه القانون رقم 25 لسنة 1929 مأخوذ من آرائه، مقتبس من اختياراته، وشروط الواقفين والوصايا اقتبست أحكامها في قانوني الوقف والوصية من أقواله.
ثم إن دراسة ذلك الإمام الجليل تعطينا صورة للفقيه قد اتصل بالحياة، وتعلق قلبه وعقله وفكره بالكتاب والسنة والهدي النبوي، والسلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، فهو يأتي بفكر سلفي آخذ بأحكام القرآن الكريم، والسنة النبوية، يعالج به مشاكل الحياة الواقعة بالقسطاس المستقيم، بل يلقي في حقل الحياة العاملة الكادحة المتوثبة بالبذرة الصالحة التي استنبطها من الكتاب والسنة فتنبت الزرع، وتخرج الثمر، وتؤتي أكلها كل حين بإذن ربها.
وإنا وقد اتجهنا إلى دراسة ذلك العالم الكاتب الخطيب المجاهد الذي حمل السيف والسنان، كما حمل القلم والبيان، سنجتهد في دراسة حياته، ومجاوبتها لروح عصره، وتأثيرها فيه، ثم ندرس آراءه كعالم من علماء الكلام وآراءه كفقيه، واجتهاده والأصول التي تقيد بها، ومقدار الصلة التي تربطه بالفقه الحنبلي.
وإن نستعين بالله، ونسأله التوفيق، فإنه لولا توفيقه ما تيسر لنا أمر، ولا وصلنا إلى غاية، إنه نعم المولى ونعم النصير. أ.هـ (ابن تيمية لأبي زهرة ص3،4).
ب- لماذا درس ابن تيمية الفلسفة؟(/16)
ويشيد أبو زهرة بردود ابن تيمية على الفلاسفة، ويبين لماذا درس الفلسفة ويعقد فصلاً يقارن فيه بين دراسة ابن تيمية للفلسفة ودراسة الغزالي لها فيقول:
درس ابن تيمية الفلسفة وعرفها، ولكنه درسها ليهدمها، وهو قد رآها داء قد أصاب فكر المسلمين، فجعل منهم المتكلمين والمتفلسفين، وأنها سرت إلى العقل الإسلامي فسيطرت على مساربه، ويروي أنه قبل أن يخوض في بيان العقيدة الإسلامية وموافقتها لصريح المعقول لا بد من إبعاد العناصر الفلسفية التي هي أخيلة وأوهام، كما يبعد عن الجسم الإنساني الأخلاط الضارة لتتم سلامته، فيقول في ذلك:
"لما كان بيان مراد الرسول في هذه الأبواب لا يتم إلا بدفع المعارض العقلي، وامتناع تقديم ذلك على نصوص الأنبياء، بينا في هذا الكتاب فساد القانون الفاسد الذي صدوا به الناس عن سبيل الله. وعن فهم مراد الرسول وتصديقه فيما أخبر به، إذ كان أي دليل أقيم على بيان مراد الرسول لا ينفع إذا قدر أن المعارض العقلي ناقضه، بل يصير ذلك قدحاً في الرسول، وقدحاً فيمن استدل بكلامه، وصار هذا بمنزلة المريض الذي تكون به أخلاط فاسدة تمنع انتفاعه بالغذاء، فلا ينفعه مع وجود هذه الأخلاط الفاسدة التي تفسد الغذاء، فكذلك القلب الذي اعتقد قيام الدليل العقلي القاطع على نفي الصفات أو بعضها، أو نفي عموم خلقه لكل شيء وأمره ونهيه، أو امتناع المعاد أو غير ذلك لا ينفعه الاستدلال عليه في ذلك بالكتاب والسنة، إلا مع بيان فساد ذلك المعارض، وفساد المعارض قد يعلم جملة وتفصيلاً" (موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول المطبوع على هامش منهاج السنة ص9 ج1).
الفرق بينه وبين الغزالي:
درس إذن ابن تيمية الفلسفة وما عند الفلاسفة، لا ليطلب الحقائق من ورائها، بل ليبين بطلان ما يعارض الدين منها، فهو آمن بما جاء به الرسول أولاً، ثم أراد أن ينفي عنه خبث الفلسفة، فدرس ذلك الخبث ليعرف حقيقته ثم ليبين بطلانه بعد معرفته.
وهو في هذا يفترق عن منهاج الغزالي رضي الله عنه، فهو قد درس الفلسفة ليطلب الحقيقة من ورائها، وخلص نفسه من كل شيء ليصل إلى الحق المستقيم، واعتبر الشك هو الطريق للوصول إلى الحق، ولكن تبين له بطلان ما يقوله الفلاسفة، فعاد إلى الدين، وأشرق في نفسه نور الحقائق في خلوات صوفية عرف فيها نفسه، ثم حمل حملته على الفلاسفة وبين تهافتهم.
ومع ذلك هل تجرد منها؟ إنه بقيت في نفسه أثارة منها، بل إنه لم يتركها إلا وقد تكون عقله تكوناً فلسفياً، وأخذ أحد شعب الفلسفة وجعله جزءاً من دراساته، وهو المنطق، فهو في مقدمة كتاب المستصفي في عالم الأصول، والذي يعد أحد دعائم علم أصول الفقه الثلاثة (الكتب الثلاثة هي: المعتمد لأبي الحسين البصري، والبرهان لإمام الحرمين، والمستصفي للغزالي) يقرر أن الحقائق لا يمكن أن تعرف في أي علم من العلوم على وجهها إلا إذا كان المنطق ميزانها، ويقول في مقدمة كتاب المستصفي التي شرح بها علم المنطق إجمالاً ما نصه:
"نذكر في هذه المقدمة مدارك العقول وانحصارها في الحد والبرهان، ونذكر شرط الحد الحقيقي، وشرط البرهان الحقيقي، وأقسامها على منهاج أو جزء مما ذكرناه في كتاب محك النظر، وكتاب معيار العلم، وليست هذه المقدمة من جملة علم الأصول، ولا من مقدماته الخاصة به، بل هي مقدمة العلوم كلها، ومن لا يحيط بها فلا ثقة بعلومه أصلاً" (مقدمة المستصفي ص10 الجزء الأول).
وهذا إيمان بشعبة من شعب الفلسفة عميق، فإن علم المنطق فرع من فروعها، بل لعله أعظم تراث تركه أرسطو من بعده.
هذا هو الفرق بين المقصد عند هذين العالمين من دراسة الفلسفة، وقد تأدى بالأول إلى نقضها، وتأدى بالثاني إلى اعتناق بعضها، لذا قال بعض تلاميذ الغزالي: إنه دخل في بطن الفلسفة، ولما أراد الخروج منها لم يستطيع. فكانت منه تلك المناهج الفلسفية التي سلكها في دراسة العقائد، ودراسة أصول الفقه، بل كان منه تلك الحيرة التي بدت في آرائه في الفلسفة والفلاسفة، فبينما تراه يحمل على الفلاسفة، ويبين تهافتهم، تراه يقبض قبضة من علومهم ويجعلها وحدها ميزان العلوم، ولذا قال ابن تيمية فيه:
"كان أبو حامد ما يوجد في كلامه من الرد على الفلاسفة، وتكفيره لهم، وتعظيم النبوة وغير ذلك، ومع ما يوجد فيه من أشياء صحيحة حسنة، بل عظيمة القدر نافعة يوجد في بعض كلامه مادة فلسفية وأمور أضيفت توافق أصول الفلاسفة المخالفة للنبوة، بل المخالفة لصريح العقل، حتى تكلم فيه جماعات من علماء خراسان والعراق والمغرب" (شرح العقيدة الأصفهانية ص115).
ويقول فيه أيضاً:(/17)
"وأبو حامد لا يوافق المتفلسفة على كل ما يقولون، بل يكفرهم ويضللهم في موضع، وإن كان في الكتب المضافة إليه ما قد يوافق بعض أصولهم، بل في الكتب التي يقال إنها مضنونة بها على غير أهلها ما هو في الفلسفة مضنونة مخالفة لدين المسلمين واليهود والنصارى، وإن كان قد عبر عنها بعبارات إسلامية، لكن هذه الكتب في الناس من يقول إنها مكذوبة على أبي حامد، ومنهم من يقول: بل رجع عنها، ولا ريب أنه صرح في بعض المواضع ببعض ما قاله في هذه الكتب، وأخبر في المنقذ من الضلال، وغيره في كتبه بما في هذه من الضلال" (الكتاب المذكور ص49).
ثم بين أن الغزالي كان ينقل كتب الفلسفة، وأقوال الفلاسفة، وينقل عن أبي عبدالله المازري الفقيه المتكلم فيقول:
"قال (ابن المازري) ووجدت هذا الغزالي يعول على ابن سينا في أكثر ما يشير إليه في علوم الفلسفة، حتى إنه في بعض الأحايين ينقل نص كلامه من غير تغيير، وأحياناً يغيره، وينقله إلى الشرعيات أكثر مما نقل ابن سينا، لكونه أعلم بأسرار الشرع منه، فعلى ابن سينا ومؤلف رسائل إخوان الصفا عول الغزالي في علم الفلسفة" (الكتاب المذكور ص117).
نقده للفلاسفة:
من هذا يتبين كيف غمر الغزالي نفسه في الفلسفة ولم يستطيع الخروج منها، لأنه طلبها ليعرف الحقيقة من ورائها فكانت نيته في الطلب سبباً في أن أحاط به غمارها، وكان يعيش في أقطارها، فالتقى العلم الشرعي بالعقل الفلسفي، ففلسف الشريعة، أو ألبس الفلسفة لبوس الشرع من حيث يشعر أو لا يشعر.
أما ابن تيمية فقد طلبها ليهدمها، فكان يقرؤها ويفهمها، وهو في غير محيطها، ولم ينغمر في غمارها، وشدد النكير على الغزالي في منهاجه، وأخذ يتبع هفواته ويتقصى هناته.
ولقد كان يرى أن علم الشرع من النبوة وحدها، سواء في ذلك أصول العقيدة، وفروع الفقه والأحكام العلمية، لأن النبوة جاءت بكل ذلك، فما جاءت به النبوة مصدر العلم به وطريق معرفته، ولا طريق سواه، ويرى أن أولئك الذين يضعون مقدمات عقلية تسبق الدراسة الشرعية، ويجعلون ما جاء في القرآن يسير على منهاجها، فيؤولون صريحة ليوافقها، إنما يجعلون علم العقل فوق علم النبوة، ويقول في ذلك:
"يقدمون في كتبهم الكلام في النظر والدليل والعلم، وأن النظر يوجب العلم وأنه واجب، ويتكلمون في جنس النظر وجنس الدليل وجنس العلم بكلام قد اختلط فيه الحق بالباطل، ثم إذا صاروا إلى ما هو الأصل والدليل في الدين استدلوا بحدوث الأعراض على حدوث الأجسام، وهو دليل مبتدع في الشرع" (معارج الوصول ص4 من مجموعة رسائل لابن تيمية طبعة الخانجي).
ينقد ابن تيمية هؤلاء، لأنهم يقدمون عند دراستهم لما جاءت به النبوة تلك الدراسة العقلية عليها، ثم يحكمون على الأوصاف التي جاءت في القرآن بقوانينها، ويوجهونها بتوجيهها، فما يوافقها أقروه كما ورد، وما لم يوافقها وجهوه على اتجاهها، وأولوه بتأويلها، ثم هم في هذا السبيل لم يلتفتوا إلى السنة، ولم يعلموا أنها شارحة الكتاب، مبينة لكل ما جاء فيه، وأنها الطريق الوحيد لتفسيره.
نقد ابن تيمية هذا المسلك، لأنه يجعل الحاكم محكوماً، فيجعل النبوة التي هي حاكمة هادية للعقول محكومة بها خاضعة.
3- شهادة الشيخ أبو بكر الجزائري -رئيس قسم التفسير بالجامعة الإسلامية-:
الشيخ الداعية:
"تصدى ابن تيمية لمحاربة الفساد المستشري في أمة الإسلام والمتمثل في الحكام والعباد من المتصوفة والمبتدعة والخرافيين، فقاومه بالحجة والبرهان وانبرى لمقاومته الحكام بالوعيد والتهديد، والسجن والحرمان، وتصدى له العلماء، بالإنكار والتشنيع والوشايات لدى الحكام وتصدى له المتصوفة والمبتدعة بالكيد والمكر والدس والخداع والكذب والتضليل.
ووقف الشيخ وحده في الميدان ليس له من ولي ولا نصير إلا ربه تعالى وكفى بالله ولياً ونصيراً، وكان ما أجمع عليه أعداؤه فيه ثلاث مسائل ادعوا أنه خالف فيها الاجماع وهي طلاق الثلاث، والوسيلة، وشد الرحال إلى غير المساجد الثلاثة. هذه أبرز ما اجتمع عليه أعداء الشيخ فحاربوه عليها حرباً ضروساً بلا رحمة ولا شفقة، فما تركوا وسيلة للنيل من الشيخ إلا استعملوها، فكذبوا عليه، وزوروا وافتروا، وقالوا ما لم يقله عدو في عدوه والشيخ صابر محتسب يقرع الحجة بالحجة، ويبين زيف الدعاوي، وافتراء المفترين، كل ذلك بأسلوب نزيه، وكلام طيب، وقول حسن فلا يغلظ في قول، ولا يجفو في عبارة، ولا يحاول انتقاص أحد، أو النيل من كرامته إن كان من ذوي الكرامات. الأمر الذي يعد فيه ابن تيمية فريداً وحيداً أشبه رجل بنبي في دنيا الرجال" (مجلة الجامعة الإسلامية ص169).
4- شهادة الشيخ محمد سليمان العبدة المدرس بالجامعة الإسلامية:
"إن هذا العالم -وبتقديري الخاص- لم يقدر التقدير الكافي أو يفهم الفهم المطلوب حتى الآن، رغم ما بذل من جهود مشكورة في نشر كتبه أو الحديث عنه.(/18)
إن علم ابن تيمية من خلال كتبه كان المصدر الرئيسي لأكثر الحركات الإسلامية المعاصرة، وكما يقول مالك بن نبي: "إن تراث ابن تيمية يكون الترسانة الفكرية التي لا زالت تمد الحركات الإصلاحية بالأفكار النموذجية إلى اليوم".
وإن ما نعانيه اليوم ليس نقصاً في الكتب بل نقصاً في الرجال وابن تيمية هو من الرجال القلائل الذين ظهرت فيهم سيرة السلف بجمعهم بين العلم والجهاد، ومن اليوم الذي انفصل فيه هذا الشعور عند المسلمين تأخروا وأصبح العلماء بعيدين عن الحياة وعن القيادة والريادة" أ.هـ (من مجلة الجامعة الإسلامية ص277).
الباب السادس
ابن تيمية: ألوان من جهاده
قدمنا أن ابن تيمية جاهد في كل ميدان تقريباً بالقلم والكلمة والسيف، ولا نستطيع أن نأتي في هذا المختصر على شيء كثير من جهاده وإنما نذكر هنا لوناً فريداً من ألوان جهاده وهو جهاده بالرسائل إلى تلاميذه وإلى بعض الأمراء والحكام.. ولا نستطيع أيضاً أن نذكر هنا كل مخاطباته ورسائله في هذا الصدد وإنما نذكر ألواناً من ذلك فقط.
جهاده للنصيريين
وفضحه لعقائد الباطنيين
*رسالة الشيخ ابن تيمية إلى السلطان محمد بن قلاوون يبين فيها مشروعية حربه للباطنيين من النصيرية وأضرابهم ممن كانوا بجبال سوريا ولبنان.
خاض الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية حروباً كثيرة بعضها في مقابل التتر المتسترين بالإسلام وبعضها ضد النصيرية والباطنية الكفرة المعادين لأهل الإسلام والموالين لأعدائه من التتر والصليبيين، وبعد واقعة جبل كسروان (بلبنان) سنة 704هـ التي هزم فيها هؤلاء المارقون كتب ابن تيمية كتاباً إلى السلطان المذكور يذكر فيها ما أنعم الله سبحانه وتعالى به على الإسلام وأهله. في هذه الغزوة كتب ابن تيمية يقول:
بسم الله الرحمن الرحيم
من الداعي أحمد بن تيمية إلى سلطان المسلمين، ومن أيد الله في دولته الدين، وأعز بها عباده المؤمنين، وقمع فيها الكفار والمنافقين والخوارج المارقين، نصره الله ونصر به الإسلام، وأصلح له وبه أمور الخاص والعام، وأحيى به معالم الإيمان، وأقام به شرائع القرآن، وأذلّ به أهل الكفر والفسوق والعصيان.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. فانّا نحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، وهو للحمد أهل، وهو على كل شيء قدير. ونسأله أن يصلي على خاتم النبيين، وإمام المتقين محمد عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً.
أما بعد. فقد صدق الله وعده، ونصر عبده وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده. وأنعم الله على السلطان، وعلى المؤمنين في دولته نعماً لم تعهد في القرون الخالية. وجدد الإسلام في أيامه تجديداً بانت فضيلته على الدول الماضية. وتحقق في ولايته خبر الصادق المصدوق، أفضل الأولين والآخرين، الذي أخبر فيه عن تجديد الدين في رؤوس المئين والله تعالى يوزعه والمسلمين شكر هذه النعم العظيمة في الدنيا والدين، ويتمها بتمام النصر على سائر الأعداء المارقين.
وذلك: أن السلطان -أتم الله نعمته- حصل للأمة بيمن ولايته وحسن نيته، وصحة إسلامه وعقيدته، وبركة إيمانه ومعرفته، وفضل همته، وشجاعته، وثمرة تعظيمه للدين وشرعته، ونتيجة اتباعه لكتاب الله وحكمته، ما هو شبيه بما كان يجري في أيام الخلفاء الراشدين وما كان يقصده أكابر الأئمة العادلين: من جهاد أعداء الله المارقين من الدين، وهم صنفان:
أهل الفجور والطغيان، وذوو الغي والعدوان، الخارجون عن شرائع الإيمان، طلباً للعلو في الأرض والفساد، وتركا لسبيل الهدى والرشاد. وهؤلاء هم التتار، ونحوهم من كل خارج عن شرائع الإسلام وإن تمسك بالشهادتين، أو ببعض سياسة الإسلام.
والصنف الثاني: أهل البدع المارقون، وذوو الضلال المنافقون، الخارجون عن السنة والجماعة، المفارقون للشرعة والطاعة. مثل هؤلاء الذين غزوا بأمر السلطان من أهل الجبل، والجرد، والكسروان. فإن ما منّ الله به من الفتح والنصر على هؤلاء الطغام، هو من عزائم الأمور التي أنعم الله بها على السلطان وأهل الإسلام.
وذلك: أن هؤلاء وجنسهم من أكابر المفسدين في أمر الدنيا والدين فإن اعتقادهم: أن أبا بكر وعمر وعثمان، وأهل بدر، وبيعة الرضوان وجمهور المهاجرين والأنصار، والتابعين لهم بإحسان، وأئمة الإسلام وعلماؤهم أهل المذاهب الأربعة وغيرهم، ومشايخ الإسلام وعبادهم، وملوك المسلمين وأجنادهم، وعوام المسلمين وأفرادهم. كل هؤلاء عندهم كفار مرتدون، أكفر من اليهود والنصارى. لأنهم مرتدون عندهم والمرتد شر من الكافر الأصلي. ولهذا السبب يقدمون الفرنج والتتار على أهل القرآن والإيمان.(/19)
ولهذا لما قدم التتار إلى البلاد، وفعلوا بعسكر المسلمين ما لا يحصى من الفساد، وأرسلوا إلى أهل قبرص فملكوا بعض الساحل، وحملوا راية الصليب، وحملوا إلى قبرص من خيل المسلمين وسلاحهم وأسراهم ما لا يحصى عدده إلا الله، وأقام سوقهم بالساحل عشرين يوماً يبيعون فيه المسلمين والخيل والسلاح على أهل قبرص، وفرحوا بمجيء التتار، هم وسائر أهل هذا المذهب الملعون، مثل أهل جزين (مدينة معروفة بالبقاع بلبنان). وما حواليها. وجبل عامل ونواحيه.
ولما خرجت العساكر الإسلامية من الديار المصرية، ظهر فيهم (أي في النصيرية وأهل الجبل المارقين) من الخزي والنكال ما عرفه الناس منهم. ولما نصر الله الإسلام النصرة العظمى عند قدوم السلطان (هو السلطان الناصر بن قلاوون سلطان مصر والشام)، كان بينهم شبيه بالعزاء.
كل هذا، وأعظم منه، عند هذه الطائفة التي كانت من أعظم الأسباب في خروج جنكسخان إلى بلاد الإسلام، وفي استيلاء هولاكو على بغداد، وفي قدومه إلى حلب، وفي نهب الصالحية، وفي غير ذلك من أنواع العداوة للإسلام وأهله.
لأن عندهم أن كل من لم يوافقهم على ضلالهم فهو كافر مرتد، ومن استحل الفقّاع (شراب يصنع من الشعير وسمي كذلك لما يعلوه من الزبد-لسان العرب) فهو كافر. ومن مسح على الخفين فهو عندهم كافر. ومن حرم المتعة فهو عندهم كافر. ومن أحب أبا بكر أو عمر، أو عثمان، أو ترضي عنهم أو عن جماهير الصحابة فهو عندهم كافر. ومن لم يؤمن بمنتظرهم فهو عندهم كافر.
وهذا المنتظر صبي عمره سنتان أو ثلاث، أو خمس. يزعمون أنه دخل السرداب بسامرا من أكثر من أربعمائة سنة. وهو يعلم كل شيء. وهو حجة الله على أهل الأرض. فمن لم يؤمن به فهو عندهم كافر. وهو شيء لا حقيقة له، ولم يكن هذا في الوجود قط.
وعندهم من قال: إن الله يرى في الآخرة فهو كافر. ومن قال: إن الله تكلم بالقرآن حقيقة فهو كافر. ومن قال: إن الله فوق السموات فهو كافر ومن آمن بالقضاء والقدر وقال: إن الله يهدي من يشاء ويضل من يشاء، وأن الله يقلب قلوب عباده، وأن الله خالق كل شيء، فهو عندهم كافر. وعندهم أن من آمن بحقيقة أسماء الله وصفاته التي أخبر بها في كتابه وعلى لسان رسوله، فهو عندهم كافر.
هذا هو المذهب الذي تلقنه لهم أئمتهم. مثل بني العود. فإنهم شيوخ أهل هذا الجبل. وهم الذين كانوا يأمرونهم بقتال المسلمين. ويفتونهم بهذه الأمور.
وقد حصل بأيدي المسلمين طائفة من كتبهم تصنيف ابن العود وغيره. وفيها هذا وأعظم منه. وهم اعترفوا لنا بأنهم الذين علموهم وأمروهم لكنهم مع هذا يظهرون التقية والنفاق. ويتقربون ببذل الأموال إلى من يقبلها منهم. وهكذا كان عادة هؤلاء الجبلية. فإنما أقاموا بجبلهم لما كانوا يظهرونه من النفاق، ويبذلونه من البرطيل (الرشاوي) لمن يقصدهم.
والمكان الذي لهم في غاية الصعوبة. ذكر أهل الخبرة أنهم لم يروا مثله. ولهذا كثر فسادهم. فقتلوا من النفوس، وأخذوا من الأموال، ما لا يعلمه إلا الله.
ولقد كان جيرانهم من أهل البقاع وغيرها معهم في أمر لا يضبط شره، كل ليلة تنزل عليهم منهم طائفة، ويفعلون من الفساد ما لا يحصيه إلا رب العباد. كانوا في قطع الطرقات وإخافة سكان البيوتات على أقبح سيرة عرفت من أهل الجنايات، ويرد إليهم النصارى من أهل قبرص فيضيفونهم ويعطونهم سلاح المسلمين، ويقعون بالرجل الصالح من المسلمين. فإما أن يقتلوه أو يسلبوه. وقليل منهم من يفلت منهم بالحيلة.
فأعان الله ويسر، بحسن نية السلطان وهمته، في إقامة شرائع الإسلام، وعنايته بجهاد المارقين أن غزوا غزوة شرعية، كما أمر الله ورسوله، بعد أن كشفت أحوالهم، وأزيحت عللهم، وأزيلت شبههم، وبذل لهم من العدل والإنصاف ما لم يكونوا يطمعون به، وبين لهم أن غزوهم اقتداء بسيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه في قتال الحرورية (الحرورية: هم الخوارج الذين خرجوا على علي بن أبي طالب وسموا كذلك لأن أول خروجهم كان ببلدة تسمى حروراء).
المارقين، الذين تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم الأمر بقتالهم ونعت حالهم، من وجوه متعددة. أخرج منها أصحاب الصحيح عشرة أوجه: من حديث علي بن أبي طالب، وأبي سعيد الخدري. وسهل بن حنيف، وأبي ذر الغفاري. ورافع بن عمرو، وغيرهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
قال فيهم: [يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم، يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية. لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد. لو يعلم الذين يقاتلونهم ماذا لهم على لسان محمد صلى الله عليه وسلم لاتكلوا عن العمل. يقتلون أهل الإسلام. ويدعون أهل الأوثان. يقرأون القرآن يحسبون أنه لهم وهو عليهم، شر قتلى تحت أديم السماء. خير قتلى من قتلوه].(/20)
وأول ما خرج هؤلاء، زمن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه. وكان لهم من الصلاة، والصيام، والقراءة، والعبادة، والزهادة ما لم يكن لعموم الصحابة. لكن كانوا خارجين عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن جماعة المسلمين. وقتلوا من المسلمين رجلاً اسمه عبدالله بن خباب (هو عبدالله بن خباب بن الأرت -بفتح الخاء وتشديد الباء وفتح الهمز والراء المهملة وتشديد التاء-. له رؤية ولأبيه صحبة. قال في أسد الغابة: كان طائفة من الخوارج أقبلوا من البصرة إلى إخوانهم من أهل الكوفة، فلقوا عبدالله بن خباب ومعه امرأته. فقالوا له: من أنت؟ قال أنا عبدالله بن خباب صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوه عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، فأثنى خيراً عليهم، فذبحوه، فسال دمه في الماء، وقتلوا المرأة وهي حامل ملم منه، فقالت: أنا امرأة، ألا تتقون الله؟ فبقروا بطنها، وذلك سنة سبع وثلاثين، وكان من سادات المسلمين) وأغاروا على دواب للمسلمين.
وهؤلاء القوم كانوا أقل صلاة وصياماً. ولم نجد في جبلهم مصحفاً ولا فيهم قارئاً للقرآن. وانما عندهم عقائدهم التي خالفوا فيها الكتاب والسنة. وأباحوا بها دماء المسلمين. وهم مع هذا فقد سفكوا من الدماء وأخذوا من الأموال مالا يحصى عدده إلا الله تعالى.
فإذا كان علي بن أبي طالب قد أباح لعسكره أن ينهبوا ما في عسكر الخوارج، مع أنه قتلهم جميعهم، وأن هؤلاء أحق بأخذ أموالهم. وليس هؤلاء بمنزلة المتأولين الذين نادى فيهم علي بن أبي طالب يوم الجمل: "أنه لا يقتل مدبرهم ولا يجهز على جريحهم، ولا يغم لهم مالاً ولا يسبى لهم ذرية" لأن مثل أولئك لهم تأويل سائغ. وهؤلاء ليس لهم تأويل سائغ. ومثل أولئك إنما يكونون خارجين عن طاعة الإمام. وهؤلاء خرجوا عن شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته. وهم شر من التتار من وجوه متعددة. لكن التتر أكثر وأقوى. فلذلك يظهر كثرة شرهم.
وكثير من فساد التتر هو لمخالطة هؤلاء لهم، كما كان في زمن قازان وهولاكو، وغيرهما. فإنهم أخذوا من أموال المسلمين أضعاف ما أخذوا من أموالهم. وأرضهم لبيت المال.
وقد قال كثير من السلف: إن الرافضة لا حق لهم في الفيء. لأن الله إنما جعل الفيء للمهاجرين والأنصار {والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم} فمن لم يكن قلبه سليماً لهم، ولسانه مستغفراً لهم، لم يكن من هؤلاء.
وقطعت أشجارهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما حاصر بني النضير قطع أصحابه نخلهم وحرقوه. فقال اليهود: هذا فساد. وأنت يا محمد تنهى عن الفساد. فأنزل الله {ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين}.
وقد اتفق العلماء على جواز قطع الشجر، وتخريب العامر، عند الحاجة إليه، فليس ذلك بأولى من قتل النفوس وما أمكن غير ذلك.
فإن القوم لم يحضروا كلهم من الأماكن التي اختفوا فيها، وأيسوا من المقام في الجبل إلا حين قطعت الأشجار. وإلا كانوا يختفون حيث لا يمكن العلم بهم. وما أمكن أن يسكن الجبل غيرهم. لأن التركمان إنما قصدهم الرعي، وقد صار لهم مرعى، وسائر الفلاحين لا يتركوا عمارة أرضهم ويجيئون إليه.
فالحمد لله الذي يسر هذا الفتح في دولة السلطان بهمته وعزمه وأمره، وإخلاء الجبل منهم، وإخراجهم من ديارهم.
وهم يشبهون ما ذكره الله في قوله: {هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر. ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله. فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب. يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار. ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب النار. ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب. ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين} (الحشر:2-5).
وأيضاً فإنه بهذا قد انكسر من أهل البدع والنفاق بالشام ومصر والحجاز، واليمن والعراق ما يرفع الله بن درجات السلطان، ويعز به أهل الإيمان.
ثم يستطرد الشيخ ناصحاً للسلطان بوجوب إقامة أحكام الإسلام فيقول:
تمام هذا الفتح وبركته تقدم مراسم السلطان بحسم مادة أهل الفساد، وإقامة الشريعة في البلاد. فإن هؤلاء القوم لهم من المشايخ والإخوان في قرى كثيرة من يقتدون، بهم وينتصرون لهم. وفي قلوبهم غلّ عظيم. وإبطان معاداة شديدة، لا يؤمنون معها على ما يمكنهم. ولو أنه مباطنة العدو. فإذا أمسك رؤوسهم الذين يضلونهم -مثل نبي العود- زال بذلك من الشر ما لا يعلمه إلا الله.(/21)
ويتقدم إلى قراهم. وهي قرى متعددة بأعمال دمشق، وصفد، وطرابلس، وحماة، وحمص، وحلب بأن يقام فيهم شرائع الإسلام، والجمعة، والجماعة، وقراءة القرآن، ويكون لهم خطباء ومؤذنون، كسائر قرى المسلمين، وتقرأ فيهم الأحاديث النبوية. وتنشر فيهم المعالم الإسلامية، ويعاقب من عرف منهم بالبدعة والنفاق بما توجبه شريعة الإسلام.
فإن هؤلاء المحاربين وأمثالهم قالوا: نحن قوم جبال. وهؤلاء كانوا يعلموننا ويقولون لنا: أنتم إذا قاتلتم هؤلاء تكونون مجاهدين. ومن قتل منكم فهو شهيد.
وفي هؤلاء كثير لا يقرون بصلاة، ولا صيام، ولا حج ولا عمرة، ولا يحرمون الميتة، والدم، ولحم الخنزير، ولا يؤمنون بالجنة والنار. من جنس الاسماعيلية، والنصيرية والحاكمية، والباطنية، وهم كفار أكفر من اليهود والنصارى بإجماع المسلمين.
فتقدم المراسيم السلطانية بإقامة شعائر الإسلام: من الجمعة، والجماعة، وقراءة القرآن، وتبليغ أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم في قرى هؤلاء من أعظم المصالح الإسلامية. وأبلغ الجهاد في سبيل الله.
وذلك سبب لانقماع من يباطن العدو من هؤلاء، ودخولهم في طاعة الله ورسوله، وطاعة أولي الأمر من المسلمين.
وهو من الأسباب التي يعين الله بها على قمع الأعداء.
فإن ما فعلوه بالمسلمين في أرض (سيس) نوع من غدرهم الذي به ينصر الله المسلمين عليهم. وفي ذلك لله حكمة عظيمة. ونصرة للإسلام جسيمة.
قال ابن عباس "ما نقض قوم العهد إلا أديل عليهم العدو".
ولولا هذا وأمثاله ما حصل للمسلمين من العزم بقوة الإيمان، وللعدو من الخذلان، ما ينصر الله به المؤمنين، ويذل به الكفار والمنافقين.
والله هو المسئول أن يتم نعمته على سلطان الإسلام خاصة، وعلى عباده المؤمنين عامة.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
والحمد لله وحده. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. (العقود الدرية في مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية ص182-194) انتهى.
رسائل للشيخ من داخل السجن
*رسالة من الشيخ إلى تلاميذه وإخوانه يرسلها من داخل سجنه، وقد كتبها بالفحم بعد مصادرة أوراقه وكتبه ومنعه من الكتابة: قال ابن عبدالهادي:
وقد رأيت أوراقاً عدة بعثها إلى أصحابه، وبعضها مكتوب بفحم، منها ورقة يقول فيها:
بسم الله الرحمن الرحيم
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ونحن لله الحمد والشكر في نعم متزايدة، متوافرة، وجميع ما يفعله الله فيه نصر الإسلام، وهو من نعم الله العظام. و{هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيداً} فإن الشيطان استعمل حزبه في إفساد دين الله، الذي بعث به رسله، وأنزل كتبه.
ومن سنة الله: أنه إذا أراد إظهار دينه، أقام من يعارضه، فيحق الحق بكلماته، ويقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق.
والذي سعى فيه حزب الشيطان لم يكن مخالفة لشرع محمد صلى الله عليه وسلم وحده، بل مخالفة لدين جميع المرسلين: إبراهيم، وموسى والمسيح، ومحمد خاتم النبيين صلى الله عليهم أجمعين (وذلك في مسألة شد الرحال وتشييد القبور ودعائها من دون الله).
وكانوا قد سعوا في أن لا يظهر من جهة حزب الله ورسوله خطاب ولا كتاب، وجزعوا من ظهور الاخنائية، فاستعملهم الله تعالى. حتى أظهروا أضعاف ذلك وأعظم، وألزمهم بتفتيشه ومطالعته، ومقصودهم إظهار عيوبه، وما يحتجون به، فلم يجدوا فيه إلا ما هو حجة عليهم، وظهر لهم جهلهم، وكذبهم وعجزهم، وشاع هذا في الأرض، وأن هذا مما لا يقدر عليه إلا الله، ولم يمكنهم أن يظهروا علينا فيه عيباً في الشرع والدين، بل غاية ما عندهم: أنه خولف مرسوم بعض المخلوقين، والمخلوق كائناً من كان، إذا خالف أمر الله تعالى ورسوله، لم يجب، بل ولا يجوز طاعته، في مخالفة أمر الله ورسوله باتفاق المسلمين.
وقول القائل: إنه يظهر البدع، كلام يظهر فساده لكل مستبصر ويعلم أن الأمر بالعكس، فإن الذي يظهر البدعة، إما أن يكون لعدم علمه بسنة الرسول، أو لكونه له غرض وهوى يخالف ذلك، وهو أولى الجهل بسنة الرسول، واتباع هواهم بغير هدى من الله {ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله}، ممن هو أعلم بسنة الرسول منهم، وأبعد عن الهوى والغرض في مخالفتها (ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون. إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئاً، وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض، والله وليالمتقين).
وهذه قضية كبيرة لها شأن عظيم. ولتعلمن نبأه بعد حين.
ثم ذكر الشيخ في الورقة كلاماً، لا يمكن قراءة جميعه، لانطماسه وقال بعده:(/22)
وكانوا يطلبون تمام الاخنائية (رسالة ألفها في الرد على الاخنائي المالكي في مسألة الزيارة)، فعندهم ما يطمهم أضعافها، وأقوى فقهاً منها، وأشد مخالفة لأغراضهم. فإن الزملكانية قد بين فيها من نحو خمسين وجهاً: أن ما حكم به ورسم به، مخالف لإجماع المسلمين وما فعلوه -لو كان ممن يعرف ما جاء به الرسول، ويتعمد مخالفته- لكان كفراً وردة عن الإسلام، لكنهم جهال دخلوا في شيء ما كانوا يعرفونه، ولا ظنوا أنه يظهر منه أن السلطنة تخالف مرادهم والأمر أعظم مما ظهر لكم، ونحن ولله الحمد، على عظيم الجهاد في سبيله.
ثم ذكر كلاماً وقال:
بل جهادنا في هذا مثل جهادنا يوم قازان (عندما تصدى لقازان ملك التتر وناقشه ورده عن بلاد المسلمين)، والجبلية (الجبلية هم النصيرية وأشكالهم الذين حاربهم الشيخ)، والجهمية، والإتحادية (اتباع ابن عربي ومن على شاكلته)، وأمثال ذلك.. من أعظم نعم الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
*وكتب من داخل السجن رسالة أخرى يقول فيها:
نحن ولله الحمد والشكر، في نعم عظيمة، تتزايد كل يوم، ويجدد الله تعالى من نعمه نعماً أخرى، وخروج الكتب كان من أعظم النعم فإني كنت حريصاً على خروج شيء منها، لتقفوا عليه، وهم كرهوا خروج الاخنائية، فاستعملهم الله تعالى في إخراج الجميع، وإلزام المنازعين بالوقوف عليه. وبهذا يظهر ما أرسل الله به رسوله من الهدى ودين الحق.
فإن هذه المسائل كانت خفية على أكثر الناس. فإذا ظهرت فمن كان قصده الحق هداه الله، ومن كان قصده الباطل قامت عليه حجة الله، واستحق أن يذله الله ويخزيه.
وما كتبت شيئاً من هذا ليكتم عن أحد، ولو كان مبغضاً، والأوراق التي فيها جواباتكم غسلت وأنا طيب وعيناي طيبتان أطيب ما كانتا، ونحن في نعم عظيمة لا تحصى ولا تعد، والحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه.
ثم ذكر كلاماً. وقال:
كل ما يقضيه الله تعالى فيه الخير والرحمة والحكمة {إن ربي لطيف لما يشاء إنه هو القوي العزيز}، العليم الحكيم، ولا يدخل على أحد ضرر إلا من ذنوبه ما أصابك من حسنة فمن الله، وما أصابك من سيئة فمن نفسك فالعبد عليه أن يشكر الله ويحمده دائماً على كل حال، ويستغفر من ذنوبه، فالشكر يوجب المزيد من النعم، والإستغفار يدفع النقم، ولا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيراً له [إن أصابته سراء شكر وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيراً له]. أ.هـ (العقود الدرية ص364-367).
*رسالة من داخل السجن أيضاً من الشيخ إلى بعض أقاربه في دمشق:
تعلمون أنا بحمد الله في نعم عظيمة، ومنن جسيمة، وآلاء متكاثرة، وأياد متظاهرة. لم تكن تخطر لأكثر الخلق ببال، ولا تدور لهم في خيال. والحمد لله كثيراً طيباً مباركاً فيه. كما يحب ربنا ويرضى. إلى أن قال:
والحق دائماً في انتصار وعلو وازدياد، والباطل في انخفاض وسفال ونفاد. وقد أخضع الله رقاب الخصوم وأذلهم غاية الذل، وطلب أكابرهم من السلم والانقياد ما يطول وصفه.
ونحن -ولله الحمد- قد اشترطنا عليهم في ذلك من الشروط ما فيه عز الإسلام والسنة، وانقماع الباطل والبدعة، وقد دخلوا في ذلك كله، وامتنعنا، حتى يظهر ذلك إلى الفعل، فلم نثق لهم بقول ولا عهد، ولم نجبهم إلى مطلوبهم، حتى يصير المشروط معمولاً، والمذكور مفعولاً، ويظهر من عز الإسلام والسنة للخاصة والعامة ما يكون من الحسنات التي تمحو سيئاتهم. وقد أمد الله من الأسباب التي فيها عز الإسلام والسنة، وقمع الكفر والبدعة، بأمور يطول وصفها في كتاب. وكذلك جرى من الأسباب التي هي عز الإسلام وقمع اليهود والنصارى، بعد أن كانوا قد استطاعوا وحصلت لهم شوكة، وأعانهم من أعانهم على أمر فيه ذل كبير من الناس، فلطف الله باستعمالنا في بعض ما أمر الله به ورسوله. وجرى في ذلك مما فيه عز المسلمين، وتأليف قلوبهم، وقيامهم على اليهود والنصارى وذل المشركين وأهل الكتاب، مما هو من أعظم نعم الله على عباده المؤمنين.
ووصف هذا يطول.
وقد أرسلت إليكم كتاباً أطلب ما صنفته في أمر الكنائس، وهي كراريس بخطي، قطع النصف البلدي، فترسلون ذلك إن شاء الله تعالى. وتستعينون على ذلك بالشيخ جمال الدين المزي فإنه يقلب الكتب ويخرج المطلوب. وترسلون أيضاً من تعليق القاضي أبي يعلى الذي بخط القاضي أبي الحسين، إن أمكن الجميع، وهو أحد عشر مجلداً، وإلا فمن أوله مجلداً، أو مجلدين، أو ثلاثة (الكواكب الدرية ص384).
الباب السابع
ابن تيمية: اختياراته واجتهاداته(/23)
لم يكن ابن تيمية معصوماً، ولا عصمة لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بل كان عالماً مجتهداً له صوابه وخطؤه، ردّ على أناس كثيرين ورد عليه أيضاً أناس كثيرون، وقد قال الإمام مالك بن أنس (ما منا إلا ورَدَّ وَرُدَّ عليه إلا صاحب هذا القبر) وهذه جملة الأمور التي تفرد بها مخالفاً غيره من أئمة الفقه ومتبعاً فيها أيضاً من سلف من الصحابة والتابعين فليس له بحمد الله قول لا سلف له فيه هكذا كان دينه وديدنه لا يقول قولاً لا سلف له فيه. وقد آتاه الله من العلم ما يستطيع به أن يرجح ما يراه راجحاً، ويبطل ما يراه باطلاً، ولا أقول إن كل ما رجحه صواب، وكل ما أبطله باطل وهذه هي جملة اختياراته كما نقلها تلميذه ابن عبدالهادي: قال:
ومن اختياراته التي خالفهم فيها، أو خالف المشهور من أقوالهم: القول بقصر الصلاة في كل ما يسمى سفراً، طويلاً كان أو قصيراً. كما هو مذهب الظاهرية. وقول بعض الصحابة.
والقول بأن البكر لا تستبرأ، وإن كانت كبيرة. كما هو قول ابن عمر. واختاره البخاري صاحب الصحيح.
والقول بأن سجود التلاوة لا يشترط له وضوء. كما يشترط للصلاة. كما هو مذهب ابن عمر. واختيار البخاري أيضاً.
والقول بأن من أكل في شهر رمضان معتقداً أنه ليل. فبان نهاراً لا قضاء عليه. كما هو الصحيح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وإليه ذهب بعض التابعين، وبعض الفقهاء بعدهم.
والقول بأن المتمتع يكفيه سعي واحد بين الصفا والمروة. كما هو في حق القارن والمفرد. كما هو قول ابن عباس رضي الله عنهما. ورواية عن الإمام أحمد بن حنبل. رواها عنه ابنه عبدالله. وكثير من أصحاب الإمام أحمد يعرفونها.
والقول بجواز المسابقة بلا محلل. وإن خرج المتسابقان.
والقول باستبراء المختلعة بحيضه. وكذلك الموطوءه بشبهة. والمطلقة آخر ثلاث تطليقات.
والقول بإباحة وطء عقد الرداء في الإحرام. ولا فدية في ذلك، وجواز طواف الحائض. ولا شيء عليها، إذا لم يمكنها أن تطوف طاهراً.
والقول بجواز بيع الأصل بالعصير. كالزيتون بالزيت. والسمسم بالشيرج. والقول بجواز الوضوء بكل ما يسمى ماء، مطلقاً كان أو مقيداً.
والقول بجواز بيع ما يتخذ من الفضة للتحلي وغيره. كالخاتم ونحوه، بالفضة متفاضلاً، وجعل الزائد من الثمن في مقابلة الصنعة.
والقول بأن المائع لا ينجس بوقوع النجاسة فيه إلا أن يتغير، قليلاً كان أو كثيراً.
والقول بجواز التيمم لمن خاف فوات العيد والجمعة باستعمال الماء.
والقول بجواز التيمم في مواضع معروفة.
والجمع بين الصلاتين في أماكن مشهورة.
وغير ذلك من الأحكام المعروفة من أقواله.
وكان يميل أخيراً لتوريث المسلم من الكافر الذمي، وله في ذلك مصنف وبحث طويل.
ومن أقواله المعروفة المشهورة التي جرى بسبب الإفتاء بها محن وقلاقل: قوله بالتكفير في الحلف بالطلاق.
وأن الطلاق الثلاث لا يقع إلا واحدة.
وأن الطلاق المحرم لا يقع.
وله في ذلك مصنفات ومؤلفات كثيرة منها:
قاعدة كبيرة سماها "تحقيق الفرقان بين التطليق والأيمان" نحو أربعين كراسة.
وقاعدة سماها "الفرق المبين بين الطلاق واليمين" بقدر النصف من ذلك.
وقاعدة في أن جميع أيمان المسلمين مكفرة، مجلد لطيف.
وقاعدة في تقرير أن الحلف بالطلاق من الأيمان حقيقة.
وقاعدة سماها "التفصيل بين التكفير والتحليل".
وقاعدة سماها "اللمعة" (الكواكب الدرية 222-224).
وغير ذلك من القواعد والأجوبة في ذلك لا ينحصر ولا ينضبط وله في ذلك جواب اعتراض، ورد عليه من الديار المصرية. وهو جواب طويل في ثلاث مجلدات، بقطع نصف البلدي.
وقال ابن رجب الحنبلي:
ذكر نبذة من مفرداته وغرائبه
اختار ارتفاع الحدث بالمياه المتعصرة، كماء الورد ونحوه، واختار جواز المسح على النعلين والقدمين، وكل ما يحتاج في نزعه من الرجل إلى معالجة باليد أو بالرجل الآخر، فإنه يجوز عنده المسح عليه مع القدمين.
واختار أن المسح على الخفين لا يتوقف مع الحاجة، كالمسافر على البريد ونحوه، وفعل ذلك في ذهابه إلى الديار المصرية على خيل البريد ويتوقف مع إمكان النزع وتيسره.
واختار جواز المسح على اللفائف ونحوها.
واختار جواز التيمم لخشية فوات الوقت في حق غير المعذور، كمن أخر الصلاة عمداً حتى تضايق وقتها. وكذا من خشي فوات الجمعة والعيدين وهو محدث. فأما من استيقظ أو ذكر في آخر وقت الصلاة: فإنه يتطهر بالماء ويصلي، لأن الوقت متسع في حقه.
واختار أن المرأة إذا لم يمكنها الاغتسال في البيت، أو شق عليها النزول إلى الحمام وتكرره: أنها تتيمم وتصلي.
واختار أن لا حد لأقل الحيض ولا لأكثره، ولا لأقل الطهر بين الحيضين، ولا لسن الإياس من الحيض. وأن ذلك راجع إلى ما تعرفه كل امرأة من نفسها.
واختار أن تارك الصلاة عمداً: لا يجب عليه القضاء (الذيل على طبقات الحنابلة لابن رجب 404،405). ولا يشرع له. بل يكثر من النوافل، وأن القصر يجوز في قصير السفر وطويله، وأن سجود التلاوة لا يشترط له طهارة.
الباب الثامن(/24)
ابن تيمية: جنازة مشهودة
وشهادة من الخلق له بالكرامة والولاية
سبع وخمسون عاماً أمضاها الشيخ وهي عمره في جهاد مرير وسعي متواصل، ودعوة دائمة إلى الله عز وجل حتى أتته المنية مسجوناً بقلعة دمشق في سعاية للواشين والحاسدين من عباد القبور أنه يمنع الناس من زيارة الرسول والصالحين والصحيح أنه نهى الناس عن شد الرحال إليها مؤكداً أن زيارتهم سنة مستحبة وهذا قد ذكرناه في مقدمة الكتاب، وفي ردنا على المفتري الكذاب.. أقول كان لا بد بعد ذلك أن يستريح الشيخ ويؤوي -بحمد الله ومشيئته وفضله- إلىجنة الله ورضوانه وكانت جنازة لا يعهد تاريخ الإسلام مثلها إلا لإمام أهل السنة والجماعة أحمد بن حنبل رضي الله عنه وهاك وصفاً حياً لجنازته كما رواها ابن كثير في تاريخه.
وفاة شيخ الإسلام أبي العباس تقي الدين أحمد بن تيمية
قال الشيخ علم الدين البرزالي في تاريخه: وفي ليلة الاثنين العشرين من ذي القعدة توفي الشيخ الإمام العالم العلم العلامة الفقيه الحافظ الزاهد العابد المجاهد القدرة شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن شيخنا الإمام العلامة المفتي شهاب الدين أبي المحاسن عبدالحليم بن الشيخ الإمام شيخ الإسلام أبي البركات عبدالسلام بن عبدالله بن أبي القاسم محمد بن الخضر بن محمد بن الخضر بن علي بن عبدالله بن تيمية الحراني ثم الدمشقي، بقلعة دمشق بالقاعة التي كان محبوساً بها، وحضر جمع كثير إلى القلعة، وأذن لهم في الدخول عليه، وجلس جماعة عنده قبل الغسل وقرأوا القرآن وتبركوا برؤيته وتقبيله، ثم انصرفوا، ثم حضر جماعة من النساء ففعلن مثل ذلك ثم انصرفن واقتصروا على من يغسله، فلما فرغ من غسله أخرج ثم اجتمع الخلق بالقلعة والطريق إلى الجامع وامتلأ الجامع أيضاً وصحنه والكلاسة وباب البريد وباب الساعات إلى باب اللبادين والغوارة، وحضرت الجنازة في الساعة الرابعة من النهار أو نحو ذلك ووضعت في الجامع، والجند قد احتاطوا بها يحفظونها من الناس من شدة الزحام، وصلى عليه أولاً بالقلعة، تقدم في الصلاة عليه أولاً الشيخ محمد بن تمام، ثم صلى عليه بالجامع الأموي عقيب صلاة الظهر، وقد تضاعف اجتماع الناس على ما تقدم ذكره، ثم تزايد الجمع إلى ضاقت الرحاب والأزقة والأسواق بأهلها ومن فيها، ثم حمل بعد أن صلى عليه على الرؤوس والأصابع، وخرج النعش به من باب البريد واشتد الزحام وعلت الأصوات بالبكاء والنحيب والترحم عليه والثناء والدعاء له، وألقى الناس على نعشه مناديلهم وعمائمهم وثيابهم، وذهبت النعال من أرجل الناس وقباقيبهم ومناديل عمائم لا يلتفتون إليها لشغلهم بالنظر إلى الجنازة، وصار النعش على الرؤوس تارة يتقدم وتارة يتأخر، وتارة يقف حتى تمر الناس.
وخرج الناس من الجامع من أبوابه كلها وهي شديدة الزحام، كل باب أشد زحمة من الآخر، ثم خرج الناس من أبواب البلد جميعها من شدة الزحام فيها، لكن كان معظم الزحام من الأبواب الأربعة: باب الفرج الذي أخرجت منه الجنازة، وباب الفراديس، وباب النصر، وباب الجابية. وعظم الأمر بسوق الخيل وتضاعف الخلق وكثر الناس، ووضعت الجنازة هناك وتقدم للصلاة عليه هناك أخوه زين الدين عبدالرحمن، فلما قضيت الصلاة حمل إلى مقبرة الصوفية فدفن إلى جانب أخيه شرف الدين عبدالله رحمهما الله، وكان دفنه قبل العصر بيسير، وذلك من كثرة من يأتي ويصلي عليه من أهل البساتين وأهل الغوطة وأهل القرى وغيرهم، وأغلق الناس حوانيتهم ولم يتخلف عن الحضور إلا من هو عاجز عن الحضور، مع الترحم والدعاء له، ولو أنه قدر ما تخلف، وحضر نساء كثيرات بحيث حزرن بخمسة عشر ألف امرأة، غير اللاتي كن على الأسطح وغيرهن، الجميع يترحمن ويبكين عليه فيما قيل.
وأما الرجال فحزروا بستين ألفاً إلى مائة ألف إلى أكثر من ذلك إلى مائتي ألف وشرب جماعة الماء الذي فضل من غسله، واقتسم جماعة بقية السدر الذي غسل به، ودفع في الخيط الذي كان فيه الزئبق الذي كان في عنقه بسبب القمل مائة وخمسون درهماً وقيل إن الطاقية التي كانت على رأسه دفع فيها خمسمائة درهم. وحصل في الجنازة ضجيج وبكاء كثير وتضرع وختمت له ختمات كثيرة بالصالحية وبالبلد وتردد الناس إلى قبره أياماً كثيرة ليلاً ونهاراً يبيتون عنده ويصحون، ورؤيت له منامات صالحة كثيرة، ورثاه جماعة بقصائد جمة.
ثم استطرد ابن كثير قائلاً:(/25)
قال: وقد اتفق موته في سحر ليلة الاثنين المذكور، فذكر ذلك مؤذن القلعة على المنارة بها وتكلم به الحراس على الأبرجة، فما أصبح الناس إلا وقد تسامعوا بهذا الخطب العظيم والأمر الجسيم، فبادر الناس على الفور إلى الاجتماع حول القلعة من كل مكان أمكنهم المجيء منه، حتى من الغوطة والمرج، ولم يطبخ أهل الأسواق شيئاً، ولا فتحوا كثيراً من الدكاكين التي من شأنها أن تفتح أوائل النهار على العادة، وكان نائب السلطنة تنكز قد ذهب يتصيد في بعض الأمكنة، فحارت الدولة ماذا يصنعون، وجاء الصاحب شمس الدين غبريال نائب القلعة فعزاه فيه، وجلس عنده، وفتح باب القلعة لمن يدخل من الخواص والأصحاب والأحباب، فاجتمع عند الشيخ في قاعته خلق من أخصاء أصحابه من الدولة وغيرهم من أهل البلد والصالحية، فجلسوا عنده يبكون ويثنون *على مثل ليلى يقتل المرء نفسه* وكنت فيمن حضر هناك مع شيخنا الحافظ أبي الحجاج المزي رحمه الله، وكشفت عن وجه الشيخ ونظرت إليه وقبلته، وعلى رأسه عمامة بعذب مغروزة وقد علاه الشيب أكثر مما فارقناه. وأخبر الحاضرين أخوه زين الدين عبدالرحمن أنه قرأ هو والشيخ منذ دخل القلعة ثمانين ختمة وشرعاً في الحادية والثمانين، فانتهينا فيها إلى آخر اقتربت الساعة {إن المتقين في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر} فشرع عند ذلك الشيخان الصالحان الخيران عبدالله بن المحب وعبدالله الزرعي الضرير -وكان الشيخ رحمه الله يحب قراءتهما- فابتدأ من أول سورة الرحمن حتى ختموا القرآن وأنا حاضر أسمع وأرى.
ثم شرعوا في غسل الشيخ وخرجت إلى مسجد هناك ولم يدعوا عنده إلا من ساعد في غسله، منهم شيخنا الحافظ المزي وجماعة من كبار الصالحين الأخيار، أهل العلم والإيمان، فما فرغ منه حتى امتلأت القلعة وضج الناس بالبكاء والثناء والدعاء والترحم، ثم ساروا به إلى الجامع فسلكوا طريق العمادية على العادية الكبيرة، ثم عطفوا على ثلث الناطفانيين، وذلك أن سويقة باب البريد كانت قد هدمت لتصلح، ودخلوا بالجنازة إلى الجامع الأموي، والخلائق فيه بين يدي الجنازة وخلفها عن يمينها وشمالها مالا يحصى عدتهم إلا الله تعالى، فصرخ صارخ وصاح صائح هكذا تكون جنائز أئمة السنة فتباكى الناس وضجوا عند سماع هذا الصارخ ووضع الشيخ في موضع الجنائز مما يلي المقصورة، وجلس الناس من كثرتهم وزحمتهم على غير صفوف، بل مرصوصين رصاً لا يتمكن أحد من السجود إلا بكلفة جُوّ الجامع وبرّى الأزقة والأسواق، وذلك قبل آذان الظهر بقليل، وجاء الناس من كل مكان، ينوي خلق الصيام لأنهم لا يتفرغون في هذا اليوم لأكل ولا لشرب، وكثر الناس كثرة لا تحد ولا توصف، فلما فرغ من أذان الظهر أقيمت الصلاة عقبه على السدة خلاف العادة، فلما فرغوا من الصلاة خرج نائب الخطيب لغيبة الخطيب بمصر فصلى عليه إماماً، وهو الشيخ علاء الدين الخراط، ثم خرج الناس من كل مكان من أبواب الجامع والبلد كما ذكرنا، واجتمعوا بسوق الخيل، ومن الناس من تعجل بعد أن صلى في الجامع إلى مقابر الصوفية، والناس في بكاء وتهليل في مخافته كل واحد بنفسه، وفي ثناء وتأسف، والنساء فوق الأسطحة من هناك إلى المقبرة يبكين ويدعين ويقلن هذا العالم.
وبالجملة كان يوماً مشهوداً لم يعهد مثله بدمشق إلا أن يكون في زمن بني أمية حين كان الناس كثيرين، وكانت دار الخلافة، ثم دفن عند أخيه قريباً من أذان العصر على التحديد، ولا يمكن أحد حصر من حضر الجنازة، وتقريب ذلك أنه عبارة عمن أمكنه الحضور من أهل البلد وحواضره ولم يتخلف من الناس إلا القليل من الصغار والمخدرات أ.هـ.
يوم الجنائز شهادة لأهل الحق:
قال ابن كثير:
"ثم ذكر الشيخ علم الدين بعد إيراد هذه الترجمة جنازة أبي بكر بن أبي داود وعظمها، وجنازة الإمام أحمد ببغداد وشهرتها، وقال الإمام أبو عثمان الصابوني: سمعت أبا عبدالرحمن السيوفي يقول: حضرت جنازة أبي الفتح القواس الزاهد مع الشيخ أبي الحسن الدارقطني فلما بلغ إلى ذلك الجمع العظيم أقبل علينا وقال سمعت أبا سهل بن زياد القطان يقول سمعت عبدالله بن أحمد بن حنبل يقول سمعت أبي يقول: قولوا لأهل البدع بيننا وبينكم الجنائز، قال ولا شك أن جنازة أحمد بن حنبل كانت هائلة عظيمة، بسبب كثرة أهل بلده واجتماعهم لذلك، وتعظيمهم له، وأن الدولة كانت تحبه، والشيخ تقي الدين ابن تيمية رحمه الله توفي ببلدة دمشق، وأهلها لا يعشرون أهل بغداد حينئذ كثرة، ولكنهم اجتمعوا لجنازته اجتماعاً لو جمعهم سلطان قاهر، وديوان حاصر لما بلغوا هذه الكثرة التي اجتمعوها في جنازته، وانتهوا إليها. هذا مع أن الرجل مات بالقلعة محبوساً من جهة السلطان، وكثير من الفقهاء والفقراء يذكرون عنه للناس أشياء كثيرة، مما ينفر منها طباع أهل الأديان، فضلاً عن أهل الإسلام. وهذه كانت جنازته" (البداية والنهاية ص137-138 ج14).
الذين تخلفوا عن جنازته:
وقال أيضاً:(/26)
"وما علمت أحداً من أهل العلم إلا النفر اليسير تخلف عن الحضور في جنازته، وهم ثلاثة أنفس: وهم ابن جمله، والصدر، والقفجاري، وهؤلاء كانوا قد اشتهروا بمعاداته فاختفوا من الناس خوفاً على أنفسهم، بحيث أنهم علموا متى خرجوا قتلوا وأهلكهم الناس" أ.هـ.
ثناء الناس عليه بعد وفاته:
وقال أيضاً:
وتردد شيخنا الإمام العلامة برهان الدين الفزاري إلى قبره في الأيام الثلاثة وكذلك جماعة من علماء الشافعية، وكان برهان الدين الفزاري يأتي راكباً على حماره وعليه الجلالة والوقار رحمه الله.
وعملت له ختمات كثيرة ورؤيت له منامات صالحة عجيبة، ورثي بأشعار كثيرة وقصائد مطولة جداً. وقد أفردت له تراجم كثيرة، وصنف في ذلك جماعة من الفضلاء وغيرهم، وسألخص من مجموع ذلك ترجمة وجيزة في ذكر مناقبه وفضائله وشجاعته وكرمه ونصحه وزهادته وعبادته وعلومه المتنوعة الكثيرة المجودة وصفاته الكبار والصغار، التي احتوت على غالب العلوم ومفرداته في الاختيارات التي نصرها بالكتاب والسنة وأفتى بها. أ.هـ
الباب التاسع
واجبنا نحو شيخ الإسلام ابن تيمية
لم أجد في هذا الصدد خيراً من رسالة كتبها الشيخ الإمام القدوة الزاهد عماد الدين أبوالعباس بن إبراهيم بن عبدالرحمن الواسطي المتوفي سنة 711هـ، والتي كتب هذه الرسالة التي يوصي فيها اتباع الشيخ شيخ الإسلام ابن تيمية وتلاميذه أن يقوموا بحق شيخهم وإمامهم وقدوتهم، ويذكر فيها ما من الله سبحانه وتعالى به عليهم من معرفة الدين الحق والهداية إلى الصراط المستقيم على يد شيخهم ابن تيمية في وقت يعيش فيه الناس في الضلال المبين والظلمات العظيمة، ويذكر أنهم هم الفئة الذين قال فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم:
[لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك].
فالشيخ ابن تيمية وتلاميذه وأحبابه وأنصاره كانت هي هذه الفئة حتماً في زمانه فهم الفئة التي حاربت جميع المرتدين والمارقين بالحجة والبيان والسيف والسنان، فلقد حاربوا التتار المعتدين المتلبسين بظاهر الشهادة فقط والمخالفين شرائع الإسلام، وحارب الشيخ كذلك بسيفه طوائف النصيرية، والاسماعيلية والرافضة والباطنية الموالين لأهل الصليب المكفرين لصدر الإسلام، وكذلك لم نبق طائفة من أهل الباطن كأهل الحلول، والتأويل والزندقة وعباد القبور، وأمراء الظلم إلا وقد ناقشهم الشيخ وتلاميذه وأبطلوا حججهم وأظهروا كذبهم وتحريفهم أو جهلهم وانتحالهم..
لقد رأى الشيخ عماد الدين هذه النعم العظيمة على شيخ الإسلام ابن تيمية وتلاميذه، فأخذته الحمية والشهامة، والعزة على جناب الشيخ العظيم فقام يوصي أتباعه بالشيخ أن يعرفوا له حرمته، ويقدروا له مكانته وينزلوه منزلته.. واترك المجال بعد هذه المقدمة للشيخ عماد الدين ليقدم وصيته الخالدة حيث يقول:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وسبحان الله وبحمده، تقدس في علوه وجلاله. وتعالى في صفات كماله. وتعاظم في سبحات فرادنيته وجماله، وتكرم في افضاله وجمال نواله، جل أن يمثل بشيء من مخلوقاته، أو يحاط به، بل هو المحيط بمبتدعاته، لا تصوره الأوهام، ولا تقله الأجرام، ولا يعقل كنه ذاته البصائر ولا الأفهام.
الحمد لله مؤيد الحق وناصره، ودافع الباطل وكاسره، ومعز الطائع وجابره، ومذل الباغي ودائره، الذي سعد بخطوة الاقتراب من قدسه من قام بأعباء الاتباع في بنانه وأسه، وفاز بمحبوبيته في ميادين أنسه من بذل ما يهواه في طلبه من قلبه وحسه، وتثبت في مهامه الشكوك منتظراً زوال لبسه، سبحانه وبحمده له المثل الأعلى، والنور الأتم الأجلى، والبرهان الظاهر في الشريعة المثلى.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. الذي شهدت لوحدانيته الفطر، وأسلم لربوبيته ذو العقل والنظر، وظهرت أحكامه في الآي والسور، وتم اقتداره في تنزل القدر.
وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، الذي شهدت بنبوته الهواتف والأحبار، فكان قبل ظهوره ينتظر، وتلاحقت عند مبعثه معجزاته من حنين الجذع وانقياد الشجر، صلوات الله عليه وعلى آله وأصحابه أهل الخشية والحذر، والعلم المنور، فهم قدوة التابع للأثر.
وبعد. فهذه رسالة سطرها العبد الضعيف الراجي رحمة ربه وغفرانه، وكرمه وامتنانه. أحمد بن إبراهيم الواسطي. عامله الله بما هو أهله فإنه أهل التقوى وأهل المغفرة.
إلى إخوانه في الله السادة العلماء، والأئمة الأتقياء، ذوي العلم النافع، والقلب الخاشع، والنور الساطع، الذين كساهم كسوة الأتباع، وأرجو من كرمه أن يحققهم بحقائق الانتفاع:
السيد الأجل العالم، الفاضل فخر المحدثين، ومصباح المتعبدين المتوجه إلى رب العالمين، تقي الدين أبي حفص عمر بن عبدالله بن عبدالأحد بن شقير.
والشيخ الأجل، العالم الفاضل السالك الناسك ذي العلم والعمل، المكتسي من الصفات الحميدة أجمل الحلل، الشيخ شمس الدين محمد بن عبدالأحد الآمدي.(/27)
والسيد الأخ، العالم الفاضل، السالك الناسك، التقي الصالح، الذي سيماء نور قلبه لائح على صفحات وجهه، شرف الدين محمد بن المنجى.
والسيد الأخ، الفقيه العالم النبيل، الفاضل فخر المحصلين، زين الدين، عبدالرحمن بن محمود بن عبيدان البعلبكي.
والسيد الأخ العالم الفاضل، السالك الناسك، ذي اللب الراجح والعمل الصالح، والسكينة الوافرة، والفضيلة الغامرة، نور الدين محمد بن محمد بن محمد بن الصائغ.
وأخيه السيد الأخ، العالم التقي الصالح، الخير الدين، العالم الثقة، الأمين الراجح، ذي السمت الحسن، والدين المتين، في اتباع السنن، فخر الدين محمد.
والأخ العزيز الصالح، الطالب لطريق ربه، والراغب في مرضاته وحبه والعالم الفاضل، الولد شرف الدين محمد بن سعد الدين سعدالله ابن نجيح.
وغيرهم من اللائذين بحضرة شيخهم وشيخنا الإمام، الأمة الهمام، محيي السنة، وقامع البدعة، ناصر الحديث، مفتي الفرق، الفائق عن الحقائق، وموصلها بالأصول الشرعية للطالب الذائق، الجامع بين الظاهر والباطن، فهو يقضي بالحق ظاهراً وقلبه في العلي قاطن، أنموذج الخلفاء الراشدين، والأئمة المهديين، الذين غابت عن القلوب سيرهم، ونسيت الأمة حذوهم وسبلهم، فذكرهم بها الشيخ، فكان في دارس نهجهم سالكاً، ولموات حذوهم محيياً، ولأعنة قواعدهم مالكاً: الشيخ الإمام تقي الدين أبو العباس، أحمد بن عبدالحليم بن عبدالسلام ابن تيمية، أعاد الله علينا بركته، ورفع إلى مدارج العلى درجته، وأدام توفيق السادة المبدوّ بذكرهم وتسديدهم، وأجزل لهم حظهم، ومزيدهم.
السلام عليكم معشر الإخوان ورحمة الله وبركاته، جعلنا الله وإياكم ممن ثبت على قرع نوائب الحق جأشه، واحتسب لله ما بذله من نفسه في إقامة دينه، وما احتوشته من ذلك وحاشه، واحتذى حذو السبق الأولين، من المهاجرين والأنصار، والذين لم تأخذهم في الله لومة لائم، فما ضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، مع قلة عددهم في أول الأمر، فكانوا مع ذلك كل منهم مجاهد بدين الله قائم. ونرجو من كرم الله تعالى أن يوفقنا لأعمالهم، ويرزق قلوبنا قسطاً من أحوالهم، وينظمنا في سلكهم، تحت سجفتهم ولوائهم، مع قائدهم وإمامهم سيد المرسلين، وإمام المتقين، محمد صلوات الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أذكركم رحمكم الله بما أنتم به عالمون عملاً بقوله تعالى: {وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين}.
وأبدأ من ذلك بأن أوصي نفسي وإياكم بتقوى الله، وهي وصية الله تعالى إلينا وإلى الأمم من قبلنا، كما بين سبحانه وتعالى قائلاً وموصياً: {ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله}.
وقد علمتم تفاصيل التقوى على الجوارح والقلوب، بحسب الأوقات والأحوال: من الأقوال، والأعمال، والإيرادات، والنيات.
وينبغي لنا جميعاً أن لا نقنع من الأعمال بصورها حتى نطالب قلوبنا بين يدي الله تعالى بحقائقها. ومع ذلك فلتكن لنا همة علوية، تترامى إلى أوطان القرب، ونفحات المحبوبية والحب. فالسعيد من حظي من ذلك بنصيب. وكان مولاه منه على سائر الأحوال قريباً بخصوص التقريب.
فيكتسي العبد من ذلك ثمرة الخشية والتعظيم، للعزيز العظيم، فالحب والخشية ثابتان في الكتاب العزيز والسنة المأثورة. قال تعالى: {يحبهم ويحبونه} (المائدة:54) {والذين آمنوا أشد حباً لله} (البقرة:165) وقال تعالى: {إنما يخشى الله من عباده العلماء} (فاطر:28) وفي الحديث [أسألك حبك وحب من أحبك وحب عمل يقربني إلى حبك] (رواه الترمذي عن ابن عباس في دعاء طويل) وفي الحديث [لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله] (رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن أنس بدون قوله [ولخرجتم الخ] وهو بهذه الزيادة عند الطبراني في الكبير والحاكم والبيهقي عن أبي الدرداء).
ومعلوم أن الناس يتفاوتون في مقامات الحب والخشية، في مقام أعلى من مقام، ونصيب أرفع من نصيب، فلتكن همة أحدنا من مقامات الحب والخشية أعلاه، ولا يقنع إلا بذروته وذراه، فالهمم القصيرة تقنع بأيسر نصيب، والهمم العلية تعلو مع الأنفاس إلى قريب الحبيب لا يشغلنا عن ذلك ما هو دونه من الفضائل، والعاقل لا يقنع بأمر مفضول عن حال فاضل. ولتكن الهمة منقسمة على نيل المراتب الظاهرة، وتحصيل المقامات الباطنة. فليس من الإنصاف الانضباب إلى الظواهر والتشاغل عن المطالب العلوية ذوات الأنوار البواهر.(/28)
وليكن لنا جميعاً بين الليل والنهار ساعة، نخلو فيها بربنا جل اسمه وتعالى قدسه، نجمع بين يديه في تلك الساعة همومنا، ونطرح أشغال الدنيا من قلوبنا، فنزهد فيما سوى الله ساعة من نهار، فبذلك يعرف الإنسان حاله مع ربه، فمن كان له مع ربه حال، تحركت في تلك الساعة عزائمه. وابتهجت بالمحبة والتعظيم سرائره، وطارت إلى العلى زفراته وكوامنه. وتلك الساعة أنموذج لحاله العبد في قبره، حين خلوه عن ماله وحبه. فمن لم يخل قلبه لله ساعة من نهار، لما احتوشه من الهموم الدنيوية وذوات الآصار. فليعلم أنه ليس له ثم رابطة علوية، ولا نصيب من المحبة ولا المحبوبية، فليبك على نفسه، ولا يرضى منها إلا بنصيب من قرب ربه وأنسه.
فإذا حصلت تلك الساعة، أمكن إيقاع الصلوات الخمس على نمطها من الحضور والخشوع، والهيبة للرب العظيم في السجود والركوع فلا ينبغي لنا أن نبخل على أنفسنا في اليوم والليلة من أربع وعشرين ساعة بساعة واحدة لله الواحد القهار، نعبده فيها حق عبادته، ثم نجتهد على إيقاع الفرائض على ذلك النهج في رعايته، وذلك طريق لنا جميعاً إن شاء الله تعالى إلى النفوذ، فالفقيه إذا لم ينفذ في علمه حصل له الشطر الظاهر، وفاته الشطر الباطن. لاتصاف قلبه بالجمود. وبعده في العبادة والتلاوة عن لين القلوب والجلود. كما قال تعالى: {تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله} (الزمر:23) وبذلك يرتقي الفقيه عن فقهاء عصرنا. ويتميز به عنهم، فالنافذ من الفقهاء له البصيرة المنورة، والذوق الصحيح، والفراسة الصادقة، والمعرفة التامة، والشهادة على غيره بصحيح الأعمال وسقيمها. ومن لم ينفذ لم تكن له هذه الخصوصية، وأبصر بعض الأشياء وغاب عنه بعضها.
فيتعين علينا جميعاً طلب النفوذ إلى حضرة قرب المعبود، ولقائه بذوق الإيقان، لنعبده كأننا نراه كما جاء في الحديث (حديث جبريل في سؤاله عن الإسلام والإيمان والإحسان فقال له [الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك] رواه البخاري ومسلم عن عمر وعن ابنه رضي الله عنهما).
وبعد ذلك الخطوة في هذه الدار بلقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، غيباً في غيب، وسراً في سر، بالعكوف على معرفة أيامه وسننه واتباعها. فتبقى البصيرة شاخصة إليه، تراه عيانا في الغيب، كأنها معه صلى الله عليه وسلم، وفيأيامه. فيجاهد على دينه. ويبذل ما استطاع من نفسه في نصرته.
وكذلك من سلك في طريق النفوذ يرجى له أن يلقى ربه بقلبه غيباً في غيب، وسراً في سر، فيرزق القلب قسطاً من المحبة والخشية. والتعظيم اليقيني، فيرى الحقائق بقلبه من وراء ستر رقيق. وذلك هو المعبر عنه بالنفوذ. ويصل إلى قلبه من وراء ذلك الستر ما يغمره من أنوار العظمة والجلال والبهاء والكمال، فيتنور العلم الذي اكتسبه العبد. ويبقى له كيفية أخرى زائدة على الكيفية المعهودة من البهجة والأنوار والقوة في الاعلان والأسرار.
فلا ينبغي لنا أن نتشاغل عن نيل هذه الموهبة السنية، بشواغل الدنيا وهمومها، فتنقطع بذلك -ما تقدم- بالشيء المفضول عن الأمر المهم الفاضل. فإذا سلكنا في ذلك برهة من الزمان، ورزقنا الله تعالى نفوذاً، وتمكنا في ذلك النفوذ فلا تعود هذه العوارض الجزئيات الكونيات تؤثر فينا إن شاء الله تعالى.
وليكن شأن أحدنا اليوم: التعديل بين المصالح الدنيوية والفضائل العلمية، والتوجهات القلبية، ولا يقنع أحدنا بأحد هذه الثلاثة عن الأخريين. فيفوته المطلوب. ومتى اجتهد في التعديل فإنه إن شاء الله تعالى بقدر ما يحصل للعبد جزء من أحدهم، حصل جزءاً من الآخر. ثم بالصبر على ذلك تجتمع الأجزاء المحصلة، فتصير مرتبة عالية عند النهاية - إن شاء الله تعالى.
هذا وإن كنتم -أيدكم الله تعالى- بذلك عالمين، لكن الذكرى تنفع المؤمنين.
ثم يستطرد الشيخ عماد الدين قائلاً في رسالته:
واعلموا -أيدكم الله- أنه يجب عليكم أن تشكروا ربكم تعالى في هذا العصر، حيث جعلكم بين جميع أهل هذا العصر كالشامة البيضاء في الحيوان الأسود. لكن من لم يسافر إلى الأقطار، ولم يتعرف أحوال الناس، لا يدري قدر ما هو فيه من العافية. فأنتم إن شاء الله تعالى في حق هذه الأمة الأولى كما قال تعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس. تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله} (آل عمران:110) وكما قال تعالى: {الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور} (الحج:41).
أصبحتم إخواني تحت سنجق (أي تحت لوائه ورايته) رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن شاء الله تعالى، مع شيخكم وإمامكم، وشيخنا وإمامنا المبدوء بذكره رضي الله عنه. قد تميزتم عن جميع أهل الأرض، فقائها وفقرائها، وصوفيتها، وعوامها: بالدين الصحيح.(/29)
وقد عرفتم ما أحدث الناس من الأحداث، في الفقهاء والفقراء والصوفية والعوام. فأنتم اليوم في مقابلة الجهمية من الفقهاء. نصرتم الله ورسوله في حفظ ما أضاعوه من دين الله، تصلحون ما أفسدوه من تعطيل صفات الله.
وأنتم أيضاً في مقابلة من لم ينفذ في علمه من الفقهاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجمد على مجرد تقليد الأئمة فإنكم قد نصرتم الله ورسوله في تنفيذ العلم إلى أصوله من الكتاب والسنة، واتحاد أقوال الأئمة، تأسياً بهم لا تقليداً لهم.
وأتم أيضاً في مقابلة ما أحدثته أنواع الفقراء من الأحمدية (أتباع أحمد الرفاعي البطائحي وسموا أيضاً بالبطائحية)، والحريرية (فرقة صوفية)، من إظهار شعار المكاء والتصدية (المكاء صوت القطط، والتصديد: التصفيق وكان كفار قلة يطوفون بالبيت ويصفقون ويصفرون في طوافهم، وشبه الشيخ الصوفية بذلك لأن أذكارهم برفع الأصوات لقولهم هوهو. تكون كالمكاء أو النباح ولأنهم يصفقون في أذكارهم ويتمايلون ويصرخون)، ومؤاخاة النساء والصبيان، والأعراض عن دين الله إلى خرافات مكذوبة عن مشايخهم، واستنادهم إلى شيوخهم وتقليدهم في صائب حركاتهم وخطئها، وإعراضهم عن دين الله الذي أنزله من السماء. فأنتم بحمد الله تجاهدون هذا الصنف أيضاً كما تجاهدون من سبق. حفظتم من دين الله ما أضاعوه. وعرفتم ما جهلوه تقومون من الدين ما عوجوه، وتصلحون ما أفسدوه.
وأنتم أيضاً في مقابلة رسمية الصوفية والفقهاء، وما أحدثوه من الرسوم الوضعية، والآصار الابتداعية، من التصنع باللباس، والاطراق والسجادة لنيل الرزق من المعلوم، ولبس البقيار، والاكمام الواسعة في حضرة الدرس، وتنميق الكلام، والعدو بين يدي المدرس راكعين، حفظاً للمناصب، واستجلاباً للرزق والادرار.
فحفظ هؤلاء في عبادة الله غيره، وتألهوا سواه. ففسدت قلوبهم من حيث لا يشعرون. يجتمعون لغير الله بل للمعلوم، ويلبسون للمعلوم وكذلك في أغلب حركاتهم يراعون ولاة المعلوم. فضيعوا كثيراً من دين الله وأماتوه. وحفظتم أنتم ما ضيعوه، وقومتم ما عوجوه.
وكذلك أنتم في مقابلة ما أحدثته الزنادقة من الفقراء والصوفية من قولهم بالحلول والاتحاد، وتأله المخلوقات. كاليونسية، والعربية، والصدرية، والسبعينية، والتلمسانية. فكل هؤلاء بدلوا دين الله تعالى وقلبوه. وأعرضوا عن شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فاليونسية يتألهون شيخهم، ويجعلونه مظهراً للحق، ويستهينون بالعبادات، ويظهرون بالفرعنة والصولة، والسفاهة والمحالات، لما وقر في بواطنهم من الخيالات الفاسدة، وقبلتهم الشيخ يونس. ورسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن المجيد عنهم بمعزل، يؤمنون به بألسنتهم، ويكفرون به بأفعالهم.
وكذلك الاتحادية، يجعلون الوجود مظهراً للحق، باعتبار أن لا متحرك في الكون سواه، ولا ناطق في الأشخاص غيره. وفيهم من لا يفرق بين الظاهر والمظهر، فيجعل الأمر كموج البحر، فلا يفرق بين عين الموجة وبين عين البحر، حتى إن أحدهم يتوهم أنه الله، فينطق على لسانه، ثم يفعل ما أراد من الفواحش والمعاصي، لأنه يعتقد ارتفاع الثنوية فمن العابد ومن المعبود؟ صار الكل واحداً.
اجتمعنا بهذا الصنف في الربط والزوايا.
فأنتم بحمد الله قائمون في وجه هؤلاء أيضاً تنصرون الله ورسوله، وتذبون عن دينه، وتعملون على إصلاح ما أفسدوا وعلى تقويم ما عوجوا فإن هؤلاء محوا رسم الدين، وقلعوا أثره. فلا يقال أفسدوا ولا عوجوا بل بالغوا في هدم الدين ومحو أثره. ولا قربة أفضل عند الله من القيام بجهاد هؤلاء بمهما أمكن، وتبين مذاهبهم للخاص والعام. وكذلك جهاد كل من الحد في دين الله وزاغ عن حدوده وشرعيته. كائنا في ذلك ما كان من فتنة وقول. كما قيل:
إذا رضي الحبيب فلا أبالي * أقام الحي أم جد الرحيل.
وبالله المستعان.
وكذلك أنتم بحمد الله قائمون بجهاد الأمراء والأجناد، تصلحون ما أفسدوا من المظالم والاجحافات، وسوء السيرة الناشئة عن الجهل بدين الله، بما أمكن. وذلك لبعد العهد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. لأن اليوم له سبعمائة سنة، فأنتم بحمد الله تجددون ما دثر من ذلك واندثر.
وكذلك أنتم بحمد الله قائمون في وجوه العامة، مما أحدثوا من تعظيم الميلادة. والقلندس، وخميس البيض. والشعانين، وتقبيل القبور والأحجار، والتوسل عندها. ومعلوم أن ذلك كله من شعائر النصارى والجاهلية. وإنما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ليوحد الله ويعبد وحده، ولا يأله معه شيء من مخلوقاته. بعثه الله تعالى ناسخاً لجميع الشرائع والأديان والأعياد. فأنتم بحمد الله قائمون بإصلاح ما أفسد الناس من ذلك.
وقائمون في وجوه من ينصر هذه البدع من مارقي الفقهاء، أهل الكيد والضرار لأولياء الله، أهل المقاصد الفاسدة. والقلوب التي هي عن نصر الحق حائدة.(/30)
وإنما أعرض هذا الضعيف عن ذكر قيامكم في وجوه التتر والنصارى، واليهود، والرافضة، والمعتزلة، والقدرية، وأصناف أهل البدع والضلالات لأن الناس متفقون على ذمهم. يزعمون أنهم قائمون برد بدعتهم. ولا يقومون بتوفية حق الرد عليهم كما تقومون. بل يعلمون ويجبنون عن اللقاء فلا يجاهدون، وتأخذهم في الله اللائمة. لحفظ مناصبهم، وإبقاء على أعراضهم.
سافرنا البلاد فلم نر من يقوم بدين الله في وجوه مثل هؤلاء -حق القيام- سواكم، فأنتم القائمون في وجوه هؤلاء إن شاء الله. بقيامكم بنصرة شيخكم وشيخنا -أيده الله- حق القيام، بخلاف من ادعى من الناس أنهم يقومون بذلك.
فصبراً يا إخواني على ما أقامكم الله فيه، من نصرة دينه وتقويم اعوجاجه، وخذلان أعدائه. واستعينوا بالله، ولا تأخذكم فيه لومة لائم. وإنما هي أيام قلائل. والدين منصور. قد تولى الله اقامته ونصره، ونصرة من قام به من أوليائه، إن شاء الله، ظاهراً وباطناً.
وابذلوا فيما أقمتم فيه ما أمكنكم من الأنفس والأموال، والأفعال، والأقوال، عسى أن تلحقوا بذلك بسلفكم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلقد عرفتم ما لقوا في ذات الله، كما قال خبيب حين صلب على الجذع:
وذلك في ذات الإله، وإن يشأ يبارك على أوصال شلو ممزع
وقد عرفتم ما لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم من الضر والفاقة في شعب بني هاشم، وما لقي السابقون الأولون من التعذيب والهجرة إلى الحبشة، وما لقي المهاجرون والأنصار في أحد، وفي بئر معونة، وفي قتال أهل الردة، وفي جهاد الشام والعراق، وغير ذلك.
وانظروا كيف بذلوا نفوسهم وأموالهم لله، حبا له، وشوقاً إليه. فكذلك أنتم، رحمكم الله. كل منكم على قدر إمكانه واستطاعته، بفعله، وبقوله، وبخطه، وبقلبه، وبدعائه. كل ذلك جهاد. أرجو أن لا يخيب من عامل الله بشيء من ذلك. إذ لا عيش إلا في ذلك، ولو لم يكن فيه إلا همكم، مزاحمة لأهل الزيغ، مشوشة لهم، تبغضونهم في الله، وتطلبون استقامتهم في دين الله. وذلك من الجهاد الباطن إن شاء الله تعالى.
ثم يستطرد الشيخ علم الدين أيضاً قائلاً:
ثم اعرفوا إخواني حق ما أنعم الله عليكم من قيامكم بذلك. واعرفوا طريقكم إلى ذلك، واشكروا الله تعالى عليها. وهو أن أقام لكم ولنا في هذا العصر مثل سيدنا الشيخ الذي فتح الله به أقفال القلوب، وكشف به عن البصائر عمى الشبهات وحيرة الضلالات، حيث تاه العقل بين هذه الفرق، ولم يهتد إلى حقيقة دين الرسول صلى الله عليه وسلم.
ومن العجب أن كلا منهم يدعي أنه على دين الرسول، حتى كشف الله لنا ولكم بواسطة هذا الرجل عن حقيقة دينه الذي أنزله من السماء وارتضاه لعباده.
واعلموا أن في آفاق الدنيا أقواماً يعيشون أعمارهم بين هذه الفرق، يعتقدون أن تلك البدع حقيقة الإسلام. فلا يعرفون الإسلام إلا هكذا.
فاشكروا الله الذي أقام لكم في رأس السبعمائة من الهجرة من بين لكم أعلام دينكم.
وهداكم الله به وإيانا إلى نهج شريعته.وبين لكم بهذا النور المحمدي ضلالات العباد وانحرافاتهم، فصرتم تعرفون الزائغ من المستقيم، والصحيح من السقيم. وأرجو أن تكونوا أنتم الطائفة المنصورة. الذين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم. وهم بالشام إن شاء الله تعالى.
فصل
ثم إذا علمتم ذلك، فاعرفوا حق هذا الرجل الذي هو بين أظهركم وقدره، ولا يعرف حقه وقدره إلا من عرف دين الرسول صلى الله عليه وسلم وحقه وقدره. فمن وقع دين الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من قلبه بموقع يستحقه، عرف حق ما قام به هذا الرجل بين أظهر عباد الله، يقوم معوجهم، ويصلح فسادهم، ويلم شعثهم، جهد إمكانه، في الزمان المظلم، الذي انحرف فيه الدين، وجهلت السنن، وعهدت البدع، وصار المعروف منكراً، والمنكر معروفاً، والقابض على دينه، كالقابض على الجمر، فإن أجر من قام بإظهار هذا النور في هذه الظلمات لا يوصف، وخطره لا يعرف.
فالله الله في حفظ الأدب معه، والانفعال لأوامره، وحفظ حرماته في الغيب والشهادة، وحب من أحبه، ومجانبة من أبغضه وتنقصه ورد غيبته، والانتصار له في الحق.
واعلموا رحمكم الله، أن هنا من سافر إلى الأقاليم، وعرف الناس وأذواقهم وأشرف على غالب أحوالهم، فوالله، ثم والله ثم والله، لم ير أديم تحت السماء مثل شيخكم: علماً، وعملاً، وحالاً، وخلقاً، واتباعاً، وكرماً وحلماً. في حق نفسه، وقياماً في حق الله عند انتهاك حرماته. أصدق الناس عقداً، وأصلحهم علماً وعزماً، وأنفذهم وأعلاهم في انتصار الحق وقيامه همة، وأسخاهم كفاً، وأكملهم اتباعاً لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم.
ما رأينا في عصرنا هذا من تستجلي النبوة المحمدية وسنتها من أقواله وأفعاله إلا هذا الرجل. بحيث يشهد القلب الصحيح أن هذا هو الإتباع حقيقة.(/31)
وبعد ذلك كله فقول الحق فريضة، فلا ندعي فيه العصمة عن الخطأ، ولا ندعي إكماله لغايات الخصائص المطلوبة. فقد يكون في بعض الناقصين خصوصية مقصودة مطلوبة، لا يتم الكمال إلا بهاتيك الخصوصية وهذا القدر لا يجهله منصف عارف. ولولا أن قول الحق فريضة، والتعصب للإنسان هوى، لأعرضت عن ذكر هذا -لكن يجب قول الحق- إن ساء أو سر. والله المستعان.
إذا علمتم ذلك -أيدكم الله تعالى- فاحفظوا قلبه، فإن مثل هذا قد يدعي عظيماً في ملكوت السماء. واعملوا على رضاه بكل ممكن واستجلبوا وده لكم، وحبه إياكم بمهما قدرتم عليه. فإن مثل هذا يكون شهيداً، والشهداء في العصر لمثله، فإن حصلت لكم محبته رجوت لكم بذلك خصوصية أكتمها ولا أذكرها، وربما يفطن لها الأذكياء منكم، وربما سمحت نفسي بذكرها، كيلا أكتم عنكم نصحي.
وتلك الخصوصية: هي أن ترزقوا قسطاً من نصيبه الخاص المحمدي مع الله تعالى. فإن ذلك إنما يسري بواسطة محبة الشيخ للمريد، واستجلاب المريد محبة الشيخ بتأتيه معه، وحفظ قلبه وخاطره، واستجلاب وده ومحبته، فأرجو بذلك لكم قسطاً مما بينه وبين الله تعالى، فضلاً عما تكسبونه من ظاهر علمه وفوائده وسياسته، إن شاء الله تعالى.
وأرجو أنكم إذا فتحتم بينكم وبين ربكم تعالى بصحيح المعاملة بحفظ تلك الساعة في الصلوات الخمس والتهجد أن ينفتح لكم معرفة حقيقة هذا الرجل ونبأه إن شاء الله تعالى.
وإنما ذكرت حفظ الساعة -وإن كان في الصلوات الخمس كفاية. إذا قام العبد فيها لحق الله تعالى- وذلك لأن الصلوات قد تهجم على العبد وقلبه مأخوذ في جوانب الظاهر، فلا يعرف نصيب قلبه من ربه فيها، فإذا كان للعبد ساعة بين الليل والنهار عرف فيها نصيب قلبه من ربه، فإذا جاءت الصلوات، عرف فيها حاله وزيادته ونقصانه باعتبار حالته مع ربه في تلك الساعة. وبالله المستعان.
وإذا عرفتم قدر دين الله تعالى الذي أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم، وعرفتم قدر حقائق الدين الذي يعبر عنه بالنفوذ إلى الله تعالى، والحظوة بقربه. ثم عرفتم اجتماع الأمرين في شخص معين، ثم عرفتم انحراف الأمة عن الصراط المستقيم، وقيام الرجل المعين الجامع الظاهر والباطن في وجوه المنحرفين، بنصر الله تعالى ودينه، ويقوم معوجهم، ويلم شعثهم، ويصلح فاسدهم. ثم سمعتم بعد ذلك طعن طاعن عليه من أصحابه أو من غيرهم، فإنه لا يخفى عنكم محق هو، أو مبطل؟ إن شاء الله.
وبرهان ذلك: أن المحق طالب الهدى والحق بغرض عند من أنكر عليه ذلك الفعل الذي أنكره، إما بصيغة السؤال أو الاستفهام بالتلطف عن ذلك النقص الذي رآه فيه، أو بلغه عنه، فإن وجد هناك اجتهاداً، أو رأياً أو حجة، قنع بذلك، وأمسك، ولم يفش ذلك إلى غيره، إلا مع إقامة ما بينه من الاجتهاد، أو الرأي، أو الحاجة، ليسد الخلل بذلك. فمثل هذا يكون طالب هدى، محباً، ناصحاً، يطلب الحق، ويروم تقويم أستاذه عن انحرافه بتعريفه وتفويضه. كما يروم أستاذه تقويمه. كما قال بعض الخلفاء الراشدين (هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه -كذا في المنقول عنه- أ.هـ من هامش الأصل وذلك في أول خطبة قام بها بعد الخلافة ويروى أيضاً عن عمر) -ولا يحضرني اسمه- "إذا اعوججت فقوموني".
فهذا حق واجب بين الأستاذ والطالب. فإن الأستاذ يطلب إقامة الحق على نفسه ليقوم به، ويتهم نفسه أحياناً، ويتعرف أحواله من غيره، مما عنده من النصفة وطلب الحق، والحذر من الباطل، كما يطلب المريد ذلك من شيخه من التقويم، وإصلاح الفاسد من الأعمال والأقوال.
ومن براهين المحق: أن يكون عدلاً في مدحه، عدلاً في ذمه، لا يحمله الهوى -عند وجود المراد- على الإفراط في المدح، ولا يحمله الهوى -عند تعذر المقصود- على نسيان الفضائل والمناقب، وتعديد المساوئ والمثالب.
فالمحق في حالتي غضبه ورضاه ثابت على مدح من مدحه وأثنى عليه، ثابت على ذم من ثلبه وحطط عليه.
وأما من عمل كراسة في عد مثالب هذا الرجل القائم بهذه الصفات الكاملة بين أصناف هذا العالم المنحرف، في هذا الزمان المظلم، ثم ذكر مع ذلك شيئاً من فضائله، ويعلم أنه ليس المقصود ذكر الفضائل، بل المقصود تلك المثالب. ثم أخذ الكراسة يقرؤها على أصحابه واحداً واحداً في خلوة، يوقف بذلك همهم عن شيخهم، ويريهم قدحاً فيه. فإني أستخير الله تعالى وأجتهد رأيي في مثل هذا الرجل، وأقول انتصاراً لمن ينصر دين الله، بين أعداء الله في رأس السبعمائة، فإن نصره مثل هذا الرجل واجبة على كل مؤمن كما قال ورقة بن نوفل: "لئن أدركني يومك لأنصرنك نصراً مؤزراً" (رواه البخاري في بدء الوحي) ثم أسأل الله تعالى العصمة فيما أقول عن تعدي الحدود والإخلاد إلى الهوى.
أقول: مثل هذا -ولا أعين الشخص المذكور بعينه- لا يخلو من أمور:(/32)
أحدها: أن يكون ذا سن تغير رأيه لسنه. لا بمعنى أن اضطراب بل بمعنى أن السن إذا كبر يجتهد صاحبه للحق. ثم يضعه في غير مواضعه. مثلاً يجتهد أن إنكار المنكر واجب. وهذا منكر. وصاحبه قد راج على الناس. فيجب على تعريف الناس ما راج عليهم، وتغيب عليه المفاسد في ذلك.
فمنها: تخذيل الطلبة، وهم مضطرون إلى محبة شيخهم، ليأخذوا عنه. فمتى تغيرت قلوبهم عليه ورأوا فيه نقصاً حرموا فوائده الظاهرة والباطنة. وخيفت عليهم المقت من الله أولاً. ثم من الشيخ ثانياً.
المفسدة الثانية: إذا شعر أهل البدع الذين نحن وشيخنا قائمون الليل والنهار بالجهاد والتوجه في وجوههم لنصرة الحق: أن في أصحابنا من ثلب رئيس القوم بمثل هذا. فإنهم يتطرقون بذلك إلى الاشتفاء من أهل الحق ويجعلونه حجة لهم.
المفسدة الثالثة: تعديد المثالب في مقابلة ما يستغرقها ويزيد عليها بأضعاف كثيرة من المناقب، فإن ذلك ظلم وجهل.
والأمر الثاني، من الأمور الموجبة لذلك: تغير حالة وقلبه. وفساد سلوكه بجسد كان كامناً فيه. وكان يكتمه برهة من الزمان. فظهر ذلك الكمين في قالب، صورته حق ومعناه باطل.
وفي الجملة -أيدكم الله- إذا رأيتم طاعنا على صاحبكم فافتقدوه في عقله أولاً، ثم في فهمه، ثم في صدقه، ثم في سنه. فإذا وجدتم الاضطراب في عقله، دلكم على جهله بصاحبكم. وما يقول فيه وعنه. ومثله قلة الفهم. ومثله عدم الصدق، أو قصوره، لأن نقصان الفهم يؤدي إلى نقصان الصدق بحسب ما غاب عقله عنه. ومثله العلو في السن فإنه يشيخ فيه الرأي والعقل كما تشيخ فيه القوى الظاهرة الحسية، فاتهموا مثل هذا الشخص واحذروه، واعرضوا عنه إعراض مداراة بلا جدل ولا خصومة.
وصفة الامتحان بصحة إدراك الشخص وعقله وفهمه: أن تسألوه عن مسألة سلوكية. أو علمية، فإذا أجاب عنها فأوردوا على الجواب إشكالاً متوجهاً بتوجيه صحيح، فإن رأيتم الرجل يروح يميناً وشمالاً، ويخرج عن ذلك المعنى إلى معان خارجة، وحكايات ليست في المعنى حتى يتسنى رب المسألة سؤاله، حيث توهه عنه بكلام لا فائدة فيه، فمثل هذا لا تعتمدوا على طعنه، ولا على مدحه، فإنه ناقص الفطرة، كثير الخيال، لا يثبت على تحري المدارك العلمية، ولا تنكروا مثل إنكار هذا. فإنه اشتهر قيام ذي الخويصرة التميمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله له: "اعدل -فإنك لم تعدل- إن هذه قسمة لم يرد بها وجه الله تعالى" أو نحو ذلك.
فوقوع هذا وأمثاله من بعض معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه قال: [لتركبن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة] وإن كان ذلك في اليهود والنصارى، لكن لما كانوا منحرفين عن نهج الصواب، فكذلك يكون في هذه الأمة من يحذو حذو كل منحرف وجد في العالم، متقدماً كان أو متأخراً، حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلوه.
يا سبحان الله العظيم، أين عقلاء هؤلاء؟ أعميت أبصارهم وبصائرهم؟ أفلا يرون ما الناس فيه من العمى والحيرة في الزمان المظلم المدلهم، الذي قد ملكت فيه الكفار معظم الدنيا؟ وقد بقيت هذه الخطة الضيقة، يشم المؤمنون فيها رائحة الإسلام؟ وفي هذه الخطة الضيقة من الظلمات من علماء السوء والدعاة إلى الباطل وإقامته، ودحض الحق وأهله ما لا يحصر في كتاب. ثم إن الله تعالى قد رحم هذه الأمة بإقامة رجل قوي الهمة، ضعيف التركيب، قد فرق نفسه وهمه في مصالح العالم، وإصلاح فسادهم، والقيام بمهماتهم، وحوائجهم، ضمن ما هو قائم بصدد البدع والضلالات، وتحصيل مواد العلم النبوي الذي يصلح به فساد العالم، ويردهم إلى الدين الأول العتيق جهد إمكانه، وإلا فأين حقيقة الدين العتيق؟
فهو مع هذا كله قائمبجملة ذلك وحده، وهو منفرد بين أهل زمانه، قليل ناصره، كثير خاذله، وحاسده، والشامت فيه!!
فمثل هذا الرجل في هذا الزمان، وقيامه بهذا الأمر العظيم الخطير فيه. أيقال له: لم ترد على الأحمدية؟ لم لا تعدل في القسمة؟ لم تدخل على الأمراء؟ لم تقرب زيداً وعمراً؟
أفلا يستحي العبد من الله؟ يذكر مثل هذه الجزئيات في مقابلة هذا العبء الثقيل؟ ولو حوقق الرجل على هذه الجزئيات وجد عنده نصوص صحيحة، ومقاصد صحيحة ونيات صحيحة!! تغيب عن الضعفاء العقول، بل عن الكمل منهم، حتى يسمعوها.
أما رده على الطائفة الفلانية أيها المفرط التائه، الذي لا يدري ما يقول. أفيقوم دين محمد بن عبدالله الذي أنزل من السماء، ألا بالطعن على هؤلاء؟ وكيف يظهر الحق إن لم يخذل الباطل؟ لا يقول مثل هذا إلا تائه، أو مسن أو حاسد.(/33)
وكذلك القسمة للرجل، في ذلك اجتهاد صحيح. ونظر إلى مصالح تترتب على إعطاء قوم دون قوم، كما خص الرسول صلى الله عليه وسلم الطلقاء بمائة من الإبل، وحرم الأنصار! حتى قال منهم إحداثهم شيئاً في ذلك. لاذووا أحلامهم، وفيها قام ذو الخويصرة فقال ما قال، وأما دخوله على الأمراء، فلو لم يكن، كيف كان شم الأمراء رائحة الدين العتيق الخاص؟ ولو فتش المفتش، لوجد هذه الكيفية التي عندهم من رائحة الدين، ومعرفة المنافقين، إنما اقتبسوها من صاحبكم.
وخاتمة الخير على عمله، وأن يرده عن انحرافه إلى نهج الصواب، بحيث لا يبقى معشره يعيبه بعلمه، وتصنيفه، من أولي العقول والأحكام ونستغفر الله العظيم، من الخطأ والزلل، في القول والعمل. والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم أ.هـ (تمت هذه الرسالة التي سماها مؤلفها الشيخ علم الدين رحمه الله التذكرة والإغيار، والانتصار للأبرار وقد نقلناها من كتاب العقود الدرية لابن عبدالهادي من ص291 إلى 321).
الباب العاشر
ابن تيمية: مصنفاته وتآليفه
مصنفات ابن تيمية تربو على ثلاثمائة مجلد وقد وزعت مصنفاته على سني عمره فوجد أنها تبلغ في كل يوم أربعة كراريس، ولا غرر في ذلك فقد كتب الرسالة الحموية وهي تقع في نحو سبعين صفحة من القطع المتوسط في جلسة بين الظهر والعصر كما قال الذهبي. وكتب أربعة مجلدات كاملة في الرد على الاخنائي المالكي في مسألة شد الرحال إلى زيارة القبور وأربع مجلدات على سؤال واحد سماه (الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح). وهذه طائفة من تصانيفه كما ذكرها ابن رجب. قال:
وأما تصانيفه رحمه الله: فهي أشهر من أن تذكر، واعرف من أن تنكر. سارت مسير الشمس في الأقطار، وامتلأت بها البلاد والأمصار. قد جاوزت حد الكثرة، فلا يمكن أحد حصرها، ولا يتسع هذا المكان لعد المعروف منها، ولا ذكرها.
ولنذكر نبذة من أسماء أعيان المصنفات الكبار: كتاب (الإيمان) مجلد، كتاب (الاستقامة) مجلدان (جواب الاعتراضات المصرية على الفتاوي الحموية)، أربع مجلدات، كتاب (تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية) في ست مجلدات كبار، كتاب (المحنة المصرية) مجلدان (المسائل الاسكندرانية) مجلد (الفتاوى المصرية) سبع مجلدات.
وكل هذه التصانيف ما عدا كتاب (الإيمان) كتبه وهو بمصر في مدة سبع سنين صنفها في السجن. وكتب معها أكثر من مائة لفة ورق أيضاً، كتاب (درء تعارض العقل والنقل) أربع مجلدات كبار. والجواب عما أورده للشيخ كمال الدين بن الشربشي على هذا الكتاب، نحو مجلد كتاب (منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية) أربع مجلدات (الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح) مجلدان (شرح أول المحصل للرازي) مجلد (شرح بضعة عشر مسألة من الأربعين للرازي) مجلدان (الرد على المنطق) مجلد كبير (الرد على البكري في مسألة الاستغاثة) مجلد (الرد على أهل كسروان الروافض) مجلدان (الصفدية)، جواب من قال: إن معجزات الأنبياء قوى نفسانية مجلد (الهلاونية) مجلد (شرح عقيدة الأصبهاني) مجلد (شرح العمدة) للشيخ موفق الدين. كتب منه نحو أربع مجلدات (تعليقة على المحرر) في الفقه لجده عدة مجلدات (الصارم المساول على شاتم الرسول) مجلد (بيان الدليل على بطلان التحليل) مجلد (اقتضاء الصراط المستقيم في مخالفة أصحاب الجحيم) مجلد (التحرير في مسألة حفير) مجلد في مسألة من القسمة، كتبها اعتراضاً على الخوى في حادثة حكم فيها (الرد الكبير على من اعترض عليه في مسألة الحلف بالطلاق) ثلاث مجلدات، كتاب (تحقيق الفرقان بين التطليق والأيمان) مجلد كبير (الرد على الأخنائي في مسألة الزيارة) مجلد. وأما القواعد المتوسطة والصغار وأجوبة الفتاوي: فلا يمكن الإحاطة بها، لكثرتها وانتشارها وتفرقها. ومن أشهرها (الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان) مجلد لطيف (الفرقان بين الحق والبطلان) مجلد لطيف (الفرقان بين الطلاق والأيمان) مجلد لطيف (السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية) مجلد لطيف (رفع الملام عن الأئمة الأعلام) مجلد لطيف.
*السبب في إكثاره في الأصول:
قال الحافظ أبو حفص عمر بن علي البزار المتوفي سنة 749-تلميذ شيخ الإسلام:(/34)
"ولقد أكثر رضي الله عنه التصنيف في الأصول فضلاً عن غيره من بقية العلوم فسألته عن سبب ذلك والتمست منه تأليف نص في الفقه يجمع اختياراته وترجيحاته ليكون عمدة في الإفتاء. فقال لي ما معناه: الفروع أمرها قريب، فإذا قلد المسلم فيها أحد العلماء المقلدين جاز له العمل بقوله، ما لم يتيقن خطأه. وأما الأصول فإني رأيت أهل البدع والضلالات والأهواء كالمتفلسفة والباطنية والملاحدة، والقائلين بوحدة الوجود، والدهرية، والقدرية والنصيرية والجهمية والحلولية والمعطلة، والمجسمة والمشبهة والراوندية والكلابية والسلمية وغيرهم من أهل البدع قد تجاذبوا فيها، بأزمة الضلال، وبان لي أن كثيراً منهم إنما قصد إبطال الشريعة المقدسة المحمدية، الظاهرة على كل دين، العلية. وأن جمهورهم أوقع الناس في التشكيك في أصول دينهم، ولهذا قل أن سمعت أو رأيت معرضاً عن الكتاب والسنة، مقبلاً على مقولاتهم إلا وقد تزندق أو صار على غير يقين في دينه أو اعتقاده. فلما رأيت الأمر على ذلك بان لي أنه يجب على كل من يقدر على دفع شبههم وأباطيلهم وقطع حجتهم وأضاليلهم أن يبذل جهده ليكشف رذائلهم. وزيف دلائلهم ذبا عن الملة الحنيفية، والسنة الصحيحة الجلية. ولا والله ما رأيت فيهم أحداً ممن صنف في هذا الشأن، وادعى علو المقام، إلا وقد ساعد بمضمون كلامه في هدم قواعد دين الإسلام. وسبب ذلك إغضاؤه عن الحق الواضح المبين، وعن ما جاءت به الرسل الكرام عن رب العالمين، وأتباعه طرق الفلسفة في الاصطلاحات التي سموها بزعمهم حكميات وعقليات، وإنما هي جهالات وضلالات، وكونه التزمها معرضاً عن غيرها أصلاً ورأساً. فغلبت عليه حتى غطت على عقله السليم فتخبط حتى خبط فيها خبط عشواء، ولم يفرق بين الحق والباطل، وإلا فالله أعظم لطفاً بعباده من أن لا يجعل لهم عقلاً يقبل الحق ويثبته، ويبطل الباطل وينفيه. لكن عدم التوفيق وغلبة الهوى أوقع من أوقع في الضلال. وقد جعل الله تعالى العقل السليم من الشوائب ميزاناً يزن به العبد الواردات فيفرق به بين ما هو من قبيل الحق، وما هو من قبيل الباطل. ولم يبعث الله الرسل إلا إلى ذوي العقل، ولم يقع التكليف إلا مع وجوده، فكيف يقال إنه مخالف لبعض ما جاءت به الرسل الكرام عن الله تعالى؟ هذا باطل قطعاً يشهد له كل عقل سليم، لكن {ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور} (النور:40).
قال الشيخ الإمام قدس الله روحه: فهذا ونحوه هو الذي أوجب أني صرفت جل همي إلى الأصول، وألزمني أن أوردت مقالاتهم وأجبت عنها بما أنعم الله تعالى به من الأجوبة العقلية والنقلية".
الباب الحادي عشر
تحقيق القول في مسألة خلود الجنة والنار
ذكرت في المقدمة أن السبب الذي حداني أن أجمع هذه الرسالة هو اتهام ذلك الأستاذ للامام شيخ الإسلام ابن تيمية أنه خالف الإجماع لأنه قال بفناء نار الآخرة.
والحقيقة أن الامام ابن تيمية نفسه ليس له قول صريح في هذا بل أقواله في الفتاوي أن الجنة والنار مخلوقتان باقيتان لا تفنيان، وأما الذي قال صراحة بفناء النار فهو الإمام ابن القيم تلميذ الشيخ ابن تيمية وقد كتب في هذا فصلاً مطولاً جداً في كتابه الفريد (حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح) وقد استدل لقوله الذي رجحه هذا بأنه هو المنقول عن عامة الصحابة وجمهور التابعين، وأنه لا يذكر للصحابة قول مخالف وقد كتب أيضاً ابن أبي العز الحنفي رحمه الله في هذه المسألة فصلاً في شرح العقيدة الطحاوية بين فيه مذاهب المسلمين في هذه القضية حيث يقول:(/35)
"وأما أبدية النار ودوامها، فللناس في ذلك ثمانية أقوال: أحدهما: أن من دخلها لا يخرج منها أبداً الآباد، وهذا قول الخوارج والمعتزلة. والثاني: أن أهلها يعذبون فيها، ثم تنقلب طبيعتهم وتبقى طبيعة النارية يتلذذون بها لموافقتها لطبعهم! وهذا قول إمام الاتحادية ابن عربي الطائي!! الثالث: أن أهلها يعذبون فيها إلى وقت محدود، ثم يخرجون منها، ويخلفهم فيها قوم آخرون، وهذا القول حكاه اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم، وأكذبهم فيه، وقد أكذبهم الله تعالى، فقال عز من قائل: {وقالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة، قل أتخذتم عند الله عهداً فلن يخلف الله عهده، أم تقولون على الله ما لا تعلمون. بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} (البقرة:80-81). الرابع: يخرجون منها، وتبقى على حالها ليس فيها أحد. الخامس: أنها تفني نفسها بنفسها، لأنها حادثة وما ثبت حدوثه استحال بقاءه!! وهذا قول الجهم وشيعته، ولا فرق عنده في ذلك بين الجنة والنار، كما تقدم. السادس: تفنى حركات أهلها ويصيرون جماداً، لا يحسون بألم، وهذا قول أبي الهذيل العلاف كما تقدم. السابع: أن الله يخرج منها من يشاء، كما ورد في الحديث، ثم يبقيها شيئاً، ثم يفنيها، فإنه جعل لها أمدا تنتهي إليه. الثامن: أن الله تعالى يخرج منها من شاء، كما ورد في السنة، ويبقي فيها الكفار، بقاء لا انقطاع له، كما قال الشيخ رحمه الله. وما عدا هذين القولين الأخيرين ظاهر البطلان.
وهذان القولان لأهل السنة ينظر في أدلتهما.
فمن أدلة القول الأول منهما: قوله تعالى: {قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم} (الأنعام:128). وقوله تعالى: {فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق. خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد} (هود:106-107). ولم يأت بعد هذين الاستثنائين ما اتى بعد الاستثناء المذكور لأهل الجنة، وهو قوله: {عطاء غير مجذوذ} (هود:108). وقوله تعالى: {لابثين فيها أحقاباً} (النبأ:23) وهذا القول، -أعني القول بفناء النار دون الجنة- منقول عن عمر، وابن مسعود، وأبي هريرة، وأبي سعيد، وغيرهم. وقد روى عبد بن حميد في تفسيره المشهور، بسنده إلى عمر رضي الله عنه، أنه قال: "لو لبث أهل النار في النار كقدر رمل عالج، لكان لهم على ذلك وقت يخرجون فيه" (قال ناصر الدين الألباني ضعيف، لأنه من روايته عن الحسن قال: قال عمر. والحسن لم يدرك عمر رضي الله عنه. وقال ابن القيم في (حادي الأرواح) (2/71 طبع الكردي) عقبه: والحسن لم يسمع من عمر. ومع ذلك فقد حاول تقويته بكلام خطابي، لا غناء فيه (راجع المستدرك) وقد روي نحوه عن عبدالله بن عمرو موقوفاً بسند ضعيف، وعن ابي امامة مرفوعاً بسند فيه تآلف، وقد تكلمت عليه في (سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة) ضمن المائة السابعة)، ذكر ذلك في قوله تعالى: {لابثين فيها أحقاباً} (النبأ:23). قالوا: والنار موجب غضبه، والجنة موجب رحمته. وقد قال صلى الله عليه وسلم: [لما قضى الله الخلق، كتب كتاباً، فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي سبقت غضبي] (متفق عليه). وفي رواية: [تغلب غضبي]. رواه البخاري في (صحيحه) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. قالوا: والله سبحانه يخبر عن العذاب أنه: {عذاب يوم عظيم} (الأنعام:15). و {أليم} (هود:26). و {عقيم} (الحج:55). ولم يخبر ولا في موضع أحد عن النعيم أنه نعيم يوم. وقد قال تعالى: {عذابي أصيب به من أشاء، ورحمتي وسعت كل شيء} (الأعراف:155). وقال تعالى حكاية عن الملائكة: {ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلماً} (غافر:7)، فلا بد أن تسع رحمته هؤلاء المعذبين، فلو بقوا في العذاب لا إلى غاية لم تسعهم رحمته. وقد ثبت في (الصحيح) تقدير يوم القيامة بخمسين ألف سنة (أخرجه مسلم في حديث لأبي هريرة في عقوبة مانع الزكاة يوم القيامة. وفي الباب عن ابن عمرو عند الحاكم (4/572) وصححه ووافقه الذهبي)، والمعذبون فيها متفاوتون في مدة لبثهم في العذاب بحسب جرائمهم، وليس في حكمة أحكم الحاكمين ورحمة أرحم الراحمين أن يخلق خلقاً يعذبهم أبد الآباد عذاباً سرمداً لا نهاية له. وأما أنه يخلق خلقاً ينعم عليهم ويحسن إليهم نعيماً سرمداً، فمن مقتضى الحكمة. والإحسان مراد لذاته، والانتقام مراد بالعرض. قالوا: وما ورد من الخلود فيها، والتأييد، وعدم الخروج، وأن عذابها مقيم، وأنه غرام: كله حق مسلم، لا نزاع فيه، وذلك يقتضي الخلود في دار العذاب ما دامت باقية، وإنما يخرج منها في حال بقائها أهل التوحيد. ففرق بين من يخرج من الحبس وهو حبس على حاله، وبين من يبطل حبسه بخراب الحبس وانتقاضه.(/36)
ومن أدلة القائلين ببقائها وعدم فنائها: قوله: {ولهم عذاب مقيم} (المائدة:40)، {لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون} (الزخرف:43)، {فلن نزيدكم إلا عذاباً} (النبأ:30)، {خالدين فيها أبداً} (البينة:8)، {وما هم منها بمخرجين} (الحجر:48) (هذه الآية في أهل الجنة فلعله اراد آية المائدة (وما هم بخارجين منها)، {وما هم بخارجين من النار} (البقرة:167)، {لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط} (الأعراف:40)، {لا يقضى عليهم فيموتوا، ولا يخفف عنهم من عذابها} (فاطر:36).
{إن عذابها كان غراماً} (الفرقان:65)، أي مقيماً لازماً. وقد دلت السنة المستفيضة أنه يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله: وأحاديث الشفاعة صريحة في خروج عصاة الموحدين من النار، وأن هذا حكم مختص بهم، فلو خرج الكفار منها لكانوا بمنزلتهم، ولم يختص الخروج بأهل الإيمان. وبقاء الجنة والنار ليس لذاتهما، بل بإبقاء الله لهما". أ.هـ منه بلفظه.
وهكذا يتبين من هذا النقل أن علماء أهل السنة في هذه المسألة على قولين وأن المنقول عن بعض خيار الصحابة هو القول بفناء النار في نهاية الأمر، دون الجنة. فإنهم مجمعون على بقائها بقاءاً سرمدياً.
* ولأهمية البحث الذي كتبه ابن القيم رحمه الله حول هذه القضية ننقله بنصوصه من كتابه حادي الأرواح ليتبين لقارئ هذه الرسالة منزلة هذين الإمامين في العلم الشرعي وتحري الحق ومعرفة الدليل والوقوف عند أقوال السلف وأنهما لا يقولان قولاً لم يسبقا إليه وأن ابن القيم تلميذ شيخ الإسلام إنما هو قبس من نور شيخ الإسلام وشعلة من ناره ولذلك قال ابن حجر رحمه الله لو لم يكن من فضل لابن تيمية إلا تلميذه ابن القيم لكفى: والآن إلى تحقيق ابن القيم الفريد في مسألة خلود الجنة والنار.
علماً أن جامع هذه الرسالة لا يذهب إلى ما ذهب إليه ابن القيم في المسألة وإنما ننقل ما ذكره ابن القيم هنا لبيان أنه متأول للنصوص القرآنية وناقل عن سلف له، وليس متحكماً برأيه وهواه. ولكننا مع ذلك نرى أن الأسلم هو الإيمان بخلود النار أيضاً خلوداً سرمدياً لأن هذا هو الذي يتماشى مع ظاهر النصوص، ولا يجوز لنا التحول عن هذا الظاهر إلا بدليل شرعي ظاهر قوي، ويبدو أن هذا الدليل ليس موجوداً هنا. والله تعالى أعلم وعلى كل حال فهذه المسألة لا ينبني عليها عمل ومن الأفضل ترك تفصيل القول فيها.. وهذا هو ما حققه ابن القيم في هذه المسألة:
قال:
الباب السابع والستون
في أبدية الجنة وأنها لا تفنى ولا تبيد:
وهذا مما يعلم بالاضطرار أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر به قال تعالى: {وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ} (هود:108، (22-حادي الأرواح))، أي مقطوع. ولا تنافي بين هذا وبين قوله إلا ما شاء ربك. واختلف السلف في هذا الاستثناء. فقال معمر عن الضحاك: هو في الذين يخرجون من النار فيدخلون الجنة يقول سبحانه: إنهم خالدون في الجنة ما دامت السموات والأرض إلا مدة مكثهم في النار.
قلت: وهذا يحتمل أمرين:
أحدهما: أن يكون الإخبار عن الذين سعدوا وقع عن قوم مخصوصين هم هؤلاء.
والثاني: وهو الأظهر أن يكون وقع عن جملة السعداء والتخصيص بالمذكورين هو في الاستثناء وما دل عليه. وأحسن من هذين التقديرين أن ترد المشيئة إلى الجميع حيث لم يكونوا في الجنة في الموقف. وعلى هذا فلا يبقى في الآية تخصيص. وقالت فرقة أخرى: هو استثناء استثناه الرب تعالى ولا يفعله كما تقول: والله لأضربنك إلا أن أرى غير ذلك وأنت لا تراه. بل تجزم بضربه.
وقالت فرقة أخرى: العرب إذا استثنت شيئاً كثيراً مع مثله ومع ما هو أكثر منه، كان معنى إلا في ذلك ومعنى الواو سواء والمعنى على هذا سوى ما شاء الله من الزيادة مدة دوام السموات والأرض. هذا قول الفراء وسيبويه: يجعل إلا بمعنى سوى قالوا: ونظير ذلك أن تقول: لي عليك ألف إلا الألفين الذين قبلها أي سوى الألفين. قال ابن جرير: وهذا هو أحب الوجهين إلي، لأن الله تعالى لا خلف لوعده وقد وصل الاستثناء بقوله {عطاء غير مجذوذ}.
قالوا: ونظير أن نقول: أسكنتك داري حولا إلا ما شئت أي سوى ما شئت من الزيادة عليه.
وقالت فرقة أخرى: هذا الاستثناء إنما هو مدة احتباسهم عن الجنة ما بين الموت والبعث وهو البرزخ إلى أن يصيروا إلى الجنة ثم هو خلود الأبد فلم يغيبوا عن الجنة إلا بمقدار إقامتهم في البرزخ. وقالت فرقة أخرى: العزيمة قد وقعت لهم من الله بالخلود الدائم إلا أن يشاء الله خلاف ذلك إعلاماً لهم بأنهم مع خلودهم في مشيئته هذا كما قال لنبيه {ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك} (الإسراء:86)، وقوله {فإن يشأ الله يختم على قلبك} (الشورى:24)، وقوله {قل لو شاء الله ما تلوته عليكم} (يونس:16)، ونظائره وأخبر عباده سبحانه أن الأمور كلها بمشيئته ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.(/37)
وقالت فرقة أخرى: المراد بمدة دوام السموات والأرض في هذا العالم فأخبر سبحانه أنهم خالدون في الجنة مدة دوام السماوات والأرض إلا ما شاء الله أن يزيدهم عليه. ولعل هذا قول من قال أن إلا بمعنى سوى ولكن اختلف عبارته وهذا اختيار ابن قتيبة. قال: المعنى خالدين فيها مدة العالم سوى ما شاء أن يزيدهم من الخلود على مدة العالم وقالت فرقة أخرى: ما بمعنى من قوله {فانكحا ما طاب لكم من النساء} (النساء:3) والمعنى إلا من شاء ربك أن يدخله النار بذنوبه من السعداء والفرق بين هذا القول وبين أول الأقوال: أن الاستثناء على ذلك القول من المدة وعلى هذا القول من الأعيان.
وقالت فرقة أخرى: المراد بالسموات والأرض سماء الجنة وأرضها، وهما باقيتان أبداً وقوله: {إلا ماشاء ربك} إن كانت ما بمعنى من فهم الذين يدخلون النار ثم يخرجون منها، وإن كانت بمعنى الوقت فهو مدة احتسابهم في البرزخ والموقف، قال الجعفي: سألت عبدالله بن وهب عن هذا الاستثناء، فقال سمعت فيه أنه قدر وقوفهم في الموقف يوم القيامة إلى أن يقضي بين الناس.
وقالت فرقة أخرى: الاستثناء راجع إلى مدة لبثهم في الدنيا وهذه الأقوال متقاربة ويمكن الجمع بينها بأن يقال أخبر سبحانه عن خلودهم في الجنة كل وقت إلا وقتا يشاء أن يكونوا فيها وذلك يتناول وقت كونهم في الدنيا وفي البرزخ وفي موقف القيامة وعلى الصراط، وكون بعضهم في النار مدة وعلي كل تقدير فهذه الآية من المتشابه وقوله فيها {عطاء غير مجذوذ} محكم وكذلك قوله {إن هذا لرزقنا ما له من نفاد} وقوله {أكلها دائم وظلها} وقوله {وما هم منها بمخرجين}.
وقد أكد الله سبحانه خلود أهل الجنة بالتأييد في عدة مواضع من القرآن وأخبر أنهم لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى. وهذا الاستثناء منقطع وإذا ضممته إلى الاستثناء في قوله {إلا ما شاء ربك} تبين لك المراد من الآيتين واستثناء الوقت الذي لم يكونوا في الجنة من مدة الخلود كاستثناء الموتة الأولى من جملة الموت فهذه موتة تقدمت على حياتهم الأبدية. وذلك مفارقة للجنة تقدم على خلودهم فيها. وبالله التوفيق.
وقد تقدم قول النبي صلى الله عليه وسلم [من يدخل الجنة ينعم ولا ييأس، ويخلد ولا يموت] وقوله [ينادي مناد يا أهل الجنة إنلكم أن تصحوا فلا تسقموا أبداً، وأن تشبوا فلا تهرموا أبداً وأن تحيوا فلا تموتوا أبداً].
وثبت في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: [يجاء بالموت في صورة كبش أملح فيوقف بين الجنة ثم يقال: يا أهل الجنة فيطلعون مشفقين ويقال: يا أهل النار فيطلعون فرحين فيقال هل تعرفون هذا فيقولون: نعم هذا الموت فيذبح بين الجنة والنار ثم يقال: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت].
فصل
وهذا موضع اختلف فيه المتأخرون على ثلاثة أقوال:
أحدهما: أن الجنة والنار فانيتان غير أبديتين بل كما هما حادثتان فهما فانيتان.
والقول الثاني: أنهما باقيتان دائمتان لا يفنيان أبداً.
والقول الثالث: إن الجنة باقية أبدية والنار فانية، ونحن نذكر هذه الأقوال وما قابلها وما احتج به أرباب كل قول، ونرد ما خالف كتاب الله وسنة رسوله. فأما القول بفنائهما فهو قول قاله جهم بن صفوان إمام المعطلة الجهمية، وليس له فيه سلف قط من الصحابة ولا من التابعين ولا أحد من أئمة الإسلام ولا قال به أحد من أهل السنة. وهذا القول مما أنكره عليه وعلى أتباعه أئمة الإسلام وكفروهم به وصاحوا بهم من أقطار الأرض، كما ذكره عبدالله ابن الإمام أحمد في كتاب السنة عن خارجة بن مصعب أنه قال: كفرت الجهمية بثلاث آيات من كتاب الله عز وجل، بقول الله سبحانه وتعالى: {أكلها دائم وظلها} (الرعد:35) وهم يقولون لا يدوم، وبقول الله تعالى: {إن هذا لرزقنا ما له من نفاذ} (ص:54) وهم يقولون ينفد، ويقول الله عز وجل {ما عندكم ينفد وما عند الله باق} (النحل:96).
قال شيخ الإسلام: وهذا قاله جهم لأصله الذي اعتقده وهو امتناع وجود ما لا يتناهى من الحوادث وهو عمدة أهل الكلام التي استدلوا بها على حدوث الأجسام وحدوث ما لم يحل من الحوادث وجعلوا ذلك عمدتهم في حدوث العالم، فرأى الجهم أن ما يمنع من حوادث لا أول لها في الماضي يمنع في المستقبل فداوم الفعل ممتع عنده على الرب تبارك وتعالى في المستقبل، كما هو ممتنع عنده عليه في الماضي.(/38)
وأبو الهذيل العلاف شيخ المعتزلة وافقه على هذا الأصل، لكن قال: إن هذا يقتضي فناء الحركات لكونها متعاقبة شيئاً بعد شيء. فقال بفناء حركات أهل الجنة والنار حتى يصيروا في سكون دائم لا يقدر أحد منهم على حركة، وزعمت فرقة ممن وافقهم على امتناع حوادث لا نهاية لها أن هذا القول مقتضى العقل، لكن لما جاء السمع ببقاء الجنة والنار قلنا بذلك، وكأن هؤلاء لم يعلمون ما كان ممتعاً في العقل لا يجيء الشرع بوقوعه إذ يستحيل عليه أن يخبر بوجودها ما هو ممتنع في العقل وكأنهم لم يفرقوا بين مجالات العقول ومجازاتها، فالسمع يجيء بالثاني لا بالأول فالسمع يجيء بما يعجز العقل عن إدراكه ولا يستقل به ولا يجيء بما يعلم العقل إحالته.
والأكثرون الذين وافقوا جهماً وأبا الهذيل على هذا الأصل فرقوا بين الماضي والمستقبل، وقالوا: الماضي قد دخل في الوجود بخلاف المستقبل، والممتنع إنما هو دخول ما لا يتناهى في الوجود لا تقدير دخوله شيئاً بعد شيء. قالوا: وهذا نظير أن يقول القائل: لا أعطيك درهماً إلا وأعطيك بعده درهماً آخر فهذا ممكن، والأول نظير أن يقول: لا أعطيك درهماً إلا وأعطيك قبله درهماً فهذا محال، وهؤلاء عندهم وجود مالا يتناهى في الماضي محال ووجوده في المستقبل واجب، ونازعهم في ذلك آخرون فقالوا: بل الأمر في الماضي كهو في المستقبل ولا فرق بينهما، بل الماضي والاستقبال أمر نسبي فكل ما يكون مستقبلاً يصير ماضياً وكل ماض فقد كان مستقبلاً فلا يعقل إمكان الدوام في أحد الطرفين وإحالته في الطرف الآخر.
قالوا: وهذه مسألة دوام فاعلية الرب تبارك وتعالى وهو لم يزل رباً قادراً فعالاً فإنه لم يزل عليماً قديراً، ومن المحال أن يكون الفعل ممتنعاً عليه لذاته، ثم ينقلب فيصير ممكناً لذاته من غير تجديد شيء وليس للازم حد محدود حتى يصير الفعل ممكناً عند ذلك الحد ويكون قبله ممتنعاً عليه فهذا القول تصوره كاف في الجزم بفساده ويكفي في فساده أن الوقت الذي انقلب فيه من الإحالة الذاتية إلى الإمكان الذاتي أما أن يصح أن يفرض قبله وقت يمكن فيه الفعل أو لا يصح.
فإن قلتم لا يصح كان هذا تحكماً غير معقول وهو من جنس الهوس، وإن قلتم يصح: قيل وكذلك ما يفرض قبله لا إلى غاية، فما من زمن محقق أو مقدار إلا والفعل ممكن فيه وهو صفة كمال وإحسان ومتعلق حمد رب تعالى وربوبيته وملكه وهو لم يزل رباً حميداً ملكاً قادراً لم تتجدد له هذه الأوصاف كما أنه لم يزل حياً مريداً عليماً. والحياة والإرادة والعلم والقدرة تقضي آثارها ومتعلقاتها، فكيف يعقل حي قدير عليم مريد ليس له مانع ولا قاهر يقهره يستحيل عليه أن يفعل شيئاً البتة؟
وكيف يجعل هذا أصل من أصول الدين ويجعل معياراً على ما أخبر الله به ورسوله ويفرق به بين جائزات العقول ومحالاتها؟ فإذا كان هذا شأن الميزان فكيف يستقيم الموزون به، وأما قول من فرق بأن الماضي قد دخل في الوجود دون المستقبل فكلام لا تحقيق وراءه، فإن الذي يحضره الوجود من الحركات هو المتناهي ثم يعدم فيصير ماضياً، كما معدوماً لما كان مستقبلاً فوجوده بين عدمين وكلما انتقضت جملة حدثت بعدها جملة أخرى، فالذي صار ماضياً هو بعينه الذي كان مستقبلاً فإن الدليل على امتناع مالا يتناهى شيئاً قبل شيء فهو بعينه، دل على امتناعه شيئاً بعد شيء.
وأما تفريقكم بقولكم المستقبل نظير قوله: ما أعطيك درهماً إلا وأعطيك قبله درهما، فهذا ممكن. والماضي نظير قوله ما أعطيك درهماً إلا وأعطيك قبله درهماً، فهذا الفرق فيه تلبيس لا يخفى وليس بنظير ما نحن فيه بل نظيره أن يقول ما أعطيك درهماً إلا وقد تقدم مني إعطاء درهم قبله. فهذا ممكن الدوام في الماضي على حد إمكانه في المستقبل ولا فرق في العقل الصحيح بينهما البتة، ولما لم يجد الجهم وأبو الهذيل وأتباعهما بين الأمرين فرقاً قالوا: بوجوب تناهي الحركات في المستقبل كما يجب ابتداؤها عندهم في الماضي.
وقال أهل الحديث بل هما سواء في الإمكان والوقوع ولم يزل الرب سبحانه وتعالى فعالاً لما يريد ولم يزل موصوفاً بصفات الكمال منعوتاً بنعوت الجلال. وليس المتمكن من الفعل كل وقت كالذي لا يمكنه الفعل إلا في وقت معين وليس من يخلق كمن لا يخلق، ومن يحسن كمن لا يحسن، ومن يدبر الأمر كمن لا يدبر، وأي كمال في أن يكون رب العالمين معطلاً عن الفعل في مدة مقدرة أو محققة لا تتناهى يستحيل منه الفعل وحقيقة ذلك أنه لا يقدر عليه.
وإن أبيتم هذا الإطلاق وقلتم إن المحال لا يوصف بكونه غير مقدور عليه، فجمعتم بين محالين الحكم بإباحة الفعل من غير موجب لإحالته وانقلابه من الإحالة الذاتية إلى الإمكان الذاتي من غير تجدد سبب وزعمتم أن هذا هو الأصل الذي تثبتون به وجود الصانع وحدوث العالم وقيامة الأبدان فجنيتم على العقل والشرع، والرب تعالى لم ينزل قادراً على الفعل والكلام بمشيئته ولم يزل فعالاً لما يريد ولم يزل رباً محسناً.(/39)
والمقصود: أن القول بفناء الجنة والنار قول مبتدع لم يقله أحد من الصحابة ولا التابعين ولا أحد من أئمة المسلمين. والذين قالوه إنما تلقوه عن قياس فاسد كما اشتبه أصله على كثير من الناس فاعتقدوه حقاً وبنوا عليه القول بخلق القرآن ونفي الصفات وقد دل القرآن والسنة والعقل الصريح على أن كلمات الله وأفعاله لا تتناهى ولا تنقطع بآخر ولا تحد بأول قال تعالى: {قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مدداً} (الكهف:109).
وقال تعالى: {ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم} (لقمان:27)، فأخبر عن عدم نفاذ كلماته لعزته وحكمته وهذان وصفان ذاتيان له سبحانه وتعالى لا يكون إلا كذلك.
وذكر ابن أبي حاتم في تفسيره عن سليمان بن عامر قال: سمعت الربيع بن أنس يقول إن مثل علم العباد كلهم في علم الله عز وجل كقطرة من هذه البحور كلها وقد أنزل الله سبحانه وتعالى في ذلك {ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام} - الآية.
وقوله {قل لو كان البحر مداداً} - الآية، يقول سبحانه وتعالى قل لو كان البحر مداداً لكلمات الله والشجر كلها أقلام لانكسرت الأقلام وفني ماء البحر وكلمات الله تعالى باقية لا يفنيها شيء لأن أحداً لا يستطيع أن يقدر قدره ولا يثني عليه كما ينبغي بل هو كما أثنى على نفسه إن ربنا كما يقول وفوق ما يقول، ثم إن مثل نعيم الدنيا أوله وآخره في نعيم الآخرة كحبة من خردل في خلال الأرض كلها.
فصل
وأما أبدية النار ودوامها فقال فيها شيخ الإسلام: فيها قولان معروفان عن السلف والخلف والنزاع في ذلك معروف من التابعين، وقلت: ههنا أقوال سبعة:
أحدها: أن من دخلها لا يخرج منها أبداً بل من دخلها خلد فيها أبد الآباد بإذن الله، وهذا قول الخوارج والمعتزلة.
والثاني: أن أهلها يعذبون فيها مدة ثم تنقلب عليهم وتبقى طبيعة نارية لهم يتلذذون بها لموافقتها لطبيعتهم، وهذا قول إمام الإتحادية ابن عربي الطائي.
قال في فصوصه: الثناء بصدق الوعد لا يصدق الوعيد والحضرة الإلهية تطلب الثناء المحمود بالذات، فيثني عليها بصدق الوعد لا بصدق الوعيد بل بالتجاوز {فلا تحسبنّ الله مخلف وعده رسله} (إبراهيم:47)، لم يقل وعيده بل قال {ونتجاوز عن سيئاتهم} (الأحقاف:16)، مع أنه توعد على ذلك، وأثنى على إسماعيل بأنه كان صادق الوعد وقد زال الإمكان في حق الحق من طلب المرجح:
فلم يبق إلا صادق الوعد وحده وما لوعيد الحق عين تعاين
إن دخلوا دار الشقاء فإنهم على لذة فيها نعيم مباين
نعيم جنان الخلد والأمر واحد وبينهما عند التجلي تباين
يسمى عذاباً من عذوبة طعمه وذاك له كالقشر والقشر صاين
وهذا في طرف والمعتزلة الذين يقولون لا يجوز على الله أن يخالف وعيده بل يجب عليه تعذيب من توعده بالعذاب في طرف، فأولئك عندهم لا ينجو من النار من دخلها أصلاً، وهذا عنده لا يعذب بها أحد أصلاً. والفريقان مخالفان لما علم بالاضطرار أن الرسول جاء وأخبر به عن الله عز وجل.
الثالث: قول من يقول إن أهلها يعذبون فيها إلى وقت محدودثم يخرجون منها ويخلفهم فيها قوم آخرون، وهذا القول حكاه اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم فأكذبهم الله تعالى في القرآن فيه:
فقال تعالى: {وقالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة قل أتخذتم عند الله عهداً فلن يخلف الله عهده، أم تقولون على الله ما لا تعلمون* بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} (البقرة:80،81).
وقال تعالى: {ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم. ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون* ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودات وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون} (آل عمران:23،24).
فهذا القول إنما هو قول أعداء الله اليهود فهم شيوخ أربابه والقائلين به. وقد دل القرآن والسنة وإجماع الصحابة والتابعين وأئمة الإسلام على فساده.
قال تعالى: {وما هم بخارجين من النار}، وقال: {وما هم منها بمخرجين}، وقال: {كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها}.
وقال تعالى: {كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها}، وقال تعالى: {لا يقضى عليهم فيموتوا لا يخفف عنهم من عذابها} (فاطر:36)، وقال تعالى: {ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط} (الأعراف:40).
وهذا أبلغ ما يكون في الإخبار عن استحالة دخولهم الجنة.
الرابع: قول من يقول: يخرجون منها وتبقى ناراً على حالها ليس فيها أحد يعذب. حكاه شيخ الإسلام. والقرآن والسنة أيضاً يردان على هذا القول كما تقدم.
الخامس: قول من يقول: بل تفني نفسها لأنها حادثة بعد أن لم تكن: وما ثبت حدوثه استحال بقاؤه وأبديته. وهذا قول جهم بن صفوان وشيعته ولا فرق عنده في ذلك بين الجنة والنار.(/40)
السادس: قول من يقول تفني حياتهم وحركاتهم ويصيرون جماداً لا يتحركون ولا يحسون بألم. وهذا قول أبي الهذيل العلاف إمام المعتزلة طرداً لامتناع حوادث لا نهاية لها. والجنة والنار عنده سواء في هذا الحكم.
السابع: قول من يقول: بل يفنيها ربها وخالقها تبارك وتعالى، فإنه جعل لها أمداً تنتهي إليه تفنى ويزول عذابها.
قال شيخ الإسلام: وقد نقل هذا القول عن عمر وابن مسعود وأبي هريرة وأبي سعيد وغيرهم. وقد روى عبد بن حميد وهو من أجل أئمة الحديث في تفسيره المشهور حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن الحسن قال: قال عمر: "لو لبث أهل النار في النار كقدر رمل عالج، لكان لهم على ذلك يوم يخرجون فيه".
وقال: حدثنا حجاج بن منهال عن حماد بن سلمة عن حميد عن الحسن أن عمر بن الخطاب قال: "لو لبث أهل النار في النار عدد رمل عالج لكان لهم يوم يخرجون فيه" ذكر ذلك في تفسير قوله تعالى: {لابثين فيها أحقاباً} (النبأ:23)، فقد رواه عبد وهو من الأئمة الحفاظ وعلماء السنة عن هذين الجليلين سليمان بن حرب وحجاج بن منهال كلاهما عن حماد بن سلمة وحسبك به وحماد يرويه عن ثابت وحميد وكلاهما يرويه عن الحسن، وحسبك بهذا الإسناد جلالة.
والحسن وإن لم يسمع من عمر، فإنما رواه عن بعض التابعين ولو لم يصح عنده ذلك عن عمر لما جزم به. وقال: عمر بن الخطاب، ولو قدر أنه لم يحفظ عن عمر فتداول هؤلاء الأئمة له غير مقابلين له بالإنكار والرد مع أنهم ينكرون على من خالف السنة بدون هذا فلو كان هذا القول عند هؤلاء الأئمة من البدع المخالفة لكتاب الله وسنة رسوله وإجماع الأئمة، لكانوا أو منكر له.
قال: ولا ريب أن من قال هذا القول عن عمر ونقله عنه إنما أراد بذلك جنس أهل النار الذين هم أهلها، فأما قوم أصيبوا بذنوبهم فقد علم هؤلاء وغيرهم أنهم يخرجون منها، وأنهم لا يلبثون قدر رمل عالج ولا قريباً منه.
ولفظ أهل النار لا يختص بالموحدين بل يختص بمن عداهم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، أما أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون، ولا يناقض هذا قوله تعالى: {خالدين فيها} وقوله: {وما هم بمخرجين} (الحجر:48).
بل ما أخبر الله به هو الحق والصدق الذي لا يقع خلافه، لكن إذا انقضى أجلها وفنيت تفنى الدنيا لم تبق ناراً ولم يبق فيها عذاب قال أرباب هذا القول:
وفي تفسير علي بن أبي طلحة الوالبي عن ابن عباس في قوله تعالى: {قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم} قال: لا ينبغي لأحد أن يحكم على الله في خلقه ولا ينزلهم جنة ولا ناراً.
قالوا: وهذا الوعيد في هذه الآية مختصاً بأهل القبلة فإنه سبحانه قال: {ويوم يحشرهم جميعاً يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس وقال أولياؤهم من الإنس ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم.وكذلك نولي بعض الظالمين بعضاً بما كانوا يكسبون} (الأنعام:128،129).
وأولياء الجن من الإنس يدخل فيها الكفار قطعاً فإنهم أحق بموالاتهم من عصاة المسلمين، كما قال تعالى: {إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون}.
وقال تعالى: {إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون} (النحل:99،100).
وقال تعالى: {إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون، وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون} (الأعراف:201).
وقال تعالى: {أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو} (الكهف:50).
وقال تعالى: {فقاتلوا أولياء الشيطان}.
وقال تعالى: {أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون} (المجادلة:19).
وقال تعالى: {وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون} والاستثناء وقع في الآية التي أخبرت عن دخول أولياء الشياطين النار.
فمن ههنا قال ابن عباس: لا ينبغي لأحد أن يحكم على الله قالوا: وقول من قال إن (ألا) بمعنى سوى أي ما شاء الله أن يزدهم من أنواع العذاب وزمنه لا تخفى منافرته للمستثنى والمستثنى منه، وإن الذي يفهمه المخاطب مخالفة ما بعد (إلا) لما قبلها.
قالوا: وقول من قال إنه لاخراج ما قبل دخولهم إليها من الزمان كزمان البرزخ والموقف ومدة الدنيا أيضاً، لا يساعد على وجه الكلام، فإنه استثناء من جملة خبرية مضمونها أنهم إذا دخلوا النار لبثوا فيها مدة دوام السماوات والأرض إلا ما شاء الله.
وليس المراد الاستثناء قبل الدخول هذا مالا يفهمه المخاطب ألا ترى سبحانه يخاطبهم بهذا في النار حين يقولون: {ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا} فيقول لهم حينئذ: {النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله}.(/41)
وفي قوله: {ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا} نوع اعتراف واستسلام وتحسر أي استمتع الجن بنا واستمتعنا بهم، فاشتركنا في الشرك ودواعيه وأسبابه، وآثرنا الاستمتاع على طاعتك وطاعة رسلك، وانقضت آجالنا وذهبت أعمارنا في ذلك ولم نكتسب فيها رضاك. وإنما كان غاية أمرنا في مدة آجالنا استمتاع بعضنا ببعض.
فتأمل ما في هذا من الاعتراف بحقيقة ما هم عليه وكيف بدت لهم تلك الحقيقة ذلك اليوم، وعلموا أن الذي كانوا فيه في مدة آجالهم هو حظهم من استمتاع بعضهم ببعض ولم يستمتعوا بعبادة ربهم ومعرفته وتوحيده ومحبته وإيثار مرضاته.
وهذا من نمط قولهم: {لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير} وقوله: {فاعترفوا بذنبهم} وقوله: {فعلموا أن الحق لله} ونظائره والمقصود أن قوله: {إلا ما شاء الله} عائد إلى هؤلاء المذكورين مختصاً بهم أو شاملاً لهم ولعصاة الموحدين، وأما اختصاصه بعصاة المسلمين دون هؤلاء فلا وجه له.
ولما رأت طائفة ضعف هذا القول قالوا: الاستثناء يرجع إلى مدة البرزخ والموقف. وقد تبين ضعف هذا القول، ورأت طائفة أخرى أن الاستثناء يرجع إلى نوع آخر من العذاب غير النار.
قالوا: والمعنى أنكم في النار أبداً إلا ما شاء الله أن يعذبكم بغيرها وهو الزمهرير وقد قال تعالى: {إن جهنم كانت مرصاداً. للطاغين مآباً. لابثين فيها أحقاباً} (النبأ:21-23).
وقالوا: والأبد لا يقدر بالأحقاب.
وقد قال ابن مسعود في هذه الآية: ليأتين على جهنم زمان وليس فيها أحد وذلك بعد ما يلبثون فيها أحقاباً، وعن أبي هريرة مثله حكاه البغوي عنهما. ثم قال: ومعناه عند أهل السنة إن ثبت أنه لا يبقى فيها أحد من أهل الإيمان.
قالوا: قد ثبت ذلك عن أبي هريرة وابن مسعود وعبدالله بن عمر وقد سأل حرب اسحق بن راهويه عن هذه الآية فقال: سألت إسحق قلت قول الله تعالى: {خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك} فقال: أتت هذه الآية على كل وعيد في القرآن.
حدثنا عبيدالله بن معاذ حدثنا معتمر بن سليمان قال: قال أبي حدثنا أبو نضرة عن جابر أو أبي سعيد أو بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال هذه الآية تأتي على القرآن كله: {إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد} (هود:106).
قال المعتمر: قال أتى على كل وعيد في القرآن، حدثنا عبيدالله بن معاذ حدثنا أبي عن شعبة عن أبي بلخ سمع عمرو بن ميمون يحدث عن عبدالله بن عمرو قال ليأتين على جهنم يوم تصفق فيه أبوابها ليس فيها أحد، وذلك بعدما يلبثون فيها أحقاباً.
حدثنا عبيدالله حدثنا أبي حدثنا شعبة عن يحيى بن أيوب عن ابن زرعة عن أبي هريرة قال: ما أنا بالذي لا أقول إنه سيأتي على جهنم يوم لا يبقى فيها أحد، وقرأ قوله: {فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق} الآية (هود:107).
قال عبيدالله: كان أصحابنا يقولون يعني به الموحدين حدثنا أبو معن حدثنا وهب بن جرير حدثنا شعبة عن سليمان التميمي عن أبي نضرة عن جابر بن عبدالله أو بعض أصحابه في قوله: {خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك} (هود:107) قال هذه الآية تأتي على القرآن كله. وقد حكى ابن جرير هذا القول في تفسيره عن جماعة من السلف فقال: وقال آخرون عني بذلك أهل النار وكل من دخلها. ذكر من قال ذلك ثم ذكر الآثار التي نذكرها.
وقال عبدالرزاق أنبأنا ابن التيمي عن أبيه نضرة عن جابر أو أبي سعيد أو عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: {إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد} قال هذه الآية تأتي على القرآن كله يقول حيث كان في القرآن خالدين فيها تأتي عليه قال: وسمعت أبا مجلز يقول: جزاؤه فإن شاء الله تجاوز عن عذابه.
وقال ابن جرير حدثنا الحسن بن يحيى أنبأنا عبدالرزاق فذكره قال وحدثت عن المسيب عمن ذكره عن ابن عباس: {خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك} قال استثنى الله قال أمر الله النار أن تأكلهم. قال: وقال ابن مسعود: ليأتين على جهنم زمان تصفق أبوابها ليس فيها أحد بعد ما يلبثون فيها أحقاباً، حدثنا ابن حميد حدثنا جرير بيان عن الشعبي قال: جهنم أسرع الدارين عمرانا، وأسرعهما خراباً.
وحكى ابن جرير في ذلك قولاً آخر فقال: وقال آخرون أخبرنا الله عز وجل بمشيئته لأهل الجنة فعرفنا معنى ثناياه بقوله {عطاء غير مجذوذ} وأنها لفي الزيادة على مقدار مدة السموات والأرض قالوا: ولم يخبرنا بمشيئته في أهل النار، وجائز أن تكون مشيئته في الزيادة وجائز أن تكون في النقصان. حدثنا يونس أنبأنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله تعالى: {خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك} فقرأ حتى بلغ {عطاء غير مجذوذ} فقال أخبرنا بالذي يشاء لأهل الجنة فقال: {عطاء غير مجذوذ} ولم يخبرنا بالذي يشاء لأهل النار.(/42)
وقال ابن مردويه في تفسيره: حدثنا سليمان بن أحمد حدثنا جبير بن عرفة حدثنا يزيد بن مروان الخلال حدثنا أبو خليد حدثنا سفيان يعني الثوري عن عمرو بن دينار عن جابر قال قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق. خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك} (هود:106و107) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم [إن شاء الله أن يخرج أناساً من الذين شقوا من النار فيدخلهم الجنة فعل]. وهذا الحديث يدل على أن الاستثناء إنما هو للخروج من النار بعد دخولها خلافاً لمن زعم أنه لما قبل الدخول، ولكن إنما يدل على إخراج بعضهم من النار، وهذا حق بلا ريب وهو لا ينفي انقطاعها وفناء عذابها وأكلها لمن فيها وأنهم يعذبون فيها دائماً ما دامت كذلك وما هم منها بمخرجين، فالحديث دل على أمرين: أحدهما: أن بعض الأشقياء إن شاء الله أن يخرجهم من النار وهي نار فعل، وأن الاستثناء إنما هو فيما بعد دخولها لا فيما قبله وعلى هذا فيكون معنى الاستثناء إلا ما شاء ربك من الأشقياء فإنهم لا يخلدون فيها ويكون الأشقياء نوعين نوعا يخرجون منها ونوعاً يخلدون فيها فيكونون من الذين شقوا أولاً ثم يصيرون من الذين سعدوا فتجتمع لهم الشقاوة والسعادة في وقتين قالوا وقد قال تعالى: {إن جهنم كانت مرصاداً، للطاغين مآباً، لابثين فيها أحقاباً، لا يذوقون فيها برداً ولا شراباً، إلا حميماً وغساقاً، جزاء وفاقاً، إنهم كانوا لا يرجون حساباً، وكذبوا بآياتنا كذاباً} (النبأ:21-28)، فهذا صريح في وعيد الكفار المكذبين بآياته ولا يقدر الأبد بهذه الأحقاب ولا غيرها كما لا يقدر به القديم. ولهذا قال عبدالله بن عمرو فيما رواه شعبة عن أبي بلخ سمع عمرو بن ميمون يحدث عنه "ليأتين على جهنم يوم تصفق فيه أبوابها ليس فيها أحد وذلك بعد ما يلبثون فيها أحقاباً".
فصل
والذين قطعوا بدوام النار لهم ست طرق:
أحدها: اعتقاد الإجماع فكثير من الناس يعتقدون أن هذا مجمع عليه بين الصحابة والتابعين لا يختلفون فيه، وأن الاختلاف فيه حادث وهو من أقوال أهل البدع.
الطريق الثاني: أن القرآن دل على ذلك دلالة قطعية فإنه سبحانه أخبر أنه عذاب مقيم، وأنه لا يفتر عنهم وأنه لن يزيدهم إلا عذاباً وأنهم خالدين فيها أبداً وما هم بخارجين من النار، وما هم منها بمخرجين، وأن الله حرم الجنة على الكافرين وأنهم لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط، وأنهم لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها وأن عذابها كان غراماً، أي مقيماً لازماً. قال وهذا يفيد القطع بدوامه واستمراره.
الطريق الثالث: أن السنة المستفيضة أخبرت بخروج من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان دون الكفار، وأحاديث الشفاعة من أولها إلى آخرها صريحة بخروج عصاة الموحدين من النار وأن هذا حكم مختص بهم فلو خرج الكفار منها لكانوا بمنزلتهم ولم يختص الخروج بأهل الإيمان.
الطريق الرابع: أن الرسول وقفنا على ذلك وعلمناه من دينه بالضرورة من غير حاجة بنا إلى نقل معين، كما علمنا من دينه دوام الجنة وعدم فنائها.
الطريق الخامس: أن عقائد السلف وأهل السنة مصرحة بأن الجنة والنار مخلوقتان وأنهما لا يفنيان بل هما دائمتان، وإنما يذكرون فناءهما عن أهل البدع.
الطريق السادس: أن العقل يقضي بخلود الكفار في النار، وهذا مبني على قاعدة وهي أن المعاد وثواب النفوس المطيعة وعقوبة النفوس الفاجرة هل هو مما يعلم بالعقل أو لا يعلم إلا بالسمع؟ فيه طريقتان لنظار المسلمين، وكثير منهم يذهب إلى أن ذلك يعلم بالعقل مع السمع، كما دل عليه القرآن في غير موضع، كإنكاره سبحانه على من زعم أنه يسوي بين الأبرار والفجار، في المحيا والممات وعلى من زعم أنه خلق خلقه عبثاً، وأنهم إليه لا يرجعون، وأنه يتركهم سدى أي لا يثيبهم ولا يعاقبهم، وذلك يقدح في حكمته وكماله، وأنه نسبه إلى مالا يليق به وربما قرروه بأن النفوس البشرية باقية واعتقاداتها وصفاتها لازمة لها لا تفارقها وإن ندمت عليها، لما رأت العذاب فلم تندم عليها لقبحها أو كراهة ربها لها، بل لو فارقها العذاب رجعت كما كانت أولا قال تعالى: {ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين، بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون} (الأنعام:27،28).
فهؤلاء قد ذاقوا العذاب وباشروه ولم يزل سببه ومقتضيه من نفوسهم بل خبثها وكفرها قائم بها لم يفارقها بحيث لو ردوا لعادوا كفاراً كما كانوا وهذا يدل على أن دوام تعذيبهم يقضي به العقل كما جاء السمع، قال أصحاب الفناء الكلام على هذه الطرق يبين الصواب في هذه المسألة.
رد دعوى الإجماع في المسألة:(/43)
فأما الطريق الأول فالإجماع الذي ادعيتموه غير معلوم، وإنما يظن الإجماع في هذه المسألة من لم يعرف النزاع، وقد عرف النزاع فيها قديماً وحديثاً بل لو كلف مدّعي الإجماع أن ينقل عن عشرة من الصحابة فما دونهم إلى الواحد أنه قال: إن النار لا تفني أبداً، لم يجد إلى ذلك سبيلاً.
ونحن قد نقلنا عنهم التصريح بخلاف ذلك فما وجدنا عن واحد منهم خلاف ذلك بل التابعون حكوا عنهم هذا وهذا، قالوا: والاجماع المعتد به نوعان، متفق عليهما، ونوع ثالث مختلف فيه، ولم يوجد واحد منها في هذه المسألة النوع الأول ما يكون معلوماً من ضرورة الدين كوجوب أركان الإسلام وتحريم المحرمات الظاهرة.
الثاني: ما ينقل عن أهل الاجتهاد التصريح بحكمه.
الثالث: أن يقول بعضهم القول وينشر في الأمة ولا ينكره أحد، فأين معكم واحد من هذه الأنواع، ولو أن قائلا ادعى الإجماع من هذه الطرق واحتج أن الصحابة صح عنهم ولم ينكر أحد منهم عليه لكان أسعد بالإجماع منكم.
قالوا: وأما الطريق الثاني وهو دلالة القرآن على بقاء النار وعدم فنائها، فأين في القرآن دليل واحد يدل على ذلك؟ نعم، الذي دل عليه القرآن إن الكفار خالدين في النار أبداً، وأنهم غير خارجين منها وأنه لا يفتر عنهم عذابها وأنهم لا يموتون فيها وأن عذابهم فيها مقيم، وأنه غرام لازم لهم هذا كله مما لا نزاع فيه بين الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين وليس هذا مورد النزاع وإنما النزاع في أمر آخر وهو أنه هل النار أبدية أو مما كتب عليه الفناء؟ وأما كون الكفار لا يخرجون منها ولا يفتر عنهم من عذابها ولا يقضى عليهم فيموتوا ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط فلم يختلف في ذلك الصحابة ولا التابعون ولا أهل السنة وإنما خالف في ذلك من قد حكينا أقوالهم من اليهود والاتحادية وبعض أهل البدع. وهذه النصوص وأمثالها تقتضي خلودهم في دار العذاب ما دامت باقية ولا يخرجون منها مع بقائها البتة كما يخرج أهل التوحيد منها مع بقائها فالفرق بين من يخرج من الحبس وهو حبس على حاله وبين من يبطل حبسه بخراب الحبس وانتقاضه.
قالوا: وأما الطريق الثالث: وهي مجيء السنة المستفيضة بخروج أهل الكبائر من النار دون أهل الشرك فهي حق لا شك فيه وهي إنما تدل على ما قلناه من خروج الموحدين منها وهي دار العذاب لم تفن ويبقى المشركون فيها ما دامت باقية والنصوص دلت على هذا وعلى هذا.
قالوا: وأما الطريق الرابع: وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقفنا على ذلك ضرورة فلا ريب أنه من المعلوم من دينه بالضرورة أن الكفر باقون فيها ما دامت باقية هذا معلوم من دينه بالضرورة، وأما كونها أبدية لا انتهاء لها ولا تفنى كالجنة، فأين في القرآن والسنة دليل واحد يدل على ذلك.
قالوا: وأما الطريق الخامس وهو أن عقائد أهل السنة أن الجنة والنار مخلوقتان لا يفنيان أبداً. فلا ريب أن القول بفنائهما قول أهل البدع من الجهمية والمعتزلة. وهذا القول لم يقله أحد من الصحابة ولا التابعين ولا أحد من أئمة المسلمين وأما فناء النار وحدها فقد أوجدنا لكم من قال به من الصحابة وتفريقهم بين الجنة والنار فكيف يكون القول به أقوال أهل البدع مع أنه لا يعرف عن أحد من أهل البدع التفريق بين الدارين، فقولكم إنه من أقوال أهل البدع كلام من لا خبرة له بمقالات بني آدم وآرائهم واختلافهم.
قالوا: والقول الذي بعد من أقوال أهل البدع ما خالف كتاب الله وسنة رسوله وإجماع الأمة، أما الصحابة أو من بعدهم، وأما قول يوافق الكتاب والسنة وأقوال الصحابة فلا يعد من أقوال أهل البدع وإن دانوا به واعتقدوا فالحق يجب قبوله ممن قاله. والباطل يجب رده على من قاله وكان معاذ بن جبل يقول: "الله حكم قسط هلك المرتابون إن من ورائكم فتناً يكثر فيها المال ويفتح فيها القرآن حتى يقرؤه المؤمن والمنافق والمرأة والصبي والأسود والأحمر فيوشك أحدهم أن يقول: قد قرأت القرآن فما أظن أن يتبعوني حتى أبتدع فإن كل بدعة ضلالة وإياكم وزيغة الحكيم؟ فإن الشيطان قد يتكلم على لسان الحكيم بكلمة الضلالة، وإن المنافق قد يقول كلمة الحق فتلقوا الحق عمن جاء به فإن على الحق نوراً، قالوا: وكيف زيغة الحكيم، قال: هي الكلمة تروعكم وتنكرونها وتقولون ما هذه؟ فاحذروا زيغته ولا تصدنكم عنه فإنه يوشك أن يفيءوأن يراجع الحق، وإن العلم والإيمان مكانهما إلى يوم القيامة".
والذي أخبر به أهل السنة في عقائدهم هو الذي دل عليه الكتاب والسنة وأجمع عليه السلف أن الجنة والنار مخلوقتان، وأن أهل النار لا يخرجون منها ولا يخفف عنهم من عذابها ولا يفتر عنهم وانهم خالدون فيها، ومن ذكر منهم أن النار لا تفنى أبداً فإنما قاله لظنه أن بعض أهل البدع قال بفنائها، ولم يبلغه تلك الآثار التي تقدم ذكرها قالوا: وأما حكم العقل بتخليد أهل النار فيها، فإخبار عن العقل بما ليس عنده، فإن المسألة من المسائل التي لا تعلم إلا بخبر الصادق.(/44)
وأما أصل الثواب والعقاب: فهل يعلم بالعقل مع السمع أو لا يعلم إلا بالسمع وحده؟ ففيه قولان لنظار المسلمين من أتبع الأئمة الأربعة وغيرهم، والصحيح أن العقل دل على المعاد والثواب والعقاب إجمالاً وأما تفصيله فلا يعلم إلا بالسمع ودوام الثواب والعقاب ما لا يدل عليه العقل بمجرده، وإنما علم بالسمع وقد دل السمع دلالة قاطعة على دوام ثواب المطيعين، وأما عقاب العصاة فقد دل السمع أيضاً دلالة قاطعة على انقطاعه في حق الموحدين، وأما دوامه وانقطاعه في حق الكفار فهذا معترك النزال فمن كان السمع من جانبه فهو أسعد بالصواب. وبالله التوفيق.
الفرق بين دوام الجنة والنار شرعاً وعقلاً:
ونحن نذكر الفرق بين دوام الجنة والنار شرعاً وعقلاً وذلك يظهر من وجوه:
أحدها: أن الله سبحانه وتعالى أخبر ببقاء نعيم أهل الجنة ودوامه وأنه لا نفاد له ولا انقطاع وأنه غير مجذوذ، وأما النار فلم يخبر عنها بأكثر من خلود أهلها فيها وعدم خروجهم منها وأنهم لا يموتون فيها ولا يحيون وأنها مؤصدة عليهم وأنهم كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها وأن عذابها لازم لهم وأنه مقيم عليهم لا يفتر عنهم والفرق بين الخبرين ظاهر.
الوجه الثاني: أن النار قد أخبر سبحانه وتعالى في ثلاث آيات عنها بما يدل على عدم أبديتها. الأولى: قوله سبحانه وتعالى: {قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم} (الأنعام:128)، الثانية: قوله: {خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد} (هود:107).
الثالثة: قوله: {لابثين فيها أحقاباً} (النبأ:23)، ولولا الأدلة القطعية الدالة على أبدية الجنة ودوامها لكان حكم الاستثناءين في الموضعين واحداً كيف وفي الآيتين من السياق ما يفرق بين الاستثناءين فإنه قال في أهل النار: {إن ربك فعال لما يريد} (هود:107)، فعلمنا أنه سبحانه وتعالى يريد أن يفعل فعلاً لم يخبرنا به، وقال في أهل الجنة: {عطاء غير مجذوذ} (هود:108)، فعلمنا أن هذا العطاء والنعيم غير مقطوع عنهم أبداً. فالعذاب مؤقت معلق والنعيم ليس بمؤقت ولا معلق.
الوجه الثالث: أنه قد ثبت أن الجنة لم يدخلها من لم يعمل خيراً قط من المعذبين الذين يخرجهم الله من النار، وأما النار فلم يدخلها من لم يعمل سوءاً قط ولا يعذب إلا من عصاه.
الوجه الرابع: أنه قد ثبت أن الله سبحانه وتعالى ينشيء للجنة خلقاً آخر يوم القيامة يسكنهم إياها ولا يفعل ذلك بالنار، وأما الحديث الذي قد ورد في صحيح البخاري من قوله: [وأما النار فينشيء الله لها خلقاً آخرين] فغلط وقع من بعض الرواة انقلب عليه الحديث وإنما هو ما ساقه البخاري في الباب بنفسه: [وأما الجنة فينشيء الله لها خلقاً آخرين] ذكره البخاري رحمه الله مبيناً أن الحديث انقلب لفظه على من رواه بخلاف هذا وهذا، والمقصود أنه لا تقاس النار بالجنة في التأبيد مع هذه الفروق.
الوجه الخامس: أن الجنة من موجب رحمته ورضاه، والنار من غضبه وسخطه، ورحمته سبحانه تغلب غضبه وتسبقه، كما جاء في الصحيح من حديث أبي هريرة عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: [لما قضى الله الخلق كتب في كتاب فهو عنده موضوع على العرش أن رحمتي تغلب غضبي]. وإذا كان رضاه قد سبق غضبه وهو يغلبه كان التسوية بين ما هو من موجب رضاه وما هو من موجب غضبه ممتنعاً.
الوجه السادس: أن ما كان بالرحمة وللرحمة فهو مقصود لذاته قصد الغايات وما كان من موجب الغضب والسخط فهو مقصود لغيره قصد الوسائل فهو مسبوق مغلوب مراد لغيره وما كان للرحمة فغالب سابق مراد لنفسه.
الوجه السابع: وهو أنه سبحانه قال للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء وقال للنار: أنت عذابي أعذب بك من أشاء، وعذابه مفعول منفصل، وهو ناشيء عن غضبه، ورحمته ههنا هي الجنة وهي رحمة مخلوقة ناشئة عن الرحمة التي هي صفة الرحمن فههنا أربعة أمور رحمة هي صفته سبحانه، وثواب منفصل هو ناشيء عن رحمته، وغضب يقوم به سبحانه، وعقاب منفصل ينشأ عنه إذا غلبت صفة الرحمة صفة الغضب فلأن يغلب ما كان بالرحمة لما كان بالغضب أولى وأحرى، فلا تقاوم النار التي نشأت عن الغضب الجنة التي نشأت عن الرحمة.(/45)
الوجه الثامن: أن النار خلقت تخويفاً للمؤمنين وتطهيراً للخاطئين والمجرمين، فهي طهرة من الخبث الذي اكتسبته النفس في هذا العالم فإن تطهرت ههنا بالتوبة النصوح والحسنات الماحية والمصائب المكفرة لم يحتج إلى تطهير هناك وقيل لها مع جملة الطيبين سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين. وإن لم تتطهر في هذه الدار ووافت الدار الأخرى بدونها ونجاستها وخبثها أدخلت النار طهرة لها ويكون مكثها في النار بحسب زوال ذلك الدرن والخبث والنجاسة التي لا يغسلها الماء، فإذا تطهرت الطهر التام أخرجت من النار والله سبحانه خلق عباده حنفاء وهي فطرة الله التي فطر الناس عليها، فلو خلوا وفطرهم لما نشؤوا إلا على التوحيد ولكن عرض لأكثر الفطر ما غيرها، ولهذا كان نصيب النار أكثر من نصيب الجنة وكان هذا التغيير مراتب لا يحصيها إلا الله فأرسل الله رسوله، وأنزل كتبه يذكر عباده بفطرته التي فطرهم عليها، فعرف الموفقون الذين سبقت لهم من الله الحسنى صحة ما جاءت به الرسل ونزلت به الكتب بالفطرة الأولى فتوافق عندهم شرع الله ودينه الذي أرسل به رسله وفطرته التي فطرهم عليها فمنعتهم الشرعة المنزلة والفطرة المكملة، أن تكتسب نفوسهم خبثاً ونجاسة ودرناً يعلق بها ولا يفارقها، بل كلما ألم بهم شيء من ذلك ومسهم طائف من الشيطان أغاروا عليه بالشرعة والفطرة فأزالوا موجبه وأثره، وكمل لهم الرب تعالى ذلك بأقضية يقضيها لهم مم يحبون أو يكرهون، تمحص عنهم تلك الآثار التي شوشت الفطرة فجاء مقتضى الرحمة فصادف مكاناً قابلاً مستعداً لها ليس فيه شيء يدافعه فقال هنا أمرت وليس لله سبحانه غرض. في تعذيب عباده بغير موجب كما قال تعالى: {ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكراً عليماً} (النساء:147)، واستمر الأشقياء مع تغيير الفطرة ونقلها مما خلقت عليه إلى ضده حتى استحكم الفساد وتم التغيير، فاحتاجوا إلى إزالة ذلك إلى تغيير أخر وتطهير ينقلهم إلى الصحة حيث لم تنقلهم آيات الله المتلوة والمخلوقة وأقداره المحبوبة والمكروهة في هذه الدار، فأتاح لهم آيات أخر وأقضية، وعقوبات فوق التي كانت في الدنيا تستخرج ذلك الخبث والنجاسة التي لا تزول بغير النار، فإذا زال موجب العذاب وسببه زال العذاب وبقي مقتضى الرحمة لا معارض له، فإن قيل هذا حق ولكن سبب التعذيب لا يزول إلا إذا كان السبب عارضاً كمعاصي الموحدين، أما إذا كان لازماً كالكفر والشرك فإن أثره لا يزول كما يزول السبب، وقد أشار سبحانه إلى هذا المعنى بعينه في مواضع من كتابه منها: قوله تعالى: {ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه} فهذا إخبار بأن نفوسهم وطبائعهم لا تقتضي غير الكفر والشرك، وأنها غير قابلة للإيمان أصلاً. ومنها قوله تعالى: {ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلاً} (الإسراء:72)، فأخبر سبحانه أن ضلالهم وعماهم عن الهدى دائم لا يزول حتى مع معاينة الحقائق التي أخبرت بها الرسل، وإذا كان العمى والضلال لا يفارقهم فإن موجبه وأثره ومقتضاه لا يفارقهم. ومنها: قوله تعالى: {ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم، ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون} (الأنفال:23)، وهذا يدل على أنه ليس فيهم خير يقتضي الرحمة ولو كان فيهم خير ما ضيع عليهم أثره، ويدل على أنهم لا خير فيهم هناك أيضاً قوله: [أخرجوا من النار من كان في قلبه أدنى مثقال ذرة من خير] ولو كان عند هؤلاء أدنى أدنى مثقال ذرة من خير لخرجوا منها مع الخارجين.
قيل: لعمر الله إن هذا لمن أقوى ما يتمسك به من المسألة، وإن الأمر لكما قلتم، وإن العذاب يدوم بدوام موجبه وسببه، ولا ريب أنهم في الآخرة في عمى وضلال كما كانوا في الدنيا بواطنهم خبيثة كما كانت في الدنيا، والعذاب مستمر عليهم دائم ما داموا كذلك: ولكن هل هذا الكفر والتكذيب والخبث أمر ذاتي لهم زواله مستحيل أم هو أمر عارض طارئ على الفطرة قابل للزوال؟ هذا حرف المسألة وليس بأيديكم ما يدل على استحالة زواله وأنه أمر ذاتي وقد أخبر سبحانه أنه فطر عباده على الحنيفية، وأن الشياطين اجتالتهم عنها فلم يفطرهم سبحانه على الكفر والتكذيب، كما فطر الحيوان البهيم على طبيعته وإنما فطرهم على الإقرار بخالقهم ومحبته وتوحيده.(/46)
فإن كان هذا الحق الذي قد فطروا عليه وخلقوا عليه قد أمكن زواله بالكفر والشرك الباطل فإمكان زوال الكفر والشرك والباطل بضده من الحق أولى وأحرى، ولا ريب أنهم لو ردوا على تلك الحال التي هم عليها لعادوا لما نهوا عنه ولكن من أين لكم أن تلك الحال لا تزول ولا تتبدل بنشأة أخرى ينشئهم فيها تبارك وتعالى إذا أخذت النار مأخذها منهم، وحصلت الحكمة المطلوبة من عذابهم، فإن العذاب لم يكن سدى وإنما كان لحكمة مطلوبة. فإذا حصلت تلك الحكمة لم يبق في التعذيب أمر يطلب ولا غرض يقصد والله سبحانه ليس يشتفي بعذاب عباده كما يشتفي المظلوم من ظالمه وهو لا يعذب عبده لهذا الغرض، وإنما يعذبه طهرة له ورحمة به فعذابه مصلحة له، وإن تألم به غاية الألم كما أن عذابه بالحدود الدنيا مصلحة لأربابها.
وقد سمى الله سبحانه الحد عذاباً وقد اقتضت حكمته سبحانه أن جعل لكل داء دواء يناسبه، ودواء الداء العضال يكون من أشق الأدوية، والطبيب الشفيق يكوي المريض بالنار كياً بعد كي ليخرج منه المادة الرديئة الطارئة على الطبيعة المستقيمة وإن رأى قطع العضو أصلح للعليل قطعه وأذاقه أشد الألم فهذا قضاء الرب وقدره في إزالة مادة غريبة طرأت على الطبيعة المستقيمة بغير اختيار العبد، فكيف إذا طرأ على الفطرة السليمة مواد فاسدة باختيار العبد وإرادته؟
وإذا تأمل اللبيب شرع الرب تعالى وقدره في الدنيا وثوابه وعقابه في الآخرة وجد ذلك في غاية التناسب والتوافق وارتباط ذلك بعضه ببعض فإن مصدر الجميع عن علم تام وحكمة بالغة ورحمة وهو سبحانه الملك الحق المبين وملكه ملك رحمة وإحسان وعدل.
الوجه التاسع: إن عقوبته بعد ليست لحاجته إلى عقوبته لا لمنفعة تعود إليه ولا لدفع مضرة وألم يزول عنه بالعقوبة. بل يتعالى عن ذلك ويتنزه كما يتعالى عن سائر العيوب والنقائص، ولا هي عبث محض خال عن الحكمة والغاية الحميدة فإنه أيضاً يتنزه عن ذلك ويتعالى عنه، فإما أن يكون من تمام أوليائه وأحبابه، وإما أن يكون من مصلحة الأشقياء ومداواتهم، أو لهذا ولهذا.
وعلى التقادير الثالث، فالتعذيب أمر مقصود لغيره قصد الوسائل لا قصد الغايات والمراد من الوسيلة إذا حصل على الوجه المطلوب زال حكمها، ونعيم أوليائه، ليس متوقفاً في أصله ولا في كماله على استمرار عذاب أعدائه، وهوامه ومصلحة الأشقياء ليست في الدوام والاستمرار، وإن كان في أصل التعذيب مصلحة لهم.
الوجه العاشر: إن رضا الرب تبارك وتعالى ورحمته صفتان ذاتيتان له، فلا منتهى لرضاه بل كما قال أعلم الخلق به: سبحان الله وبحمده عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته. فإن كانت رحمته غلبت فإن رضا نفسه أعلى وأعظم، فإن رضوانه أكثر من الجنات ونعيمها وكل ما فيها وقد أخبر أهل الجنة أنه يحل عليهم رضوانه فلا يسخط عليهم أبداً، وأما غضبه تبارك وتعالى وسخطه فليس من صفاته الذاتية التي يستحيل انفكاكه عنها بحيث لم يزل ولا يزال غضبان والناس لهم في صفة الغضب قولان:
أحدهما: أنه من صفاته الفعلية القائمة به كسائر أفعاله.
والثاني: أنه صفة فعل منفصل عنه غير قائم به. وعلى القولين فليس كالحياة والعلم والقدرة التي يستحيل مفارقتها له والعذاب إنما ينشأ من صفة غضبه وما سعرت النار إلا بغضبه، وقد جاء في أثر مرفوع: [إن الله خلق خلقاً من غضبه وأسكنهم بالمشرق وينتقم بهم ممن عصاه] فمخلوقاته سبحانه نوعان من نوع مخلوق من الرحمة وبالرحمة. ونوع مخلوق من الغضب وبالغضب.
فإنه سبحانه له الكمال المطلق من جميع الوجوه الذي يتنزه عن تقدير خلافه ومنه أنه يرضى ويغضب ويثيب ويعاقب ويعطي ويمنع ويعز ويذل وينتقم ويعفو. بل هذا موجب ملكه الحق وهو حقيقة الملك المقرون بالحكمة والرحمة والحمد. فإذا زال غضبه سبحانه وتبدل برضاه زالت عقوبته وتبدلت برحمته فانقلبت العقوبة رحمة بل لم تزل رحمة وإن تنوعت صفتها وصورتها كما كان عقوبة العصاة رحمة وإخراجه من النار رحمة، فتقلبوا في رحمته في الدنيا وتقلبوا فيها في الآخرة، لكن تلك رحمة يحبونها وتوافق طبائعهم وهذه رحمة يكرهونها وتشق عليهم كرحمة الطبيب الذي يبضع لحم المريض ويلقي عليه المكاوي ليستخرج منه المواد الرديئة الفاسدة.
فإن قيل: هذا اعتبار غير صحيح فإن الطبيب يفعل ذلك بالعليل وهو يحبه وهو راض عنه ولم ينشأ فعله به عن غضبه عليه ولهذا لا يسمى عقوبة، وأما عذاب هؤلاء فإنه إنما حصل بغضبه سبحانه عليهم وهو عقوبة محضة.(/47)
قيل: هذا حق ولكن لا ينافي كونه رحمة بهم، وإن كان عقوبة لهم وهذا كإقامة الحدود عليهم في الدنيا فإنها عقوبة ورحمة وتخفيف وطهرة، فالحدود طهرة لأهلها وعقوبة، وهم ما أغضبوا الرب تعالى وقابلوه لما لا يطيق أن يقابل به وعاملوه أقبح المعاملة وكذبوه وكذبوا رسله وجعلوا أقل خلقه وأخبثهم وأمقتهم له نداً له، وآلهة معه وآثروا رضاهم على رضاه وطاعتهم على طاعته، وهو ولي الإنعام عليهم وهو خالقهم ورازقهم ومولاهم، الحق الذي اشتد مقته لهم وغضبه عليهم وذلك يوجب كمال أسمائه وصفاته التي يستحيل عليه تقدير خلافاتها ويستحيل عليه تخلف آثارها ومقتضاها عنها بل ذلك تعطل لأحكامها، كما أن نفيها عنه تعطيل لحقائقها وكلا التعطيلين محال عليه سبحانه.
فالمعطلون نوعان أحدهما: عطل صفاته والثاني عطل أحكامها وموجباتها. وكان هذا العذاب عقوبة لهم من هذا الوجه ودواء لهم من جهة الرحمة السابقة للغضب فاجتمع فيه الأمران، فإذا زال الغضب بزوال سببه وزالت المادة الفاسدة بتغير الطبيعة المقتضية لها في الجحيم بمرور الأحقاب عليها، وحصلت الحكمة التي أوجبت العقوبة عملت الرحمة عملها وطلبت أثرها من غير معارض.
الوجه الحادي عشر: وهو أن العفو أحب إليه سبحانه من الانتقام، والرحمة أحب إليه من العقوبة والرضا أحب إليه من الغضب. والفضل أحب إليه من العدل. ولهذا ظهرت آثار المحبة في شرعه وقدره ويظهر كل الظهور لعباده في ثوابه وعقابه، وإذا كان ذلك أحب الأمرين إليه وله خلق الخلق وأنزل الكتب وشرع الشرائع وقدرته سبحانه صالحة لكل شيء لا قصور فيها بوجه ما، وتلك المواد الرديئة الفاسدة مرض من الأمراض وبيده سبحانه الشفاء التام والأدوية الموافقة لكل داء، وله القدرة التامة والرحمة البالغة والغنى المطلق، وبالعبد أعظم حاجة إلى من يداوي علته التي بلغت غاية الضرر والمشقة، وقد عرف العبد أنه عليل وأن دواءه بيد الغني الحميد، فتضرع إليه ودخل به عليه واستكان له وانكسر قلبه بين يديه وذل لعزته وعرف أن الحمد كله له، وأن الخلق كله وأنه هو الظلوم الجهول وأن ربه تبارك وتعالى عامله بكل عدله لا يبغض عدله، وأن له غاية الحمد فيما فعل به، وأن حمده هو الذي أمامه، في هذا المقام وأوصله إليه وأنه لا خير عنده من نفسه بوجه من الوجوه، بل ذلك محض فضل الله وصدقه عليه وأنه لا نجاة له مما هو فيه بمجرد العفو والتجاوز عن حقه فنفسه أولى بكل ذم وعيب ونقص، وربه تعالى أولى بكل حمد وكمال ومدح.
فلو أن أهل الجحيم شهدوا نعمته سبحانه ورحمته وكماله وحمده الذي أوجب لهم ذلك فطلبوا مرضاته ولو بدوامهم في تلك الحال. وقالوا إن كان ما نحن فيه رضاك فرضاك الذي نرى وما أوصلنا إلى هذه الحال إلا طلب ما لا يرضيك فأما إذا أرضاك، هذا منا فرضاك غاية ما نقصده (وما لجرح إذا أرضاك من ألم) وأنت أرحم بنا من أنفسنا وأعلم بمصالحنا لك الحمد كله، عاقبت أو عفوت، لانقلبت النار عليهم برداً وسلاماً.
وقد روى الإمام أحمد في مسنده من حديث الأسود بن سريع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [يأتي أربعة يوم القيامة رجل أصم لا يسمع شيئاً، ورجل أحمق، ورجل هرم، ورجل مات في فترة، فأما الأصم فيقول: رب لقد جاء الإسلام وما أسمع شيئاً. وأما الأحمق فيقول: رب لقد جاء الإسلام والصبيان يحذفوني بالبعر. وأما الهرم فيقول: ربي لقد جاء الإسلام وما أعقل شيئاً، وأما الذي مات في الفترة فيقول: رب ما أتاني لك من رسول، فيأخذ مواثيقهم ليطيعنه فيرسل إليهم أن ادخلوا النار، قال فو الذي نفس محمد بيده لو دخلوها لكانت عليهم برداً وسلاماً].
وفي المسند أيضاً: من حديث قتادة عن الحسن عن أبي رافع عن أبي هريرة مثله وقال: [فمن دخلها كانت عليه برداً وسلاماً ومن لم يدخلها يسحب إليها] فهؤلاء لما رضوا بتعذيبهم وبادروا إليه لما علموا أن فيه رضي ربهم وموافقة أمره ومحبته انقلب في حقهم نعيماً.
ومثل هذا، وما رواه عبدالله بن المبارك حدثني رشدين قال حدثني ابن أنعم عن أبي عثمان أنه حدثه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [إن رجلين ممن دخلا النار يشتد صياحهما. فقال الرب جل جلاله: أخرجوهما فإذا أخرجا فقال لهما: لأي شيء اشتد صياحكما؟ قالا: فعلنا ذلك لترحمنا، قال: رحمتي لكما أن تنطلقا فتلقيا أنفسكما حيث كنتما من النار. قال فينطلقان فيلقي أحدهما نفسه فيجعلهما الله سبحانه عليه برداً وسلاماً، ويقوم الآخر فلا يلقي فيقول له الرب: ما منعك أن تلقي نفسك كما ألقى صاحبك؟ فيقول: رب إني أرجوك أن لا تعيدني فيها بعد ما أخرجتني منها، فيقول الرب تعالى لك رجاؤك، فيدخلان الجنة جميعاً برحمة الله].(/48)
وذكر الأوزاعي عن بلاد بن سعيد قال: "يؤمر بإخراج رجلين من النار فإذا أخرجا ووقفا قال الله لهما كيف وجدتما مقيلكما وسوء مصيركما؟ فيقولان: شر مقيل، وأسوء مصير، ثار إليه العباد، فيقول لهما: بما قدمت أيديكما وما أنا بظلام للعبيد، قال: فيؤمر بصرفهما إلى النار فأما أحدهما فيغدو في أغلاله وسلاسله حتى يقتحمها: وأما الآخر فيتلكأ فيؤمر بردهما فيقول للذي غدا في أغلاله وسلاسله حتى اقتحمها: ما حملك على ما صنعت وقد خرجت منها؟ فيقول إني خبرت من وبال معصيتك ما لم أكن أتعرض لسخطك ثانياً. ويقول الذي تلكأ: ما حملك على ما صنعت؟؟ فيقول: حسن ظني بك حين أخرجتني منها أن لا تردني إليها فيرحمهما جميعاً ويأمر بهما إلى الجنة".
الوجه الثاني عشر: أن النعيم والثواب من مقتضى رحمته ومغفرته وبره وكرمه ولذلك يضيف ذلك إلى نفسه. وأما العذاب والعقوبة فإنما هو من مخلوقاته، لذلك لا يسمى بالمعاقب والمعذب بل يفرق بينهما فيجعل ذلك من أوصافه وهذا من مفعولاته حتى في الآية الواحدة كقوله تعالى: {نبيء عبادي أني أنا الغفور الرحيم. وأن عذابي هو العذاب الأليم} (الحجر:49-50)، وقال تعالى: {اعلموا أن الله شديد العقاب، وأن الله غفور رحيم} (المائدة:98)، وقال تعالى: {إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم} (الأعراف:67)، ومثلها في آخر الأنعام، فما كان من مقتضى أسمائه وصفاته فإنه يدوم بدوامها ولا سيما إذا كان محبوباً له وهو غاية مطلوبة في نفسها وأما الشر الذي هو العذاب في أسمائه وصفاته، وإن دخل في مفعولاته لحكمه إذا حصلت زال وفني بخلاف الخير، فإنه سبحانه دائم المعروف لا ينقطع معروفه أبداً وهو قديم الإحسان أبدي الإحسان، فلم يزل ولا يزال محسناً على الدوام. وليس من موجب أسمائه وصفاته أنه لا يزال معاقباً على الدوام غضبان على الدوام منتقماً على الدوام، فتأمل هذا الوجه تأمل فقيه في باب أسماء الله وصفاته، يفتح لك باباً من أبواب معرفته ومحبته.
الوجه الثالث عشر: وهو قول أعلم خلقه به، وأعرفهم بأسمائه وصفاته [والشر ليس إليك] ولم يقف على المعنى المقصود من قال الشر لا يتقرب به إليك، بل الشر لا يضاف إليه سبحانه بوجه لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله ولا أسمائه، فإن ذاته لها الكمال المطلق من جميع الوجوه، وصفاته كلها صفات كمال يحمد عليها ويثنى عليه بها، وأفعاله كلها خير ورحمة وعدل، وحكمة لا شر فيها بوجه ما، وأسماؤه كلها حسنى، فكيف يضاف الشر إليه بل الشر في مفعولاته ومخلوقاته وهو منفصل عنه، إذ فعله غير مفعوله ففعله خير كله، وأما المخلوق المفعول ففيه الخير والشر.
وإذا كان الشر مخلوقاً منفصلاً غير قائم بالرب سبحانه فهو لا يضاف إليه وهو صلى الله عليه وسلم لم يقل: أنت لا تخلق الشر حتى يطلب تأويل قوله، وإنما نفي إضافته إليه وصفة وفعلاً وأسماء، وإذا عرف هذا فالشر ليس إلا الذنوب وموجباتها.
وأما الخير فهو الإيمان والطاعات وموجباتها، والإيمان والطاعات متعلقة به سبحانه، ولأجلها خلق خلقه وأرسل رسله وأنزل كتبه، وهي ثناء على الرب وإجلاله وتعظيمه وعبوديته، وهذه لها آثار تطلبها وتقتضيها فتدوم آثارها بدوام متعلقها.
وأما الشرور فليست مقصودة لذاتها. ولا هي الغاية التي خلق لها الخلق فهي مفعولات قدرت لأمر محبوب وجعلت وسيلة إليه فإذا حصل ما قدرت له اضمحلت وتلاشت وعاد الأمر إلى الخير المحض.
الوجه الرابع عشر: أنه سبحانه قد أخبر أن رحمته وسعت كل شيء. فليس شيء من الأشياء إلا وفيه رحمته ولا ينافي هذا أن يرحم العبد بما يشق عليه ويؤلمه وتشتد كراهته له فإن ذلك من رحمته أيضاً كما تقدم.
وقد ذكرنا حديث أبي هريرة آنفاً وقوله تعالى لذينك الرجلين: رحمتي لكما أن تنطلقا فتلقيا أنفسكما حيث كنتما من النار. وقد جاء في بعض الآثار أن العبد إذا دعا لمبتلى قد اشتد بلاؤه وقال: اللهم ارحمه: يقول الرب تبارك وتعالى: كيف أرحمه من شيء به أرحمه. فالابتلاء رحمة منه لعباده (وفي أثر إلهي) يقول الله تعالى: "أهل ذكري أهل مجالستي. وأهل طاعتي أهل كرامتي، وأهل شكري أهل زيادتي، وأهل معصيتي لا أقنطهم من رحمتي إن تابوا فأنا حبيبهم وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم أبتليهم بالمصايب لأطهرهم من المعايب": فالبلاء والعقوبة أدوية قدرت لإزالة أدواء لا تزول إلا بها والنار هي الدواء الأكبر فمن تداوى في الدنيا أغناه ذلك عن الدواء في الآخرة، وإلا فلا بد له من الدواء بحسب دائه ومن عرف الرب تبارك وتعالى بصفات جلاله ونعوت كماله من حكمته ورحمته وبره وإحسانه وغناه وجوده وتحببه إلى عباده وإرادة الإنعام عليهم وسبق رحمته لهم لم يبادر إلى إنكار ذلك إن لم يبادر إلى قبوله.(/49)
الوجه الخامس عشر: أن أفعاله سبحانه لا تخرج عن الحكمة والرحمة والمصلحة والعدل، فلا يفعل عبثاً ولا جوراً ولا باطلاً بل هو المنزه عن ذلك كما ينزه عن سائر العيوب والنقائص. وإذا ثبت ذلك فتعذيبهم إن كان رحمة بهم حتى يزول ذلك الخبث وتكمل الطهارة فظاهر، وإن كان لحكمة فإذا حصلت تلك الحكمة المطلوبة زال العذاب وليس في الحكمة دوام العذاب أبد الآباد بحيث يكون دائماً بدوام الرب تبارك وتعالى وإن كان لمصلحة فإن كان يرجع إليهم، فليست مصلحتهم في بقائهم في العذاب كذلك، وإن كانت المصلحة تعود إلى أوليائه فإن ذلك أكمل في نعيمهم فهذا لا يقتضي تأبيد العذاب وليس نعيم أوليائه وكماله موقوفاً، على بقاء آبائهم وأبنائهم وأزواجهم في العذاب السرمد.
فإن قلتم: إن ذلك هو موجب الرحمة والحكمة والمصلحة قلتم ما لا يعقل، وإن قلتم إن ذلك عائد إلى محض المشيئة ولا تطلب له حكمة ولا غاية فجوابه من وجهين.
أحدهما: إن ذلك محال على أحكم الحاكمين وأعلم العالمين أن تكون أفعاله معطلة عن الحكم والمصالح والغايات المحمودة والقرآن والسنة وأدلة العقول والفطر والآيات المشهودة شاهدة ببطلان ذلك.
والثاني: أنه لو كان الأمر كذلك لكان إبقاؤهم في العذاب وانقطاعه عنهم بالنسبة إلى مشيئته سواء ولم يكن في انقضائه ما ينافي كماله وهو سبحانه لم يخبر بأبدية العذاب وأنه لا نهاية له. وغاية الأمر على هذا التقدير: أن يكون من الجائزات الممكنات الموقوف حكمها على خبر الصادق. فإن سلكت طريق التعليل بالحكمة والرحمة والمصلحة لم يقتض الدوام، وإن سلكت طريق المشيئة المحضة التي لا تعلل لم تقتضه أيضاً. وإن وقف الأمر على مجرد السمع فليس فيه ما يقتضيه.
السادس عشر: أن رحمته سبحانه سبقت غضبه في المعذبين فإنه أنشأهم في رحمته، ورباهم برحمته ورزقهم وعافاهم برحمته وأرسل إليهم الرسل برحمته وأسباب النقمة والعذاب متأخرة عن أسباب الرحمة طارئة عليهم فرحمته سبقت غضبه فيها وخلقهم على خلقه، تكون رحمته إليهم أقرب من غضبه وعقوبته. ولهذا ترى أطفال الكفار قد ألقى عليهم رحمته فمن رآهم رحمهم، ولهذا نهى عن قتلهم فرحمته سبقت غضبه فيهم، فكانت هي السابقة إليهم ففي كل حال هم في رحمته في حال معافاتهم وابتلائهم.
وإذا كانت الرحمة هي السابقة فيهم لم يبطل أثرها بالكلية وإن عارضهم أثر الغضب والسخط فذلك لسبب منهم، وما أثر الرحمة فسببه منه سبحانه فما منه يقتضي رحمته. وما منهم يقتضي عقوبتهم والذي منه سابق غالب، وإذا كانت رحمته تغلب غضبه فلأن يغلب أثر الرحمة أثر الغضب أولى وأحرى.
الوجه السابع عشر: أنه سبحانه يخبر عن العذاب أنه عذاب يوم عقيم وعذاب يوم عظيم، وعذاب يوم أليم، ولا يخبر عن النعيم أنه نعيم يوم ولا في موضع واحد.
وقد ثبت في الصحيح: تقدير يوم القيامة بخمسين ألف سنة والمعذبون متفاوتون في مدة لبثهم في العذاب بحسب جرائمهم، والله سبحانه جعل العذاب على ما كان من الدنيا وأسبابها، وما أريد به الدنيا ولم يرد به وجه الله فالعذاب على ذلك.
وأما ما كان للآخرة وأريد به وجه الله فلا عذاب عليه، والدنيا قد جعل لها أجل تنتهي إليه فما انتقل منها إلى تلك الدار مما ليس لله فهو المعذب به. وأما ما أريد به وجه الله والدار الآخرة فقد أريد به مالا يفني ولا يزول، فيدوم بدوام المراد به، فإن الغاية المطلوبة إذا كانت دائمة لا تزول لم يزل ما تعلق به بخلاف الغاية المضمحلة الفانية، فما أريد به غير الله يضمحل ويزول بزوال مراده ومطلوبه وما أريد به وجه الله يبقى ببقاء المطلوب المراد فإذا اضمحلت الدنيا وانقطعت أسبابها وانتقل ما كان فيها لغير الله من الأعمال والذوات وانقلب عذابا وآلاماً لم يكن له متعلق يدوم بدوامه بخلاف النعيم.
الوجه الثامن عشر: أنه ليس في حكمة أحكم الحاكمين أن يخلق خلقاً يعذبهم أبد الآباد عذاباً سرمداً لا نهاية له ولا انقطاع أبداً، وقد دلت الأدلة السمعية والعقلية والفطرية على أنه سبحانه حكيم وأنه أحكم الحاكمين فإذا عذب خلقه عذبهم بحكمه كما يوجب التعذيب والعقوبة في الدنيا وقدره، فإن فيه من الحكم والمصالح وتطهير العبد ومداواته وإخراج المواد الرديئة بتلك الآلام ما تشهده العقول الصحيحة وفي ذلك من تزكية النفوس وصلاحها وزجرها وردع نظائرها وتوقيفها على فقرها وضرورتها إلى ربها وغير ذلك من الحكم والغايات الحميدة مالا يعلمه إلا الله.
ولا ريب أن الجنة طيبة لا يدخلها إلا طيب ولهذا يحاسبون إذا قطعوا الصراط على قنطرة بين الجنة والنار فيقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة.(/50)
ومعلوم أن النفوس الشريرة الخبيثة المظلمة التي لو ردت إلى الدنيا قبل العذاب لعادت لما نهيت عنه، لا يصلح أن تسكن دار السلام في جوار رب العالمين، فإذا عذبوا بالنار عذاباً تخلص نفوسهم من ذلك الخبث والوسخ والدرن، كان ذلك من حكمة أحكم الحاكمين ورحمته ولا ينافي الحكمة خلق نفوس فيها شر يزول بالبلاء الطويل والنار، كما يزول بها خبث الذهب والفضة والحديد فهذا معقول في الحكمة وهو من لوازم العالم المخلوق على هذه الصفة.
أما خلق نفوس لا يزول شرها أبداً وعذابها لا انتهاء له، فلا يظهر في الحكمة والرحمة، وفي وجود مثل هذا النوع نزاع بين العقلاء أعني ذواتاً، هي شر من كل وجه ليس فيها شيء من خير أصلاً.
وعلى تقدير دخوله في الوجود، فالرب تبارك وتعالى قادر على قلب الأعيان وإحالتها وإحالة صفاتها.
فإذا وجدت الحكمة المطلوبة من خلق هذه النفوس والحكمة المطلوبة من تعذيبها، فالله سبحانه قادر أن ينشئها نشأة أخرى غير تلك النشأة، ويرحمها في النشأة الثانية نوعاً آخر من الرحمة.
الوجه التاسع عشر: وهو أنه قد ثبت أن الله سبحانه ينشيء للجنة خلقاً آخر، يسكنهم إياها، ولم يعملوا خيراً تكون الجنة جزاء لهم عليه، فإذا أخذ العذاب من هذه النفوس مأخذه وبلغت العقوبة مبلغها فانكسرت تلك النفوس وخضعت وذلت واعترفت لربها وفاطرها بالحمد، وأنه عدل فيها كل العدل، وأنها في هذه الحال كانت في تخفيف منه ولو شاء أن يكون عذابهم أشد من ذلك لفعل.
وشاء كتب العقوبة طلباً لموافقة رضاه ومحبته وعلم أن العذاب أولى بها وأنه لا يليق بها سواه ولا تصلح إلا له فذابت منها تلك الخبائث كلها وتلاشت، وتبدلت بذل وانكسار وحمد وثناء على الرب تبارك وتعالى، ولم يكن في حكمته أن يستمر بها في العذاب بعد ذلك، إذ قد تبدل شرها بخيرها، وشركها بتوحيدها وكبرها بخضوعها وذلها.
ولا ينتقص هذا بقوله عز وجل {ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه} فإن هذا قبل مباشرة العذاب الذي يزيل تلك الخبائث، وإنما هو عند المعاينة قبل الدخول فإنه سبحانه قال {ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين، بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون} (الأنعام:27-28).
فهذا إنما قالوه قبل أن يستخرج العذاب منهم تلك الخبائث، فأما إذا لبثوا في العذاب أحقاباً، والحقب كما رواه الطبراني في معجمه من حديث أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: [الحقب خمسون ألف سنة] فإنه من الممتنع أن يبقى ذلك الكبر والشرك والخبث بعد هذه المدد المتطاولة في العذاب.
الوجه العشرون: أنه قد ثبت في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري في حديث الشفاعة [فيقول الله عز وجل شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون ولم يبق إلا أرحم الراحمين، فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قوماًلم يعملوا خيراً قط قد عادوا حما فيلقيهم في نهر في أفواه الجنة، يقال له نهر الحياة فيخرجون كما تخرج الحبة في حميلالسيل.
فيقول أهل الجنة: هؤلاء عتقاء الله الذين أدخلهم الله الجنة بغير عمل عملوه ولا خير قدموه].
فهؤلاء أحرقتهم النار جميعهم فلم يبق في بدن أحدهم موضع لم تمسه النار، بحيث صاروا حما، وهو الفحم المحترق بالنار. وظاهر السياق أنه لم يكن في قلوبهم مثقال ذرة من خير فأخرجوه، فيخرجون خلقاً كثيراً ثم يقولون ربنا لم نذر فيها خيراً، فيقول الله عز وجل: شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون ولم يبق إلا أرحم الراحمين فيقبض الله قبضة من النار فيخرج منها قوماً لم يعملوا خيراً قط.
فهذا السياق يدل على أن هؤلاء لم يكن في قلوبهم مثقال ذرة من خير، ومع هذا أخرجتهم الرحمة ومن هذا رحمته سبحانه للذي أوصى أهله أن يحرقوه بالنار ويذروه في البر والبحر زعماً منه بأنه يفوت الله سبحانه، بهذا قد شك في المعاد والقدرة ولم يعمل خيراً قط.
ومع هذا فقال له: ما حملك على ما صنعت؟ قال: خشيتك وأنت أعلم، فما تلافاه أن رحمه الله فلله سبحانه في خلقه حكم لا تبلغه عقول البشر.
وقد ثبت في حديث أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [يقول الله عز وجل: أخرجوا من النار من ذكرني يوماً أو خافني في مقام] قالوا: ومن ذا الذي في مدة عمره كلها من أولها إلى آخرها لم يذكر ربه يوماً واحداً ولا خافه ساعة واحدة، ولا ريب أن رحمته سبحانه إذا أخرجت من النار من ذكره وقتاً أو خافه في مقام ما، فغير بدع أن تفنى النار ولكن هؤلاء خرجوا منها وهي نار.
الوجه الحادي والعشرون: إن اعتراف العبد بذنبه حقيقة الاعتراف المتضمن لنسبة السوء والظلم واللوم إليه من كل وجه ونسبة العدل والحمد والرحمة والكمال المطلق إلى ربه من كل وجه، ويستعطف ربه تبارك وتعالى عليه، ويستدعي رحمته له.(/51)
وإذا أراد أن يرحم عبده ألقى ذلك في قلبه والرحمة معه، ولا سيما إذا اقترن بذلك جزم العبد على ترك المعاودة لما يسخط ربه عليه، وعلم الله أن ذلك داخل قلبه وسويدائه، فإنه لا تتخلف عنه الرحمة مع ذلك.
وفي معجم الطبراني من حديث يزيد بن سنان الرهاوي عن سليمان بن عامر عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إن آخر رجل يدخل الجنة رجل يتقلب على الصراط ظهراً لبطن، كالغلام يضربه أبوه وهو يفر منه، يعجز عنه عمله أن يسعى فيقول: يا رب بلغ بي الجنة ونجني من النار، فيوحي الله تبارك وتعالى إليه: عبدي إن أنا نجيتك من النار وأدخلتك الجنة أتعترف لي بذنوبك وخطاياك؟ فيقول العبد: نعم يا رب، وعزتك وجلالك إن نجيتني من النار لأعترفن لك بذنوبي وخطاياي فيجوز الجسر، ويقول العبد فيما بينه وبين نفسه: لئن اعترفت له بذنوبي وخطاياي ليردني إلى النار، فيوحي الله إليه: عبدي اعترف لي بذنوبك وخطاياك أغفرها لك وأدخلك الجنة فيقول العبد: لا وعزتك وجلالك، ما أذنبت ذنباً قط ولا أخطأت خطيئة قط فيوحي الله إليه: عبدي إن لي عليك بينة، فيلتفت العبد يميناً وشمالاً فلا يرى أحداً، فيقول: يا رب أرني بينتك فيستنطق الله تعالى جلده بالمحقرات، فإذا رأى ذلك العبد فيقول: يا رب عندي وعزتك العظائم فيوحي الله إليه عبدي أنا أعرف بها منك اعترف لي بها أغفرها لك وأدخلك الجنة فيعترف العبد بذنوبه فيدخل الجنة]، ثم ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه يقول: [هذا أدنى أهل الجنة منزلة فكيف بالذي فوقه؟].
فالرب تعالى يريد من عبده الاعتراف والانكسار بين يديه والخضوع والذلة له والعزم على مرضاته، فما دام أهل النار فاقدين لهذه الروح فهم فاقدون لروح الرحمة فإذا أراد عز وجل أن يرحمهم أو من يشاء منهم جعل في قلبه ذلك فتدركه الرحمة، وقدرة الرب تبارك وتعالى غير قاصرة على ذلك، وليس فيه ما يناقض موجب أسمائه وصفاته، وقد أخبر أنه فعال لما يريد.
الوجه الثاني والعشرون: أنه سبحانه قد أوجب الخلود على معاصي من الكبائر وقيده بالتأييد ولم يناف ذلك انقطاعه وانتهاءه: فمنها: قوله تعالى: {ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً} (النساء:93).
ومنها: قول النبي صلى الله عليه وسلم: [من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في نار جهنم خالداً فيها أبداً] وهو حديث صحيح.
وكذلك قوله في الحديث الآخر في قاتل نفسه: [فيقول الله تبارك وتعالى بادرني عبدي بنفسه حرمت عليه الجنة] وأبلغ من هذا قوله تعالى: {ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبداً} (الجن:23)، فهذا وعيد مقيد بالخلود والتأييد، مع انقطاعه قطعاً بسبب من العبد وهو التوحيد، فكذلك الوعيد العام لأهل النار لا يمتنع انقطاعه، بسبب ممن كتب على نفسه الرحمة وغلبت رحمته غضبه، فلو يعلم الكافر بكل ما عنده من الرحمة لما يئس من رحمته كما في صحيح البخاري عنه صلى الله عليه وسلم: [خلق الله الرحمة يوم خلقها مائة رحمة، وقال في آخره فلو يعلم الكافر بكل الذي عند الله من الرحمة لم ييأس من الجنة، ولو يعلم المسلم بكل الذي عند الله من العذاب لم يأمن من النار].
الوجه الثالث والعشرون: أنه لو جاء الخبر منه سبحانه صريحاً بأن عذاب النار لا انتهاء له، وأنه أبدي لا انقطاع له، لكان ذلك وعيداً منه سبحانه والله تعالى لا يخلف وعده، وأما الوعيد فمذهب أهل السنة كلهم أن أخلاقه كرم وعفو وتجاوز يمدح الرب تبارك وتعالى به ويثني عليه به فإنه حق له إن شاء تركه، وإن شاء استوفاه، والكريم لا يستوفي حقه فكيف بأكرم الأكرمين؟!
وقد صرح سبحانه في كتابه في غير موضع بأنه لا يخلف وعده، ولم يقل في موضع واحد لا يخلف وعيده.
وقد روى أبو يعلى الموصلي ثنا هديه بن خالد ثنا سهيل بن أبي حزم ثنا ثابت البناني عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [من وعده الله على عمل ثواباً فهو منجزه، ومن أوعده على عمل عقاباً فهو فيه بالخيار].
وقال أبو الشيخ الأصبهاني حدثنا محمد بن حمزة حدثنا أحمد بن الخليل حدثنا الأصمعي قال: "جاء عمرو بن عبيد إلى أبي عمرو بن العلاء فقال: يا أبا عمرو يخلف الله ما وعده؟ قال: لا، قال: أفرأيت من أوعده الله على عمله عقاباً أيخلف الله وعده عليه؟ فقال أبو عمرو بن العلاء من العجمة أتيت يا أبا عثمان إن الوعد غير الوعيد إن العرب لا تعد عاراً ولا خلقاً أن تعد شراً، ثم لا تفعله ترى ذلك كرماً وفضلاً، وإنما الخلف أن تعد خيراً ثم لا تفعله، قال: فأوجدني هذا في كلام العرب، قال: نعم، أما سمعت إلى قول الأول:-
ولا يرهب ابن العم ما عشت سطوتي ولا أختشي من صولة المتهدد
وإني وإن أوعدته أو وعدته لمخلف إيعادي ومنجز موعدي(/52)
قال أبو الشيخ وقال يحيى بن معاذ: الوعد والوعيد حق، فالوعد حق العباد على الله ضمن لهم إذا فعلوه كذا أن يعطيهم وكذا، ومن أولى بالوفاء من الله، والوعيد حقه على العباد قال: لا تفعلوا كذا فأعذبكم، ففعلوا فإن شاء عفا، وإن شاء أخذ لأنه حقه وأولاهما بربنا تبارك وتعالى، العفو والكرم إنه غفور رحيم، ومما يدل على ذلك ويؤيده خبر كعب بن زهير حين أوعده رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
نبئت أن رسول الله أوعدني والعفو عند رسول الله مأمول
فإذا كان هذا في وعيد مطلق، فكيف بوعيد مقرون، استثناء معقب بقوله {إن ربك فعال لما يريد} وهذا إخبار منه أن يفعل ما يريد عقيب قوله إلا ما شاء ربك فهو عائد إليه ولا بد، ولا يجوز أن يرجع إلى المستثنى منه وحده، إما أن يختص بالمستثنى أو يعود إليهما وغير خاف أن تعلقه بقوله {إلا ما شاء ربك} أو من تعلقه بقوله {خالدين فيها} وذلك ظاهر للمتأمل وهو الذي فهمه الصحابة، فقالوا: أتت هذه الآية على كل وعيد في القرآن، ولم يريدوا بذلك الاستثناء وحده، فإن الاستثناء مذكور في الأنعام أيضاً، وإنما أرادوا عقب الاستثناء بقوله {إن ربك فعال لما يريد} وهذا التعقيب نظير قوله في الأنعام {خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم} (الأنعام:128) فأخبر أن عذابهم في جميع الأوقات ورفعه عنهم في وقت يشاؤه صادر عن كمال علمه وحكمته لا عن مشيئة مجردة عن الحكمة والمصلحة والرحمة والعدل، وإذا يستحيل تجرد مشيئته عن ذلك.
الوجه الرابع والعشرون: أن جانب الرحمة أغلب في هذه الدار الباطلة الفانية الزائلة عن قرب من جانب العقوبة والغضب ولولا ذلك لما عمرت ولا قام لها وجود، كما قال تعالى: {ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليهم من دابة} وقال {ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة} (النحل:61)، فلولا سعة رحمته ومغفرته وعفوه لما قام العالم، ومع هذا فالذي أظهره من الرحمة في هذه الدار، وأنزله بين الخلائق جزء من مائة جزء من الرحمة، فإذا كان جانب الرحمة قد غلب في هذه الدار ونالت البر والفاجر والمؤمن والكافر، مع قيام مقتضى العقوبة به ومباشرته له وتمكنه من إغضاب ربه والسعي في مساخطته، فكيف لا يغلب جانب الرحمة في دار تكون الرحمة فيها مضاعفة، على ما في هذه الدار تسعاً وتسعين ضعفاً، وقد أخذا العذاب من الكفار مأخذه، وانكسرت تلك النفوس وأنهكها العذاب، وأذاب منها خبثاً وشراً لم يكن يحول بينها وبين رحمته لها في الدنيا، بل كان يرحمها مع قيام مقتضى العقوبة والغضب بها فيكيف إذا زال مقتضى الغضب والعقوبة، وقوى جانب الرحمة أضعاف أضعاف الرحمة في هذه الدار واضمحل الشر والخبث الذي فيها فأذابته النار وأكلته.
وسر الأمر أن أسماء الرحمة والإحسان أغلب وأظهر، وأكثر من أسماء الانتقام، وفعل الرحمة أكثر من فعل الانتقام وظهور آثار الرحمة أعظم من ظهور آثار الانتقام، والرحمة أحب إليه من الانتقام، وبالرحمة خلق خلقه ولها خلقهم، وهي التي سبقت غضبه وغلبته وكتبها على نفسه، ووسعت كل شيء، وما خلق بها فمطلوب لذاته، وما خلق بالغضب فمراد لغيره، كما تقدم تقرير ذلك والعقوبة تأديب وتطهير. والرحمة إحسان وكرم وجود والعقوبة مداواة، والرحمة عطاء وبذل.
الوجه الخامس والعشرون: أنه سبحانه لا بد أن يظهر لخلقه جميعهم يوم القيامة صدقه وصدق رسله، وأن أعداءهكانواهم الكاذبين المفترين، ويظهر لهم حكمه الذي هو أعدل حكم في أعدائه وأنه حكم فيها حكماً يحمدونه هم عليه فضلاً عن أوليائه وملائكته ورسله بحيث ينطق الكون كله بالحمد لله رب العالمين ولذلك قال تعالى: {وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين} (الزمر:75)، فحذف فاعل القول لإرادة الإطلاق وأن ذلك جار على لسان كل ناطق وقلبه. قال الحسن لقد دخلوا النار، وأن قلوبهم لممتلئة من حمده ما وجدوا عليه سبيلاً. وهذا هو الذي حسن حذف الفاعل من قوله {قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها} (الزمر:72) حتى كان الكون جميعه قائل ذلك لهم إذ هو حكمه العدل فيهم ومقتضى حكمته وحمده.
وأما أهل الجنة فقال تعالى: {وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين} (الزمر:73) فهم لم يستحقوها بأعمالهم وإنما استحقوها بعفوه ورحمته وفضله، فإذا أشهد سبحانه ملائكته وخلقه كلهم حكمه العدل وحكمته الباهرة. ووضعه العقوبة حيث تشهد العقول والفطر والخليقة أنه أولى المواضع وأحقها بها، وأن ذلك من كمال حمده الذي هو مقتضى أسمائه وصفاته وأن هذه النفوس الخبيثة الظالمة الفاجرة، لا يليق بها غير ذلك ولا يحسن بها سواه بحيث تعترف هي من ذواتها بأنها أهل ذلك وأنها أولى به حصلت الحكمة التي لأجلها، وجد الشر وموجباته في هذه الدار وتلك الدار.(/53)
وليس في الحكمة الإلهية أن الشرور تبقى دائماً لا نهاية لها ولا انقطاع أبداً، فتكون هي والخيرات في ذلك على حد سواء، فهذا نهاية أقدام الفريقين في هذه المسألة، ولعلك لا تظفر به في غير هذا الكتاب.
فإن قيل: فإلى أين أنتهى قدمكم في هذه المسألة العظيمة الشأن، التي هي أكبر من الدنيا بأضعاف مضاعفة؟
قيل: إلى قوله تبارك وتعالى: {إن ربك فعال لما يريد} (هود:107)، إلى هذا انتهى قدم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه فيها حيث ذكر دخول أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، وما يلقاه هؤلاء وهؤلاء، وقال: ثم يفعل الله بعد ذلك ما يشاء.
بل وإلى ههنا انتهت أقدام الخلائق وما ذكرنا في هذه المسألة بل في الكتاب كله من صواب فمن الله سبحانه، وهو المعان به وما كان من خطأ فمني، ومن الشيطان والله ورسوله برئ منه، وهو عند لسان كل قائل وقلبه وقصده والله أعلم.
خاتمة
هذا ما استطعت جمعه من فضائل شيخنا وإمامنا وقدوتنا شيخ الإسلام، أحمد بن الحليم ابن تيمية رحمه الله -جمعناها رداً على الذي زعم بجهله أو بحقده- إن هذا الإمام قد كفره العلماء قبل موته، بل تطاول وقال وإنه لو قدر له أن يقوم من قبره لنفذ فيه حكم الردة ليعلم كل من تعصب لهذا الرجل ونصره رغم باطله أنه قد عمل في هدم الدين، وأساء أعظم إساءة إلى إمام عظيم من أئمة المسلمين لا زال فضله بعد الله على أهل الإسلام منذ عصره وإلى يومنا هذا، ولا زال علمه وكتبه مرجع الباحثين، وقبله طلاب العلم الشرعي الحقيقي أجمعين.
ولا شك أن كثرة التعرض لعرض شيخ الإسلام ابن تيمية إنما هو دليل فضله كما قالت السيدة عائشة رضي الله عنها عندما سمعت أن أناساً يسبون أبا بكر ويتهمونه قالت: أبا الله أن ينقطع عمله.. فمن سب مؤمناً كان له بهذا الأجر عند الله، وأما الظالم الشاتم فله الخزي والعار في الدنيا والآخرة {والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً} (الأحزاب:58) والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على رسوله محمد وآله وصحبه أجمعين.
ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين، ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم(/54)
لمحة تاريخية عن الدولة العبيدية
إعداد: عبد الرحمن كيلاني
________________________________________
مقدمة
كثيرة هي الدعوات التي ظهرت في تاريخ المسلمين والتي تدعي الانتساب لآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، وأن الخلافة من حقهم منصوص عليها بأحاديث مكذوبة نسبوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد اخترنا أن نتكلم عن أحد هذه الدعوات والتي نتجت عنها دولة العبيديين والتي تدعى تضليلاً للناس دولة الفاطميين، نسبة إلى فاطمة رضي الله عنها. سندرس كيف بدأت هذه الحركة وعقيدتها وتاريخها، وعلاقتها بالتشيع والحركات الأخرى، وما هي الفرق التي تفرعت عنها. وقد اخترنا أن ننقل ما أورده باختصار الأستاذ محمود شاكر في كتابه «التاريخ الإسلامي» عن بدء هذه الحركة، ثم ننتقل إلى الدولة العبيدية وتاريخها..
يقول الأستاذ محمود شاكر:
«نشطت الحركات القرمطية، وتعددت جماعاتها، وإذا كانت قد نُسبَت في أول أمرها إلى قرمط وهو حمدان بن الأشعث، إلا أنه قد أصبحت كل جماعة تحمل فكرة قرمط تُنسب إليه، وهي تعتمد على إطلاق العنان للشهوات البهيمية لاستغلال الشباب واستغلال المحرومين من الحياة الزوجية لبعدهم عن مواطنهم وعدم إمكاناتهم من الزواج، والحاقدين في الوقت نفسه على المتزوجين المنعّمين، كما تعتمد على شيوعية الأموال واستغلال الفقراء والناقمين على الأثرياء، أو استغلال الأرقاء على ساداتهم، ثم الإفساد بالأرض بكل وجوهه وأساليبه.
ففي جنوبي العراق وجد زكرويه بن مهرويه، وهو من أصل فارسي، شدّةً عليه، فمن ناحية ينقم عليه أتباع قرمط وابن عمه عبدان، ومن ناحية ثانية فقد اشتد الخليفة المعتضد في ملاحقة أتباع هذه الأفكار الكافرة من جهة والدنيئة من جهة أخرى، فأما الناحية الأولى فقد انتهى منها بالتخلص من «عبدان» بقتله، ويبدو أن يحيى بن زكرويه هو الذي تولى عملية القتل، ثم تلاه التخلص من حمدان. أما الناحية الثانية وهو ضغط الخليفة فلم يستطع أن يتخلص منه بل اشتدت وطأته عليه، لذا فقد بقي في مخبئه وظن أنه يمكنه أن يضم إليه أتباع قرمط في المستقبل بزوال رئيسهم حمدان، ومفكرهم عبدان ما دامت الفكرة واحدة، ورأى أن بلاد الشام تعمّها الفوضى، والحكم الطولوني فيها قد أصبح ضعيفاً لذا يمكن أن تكون مجالاً لنشاطه فأرسل أولاده. بعث يحيى بعد أن بايعه أتباع أبيه زكرويه في سواد الكوفة عام 289 هـ، ولقّبوه بالشيخ، كما كان يُعرف بأبي القاسم. ادّعى يحيى نسباً إسماعيلياً فزعم أنه محمد بن عبد الله بن محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق، وادّعى لجماعته أن ناقته مأمورة، فإن تبعوها ظفروا، وأظهر لهم عضداً ناقصة وزعم أنها آية، وقد تسمّوا بالفاطميين، وأرسل لهم هارون بن خمارويه جيشاً بقيادة «طغج بن جف» فهزمته القرامطة، وسارت نحو دمشق بعد أن انتهبت وانتهكت البلاد التي مرت عليها كلها، وحاصرت دمشق عام 290 هـ ولكنها عجزت عن فتحها، وأرسل الطولونيون لها جيشاً بقيادة «بدر الكبير» غلام أحمد بن طولون، فانتصر على القرامطة وقتل زعيمهم يحيى بن زكرويه.
أرسل زكرويه بن مهرويه من مخبئه ابنه الثاني «الحسين» وادّعى الآخر نسباً إسماعيلياً فزعم أنه أحمد بن عبد الله بن محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق، ووضع شامة على وجهه، لذا عُرِف باسم «صاحب الخال» أو «أبو شامة» وذكر لأصحابه أنها آية له (!)، وسار في إثر أخيه قبل أن يُقتَل.
لما شعر يحيى بن زكرويه أنه عاجز عن فتح دمشق إذ جاءت أهلها نجدات من بغداد ومن مصر، وأحسّ أنه مقتول لا محالة ادّعى أنه سيطلع إلى السماء غداً، وأنه سيبقى فيها أربعين يوماً، ثم يعود، وأن أخاه «الحسين» سيأتي غداً في نجدة -وكان قد بلغه ذلك- فعليهم بيعته والقتال معه والسير وراءه، وفي اليوم الثاني جرت المعركة قرب دمشق قُتِل فيها يحيى بن زكرويه وكان قد عرف يومذاك بصاحب الجمل حيث كان يمتطي جملاً خاصاً.(/1)
وكما اشتدت وطأة المعتضد على القرامطة في جنوبي العراق اشتدت في كل مكان، ففي السلمية في بلاد الشام زاد الطلب على أسرة ميمون القداح التي تزعم أنها تعمل لأبناء محمد ابن إسماعيل، وتريد في الواقع أن تعمل لنفسها وتخفي في الباطن ما تدعو إليه، ولها هدف سياسي واضح من أصلها اليهودي. وبسبب هذا الطلب فقد فرّ عبيد الله بن الحسين بن أحمد بن عبد الله بن ميمون القداح من السلمية وهو رأس هذه الأسرة واتجه نحو الجنوب حيث اختفى في الرملة. وفي هذا الوقت كان الحسين بن زكرويه في طريقه من الكوفة إلى أخيه يحيى بدمشق، فعرج الحسين إلى الرملة وعرف مكان عبيد الله، والتقى به، وحاول استرضاءه وإظهار الطاعة له عسى أن يستفيد منه. وأظهر عبيد الله رضاه عنه وموافقته على عمله خوفاً من أن يقتله أو يرشد عليه عامل العباسيين، حيث كان آل زكرويه يريدون التفرُّد بالسلطة، ويرجعون بأصولهم إلى المجوسية، وإن عبيد الله أقوى من أن يقف في وجههم. وما أن غادر الحسين بن زكرويه الرملة حتى انصرف منها أيضاً عبيد الله متجهاً نحو مصر.
سار الحسين من الرملة إلى دمشق فوجد أخاه يحيى قد قُتل، فالتفّ القرامطة حوله، وحاصر بهم دمشق، لكنه عجز عن فتحها، فطلبه أهل حمص فسار إليهم فأطاعوه، ثم انتقل إلى السلمية فامتنعت عنه، ثم فتحت أبوابها له بعد أن أعطى أهلها الأمان، وما أن دخلها حتى نكّل بقانطيها، فأحرق دورها، وهدم القلاع فيها، وقتل الهاشميين فيها [1][1]، دلالةً على الحقد الذي يغلي في صدور هذه الفئة على آل البيت رغم ادّعاء زعمائها بالانتساب إلى آل البيت، ودلالة أيضاً على كراهية الإسلام الذي قضى على المجوسية في فارس؛ ثم قتل عبيد الله بن الحسين القداحي حيث كل منهم يعمل لنفسه وكان عبيد الله قد رفض إعطاء آل زكرويه مراكز مهمة في الدعوة التي يعمل لها. ثم سار الحسين بن زكرويه من السلمية على رأس قرامطته إلى حماة والمعرة وبعلبك وعمل القتل في أهل كل بلد وصل إليها، وأغارت جماعته على حلب، غير أن القرامطة قد هُزِموا في جهات حلب لذا عادوا فاتجهوا إلى جهات الكوفة وهناك قاتلهم الخليفة المكتفي، فوقع الحسين بن زكرويه أسير فحمل إلى بغداد حيث قُتِل وصلب فيها عام 291. وعندما قُتل ولدا زكروبه يحيى والحسين خرج أبوهما من مخبئه الذي اختفى فيه مدة تقرب من ثلاث سنوات، وعندما خرج سجد له أنصاره المقربون الذين يعرفون أهداف الحركة، وسار بأتباعه نحو بلاد الشام فأمعنوا في القتل، واعترضوا طريق القوافل والحجاج، وارتكبوا من الفواحش ما يصعب وصفه، واتجه نحو مدينة دمشق فحاصرها، ولكنه عجز عن فتحها، وأخيراً هُزم وقتل عام 294 بعد أن عاث في الأرض الفساد، وتشتت أتباعه، فمنهم من انتقل إلى البحرين، ومنهم من سار إلى بلاد الكلبية وبهراء في بلاد الشام فاختلط مع أهلها الذين يعيشون في قلاعهم ومعاقلهم في الجبال الشمالية الغربية من بلاد الشام والذين يلتقون معهم ببعض الأفكار وإن كانوا أقرب إلى الأسرة القدّاحية حيث الأصل اليهودي، ومنهم من احتفى في البوادي ثم تحالف مع القبائل الضاربة فيها أو سار إلى أماكن نائية حيث ضاع فعله بين السكان الآخرين. وهكذا انتهى القرامطة من جنوبي العراق، واتجهوا نحو بلاد الشام فهزموا وذابوا.
أما عبيد الله بن الحسين القداحي فقد علم ما حلّ بأهله بالسلمية وما نزل بآل محمد بن إسماعيل فيها أيضاً، فنسب نفسه إلى آل محمد بن إسماعيل، وعلم كذلك أن الدعوة الشيعية قد قويت في بلاد المغرب على يد أبي عبد الله الشيعي الذي سار من اليمن عن طريق رستم بن الحسين بن حوشب الذي يدعو إلى آل البيت عن طريق آل محمد بن إسماعيل، فيمّمَ عبيد الله القداحي وجهه نحو المغرب على أنه عبيد الله بن الحسين بن أحمد بن عبد الله بن محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق!
أما في اليمن فقد كان نجاح رستم بن الحسين بن حوشب واضحاً إذ أسس دولته الإسماعيلية وبدأ يرسل الدعاة إلى عدة جهات ومنها المغرب، وكان من أكبر أعوانه وقادته علي بن الفضل الذي اختلف معه وافتتن بالتفاف الناس حوله، فسار شوطاً بعيداً في الفساد فحكم البلاد، ودخل زبيد وصنعاء، وادّعى النبوة، وأباح المحرمات، وكان المؤذن في مجلسه يوذن «أشهد أن علي ابن الفضل رسول الله». ثم امتد به عتوّه، فجعل يكتب إلى عمّاله: «من باسط الأرض وداحيها، ومزلزل الجبال ومرسيها علي بن الفضل إلى عبده فلان». ثم مات مسموماً عام 303، ولم تلبث دولة القرامطة في اليمن أن دالت.(/2)
أما في البحرين فقد قدم إليها عام 281 رجل يقال له يحيى بن المهدي، نزل القطيف ودعا أهلها إلى بيعة المهدي فاستجاب له رجل يقال له علي بن العلاء بن حمدان الزيادي وساعده في الدعوة إلى المهدي، وجمع الشيعة الذين كانوا بالقطيف فاستجابوا له، وكان من جملة من استجاب له أبو سعيد الجنابي واسمه الحسين بن بهرام، ويعود أصلة إلى بلدة (جنَّاب) قرب سيراف [2][2]، وقد نزل إلى البحرين منفياً فعمل سمساراً في الطعام يبيعه، ويحسب للناس الأثمان، ثم بدأ يعمل بالفراء وينتقل بين البحرين وسواد الكوفة، وصحب عبدان أو حمدان وتأثر به، وعندما رجع إلى القطيف برز بين جماعته بدعوته. أما يحيى بن المهدي فقد ادّعى النبوة وانفرد بمجموعة، وتزعم أبو سعيد الجنابي بقية المجموعة وأجابه عدد من السوقة ومن ساءت حالتهم المعاشية، وعددٌ من الشباب الذين أغراهم بالنساء التي جعلها جعلها مباحةً بينهم، كما منّاهم بالمال وامتلاك الأرض، وهيأ لهم طريق الشهرة بالقوة التي أظهرها إذ زاد عددهم وبدا لهم أنهم أصبحوا جماعة يُخشى جانبها فظهروا عام 286 فعاثوا في الأرض الفساد إذ قتلوا وسبوا في بلاد هجر كثيراً ثم ساروا إلى القطيف فقتلوا الكثير من أهلها، وأظهر أبو سعيد الجنابي أنه يريد البصرة فجهز له الخليفة جيشاً قوامه عشرة آلاف بإمرة العباس بن عمرو الغنوي، فانتصر القرامطة وأسروا الجيش العباسي كله، وقتل أبو سعيد الجنابي الأسرى جميعهم باستثناء أمير الجيش الغنوي الذي أطلق سراحه. واستمر نشاط القرامطة حتى عام 301 حيث قُتِل الجنابي على يد خادمه بالحمّام، ثم قَتَل خمسة آخرين من كبارهم وحتى فطن له الباقون إلى أمرهم فاجتمعوا على الخادم وقتلوه. ويبدو أن قرامطة البحرين كانوا من أنصار حمدان القرمطي وابن عمه عبدان، لذا لم يدعموا أبناء زكرويه عندما قاموا بحركاتهم، وإنما عملوا منفردين في منطقة البحرين[3]«[4]
أسس العبيديُّون «الفاطميون» دولتهم على أساس المذهب الإسماعيلي الباطني؛ وقد نصَّ أتباع هذه الفرقة الضالة بإمامة إسماعيل ابن جعفر بعد أبيه جعفر بن أبي عبد الله، بينما قالت فرقة الانثي عشرية (الشيعة) بإمامة أخيه موسى بن جعفر بدلاً منه. وقالت الإسماعيلية بإمامة محمد بن إسماعيل السابع التام بعد أبيه، وإنما تم دور السبعة به، ثم ابتدئ منه بالأئمة المستورين الذين كانوا يسيرون في البلاد ويظهرون الدعوة جهراً. وقالوا: إنما تدور أحكامهم على سبعة كأيام الأسبوع والسماوات السبع والكواكب السبع، والنقباء تدور أحكامهم على اثني عشر، قالوا: وعن هذا وقعت الشبهة للإمامية حيث قرروا عدد النقباء للأئمة، ثم بعد الأئمة المستورين كان ظهور المهدي والقائم بأمر الله وأولادهم نصاً بعد نص على إمام بعد إمام. ومذهبهم أنه من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية، وكذلك من مات ولم يكن في عنقه بيعة إمام زمانه مات ميتة جاهلية.. وأشهر ألقابهم الباطنية، وإنما لزمهم هذا اللقب لحكمهم بأن لكل ظاهر باطناً، ولكل تنزيل تأويلاً، ولهم ألقاب غير هذا من القرامطة والمزدكية والملحدة، وهم يقولون نحن إسماعيلية لأننا تميزنا عن فرق الشيعة بهذا الاسم[5].
أئمة الشيعة الجعفرية والإسماعيلية
1- علي بن أبي طالب
2- الحسن بن علي
3- الحسين بن علي
4- علي زين العابدين بن الحسين
5- محمد الباقر
6- جعفر بن محمد الصادق
الإسماعيلية ... الشيعة الجعفرية
7-إسماعيل بن جعفر الصادق ... 7- موسى الكاظم بن جعفر
8- محمد بن إسماعيل (الإمام السابع التام) ... 8- علي الرضا بن موسى
دور الأئمة المستورين ... 9-محمد القانع بن علي
حكام العبيديين ... 10- علي بن محمد القانع
... 11-حسن بن علي العسكري
... 12- محمد المهدي، (لم يولد) [6]
تأسيس الحركة الإسماعيلية
ينسب الدور الأكبر في تنظيم الحركة الإسماعيلية ووضع مبادئها إلى ميمون القداح،والذي يدعى ابن الديصان، وابنه عبد الله. وقد اتبع أتباعه وأولاده أثره في توسيع نطاق الحركة. وقد ظهر ميمون القداح سنة 176هـ بالكوفة، وكان باطنياً خبيثاً، قال بأن لكل ظاهر باطناً، وأمر بالاعتصام بالغائب المفقود، وكان يعتقد اليهودية ويظهر الإسلام. وقد سكن السلمية وتقرب من إسماعيل بن جعفر. وينسب إليه القول بفكرة المنتظر قبل ولادة أبو الحسن العسكري الإمام الأحد عشر عند الشيعة (!).
ويقول الأستاذ أنور الجندي: «يؤكد مؤرخو الغرب، مثل دي ساسي وديموج بوجه خاص، بوجود دافع سياسي لدى عبد الله بن ميمون القداح في القضاء على سلطان العرب والإسلام الذي جلب إليهم تلك السلطة، وإرجاع مجد فارس القديم مرة أخرى. ويؤكد الدكتور عبد الله الدوري في كتابه (العصور العباسية المتأخرة) القول بأن القداح أراد أن يقوض الإسلام فأشعل الشعور الشيعي عند الجماهير وكون المذهب القرمطي المؤدي إلى الإلحاد واستغل اسم اسماعيل بن جعفر الصادق في إثارة حركة شيعية[7]قوية تنقل الملك إلى أحد أحفاده باسم المهدي» أهـ.(/3)
من المناسب هنا أن نشير إلى خطورة مرحلة «دور الستْر» التي مرَّت به الدعوة الإسماعيلية بعد الإمام التام محمد بن إسماعيل، لأنه لولا هذا الدور ما استطاع دعاتها أن يختفوا عن أنظار الدولة العباسية التي كانت تلاحقهم أولاً، ثم إنهم ثانياً استطاعوا من خلال هذا الدور أن يلفِّقوا مسألة النسب. فميمون القداح وابنه عبد الله استقروا في منطقة السلمية من أعمال حماة مع محمد بن إسماعيل وأهل بيته والذي كان من بينهم عبد الله بن محمد. وهنا يورد بايارد دودج Bayard Dodge في سلسلة مقالاته عن الإسماعيلية عبارة تثير الانتباه، قال: «وفي الحقيقة، إن كان بعض الناس يعتقدون أن الإمام محمد وميمون يمثلان شخصاً واحداً، فإنه من السهل أن يُعتقَد أنّ [عبد الله] ابن محمد [ابن إسماعيل] هو نفسه عبد الله بن ميمون!»[8] ومن النظر إلى سلسلة نسب ميمون وأولاده وإسماعيل وأولاد نعلم مدى دقة الخطة التي كان ينفذها ميمون وأولاده لسرقة نسب إسماعيل، وبالتالي ظهورهم على الناس بأنهم هم من أهل البيت وأنهم أحق بالحكم من بني العباس، ومن ثم تنفيذ خطتهم في تحطيم الدولة العباسية، والإسلام. وتاريخ العبيديين يشهد بهذا.
وقد أكد عبد القاهر البغدادي، صاحب كتاب (الفَرق بين الفِرَق) أن الذين وضعوا أساس الباطنية كانوا من أولاد المجوس، وكانوا مائلين إلى دين أسلافهم، وقال: «لا تجد على ظهر الأرض مجوسياً إلاّ وهو موالٍ لهم "أي الباطنية" منتظر لظهورهم على الديار».
مسألة نسب العبيديين لآل البيت
لقد أطلق جلال الدين السيوطي في كتابه (تاريخ الخلفاء) اسم «الدولة الخبيثة» على الفاطميين، فقال: «ولم أورد أحداً من الخلفاء العبيديين لأن إمامتهم غير صحيحة لأمور، منها:
أنهم غير قرشيين، وإنما سمتهم بالفاطميين جهلة العوام، وإلاّ فجدهم مجوسيّ. قال القاضي عبد الجبار البصري: «اسم جد الخلفاء المصريين سعيد]أول حكامهم] وكان أبوه (عبد الله بن ميمون) يهودياً حداداً نشابة». وقال القاضي أبوبكر الباقلاني: «القداح جَدّ عبيد الله الذي يسمى بالمهدي كان مجوسياً. ودخل عبيد الله المهدي المغرب وادعى أنه ينسب إلى علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- ولم يعرفه أحد من علماء النسب، وسماهم جهلة الناس الفاطميين».[9] وقال ابن خلكان: «أكثر أهل العلم لا يصححون نسب المهدي عبيد الله جد خلفاء مصر، حتى أن العزيز بالله ابن المعز في ولايته صعد المنبر يوم الجمعة، فوجد فيها هذه الأبيات:
يُتْلى على المنبر الجامعِ ... إنَّا سمعنا نسبا ً منكراً
فاذْكُرْ لنا أَبا بَعْد الأبِ السَّابِعِ [10]
إن كنتَ فيما تدَّعي صادقاً
فانْسِب ْ لنا نفسَك كالطَّائعِ ... وإنْ كنتَ تُرِدْ تحقيقَ ما قُلتُه
وادخُلْ بِنا في النَّسَبِ الواسِعِ ... أَوْ لا، دَعِ الأنسابَ مستورةً
يَقْصُر عنها طَمَعُ الطامِعِ ... فإنَّ أنسابَ بني هاشمٍ
وما أحسن ما قال المعز الفاطمي صاحب القاهرة؛ وقد سأله ابن طباطبا عن نسبهم، فجذب نصف سيفه من الغمد وقال: «هذا نسبي، ونثر على الأمراء والحاضرين الذهب، وقال: هذا حسبي».
• ومنها: أن أكثرهم زنادقة خارجون عن الإسلام، ومنهم من أظهر سب الأنبياء، ومنهم من أباح الخمر، ومنهم من أمر بالسجود له؛ والخير منهم رافضي خبيث لئيم يأمر بسب الصحابة رضي الله عنهم، ومثل هؤلاء لا تنعقد ولا تصلح لهم إمامة.
قال القاضي أبو بكر الباقلاني: «كان المهدي عبيد الله باطنياً خبيثاً حريصا على إزالة ملة الإسلام، أعدم العلماء والفقهاء ليتمكن من إغواء الخلق، وجاء أولاده على أسلوبه: أباحوا الخمور والفجور وأشاعوا الرفض».
وقال الذهبي: «كان القائم ابن المهدي شراً من أبيه زنديقاً ملعوناً أظهر سبّ الأنبياء». وقال: «وكان العبيديون شراً من التتار على ملة الإسلام».
وقال أبو الحسن القابسي: «إن الذين قتلهم عبيدُ الله وبنوه من العلماء والعباد أربعة آلاف رجل ليردوهم عن الترضي عن الصحابة، فاختاروا الموت».
قال القاضي عياض: «سئل أبو محمد القيرواني الكيزاني من علماء المالكية عمن أكرهه بنو عبيد على الدخول في دعوتهم أو يقتل؟ قال: يختار القتلَ، ولا يعذر أحد في هذا الأمر،.. لأن المقام في موضع يطلب من أهله تعطيل الشرائع وهو لا يجوز».
وقال ابن خلكان: «وقد كانوا يدعون المغيبات، وأخبارهم في ذلك مشهورة، حتى أن العزيز صعد يوماً المنبر فرأى ورقة فيها مكتوب:
بيِّن لنا كاتبَ البطاقَهْ ... إن كنتَ أُعطيتَ علمَ الغيبِ
وليس بالكفرِ والحماقَهْ ... بالظلمِ والجور قد رضينا
وكتبت إليه إمرأة قصة فيها: بالذي أعز اليهود بميشا والنصارى بابن نسطور، وأذل المسلمين بك الا نظرت في أمري. وكان ميشا اليهودي عاملا (له) بالشام وابن نسطور النصراني في دمشق» اهـ(/4)
ومما يستدل به على زور نسب الفاطميين لآل البيت هي الرسائل التي تبودلت بين العزيز بالله الفاطمي والحكم المستنصر الأموي في الأندلس، فقد ذكر ابن خلكان في وفيات الأعيان (ج2 ص152) أن العزيز كتب إلى الحكم المستنصر يسبّه ويهجوه، فردّ هذا عليه بقوله: «أما بعد، فقد عرفتنا فهجوتنا ولو عرفناك لأجبناك». وكان الحكم يطعن على العزيز بنسبه وأن جدّه ميمون القداح الباطني.
وأما بالنسبة لنشرهم مذهبهم فقد بنوا الجامع الأزهر لينشروا من خلال هذا المركز مذهب الرفض، وكانوا يجبرون المسلمين على اعتناقه. ثم لما رجعت مصر إلى سلطة المسلمين من أهل السنة أبطل السلطان صلاح الدين مذهب الرفض وأعاد السنة إلى أرض مصر. وقد تركت الدولة العبيدية آثاراً سيئة من البدع والمنكرات ما زالت تمارس إلى زماننا هذا في مصر وغيرها.
موقف الشيعة الاثني عشرية من العبيديين
إنّ الشيعة الاثني عشرية تكفّر العبيديين مع أنهم يتبعهم شيعة اليوم ويقولون عن دولتهم: أنها كانت دولة شيعية، وأنهم بناة مجدنا ودعاة مذهبنا ومؤسسو العلم والحضارة في مصر، ومنشئو المساجد ودور الكتب والجامعات. فمع تكفيرهم إياهم واتفاقهم على خروجهم من الإسلام والملة الإسلامية الحنيفية، فقد كتب محضر في عصر الخليفة القادر العباسي في شهر ربيع الآخر سنة 402هـ وعليه توقيعات من أشراف القوم ونقبائهم وخصوصاً من يلقب بنقيب الأشراف وجامع نهج البلاغة، السيد رضى وأخيه السيد المرتضى، واحتفاظا على التاريخ والوثيقة التاريخية ننقلها بتمامها ههنا:
«إن الناجم بمصر وهو منصور بن نزار الملقب بالحاكم -حكم الله عليه بالبوار والخزي والنكال- ابن معد بن إسماعيل بن عبد الرحمن بن سعيد -لا أسعده الله- فإنه [أي سعيد] لما سار إلى المغرب تسمى بعبيد الله وتلقب بالمهدي وهو ومن تقدمه من سلفه الأرجاس الأنجاس -عليه وعليهم اللعنة- أدعياء الخوارج، لا نسب لهم في ولد علي بن أبي طالب، وإن ذلك باطل وزور، وإنهم لا يعلمون أن أحداً من الطالبيين توقف عن إطلاق القول في هؤلاء الخوارج إنهم أدعياء، وقد كان شائعاَ بالحرمين في أول أمرهم بالمغرب، منتشراً انتشاراً يمنع من أن يدلس على أحد كذبهم، أو يذهب وهم إلى تصديقهم، وإن هذا الناجم بمصر هم وسلفه كفار وفساق فجار زنادقة، ولمذهب الثنوية والمجوسية معتقدون، قد عطلوا الحدود، وأباحوا الفروج، وسفكوا الدماء، وسبّوا الأنبياء، ولعنوا السلف وادّعوا الربوبية.
التوقيعات: الشريف الرضي، السيد المرتضى أخوه، وابن الأزرق الموسوي، ومحمد بن محمد بن عمر بن أبي يعلى العلويون، والقاضي أبو محمد عبد الله ابن الأكفاني، والقاضي أبو القاسم الجزري، والإمام أبو حامد الاسفرائيني، وغيرهم الكثيرون الكثيرون»[11].
وبهذه الشهادات والبراهين التاريخية نردّ على الذين يحاولون أن يصححوا نسب الفاطميين لآل البيت وعلى المخدوعين والمبعدين عن الحقائق التاريخية والتي طالما لُقّنت لطلاب المسلمين في مدارسهم ومعاهدهم على غير حقيقتها.
رجال الإسماعيلية قبل تأسيس الدولة
1- ميمون القدّاح، ابن الديصان : وهو واضع دعامة المذهب الإسماعيلي الباطني، وهو فارسي. نُسِبَ إلى أحد أجداده «الديصان» الذي كان ثنوي المعتقد. [12]
2- عبد الله بن ميمون القداح: كان مركزه السلمية من أعمال حماة في بلاد الشام. وهو الذي ابتدع دعوة منظمة قسمها إلى سبع درجات زيدت بعده حتى أصبحت تسعاً في زمن الفاطميين، ولم يمت حتى راجت الدعوة الإسماعيلية في كثير من المناطق الإسلامية.
3- أحمد بن عبد الله بن ميمون القداح: وكان يلقب أبا الشَّلَعْلَع (أو أبا الشلغلغ)، وكان يرأس الدعوة في بعض مدن العراق كالكوفة وبغداد، وآلت إليه الرئاسة التامة من عام 260-270هـ. ثم جاء بعده ابن أخيه عبيد الله المهدي (سعيد ابن محمد)، والذي سنتكلم عنه فيما بعد. وأحمد هذا بعث ابن حوشب لنشر المذهب الإسماعيلي في اليمن، وبعث إليه بعد ذلك أبا عبد الله الشيعي حيث علمه ابن حوشب أصولَ المذهب، ثم أرسله إلى المغرب لنشر الدعوة هناك. ونلاحظ هنا أن دعاة الإسماعيلية كانوا يدعون لمذهبهم بعيداً عن بغداد، حاضرة الدولة العباسية، سراً حتى لا تصطدم بها في بادئ أمرها. ومن منطقة تونس -حالياً- ابتدأت الدولة االعبيدية.
حكّام العبيديين
عبيد الله المهدي، سعيد بن محمد بن عبد الله بن ميمون القداح (ت322هـ)
وهو أول من تسلم قيادة دولة العبيديين، واسمه الأصلي سعيد، وقد دعي إلى إفريقية بعد أن لقيت الدعوة الإسماعيلية نجاحاً في اليمن بفضل ابن حوشب -كما مر قريباً-، والذي تغلب على معظم أرجائها، والذي بعث دعاته إلى اليمامة والبحرين والسند والهند ومصر والمغرب، وابن حوشب هذا أرسله أبو سعيد محمد أخو أحمد بن عبد الله بن ميمون القداح سنة 270هـ إلى اليمن من السلمية.(/5)
لاقى سعيد (عبيد الله) بن محمد صعوبات شتى حتى استطاع الوصول إلى رقادة عام 296هـ في رجب. فلقد سجنه اليسع بن مدارا أمير سلجلماسة. فالرشوة التي قدمها عبيد الله المهدي له لم تجد نفعاً. وظل في سجنه حتى أطلق سراحه على يد أبي عبد الله الشيعي الذي بعثه ابن حوشب من اليمن إلى المغرب. وعندما وصل عبيد الله إلى القيروان تلقاه أهلها بسلام الخلافة اعتقاداً منهم بأنه علوي فاطمي، ولم يلبث أن قسم رؤساء كتامة، الذين ساعدوه على إقامة دولته، أعمال هذه الدولة. ثم دون الدواوين وجبى الأموال واستقرت قدمه في تلك البلاد.
ولم يكتف سعيد بما فعل، بل طمع بالسيطرة على مصر بعد انتصار جيوشه بالسيطرة على برقة تحت قيادة ولي عهده أبي القاسم، وحباسة بن يوسف، أحد زعماء كتامة. وقد واصلت جيوش المغرب سيرها إلى الإسكندرية، فاستولت عليها وسارت على الوجه البحري، ولكن الخليفة المقتدر العباسي بعث جيشا كبيرا مقداره أربعون ألف جندي أحل الهزيمة بالعبيديين وأرغموهم على العودة إلى المغرب .
وفي سنة 307هـ عاود أبو القاسم ابن المهدي المحاولة مرة أخرى واستولى على الإسكندرية فأرسل الخليفة العباسي خادمه مؤنس على رأس جيش فألحق بهم الهزيمة وأحرق كثيراً من مراكبهم في البحر وأرغمهم على العودة إلى بلادهم عام 309هـ.
أما الحملة العبيدية الثالثة على مصر فظلّت -كما قيل- ثلاث سنوات (321-324هـ)، أُبرِمَت خلالها معاهدة صلح بين الفريقين سنة 323هـ ولكن لم يطل أمده، فقد انضم بعض زعماء المصريين إلى جيش المغاربة الذي دخل الإسكندرية عام 324هـ، فبعث إليهم الإخشيد جيشاً هزمهم فعادوا إلى بلادهم منهزمين.
أقام سعيد (عبيد الله) بن محمد بالقيروان -كحاضرة لدولته- لغاية سنة 304هـ حيث اختط مدينة المهدية جنوب القيروان، وقد ظلّت هذه المدينة آهلة بالسكان إلى سنة 543هـ حيث أرسل روجر النورماندي صاحب صقلية أحدَ قواده فاستولى عليها، وبقيت في يده إلى أن حررها عبد المؤمن سنة 555هـ. مات سعيد (عبيد الله) سنة 322هـ وخلفه ابنه القاسم وتلقب بالقائم.
القائم والمنصور (322-341هـ)
كان القائم، كغيره من الملوك العبيديين، ينقم على السِّنِّيين حتى أنه أمر بلعن الصحابة -رضوان الله عليهم-، وقد أثار غضب المغاربة، وخاصة الخوارج منهم الذين ثاروا على العبيديين، وكانت أشد هذه الثورات خطراً وأشدها بلاء تلك الثورة التي أشعل نارها أبو يزيد مخلد بن كيداد، والتي استمرت طوال عهد القائم ولم تخمد إلا في عهد ابنه المنصور. توفي القائم في رمضان سنة 334هـ، وخلفه ابنه أبو الظاهر إسماعيل الذي تلقب بالمنصور، وكان في العشرين من عمره. وقد اشتهر المنصور بالشجاعة ورباطة الجأش وباستطاعته على التأثير على نفوس سامعيه بفصاحته وبلاغته وقدرته على ارتجال الخطب. وعندما مات أبوه القائم أخفى نبأ موته عن جيشه حتى لا يؤثر على حماسته في إخماد ثورة أبي يزيد مخلد بن كيداد. وقد انقطعت العلاقات بين مصر وبلاد المغرب طوال عهده، لأن همه كان هو القضاء على ثورة أبي يزيد، ثم قدر له أن يهزم جيش أبي يزيد وطارده إلى الصحراء وقبض عليه، ثم لما ساقه إلى المهدية مات أبو يزيد متأثراً بجراحه في محرم سنة 336هـ.
قضى المنصور البقية الباقية من خلافته في إعادة تنظيم بلاده، فأنشأ أسطولاً كبيراً، وأسس مدينة المنصورية سنة 337هـ واتخذها حاضرة لدولته. ومنذ ذلك الحين أصبحت حاضرة العبيديين. حكم المنصور سبع سنين وستة أيام ومات في يوم الجمعة في سوال سنة 341هـ وقبر بالمهدية.
المعز لدين الله (341-365هـ)
هو معد بن إسماعيل، أبو تميم، بنى القاهرة، وهو أول من ملك الديار المصرية من الملوك العبيديين. في عهده دانت له قبائل البربر كافة والمغرب كلّه. فلما رأى الأمر كذلك فكّر بفتح مصر، فبعث بين يديه جوهراً الصقلي حتى أخذها من كافور الإخشيدي بعد حروب جرت بينهما، وذلك في سنة 362هـ. وكان المعزّ ومن سبقه من خلفائهم متلبسون بالرفض ظاهراً وباطناً، كما قال القاضي الباقلاني من أن مذهبهم الكفر المحض. وقد أورد ابن كثير -رحمه الله- في [البداية والنهاية 11/284]: «أن المعز أُحضِر بين يديه الزاهد العابد الورع الناسك التقي أبو بكر النابلسي، فقال به المعز: بلغني أنك قلتَ لو أن معي عشرة أسهم لرميت الروم بتسعة ورميت المصريين [أي العبيديين] بسهم. فقال: ما قلتُ هذا. فظن أنه رجع عن قوله، فقال: كيف قلتَ؟ قال: قلتُ ينبغي أن نرميكم بتسعة ثم نرميهم بالعاشر. قال: ولم ؟ قال: لأنكم غيرتم دين الأمة وقتلتم الصالحين وأطفأتم نور الإلهية وادعيتم ما ليس لكم. فأمر بإشهاره في أول يوم ثم ضرب في اليوم الثاني بالسياط ضرباً شديداً مبرحاً، ثم أمر بسلخه في اليوم الثالث، فجيء بيهودي فجعل يسلخه وهو يقرأ القرآن، قال اليهودي: فأخذتني رقة عليه، فلما بلغت تلقاء قلبه طعنته بالسكين فمات، رحمه الله. فكان يقال له الشهيد» أهـ(/6)
والمعز بجانب ظلمه وبطشه ورفضه كان مثقفا يجيد عدة لغات منها الطليانية والصقلية، كما عرف اللغة السودانية. وكان ذا ولع بالعلوم ودراية بالأدب، فضلا عما عرف به من حسن التدبير وإحكام الأمور (!).
قضى المعز الشطر الأكبر من خلافته في بلاد المغرب، ولم يبق في مصر أكثر من سنتين إلا قليلاً. وقد مات المعز في شهر ربيع الآخر سنة 365هـ بعد أن حكم أربعاً وعشرين سنة.
العزيز بالله (365-386هـ)
هو نزار بن المعز، ويكنى أبا منصور، ويلقب بالعزيز، وكانت ولايته إحدى وعشرين سنة وخمسة أشهر وعشرة أيام. توفي عن اثنين وأربعين سنة، وقام بالأمر بعده ابنه الحاكم. اشتُهر عن العزيز أنه كان يستوزر اليهود والنصارى (!). فقد استوزر ابن نسطورس وأخر يهودياً اسمه ميشا. ويقول ابن كثير: فَعَزَّ بسببهما -أي ابن نسطورس وميشا- أهلُ هاتين الملتين في ذلك الزمان على المسلمين. أهـ
ويذكر د. حسن إبراهيم حسن في كتابه (تاريخ الإسلام السياسي) (3/167): «أن عهد الخليفة العزيز بالله الفاطمي عهد يسر ورخاء وتسامح ديني وثقافة (!)..» اهـ. وذكر أيضاً أن العزيز تزوج بنصرانية، وتوإلى عطفه (!) على الكنيسة القبطية.
وفي أيام العزيز تفاقم خطر القرامطة وأفتكين ببلاد الشام، وكان قد استعصى أمرهما على أبيه المعز من قبل، ولم يكد العزيز يوطد سلطته في مصر حتى وجّه عنايته لاسترداد بلاد الشام وفلسطين بعد سيطرة القرامطة عليهما، فوجّه العزيز جوهراً الصقلي إلى القرامطة وأفتكين، لكنّه هزُِم ولم يستطع استرداد الشام وفلسطين، ثم أشار جوهر على العزيز بحرب القرامطة وأفتكين بنفسه، فالتقى بجيوشهما في الرملة فهزمهم وذلك في محرم سنة 368هـ. وقبض على أفتكين لكنه عفا عنه وأغدق عليه.
ولا يخفى علينا أن العلاقة بين الإسماعيلية والقرامطة كانت وثيقة جداً في بداية نشأتهما، لكن حصلت اختلافات بينهما أدت إلى النزاع.
كان سبب انتزاع القرامطة وأفتكين الشام وفلسطين من العبيديين هو تذمّر أهلهما على مذهب العبيديين، فاضطروا إلى طلب معونة القرامطة وأفتكين ونجحوا في إسقاط حكم العبيديين على بلادهما، وحوادث دمشق مشهورة في هذا.
في عهد العزيز وجه العبيديون اهتمامهم إلى بثّ عقائد المذهب الإسماعيلي الشيعي الباطني، وأصبحت كل أمور الدولة في أيديهم.
مات العزيز ببلبيس سنة 386هـ، وهو في الرابع والأربعين من عمره. كان العزيز كريماً محباً للعفو -مع أمثاله- و كان رجلاً ممتعاً يميل إلى الأبهة، كما كان خبيراً بالجواهر، يحبّ الصيد -وخاصة السباع- وكان ذكياً أريباً مستنيراً، يجيد عدة لغات كأبيه المعز.
الحاكم بأمر الله (386-411هـ)
وهو أبو علي المنصور، ولد في شهر ربيع الأول سنة 375هـ، وعهد إليه أبوه بالخلافة من بعده في سنة 383هـ، ثم بويع بالخلافة في اليوم الذي توفي فيه أبوه العزيز، وذلك في رمضان سنة 386هـ و له إحدى عشرة سنة ونصف السنة، وتولى تربيته والوصاية عليه أستاذه برجوان الخادم.
ونترك المجال للمؤرخ ابن عماد الحنبلي يحدثنا عن الحاكم في ترجمته له في وفيات سنة 411هـ. قال: «وفيها الحاكم بأمر الله..... العبيدي صاحب مصر والشام والحجاز والمغرب، فُقِدَ في شوال وله ست وثلاثون سنة، قتلته أخته ست الملك بعد أن كتب إليها ما أوحشها وخوفها واتهمها بالزنا، فدسّت من قتله وهو طليب بن دواس المتهم بها، ولم يوجد من جسده شيء، وأقامت بعده ولده، ثم قتلت طليباً وكلَّ من اطلع على أمر أخيها.(/7)
وكان الحاكم شيطاناً مريداً خبيث النفس متلون الاعتقاد سمحاً جواداً سفاكاً للدماء، قتل عدداً من كبراء دولته صبراً، وأمر بشتم الصحابة وكتبه على أبواب المساجد، وأمر بقتل الكلاب حتى لم يبق في مملكته منها إلا القليل، وأبطل الفقاع والملوخية والسمك الذي لا فلوس له، وأتى بمن باع ذلك سراً فقتلهم ونهى عن بيع الرطب، ثم جمع منه شيئاً عظيماً وحرقه، وأباد أكثر الكروم وشدّد في الخمر، وألزم أهل الذمة بحمل الصلبان والقرامى في أعناقهم، وأمرهم بلبس العمائم السود، وهدم الكنائس، ونهى عن تقبيل الأرض له ديانة وأمر بالسلام فقط وأمر الفقهاء ببثّ ذلك، واتخذ له مالكييْن يفقهانه ثم ذبحهما صبراً، ثم نفى المنجمين من بلاده وحرم على النساء الخروج، وما زلن ممنوعات سبع سنين وسبعة أشهر حتى قتِل. ثم تزهّد وتألّه ولبس الصوف، وبقي يركب حماراً ويمر وحده في الأسواق ويقيم الحسبة بنفسه، ويقال أنه أراد أن يدعي الإلهية كفرعون وشرع في ذلك فخوّفه خواصُّه من زوال دولته فانتهى. وكان المسلمون وأهل الذمة في ويل وبلاء شديد معه، قال ابن خلكان: والحاكم المذكور هو الذي بنى الجامع الكبير بالقاهرة بعد أن شرع فيه والده فأكمله هو، وبنى جامع راشدة بظاهر مصر وكان المتولي بناءه الحافظ عبد الغني بن سعيد، والمصحّح لقبلته ابن يونس المنجم، وأنشأ عدة مساجد بالقرافة، وحمل إلى الجامع من المصاحف والآلات الفضية والستور والحصر ما له قيمة طائلة، وكان يفعل الشيء وينقضه.
وكان الحاكم المذكور سيئ الاعتقاد كثير التنقل من حال إلى حال ابتدأ أمره بالتزيي بزي آبائه وهو الثياب المذهبة والفاخرة والعمائم المنظومة بالجواهر النفيسة وركوب السروج الثقيلة المصوغة، ثم بدا له بعد ذلك وتركه على تدرج بأن انتقل منه إلى المعلم غير المذهب ثم زاد الأمر به حتى لبس الصوف وركب الحمر وأكثر من طلب أخبار الناس والوقوف على أحوالهم، وبعث المتجسسين من الرجال والنساء، فلم يكن يخفى عليه رجل ولا امرأة من حواشيه ورعيته، وكان مؤاخِذاً بيسير الذنب لا يملك نفسه عند الغضب فأفنى رجالاً وأباد أجيالاً، وأقام هيبة عظيمة وناموساً، وكان يقتل خاصته وأقرب الناس إليه، وربما أمر بإحراق بعضهم، وربما أمر بحمل بعضهم وتكفينه ودفنه وبناء تربة عليه، وألزم كافة الخواص بملازمة قبره والمبيت عنده، وأشياء من هذا الجنس يموَّه بها على أصحاب العقول السخيفة فيعتقدون أنّ له في ذلك أغراضاً صحيحة. ومع هذا القتل العظيم والطغيان المستمر يركب وحده منفرداً تارة وفي الموكب أخرى وفي المدينة طوراً وفي البرية آونة، والناس كافة على غاية الهيبة والخوف منه والوجل لرؤيته، وهو بينهم كالأسد الضاري. فاستمر أمره كذلك مدة ملكه، وهو نحو إحدى وعشرين سنة، حتى عَنَّ له أن يدَّعيَ الإلهية ويصرِّح بالحلول والتناسخ ويحمل الناس عليه، وألزم الناس بالسجود مرة إذا ذكر، فلم يكن يذكر في محفل ولا مسجد ولا على طريق إلا سجد من يسمع ذكره وقبَّل الأرض إجلالاً. ثم لم يرضه ذلك حتى كان في شهر رجب سنة تسع وأربعمائة ظهر رجل يقال له حسن بن حيدرة الفرغاني الأخرم يرى حلول الإله في الحاكم ويدعو إلى ذلك ويتكلم في إبطال الثواب وتأوَّل جميع ما ورد في الشريعة، فاستدعاه الحاكم وقد كثر أتباعه، وخلع عليه خلعاً سنية وحمله على فرس مسرج في موكبه.... فينما هو يسير في بعض الأيام تقدم إليه رجل من الكرخ.. وهو في الموكب فألقاه عن فرسه ووالى العرب عليه حتى قتله فارتجّ الموكب..» اهـ
بعد أن هلك الحاكم العبيدي الباطني ورثه ابنه أبو الحسن الذي تلقب بالظاهر، وتولى الحكم بعد قتل أبيه بأيام. والجدير بالذكر هنا أن فرقة الدروز المارقة ظهرت بدعوة حسن بن حيدرة الفرغاني وهم يؤلهون الحاكم، والدرزية نسبة إلى أحد موالي الحاكم وهو هشتكين الدرزي.[13]
الظاهر لدين الله علي بن الحاكم العبيدي ( 411-427هـ)
ولد يوم الأربعاء في العاشر من رمضان سنة 395هـ بالقاهرة. ويذكر ابن العماد في شذرات الذهب أن أمر الدولة العبيدية بدأ بالانحطاط منذ ولايته عليها، حيث أخذ حسان بن مفرج الطائي أكثر الشام وأخذ صالح بن مرداس حلب، وقوي نائبهم على القيروان.
لم يتمتع الظاهر بالخلافة مدة طويلة -فقط سبعة عشر عاما-، فقد مرض بالاستسقاء ومات في منتصف شعبان سنة 427هـ. وكان الظاهر قد استوزر أبا القاسم علي بن أحمد الجرجرائي -وكان مقطوع اليدين من المرفقين، قطعهما الحاكم سنة 404 هـ- فعندما علم الجرجرائي بموته أخذ البيعة لابنه أبي تميم الذي تلقب بالمسنتصر. «وكان الظاهر -كما يقول د. حسن إبراهيم حسن-: سمحاً، عاقلاً، لين العريكة، استطاع بحسن سياسته (!) أن يكسب عطف أهل الذمة ومحبتهم له (!)، فتمتعوا في عهده بالحرية الدينية. كما وجه عنايته إلى ترقية شؤون البلاد وتحسين حالة الزراعة.»[14]
المستنصر أبو تميم معد بن الظاهر (427-487هـ)(/8)
بويع له بالخلافة في يوم وفاة أبيه وكان في السابعة من عمره، وبقي في الخلافة ستين سنة وأربعة أشهر، وهذا شيء لم يبلغه أحد من أهل بيته ولا من بني العباس.
في أيام المستنصر حدث الغلاء العظيم الذي ما عهد مثله منذ زمان يوسف عليه السلام، وأقام سبع سنين وأكل الناس بعضهم بعضاً، حيث انتشر الوباء والقحط في مصر، وانقطع النيل، ونكبت الأمم الإسلامية فيه من مصر إلى سمرقند.
في القسم الأول من عهد المستنصر امتد سلطان دولته على بلاد الشام وفلسطين والحجاز وصقلية وشمال أفريقيا، وكان اسمه يذاع على جميع منابر البلاد الممتدة من الأطلسي إلى البحر الأحمر. بل في بغداد نفسها حاضرة العباسيين، كان يخطب للمستنصر سنة على منابرها [15][15]. لكن هذه البلدان ما لبثت أن خرجت من سلطان العبيديين . فقد أعلنت الدولة الزيرية في سنة 36 هـ، وكذا الدولة الحمدانية سنة 39هـ ولم تأت سنة 443هـ حتى تقلص الحكم العبيدي من المغرب. وفي سنة 475هـ زالت سلطتهم من المغرب الأقصى، واستولى روجر النورماندي على جزيرة صقلية، وخلع أمير مكة والمدينة الطاعة سنة 462هـ.
في هذه الفترات انتشرت الفوضى وسادت مصر، حتى أن أربعين وزيراً تقلدوا الوزارة في تسع سنوات بعد قتل الوزير اليازوري سنة 451هـ. ثم عاد القحط وأعقبه من الوباء والموت في سنة 459هـ. وكان القحط الأول قد امتد من سنة 446هـ إلى 454هـ، وظلّت الحالة كذلك حتى سنة 464هـ. وظهرت الفتن والحروب الأهلية في مصر حتى تدارك مصر بدرُ الجمالي والي عكّا الذي استدعاه المستنصر في سنة 466هـ فأعاد النظام ووجه همه إلى الإصلاح والقضاء على المفسدين. مات المستنصر سنة 487هـ، وبويع ابنه المستعلي دون أخيه الأكبر نزار.
المستعلي أبو القاسم أحمد (487-495هـ)
عندما مات المستنصر سنة 487هـ كان قد عهد إلى ابنه الأكبر نزار، إلا أن الأفضل ابن بدر الجمالي قائد الجيوش خلع نزاراً هذا وولّى مكانه أخاه الأصغر المستعلي أبا القاسم، فثار نزار وهرب إلى الإسكندرية ودعا لنفسه وأخذ البيعة، فلحقه الأفضل وهزمه وسجنه حتى مات، واستقر الأمر للمستعلي.
لما خلع نزار لم تعترف الإسماعيلية بخلافة المستعلي وبقيت بجانب أخيه. ولما مات نزار هذا بقيت الإسماعيلية على رأيهم وأن الخلفاء من نسب نزار وليس المستعلي، وتعرف هذه المجموعة بالإسماعيلية الشرقية، ومنهم الحشاشون Assassins جماعة الحسن ابن الصباح، والذين عرفوا أيضاً بالباطنية كجزء من كلّ، وقاموا باغتيالات لشخصيات إسلامية عسكرية كانت ترابط في الجهاد ضد الصليبيين الذين استولوا على بعض أرض المسلمين. لذلك لابد هنا من الكلام عن هذه الفرقة ولو بشيء من الاختصار.
فرقة الحشاشين Assassins
كان لتأسيس جماعة الحشاشين على يد الحسن بن الصباح خطر كبير على الأمة الإسلامية في ذلك الوقت، وفي كل وقت. فقد درس الحسن ابن صباح كتب الإسماعيلية، واشترى قلعة "ألموت" الواقعة على الشاطئ الجنوبي لبحر قزوين (الخزر) وجعلها مقرّه، فمنها انطلق وبها اعتصم. وقد دخل قلعته مرة ولم يخرج إلا بعد خمس وعشرين عاماً، كان يدرس خلالها ويخطط.
لقد قامت حركة الحشاشين في اغتيال ثمانين شخصية إسلامية قيادية سُنِّيَّة، ما بين عالم وقائد عسكري مجاهد. وقد كان نظام الملك وزير ملكشاه السلجوقي أول ضحاياهم. وفي عام 523هـ ازداد خطر الإسماعيلية في مدينة دمشق -وكانت تشكل خط الدفاع ضد الصليبيين في ذلك الوقت وهم في فلسطين- ودعوا الفرنجة للحضور اليها حتى يتسلموها، وكان زعيمهم يدعى "المزدقاني"، فاكتشف أمره تاجُ الملوك -حاكم دمشق- فاستدعاه فقتله وعلّق رأسه على باب القلعة، ونودي في دمشق بقتل الباطنية، فقتل منهم ستة آلاف نفس. وعندما علم صاحب بانياس [16] بهذا -وكان إسماعيلياً باطنياً- راسل الفرنجة فسلم إليهم القلعة ورحل إلى بلادهم.
وقُتِل عماد الدين الزنكي -رحمه الله- على أيديهم أثناء حصاره لقلعة جعبر على شاطئ الفرات. وقتلوا من قبله الأمير مودود، قتلوه في دمشق يوم الجمعة بعد الصلاة في مسجدها. وقتلوا من العلماء قاضي أصفهان عبيد الله الخطيب، والقاضي أحمد قاضي نيسابور، قتلوه في شهر رمضان. ولاشك أن أيديهم امتدت في زماننا الحاضر إلى قتل بعض علماء المسلمين وقوادهم كأمثال فاضح الباطنية في وقتنا الكاتب إحسان إلهي ظهير. وإنّ محالفة الباطنيين مع أعداء المسلمين ضد المسلمين خلال التاريخ لهو أكبر دليل على عداوتهم للإسلام وولايتهم لأعداء المسلمين من يهود ونصارى وغيرهم من ملل الكفر.(/9)
يقول لويس برنارد في كتابه (الحشاشون The Assassins): «كانت هناك علاقة بين شيخ الجبل (رئيس الباطنية في الشام) وبين ملك القدس من الصليبيين وهو الكونت هنري"، و "عندما غزا سانت لويس بيت المقدس سنة 1250م تبادل الهدايا مع شيخ الجبل، وكان الصليبيون يسمونهم الملحدين، وأتت في كتاباتهم بـ Mulihet" . "وعندما مرَّ ماركو بولو Marco Polo من فارس سنة 1273م رأى قلعة وقرية "ألموت" وقال عنها أنها المقر الرئيسي للإسماعيلية» اهـ. وكان للإسماعيلية عمليات اغتيال في أوربا، فكان بعض الملوك فيها يستخدمونهم في التخلص من أعدائهم، وكانوا يطلقون كلمة رفيق على أعضائهم.
ومازال للإسماعيلية رجال يكتبون عنها ويشيدون بما فعل أجدادهم (!)، فمنهم د. مصطفى غالب، له كتاب (تاريخ الدعوة الإسماعيلية) و كتاب عن (الحركات السرية في الإسلام)، وكتاب عن الحسن بن الصباح أسماه (الطائر الحميري، الحسن بن الصباح)، وله موسوعة فلسفية حشاها بآراء الباطنيين كابن سينا والفارابي وإخوان الصفا وغيرهم ممن ينسبون إلى الإسلام. وهناك الكاتب عارف تامر له كتاب (على أبواب أَلَموت) وكتاب (الحاكم بأمر الله) وبعض التحقيقات على كتب الإسماعيليين.
قلعة ألموت، مركز الحشاشين - اضغط للتكبير
بقية حكّام العبيديين
جاء الآمر بعد المستعلي عام 495 هـ، وهو الذي قتل الأفضل بن بدر الجمالي قائد الجيوش عام 515هـ وقد خلفه ابنه الأكمل. ويبدو أن الآمر كان مختلفاً عن غيره من ملوك العبيدية، إذ أنه ألغى الاحتفالات التي كانت تقام بمناسبة المولد النبوي ومولد فاطمة وعلي ومولد الخليفة القائم بالأمر.
في عام 524 هـ قُتِل الآمر بيد الباطنية الذين كانوا يرَوْن أنّ أولاد نزار أحق بالملك من أولاد المستعلي. وخالف الأكمل العبيديين -وكان من الشيعة الاثني عشرية- فقتلوه.
وفي عام 529هـ -أي في عهد الحافظ الذي خلف الآمر المقتول- استُوزِر بهرام الأرمني على القاهرة وكثرت الأرمن فيها.
ازدادت حدّة الخلافات بعد الحافظ بين جنود ووزراء العبيديين. وقد جاء بعد الحافظ الظاهر ثم الفائز تلاه العاضد، والذي بعهده انتهت وعضدت دولة بني عبيد الباطنية، وذلك بعد أن حكمت لمدة 260 عاماً مساحات شاسعة من بلاد المسلمين شرقاً وغرباً.
انتهت دولة العبيديين على يد صلاح الدين يوسف بن أيوب -رحمه الله-، فانتهى عهد الباطنية وعادت مصر وما بقي من دولة بني عبيد إلى حظيرة أهل السنة والجماعة. ثم تابع صلاح الدين والمسلمون خلفه المسيرة الجهادية حتى فتحوا القدس وأعادوا المسجد الأقصى إلى رحاب الإسلام وذلك عام 583 هـ.[17]
________________________________________
[1] انظر ما نقله الطبري في تاريخه عن سبي القرامطة لنساء أهل البيت وفعلهم بهن في حوادث سنة 290 هـ
[2] سيراف ميناء قديم على الخليج العربي من جهة فارس.
[3] انتهى ما نقلناه من كتاب «التاريخ الإسلامي» ج6 ص59-100
[4] للاستزادة والتفصيل انظر تاريخ الطبري حوادث سنة 298 إلى 301 هـ
[5] الشيعة والتشيع، إحسان إلهي ظهير.
[6] انظر «الشيعة وأهل البيت» إحسان إلهي ظهير، ص294
[7] من المعروف أن الإسماعيلية هي حركة مختلفة عن التشيع تماماً، بالرغم من أنها حملت راية التشيع لآل البيت ابتداءً واستغلت شعور العاطفة لأهل البيت عند العامة، لكنها ما لبثت أن كشفت عن وجهها الحقيقي بعد أن سيطرت على مصر.
[8] Al-Isma’iliyah and the Origin of the Fatimids. The Muslim World, vol. 49, p299
[9] أي أن الجد ميمون القداح كان مجوسياً، وتهوَّد ابنه عبد الله بن ميمون، ثم أظهر التشيع.
[10] يعني إسماعيل بن جعفر الصادق؛ ثم يأتي الأئمة المستورون.
[11] الشيعة وأهل البيت لإحسان إلهي ظهير (ص283-284).
[12] الديصان ثنوي فارسي مشهور في القرن الثاني الميلادي؛ تحول إلى النصرانية بعد أن عمل منجماً في مدينة أديسا (الرها/أُرفا). ومع كونه أصبح نصرانياً فقد كان يحمل بعض المعتقدات الإلحادية والزردتشية. ويبدو أن حفيده ميمون أظهر الإسلام ولكنه تبع خطا جده ديصان في الخلط بين أكثر من دين.
[13] الشيعة والتشيع: فرق وتاريخ، للكاتب إحسان إلهي ظهير (ص236).
[14] تاريخ الإسلام السياسي (3/173).
[15] أنظر فتنة البساسيري في كتب التاريخ.
[16] مدينة قرب أرض فلسطين، وهي غير بانياس التي على ساحل الشام.
[17] لا بد لي أن أذكر هنا أني استفدت كثيراً من تعليقات الأستاذ محمود شاكر على هذه العجالة عندما اطلع عليها.(/10)
لمحة عن التربية الإسلامية
رئيسي :تربية :الأحد 16شوال 1425هـ - 28 نوفمبر 2004 م
الحمد لله، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد،،،
أهمية التربية الإسلامية:
فالتربية الإسلامية هي الوسيلة للسعادة في الدارين الأولى والآخرة، بها تتكون شخصية المسلم المؤمن بربه، والمطيع لأوامره والمتجنب لنواهيه، المتمسك بدينه، الذي يؤدي رسالته في الحياة بأمانة، ويعمل للآخرة متبعًا الكتاب والسنة، محاربًا كل بدعة، مطيعًا لربه العليم؛ {...وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا...[7]}[سورة الحشر]. ومقتديًا بسنة نبيه صلى الله عليه وسلم؛ {كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ...[21]}[سورة الأحزاب].
معنى التربية:
والتربية معناها: التنمية للقوى العقلية والخلقية والجسدية، والله سبحانه قد ربّى نبيه ليكون خير قدوة للبشرية، وقد منحه سبحانه هذه الشهادة:{ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [4]}[سورة القلم].
التربية الأبوية:
هذا الواجب يتقاسمه الوالدان بصفتيهما الأبوية، ويشاركهما في هذا الواجب أب روحيّ وهو المدرس، فإذا شعر بمسئوليته تجاه الله والمجتمع، عرف أن التربية أمانة في عنقه، وأن جزاءها تضعيف الأجر؛ { مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً...[245]}[سورة البقرة]. والآباء هم القدوة للأبناء؛ إذ يقلدونهم في سلوكهم الحسن منه أو الرديء، فليكن الأب لابنه مصباح هداية، وليحذر أن يكون مفتاح غواية، وللموعظة الحسنة أثرها، وخير ما نلقنه للأبناء وصايا الرحمن على لسان لقمان لابنه؛ فهي تجمع بين الإيمان والتوحيد، والدعوة إلى الخلق القويم:{ وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ[13]}[سورة لقمان]. {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ[17]وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ[18]}[سورة لقمان].
من وصاياه صلى الله عليه وسلم:
ولرسول الله صلى الله عليه وسلم وصايا عديدة، من اقتدى بها حصل على مزايا جليلة، يقول رسول الله صلوات الله وسلامه عليه في وصية له: [اضْمَنُوا لِي سِتًّا مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَضْمَنْ لَكُمْ الْجَنَّةَ اصْدُقُوا إِذَا حَدَّثْتُمْ وَأَوْفُوا إِذَا وَعَدْتُمْ وَأَدُّوا إِذَا اؤْتُمِنْتُمْ وَاحْفَظُوا فُرُوجَكُمْ وَغُضُّوا أَبْصَارَكُمْ وَكُفُّوا أَيْدِيَكُمْ] رواه أحمد.
إن هذه الوصية الجليلة من جوامع الكلم، تجمع آداب السلوك الاجتماعية اللازمة لسعادة البشرية.
فالله خلق الإنسان وأنشأ له الإرادة، فعليه الاختيار، إما: أن يفعل الخير، فيصير من الأبرار، وإما أن يفعل الشر، فيصبح من الأشرار، والجزاء معروف؛ فلهذا الجنة ولذلك النار.
ولذا ينبغي أن يحرص الآباء على تعليم أبنائهم تعاليم الدين، ويبدءوا بحفظ القرآن الكريم؛ لتتحد البواعث الدينية في نفوسهم مع البواعث الشخصية منذ نعومة أظافرهم..وهذه هي الوسيلة السليمة لتنشئتهم النشأة القويمة التي تؤتي ثمارها الطيبة بإذن ربها.
التربية المدرسية:
والمدرسة من أكبر العوامل في تكوين الشخصية، خصوصًا في المرحلة الأولى حيث يتصل الطفل بغيره من الصبيان ممن هم في مثل سنه، أو ممن يكبرونه، أو يقلون عنه قليلًا، ويتصل أيضًا بالمدرس الذي يعده التلاميذ قدوتهم، ويقلدونهم في سكناته وحركاته، فمحاكاة الحركات والأعمال أسبق من محاكاة المعاني والآراء.
ففي المرحلة الأولى من حياة الصبي يقع سلوكه في دائرة تأثير المعلم، وتأثير الصبيان الذين يختلط بهم، وتأثير آبائه في المنزل، فإن صلحت هذه الدائرة؛ نما الطفل وترعرع بين الفضيلة، وإن فسدت انغمس الصبي في متاهات الرذيلة، ولهذا يجب الحرص على أن يتنفس أبناؤنا - فلذات أكبادنا - في جو إسلامي صحي، فمن الخير للإنسان المبادرة بتكوين العادات الفاضلة في الأبناء حتى تتأصل فيهم، وتنزل منزلة الطبع؛ لأن الإقلاع عن العادات المرذولة إذا تمكنت يكون شاقًا عسيرًا.
صفات الخلقية مهمة:
ومن هذه الصفات الخلقية التي يجب أن يتحلى بها الصبيان:
1- الطاعة لله ورسوله أولًا وقبل كل شيء: وفي القرآن آيات كثيرة تحث على الطاعة بل تأمر بها، فقد أمر الله المرأة أن تطيع زوجها، والابن أن يطيع أباه، والمعلم يحل محل الوالد، ومنزلته هي نفس منزلته، ولذلك تجب طاعة الصبيان له.
2- النظام: لأن الفوضى مفسدة للمجتمع، ومضيعة للتعاون الضروري للحياة الإنسانية.(/1)
3- أن يكون للإشراف الاجتماعي والرياضي دوره الفعال في الاستعلاء بالغريزة الجنسية عندهم: وقد حذّر القابسي الفقيه السني من خطورة الاختلاط بين الطلبة بقوله: 'وإنه لينبغي للمعلم أن يحرس بعضهم من بعض، إذا كان فيهم من يخشى فساده، يناهز الاحتلام، أو يكون له جرأة'. وهو أسلوب وجيز العبارة، لطيف الإشارة، يدل على عفة في نفس المؤلف، تحمله على الابتعاد عن الإطالة في مواطن الفحشاء والمنكر.
والإعلاء بالغريزة الجنسية والتسامي بها يأتي من استغراق الجهد واستنفاذ الطاقة، وتحويلها إلى عمل نافع للفرد والمجتمع، وليكن قول الله رائدنا:{فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ[7]وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ[8]}[سورة الشرح].
فالعبادة - وبخاصة الصوم - وقاية للمؤمن؛ فهي تملأ قلبه بالطمأنينة، وتذهب عنه وساوس الشيطان؛ إذ يتيقن أن ما يفعله هو استجابة لأمر الرحمن حين يقول: { وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ...[33]}[سورة النور]. وبهذا الأسلوب تنتصر الإرادة على الهوى، والإنسانية على الحيوانية، وإن لنا في قصة يوسف لعبرة.
تربية الدعاة:
ولتخريج الدعاة إلى الله يستلزم الأمر:
1- تهيئة بيئة إسلامية سليمة: يعيش العاملون فيها، ونفوسهم مفعمة بحبّ الرحمن، الذي خلق الإنسان علمه البيان، وقلوبهم مؤمنة بخلود رسالة الإسلام وصلاحيتها لكل زمان ومكان.
2- أن تكون عقيدة المعلم والمتعلم مبنية على التوحيد لله رب العالمين، وفهم القرآن فهما دقيقًا: فعلى الإنسان أن يعيش مع آياته الكريمة حتى يكون خلقه القرآن، فهو الكتاب الوحيد الذي يرافقه في رحلته طيلة حياته، يحل به كل مشكلة، وينتصر به على كل معارضة، ويفوز به في الدنيا والآخرة، إنه مفتاح السعادة وباب الرحمة.
3- أن تدرّس السنة المحمدية: فبها ينتظم المجتمع على أسس قويمة، فهي تزكية للنفوس الإنسانية، وهي هادية لفهم الآيات السماوية، إنها الوحي الثاني من رب البرية.
4- أن يهتم الدارسون بالكشف عن جوانب العظمة في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم: وصلاحية هذه الشخصية الكريمة لتكون قدوة لجميع الأجيال، وأسوة حسنة لجميع طبقاتها وأفرادها؛ إنها الشخصية التي لا تسعد البشرية، ولا تتزن الحياة، ولا يقوم المجتمع الصالح إلا بالاقتداء بها واتخاذها إماما ورائدا، ويتفرع من هذين الأصلين الثابتين كتاب الله وسنة رسوله علوم الدنيا والدين.
فالله يرشد عباده في كثير من آياته إلى الحياة الاجتماعية الفاضلة؛ فيحثهم على الزواج وينفرهم من الزنا، وينظم الحياة الأسرية على المحبة والمودة المتبادلة، والأواصر المتينة المبنية على أسس سليمة.
ولما كان المال عصب الحياة فقد ورد في القرآن الكريم الحثّ على الإنفاق في صور شتى، كالصدقة والزكاة وعتق العبد وإطعام المسكين والعناية باليتيم.
وقرن سبحانه الإحسان بالوالدين بعبادته الحقة، فقال:{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا...[23]}[سورة الإسراء].
والله يعلم أعمالنا كبرت أم صغرت؛ {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ[61]}[سورة يونس].، {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ[4]} [سورة الحديد]. بل أكثر من ذلك { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ...[16]}[سورة ق].
والهدف من وراء ذلك هو:
ألا يعمل الإنسان إلا الخير، ولا يفكر إلا في الخير؛ {...وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ...[235]} [سورة البقرة].
أن يعلم كل فرد أن الله رقيب عليه، وأنه أقرب إليه من حبل الوريد، وأنه يحاسبه بالعدل الذي هو أساس ملكه، سبحانه وتعالى لا يظلم أحدا؛ { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ[7]وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ[8]}[سورة الزلزلة].
أن يعبد الله كأنه تراه، فإن لم يكن يراه فإنه يراه، فالإيمان بالله وحده والتزام عبادته، والاعتصام به سبحانه، هي الوسائل الفعالة في التربية المؤدية إلى حياة الضمير ويقظته، والعبادة العملية هي الطريق الصحيحة إلى تثبيت ذلك وتدعيمه.
فالصلاة عبادة الغرض منها معرفة الله، وذكره في كل وقت، ودوام الذكر هو السبيل إلى يقظة الضمير، وتؤدى في خمسة أوقات متفرقة من كل يوم لدوام الذكر.(/2)
ولا تصح الصلاة بغير وضوء، والوضوء غسل وطهارة ونظافة، والنظافة من الفضائل الشخصية العظيمة الأثر في الصحة، كما تنتقل فائدتها إلى النفس فتطهرها، فالشعور بالنظافة الظاهرة يهيئ الإنسان إلى النظر في المعاني بنفس الأسلوب؛ فيعف اللسان ويطهر الفكر، فالإنسان مطالب بطهارة الجسم كما هو مطالب بطهارة القلب والنفس، لذلك ينبغي أن يكون صادقًا عفيفًا، أمينًا، حافظًا للعهد.
وأسلوب القرآن حكيم في الترغيب في الدين والترهيب من الخروج على مبادئ الإسلام والمسلمين؛ لعلمه سبحانه بالطبيعة الإنسانية التي فيها التفكير والتدبير، وفيها المحبة والكراهية، وسلوك الفرد يتحرك بدافع من الرأي والنظر، ويتحرك بقوة الخوف والغضب، وقد وصف الله الجنة في محكم آياته ليكون الناس على بصر بما يلقون من ثواب هو النعيم الذي إليه يشتاقون، وفي نفس الوقت صور الجحيم وما فيها من عذاب أليم؛ ليكون المجرمون على علم بما ينتظرهم يوم الدين.
وهكذا يرسم الدين الإسلامي للناس قواعد التربية السليمة التي ينبغي أن يسيروا عليها، ولن يضل الناس طالما تمسكوا بالقرآن والسنة على الرغم مما يسود العالم من فساد رأي يدعى: بالحرية، ووقاحة فكر: تنعت بالجرأة، وفلسفة مادية ملحدة: تحاول تفسير كل شيء على هواها، إنها مضللة مفسدة.
إن الإسلام ينظم أفعال المرء مع نفسه، وأفعال المرء مع غيره، فالله سبحانه ينصح الإنسان بالاقتصاد في المال، كما يقتصد في تناول الطعام والشراب؛ لصلاح حاله، وصلاح جسده، فيقول: {ولا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ...[29]}[سورة الإسراء]. ويقول: { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا...[31]}[سورة الأعراف]. هذه فضيلة الوسط بين الإفراط والتفريط التي لا تتلاءم مع الحياة الواقعية.
فالإسلام شريعة سمحة تدعو الإنسان إلى الخير والرحمة، وتحثه على الإخلاص والمحبة، وتقضي على الأنانية التي هي آفة البشرية.
وإذا كان أصحاب الكهف مثلا للشباب المستبصر الذي لم تطمس ظلمات الكفر في بيئته شعاع فطرته، ولم تشب أوضاع الضلال صفاء استقامته، فإن المجتمع الإسلامي لا يترك شبابه لهذه المعاناة، ولا يعرضهم لهول هذه المحن، فهو مجتمع يقوم على الإيمان بالله وتحقيق شريعته، ومن هنا فهو حريص على أن يحمي ناشئته من الفتنة، ويقيهم سبل الضلال والغواية، فلا يكل توجيههم إلى قلوب مريضة، ولا يترك زمامهم بأيد ملوثة، بل يوفر لكل ناشئ فيه جوًا صالحًا تزكو فيه الفطرة، وتتفتح أزهارها.
فأئمة الضلال حين يتولون التوجيه والتنشئة يصبغون الأجيال بصبغتهم، ويوجهون بها إلى طريقهم؛ فيضل المجتمع ويشقى، وهذا مصداق لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ] رواه البخاري ومسلم.
فإذا شبّ الفتيان على العقيدة السليمة، ورسخت في نفوسهم العادات الحميدة استحقوا أن يوصفوا بما وصف به أهل الكهف من قبلهم {...إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى[13]}[سورة الكهف].
إن أهل الكهف قد راعهم ما تردى فيه قومهم من الشرك بالله، فاعتزلوا بهتانهم، ونجوا بأنفسهم حتى لا يصيبهم ذلك البلاء، ولا تتسرب إليهم تلك الأدواء، إنهم لجأوا إلى الكهف ينشدون من الله الرحمة، وأن يثبت قلوبهم على الإيمان به، ويهديهم بنور الحقيقة، ويفتح لهم أبواب المعرفة؛ ليبنوا بسواعدهم الفتيّة، وعزائمهم القوية مجتمعًا جديدًا خالصًا من أدران الوثنية والشرك برب البرية.
والدعاة من الشباب المسلم يصنعون بإذن الله الخير للناس كلهم، فينقذون العالم من الظلام الذي يعمهم، ومن المفاسد التي سرت بينهم إلى حد بعيد؛ حتى أصبح الناس منها في كرب عظيم.
والشباب المؤمن يملك القوة ويتحمل المسئولية مستجيبًا لأمر ربه، ناشرًا رحمته وعدله.
وأملنا أن يحقق هذا الشباب رسالة السماء، ويكسب العالم الأمن والصفاء، ويعيش الناس في سعادة وهناء في ظل شريعة الإسلام السمحاء.
وأخيرا فهذه كلمة كتبتها موجزة، ولكن التربية الإسلامية تحتاج إلى دراسة مستفيضة، أرجو الله تعالى أن يوفقني إلى القيام بها، فالعالم في حاجة ملحّة إليها، وستكون إن شاء الله الهادية له من الضلال والظلام، والمنقذة له من الغرق والآلام.
من :'لمحة عن التربية الإسلامية' للدكتور/ محمد نغش .(/3)
لمحة عن المرأة في السياق القرآني
بقلم /عثمان الخميس
قال تعالى : {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12)}[1] .
المبدأ الساري في القرآن الكريم : {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ}[2] والنفس تعم الرجل والمرأة ، تلك الآيات الختامية من سورة التحريم تضع المرأة حيث يضعها عملها الذي كسبته ، فهناك امرأتان جُعلتا مثالا للذين كفروا ، هما امرأة نوح وامرأة لوط ، لم يغن عنهما شيئا أنهما كانتا زوجين لرجلين من عباد الله صالحين ، لأنهما خانتا الزوجين ، فلم تستحقا إلا أن يقال لهما : ادخلا النار مع الداخلين .
ثم هناك امرأتان أخريان جُعلتا مثالا للذين آمنوا ، هما امرأة فرعون ومريم ابنة عمران، حيث سألت الأولي ربها أن يجعل لها بيتا في الجنة ، وينجيها من زوجها فرعون وعمله ، ومن القوم الظالمين ، وحيث أحصنت الثانية فرجها، حتى استحقت أن ينفخ الله فيها من روحه ، وكانت من القانتين .
فالمرأة في القرآن إن فسدت كانت مثلا للذين كفروا ، وان صلحت كانت مثالا للذين آمنوا.
منتهى العدل والإنصاف والمساواة في إحلال المرأة محلها ، ووضعها موضعها . ويغيب العدل والإنصاف والمساواة إذا نظرنا إلى واحد فقط من الأمرين السابقين .
نضل إذا نظرنا إلى الشق الأول وحده ، فجعلنا منها مثالا للشر ، ونضل إذا نظرنا إلى الشق الثاني وحده، فجعلنا منها مثالا للخير.
وإذا كانت المرأة الفاسدة قد ضُربت مثالا للذين كفروا فكفي المرأة شرفا وتكريما أنها ضربت مثالا للذين آمنوا إذا صلحت ، والعكس صحيح .
فهذه مكانة لم يذكرها القرآن الكريم للرجل واختص بذكرها المرأة المؤمنة الصالحة، وإن كانت بمقتضى وحدة المبدأ يعم المرأة والرجل { بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ }[3] .
كان ذلك في بالي وأنا أقرأ الآية الكريمة " أومَن ينشّأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين " إذ شاع وذاع أن المرأة في هذه الآية تنُشٍّأ في الزينة ونعومة العيش، فيورثها ذلك هشاشة وضعفا ، إذا خوصمت لا تقوى على إقامة دعوى ، ولا تقرير حجة ، وإذا احتاج الأمر إلى امتشاق الحسام لم تغن غناء الرجل ولم تسد مسده، تجد ذلك في القرآن الجليل للإمام النسفي وما لا أحصي من كتب التفسير. لكن في أوضح التفاسير لمؤلفه ابن الخطيب إشارة واضحة إلى الرأي الذي تبنيناه ، وفي ظلال القرآن لمؤلفه السيد قطب إشارة لامحة إليه .
فقلت : ترى هل تعبر هذه الآية عن رأي القرآن في المرأة ؟ لنقرأ هذه الآية في سياقها القرآني ، ووجدت السياق يقدم هذه الآية على النحو التالي : {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْأِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ (17) أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلونَ (19) وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20) أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23)}[4] .(/1)
لقد وردت الآية الكريمة " أوَ مَن ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين " في سياق الحديث عمن يتحدثون عن الملائكة ويجعلونهم إناثا ، وهي قضية مثارة في القرآن الكريم في عدة سور ، للكفار فيها موقفان متناقضان ، فهم من ناحية {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59)}.
أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ؟ كما عبر السياق القرآني في سورة النحل [5] ، وهم مع ذلك من ناحية أخرى يسمون الملائكة {تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى}[6] ، ويعتقدون أن لهم الذكر ولله الأنثى [7] ، وأن الله ـ سبحانه ـ اتخذ الملائكة إناثا وأصفاهم بالبنين ؟ [8] خلق الملائكة إناثا وهم شاهدون ؟ [9]
وهذا التناقض في معتقداتهم معيب من نواح مختلفة ، معيب لأنه إذا كانت الأنثى في زعمهم مما يسوء ويسودّ له وجه المرء إذا بشر به حتى ليتوارى من القوم من سوء ما بشر به ، ويكون موقف المرء حياله إما إن يمسكه على هون ، أو يدسه في التراب . إذا كانت الأنثى كذلك في زعمهم فلماذا يجعلون الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا ويسمونهم تسمية الأنثى ؟ فإذا كانوا يوقرون إلههم فلم يجعلون ملائكته من الجنس الذي يرون فيه هذا الرأي ؟
وموقفهم معيب إذن لأنه يدل على أنهم اختاروا لأنفسهم ما تبيض له وجوههم واختاروا لربهم ما تسود له وجوههم .
وموقفهم معيب كذلك لأنهم لم يشهدوا خلق الملائكة ومع ذلك قالوا ما قالوا حتى ليسجل القرآن عليهم ذلك : " وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا، أشهدوا خلقهم، ستكتب شهادتهم ويسألون " .
وموقفهم معيب كذلك لأن هذا الموضوع من السمعيات التي لا يجوز الحديث فيها بالرأي ، إذ لا مرجع للمتحدثين فيها إلا أن يكون قد نزل فيها كتاب سماوي يستمسكون به ، وما داموا ليس معهم هذا الكتاب ، فهم يتحدثون في أمر ليس لهم به من علم ، إن هم إلا يخرصون ويظنون، وهم في حقيقة الأمر يرددون ما قاله آباؤهم من ضلالات لا مرجع لهم فيها إلا أوهام وظنون رددها أسلافهم ، شأن الكافرين يكفرون ويقولون : بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا وإنا على آثارهم مقتدون مهتدون ، أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون ؟
في سياق هذه القضية وردت الآية الكريمة " أوَ مَن ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين " وواضح من السياقات العامة لهذه القضية ومن السياق الخاص في سورة الزخرف أن الآية تعبر عن رأي الكافرين في المرأة لا عن رأي القرآن الكريم فيها ، فهي امتداد يبين الفكرة عن المرأة في البطانة الفكرية والنفسية لهؤلاء الذين إذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا ظل وجهه مسودا وهو كظيم ، فمن بطانته الثقافية أن المرأة مخلوق لا يصلح للنصرة ولا يغني في مواقف الجد والخصام ، لأنه منشأ في الحلية ، وهي أسباب فاسدة لوأد البنات ، يحكي القرآن موقفهم ويسوق ما يتردد في أذهانهم وأفئدتهم من الأفكار والمشاعر التي تمثل خلفية فكرية لهذا الموقف ، وهو موقف عرفنا أنه لا يستند إلى كتاب يرجع إليه ، ولا إلى منطق سديد يعتمد عليه .
تتبارى العقول في فهم النص الكريم، ويظل القرآن أسمى.
( 1 ) التحريم : الآيات 10 ـ 12 .
( 2 ) المدثر : الآية 38 .
( 3 ) آل عمران : الآية 195 .
( 4 ) الزخرف : الآيات 15-23 .
( 5 ) النحل : الآيتان 58-59 .
( 6 ) النجم : الآية 27 .
( 7 ) النجم : الآية 21 .
( 8 ) الإسراء : الآية 40 .
( 9 ) الصافات : 50 .
موقع الشيخ حامد العلي
http://www.almanhaj.com/article.php?sid=140&mode=thread&order=0(/2)
لمحة موجزة ووقفات مع قضيّة فلسطين
بقلم الدكتور عدنان علي رضا النحوي
أعجبُ كلّ العجب حين أرى النَّاس يفاجؤون بمواقف أمريكا، في المدة الأخيرة من قضية فلسطين، ووقوفها ضد التصويت على المشروع المقدّم من قبل الدول العربية إلى مجلس الأمن الدولي لإدانة إسرائيل في المجازر الأخيرة، ومنحها لشارون كتاب الضمانات التي يرغبها، وإعلان ذلك على العالم ! أعجب وأتساءل : ما هو الجديد في مواقفها وما الذي يثير الدهشة ؟!
موقف أمريكا موقف واضح صريح منذ عشرات السنين، يتبناه جميع رؤساء الولايات المتحدة منذ أن بدأ زحف اليهود على فلسطين.
لقد أعلن جميع وزراء خارجية الدول الغربيّة بعد إعلان قيام دولة اليهود في فلسطين تصريحاً أجمعوا عليه : " إنّ إسرائيل وجدت لتبقى " ! وتوالت التصريحات منذ سنة 1948م على الأقل تردد وتؤكد هذه المعاني.
ولماذا أقرّ العالم انتداب بريطانيا على فلسطين ؟! لقد كان الانتداب وإقراره إقراراً وتنفيذاً دولياً لوعد بلفور، إقراراً برعاية كيان اليهود في فلسطين وتوفير الحماية المتواصلة له، ولقد كان سلوك الانتداب البريطاني في فلسطين مدة الانتداب واضحاً جلياً في دعمه القوي لليهود وخنقه لمحاولات الفلسطينيين في مقاومة ذلك. واستمرَّ الانتداب بسياسته الظالمة دون أن يجد أي يقظة حقيقية من العالم العربي أو الإسلامي كله، والنذر في الآفاق مدويّة.
ألم يكن ذلك كله كافياً لينذر بما هو مقبل على العالم العربي والإسلامي ؟! ولقد حاول أهل فلسطين منذ أوائل الغزو الصهيوني نقل القضيّة لتأخذ صورتها الحقيقة كقضيّة إسلامية في أيدي العالم الإسلامي كله والأمة المسلمة كلها. ولكن جميع الجهود فشلت لهوان الاستجابة من ناحية وشدة ضغط القوى المعادية داخلياً وخارجيّاً.
ولما انتهى الانتداب وقامت دولة اليهود، وأعلن أهل فلسطين " حكومة عموم فلسطين "، وخُذِلت تلك الحكومة ونشطت دولة اليهود في رعاية دولية حانية لم يجد أهل فلسطين مثيلاً لها من أهلهم وإخوانهم.
كان رأي أهل فلسطين آنذاك أن يتولَّوا هم القتال في فلسطين، وأن لا تدخل جيوش الدول العربيّة، وأن تقام معسكرات للتدريب على جميع الحدود، ويؤمَّن لأهل فلسطين التدريب والسلاح والمال، ولكنّ جامعة الدول العربيّة آنذاك رفضت هذا الحل وأصرّت على دخول الجيوش العربيّة، فكان ما حدث!
وامتدت الأحداث وتطورت حتى صدر تصريح جمال عبد الناصر سنة 1964م، يعلن فيه قيام منظمة التحرير وبناء جيش لها لتنفيذ مقررات هيئة الأمم المتحدة. فكان ذلك إعلاناً صريحاً بقبول الكيان الصهيوني وبالتنازل عن قسم من فلسطين له، والمطالبة بقيام دولة للفلسطينيين حسب قرارات التقسيم.
ولكنّ " مناحم بيجن " رفض في مؤتمر كامب ديفيد التنازل عن أي شبر من فلسطين، وقال إنهم صبروا آلاف السنين حتى يعودوا إلى " أرضهم "، فلن يتنازلوا عنها. ولكن يمكن منح الفلسطينيين سلطة داخلية في بقعة من الأرض يتولون فيها شؤون الصحة والمعارف وأمثال ذلك تحت إشراف إسرائيل، دون أن يكون لهم جيش أو وزارة خارجيَّة. وكان ذلك بحضور " كارتر " و " أنور السادات " و " مناحم بيجن " و " موشى دايان " و " حسن التهامي ".
وانحصرت مطالبة العرب والمسلمين بعد ذلك بدولة فلسطين على جزء من فلسطين. واخذ الصراع يدور حول ذلك. ولم يكن ذلك موقف الدول العربيّة وحدها، وإنما أصبح مطلب بعض الدعاة المسلمين، ومطلب الحركات الفلسطينية. وكان يُغطَّي هذا التنازل وهذا المطلب بمعارك واصطدامات مع اليهود تجلب تأييد الرأي العام وعطفه على الذين يتبنّون القضية آنذاك، دون أن يسأل أحد ما هي الخطة وما هو الهدف وما هي الإمكانات والوسائل!
وكثرت الشعارات ودوّت في العالم العربي تعلن تحرير فلسطين من الشمال إلى الجنوب ومن الشرق إلى الغرب. وفي هذه اللحظات تكرّس مبدأ المناداة بالدولة الفلسطينية، وحق الفلسطينيين بالقتال من أجل ذلك، ثم تأكد ذلك بالمناداة بحق تقرير المصير للفلسطينيين، مناداة واسعة شملت العالم العربي كله والإسلامي، والمستويات المختلفة.
وأصبحت القضيّة قضيّة الفلسطينيين عمليّاً، وقَبِل الفلسطينيون ذلك، وهبت المنظمات الفلسطينية المختلفة لتتولّى مجابهة إسرائيل.
عندما كانت إسرائيل ضعيفة سنة 1948م، والفلسطينيون في أرضهم وديارهم، لم يُسْمحْ لهم بأن يتولّوا قضيتهم. ولما قويت إسرائيل وأصبحت لها ترسانة أسلحة جبارة ترهب من حولها، وتقف معها دول العالم وقفة المدد والدعم الكامل، في هذه المرحلة والفلسطينيون كثير منهم في شتات، أُحيلت القضية إليهم ليتولّوا هم وحدهم حقيقة القتال مع إسرائيل مع مدد من الدول العربيّة مالاً وسلاحاً وشجباً وشكوى، واستغاثة واستنجادا.(/1)
وكأنما غسل الكثيرون أيديهم من القضية، وتأخّروا عن ميدان القتال، فكيف قبل الفلسطينيون ذلك ؟! هل كان لهم خطة ونهج يكفل تحقيق الشعارات التي تدِّوي ؟! هل توافرت لديهم الإمكانيات الحقيقة للوصول إلى جوهر الشعارات والأهداف المعلنة ؟! ما هي القوى الخفية التي كانت تدفع إلى ذلك ؟!
عندما قبل الفلسطينيون أن يتناولوا القضيّة بأنفسهم وحدهم ماذا كان لديهم من الإمكانات البشرية والعسكرية، والخطة التي تقود إلى الهدف، أمام دولة اليهود التي تمثل ترسانة أسلحة أرهبت كثيراً، وأمام دعم دولي كامل لها، وأمام صف واحد متراص معها، والمسلمون ممزّقون في هوان وضعف، والفلسطينيون أنفسهم فئات وشعارات تتصارع. فمن الفلسطينيين من أعلن أن منظمة التحرير اقرب المقرّبين لهم بالرغم من علمانيتها، فإذا تخلَّت المنظمة عن علمانيتها كانوا جنودها التي تحترق من أجلها.
ومضت السنون وفصائل الفلسطينيين باتجاهاتها الفكرية المتناقضة بين صراع داخلي وتلاقٍ آني، وشعارات تنذر بالويل والثبور لليهود، ولم ينهض أحد من الأمة كلها ليسأل : ما هو الهدف الآني وما هو الدرب والخطة التي أُعدّتْ لتوصلَ إلى الهدف ؟! ولم ينهض أحد من الأمة لينصح ويعين على تحديد الهدف والدرب الذي يوصل إلى الهدف من خلال ما يُعلن من عقائد وفكر. ولم ينهض أحد لينصح المسيرة لتتجنَّب الخلل والانحراف والزلل.
وضَجّت الشعارات ! ومن خلال الضجيج تقدّم اليهود شيئاً فشيئاً مع كلَّ ضجة وصيحة ؟!
وأتساءل ما هي الدولة التي يريدون قيامها ويقاتلون من اجلها إذا كان اليهود قادرين على حجز رئيس الدولة في غرفة، وإذا كان اليهود قادرين على دخول أي قطعة من الأرض ليقتلوا ويدمروا ويحرقوا الأرض ويهلكوا الحرث والنسل في أيّ وقت شاؤوا، ولا تجد في العالم كله أحداً يردعها ؟؟؟!! ما هي هذه الدولة وكيف يُحْلَم بقيامها، وما وجدواها وما قُوَّتها ؟؟؟
هذه هي العراق أصبحت بحراً من الدماء والأشلاء، وانقطاع الماء والكهرباء والتدمير الممتد الشامل. وما يجري الآن في العراق خطوة خطوة وما تفعله أمريكا ، هو نفسه ما يَفعله اليهود في فلسطين.
وهذه هي أفغانستان ! والزحف ممتد والدماء تتفجّر، وصمت المسلمين مذهل مرعب مخيف !
إذا تتبعنا تاريخ قضية فلسطين تبرز أمامنا حقائق هامة. أولها أن الغرب الذي تبنّى دعم اليهود وبناء دولة لهم في فلسطين كان ينطلق من نهج وخطة يمضون بها على مراحل، تربط كلَّ خطوة بسابقتها وتمهد للخطوة اللاحقة، من خلال تصورات مادية استفادت من سنن الله في الحياة دون أن يؤمنوا بأنها سنن لله، فارتبطت هذه القضيّة بما سبقها من أحداث، كانهيار الخلافة وتمزق العمل الإسلامي والعالم الإسلامي، وساهمت من ناحية أخرى في المكائد التي تلت ونُفِّذت في العالم العربي والإسلامي.
إذن نستطيع أن نقول إن هناك جبهتين : جبهة الغرب المتضامن والمتَّحد حول ما أقرّوه من هدف كبير لهم لا يختلفون عليه، وهي جبهة وضعَت خُطَّتها ومراحلها للهدف الكبير الذي تسعى إليه منذ زمن بعيد، ومضت في تنفيذه. وجبهة أخرى مفكّكة ممزَّقَةٌ متضاربة المصالح. وهي تمضي من خلال تفككها دون نهج جامع ولا خطة توصل إلى الأهداف المعلنة. والجبهة الأولى وفّرت الإمكانات المادية لها وجمعت أسباب القوة، ووضعت ثروتها في بناء هذه القوة وَسَطت على ثروات غيرها. والجبهة الثانية غرقت في تفكّكها بزخرف الحياة الدنيا ولهوها ولعبها وبعثرت قواها وثرواتها، فإذا تلاقت الفئتان فما هي النتيجة ؟!
لذلك نرى أنه إذا التقت فئتان : فئة لها نهجها وخطتها التي تجتمع عليها وتعمل بها، وفئة لا خطة لها توصلها إلى ما تعلن من أهداف، فإن الفئة الأولى تكون قادرة على تحويل جهود الفئة الثانية لصالحها.
والسؤال الذي يثور هنا : ما هو الهدف الكبير الذي جمع الجبهة الأولى فالتقوا عليه، مع ما يثور بينهم من تنافس ونزاع على اقتسام الغنائم ؟!
خلال القرنين الأخيرين بذل العالم الإسلامي كثيراً من الدم والمال، فلماذا لمْ يجنوا إلا الهزائم والخسران ؟!
لقد تبنَّت فرنسا أولاً النشاط الصهيوني في أول ظهوره، ثم تبنّته إنكلترا ثم أمريكا، ثم الغرب كله، يتزعّمه في هذا الأمر وفي سواه أمريكا. إذن هناك أمر كبير يسعون إليه.
يقول " نيكسون " رئيس أمريكا السابق في كتابه " نصر بلا حرب "، يقول عن إسرائيل " هي الأمة الوحيدة التي يتحدّى سكانها اليابان باعتبارهم الأفضل تعليماً. لقد بهرت إسرائيل العالم كله بما أنجزته خلال أربعين سنة من السلام.(1)
ويقول كذلك في الكتاب نفسه " إن علاقتنا مع إسرائيل أكبر بكثير من قضية معاهدة، إنه التزام ثابت من الولايات المتحدة، وعلى كل رئيس جمهورية قادم أن يدرك أن من أهم مسؤولياته حماية إسرائيل ودعمها ".(/2)
ويقول " دان كويل " نائب الرئيس الأمريكي سابقاً ردّاً على بعض الأسئلة : "إن دولة إسرائيل مهمة وأنا أعتبر نفسي صهيونياً، واعتقد أن عدداً كبيراً من الموجودين هنا يعتبرون أنفسهم كذلك ". وقال : يجب النظر إلى الرئيس بوش على أنه صديق قوي وداعم لإسرائيل، ولننظر إلى السجل ". وأخذ يعدّد خدمات بوش لإسرائيل، وكل واحدة طعنة كبيرة في قلب العالم الإسلامي. وقال : " إن إسرائيل هي أكثر حليف يمكننا الاعتماد عليه في المنطقة... "(2)
وفي الكتاب الأخير لنكسون : " اغتنام الفرصة "، يقول : " إن مصالح أمريكا الاقتصادية محور علاقتنا مع ألمانيا وأوروبا وآسيا والعالم كله، وعلى العالم كله أن يخدم مصلحة أمريكا ليكون جزءاً من النظام العالمي الجديد "(3)
ويقول نيكسون كذلك : "... ولكن منطقة الشرق الأوسط تظلّ هي المنطقة الأكثر احتمالاً للانفجار في العالم كله، مهد الحضارة الذي يمكن أن يغدو مقبرتها "(4)
في قضية فلسطين ثارت الشعارات المختلفة من وطنية وقومية وإقليمية وإسلامية وحزبية. تلتقي بعض الفئات فيما بينها على تناقض مبادئها حينا وحيناً تنفصل , تجري المجازر الرهيبة على أرضها سنين طويلة والعالم كله يتطلع لا يبدي حراكاً. تلقي إسرائيل بكل قرارات مجلس الأمن وهيئة الأمم المتحدة وراء ظهرها، غير مبالية ! أيُعقل أن يجابَهَ هذا الصف الدولي المتحد بشعارات متضاربة في الشعب الفلسطيني وحده ؟! كيف رضي المسلمون بذلك ! وأصبح القول بأن فلسطين إسلاميّة شعاراً لا يجد له رصيداً في الواقع ! يُعلَن في قلب هيئة الأمم المتحدة المطالبة بدولة عثمانية ! حتى هذا يرفض ! وكلما أمعن المسلمون في التنازلات، أمعن المجرمون بزيادة المطامع والجرائم والإذلال !
في سنة 1948م كانت المساحة لإسرائيل محدودة، ومع كلّ ضجّة تبتلع مساحة جديدة، حتى أصبحت تتحكم فيمن يدخل المسجد الأقصى ليصلي فيه، وحتى أصبحت تدخل وتقتل وتدمّر في أي جزء من فلسطين، كأنّ فلسطين كلها أصبحت عملياً تحت نفوذهم وسلطانهم !
لم يحدث أن نادى المسلمون في المحافل الدولية بأن فلسطين هي حق الإسلام والمسلمين في جميع العصور. ولكن دوّى اليهود في كل محفل بحقّهم الديني الكاذب في فلسطين ! كذبوا وكذبوا حتى صدقهم الناس، ولجأنا نحن يوماً إلى التصوّر الوطني أو الإقليمي أو القومي عمليّاً في الساحة مع طلاء إِسلاميّ يصنع الشعارات. ولم تنزل الأمة المسلمة إلى معركة فلسطين، لم ينزل الإسلام بأمته التي بناها محمد صلى الله عليه وسلم، ولكن نزلت القوميّة والوطنية :
فكلّ الذي يجري على الساح ضائع
إذا لم تقم في الأرض أمّة أحمد ... ...
وكذلك :
ودمائي تموج فيها النجود
لا تقل لي سياسة وسلام
ألف ميلٍ إلى الوراء نَعُودُ
كلَّ بضعٍ من السنين ترانا
لمزيدٍ وما كفاه المزيدُ
وعدوّي أراه يقفز قفزاً
وعدوّي له شعار وحيدُ
كل يومٍ نُعلي ونرمي شعاراً
كلُّ حزب بما لديه سعيدُ ...
وخطانا على الطريق شتات
وكذلك :
ليس الذي ! يا ويل من لم يَعْدلِ !
كلٌّ يقول أنا الذي، فإذا الذي
... ...
... ...
وكذلك :
ـتِ ومن صريعٍ في الديِّار مُجدَّل ...
يا أمَّتي ! كم من دماء قَدْ صبَبْـ
دينِ النِّزال وجمْعِها ؟! لمْ تَبْخَلي ...
كمْ جُدْتِ بالكفَّ السخيّ على ميا
ـنَ تطولُ! أيْنَ جَنى العطاءِ المجْزِلِ
يا أمتي ! مهلاً ! بذلْتِ مع السنيـ
إلا الهزائم ؟! هل وقفتِ لتسألي
...
يا أمتي ! لمَ بعد ذلك لم نجد
ئم والقوارع ؟! فانظري وتأملي
...
هلاّ وقفت لتسالي سبب الهزا
اليوم، مع الهزائم والهوان، يجب أن نَقِفَ وقفة إيمانيّة نحاسِبُ أنفسنا ونكشف أخطاءَنا ونعالجها. لقد امتدت المعركة واتَّسع الميدان ليكشف لنا المعالم خطة مرسومة تنفَّذ في مراحلها : بين تخدير وإغراء، وفتنة ومجازر تتسع وتمتد. لم تعد قضيّة فلسطين هو وحدها الميدان ! أصبحت أرض الإسلام كلها يزحف عليها الخطر الداهم والقوارع الصاعقة ن فهل من وقفة إيمانيّة ؟! هل من محاسبة للنفس ؟! وإلاّ فانتظروا ما هو أدهى وأمر، عقاباً من عند الله على ما كسبته أيدينا.
فهل بَانَ الآن الهدف الأكبر الذي يجتمع عليه أعداء الله ؟!
(1) كتاب " نصر بلا حرب " ص : 292.
(2) صحيفة الحياة اللندنية العدد 10673 ـ 27 شوال 1412هـ الموافق 29 نيسان 1992م.
(3) صحيفة الشرق الوسط في حلقات ابتدأت في 19كانون 1991م.
(4) كتاب " نصر بلا حرب " ص : 284.(/3)
لمن نتبرع في العراق ؟!
الحمد لله على نعمائه ، و الصلاة و السلام على نبيه محمد و صحبه و آله ، و بعد ...
فينبغي للمسلم أن يجود بنفسه و ماله في نصرة إخوانه ، و أن يكون في حاجة أخيه المسلم حيثما كان ، و كلما احتاج إليه ، أو استصرخه مستنصراً ، لا فرق في ذلك بين العراق و غيره .
ففي الصحيحين و غيرهما عن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه و سلم قَالَ : « الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لاَ يَظْلِمُهُ وَ لاَ يُسْلِمُهُ وَ مَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ وَ مَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَ مَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ » .
و لا شك في أن من أفضل ما يقوم به المسلم تجاه أخيه المسلم نصرتَه مظلوماً ، و إغاثته ملهوفاً ، و هذين الوصفين لا ينفكان عن كثير من أبناء المجتمعات الإسلامية في عصرنا الحاضر .
و من الغريب المؤسف أن نصرف اهتمامنا إلى ما جد من الجراح النازفة و ننسى أو نتناسى جراحاً أخرى غائرة في جسد الأمة منذ عقود ، فنسير منبتين كأتباع كل ناعق لا ظهراً نبقي ، و لا أرضاً نقطَع .
و كأن الإعلام الذي أفلح في تسيس كل ما يعرضه لصالح فئة أو طائفة من الواقفين وراءه ، لم يعجز في تشتيت اهتمام المسلمين ببعضهم ، و إسقاطهم في بنيَّات الطريق ( أحياناً على الأقل ) حتى لا تؤثر وقفتهم في نصرة إخوانهم و لا تغير من الواقع شيئاً .
فالبارحة أكب المسلمون على جمع التبرعات لنصرة الجهاد و المجاهدين في أفغانستان ، ثم انكفأت قدورهم فأصبحت البوسنة في صدارة الأولويات ، و لكن إلى حين ، قبل أن يتحولوا إلى الشيشان ، ثم كوسوفا ، و اليوم إلى العراق ، و هكذا دواليك .
تحولات يسيرها الإعلام و أهواء الساسة في كثير من الأحيان ، و إغاثة رسمية تخطو ببطءٍ على آثار سياسة مضطربة ، لا أبعاد لها و لا حدود ، سوى ما يمليه الحاكم ، و يسنه القانون ( و أي قانون ؟ ) .
و كأننا لا نذكر إخواننا إلا إذا أهوى الجزار بساطوره على رقابهم ، و أعمل فيهم القتل و التشريد و التعذيب ، فتهب الشعوب المضللة حينما يستصرخها الحكام ، و تجود بالغالي و النفيس ( مادياً و حسب ) في دعم مؤسسات يطغى على نشاطها الإعلام و الإعلان ، و يكثر في أعمالها الرياء و السمَعَة ، و تمجيد الحاكم الذي سمح بإيصال أقل القليل من أكثر الكثير إلى مستحقيه ، و ربما إلى من لا حق له فيه .
فهل استغنت بلاد الأفغان عن مساعدات المحسنين و تبرعات المتبرعين في عهد طالبان حتى أغلقت في وجهها الأبواب ؟
أم أن التبرعات أوقفت تبعاً لأهواء الساسة المحليين و إملاءات الأسياد الغربيين ؟
و ما ذنب مئات الآلاف من الأيتام الذين كانوا يتلقون تحت اسم كفالة اليتيم ما يسد الرمق أو بعضه في بلاد الأفغان حتى توقف كفالاتهم بعد فتح الطالبان لكابول ؟
إنها – و أيم الله – الصدقات المُسَيَّسَةُ التي لا تطلق إلا في الحملات التي يباركها الطغاة و يروجون لها لتثبيت عروشهم ، و تلميع وجوههم ، و لو لم تكن الحال كذلك لخُلِّيَ بين المسلمين و إخوانهم يساعدون و ينصرون و يُجَهِّزون و يَغْزُون .
و إنني أعتب على مدراء الهيئات الإغاثية الإسلامية و منسوبيها و العاملين فيها والمتبرعين من خلالها تخليهم عن الشعب الأفغاني المسلم طيلة السنوات العشر الماضية ، ثُمَّ عودتهم لفتح أبواب مكاتبهم و إيصال فتات مساعداتهم من جديد مع الاحتلال الأمريكي للبلاد و إذلالهم لمن صدق ما عاهد الله عليه من خيرة العباد .
ولا أرى لعودة هؤلاء الإغاثيين المغرر بهم في ظل الاحتلال إلى أفغانستان و العراق و غيرهما مبرراً سوى خدمة المحتل و تلميع صورته ، و المساهمة في زيادة التغرير و الاستخفاف بالمسلمين أمة و كياناً و أفراداً مقهورين .
فأمريكا تدمر و نحن نرمم .
و هي تجرح و نحن نداوي .
و قواتها تشرد و نحن نؤوي .
و هكذا دواليك ، نتحول إلى وسائل لإخفاء معالم الجرائم النكراء التي ترتكبها الآلة العسكرية المتغطرسة في حق أبنائنا و إخواننا ، إذ تدنس الأرض ، و تنتهك الحرمات ، و تذيع الذعر ، و تروج للرذيلة و الفواحش و العهر ، و نحن نعمل تحت إمرتها - و إن لم تكن مباشرة - في هامش ضيق من الحرية المستجداة التي لا تتجاوز سد جوعة ، أو إطعاماً في يوم ذي مسغبة .
فهل يعي المسلمون ما أرمي إليه ؟ أم سيتهمونني بالتثبيط و النهي إغاثة اللهفان في العراق ؟
و أياً كان الأمر ، فإلى أن أقف على أصداء دعوتي هذه لا يفوتني التأكيد على أمر من أوجب الواجبات و هو إعداد الغزاة و تجهيزهم و خلافتهم بخير في أهليهم ، و كفالة أيتامهم و ذراريهم ، و هذا باب فسيح يستوعب الكثير من الطاقات المالية و البشرية التي تشد على سواعد إخواننا المجاهدين ، و تثخن في الصليبيين العتاة المحتلين .(/1)
و هو الباب الوحيد من أبواب البر الذي أهيب بالمسلمين وُلُوجَه من أجل العراق العظيم ، عراق الإسلام و الحضارة ، و السيادة و الريادة .
و لنرجىء - و لو - إلى حين ترميم المساجد و المدارس و الطرق ، دون أن نغفل أن منظر واجهة المسجد المهشمة أبلغ أثراً في النفوس من ترميمها بالذهب و الفضة و نفائس الدرر و الأحجار الكريمة ، لأن آثار الدمار ستظل شاهداً على فظاعة الجريمة ، و عظم الجريرة ، و ستحفز النفوس على الثأر لدماء المسلمين و النفرة في سبيل رب العالمين .
و يا حبذا الجهاد بالمال ممَّن حبسه العذر عن النفير بالنفس فجاد بالنفيس ، و عاد بفضل ماله على إخوانه المرابطين ؛ فأعد و جهز ، غير واقف عند حدود النفقة الواجبة من زكاة و كفارات و نذور ، و غير شحيح بما استأمنه الله عليه من مال و عتاد ، ليكون و أهل الثغور شركاء في الأجر .
روى أصحاب السنن و أحمد عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الجهني رصي الله عنه قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه و سلم يَقُولُ : « إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَ جَلَّ يُدْخِلُ بِالسَّهْمِ الْوَاحِدِ ثَلاَثَةَ نَفَرٍ الْجَنَّةَ : صَانِعَهُ يَحْتَسِبُ فِى صَنْعَتِهِ الْخَيْرَ، وَ الرَّامِي بِهِ ، وَ مُنْبِِّلَهُ » .
و روى مسلمٌ في صحيحه عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه ، قَالَ : بَيْنَمَا نَحْنُ فِي سَفَرٍ مَعَ النَّبيِّ صلى الله عليه و سلم إِذْ جَاءَ رَجُلٌ عَلَى رَاحِلَةٍ لَهُ قَالَ فَجَعَلَ يَصْرِفُ بَصَرَهُ يَمِينًا وَ شِمَالاً فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه و سلم : « مَنْ كَانَ مَعَهُ فَضْلُ ظَهْرٍ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لاَ ظَهْرَ لَهُ ، وَ مَنْ كَانَ لَهُ فَضْلٌ مِنْ زَادٍ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لاَ زَادَ لَهُ » . قَالَ : فَذَكَرَ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ مَا ذَكَرَ حَتَّى رَأَيْنَا أَنَّهُ لاَ حَقَّ لأَحَدٍ مِنَّا فِي فَضْلٍ .
و الفضل هو الزيادة ، و فهم الصحابة لمراد نبيهم في غاية السداد و التوفيق ، فهل في زماننا هذا من يسير على خطاهم ، و يهتدي بهديهم فلا يرى لنفسه حقاً فيما فضل عن حاجته حتى يعود به على أهل الثغور ؟
و من عجز عن هذا و ذاك فلا أقل من يخلف غازياً في أهله و ولده بخير ، فيغيث لهفتهم ، و يكفل يتيمهم .
روى الشيخان و غيرهما عن زَيْدُ بْنُ خَالِدٍ رضى الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه و سلم قَالَ : « مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَقَدْ غَزَا ، وَ مَنْ خَلَفَ غَازِيًا فِى سَبِيلِ اللَّهِ بِخَيْرٍ فَقَدْ غَزَا » .
ألا هل بلغت
اللهم فاشهد
و كتب
د.أحمد بن عبد الكريم نجيب(/2)
( لن نؤمن لكم قد نبَّأنا الله من أخباركم ) ! ولكن ! (2)
19-7-2005
بقلم د. سعد بن مطر العتيبي
"... في الحلقة السابقة كان الحديث عن السوفييت العرب وفلولهم ، وتحولها إلى موضة الانتساب إلى اللبرالية ، لا إلى اللبرالية ؛ وليتهم ليبراليون حقا ، لهان الأمر !..."
بداية أنبِّه : ليست هذه الحلقات سوى عرض مختصر ، أبيِّن فيه للأمَّة بعض سبيل القوم للتفطن والحذر واستلهام العبر ؛ فليس هو حوارا مفتوحاً مع أحد ، لأسباب سأشير إليها — إن شاء الله تعالى - اللهم إلا لمن شاء ممن قد يفتح الله على قلبه .. فيعود إلى أمته قلباً كما هو قالباً .
في الحلقة السابقة كان الحديث عن السوفييت العرب وفلولهم ، وتحولها إلى موضة الانتساب إلى اللبرالية ، لا إلى اللبرالية ؛ وليتهم ليبراليون حقا ، لهان الأمر .
نعم منهم قلة ربما يعدّون على الأصابع تجد لديهم ما يشعرك أنهم أصحاب مبدأ مهما كان خاطئاً .. ولكن غالبية من نرى مخرجاتهم - منهم - ليسوا كذلك ، فما هم إلا متمسحون باللبرالية ! ولذلك لن ينتهي عجبك منهم فهم يريدون أن يفسروا اللبرالية ، وكأنهم أهل المصطلح يفسرونه كما يشاءون !.
ولك أن تزداد عجبا ممزوجا بحيرة ، حين تسمع أو تقرأ - لبعض من خدع بقولهم - عبارة : ( اللبرالية الإسلامية ) إنها تذكرني بطرح سابق عليه مسحة القوم ، لقد كانوا يحاولون إقناع الأمة - في الزمن الذي خسروه من قبل - باشتراكية أبي ذر رضي الله عنه ! (كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا ) .
ولن تلام حين تقهقه بسخرية خاطفة مختومة بابتسامة صفراء ، عندما يردد المتبوع منهم قول التابع عند التحاور معه ، ويحاول إثبات انتمائه فكريا لأمتنا بهذه الجملة ! .. ينتسبون لمصطلحات لها خلفيتها الفكرية ، ومنبعها الأجنبي ، ومشاكلها التي أفرزتها حلا عند من يؤمن بها ، ثم يجادلك بعضهم بقوله : إنها ليست سوى آلية !.
لا أدري أهم جادون ! أم هم هازلون مخادعون يحاولون العبور بمثل هذه المغالطات ! تعلمنا أنَّ صاحب المبدأ يهون عليه قبول الحق إذا ما ظهر له .. بخلاف صاحب المصلحة الشخصية فهو صاحب مقعد سياحي دائم على متن البراجماتية ! يبتغي المصلحة مظانَّها ! ولا عجب أن يطَّرِح كل شعاراته في لحظة ! .
ولله ثم للتاريخ أقول : هؤلاء القوم الذين أتحدث عنهم ، منهم من عاد إلى أمته ، وهم كثر بحمد الله ، حتى من المفكرين والكتاب ، وإن بقي لدى كثير منهم لوثات من الماضي الخاسر ، لكنهم حقاً قد انضموا إلى الأمة ، ومنهم من سخّر جهده في الذبّ عنها وعن ثوابتها بعد أن كان على النقيض من ذلك .
بل قد رأيت منهم من لن أنسى دمعاته وهو يحدثني بفرحةٍ اغرورقت منها عيناه ، مع أنَّه قد قارب السبعين من عمره .. لم أعلم أنه كان ناصرياً صليبة ! حتى أثار هو ذلك .. نعم قارب السبعين ، رأيته في حديقة عامة في بلد غربي ، في إجازة الأسبوع .. فاصل : ( للأسف : سمعت برنامجا حواريا في إحدى إذاعاتنا يردِّد فيه المذيع سؤاله للمتصلين : ما ذا تصنع في الويكند ؟ ويردّ كثير منهم : والله أنا في الخميس والجمعة أعمل كذا .. ، فيحاول هذا المنهزم أن يستنطق المواطن العربي الصليبة المسلم بلفظة : ( ويكند ) ! .. أين وزارة الإعلام ! أليس لدينا إذاعة ناطقة بالإنجليزية تقدم دروسا في العربية ! .. ).
أعود بعد هذا الفاصل الاستطرادي الذي لم أطق تجاوزه نصحاً للأمة .. لأصف لكم هذا الرجل الذي قارب السبعين : رجل قد اشتعل رأسه شيبا ، مفتول الشاربين ، حليق اللحية .. أحببته ! وإن ظهرت عليه المخالفة - عفى الله عنا وعنه - أحبته لأنه مسلم يتحسّر على ماضيه المظلم ، وهو بمظهره — المخالف -لم يخرج من الإسلام ، بل كان قبلُ لا يعرف الله — على حد قوله — ولا يطيق سماع كلمة ( دين ) ، وإن كانت نشأته في بلد عربي .
كنا نتحدث عن انتشار الإسلام في الأرض ، وانتشاره في ديار الغرب .
قاطع حواري مع بعض الأحبة في جلسة جانبية ، ليلتقط كلمة من حديثنا ، ويشير إلى شابين يقومان بتهيئة الشواء وما إليه تحت أشجار هذه الحديقة العريقة ، دون أي إثارات إعلامية مناهضة ! أشار إلى هذين الشابين الملتحيين بين جمع من الشباب الملتحي وغيره يؤدون نفس المهمة على توزيعٍ للمهام بينهم ! وبعد أن تمكنتُ من تحديد الشابين بناظري ، وتأكدت من ذلك بوصفه وإشارته ، صمتَ برهة ، ونظرت إليه وإذا عيناه تفيض دمعا ! فأرخيت رأسي .. ثم رفعته على صوته المتهدج ، يَقسِم الحرف في النطق من شدّة العَبرة ! جمعتُ له عبارتَه بقولي له مستفهماً : هو الذي علَّمك الصلاة ؟! قال : نعم ! نعم ! وعلمني الوضوء أيضاً ! إنَّه ابني الذي ولد في هذا البلد الأجنبي ، وترعرع فيه ! وقد تسبب أيضاً في صلاح أخيه !.
حمدت الله كثيرا ، وامتدّ المجلس فأخذ يسرد لنا حكاياته مع الحزب الناصري ، وما لاقاه في سبيله من العناء .. وأنه كان وفياً له ، حتى علم أنه كان في أمر مريج !.(/1)
وهكذا شأن من يُرد الله به خيراً .. وإن عاش في كنف فرعون !.
واقرأ إن شئت سورة القصص : أوَّلَها وآخرَها .. أعود لأقول : على كل حال لدي قناعة بأنَّ صاحب المبدأ يمكنك أن تحاوره مهما اختلفت معه ، لأنَّه يمتاز - في الغالب - شخصية جادة مستقلة ، لا يحركها الآخرون بسهولة ؛ أما اللاهث وراء المصلحة فمسكين ، يُهين نفسه من حيث يفتخر : ( ومن يهن الله فما له من مكرم ) .. وإن كان منهم من لا يشعر بمأساته ، تماماً كما قال الله عز وجل : ( أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء ).
إنهم لا يستحقّون حتى التحسر على مآلهم بنص القرآن : ( فلا تذهب نفسك عليهم حسرات ) ، وهم مساكين كما أسلفت ، لأنهم يجهلون أو يتجاهلون الحقيقة التي تنتظرهم : ( إنَّ الله عليم بما يصنعون ) .. آية واحدة تكفي لبيان حالهم على مر الدّهر .. إنهم كالريش في مهب الريح ، لا ينظرون إلى أين يتجهون ، ولا يستطيعون مجرد الالتفات للريح لسؤالها ولو بكل مجاملة و دلع ! أين نسير ، ومتى نصل !.
إنهم - فقط - يلوكون ( اللبرالية ) على نحو يذكرني بالنكتة التي خلاصتها أنَّ مدرساً دخل الفصل ، فقال للتلاميذ : يعيش السمك في الماء ، فردّ التلاميذ : يعيش ، يعيش ، يعيش !.
إنهم — ومخرجاتهم الإعلامية تشهد - فوضويون ديماغوجيون يعتمدون الهوى والتجمع الغوغائي ، ولذلك يثورون بتخبط ، حينما تقف في وجوههم الحجة ، ويكادون يخرجون من جلودهم تغيظاً حينما يوقفون عند ظاهرتهم الصوتية المخادعة : ( نريد مقارعة الحجة بالحجة ) !! فهم من أكثر الناس مطالبة بها أمام العامة وأكثرهم حنقاً منها حين يحين الجدّ ! .
أعود لأقول مؤكِّداً إنهم فوضويون ديماغوجيون يعتمدون الهوى والتنادي الغوغائي ، وإلا بربكم كيف تتفق عدد من المقالات في نقد موضوعات واحدة عميقة الجذور في الأمة ، منصوصة التنظيم في الدولة ، أو شديدة الحساسية — لتعليقهم لها بمدينة أو بلدة أو عرق - في زمن واحد ! دفعة واحدة ! .
يا هؤلاء : إنَّ الميكافليين يأنفون من هذا الصنيع ، ويستهجنونه ! .
حين أتذكرهم أجدني أتذكر بتلقائية قول الله عز وجل : ( ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ) ! .. بربكم أي وطنية يمكننا أن نصدق ادعاءهم لها ! يجب أن نقول لهم دون تردد : نحن الأمة ، ونحن الوطنيون ! فلن تفلحوا — بإذن الله في تشتيتنا أمة وقيادة ، أقاليم ومناطق وأهالي .. ولعل فيما ذكرت ما ينبه إلى ما لم أذكر ، فالحديث ذو شجون !
ب ) ومنهم قوم كنا لا نظنهم إلا منَّا - نحن الأمَّة - فشاء الله أن يكشفهم بالأحداث ، حدثاً تلو آخر ؛ فما تقع في الأمة أزمة مُشْغِلة ، أو تنزل نازلة مُرْبِكة ، إلا وتطفوا على السطح منهم زمرة ما بين ذكور وإناث ، فينكشف أمرهم وقد أتونا من مأمن ، و قلبوا لنا ظهر المجن على حين غِرَّة .
ففيما الأمة - ولاة ورعية - تتخارج من أزمة هنا أو نكبة هناك ، إذا هم يسلقونها بألسنة حداد ، في تصريحات لإذاعة أجنبية ، أو مقابلة مصطنعة في قناة أو صحيفة ، كأنهم على موعد مع أطقمها الإعلامية طال انتظاره ! وكأنَّما هم خلايا نائمة أو متناومة ، ولكن من الجفاة ، لتتناغم في الإضرار بالأمة مع خلايا الغلاة .
يجمعهم مع الطائفة الأولى - في الفقرة (أ ) - احتقار حضارتنا ، واستهجان ثوابتنا ، والتعبير عنَّا بحقد وكراهية ، والالتجاء في تحقيق مآربهم للأجنبي ؛ وإن روَّج بعضهم باطله ببقايا رأيٍ فقهي منقرض أو رأي فقيه أخطأ في اجتهاده ، هذا إن سلمنا لهم بصحة فهمهم لمراده !.
بل وإن رفع بعضهم شعار الإصلاح الإسلامي ! فالإسلام ليس شعاراً أجوف ولا سجاد ممرٍّ ؛ وما هكذا تورد الإبل ! فليتهم يعوا نصيبهم من تعريض الإسلام لطمع العدو وتشكُّك الموالي ونيل المعارض ، إذ أظهروه كما لو كان شمَّاعة أخطاء ، يفيد منها كلٌّ فيما يوافق مصالحه وهواه ! سواء منهم من ظهر انتماؤه للكفة الأولى ، ومن ليس كذلك ! فلا تنقشع الأزمة — والله قد وعد بقشعها ولكنهم لا يفقهون - إلا وقد نالوا الأمة بأذى ، وأحدثوا فيها من الفرقة ما لا يعلم آثاره إلا الله ، ولا حول ولا قوة إلا بالله !.
فهم ما بين لاحقٍ بالزمرة الأولى أو متضامن معها بالأفكار حينا وبالتطبيل حينا ! وآل الحال ببعضهم حتى صار في يد العدو كالريشة في مهب الريح ! وإن ادَّعى الحريّة في تلك الديار ، فما عادت تجدي الشعارات ، فلا يهنأ أحدهم بادعاء الحرية حتى يفضحه صوت القيود التي ارتضاها بين قدميه !.
أهذا هو الوفاء للأمة قادة وشعوبا ؟!.
أم هو الولاء للوطن أرضا وتنمية ؟!.
أم ماذا أيها القوم ؟!.(/2)
ومن هؤلاء من لم يجرؤ على الظهور ، لعلمه بسوء حاله ، إذ بلغ ببعضهم الحال إلى السير في طريق الزندقة تحت مسميات مستعارة جبانة ، في منتديات ومواقع تطفح بالسيء من المعتقد بلْه القول ، والنيل من الثوابت الإسلامية عقيدة وشريعة ..لم تبال بإثبات موضوعات قذرة تفصح عن قذارة من وراءها وسقوطه في نتن الإلحاد شعر أو لم يشعر .
ولم يتوقف أمرهم عند النيل من الذات الإلهية فيؤذون الله وقد قال الله جلّ الله : ( إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة ولهم عذاب مهين ) ، و ربما جرَّأهم جهلهم بقول الله عز وجل ( وأملي لهم إن كيدي متين ) ، وجهلهم بأن من أسماء الله التي نتعبده بها ( الحليم ) ومن صفاته التي نقدسه بها ( الحلم ) .
إنهم يمجِّدون الشيطان .
نعم الشيطان !.
فلم تخجل عقلياتهم الشيطانية من تمجيد الشيطان بصريح العبارة ، كما لو أنها دعوة لبذرة تنظيم لعباده في بلاد الإسلام وعرين المسلمين ! مما يكشف النفاق في وضع شروط تلك المنتديات خارجية الفكر ! وإلى حين كتابتي هذه الأسطر لا زال أحد هذه الموضوعات النتنة يحظى باحتضان أحد تلك المنتديات! مع وجود مشرفين معلنين وسريين على حد زعم أحد مشرفيه !.
ولا غرو فقد رأس الشيطان يوما شبيهاً له في الاسم ! في هيئة عربي قح .
حمى الله الأمة شرَّهم ، وردَّ كيدهم في نحورهم .
وثم أقسام أخرى منها من اكتشف الحقيقة ، ففرّ من القوم فرار الصحيح من المجذوم ، وعاد إلى أمته للبناء بعد أن استقطب للهدم أو كاد .
ومنها من لم يصدق الخديعة ، و بدأت تتكشف له الحقيقة ، شيئاً فشيئاً ، فينفر منها ويزحف عنها للوراء مرتاباً ومهتالاً ومروَّعا .
فاصل : ذات يوم كنت أنتظر أحد الزملاء في مكان عام أمام أحد الجوامع — وكنت سبقت الموعد بما يقارب العشرين دقيقة احتياطا - لننطلق معاً في زيارة أحد كبار علمائنا — حفظهم الله — وقد مضى على أداء صلاة الظهر - جماعة - قرابة الساعة ؛ وإذا بسيارة رياضية شبابية تأتي مسرعة لتقف بالقرب من موقفي ، وما إن وقفَتْ حتى نزل منها شابان في العشرينات من عمرهما تقريبا ، وكان لباس كلٍ منهما : قميص تنحسر يداه عن العضد ولكنه مستور المنكب ، وتوحي صبغته بأحدث ما يتلقفه الشباب من الموضة ، وعلى كلٍ منهما بنطلون جنز منحسر عن الساقين ، لكنه يستر عورة الرجل .. نزلا مسرعين واتجها نحو مصلى النساء ! توقفت عن قراءة كتيب كان بين يدي ، ورابني هذا التصرف ! ولكن سرعان ما خرجا واتجها نحو أماكن الوضوء ! ثم لم يلبثا أن خرجا واتجها لباب المسجد ، ورأيت بعد أن أكمل انتظاري داخل المسجد ، فدخلته وإذا كل منهما قد انفرد يصلي الراتبة ! ثم رفع أحدهما يديه داعيا ، وانطلقا متماسكين بيديهما ولوح أحدهما بيده اليمنى مسلِّمين مبتسمين ! فبادلتهما التحية والابتسامة بأحسن منها وأزيد .
كم سرني هذا المنظر ! وكم أثلج صدري .
وأصدقكم أنني لم أستغربه .. فقد رأيت أمثاله في بلدان إسلامية وغير إسلامية .. ولكن بعض أحبتنا يتشاءمون .. وليس ثم داعٍ ، فليبشروا بالخير ، فشبابنا مهما ساروا خلف الموضة ووقعوا فيما لا يزينهم شرعا من مخالفة ، فهم منا وقلوبهم منعقدة على حب الله ورسوله ، وإن نال منها الإعلام ووطَّأ لها سن المراهقة .
ورسالة للمتربصين بشابنا : على رسلكم فمهما كانت مظاهرهم ومهما سركم من مناظرهم ، فهم ليسوا منكم في شيء ولستم منهم في شيء ، وإن أصررتم ، فمصير جهدكم ( ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون ) .. حماهم الله شرَّه وشرَّ كلِّ من فيه شرّ من أهل الباطل من غلاة وجفاة .
و يتبع إن شاء الله تعالى .(/3)
لنجعله عاماً هجرياً مميزاً
عبد الحميد الكبتي
ألا حمدا لك اللهم طابا ** فمن يحمدك لم يعدم ثوابا
ونضرع أن تجنبنا هوانا ** فمن هزم الهوى رشدا أنابا
==
لأولي الألباب ... والبصائر
ما الهجرة إلا حدث تاريخي في حركة الحياة ، ناتج من حركة هذا الكون ، وتعاقب الليل والنهار ، وأمسى هذا الحدث معلما وتأريخا لأمة الإسلام إلى يوم الدين ؛ به تدون الأحداث ، وتؤرخ ، وتسرد في كل مرة أحداث الهجرة في ساعاتها الأولى .
أمست الهجرة كحادثة تاريخية مجرد سرد لتفاصيل حركة النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه ، وسردا لقيام دولة الإسلام في المدينة المنورة ، هذا عند غالب الناس اليوم ، في ذهول أنها نتاج حركة الأيام ، وتداول الحياة ، وقصة بناء أمة .
وما القصص القرآني النوراني ، أو النبوي المبارك ؛ إلا وسيلة من وسائل التربية لكل الأمة ، ليس المقصود منها سرد القصص ومدى صحته ودقته - وهذا أمر لازم - بقدر ما تكون " العبرة " هي الخطوة الأولى التي يجب أن تكون في نفسية المتلقي لهذا القصص ، حتى تكون نافعة له .
1- { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ } [ يوسف: من الآية111 ]
2- { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ } [ آل عمران:13]
3- { يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ } [ النور:44]
4- { هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ } [ الحشر:2]
5- { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى } [ النازعات:26]
هذه خمس آيات وردت فيها " عبرة " من مجمل قليل غيرها .
قال العلامة الأصفهاني ، في مادة " عبر " : " أصلُ العَبْرِ : تجاوُزٌ مِن حَال إلى حال ، أما العُبُور فيختص بتجاوز الماء ... وعَبَرَ القوْمُ إذا ماتوا ، كأنهم عبروا قنطرة الدنيا ، والاعتبار والعِبْرةُ : بالحالة التي يتوصل بها من معرفة المشاهد إلى ما ليس بمشاهد .. " . مفردات ألفاظ القرآن .
ففي الآية الأولى في سورة يوسف عليه السلام جاءت العبرة بعد قصة يوسف الشيقة الجميلة ، مع ربط العبرة بأصحاب الألباب " أصحاب العقول " .
وفي آية آل عمران جاءت العبرة بعد ما حدث في غزوة بدر ـ على أحد قولي المفسرين ـ وما تمثله من صراع بين الحق والباطل ، مع ربط العبرة بأصحاب البصيرة ؛ قال ابن كثير رحمه الله : " أي إن في ذلك لعبرة لمن له بصيرة وفهم ليهتدي به إلى حكم الله وأفعاله وقدره الجاري بنصر عباده المؤمنين في هذه الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد " .
أما آية النور فوردت العبرة بعد آيات من قدرة الله تعالى سبحانه والتدبر في ملكوته ، ومن هذا الملكوت ظاهرة الليل والنهار ، قال صاحب الظلال رحمه الله : " والقرآن يجدد حسنا الخامد , ويوقظ حواسنا الملول . ويلمس قلبنا البارد . ويثير وجداننا الكليل ; لنرتاد هذا الكون دائما كما ارتدناه أول مرة . نقف أمام كل ظاهرة نتأملها , ونسألها عما وراءها من سر دفين , ومن سحر مكنون . ونرقب يد الله تفعل فعلها في كل شيء من حولنا , ونتدبر حكمته في صنعته , ونعتبر بآياته المبثوثة في تضاعيف الوجود " .
والعبرة في إخراج اليهود من حصونهم وما تحويه نفوسهم من أخلاقيات مريضة ، والله تعالى تولى هذا الإخراج لمن أنكر النبوة وحاربها ، قال الطبري رحمه الله : " فاتعظوا يا معشر ذوي الأفهام بما أحل الله بهؤلاء اليهود الذين قذف الله في قلوبهم الرعب , وهم في حصونهم من نقمته , واعلموا أن الله ولي من والاه , وناصر رسوله على كل من ناوأه , ومحل من نقمته به نظير الذي أحل ببني النضير . وإنما عنى بالأبصار في هذا الموضع أبصار القلوب , وذلك أن الاعتبار بها يكون دون الإبصار بالعيون " .
وفي الآية الأخيرة ربط واضح بين خشية المرء وبين اعتباره ، بمقدار الخشية يكون الاعتبار ، مع أن السياق كان لقصة فرعون ، لكنه معنى عام للعبرة والخشية ، من خشي على نفسه ومستقبله وأمته وحياته حري به أن يعتبر ، ومن أحب أن تكون عبرته عميقة راقية لها أفعال عملية بعدها عليه بخشية الله تزيد من عبرته .(/1)
هذا التطواف في ظلال القرآن كي نعي أن الهجرة للاعتبار لمن كان صاحب بصيرة ، صاحب قلب وعقل ، صاحب خشية ونظر ، بذا تكون الهجرة دائما منبع تزود لكل معتبر ، وانتقال به من حال إلى حال . فهل ستكون في حياتنا محطة تغيير ! ، هل ستكون مكانا للانتقال من حال إلى حال !
صدق الله العظيم : { وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ } [ يوسف:105]
و بين رحمتين ... نبدأ
ومن أمسى تضرعه المعاصي ** تجرع حسرة وأسى وخابا
وبات مضيعا من صد عطفا ** ومن يطرق لغير الله بابا
لن تكون البصيرة فاعلة ، ولا العقل متفاعلا ، لروح مرتكسة في سفول الخطايا والآثام ، ومن ثم لن يكون الاعتبار موجودا و عاملا ، أو أن يكون خاملا في حده الأدنى ؛ إذ الخشية التي تزيد العبرة لمعانا ونورا محاطة بهذه الظلومات النفسية من أثر المعاصي والآثام .
ومن رحمة الله بنا ؛ أننا في بدء كل عام هجري جديد نبدأ وقد منّ الله علينا بمنة المغفرة لذنوبنا ؛ رحمة مقسمة على قسمين ؛ قسم في آخر العام الهجري الماضي ، وقسم في بدء العام الهجري الجديد ، كي نبدأ في طهارة وطهر من أي عائق يمنع من الانطلاق في معارج القرب من الله ؛ بنفوس طاهرة ، وعقول زكية ، وأرواح ندية .
ففي يوم عرفة وهو التاسع من الشهر الأخير في العام الهجري ؛ يغفر الله لكل حاج صادق في حجه ، ملتزم بالهدي والهدى فيه ، قال عليه الصلاة والسلام : ( العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما ، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة ) متفق عليه . ولقوله عليه الصلاة والسلام : ( من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه ) ، رواه البخاري .
ومن لم يكتب الله له الحج فله مغفرة ؛ جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( صيام يوم عرفه أحتسب على الله أنه يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده ) . رواه مسلم .
فما بين حاج ملتزم صادق ، وبين صائم لعرفة بصدق ، يكون ختام العام الهجري الماضي ، بمغفرة وجنة ، وتكفير عامين .
ومع أيام العام الهجري الجديد تأتي الجائزة الأخرى ؛ فعن أبى قتادة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما سئل عن صوم عاشوراء ( يكفر السنة الماضية ) رواه مسلم . فيدخل المسلم للعام الهجري الجديد بروح طاهرة خالية من الذنوب إن هو صدق وهجر الكبائر ، كما قال أهل العلم .
ولابد أن نقف هنا هنيئة في ختام العام بصيام ، والبدء فيه بصيام ؛ يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى : " وللصوم تأثير عجيب في حفظ الجوارح الظاهرة ، والقوى الباطنة ، وحميتها عن التخليط الجالب لها المواد الفاسدة التي إذا استولت عليها ، أفسدتها ، واستفراغ المواد الرديئة المانعة لها من صحتها ، فالصوم يحفظ على القلب والجوارح صحتها ، ويعيد إليها ما استلبته منها أيدي الشهوات ، فهو من أكبر العون على التقوى كما قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون } " [ زاد المعاد 29/2 ] .
والصيام وإن كان فيه حفظ لصحة البدن - كما شهد بذلك الأطباء المُختصون - ففيه أيضًا : إعلاء للجانب الروحي على الجانب المادي في الإنسان ، فالإنسان - كما يصوره خلق آدم - ذو طبيعة مزدوجة ، فيه عنصر الطين والحمأ المسنون ، وفيه عنصر الروح الإلهي الذي نفخه الله فيه ، عنصر يشده إلى أسفل ، وآخر يجذبه إلى أعلى ، فإذا تَغلَّب عنصر الطين هبط إلى حضيض الأنعام ، أو كان أضل سبيلا ، وإذا تغلب عنصر الروح ارتقى إلى أفق الملائكة ، وفي الصوم انتصار للروح على المادة ، وللعقل على الشهوة .
يؤكد هذا أن الصوم تربية للإرادة وجهاد للنفس ، وتعويد على الصبر ، والثورة على المألوف ، وهل الإنسان إلا إرادة ؟ وهل الخير إلا إرادة ؟ وهل الدين إلا صبر على الطاعة ، أو صبر عن المعصية ؟ والصيام يتمثل فيه الصبران .
وجاء في الحديث : ( صوم شهر الصبر، وثلاثة أيام من كل شهر، يذهبن وحَر الصدر ) [ رواه البزار ، كما في صحيح الجامع الصغير 3804. ومعنى "وَحَر الصدر": أي غِشَّه و وساوسه ، وقيل : الحقد والغيظ وقيل غيره ]. أ. هـ من كتاب فقه الصيام للقرضاوي .
إنها حكمة الله في تربية الأمة بختم هذا العام والبدء في التالي بهذه الروح الإرادية ، وهذا العلو على جذبات الأرض النفسية ، كي ندخل باب العام الجديد بروح جديد غير مرتكسة ، ولا هي بضعيفة الإرادة ، إنما بصبر وتربية على طاعة الله ، وعلى تقلبات الأمور بثبات وعزيمة ومضاء ، بل وعلى أمراض القلوب كما في حديث البزار .
غير أن الإرادة هي نقطة البدء للتحول ، إن وجدت بدأت الرغبة في التغيير والتحول ، وتبدأ تتنامى وتزيد ، وإن همدت وبردت ، أنّا للتغيير أن يطل على نفس لا إرادة فيها .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أفضل الصلاة بعد المكتوبة الصلاة في جوف الليل ، وأفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله المحرم ) رواه مسلم .(/2)
قال ابن المبارك : " من ختم نهاره بذكر كتب نهاره كله ذكراً ، يشير إلى أن الأعمال بالخواتيم ، فإذا كان البداءة والختام ذكراً ، فهو أولى أن يكون حكم الذكر شاملاً للجميع " [ فيض القدير 1/41 ].
وفي مسند الإمام أحمد : ( .. و الصوم نصف الصبر ). وفي شعب الإيمان للبيهقي قال عليه الصلاة والسلام : ( الصبر نصف الإيمان و اليقين الإيمان كله ).
فالبدء بهذه المعاني في أول العام ، والانتهاء بها في العام السابق لتحقيق هذه المعاني الإيمانية التربوية في واقع الأمة وفي كل نفس تطمح للتحول .
نحن أولى .. نحن أولى
لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وجد اليهود يصومون عاشوراء فسئلوا عن ذلك فقالوا هذا اليوم الذي أظفر الله فيه موسى وبني إسرائيل على فرعون ونحن نصومه تعظيما له ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( نحن أولى بموسى منكم ثم أمر بصومه ) البخاري ..
إن حالة الطغيان السياسي التي تمثلها قصة نبي الله موسى عليه السلام في مواجهة " فرعون " ، قصة تتكرر اليوم بشكل كبير في واقع الأمة ، ربما كل المعاني التي جاء كل رسول يعالجها في قومه تتوفر اليوم بنسب مختلفة ، لكن التغول السياسي هو الأوضح للعيان ، وهو الذي يخيم على الأمة اليوم ، وما يتبعه من حالة الضعف لدى الغالبية ، وبالتعبير القرآني حالة : " الاستخفاف " أو حالة الاستضعاف ، طغيان يولد استضعافا ، تلك هي المعادلة ، وهل كانت بنو إسرائيل قبل موسى إلا في هذه الحالة ! وتفطن لهذا المعنى الأستاذ سيد قطب رحمه الله عندما أشار إلى الحكمة من تكرار قصة موسى على النحو في القرآن بصورة لم تتكرر بها قصة أي نبي مثلها ، وقال رحمه الله بأن الله يعلم بأن هذه الأمة ستمر بمراحل كتلك التي مرت بها بنو إسرائيل ، وصدق يرحمه ربنا .
وإذا كانت الهجرة لها أهداف واضحة جلية ، تتمثل في ثلاثة محاور هامة هي :
* تخليص المؤمنين من حالة العوَز وقلة الأمن .. العوز الفكري والإيماني والعلمي والحركي ، والأمن النفسي والمالي والاجتماعي وغيرها .
* والهجرة بمعناها الشامل حركة تجديد مستمر ؛ لأنها ترتبط برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو القدوة ، ومنه نقيس قربنا وبعدنا .
* والهجرة مطلب قوي لتماسك الجبهة الداخلية في الأمة ؛ لما فيها من حالة المراجعات والمحاسبة والتدقيق .
إذا فهمنا هذا ، وعلمنا قصة الطغيان والاستضعاف ، أدركنا حاجتنا أهمية أن يكون لنا مع الهجرة وقفات طويلة ، كلٌ لوحده ، وكل مؤسسة بذاتها ، حتى نصل إلى كل الأمة .
وإذا فقهنا حكمة الهجرة ومراميها ، علينا أن نرتقي إلى عميق فهمها ، ونتأمل ـ كمهاجرين ! ـ في تحقيق هذه الأهداف فينا أولاً ، هل ثمة تخلص مع حالات العوز الفكري والنفسي وغيرها ، أم ربما حدث التراجع !! ، هل ثمة تغير حدث عندما ندرك البعد التجديدي في الهجرة ؟ أم أن ثمة تخلف لف بعضنا ، هل حدث التماسك القوي الداخلي ، من خلال صدق النفوس ومحاسبتها ، أم زادت الشقة ، وظهرت النعرات ، ولمست ثوابت وطننا المسلم ! الغيور .
وفي صحيح مسلم أن المستورد القرشي قال عند عمرو بن العاص : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : تقوم الساعة والرّوم أكثر الناس . فقال له عمرو : أبصر ما تقول ؟ قال : أقول ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال : لئن قلت ذلك إن فيهم لخصالاً أربعا :
* إنهم لأحلم الناس عند فتنة
* وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة
* وأوشكهم كرة بعد فرة
* وخيرهم لمسكين ويتيم وضعيف
* وخامسة حسنة جميلة وأمنعهم من ظلم الملوك .
هذا الحديث الصحيح حجة على كل من يعيش في المهجر ، " الحلم ، سرعة النهوض ، الإيجابية ، الإحسان للضعيف ، ومنع الظلم " هذه صفات قد يلمسها المهاجر بنسب ، فهل تأمل واعتبر وفقه واستفاد ، أم برزت السلبيات في القوم ، وغطت على ما ذكره داهية العرب عمرو بن العاص ، لتزيد هذه التغطية على حالة الاستخفاف والطغيان عندنا !
النبي عليه الصلاة والسلام صام عاشوراء لأن الله أنقذ فيه أمة من الطغيان ، وأنقذ فيه أمة من الاستضعاف ، وقال قولا واضحا لليهود في وقته : ( أولى بموسى منكم ) ، لتمسي هذه العبارة جزء من منهجية المسلم في جمع كل خير متناثر في أمة من الأمم ، مرددا خلف النبي المصطفى عليه الصلاة والسلام ( أولى بذلك منكم ) ، ويزيد المسلم وعيه بفقه داهية العرب عمرو بن العاص ، الذي تفطن للعناصر التي جعلت من الروم شأنا ؛ الحلم ، الإيجابية ، المسارعة ، الرحمة الاجتماعية ، والحسنة الجميلة ( أمنعهم من ظلم الملوك ) . ألسنا أولى بذلك منهم ؟ ونحن أمة المصطفى ، وأمة الرسالة الخاتمة !!
يقف المسلم - الذي يريد الاعتبار بالهجرة - أمام هذه المعاني مع نفسه ، ويرتب لها سُلماً للوصول إلى ما يريد ، بصدق ويقين وإرادة صادقة قوية .(/3)
وفي الهجرة النبوية ورد : ( فدخل أبو بكر رضي الله عنه قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلمس الغار لينظر أفيه سبع أو حية يقي رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه ) الروض الأنف .
فتش فيما وقيت به هذه الدعوة ! ، وبما وقيت به بلدك وحالة العوز التي يمر بها الجميع ، وبما وقيت به حالة الطغيان أو الاستخفاف ! ، هل كنت عمليا ولك أهداف وخطط وبذل وعطاء ، أم هي أعمال الحناجر واتهام الطغيان ونسيان طرفي المعادلة وهل كنت خلال العام الماضي ممن يفدون الدعوة ووطنهم بسلوكهم وعملهم وتضحيتهم ، أم أن كتف الدعوة والوطن تألم منك ، الصدّيق يدخل قبل النبي عليه الصلاة والسلام ليفديه من سبع أو حية أو عقرب ، فبم فديت أنت هذا الدين ! وبما فديت هذا الوطن الحبيب ؟ ، فتش وراجع وشمّر ؛ فإنك في عام هجري جديد .
لنقرأ المقال من جديد !
أخي أختي ، أيها الأحبة :
* لابد أن نكون عمليين في الأحداث التاريخية التي تمر بنا ، نعتبر منها ونستخلص الدروس ، لنعمل وننطق ، فتكون الهجرة مصدر دفع وعلو لنفوسنا وأرواحنا ، إن أردنا أن نكون من أصحاب البصائر والعقول !
* ليكون المحور الأولي في اعتبارنا هذا هو ( التغيير ) الانتقال من حال إلى حال ، مهما كنت عاليا ، انتقل من حال الحُسن إلى حال الأحسن ، وانتقل من حالة الركود التي تفسد النفس ، إلى حالة الجريان التي تنعش الحياة ، وانتقل من دار الكسل والتواني ، إلى موطن الهمة والتفاني .
* رحمة الله نشرها لك بين العامين ، بتذكير بنصف الإيمان ، بالتربية على صناعة الإرادة ، فكن واعيا لهذا الدرس ، وخذ في قلبك تكفير ثلاث سنوات ، وانطلق في تربية إرادتك ، فلن ينفع الأمة أصحاب الإرادات الهزيلة ، فضلا عن سفول فيها ، ولن يكون لك المقام في عليين إلا بمقام من الإرادة عالي .
* حال الأمة لن يتغير ! ؛ إلا إذا تغيرت أنت أولا ، فكل مسلم مؤمن مكلف في ذاته ، وما الأمة إلا أفرادها ، لا تزال طائفة منها على الحق ، فكن أنت منها ، وكن عاملا فيها ، وكن ساعيا لمجدها وعزتها ، ولا تنتظر عصا موسى ، فلديك كتاب أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم .
* إن أردت أن تتخلص الأمة من الطغيان والتغول ؛ فتخلص منه في ذاتك أولا ، وضم يدك في يد أخيك ، وتمسك بها بقوة ، وكن إيجابيا ، محبا للخير ، عاملا له ، قامعا للجهل والقهر ، بمنهجية وتروي ، وصدق ، علّمه لك الصدّيق رضوان الله عليه .
* أنت أولى بكل تميز وبكل خير ، وبكل علم لدى الآخرين ، فكن متفائلا طموحا ، تجمع كل الخيرات في الأمم في قلبك وعقلك يا صاحب البصيرة والعقل المستنير ، بحسن الإقتداء بخير خلق الله كلهم .
* الطريق أمامك ؛ حدد مسارك في هجرتك اليوم ، ارسم ، خطط ، تابع و أتقن ، وكن عبد الله العالي .
فصلوا كلما ذرت شموسٌ ** وشاع بنوره نجمٌ وغابا
على الهادي وعترته سلامٌ ** فمن صلى عليه جنى الثوابا
مع خالص التحية ....*(/4)
لنحترم أوقات الآخرين
ندرك جميعاً أنه من واجبات المرء أن يحافظ على وقته ويرعاه، وأن يحاسب نفسه على الأوقات التي أضاعها لا الأوقات التي اغتنمها.
لكننا أحياناً في تعاملنا مع غيرنا -خاصة من أهل العلم والدعوة الذين يقصدهم الناس ويزدحمون حول أبوابهم- ربما أسأنا لأوقاتهم من حيث لانشعر، وأحياناً يغيب عن أذهاننا أن من مسؤوليتنا المحافظة على أوقات الآخرين أو على الأقل احترامها.
ومن صور تلك المحافظة: افتراض الخلاف حول تحديد الأولويات، فما نراه مهماً لدينا قد لايكون كذلك لديهم، وحتى حين يبقى الخلاف قائماً فالقضية تتعلق بصاحب الوقت فرأيه أولى أن يعتبر.
وقد نرى أننا بحاجة إلى مساعدة شخصية من أمثال هؤلاء، كقراءة مسودة كتاب، أو مشروع عمل، أو تقديم استشارة في أمر ما، وهو مطلب مشروع لكنه حين يتجاوز دائرة الطلب إلى الإلحاح والإصرار فهو ينم عن صورة من صور الوصاية على أوقات الآخرين.
وحين يعتذر لنا بالانشغال فتقديرنا لانشغاله وقبولنا لعذره يمثل صورة من صور احترام وقته، وكيف نلوم من اعتذر عن استقبالنا وهو حق شرعي له وقد أدبنا القرآن بهذا الأدب (وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم) والرجوع الأزكى ينبغي أن يصحب بالتقدير للاعتذار لا الانصراف بالسخط واللوم.
روى ابن جرير بإسناده إلى قتادة قال: قال بعض المهاجرين لقد طلبت عمري كله هذه الآية، فما أدركتها أن أستأذن على بعض إخواني فيقول لي ارجع، فأرجع وأنا مغتبط (وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم والله بما تعملون عليم).
وقد جاء تحديد ذلك بالثلاث في السنة النبوية، فعن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :" إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع"([1]).
وتقدير الانشغال بأعمال خاصة به نفسه كالذكر والقراءة ونحو ذلك، مظهر من مظاهر رعاية أوقاتهم؛ خلافاً لما يسلكه بعض الناس حين يقدم على من هو منشغل بذكر أو تلاوة فيقطع عليه ذلك لأمر لايستحق.
وقد نبه ابن القيم رحمه الله إلى أن إيثار المرء الناس بوقته أمر يفسد عليه حاله فقال:"مثل أن تؤثر جليسك على ذكرك، وتوجهك وجمعيتك على الله، فتكون قد آثرته بنصيبك من الله مالايستحق الإيثار، فيكون مثلك كمثل مسافر سائر في الطريق لقيه رجل فاستوقفه، وأخذ يحدثه ويلهيه حتى فاته الرفاق، وهذا حال أكثر الخلق مع الصادق السائر إلى الله تعالى؛ فإيثارهم عليه عين الغبن، وما أكثر المؤثرين على الله تعالى غيره ، وما أقل المؤثرين الله على غيره. وكذلك الإيثار بما يفسد على المؤثر وقته قبيح أيضاً، مثل أن يؤثر بوقته، ويفرق قلبه في طلب خلقه، أو يؤثر بأمر قد جمع قلبه وهمه على الله؛ فيفرق قلبه عليه بعد جمعيته، ويشتت خاطره، فهذا أيضاً إيثار غير محمود. وكذلك الإيثار باشتغال القلب والفكر في مهماتهم ومصالحهم التي لاتتعين عليك، على الفكر النافع ، واشتغال القلب بالله، ونظائر ذلك لاتخفى، بل ذلك حال الخلق، والغالب عليهم. وكل سبب يعود عليك بصلاح قلبك ووقتك وحالك مع الله فلا تؤثر به أحداً؛ فإن آثرت فإنما تؤثر الشيطان وأنت لاتعلم" ([2]).
ومن مظاهر احترام أوقات الآخرين احترام مواعيدهم من حيث الانضباط فيها، والاعتذار عند حصول مانع مفاجيء.
ومن الأدب مع أوقاتهم، أن يبادر المرء بالاستئذان متى ما انتهى من شغله وحاجته، أو شعر أنه قد أطال بما فيه الكفاية؛ إذ قد يجد الرجل حرجاً من أن يطلب من زائره الانصراف وهو ربما كان ينتظر انصرافه على أحر من الجمر.
وقد يظن بعض الناس أن الإلحاح في الدعوة والمشاركة في المناسبات الخاصة أمر يعكس عظم قدر الشخص عنده، وقد لايكون الأمر كذلك، بل يمثل إهداراً لوقت كان يمكن أن يستفيد منه فيما هو أولى.
ويبقى الأمر بعد ذلك يحتاج إلى اتزان فعلى الدعاة وأهل العلم أن يسعوا للإعطاء من أوقاتهم والاحتساب في ذلك، وعلى من يعاملهم أن يوازن بين استفادته من أوقاتهم، وبين إسهامه في المحافظة عليها.
--------------------------------------------------------------------------------
([1]) رواه البخاري (6245) ومسلم (2154)
([2]) مدارج السالكين (2/310)(/1)
لنكن صرحاء .. السلفية خط الدفاع الأخير
الكاتب / أحمد فهمي
الجنرال الأمريكي (جون أبي زيد) قائد القوات الأمريكية في الشرق الأوسط، يعتبر أن الإستراتيجية الفائزة في العراق وفي أنحاء العالم الإسلامي هي عزل الطليعة السلفية عن المسلمين العاديين الذين يرغبون في حياة أفضل وأكثر حرية، وهو يقول إن «وعاظ السلفيين يرون أنفسهم جزءاً من طليعة حركة مهمتها دفع المسلمين الآخرين نحو تبني (الأفكار الراديكالية)» ويشبه أبي زيد ـ قبحه الله ـ هؤلاء بلينين وتروتسكي وزعماء الشيوعية الآخرين. وخلال تجمُّع لخبراء في السياسة الخارجية بواشنطن، طرح أبي زيد سؤالاً وجيهاً: ماذا كنتم فاعلين عام 1890 لو كنتم تعلمون مدى الدمار الذي ستجلبه تلك الطليعة البلشفية؟ والجواب معروف طبعاً.
الجنرال الأمريكي (جون أبي زيد) قائد القوات الأمريكية في الشرق الأوسط، يعتبر أن الإستراتيجية الفائزة في العراق وفي أنحاء العالم الإسلامي هي عزل الطليعة السلفية عن المسلمين العاديين الذين يرغبون في حياة أفضل وأكثر حرية، وهو يقول إن «وعاظ السلفيين يرون أنفسهم جزءاً من طليعة حركة مهمتها دفع المسلمين الآخرين نحو تبني (الأفكار الراديكالية)» ويشبه أبي زيد ـ قبحه الله ـ هؤلاء بلينين وتروتسكي وزعماء الشيوعية الآخرين. وخلال تجمُّع لخبراء في السياسة الخارجية بواشنطن، طرح أبي زيد سؤالاً وجيهاً: ماذا كنتم فاعلين عام 1890 لو كنتم تعلمون مدى الدمار الذي ستجلبه تلك الطليعة البلشفية؟»[1] والجواب معروف طبعاً.
التيارات السلفية إذن هي هدف الهجوم الأول بالنسبة للصف المعادي، وتكمن المفارقة هنا في أن السلفية بالنسبة للصف الإسلامي هي خط الدفاع الأخير، أو بلفظ آخر هي آخر من يظل متمسكاً بالثوابت الإسلامية التي تحولت عند الغالبية إلى متغيرات. يقول الله ـ تعالى ـ: ((وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ)) (الأعراف: 170) وتفيد كلمة «يُمَسِّكون» «أن التمسك أمر تنبغي ملازمته في جميع الأزمنة».
وفي الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان، يشاء الله ـ سبحانه وتعالى ـ أن تبقى التيارات السلفية رافعة لراية النقاء العقدي والديني للأمة في مواجهة اختلاط الرايات والشعارات، وفي كل أزمة ونازلة في الآونة الأخيرة؛ فقد باتت السلفية تمثل خط المواجهة الأخير الذي يحمل عبء رفع راية العلم وبذل الجهد لمنع اندثار ثوابت الإسلام.
وقد دخلت فتنة «حزب الله اللبناني» كل بيت تقريباً، وأصبحت رايات الحزب وصور زعيمه تخفق في مختلف أنحاء العالم العربي، وهتفت الجماهير في رحاب الأزهر السني: «نصر الله نصر الله.. كل مصر حزب الله»، وشَبَّهه المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين بـ «صلاح الدين الأيوبي» ووصفه آخرون بأنه زعيم الأمة الإسلامية، وحتى اليساريون التبس عليهم الأمر وخلطوا بين «الناصرية» و «النصرية» واعتبروا أن «الألف» لا تصنع فارقاً كبيراً، فرفعوا لافتات «ناصر 1956م، نصر الله 2006م».
ولكن اليساريين لا تثريب عليهم اليوم؛ فقد تسرب دينهم من ثقوب كثيرة في عقولهم وقلوبهم من قبل، والجماهير تسوقهم قناة الجزيرة أكثر مما يفعله ألف منبر وخطيب، وإنما تكمن الأزمة في الإسلاميين المنبهرين بحزب الله، وتحديداً في المنهج الذي اتبعوه في اتخاذ موقف التأييد والدعم، وقد حاولتُ جاهداً تلمُّس معالم واضحة لهذا المنهج فأعياني البحث، ولم أجد إلا عبارات عاطفية حماسية تتحدث عن الوحدة مع حزب الله (الإثني عشري)، ولكني لم أجد أي حديث عن الوحدة مع تيارات وجماعات سلفية، إنها وحدة من نوع خاص إذن، تتجاوز حقائق الدين والتاريخ والسياسة، وحدة تقفز برشاقة فوق أحاديث الفرق الضالة؛ بينما تتعثر في أحاديث الطائفة المنصورة.
والملاحظ أن الاعتراضات على تبنِّي أغلبية التيارات السلفية لموقف مضاد لحزب الله متباينة إلى حد كبير؛ فبعضها يركِّز على أهمية الوحدة في الظرف الحالي، وبعضها يرفض اتهام الشيعة أصلاً بأنهم روافض، والبعض الآخر يعتبر أن الإمامية بمثابة مذهب فقهي خامس، وبعض هؤلاء يختزل القضية في أن عدو عدوي صديق لي، وكل من يضرب الكيان الصهيوني لا بد من موالاته أياً كان.
والحق الذي نراه أن المنهج الواجب اتباعه لتحديد الموقف الصائب من هذه القضية الشائكة لا بد أن يتضمن ثلاثة محاور: الأول: عقدي، والثاني: تاريخي، والثالث: سياسي.
* أولاً: المحور العقدي:(/1)
اختلاط الرايات وتداخلها أصبح فتنة العصر، فالقضايا كلها من المتشابهات قياساً إلى تراجع العلم في أوساط الناس من ناحية، وتراجع العلماء عن اتخاذ مواقف عقدية حازمة من ناحية أخرى، وأصبحت المنطلقات العقدية هي آخر ما ينظر إليها في تحديد الولاءات واللاءات. وفي فتنة حزب الله، انتقد بعض الإسلاميين صراحةً المنهج العقدي في تفسير الأحداث والمتغيرات، ونقدم مثالاً على ذلك مقالة نشرت على موقع مجلة العصر تحت عنوان «خدعة التحليل العقدي» اعترض فيها الكاتب بشدة على اتباع رؤية عقدية في تفسير الأحداث في لبنان، وقال: «فالمشايخ الذين يفسرون الحرب في لبنان على أنها (مشكلة طائفية)، وانحراف وتوريط نجد تفسيرهم عقدياً جزئياً وخاطئاً» وقال بعبارة واضحة: «المحلل العقدي ضيق الأفق، قريب المدى، محدود الأبعاد في التفسير، ويأنس لرؤيته وموقفه أولئك المحدودون الذين لا يتحملون تعدد مجالات الرؤية، وصحيح أن التفسير الأحادي المغلق، الذي لا يدع مجالاً للتفكير ولا تعدد الأفهام، يصلح للقادة الغوغائيين، وقادة الجنود في الميدان، ولكنه لا يصلح لمستوى أعلى من الناس، ولا يصلح أن يسيطر على دولة؛ لأنها ستصبح بهذا التفسير فاشلة».
وقدم الكاتب عدة مسوغات لهذا النقد الحاد، فقال: «لماذا يعاني التفسير العقدي من القصور، والتعصب وقصر النظر؟: لأن المحلل العقدي يؤمن بأنه على الحق دائماً، وأن النصوص معه تؤيده وتحفزه وتحدد أطراف المعركة»، وقال أيضاً: «المحلل العقدي المتزمت لطائفته سواء أكان شيوعياً أم شيعياً أم سنياً، فإنه لا يرى العالم إلا من خلال عقيدته، وهي تعطيه مرة جزءاً تافهاً من المعرفة، ومرة تساعده كثيراً على المعرفة في التحليل، ولكن تغيب عنه آفاق قضيته».
ويقدم الكاتب بعض البدائل التي يراها أنسب من التحليل العقدي للوصول إلى موقف صائب من مختلف القضايا، فيقول: «إننا نجد في التحليل الاقتصادي والعنصري الاستعماري تفسيراً كثيراً للأحداث الدائرة اليوم، للصراع بين الأقوياء والضعفاء، بين الشعوب المغلوبة المقهورة على أرضها وثروتها وبين الغالبين تفسيراً واضح التعليل. أما التفسير العقدي فيسقط عند رجلي قائله، وبخاصة لو نقله إلى الحدود المجاورة لبلد التحليل؛ فلو نقلت صراع سنة وشيعة بضعة كيلو مترات من لبنان إلى فلسطين لسقط، ولو حملته إلى إيران أو العراق أو أفغانستان، فلا شك أنه لا يساوي حبراً كتب به».
والحق أن الأفكار الواردة في هذه المقال تحتاج إلى إسهاب في تناولها والتعليق عليها باعتبارها مثالاً على النقد الموجه ضد التيارات السلفية التي تعتمد رؤية عقدية في تحديد موقفها من حزب الله في لبنان، ولكن نكتفي في هذا السياق بالإشارة إلى نقاط رئيسة:
1- يتضمن هذا الطرح ـ مع تقديري الشديد للكاتب ـ بواكير انهزامية تستدعي تجديداً مزعوماً كالذي جاء به (الشيخ محمد عبده) من قبل، وهو نمط من التجديد لا يحسن انتقاء القديم والبالي المفتقر إلى تحديث، بل القاعدة عنده: ذَرُوه كله أو اتركوه كله، وأي فكر يتعرض للتقادم بمرور الزمن، وليس العيب في تقادم بعض مفردات المنهج السلفي، بل الخلل في سوء تشخيص موضع التقادم والتحديد الخاطئ لموطن التغيير والتجديد؛ فما قدمه المقال هو بمثابة تعليق الثوب الصحيح على المشجب الخطأ.
2- من معالم الانهزامية الواردة في المقال: الانسحاب فكرياً إلى موقف حيادي مزعوم يستدعي خطاب «رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب» في غير موطنه، وهذا الموقف قد يكون سائغاً في مجال الاختلاف الفقهي مثلاً، ولكن أن نعتبره في التعامل مع فرق وطوائف أجمع جل العلماء على ضلالتها، فهذا ليس طلباً للحق، ولكنه تنازل عن أصل الحق الذي أعتنقه من أجل فسح مجال أوسع للالتقاء مع مخالف هو نفسه لن يتنازل عما يراه حقاً، وبذلك لا يكون المطلوب هو تطوير أو ترقية التحليل العقدي، ولكن التخلي عنه وتعطيله لفترة من الزمن ريثما تتحقق مصالح سياسية يراها البعض معتبرة، وبذلك لا يصبح الوضع المثالي عند أصحاب هذا الطرح أن يتم اعتماد منهجية متكاملة في التحليل ترتكن على التفسير العقدي أولاً، وتعتبر بمعطيات السياسة والجغرافيا وغيرها ثانياً، ولكن يصبح الوضع مثالياً في بعض الأحيان ـ لديهم ـ باستبعاد التفسير العقدي مؤقتاً أو دائماً حتى لا يشوش على معطيات السياسة، أو بمعنى آخر تعطيل طائفة لا بأس بها من النصوص القرآنية والنبوية من أجل الارتقاء العقلي والفكري الذي يرومه أصحاب هذا الطرح.(/2)
3- مشكلة هذا الطرح أنه يتخلى عما يسميه جموداً، فيقع في حالة هلامية فكرية لا تستقر في قالب معين، وهي حالة تجعل أصحابها في أحسن حالاتهم يصطفون ضمن ركب البراجماتية العالمية، فرفاق اليوم قد يكونون أعداء الغد، وخصوم الأمس لا مانع من موالاتهم اليوم، وهو ما وقعت فيه كثير من الفصائل الإسلامية بالفعل، فأصبحنا نرى تناقضات يضطر الرأي العام والخاص إلى تجاهلها والقفز عليها اعتباراً للظروف الصعبة، ولكن ينبغي الإشارة إليها لأهميتها: تباين المواقف من الاحتلال داخل جماعات تنتمي إلى الفكر نفسه، فبعض الإسلاميين في العراق يهادن الاحتلال الأمريكي الذي قتل عشرات الألوف من العراقيين السنة، ويشارك في مشروعه السياسي الذي تعتبر المشاركة السنية أهم عوامل نجاحه، بينما حركة حماس التي تتمي إلى الفكر نفسه تتخذ موقفاً مقاوماً للاحتلال الصهيوني، وبينما يبذل بعض الإسلاميين في سورية جهوداً جبارة لإسقاط النظام السوري، تدافع حماس والجهاد الفلسطيني بشدة عن بقاء النظام الذي قتل الآلاف من جماعة الإخوان المسلمين في سورية، ودعم حركة أمل الشيعية في لبنان والتي كانت تضم عناصر حزب الله قبل تأسيسه، دعمها في إقامة المذابح للفلسطينيين في لبنان، وفي قضية حزب الله يصبح علينا وفقاً لنهج التخلي عن التحليل العقدي أن نؤيد حسن نصر الله بقوة، رغم أنه تلميذ ووكيل علي خامنئي مرشد الثورة الإيرانية الذي يدرب ويمول حرسه الثوري ميليشيات الصدر وبدر في العراق لذبح أهل السنة.
4- في مقابل حزب الله اللبناني الذي يحظى بهذه المكانة الرفيعة، فإن تجاوز الولاءات العقدية أدى إلى الإحجام عن دعم حركة طالبان ولو سياسياً أثناء الغزو الأمريكي لأفغانستان، وقد تداعى بعض العلماء فقط لزيارة الحركة في محاولة منهم لإنقاذ تمثال بوذا، وفي الصومال يحقق اتحاد المحاكم الإسلامية إنجازات هائلة لا يحفل بها الإسلاميون المنشغلون بحسن نصر الله، رغم أن مسؤول الأمم المتحدة سافيريو بيرتولينو اعترف أنه: «على مدى 15 سنة لم يستطع أحد أن يقوم بما قاموا به ـ اتحاد المحاكم الإسلامية ـ في 15 يوما»[2]. أليس من اللافت أن كل الحركات السياسية ذات التوجه السلفي تتعرض للإهمال التام من قِبَل غالبية الإسلاميين؟
5- الخطأ الأول في هذا الطرح أنه يعتبر التفسير العقدي مجرد مكون من مكونات التفسير الصائب، يتقلص أحياناً إلى حد التلاشي، ويتعاظم أحياناً نادرة، والصحيح أن التفسير العقدي هو المرحلة الأولى والقاعدة الأساس التي ينبني عليها مراحل أخرى من المعرفة والفهم والتحليل، ومن ثم لا يمكن تصور منظومة تحليلية متكاملة لا تنطلق من مرحلتها الأولى العقدية، وبذلك يكون النقد الذي يمكن توجيهه للسلفيين في هذا المجال هو اكتفاء بعضهم بالمرحلة الأولى من مراحل الفهم والتحليل دون بقيتها، وليس تعاطيهم معها.
6- لا توجد منهجية أخرى للتحليل أو التفسير تجعل متبعها يحقق قدراً كبيراً من التوازن الداخلي والخارجي ـ بقدر ما يلتزم منها ـ سوى التفسير العقدي، وحتى لا نقع في الخلل نقول: (التفسير العقدي الإسلامي) لأن أصحاب هذا الطرح ترتكز بعض أفكارهم كما قلنا سابقاً على «التأرجح الحيادي» الذي يجعلهم يناظرون المحلل العقدي الإسلامي بالمحلل العقدي الشيوعي، وحسب قولهم: إذا كان الأخير قد جانبه الصواب بحكم التجربة التاريخية ـ التي ينعون علينا الاستفادة منها ـ فإذن لا بد أن يكون حكم الإخفاق مطرداً على كل محلل عقدي حتى ولو كان مسلماً.
* ثانياً: المحور التاريخي:
الاعتماد على التاريخ منهجاً للتقويم وبلورة مواقف صائبة أمر بالغ الأهمية، فمقولة (التاريخ يعيد نفسه) صحيحة إلى مدى كبير، والتيارات الإسلامية تحديداً تعيد إفراز أخطائها بصورة مستمرة ولكن في قوالب متجددة؛ بحيث إن التقويم التاريخي يفيد في تلافي تلك الأخطاء، فقط لو استطاعت تلك التيارات القفز قليلاً فوق ضغوط الواقع وتداعياته..
ونذكر بعض الأمثلة التاريخية التي تكشف تعرض بعض التيارات الإسلامية للخطأ في تحديد موقفها من فصائل شيعية:
1- عندما وقعت الثورة الخمينية عام 1979م تداعى كثير من الإسلاميين للترحيب بها والتهليل لها، واعتبارها نصراً للإسلام وأهله، ونشطت دعاوى التقريب والتسامح واتُّهم السلفيون كالعادة بأنهم محترفو تعكير الأجواء الأخوية، وأنهم يتخيلون أوهاماً وترهات لا أساس لها من الصحة، ولكن بعد 26 عاماً، اضطر هؤلاء جميعاً للاعتراف بالدور الإيراني الطائفي الدموي في العراق ضد السنة.(/3)
2- عندما تأسس (حزب الدعوة) الشيعي في العراق على يد محمد باقر الصدر، كانت علاقاته إيجابية مع حركة الإخوان المسلمين في العراق، حتى إن عدداً من عناصره انضموا لجماعة الإخوان، واستفاد الحزب الشيعي كثيراً من خبرات الإخوان التنظيمية والتربوية، ولكن لم يلبث الحزب أن أشتد ساعده ووضع خطة لتصفية الرموز الإسلامية السنية ومن بينها قيادات الإخوان في العراق، ولكن مواجهة (صدام حسين) للحزب أجهضت تلك الخطة الغاشمة، والآن حقق (إبراهيم الجعفري) إنجازاً كبيراً بإشرافه على قتل أكثر من 40 ألف عراقي سني خلال تسلمه رئاسة الحكومة لأقل من عام، كما صرح بذلك (الشيخ حارث الضاري) رئيس جبهة علماء المسلمين، وذكر أحد الناشطين العراقيين نقلاً عن أحد القيادات الإسلامية المقيمة في لندن، أنهم قد انخدعوا بحزب الدعوة أثناء حكم صدام حسين، وقدموا له خدمات كثيرة وفتحوا له منابرهم ومراكزهم في أوروبا قبل أن يكتشفوا حقيقته الدموية بعد احتلال العراق[3].
3- عندما دخل الاحتلال الصهيوني جنوب لبنان نثر الشيعة عليه الورود ورحبوا به لأنه سيخلصهم من الفصائل الفلسطينية، وعندما وضعت الحرب الأهلية أوزارها في لبنان قام الجيش السوري بجمع السلاح من جميع الفصائل المقاومة دون تفرقة، وكان الهدف الرئيس هو تقليم أظفار الجماعة الإسلامية اللبنانية السنية، واكتملت اللعبة بأن سلم حزب الله أيضاً ما لديه من سلاح، ولكن لم يلبث الجيش السوري أن أعاد لحزب الله أسلحته بعد أيام قليلة، ومنذ عام 1982م سيطر حزب الله على الجبهة الجنوبية بإشراف الحرس الثوري الإيراني، ومنع أي مقاتل سني من مجرد الاقتراب من الحدود مع فلسطين [4]ومع ذلك عقد عضو اللجنة المركزية لحزب التحرير اللبناني عثمان بخاش مؤتمراً صحفياً في بيروت، دافع فيه عن حزب نصر الله وقال: «إن الأقاويل التي تروَّج بالقول إن الشيعة روافض هي أقاويل بائسة تنم عن جهل قائليها» [موقع أخبار الشرق 27/7/2006م].
4- حزب الله لا يتبرأ من تاريخه ولا يخفي عقائده، ويمكن التأكد من ذلك من خلال دُور النشر الشيعية في بيروت والتي تطبع جميع الكتب الشيعية الدينية والطائفية، كما أن قناة المنار رغم أسلوبها الدعائي وخطابها المداهن، إلا أن المتابع لها تتراكم لديه رؤية واضحة عن طائفية الحزب، وقد بثت القناة مؤخراً برنامجين وثائقيين أنتجهما على عدة حلقات عن كل من محمد باقر الصدر، والخميني، ويتضمنان عرضاً لأفكارهما وتوجهاتهما، ومعلوم أن باقر الصدر من شيوخ حسن نصر الله زعيم حزب الله الحالي.
* ثالثاً: البعد السياسي:
وبما أن الرؤية العقدية والتجربة التاريخية تدفعان في اتجاه بلورة موقف معارض لحزب الله اللبناني، فإنه لا يتبقى أمام مؤيديه من الإسلاميين السنة إلا التمسح بأعتاب المصالح السياسية، وخاصة أنهم يتهمون التيارات السلفية بضعف الاطلاع السياسي وسطحية الاستيعاب لمتغيرات الواقع؛ فهل تدعم الرؤية السياسية اتخاذ موقف إيجابي من حزب نصر الله؟
كتب الصحفي الأمريكي (جون باري) في النيوزويك يتهم المسؤولين الأمريكيين والصهاينة بأنهم عاجزون عن الموازنة بين المكاسب قصيرة الأجل والأثمان طويلة الأمد في حرب لبنان؛ فهل يمكن القول إن الإسلاميين يعانون من المشكلة نفسها؟
1- يطرح أحد الكتاب تساؤلاً منطقياً بخصوص مشروع حزب الله السياسي: «هل أعلن حزب الله عن مشروعه للقُوى المتحالفة معه فضلاً عن أن يعلنه للملأ من وراء هذا التصعيد المفاجئ وغير المسبوق، وكيف لي أو للقوى المتحالفة معه أن أثق وأمشي في مشروع لا أعرف بداياته فضلاً عن نهاياته، وهل هو مشروع إسلامي، أو عربي، أم أنه مشروع إيراني، وربما مشروع نظام إقليمي يُهيأ للمنطقة؟» [5].(/4)
2- حزب الله يرتهن الوضع الفلسطيني لصالحه، هذه حقيقة واقعة، ولا يمكن القول إن حرب حزب الله قد أدت إلى تخفيف الضغوط على الفلسطينيين، بل على العكس من ذلك يستمر الضغط عليهم ولكن دون تغطية إعلامية أو اهتمام شعبي، فالجيش الصهيوني قتل خلال حربه على لبنان 163 فلسطينياً في غزة، منهم 78 مدنياً، ومن بينهم أيضاً 36 من الأطفال الصغار، إضافة إلى 20 امرأة، والمدافع أطلقت أكثر من 12 ألف قذيفة، وتمّ تنفيذ أكثر من 14 عملية غزو [6]واعتقل رئيس المجلس التشريعي (د. عزيز الدويك) وتعرض (إسماعيل هنية) رئيس الوزراء لمحاولة اغتيال بالسم، ولم تصل حتى الآن كذلك المساعدات المالية التي وعدت بها إيران قبل خمسة أشهر، وكل ما حدث أن القضية الفلسطينية أصبحت مرتهنة لحساب حسن نصر الله صاحب القرار الذي سحب التأييد الشعبي والسياسي من حماس، وحظي بمكانة لم ينعم بها حتى (الشيخ أحمد ياسين) ـ رحمه الله ـ وتحاول إيران استيعاب حماس في هذه المنظومة وعندما التقى (علي لاريجاني) الأمين العام لمجلس الأمن القومي الإيراني (خالد مشعل) في دمشق أكد له أن «هذه معركة الجميع، وأن حماس ليست فقط مؤيدة بل شريكة فيما يجري في هذه المعركة؛ لأن هذه المعركة تُخاض من أجل فلسطين»![7]، ومن ثم صرح (محمود مصلح) عضو البرلمان عن حركة حماس: «لا أحد يريد التفاوض من دون حزب الله، القيام بذلك بشكل منعزل هو خيانة»! [8].
3- لا يمكن القول إن انتصار حزب الله أو الكيان الصهيوني يحققان مصلحة واضحة للمسلمين السنة؛ فانتصار الصهاينة لا يحمل إلا مساوئ لا حصر لها سوف تتحملها المقاومة الفلسطينية والشعب الفلسطيني قبل غيرهم، كما سيزداد مستوى الخنوع العربي والتسلط الأمريكي، وستنتقل واشنطن إلى المرحلة التالية في أجندتها الشرق أوسطية، أما انتصار حزب الله فمعناه أن طهران سوف تنتقل إلى البند التالي في أجندتها التوسعية، وأن أسلوب تحريك الأقليات سيكتسب زخماً جديداً، وسيبرز المشروع الإيراني بقوة على المستوى الإقليمي، وستزداد وطأة الاستحواذ الإيراني السوري على حركات المقاومة الفلسطينية، وسيتراجع النفوذ العربي على الفصائل الفلسطينية، ورغم حرص حركة حماس على تحرير قرارها السياسي من أي محاولات للاستيعاب، فإن حجم الضغوط والحصار المفروض عليها ليست هينة، أما في حالة: لا نصر ولا هزيمة، فسوف تبقى الأوضاع كما هي على الصعيد الفلسطيني، لكن مع تهوين الدم العربي أكثر، ولن يلتفت أحد إلى سياسة التدمير والقتل التي يمارسها العدو في الضفة أو غزة، وستكون إيران هي الرابح الأول.
4- انتصار حزب الله ولو سياسياً في هذه الحرب سوف يزيد من قوة الاختراق الشيعي للدول العربية، ومعلوم أن أغلب الدول العربية يوجد بها حركات شيعية تنشط لنشر مذهبها بين المسلمين السنة، وسيسعى دعاة التشيُّع إلى استخدام الزخم الهائل (لكاريزما حسن نصر الله) وانتصار الحزب، ويخطئ من يعتقد أن حزب الله اللبناني لا يهتم بهذه القضايا، فهي بند رئيس في أجندته، وهو يستغل علاقاته بحركات المقاومة الإسلامية لاختراق المجتمع الفلسطيني، ويعتبر الشيعة أن (فتحي الشقاقي) مؤسس حركة الجهاد تشيع من قديم، ويذكرونه بهذه الصفة في الكتب التي تتحدث عن المتحولين من السنة إلى الشيعة، كما يُذكر «محمد شحادة» على أنه من عناصر الجهاد وهو داعية نشط للتشيع في فلسطين[9].(/5)
وقد ذكر الدكتور عبد الله النفيسي في الندوة التي نظمتها قناة الجزيرة وبثتها قبل ثلاثة أشهر عن إيران ومنطقة الخليج العربي، ذكر أن أحد قادة الجهاد أخبره بأن المساعدات الإيرانية للحركة تكون عادة مصحوبة بمطبوعات تروِّج للمذهب الشيعي، وقد كان حزب الله نشطاً في هذا المجال في الفترة التي اعتقل فيها مئات الفلسطينيين في مرج الزهور جنوب لبنان، حيث كانت لقاءات مطولة تعقد بين دعاة الحزب وناشطيه مع قيادات فلسطينية، وهو ما أدى لتشيع بعض العناصر من حركة الجهاد بالفعل، وكان هذا الاختراق من أسباب المشاحنات التي وقعت بين حركتي حماس والجهاد، حيث كانت حماس تبدي في أول الأمر قلقها من هذا الاختراق وخاصة أن قيادات الحركة في الخارج تأثروا في مراحل سابقة بالدعوة السلفية في الكويت أي أن رؤيتهم العقدية في هذه القضية على قدر من الوضوح، ولكن موقف حماس تراجع بسبب الاحتضان الإيراني السوري للحركة في مقابل الإهمال والإقصاء العربي [10]ومكمن الخطر في تنامي الإقصاء العربي لحركة حماس للدرجة التي تصل بالحركة مع إدراكنا لفطنة قيادات حماس في هذه المرحلة. إلى أن تتشيع سياسياً، أي يصبح قرارها السياسي مرتهناً بالمصالح الإيرانية على الأقل فيما يتعلق بالشؤون الخارجية للحركة، مع إدراكنا لفطنة قيادات حماس في هذه المرحلة، والغريب أن الدول العربية تبدي قلقها وتخوفها من السياسة الإيرانية التوسعية في الوقت الذي لا تبذل فيه أي جهد لتأمين حركات المقاومة السنية من الانزلاق إلى التشيع السياسي، والسؤال الذي يطرح نفسه في هذه القضية دائماً، هو: هل توجد دولة عربية يمكن أن تستضيف وجوداً نشطاً لمكتب حماس السياسي بخلاف سورية وإيران ولبنان، أي قوس الهلال الشيعي؟
5- العلاقة بين حزب الله وتيار الصدر في العراق راسخة، وقد ذكرت تقارير أمريكية أن إيران تستغل تيار الصدر لتسريب مساعدات إلى حزب الله اللبناني، ويعتبر التيار أن مقتدى الصدر وحسن نصر الله ينسجان على المنوال نفسه، وقبل أيام ألقى حازم الأعرجي من حركة الصدر خطبة أدان فيها الدولة الصهيونية، وأعلن تضامنه مع حزب الله الذي شبهه بجيش المهدي الميليشيا الموالية للصدر، وقاد مقتدى الصدر مظاهرة حاشدة لدعم حزب الله، كما يحظى الحزب أيضاً بدعم حزب الفضيلة الشيعي المتركز في البصرة، وكلا التيارين: الفضيلة والصدر، يمارسان أعمالاً وحشية ضد السنة؛ فما الذي يجمع بينهما وبين حزب الله، وهل هناك حلقة مفقودة؟
6- يقول (إبراهيم السيد) الأمين العام الأول لحزب الله، إن: «لبنان بناه الاستعمار بالشكل الذي يحقق من خلاله البوابة والمدخل الفكري والثقافي إلى منطقة الشرق الأوسط، وهو يحمل كل الأسلحة السياسية والعسكرية والفكرية والثقافية والحضارية من أجل تحويل شعب من شخصية معينة إلى شخصية أخرى منسجمة مع شخصية الغرب»[11]. ونحن نقول: إن إيران تسعى اليوم، بل منذ عقود، لكي تحول لبنان إلى بوابة خاصة تحمل طابعها ومذهبها الديني تخترق من خلاله بقية الدول العربية؛ إذ الملاحظ أن الفصائل الشيعية في العراق لا تحظى بأي شعبية لدى الرأي العام العربي، ولا تبذل هي مجهوداً في كسب ود العرب، بخلاف حزب الله اللبناني وقيادته الحريصة على تصدُّر مكانة بارزة لدى الشارع العربي المسلم.
7- لم يحظَ (الشيخ حارث الضاري) بالدعم ولا بالتأييد الذي حصل عليه (حسن نصر الله) زعيم حزب الله الشيعي، ولم يحصل عليه أيضاً أي زعيم عراقي سني، ولم ترفع أي مظاهرات في دولة عربية شعار هيئة علماء المسلمين في العراق أو صور قادتها، فليهنأ إذن ملالي إيران؛ فقد نجحوا في خداع الرأي العام العربي، وقدموا غطاءً شيعياً شيعياً لأعمالهم في العراق، ونقلت قناة الجزيرة عن وكالات الأنباء أن القتلى الواردة جثثهم إلى مشرحة بغداد في الشهر الماضي فقط كانت أكثر من 1800 جثة، أغلبهم بطبيعة الحال من السنة، هدية من طهران للشعوب السنية بمناسبة حرب لبنان.
* أيها السلفيون في العالم... اتحدوا!
قد تكون التيارات السلفية بالفعل هي خط الدفاع الأخير في مواجهة الاختراق الشيعي، ولكنه خط مذبذب من الداخل، يعاني من الخلافات «المجهرية» بين تياراته، وهي خلافات لا يمكن رؤيتها بالعقل المجرد، بل تحتاج إلى قدرات ذهنية خاصة لاستيعابها، وتبقى هذه التيارات مع ذلك محضناً للإسلام وحصناً لعقيدته الصافية، ويحتاج اضطلاعها بهذا الدور الخطير إلى استحضار عدد من الأفكار والمفاهيم:
1- ينبغي على التيارات السلفية أن تعيد النظر في آلية تكوين الولاءات والعداءات فيما بينها، فالأمر لا يتحمل هدراً للجهود والطاقات، ولا يليق التشاحن على قضايا اجتهادية بينما يفسح بعضهم مجالاً لحزب الله كي يصطف بجوارنا، والمطلوب العمل على ترسيخ ثقافة التعاون على البر والتقوى، والتناصح في قضايا الخلاف.(/6)
2- إعادة النظر في الخطاب الدعوي السلفي على ضوء التطورات والتغيرات، فلم نعد وحدنا في هذا العالم، وكل كلمة محسوبة ولها تبعاتها، كما أن الانطلاق من فرضية توجيه الخطاب إلى أنصار وأتباع لم تعد كافية في إقرار الحق، فهناك شبهات واختلاط وتدليس وتداخل، ومن ثم يجب الحرص على تكوين الرؤية القوية، وتوثيق المعلومة، وتعميق التحليل، والابتعاد عن الخطاب الدعائي المحض الذي ينبني على العاطفة ويعتمد على موالين مصدقين أكثر مما يعتمد على قوة التحليل ووضوح المعلومات؛ فالأمة في الوقت الحالي تحتاج بقوة أن يرفع التيار السلفي مستوى خطابه ويقوي أساليب الإقناع والمناظرة والجدال لديه لكي يدافع وينافح عن الثوابت التي يتولى حفظها وصيانتها.
3- السلفيون مطالبون بحسن التفقه في الواقع وتناول القضايا السياسية بعمق وتبصر، فقد أعرضت كثير من التيارات السلفية عن الاهتمام بالقضايا السياسية في الماضي حتى قال بعض رموزها: «السياسة نجاسة والبعد عنها كياسة» فخلطوا بين ممارسة العمل السياسي وبين فهم الواقع والأحداث، ولذلك فإن كثيراً من الدعاة والمحاضرين والباحثين السلفيين عندما يتناولون مثل هذه القضايا السياسية في الآونة الأخيرة يعتمدون منهجية متماثلة مع منهجية إعداد الدروس والمحاضرات والبحوث الدعوية والدينية المحددة، غافلين عن أن السياسة علم له مناهجه وأصوله التي يجب اعتمادها في تناول مفرداته وقضاياه، مع أهمية استحضار الثوابت والمنطلقات الشرعية في ذلك.
4- تحتاج التيارات السلفية في ظل الظروف المعقدة إلى تكوين رؤية استشرافية للمخاطر التي تتهدد الأمة ومن ثم تبني آلية مبكرة لمواجهتها قبل أن تتحول إلى قضايا رأي عام، كما حدث مع أزمة حزب الله حيث أصبحت مخاطبة الجماهير وإقناعها بحقيقته عسيرة في كثير من الدول، وكثير من الدعاة السلفيين تعرضوا لانتقادات شديدة جراء ذلك.
5 ـ الوهابية ـ ومن ثم السلفية ـ في الفكر الشيعي هي الوريث الشرعي للمسؤولية عن اضطهاداتهم المزعومة بل عن مزاعمهم الكاذبة حول تجني الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ على آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم ولذلك فإن مواجهة السلفية تأتي ضمن القضايا المشتركة بين جميع الفصائل والأحزاب الشيعية من مقتدى الصدر إلى حزب الله مروراً بغيرهم، ولذلك فإنه حتى لو تبنت التيارات السلفية موقفاً إيجابياً من حزب الله، فلن يغير ذلك من ثوابت الأحزاب الشيعية ضد السلفية الوهابية.
6- من أهم الركائز التي يعتمد عليها الشيعة في نشر دعوتهم في أوساط السنة، كثرة رجال الدين عندهم إلى درجة كبيرة، وذلك بسبب الدعم المالي المتراكم من (جمع الخُمْس)، وفي المقابل تتراجع أعداد الدعاة السنة في كثير من الدول العربية والإسلامية، وهذا يدع قطاعات كثيرة من المجتمعات تعاني من أثر الجهل وتقع فريسة لدعاوى الضلال، وقد ساهمت الثورة الخمينية في دعم التعليم الديني لدى شيعة لبنان منذ مطلع الثمانينيات من القرن الماضي، وقدمت مساهمات مالية ضخمة لإقامة الحوزات العلمية والإنفاق على طلبة متفرغين للعلوم الدينية الشيعية، وفي إيران كان تقدير عدد رجال الدين غداة الثورة الخمينية يتراوح بين 85 و185 ألف رجل دين وناشط شيعي، وتذكر بعض الصحف الفرنسية تقديراً لعدد «الملالي» في إيران في مرحلة ما بعد الخميني يبلغ نحو 380 ألف شخص [12].
7- تحتاج التيارات السلفية إلى تشكيل هيئات علمية تجمع شتات مجتهديها وعلمائها، ويناط بهذه الهيئات إصدار الفتاوى وتقديم الرؤى الشرعية في النوازل، وحتى لا تكون مواقف هذه التيارات متناثرة في فتاوى يتحمل عِبْأَها عالم واحد أو جهة واحدة، وخاصة أن تعدد الآراء والاجتهادات في هذه المرحلة يضفي قيمة متزايدة للاجتهادات الجماعية.(/7)
وحتى تستطيع التيارات السلفية أن تمارس دورها الأهم في حفظ ثوابت الدين من التحلل ـ بعد توفيق الله تعالى ـ لا بد أن تمتلك زمام المبادرة، فلم يعد ملائماً ولا لائقاً أن يسيطر خطاب الاستعلاء والانتقاء والانكفاء الذي يميز قطاعاً من التيارات السلفية؛ لذا ينبغي الانعتاق من الأبراج العاجية ومخالطة الجماهير؛ فلدى هذه التيارات فضول علم، والناس ذوو فاقة، ومن كان معه فضل زاد فليعد به على من لا زاد له، وقد أصبحت أنفاس السلفيين ورؤوسهم معدودة ومحسوبة عليهم، وفي فرنسا مثلاً أحصت الاستخبارات عدد السلفيين فوجدتهم خمسة آلاف، ينشطون في أربعين مسجداً [13]ولم نسمع عن إحصاءات قدمت عن تيارات إسلامية أخرى، ونشرت مجلة نيوزويك الأمريكية في نسختها العربية استطلاعاً للقراء عن احتمال ظهور طالبان عربية، مع طرح تساؤل عن كيفية التعامل معها[14]؛ مع العلم أن حزب الله اللبناني قدم طيلة 24 عاماً نموذجاً مثالياً لـ (طالبان شيعية)! وأنشأ مجتمعاً دينياً مغلقاً ومكتفياً ذاتياً دون أن يتعرض لأي انتقادات طالما أنه لم يقترب من الحدود الفلسطينية. إنها السلفية السنية إذن التي تقض مضاجع الجميع وتثير القلق في النفوس؛ فهل آن للسلفيين أن أن يعوا ما يدور حولهم، وأن يتلافوا ما قد يؤخذ عليهم وبخاصة أنهم أصبحوا في دائرة الضوء والمتابعة لهم من شتى الجهات المهتمة التي تعمل على إجهاض منهجهم لمكانتهم الكبرى في نفوس الأمة ((وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)) (يوسف: 21) .
----------------
[1] ديفيد داونر، موقع المركز الدولي لدراسات أمريكا والغرب.
[2] مجلة نيوزويك 1/8/2006م
[3] المعلومات مؤكدة حسب إفادات شخصيات إسلامية من العراق.
[4] انظر مقالة أحمد موفق زيدان مدير مكتب الجزيرة في باكستان على موقعه www.maktoobblog.com/ahmedzaidan.
[5] السابق.
[6] المركز الفلسطيني للإعلام 7/8/2006م .
[7] الحياة 28/7/2006م.
[8] مجلة نيوزويك 8/8/2006م.
[9] المتحولون، دار المحجة البيضاء بيروت، وهو كتاب مليء بالمغالطات والتحريفات والسباب لأهل السنة.
[10] انظر بحث: الغزو الشيعي لفلسطين، موقع فيصل نور http://www.fnoor.com/fn1704.htm
[11] دولة حزب الله، تأليف وضاح شرارة، دار النهاية اللبنانية، ص 11.
[12] السابق ص 20.
[13] كريستوف دولوار، لوبوان الفرنسية، موقع المركز الدولي لدراسات أمريكا والغرب.
[14] مجلة نيوزويك 1/8/2006م.(/8)
لنكن واقعيين
ما أجمل أن نكون واقعيين في حياتنا وتفكيرنا، وما أشد مانجنيه حين نفرط في المثالية ونغرق فيها.
حين يفكر الإنسان ويخطط لعمل أو مشروع، فإنه يتطلع نحو تحقيق أهدافه، ويبحث عما يعينه على تحقيقها، فيغفل عن افتراض العقبات والصعوبات، ويتخيل العلاقة بين كثير من المتغيرات علاقة محكومة بقانون مطرد لايتخلف، وأن كل العوامل التي تحكمها تسير في الاتجاه الذي يظن، أو ربما يريد.
لكنه يفاجأ حين ينزل إلى أرض الواقع فتكون الأمور على خلاف مايظن.
وحين يرسم المربي أهدافاً يريد أن يوصل أبناءه إليها، فربما اختلطت طموحاته وأمنياته بأهدافه الواقعية، فخرج بتصور مثالي لايعايش الواقع.
فيكتشف حينها ضعف الناس أو ضعف قدرته، وهو اكتشاف ربما كان خاطئاً.
وحين يتحدث واعظ، أو يخطب خطيب فإنه قد يخاطب الناس على أنهم ملائكة أطهار، فمن عرف الله فكيف يعصيه، ومن راقبه لا يمكن أن يواقع خطيئة، وينسى المتحدث أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يخاطب الناس بغير ذلك، فعن أبي هريرة –رضي الله عنه- قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم »والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم«([1]). وعن أبي صرمة عن أبي أيوب أنه قال حين حضرته الوفاة كنت كتمت عنكم شيئا سمعته من رسول الله صلى الله عليه و سلم سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول:»لولا أنكم تذنبون لخلق الله خلقا يذنبون يغفر لهم«([2]). وأنه كان يقول :»والذي نفسي بيده إن لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم ولكن يا حنظلة ساعة وساعة ثلاث مرات«([3]).
وربما اكتشف فيما بعد أنه أول من يخالف الناس فيما يدعوهم إليه.
وحين يتصدى شخص لتقويم عمل أو مسلك فربما خرج عن الاعتدال، وطرح انتقاداً لايبقي على الأخضر واليابس - وكثيراً مايكون ذلك عند الأذكياء والمفكرين –.
لكنه حين يطالب ببرنامج عملي، أو حين يحال الأمر إليه للتنفيذ فقد لايجيد تحقيق ما يصبو إليه، وأسوأ من ذلك أن يتمنى أن تعود الأمور إلى الحال التي كان ينتقدها.
إنها مواقف تحصل في أحوال ليست بالقليلة في حياتنا، ويجمعها قاسم مشترك ألا وهو المثالية، وتجاهل الواقع وعدم التعامل معه بصورة صحيحة.
ومن أهم مايعين على تجاوز هذه المشكلة الفهم الدقيق للواقع الذي يعيشه المرء، وتقييمه بشكل أدق.
والواقعية في تصور المتغيرات التي تؤثر في ظاهرة من الظواهر، وأين اتجاه التغيير؟ ومانسبته؟ ومانسبة احتمال سيرها في الاتجاه الذي نتوقع؟
كما يمثل الاعتدال في التفكير، والاتزان في الطرح ونقاش الأمور جانباً مهماً من جوانب العلاج، ومالم نعتد الاتزان والاعتدال في تفكيرنا وتناولنا لمشكلاتنا فلن يجدي حديثنا النظري في نقلنا خطوة لتجاوز مشكلاتنا.
لكن رفض المثالية يجب أن يحاط هو الآخر بسياج من الاعتدال يجنب المتحدث من تجاوز الحد الشرعي؛ فالإفراط في الرجاء أمن من مكر الله، ولايجوز أن يعالج به القنوط من رحمته.
والإفراط في الواقعية ربما يولد نفساً دنية الهمة، ضعيفة العزيمة، تستلم للأمر الواقع، وترفع شعار : (أن الواقع شيء والمفترض شيء آخر) في وجه كل من يدعوها لترتفع عن واقعها غير المرضي.
إنها سنة الله في الحياة الوسطية والاعتدال، فسبحان من جعل لكل شيء قدراً، وسبحان من أحسن خلقه ((الشمس والقمر بحسبان)) ((وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وماننزله إلا بقدر معلوم)).
--------------------------------------------------------------------------------
([1]) رواه مسلم (2749)
([2]) رواه مسلم (2748)
([3]) رواه مسلم (2750)(/1)
له دين على نصراني مفلس
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ... الفهرسة/ المعاملات/الحجر والإفلاس
التاريخ ... 26/1/1425هـ
السؤال
سألني أخ مسلم حديث عهد بإسلام في بلد غربي-حيث أمارس الدعوة- عن دَيْن له عند نصراني أفلس إفلاسًا تامًّا، عرض عليه النصراني أن يدفع له من بضاعة عنده، وهذه البضاعة تتألف من شموع لا تستخدم إلا لأغراض دينية مسيحية وأشياء أخرى من هذا القبيل، فأجبته بأن هذا غير جائز، ولكنني وعدته بأن أرسل لكم هذا السؤال لأنني أثق بعلمكم وأمانتكم وحسن دينكم، فجزاكم الله خير الجزاء وأجزل مثوبتكم.
الجواب
لا تصح المعاوضة على محرم بعينه كالخمر ولحم الخنزير والميتة والدم ونحو ذلك، ولا يصح ما كان وسيلة لذلك كآنية لا تستخدم إلا في الخمر ومثله الشموع التي لا تستخدم إلا لأغراض كنسية. وما فعلتَه أو قلتَه في فتواك عن غريمه النصراني فصحيح؛ فجزاك الله خيراً وفقهنا وإياك في الدين؛ فمن شروط المبايعات والمعاوضات عند المسلم أن تكون على حلال لعموم قوله تعالى: "وأحل الله البيع" [البقرة:275] وقوله: "وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان.." [المائدة:2] هذا كله من حيث الأصل جملة، أما من حيث التحديد في سؤالك فيمكن أن تقبلها إذا لم يمكنك الوصول إلى مالك أو شيء منه إلا بها على أن يقوم النصراني ببيعها بنفسه، ثم تأخذ أنت ثمنها، وهذا قياس على قبول الجزية من الكتابي اليهودي أو النصراني أو المجوسي مما يعتقدون حله بينهم وهو محرم عندنا، وهذا مذهب الإمام أحمد بن حنبل وعامة السلف؛ بدليل ما ثبت عن الخليفة الراشد عمر بن الخطاب – رضي الله عنه- فيما ذكره أبو عبيد في كتابه الأموال(1/62) وابن القيم الجوزية في كتابه أحكام أهل الذمة (1/357) أن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه- بلغه أن ناساً يأخذون الجزية من الخنازير، فقال عمر – رضي الله عنه-: "لا تأخذوها منهم ولكن ولوهم بيعها وخذوا أنتم من الثمن". وفقنا الله وإياك إلى ما يحبه ويرضاه ونسأله أن يزيدنا علمًا في الشرع ويثبتنا عليه آمين.(/1)
لهذا انفصلنا!!
هو يقول:
* زوجتي تعصيني وقد يئست من إصلاحها فطلقتها.
* زوجتي كانت كثيرة الجحود لما أقدمه لها.
* زوجتي كانت عنيدة ومتكبرة وعصبية.
* زوجتي كانت لا تحترم أهلي وترفض زيارتي لوالدي يوميًا.
* أم زوجتي كانت متسلطة ... وبسبب تدخلها الأحمق في حياتي تم الطلاق بمباركة منها وفرحة، مع أنني كنت أعاملها أحسن مما كان أولادها يعاملونها.
* اخترتها على أساس جمالها ومالها فخر علي السقف وهدمت البيت على رأسي ورأسها.
* طلقتها لأنها كانت دائمًا متمارضة ومهملة لبيتها فهي بمعنى أصح [نكدية].
* كنت هادئ الطباع وهي عنيفة وتريدني أن أقول لها: لا ، وأن أكون عنيفًا مثل والدها الذي انفصل عنهم وهم صغار ، وكان لا يأتي إلى البيت إلا لضربهم حسب كلامها هي، فكان هذا سببًا في عدم إحساسها برجولتي حسب مفهومها للرجولة، وكذلك عدم إحساسي باحترامها لي.
* قالت لأهلي وأخواتي إنها صاحبة فضل علي، واتصلت من ورائي بإخوتي وهم أغنياء تشكو من فقري وحالتي المادية وهو ما اعتبرته شرخًا كبيرًا للعلاقة بيننا لم يندمل، وكان الانفصال.
* كانت تمتنع عن فراشي وتهمل التزين لي ... فطلقتها.
* أهملت تربية أولادي لتحادث الصديقات والقريبات بالساعات فطلقتها.
وهي تقول:
* كان يمنعني من زيارة أهلي ويحبسني في البيت ويغلق الباب بالمفتاح لأنه كان مريضًا نفسيًا فطلبت الطلاق.
* امتلكت سيارة ولي مالي الخاص، وبعد شهر من زواجي قال لي: ادفعي بنزين سيارتك ليس لي دخل بهذا ، وبعد غداء في المطعم قال: ادفعي الحساب، فهو من البداية لا ينفق علي فطلبت الطلاق.
* كنت أسكن بعد زواجي مع والدة زوجي، ومللت من التدخل المستمر في حياتي وسيطرتها على زوجي، فطلبت منه سكنًا منفصلاً فرفض وكانت النهاية.
* اكتشفت بعد زواجي عيبًا خطيرًا في زوجي وهو البخل الشديد، وصبرت وحاولت معالجة الأمر حيث إنني أعمل دكتورة في الجامعة ومع دخلي وأيضًا مساعدة أهلي المالية استمر زواجي ستة عشر عامًا كان لي منه أربعة من الأولاد، ولكنني مللت من تحمله وسلبيته وعدم إنفاقه على أولاده فقررت الانفصال.
* الفتور والملل الشديدان في حياتنا الزوجية جعلنا في جلسة مصارعة نتفق على الطلاق.
* زوجي يتعاطى المخدرات ويسكر ويطلقني مائة مرة.
* زوجي سرق من ذهبي فطلبت الطلاق.
* زوجي كان يكره أمي وأهلي، وأخوات زوجي كن يخلقن لي المشاكل وكن كثرن التدخل في حياتنا فتدمر البيت.
* كان زوجي غيورًا جدًا فلم أتحمل شكه فّي ليل نهار.
* زوجي كان يضربني ويسيء إلي ولا يراعي مشاعري وغير متعاون، ومما زاد المشكلة أنه كان يريد أن يأخذ راتبي كله لأكون دائمًا في احتياج وطلب وسؤال منه فمن يتحمل ذلك فكان الطلاق.
* الطلاق كلمة تهتز لها حزنًا القلوب وترتجف لها النفوس ، يفرح بوقعها الشيطان ويهتز لها عرش الرحمن، أسرة ... زوج... أبناء... كانوا يعيشون جميعًا تحت سقف واحد.. يركبون ظهر الحياة بكل ما فيها من أفراح وأحزان، آلام وآمال سعة وضيق، أبٌ يعود من عمله فيجد شريكة حياته في استقباله وأبناؤه يلتفون حوله... ضحك ولعب وحوار، تأديب وعقاب، وثواب... حياة تدب في أوصالها الحياة بكل ما تحمل هذه الكلمة من معانٍ... ثم ... ثم ماذا؟
* يحدث الخلاف ويقع الشقاق وتتنافر الأرواح، تتباعد القلوب، تمتلئ بالغضب ينفخ الشيطان في تلك النار فتزداد اشتعالاً.. زوج غاضب, وزوجة تبادله غضبًا بغضب، العناد، الكرامة، الرجولة، الكلمات الجارحة، التعيير، اللسان المتفلت، لن أتنازل عن حقي [الزوج] وأنا كذلك [الزوجة]... الطريق مسدود... ويقع الطلاق.
* يقول الشيخ عبد الرحمن بن عبد الخالق:
'مما لاشك فيه أن الطلاق عملية هدم لبناء أسرة، وقد يأتي هذا الهدف عند بداية الطريق وعند أول اللبنات في الأساس وقد يأتي متأخرًا بعد أن يكون البناء قد تفرع وتعددت الحجرات ووضع السقف أعني بعد النسل وكثرة الأولاد والذين ظنوا أن الإسلام أباح الطلاق مطلقًا بلا ضوابط وفتح للناس الأبواب على مصراعيها في أن يتزوجوا كما يشاءون ويطلقوا وقتما يشاءون، أخطئوا وتجنوا على هذا الدين, وكذلك الذين يريدون حجر الطلاق ومنعه وتقييده بغير الطرق الشرعية ظنًا منهم أن ذلك عمل إنساني وأنه في صالح المرأة فهم أيضًا جاهلون، فالعدل في هذه المسألة هو ما جاء في الدين الصحيح بلا إفراط ولا تفريط'.
* وهنا نعجب من حالتين:
* الأولي: طلاق من هن في عمر الزهور من الشباب والفتيات.
* والثانية: طلاق بعد سن الأربعين وأحيانًا بعد سن الخمسي ، بعد أن يعيش الزوجان حياة صعبة تعيسة وينعدم التراحم والتعاطف ويكون الرابط الوحيد بينهما هو الأولاد، وبعد أن ينفد الصبر وتتعب النفس يحدث الفراق [الطلاق].(/1)
* وكثيرًا ما نجد أن بعض الأزواج يصدم ويصاب بخيبة أمل عند أول مشكلة تواجههم في حياتهم الزوجية، فيفكر الرجل في الفراق، وتتردد في نفسه كلمة الطلاق، وقل مثل ذلك عن المرأة فإنها تفكر في العودة إلى أهلها ومطالبة زوجها بطلاقها عند أول أزمة خلاف تقع بينها وبين زوجها.
* وهنا يجدر بنا أن نتساءل أين تكمن المشكلة؟
* وما أسباب تلك المشكلات بين الزوج وزوجته؟
* هل هي في تعنت كل من الزوجين لتكون الغلبة لرأيه فقط؟
* هل هي في الخروج عن حدود الأدب أو الرحمة في التعامل؟
* هل هي في تعدي أحد الأطراف على الآخر في مهامه ومسئولياته وعدم تقدير ما يبذله كل منهما؟
* هل هي في تدخل أطراف خارجية بين الزوجين وإشعال فتيل الخلافات اليسيرة فيما بينهما؟
* هل هي في تخلي الطرفين أو أحدهما عن بعض واجباته أو التقصير فيها؟
هل هي في… أم في… أم في… ؟
وهل المشكلة مالية أم تربوية... أم عاطفية... أم طبيعية... أم عائلية... أو أنها تتعلق بفراش الزوجين وحياتهما الخاصة؟
* لو فكرنا عزيزي القارئ في أسباب الطلاق من خلال ما طرحناه من حالات في أول المقال، فإننا بعد البحث يمكن أن نرجع الطلاق للأسباب التالية:
1 ـ سوء الاختيار
من بحث عند زواجه عن المال أو الجمال جاهلاً أو متجاهلاً الدين والأخلاق فلا يلومن إلا نفسه, وقد وضع لنا الشرع أسس اختيار شريك الحياة.
* فمن ناحية اختيار الزوجة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: 'تنكح المرأة لأربع لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك' [رواه البخاري]
* ومن ناحية اختيار الزوجة قال صلى الله عليه وسلم: 'إذا جاءكم من ترضون دينه فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض' [رواه الترمذي]
2 ـ عدم التكافؤ:
سواء في الدراسة أو الثقافة أو من الناحية الاجتماعية، وهذا ليس سببًا وجيهًا، إذ رغم أن التكافؤ أدعى للمحبة والتقارب إلا أن عدم وجوده ليس مانعًا للحب، وعدم التكافؤ لا يمنع أن يكون الطرف الآخر أكثر فهمًا لشريكه من أي شخص آخر في مثل مكانته. والكفاءة بين الزوجين وإن لم تكن شرطًا من شروط الزواج إلا أنها تمثل عنصرًا هامًا من عناصر الانسجام الأسري والتوافق النفسي بين الزوجين، إن الاختلاف البين بين الزوج وزوجته في العلم والمال والمستوى الاجتماعي نذير من النذر الأولى للمشكلات الزوجية ثم وقوع الطلاق.
3 ـ عدم وجود الحب بين الزوجين:
وفي هذه الحالة يمكن أن تستمر الحياة بينهما كما يمكن أن يتولد الحب بينهما مع الأيام، فلا يجب التعجل في الطلاق لهذا السبب، أما إن شعرا باستحالة ذلك مع النفور الشديد وانعدام إمكانية العيش معًا رغم مرور الوقت فلا بأس حينها من التفكير في الانفصال.
4ـ عدم تجانس الفكر، وعدم ائتلاف الطباع:
وذلك يعني بالضرورة عدم التفاهم ، وكم من زيجات فشلت رغم أن كلا الطرفين عنده دين وخلق ولكن لا يوجد تفاهم بينهما.
5ـ النظرة المثالية للحياة الزوجية:
قد يتشبث البعض بصورة مثالية للزوجة، وأيضًا تتشبث المرأة بصورة مثالية للزوج، ثم لا يحيدا عن هذه الصورة، وهذا لن يحدث أبدًا فكل زوجة فيها صفات يحبها الزوج وفيها غير ذلك. لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: ['لا يفرك يعني لا يبغض مؤمن مؤمنة إن كره منها خلقًا رضي منها آخر ' [رواه مسلم].
وقد يكره الزوج في زوجته أشياء معينة لكن هذا لا يعني أنها سيئة فقد يكون فيها خير كثير قال تعالى: {فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} [النساء:19] , ولا بد أن يضع كل من الزوجين في اعتباره أن الكمال لله وحده، وأي إنسان به نقص به وبه عيوب كثيرة وصدق الشاعر حين قال:
ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها
... ... كفى المرء نبلاً أن تُعد معايبه
6ـ الجهل بالحقوق والواجبات:
جهل أو تجاهل أحد الطرفين بالحقوق الواجبة عليه والتهاون في أدائها، وما ينبغي عمله هو فهم الزوجين لحقوقهما وواجباتهما كما شرعها الله, وهنا نذكر إشكالية هامة وهي الفرق بين الفتاة في منزل أهلها ، وفي منزل زوجها.
فالفتاة في بيت أهلها تتدلل، والأهل يحبون ابنتهم ويتمنون راحتها وتحقيق رغباتها وأن يروا الابتسامة على وجهها، أما بعد الزواج فإن الرجل لا تعنيه هذه الأمور وهي مطالبة بأداء الواجبات التي عليها، في حين أنها كانت غير مطالبة بشيء منها في بيت أهلها فتحدث المفارقة العجيبة.
7ـ عدم اتفاق الزوجين على طريقة الحياة قبل الزواج.
8ـ الملل والفتور في العلاقة الزوجية:
ويحدث هذا خاصة بعد الخمسين من العمر، ويرجع ذلك إلى اكتفاء المرأة بأولادها والاهتمام بهم وبعملها إن كانت تعمل، وإغفال حق الزوج، مع العلم أنه في هذه المرحلة يكون في أشد الاحتياج للرعاية والعناية من قبل الزوجة.
9ـ تدخل الأهل:(/2)
قد يكون لتدخل أهل الزوج أو الزوجة أثر في إيذاء أحد الطرفين وخصوصًا إن كان سكن الزوجين مع الأهل، وهنا على الزوجة أن تكون عاقلة ومقدرة للموقف فلا تأمر زوجها بقطع أهله، وتصبر هي عليهم وتتغاضى عما تواجهه منهم من أجل زوجها ومن أجل نجاح حياتها الزوجية، كما أن عليها أن تحد من تدخل أهلها أيضًا في أمور زواجها وتحافظ على سرية مشاكلها.
10ـ وجود صفات سيئة عند أحد الزوجين:
فالنسبة للزوج: هي على نوعين:
الأول: يمكن الصبر عليه ومحاولة تغييره مثل البخل أو الفقر أو قسوة الطباع والعصبية أو كثرة الخروج من المنزل وعدم الاهتمام بالزوجة، وضرب الزوجة وإهانتها.
والنوع الثاني: لا يمكن الصبر عليه وهي مصائب كبيرة مثل شرب الخمر ، والعياذ بالله، وترك الصلاة وارتكاب المعاصي، وخيانة الزوجة، ووجود مرض نفسي أو مرض عضوي فيه إيذاء من حوله.
أما عند الزوجة:
فنجد العناد والتحدي والكبرياء، واختلاف البيئات بين الزوجين، واختلاف المفاهيم الموروثة عن الزواج، ويدخل في ذلك أيضًا عصيان المرأة لزوجها وعدم طاعته، وسوء تربية الفتاة، ومن العجيب أن أسباب الطلاق في الزمن الحالي تثير العجب، فمن زوجة تطلب الطلاق بسبب اسم المولود إلى أخرى تغار من جلوسه على الكمبيوتر، إلى ثالثة تصر على الطلاق بسبب رفضه أن تعمل خارج المدينة وأخرى لأنها تريد خادمة.
إن مثل هذه الأسباب الواهية تجعلنا نستغرب من طريقة تربية بعض البنات اللاتي لا يعرفن الصبر، ولا تحمل المسئولية مع شدة تأثرهن بالإعلام، إذ على أتفه الأسباب تصرخ بكلمة [طلقني] وكأن الحياة الزوجية لا قيمة لها، وكأن الطلاق أمر سهل، وإنه سبحانه وتعالى وهو العليم الخبير قد وصف لنا العلاقة الزوجية فقال: {وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً} [النساء:21].
11ـ النكد الزوجي:
إذا كان أحد الزوجين يتقن فنون النكد الزوجي، فهذا قد يتسبب في تدمير حياتهما الزوجية ، ومن مظاهر النكد الزوجي الشجار المستمر وغلظة القول وعبوس طرف في وجه الآخر، وأخذ الأمور بانفعال وتوتر مما يجعل الحياة مشحونة ومشدودة دائمًا.
وأقول للزوجة خاصة إن مجرد البسمة في وجه زوجها يمكن أن تحل هذا النكد، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: 'تبسمك في وجه أخيك صدقة' فكيف بالزوج [رواه البخاري].
12ـ سوء العلاقة الخاصة بين الزوجين:
وذلك لأسباب وهمية أو أسباب حقيقية، وهذا يرجع إلى عدم الاستعداد للزواج بالنضج والثقافة الزوجية، ويتطلب ذلك من الزوجين فهم الفروق النفسية والبدنية بين الرجل والمرأة والاختلاف في أسلوب تعبير كل واحد منهما عن الحب.
13ـ الاختلاف على تربية الأولاد:
فلكلٍ وجهة نظر في تربية الأطفال خصوصًا إذا كان الزوجان من بيئتين مختلفتين.
14ـ نشوز الزوجة أو الزوج:
كلمة نشوز تعني خروج الزوجين أو أحدهما عن طبيعة وظيفته وعدم قيامه بها مدفوعًا بالكراهية وعدم الطاعة، وهذا قد يؤدي إلى الإطاحة بأركان البيت والوصول به إلى طريق مسدود.
ونحن نقول للزوجين وخاصة الزوجة عليك التفكير فيما إذا كان هناك مجال للصبر والتعايش مع الوضع، وفيما إذا كان السبب يستحق أن تترك زوجها من أجله.
عزيزي القارئ اقرأ معنا في هذه السلسلة:
خطورة الطلاق.
آخر العلاج الكي.
الآثار المترتبة على الطلاق على المرأة والأطفال.
ماذا بعد الطلاق(/3)
لهذا كان اهتمامنا بفكر الشيخ.....جعفر ادريس ...
...
28-02-2004
لهذا كان اهتمامنا بفكر الشيخ
منار السبيل – السنة الثانية، العدد السابع- شعبان 1414هـ الموافق يناير 1993م
د. جعفر شيخ إدريس
ميزة الشيخ أنه سلط ما حباه الله به من أنوار الرسالة المحمدية، وما منحه من مواهب فطرية، وما حلاه به من فضائل خُلقية على مشكلات عصره الواقعية والعلمية، فكان قوله في معظمها هو القول الفصل الذي يشهد له صحيح الأدلة النقلية، وصريح الحجج العقلية، وضوح الصياغة البيانية وجمال القيم الخلقية العلمية.
من المفكرين الإسلاميين الذين سبقوا شيخ الإسلام ابن تيمية أو عاصروه من كان ذا معرفة واسعة بالفكر الفلسفي وما اتصل به آنذاك من علوم رياضية وطبيعية وكيماوية وفلكية ومنطقية وغير ذلك، لكن بضاعتهم في العلوم الشرعية كانت مزجاة، لذلك تأثروا بكثير من نواحي الفكر اليوناني المخالفة للإسلام، بل إن منهم من جعل هذا الفكر أساساً له، وحاول أن يفسر الإسلام في نطاقه، فجره هذا إلى إنكار بعض أصول الدين أو تأويلها تأويلاً تعطيلياً.
ومنهم من كان ذا معرفة جيدة بالعلوم الشرعية من لغة وتفسير وحديث وفقه وأصول فقه، لكنه يجهل العلوم الفلسفية والكلامية وما اتصل بها جهلاً كاملاً، لذلك لم يستطع أن ينقدها، أو يبين زيفها ويقى الناس شرها.
بل إن من هؤلاء العلماء الأفاضل من كان سبب فتنة لبعض الناس لأنه لم يميز بين ما في الفكر اليوناني من حقائق يؤيدها الدليل العقلي أو الحسي، وما فيه من عقائد فاسدة، وآراء باطلة ولا سيما في مسائل الإلهيات، فحكموا على الجميع بالبطلان ومخالفة الإسلام، وفي أمثال هؤلاء العلماء يقول أبو حامد الغزالي: "ومن ظن أن المناظرة في إبطال هذا من الدين فقد جنى على الدين وضعف أمره، فإن هذه الأمور تقوم عليها براهين هندسية حسابية، لا يبقى معها ريبة، فمن يطلع عليها ويتحقق أدلتها... إذا قيل له إن هذا على خلاف الشرع، لم يسترب فيها وإنما يسترب في الشرع. وضرر الشرع ممن ينصره لا بطريقه أكثر من ضرره ممن يطعن فيه بطريقه، وهو كما قيل ’عدو عاقل خير من صديق جاهل" [تهافت الفلاسفة، دار المعارف، ص 80]
ومنهم من جمع بين الاطلاع الواسع على هذه العلوم وكان مع ذلك من علماء الشريعة المرموقين، لكن علمه بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم وبأقوال السلف كان قليلاً. بل لم يميز بين صحيح بين صحيح الأحاديث والآثار وضعيفها. ولم يكن فهمه لمسائل العقيدة هو الفهم السلفي الصحيح الذي تدل عليه النصوص والآثار.
ومنهم من تفرغ للعبادة والذكر والاهتمام بأحوال القلوب ومقومات السلوك، ولم يُرد أن يشغل نفسه بالأمور العامة، ولا سيما مجادلة أهل الباطل.
أما شيخ الإسلام ابن تيمية فقد أعطاه الله تعالى نصيباً وافراً من كل خير أعطاه لهؤلاء المفكرين والعلماء، فقد كان رحمه الله رجلاً حاد الذكاء، سريع القراءة والكتابة والفهم. وكان بحراً في علوم القرآن والسنة، ذا اطلاع واسع على آثار الصحابة وما جاء بعدهم من الأئمة، متضلعاً في العلوم العربية حتى قيل إنه استدرك عدة مسائل على سيبويه، مطلعاً على أصول الفقه وفروعه وأقوال المذاهب اطلاع العالم المختص، وكان ذا معرفة دقيقة بالمذاهب الكلامية وأقوال الفرق، حتى لقد قال هو عن نفسه إنه جادل الفلاسفة وعمره أربعة عشر عاماً! وكان عالماً بعقائد اليهود والنصارى ومذاهبهم، غواصاً في علوم عصره الرياضية والطبيعية والفلكية والتاريخية.
وكان إلى جانب هذا العلم الواسع وذاك الذكاء الخارق، رجل عبادة وزهد، وكان مع عبادته وزهده ذا اهتمام كبير بقضايا عصره العملية والعلمية، السياسية والاستراتيجية والاقتصادية والاجتماعية والاعتقادية والتربوية وما شئت من قضايا. وكان مع جهاده بالقلم واللسان مجاهداً بالسيف والسنان.
ميزة ابن تيمية أنه سلط ما حباه الله به من أنوار الرسالة المحمدية، وما منحه من مواهب فطرية، وما حلاه به من فضائل خلقية، سلط كل هذا على مشكلات عصره الواقعية والعلمية، فكان قوله في معظمها هو القول الفصل الذي يشهد له صحيح الأدلة النقلية، وصريح الحجج العقلية، ووضوح الصياغة البيانية، وجمال القيم الخلقية العلمية.(/1)
لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم ؟!
د.عدنان علي رضا النحوي
لقد كثر في الآونة الأخيرة على لسان عدد من الدعاة المسلمين ترديد مصطلحات وأفكار ينسبونها إلى الإسلام ، ثُمَّ إذا هي تنتشر بسرعة عجيبة في بعض وسائل الإعلام من صحافة أو فضائيات أو مجلات أو كتب . ثمَّ يصدر على ضوء ذلك فتاوى وآراء ظاهرة الانحراف عن الإسلام ، متناقضة مع آراء سابقة وفتاوى ماضية .
كثرت في هذه الآونة مصطلحات : الوطن ، المواطنة ، حقوق المواطن ، الآخر ، الاعتراف بالآخر ، الإنسانية ، وأمثال ذلك مما يصعب حصره . نعم! يجب على المسلم أن يحرص على مصلحة وطنه المسلم ومصلحة كل أرض إسلامية . ولكن هذا الحرص يجب أن ينطلق من دين الله ، من الإسلام ، من دين جميع الرسل والأنبياء ، من منهاج الله كما أُنْزِلَ على رسول الله محمد خاتم الأنبياء والمرسلين .
ولا بدَّ أن يقدِّم المسلم ، حين يعطي رأيه في هذه القضيَّة أو تلك ، حجّته ودليله من منهاج الله ـ قرآناً وسنَّة ولغة عربيَّة ـ ، ومن الواقع الذي يُرَدُّ إلى منهاج الله ردَّاً أميناً عن إيمان صافٍ وعلمٍ سليم بمنهاج الله وبالواقع .
ولا بدَّ كذلك حين يستشهد بآية أو بحديث أن لا يؤوِّله تأويلاً خاصَّاًَ ليوائم دعواه ورأيه وهواه ، بل يلتزم المعنى الذي تقرّه اللغة العربية وقواعد الإيمان والتوحيد ، وسائر آيات الكتاب ، وسائر أحاديث الرسول ، ذلك لأن معاني الآيات والأحاديث لا تتعارض ، وإذا بدا تعارض فذلك منا نحن البشر وليس من منهاج الله . فالمعاني في منهاج الله كلها مترابطة متناسقة في قلوب المؤمنين الخاشعين المتقين العالمين .
وإن جميع القضايا التي أخذ بعض الدعاة وغير الدعاة يحرصون على نشرها والاهتمام بها ، حرص الإسلام على دراستها وصياغتها صياغة ربَّانيَّة تنفي عنها العصبيات الجاهلية ، وتنفي عنها عوامل التمزيق والصراع والإفساد في الأرض . فالعائلية هي في الإسلام صلة رحم لها قواعدها وأصولها ، وكذلك الوطنيَّة والوطن ومصالح ذلك ، جعل الإسلام منها أخوة إيمان تلتزم شرع الله كله، وعدالة واضحة تعطي كل فئة حقوقها كما شرعها الله لا كما تُريد بعض القوى في الأرض أن تشرِّع لها .
أخذ الكثيرون يتغنَّون " بالآخر " ويطالبون بالاعتراف به وبحقوقه ، ولقد حرتُ وأنا أبحث عن هذا الآخر الذي لا ينال حقوقه ، أو أنه مظلوم ، أو أنه غير معترف به ، فلم أجد أحداً ينطبق عليه هذا الوصف إلا المسلم الذي أصبح يطارد في شرق الأرض وغربها . إذا أرخى لحيته أصبح متطرَّفاً متعنَّتاً ، وإذا حافظ على الصلوات في المسجد أصبح مغالياً أو إرهابيَّاً ، وإذا ذكَّر بآية أو حديث أصبح شاذاً مثيراً للفتن ، وإذا لبست المرأة المسلمة الحجاب أصبحت شاذة محاربةً تغلق أمامها الأبواب .
لماذا التغنِّي " بالآخر " وبحقوقه ، ليت هذا "الآخر" يحترم أبسط حقوق المسلم . يُرادُ من المسلم أن يتخلَّى عن دينه حتى يصبح في عرف المنحرفين إنساناً سويَّاً !
ويتغنَّون " بالإنسانيَّة " ! يتغنَّون بها بصورة توحي بأنها ليست في الإسلام، ولا في مبادئه ، يوحون بأنها في الديمقراطية ، في العلمانية ، في الماسونية! وينادون بأن الإنسانية هي وحدها التي تجمع الناس ، ولكن على أيِّ مبادئ وعلى أيِّ مناهج ؟! كلمات عامة عائمة لا تحدِّد حقوقاً ولا ترسم نهجاً ولا تشقُّ طريقاً ولا تعالج أمراضاً أو خللاً .
" الإنسانيَّة " بأصدق معانيها هي في الإسلام وحده ، في شرع الله ، في الإيمان والتوحيد . فإذا خرجتَ من الإسلام خرجتَ من دين الفطرة التي فطر الله الناس عليها ، وأصبحت نهباً للشهوات والمصالح وعواصفها ، لا ضابط لها أبداً إلا جنون القوة والسيطرة ، ثم الصراع الذي يُلغي كل معاني الإنسانية! وهذا هو الواقع أمامنا ، وهذا هو التاريخ معروضاً بين أيدينا .
حسبنا الإسلام ، دين الله ، دين جميع الرسل والأنبياء ، فهو وحده الذي يوفِّر للبشريَّة كلها أكمل معاني الإنسانية ، وأعلى معاني العدالة ، وأصدق آفاق الحريَّة، ولينال كلٌّ حقوقَه حسب شرع الله ، لا حسب شرع الديمقراطية والعلمانية والاشتراكية ، حيث تموت هناك العدالة والحريَّة والإنسانيَّة إلا في أجواء التخدير، والمساواة بالظلم والفقر ، والفاحشة ، والفجور ، لا ضابط إلا سلطان القوة والبطش والتخدير وما ينتج عنها من قوانين وضعيَّة .(/1)
لقد وقع بعض الدعاة ، بعد أن سحرتهم حضارة الغرب وزخارفها الكاذبة وخدَّرتهم ، وقعوا في شركها وبين أنيابها ومخالبها . فلم يكتفوا بأن يتولّوا الدعوة إلى العلمانية حيناً ، وإلى الديمقراطية حيناً آخر ، وإلى الاشتراكية حيناً آخر ، وإلى كل " فتنة " جديدة تأتي من الغرب الساحر بخدره وسَكَرِه ، بل ذهبوا إلى أبعد من ذلك ، فأخذوا يؤولون بعض الآيات والأحاديث تأويلاً واضح الفساد ، تأويلاً تدفعه الأهواء الهائجة والرغبات بين الناس ، وكثير من الناس لا يعلمون دينهم وهم مسلمون ، يأخذون الدين مما قال هذا ومما قال ذاك ، يأخذونه من البشر الذين لا يُتبعونه بالدليل من الكتاب والسنَّة بصورة أمينة صادقة .
فتنتشر آراء كثيرة بين الناس ، تفتنهم عن صفاء دينهم وسلامة تصورهم وفطرتهم . ولقد جمعت نماذج من ذلك قدر استطاعتي ورددت عليها في كتابي بعنوان : " الانحراف " ! وكنت أظنُّ أني غطَّيت مساحة كبيرة نسبياً ، حتى فوجئت بآراء جديدة تموج بها بعض الأقلام وبعض الأفواه والألسنة . تموج بها وتزخرفها بألفاظ من الزينة المغرية ، كألفاظ الإنسانيّة ، الأخوة الإنسانيَّة ، والمصلحة ، العدالة ، حريَّة الإنسان ، والوطنيَّة ، والقوميَّة ، شعارات متفلتة من أيِّ ضوابط ، تُغري النفوس فتقبل عليها فلا تجد نهجاً ولا شرعاً ولا ضوابط .
لقد اختلطت مصطلحات الوطنية والقومية والعروبة بالإسلام ، حتى كادت تطغى على كلمة الإسلام ، أو تحلُّ محلها على ألسنة بعض الدعاة . ولذلك فقد حصر بعض الدعاة نظرتهم في الإصلاح إلى إصلاح وطنهم ، وأخذوا يعلنون ذلك، ويحدِّدون حقوق المواطن على أساس المواطنة بغض النظر عن شريعة الله ، حتى جعل بعضهم رابط المواطنة أخوة في المواطنة وطويت أخوة الإيمان ، وأخذوا بشرع الغرب والعلمانية في ذلك دون شرع الله . وقالوا بلسان عربيٍّ مبين: "إنّ لهم أي لغير المسلمين ما لنا ( أي للمسلمين ) وعليهم ما علينا " . وظننت بادئ الأمر أنها هفوة عالم يمكن أن تزول . ولكن رأيت أن هذا القول : " لهم ما لنا وعليهم ما علينا " أَخذ يمتدُّ ويُردِّده دعاة مسلمون هنا وهناك ، وينسبونه إلى الله ورسوله ظلماً وبهتاناً .
ثمَّ فوجئت بكتاب يقول فيه مؤلفه : " أما بالنسبة لغير المسلمين فأساس المواطنة هو " الولاء " للدولة الإسلامية عن طريق العهد ، لأن حق المواطنة لا يستلزم وحدة العقيدة ولا وحدة العنصر ، قال رسول الله : " لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم " ! وهذا الدليل يتوافق مع ما نصَّ عليه دستور المدينة الذي قرَّر المواطنة المتساوية لليهود وغيرهم مع المسلمين تحت لواء الدولة الإسلاميَّة ، يعيشون ...... ".ثمَّ يقول : " الثاني : مبدأ التسامح مع أهل الأديان السماوية الأخرى ، وذلك بأن جعل لهم الإسلام من الحقوق وأوجب عليهم من الواجبات عين ما للمسلمين وما عليهم ، وليس أعدل ممن يساويك بنفسه في المنفعة والعدل والحكم " !
ويحيل الكتاب نصَّ الحديث الذي نسبه إلى الرسول إلى "صحيح ابن حبان ، تحقيق شعيب الأرناؤوط ، ط2 ، ثم ذكر الصفحة والمجلد ورقم الحديث .
ومن هنا ، ومن مثل هذه الكتابات انتشر هذا التعبير عن غير المسلمين في ظل الدولة المسلمة : " لهم ما لنا وعليهم ما علينا " ! وكلُّ من درس القرآن الكريم والسنة والتاريخ يدرك أنه يستحيل أن يقول الرسول هذا الحديث أو مثله . ولكن هذه الجملة : " لهم ما لنا وعليهم ما علينا " انتشرت في وسائل الإعلام وعلى ألسنة الدعاة وكثير من المسلمين ليبيّنوا أن الإسلام عادل ومنصف حسب ما يريد الغرب وحسب موازين الديمقراطية والعلمانيَّة ، ولكنهم بادعائهم هذا نفوا العدالة عن الإسلام ، وبدَّلوا في شرع الله الذي به تقوم العدالة بأعلى درجاتها ، وبه وحده تقوم الإنسانية ، وبه تقوم الحريَّة .
ولقد ورد هذا النص : " لهم ما لنا وعليهم ما علينا " في بيان أصدره داعية مسلم بصدد حديثه عن أُخوّة بين المسلمين وغير المسلمين في بلده فامتدَّ تطبيق هذا النص إلى أبعد مما ذهب إليه مؤلف الكتاب الذي أشرنا إليه سابقاً ، إذ بُنيت هنا أخوة بين المسلم وغير المسلم مما لم يحدث في التاريخ الإسلامي كله ، ولا في فقهه ولا في عدالته وحريّته ! فكيف تكون أخوة المسلم مع غير المسلم ، والله ورسوله حدَّدا معنى الأخوّة ومجالات استخدامها ، فالله سبحانه وتعالى يقول : " إنَّما المؤمنون إخوة " ! والرسول صلى الله عليه وسلم يقرر في أحاديث كثيرة : " المسلم أخو المسلم .... ! فكيف نشأت هذه المصطلحات والأفكار ؟!
إنني أشعر أن هذه المصطلحات وهذه التصورات تكاد توحي بدين جديد غير ما أنزله الله على رسوله محمد ، ديناً ينطلق من أفكار بشريَّة ومصادر بشريَّة وإعلام بشري سقط فيه بعض المسلمين .(/2)
ولإيضاح ذلك نبيّن أولاً بطلان الحديث : " لهم ما لنا وعليهم ما علينا " ، فبهذه الصورة هو حديث غير صحيح ، باطل رواية وسنداً ومعنىً . ولكنه جزء من حديث صحيح للرسول ، أُغْفِلَ معظمه ، واقتطعت منه هذه الجملة وعزلت عن بقيَّة الحديث ، فتغيَّر المعنى كليَّة . فلنستمع إلى نصِّ الحديث بكامله من المرجع الذي أشار إليه مؤلف الكتاب السابق ذكره : صحيح ابن حبان تحقيق الأستاذ شعيب الأرناؤوط ص 215 ، ج 13 ، رقم 5895 :
عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله قال : ( أُمرتُ أن أُقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأنَّ محمداً رسول لله ، فإذا شهدوا ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، واستقبلوا قبلتنا وأكلوا ذبيحتنا وصلُّوا صلاتنا، فقد حَرُمَتْ علينا دماؤهم وأموالُهم ، لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم). وجاء في الشرح أنه صحيح على شرط الشيخين وأخرجه أبو نعيم في الحلية 8/173 ، وأخرجه النسائي وأحمد وأبوداود والترمذي والخطيب في تاريخه، والبيهقي ...! وذلك يعني أن من دخل في الإسلام مهما كان جنسه فله ما للمسلمين وعليه ما عليهم . وهذا هو معنى الآية الكريمة في سورة التوبة :
( فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ) [ التوبة : 11 ]
فالحديث إذن معروف في كتب السنة ، معروف بكامل نصّه ، فكيف أغفل الكاتب معظم الحديث والشروط الواردة الحاسمة فيه وأخذ بالجملة الأخيرة ، وبنى عليها قضايا وقضايا كمبدأ التسامح والوطنية والإنسانية وسائر ما استخلصه الكاتب من الحديث الشريف الذي أخذ بآخر جملة فقط منه ، وغيَّر نصَّها !
ويزيد الأمر عجباً حين نرى كثيراً من الدعاة ينادون بهذا الشعار غير الصحيح : " لهم ما لنا وعليهم ما علينا " ، أو ينادون بما يُبْنى على هذا النصِّ المجزوء من أفكار باطلة ، وافتراء على الله ورسوله ، وتحريف في دينه تدفع إليه ضغوط الواقع كما دفعت اليهود والنصارى إلى أن يُحرِّفوا في التوراة والإنجيل !
ولم يسمِّ الإسلام مذهب اليهود والنصارى ديناً جديداً أو دينا سماوياً كما ذهب إليه الكاتب ، فالدين عند الله واحد هو الإسلام فقط ، دين جميع الأنبياء والرسل ، ودين موسى وعيسى عليهم السلام جميعاً . إنما سماهم الإسلام" أهل الكتاب "، وبيَّن حقوقهم وواجباتهم بالتفصيل على أعلى درجة من العدالة والحق ، لأنه تشريع من عند الله ، وليس من عند البشر . فليس هنالك أديان سماوية أبداً إلا دين واحد هو الإسلام . وهل يعقل أن يبعث الله لخلقه أدياناً مختلفة يتصارع الناس عليها صراعاً قد يذهب بالإيمان ، والله يريد من جميع خلقه أن يدينوا بدين واحد ، وأن يؤمنوا برب واحد وإله واحد إيماناً واحداً !
لقد عرض نيكسون في كتابه " الفرصة السانحة " موقف أمريكا من الإسلام والحركات الإسلامية . وقسَّم المسلمين إلى ثلاث فئات : الأصوليون والرجعيون والتقدميون . وقال : " يجب علينا أن نعاون التقدميين في العالم العربي . ففي ذلك مصلحتهم ومصلحتنا ، فهم محتاجون لأن يعطوا أنصارهم أيديولوجيَّة بديلاً لأيديولوجية الأصوليين المتطرفين وانغلاق الرجعيين " . إن مفتاح السياسة الأمريكية يكمن في التعاون الاستراتيجي مع المسلمين التقدميّين فقط " .
نودُّ أن نقول لنكسون إن هذا التقسيم لا يعرفه الإسلام ، إن الإسلام يقسم الناس بنصِّ كتاب الله إلى : مؤمنين ، منافقين ، أهل كتاب ، كافرين . ولكل قسم من هؤلاء تعريفهم المفصَّل . وإذا كان من يسميهم بالتقدميين يحتاجون إلى أيديولوجية بديلاً عن أيديولوجية الأصوليين والرجعيين ، فلا بدَّ أن نوضح له أن للمسلمين المؤمنين جميعاً أيديولوجيَّة واحدة هي الوحيُ المنزَّل على رسول الله محمد بلسان عربي مبين ، فكراً وتشريعاً ونهجاً متكاملاً للحياة كلها ، لكل عصر ومكان .
ولكننا هنا نتساءل هل ما نجده في واقع المسلمين اليوم من اضطراب وتناقض وانحراف في الفكر والفتوى والمواقف هو بعض آثار تلك الأيديولوجية التي توفِّرها أمريكا للمعتدلين من المسلمين ؟!
لسنا بحاجة إلى ديمقراطية أمريكا ولا إلى علمانيتها المتناقضة ، فحسبنا ما أنعم الله علينا من دين كامل ونعمة تامة . ولكننا لا نستطيع أن ننكر أن واقع المسلمين اليوم لا يمثّل الإسلام الذي جاء به محمد وحياً من عند الله . فواجبنا إذن أن ننهض لالتزام ما يأتي وحياً من عند الله ، بدلا مما يأتي " وحياً" من عند أمريكا .(/3)
ولا ننكر أن المسلمين اليوم متخلفون في واقعهم عن متطلبات الإسلام . فلم ينهضوا لبناء نظام إداريّ ربَّانيِّ نابع من منهاج الله والواقع الذي يُردُّ إلى منهاج الله ، ولم ينهضوا لبناء نظام اقتصادي إسلامي يطبقون فيه شرع الله ، بل اتبعوا النظام الرأسمالي بقضه وقضيضه ، ولم يلتزموا النهج الربَّاني في التربية والبناء للإنسان ، بل غرَّتهم مناهج الغرب وأصبح لها دعاة من المسلمين . لقد عالجنا تخلفنا وضعفنا باستجداء الغرب ومناهجه وأيديولوجيته في شتى ميادين الحياة ، حتى في الكلمة والأدب والشعر !
إن الباب مفتوح دائماً لمن يريد أن يبدع في مناهج إيمانية في شتى ميادين الحياة ! فهل من مدَّكر ؟!
ولن يجد اليهود ولا النصارى ولا غيرهم عدالة ورحمة أصدق مما وجدوه في ظلِّ الإسلام وحكمه ، وإن كانوا قابلوا ذلك بغير ما لقوه ! فهل قابلوا الإحسان بالإحسان ؟!
ونودُّ من المسلمين أن يبحثوا عن العدالة والمساواة والإنسانية مع إخوانهم المسلمين الذين أمر الله أن يرتبطوا جميعاً بأخوّة الإيمان عاطفة ومسؤوليات وحقوقاً ، مثلما ينادون بالعدالة مع الآخر ! وسوف يُحاسَب المسلمون بين يدي الله عن مدى وفائهم بأخوة الإيمان فيما بينهم ، وسوف يحاسبون أيضاً عن مدى وفائهم بالقسط والعدالة مع غير المسلمين على أساس من شرع الله .(/4)
لو أقسم على الله لأبره
إن لله عباداً اختصهم تبارك وتعالى بمنزلة وفضيلة ليست لغيرهم من الناس، ومن هؤلاء من أخبر عنه صلى الله عليه و سلم بقوله: »رب أشعث مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره« ([1]).وقال أيضاً صلى الله عليه و سلم :» ألا أخبركم بأهل الجنة؟ كل ضعيف متضعف لو أقسم على الله لأبره. ألا أخبركم بأهل النار؟ كل جواظ زنيم متكبر«.([2]).
وأعلى النبي صلى الله عليه و سلم منزلة الضعفاء وشأنهم فقال لسعد بن أبي وقاص –رضي الله عنه- حين رأى أن له فضلاً على من دونه: »هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم؟«([3])، وقال صلى الله عليه و سلم في حديث آخر:»أبغوني ضعفاءكم؛ فإنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم« ([4]). وقال صلى الله عليه و سلم :»طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يشفع « ([5]).
وتفاضل الناس إنما هو بمعيار واحد وميزان واحد هو التقوى، فأكرمهم عند الله أتقاهم.
هذه الحقائق البدهية والمسلمات التي يعيها كل مسلم مهما كانت ثقافته وعلمه قد تغيب عن بعضنا بفعل مؤثرات أخرى.
ومن ذلك أن أرباب الأعمال، بل والدعاة إلى الله يعتنون بفئات معينة من الناس، فصاحب الذكاء، والرجل القيادي، وصاحب الشخصية الجذابة…. يجدون من التقدير والاعتبار لدى هؤلاء مالايجده غيرهم، ويبحثون عنهم ويعتنون بهم، لأنهم هم المؤهلون لتولي الأعمال والمسؤوليات، ويرى هؤلاء أن الرجل الصالح مهما بلغ من التقى والزهد والعبادة مالم يكن يحمل مواصفات القيادية فليس هو المؤهل لتولي المسؤولية.
وهذا أمر لانزاع فيه فقد قال تعالى على لسان ابنة شعيب ((إن خير من استأجرت القوي الأمين)).
وقال صلى الله عليه و سلم لأبي ذر –رضي الله عنه-: ياأباذر ، إني أراك ضعيفاً ، وإني أحب لك ما أحب لنفسي ، لاتأمرن على اثنين ، ولاتولين على مال يتيم " ومع ذلك قال عنه صلى الله عليه و سلم ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء من رجل أصدق لهجة من أبي ذر« ([6]).
وحين نفرق بين تأهيل شخص لتولي مسؤولية، أو الاعتناء بتربيته ورعايته وإعداده، وبين المحبة والولاء واعتقاد الفضيلة، نقف موقف الاعتدال في التعامل مع هذه القضية، ونضع النصوص الشرعية في موضعها.
كما لايسوغ أن يدعونا شعورنا بكون فلان أولى بهذه المسؤولية إلى التقليل من شأن الآخر، فضلاً عن أن ننظر بازدراء أو استخفاف لمن نعتقد أنا قد فضلنا عليه بالعقل والإدراك، فهذا مزلق خطير، وهو من باب غمط الناس وازدرائهم، ولن يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر.
بل والصحوة اليوم تحتاج لطائفة من الصالحين الصادقين الذين لايأبه لهم الناس، ولو لو لم يتولوا مسؤوليات وأعباء، فعلها أن تنصر وتوفق بدعائهم وصدقهم مع الله تعالى.
نسأل الله تبارك وتعالى أن يرزقنا البصيرة والفقه في الدين، وأن يجعلنا من عباده المتقين، إنه سميع مجيب،،،
--------------------------------------------------------------------------------
([1]) رواه مسلم (2622)
([2]) رواه البخاري (4918) ومسلم (2853)
([3]) رواه البخاري (2896)
([4]) رواه أحمد (21224) وأبو داود (2594) والترمذي (1702) والنسائي (3179)
([5]) رواه البخاري (2887)
([6]) رواه أحمد (6593) والترمذي (3802) وابن ماجه (156)(/1)
لو كان لنا خليفة حسن عبد الحميد*
لم يكن الغرب الفاجر ليتجرأ على عقائد المسلمين بهذه الصفاقة التي تعاملت بها الصحيفة الدنماركية في إساءتها لأفضل الخلق أجمعين لو كان للمسلمين خليفة واحد، مبايع من جماهير الأمة، يقيم الدين، ويسوس الدنيا، فيردع المارقين، ويؤدب المتطاولين على الإسلام، وأهله.
ولم يكن ليستطيع ساسة الغرب الكفرة أن يتشدقون بما لا يعون من معاني الحرية حينما يتعلق الأمر بالنيل من مقام من خُتمت به الرسالات السماوية، وصلى خلفه الأنبياء عليهم السلام؛ إذ سيحسبون حسابا لخليفة واحد، يأتمر بأمره أكثر من مليار مسلم على وجه البسيطة؛ كلهم يتسابق لطاعة أوامره، وتنفيذ توجيهاته؛ لأنها من طاعة الله تعالى؛ مهما كلفهم ذلك من جهد، أو مال.
والحقيقة التي تتأكد يوما بعد يوم أن الغرب الفاجر، الكافر يحمل حقدا دفينا لهذا الدين الخاتم، ولنبيه عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، وللمسلمين كافة، في كل زمان ومكان (قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر)، وأنه لا يفهم إلا لغة الأقوياء، وأن القوة لن تتيسر للمسلمين إلا بالعودة إلى دينهم عودة حقيقية؛ وليست وليدة انفعالات عاطفية طارئة.. ولن يتيسر ذلك في المجال السياسي إلا بمبايعة خليفة واحد للمسلمين، يشرف على استئناف الحياة الإسلامية في كافة المجالات: يقيم الحدود، ويسير الجيوش، ويسد الثغور، ويؤدب الكفرة، وينتصر لقيم الحق، ويحفظ الدين.
واستجابة شعوب الأمة المسلمة، وغضبها الشديد لعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت أكبر، وأبلغ، وأشد من تعامل حكومات العالم الإسلامي تجاه هذا الأمر الخطير؛ إذ خرجت الجماهير المسلمة في كافة بلاد العالم الإسلامي منتصرة لنبيها عليه أفضل الصلاة، وأتم التسليم، وكان ينبغي لحكومات العالم الإسلامي أن تقف موقفا مشرفا إزاء هذا الحدث الجلل.. وهي لن تستطيع تسيير الجيوش، وغزو الدنمارك التي تضم هذا الشقي وأمثاله؛ لكنها كانت تستطيع وقف كافة أنواع التعامل مع هذه البلدة الشقية بأمثال هذا الوغد.. والغرب تؤثر فيه القرارات الاقتصادية؛ لأنهم حريصون على الحياة الدنيا (ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا يود أحدهم لو يعمر ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر)، والمقاطعة الاقتصادية من كافة البلدان الإسلامية تجعل حياتهم التي يحيونها كالأنعام شاقة، وضنكى؛ فلا يعودون يتطاولون مرة أخرى بعد أن يذوقوا آلام الكساد، والإفلاس، والمسغبة، وتوجيه رسالة من هذا النوع لا يكلف الحكومات الإسلامية حربا، ولا يفقدها أرضا؛ فما أسهل الثمن!، وما أبخل الحكومات!.
غير أن التعويل أكثر - في هذه الظروف التي تعيشها الأمة الإسلامية من بعد الله تعالى - على الشعوب المسلمة؛ التي انتفضت لنبيها عليه أفضل الصلاة، وأتم التسليم.. والمأمول أن تتواصل هذه الانتفاضات؛ لتكون مناسبة لعودة الأمة إلى دينها في مختلف المجالات عودا حميدا؛ ولا ترتبط بالظرف الراهن الذي سرعان ما يُنسى بعد تقادم الأيام.. وأن تسعى هذه الجماهير لاستكمال عناصر قوتها؛ بتنصيب الخليفة إماما واحدا لكل المسلمين، والطريق إلى ذلك ميسور إن شاء الله تعالى لو عزمت الأمة على ذلك؛ فالأمة المسلمة الأصل فيها أن يحكمها خليفة مسلم واحد، يطيع الله تعالى؛ فتطيعه الأمة.(/1)
لواء الحمد
أديب إبراهيم الدباغ
لقد أُخْتُصُّ نبينا عليه أفضل الصلاة والسلام من بين الأنبياء عليهم السلام برفع لواء الحمد فوق هامة الإنسانية وبتفتيق ألسنة المؤمنين بشتَّى أنواع المحامد، وبتفجير أفئدتهم بينابيع الشكر والامتنان لله الجواد المنّان، وكان نجاحه في ذلك نجاحاً لا مثيل له في تاريخ الأنبياء، ويكفي أن نعلم بأنَّهُ صلَّى عليه الله وسلم "علّم المؤمنين كيف يحمدون الله على المكاره التي تنزل بهم، لأن المكاره حين تنزل بالمؤمن بقدر مقدور لحكمة مستترة تحت ستار الأسباب، فما هي إلاّ
تنبيه أو تذكير أو تعليم أو تأديب لا ينبغي أن يتضجّر أو يجأر بالشكوى منها بل عليه أن يسارع إلى الحمد قائلاً : "الحمد لله الذي لا يُحمْدُ على مكروهٍ سواه".
فالحمد الصادق هو مفتاح الرحمة، حتى أنّ المحامد التي يلهمها له الله يوم القيامة وهو ساجد تحت العرش بخشوع ورهبة ستكون المفتاح الذي تُفْتحُ به أبواب رحمة الله، والشافعة عند الله لقبول شفاعته في أمته في ذلك الموقف الرهيب والعصيب، إنَّ نبياً يرقى إلى هذا المدى الذي لا يطاله مدى في عبوديته لله، ويسمو هذا السمُوَ في محامده، فيرى في المحن والمكاره التي تنزل به مِنَّةً توجبُ الحمد جدير بأن يحمل لواء الحمد في هذا العالم، وأنْ يمضي ملتقطاً محامد الأرض من أفواه نباتها وحيوانها، وإنسها وجنِّها ليرفع إلى رب العالمين محامدها بلسانه الشريف"[1].
وحول هذه الذات المحمدية الأحمدية صلوات الله وسلامه عليه. يدير "النورسي" مناجاته وكما يأتي:
"اللهمَّ صلِّ على محمد بحر أنوارك، ومعدن أسرارك، وشمس هدايتك، وعين عنايتك، ولسان حجّتكَ، ومليك صنع قدرتك، ومثال محبتك، وتمثال رحمتك، واحبّ الخلق إليك، وعلى سائر الأنبياء و المرسلين، وعلى آل كلٍ وصحبِ كلٍ أجمعين، وعلى ملائكتك المقربين، وعلى عبادك الصالحين من أهل السموات والأرضين، برحمتك يا ارحم الراحمين.
سبحانك يا مَن يُسبح بحمدك هذا العالم بلسان محمد عليه افضل صلواتك وأتم تسليماتك.
سبحانك يا من تسبح لك الدنيا بآثار محمد عليه أنمى بركاتك.
سبحانك يا من تسبح بحمدك الارض ساجدةً تحت عرش عظمتك بلسان محمدها عليه أزكى تحياتك.
سبحانك يا من يُسبح لك المؤمنون والمؤمنات بلسان محمدهم عليه صلواتك أبداً سرمدا.
سبحانك أسبّحك بلسان حبيبك محمد عليه اكمل صلاتك واجمل سلامك، فتقبل مني برحمتك كما تقبلته منه" [2].
وعلى لسان رسولنا المصطفى صلى الله عليه وسلم يجري "النورسي" المناجاة الآتية نيابة عن المسلمين جميعاً فيقول مخاطباً رفيقه في إحدى سياحاته الإيمانية:
"هيا بنا يا صاحبي لنذهب معاً إلى تلك الجزيرة، حيث تضم جمعاً غفيراً من الناس. فجميع أشراف المملكة مجتمعون فيها.. انظر فها هو ذا مبعوث كريم للسلطان متقلّد اعظم الأوسمة وأعلاها يرتجل خطبة يطلب فيها من مليكه الرؤوف أموراً، وجميع الذين معه يوافقونه ويصدّقونه ويطلبون ما يطلبه.
أنصت لما يقول حبيب الملك العظيم، انه يدعو بأدبٍ جم وتضرّع ويقول:
"يا من اسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة، يا سلطاننا، أرنا منابع وأصولَ ما أريتَه لنا من نماذج وظلال.. خذ بنا إلى مقر سلطنتك ولا تهلكنا بالضياع في هذه الفلاة.. أقبلنا وارفعنا إلى ديوان حضورك.. ارحمنا.. أطعمنا هناك لذائذ ما أذقتنا إياه هنا، ولا تعذبنا بألم التنائي والطرد عنك.. فهاهم أولاء رعيتك المشتاقون الشاكرون المطيعون لك، لا تتركهم تائهين ضائعين، ولا تفنِهم بموت لا رجعة بعده" [3]..
---------------
[1] أنظر البعد الحسي في الإسراء والمعراج" لكاتب هذه السطور ص36
[2] المثنوي العربي النوري ص 387
[3] الكلمات ص 52(/1)
لوحة من صفد
بقلم الدكتورعدنان علي رضا النحوي
يَا خَالِ رَقَّ هَوايَ بيْنَ إِيَادِ
وَرَوَائِعِ الأَلحانِ و الإِنْشَادِ
نَغَمٌ مِنَ الشَّهَباءِ هَزَّ جَوَانِحي
هَزَّاً وَحَرَّكَ مُقْلْتي وَفُؤَادِي
ذِكْرَى مِنَ الأَمْسِ القَرِيب وَحَاضِرِي
كَالطَّيْرِ صَفَّقَ في رُبَىً وَنِجادِ
أوْ كالنَّدَى وَيُطِلُّ صُبْحٌ مُشْرِقٌ
أوْ كالنَّسِيمِ وَخَفْقَةِ الأَكْبَادِ
مَا أمْسِ إِلاَّ رَبْوَةٌ وَمَلاعِبٌ
تَخْتَالُ في مُتَمَوِّجِ الأَبْرَادِ
يَغْفُو على " كَنْعَانَ "(1) حُلْمُ صَبَابَتي
كالطِّفْلِ في أُرْجُوحَةٍ وَتَهادِي
يَصْحُو على البَرْقُوقِ (2) في جَنَبَاتِهِ
فَيَلُمُّهُ وَيَلُمُّ بَعْضَ الزَّادِ
مِنْ عُشْبَةٍ خَضْراءَ تُلْقي دُونَه
بُسُطاً مُنَمَّقَةً وَطِيبَ وسَادِ
" العِلْتُ " (3) " وَالعَكُّوبُ " بَيْنَ صُخُوِرِه
وَالزَّهْرُ بَيْنَ تِلاعِهِ وَوهَادِ
وَالتِّينُ وَالزَّيْتُونُ تَحْت ظِلاَلِه
نَغْدُو وَنَمْرَحُ في هَنَاءٍ بَادِي
وَعلى غُصُون التُّوتِ نَبْني عُشَّنا
وَنُعِيدُ زَقْزَقَةَ الهَزَارِ الشَّادِي
يَا زَهْرَة َ اللَّوْزِ الشَّهِيِّ وَطَلْعَةَ النْـ
ـنَورِ البَهِيِّ وَغَرْسَةَ الأَجْدَادِ
يَا غَرْسَةَ العِنَّابِ مَدَّتْ كَفَّهَا الـ
ـمَخْضُوبَ مِنْ فَرْعٍ لَها مَيَّادِ
كالغَادَةِ الحَسْنَاءِ خَلْفَ خِبَائِهَا
دَفَعَتْ بَنَانَاً لِلْمُحِبِّ الصَّادِي
يَا أُمْسِيَاتٍ في " الرُّجُومِ (4) كَأَنَّها
عِطْرُ الشَّبابِ وَبَهْجَةُ الأَعيَادِ
وَ " البَحْرةُ الزَّرْقَاءُ (5) دُونَ شِعَابِهِ
نَزَلَتْ فَأَنْزَلَها سَوَادَ فُؤَادِ
نَهَدَتْ بِجَنْبَيْهَا الرُّبَى وَتَوثَّبَتْ
نَهدَيْنِ مُضْطرِبَيْنِ فَوْقَ مِهَادِ
أَهْدَى لَها اللَّيْلُ الشَّجِيُّ غِلاَلَةً
سَمْرَاء تَخْفِقُ في ظِلاَلِ سَوَادِ
وَشَّتْ حَوَاشِيَهَا النُّجُومُ لآلِئَاً
تَطْوِي وَ تَنْشُرُ مِنْ بَريقٍ هَادِي
حَتَّى أَزَاحَ اللَّيْلَ صَبٌّ وَانْثَنَى
يَنْسَاب مِنْهُ نُورُهُ المُتَهَادِي
نَزَعَ الغِلالَةَ وَاسْتَقَرَّ بصَدْرِهَا
وَهْجٌ يُبَدِّلُ وَجْدَهُ بِودَادِ
وَالبَدْرُ بَيْنَ النَّاهِدَيْنِ كَمَاسَةٍ
مَوْصُولَةٍ في جِيدِهَا بِقِلاَدِ
* * * *
وَالجَدْوَلُ الرَّقْرَاقُ وَالرُّمَانُ وَالْـ
ـكَرْمُ النَّديُّ على ضِفَافِ الوَادِي
تَخْتَالُ في أَعْطَافِهِ الغَادَاتُ وَالْـ
أنسَامُ بَيْنَ رَوَائِحٍ وَغَوَادِي
وَالطَّيْرُ بَيْنَ غُصُونِهِ أَنْشُودَةٌ
وَالماءُ رَجَّعَ خَفْقَةَ الأَعْوَادِ
أَيْنَ " الصَّوَاوِينُ " الَّتي أَلْقَيْتُ في
سَاحَاتِها كُراسَتِي وَعَتادِي
مَعْ صِبْيَةٍ أَرْخَى الزَّمَانُ عِنَانَهُ
لَهُمُو فَضَجُّوا في رَكَائِبِ حَادِي
وَعَلَى مَدَارِجِهَا جَلْسْنَا صِبْيَةً
نُمْليِ الحرُوفَ بِرِيشَةٍ وَمِدَادِ
وَبِلَثْغَةٍ نَشْوَى وَسحْرِ بَشَاشَةٍ
كالنَّوْرِ بَيْن شَقَائِقِ الأَنْجَادِ
ضَاقَتْ بِنَا حُجَرُ الدُّرُوسِ وَصَفَّقَت
عِنْدَ السَّرَاحِ مَلاَعِبٌ وَنَوَادِي
عُلِّمْتُ فِيهَا الحَرْفَ آيَاً مُحْكَمَاً
فَمَلَكْتُ مِنْ رَحْلي زِمَامَ قِيَادِي
* * * *
أَيْنَ المَنَازِلُ رَدَّدتْ في سَاحِهَا
بِيضُ الحَمَائِمِ أُغْنيَاتِ بِلاَدي
أَيْنَ العَصَافِيُر الَّتي نَزَلَتْ بهَا
عُشّاً لِتَأمَنَ طَلْقَةَ الصَّيَّادِ
وَالحْبُّ مَنْثُورٌ عَلى أَعْطَافِهَا
وَالزَّهْرُ فَوَّاحُ الشَّذَا مُتَهادِي
* * * *
يَا مَنْقَلاً لِلْنَّارِ حَلَّقَ حَوْلَهُ
أَهْلِي وَمَدُّوا فوْقَهُ بِأَيَادِي
يُعْطِيكَ مِنْ خَلَلِ الرَّمَادِ عَطَاءَهُ
كالشَّمْسِ يَحْجُبُها سَحَابٌ غَادِي
وَالرَّكْوَةُ الصَّفْرَاءُ مِنْ أَنْفَاسِهَا
سَمَرُ الخَليِّ وَنَشْوَةُ السُّهَّادِ
يَنْسَابُ مِنْ رَشَفَاتِهِ الفِنْجَانُ في
أُقْصُوصَةِ السُّمَّارِ وَالعُوَّادِ
* * * *
صَفَدٌ ! عَروسَ الدَّهْرْ ! دُونَكِ فَانْظُري
هَذِي وُفُودُ حَوَاضِرٍ وَبَوَادِي
تَسْعَى إلَيْكِ مِنْ الشآم شَوَامِخٌ
وَجِبَالُ لُبْنَانٍ عَلى مِيْعَادِ
وَالسَّهْلُ وَالنَّهْرُ البَديُع وَخُضْرَةٌ
أَلِقَتْ كَأسْوِرَةٍ لَها بِزِنَادِ
وَالجَرْمَقُ الخَفَّاقُ لُؤَلُؤةٌ على
تَاجٍ ودُرَّةِ قَدِّكِ المَيَّادِ
يَا خَفْقَةَ الأَبْنَاءِ ! يَا دَفْعَ الحَيَا
يَا مُهْجَةَ الآبَاءِ وَ الأَحْفَادِ
صَفَدٌ ! وأَنْتِ معَ العُلاَ في موْعِدٍ
مَوْصُولَةُ الأَمْجَادِ بالأَمْجادِ
* * * *
تَتَلَفَّتِينَ وَبَيْنَ عَيْنَيْكِ الهَوى
لِمَرابِعٍ مَمْدُودَةٍ وَوِهَادِ
فَالْقي دِيَارَ الشَّامِ عْطفَةَ جِيِدِهَا
نُعْمَى السَّمَاءِ وَلَفْتة الآبَادِ
فَرُبَى الخَلِيلِ يُطِلُّ في جَنَبَاتِهَا
وَحْيٌ يُوَشِّيهَا وَرُوحٌ هَادِي
أَهْدَى لَها الرّحْمنُ طِيبَ خَلِيِلهِ
نَفْحَ الحنِيفَة عَاطِرَ الإِمْدَادِ
وَالمسْجِدُ الأَقْصى عَلى سَاحَاتِهِ
وُلِدَ الزَّمَانُ فَعَزَّ بِاْلمِيلاَدِ(/1)
جُمِعَتْ بِسَاحَتِهِ النُّبُوَّةُ والتَقَتْ
بِالْغَيْبِ فِيِه مَعَالمُ الأَشْهادِ
أَلقَتْ لأَحْمَدَ بالإمَامَةِ فَارْتَقَى
سَبْعاً بِوَمْضَةِ بَارِقٍ صَعَّادِ
فَإذَا رُبَاكِ جَميعُهَا مَجْلُوَّةٌ
بِالنُّورِ في عُرْسٍ وَفي أَعْيَادِ
أُهْدِيتِ للإِسْلامِ مُلْكاً خَالِصَاً
يَلْقَاكِ في بِشْرٍ وَفي إسْعَادِ
مَنْ ذَا يُنَازِعُهُ وَمَهْرُكِ في الوَرَى
غَالٍ وَدُونَكِ حَوْمَةُ الآسَادِ
تَسْعَى إِلَيْكِ على الزَّمَانِ كَتَائِبُ
نَفَحَتْ على عِطْفَيْكِ عِطْرَ جِهَادِ
وَفَوَارِسٌ لَمَعَ القَنَا بِيَمِينِها
فَانْشَقَّ لَيْلُكِ عَنْ جَمَالٍ بَادي
وَجُنُودُ أَحْمَدَ أَرْعَدَتْ عَطَّافَةً
تَخْتَالُ بَيْنَ طَوَارِفٍ وَتِلاَدِ
وَتَصُوغُ مِنْ مُهَجَاتِهَا لَكِ خَاتَما
مَهْرَ الهَوَى وَقَلاَئدَ الأَجْيَادِ
دَفَعَتْ على كَفَّيْكِ أَغْلَى جَوْهَرٍ
فَنَثَرْتِهِ في زَاهِرِ الأَبْرَادِ
وَعَلى جَبِيِنكِ مِنْ أَسَاكِ مُلاَءَةٌ
فَرَفَعْتِهَا لِلْفَارِسِ الرَّعَادِ
وتَعَطَّرَتْ دُنْيَا المَرُوءاتِ الَّتي
أَغْنَيْتِهَا بمكارِمٍ وَأَيَادِ
لِتَرُدَّ عَنْكِ أَذَى العُدَاةِ وَتَجْتَلي
مِنْ نَاظِرَيْكِ رِضَىً وصِدْقَ وِدَادِ
وَتَرُدَّ مِنْ دَنَسِ اليَهُودِ وَتَعْتَلي
بِالَطُّهْرِ وَالإيَمانِ أَيَّ نِجَادِ
وَتَعُودُ آيَاتُ الكِتَابِ وَنُورُهَا
أَلَقَ الرُّبَىَ وَنَضَارَةَ العُبَّادِ
* * * *
1392هـ
10/2/1972م ... ... ...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
· ديوان الأرض المباركة
(1) كنعان : جبل يطل على جبال سوريا ولبنان والأردن ، ويشرف على سهل الحولة وبحيرة الحولة وبحيرة طبريا .
(2) البرقوُق : زهر أحمر .
(3) العلت والعكوب : نباتان يستخدمان للطبخ والطعام مشهوران في صفد .
(4) الرجوم : مكان تقوم فيه نزهة الشباب وقريباً منه احتفالات الإعياد . ويطل على بحيرة طبريا .
(5) البحرة الزرقاء : بحيرة طبريا .(/2)
لولاء والبراء
من خصائص المجتمع المسلم أنه مجتمع يقوم على عقيدة الولاء والبراء ، الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين ، والبراء من كل من حادّ الله ورسوله واتبع غير سبيل المؤمنين .
وهاتان الخاصيَّتان للمجتمع المسلم هما من أهم الروابط التي تجعل من ذلك المجتمع مجتمعا مترابطاً متماسكاً ، تسوده روابط المحبة والنصرة ، التي تعمل مجتمعة على تحقيق رسالة الإسلام في الأرض ، تلك الرسالة التي تقوم على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ودعوة الناس إلى الحق وإلى طريق مستقيم .
والمتأمل في القرآن الكريم يقف على آيات كثيرة تؤيد هذا المعنى وتؤكده ، فنحن نقرأ في الولاء ، قوله تعالى : { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } (التوبة:71 ) ونقرأ أيضاً قوله تعالى: { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ } (المائدة:55) ،ونقرأ في البراء قوله : { لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ } (آل عمران:28) ، ونقرأ كذلك قوله : { لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخر يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمان وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنهارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُون }َ (المجادلة:22) . إلى غير ذلك من الآيات الآمرة بالولاء للمؤمنين والبراء من الكافرين .
ويمكن تلخيص صور ولاء المسلم لأخيه المسلم في صورتين:
الأولى: ولاء الود والمحبة ، وهذا يعني أن يحمل المسلم لأخيه المسلم كل حب وتقدير، فلا يكيد له ولا يعتدي عليه . بل يمنعه من كل ما يمنع منه نفسه، ويدفع عنه كل سوء يراد له ، ويحب له من الخير ما يحب لنفسه ، قال صلى الله عليه وسلم : ( مثل المؤمنين في توادهم ، وتراحمهم ، وتعاطفهم ،مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ) رواه مسلم .
الثانية: ولاء النصرة والتأييد ، وذلك في حال ما إذا وقع على المسلم ظلم أو حيف ، فإن فريضة الولاء تقتضي من المسلم أن يقف إلى جانب أخيه المسلم ، يدفع عنه الظلم ، ويزيل عنه الطغيان، فعن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( انصر أخاك ظالما أو مظلوما . قالوا يا رسول الله : هذا ننصره مظلوما ، فكيف ننصره ظالما ؟ قال : تأخذ فوق يديه ) أي تمنعه من الظلم . رواه البخاري ، فبهذا الولاء يورث الله عز وجل المجتمع المسلم حماية ذاتية ، تحول دون نشوب العدوات بين أفراده ، وتدفعهم جميعا للدفاع عن حرماتهم ، وعوراتهم .
هذا من جهة علاقة الأمة بعضها ببعض . أما من جهة علاقة الأمة أو المجتمع المسلم بغيره من المجتمعات الكافرة ، فقد أوجب الله عز وجل على الأمة واجب البراء من الكفر وأهله ، وذلك صيانة لوحدة الأمة الثقافية والسياسية والاجتماعية ، وجعل سبحانه موالاة الكفار خروجا عن الملة وإعراضاً عن سبيل المؤمنين ، قال تعالى : { لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ } ( آل عمران:28) فكأنه بموالاته للكافرين يكون قد قطع كل الأواصر والعلائق بينه وبين الله ، فليس من الله في شيء .
وتحريم الإسلام لكل أشكال التبعية للكافرين , لا يعني حرمة الاستفادة من خبراتهم وتجاربهم ، كلا ، فالحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أولى الناس بها ، ولكن المقصود والمطلوب أن تبقى للمسلم استقلاليته التامة ، فلا يخضع لأحد ، ولا يكون ولاؤه إلا لله ولرسوله وللمؤمنين .
ومن أخطر صور الموالاة التي يحرمها الإسلام ويقضي على صاحبها بالردة والكفر ما يلي:
1- ولاء الود والمحبة للكافرين:(/1)
فقد نفى الله عز وجل وجود الإيمان عن كل من وادَّ الكافرين على كفرهم قال تعالى: { لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخر يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } (المجادلة:22) ، إلا أن هذه المفاصلة والمفارقة لا تمنع من البر بالكافرين والإحسان إليهم -ما لم يكونوا محاربين - قال تعالى: { لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } (الممتحنة:8 ) .
2- ولاء النصرة والتأييد للكافرين على المسلمين:
ذلك أن الإسلام لا يقبل أن يقف المسلم في خندق واحد مع الكافر ضد إخوانه المسلمين يقتلهم ، ويشردهم ، إرضاء للكافر وانصياعا لرغباته ، قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُبِيناً } (النساء:144) وقال أيضاً : { وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فَاسِقُونَ } (المائدة:81 ) .
فهاتان الفريضتان - الولاء والبراء - تجعلان من المجتمع المسلم مجتمعا مترابطا متعاضدا يؤدي رسالة الله ويسعى في تحقيقها ، وهو في الوقت نفسه مجتمع مستقل عن الكفار كاره لهم ، لا يخضع لهم بتبعية ، ولا يدين لهم بسلطان ، من غير أن يمنعه ذلك من الإحسان إليهم والبر بهم - ما داموا غير محاربين لنا - .
فبهاتين الفريضتين تتعاضد الروابط الإيمانية بين المسلمين ، وتتحدد الروابط بين المؤمنين والكافرين ، فما أحوج الأمة اليوم إلى تفعيل هاتين الفريضتين ، والعمل بهما حتى تتحقق لنا سيادتنا واخوتنا ، فلا ندين بالولاء إلا لله ولرسوله وللمؤمنين ، ولا نعادي إلا من حادَّ الله ورسوله وتنكب سبيل المؤمنين ، نسأل الله العظيم أن يعز دينه وأن يعلي كلمته ، والله على كل شيء قدير . والحمد لله رب العالمين .(/2)
ليس الإيمان بالتمني
الحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنا، مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هادِيَ لَهُ، وأشْهَدُ أنْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ، وأشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ?يا أيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها، وَبَثَّ مِنْهُما رِجَالاً كَثِيراً وَنِساءً، واتَّقُوا اللَّهَ الذي تَساءَلُونَ بِهِ والأرْحامَ إنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً?[ النساء:1]. ?يا أيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وأَنْتُمْ مُسْلِمُون? [آل عمران:102]. ? يا أيُّهَا الَّذين آمَنوا اتَّقُوا اللَّه وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أعْمالَكُمْ، ويَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ، وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزَاً عَظِيماً? [الأحزاب:71].
من الكلمات الخالدة التي تنسب إلى الحسن البصري رحمه الله وهو من سادات التابعين قوله: (ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي ولكنه ما وقر في القلب وصدقه العمل)، نعم ليس الانتساب إلى الإيمان والإسلام مجرد ادعاء، وإنما يتفاوت الناس ويختلفون في العمل والتطبيق والانقياد في الباطن والظاهر لله ورسوله وتنفيذ حكم الله ورسوله في كل شيء في الكبير والصغير والحقير والعظيم، لا يثبت الإيمان ولا يستقر في قلب عبد حتى ينفذ حكم الله ورسوله في الدماء والأعراض والأموال وفي كل شيء.. أما إذا أعرض الإنسان عن حكم الله ورسوله وتنصل منه وتهرب أو تلكأ، فهو دعي في إيمانه كاذب في انتسابه إلى الإسلام وإلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - وإلى أمته.. ولقد بين الله هذا الأمر وأظهره غاية البيان والإظهار، فقال جل وعلا مقسماً قسماً عظيماً في قوله الكريم: ? فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً ?[ النساء:65]. إن التسليم لحكم الله وحكم رسوله والمتمثل في كتاب الله وسنة رسول الله والقبول به مع الارتياح وعدم الحرج هو الترجمة الحية لصدق الإيمان وحقيقة الإسلام.. غير أن طائفة من الناس تحسب الإيمان مجرد دعوى وانتساب ثم لا يتحاكمون إلى شرع الله إلا إذا كانت لهم مصلحة في ذلك. تأكدوا بأن الحق في جانبهم، أما إذا شعروا بأن الحق عليهم وأنهم سيلزمون به ، فإنهم يتهربون ويلفون ويدورون وفي هؤلاء وأمثالهم يقول الله تعالى مبيناً حقيقتهم وكاشفاً نفاقهم: ? وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ?[النور:47-50].
هذا الفريق الذي يدعي الإيمان ، ثم يسلك هذا المسلك الملتوي، إنما هو نموذج للمنافقين في كل زمان ومكان.
المنافقون الذين لا يجرؤون على الجهر بإعلان كفرهم خوفاً من الحكومات الإسلامية ـ إن وجدت ـ أو خوفاً من الشعوب المسلمة التي تغضب لربها وتتأثر لحرمات الله إذا انتهكت، فيضطر المنافقون حينئذ إلى التظاهر بالإسلام. ولكن أمرهم ينكشف حين يدعون إلى تحكيم شريعة الله ، الاحتكام إليها ، بإبائهم وإعراضهم وانتحالهم المعاذير.. واختلاقهم الأكاذيب، فراراً وهرباً من تنفيذ حكم الله ورسوله وقد وضح الله أمرهم في سورة النساء حيث قال سبحانه: ? وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً ?[النساء:61]. يا سبحان الله أين دعوى الإيمان وأين الانتساب إلى الإسلام. إن النفاق يأبى إلا أن يكشف نفسه بموقف المنافقين وسلوكياتهم من الإعراض والصدود وعدم التحاكم إلى الله والرسول.(/1)
إن الرضى بحكم الله ورسوله هو دليل الإيمان الصادق، وهو الترجمة العملية لاستقرار الإيمان في القلب، وإن الرضى بحكم الله ورسوله هو الأدب الواجب مع الله ورسوله، وما يصح ولا يستقيم أن يدعي شخص أنه يؤمن بالله ورسوله ثم يرفض حكم الله وحكم رسوله . لا يفعل ذلك إلا المنافق معلوم النفاق الذي لم يُشرق قلبه بنور الإيمان، ولم تزك نفسه وتتطهر من الكفر والعصيان، ولهذا نجد أسئلة التعجب والاستنكار لأدعياء الإيمان الذين يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت ويرفضون حكم الله ورسوله ولا ينقادون إلا إذا كان لهم الحق أو لهم مصلحة، فيقول سبحانه: ? أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ ... ?[النور:50]، فالسؤال الأول يثبت لهم علة المرض الذي ينحرف بالإنسان فلا يرى الأشياء على حقيقتها والمنافقون يرون الحق باطلاً والمعروف منكراً، والاستقامة جموداً وتخلفاً.. والتمسك بالدين إرهاباً وتطرفاً.
والسؤال الثاني للتعجب (أم ارتابوا؟) هل يشكون في حكم الله وهم يزعمون أنهم مؤمنون، هل يشكون في صلاحيته لإقامة العدل، أم يشكون في مجيئه من عند الله ، على أية حال فهذا ليس طريق الإيمان ولا هو من صفات المؤمنين .
والسؤال الثالث: للاستنكار والتعجب من أمرهم الغريب ? ... أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ ... ?[النور:50] وإنه لعجيب أن يقوم مثل هذا الخوف في نفس إنسان، فالله خالق الجميع وهو رب العالمين، فكيف يحيف على أحد من خلقه لحساب آخر من خلقه، تعالى الله عن ذلك وتقدس.
إن حكم الله هو الحكم الوحيد البراء من الظلم والحيف والميل لأن الله عز وجل أقام السماوات والأرض بالحق والعدل وأمر بإقامة العدل، وكل خلقه في شرعه وحكمه سواسية كأسنان المشط لا فضل لأحد على أحد إلا بالإيمان والتقوى. ولا يظلم سبحانه أحداً لمصلحة أحد ? وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ?[فصلت: 46]، وفي الحديث القدسي: (يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا).
إن الجور والظلم والهوى إنما يكون في أحكام البشر وأنظمتهم ودساتيرهم وقوانينهم حين يشرعون لأنفسهم أفراداً كانوا أم طبقات أم أحزاباً وتنظيمات أم دولة.
حين يسود فرد ويحكم فإنه يفصل القوانين والأنظمة على ميوله ورغباته، ويلحظ في التشريع حماية نفسه وحماية مصالحه وذويه، وكذلك حين تحكم طبقة أو حزب، أو دولة فإنها تعمل الفعل ذاته، فإذا قننت وشرعت فإنها تحتكر كل شيء الأموال والوظائف والإمكانات لصالحها وتجور على الآخرين، فيكون حزب أقوى من حزب ، وتكون أمة هي أربى من أمة أكثر مالاً وأتباعاً وسلاحاً وإعلاماً ووظائف ومنافع ومصالح، ويُحرم منها الآخرون، هكذا هم البشر حين يعيشون بعيداً عن دين الله وهديه.(/2)
فأما دين الله وشرعه فهو مبرأ من كل حيف وميل وشطط، إنما هي العدالة المطلقة، التي لا توجد في أي تشريع وضعي ولا توجد في أي حكم إلا في حكم الله. من أجل ذلك كان الذين لا يرتضون حكم الله ورسوله هم الظالمون، الذين لا يريدون للعدالة أن تستقر، ولا يحبون للحق أن يسود، فهم موقنون بأن حكم الله هو العدل المطلق، وهو الحق الذي لا ريب فيه أصلاً ولكن الظلم والطغيان يحملهم على مجانبة الحق والهروب منه وعدم الإذعان لحكم الله ورسوله وهذا آية النفاق وعلامة الشقاق والخذلان، وقد ذكر المفسرون أن رجلاً من اليهود كان له عند رجل من المسلمين حق ـ وكان هذا المسلم متظاهراً بالإسلام وهو من المنافقين فجحد اليهودي حقه وأكل ماله فقال اليهودي لذلك المنافق الذي يزعم أنه مسلم تعال نتحاكم إلى محمد ، فقال المنافق بل نتحاكم إلى كعب بن الأشرف وكان من رؤساء أهل الكفر وهو تاجر يهودي، فرفض اليهودي أن يحاكمه إلا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال له: أدعوك إلى نبيك محمد فتأبى الذهاب فخشي المنافق أن ينكشف أمره ويظهر نفاقه فذهب مع اليهودي مكرهاً، وبعد سماع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لليهودي وإقرار خصمه له قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لليهودي وحكم له على ذلك المنافق الذي يتظاهر بالإسلام، فلما خرجا من عند رسول الله لم يرض المنافق بحكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال له: تعال نتحاكم إلى عمر بن الخطاب، فأتيا عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال اليهودي: كان بيني وبين هذا الرجل خصومة ، فتحاكمنا إلى محمد فقضى لي عليه، فلم يرض بقضائه وزعم أن يخاصمني إليك، فقال عمر للمنافق، أكذلك هو الأمر؟ فقال: نعم، وظن المنافق أن عمر سيحترمه ويجله لأنه رضي قضاءه ـ فقال لهما عمر: مكانكما انتظراني قليلاً، فدخل بيته وأخذ سيفه ثم خرج فضرب رأس ذلك المنافق الذي يدعي الإسلام حتى قتله، ثم قال: هذا حكمي فيمن لم يرض بحكم الله ورسوله ، وفي هذه الحادثة نزلت آيات بينات تتلى إلى يوم القيامة ، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما يقول العلماء، ? أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً ?[النساء:60-61].
إن الله فرض على المؤمنين عند وقوع الاختلاف أو النزاع أن يحكموا كتابه وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - كما قال الله عز وجل: ? ... فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ?[النساء: 59].
أما أدعياء الإيمان من المنافقين فإنهم لا يرضون بحكم الله ورسوله حكماً فيما يعرض لهم من خلاف، وإنما يتحاكمون إلى غير دين الله وشرعه، إنهم يتحاكمون إلى طواغيتهم وأوليائهم ويحلونهم محل المعصوم - صلى الله عليه وسلم - وينزلونهم منزلته.
إن الذي لا ينفذ حكم الله عز وجل ويعمل على إلغائه يكون بذلك منافقاً معلوم النفاق، والذي يطالب بأن يستبدل بحكم الله حكم اليهود والنصارى وتنفيذ قوانينهم وأنظمتهم المخالفة للقرآن وللرسول - صلى الله عليه وسلم - ممن يفعل ذلك يكون قد مرق من الدين وخلع ربقة الإسلام.
والذين يعطلون أحكام الله وحدوده بحجة أنها لا تصلح لهذا الزمن أو أن اليهود والنصارى يلوموننا إن نحن نفذنا ، هؤلاء منافقون معلوموا النفاق، يخادعون الله والذين آمنوا ، حين ينتسبون إلى الإسلام، وهم ينخرون في الأمة من الداخل.
وفي بلادنا اليوم وفي كثير من بلاد الإسلام ثلاث طوائف تمثل وجهات ثلاث: طائفة تريد أن تتمسك بدينها تحيا وتموت عليه، وطائفة تريد أن تسوق البلاد والعباد إلى علمانية كافرة تُقصي الإسلام من واقع الحياة، وفق برنامج خبيث مدروس يلغي الإسلام كالإعلام فكل ما في الإعلام إلا القليل يحارب الإسلام ويقضي على قيمه وأخلاقه ومثله وكلكم يلحظ ذلك. هذا البرنامج العلماني يلغي الإسلام من التعليم والتربية ويطارد كل ما هو إسلامي بشكل أو بآخر، إما في المنهج وإما في المدارس أو بهما معاً. وهذا البرنامج العلماني يلغي الإسلام من السياسة والاقتصاد فيقطعون ما أمر الله به أن يوصل ، ويصلون أعداء الله من اليهود ويتوددون إليهم سراً وعلانية، ويبيحون الربا ويفرضون على الأمة الجرعات والضرائب والرسوم لتحطيمها وإفقارها.
هذا البرنامج العلماني يستخف بالدين ويهزأ ويسخر بعقيدة المسلمين تحت مسميات حرية الفكر والإبداع.(/3)
هذا البرنامج العلماني يشيع الفوضى والانحلال ويقضي على العفة والشرف ويقتل الغيرة والنخوة وينشر الرذائل في أوساط المسلمين. وغير ذلك كثير. وإن واجب الأمة أن تكون يقظة ترقب هؤلاء الذين ينفذون هذه المخططات الإجرامية، وأن نتعاون على مقاومتهم وجهادهم.
وحذار حذار من أن تكونوا من الصنف الثالث وهم الذين اتخذوا دينهم هزواً ولعباً، يأخذون من الإسلام ما يتناسب مع أهوائهم وأذواقهم وما يحقق لهم مصالحهم ويحافظ على مكانتهم في أمة الإسلام. أما إذا كان الإسلام يتطلب من أهله الصدق والجهاد والتضحية والفداء، فإنهم يتوارون ويقفون موقف المتفرج وكأن الأمر لا يعنيهم ولا يخصهم بل هم في كثير من الأحيان يتزلفون لإخوانهم الذين كفروا من سدنة العلمانية والصهيونية واليهودية ويقفون معهم في خندق واحد في حرب الإسلام والمسلمين وكأن هذا النوع من الناس هم المعنيون بقول الله عز وجل: ? وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ?[الحج:11].
اللهم حبب إلينا الإيمان واشرح صدورنا بالقرآن وارزقنا الهداية والإخلاص.. وباعد بيننا وبين الكفر والنفاق كما باعدت بين المشرق والمغرب، وتوفنا وأنت راض عنا ولا تفتنّا في ديننا، وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين.
راجعه: عبد الحميد أحمد مرشد
صحيح مسلم: باب تحريم الظلم :الحديث رقم: (2577) عن أبي ذر .(/4)
ليس من النصرة
سامي بن عبدالعزيز الماجد 1/1/1427
31/01/2006
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فإن مما يبعث السرور في النفس ما نراه في حملة نصرة النبي –صلى الله عليه وسلم- من تفاعل كبير، وزخم عاطفي ضخم، وحراك في مجتمعات المسلمين، وكل ذلك وأكثر منه قليل في جانب نصرة نبينا صلى الله عليه وسلم، ولكن ليس من النصرة في شيء بعض المظاهر المصاحبة لذلك والتي منها: أولاً: أن يتسابق الناس في نشر رؤى منسوبة إلى مجاهيل تبشِّر الأمة أن نبيها - صلى الله عليه وسلم - راضٍ عنها فيما عملت من نصرةٍ وذبٍ عن عرضه. ولئن كانت الرؤى الصالحة من مبشرات النبوة التي بقيت للأمة، فإن ذلك لا يعفينا من ضرورة التثبت فيما يرويه الناس من ذلك، والتي غالباً ما يكون منسوباً إلى مجهول، أو مما يتزيّد فيه الرواة،فما آفة الأخبار إلا رُواتها، وقد يكون ما رآه صاحب الرؤيا من حديث النفس، فيخيل إليه أنه رأى النبي –صلى الله عليه وسلم- في منامه ، وأما حديث "من رآني في المنام فقد رآني؛ فإن الشيطان لا يتمثل بي" فالمراد: من رآني على صفتي التي أنا عليها، وليس المراد أن كل ما يُخيل للنائم في منامه أنه يرى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فهو كذلك.
ثم إن لدينا من نصوص الكتاب والسنة المبشِّرة بخير موعودٍ لمن ذب عن عرضه –صلى الله عليه وسلم- ونصرَ سنتَه ما يغنينا ويشفي نفوسنا ويحدو أرواحنا للاستباق لهذا الشرف العظيم، فحسبنا أن نحث الناس على نصرة نبيهم وسنته بتلك النصوص المبثوثة في الكتاب والسنة الصحيحة.
ثانياً: أن يتسابق الغيورون على عرض المصطفى –صلى الله عليه وسلم- على نشر أخبار غير موثقة، مثل المجازفة بذكر أرقام مبالغ فيها لخسائر المقاطعة، ومنها ما أُشيع بين الناس هذه الأيام من أن أحد الرسامين الذين صوَّروا النبي –صلى الله عليه وسلم- في رسوم ساخرة قد وُجد جثةً محترقة بجوار الصحيفة الناشرة لتلك الرسوم، وأن وسائل الإعلام في الدانمارك قد تكتّمت على الخبر خوف الفضيحة! وليت المسارعين في نشر هذه الشائعة تساءلوا قبل نشرها: إذا كانت وسائل الإعلام هنالك قد تكتّمت على نشر الخبر فأنى لهم العلم به؟!! ومن هذا الذي عَلِمَه فأذاعه في الناس حتى بلغنا؟!
إن حث المسلمين على نصرة نبيهم وإفراحَهم بما يأملونه من ثمار حملتهم على الساخرين بحبيبهم –صلى الله عليه وسلم- عمل مشروع ولا شك، بيد أنه لا يجوز أن يكون بالكذب، ولا بترك التثبت والتبين في رواية الغرائب من الأخبار، وإن ما يعتمل في صدورنا من لواعج الغيرة على النبي الكريم –صلى الله عليه وسلم- لا ينبغي أن يدفعنا إلى أن نَفرُطَ في رواية الأخبار دون تثبت واستيثاق، ولا إلى أن نتخلى عن المنهج الشرعي في تلقي الأخبار وبثّها، فحسن المقصد لا يشفع لشيء من هذا مطلقاً.
ثالثاً: ليس من النصرة في شيء مبادأة أحدٍ بالاعتداء وتحريضه على معركة الطرفان فيها خاسران؛ فاختراق مواقع صحف ومجلات لم تصدر منها بنبينا سخريةٌ وتدميرُها عملٌ لا يكشف شبهة ولا يذبّ عن عرضٍ، وإنما يُحرضها هي الأخرى على سب الرسول والنيل منه، وينقلها من حِيادها إلى مصافّة المعتدي في موقفه، ويحرض سفهاءهم على تدمير مواقعنا الالكترونية النافعة، والتي خسارتنا بتدميرها أعظم من خسارتهم هم بتدمير مواقع صحفهم ومنتدياتهم.
لقد نهانا القرآن أن نعتدي في الاقتصاص من المعتدي، فكيف بابتداء الاعتداء؟! لا شك أنه أقبح وأولى بالنهي...نذكِّر بهذا الحكم المتقرر في عقل كل مسلم ونحن نرى معركة إلكترونية على شبكة الانترنت ابتدأها بعض الغيورين هداهم الله باستهداف بعض الصحف الدانمركية بالاختراق والتدمير، وفي هذا العمل المشين عدة ملحوظات:
1ـ أنه اعتداء على مَن لم يقع منه اعتداءٌ، وفي هذا مخالفة لآداب القرآن، لا يشفع لها قدْرُ ما بلغه حب الحبيب –صلى الله عليه وسلم- في قلوبنا.
2ـ أن هذا الفعل بمثابة الشاهد الذي يُثبت التهمة في اتْباع النبي –صلى الله عليه وسلم- من أنهم همج إرهابيون مفسدون لا يعرفون إلا الإفساد والتدمير.
3ـ أن اللجوء إلى هذه المواجهة البعيدة عن التعقل وأسلوب المحاجة بالحجة والبرهان قد يوهم العدو وغيرَه ممن هو على ملته ولم يرتكب خطيئته أننا لا نملك في الدفاع عن شخصية نبينا –صلى الله عليه وسلم- حجةً ولا برهاناً تبرِّئه مما هو متّهم به في أنظارهم.
4ـ كان من الممكن تحييدُ هذه الصحف التي قُصدت بالاختراق والتدمير، وجعلُها وسيلة ضغط على الصحيفة الناشرة للرسوم الساخرة لإلجائها إلى الاعتذار حمايةً لاقتصادهم من آثار حملة المقاطعة، فإذا نحن وسّعنا دائرة المواجهة لوسائل الاعلام الدانمركي كلها ـ من غير تفريق بين الفاعل والغافل ـ فإن ما نبغيه منهم يصبح أملاً بعيداً، كان لأيدينا إسهام في ذلك ولو بطريق غير مباشر.(/1)
5ـ كون العدو يسفل ويتواقح في عداوته وكراهيته لنا لا يجعلنا في حِل أن نسفل سفوله، ولا أن نتخلى عما يليق بنا وما عرف عنا من التزام لمنهج العدل وتحَلٍّ بالأخلاق الفاضلة في كل شعاب. إن اللجوء إلى هذه الأساليب في المواجه أمر يستطيعه كلُّ أحد، وقد يكون أقدر الناس عليه مَن هو أضعفهم في الحجة والبرهان.
6ـ لا يصح أن يقاس اختراق مواقع صحفهم الالكترونية التي لم تقع منها سخرية ولا استهزاء بنبينا –صلى الله عليه وسلم- على حملة المقاطعة لسلعهم كلِّها مع أننا نقاطع شركات لم يقع منها من ذلك شيءٌ، وهو قياس فاسد؛ لأن المقاطعة الاقتصادية ليس فيها اعتداء، وغاية ما فيها أنها تمنّعٌ عن الشراء، وهذا ليس من الاعتداء في شيء، بخلاف اختراقِ المواقع وتدميرها، فهو اعتداء صريح لمن لم يقع منه اعتداء .
رابعاً: ليس من النصرة في شيء أن نجود بأموالنا لكل من يدعونا إلى مشروع دعوي في تعريف الكفار بالإسلام وبنبيه الكريم وفي كشف ما يثار حوله من شبهات من غير أن نتوثق من صاحب المشروع والجهة المشرفة عليه، ومن غير أن نتبيَّن المضمونَ المراد نشره، ومن يزكى ذلك من أهل العلم، وإن من التفريط والسذاجة أن نحوِّل صدقاتنا إلى جهات مجهولة تزعم النصرة وهي في الحقيقة تستأكل بها وتستغل حمْلَتَها.
ولكي نقطع الطريق على كل طامع يستغل عاطفة الناس في هذا الباب ويستدرُ أموالهم باستغلال عاطفتهم فإن علينا ألا نضع صدقاتنا إلا في حسابات مؤسسات خيرية رسمية أو في أيدي شخصياتٍ معروفةٍ مزكاة.(/2)
ليست إحدى ثلاث
محمد جلال القصاص
</TD
في بداية الطلب ـ طلب العلم الشرعي ـ حذرني بعض الأذكياء من الحصر الوهمي الذي يمارسه بعض الكتاب على القراء، حين يقول لك ــ مثلا ــ : هي إحدى ثلاث إما كذا وإما كذا أو كذا، وتكون هناك رابعة يمكنك الأخذ بها.
وكثير من المحللين السياسيين والمفكرين والكتاب ـ من الإسلاميين أعني ـــ يسير تحت هذا الحصر الوهمي وهو يعالج قضايا الأمة المطروحة على الساحة الإسلامية!!
وحتى يتضح المقال أضرب الأمثال.
المقاومة في العراق: مقاومة وطنية شريفة ؟ أم خروج على السلطة (الشرعية) للبلاد ؟ أم جهاد لتحرير العراق ؟
الواقع أن جل التحليلات تدور في هذه الأطر، وليست إحدى الثلاث، أو بالأحرى ينبغي ألا تكون إحدى الثلاث.
ذلك؛ لأن مفهوم الوطنية المفروض علينا مرفوض في تصورنا الإسلامي، فرباطنا عَقدي وليس طِيني، والسلطة التي فرضها الاحتلال ــــ وكذا كل سلطة لا تحكم شرع الله ــــ لا بد من الأخذ على يديها حتى تُحكِّم شرع الله، وراية الجهاد لا تُرفع لتحرير الأوطان ـ بحدودها الجغرافية المُستحدثة ـ فقط وإنما لتكون كلمة الله هي العليا في العراق وخارج العراق، وما دام الأمر والنهي للبشر وليس لله فلا بد أن ترفع راية الجهاد.
إذا خطابٌ آخر خارج دائرة الحصر هذه لا بد أن يوجهه إلى المجاهدين في العراق ومن يهمه أمرهم خارج العراق، خطاب يحدد ماهية القضية التي يجب أن يحمل لها السلاح " مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ _عَزَّ وَجَلَّ_ " و " مَنْ قُتِلَ تَحْتَ رَايَةٍ عِمِّيَّةٍ يَدْعُو عَصَبِيَّةً أَوْ يَنْصُرُ عَصَبِيَّةً فَقِتْلَةٌ جَاهِلِيَّةٌ " و " اغْزُوا بِاسْمِ اللَّهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ " و " مَقَامَ أَحَدِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ صَلَاةِ سِتِّينَ عَامًا خَالِيًا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ الْجَنَّةَ اغْزُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ قَاتَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فُوَاقَ نَاقَةٍ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ "
خطاب يركل بقدميه شبهات المنهزمين ووسواس الضالين المبتدعين المنادين بكف اليد ـــ وقد حلَّ العدو بالأرض وهتك العرض وأخذ المال ـــ حتى تُعدَّ العدَّة، خطاب يقول لهم للنصر أسباب أخرى عندنا " ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز" " إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم " كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله ".
وفي فلسطين مثال آخر.
تتكلم التحليلات السياسية عن (القضية الفلسطينية)، وتتكلم عن الاستراتيجيات التي ينبغي أن تنتهجها الانتفاضة من أجل تحرير فلسطين، وتتكلم عن حماس وكأن الجهاد من أجل تحرير المقدسات قرار بيدها تفعل به ما تشاء.
وهذه الجعجعة تُخفي وجها آخر للحقيقة وهو أن القضية ليست فلسطينية وإنما إسلامية، بل من أخص قضايا المسلمين لارتباطها بالمسجد الأقصى أولى القبلتين وثاني المسجدين ومسرى الحبيب صلى الله عليه وسلم وأن طرفها الثاني اليهود الذين هم أشد الناس عداوة للذين آمنوا... كل الذين آمنوا في فلسطين وخارج فلسطين، والذين يسعون في الأرض فسادا... أرض فلسطين وباقي أراضي العالمين.
فينبغي ألا تكون القضية فلسطينية من طرفنا كما أن الطرف الآخر ــ اليهود ومن ورائهم ــــ القضية عندهم ليست فلسطينية فقط بل فلسطينية وعراقية وأردنية ومصرية سعياً لتحقيق حلم إسرائيل الكبرى من النيل للفرات.
وتمارس القنوات الفضائية (الجريئة) نوع من الحصر والخداع حين تعرض خسائر المقاومة الإسلامية في العراق وفلسطين وما يحدث للشعب جراء هذه العمليات من اعتقال وهدم للبيوت ومصادرة للأموال، وتجبُن كمراتهم (الجريئة) عن عرض ما تُحدثه المقاومة من نكاية في صفوف العدو.
فهي تقول ـــ بلسان الحال ــــ : هذه ثمار المقاومة... العدو معافى والمتضرر هم عامة الناس... مفاسد المقاومة أكثر من مصالحها فلم؟!
ونحتاج إلى من يخرج من هذا الحصر، ويبين للناس تأويل قول الله _تعالى_: " إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون " .
لم أقصد تتبع حالات الحصر والخداع الموجود في الإعلام واغترار بعض الطيبين بها، أبداً لم أقصد هذا، وإنما أردت لفت النظر إلى هذه الظاهرة وتنبيه إخواني على هذا الأمر.
والله أسأل أن يتقبل منا وأن يبارك في أقوالنا وأفعالنا.
ليست إحدى ثلاث
محمد جلال القصاص
</TD
في بداية الطلب ـ طلب العلم الشرعي ـ حذرني بعض الأذكياء من الحصر الوهمي الذي يمارسه بعض الكتاب على القراء، حين يقول لك ــ مثلا ــ : هي إحدى ثلاث إما كذا وإما كذا أو كذا، وتكون هناك رابعة يمكنك الأخذ بها.
وكثير من المحللين السياسيين والمفكرين والكتاب ـ من الإسلاميين أعني ـــ يسير تحت هذا الحصر الوهمي وهو يعالج قضايا الأمة المطروحة على الساحة الإسلامية!!
وحتى يتضح المقال أضرب الأمثال.(/1)
المقاومة في العراق: مقاومة وطنية شريفة ؟ أم خروج على السلطة (الشرعية) للبلاد ؟ أم جهاد لتحرير العراق ؟
الواقع أن جل التحليلات تدور في هذه الأطر، وليست إحدى الثلاث، أو بالأحرى ينبغي ألا تكون إحدى الثلاث.
ذلك؛ لأن مفهوم الوطنية المفروض علينا مرفوض في تصورنا الإسلامي، فرباطنا عَقدي وليس طِيني، والسلطة التي فرضها الاحتلال ــــ وكذا كل سلطة لا تحكم شرع الله ــــ لا بد من الأخذ على يديها حتى تُحكِّم شرع الله، وراية الجهاد لا تُرفع لتحرير الأوطان ـ بحدودها الجغرافية المُستحدثة ـ فقط وإنما لتكون كلمة الله هي العليا في العراق وخارج العراق، وما دام الأمر والنهي للبشر وليس لله فلا بد أن ترفع راية الجهاد.
إذا خطابٌ آخر خارج دائرة الحصر هذه لا بد أن يوجهه إلى المجاهدين في العراق ومن يهمه أمرهم خارج العراق، خطاب يحدد ماهية القضية التي يجب أن يحمل لها السلاح " مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ _عَزَّ وَجَلَّ_ " و " مَنْ قُتِلَ تَحْتَ رَايَةٍ عِمِّيَّةٍ يَدْعُو عَصَبِيَّةً أَوْ يَنْصُرُ عَصَبِيَّةً فَقِتْلَةٌ جَاهِلِيَّةٌ " و " اغْزُوا بِاسْمِ اللَّهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ " و " مَقَامَ أَحَدِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ صَلَاةِ سِتِّينَ عَامًا خَالِيًا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ الْجَنَّةَ اغْزُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ قَاتَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فُوَاقَ نَاقَةٍ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ "
خطاب يركل بقدميه شبهات المنهزمين ووسواس الضالين المبتدعين المنادين بكف اليد ـــ وقد حلَّ العدو بالأرض وهتك العرض وأخذ المال ـــ حتى تُعدَّ العدَّة، خطاب يقول لهم للنصر أسباب أخرى عندنا " ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز" " إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم " كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله ".
وفي فلسطين مثال آخر.
تتكلم التحليلات السياسية عن (القضية الفلسطينية)، وتتكلم عن الاستراتيجيات التي ينبغي أن تنتهجها الانتفاضة من أجل تحرير فلسطين، وتتكلم عن حماس وكأن الجهاد من أجل تحرير المقدسات قرار بيدها تفعل به ما تشاء.
وهذه الجعجعة تُخفي وجها آخر للحقيقة وهو أن القضية ليست فلسطينية وإنما إسلامية، بل من أخص قضايا المسلمين لارتباطها بالمسجد الأقصى أولى القبلتين وثاني المسجدين ومسرى الحبيب صلى الله عليه وسلم وأن طرفها الثاني اليهود الذين هم أشد الناس عداوة للذين آمنوا... كل الذين آمنوا في فلسطين وخارج فلسطين، والذين يسعون في الأرض فسادا... أرض فلسطين وباقي أراضي العالمين.
فينبغي ألا تكون القضية فلسطينية من طرفنا كما أن الطرف الآخر ــ اليهود ومن ورائهم ــــ القضية عندهم ليست فلسطينية فقط بل فلسطينية وعراقية وأردنية ومصرية سعياً لتحقيق حلم إسرائيل الكبرى من النيل للفرات.
وتمارس القنوات الفضائية (الجريئة) نوع من الحصر والخداع حين تعرض خسائر المقاومة الإسلامية في العراق وفلسطين وما يحدث للشعب جراء هذه العمليات من اعتقال وهدم للبيوت ومصادرة للأموال، وتجبُن كمراتهم (الجريئة) عن عرض ما تُحدثه المقاومة من نكاية في صفوف العدو.
فهي تقول ـــ بلسان الحال ــــ : هذه ثمار المقاومة... العدو معافى والمتضرر هم عامة الناس... مفاسد المقاومة أكثر من مصالحها فلم؟!
ونحتاج إلى من يخرج من هذا الحصر، ويبين للناس تأويل قول الله _تعالى_: " إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون " .
لم أقصد تتبع حالات الحصر والخداع الموجود في الإعلام واغترار بعض الطيبين بها، أبداً لم أقصد هذا، وإنما أردت لفت النظر إلى هذه الظاهرة وتنبيه إخواني على هذا الأمر.
والله أسأل أن يتقبل منا وأن يبارك في أقوالنا وأفعالنا.(/2)
ليست بالعدد ولا بالعتاد
محمد جلال القصاص
</TD
يوم بدرٍ.. يوم الفرقان يوم التقى الجمعان، حزب الرحمن وحزب الشيطان، وقف عدو الله أبو جهل يقسم بالله ألا يرجع حتى يقرن محمداً - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه في الحِبال، وينادي في قومه: "لا ألفينَّ أحداً منكم قتل منهم أحداً: ولكن خذوهم أخذاً، نعرفهم بالذي صنعوا لمفارقتهم دينكم ورغبتهم عما كان يعبد آباؤهم".
وما هي إلا ساعة أو ساعتان من القتال وقد فروا من المسلمين كالنساء.
ومَرَّ عام وقريش تتجهز لأخذ ثأرها، ومحو عارها، وجاءت يوم أحد بقضها وقضيضها، يُجعجع فرسانهم، وتضرب بالدف نسائهم، وينادي بالثارات جميعهم، وما هي إلا ساعة أو ساعتان حتى فروا وتركوا النساء، وهؤلاء فروا عن النساء وقد كانوا لا يعدلون بالشرف شيئاً، وقد كانوا فرساناً شجعاناًً.
لا زلتُ أذكر جيش الفرس يوم القادسية، وكان أشد جيش على وجه الأرض يومها، كثير العدد، حسن التسليح، جنده نخبة أبطال يقاتلون في أرضهم.
صبيحة أول أيام القتال ركب رستم فرسه، وهو يقول: اليوم ندكهم دكاً، فناداه أحد خدمه - يريد منه الاستثناء قل: إن شاء الله، فقال: وإن لم يشأ.
ولما تراءى الجمعان ضحك أصحاب رستم من صحابة محمد الله _صلى الله عليه وسلم_ لما يرون من قلة عددهم وضعف سلاحهم، ويوم ويومان اشتد فيهما القتال وفروا لا يلوون على شيء، وأمكن الله من رستم فذبح كالخراف.
يقول الله _تعالى_: "لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً" (الكهف: من الآية18).
الطبيعي أنني أخاف ثم أفر، لا أنني أفر ثم أخاف. أليس كذلك؟
هذا ما يقوله العقل.
ولكن الآية القرآنية تقرر شيئاً غير ذلك، هو أنه حين يشتد الخوف.. حين يكون الأمر مهولاً.. حين يرى الإنسان الموت فإنه يفر دون أن يدري، ولا يفيق إلا بعد أن يغادر مكان الخطر.
وتكلم أهل الإعجاز العلمي في ذلك، فقالوا: إنه في حالة الخوف والذعر الشديد فإن الإشارات الصادرة من العين لا تتجه نحو مركز الإدراك، وإنما تذهب أولاً إلى البؤرة المتحكمة في العضلات الهيكلية، وتعطيها إشارة للانقباض والتحرك سريعاً بعيداً عن مصدر الخوف، ثم بعد حين تتجه على مركز التفكير فيفهم الإنسان ما حدث.
وهو ما يفسر ما فعلته فرسان العرب ذوو النخوة والشجاعة حين فروا وتركوا نساءهم لعدوهم.
رأوا الموت فذهب عنهم هاجس العدد والعتاد والغيرة على الأعراض والحرص على الأموال، فأطلقوا سيقانهم للريح، وما دروا إلا هناك وقد بعدوا عن موطن القتل والقتال.
أردت من هذا السرد القول: إن الغلبة ليست بالعدد ولا بالعتاد.
ومن يتدبر كلامي يعلم كيف كانت الأمة الإسلامية تنتصر على عدوها رغم قلة عددها وعتادها. إنه سلاح الخوف الذي يذهب بالعدد والعتاد. ونحن أمة منصورة بالرعب "إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ" (الأنفال: من الآية12).
ولكن أنى الطريق إلى هذا السلاح؟
ليس إلا طاعة الله ورسوله _صلى الله عليه وسلم_، وتوحيد الكلمة على التوحيد، وبذل النفس والنفيس من أجل نشر هذا الدين. "وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ" (الحج: من الآية40).
فإن كنا حقاً جنود لله، فسيرسل الله لنا جنوده، ومن جنوده الخوف، ولكن عدونا لم يزل بعد جريئاً علينا.(/1)
ليست قضية سامي
عبد السلام الحصين
أرادت الحكومة الأمريكية أن تبرز قضية سامي على أعلى المستويات، وكان إعلامها المطيع المذلل، الرافع لشعار الحرية في الظاهر، خادمًا لها في ذلك، وقائمًا بهذه المهمة خير قيام، وليس إعلام العرب، وأهل الجزيرة إلا رجع صدى لأولئك، إلا من رحم الله.
وأظن أنهم يتمنون الآن أن لو كانت هذه القضية عن الناس والإعلام بمعزل؛ فقد أظهرت من تهافت حججهم، وضعف أدلتهم، ما يقيم الحجة عليهم، في تسلطهم على الخلق، واتهام المظلومين، إلا أن تكون قلوبهم قد انسلخت من الفهم، وتعرت من الإدراك، وجودة النظر، وركنت إلى ما هم فيه من القوة والمنعة، وغفلة الناس.
كنت أعيش بين شعورين متناقضين؛ الضحك والبكاء، حين علمت أن مئة من أفراد الأمن، تصاحبهم طائرات تحرسهم من الجو، قد حاصرت منزلاً صغيرًا، يُكن عائلة صغيرة، في مدينة هادئة، لا تعرف الخوف والهلع.
وليس هذا فحسب؛ بل إن وزير العدل بنفسه يتولى الإعلان عن هذا الحدث، وأن درجة الخطر قد بدأت تخف، وأن بإمكان سكان هذه المدينة أن يزاولوا حياتهم بأمان؟!!!
بدا لي أن سامي غدا أخطر من أسامة، وأن الثاني هو في قمة إرهاب المقاتلين، والأول في قمة إرهاب المفكِّرين المبدعين.
قد تكون الحكومة الأمريكية أرادت هذا فعلاً، وأرادت أن تبرز لشعبها أن الحملة على المقاتلين إنما تتم بالحملة نفسها على أصحاب الفكر السليم، الذين يحملون همَّ الدعوة إلى الدين الصحيح، وإنقاذ الناس من عبادة غير الله، وتعريفهم بالصراط المستقيم.
وقد بقيت تهم الحكومة الأمريكية، تجول في عقول كثير من الناس، وتحملهم على الظنون السيئة للنهاية التي تنتظر هذا الإرهابي الخطير، الذي لا يعرف مشرِفُه عنه إلا قمة جبل الجليد، وأن المباحث الفدرالية ستكف الجبل كله.
حتى جاءت المحاكمة، ولم تصنع شيئًا غير أنها وضعت ضغثًا على إبالة، وأظهرت أن جبل الجليد ليس إلا ماءً حارًا يشوي وجوههم.
من الأدلة ضد هذا الإرهابي؛ أنه يعمل مع إحدى الجمعيات الدعوية محتسبًا، وأنه بذلك يمنع المواطنين من وظائف تُوفِّر لهم الدخل الجيد؟!
من الأدلة؛ أنه نشر قصيدة غازي القصيبي في المرأة التي فجرت نفسها في إسرائيل؟!
من الأدلة أنه يستقبل أخبار المستضعفين في الشيشان، ويرسلها إلى أصدقائه؟!!
من الأدلة؛ أنه من المسلمين الذين يعتقدون أن الإسلام فيه جهاد؟!!
من الأدلة؛ أنه يدعم القضية الفلسطينية؟!!
من الأدلة؛ أنه يستقبل ويرسل تبرعات للجمعيات الدعوية والخيرية، والمرخص لها من قبل الحكومة الأمريكية؟!!
من الأدلة؛ أنه يمارس الدعوة بجد، مع أنه جاء للدراسة فقط؟!!
وأما الشهود؛ فليسوا بأحسن حالاً من هذه الأدلة؛ فمن مصري مطرود من بلده بسبب آراءه الشاذة في الدين الإسلامي، يشهد بأن سامي من جنس الذين طردوه.
إلى عراقية عاشت في إسرائيل فترة من الزمن، ثم جاءت للتعاون مع المباحث الفدرالية، وتشهد ضده بمبلغ يتجاوز المئة ألف دولار.
إلى خبير في أجهزة الحاسب، يقف أمام القاضي، ليقول إن المعلومات التي كانت في جهاز سامي قد اختفت، دون معرفة السبب؟!!
وشاهد يشهد ضد سامي بأمور يفعلها هو، والفرق هو أن نيته سليمة، ونية سامي سيئة!!
شيء مقزز فعلاً، لا تتحمله العقول السليمة، ولهذا لا لوم على مشرف سامي حين قال: ©أتعجب من الطريقة التي أثَّرت بها هذه القضية على حياتي، لقد جعلتني أسعى لأكون جزءًا من الحكومة؛ لأجعلها حكومة أفضل، وأكثر احترامًا®.
ليست هذه القضية قضية سامي، إنها قضية كل مسلم صادق، مستقيم، ولقد صدق الأخ ضاري بن عبد العزيز الوهيّب حين كتب في عزيزتي الجزيرة (العدد 11607) مقالاً بعنوان: ©كلنا مثل سامي®، بين فيه تفاهة التهم، وأنها توجَّه لكل طالب مسلم.
والعجيب أن هذه القضية لم تستغل لإظهار الخلل الموجود في تصور الحكومة الأمريكية، وسوء تصرفاتها، وتخبطها في التعامل مع هذه الأحداث.
وقد أظهرت بوضوح أمورًا مهمةً؛ منها:
1- أن الحكومة الأمريكية لا تعادي المقاتلين، الذين تصفهم دائماً بالإرهابين، والذين يستخدمون القوة للوصول إلى أهدافهم، والدفاع عن كرامتهم، ولكنها تعادي كل صاحب فكر يخالفهم، ويقذف بالحجج الصحيحة، ويذعن الناس لمنطقه السليم.
2- أنها لا تستند إلى أدلة صحيحة، في دعاوها ضد الدعاة المسلمين، والمنظمات الخيرية الدعوية.
3- إلقاء الضوء على أمثال سامي؛ من الدعاة المستضعفين، والمصلحين الناشطين، والذين واجهوا نفس التهم، وحصل لهم نفس الموقف، وليس في غوانتناموا إلا بعضهم، ولم يُقدَّر لهم أن تنال قضيتهم ما نالته قضية سامي.
لا ألقي باللوم على حكومة الدولة التي ينتمي إليها سامي؛ لأنها قد دعمت القضية من جوانب أخرى، منها الجانب المادي، الذي قد يعجز عنه أسرة سامي، ولأني قد تربيت على قاعدة (الشيوخ أبخص).(/1)
ولكن ما بال إعلامنا النائم، الذي يُطعن قومه، وبنوا جلدته كل يوم، في فكرهم، وعقيدتهم، ومبادئهم، ثم لا يتحرك للانتصار لهم، حتى في هذه القضية، التي ظهرت فيها براءة سامي؛ كالشمس، وظهر زيف دعاوى الحكومة الأمريكية، وأنها لا تقوم على مبدأ صحيح في حربها؟!!
ما بالهم بالأمس قتلونا، وحطموا معنوياتنا بإظهار صورة سامي، في أول الصفحات، مشفوعة بالتهم، بل ومعها الحكم الذي قد يتجاوز مئات السنين، ثم لا تراهم اليوم يتحدثون عن براءة سامي، وإن تحدث بعضهم فعلى استحياء، في زاوية محصورة، لا يكاد يفطن لها، إلا من يستعرض الصحيفة كلها؟!!
القضية ملف كامل يفضح الحكومة الأمريكية، ولكن من يهن يسهل الهوان عليه، ما لجرح بميت إيلام.
وكتبه عبد السلام بن إبراهيم بن محمد الحصين في 11/6/1425.(/2)
ليشهدوا منافع لهم"
.. وفي الحج فوائد روحية أخلاقية.. اجتماعية واقتصادية
آراس محمد صالح (@)
الحج ركن من أركان الإسلام، هدفه تزكية النفس وتهذيب الوجدان وتدعيم أواصر المسلمين وإظهار العبودية الكاملة لله، بمختلف الأعمال والشعائر.
والحج عبادة جامعة، فيه إنفاق المال، وجهاد الجسد، وذكر الله، والتضحية في سبيله.. فالحج عبادة تشمله روح كل العبادات الأخرى بصورة أو أخرى.(1)
قال تعالى: الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى" واتقون يا أولي الألباب (197) (البقرة)، جاء في تفسير أبي السعود: الحج، أي وقته أشهر معلومات، معروفات بين الناس هي شوال وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة فمن فرض فيهن، أي أوجبه على نفسه بالإحرام فيهن أو بالتلبية، أو بسوق الهدي فلا رفث ولا فسوق، أي لا جماع أو فلا فحش من الكلام، ولا خروج من حدود الشرع بارتكاب المحظورات، وقيل بالسباب والتنابذ بالألقاب ولا جدال، أي مراء مع الخدم والرفقة في الحج، أي في أيامه.
وقال الرازي: "الحكمة في أن الله تعالى ذكر هذه الألفاظ الثلاثة لا أزيد ولا أنقص، وهو قوله: فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج، هي أنه قد ثبت في العلوم العقلية أن الإنسان فيه قوى أربعة: قوة شهوانية بهيمية، وقوة غضبية سبعية، وقوة وهمية شيطانية، وقوة عقلية ملكية، والمقصود من جميع العبادات قهر القوى الثلاثة، أعني الشهوانية، والغضبية، والوهمية، فقوله: فلا رفث، إشارة إلى قهر القوة الشهوانية، وقوله: ولا فسوق، إشارة إلى القوة الغضبية التي توجب التمرد والغضب، وقوله: ولا جدال، إشارة إلى قهر القوة الوهمية التي تحمل الإنسان على جدال في ذات الله، وصفاته وأفعاله، وأحكامه وأسمائه، وهي باعثة للإنسان على منازعة الناس ومماراتهم، والمخاصمة في كل شيء، فلما كان منشأ الشر محصوراً في هذه الأمور الثلاثة، لا جرم، قال تعالى: فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج، أي فمن قصد معرفة الله ومحبته والاطلاع على نور جلاله، والانخراط في سلك الخواص من عباده، فلا يكون في هذه الأمور، وهذه أسرار نفيسة هي المقصد الأقصى من هذه الآيات، فلا ينبغي أن يكون العاقل غافلاً عنها، ومن الله التوفيق في كل الأمور"(3).
الحج.. تجرد وتزود
وقوله تعالى: فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج، أي لا يفعل الحاج شيئاً من هذه الأفعال لأنه مقبل على الله قاصد لرضاه، فينبغي أن يتجرد من عاداته وعن التمتع بنعيم الدنيا، وينسلخ عن مفاخره ومميزاته عن غيره بحيث يتساوى الغني والفقير، والصعلوك والأمير، وفي هذا تهذيب للنفس وشعار لها بالعبودية لله تعالى، وقد جاء في حديث الرسول ص، عن أبي هريرة أنه قال: "من حج ولم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه"(4)، وما تفعلوا من خير يعلمه الله. وقال الشيخ مصطفى المراغي: أي لا ترفثوا ولا تفسقوا ولا تجادلوا، لتصفو نفوسكم وتتخلى من الرذائل، وتتحلى بالفضائل، وتكون أكثر استعداداً لعمل الخير، وأطوع لامتثال أوامر الشرع، إن الله يعلم ما تفعلون 91 (النحل)، فيجازيكم بأعمالكم ويثيبكم على أفعالكم"(5).
وتزودوا فإن خير الزاد التقوى"، أي اتخذوا التقوى زادكم لمعادكم، فإنها خير الزاد واتقون يا أولي الألباب، أي وأخلصوا لي يا أهل العقول والأفهام، بأداء ما أوجبته عليكم من الفرائض، واجتناب ما حرمته عليكم.
"ثم يدعوهم إلى التزود في رحلة الحج... زاد الجسد وزاد الروح وتزودوا فإن خير الزاد التقوى، والتقوى زاد القلوب والأرواح، منه تقتات وبه تقوى وترف وتشرق، وعليه تستند في الوصول والنجاة، زاد أولي الألباب"(6).
مساواة
كانت قريش في الجاهلية تسمى نفسها "الحمس" بمعنى أحمس، ويتخذون لأنفسهم امتيازات تفرقهم عن سائر العرب، ومن هذه الامتيازات أنهم لا يقفون مع سائر الناس في عرفات، ولا يفيضون أي يرجعون من حيث يفيض الناس.(/1)
فجاءهم هذا الأمر ليدلهم إلى المساواة التي أرادها الإسلام وإلى الاندماج الذي يلغي هذه الفوارق المصطنعة بين الناس: ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم 199 (البقرة)، عن عائشة قالت: "كانت قريش ومن دان دينها يقفون بالمزدلفة، وكانوا يسمون الحمس، وسائر العرب يقفون بعرفات. فلما جاء الإسلام أمر الله نبيه ص أن يأتي عرفات، ثم يقف بها، ثم يفيض منها: فذلك قوله: من حيث أفاض الناس(7)، "قفوا معهم حيث وقفوا، وانصرفوا معهم حيث انصرفوا.. إن الإسلام لا يعرف نسباً، ولا يعرف طبقة. إن الناس كلهم أمة واحدة، سواسية كأسنان المشط، لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى، ولقد كلفهم الإسلام أن يتجردوا في الحج من كل ما يميزهم من الثياب، ليلتقوا في بيت الله إخواناً متساووين، فلا يتجردوا من الثياب ليتخايلوا بالإنسان... ودعوا عنكم عصبية الجاهلية، وادخلوا في صبغة الإسلام.. واستغفروا الله.. استغفروه من تلك النعرة الجاهلية، استغفروه من كل ما مس الحج من مخالفات ولو يسيرة هجست في النفس، أو نطق بها اللسان، مما نهى عنه من الرفث والفسوق والجدال، وهكذا يقيم الإسلام سلوك المسلمين في الحج، على أساس من التصور الذي هدى البشرية إليه، أساس المساواة، وأساس الأمة الواحدة التي لا تفرقها طبقة ولا يفرقها جنس، ولا تفرقها لغة، ولا تفرقها سمة من سمات الأرض جميعاً... هكذا يردهم إلى استغفار الله من كل ما يخالف عن هذا التصور النظيف الرفيع، فشعائر الحج تؤثر في مشاعر الحاج وسلوكه أيما تأثير، فترق نفسه، وتسمو أحاسيسه، وتعمل دواعي الإيمان في قلبه وتسوقه نحو الفضائل، وينشط سائق الهدى في أعماقه فيبعده عن الرذائل ويكون موصول السبب برقابة الله عليه في غالب أحواله"(8).
وحدة المشاعر
ثم إن هذا التعارف في الأماكن المقدسة يدعو إلى الألفة والتحابب وانجذاب القلوب بعضها إلى بعض وشعور المسلم بلزوم التكاتف مع أخيه المسلم. وهذا الشعور يكون بمثابة صلة معنوية تربط قلوب جميع المسلمين أينما كانوا على وجه هذه البسيطة، لذلك نرى أن أحد المنصّرين يكتب عن مدى تأثير التنصير في البلاد الإسلامية لا سيما في مصر ويقول: "سيظل الإسلام صخرة عاتية تتحطم عليها سفن التبشير المسيحي، مادام للإسلام هذه الدعائم الأربع: القرآن والأزهر واجتماع الجمعة الأسبوعي، ومؤتمر الحج السنوي"(9).
وهكذا، فإن سائر أفعال الحج وأقواله تعتبر تربية روحية عملية، وتعريفاً للإنسان بقدر نفسه، وحقيقة مركزه في الحياة، والغاية التي من أجلها خلق، وبالتالي تموت فيه دوافع الغرور والكبرياء، وأخيراً إن في الحج تعويداً للمسلم على امتثال أمر الله تعالى، سواء عقِل معناه أم.
"ومن حكمة الحج أن يصير للمسلمين فرصة طيبة معلومة المكان والزمان للاجتماع والتشاور فيما بينهم وفيما يهمهم، والوصول إلى الصواب فيما يتشاورون فيه ومن أجله، لأنهم يفعلون ذلك وهم في عبادة وفي مكان طاهر، نفوسهم متفتحة بمعاني الإيمان، وقد غسلت من أدرانها بأفعال الحج والعمرة"(10).
.. وفوائد اقتصادية
والحج له فوائد اقتصادية وتجارية، وهو أن مكة المكرمة والمدينة المنورة من الأماكن التي يقصدها الحجاج أو يمرون بها، فتصبح أسواقاً في موسم الحج، وأماكن للبيع والشراء بين الحجاج، وبين سكان هذه البلدان، قال تعالى: ليشهدوا منافع لهم ويذكروا \سم الله في أيام معلومات على" ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير 28 (الحج)، قال ابن عاشور: "ليحضروا منافع لهم، أي يحصّلوا منافع لهم أو يحصِّل كل واحد ما فيه منفعة، وأهم المنافع ما وعدهم الله على لسان إبراهيم عليه السلام من الثواب، فكنى بشهود المنافع عن نيلها، ولا يعرف ما وعدهم الله على ذلك بالتعيين، وأعظم ذلك اجتماع أهل التوحيد في صعيد واحد ليتلقى بعضهم عن بعض، ما به كمال إيمانه، وتنكير "منافع" للتعظيم المراد منه الكثرة، وهي المصالح الدينية والدنيوية، لأن في مجمع الحج فوائد جمة للناس.(11).
وجاء في التيسير: "قوله تعالى: ليشهدوا منافع لهم وردت كلمة منافع نكرة بدون تعريف، إشارة إلى مختلف المنافع الدينية والدنيوية المختصة بهذه العبادة، مما لا يوجد نظيره في بقية العبادات.(12)
وقال ابن العربي القاضي المالكي الإمام الحافظ في تفسير قوله تعالى: ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم (البقرة:198)، قال علماؤنا: في هذا دليل على جواز التجارة في الحج للحاج مع أداء العبادة، وأن القصد إلى ذلك لا يكون شركاً، ولا يخرج به المكلف عن رسم الإخلاص المفترض عليه"(14).
وكذلك فإن في الحج السير في الأرض ورؤية عظمة الله في خلقه وملكوته، وفيه التعارف والتعاون مع الناس والاطلاع على أوضاعهم الاجتماعية وتبادل الثقافات وغيرها من المنافع.
الهوامش
(1) وحيد الدين خان حقيقة الحج، تعريب ظفر الإسلام خان، الطبعة الأولى، دار الصحوة للنشر، القاهرة، ص15.(/2)
(2) تفسير أبي السعود، الطبعة الأولى، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان م1، ص207.
(3) الرازي، التفسير الكبير، مجلد3، ص142.
(4) البخاري، كتاب الحج، باب: فضل الحج المبرور، رقم (1521).
(5) أحمد مصطفى المراغي، تفسير المراغي، الطبعة الثالثة، المجلد الأول، ص 100، 101.
(6) سيد قطب، في ظلال القرآن، المجلد الأول، ص197.
(7) أخرجه البخاري، كتاب التفسير باب: ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس، رقم (4520).
(8) سيد قطب، في ظلال القرآن، المجلد الأول، ص200.
(9) الدكتور يوسف القرضاوي، العبادة في الإسلام، ص294.
(10) الدكتور عبدالكريم زيدان، المفصل في أحكام المرأة والبيت المسلم في الشريعة الإسلامية، الطبعة الأولى، مؤسسة الرسالة، بيروت، المجلد الثالث، ص152، 153.
11، ابن عاشور، تفسير التحرير والتنوير، مجلد8، ج16، ص245، 246.
(12) الشيخ محمد المكي الناصري، التيسير في أحاديث التفسير، المجلد الرابع، ص 173.
(13) وقد جاء في سبب نزول هذه الآية عن ابن عباس قال: كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقاً في الجاهلية فتأثموا أن يتجروا في الموسم. فنزلت: "ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم". أخرجه البخاري، كتاب التفسير، 1770.
(14) ابن العربي، أحكام القرآن، تحقيق علي محمد البجاوي، دار الفكر العربي، المجلد الأول، ص 136.(/3)
لَهْفي على بغداد 1
بقلم الدكتورعدنان علي رضا النحوي
قَدْ كنتِ يا بغدادُ جنَّةَ أُمَّةٍ
ورَواحَ أفئدةٍ وعِزَّ مكانِ
فُعُرِفتِ داراً للسلام وقُبَّةَ الـ
إسلامِ دارَ خلافةٍ وأمانِ
يا غُرَّةَ الدنيا ! جَمعْتِ الرافدَيْـ
ـنِ لطائِفَ الإبداعِ والإتقان
وجمعتِ مِنْ طُرَفِ الحياةِ ندّيةً
تَغنَى وتَرْوي لَهْفَةَ الظَّمآنِ
يا زهرةَ الدنيا وأنفاسَ الهوى
ورفيفَ أشواقٍ وخفقَ حَنانِ
زَهرتْ علومُك في الحياةِ وفوَّحَتْ
عِطْرَ الورودِ ونفحةَ الريْحانِ
فلكَم دَفَعْتِ إِلى البريّة أمّةً
من عبقريِّ العِلْم والأفنانِ
في كلِّ مَيدانٍ رفَعْتِ منائِراً
ومنابراً ورفَعْتِ من بُنيانِ
ولكم قَصمتِ من الضلالِ وخُضتِ من
لُجَجٍ وأهوالٍ مِنَ الحَدثانِ
مهما تَبَدَّلَ فوقَ أرضك من هوى
سيظلُّ عهدُك عروةَ الإيمانِ
دارٌ مجلّلةٌ بِعزَّةِ أُمَّةٍ
كم زانها التاريخ من تيجانِ
تاريخُ إسلامٍ وثروَةُ أُمّةٍ
أو زهوُ آمال وعزُّ كيانِ
* * *
* * *
ويحي ! أتوكِ على بوارج كالقلا
ع وزَحْمة الآلات والرُّكبانِ
زَحفوا بِدبَّاباتِهمْ ! بالطائرا
تِ ! بآلَةٍ جَبَّارَة الطُّغْيانِ
زحفوا عليك كأنهم موجٌ من الـ
إعصارِ والإظلام والطوفانِ
بالنار ! بالصاروخ يُلقي فوقها
هولَ الجحيم ودفقة الأضغانٍ
ورموك باللّهب المدَوِّي ! ويحَهِمْ
وَصَواعِقٍ مجنونةٍ ودُخانِ
فكأنَما ترمي السَّماءُ لهيبَها
والأرض تطلق غضبة البُركانِ
وتدفّق الحقْد الشَّديد قواصفاً
وعواصفاً مِنهمْ ومِنْ أَعوان
كم من صبيّ راحَ بين لهيبها
وصبيّة طُوِيِتْ على أحزانِ
تتناثر الأشلاء من أطفالها
ومن الشيوخ وطلعةِ الفتيانِ
تتواصلُ الغاراتُ دونَ هَوادَةٍ
قصفاً على الساحاتِ و البُنيانِ
تهوي العَمائر بين هَوْل دويِّها
ولهيبها وجَحيمها ودُخَانِ
تنصبُّ أهوال الصواريخ التي
جُنّتَ على الساحات والكُثبانِ
فالأفْقُ مُسْودٌّ بسودِ فِعالهم
والأفْقُ من خَجلٍ بلونِ دِهانِ
كُشِفت مَزاعمُهم وبان ضلالُهم
وبدا فَسَاد الزُّور والبُهْتانِ
* * *
* * *
لهْفي على بَغْدادَ وهي حرائقٌ
شتى تَواصَلُ في رُبَا بغدانِ
فإذا نَظَرْتَ فلا تَرى أبداً سِوى
لَهَبً تَلَظّى واقتحامِ دُخانِ
فكأنّه لم يُبْقِ في سَاحَاتِها
بَشراً ولا أَثَراً إلى بُنْيانِ
زعمَ الطغاةُ المجرْمُون بأنّهم
حَمَلوا إلَيْكِ نوازِع الإحسانِ
حُرِّيّة ونداوةً ! يا ويْحَهُمْ !
حَمَلوا إِليكِ فَواجِعَ النيرانِ
والموتَ والتَدْميرَ والإِفناءَ ! تِلْـ
ـكَ شَرِيعةُ الطغيانِ و البُهتانِ
حَمَلوا مَطامِعَهمْ وفوْرةَ نَهْمَةٍ
يُخفُونَها في زُخْرُفٍ وبَيَانِ
وبقيتِ وحْدَكِ والذين أَتَوك في
مَدَدٍ مِنَ الصّدْق الوفيِّ الحاني
ثم انطوتْ زمُر النفاق وأدبروا
زمراً من الذؤبان والجرذانِ
* * *
* * *
طال الحِصَارُ عَليكَ ! كلُّ سنيه من
ظُلم الطُّغاةِ وشِدَّةِ الطغيانِ
عجباً لِصَبركَ بَعْد طول حِصارهم
لكَ يا " عِراقُ " وقسوةِ الحرمانِ
المجرمونَ عِصَابَةٌ في الأرْضِ أعْـ
ـتى من وحوش الغاب والحَيوانِ
شدُّوا !عليكَ وضيَّقوا ! فصبرتَ في
أملٍ يُطلِّ وعزّةٍ مِنْ شانِ
فالأُمَّهات يَرَيْنَ من أًَطفالِهـ
ـنَّ تأوّه الأحْشاءِ والأبدانِ
صَرْعى مِنَ المرضِ الشَّدِيد !فلا دَوا
ءَ ولا غِذاءَ ! ضحيّةُ العُدْوانِ
هذي الملايين التي سقطت ضحا
يَا الظلمِ والإِحصار والبُهتانِ
* * *
* * *
عجباً لِصبْرِكَ يا "عِراقُ" على شَديـ
ـدِ حِصَارِهِمْ وفواجِع الخذلانِ
أنّى نهضتَ مِنَ الحِصارِ ، مِن الجِرا
ح ، مِنَ الدَّمَارِ ، وهجمة الكفرانِ ؟!
ظنّوا بأنك بالحصار لسوف تر
كُع دونَهُمْ وتميلُ للإذعانِ
وصبرتَ لم تَرْكَعْ ! فظنّوا أنه
لا بُدَّ من حربٍ عليك عَوانِ
فشلَ الحِصَارُ ! وخابَ كلُّ رجائهم !
هبّوا على غضَبٍ ! على غليانِ
لجريمة كُبرى ! وقصفِ مرابعٍ
بالنار ، بالصاروخ ، بالطيران
وبكل آلات الدّمار ، وكلِّ حقـ
ـقدٍ في الصُّدور ونزوة الإمعانِ
فنهضتَ من بين الحصار مُدَوِّياً
عزماً أشدَّ تجول في الميدانِ
* * *
* * *
" بغدادُ " ! و َأسفاه ! هذا حَالُنا
لمّا ابتُليتِ ! فَمنْ تُراهُ الجاني ؟!
ضاعت معالِمهُمْ ! وكلٌّ يدَّعي
شَرَفَ البطولةِ أو يَدَ الإحسانِ
ضاعَتْ موازينُ العَدالةِ واختفتْ
وَيحي ! فأين عدالة الميزانِ
لَهْفي عَلى " بَغْدَاد " بَيْنَ دِيارِها
حمَمٌ تفجَّرُ في لظىً ودخانِ
* * *
* * *
بغداد لا تَسْتسلمي وتَوَقّدي
شُعَلَ العَزيمةِ ! وثبةَ الفُرسانِ
وتوقَّدي لَهَباً يَصُبُّ على العِدى
حُمَمَ الجحيم وغضبةَ البركانِ
لا تيأسي بغدادُ إِن طال المدى
فالنصر عزمة صابرٍ طعّانِ
والحربُ جَولاتٌ ليُجْلى عِنْدَها
شَرفُ العَهُود وعروة الإيمانِ
فَثبي وَخَلِّي الأَرْضَ تَحْتْ جُنُودهم
وَعتادِهم وقْداً من النيرانُ
ومن الزحوف كأَنَّها زَحْفُ الجِبا
لِ عَلَيْهِمُ وعواصفُ الكثبان
وقواصفٌ ترمي بوارج حِقدِهم
وتهزُّ من عُمُدٍ ومن أركانِ
تلك البطولَةُ ! ما أَجَلّ وَفاءها(/1)
من كل وثاب على الميدانِ
* * *
* * *
بغداد ! حبل الله أوثق عزمةٍ
فتمسَّكي ! لهفي على بغدانِ
شُدِّي عُرا الإيمان ! نَصْرُك آية
لله إِن أوفَيْتِ بالإحسانِ
بُشْرى تَظَلُّ تُطِلُّ مِنْ آفاقِنا
أمَلَ القُلوبِ وفرْحةَ الأزمانِ
* * *
* * *
الرياض
28/1/1424هـ
31/3/2003م ... ... ...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(/2)
لَهْفي على بغداد
بقلم الدكتورعدنان علي رضا النحوي
لَهْفي عليكِ وحَسْرةٌ يا أُمَّتي !
قَدْ غِبْتِ بَيْن التِّيه والنِّسيانِ (1)
وتشدُّني الحسَراتُ! لا أّلْقى سِوى
غُصَصِ المذلّةِ أو خُنوعِ هوانِ
وتشدُّني الذكرى إلى عبقٍ ! إلى
ألْقٍ يموج وعزّةِ السلطانِ !
وعُراً من الدين ِالحنيفِ وحبْلِهِ
وعَزَائِمِ التَّوْحيدِ و الإيمانِ
فَنمتْ عزائمنا بها وزَهَتْ هُدىً
لِتَصولَ في حقٍ وصِدْقِ بيانِ
ولتنشرَ الهَدْيَ المُبينَ رِسَالةً
للعالمين ورحمةً لمُعَانِ
وتَوَهّجت أرَضُ الجزيرة فالتقتْ
كلُّ الشعوب على هدى القرآنِ
صفّاً يُرَصُّ وموثِقاً شدَّ العُرا
شدّاً ورصَّ قواعدَ البنيانِ
فمضتْ إِلى الصّين القصيّ وأقبلتْ
نُوراً تدفَّق في رُبا البَلقانِ
وتدافعت تلكَ الجحافِلُ أُمَّةً
تمضي لأَنْدَلسٍ ودارِ شِشانِ
زُوِيَتْ بِقاعُ الأرضِ حتى أشرقتْ
مُلْكاً أبرَّ مشيَّدَ الأركانِ
* * *
* * *
حتى تراخَتْ بعد ذلك عَزْمةٌ
وَهَفَتْ إلى دُنيا وشوقٍ فانِ
تشقى بزُخرفِهِ وزينةِ فِتنَةٍ
تُغْوي ولهوٍ كاذبٍ وأمانِ
فتفرَّقَتْ تلك القلوبُ وقُطّعَتْ
تِلك الحِبالُ هوىً وذلّة شأنِ
وتفتَّحتْ ثُغَرٌ وشُقّق سورها
ثُلَماً لكلِّ مراوغٍ أو جَانِ
وتَفتَّح المكرُ المُبيّتُ حولنا
نهجاً يمدُّ حبائل الشيطانِ
فتسلّلوا فِتنا مزخَرفة لِتَغْـ
ـرُسَ في القلوبِ ضَلالةَ الإنسانِ
فِتَناً مُرَوِّعَةً تَدورُ بها فَتَنْـ
ـخرُ في نفوس الشيب والشبّانِ
ما بين فكْرٍ تائِهٍ مُتَفَلِّتٍ
ولَهيبِ جنسٍ صارخٍ ظمآنِ
ودَعَوْا نساء المسلمين : اخْلَعْنَ مِنْ
ثوب الطهارةِ عن كريم البانِ
هاجتْ بنا الشَّهواتُ حتى أحرقتْ
طيب الغِراسِ نَدِيَّة الأَغصانِ
وتَفتَّحتْ أبوابُنا ، وتهدَّمتْ
أسوارُنا ، ومنافذُ البُلدانِ
عصبيّةٌ جهلاءُ عادتْ بينَنا
هوجاءَ في ظُللٍ وفي طغيانِ
شَقَّتْ حدوداً بينَنا وكأنّها
حَدُّ الشّفار يَشُقُّ منْ أبدانِ
* * *
* * *
ودُوَيلَةٍ قامت على ذلِّ المُنى
فَهَوتْ إلى قاعٍ من القيعانِ
لا عزْمَ فيها للحَياةِ ولا قُوى
تبْني وتدفعُ ! لا عزائمَ بانِ
كِبْر الغُرورِ على زَخارفِ فِتْنة
كَذبتْ من الأرياش والبُنيانِ
حتى إذا حُمَّ القضاء فلمْ تَعُدْ
تُجْدِي القصور ولا المتاعُ الفاني
أين السلاحُ ؟ ! فما بَنتْه عزائِمٌ
تحمي الحِمَى وتصُونُ مِنْ أوطانِ
وتصونُ مِنْ دينٍ وحُرْمَةِ أمَّةٍ
طَلَعَتْ على الدنيا بخير بَيَانِ
وتَصُونُ مِنْ شَرَفٍ وعِرضِ حَرائرٍ
صَرَخَتْ ! وثَرْوَةِ أُمّةٍ وجِنانِ
أين الصواريخ التي تُبْنى وأيْـ
ـنَ صناعةٌ نَهضَتْ على إيمانِ
لتَصُدَّ من باغٍ ، وتَحميَ أمةَ الْـ
ـمُستضعفين وعِزَّةَ الإِنسانِ
مَضت السنون ! فأين ما جَمّعْتمُ
من رزقِ وهّابٍ وربٍّ حانِ
عَهْدٌ مع الرحمن ! أَينَ وفاؤه
بَذلاً يطيبُ على هُدى الرَّحمنِ
* * *
* * *
لهفي عَليكِ وحسرةٌ يا أُمَّتي
وأسىً يثيرُ مجامع الأحْزانِ
خَدَرٌ يصبُّ مَعَ العُروق وسكرةٌ
غَلبَتْ وغَفلَةُ تائِهٍ حيرانِ
فإذا الشعوبُ كأنّها فرق من الأمـ
ــواتِ والأنعام والقطعانِ
وإذا " فريقٌ " ذُلِّلوا فتذَلَّلوا
لهوى من الرغباتِ و السلطانِ
وإذا " فريق " ! ويا لسوءَة حالِهم
بينَ النفاق وبين ذلّة شأنِ
إلا الذين مَضَوْا بِطَاعِةِ ربِّهم
عَرَفوا السبيلَ ووثبة الإحسانِ
ما ضَمَّهمْ إلا رياضُ قبورهمْ
أو قبضَةُ الجلاَدِ والسجّانِ
أما " الجيوش " كأنها شُلَتْ فما
نَفَرتْ كَتائِبُهُم إِلى الميدانِ
أمّا السيوفُ فمن يَهزُّ شِفارها
والناس في لهوٍ وفي أمعانِ
طُويَتْ ميادينُ الجِهادِ وقُصِّفَتْ
أرماحُنا وَعلا نداءٌ ثانِ (2)
وتهدمتْ تلك الحُصُونُ ولم يَعُدْ
يَعْلو هناك سوى خُوارِ جبانِ
خُنِقَتْ على الأَحناءِ صيَحةُ مشفِقٍ
وعلا دَويُّ محافِلٍ وأغانٍ
وعَلا نِداء " المجرمين " ! وكيدهم
هولُ الليالي ، فتنة الطغيانِ
وإذا الذين بقلبهم مَرَضٌ يُسَا
رِعُ خَطْوُهم فيهم رجاءَ أَمانِ
يخشَوْن دائرةَ الزمانِ ! وما دَرَوْا
أنّ الأمانَ حِمايَةُ الرحمنِ
و "المترفون"! وقد غَفَوْا في لهوهم
سَيمسُّهم هَوْلُ العذاب الداني (3)
ذاك العذاب وبعده هولٌ أشـ
ـدّ يَمسُّهم بعدَالة الميزان
غابُوا فأيْنَ هُمُ ؟! وأيْنَ أَمانةٌ
طُوِيَتْ على ترفٍ ولهوِ قيانِ
المُتْرَفُون على الأَرائك لم يَزَلْ
يُمْلَى لهم لمصارعٍ وهَوانِ
سُنَنٌ من الله العليّ تظلُّ تمـ
ضي في الخلائق آية الأزمانِ
* * *
* * *
غلبَ الهَوى وتَناثَرتْ أشْواقُنا
سُبُلاً مُشتَّتةً وذلَّ كِيانِ
من نحن ؟!لا ندرى !وما نَرْجو؟!وأَ
يُّ مهِمَّةٍ لمضَيَّعٍ متَوانِ ؟!
صِرْنا أخفَّ من الرّمادِ ونفخِهِ
بَيْنَ الشُّعوب وزَحْمةِ الأقرانِ
هُنَّا وأَلقَينا بأَيدينا لِتَهْـ
ــلكة وغِبْنا عن نِداءِ طِعانِ
* * *
* * *
وتلفَّتتْ عيني ! وكُلُّ دِيارِنا
دفقُ المجازِر أو لظى النيرانِ
قتلاً وتدميراً ونَهْباً غاصِباً
وتتابُعَ العُدْوانِ بالعُدْوانِ
يتزاحَمون على بقايا قصْعةٍ(/1)
كتزاحم الآلام و الأحزانِ
وتداعَتِ الدنيا تداعيَ مجرمٍ
نهِمٍ على جَشَعٍ ووثبَةِ جانِ
أَلِقلَّةٍ منّا ؟! ونحن كما ترى
المليار في عددٍ ! غُثاءٌ فانِ
نُزِعَتْ مهابتنا على وهَنٍ بنا
حُبِّ الحياةِ وخشيةِ الميدانِ (4)
* * *
* * *
عجباً ! تُباعُ ربوعُنا ورجالنا
وضمائِرٌ ! وبأبخس الأثمانِ
فالمجرمون تراهمُ بَسَطوا الدُّلا
رَ لكلِّ مفتون الهوى خَوّانِ
فتزاحمت حولَ الدُّلار عصائبٌ
هانتْ لديهمْ أنفسٌ وأمانِ
عجباً ! وكلُّ عصابَةٍ رَفعَتْ لَها
سِتْراً لتُخْفِيَ سَوْءةَ الخُسْرانِ
بشعارها وضجيجها ودَعاوةٍ
كذبَتْ على الدنيا وطول لسانِ
فانظر إلى " الموساد" كم من ساقط
يَسْعى لها ! أو خائنٍ وجَبانِ
وانظر لأمريكا ! وكم حشدت من الْـ
ـعُمَلاءِ والأُجُراءِ والأعوانِ
وانظر إلى الإِنكليز ! كيف سمومهم
تَسْري مع الدّمِ دفقَة الشريانِ
وانظر لغَيرهمِ ! فَكلُّ دِيارِنا
مفتوحةُ السَّاحَاتِ والشُطآنِ
وتهافتَ الجُبناء في أوهامِهِمْ
كتهافُت الحَشَرَاتِ في النيرانِ
* * *
* * *
وتلفّتتْ عيني ! وأهلي في الفلبّـ
ـين استبيح حماهُمُ بِهوانِ
وعلى ربا كشمير صيحة صابرٍ
ماضٍ على أمَلٍ وصبْرِ مُعانِ
وعلى ربا البوسنا وكوسوفا ترى
كيدَ الجناة وضيعةَ الأَعْوانِ
وانظر إِلى الصومالِ كيف مصابُهم
ورؤى البلاءِ تدور في السودانِ
والمغربُ الأقصى ، ودارُ جزائرٍ
جُنَّتْ مجازرُها بدفقٍ قانِ
والشام ! يا للشامِ في أحزانها
ومرابع الإسلامِ في لُبنانِ
لهفي على الأقصى وطولِ إِساره
وأنينِه وندَاوةِ التَّحنانِ
وضجيج أوهامٍ وخفق زخارفٍ
وغياب نهج صادق العنوان
وجرائمٍ وحْشيَّةٍ وإبادةٍ
سَحَقتْ من الأطفالِ و الفتيانِ
ومن النساء، من الشيوخ ،من الحقو
لِ ، من الثمار ، وغرسَةِ البستانِ
والنّاس ، كلُّ الناس في عَمَهٍ ! فمِنْ
صُمٍّ ومن بُكمٍ ومِنْ عُمْيانِ
لهفي على الأفغان ! كلُّ جريمةٍ
فيها تشدًُّ مسامِعَ الأزمانِ
يَرْقى التُّقاةُ بصدقهمْ ووفائهمْ
ومع الخيانة ذَلَّ كلُّ جَبانِ
وبكل دارٍ فتنةٌ ومعاركٌ
تهوي تُدَمِّرُ شامخَ البنيانِ
غنّيتُها ونَثَرتُ مِنْ دُرَرِ القَصيـ
ــدِ على ذُرىً شَمَختْ وفي وِديانِ
* * *
* * *
المسلمون جميعُهم رهن الحِسا
بِ على تخاذِلِهِمْ وشَرِّ توانِ
كلٌّ بِقَدْرِ هَوَانِه يلقى الحسا
بَ القسطَ ! قسطَ عدالة الميزانِ
حقٌّ على " العلماء " أن يمضوا إلى
ساحِ الجهاد وجولةٍ وطِعانِ
حقٌّ على كلّ الدُّعاة لينفروا
صفّاً لملحمةٍ وخفق سنانِ
لتُقادَ هاتيك الشعوبُ جَميعُها
لوفاء عهدٍ صادقٍ وبيانِ
صفّاً أبرَّ كأنّه البينان رُصَّ !
و خطّةً تُجْلَى على الميدانِ
هذا الكتاب وتلك سنّة أحمد
نطقا بحقٍّ صادق التبيانِ
لا يُعْذَرَنَّ سوى الذي عذر الإلـ
ـهُ ! وليس بعدُ هناك عُذْرٌ ثانِ
هذا سَبيلُ نجاتِنا وبِغَيْرِه
ذُلٌّ يُطيح بِنا وقَهْرٌ دانِ
* * *
* * *
" بغدادُ " ! وَاأسفاه ! هذا حَالُنا
لمّا ابتُليتِ ! فَمنْ تُراهُ الجاني ؟!
ضاعت معالِمهُمْ ! وكلٌّ يدَّعي
شَرَفَ البطولةِ أو يَدَ الإحسانِ
ضاعَتْ موازينُ العَدالةِ واختفتْ
وَيحي ! فأين عدالة الميزانِ
لَهْفي عَلى " بَغْدَاد " بَيْنَ دِيارِها
حمَمٌ تفجَّرُ في لظىً ودخانِ
لهفي على بغداد وهي أسيرةٌ
من ظالم عادٍ ومن خَوّانِ
هذا العَدُوُّ عَرفْتُ شِدَّة مَكره
ما بال أهلك في شَتاتِ هوانِ
كم من بَنيكِ تألبوا وتناثروا
فِرَقاً مشتَّتَةً وهوجَ أمانِ
ومذاهباً وعصائباً وطوائفاً
شتّى ممزَّقَةً بغير أمانِ
لا الدينُ يجمعها ولا وطنٌ يلُـ
ـمُّ شتاتها ! نَفروا إلى طغيانِ
ضمّوا صُدورَهُمُ عَلَى أحقادهم
وعلى مُرَاوغَةٍ ، على كتمانِ
فإذا هُمُ ساحٌ لكلِّ منافقٍ
مُتَسلِّلٍ عادٍ خفيَّ الشانِ
يَرْمي شِباكَ خَديعةٍ فيلُمّ من
شَتَتِ الهوى بزخَارِفِ الألوانِ
فَسَلِ " المُسَادَ " وكم رمى بِشبَاكِه
وكم الذين هوَوْا إِلى قيعانِ
وسَلِ القُوى الكُبرى! فكم من جاهل
ألقى إليهِمْ حُزمَةَ الأرسانِ
فتسلَّلوا فِتناً تثورُ وخُطّةً
تسري على مكْرٍ لها فَتّانِ
وسَرَوا بأرْضِكِ خُفْيةً ! كمْ ثعلَبٍ
مُتَربّصٍ ومُداهِنٍ ثُعبانِ
* * *
* * *
بغدادُ مَهْلكِ ! والكنوزُ غنيّةٌ
والمجرمون تحفّزوا لطِعانِ
فعلى رباك من الكنوز ذخائِرٌ
تهبُ الوفاءَ لسائلٍ ومُعَانِ
وعلى مدى التاريخ كفُّكِ جودُه
بِرُّ اليقين وصفوةُ الإحسانِ
حتّى تفجَّرَ بطنُ أرضِكِ نعمةً
كُبْرى وفيضاً من يدِ الرحمنِ
نُعمى أَحَلْتِ لهيبَها نَوراً بفضـ
ـل الله ! نُعمى الواحدِ الديّانِ
فأبى عَليكِ المجرمون ليجعلوا
منها لظىً متوقِّدَ النيرانِ
بغدادُ جُنّ المجرمون فأقبلوا
زحفاً على جَشَعٍ وغَدْر جبانِ
واحسرتاه عليك يا بغداد كَمْ
حَرْبٍ تُشنُّ عَليكِ أو عُدوانِ
يتفجَّرُ التاريخُ بَيْن ملاحمٍ
دارتْ ودفقٍ من دمائِك قانِ
* * *
* * *
قَدْ كنتِ يا بغدادُ جنَّةَ أُمَّةٍ
ورَواحَ أفئدةٍ وعِزَّ مكانِ
فُعُرِفتِ داراً للسلام وقُبَّةَ الـ
إسلامِ دارَ خلافةٍ وأمانِ(/2)
يا غُرَّةَ الدنيا ! جَمعْتِ الرافدَيْـ
ـنِ لطائِفَ الإبداعِ والإتقان
وجمعتِ مِنْ طُرَفِ الحياةِ ندّيةً
تَغنَى وتَرْوي لَهْفَةَ الظَّمآنِ
يا زهرةَ الدنيا وأنفاسَ الهوى
ورفيفَ أشواقٍ وخفقَ حَنانِ
زَهرتْ علومُك في الحياةِ وفوَّحَتْ
عِطْرَ الورودِ ونفحةَ الريْحانِ
فلكَم دَفَعْتِ إِلى البريّة أمّةً
من عبقريِّ العِلْم والأفنانِ
في كلِّ مَيدانٍ رفَعْتِ منائِراً
ومنابراً ورفَعْتِ من بُنيانِ
ولكم قَصمتِ من الضلالِ وخُضتِ من
لُجَجٍ وأهوالٍ مِنَ الحَدثانِ
مهما تَبَدَّلَ فوقَ أرضك من هوى
سيظلُّ عهدُك عروةَ الإيمانِ
دارٌ مجلّلةٌ بِعزَّةِ أُمَّةٍ
كم زانها التاريخ من تيجانِ
تاريخُ إسلامٍ وثروَةُ أُمّةٍ
أو زهوُ آمال وعزُّ كيانِ
* * *
* * *
كم مجرمٍ يسعى إِليك وظالمٍ
باغٍ عليك وحاقدٍ فتّانِ
غَزْوُ " التتار " ! وقد تدَفَّق من دما
ئِكِ ما يُبَدِّلِ صِبغة الألوان
فالرافدان دم يَسيل وكل سا
حٍ صبغة بدم جَرى لكِ قانِ
ولقد غزوْكِ بِفَتْكِهِمْ ! فغزوتهم
صبراً بهديِ الحقِّ والقرآنِ
ورفيف أنداءٍ ودعوة صادقٍ
ووفاء عزمٍ ثابتٍ وجَنَانِ
ظلموا ! فعادوا بعد ذلك يحملو
ن رسالة الإسلام والإيمان
* * *
* * *
مالي أراكِ اليوم أَطْبََقَ فوقك الـ
ـفُجّارُ في شرَهٍ وكِبر رِهانِ
وتماَلأ الأعداءُ : صفُّ مُداهنٍ
حيناً وصفٌّ عاصِفُ الشَّنَآنِ
من كلِّ أرضٍ عُصبَةٌ نَفَرتْ إلى
حِلفِ الضِلالِ وزمْرَةِ الشيطانِ
جَمَعُوا حُشُودَهُمُ ! تكادُ تَسدُّ من
أُفْقٍ وتملأُ سَاحَةَ " الأوطانِ "
ملؤوا الصَّحاري بالجنُودِ وبالعَتا
دِ ! مَضَوا إِلى الخُلجَانِ والشُطآنِ
وَضَعُوا عَلى كلِّ العتادِ إِشارة
حِقْد الصليبِ ونَزْوة الكفران
* * *
* * *
وأَرى حَواليْكِ الدِّيارَ تَمايَزَتْ
ما بيْنَ ناءٍ مِنْهُمُ أَو دانِ
ما زال بين صُدورهم غَضبٌ من الـ
ماضي ومن فِتَن الغريب الجاني
ما كان للأعداء أن يتسلََّلوا
بين الصفوف دسيسةَ البُهْتَانِ
فاسْتَدْرَجُوا بالمَكْرِ كُلَّ فَرِيسةٍ
هانَتْ وكُلَّ مُضَيًّعٍ مُتَوانِ
هاج الخلاف ! أثاره الأعداء فيـ
ــنا واجْتِياحُ عواِصفٍ ودخان
لولا صَبَرْنَا والتقى الحُكَماءُ منَّـ
ـا تنجلي سُحُبٌ على إحسان
فتُسَدّ في وجْهِ العَدُوّ مَنَافِذٌ
لمَكَائِدِ الطُّغْيانِ والكُفْران
لولا تَمَسّكُ كلُّ دارٍ بالهُدى !
بالصَّبر ! بالإحسان ! بالقرآن
لِيُرَدَّ مَكْرُ الماكرين ! وإنّه
مَكْرٌ أَحَاط بِنَا وشَرٌّ دان
عصبَّيةٌ جَهْلاءُ أقسى من مكا
ـئِدِهم بنا وأَشدُّ من عُدْوانِ
هلا انتهينا مِن مُرَاوَدَةِ الهوى
و تجدُّد الأحقاد والشنآن
* * *
* * *
واليوم عَادَ المكْرُ في شَرَهٍ وفي
حقْدٍ وفي حَشْدٍ وفي إِمعانِ
هلاّ وقَفتُم بعد ذلك وقفةً
للَحقّ في بذلٍ وصِدقِ أمانِ
ليُرَدّ كَيْدُ المجْرِمِينَ عَنِ الدِّيا
ر وحُرْمة الإسلام والإيمانِ
أين العروبة؟ أينَ حق الدين ؟! أيْـ
ـنَ تَواصُل الأرحام والإخوانِ
فاليوم عَادَ المجْرمون بِكيْدهم
وجحافلٍ موصولةِ الأضغانِ
لهفي عليك فهلْ وجدتِ تراحماً
لما ابتليتِ وهل وجدتِ الحاني ؟!
* * *
* * *
ويحي ! أتوكِ على بوارج كالقلا
ع وزَحْمة الآلات والرُّكبانِ
زَحفوا بِدبَّاباتِهمْ ! بالطائرا
تِ ! بآلَةٍ جَبَّارَة الطُّغْيانِ
وأتوكِ من كلِّ الجهات : من الجنو
بِ ، من الشمال وكلِّ " دار أمانِ "
زحفوا عليك كأنهم موجٌ من الـ
إعصارِ والإظلام والطوفانِ
بالنار ! بالصاروخ يُلقي فوقها
هولَ الجحيم ودفقة الأضغانٍ
ورموك باللّهب المدَوِّي ! ويحَهِمْ
وَصَواعِقٍ مجنونةٍ ودُخانِ
فكأنَما ترمي السَّماءُ لهيبَها
والأرض تطلق غضبة البُركانِ
وتدفّق الحقْد الشَّديد قواصفاً
وعواصفاً مِنهمْ ومِنْ أَعوان
كم من صبيّ راحَ بين لهيبها
وصبيّة طُوِيِتْ على أحزانِ
تتناثر الأشلاء من أطفالها
ومن الشيوخ وطلعةِ الفتيانِ
تتواصلُ الغاراتُ دونَ هَوادَةٍ
قصفاً على الساحاتِ و البُنيانِ
تهوي العَمائر بين هَوْل دويِّها
ولهيبها وجَحيمها ودُخَانِ
تنصبُّ أهوال الصواريخ التي
جُنّتَ على الساحات والكُثبانِ
فالأفْقُ مُسْودٌّ بسودِ فِعالهم
والأفْقُ من خَجلٍ بلونِ دِهانِ
كُشِفت مَزاعمُهم وبان ضلالُهم
وبدا فَسَاد الزُّور والبُهْتانِ
* * *
* * *
لَهْفي على بَغدادَ ! كُلُّ جُنودِها
هَبُّوا لملحمة ويومِ رهانِ
وثَبوا إِلى ساحاتها كالبرق يخـ
ـطَفُ نوره ! لمحاً من اللمعانِ
أُسْدٌ يهيجُ زئيرُها ، وعواصفٌ
هِاجَتْ تصدُّ ، ووثبةٌ من جانِ
أنّى التفتَّ رأيتَ رَوْعةَ عزمَةٍ
تَجْلو روائِعَها على المَيْدانِ
سلْ " أمَّ قَصْرٍ " كيف كان بلاؤهم
بين العدوّ إِذِ التقى الجمعانِ
و" البصرةَ " الشماءَ كيف صمودها
و" الناصرية " ! كلَّ ساح طعانِ
صدُّوا العدوَّ وأوقعوا فيه الهزا
ئمَ ! فانثنى يلوي إلى جَرَيانِ
المجرمون أَتَوا ! فكلُّ ظُنُونهمْ
خابت وعاد رجاؤهم بِهَوانِ
فتناثروا قتلى ! وأدبر جَمعُهمْ
في ذلّةٍ ومهانة الخُسُرانِ(/3)
والموصل الغرّاء سل ساحاتها
صمدت لقصفٍ هائل النيرانِ
صدّتْ ! وهبّ من الرُّبا تاريخُها
ما لمْ يَكُنْ في البال من حُسْبانِ
ظَلّت زحوفُهُمَ تحاوِل وثبةً
تمضي بها أملاً إِلى بغدانِ
* * *
* * *
لهْفي على بَغْدادَ وهي حرائقٌ
شتى تَواصَلُ في رُبَا بغدانِ
فإذا نَظَرْتَ فلا تَرى أبداً سِوى
لَهَبً تَلَظّى واقتحامِ دُخانِ
فكأنّه لم يُبْقِ في سَاحَاتِها
بَشراً ولا أَثَراً إلى بُنْيانِ
زعمَ الطغاةُ المجرْمُون بأنّهم
حَمَلوا إلَيْكِ نوازِع الإحسانِ
حُرِّيّة ونداوةً ! يا ويْحَهُمْ !
حَمَلوا إِليكِ فَواجِعَ النيرانِ
والموتَ والتَدْميرَ والإِفناءَ ! تِلْـ
ـكَ شَرِيعةُ الطغيانِ و البُهتانِ
حَمَلوا مَطامِعَهمْ وفوْرةَ نَهْمَةٍ
يُخفُونَها في زُخْرُفٍ وبَيَانِ
وبقيتِ وحْدَكِ والذين أَتَوك في
مَدَدٍ مِنَ الصّدْق الوفيِّ الحاني
ثم انطوتْ زمُر النفاق وأدبروا
زمراً من الذؤبان والجرذانِ
* * *
* * *
فإذا " العراقُ " جميعه صفٌّ يثو
ر وغضبةٌ هاجَتْ على المَيْدانِ
فتعطلت تلك الزحوف وقد أفا
قَتْ من رُؤى الأحلام و الأضغانِ
ذُهِلَتْ !وقد رُفِعَتْ عن الأَبصار سو
ءُ غِشاوَة التضليل والكُفرانِ
لكنّهم نُكِسُوا وَعَاد ضَلالهم
ليهيج في حِقْدٍ وفي غَلَيانِ
ليُصَبَّ حِقْدُهُمُ دَوِيَّ قَنابلٍ
ولَهيبَ نِيرانٍ على نِيرانِ
"كركوكُ" أم "تِكرِيتُ" أم "نَجَفٌ" بَدَت
شُعَلَ اللَّهيب و وقْدَةَ الطيران
كم منزلٍ أهوى على سُكَّانِهِ
هَلْ ظَلَّ في الأَطْلال من سُكَّانِ ؟!
فترى الأُمُومَةَ والطفولَةَ كلَّها
أشْلاءَ تندُبُ ذِلّةَ الإنسانِ
كَمْ من عجوزٍ قُطِّعَتْ مِنْ قْبلِ ما
تُنْهي لُقَيماتٍ وشُرْبةَ وانٍ
وفتى يرى أهليه بَينَ صدى الرَّكَا
م طواهم ولواعج التَّحْنَانِ
حقْدٌ تفجَّر في الديار وإنّه
حِقْدُ " الصليبَ " وغضبَةُ الأوثانِ
* * *
* * *
شَتَّانَ بينَ الحقِّ هبَّ جُنودُه
عَزْماً وبين جَحافل البُطلانِ
بغداد ! حبل الله أوثق عزمةٍ
فتمسَّكي ! لهفي على بغدانِ
شُدِّي عُرا الإيمان ! نَصْرُك آية
لله إِن أوفَيْتِ بالإحسانِ
بُشْرى تَظَلُّ تُطِلُّ مِنْ آفاقِنا
أمَلَ القُلوبِ وفرْحةَ الأزمانِ
* * *
* * *
طال الحِصَارُ عَليكَ ! كلُّ سنيه من
ظُلم الطُّغاةِ وشِدَّةِ الطغيانِ
عجباً لِصَبركَ بَعْد طول حِصارهم
لكَ يا " عِراقُ " وقسوةِ الحرمانِ
المجرمونَ عِصَابَةٌ في الأرْضِ أعْـ
ـتى من وحوش الغاب والحَيوانِ
شدُّوا !عليكَ وضيَّقوا ! فصبرتَ في
أملٍ يُطلِّ وعزّةٍ مِنْ شانِ
فالأُمَّهات يَرَيْنَ من أًَطفالِهـ
ـنَّ تأوّه الأحْشاءِ والأبدانِ
صَرْعى مِنَ المرضِ الشَّدِيد !فلا دَوا
ءَ ولا غِذاءَ ! ضحيّةُ العُدْوانِ
هذي الملايين التي سقطت ضحا
يَا الظلمِ والإِحصار والبُهتانِ
* * *
* * *
عجباً لِصبْرِكَ يا "عِراقُ" على شَديـ
ـدِ حِصَارِهِمْ وفواجِع الخذلانِ
أنّى نهضتَ مِنَ الحِصارِ ، مِن الجِرا
ح ، مِنَ الدَّمَارِ ، وهجمة الكفرانِ ؟!
ظنّوا بأنك بالحصار لسوف تر
كُع دونَهُمْ وتميلُ للإذعانِ
وصبرتَ لم تَرْكَعْ ! فظنّوا أنه
لا بُدَّ من حربٍ عليك عَوانِ
فشلَ الحِصَارُ ! وخابَ كلُّ رجائهم !
هبّوا على غضَبٍ ! على غليانِ
لجريمة كُبرى ! وقصفِ مرابعٍ
بالنار ، بالصاروخ ، بالطيران
وبكل آلات الدّمار ، وكلِّ حقـ
ـقدٍ في الصُّدور ونزوة الإمعانِ
فنهضتَ من بين الحصار مُدَوِّياً
عزماً أشدَّ تجول في الميدانِ
* * *
* * *
أَبَت الشُّعوبُ ضَلالةً فتواثَبَتْ
غَضَباً على شَرَهٍ ! على عُدْوانِ
هيَ مِنْ بَقَايا فِطرةٍ دَفَعَتْهُمُ
دفعاً ! بقيَّةُ فطرةِ الإنسانِ
هذي الملايين التي خَرَجَتْ تظا
هَرُ في نواحي الأرض والبلدَانِ
هبّتْ تُحَاصِر كُلَّ دَارِ سَفارَةٍ
للمجْرمين ! وكُلَّ وِكْرِ جبانِ
أرأَيْتَ من يَحْمي سفارات العَدُ
وِّ من الشعوب وفورة الهيجانِ ؟!
نَحْنُ الذين نَصُونُها ! يَا لَيْتَنا
صُنَّا العِرَاق وحُرْمةَ الأَوطانِ !
* * *
* * *
بغداد لا تَسْتسلمي وتَوَقّدي
شُعَلَ العَزيمةِ ! وثبةَ الفُرسانِ
وتوقَّدي لَهَباً يَصُبُّ على العِدى
حُمَمَ الجحيم وغضبةَ البركانِ
لا تيأسي بغدادُ إِن طال المدى
فالنصر عزمة صابرٍ طعّانِ
والحربُ جَولاتٌ ليُجْلى عِنْدَها
شَرفُ العَهُود وعروة الإيمانِ
فَثبي وَخَلِّي الأَرْضَ تَحْتْ جُنُودهم
وَعتادِهم وقْداً من النيرانُ
ومن الزحوف كأَنَّها زَحْفُ الجِبا
لِ عَلَيْهِمُ وعواصفُ الكثبان
وقواصفاً ترمي بوارج حِقدِهم
وتهزُّ من عُمُدٍ ومن أركانِ
تلك البطولَةُ ! ما أَجَلّ وَفاءها
شيخ تصدّى " للأباتشي " الداني
" مِنْقاشُ " أطْلَقَ من صميم عزيمةٍ
وقديمِ أسَلحةٍ وصدقِ جِنانِ
فَهَوتْ مُمَزّقةً لِتطحَنَ مَنْ بِها
مِنْ مجرمينَ بَغَوا ومِنْ خُوَّانِ
لما رميتَ فما رميتَ وإِنما
يَرْمي بِكَ الله العدوّّ الجَاني
بورِكتِ يا " مَيْسونُ " أَيُّ عزيمةٍ
دَفَعَتْكِ في شَرفٍ إلى الميدانِ
أنزلتِ بالأعداء ضربة همة(/4)
شمّاءَ لم تَبْخَلْ على الأَوطانِ
لم تقْتُلوهُمْ غَيْرَ أنَّ الله يَقْـ
ـتُلُهُمْ وَيْرِميهمْ إلى خُسْرانِ
* * *
* * *
الرياض
28/1/1424هـ
31/3/2003م ... ... ...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أي أنها تاهت فنست مسؤولياتها التي ستحاسب عليها بين يدي الله .
(2) نداءٌ ثانيِ : نداء غير نداء الجهاد ، نداء السلام .
(3) إشارة إلى قوله سبحانه وتعالى : ( ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون ) [ السجدة : 21 ] .
(4) إشارة إلى حديث الرسول صلى الله عليه وسلم : عن ثوبان رضي الله عنه عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال : " يوشك أن تداعى عليكم الأُمم من كل أفق ، كما تداعى الأكلة إِلى قصعتها " ، قيل يا رسول الله ! فمن قلةٍ يومئذ ؟ قال : " لا ! ولكنكم غثاء كغثاء السيل . ولينزعنّ الله من صدور عدوكم المهابة منكم وليقذفن الله في قلوبكم الوهن " . فقال قائل : " وما الوَهن " ؟ قال : " حب الدنيا وكراهية الموت . " [ رواه أحمد وأبو داود وصحيح الجامع الصغير ](/5)
لُحومُ العُلَماءِ مَسمومَةٌ
د. حسام الدين عفانه
الأستاذ المشارك في الفقه والأصول
كلية الدعوة وأصول الدين- جامعة القدس
لا ريب أن احترام العلماء وتقديرهم من الأمور الواجبة شرعاً وإن خالفناهم الرأي فالعلماء ورثة الأنبياء ، والأنبياء قد ورثوا العلم وأهل العلم لهم حرمة . وقد وردت نصوص كثيرة في تقدير العلماء واحترامهم ، قال الإمام النووي :
[ باب توقير العلماء والكبار وأهل الفضل وتقديمهم على غيرهم ورفع مجالسهم وإظهار مرتبتهم ]. ثم ذكر قول الله تعالى :( قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) سورة الزمر الآية 9 ، ثم ساق الإمام النووي طائفة من الأحاديث في إكرام العلماء والكبار وأحيل القارئ إلى كتاب رياض الصالحين للإمام النووي ص 187-192 .
ومع كل هذه النصوص التي تحث على ما سبق وغيرها من النصوص الشرعية التي تحرم السب والشتم واللعن والوقوع في أعراض المسلمين إلا أن بعض الناس من أشباه طلبة العلم ليس لهم شغل إلا شتم العلماء وسبهم على رؤوس الأشهاد في المساجد وفي الصحف والمجلات ويحاول هؤلاء الصبية تشويه صورة العلماء وتنفير عامة الناس منهم لأن هؤلاء العلماء علماء السلاطين
- كما يزعم هؤلاء النكرات - ومن العلماء الفضلاء الذين تعرضوا وما زالوا يتعرضون لهذه الهجمة الشرسة العلامة الفقيه الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي حفظه الله ورعاه ، فالشيخ القرضاوي لا ينكر علمه وفضله إلا حاقد أو جاهل . والشيخ القرضاوي لا يحبه ويقدره إلا من تأدب بأدب الإسلام ولا يبغضه ولا يشتمه إلا سفيه أو جاهل أو حاقد ليس له نصيب من أدب الإسلام .
إن أدعياء الوعي وأدعياء الفكر والثقافة يشتمون الشيخ القرضاوي بغير وعي ولا يعرفون ماذا يصدر منهم من فظائع لا يجوز أن تقال في حق واحد من عامة الناس فضلاً أن تقال في حق عالم من علماء الأمة كالشيخ القرضاوي.
إن هجمتهم الشرسة على العلامة القرضاوي تثير التساؤل ، فهذه الهجمة تخدم أعداء الأمة الذين طالبوا بإغلاق السبل أمام الشيخ القرضاوي كيلا يخاطب الأمة الإسلامية .
وأتسائل لمصلحة من يهاجم علماء الأمة ؟ولمصلحة من يشتم العلماء ؟
هل هذه هي الطريق لإقامة الخلافة ؟ هل علماء الأمة حالوا دون إقامة دولة الخلافة ؟ أم أن بعض الناس يعلق فشله وعجزه على الآخرين ؟ لماذا يوصف العلماء بالخيانة أو السذاجة والبلاهة ؟ هل يصح أن يقال في علماء الأمة :
" ومن الملمَّعين المنافقين " ؟ كيف عرفتم أنهم منافقون ؟ هل شققتم على قلوبهم ؟
ألم تسمعوا قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لأسامة بن زيد - رضي الله عنه - لما قتل رجلاً بعد أن قال لا إله إلا الله :( أفلا شققت على قلبه ؟ ) رواه مسلم .
ألم تسمعوا قول النبي- صلى الله عليه وسلم - :( إني لم أؤمر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم ) رواه البخاري ومسلم .
هل علمتم دخيلة الشيخ القرضاوي ونيته وأنه لا يريد من برامجه إلا المحافظة على مكاسب الشهرة ؟! هل كلام الشيخ القرضاوي ينضح بالجهل أو التجاهل ؟ أم أن كل إناء بما فيه ينضح ؟
إن الشيخ القرضاوي محل ثقة أهل العلم وجماهير الناس شرقاً وغرباً والشيخ القرضاوي ليس بحاجة لينال ثقة أشباه طلبة العلم وصغارهم .
فالناس يأخذون علمهم عن الشيخ القرضاوي وأمثاله من العلماء الكبار ولا يأخذون عن الأصاغر فإن الأخذ عن الأصاغر هَلَكَةٌ في الدين .
قال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - :( لا يزال الناس مشتملين بخير ما أتاهم العلم من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - ومن أكابرهم فإذا أتاهم العلم من قبل أصاغرهم وتفرقت أهواؤهم هلكوا ) رواه أبو عبيد والطبراني في الكبير والأوسط ، وقال الهيثمي رجاله موثقون .
ورواه أبو نعيم في الحلية ولفظه قال عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - ( لا يزال الناس بخير ما أتاهم العلم من علمائهم وكبرائهم وذوي أسنانهم فإذا أتاهم العلم عن صغارهم وسفهائهم فقد هلكوا ) .
وورد في رواية أخرى عند الخطيب في تاريخه بلفظ ( فإذا أتاهم العلم عن صغارهم وسفلتهم فقد هلكوا ) . إتحاف الجماعة 2/ 105 .
إن الأمة بحاجة ماسة لعلم الشيخ القرضاوي وفهمه النير لأحكام الإسلام ، وليست بحاجة إلى العلم بطلب النصرة من الكفرة وأعداء الدين حتى يقدموا الخلافة على طبق من ذهب لبعض الناس ! وهم فقط ينتظرون حدوث ذلك الأمر البعيد إن لم يكن المستحيل .
إن مبدأ طلب النصرة من غير المقتنعين بالفكرة مبدأ خاطئ ليس عليه دليل صحيح من سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - ومنهجه وإن حاولوا إثباته .
إن الأمة لن تنظر إن شاء الله بارتياب إلى فتاوى وآراء العلامة القرضاوي ، بل تتقبلها قبولاً حسناً ، ولكن الأمة لتنظر بارتياب لمن يهاجم القرضاوي ويسبه ويشتمه لأن هؤلاء السابين الشاتمين هم الذين خرجوا عن أدب الحوار والخلاف ووصل بهم الأمر إلى اتهام نيات العلماء وطعنهم في إيمانهم !!(/1)
أهكذا يكون النقد العلمي ؟ قال الإمام الذهبي يرحمه الله :[ ما زال الأئمة يخالف بعضهم بعضاً ويرد هذا على هذا ولسنا ممن يذم العالم بالهوى
والجهل ] سير أعلام النبلاء 19/342 .
أيها الناس تأدبوا مع العلماء ، واعرفوا لهم مكانتهم ، فما فاز من فاز إلا بالأدب وما سقط من سقط إلا بسوء الأدب .
واعلموا أن الأمة لا تحترم ولا تقدر إلا من يحترم العلماء والأئمة .
قال الحافظ ابن عساكر يرحمه الله مخاطباً رجلاً تجرأ على العلماء :[ إنما نحترمك ما احترمت الأئمة ]
وأخيراً أختم بكلمة نيرة مضيئة قالها الحافظ ابن عساكر يرحمه الله :[ اعلم يا أخي وفقني الله وإياك لمرضاته وجعلنا ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته أن لحوم العلماء مسمومة وعادة الله في هتك منتقصيهم معلومة وأن من أطلق لسانه في العلماء بالثلب بلاه الله قبل موته بموت القلب ( فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم )
والله يدافع عن الذين آمنوا وهو الهادي إلى سواء السبيل(/2)
لُورنس العرب
حقائق غيّبها التاريخ
لُورنس العرب
منال المغربي
Yafa-48@hotmail.com
يعتبر لورنس العرب من أشهر شخصيات الربع الأول من القرن العشرين؛ فاسمه اقترن في كتب التاريخ بثورة الشريف حسين – أمير الحجاز – ضد الحكم التركي عام 1916م وهناك العديد من الكتب في أكثر من لغة تناولت سيرة حياته وأظهرته بطلاً من أبطال الإمبرطورية البريطانية نتيجة للدور الهامّ الذي لعبه إبّان الحرب العالمية الأولى كونه ضابط ارتباط بين القيادة العسكرية البريطانية والثورة العربية الكبرى ضد الأتراك، وقد تحوّلت قصته لفيلم سينمائي معروف ظهر فيه باللباس العربي على الخيل والجمال زعيماً لقبائل البدو وملكاً غير متوج للعرب.
من هو لورنس العرب؟
ولد توماس إدوارد عام 1888م في (ويلز) بإنكلترا، تزوج والده من إيرلندية أنجبت له 4 بنات ولكنه هجرها ليعيش مع مربية بناته دون زواج وأنجب منها 5 ذكور كان لورنس الثاني من بينهم.
عاش لورنس متفوقاً في دراسته ينال المِنح المدرسية والجامعية، وكان منذ صِغره قوي البنية نشيطاً ذكياً يتميّز بقوّة الذاكرة وحبّ المغامرة والصبر على المتاعب. تخصّص في علم الآثار في جامعة أكسفورد الأمر الذي دفعه للاهتمام باللغات فتخرّج وهو يجيد الفرنسية واللاتينية واليونانية، وأثناء تحضيره لرسالته الجامعية التي كان موضوعها (الفن المعماري الحربي عند الصليبين في الشرق) قام بزيارة القِلاع التي بناها الصليبيون، وتلقّى شيئاً من اللغة العربية قبل سفره، وزار سوريا وبيروت وغيرها، قطع خلالها مسافات شاسعة وحده مشياً على الأقدام على طرق أكثرها غير معبّد وبراري غير مأمونة يبيت عند الفلاحين والبدو في خيامهم يُشاركهم المأكل والمشرب وشظف العيش ممّا ساعده على إجادة اللغة العربية (1).
وعند اندلاع الحرب العالمية الأولى راحت كل من الدول الكبرى: فرنسا، وبريطانيا وروسيا وألمانيا تسعى لتحقيق مصالحها الخاصة، منها: توسيع رقعة نفوذها والسيطرة على الأماكن الاستراتيجية وعلى منابع النفط... لذلك أخذت بريطانيا ترسل عملاءها إلى المنطقة؛ فاستدعت القيادة الإنكليزية أصحاب الخبرة في البلاد العربية ومنهم لورنس الذي التحق بسلك المخابرات العسكرية، وعندما دخلت تركيا الحرب في أواخر عام 1913 عُيّن لورنس في القاهرة مشرفاً على شبكة للتجسس كان هو يختار أعضاءها بنفسه، ومن مُهماته تهيئة الخرائط العسكرية وضبط وتنظيم المعلومات الواردة التي تُؤخذ من الأسرى والفارين من الجيش العثماني وتنسيقها مع المعلومات الواردة من الجواسيس. ولكي يقوم بوظيفته تلك على أكمل وجه تمّ إعداده، فنُظِّمت مطالعاته لاسيما فيما يتعلّق بالتاريخ الحربي حتى يقال إنّه قرأ كل ما له علاقة بالفروسية وبالقرون الوسطى، وقرأ حوالي 25 مجلّداً خاصاً بنابليون، وبعد ذلك قرأ معظم كتب الحرب العائدة إلى القرن الثامن عشر. ولم يقم لورنس بشحذ ذهنه فحسب بل قام بتدريب جسده على تحمّل المشاق؛ ويروي أحد أصدقائه أنّه كان يختبر طاقاته على التحمّل بالانقطاع عن الطعام لمدّة يومين أو ثلاثة أيام وبالسير مسافات طويلة في الصحراء إبّان فصل الشتاء وبالتغلب سباحة أو تسلقاً على أي حاجز مائي أو جبلي يعترض سبيله، وبقضاء أمسيات طويلة وحيداً في حقل الرماية يتدرّب على إطلاق النار حتى أضحت يساره تُضاهي يمينه في استعمال الأسلحة النارية، وبقطع المسافات الطويلة راكباً دراجته دون توقف إلى أن يقع تحت وطأة الإعياء على حافة الطريق (2).
وليس هذا كل ما في الأمر، ذلك أن لورنس الشاذ جنسيّاً بشهادة المقربين منه(3) يُعتبر من أشهر أدباء عصره؛ فكتابه (أعمدة الحكمة السبعة) التي يصف فيها ثورة العرب هو من أوسع المؤلفات الإنكليزية انتشاراً، وما استطاع الوصول إلى ما وصل إليه إلا "بالدأب والصبر وقطع الصحراوات على ظهور الإبل وهو ابن الثلج"(4) لذلك صدق فيه قول الشاعر:
لا تحسبنّ المجد تمراً أنت آكله لن تبلغ المجد حتى تلعق الصََّبِِرا
" فلورنس هذه قاد الأعراب حتى حاز على دمشق وظل ينهك الجيش العثماني، وقد أدى لوحده – وفي سبيل قضيه باطلة – ما يؤديه جيش كبير، حتى أنّه خدع نفراً من الضباط العرب في الجيش العثماني فكانوا معه في مسيرته تلك من الحجاز إلى حلب" (5).
والقاعدة تقول: إنّ من يزرع لا بدّ أن يحصد، فإذا نظرنا إلى واقعنا اليوم نجد أن العالم الإسلامي يتخبط في دوامة يبدو أنّها لن تنتهي من المسرحيات المذلّة والمنهكة للعقل العربي والمستنزفة للطاقات العربية كافة، وهذا نتيجة تقاعس أبنائه وابتعادهم عن النهج القرآني...(/1)
إنّ أوّل وأهم ما يسترعي الانتباه أنّ لورنس لم يكن يهمه من أمر العرب شيئاً فهو لم يكرّس نفسه لإنشاء دولة عربية موحدة كما يُشاع لأنّه كان يُقدّم مصلحة بلاده على أي شيء آخر، ومصلحة بريطانيا تقضي بإبقاء الشرق الأوسط منقسماً على ذاته، يقول لورنس في أحد تقاريره: " لو تمكنا من تحريض العرب على انتزاع حقوقهم من تركيا فُجاءة وبالعنف لقضينا على خطر الإسلام إلى الأبد ودفعنا المسلمين إلى إعلان الحرب على أنفسهم فنمزقهم من داخلهم وفي عقر دارهم، وسيقوم نتيجة لذلك خليفة للمسلمين في تركيا وآخر في العالم العربي ليخوضا حرباً دينية داخلية فيما بينهما، ولن يخيفنا الإسلام بعد هذا أبداً"(6).
أما تعهده للعرب بمنحهم الحرية فكانت الطريقة المثلى لجعلهم يشتركون في الحرب، يقول في أحد كتبه: "كان علي أن أشترك في المؤامرة... وقد جازفت بالاحتيال اعتقاداً مني بأن العون العربي ضروري للوصول إلى نصر سريع وقليل التكاليف في الشرق... الربح مع الإخلال بالعهد أفضل من الخسارة"(7).
لذلك كانت العقبة الأساسية التي كانت تواجه بريطانيا وحلفاءها هي الإسلام؛ لذلك سعوا للقضاء عليه عن طريق هدم الخِلافة الإسلامية، والدليل تقرير سريّ كتبه لورنس عام 1916 بعنوان "سياسة مكة" أوضح فيه رأيه في ثورة العرب: " إنّ نشاط الحسين مفيد لنا إذ أنّه ينسجم مع أهدافنا الكبيرة، وهي تفكيك الرابطة الإسلامية وهزيمة الإمبراطورية العثمانية وانحلالها، لأنّ الدول التي ستنشأ لتخلف الأتراك لن تشكل أي خطر على مصالحنا... فإذا تمكنا من التحكم بهم بصورة صحيحة فإنهم سيبقون منقسمين سياسياً إلى دويلات تحسد بعضها البعض ولا يمكن أن تتحد"(8).
لذلك كان هم لورنس في ذلك الوقت التأثير على زعماء العرب وكسب ود العشائر والقبائل لدفعهم للقيام بالثورة ولو من خلال لبس لباسهم وسلك سلوكهم كي يتمكّن من أن يتحكم بهم تحكم الاستعماريين بالشعوب. يقول في كتيب "البنود 27" الذي أعدّه لتعليم الضباط على طرق التحكم بالعرب: " إذا أمكنك لبس لِباس العرب عندما تكون بين رجال القبائل فإنّك تكسب بذلك ثقتهم"(9).
وللورنس تصريحات عديدة حول فلسطين، ففي إحدى المرات طُلب إليه إنكار ما جاء في رسالة فيها شتم وتحقير إلى (د. ماك أنيس) كاهن الأبرشية الإنكليكانية في القدس، لاعتراض الأخير على فكرة إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، فرفض لورنس ذلك وعاود الكتابة إلى الكاهن يلومه على احتجاجه: " كان من الأفضل لك أن تفعل شيئاً آخر غير الاحتجاج لكنك غير صالح حتى لتنظيف حذاء وايزمان"(10).
لذلك لم يُخفِ لورنس تأييده لوعد بلفور، فبعد زيارته لفلسطين رأى أنه " كلما سارع اليهود في الاستيلاء على فلسطين وزراعة أراضيها كان ذلك أفضل". وهذا الرأي عمل لورنس فيما بعد على وضعه موضع التنفيذ.
والسؤال الذي يُطرح هنا: أليس التاريخ يعيد نفسه مرة أخرى؟
فشعار التحرير والتحديث والتمدين الذي ترفعه أمريكا وبريطانيا اليوم هو نفسه الشعار الذي رُفِع في الحرب العالمية الأولى والذي يخفي وراءه أطماع ورغبات الغزاة التي تهدف إلى فرض قوانينها وأنظمتها وسلطتها على الشعوب الضعيفة وخصوصاً الإسلامية وتجزئتها لتفتيت وحدتها ومن ثمّ افتراسها كما يفترس الذئب فريسته. فإذا اختلفت اليوم الأسماء والتواريخ وتبدلت الوجوه، فالأهداف والوسائل هي ذاتها لم تتغير.
ومشكلة العرب اليوم أنهم يقرأون التاريخ وكأنّه سرد للوقائع والحوادث دون أن ينتبهوا إلى كونه دروساً توضح مسار السنن الربانية؛ فكلما انحرف المسلمون عن الطريق التي رسمها الله لهم كان نصيبهم الذلّ والهوان وتحكّم المستبدين والطغاة بهم؛ لذلك قال الشاعر قديماً:
اقرأ التاريخ إذ فيه العِبر ضَلَّ قومٌ ليس يدرون الخبر
هوامش
1- "لورنس الحقيقة والأكذوبة": صبحي العمري.
2- "المخفي من حياة لورنس العرب": لفيليب نايتلي وكولن سمبسون.
3- "لورنس ملك العرب غير المتوّج" لمايكل آش.
4و5- "صناعة الحياة" لمحمد أحمد الراشد: ص 89. و(ابن الثلج) تعني أنّه من البلاد ذات الطقس شديد البرودة وتساقط الثلوج.
6- "الوقائع السريّة في حياة لورنس العرب"، "المخفي من حياة لورنس العرب" لفيليب نايتلي وكولن سمبسون، وكتاب "لورنس على خُطى هرتزل" لزهدي الفاتح.
7-8 -9 10-- المرجع السابق.(/2)
لِكُلّ مُسَيْلِمَةٍ سَجَاحٌ
كلمة عن أحمد صبحى منصور
د.إبراهيم عوض
ibrahim_awad9@yahoo.com
د. أحمد صبحى منصور مدرس سابق فى جامعة الأزهر بدأ حياته التدريسية بمهاجمة ما يسمى بكرامات الأولياء، وانتهى المطاف به إلى اللحاق برشاد خليفة ومرافقته زمنا فى أمريكا ثم انفصل عنه وعاد إلى مصر معلنا رفضه لادعائه الرسالة، إلا أنه عاد بعد زمن إلى أمريكا كرة أخرى بعد أن كان يتعاون معها فى مصر على نطاق واسع، وأخذ يكتب من هناك منطلقا من أفكار رشاد خليفة الرسول الأفاق ويتبنى كل ما كان يزعمه ذلك الكذاب عن نفسه وعن القرآن، وعن الأحاديث النبوية التى ينكرها أشد الإنكار ويرى الأخذ بها وبالشهادة لسيدنا محمد بالرسالة كفرا وشركا، وكذلك عن المسلمين وأنهم جميعا كفار مشركون بدءا من الصحابة حتى يومنا هذا وإلى ما شاء الله، اللهم إلا من تابعه هو ورشاد خليفة فى ضلالهما وفسقهما عن مبادئ الإسلام وعقائده وتشريعاته. وفى هذه الدراسة نتناول ما كتب الدكتور منصور متمثلا فى مقالاته التى يجدها القارئ على موقعه فى المشباك. وستكون نقطة البدء المقال الذى كتبه بعنوان "إلى شيخ الأزهر لمجرد العظة والنصح والإرشاد: تعليقا على هجومه على مركز ابن خلدون" مهاجمًا فيه د.محمد سيد طنطاوى لهتكه بعض أستار ذلك المركز الذى كان منصور يتكسب المكاسب الهائلة من ورائه بوصفه "المدير السابق لرواق ابن خلدون والمستشار الإسلامي السابق للمركز" كما كتب هو نفسه تحت اسمه فى عنوان المقال الذى نحن بصدده، إذ كانت أمريكا وما زالت تمده بالملايين حسبما قرأنا فى الصحف مرارا. وقد قام هجوم الشيخ الصغير ضد أستاذه الشيخ الكبير على عدة محاور: الأول تلقيب الناس له بـ"شيخ الأزهر والإمام الأكبر"، والثانى احتكاره تفسير الدين كما يقول، والثالث الادعاء بأنه يكفِّر الآخرين.
وبدايةً لا أحب أن يتوهم القارئ ولو للحظة واحدة أنى هنا بصدد الدفاع عن الشيخ طنطاوى، فليس هذا من أربى فى قليل أو كثير، وبخاصة أنى لا أُعَدّ من المعجبين بالشيخ بأى حال، لكن هذا لا يمنعنى أن أتكلم بما أرى أنه الحق حتى لو جاء كلامى بمحض المصادفة فى صف الشيخ الأكبر، إذ إن عدم حبنا أو إعجابنا بشخص ما لا يعنى بالضرورة أننا ضد كل ما يصدر عنه، فإذا كان ذلك الشخص يتكلم فى قضايا تتفق رؤيتنا مع رؤيته فيها فمن الطبيعى أن ندافع عما يدافع هو عنه، بغض النظر عن الحب والإعجاب أو الكراهية والنفور. إنها مسألة مبدإ أولاً وآخرًا.
وأول شىء أقف عنده هو سخرية الشيخ الصغير المتأمرك من لقب "شيخ الأزهر والإمام الأكبر". ومعروف أن الألقاب هى مجرد مواضعات واصطلاحات، وعلى هذا فليس من الحكمة أن نملأ الدنيا عويلا ونقيم مأتما على لقب أو اصطلاح لا يقدم كثيرا أو يؤخر! وإذا كان منصور يضيق صدرا بلقب "شيخ الأزهر" مثلا، فأى لقب يا ترى ينبغى أن نخصصه للشيخ طنطاوى؟ ذلك أنه لا بد من لقب، فما من وظيفة فى الدنيا أو مركز اجتماعى أو سياسى أو دينى...إلا ولا بد من الاصطلاح له على لقب. والمهم ألا يصادم اللقب عقيدة من العقائد أو يسىء إلى شخص أو طائفة من الناس مثلا أو يستفز الذوق الاجتماعى...إلخ. فماذا يا ترى فى لقب "شيخ الأزهر" مما يحرج صدر د. منصور وضميره؟ لنقرأ ما كتبه منصور فى هذا الصدد: " تقول جريدة الوفد: " طالب فضيلة الإمام الأكبر الدكتور محمد سيد طنطاوي شيخ الأزهر الشريف". وأقول ليس فى الإسلام بعد لقب النبي والرسول ألقاب دينية تطلق على أي مسلم، وليس بعد خاتم النبيين عليه السلام "إمام"، إذ أنه عليه السلام هو إمام المسلمين بعده، إذ أن شيخ الأزهر يجعل نفسه "الإمام الأكبر للمسلمين". فإذا كان هو الإمام الأكبر، فماذا أبقى لخاتم النبيين عليه وعليهم السلام ؟".(/1)
وسؤالنا إلى سجاح الأمريكية: بأَىِّ كتاب (ولن أقول: "أَمْ بِأَيّةِ سُنّةٍ؟" لأنك ترفضين الإيمان بالسنة بوصفها كفرًا وشِرْكًا يا أيتها الكاهنة التى تكفِّر المسلمين أجمعين!)، بأَىِّ كتابٍ تَرَيْنَ أن لقب "شيخ الأزهر أو الأمام الأكبر" لا يجوز إطلاقه على الشيخ طنطاوى وأمثاله؟ هاتى لنا آية من القرآن، يا من تكررين أنك لا تؤمنين إلا بما ورد فى القرآن، تدل على صدق ما تقولين! وأتحداك أن تجدى مثل هذه الآية ولو طلعتْ روحك من بدنك ورجعتْ إليه مليون مرة! هل كان النبى صلى الله عليه وسلم يلقَّب بـ"شيخ الأزهر" أو بـ"الإمام الأكبر" ونهى القرآن الكريم أن يلقَّب بذلك أى شخص غيره؟ أتحداك يا سجاح أن تأتينا على ذلك ولو بآية واحدة أو بنصف أو بربع أو حتى بعُشْر آية! إن الذى نعرفه أن النبى والرسول محمدا هو آخر الأنبياء والمرسلين، ومع ذلك فقد صدرت الأوامر الأمريكية لمسيلمتك يا سجاح بأن يسرق لقبَ "الرسول" حتى يُحْدِث ثغرة فى جدار الإسلام تهز إيمان المسلمين وتربك عقيدتهم وتشوش عليهم الأمر كله، ثم تابعتِه أنت على ذلك العهر العقيدى يا من تتظاهرين بالشرف (على طريقة توفيق الدقن: "أحسن من الشرف ما فيش"!)، فخالفتما بذلك ما جاء فى القرآن الكريم بتفرقتكما الحلمنتيشية بين النبى والرسول، والزعم بأن رشاد "ساعة لقلبك" إنما هو "رسول" وليس "نبيا"، وذلك حتى تَهْرُبَا من النص القرآنى الذى يقول: "ما كان محمد أبا أحد من رجالكم، ولكن رسولَ الله وخاتم النبيين"، مع أن المقصود هو أن عصر الوحى السماوى قد انتهى بعد مجىء سيدنا محمد برسالته العالمية الخاتمة وإرسائه مبادئ التفكير العقلى المستقيم، وبلورته قواعد السياسة العالمية والأخلاق الإنسانية الرفيعة التى تجمع فى نسيج واحد متلاحم بين المثالية والواقعية، وهى ما يحتاجه البشر على اختلاف أوطانهم وعصورهم وأممهم وثقافاتهم، ولا يقبل تغييرا أو تبديلا إلا إلى الأسوإ كما حدث على يديك أنت ورسولك الكذاب الأشر.
فلينظر القراء الكرام إلى هذين البكّاشين اللذين أسلما نفسيهما إلى الكاوبوى ظانَّيْن أنهما سيجدان عنده المال والسمعة والحماية، فلم ينفع مسيلمةَ شىءٌ من ذلك وقُتِلَ فى مطبخه رغم أنف الكاوبوى ومخابراته وأجهزته الأمنية، ويوم القيامة يشويه الله فى نار جهنم جزاء وفاقا لكفره ومروقه وموالسته مع أعداء الملة والأمة، لعنه الله ولعنهم معهم لعنا كبيرا وفضحهم دنيا وأخرى، وعجَّل بإلحاق الهزيمة بهم على يد أشاوسة المسلمين فى العراق وأفغانستان وفلسطين، تلك الهزيمة التى نرجو ألا تقوم لهم بعدها قائمة، ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء، ويخزى وجوه الكافرين المُسَيْلِمّيين ويقتلهم من الرعب والغم والنكد قبل أن تصل إليهم يد القصاص جزاء خيانتهم وانحيازهم لأعداء الدين والوطن ومدّهم يد العون لهم ضد القرآن والإسلام والمؤمنين به. والعجيب من سَجَاحنا بعد ذلك كله حرصُها على إضافة الألقاب لنفسها، فهى تكتب تحت اسمها فى عنوان المقال الذى ننظر فيه أنها "المدير السابق لرواق ابن خلدون والمستشار الاسلامي السابق للمركز". فكيف تحللين لنفسك أيتها الكاهنة سجاح ما تحرِّمينه على الشيخ طنطاوى؟ ألأنك تَأَمْرَكْتِ تَرَيْنَ أن من حقك كسر القوانين التى تسنّينها أنت نفسك دون أن يكون لأحد أية صلاحية لمساءلتك؟ لا يا سجاح، هذا لا يصحّ!(/2)
ليس ذلك فحسب، بل إن الست سجاح الكاهنة تدَّعِى لنفسها القدرة على التنبؤ، فى الوقت الذى تنفى فيه نفيا قاطعا جامعا مانعا أن يستطيع الرسول الأكرم معرفة أى شىء من أنباء الغيب، مع أن القرآن الكريم يذكر أن الله سبحانه قد يطلعه على بعض هذا الغيب إكراما له أو تثبيتا لنبوته أو تدعيما لإيمان المؤمنين أو تحديا لشرك المشركين...! يقول متنبئنا المحروس فى نفس المقال الذى يهاجم فيه الشيخ طنطاوى: "لقد تنبأتُ سنة 1991 بالتدمير الذى سيحدث للعراق، وهو ما يحدث الآن. وقبلها سنة 1982 فى خاتمة كتابي "السيد البدوي بين الحقيقة والخرافة" تنبأت بأن الصدام سيحدث بين الشباب المتدين والسلطة المصرية إذا لم يتم تنقية التراث من تلك الأحاديث الكاذبة (لا تقصد سجاح تنقية التراث من بعض الأحاديث، بل من السنة النبوية كلها على بكرة أبيها لأنها عندها، وعند رسولها الكذاب الذى يصلى الآن بمشيئته تعالى جحيم النار فى قعر جهنم، كفر وشرك وإثم)، وحدث ما توقعت بعد عشر سنين من صدام بين السلطة والشباب المتدين خلال النصف الأول من عقد التسعينيات. وأنا الآن فى غربتي عن بلدي الحبيب أخشى من نبوءة ثالثة: إننا إن لم نصلح أمرنا بأيدينا فسيأتي الدمار. فستذكرون ما أقول لكم وأفوض أمرى الى الله. إن الله بصير بالعباد". هذا العريان الطـ..ـز، الذى يحب التجميز، يرى أنه قادر على التنبؤ، لا نبوءة واحدة بل ثلاث نبوءات فى عينه وعين كل عدو للإسلام والمسلمين، كل نبوءة تنطح النبوءة التى قبلها، أما رسول الله فقد أصدر "جنابُه الواطى" هو ومسيلمته بشأنه فرمانا كاوبوويًّا بأنه لا ولن يعرف شيئا من أمور الغيب (من خلال وحى السماء طبعا، فنحن لا نؤمن بأنه يعرف الغيب من تلقاء نفسه)! وبالمناسبة فإن سجاح كانت قد أعلنت فى بداية المسرحية الهزلية أنها لا توافق مسيلمة على دعواه الرسالة، لكن بعد اجتماع الخيمة التى طيَّبها لها مسيلمة بالطيوب الحادة النفاذة التى تعمل عمل السحر فى النساء، وبعد...وبعد...عادت فسلمت قلاعها له! مبارك عليك يا سجاح تسليم القلاع! أما الخطوة الثالثة فقد تكون ادعاءها النبوة ذاتها، ويومها لن يعزّ عليها أن تتنصل مما قالته هى ومسيلمتها من قبل، إذ من الممكن جدا أن تقول إن النبوة التى تدّعيها تختلف عن النبوة التى كانت تقول إن محمدا قد وضع بمجيئه بدعوته حدا لها! ألم تقل هى ومسيلمتها إن النبى هو من يأتى بكتاب نبوءات؟ فها هى ذى تتنبأ، وتأتى تنبؤاتها كفلق الصبح! لا أطلع الله عليها صبحا، ولا جعلها تبصر مساء! وعلى أية حال فالشيخ طنطاوى، الذى لا أُحِبّه ولا أُعْجَب به حتى مذ كان مفتيا، لم يطلق على نفسه أى لقب، بل الآخرون هم الذين يطلقون هذه الألقاب عليه. وفى سياقنا هذا نجد أن صحيفة "الوفد" هى التى سمته: "شيخ الأزهر" و"الإمام الأكبر"، أما مسيلمة وسجاح فهما اللذان يحرصان على إطلاق الألقاب على نفسيهما، حتى لو كانت ألقابا كفرية كلقب "الرسول"، الذى يمكن أن يتلقب بعده الشيخ أحمد بلقب "النبوة" إذا ما اقتضت ظروف الخيانة والعداء لدين محمد صلى الله عليه وسلم أن يعلن النبوة بدوره! ألم يكن يعترض فى البداية على ادعاء رشاد "ساعة لقلبك" بأنه رسول، ثم لَحَسَ هذا الاعتراض وأصبح الكاهن الأكبر فى معبد المغدور الكافر عليه لعنة الله؟ فما الذى يمنعه من أن ينتقل من هذا إلى ادعاء النبوة لنفسه؟(/3)
أما النقطة الثانية التى يهاجم شيخَ الأزهر بسببها فهى قوله إن الشيخ طنطاوى يحتكر الكلام فى الدين لنفسه. ولست أظن أن هناك مسلما يستطيع أن يدعى احتكار الكلام فى الدين الذى تريد سَجَاحنا، ومن قبلها مسيلمتها، أن يحتكراه لنفسيهما دون البشر أجمعين على ما فى موقفهما من اتباع للهوى الشارد الساقط الذى لا تضبطه أصول علمية أو تحرّجات أخلاقية، بل يخضع لانفلات مهووس يأبى إلا ادعاء الرسالة ذاتها تقف وراءه وتشجعه وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، وكذلك ادعاء المقدرة على التنبؤ على ما رأينا فى كلام منصور منذ قليل. على أن ليس معنى هذا أن الكلام فى الدين ينبغى أن يُتْرَك سداحَ مداحَ لكل من هب ودب، بل لا بد من اقتصاره على من تؤهله طبيعة دراسته للخوض فى مثل هذه الدراسات التى تحتاج إلى التخصص فيها شأنها شأن أى حقل آخر من حقول العلم، سواء كان التخصص رسميا أو أخذه الكاتب على عاتقه فتخصص فى هذا الموضوع من تلقاء نفسه وحرص بكل ما يستطيع من جهدٍ على التعمق فيه. ومع ذلك كله فالواقع الذى لا يستطيع أكذب كذوب أن يمارى فيه هو أن أحدا لا يستطيع أن يمنع أحدا من الكلام فى الدين، وسجاحنا نفسها أكبر برهان على ما نقول، فرغم أن الجميع يعرف ارتباطها بأمريكا وأهداف أمريكا فى المنطقة وضرب الإسلام فها هى ذى تكتب ما تريد ويُحْتَفَى به أعظم الاحتفاء ويُنْشَر لها فى المواقع الألكترونية المختلفة، بل تخصَّص لها بعضُ المواقع تخصيصا، دون أن يمنعها من الكلام والكتابة مانعٌ أيًّا كان. ولقد جمعتنى مناظرة علمية على الهواء فى التلفاز المصرى منذ بضع سنوات بأحد الزملاء من الأساتذة الجامعيين، وكان مما قلته ردا على مناظرى العلمانى (أو فلنقل بصريح العبارة: "الشيوعى" دون لف أو دوران): إن أحدا لا يستطيع أن يجبر أحدا فى الإسلام على اعتناق رأى ليس مقتنعا به حتى لو كان صاحب الرأى هو شيخ الأزهر نفسه. وأذكر أنه قد علَّق من فوره قائلا: "ما أنبل هذا الكلام!". وهل أنا بحاجة إلى أن أذكِّر القراء بالخلافات التى تقوم بين شيخ الأزهر وغيره من أساتذة الأزهر وغير الأزهر حول بعض آرائه ومواقفه التى يهاجمونها هى وصاحبها أشد هجوم وأعنفه؟ إن أشد ما أنفر منه هو هذه الأسطوانات المشروخة التى يشغِّلها لنا دائما كل من يريد أن نخرّ صُمًّا وعُمْيًا وبُكْمًا على ما يقول من آراء مارقة تصادم الدين وتحادّ الله ورسوله، فكلما رد عليه أحد العلماء المحترمين بأنه قد خرج عن الدين فى كذا وكذا هاج وماج، وثار وفار، وبدأ تشغيل الأسطوانة إياها إرهابًا لمن لا يشاطره رأيه الفطير المارق! وهل أنا بحاجة هنا أيضا إلى أن أذكِّر السادة القراء بأن الشيخ طنطاوى هو آخر من يمكن اتهامه بأنه يعادى أمريكا "لله فى لله"! الحق أنه لم يقل ما قال عن مركز ابن خلدون إلا بعد أن كانت روائح نشاطاته قد ملأت الآفاق وزكمت الآناف وخاضت فيها الصحف والمجلات!(/4)
وبالمناسبة فالدكتور أحمد صبحى منصور، الذى لا يريد أية قيود على الكتابة فى الإسلام، هو هو نفسه الذى يقول فى رده على عبد الرحيم على (أحد الذين كانوا يتعاونون مع مركز ابن خلدون ثم انقلب عليهم وهاجمهم) إن الكتابة فى القضايا الإسلامية تحتاج إلى متخصص متخرج من الأزهر لا إلى واحد مثله لا يستطيع معالجة مثل هذه المسائل بما ينبغى. وبالمناسبة أيضا فهذا الذى يدَّعِى دائما الفقر ومعاناة شظف العيش فى بلاد العم سام (السَّامُ عليه هو وعمه سام، آمين يا رب العالمين!) هو هو نفسه الذى كان يكتب جميع الدراسات والأبحاث تقريبا لمركز ابن خلدون بما يعنى ذلك من دخول الأموال التى لا حصر لها فى كرشه بصفته مستشار المركز (أَىْ فَرْخته أُمّ كِشْك!). ودليلنا على ذلك أنهم فى المركز كانوا قد أَعْطَوْا عبد الرحيم على هذا (رغم ما قالوه فيه من أنه لا يصلح للكتابة فى الشؤون الإسلامية) مبلغ خمسة آلاف جنيه تحت الحساب مقابل إعداد بحثٍ لا راح ولا جاء من وجهة نظرهم، فماذا كانوا سيعطونه على البحث حين يكتمل ويقبلونه؟ وماذا كان هو (المستشار الكبير) يأخذ لقاء ما كانوا يكلفونه به من دراسات تهاجم الإسلام وتطعن فى القرآن والحديث وكبار الصحابة وتكفِّر المسلمين على بَكْرَة أبيهم منذ الصحابة فنازلاً حتى عصرنا هذا وإلى ما شاء الله، اللهم إلا من كفر بمحمد ودينه وآمن برسول الميثاق أبى شخَّة؟ ومما له مغزاه فى هذا السياق أن ابنه الصغير جدا (حسبما كتب هو فى مقال له يخاطب فيه هذا الولد)، حين فكَّر فى القضاء على مشكلات مصر الاقتصادية، لم يخطر له إلا رقم البليون دولار قائلا إنه يمكنه أن يحل كل تلك المشاكل بذلك المبلغ، فما معنى هذا؟ إن أبناءنا حتى الكبار منهم الذى تخرجوا وأصبحت لهم مرتبات لا يفكرون فى امتلاك مثل هذا المبلغ ولا ربعه ولا عشره ولا واحدا على الألف ولا على الألفين منه، وأقصى ما يبلغه خيالهم هو بضعة عشرات من الآلاف، ومثلهم أنا فى ذلك، إذ كل إنسان إنما يتكلم عما يعرف، فما الذى عرّف الولد الصغير ابن صاحبتنا سجاح بمبلغ البليون دولار، إلا إذا كان هذا المبلغ هو من أحاديث الحياة اليومية فى بيتهم على الأقل تبعا لواقع المركز الخلدونى الذى تغدق عليه أمريكا بالملايين حسبما ذكرت الصحف وكبار الكتاب والمفكرين الذين كانوا يتعاونون معه ثم انفضوا عنه؟ ويستطيع القارئ أن يراجع المسألة فى مقال منشور بموقع المركز المذكور كتبه صاحبنا أبو 3 نبوءات (التى أدعو الله أن يقيِّض لها من يلحنها ويغنيها كما فعلوا فى أواسط الخمسينات من القرن الماضى مع أغنية: "3 سلامات، يا واحشنى، 3 سلامات"!). ومع هذا فصاحبنا يشكو مما يقاسيه الآن فى بلاد العم سام (ربنا يسمّم بدنه هو وعمه سام، عَمَى الدِّبَبَة!)، ولو لم أكن أعرف خبيئة أمره لتقطع قلبى حزنا عليه، فأنا سريع التأثر كالمنفلوطى للمساكين وأطير لمساعدتهم طيرانا لأنى كنت واحدا منهم يوما، ولظننت أنه (يا كبدى عليه!) قد اتخذ من أحد الأحواش فى جبّانة نيويورك أو شيكاغو أو فرجينيا مهجعا له ولأولاده ليلا، أما بالنهار فيقفون على باب إحدى الكنائس (الكنائس لا المساجد، لأن مثله لا علاقة له بمساجد المسلمين) يمدون أيديهم إلى الداخلين والخارجين وهم يصيحون فى صوت واحد منغَّم، وقد عصب كل منهم عينيه وربط ذراعه إلى كتفه فى صورة من الصور التى كانت تفتن الجاحظ فاضح حِيَل المُكْدِين، قائلين: "عَشَا الغَلابَى عليك يا رب"! يا لبجاسة الباجسين!(/5)
وتبقى مسألة التكفير، وأترك لسجاح عرض القضية. تقول سجاح: "ومن ملامح الكهنوت فى هجومه (أى الشيخ طنطاوى، شيخ الأزهر) تكفير مخالفيه فى الرأى، إذ أنه بعد ادعاء الاحتكار للدين، يتهم مخالفيه فى الرأى بالخروج على هذا الدين الذى احتكره لنفسه، وهو يتهمهم مرتين بأنهم "أعداء خارجون"، (ان هؤلاء جماعة خارجون وسبق أن اتهم أحدهم بخيانة البلاد) ويدعو الى مواجهتهم بقوة لأنّ ما فعلوه (وصمة عار ونكبة يجب أن يتداركها المجتمع والمسلمون) ويطالب بقوة (بمنع هذه المهاترات) و (ضرورة ايقاف مركز ابن خلدون لدورها التخريبي فى المجتمع المصري) وأنه (يجب ايقافها ومحاكمتها). وأقول جاءت هذه الفتاوى التكفيرية مصحوبة بالمطالبة بالتدخل بالقوة والمنع وانشاء محاكم التفتيش، وهنا يضع شيخ الأزهر الدولة المصرية فى مأزق: فإما أن تتدخل طبقا لفتاويه كما فعلت فى الماضي وبذلك يكسب مركز ابن خلدون عالميا، وتخسر الدولة المصرية أضعاف أضعاف ما خسرته فى غارتها السابقة على المركز، وإما أن تتجاهل الدولة فتاوى شيخها الأزهرى وتترك الفرصة للمتطرفين كي يقوموا عنها بذلك الدور، وبذلك يتكرر ما حدث فى اغتيال فرج فودة حين أصدر الشيوخ ضده– وضدي- فتاوى الردة، ثم بعد اغتيال فرج فودة أعلن أحدهم فى محاكمة القتلة أن فرج فودة مرتد ومستحق للقتل وأن القاتل افتأت على السلطة حين قتل من يجب أن تقتله الدولة. ان خطورة هذا التكفير محققة وتستهدف اغتيال د. سعد الدين ابراهيم ورفاقه، خصوصا القرآنيين. والسوابق تؤكد ذلك من حادثة فرج فودة الى نجيب محفوظ وغيرهم. وهنا فإن شيخ الأزهر د. محمد سيد طنطاوي، بشخصه، يعتبر مسئولا مسئولية مباشرة عن أى أذى يلحقه المتطرفون الإرهابيون بشخص د. سعد الدين ابراهيم ورفاقه، ويعتبر هذا بلاغا مقدما، ليس فقط للنائب العام فى مصر، ولكن لكل المؤسسات الدولية الداعية للاصلاح فى مصر والشرق الأوسط والمعنية بحقوق الانسان.
ثانيا: ان شيخ الأزهر فى اندفاعه للهجوم غفل عن حقائق علمية قرآنية وتاريخية وقانونية. انه يقول "ان توصية المركز بتنقية التراث الديني، لا سيما ما يتعلق بالحديث النبوي والسنة واعتماد النص القرآني مرجعية حاكمة وحيدة، هى دعوة صريحة لإغفال مصدر رئيسي فى الاسلام وهو السنة النبوية"
وأقول أنه:
1- ينكر أن يكون القرآن مرجعية حاكمة وحيدة .
2- يهاجم تنقية التراث والأحاديث والسنن .
3- يعتبر السنة النبوية من مصادر التشريع فى الإسلام.
ونرد عليه بإيجاز قدر المستطاع :
ينكر أن يكون القرآن مرجعية حاكمة وحيدة :
1- وهو بذلك يتجاهل قوله تعالى "أفغير الله ابتغي حكما، وهو الذى أنزل اليكم الكتاب مفصلا: الأنعام 114"، والقرآن هو وحده الذى نحتكم اليه حين نختلف، وعادة ما يحدث الاختلاف بسبب الأحاديث الضالة المنسوبة كذبا للنبي عليه السلام أو لله تعالى، ولذلك فإن الله تعالى يقول قبل الآية السابقة "وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ: الأنعام 112"، فهنا يشير الله تعالى الى الوحي الشيطاني بأحاديثه الضالة المزخرفة، ثم يقول عمن يتبع هذا الحديث الضال "ولتصغى اليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ماهم مقترفون: الأنعام 113"، أى يهواها الذين لا يؤمنون بالآخرة ويفسدون فى الأرض. ثم تأتى الآية التالية لتجعل الإحتكام الى القرآن وحده فى تلك الأحاديث الضالة، "أفغير الله أبتغى حكما، وهو الذى أنزل اليكم الكتاب مفصلا: الأنعام 114". ثم تأتى الآية التالية تؤكد تمام القرآن وصدقه وعدله "وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا، لا مبدل لكلماته، وهو السميع العليم: الأنعام 115". ويدور سؤال: ماذا اذا خالف البشر جميعا آية قرآنية واحدة، وتأتى الإجابة من رب العزة سبحانه وتعالى "وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ: الأنعام 116" اذن هم يتبعون الظن بدلا من كتاب الله الذى لا ريب فيه. وعلماء الحديث يقررون أن الأحاديث تقوم على الظن، وليس على اليقين، وهم بهذا يؤكدون اعجاز القرآن فيما نبأ بما سيفعله بعض المسلمين بعد نزول القرآن، حين ينسبون للنبي أحاديث بعد موته بقرون، ويسندون تلك الأحاديث الى الصحابة الذين ماتوا بعد انهماكهم فى السياسة والفتوحات والفتنة الكبرى. ماتوا دون أن يعرفوا ماذا أسند اليهم الرواة بعد موتهم بقرون فى العصر العباسي. والحقيقة المؤسفة أن شيخ الأزهر برفضه الاحتكام للقرآن فى تلك الأحاديث أنه يعترف ضمنا بتعارضها مع القرآن ويخاف عليها من الاحتكام الى القرآن بشأنها وينحاز اليها دفاعا عنها، فيهاجم مركز ابن خلدون فى دعوته الى الاحتكام الى القرآن.(/6)
2- تنقية التراث من الأحاديث والسنن: ان شيخ الأزهر حين يهاجم تنقية التراث بأحاديثه وسننه، انما يغفل حقائق تاريخية عليه أن يعرفها ويعترف بها. فأئمة الاجتهاد فى الفقه والحديث انصب اجتهادهم على تنقية التراث الشفهى، أو الأحاديث الشفهية. فمالك انتقى كتابه "الموطأ" بأحاديثه التى تزيد قليلا على الألف حديث من عشرات الألوف من الأحاديث الرائجة فى عصره. والبخاري انتقى صحيحه "حوالى 3 آلاف حديث" من بين ستمائة ألف حديث. ومسلم لم يقتنع باجتهاد البخاري، فكتب "صحيح مسلم" بمقدمة رائعة عن الوضع فى الحديث، أو الكذب فى الحديث، و"الحاكم" استدرك على البخاري ومسلم معا. وجاء ابن حنبل فألغى أبوابا كاملة من الحديث حين قال "ثلاثة لا أصل لها، التفسير والملاحم والمغازي". بل إن ابن حنبل ألغى "الإجماع" من مصادر التشريع لدى المسلمين حين قال "من ادعى الاجماع فى شيئ فقد كذب، ومن أدراه أن الناس قد اختلفوا، وهو لا يعلم؟"، ثم جاء الحنابلة أتباع ابن حنبل، فأكثروا من وضع الحديث، ومنها حديثهم المشهور "من رأى منكم منكرا، فليغيره". وقد تصدى لهم أئمة الحنابلة أنفسهم، ومنهم ابن الجوزي فى القرن السادس، فى كتابه "اللألئ المصنوعة فى الأحاديث الموضوعة"، وابن تيمية فى القرن الثامن فى كتابه "أحاديث القصاص"، وابن القيم صاحب ابن تيمية فى كتابه "المنار المنيف فى الصحيح والضعيف"، ثم السيوطي فى القرن العاشر فى كتابه المشهور عن الموضوعات فى الحديث. وحتى عصرنا الراهن كتب الألباني (وهو فى الأصل ساعاتي من البلقان) كتب موسوعته فى الأحاديث الضعيفة، وكل ذلك فى نفس الإطار "تنقية الأحاديث، أو تنقية التراث"، وقد قام بها علماء من خارج الأزهر قبل وبعد انشائه.
على أن علماء أجلاء من الأزهر قاموا أيضا بنفس الدور ، فالشيخ محمد عبده فى تفسيره أنكر الشفاعة وأنكر علم النبي بالغيب، محتكما فى ذلك الى القرآن العظيم. وصار على نهجه الشيخ شلتوت، شيخ الأزهر، فى كتابيه "الفتاوي، والاسلام عقيدة وشريعة" وان لم يقترب من عبقرية الإمام محمد عبده. ولا ننسى جهد أستاذ المحققين أحمد أمين فى كتبه "فجر الإسلام، ضحى الإسلام، ظهر الإسلام". والى عهد قريب كان يقال أن هناك لجان فى الأزهر لتنقية التراث، وكان أولى لشيخ الأزهر د. طنطاوي أن يقوم بهذا العمل، ليس فقط خدمة للإسلام، واصلاحا للمسلمين بالإسلام، ولكن أيضا لأن ذلك ما يمليه عليه واجبه الوظيفي. ان قانون الأزهر يفرض على أساتذة الأزهر "تجلية حقائق الاسلام" وهذا يعني أن هناك حقائق اسلامية خفية يجب اظهارها، وأن هناك أباطيل منسوبة للإسلام يجب كشفها وفضحها وازالتها، والمعيار فى ذلك هو الميزان الكتاب الفرقان القرآن العظيم. ولكن شيخ الأزهر لم يتقاعس فقط عن هذه المهمة، وانما تطاول على المجتهدين الذين تطوعوا للقيام بهذا العمل حبا فى الاسلام، واصلاحا للمسلمين.
3- ان شيخ الأزهر يعتبر السنة "سنة البخاري وغيره" من مصادر التشريع فى الاسلام وهذا خطأ فى التعبير، فهل يعقل أن تظل مصادر التشريع فى الإسلام ناقصة الى أن يأتي البخاري وغيره بعض موت النبي بقرون ليكملوها؟ وماذا نفعل بقوله تعالى "اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتى ورضيت لكم الاسلام دينا: المائدة 3" ان العبارة الصحيحة هي: ان القرآن الكريم هو المصدر الوحيد للتشريع فى الاسلام، أما المسلمون فقد أضافوا له مصادر اخرى توسعت بها الفجوة بينهم وبين الاسلام، وكان من بين تلك المصادر الأحاديث والسنن، وكلهم مختلفون فيها جزئيا وكليا. ان تلك الأحاديث ليست جزءا من دين الاسلام وأولئك الذين يعتبرونها جزءا من الاسلام، انما يتهمون النبي عليه السلام بأنه لم يبلغ الدين كاملا وبأنه فرط فى تبليغ هذا الجزء وهذا اتهام نرفضه، لأنه عليه السلام بلّغ الدين كاملا، وهو القرآن العظيم المحفوظ الى يوم القيامة. ولتأكيد هذا فإنني أورد تلك الحقائق الاسلامية لتذكير شيخ الأزهر وغيره:
1- أن القرآن الكريم وحده هو الحديث الذى يجب الايمان به وحده "أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ: الأعراف 185"، "فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ: المرسلات 50"، وكما ينبغي الايمان بالله وحده الاها ينبغي الايمان بالقرآن وحده حديثا "تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ: الجاثية 6" ويتكرر فى القرآن الكريم التأكيد على أن أفظع الظالمين ظلما هو من افترى على الله كذبا أو كذّب بآياته. وبعضهم يكذب آيات الله اذا تعارضت مع البخاري، ويرفض الاحتكام الى القرآن فى أحاديث البخاري وغيره.(/7)
2- القرآن وحده أصدق الحديث وأصدق القول "اللّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ حَدِيثًا: النساء 87"، "وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً: النساء 12". والقرآن وحده هو أحسن الحديث، وما عداه من كلام فى الدين هو طاغوت، حتى ولو كان حسنا مزخرفا "الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ* اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاء وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَاد:ٍ الزمر 17- 23".
1- يكتفى المؤمن بالله تعالى ربا "أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ: الزمر 36" ويكتفى أيضا بالقرآن كتابا وحيدا "أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ: العنكبوت 51"، وكما أنه ليس لله تعالى مثيل "فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ: الشورى 11" فإنه ليس للقرآن مثيل "قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا: الإسراء 88".
2- النبي محمد والمؤمنون مأمورون بإتباع القرآن وحده " كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ، اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ: الأعراف 2- 3" ، " وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ: الأنعام 153".(/8)
3- هناك فرق فى مفاهيم القرآن فيما يخص النبي محمد بين لفظى النبي والرسول. محمد النبي هو شخصه وعلاقاته بمن حوله، لذا يأتى له الأمر باتباع الوحي بصفة النبي"وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا الأحزاب 2" ويأتيه العتاب واللوم بصفة النبي "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ: التحريم 1" ويأتى الحديث عن علاقاته بمن حوله بصفة النبي، "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا: الأحزاب 28"، "يَا نِسَاء النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا: الأحزاب 30"، "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ: الأحزاب 53" أما محمد الرسول، فهو عندما يبلغ الرسالة. وبعد موت النبي وتبليغ الرسالة كاملة، فإن الرسول هو القرآن وحده، نفهم هذا من قوله تعالى "وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا: النساء 100"، "وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ: آل عمران 101" ، "أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُوْلِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا* رَّسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا: الطلاق 10-11"، بل أن كلمة الرسول قد تأتى بمعنى كلام الله أى صفة من صفاته، ويستحيل أن يكون مقصودا منها النبي محمد، نفهم هذا من قوله تعالى " لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً: الفتح 9"، إن المطاع فى قوله تعالى "وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول"، هو واحد، وهو الله تعالى فى كتابه الذى بلغه الرسول فى حياته، وذلك فإن الضمير يعود بصيغة المفرد فى قوله تعالى "وإذا دُعُوا الى الله ورسوله ليحكم بينهم: النور 48" لم يقل عن الله ورسوله "ليحكما بينهما" لأن التحاكم هو للرسالة، للقرآن.
4- لقد كانت وظيفته عليه السلام التبليغ فقط، ويشمل التبليغ أنه كان شاهدا ومبشرا ومنذرا وداعيا الى الله ومعلما للقرآن ومزكيا للمسلمين بالقرأن، ولكنه كان فى كل ذلك يتكلم بالقرآن فقط "كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ: الأعراف 2"، "وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ: الأنعام 51" ، "نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ: ق 45" ومن الطريف أن النبي عليه السلام خطب الجمعة أكثر من خمسائة مرة ومع ذلك فلم يحفظ له العصر العباسي خطبة جمعة واحدة لأنه كان يخطب الجمعة بالقرآن، ولأنه كان مبلِّغا فقط فلم يكن من حقه التشريع، لأن التشريع حق الله وحده، لذلك كان يسألونه عن أشياء تكرر ذكرها فى القرأن من قبل وكان فى وسعه أن يجيب بمجرد قراءة القرآن والاستشهاد به، ولكنه كان ينتظر أن تأتى الإجابة من الله "يسألونك عن"، "قل".(/9)
5- مفهوم السنة فى القرآن هو "الشرع والمنهاج" ولذلك تأتى السنة منسوبة لله فى شرعه، كقوله تعالى للنبي " مَّا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا: الأحزاب 38"، فالسنة هنا هي سنة الله أو فرض الله أو أمر الله، ويقول تعالى فى منهاجه فى التعامل مع المشركين "سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا: الفتح 23" والنبي محمد هو أول الناس طاعة لسنة الله تعالى وشرعه، ونحن نتخذه قدوة حسنة لنا فى هذا، يقول تعالى "لقد كان لكم فى رسول الله أسوة حسنة: الأحزاب 21"، لم يقل سنة حسنة وانما قال أسوة حسنة.
6- إلا أنهم يعتبرون ما كتبه البخاري وغيره هو السنة النبوية الالهية ويدعون أنها وحي من السماء، وان ذلك الوحي قد امتنع عن كتابته الرسول فى عهده والخلفاء الراشدون وغير الراشدين الى أن جاء بعض الناس كالبخاري وغيره فتطوعوا بدافع شخصي لتدوين تلك السنة، فظل الاسلام ناقصا الى أن تطوع البخاري وغيره لإكماله فى عصور الفتن والاستبداد والانحلال. ولستر عورة هذا الافتراء يحرفون معاني القرآن، ليجعلوا طاعة أحاديث البخاري طاعة للرسول، أو يؤولون معني قوله تعالى "وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ" فيقولون أن الذكر الأول هو السنة التى تبين للناس ما أنزل اليهم وهو القرآن عندهم. وهم بذلك يخرجون الآية عن سياقها اذ تتحدث عن أصحاب الكتب السماوية السابقة ودور القرآن فى توضيحها، يقول تعالى "وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ، بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ: النحل 43-44" ويتكرر نفس المعنى فى نفس السورة "تَاللّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ: النحل 63-64"، ويتأكد هذا فى صورة أخرى "إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ: النمل 76".
وهم يدَّعون أن الحكمة هي السنة حين تأتى مرادفة للكتاب "أى القرآن" فى نحو قوله تعالى "وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة": النساء 113" ويعتبرون واو العطف تفيد المغايرة، اى أن الكتاب غير الحكمة، وهذا خطأ، فواو العطف فى القرآن تفيد التوضيح والتبيين ولا تفيد المغايرة، يقول تعالى "ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكراً للمتقين: الأنبياء 48"، فالفرقان والضياء والذكر كلها صفات للتوراة وتوضيح لها، ويقول تعالى لعيسى عن الإنجيل والتوراة "واذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل" المائدة 110، فالكتاب والحكمة هنا وصف للإنجيل، بدليل قوله تعالى عن عيسى، "فلما جاء عيسى بالبينات ، قال قد جئتكم بالحكمة: الزخرف 63" وعليه فإن الكتاب والحكمة هما من صفات القرآن الكريم الذى أحكمت آياته وهي من صفات التشريعات فى القرآن، والله تعالى جاء بأوامره فى العقيدة والشريعة فى سورة الاسراء، بدءا من قوله تعالى "وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين احسانا" وختم الأوامر بقوله تعالى "ذلك مما أوحي اليك ربك من الحكمة: الاسراء -39" وقال تعالى لنساء النبي "واذكرن ما يُتْلَى فى بيوتكن من آيات الله والحكمة: الأحزاب 34"، فآيات الله القرآنية هى الحكمة المأمور بتلاوته. ولذلك فإن الضمير يعود على الاثنين معا، الكتاب والحكمة بصيغة المفرد، لأنهما شيئ واحد، يقول تعالى "وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به: البقرة 231" ولم يقل يعظكم بهما، لأن الحكمة هى الكتاب، هى القرآن.(/10)
7- وهم يحتجون بالصلاة وتفصيلاتها التى لم تأت فى القرآن، ويتخذون من ذلك حجة لإتهام القرآن بأنه ناقص وأنه محتاج لتفصيلات البخاري وغيره، ونقول أن ما ورد من أحاديث البخاري عن الصلاة يفسد الصلاة ويشكك فيها، وقد تعلم أجدادنا المسلمون الصلاة والقرآن من الفاتحين العرب قبل مولد البخاري وغيره. والصلاة والزكاة والحج متوارثة من ملة ابراهيم، والقرآن الكريم ما فرط فى شيئ، حيث يورد التبيين لكل ما يحتاج للتبيين. والصلاة، وهى السنة العملية المتوارثة، لا خلاف فى عدد ركعاتها وكيفيتها، لذلك لم يوضح رب العزة فى القرآن من ملة ابراهيم المتوارثة الا ما أحدثه العرب فيها من تغيير أو ما أنزله الله فيها من تشريع جديد، مثل التشريع الجديد فى الصوم "البقرة 183-187" أو فى صلاة الخوف "البقرة 238، والنساء 101- 104".
8- ان البخاري الذى يخاف شيخ الأزهر من مناقشته والاحتكام فيه الى القرآن، انما يحوي فى داخله أفظع الاتهامات للنبي عليه السلام، ولدين الاسلام العظيم وتشريعاته، وكل ذلك كنا قد أوضحناه فى كتاب لنا بعنوان "القرآن وكفى مصدرا للتشريع" أثبتنا فى الفصل الأول أن القرآن وحده هو المصدر التشريعي للإسلام وفى الفصل الثاني عرضنا أحاديث البخاري التي تطعن فى النبي وفى الاسلام وتشريعاته، وقد أبى الناشر إلا أن يغير عنوان الكتاب فجعله "القرآن لماذا" وإلا أن يغير اسم المؤلف، فجعل اسمه د. عبد الله الخليفة، ومع ذلك فقد صودر الكتاب من المطابع سنة 1991، وفهم الشيوخ، وهم أحيانا يفهمون، أن المؤلف هو كاتب هذه السطور".
هذا ما قاله الدكتور منصور، وقد تعمدت أن أنقل نص كلامه كاملا لخطورته ولكيلا يقال إننا اقتطفنا منه ما نريد وتركنا ما لا نريد، وأبقيت على أسلوبه كما هو بركاكاته وأخطائه الإملائية والنحوية حتى يعرف القراء مستوى هذا العبقرى الذى يوشك أن يتنبأ ويلحق برسوله الكذاب، وإن كنتُ أصلحتُ بعض ما ظننته أخطاءً مطبعية. والناظر فى هذا الكلام يلحظ على الفور كمّ المغالطات والبهلوانيات الرهيب الذى لجأ إليه المتنبئ صاحب النبوءات الثلاث: إنه مثلا يتهم شيخ الأزهر (الإمام الأكبر الذى لا أحبه، لكنى أقدر منصبه ولقبه، وأرى أنه لا بد من احترام المنصب واللقب) يتهمه بأنه لا يريد تنقية الإسلام من السنة النبوية، مع أن هذا ليس اتهاما، بل هو شرف، وأى شرف! إن الرجل بهذا إنما يعمل على صيانة الإسلام وحياطته من عبث الفاجرين المدلسين الذين يريدون هدمه خطوة خطوة على طريقة زعيمهم كيسنجر: فالسُّنّة اليوم، والقرآن غدا. كلا، بل القرآن الآن أيضا، فها هو ذا رشاد "ساعة لقلبك" قد كسر نصوص القرآن وادعى الرسالة، ثم ها هو ذا صاحبنا قد ادعى المقدرة على التنبؤ، لا مرة واحدة، بل ثلاثا فى عين كل عدو يكره دين الله وقرآنه وسنة رسوله، فى الوقت الذى يشدد فيه على أن النبى محمدا، عليه الصلاة والسلام (وعلى من ينكر سُنّته ويحارب دينه من شياطين الإنس المجرمين الخبثاء الخزىُ واللعنةُ والعار)، لا يمكنه معرفة أى شىء من الغيب (من خلال الوحى الإلهى طبعا لأنه لا يوجد بين المسلمين من يظن أن الرسول يستطيع علم الغيب من تلقاء نفسه أبدا)!(/11)
وهو يقيم اتهامه الضال الشارد لشيخ الأزهر على أساس قوله تعالى: "أفغير الله أبتغي حَكَمًا، وهو الذى أنزل اليكم الكتاب مفصَّلا: الأنعام 114"، وأن القرآن هو وحده الذى نحتكم اليه حين نختلف، وأن الاختلاف عادة ما يحدث بسبب الأحاديث الضالة المنسوبة كذبا للنبي عليه السلام أو لله تعالى بدليل قوله سبحانه قبل الآية السابقة: "وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ: الأنعام 112"، إذ يزعم أن الله تعالى إنما يشير هنا الى الوحي الشيطاني بأحاديثه الضالة المزخرفة، كما يشير إلى من يتبع هذا الحديث الضال بقوله: "ولتصغى اليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ماهم مقترفون: الأنعام 113"، أى يهواها الذين لا يؤمنون بالآخرة ويفسدون فى الأرض، وأن الآية التالية تجعل الاحتكام الى القرآن وحده فى تلك الأحاديث الضالة: "أفغير الله أبتغى حكما، وهو الذى أنزل اليكم الكتاب مفصلا: الأنعام 114"، وأن الآية التى بعدها تؤكد تمام القرآن وصدقه وعدله "وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا، لا مبدل لكلماته، وهو السميع العليم: الأنعام 115". ثم يطرح جنابه الواطى هذا السؤال: "ماذا اذا خالف البشر جميعا آية قرآنية واحدة؟"، ليجعل الإجابة هى قول رب العزة سبحانه وتعالى: "وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ: الأنعام 116". وعلماء الحديث، كما يقول، يقررون أن الأحاديث تقوم على الظن، وليس على اليقين، وهم بهذا يؤكدون إعجاز القرآن، فيما نبّأ بما سيفعله بعض المسلمين بعد نزول القرآن حين ينسبون للنبي أحاديث بعد موته بقرون، ويسندون تلك الأحاديث الى الصحابة الذين ماتوا بعد انهماكهم فى السياسة والفتوحات والفتنة الكبرى، ماتوا دون أن يعرفوا ماذا أسند اليهم الرواة بعد موتهم بقرون فى العصر العباسي.
وإن نظرة سريعة إلى الآيات التى أوردها تلميذ رسول تُوسان لتدلنا فى الحال على أنها موجهة إلى الكفار الذين كانوا يريدون من النبى أن ينزل على عقائدهم وشرائعهم وعاداتهم وتقاليدهم ويترك ما جاءه به الوحى الكريم، ولا علاقة لها من قريب أو من بعيد بالأحاديث النبوية. إنها تحمل على الكفار لا على المسلمين الذين جاؤوا بعد هذا فشمَّروا عن ساعد الإيمان والجِدّ والإخلاص والنصح لله ورسوله وبذلوا كل جهدهم فى سبيل الحفاظ على شطرٍ غالٍ وثمينٍ من الدين المحمدى العظيم. إن الشيطان هنا يقلب الأمر رأسًا على عقب بأسلوب عجيب يعرف هو قبل غيره أنه كذب فى كذب، لكنه لا يستطيع إلا أن ينفذ ما يُمْلَى عليه، وإلا قُتِل أو رُمِىَ رمية الكلاب النجسة! وهذا الأسلوب فى تفسير القرآن هو تطبيق لما ينادى به التفكيكيون من وجوب الدخول على النص دون الرجوع إلى أى شىء يتعلق به أو بصاحبه، كى يتسنى لهم العبث به وإنطاقه بما تريده شياطينهم دون حسيب أو رقيب، وهو عمل الباطنية القدماء. ومن هنا سمَّيْتُ أتباع هذه الطريقة فى عالمنا العربى بـ"الباطنية الجدد"، إذ رأيت أحد من يُسَمَّوْن نقادا فى بعض الدول الخليجية يستعمل هذا المنهج النقدى فى ترويج الأفكار الكنسية الصليبية فى مهد الوحى المحمدى من خلال قراءته لشعر أحد الشعراء السعوديين المسلمين الذى لو قُيِّض له أن يهب من قبره لبصق فى وجه هذا الكلام الشيطانى الأثيم الذى يعمل على محاربة الإسلام تحت ستار التفكيكية، فكَّك الله عظام أصحابه وتركهم مصروعين فى الوحل والطين! وهل فعلتْ سجاح هنا شيئا آخر غير هذا؟ ألم تهجم بجهلٍ وخبثٍ على نصوص القرآن الكريم دون أن تقيم اعتبارا لترتيبها تاريخيا أو لأساب نزولها أو لما قاله المفسرون بشأنها؟ الله أكبر! أهذا هو العلم الذى يريدنا متنبئ آخر الأزمان (صاحب الثلاث نبوءات) أن نأخذ به؟ ألا إن ذلك لشىءٌ يستطيعه أى جهول، إذ هو لا يكلف صاحبه بحثا ولا تنقيرا ولا تعبا، بل يتيح له الكلام فى أعقد الأمور بمجرد تحريكه لطرف لسانه بعيدا عن تعب المخ ومؤنة التفكير!(/12)
وهو يحاجّ شيخ الأزهر (الإمام الأكبر) بأن علماء الحديث لم يجمعوا الأحاديث كلها التى وصلتهم، بل غربلوها وانتقَوْا منها ما اقتنعوا بصحته وضربوا عن الباقى صفحا، إذ قال: "ان شيخ الأزهر حين يهاجم تنقية التراث بأحاديثه وسننه، انما يغفل حقائق تاريخية عليه أن يعرفها ويعترف بها. فأئمة الاجتهاد فى الفقه والحديث انصب اجتهادهم على تنقية التراث الشفهى، أو الأحاديث الشفهية. فمالك انتقى كتابه "الموطأ" بأحاديثه التى تزيد قليلا على الألف حديث من عشرات الألوف من الأحاديث الرائجة فى عصره. والبخاري انتقى صحيحه "حوالى 3 آلاف حديث" من بين ستمائة ألف حديث. ومسلم لم يقتنع باجتهاد البخاري، فكتب "صحيح مسلم" بمقدمة رائعة عن الوضع فى الحديث، أو الكذب فى الحديث، و"الحاكم" استدرك على البخاري ومسلم معا. وجاء ابن حنبل، فألغى أبوابا كاملة من الحديث، حين قال "ثلاثة لا أصل لها، التفسير والملاحم والمغازي". بل إن ابن حنبل ألغى "الإجماع" من مصادر التشريع لدى المسلمين حين قال "من ادعى الاجماع فى شيئ فقد كذب، ومن أدراه أن الناس قد اختلفوا، وهو لا يعلم؟"، ثم جاء الحنابلة أتباع ابن حنبل، فأكثروا من وضع الحديث، ومنها حديثهم المشهور "من رأى منكم منكرا، فليغيره". وقد تصدى لهم أئمة الحنابلة أنفسهم، ومنهم ابن الجوزي فى القرن السادس، فى كتابه "اللألئ المصنوعة فى الأحاديث الموضوعة"، وابن تيمية فى القرن الثامن فى كتابه "أحاديث القصاص"، وابن القيم صاحب ابن تيمية فى كتابه "المنار المنيف فى الصحيح والضعيف"، ثم السيوطي فى القرن العاشر فى كتابه المشهورعن الموضوعات فى الحديث. وحتى عصرنا الراهن كتب الألباني (وهو فى الأصل ساعاتي من البلقان) كتب موسوعته فى الأحاديث الضعيفة، وكل ذلك فى نفس الإطار "تنقية الأحاديث، أو تنقية التراث"، وقد قام بها علماء من خارج الأزهر قبل وبعد انشائه".
وهذا فى الواقع دليل ضد المبطل الأفاك لا له، إذ هو برهان على أن علماء الحديث، رضوان الله عليهم، كانوا يطبقون منهجا علميا محكما دقيقا ولا يقبلون الأشياء على علاتها، وإلا فلو كانوا قد اخترعوا الأحاديث النبوية للإساءة إلى الإسلام فلم يا ترى كانوا يتعبون أنفسهم ويعيدون النظر فيما اخترعوه وزيّفوه لينتقوا منه أشياء ويحذفوا منه أشياء؟ كما أنه برهان على أن أولئك العلماء الذين يتخذهم تُكَأَةً للتشكيك فى الأحاديث المحمدية هم أنفسهم الذين اهتموا بهذه الأحاديث وجمعوها ولم يهملوها كما يريد هو حتى يخلو الجوّ له ولأمثاله من المتعاونين مع الكاوبوى البلطجى ضد دين محمد صلى الله عليه وسلم فيعيثوا فيه فسادا وتدميرا. إن الفرق بينه وبين أولئك الأئمة الأعلام كالفرق بين السَّمَا والعَمَى، أو بين الوحل والماس، أو بين الماء العذب الفرات وماء المجارى المنتن! لقد بذل هؤلاء الأئمة أعمارهم فى الحفاظ على سنة رسول الله، أما هو فيريد، بخبث إجرامى مَرَدَ عليه، أن يهدم السنة النبوية توصلا بهدمها إلى هدم القرآن والإسلام كله، فلماذا يريد أن يحشر نفسه بينهم إذن؟ أما قوله إن الإسلام لم ينتظر البخارى ومسلم وبقية علماء الحديث حتى يؤلفوا كتبهم تلك، بل كان المسلمون يمارسون دينهم قبل هؤلاء بقرون، فالرد عليه من أسهل الأشياء، فقد كان المسلمون يستعينون طوال تلك القرون بالأحاديث النبوية، وكل ما فعله علماء الحديث أنهم أرادوا غربلة هذه الأحاديث بحيث يجد القضاة والمفتون وأصحاب المذاهب الفقهية مجموعات الأحاديث بين أيديهم جاهزةً مقشَّرةً لا تحوجهم كل مرة إلى تقويمها والتثبت من صحتها. وهذا يشبه العمل بقواعد اللغة قبل تأليف كتب النحو وبعد تأليفها، فالعرب قبل تأليف تلك الكتب كانوا واعين بوجود هذه القواعد، لكن كلا منهم كان يعتمد على جهده الفردى فى التحرز من الخطإ، ثم لما أُلِّفَتْ كتب النحو والصرف سَهُلَ الالتزام بتلك القواعد إلى حد كبير وخُفِّفَ عن المتكلم كثير من الجهد الذى كان عليه أن يبذله. وليس معنى هذا أن الأحاديث التى جمعها أهل الحديث هى فوق النقد، فما هم فى نهاية المطاف إلا بشر يصيبون ويخطئون، شأنهم شأن أى عالم آخر فى أى ميدان من ميادين العلم، لكنهم قد بذلوا مع ذلك جهودا عبقرية فى الفحص والتقويم لم يعرفها علماء أى تخصص آخر فى ميدان "العلوم الإنسانية"!(/13)
كذلك فهو يتهم الشيخ طنطاوى بأنه يخشى المقارنة بين القرآن والحديث لأنه، كما يقول، يعرف مسبقا أن الأحاديث النبوية تناقض القرآن وتحاربه. وهذا كلام تافه، وتفاهته بينة للعيان، إذ متى كانت أحاديث الرسول مناقضة للقرآن؟ إن ذلك لو حدث فمعناه أن تلك الروايات ليست من كلام النبى عليه الصلاة والسلام، وهذا قليلٌ جِدُّ قليلٍ فى كتب الحديث كما يعرفه كل من له خبرة فى هذا المجال، اللهم إلا إذا ثبت أن التناقض المزعوم ليس تناقضا بل هو تخصيص لحكم عام مثلا، أو استثناء لحالة من الحالات التى لها ظروف مختلفة تخرجها عن القاعدة العامة، أو حكم وقتى انتهى العمل به وبقى الحديث الذى يتعلق به لم يندثر...وما إلى ذلك.
ويقول الكاهن الأكبر فى المحراب الرشادى إن وظيفة النبى محمد فى القرآن لا تزيد عن التبليغ البتة، وكأنه عليه السلام لم يكن أكثر من جهاز تسجيل، أو فى أحسن الأحوال: إذاعة قرآن كريم تمشى على رجلين. وفات هذا اللجوج أن إذاعة القرآن نفسها لا تكتفى بقراءة القرآن، بل تضيف إليه التفسير والحديث والفتيا والشرح والتحليل ورد الشبهات والوعظ والإرشاد ومناقشة الكتب والدراسات التى تتعلق بالقرآن الكريم. ثم إنه هو نفسه لا يكتفى بالتبليغ، بل يملأ الكتب والمواقع الألكترونية والندوات والمؤتمرات كلاما سخيفا كافرا، ومعنى هذا أنه يرى نفسه فوق رسول الله: فالرسول عليه السلام لا يحق له بمقتضى فرماناته الصعلوكية أن يفتح فمه برأى أو اجتهاد أو تفسير أو فتوى أو تنزيل للحكم القرآنى على هذه الحالة أو تلك من الحالات الفردية...إلخ، أما هو فمن حقه أن يصدِّع أدمغتنا بهذه الكفريات التى سيصلى بسببها عذاب الدرك الأسفل من نار الجحيم بمشيئة الله! إن ما يقوله هذا الأفاق، وكان يقوله الأفاق الأكبر قتيل توسان من قبل، إنما يجعل من الرسول الأكرم شيئا يشبه تلك المرأة التى تقول بعض الروايات التى تحظى برضا العامة إنها لم تكن تتكلم أو تردّ على أحد إلا بالآيات القرآنية، وهو فى الواقع أمر يبعث على السخرية ويجعل كفى تأكلنى لصفع تلك الوجوه الكالحة ذات الخدود الغليظة.
ترى ألم يحدث قط أن سأل أحد الصحابة النبى عليه السلام عن معنى آية قرآنية استعصى فهمها عليه، أو جاءه أحد المسلمين يستفتيه فى حالة خاصة لا يعرف كيف يطبق عليها الحكم القرآنى العام، أو تحركت نفسه الشريفة لوعظ أصحابه بكلام من عنده يستوحى فيه القرآن؟ إن البكاش يريد منا أن نلغى عقولنا ونتجاهل الواقع الذى يفقأ عين كل شيطان خبيث مارد، وهو أن الرسول الكريم كان حاكما وقائدا عسكريا وقاضيا، إلى جانب كونه نبيا مبلغا للوحى، وهو ما يعنى أنه عليه السلام قد ترك لنا تراثا من الأحاديث غاليا ينبغى أن نتمسك به حتى نفهم الإسلام فهما سليما لا مروق فيه ولا كفر كما يقع من بعض الناس! ألا شاهت الوجوه! ثم إنه، بسلامته، يتصور أنه قادر على إيهامنا بأن القرآن والسنة يتناقضان ولا يلتقيان أبدا، أو أن القرآن كاف بنفسه لا يحتاج إلى شىء بجانبه. إن القرآن بوجه عام إنما يمثل دستور المسلمين، فإذا قلنا إننا محتاجون إلى صوغ قوانين تنظم حياتنا، أيمكن أن يقول لنا قائل إن محاولة صياغة هذه القوانين تتناقض مع وجود الدستور؟ إن القرآن يكتفى فى معظم الأحيان بالنص على الخطوط التشريعية العريضة والمبادئ الأخلاقية العامة، ثم يأتى الحديث النبوى فيقدم لنا الفتاوى والأحكام التفصيلية التى تستوحى تلك المبادئ العامة وتحولها إلى تطبيقات عملية يومية. ثم إنهما رغم ذلك كله لا يقدمان لنا أحكاما مباشرة جاهزة للوقائع التى تستجدّ مع الأيام، بل لا بد للفقهاء أن يعملوا عقولهم ويستوحوا نصوص القرآن والسنة كى يصلوا إلى الحكم الصحيح لهذه الوقائع والنوازل المستجدّة...وهكذا.(/14)
وقد حدث بعد نشر هذه الدراسة فى جريدة "الشعب" لأول مرة أن قرأت المقال الذى ترجمه الصديق المشباكى الأستاذ ميسرة عفيفى (المصرى المقيم فى اليابان والمتزوج منها) للكاتب اليابانى الدكتور ناوكي كومورو عن الإسلام ونَشَره فى ذات الصحيفة، فوجدت فيه عن الصلاة ما يلى: "يجب الذهاب فيه إلى المسجد والصلاة جماعة. بالمناسبة يطلق البعض على المسجد الإسلامي لفظ المعبد الإسلامي وهذا خطأ فادح. لا يوجد كهانة في الإسلام وبالتالي لا يوجد معابد. الصحيح أن يطلق عليها مصلى أو جامع. لأنه لا يوجد رهبان في الإسلام. إسمحوا لي بتعليق صغير هنا، فرضت الصلاة في الإسلام عن طريق القرآن، ولكن لا يذكر القرآن الطريقة التفصيلية للصلاة. القرآن هو الوحي الأوحد في الإسلام، ولكنه لا يغطي كل شئ إلى تفاصيل التفاصيل، لذلك هناك مصادر عدة للتشريع الإسلامي أولها هو القرآن، إذا لم نجد فيه حكما، نذهب إلى ثاني المصادر ثم إلى الثالث، وهكذا إلى المصدر العاشر للتشريع. وسأحكي بالتفصيل عن هذه المصادر فيما بعد، ولكن أكتفي هنا بذكر أن الطريقة المفصلة لكيفية الصلاة نجدها في المصدر الثاني من مصادر التشريع وهو السنة". أى أنه حتى اليابانيون يفهمون الإسلام على وجهه الصحيح، على حين أن شُيَيْخَنا الأزهرى يظن أنه مستطيع بما علمه إياه الكاوبوى اللعين أن يَسُوق البَلَه على الشيطنة، ناسيًا أننا نستطيع أن نعهد به إلى أحد المتصلين بعالم الجن والعفاريت ممن كان يعمل معهم فى صباه وشبابه فى قريته فيطرد الشياطين التى تركبه بعصا غليظة يظل يضربه بها فوق ظهره وعلى أجنابه حتى يظهر له صاحب، آكلاً بهذه الطريقة علقةً لم يذقها حمار فى مطلع ولا حرامى فى جامع، علقة يظل يحلم ويحلف بها طول العمر! لقد كنا، ونحن صغار، نردد أن الفلاح إذا أراد أن يتمدن يجىء لأهله بمصيبة، وها هو ذا شيخنا الأزهرى يريد أن يتأمرك، فجلب المصائب على أم رأسه وأورد نفسه موارد الجحيم، لعن الله كل أفاق كذوب!
ولمزيد من التفصيل نعيد القول بأن الأفاق، تشكيكا منه فى أحاديث سيد الأنبياء والمرسلين، يزعم أنه عليه السلام "كانت وظيفته التبليغ فقط، ويشمل التبليغ أنه كان شاهدا ومبشرا ومنذرا وداعيا الى الله ومعلما للقرآن ومزكيا للمسلمين بالقرأن، ولكنه كان فى كل ذلك يتكلم بالقرآن فقط " كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ: الأعراف 2"، "وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ: الأنعام 51"، "نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ: ق 45" ومن الطريف أن النبي عليه السلام خطب الجمعة أكثر من خمسائة مرة ومع ذلك فلم يحفظ له العصر العباسي خطبة جمعة واحدة لأنه كان يخطب الجمعة بالقرآن، ولأنه كان مبلغا فقط فلم يكن من حقه التشريع، لأن التشريع حق الله وحده، لذلك كان يسألونه عن أشياء تكرر ذكرها فى القرأن من قبل وكان فى وسعه أن يجيب بمجرد قراءة القرآن والاستشهاد به، ولكنه كان ينتظر أن تأتى الإجابة من الله "يسألونك عن" ، "قل"".(/15)
هذا ما قاله البكّاش النتّاش، فهل فى الآيات التى ساقها هنا كلمة واحدة تَنْهَى النبى عن أن يتكلم بشىء يوضح به القرآن أو يجادل به الكفار ويرد على عنادهم وشبهاتهم؟ أبدا، وكل كلام غير هذا إنما هو كذب فى كذب! إن القرآن والسنة النبوية إنما يشبهان معًا كتابا ذا هوامش وحواشٍ: القرآن فيه يمثل النص الأصلى، والحديث يقوم بدور الشارح، ولا تعارض البتة بين الاثنين. وكلام الرسول وأفعاله هى جزء من الوحى، إلا إذا اجتهد الرسول عليه السلام من عند نفسه، ولم توافقه السماء على ما اجتهد، فعندئذ ينزل القرآن منبها إياه بوجوب العدول عن هذا أو باستحسان ذلك العدول على الأقل: "عَبَسَ وتولَّى* أنْ جاءه الأعمى* وما يدريك؟ لعله يزَّكَّى* أو يَذَّكَّر فتنفعه الذكرى* أما من استغنى* فأنت له تَصَدَّى* وما عليك ألاّ يَزَّكَّى* وأما من جاءك يسعى* وهو يخشى* فأنت عنه تَلَهَّى* كلا، إنها تذكِرة" (عبس/ 1- 11)، "يا أيها النبى، لِمَ تحرِّم ما أحل الله لك؟ تبتغى مرضاة أزواجك، والله غفور رحيم" (التحريم/ 1)، "وإذا قيل لهم: تعالَوْا يستغفر لكم رسولُ الله لَوَّوْا رؤوسهم ورأيتَهم يَصُدّون وهم مستكبرون* سواء عليهم أَسْتغْفَرْتَ لهم أم لم تستغفر لهم. لن يغفر الله لهم، والله لا يهدى القوم الفاسقين" (المنافقون/ 5- 6)، "يا أيها النبى، إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على ألا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك فى معروف فبايعهن واستغفر لهن الله" (الممتحنة/ 12)، "قد سمع الله قول التى تجادلك فى زوجها وتشتكى إلى الله، والله يسمع تحاوركما. إن الله سميع بصير" (المجادلة/ 1)، "يا أيها الذين آمنوا، إذا ناجيتم الرسول فقَدِّموا بين يَدَىْ نجواكم صدَقة" (المجادلة/ 11)، "ما كذَب الفؤادُ ما رأى* أفتُمَارُونه على ما يرى؟" (النجم/ 11- 12)، "يا أيها الذين آمنوا، لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبى، ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تَحْبَط أعمالكم وأنتم لا تشعرون" (الحجرات/ 1)، "لقد رضِىَ الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما فى قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا" (الفتح/ 18)، "لقد صَدَق اللهُ رسولَه الرؤيا بالحق لَتَدْخُلُنَّ المسجد الحرام إن شاء الله" (الفتح/ 27)، "وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخِيَرَة من أمرهم. ومن يعصِ اللهَ ورسولَه فقد ضلَّ ضلالا مبينا* وإذ تقول للذى أنعم الله عليه وأنعمتَ عليه: أَمْسِكْ عليك زوجك، واتق الله" (الأحزاب/ 36- 37)، "وإذا قيل لهم: اتَّبِعوا ما أنزل اللهُ قالوا: بل نتَّبِع ما وَجَدْنا عليه آباءَنا" (لقمان/ 21)، "وإذا قيل لهم: اسجدوا للرحمن، قالوا: وما الرحمن؟ أنسجد لما تأمرنا؟ وزادهم نفورا" (الفرقان/ 60)، "ولا تَقُولَنَّ لشىءٍ: إنى فاعلٌ ذلك غدا* إلا أن يشاء الله" (الكهف/ 23- 24)، "وإذ قلنا لك: إن ربك أحاط بالناس، وما جعلنا الرؤيا التى أريناك إلا فتنةً للناس..." (الإسراء/ 60)، "وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به، ولَئِنْ صبرتم لهو خيرٌ للصابرين" (النحل/ 126)، "يجادلونك فى الحق بعدما تبيَّن كأنما يُساقون إلى الموت وهم ينظرون" (الأنفال/ 6)، "إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أنى مُمِدّكم بألْفٍ من الملائكة مُرْدِفين" (9)، "إلاّ تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثانِىَ اثنين إذ هما فى الغار إذ يقول لصاحبه: لا تحزن، إن الله معنا" (التوبة/ 40)، "وسيحلفون بالله: لو استطعنا لخرجنا معكم. يهلكون أنفسهم، والله يعلم إنهم لكاذبون* عفا الله عنك، لم أذنتَ لهم حتى يتبيَّن لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين؟" (التوبة/ 42- 43)، "قل: استهزئوا. إن الله مُخْرِجٌ ما تَحْذَرون* ولئن سألتَهم ليقولُنّ: إنما كنا نخوض ونلعب" (التوبة/ 63- 64)، "ما على المحسنين من سبيل، والله غفور رحيم* ولا على الذين إذا ما أَتَوْكَ لتَحْمِلهم قلتَ: لا أجد ما أَحْمِلكم عليه..." (التوبة/ 91- 92)، "فلا وربك لا يؤمنون حتى يُحَكِّموك فيما شَجَرَ بينهم ثم لا يجدوا فى أنفسهم حَرَجًا مما قضيتَ ويسلِّموا تسليما" (النساء/ 65)، إذ تقول للمؤمنين: ألن يكفيكم أن يُمِدّكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة مُنْزَلين؟" (آل عمران/ 124).(/16)
فهذه نصوص قاطعة الدلالة على أن النبى لم يكن (كما يريد البكاش النتاش هو ورسوله الكذاب أن يصوراه لنا) مجرد آلة تسجيل لا تنطق إلا بما يتضمنه الشريط الموجود فيها لا تخرج عنه ولا تقول من عندها شيئا. فالآيات تتحدث عن رُؤًى رآها صلى الله عليه وسلم فى المنام وحدّث بها من حوله، وحوارات ومعاهدات سبق أن دارت بينه وبين المؤمنين أو مجادلات قامت بينه وبين الكافرين، وقد تَذْكُر الآيات هذه الحوارات والمجادلات كما وقعت أو توردها موجزة، وقد تكتفى بالإشارة إليها وحسب، وفى كل الحالات نعرف أن هناك كلاما قاله النبى لم ينزل به القرآن قبلا، بل كان القرآن حاكيا له فقط فيما بعد. وهناك أيضا كلام عن حُكْم النبى وقضائه بين المتخاصمين، وهذا طبعا غير القرآن، وهناك تصرفات أقدم النبى عليها ووافقه القرآن فيها أو عاتبه عليها، وهناك رأى ارتآه النبى من عند نفسه ذكره القرآن...إلخ. وهذا كله برهان لا يُرَدّ ولا يُصَدّ على أن ما يصور به الكذاب الأفاق رسول الله عليه الصلاة والسلام من أنه لم يكن أكثر من آلة تسجيل ليس فيها إلا أشرطة للقرآن الكريم هو ضلال فى ضلال! فإذا أضفنا إلى ما مرّ أن فى القرآن أحكاما كثيرة أتت مجملة عامة وتحتاج عند التطبيق إلى النظر فيها لاستخراج الحكم فى هذه الواقعة الخاصة أو تلك لتنزيلها عليها تبيّن لنا على نحو يقينى أنه صلى الله عليه وسلم كان يجتهد برأيه وتصرفه ولم يكن مجرد جهاز تسجيل كما يصوره المفترى الكذوب. مثال ذلك آية السرقة فى سورة "المائدة"، التى لا بد أن تثير عند قراءتها الأسئلة التالية: ما قيمة المبلغ الذى تُقْطَع عنده يد السارق؟ وهل تُقْطَع فى كل الأحوال أم هل هناك ظروف وشروط معينة لا بد من توفرها حتى يتم القطع؟ وكيف ينفَّذ هذا القطع؟ بل ما معنى القطع؟ كذلك عندنا آيات الزكاة، ولكن كيف يخرج المسلم زكاته؟ وما نصابها؟ وما نسبتها إلى ماله؟ وهل الزَّكَوَات كلها شىء واحد أم هل تختلف حسب نوع المال المزكَّى عنه؟ وهل لا بد من إخراجها عَيْنًا أم هل من الجائز أن نخرجها نَقْدًا؟ وهكذا يرى القارئ أن هناك، إلى جانب القرآن الكريم، مندوحةً واسعةً للمساهمات النبوية من خلال القول والسلوك والتطبيق والحُكْم...إلخ. أما ما قاله صويحبنا عن الصلاة وأنها إنما وردت لنا من أيام إبراهيم عليه السلام ولم تَرِدْ عن طريق السنة النبوية، فإنى سائله: وكيف وصلت إلى العرب على أيام النبى؟ أترى العرب فى الجاهلية كانوا يصلّون على النحو الذى كان يصلِّى عليه إبراهيم طوال كل هاتيك القرون منذ عصر أبى الأنبياء حتى عصر محمد؟ أم تراك ستقول إنها قد وصلتنا فى كتاب من كتب إبراهيم؟ فأين يا ترى ذلك الكتاب؟ وهل كانت صلاة إبراهيم تتضمن مثلا الفاتحة التى لم تكن قد نزلت بعد، أم ماذا؟ الواقع أنه ليس أمام هذا الأفّاق النهّاق إلا الإقرار بأنها إنما وصلت إلينا من خلال سنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. ألا لعنة الله على من يظن أنه يمكنه النزول بالرسول الأكرم إلى مستوى الجمادات التى لا تعقل ولا تحس ولا تريد ولا تفكر ولا تعبر عن نفسها أبدا، على حين يعطى لنفسه الحق فى أن يفعل كل ذلك وأكثر من ذلك بما يعنى أن الكَفُور يضع نفسه فى مرتبة أسمى من سيده وتاج رأسه ورأس الذين نفضوه، وكذلك الذين أَزُّوه على محاربة الله ورسوله! أما بالنسبة لخُطَبه صلى الله عليه وسلم فى الجمعة وغيرها فها هى ذى بعض نصوصها ننقلها عن كتاب "جمهرة خُطَب العرب" لأحمد زكى صفوت من فصل بعنوان "الخطب والوصايا عصر صدر الإسلام: خطب النبي":
"أول خطبة خطبها بمكة حين دعا قومه: حمد الله وأثنى عليه ثم قال إن الرائد لا يكذب أهله والله لو كذبت الناس جميعا ما كذبتكم ولو غررت الناس جميعا ما غررتكم والله الذي لا إله إلا هو إني لرسول الله إليكم خاصة وإلى الناس كافة والله لتموتن كما تنامون ولتبعثن كما تستيقظون ولتحاسبن بما تعملون ولتجزون بالإحسان إحسانا وبالسوء سوءا وإنها لجنة أبدا أو لنار أبدا
أول خطبة خطبها بالمدينة: حمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال أما بعد أيها الناس فقدموا لأنفسكم تعلمن والله ليصعقن أحدكم ثم ليدعن غنمه ليس لها راع ثم ليقولن له ربه وليس له ترجمان ولا حاجب يحجبه دونه ألم يأتك رسولي فبلغك وأتيتك مالا وأفضلت عليك فما قدمت لنفسك فلينظرن يمينا وشمالا فلا يرى شيئا ثم لينظرن قدامه فلا يرى غير جهنم فمن استطاع أن يقي وجهه من النار ولو بشق من تمرة فليفعل ومن لم يجد فبكلمة طيبة فإن بها تجزى الحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف والسلام عليكم وعلى رسول الله ورحمة الله وبركاته(/17)
خطبته في أول جمعة جمعها بالمدينة: الحمد لله أحمده وأستعينه وأستغفره وأستهديه وأومن به ولا أكفره وأعادى من يكفره وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله أرسله بالهدى والنور والموعظة على فترة من الرسل وقلة من العلم وضلالة من الناس وانقطاع من الزمان ودنو من الساعة وقرب من الأجل من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فقد غوي وفرط وضل ضلالا بعيدا وأوصيكم بتقوى الله فإنه خير ما أوصى به المسلم المسلم أن يحضه على الآخرة وأن يأمره بتقوى الله فاحذروا ما حذركم الله من نفسه ولا أفضل من ذلك نصيحة ولا أفضل من ذلك ذكرا وإن تقوى الله لمن عمل به على وجل ومخافة من ربه عون صدق على ما تبغون من أمر الآخرة ومن يصلح الذي بينه وبين الله من أمره في السر والعلانية لا ينوي بذلك إلا وجه الله يكن له ذكرا في عاجل أمره وذخرا فيما بعد الموت حين يفتقر المرء إلى ما قدم وما كان من سوى ذلك يود لو أن بينه وبينه أمدا بعيدا ويحذركم الله نفسه والله رءوف بالعباد والذي صدق قوله وأنجز وعده لا خلف لذلك فإنه يقول عز وجل ما يبدل القول لدى وما أنا بظلام للعبيد فاتقوا الله في عاجل أمركم وآجله في السر والعلانية فإنه من يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا ومن يتق الله فقد فاز فوزا عظيما وإن تقوى الله يوقى مقته ويوقى عقوبته ويوقى سخطه وإن تقوى الله يبيض الوجوه ويرضى الرب ويرفع الدرجة خذوا بحظكم ولا تفرطوا في جنب الله قد علمكم الله كتابه ونهج لكم سبيله ليعلم الذين صدقوا ويعلم الكاذبين فأحسنوا كما أحسن الله إليكم وعادوا أعداءه وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وسماكم المسلمين ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة ولا قوة إلا بالله فأكثروا ذكر الله واعملوا لما بعد اليوم فإنه من يصلح ما بينه وبين الله يكفه الله ما بينه وبين الناس ذلك بأن الله يقضى على الناس ولا يقضون عليه يملك من الناس ولا يملكون منه الله أكبر ولا قوة إلا بالله العظيم
خطبة له يوم أُحُد: أيها الناس أوصيكم بما أوصاني الله في كتابه من العمل بطاعته والتناهي عن محارمه ثم إنكم بمنزل أجر وذخر لمن ذكر الذي عليه ثم وطن نفسه على الصبر واليقين والجد والنشاط فإن جهاد العدو شديد كربه قليل من يصبر عليه إلا من عزم له على رشده إن الله مع من أطاعه وإن الشيطان مع من عصاه فاستفتحوا أعمالكم بالصبر على الجهاد والتمسوا بذلك ما وعدكم الله وعليكم بالذي أمركم به فإني حريص على رشدكم إن الاختلاف والتنازع والتثبيط من أمر العجز والضعف وهو مما لا يحبه الله ولا يعطى عليه النصر أيها الناس إنه قذف في قلبي أن من كان على حرام فرغب عنه ابتغاء ما عند الله غفر له ذنبه ومن صلى على محمد وملائكته عشرا ومن أحسن وقع أجره على الله في عاجل دنياه أو في آجل آخرته ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فعليه الجمعة يوم الجمعة إلا صبيا أو امرأة أو مريضا أو عبدا مملوكا ومن استغنى عنها استغنى الله عنه والله غني حميد ما أعلم من عمل يقربكم إلى الله إلا وقد أمرتكم به ولا أعلم من عمل يقربكم إلى النار إلا وقد نهيتكم عنه وإنه قد نفث الروح الأمين في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستوفي أقصى رزقها لا ينقص منه شئ وإن أبطأ عنها فاتقوا الله ربكم وأجملوا في طلب الرزق ولا يحملنكم استبطاؤه على أن تطلبوه بمعصية ربكم فإنه لا يقدر على ما عنده إلا بطاعته قد بين لكم الحلال والحرام غير أن بينهما شبها من الأمر لم يعلمها كثير من الناس إلا من عصم فمن تركها حفظ عرضه ودينه ومن وقع فيها كان كالراعي إلى جنب الحمى أوشك أن يقع فيه وليس ملك إلا وله حمى ألا وإن حمى الله محارمه والمؤمن من المؤمنين كالرأس من الجسد إذا اشتكى تداعى إليه سائر جسده والسلام عليكم
خطبته بالخيف: نضر الله عبدا سمع مقالتي فوعاها ثم اداها إلى من لم يسمعها فرب حامل فقه لا فقه له ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ثلاث لا يغل عليهن قلب المؤمن إخلاص العمل لله والنصيحة لأولى الأمر ولزوم الجماعة إن دعوتهم تكون من ورائه ومن كان همه الآخرة جمع الله شمله وجعل غناه في قلبه وأتته الدنيا وهي راغمة ومن كان همه الدنيا فرق الله أمره وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له خطبة له عليه الصلاة والسلام ومن خطبه أيضا أنه خطب بعد العصر فقال ألا إن الدنيا خضرة حلوة ألا وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون فاتقوا الدنيا واتقوا النساء ألا لا يمنعن رجلا مخافة الناس أن يقول الحق إذا علمه ولم يزل يخطب حتى لم تبق من الشمس إلا حمرة على أطراف السعف فقال إنه لم يبق من الدنيا فيما مضى إلا كما بقي من يومكم هذا فيما مضى(/18)
خطبة له: إن الحمد لله أحمده وأستعينه نعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إن أحسن الحديث كتاب الله قد أفلح من زينه الله في قلبه وأدخله في الإسلام بعد الكفر واختاره على ما سواه من أحاديث الناس إنه أصدق الحديث وأبلغه أحبوا من أحب الله وأحبوا الله من كل قلوبكم ولا تملوا كلام الله وذكره ولا تقسو عليه قلوبكم اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا اتقوا الله حق تقاته وصدقوا صالح ما تعملون بأفواهكم وتحابوا بروح الله بينكم والسلام عليكم ورحمة الله خطبة له أيها الناس إن لكم معالم فانتهوا إلى معالمكم وإن لكم نهاية فانتهوا إلى نهايتكم فإن العبد بين مخافتين أجل قد مضى لا يدري ما الله فاعل فيه وأجل باق لا يدري ما الله قاض فيه فليأخذ العبد من نفسه لنفسه ومن دنياه لآخرته ومن الشبيبة قبل الكبر ومن الحياة قبل الممات فوالذي نفس محمد بيده ما بعد الموت من مستعتب ولا بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار
خطبة له: أيها الناس كأن الموت فيها على غيرنا قد كتب وكان الحق فيها على غيرنا قد وجب وكأن الذي نشيع من الأموات سفر عما قليل إلينا راجعون نبوئهم أجداثهم ونأكل من تراثهم كأنا مخلدون بعدهم ونسينا كل واعظة وأمنا كل جائحة طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس طوبى لمن أنفق مالا اكتسبه من غير معصية وجالس أهل الفقه والحكمة وخالط أهل الذل والمسكنة طوبى لمن زكت وحسنت خليقته وطابت سريرته وعزل عن الناس شره طوبى لمن أنفق الفضل من ماله وأمسك الفضل من قوله ووسعته السنة ولم تستهوه البدعة خطبة له ألا أيها الناس توبوا إلى ربكم قبل أن تموتوا وبادروا الأعمال الصالحة قبل أن تشغلوا وصلوا الذي بينكم وبين ربكم بكثرة ذكركم له وكثرة الصدقة في السر والعلانية ترزقوا وتؤجروا وتنصروا واعلموا أن الله عز وجل قد افترض عليكم الجمعة في مقامي هذا في عامي هذا في شهري هذا إلى يوم القيامة حياتي ومن بعد موتى فمن تركها وله إمام فلا جمع الله له شمله ولا بارك له في أمره ألا ولا حج له ألا ولا صوم له ألا ولا صدقة له ألا ولا بر له ألا ولا يؤم أعرابي مهاجرا ألا ولا يؤم فاجر مؤمنا إلا أن يقهره سلطان يخاف سيفه أو سوطه
خطبته يوم فتح مكة: وقف على باب الكعبة ثم قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده ألا كل مأثرة أو دم أو مال يدعى فهو تحت قدمي هاتين إلا سدانة البيت وسقاية الحاج ألا وقتل الخطأ مثل العمد بالسوط والعصا فيهما الدية مغلظة منها أربعون خلفة في بطونها أولادها يا معشر قريش إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء الناس من آدم وآدم خلق من تراب ثم تلا يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم الآية يا معشر قريش أو يأهل مكة ما ترون إني فاعل بكم قالو خيرا أخ كريم وابن أخ كريم قال اذهبوا فأنتم الطلقاء
خطبته في الاستسقاء: روى أن أعرابيا جاء إلى رسول الله وآله في عام جدب فقال أتيناك يا رسول الله ولم يبق لنا صبي يرتضع ولا شارف تجتر ثم أنشده أتيناك والعذراء يدمي لبابها وقد شغلت أم الرضيع عن الطفل وألقى بكفيه الفتى لاستكانة من الجوع حتى ما يمر ولا يحلى ولا شيء مما يأكل الناس عندنا سوى الحنظل العامي والعلهز الفسل وليس لنا إلا إليك فرارنا وأين فرار الناس إلا إلى الرسل فقام النبي يجر رداءه حتى صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه وقال اللهم اسقنا غيثا مغيثا مريئا هنيئا مريعا سحا سجالا غدقا طبقا ديما دررا تحيي به الأرض وتنبت به الزرع وتدر به الضرع واجعله سقيا نافعة عاجلا غير رائث فوالله ما رد رسول الله وآله يده إلى نحره حتى ألقت السماء أرواقها وجاء الناس يضجون الغرق الغرق يا رسول الله فقال اللهم حوالينا ولا علينا فانجاب السحاب عن المدينة حتى استدار حولها كالإكليل فضحك رسول الله حتى بدت نواجذه(/19)
خطبته في حجة الوداع: الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أوصيكم عباد الله بتقوى الله وأحثكم على طاعته وأستفتح بالذي هو خير أما بعد أيها الناس اسمعوا مني أبين لكم فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا في موقفي هذا إيها الناس إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ألا هل بلغت اللهم اشهد فمن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها وإن ربا الجاهلية موضوع وإن أول ربا أبدأ به ربا عمى العباس بن عبد المطلب وإن دماء الجاهلية موضوعة وإن أول دم نبدأ به دم عامر بن ربيعة بن الحرث بن عبد المطلب وإن مآثر الجاهلية موضوعة غير السدانة والسقاية والعمد قود وشبه العمد ما قتل بالعصا والحجر وفيه مائة بعير فمن زاد فهو من أهل الجاهلية أيها الناس إن الشيطان قد يئس أن يعبد في أرضكم هذه ولكنه قد رضي أن يطاع فيما سوى ذلك مما تحقرون من أعمالكم أيها الناس إنما النسئ زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم ثلاثة متواليات وواحد فرد ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب الذي بين جمادى وشعبان ألا هل بلغت اللهم اشهد أيها الناس أن لنسائكم عليكم حقا ولكم عليهن حق لكم عليهن ألا يوطئن فرشكم غيركم ولا يدخلن أحدا تكرهونه بيوتكم إلا بإذنكم ولا يأتين بفاحشة فإن فعلن فإن الله قد أذن لكم أن تعضلوهن وتهجروهن في المضاجع وتضربوهن ضربا غير مبرح فإن انتهين وأطعنكم فعليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف وإنما النساء عندكم عوان لا يملكن لأنفسهن شيئا أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله فاتقوا الله في النساء واستوصوا بهن خيرا ألا هل بلغت اللهم اشهد أيها الناس إنما المؤمنون إخوة ولا يحل لامرئ مال أخيه الا عن طيب نفس منه ألا هل بلغت اللهم اشهد فلا ترجعن بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض فإني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لم تضلوا بعده كتاب الله ألا هل بلغت اللهم اشهد ايها الناس إن ربكم واحد وإن أباكم واحد كلكم لآدم وآدم من تراب أكرمكم عند الله أتقاكم وليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى الا هل بلغت اللهم اشهد قالوا نعم قال فليبلغ الشاهد الغائب أيها الناس إن الله قد قسم لكل وارث نصيبه من الميراث ولا يجوز لوارث وصية ولا يجوز وصية في أكثر من الثلث والولد للفراش وللعاهر الحجر من ادعى إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه صرف ولا عدل والسلام عليكم ورحمة الله خطبته في مرض موته عن الفضل بن عباس قال جاءني رسول الله فخرجت إليه فوجدته موعوكا قد عصب رأسه فقال خذ بيدي يا فضل فأخذت بيده حتى جلس على المنبر ثم قال ناد في الناس فاجتمعوا إليه فقال اما بعد أيها الناس فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو وإنه قد دنا مني خفوق من بين أظهركم فمن كنت جلدت له ظهرا فهذا ظهري فليستقد منه ومن كنت شتمت له عرضا فهذا عرضي فليستقد منه ومن أخذت له مالا فهذا مالي فليأخذ منه ولا يخش الشحناء من قبلي فإنها ليست من شأني ألا وإن أحبكم إلي من أخذ مني حقا إن كان له أو حللني فلقيت ربي وأنا طيب النفس وقد أرى أن هذا غير مغن عنى أقوم فيكم مرارا ثم نزل فصلى الظهر ثم رجع فجلس على المنبر فعاد لمقالته الأولى فادعى عليه رجل بثلاثة دراهم فأعطاه عوضها ثم قال أيها الناس من كان عنده شيء فليؤده ولا يقل فضوح الدنيا ألا وإن فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة ثم صلى على أصحاب أحد واستغفر لهم ثم قال إن عبدا خيره الله بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عنده فبكى أبو بكر وقال فديناك بأنفسنا وآبائنا".(/20)
ثم نُثَنِّى بعدها فننقل بعض خُطَب الجُمْعة النبوية من كتب الصِّحاح ليزداد القاصى والدانى علمًا بمدى الجرأة على الكذب عند أفاقنا حوارىّ رشاد "ساعة لقلبك"، ففى البخارى: "930- قَالَ مَحْمُودٌ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، قَالَ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، قَالَ أَخْبَرَتْنِي فَاطِمَةُ بِنْتُ الْمُنْذِرِ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ، قَالَتْ دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ ـ رضى الله عنها ـ وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ قُلْتُ مَا شَأْنُ النَّاسِ فَأَشَارَتْ بِرَأْسِهَا إِلَى السَّمَاءِ . فَقُلْتُ آيَةٌ فَأَشَارَتْ بِرَأْسِهَا أَىْ نَعَمْ . قَالَتْ فَأَطَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جِدًّا حَتَّى تَجَلاَّنِي الْغَشْىُ وَإِلَى جَنْبِي قِرْبَةٌ فِيهَا مَاءٌ فَفَتَحْتُهَا فَجَعَلْتُ أَصُبُّ مِنْهَا عَلَى رَأْسِي، فَانْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ تَجَلَّتِ الشَّمْسُ، فَخَطَبَ النَّاسَ، وَحَمِدَ اللَّهَ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمَّ قَالَ " أَمَّا بَعْدُ " . قَالَتْ وَلَغِطَ نِسْوَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ، فَانْكَفَأْتُ إِلَيْهِنَّ لأُسَكِّتَهُنَّ فَقُلْتُ لِعَائِشَةَ مَا قَالَ قَالَتْ قَالَ " مَا مِنْ شَىْءٍ لَمْ أَكُنْ أُرِيتُهُ إِلاَّ قَدْ رَأَيْتُهُ فِي مَقَامِي هَذَا حَتَّى الْجَنَّةَ وَالنَّارَ، وَإِنَّهُ قَدْ أُوحِيَ إِلَىَّ أَنَّكُمْ تُفْتَنُونَ فِي الْقُبُورِ مِثْلَ ـ أَوْ قَرِيبَ مِنْ ـ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ، يُؤْتَى أَحَدُكُمْ، فَيُقَالُ لَهُ مَا عِلْمُكَ بِهَذَا الرَّجُلِ فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ ـ أَوْ قَالَ الْمُوقِنُ شَكَّ هِشَامٌ ـ فَيَقُولُ هُوَ رَسُولُ اللَّهِ، هُوَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم جَاءَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى فَآمَنَّا وَأَجَبْنَا وَاتَّبَعْنَا وَصَدَّقْنَا . فَيُقَالُ لَهُ نَمْ صَالِحًا، قَدْ كُنَّا نَعْلَمُ إِنْ كُنْتَ لَتُؤْمِنُ بِهِ . وَأَمَّا الْمُنَافِقُ ـ أَوْ قَالَ الْمُرْتَابُ شَكَّ هِشَامٌ ـ فَيُقَالُ لَهُ مَا عِلْمُكَ بِهَذَا الرَّجُلِ فَيَقُولُ لاَ أَدْرِي، سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَقُلْتُهُ " . قَالَ هِشَامٌ فَلَقَدْ قَالَتْ لِي فَاطِمَةُ فَأَوْعَيْتُهُ، غَيْرَ أَنَّهَا ذَكَرَتْ مَا يُغَلِّظُ عَلَيْهِ .
941 - حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ، قَالَ حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ، قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عَمْرٍو، قَالَ حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ أَصَابَتِ النَّاسَ سَنَةٌ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَبَيْنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ قَامَ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلَكَ الْمَالُ وَجَاعَ الْعِيَالُ، فَادْعُ اللَّهَ لَنَا . فَرَفَعَ يَدَيْهِ، وَمَا نَرَى فِي السَّمَاءِ قَزَعَةً، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا وَضَعَهَا حَتَّى ثَارَ السَّحَابُ أَمْثَالَ الْجِبَالِ، ثُمَّ لَمْ يَنْزِلْ عَنْ مِنْبَرِهِ حَتَّى رَأَيْتُ الْمَطَرَ يَتَحَادَرُ عَلَى لِحْيَتِهِ صلى الله عليه وسلم فَمُطِرْنَا يَوْمَنَا ذَلِكَ، وَمِنَ الْغَدِ، وَبَعْدَ الْغَدِ وَالَّذِي يَلِيهِ، حَتَّى الْجُمُعَةِ الأُخْرَى، وَقَامَ ذَلِكَ الأَعْرَابِيُّ ـ أَوْ قَالَ غَيْرُهُ ـ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، تَهَدَّمَ الْبِنَاءُ وَغَرِقَ الْمَالُ، فَادْعُ اللَّهَ لَنَا . فَرَفَعَ يَدَيْهِ، فَقَالَ " اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا، وَلاَ عَلَيْنَا " . فَمَا يُشِيرُ بِيَدِهِ إِلَى نَاحِيَةٍ مِنَ السَّحَابِ إِلاَّ انْفَرَجَتْ، وَصَارَتِ الْمَدِينَةُ مِثْلَ الْجَوْبَةِ، وَسَالَ الْوَادِي قَنَاةُ شَهْرًا، وَلَمْ يَجِئْ أَحَدٌ مِنْ نَاحِيَةٍ إِلاَّ حَدَّثَ بِالْجَوْد"ِ .
ومن صحيح مسلم: "حَدَّثَنِي الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْحُلْوَانِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو تَوْبَةَ، حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ، وَهُوَ ابْنُ سَلاَّم، عَنْ زَيْدٍ، يَعْنِي أَخَاه، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَلاَّمٍ، قَالَ حَدَّثَنِي الْحَكَمُ بْنُ مِينَاءَ، أَنَّحَدَّثَاهُ أَنَّهُمَا، سَمِعَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ عَلَى أَعْوَادِ مِنْبَرِهِ " لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ عَنْ وَدْعِهِمُ الْجُمُعَاتِ أَوْ لَيَخْتِمَنَّ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ ثُمَّ لَيَكُونُنَّ مِنَ الْغَافِلِينَ".(/21)
2042- وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا خَطَبَ احْمَرَّتْ عَيْنَاهُ وَعَلاَ صَوْتُهُ وَاشْتَدَّ غَضَبُهُ حَتَّى كَأَنَّهُ مُنْذِرُ جَيْشٍ يَقُولُ " صَبَّحَكُمْ وَمَسَّاكُمْ " . وَيَقُولُ: " بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةَ كَهَاتَيْنِ " . وَيَقْرُنُ بَيْنَ إِصْبَعَيْهِ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى وَيَقُولُ: " أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ وَخَيْرُ الْهُدَى هُدَى مُحَمَّدٍ وَشَرُّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ " . ثُمَّ يَقُولُ : " أَنَا أَوْلَى بِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ نَفْسِهِ مَنْ تَرَكَ مَالاً فَلأَهْلِهِ وَمَنْ تَرَكَ دَيْنًا أَوْ ضَيَاعًا فَإِلَىَّ وَعَلَىّ .
2043- وَحَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ، حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ بِلاَلٍ، حَدَّثَنِي جَعْفَرُ، بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، يَقُولُ كَانَتْ خُطْبَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْجُمُعَةِ يَحْمَدُ اللَّهَ وَيُثْنِي عَلَيْهِ ثُمَّ يَقُولُ عَلَى إِثْرِ ذَلِكَ وَقَدْ عَلاَ صَوْتُه . ثُمَّ سَاقَ الْحَدِيثَ بِمِثْلِه"ِ.
ومن سنن أبى داود: "1098- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا شِهَابُ بْنُ خِرَاشٍ، حَدَّثَنِي شُعَيْبُ بْنُ رُزَيْقٍ الطَّائِفِيُّ، قَالَ جَلَسْتُ إِلَى رَجُلٍ لَهُ صُحْبَةٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُقَالُ لَهُ الْحَكَمُ بْنُ حَزْنٍ الْكُلَفِيُّ فَأَنْشَأَ يُحَدِّثُنَا قَالَ وَفَدْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَابِعَ سَبْعَةٍ أَوْ تَاسِعَ تِسْعَةٍ فَدَخَلْنَا عَلَيْهِ فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ زُرْنَاكَ فَادْعُ اللَّهَ لَنَا بِخَيْرٍ فَأَمَرَ بِنَا أَوْ أَمَرَ لَنَا بِشَىْءٍ مِنَ التَّمْرِ وَالشَّأْنُ إِذْ ذَاكَ دُونٌ فَأَقَمْنَا بِهَا أَيَّامًا شَهِدْنَا فِيهَا الْجُمُعَةَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَامَ مُتَوَكِّئًا عَلَى عَصًا أَوْ قَوْسٍ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ كَلِمَاتٍ خَفِيفَاتٍ طَيِّبَاتٍ مُبَارَكَاتٍ ثُمَّ قَالَ " أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ لَنْ تُطِيقُوا أَوْ لَنْ تَفْعَلُوا كُلَّ مَا أُمِرْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ سَدِّدُوا وَأَبْشِرُوا " . قَالَ أَبُو عَلِيٍّ سَمِعْتُ أَبَا دَاوُدَ قَالَ ثَبَّتَنِي فِي شَىْءٍ مِنْهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا وَقَدْ كَانَ انْقَطَعَ مِنَ الْقِرْطَاسِ .
1099- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، حَدَّثَنَا عِمْرَانُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عَبْدِ رَبِّهِ، عَنْ أَبِي عِيَاضٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا تَشَهَّدَ قَالَ " الْحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ أَرْسَلَهُ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا بَيْنَ يَدَىِ السَّاعَةِ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ رَشَدَ وَمَنْ يَعْصِهِمَا فَإِنَّهُ لاَ يَضُرُّ إِلاَّ نَفْسَهُ وَلاَ يَضُرُّ اللَّهَ شَيْئًا " .
1100- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ الْمُرَادِيُّ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ، أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ شِهَابٍ عَنْ تَشَهُّدِ، رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَذَكَرَ نَحْوَهُ قَالَ " وَمَنْ يَعْصِهِمَا فَقَدْ غَوَى " . وَنَسْأَلُ اللَّهَ رَبَّنَا أَنْ يَجْعَلَنَا مِمَّنْ يُطِيعُهُ وَيُطِيعُ رَسُولَهُ وَيَتَّبِعُ رِضْوَانَهُ وَيَجْتَنِبُ سَخَطَهُ فَإِنَّمَا نَحْنُ بِهِ وَلَهُ".
ومن سنن النسائى: "1418- أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ وَهُوَ قَائِمٌ عَلَى الْمِنْبَرِ " مَنْ جَاءَ مِنْكُمُ الْجُمُعَةَ فَلْيَغْتَسِلْ " . قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَا أَعْلَمُ أَحَدًا تَابَعَ اللَّيْثَ عَلَى هَذَا الإِسْنَادِ غَيْرَ ابْنِ جُرَيْجٍ وَأَصْحَابُ الزُّهْرِيِّ يَقُولُونَ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ بَدَلَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ .(/22)
1419 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ، قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ عَجْلاَنَ، عَنْ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ، يَقُولُ جَاءَ رَجُلٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ بِهَيْئَةٍ بَذَّةٍ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " أَصَلَّيْتَ " . قَالَ لاَ . قَالَ " صَلِّ رَكْعَتَيْن " . وَحَثَّ النَّاسَ عَلَى الصَّدَقَةِ فَأَلْقُوا ثِيَابًا فَأَعْطَاهُ مِنْهَا ثَوْبَيْنِ فَلَمَّا كَانَتِ الْجُمُعَةُ الثَّانِيَةُ جَاءَ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ فَحَثَّ النَّاسَ عَلَى الصَّدَقَةِ - قَالَ - فَأَلْقَى أَحَدَ ثَوْبَيْهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " جَاءَ هَذَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِهَيْئَةٍ بَذَّةٍ فَأَمَرْتُ النَّاسَ بِالصَّدَقَةِ فَأَلْقُوا ثِيَابًا فَأَمَرْتُ لَهُ مِنْهَا بِثَوْبَيْنِ ثُمَّ جَاءَ الآنَ فَأَمَرْتُ النَّاسَ بِالصَّدَقَةِ فَأَلْقَى أَحَدَهُمَا " . فَانَتْهَرَهُ وَقَالَ " خُذْ ثَوْبَكَ " .
1420- أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ بَيْنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِذْ جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم " صَلَّيْتَ " . قَالَ لاَ . قَالَ " قُمْ فَارْكَعْ " .
1421- أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو مُوسَى، إِسْرَائِيلُ بْنُ مُوسَى قَالَ سَمِعْتُ الْحَسَنَ، يَقُولُ سَمِعْتُ أَبَا بَكْرَةَ، يَقُولُ لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمِنْبَرِ وَالْحَسَنُ مَعَهُ وَهُوَ يُقْبِلُ عَلَى النَّاسِ مَرَّةً وَعَلَيْهِ مَرَّةً وَيَقُولُ " إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَظِيمَتَيْنِ "".
ومن سنن ابن ماجة: "1168- حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ رُشَيْدٍ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَعَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ، قَالاَ جَاءَ سُلَيْكٌ الْغَطَفَانِيُّ وَرَسُولُ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَخْطُبُ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ " أَصَلَّيْتَ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ تَجِيءَ " قَالَ لاَ . قَالَ " فَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ وَتَجَوَّزْ فِيهِمَا " .
1169- حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْمُحَارِبِيُّ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ رَجُلاً، دَخَلَ الْمَسْجِدَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَرَسُولُ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَخْطُبُ فَجَعَلَ يَتَخَطَّى النَّاسَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ " اجْلِسْ فَقَدْ آذَيْتَ وَآنَيْتَ " " .
ومن صحيح ابن خزيمة: " 1799- أنا أبو طاهر حدثنا أبو بكر حدثنا سعيد بن عبد الرحمن المخزومي حدثنا سفيان عن بن عجلان عن عياض بن عبد الله بن سعد بن أبي سرح أن أبا سعيد الخدري دخل يوم الجمعة ومروان بن الحكم يخطب فقام يصلي فجاء الأحراس ليجلسوه فأبى حتى صلى فلما انصرف مروان أتيناه فقلنا له يرحمك الله إن كادوا ليفعلون بك قال ما كنت لأتركهما بعد شيء رأيته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم ذكر أن رجلا جاء يوم الجمعة ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخطب في هيئة بذة فأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يتصدقوا فما لقوا ثيابا فأمر له بثوبين وأمره فصلى ركعتين ورسول الله -صلى الله عليه وسلم -يخطب ثم جاء يوم الجمعة الأخرى ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخطب فأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يتصدقوا فألقى رجل أحد ثوبيه فصاح له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو زجره وقال خذ ثوبك ثم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إن هذا دخل في هيئة بذة فأمرت الناس أن يتصدقوا فما لقوا ثيابا فأمرت له بثوبين ثم دخل اليوم فأمرت أن يتصدقوا فألقى هذا أحد ثوبيه ثم أمره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يصلي ركعتين
1800 - أنا أبو طاهر حدثنا أبو بكر حدثنا أبو زهير عبد المجيد بن إبراهيم حدثنا المقري ثنا سليمان بن المغيرة عن حميد بن هلال عن أبي رفاعة العدوي قال انتهيت الى النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يخطب فقلت يا رسول الله رجل غريب جاء يسأل عن دينه لا يدري ما دينه فأقبل الي وترك خطبته فأتي بكرسي خلت قوائمه حديدا قال حميد أراه رأى خشبا أسود حسبه حديدا فجعل يعلمني مما علمه الله ثم أتى خطبته وأتم آخرها(/23)
1801- أنا أبو طاهر حدثنا أبو بكر حدثنا عبدة بن عبد الله الخزاعي حدثنا زيد ، يعني ابن الحباب عن حسين وهو بن واقد حدثني عبد الله بن بريدة عن أبيه قال كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخطب فاقبل الحسن والحسين عليهما قميصان أحمران يعثران ويقومان فنزل فأخذهما فوضعهما بين يديه ثم قال صدق الله ورسوله إنما أموالكم وأولادكم فتنة رأيت هذين فلم أصبر ثم أخذ في خطبته"...وهلمّ جَرًّا، وهو ما يثبت إثباتا جازما حاسما أن الأوغاد يتنفسون الكذب تنفسا بدل الهواء الذى يتنفسه سائر عباد الله، وأنهم جمعوا إلى الكذب الوقاحة وجمود الوجه وانعدام الحساسة والكرامة.
فإذا أضفنا إلى هذا أنهم يكفِّرون المسلمين جميعا لكونهم يشهدون بنبوة محمد ورسالته عرفنا إلى أى مدى يكره هؤلاء المجرمون سيدنا رسول الله لحساب الماسونية العالمية بحجة أنهم حريصون على الوحدانية النقية التى لا تشوبها شائبة. أى أن الشهادة لسيدنا محمد بأنه رسول من رب العالمين تناقض عند هؤلاء الملاحيس عقيدة التوحيد، فهل رأى القراء عهرا وفجرا كذلك العهر والفجور؟ وهذا كله فى الوقت الذى يكررون فيه الشهادة كتابة وشفاها أن رشاد "ساعة لقلبك" رسول من عند رب العالمين. ومن هنا فإنهم يكفِّرون المسلمين جميعا من لدن الصحابة حتى يومنا هذا وإلى ما شاء الله، فضلا عن تكفيرهم إياهم لسبب آخر هو أنهم باعتمادهم فى عقائدهم وتشريعاتهم على السنة النبوية إلى جانب القرآن الكريم إنما يشركون بالله إلها آخر هو الرسول الكريم، الرسول الذى يريدون أن يحُلِوّا محله رسولهم الزنيم مسيلمة الكاوْبُويِىّ الذى يثنى على إيمان الأمريكان ويكفّر المسلمين أجمعين أبصعين أكتعين، لعنة الله عليه وعلى من يشايعه على هذا الضلال والكفر من هنا إلى يوم الدين وإلى ما بعد يوم الدين! آمين يا رب العالمين!
وعلى هذا فإذا كان الشيخ طنطاوى شيخ الجامع الأزهر قد كفَّرهم فهو على حق فى هذا التكفير بلا أى جدال، إذ يرفض هؤلاء المهاويس المتاعيس الشهادة بأن محمدا رسول الله ويعدّونها كفرا وشركا، كما أنهم يرفضون الأحاديث النبوية ويكفّرون من يأخذ بها أيضا، فضلا عن أنهم يتهمون الصحابة الكرام (عليهم رضوان الله، وعلى من يعاديهم ويتهمهم بما ليس فيهم الخزى والرجس أبد الآبدين) بأنهم قد عبثوا بالقرآن وأضافوا إليه آيتين عمدا كما وضحنا فى مقال سابق عن رشاد خليفة "رسول الميثاق" الأفاق، وهذا من أشد ضروب الفحش والفسق والكفر والضلال. ثم هم فوق ذلك كله يمالئون أعداء الدين والأمة والوطن والله والرسول ويشهدون لهم بالطهارة ويتعاونون معهم على تنفيذ مخططات الكفر والعدوان! فما الذى ينتظره المسلم أكثر من ذلك ليكفر هؤلاء الأنجاس المناكيد؟ إن سجاح الفاجرة تستنكر أن يكفرها الشيخ طنطاوى (وإن كنت لم أقرأ هذا التكفير ولم أسمع به، لكنى فى ذات الوقت أؤيده تمام التأييد إذا كان قد وقع)، أقول إنها تستنكر تكفير الشيخ لها مع أنها تكفر الأمة كلها إلا الكفار الحقيقيين الذين يؤمنون بأن رشاد "ساعة لقلبك" أبا شخّة هو رسول من عند رب العالمين! فعلا يا أخى: شيخ الأزهر ليس عنده حق! لقد كان ينبغى أن يكفِّر بدلا من ذلك جميع المسلمين، ويشهد بالهدى والإيمان والصلاح والتقوى لشيخ المنافقين الضلالية وحده لا شريك له!
ويتلاعب أبو حميد أيضا بكلمة "سُنّة" الواردة فى القرآن متصورا أنه يستطيع أن يخدع المسلمين بالقول بأن هناك تعارضا بين القرآن والسنة النبوية، مع أن الأمر أبسط من هذا تماما: فالسُّنّة فى القرآن أقرب ما تكون فى المعنى بوجه عام إلى ما نسميه الآن بـ"القوانين الكونية"، أما بالنسبة إلى الرسول فهى الطريقة التى فسَّر عليه السلام بها آيات القرآن وطبّق أحكامه ووضع المبادئ التى جاء بها موضع التنفيذ. وإذن فعندنا معنيان للسُّنّة: السُّنّة بمعنى القوانين الكونية الدائمة التى لا تحيد عنها حوادث الكون، والسُّنّة بمعنى الأسلوب الذى انتهجه النبى فى تحويل أوامر القرآن ونواهيه إلى واقعٍ مَعِيش. ولا تعارض بين المعنيين، فكل منهما يكمل الآخر، وإن سار فى مدار خاص به. وليس فى شىء من ذلك غرابة، فكثيرا ما يكون للكلمة الواحدة معان شتى، وهذا مما يعرفه كل أحد عنده أدنى إلمام بطبيعة اللغات، وهو معروف فى القرآن على نطاق واسع، ومنه على سبيل المثال كلمة "الأُمَّة"، التى تعنى فيه الجماعة والوقت والجنس من الناس والطريقة والسُّنّة والإمام...إلخ. وهناك معاجمُ قرآنيةٌ خاصّةٌ بذلك الجانب منه اسمها "كُتُب الأشباه والنظائر"، ومن أشهر من ألفوا فيها مقاتل بن سليمان (ق 2 هـ) وابن الجوزى (ق 6 هـ) وابن الدامغانى (ق 6 هـ) وابن عبد الصمد المصرى وابن فارس وابن العماد (ق 9 هـ). أما الفَسَقَة المنافقون الذين يتلاعبون بالنصوص ويريدون أن يقسروها على النطق بما تكنّ قلوبهم العفنة الدنسة من رجس فهؤلاء لا يؤخذ عنهم علم، ولا يُسْمَع منهم قول، أو يُحْتَرَم لهم رأى!(/24)
أما الآيات القرآنية التى يستشهد بها الضالّ المارق فهى، كما سبق القول وكما نعيده الآن، قد نزلت فى حق الكافرين من أهل مكة الوثنيين، لا فى حق المسلمين، الذين لم يعبد الله ويوحّده حق العبادة والتوحيد أمة فى الأرض وعلى مدار التاريخ كله مثلهم، والذين حفظوا قرآنه وسنة نبيه التى فسر بها عليه السلام هذا القرآن وطبَّق من خلالها مبادئه واستخرج بها منه أحكام الوقائع الفردية…إلخ، بخلاف ما يريد هذا المداور أن يُوقِعه فى رُوعنا من أن هذه الآيات الطيبات الطاهرات قد نزلت لتكفير المسلمين والزراية عليهم وتوعُّدهم بنار اللظى، التى سوف تحرق جلده ولحمه يوم الدين هو وكل عاتٍ متمردٍ من أتباع الكاوبوى بمشيئته تعالى وحَوْله وطَوْله! وهذه هى الآيات التى استشهد بها كُوَيْهِننا على أن الله سبحانه وتعالى قد كفَّر أمة محمد منذ أول جيل آمن به عليه الصلاة والسلام، وهو جيل الصحابة الكرام:
" أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ: الأعراف 185"، "فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ: المرسلات 50 "، "تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ: الجاثية 6"، "اللّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ حَدِيثًا: النساء 87"، "وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً: النساء 12"، "الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ* اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاء وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَاد:ٍ الزمر 17-23"، "أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ: الزمر 36"، "أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ: العنكبوت 51"، "فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ: الشورى 11"، "قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا: الإسراء 88"، " كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ، اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ: الأعراف 2-3"، "وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ: الأنعام 153". ومن الواضح أن الكلام فى كل النصوص تقريبا هو عن المشركين وعنادهم وكفرهم بالله وكتابه ونبيه وما كان هذا النبى يغاديهم ويراوحهم به كل يوم من دعوتهم إلى الإيمان. وحتى فى النَّصَّيْن المدنيَّيْن المأخوذين من سورة "النساء" نرى أن الكلام هو عن اليوم الآخر وأن ما يقوله الله بشأنه لا يمكن إلا أن يكون هو الحق الذى لا ريب فيه. فالمقابلة، كما يرى القارئ، ليست بين القرآن والحديث، بل بين الإيمان بالله واليوم الآخر وبين التكذيب بهما. أما أحاديث النبى عليه السلام فليس فيها أدنى مخالفة للقرآن، إذ هى تشرحه أو تطبقه على الوقائع اليومية الجزئية أو تستخلص منه الحكم الفردى…إلخ، فكيف يتصور عاقل أن الرسول أو أصحابه أو تابعيهم يمكن أن يخترعوا شيئا يسخط الله ويؤدى إلى زعزعة دينه وكتابه؟ إن مثل هذا الزعم لا يمكن أن يصدر إلا عن خبث شيطانى عريق!(/25)
هذا، ولا أريد أن أغادر السخف الذى أفرزته لنا است المارق الغبية مثله والذى يقول فيه: "هناك فرق فى مفاهيم القرآن فيما يخص النبي محمد بين لفظى النبي والرسول. محمد النبي هو شخصه وعلاقاته بمن حوله، لذا يأتى له الأمر باتباع الوحي بصفة النبي "وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا الأحزاب 2" ويأتيه العتاب واللوم بصفة النبي "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ: التحريم 1" ويأتى الحديث عن علاقاته بمن حوله بصفة النبي"، "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا: الأحزاب 28"، "يَا نِسَاء النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا: الأحزاب 30"، "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ: الأحزاب 53" أما محمد الرسول، فهو عندما يبلغ الرسالة. وبعد موت النبي وتبليغ الرسالة كاملة، فإن الرسول هو القرآن وحده، نفهم هذا من قوله تعالى "وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا: النساء 100"، "وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ: آل عمران 101"، "أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُوْلِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا* رَّسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا: الطلاق 10-11"، بل أن كلمة الرسول قد تأتى بمعنى كلام الله أى صفة من صفاته، ويستحيل أن يكون مقصودا منها النبي محمد، نفهم هذا من قوله تعالى " لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً: الفتح 9"، إن المطاع فى قوله تعالى "وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول"، هو واحد، وهو الله تعالى فى كتابه الذى بلغه الرسول فى حياته، وذلك فإن الضمير يعود بصيغة المفرد فى قوله تعالى "وإذا دُعُوا الى الله ورسوله ليَحْكُم بينهم: النور 48" لم يقل عن الله ورسوله "ليحكما بينهما" لأن التحاكم هو للرسالة، للقرآن"، أقول إننى لا أريد أن أغادر ذلك السخف المقزز الذى مر آنفًا دون أن أكرّ عليه وأنسفه نسفا حتى يتبين تمام التبيُّن خيط الحقيقة الأبيض الناصع من خيط الباطل الأسود القطران.(/26)
وإذن فباسم الله نبدأ، وعليه نتوكل، وبه نستعين فنقول: هل وردت كلمة "الرسول" فى الآيات التالية فى سياق الكلام عن تبليغه صلى الله عليه وسلم رسالته: "آمن الرسول بما أُنْزِل إليه من ربه والمؤمنون" (البقرة/ 285)، "أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم" (النساء/ 59)، "فإن تنازعتم فى شىء فرُدّوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر" (النساء/ 59)، "يا أيها الرسول، لا يَحْزُنْك الذين يسارعون فى الكفر من الذين قالوا: "آمنّا" بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم" (المائدة/ 41)، "يسألونك عن الأنفال. قل: الأنفال لله والرسول" (الأنفال/ 1)، يا أيها الذين آمنوا، لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون" (الأنفال/ 27)، "والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم" (التوبة/ 61)، "لكنِ الرسولُ والذين آمنوا معه جاهَدوا بأموالهم وأنفسهم" (التوبة/ 88)، "إن الذين يَغُضّون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى" (الحجرات/ 3)، "إذا ناجيتم الرسول فقدِّموا بين يَدَىْ نجواكم صدقة" (المجادلة/ 12)...إلخ؟ إن سياقها، على العكس من ذلك، يدور حول العلاقة بينه عليه والسلام وبين المؤمنين من حوله، وهو السياق الذى يقول التابع لأمريكا يا ويكا إنه لا يأتى إلا مع كلمة "النبى"! كما ورد عتابه صلى الله عليه وسلم فى قوله تعالى بشأن تحرّجه من الزواج من بنت عمته زينب بنت جحش بعد تطليق زيد لها: "وتخشى الناسَ، والله أَحَقُّ أن تخشاه" (الأحزاب/ 36) فى سياقٍ سبق أن تكررت فيه كلمة "الرسول" سبع مرات. وبالمثل فإن قوله عزَّ شأنه: "وزُلْزِلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه: متى نصر الله؟" (البقرة/ 214) لا يخلو من رائحة عتاب! أما التبليغ الذى يزعم البكاش أنه لا يأتى إلا مع كلمة "الرسول" فها هى ذى بعض الآيات القرآنية التى تثبت أنه يأتى مع كلمة "النبى" أكثر مما يأتى مع كلمة "الرسول": "يا أيها النبى، قل لمن فى أيديكم من الأسرى: إن يعلم اللهُ فى قلوبكم خيرا يُؤْتِكم خيرا مما أُخِذ منكم ويغفر لكم، والله غفور رحيم" (الأنفال/ 70)، "يا أيها النبى، قل لأزواجك: إن كنتنّ تُرِدْن الحياة الدنيا وزينتها فتعالَيْنَ أمتِّعْكُنّ وأُسرِّحْكُنّ سَراحًا جميلا* وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعدّ للمحسنات منكن أجرًا عظيمًا" (الأحزاب/ 30)، "يا أيها النبى، قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يُدْنِين عليهن من جلابيبهن. ذلك أَدْنَى أن يُعْرَفْن فلا يُؤْذَيْنَ، وكان الله غفورا رحيما" (الأحزاب/ 59). فهذا كله أمر من الله لرسوله بتبليغ ما أنزله إليه من وحى، وليس كما ظن الجاهل من أن الآية 30 من سورة "الأحزاب" إنما تتناول علاقته بمن حوله.
أما ادعاؤه الجاهل بأن كلمة "الرسول" قد تطلق على كتاب الله كما فى قوله تعالى: "أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُوْلِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا* رَّسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا: الطلاق 10-11" فهو كلام لا يستحق عنت الرد عليه، اللهم إلا لتنبيه من لا يدرى أن هذا الكائن جاهل جهلا مغلظا وأنه لا يعرف فى العلم إلا التشادقات المغثية للمعدة، وإلا فكيف يقول الله عن القرآن إنه "يتلو عليكم آيات الله مبيِّنات"؟ هل يعقل أن يتلو القرآن ما فيه من الآيات؟ أفتونى يا سادة يا كرام بشأن هذا القىء الذى يسلحه هذا الجاهل من فمه! ومثل ذلك زعمه أن كلمة "الرسول" قد تأتى بمعنى كلام الله، أى صفة من صفاته، ويستحيل أن يكون مقصودا منها النبي محمد، كما فى قوله تعالى: " لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً: الفتح 9". ترى هل يمكننا مثلا أن نسبِّح كلام الله؟ إن المقصود هو الإيمان بالله ورسوله، وكذلك تعزير الله وتوقيره وتسبيحه. وقد تكررت الآيات التى يتقدم فيها ذكر شخصين أو شيئين ثم لا يعود الضمير بعد ذلك إلا على واحد فقط، مثل: "والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها فى سبيل الله فبشِّرْهم بعذابٍ أليم" (التوبة/ 34)، "وإذا رَأَوْا تجارةً أو لَهْوًا انفضّوا إليها وتركوك قائما" (الجمعة/ 11)، "فلا يُخْرِجَنّكما من الجنة فتَشْقَى" (طه/ 117)، وعلى ذلك فلا مشكلة هنا، ولا موضع أيضا لحذلقات الغباء الماسخة التى يظن صاحبها أنه أتى بالذئب من ذيله!(/27)
وبعد، فأود أن أختم دراستى هذه ببعض الخطوط البارزة فى شخصية الدكتور أحمد صبحى منصور مأخوذة من كتاباته هو: إنه يدعو إلى الاستعانة بالتدخل الأجنبى، رافضا فى ذات الوقت أى حل تقدمه المعارضة الوطنية (وبالذات الإسلامية، التى يتهمها دون سائر طيوف المعارضة بأنها تسعى إلى الحكم بالأساليب الدموية التى ستدمر الوطن كله فلا تبقى منه شيئا)، اللهم إلا ما نادى به خالد محيى الدين ("فارس الوطنية المصرية والشيخ الأكبر لليسار المصرى والعربى" كما يلقبه بهذا اللقب الطنطان، الذى لم ينزل الله به من سلطان) من الاستعانة بهذا التدخل حسبما ذكر. والتدخل الأجنبى، كما جاء فى كلامه، هو التدخل الأوربى والأمريكى. وإلى القارئ بعض ما كتبه كويتبنا فى هذا الصدد، وهو مأخوذ من مقال بعنوان: "إلى المعارضة المصرية: لا بد من الاستعانة بالأجنبى لمنع الحرب الأهلية القادمة": "ان شعارات الناصرية فى رفض التدخل الاجنبى لم تعد تلائم العصر الحالى. الاستعمار القديم انتهى، بل وقد ثبت لدينا بالدليل العملى ان ذلك الاستعمار أفضل وأكثر تحضرا وشفقة من الاستبداد المحلى الحالى الذى أضاع البلاد والعباد. لم يعد مستساغا ان يتخفى حاكم فرد خلف شعار الوطنية ليستأثر وحده بالوطن ويكون الشعب كله أسيرا فى قبضته ويقوم فيهم بدور الاله يعز من يشاء ويعذب من يشاء، فاذا تدخل المجتمع الدولى للدفاع عن حقوق الانسان او لطلب الاصلاح السياسى والديمقراطية هب ذلك الفرد يرفض ذلك معتبرا دعوة العدل والاصلاح تدخلا فى الشئون الداخلية لا ترتضيه العزة الوطنية والقومية. لقد آن لهذا الغباء أن ينتهى من عقولنا. ان عصرنا الجديد هو عصر القرية العالمية الواحدة التى تم الغاء المكان والزمان فيها، والتى أصبح فيها الفرد العادى مستحقا للتمتع بكل حقوق الانسان ومتمتعا بحماية المجتمع الدولى الذى جعلته ثورة الاتصالات شاهدا على كل ما يحدث فى العالم من انتهاكات. شعارات الناصرية والقومية والسلفية الوهابية لم تعد تتفق وعصر حقوق الانسان الفرد الذى يجب على الحكومات ان تعمل لخدمته ورفاهيته لا لتسلبه كرامته وحقوقه. لا بد للمعارضة المصرية ان تعايش العصر و لا بد لها أن تتخلص من ذلك التراث الماضوى وتخاطب المجتمع الدولى تطالبه بالتدخل الفورى السريع لانقاذ مصر وحضارتها وسكانها من حرب أهلية قادمة لن تبقى ولن تذر. اذا أصر شيوخ الناصرية واليسار والسلفية السياسية والدينية على رفض التدخل الأجنبى حرصا منهم على ثقافة بالية فليتذكروا ان فارس الوطنية المصرية والشيخ الأكبر لليسار المصرى والعربى الاستاذ خالد محيى الدين لا يرى بأسا فى التدخل الاجنبى الايجابى لاقرار الحق والعدل".
وهو يؤكد أن جميع الدول الإسلامية التى تعاقبت على حكم مصر قد اضطهدت الأقباط اضطهادا شنيعا، ومن ثم نراه يستفز الأقباط إلى أن يهبّوا ويدفعوا عن أنفسهم هذا الظلم المستمر، واصفًا إياهم بـ"المسلمين والمؤمنين" فى الوقت الذى يلحّ هو وكل أتباع رشاد خليفة على وَصْمنا نحن المسلمين جميعا بالشرك والكفر بدءا من الصحابة حتى يومنا هذا وما بعده إلى ما شاء الله: "الأقباط بالذات- نراهم من خلال تاريخهم الطويل أكثر الناس تعرضاً للاضطهاد والصبر عليه، منذ اضطهاد الرومان فى حكم دقلديانوس وكراكلا، إلى الاضطهاد فى فترات مختلفة فى العصور الأموية والعباسية والمملوكية، ولا نقول العصور الإسلامية لأن الإسلام يرفض الظلم. كان الأقباط- ولا يزالون- يتحملون الاضطهاد ما استطاعوا، وورثوا حتى الآن صبراً على المكاره يدفعهم إلى المزيد من السلبية والسكون والمغالاة فى الحذر وتوقع الخطر وطلب الأمن والأمان بأى وسيلة. وذلك يجعلهم أكثر من غيرهم من المسلمين المصريين استحقاقاً لمعنى الإيمان الظاهرى، أى الأمن والأمان، وبالتالى فإن المعتدى عليهم يكون بنفس القدر أبعد الناس عن الإيمان بمعناه الظاهرى ومعناه الاعتقادى أيضاً حيث يخالف تعاليم القرآن الكريم التى سنتعرض لها فى حينها... والأقباط المصريون بالذات أكثر المصريين إيثاراً للسلام والمسالمة والأمن والأمان وهم بذلك أحق البشر جميعاً بوصف الإسلام بمعنى السلام والمسالمة وبوصف الإيمان بمعنى الأمن والأمان".(/28)
وهو يقف دائما وأبدا فى خندق أمريكا، ولا يحب إلا سعد الدين إبراهيم وفرج فودة والعفيف الأخضر وعلى سالم (الذى لم يجد من يدعوه إلى الترشُّح لمنصب رئاسة الجمهورية سواه! ولا حول ولا قوة إلا بالله!) وأحمد البغدادى وأمينة ودود (السحاقية التى أمَّتْ منذ وقت قريب بعض من يدعى الإسلام من الرجال والنساء فى صلاة الجمعة بتخطيط من أمريكا داخل إحدى الكنائس) وكذلك مجدى خليل (وما أدراك ما مجدى خليل؟)، ولا يثنى على أحد إلا عليهم، ولا يخطئ مرة واحدة فيكف لسانه عن المسلمين بما فيهم الصحابة والتابعون والفقهاء والمفسرون وعلماء الحديث أجمعين، بله أن يقول كلمة طيبة فى أى مسلم يحب دينه! ومقالاه فى أبى بكر وعمر رضى الله عنهما اللذين رسم لهما فيهما صورة كريهة بشعة، فلم يترك فى الفاروق شيئا طيبا على الإطلاق إلا بدّل حسنه سوءا واصما إياه بكل عار ومنقصة وتعصب واستبداد وانغلاق ذهن، كما ادعى على الصِّدّيق أنه كانت له حدبة فى ظهره، هذان المقالان متاحان لمن يريد على موقعه فى المشباك! وأجتزئ بالفقرة التالية التى يمدح فيها مجدى خليل (وهو من غلاة المتعصبة من أقباط المهجر الذين يَرَوْن فى الحقبة الإسلامية من تاريخ أرض الكنانة جملة اعتراضية خاطئة ينبغى حذفها من الكلام حتى تستقيم الأمور، ومن ثم فإنهم يدعون المسلمين إلى العودة إلى دين أجدادهم كما يقولون ليصبحوا مثلّثين مصلّبين عابدين بشرا مخلوقا ضعيفا مثلهم ويتخَلَّوْا عن دين التوحيد الكريم ويهدموا مساجدهم ويبنوا مكانها كنائس)، قائلا إنه هو وسعد الدين إبراهيم الوحيدان اللذان يعاونانه على بناء مسجد له ولأمثاله من حواريِّى الرسول الأفّاق رشاد خليفة: "قضيت عشرين عاما فى مصر أبشِّر فيها بالاسلام الحقيقى القرآنى الذى كان عليه خاتم النبيين، وعانيت فيها من مطاردة الجاهلين، تركت لهم جامعة الأزهر فظلوا ورائى من مسجد الى مسجد يطاردوننى فانقطعت فى بيتى اصلى مع أهلى فعوقب بعض اهلى بالاعتقال والتعذيب لأنهم يصلون معى داخل بيتى، فانقطعت عن الذهاب الى بلدى وبيتى. أى أخرجونى من بيتى الذى بنيته فى قريتى ليكون بيتا ومسجدا. جئت الى أمريكا بلد الحرية الدينية فوجدت المتطرفين قد سبقونى فى التحكم فى المساجد ووجدت نفسى فى نفس العزلة التى تعودت عليها. ولكن لا يزال السؤال المؤلم يلح على عقلى: ألا يوجد لله تعالى مسجد حقيقى يمكن أن نذكر فيه اسم الله تعالى وحده ونبشر فيه بالقيم الاسلامية المنسية من العدل والسلام والتسامح والحرية وحقوق الانسان والديمقراطية، تلك الحقوق التى سبق بها القرآن العالم الحديث منذ 14 قرنا؟ ألا يمكن أن يوجد مثل هذا المسجد الاسلامى الحقيقى فى أمريكا بلد الحرية والديمفراطية والتسامح وحقوق الانسان؟ ظل هذا السؤال يلح فى عقلى الى أن شجعنى على البوح به لقرائى صديقى الدكتور سعد الدين ابراهيم– رفيق النضال والكفاح ضد الطغيان فى جلسة فى بيتى فى مدينة الاسكندرية مقاطعة فرجينيا الامريكية – كان معنا الكاتب الصحفى الصديق مجدى خليل أخذنا نستعيد فيها ذكريات الماضى وآمال المستقبل. تحدثت عن اضطرارى للصلاة فى بيتى وشكاوى القراء المسلمين المتنورين فى أمريكا من تخلف خطباء المساجد وجهلهم والصورة السيئة التى يقدمونها عن الاسلام. أخذَنا الحديث الى ضرورة وجود مسجد يتعلم فيه المسلمون الاسلام الحقيقى البعيد عن التطرف وثقافة الارهاب والذى يمكن أن تنبت فيه نواة لمدرسة يتعلم فيها أئمة يبشرون بالاسلام الحقيقى بين المسلمين ليثبتوا للغرب التناقض بين الاسلام والتطرف. اقترح الدكتور سعد الدين ابراهيم أن أتوجه بهذه الفكرة الى القراء المسلمين فى كل مكان طالبا الرأى والمشورة، وهأنذا أفعل. ما رأيك عزيزى القارىء فى أن نقيم مسجدا فى مقاطعة الأسكندرية فى ولاية فرجينيا يكون قلعة للدفاع عن التعاليم الحقيقية المنسية للقرآن الحكيم وليكون فيه مدرسة يتعلم فيها ويتخرج أئمة مسلمون يواكبون العصر– عصر الديمقراطية وحقوق الانسان؟ تعضيدكم لهذه الفكرة يمكن ان ينقلها الى حيز الامكان، وانا فى انتظار رسائلكم".(/29)
وهو يرى أن من حق أمريكا، حفاظا منها على مصالحها، أن تفعل بنا وبالدنيا ما تشاء، وفى ذات الوقت ينتقد المسلمين الأوائل لفتحهم البلاد ونشرهم التوحيد بدل التثليث والثنوية والوثنية، كما يدعى على المسلمين الحاليين المزاعم القاتلة متهما إياهم بالإرهاب واضطهاد الأقليات: "الأقليات الدينية والمذهبية والعرقية عندنا تتعرض لدرجات مختلفة من الاضطهاد ويسرى التعتيم عليها حتى لو وصل الأمر الى ارتكاب المذابح العرقية كما حدث من قبل فى العراق ثم فى دارفور. اذا فشل التعتيم وتدخل الغرب لاقرار العدل وللدفاع عن المظلوم اتهمناه بالتدخل فى شئوننا الداخلية وبالتآمر على العرب والمسلمين. حدث هذا حين تدخلت أمريكا والغرب لاغاثة ضحايا دارفور الأفارقة المسلمين من مذابح أرتكبها فى حقهم (أشقاؤهم العرب المسلمون). بل ان التعتيم قد يصل الى تجاهل دور أمريكا والغرب فى حماية مسلمى كوسوفا من الابادة الجماعية على يدى الصرب المسيحيين لأنه لا يصح ان نذكر أى ايجابية لأمريكا والغرب. مقابل هذا التعتيم والتجاهل تنطلق حناجرنا بالصراخ حين ترسل احدى المنظمات الوهابية الأمريكية شكوى كاذبة الى الصحف العربية تشكو من التمييز الذى تزعم وقوعه فى مجتمع المسلمين الأمريكيين. وكم عانى مركز ابن خلدون وصاحبه دكتور سعد الدين ابراهيم حين فتح بصراحة ملف الأقليات فى الوطن العربى مطالبا باعطائهم حقوقهم بالمساواة والعدل، فتعرض لاضطهاد وأغتيال معنوى للشخصية شارك فيه مثقفو الاستبداد والاستعباد من دعاة القومية العربية وفكر الستينيات العظيم الى دعاة السلفية الوهابية السياسية مع ذيول الحاكم المستبد القائم. أولئك جميعا هم الذين تزدهر بهم ثقافة العبيد.
ان ثقافة العبيد هى عملة رديئة لها وجهان: الأول الخنوع للقريب الظالم واستعذاب ظلمه سواء كان أخا أو أبا أو حاكما، والوجه الثانى هو كراهية الآخر اى الأجنبى لمجرد انه أجنبى مختلف عنا. الأجنبى يبدأ بالمختلف معنا فى الداخل– المختلف دينيا ومذهبيا وعرقيا ولغويا، ثم يمتد ويتضخم ليشمل الأجنبى الغريب فى الخارج. كلما زادت الفوارق بيننا وبين الأجنبى وزادت قوته وازداد احتكاكه بنا ازددنا عداء له مهما فعل من خير لنا. ينطبق هذا على الغرب وأمريكا بالذات، فاذا قدمت أمريكا خيرا فهى مؤامرة، واذا تصرفت أمريكا وفقا لمصلحة شعبها– وهذا هو واجب أى حكومة فى العالم باستثناء حكوماتنا المقدسة- اشتعل الهجوم علي الرئيس الأمريكى لأنه لا يعمل لمصلحة الشعوب العربية كما لو كان رئيسا للولايات المتحدة العربية وليس الامريكية. فى نفس الوقت فان الحاكم المستبد المحلى يرتكب ما يشاء من جرائم ويجد من يدافع عنه ويمجده ويفسر كل خيباته الثقيلة فى ضوء التآمر الامريكى والاسرائيلى. ولو راجعت الأمثلة الشعبية السابقة لوجدتها تنطبق على هذه الحالة المرضية. فضرب الحاكم لنا شرف ومثل أكل الزبيب ونحن نبلع له الزلط بينما نتمنى لأمريكا الغلط، فاذا خيبت امريكا أملنا ولم تغلط بادرنا نحن بالغلط فيها لكى نفرغ فيها احباطنا وعجزنا وفشلنا وقهرنا. لا نستطيع ان نقدر على الحمار- هل عرفت المقصود به الآن ياصاحبى– اذن علينا بالبردعة لأنها لن ترد ولن تنهق ولن ترفس مثل الحمار".
وهو يردد هذه الفكرة المجرمة الخطيرة فى مقال له آخر يهاجم فيه الأستاذ فهمى هويدى، الذى فضح علاقته بأمريكا فرد عليه قائلا: " يستشهد هويدي باختطاف أمريكا بعض الذين لهم صلة بمنظمة القاعدة واستجوابهم حول معلومات عن القاعدة، ويتخذ من ذلك ذريعة لاتهام امريكا بانتهاك حقوق الانسان. انه ينقل هذه المعلومات عمن يدافع عن حقوق اولئك المختطفين وهي المنظمة الامريكيةRights Watch Human، كما ينسى ان أمريكا فى حالة حرب معلنة جديدة فى نوعها يستخدم فيها الارهابيون الفكر الدينى لتحويل الشباب البرىء الى قنابل متحركة تنفجر فى أى زمان وفى أى مكان. وهى أمام هذا الخطر المجهول غير المرئى ملزمة بالدفاع عن أمنها فى الداخل، خصوصا وأن المتطرفين يسيطرون على أكثر من ألف مسجد على التراب الأمريكي يقومون فيها بغسيل مخ الشباب المسلم بتحويلهم الى "استشهاديين ". والذين يحتجون على امريكا هم الأمريكيون انفسهم مع أن ما تقوم به أمريكا هو أمر مشروع فى حالة الحرب، أما غير المشروع فهو ما يقوم به الاستبداد العربي والتيار المتطرف من اضطهاد وقتل واخفاء قسري للمفكرين المسالمين الداعين للاصلاح. ويقف فهمي هويدي بقلمه ضد أولئك المصلحين بل ويمهد بقلمه بالتحريض ضد مفكرين مسالمين لا يملكون حولا ولا قوة.(/30)
ويتحدث بعدها عما يسميه بالاستقواء الأمريكي الذى يسعى للهيمنة على العالم. على أنه ليس عيبا على أى دولة أن تسعى للاستقواء والتمكين بل العيب أن تكون أى دولة فى خيبتنا القوية!! أمريكا الآن هى أكبر قوة فى العالم وليس عيبا أن تحافظ على مكانتها. وقد سبقها فى احتلال مركز القوة الأولى فى العالم امبراطوريات من الفراعنة والفرس والرومان والعرب والانجليز ولم يقل أحد ان هذا الاستقواء عيب فى حد ذاته، ولا زلنا نفخر بالاستقواء العربى الذى كان فى عهد الامويين والعباسيين والعثمانيين. انما يأتي العيب حين يستخدم الاستقواء لاستعباد الآخرين كما حدث من كل الامبراطوريات السابقة على أمريكا ومنهم العرب المسلمون. أمريكا بعد ان صارت القوة الأولى فى العالم لم تمارس نفس ما ارتكبته الامبراطوريات السابقة من احتلال واستعباد. قبلها عاشت أمريكا منعزلة وفق مبدأ مونروا بعيدة عن تقاتل أوروبا حول المستعمرات، ثم دخلت الحربين العالميتين للدفاع عن الديمقراطية، ثم دخلت فى حرب باردة مع الاتحاد السوفيتي أيضا للدفاع عن الديمقراطية والحرية، وسقط الاتحاد السوفيتي ليظهر التيار السلفى عدوا للحرية مخترعا نوعية جديدة من الحرب الفكرية التدميرية، وبدأ هذا التيار بالاعتداء على أمريكا فى عقر دارها فاضطرها الى الدخول فى حرب ضد عدو خفى متحرك متنقل من المتعذر تحديده أو حصاره.أثناء دفاعها عن الديمقراطية ساندت أمريكا الشعوب الواقعة تحت الطغيان النازى (فى أوربا) والطغيان الياباني (الفلبين) والطغيان السوفيتى الشيوعي (أوربا الشرقية وكوريا الجنوبية وفيتنام الجنوبية وأفغانستان)، وحررت الكويت المحتلة من صدام، ثم قامت بتحربر الشعب العراقي منه أيضا، وهى الآن تدعو المستبدين العرب الى الاصلاح السياسي والتحول الديمقراطي سلما لتفادى الحروب الأهلية والتدخل الأجنبى وتعلن رسميا أنها لن تفرض ديمقراطية من الخارج على العرب، الا أن الاستبداد العربى يرفض الاصلاح السلمى الداخلى. ونجد فهمى هويدي ينقم على أمريكا هذا التدخل الاصلاحي ويعتبره من لوازم التمكين".
وهو يدافع عن إسرائيل ويتهم الأبطال الاستشهاديين بأنهم انتحاريون يجلبون على أنفسهم سخط الله جراء تفجيرهم لأجسادهم فى الصهاينة المجرمين، ويرى أن لإسرائيل الحق كل الحق فى البقاء، وأن العيب فينا نحن، وأننا نعلق فشلنا وخيبتنا وتخلفنا على شماعة إسرائيل البريئة المسكينة التى يهددها الفلسطينيون الإرهابيون المتوحشون أعداء الحياة والتقدم والحضارة. ويجد القارئ هذا الكلام الرهيب فى مقال بعنوان: "العملية الانتحارية الأخيرة فى اسرائيل ودلالاتها" كتبه فى 27/ 2/ 2005م، وهذا نصه كاملا:
كان هناك تقدم ايجابى فى العملية السلمية على المستوى الرسمى حدث فى قمة شرم الشيخ الأخيرة، ومن الممكن أن تفرز الاتفاقات الرسمية تقدما أكثر فى المستقبل القريب، ولكن قد تظل الجماهير العربية– المعنية أساسا بالتعايش السلمى– بعيدة عما يجرى منساقة الى تيار الرفض للسلام، الأمر الذى لن يخدم عملية السلام والتعايش السلمى. السبب يرجع الى عاملين اساسيين: الأنظمة العربية المكروهة شعبيا، والمعارضة الأصولية الارهابية. والجماهير العربية ضحية لهاتين القوتين المتنازعتين. هاتان القوتان المتنازعتان اتفقتا على تكريس الصورة النمطية لأسرائيل فى ذهنية الجماهير العربية والاسلامية بحيث تصبح اسرائيل هى العدو الوحيد لكل العرب والمسلمين والذى لا سبيل للتعامل معه الا بالعنف والارهاب على اساس ان الصراع هو صراع وجود وليس صراع حدود.(/31)
النظم الاستبدادية التى ترعى عملية السلام– وقتيا الآن– هى التى تلحق ابلغ الضرر باسرائيل على المدى المستقبلى. انها تشترى بقاءها فى السلطة عن طريق لعبتين متناقضتين، الأولى موجهة لأمريكا والغرب واسرائيل، عن طريق الاسهام فى اتفاقات السلام المرحلى بين اسرائيل والفلسطينيين لتكون لصالح الأمن الاسرائيلى فى المدى القريب المنظور. وبذلك تسترضى تللك النظم أمريكا والغرب واسرائيل، وتفلت من مطالب الاصلاح الديمقراطى وتداول السلطة. الثانية: وهى الأخطر والسياسة المستمرة والمستقرة لتلك الأنظمة منذ 1952. هى توجيه غضب الجماهير ونقمتها واحباطها نحو اسرائيل باعتبارها العدو الذى يجب ان نوحد صفوفنا تجاهه، والعدو الذى يهدد مستقبلنا والذى لا يكف عن التآمر علينا، والذى هو سبب كل النكبات التى تحيق بنا. وعلى تلك الشماعة يتم تعليق كل الاصلاحات وتأجيل كل الاستحقاقات، ويتم تفسير كل الفشل فى ضوء التآمر الأسرائيلى والغربى والأمريكى. وهكذا بدلا من ان يتوجه الغضب الشعبى والاحباط نحو العدو الحقيقى الذى اضاع الحقوق وخرب البلاد وقتل الأبرياء– وهو نظام الحكم المستبد– فان ذلك الغضب يتوجه نحو اسرائيل. وحتى اذا اضطر المستبد الى المشاركة فى عملية سلام تتناقض مع العداء الذى يؤججه ضد اسرائيل فانه لا يهتم بتبرير ذلك للجماهير كى تظل الكراهية لأسرائيل هى العقيدة الحاكمة.
المعارضة الأصولية المتطرفة الأرهابية تشارك نظم الحكم فى استغلال اسرائيل عدوا يجب ان تتوحد الأمة على حربه، الا أن للمتطرفين اسبابهم الأخرى الدينية، فالعالم عندهم ينقسم الى معسكرين: معسكر الايمان، وهو معسكرهم وحدهم، ثم معسكر الكفرالذى تقبع اسرائيل واليهود فى أحط درجاته. واذا كان الجهاد واجبا ضد المسيحيين فى الغرب وامريكا فهو أثر قدسية والحاحا ضد الدولة الاسرائيلية، وهى المعركة المقدسة التى ستحدث فى نهاية العالم للقضاءعلى كل اليهود حسب ما يؤكدونه فى أدبياتهم. ويعتقدون انه لا مفر منها ويستعدون لها بتجذير الكراهية لاسرائيل وكل ما هو يهودى.
هذه هى الثقافة التى تربينا عليها فى الصغر، ثم صارت أشد قوة مع تعاظم المد السلفى الوهابى ومع تكاثر المساجد والمدارس والجامعات والجمعيات والصحافة العادية والاليكترونية والقنوات الفضائية. هذه الثقافة وجدت أنصارا لها بين القوى السياسية الأخرى من اليساريين والقوميين والفاشيين الوطنيين. كلهم تحالفوا بغير عهد مكتوب على حشد كل البغضاء ناحية اسرائيل وأمريكا لأنحيازها لأسرائيل. وفى ظل هذا العداء المترسخ لن تساوى تلك الانفاقات الرسمية شيئا، وهذا ما يعرفه المستبدون الذين ساهموا فى انجاحها ليخدعوا اسرائيل بمكسب وقتى بينما هم قد حفروا لها فى المستقبل الغاما تنسف امكانية التعايش السلمى بين العرب واليهود وتجهز لحروب قادمة. هذه الألغام سيكون ضحيتها عشرات الألوف من الأبرياء على الجانبين. هناك العشرات من الضحايا الذين يفجرون انفسهم املا فى مستقبل افضل فى الجنة حسبما أقنعهم شيوخهم– وتلك الجنةهى الأمل الباقى لديهم بعد ان أفقدهم الأستبداد والفساد كل حلم أوأمل فى الحصول على حقوقهم الأنسانية فى هذه الدنيا. الضحايا تجدهم فى عشرات الشباب الأبله من طلبة الجامعات الذى يدفعه التحريض الاعلامى المتواصل ضد اسرائيل فيتسلل الى اسرائيل لكى يجاهد أو يموت وهو لا يدرى شيئا عن القتال والدفاع. انهم مجرد شباب غض شاء سوء حظه أن يكون مصريا فى هذا العصر الكئيب. وهى ظاهرة مدمرة ومرشحة للتكرار طالما بقى الحال على ما هو عليه. ولكن فى المرات القادمة قد يكونون أكثر مهارة وخبرة وكفاءة واستعدادا بحيث يفلتون ويقتلون ابرياء اسرائيليين. الضحايا ايضا من اليهود الاسرائيليين المدنيين صرعى العمليات الانتحارية التى جعلوها استشهادية. ان تلك العمليات الانتحارية هى سلاح اولئك الضعاف الضحايا العرب والمسلمين، وبدلا من أن يتوجه الكفاح ضد المستبد وهو العدو الحقيقى الذى افقرهم وعذبهم وأذلهم وصادر حقوقهم فانه بغسيل المخ يتوجه نحو اسرائيل فى ظل أكبر حملة دعائية استمرت لأكثر من خمسين عاما تحاصر العقل العربى المسلم من طفولته الى كهولته تدفعه دفعا الى كراهية كل ما هو اسرائيلى ويهودى. والشباب العربى المسلم هم الضحية.(/32)
فى أى بلد فى العالم تجد الشباب عنوان الاقبال على الحياة والتفتح والانفتاح على المستقبل لأنه المستقبل. أما فى مصر والشرق الأوسط تجد الشباب منغلقا مشدودا للماضى يفكر فى الموت اكثر من الحياة، يريد أن يرحل الى الجنة مفجرا نفسه ومعه "بعض الكفرة" ليدخلهم النارليتمتع هو بالحور العين فى الجنة بعد أن فقد أمله فى الزواج والعمل والسكن. المشكلة أن عدد الشباب هو الأضخم فى نسبة السكان واذا كانوا سيظلون بهذه العقلية المريضة الانتحارية فسينجح التخطيط الجهنمى للمستبدين العرب الذين قرروا تأجيل المعركة النهائية مع اسرائيل للأجيال القادمة مقابل أن يتمتعوا هم وحدهم باحتكار السلطة والثروة فى هذا الجيل. أذن فالمستقبل يحمل مخاطرجدية لعمليات انتحارية مقبلة طالما ظلت الثقافة التراثية السلفية سائدة يعززها الأستبداد والفساد. والعمليات الانتحارية سلاح فتاك لا تعرف متى وأين وكيف يضرب. ولا سبيل لمواجهة هذا السلاح الا بسلاح فكرى عقلى اسلامى من داخل الثقافة الاسلامية ذاتها ليعرف كيف يخاطبها ويقنعها.
المحصلة النهائية أن تلك الانفاقات الرسمية على مستوى القمة لن تجدى شيئا فى اقناع الشباب المطحون والناقم والمأزوم. بل ستتزيدها تفاقما لأن اولئك الحكام المستبدين المكروهين انما يعبرون عن أنفسهم وليس عن شعوبهم وبالتالى فان الكراهية لهم لا بد أن تنعكس على ما أسهموا فى انجازه خصوصا اذا كان الشباب المأزوم يعتبرها "استسلاما مخزيا للعدو الصهيونى" حسب تعبيرهم.
لا بد من الاصلاح الديمقراطى والاصلاح الدينى لتجذير السلام فى الشرق الاوسط والا ستظلون تكتبون اتفاقات رسمية على الماء لن تمنع القادم من أنهار الدماء".(/33)
لِماذا اختفى إحسان؟
سمر عبدالله 6/8/1426
10/09/2005
إحسانُ الظنِّ بالله
إحسانُ الظنِّ بالناس
إحسانُ النيّة
إحسانُ مُعاملةِ الوالدين
إحسانُ الجيرة
إحسانُ العمل و إتقانه؟!!
يحصر كثير من الناس الإحسان في العبادات، و الحقيقة أن الإحسان أعمّ و أوسع من الحدود التي يحصرونه فيها، فكل ميادين الحياة للإحسان فيها آفاق!
و الإنسان المُحسِن يخوض هذه الميادين و هو حذِرٌ مُراقِبٌ لله في سكناته و حركاته؛ لأنهُ يعلم علم اليقين أن الله -عزّ وجل- ناظِرٌ إليه و مُطّلعٌ على فؤاده و نواياه، فتجده حرِيصاً على أن يُنجِز أي أمر هو مُقدم عليه بِأمانةٍ و إتقان يرضى الله عنه. جاء في الحديث القُدسي أن الله تعالى قال: "ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينّه، ولئن استعاذني لأعيذنّه..."
والإحسان أعلى مراتب الإسلام منبعُه من أعماق النفس المؤمنة الموقِنة بأن الله يراها و إن لم تكن تراه. و ينعكس هذا اليقين على سريرتها و تصرفاتها في الآنِ معاً، فتجِدها إن تفكّرت نقّت سريرتها من الشوائب و أحسنت الظن، و إن تكلّمت تهذّبت في القول، و إن عملت أتقنت في السر والعلن! يقول ابن الجوزي "الحقّ عز وجل أقرب إلى عبده من حبل الوريد، لكنه عامل العبد معاملة الغائب عنه البعيد منه، فأمر بقصد نيته ورفع اليدين إليه والسؤال له، فقلوب الجهال تستشعر البعد ولذلك تقع منهم المعاصي؛ إذ لو تحققت مراقبتهم للحاضر الناظر لكفُّوا الأكف عن الخطايا، والمتيقّظون علموا قربَه فحضرتهم المراقبة وكفَّتهم عن الانبساط".
و يُصبِح الإحسان منهج حياة و أسلوب معيشة ينعكس في سلوكيات و تعامل الإنسان مع الآخرين - الوالدين والأقارب وأفراد المجتمع عامة – (وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِى الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِى الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً) [سورة النساء، آية 36]. فترى نفس المُحسِن إن غضِبت، كتمت غيظها، و إن أُوذيت و ظُلِمت صبرت و احتسبت و إن قدَرت عَفَت، و إن أُحسِن إليها تجاوزت العدل في رد المعروف لتزيد الإحسان إحساناً، ذلك أن الإحسان يفوق العدل، فالعدل يُلزِمك بأن تؤدِّي الحقوق إلى أهلِها أو أن تأخذ مالك دون زيادة او نقصان، أما الإحسان فهو في جود نفسك، في أخذها لما دون حقِها و إعطائها أكثر مما عليها! ورد في السلف أن جارية عثرت بمرقة فصبّتها على سيّدها فغضب و أرادَ أن يضربها، فقالت له: (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ) فقال: قد فعلت. قالت: (وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ) قال: قد عفوت. قالت: (وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) فقال: أحسنت إليك. فأعتقها!
ثمّ يتسع مفهوم الإحسان ليشمل تعامل الإنسان مع كل شيء في هذه الحياة - سرّاً و علناً - من نبات أو حيوان أو جماد (وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى الأرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مّنَ الْمُحْسِنِينَ) [سورة الأعراف: آية 56]. يقول القرطبي: "إن الإحسان إلى الحيوان مما يغفر الذنوب، وتعظم به الأجور".
و للإحسان أثرٌ في سنن الكون و ارتقاء المجتمع، فهو يُعزّز من فهم الإنسان لشريعة الله، و يُعزّز من تفاعله مع الدور المنوط بِه في هذه الدُنيا، فلا يجعله يُهدِر طاقاته في غير النافع من الأمور، و يحثّه على الإتقان في إتمام مهامه، فِيما يُقرِّبه من خالقه. و بِهذا الإتقان تصلح الأرض و تتقدم المجتمعات و تنهض الأمّة!
و قد عظّم الله ثواب الإحسان على الفروض، فأداء الفروض قد يقي الإنسان من النار أو يدخله الجنة، بينما الإحسان قد يوصله إلى أعلى درجاتِها، يقول سبحانه و تعالى: (هَلْ جَزَاء الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ) [سورة الرحمن: آية 60] و يقول سُبحانه و تعالى أيضاً: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)[سورة البقرة: آية 195].
فهل لِخيالك القاصِر أن يُدرِك حدود إحسان الله إليك في الآخِرة، أو مايعني حب المولى -عزّ و جلّ- لك؟!
ما يمنعُك إذاً من أن تكون مُحسِناً و قدوة في زمنٍ قلّ فيه المُحسنون؟!(/1)
مآذن إستانبول
شعر: علي أحمد باكثير
"هذه قصيدة نادرة لم تنشر من قبل وهي من آخر ما نظم الشاعر الإسلامي علي أحمد باكثير أثناء زيارته لتركيا في 26/5/1969م. حصل عليها الشيخ عبد الله عقيل سليمان العقيل الأمين العام المساعد لرابطة العالم الإسلامي من الأستاذ أمين مصطفى سراج الذي كان مرافقاً لباكثير أثناء رحلته":
وكم بالآستانة من iiمعان
معان ليس تعدلها iiمعان
مآثر من بني عثمان iiشادت
تزيد الكافرين أسىً وغيظاً
جوامع مشمخرات iiحسان
تراها من بعيد iiكالرواسي
بفن عبقريّ iiمستمد
كأن قبابها خوذات iiصلب
ومن ينظر مآذنها iiيجدها ... أثارت في حناياي iiالشجونا
تفجر في الفؤاد هدىً iiمبينا
من الدين الحنيف بها حصونا
إذا نظروا وتُرضي iiالمؤمنينا
خوالد من بناء iiالخالدينا
فإنْ دوّين أقررن iiالعيونا
من الإسلام يهدي iiالحائرينا
لمعن على رؤوس iiمجاهدينا
رماحاً في صدور الكافرينا(/1)
مؤاكلة أهل الكتاب والرافضة
الشيخ الأمين الحاج محمد أحمد السؤال
أنا أعمل في شركة بترولية كبيرة في أحد البلاد، ومعظم العاملين معنا من غير المسلمين، والمسلمون منهم شيعة. المشكلة التي أواجهها هي: كيف يمكنني الأكل معهم؟ أرجو إفادتي حول الموضوع.
الإجابة
الحمد لله، جزاك الله خيراً على حرصك على معرفة أحكام دينك.
أولاً: يحل للمسلم أكل طعام أهل الكتاب بما في ذلك ذبائحهم واستعمال آنيتهم ما لم تكن ذهباً ولا فضة، وإن كان بها نجاسة من أطعمتهم المحرمة غُسِلتْ، قال تعالى: (وطعام الذين أوتوا الكتاب حِلٌّ لكم) [سورة المائدة: 5].
ولو قال اليهودي: باسم عُزيْر، والنصراني: باسم المسيح؛ فعلى المسلم أن يسمِّي الله ويأكل، وهو قول بعض أهل العلم، لكنه مرجوح لقوله تعالى: (ولا تأكلوا مما لم يُذكر اسم الله عليه) وقال بعض الصحابة ـ عليٌّ وعائشة وابن عمر رضي الله عنهم ـ وبعض العلماء منهم طاووس والحسن: إذا سمعت الكتابي يسمي غير اسم الله فلا تأكل، وذلك للآية الآنفة. وكره ذلك مالك ولم يحرِّمه.
روى الدارقطني بإسناد صحيح عن عمر أنه توضّأ من بيت نصراني في حُقِّ نصرانية [الحُقُّ وعاء من خشب].
وكذلك تجوز مؤاكلة أهل الكتاب والأفضل عدم مؤاكلتهم.
ثانياً: الشيعة إذا كانوا يسبُّون أبا بكر وعمر وعائشة رضي الله عنهم خاصة فلا تجوز ذبائحهم ولا مؤاكلتهم ولا زيارتهم ولا الصلاة خلفهم ولا عليهم. وإن خاف من شرِّهم داراهم. والله أعلم.(/1)
مؤامرة تحديد النسل وأسطورة الانفجار السكاني
تكشف الأبحاث والإحصائيات العالمية أن العالم الآن يضم 3.5 مليار من السكان، ترتفع إلى 7 مليارات نسمة في نهاية القرن الحالي، وقد زاد الجنس البشري سبعمائة مليون نسمة في السنوات العشر الأخيرة، وفي كل عام يولد بالعالم 127 مليون طفل ويصل إلى سن التعليم منهم 95 مليون طفل وإن الدول النامية: في آسيا وأمريكا اللاتينية هي أكثر الدول تأثراً بهذه الزيادة إذ أن ثلثي سكان العالم يعيش في هذه المناطق وأن خمسة أسداس الزيادة المنتظرة في عدد السكان تكون أيضاً في هذه المناطق، وقد أصبح الوافدون يزيدون عن الراحلين في الشهر الواحد، بما لا يقل عن سبعة ملايين نفس فالعالم الآن يستقبل كل يوم 30 ألف نسمة زيادة صافية بعد الخسائر.
العبرة لم يؤمن:
وقد استغرق العالم ثلاثة آلاف عام بأكملها قبل أن يتضاعف تعداده ولكنه الآن يتضاعف تلقائياً كل خمسة وأربعين عاماً. ولا ريب أن لنا نحن المسلمين عبرة في دراسة هذه الأرقام. فنحن نؤمن بأن الكون كله لله تبارك وتعالى وأنه هو الخالق، وأن ظاهرة التفوق البشري هذه ظاهرة طبيعية، في طريق اكتمال صورة الكون والأرض على النحو الذي أشار إليه القرآن الكريم، لتأخذ الأرض زخرفها وزينتها، ولتخرج الأرض مذخورها من معطيات الحياة من قلب البحار ومن قلب صخور الجبال ومن جوف الأرض. وأن للمسلمين في هذه الثلاثمائة ألف طفل يومياً أكثر من 219 ألف طفل يومياً، وهذا يدل على أن ظاهرة "التفوق البشري" تمثل جيشاناً ضخماً في عالم الإسلام بما يدل على تفوق ظاهرة لهذه القوة المؤمنة بالله، بينما نجد أن الانحسار السكاني واضح الدلالة في عالم الغرب.
ظاهرة غريبة:
وفي إحصائيات أخرى نجد أن عدد سكان العالم الآن هو 3700 مليون نسمة وأنه إذا سار معدل المواليد على حالته الآن فإن العدد سيتضاعف خلال 26 سنة – أي في نهاية القرن الميلادي – ويكون الرقم قد ارتفع إلى 7400 مليون نسمة، وأن هذه الزيادة ستكون من نصيب الدول النامية في آسيا وأفريقيا أي أنه من بين 224 طفل يولدون في الدقيقة الواحدة 202 طفل في الدول النامية "العالم الإسلامي" و 22 طفلاً في الدول المتحضرة "الغرب".
وهذه الإحصائيات تعطينا مؤشراً واضحاً للأحداث.
ذلك أن ظاهرة تقلص حجم المواليد في عالم الغرب، وزيادة هذا الحجم في عالم الإسلام، من الظواهر التي تزعج الرأسمالية الغربية والنفوذ الغرب المسيطر اليوم في بلاد المسلمين والعرب إزعاجاً شديداً، ذلك لأنهم يحسون بمدى الخطر الذي ينتظرهم في السنوات القادمة، ويترصد بهم نتيجة نضوب المواليد نسبتها في البلاد الغربية بينما تزداد هذه النسبة وتتضاعف في بلاد أفريقيا وآسيا.
محاولة خداعة تحت اسم مثير:
ولما كانت هذه الظاهرة ستصبح بعيدة المدى في متغيرات موازين السيطرة والنفوذ وتملك الموارد الطبيعية والطاقة وغيرها في السنوات القادمة فإن الغرب يشن حملة شديدة وعاصفة عنيفة على هذه الزيادة المضطرة بوصفها بعيدة الأثر في عالم الإسلام تحت اسم مثير هو ما يطلق عليه اسم "الانفجار السكاني" ويجند له عشرات من الأقلام والمفكرين والساسة دون أن يشير إلى حقيقة الموقف وطبيعة التحول الاجتماعي والحضاري الذي يوحي بأن فساد المجتمعات الغربية، قد أدى إلى نضوب منابع "الوالدية" بها، نتيجة لشيوع الخمر والماريجوانا والترف، وانصراف المرأة الغربية عن رسالتها كلية وكراهيتها الشديدة للولادة وتربية الأولاد، والإسراف في عمليات الزواج غير الشرعي وظاهرة اللقطاء واستعمال حبوب منع الحمل.
انهيار الحضارة الغربية:
هذا الاضطراب الاجتماعي في عالم الغرب المرتبط بمرحلة الانهيار في الحضارة الغربية، هو مصدر انخفاض نسبة المواليد بما أدى إلى انزعاج الغرب لهذا السبب، وما يحاوله الآن من إغراء وتشجيع الزواج والولادة بإغراءات خطيرة دون جدوى، بينما يشن في الناحية الأخرى حملة شديدة على الولادة المتزايدة في البلاد النامية والمتخلفة وينفق ملايين كثيرة في بلاد العرب والإسلام من أجل "تحديد النسل" وتعقيم الرجال، والإغراء بإعطاء الحبوب واللوالب وغيرها من أجل تقليل نسبة المواليد.
ولا شك أن الغرب يرى في ظاهرة التقلص في مواليده وزيادة نسبة مواليد المناطق التي تسمى "البلاد النامية" خطراً شديداً على نفوذه وعلى المقدرات التي يحصل عليها من الخامات والثروات والمواد الأولية وعلى كل ما يعنيه على التفوق المتصل على عوالم أفريقيا وآسيا المتخلفة.
أبعاد المؤامرة:(/1)
من أجل هذا نجد المجتمع الغربي لا يتبنى فكرة تحديد النسل فحسب، بل يفرضه فرضاً على عالم الإسلام، بينما يعلن البابا بيوس الثاني عشر رأيه صراحة في تأييد المسيحية لكثرة النسل، ويواجه المسلمون – مع حملة تحديد النسل – ذلك التحدي الخطير: تحدي الهجرة والنمو المتزاد لليهود في فلسطين ونمو المسيحية في أوربا وفي أجزاء كثيرة من العالم الإسلامي، بينما يجبر المسلمون بوسائل شتى فيها الإغراء أو التعقيم الإجباري "كما حدث لمسلمي الهند على يد أنديرا غاندي" على خفض تعدادهم، وهنا تنكشف المؤامرة، ويتبين أن هناك خطة مدبرة ضد المسلمين بالذات ذلك أن غير المسلمين يخشون تكاثر المسلمين، ويحاولون إيقاف هذا النمو والتزايد بكل وسيلة ومن هنا جاءت الدعوة إلى تحديد النسل والحد من تعدد الزوجات.
وبينما يطلب إلى المسلمين تحديد نسلهم، تترك الصين ليتزايد سكانها بمعدل 14 مليوناً كل سنة.
الأكذوبة:
ولا ريب أن تهديد العالم الثالث بنضوب الثروات هو أكذوبة كبرى، فإن الخطر الحقيقي كله كامن في سوء استخدام الثروات والكنوز التي تفيض بها الأراضي البكر. وسوء التخطيط لتطوير إنتاجي أفضل. وبينما تنقل هذه الخامات إلى بلاد الغرب وتنهب، ثم تعيد تصديرهما للأمم المترفة الاستعمارية لا يحصل أصحاب هذه الثروات إلا على الفتات.
الانحسار السكاني في الغرب:
وتتحدث الأبحاث عن ظاهرة الانحسار السكاني في الغرب، وتصفها بأنها ظاهرة مخيفة وخطيرة تقلق الخبراء الاجتماعيين والسياسيين ورجال الأعمال، فأمريكا تتجه نحو حالة الصفر في النمو السكاني. فهي تقف الآن في النقطة التي يكون فيها عدد المواليد مساوياً لعدد الوفيات. وتتحدث الأبحاث عن هذا الخطر الهائل الذي يتهدد الولايات المتحدة والدول الغربية على بعد بضعة أجيال، مما يؤدي إلى انخفاض القوة العاملة وما يؤدي إلى ركود الإنتاج، في حين أن الدول الفقيرة تنموا نمواً متزايداً.
وتقول الأبحاث أن عدد سكان أمريكا (212 مليون نسمة) وأن النمو السكاني في أمريكا يصل إلى درجة الصفر (2 / 2) عندما يبلغ السكان 260 مليون نسمة. ويشارك الولايات المتحدة في هذه الظاهرة "السويد وألمانيا الغربية، اليابان، هنغاريا، رومانيا" وأن نسبة المواليد في هذه الدول في هبوط مستمر منذ الحرب العالمية الأخيرة، وأن الهبوط كان هائلاً في السنوات الأربع الماضية، في السويد وفنلندا والنمسا وبلجيكا وألمانيا. أما هنغاريا وبريطانيا فقد بلغت درجة الصفر. والقلق ناجم من أن القوة العاملة سوف تتضاءل في المستقبل بما يؤدي إلى ركود الإنتاج، ومن أجل ذلك شددت بعض دول أوروبا في قضايا الإجهاض وفرضت عقوبات على من يفعله، ومنع السوقيات تداول الحبوب المانعة للحمل. وأعطوا إجازات أطول للزوجة الحامل.
ويتوقع الخبراء أن تصل أكثر دول أوروبا إلى درجة الصفر في النمو السكاني في بداية القرن الواحد والعشرين، كما يرى بعض الخبراء أن الانحسار السكاني إلى درجة الصفر سيؤدي إلى ركود اقتصادي واجتماعي خطير.
التعقير أو التحديث:
ويرجع الخبراء هبوط الخصب في المدى البعيد في الدول المتطورة إلى مجموعة عوامل يطلقون عليها "التعقير أو التحديث" ويقول الخبراء أن موانع الحمل والإجهاض قد خفضت المعارضة الأخلاقية لضبط النسل، وأن ثلث السكان من النساء الكاثوليكيات يمارسن موانع الحمل. بالرغم من تعاليم الكنيسة الكاثوليكية، التي تقول أن موانع الحمل أمر خاطئ غير مستحب، كذلك فإن الموجة الجديدة للأنوثة قد ساعدت على جعل نسبة المواليد منخفضة حيث شجعت المرأة على تحدي دورها كربة بيت وأم.
وقال الدكتور جو يلدز: أن المرأة لم تشعر بأن عليها إنجاب الأطفال لتصبح إنساناً بشرياً، ويرى كثير من النساء أن مساهمتهن في المجتمع أو تحقيق اكتفاء ذاتي أكبر، يكون ببقائهن في أعمالهن، بدلاً من البقاء في البيوت مع الأطفال وأن المرأة شيئاً مهملاً إذا كانت أماً أو ربة بيت (6.5 مليون امرأة عاملة تؤلف 46% من القوة العاملة في الولايات المتحدة).
صيحات الخبراء:
ويشير التقرير إلى خطورة امتناع الشباب المتزوج عن إنجاب الأطفال يقول "بول ايرليس" في كتابه "القنبلة البشرية" عام 1968 وكتاب آخر "حدود النمو" أن العالم يواجه كارثة إذا تقلص النمو السكاني. وقال ولفريد نيكرمان: أن الإنسان قد استخف بحجم الموارد الطبيعية الهائلة في العالم. وهناك إشارة إلى أن التضخم الاقتصادي يعد عائقاً في إنجاب الأطفال وأنه بوجود دخلين في الأسرة، غداً في مقدور الكثير من الأزواج التمتع بالأمور الترفيهية.
هنا يكمن السبب:(/2)
وهكذا نجد الخلفية الواضحة لموقف الغرب إزاء التفوق البشري في عالم الإسلام، وتجنيده اتباع المحافل الماسونية وأندية الروتاري والليونز للكتابة عن الانفجار السكاني والأخطر المتوهمة للكوارث التي ستصيب البلاد من زيادة السكان. وهذه الحشود من العلماء الذين تجمعهم مؤتمرات الوالدية في تحديد النسل ومؤتمر الغذاء العالمي وقد أكدت عشرات المصادر والدراسات أن الخوف من نمو السكان في البلاد النامية والمتخلفة، هو الذي يقلق سادة الغرب فإن هؤلاء سيصبحون قوة عددية متزايدة على غير هوى المتصدرين للنفوذ الاقتصادي العالمي.
وسوء النية:
ويشير البرفسور خورشيد أحمد الأستاذ بجامعة كراتشي في بحثه الضافي عن سوء نية الأوروبيين، والتخطيط الاقتصادي لإدامة سيطرة الدول المتقدمة على الشعوب النامية، ويقول: "أن آسيا والعالم الإسلامي هي أكبر كمناطق الأرض اليوم ازدحاماً بالسكان". وما عدد السكان في البلاد الغربية بالقياس إليها إلا قليل، وأن هذا التفوق السكاني سوف يقضي على الأسس التي أقامها الغرب لسيادته السياسية العالم منذ القرون الخمسة الماضية، وعلى ذلك التفوق الفني والعلمي الذي كان له على الشرق، والذي به استطاع أن يقيم احتكاره السياسي على العالم. لقد آمن الاستعمار إلى أبعد الأبعاد، على الرغم من قلة سكانه، ولكن الأوضاع الحالية والحقائق الجديدة في العالم، قد فندت هذا الخيال الخاطئ وماطت اللثام عن وجه الحقيقة، وأنه لاجل التناقض المضطرد في عدد سكان البلاد الغربية.
حصاد النتائج:
فقد ظهرت بوادر الانحطاط والأفول في السياسة، رغم الشعور بعد الحرب العالمية الأولى خاصة، بأن خطة تحديد النسل ضررها أكر من نفعها من الوجهتين السياسية والاجتماعية، كان من نتائج ذلك أن فقدت فرنسا مكانتها العلمية شيئاً فشيئاً وأعلن المارشال بيتان عقب الحرب العالمية الثانية اعترافه بأنه من الأسباب الرئيسية التي عملت على توهين قوة فرنسا وزاحتها عن مكانتها العالمية: قلة عدد الأطفال والسكان. وقد بدأت آثارها السيئة في حياة إنجلترا وغيرها وأوجست خيفة من آثارها السويد وألمانيا وفرنسا وإنجلترا وإيطاليا، وشعرت بحاجة ماسة إلى إعادة النظر في خطتها بشأن عدد السكان، ولذا فهي تبذل الآن جهوداً متتابعة لزيادة عدد سكانها بدلاً من تقليله.
إلا أن الغرب لن يستطيع مع كل هذه الجهود أن يزيد عدد سكانه إلى حد يستطيع معه أن يحتفظ بمكانته السياسية ويبقى متربعاً على كرسي السيادة العالمية، بل الذي لاشك فيه أن سيعود عاجزاً في المستقبل عن مقاومة الشرق والعالم الإسلامي مهما بذل من جهوده لزيادة عدد السكان في أقطاره، وأشار الدكتور خورشيد إلى أن عدد السكان في بلاد الشرق أكبر بدرجات من عدد السكان في الغرب، وأن هذا معناه أنه ليس في الإمكان بقاء شعوب الشرق محكومة مغلوبة على أمرها بعد تدربها على الآلات الميكانيكية وتصنيعها في العلوم الفنية، بل سيكون من النتيجة اللازمة لهذه النهضة كسابق الفطرة، أن يفقد سادة الغرب على العرب أزهى أيام حياتها، وأن تبرز القيادة العالمية في أماكن فيها زيادة السكان ولها في نفس الوقت خبرة فنية وتكتيكية حربية، فكل ما يصنعه الغرب اليوم للاحتفاظ بسيادته العالمية في مثل هذه الأوضاع خطير للغاية، وأن أي محاولة للحد من زيادة السكان في الشرق عن طريق تحديد النسل ومنع الحمل مسألة فاشلة تماماً".
الخوف الرأسمالي:
وهكذا يتبين لنا ارتباط أبعاد هذه المحاولة الخطيرة التي يقوم بها الغرب لإيقاف النمو السكاني والتفوق البشري في عالم الإسلام، وكذلك لإيقاف القدرة على استعمال التكنولوجيا والسيطرة عليها، وتحويل إرادة المسلمين والعرب لتوجيه مقدراتهم وثرواتهم مقدارتهم الاقتصادية المالية إلى طريق الاستهلاك والترف، يقول الدكتور خورشيد: "إن هذيان أمريكا ما تبذل من النصائح والمواعظ عم مشكلة السكان إنما هو نتيجة إلى حد كبير لشعورها بخطر تلك النتائج والمؤثرات السياسية المتوقعة على أساس تغير الأحوال في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية.
يقول آرثر كرومول: إنه لما يعجب الناس في البلاد المتقدمة إعجاباً فطرياً أن يزداد عدد سكان الناس في البلاد غير المتقدمة، وذلك أنهم يرون في زيادتهم المضطرة خطراً داهماً على مستواهم الرفيع في المعيشة وعلى سلامتهم السياسية.
كيف أعلنوا نواياهم؟:(/3)
وقد أشار "ميك كارل" إلى هذه المؤامرة الخطيرة لإنقاص سكان العالم الإسلامي فقال "إن أهل الشرق سوف لا يلبثون إلا قليلاً حتى يطلعوا على حقيقة هذا الدجل ثم لا يغتفرونه لأهل الغرب، لأنه استعمار من نوع جديد، يهدف إلى دفع الأمم غير المتقدمة ولا سيما الأمم السوداء إلى مزيد من الذل والخسف، حتى تتمكن الأمم البيضاء من الاحتفاظ بسيادتها وأن القوة الغالبة لا تكون في المستقبل إلا للبلاد التي تتمتع بزيادة السكان وتحلى في نفس الوقت بالعلوم الفنية. وأن محاولة أمم الغرب للاحتفاظ بسيادتها وقيادتها للعمل، هي التي تدعوها إلى العمل على نشر حركة تحديد النسل ومنع الحمل في بلاد آسيا وأفريقيا، في نفس الوقت التي تعمل البلاد الأوروبية الآن ما في وسعها لزيادة سكانها، وفي نفس الوقت تستعين بأحسين ما عندها من أساليب الدعاية لتقيم حركة تحديد النسل في البلاد الآسيوية والأفريقية. وللأسف أن كثيراً من المسلمين يتقدمون ليقعوا في شرك دجلها.
محمد إقبال:
وقد تنبه لهذا المعنى الفيلسوف الإسلامي محمد إقبال فقال:
كل ما هو واقع اليوم أو على وشك الوقوع في الغد القريب في بلادنا أن هو إلا من آثار دعاية أوروبا، هنالك سيل عرم من الكتب والرسائل الأخرى قد انحرف في بلادنا لدعوة الناس إلى اتباع خطة منع الحمل وتشويقهم إلى قبول حركتها، على حين أن أهل الغرب في بلادهم يتابعون الجهود الفنية لرفع نسبة المواليد وزيادة عدد السكان.
ومن أهم أسباب هذه الحركة تدهور عدد السكان في أوروبا وتناقصه مضطرداً، بناء على الظروف التي ما خلفتها أوروبا إلا بنفسها وقد استعصى عليها اليوم أن توجد لها حلاً مرضياً، وأن عدد السكان في الشرق على العكس من ذلك في زيادة مضطردة ما ترى فيه أوروبا خطراً مخيفاً على كيانها السياسي.
ويقول العلامة علال الفاسي: أن أكبر الخطر أن تدرس حركة تحديد النسل منفصلة عن سياقها السياسي والتاريخي فنحن لا نستطيع أن نفهمها على حقيقتها. ولا أن نرسم لأنفسنا خطة عملية راشدة إلا داخل نطاق التحدي، فإذا أضفنا إلى هذا: الخطط الصهيونية لإجلاء العرب عن الشرق الأوسط، وتهجير أكبر عدد مكن من اليهود إليه، وخلق حركات داخل كل بلد إسلامي وعربي من الاقليات، التي يصل بها التعصب أحياناً إلى الانفصال عن الوطن الوالد، عرفنا أن التنقيص في عدد المواليد لا يخدم إلا مصلحة الاستعمار والصهيونية، كذلك فإن عدداً من علماء الطب والاجتماع والدين من جهة وعلماء الاقتصاد من جهة أخرى، يرون أن تحديد النسل خطر على قوة الدولة العددية وعلى زيادة إنتاجها ويقاومون الدعوات التي سبقت في بلادهم والحركة التي نشأت عنها فكيف يمكننا نحن الذين ما زلنا في طور التخلف وما زلنا نأمل أن يكون من شعبنا قوة مادية وإنسانية، أن نتجه إلى معالجة ضعف الإنتاج الاقتصادي بأضعاف الإخصاب الإنساني.
موقف الإسلام:
يقول علماء الإسلام: أنه لا يجوز للإنسان أن ينظم تخطيطاً جماعياً على الشكل الذي تدعو إليه هذه المنظمات، لأن ذلك يتنافى مع مقاصد الشريعة الإسلامية التي جعلت من غايات الأسرة "تكثير النسل" وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "تناكحوا تناسلوا فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة".
وقد نص الإمام الشاطبي في الموافقات على أن مما أجمعت عليه الملل والنحل وجوب حفظ المال والنفس والعرض والنسل فمحاولة المساس بواحدة من هذه الأربعة بغير حق مناف للشرائع كلها ولا يقع إلا من الظالمين الذي قال الله تعالى فيهم:
"وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد" سورة البقرة: الآية 205، وقد التبس على بعض المتملقين ما قاله بعض الفقهاء في مسألة إباحة العزل، مع أن قضية العزل هي قضية التخطيط العائلي لأنها مسألة تتعلق بحالات فردية اختيارية، لا تتدخل فيها الدولة ولا تنظمها ولا تدعو إليها وتجعلها جزءاً من برنامجها يقول العلامة علال الفاسي: إما إدعاء أن التنقيص من عدد السكان ضروري لتنفيذ التخطيطات الاقتصادية وتحقيق النمو فهو خطأ من الناحية الاقتصادية ومن الناحية الاجتماعية، لأن المواليد لا يولدون بأفواههم فقط بل يولدون بعقولهم وسواعدهم، فهم مادة وعامل قوي في النمو الاقتصادي وتقوية الإنتاج، وليسوا مجرد طفيليين في المجتمع وإنما عجز التدبير من الحاكمين وسوء توزيع الثروة على المواطنين، والتخلي عن الأقاليم الوطنية للمستعمرين هو الذي يدفع إلى هذا التفكير الكسول، الذي يرضي بهذه التدابير غير الإنسانية، ولا يعلم أن مقتضيات التطور الحديث يقضي بتحمل الدولة لتكاليف العائلة.
حكم التعقيم:(/4)
ومن جهة أخرى فقد نص الفقهاء على أن خصى المواطن ممنوع شرعاً بالإجماع لكونه يعوق عن الغاية المقصودة من الشارع كما نصوا على أن أخذ الأدوية لمنع الحمل ممنوع، كما في النوازل الموجودة في كتاب الجامع من المعيار "للونشريشي". وأحسن من هذه الكتاب كله قول الله تبارك وتعالى: "ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم" سورة الإسراء، الآية رقم 30. وفي الآية الأخرى: "ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقهم وإياهم" سورة الأنعام، الآية رقم 150.
وقد أوضحت الشريعة الإسلامية سفه الذين يقتلون أولادهم مخافة الفقر "قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفهاً بغير علم وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله" سورة الأنعام، الآية رقم 139.
من فعل الناس بأنفسهم:
أما الرزق فإن الله تبارك وتعالى قد يسر طريقه وجعله مستطاعاً وأعطى الإنسان أدواته من صيد ونار وغيره ولكن صعوبة الرزق بدأت بعد أن تدخلت أهواء الناس ومطامعهم وظهرت عمليات الاحتكار والاحتجاز، وظهرت عوامل التفرقة والاستغلال، والقوى الذي يسيطر على الكثير فلا يترك للضعفاء والفقراء ما يطعمهم أو يقوتهم، هذه هي الأزمة وهي ليست أزمة الرزق نفسه وإنما هي أزمة الجشع والتسلط.
وتقدير الله بالخير:
وهناك قانون الوفرة الذي يؤكد وجود ثمرات طيبات لكل من يعيش على ظهر الأرض مهما بلغ عدد هؤلاء السكان وذلك بتقدير الله تبارك وتعالى وما تزال هناك مذخورات كثيرة في البحار والجبال، وقد أعطى الحق تبارك وتعالى عهده وميثاقه إلى البشر بضمان الطعام وضمان الرزق لكل مخلوق ودابة وحشرة، بحيث تطمئن النفس الإنسانية إلى عهد الله تبارك وتعالى الصادق الأكيد، فلا تكون مثل هذه الصيحات الضالة مصدراً لزعزعة الإيمان، فلقد حفظ الله تبارك وتعالى للإنسان هذه الموارد التي لا تنضب في نفس الوقت الذي دعاه إلى السعي في الأرض والأكل من رزق الله.
ولو وضعت الموازين الحقيقية لقضية الطعام ولو روعي في توزيعه ما أمر الله تبارك وتعالى به، لأمكن للإنسانية أن تتجنب الكثير من عمليات البخل والشح، حيث ينفق بعض الأفراد في بعض البلاد ما يوازي عشرات أضعاف ما ينفقه الآخرون. وهناك في بعض البلاد المنتجة تغرق المحاصيل في البحر أو تحرق للمحافظة على مستوى أسعار التصدير بينما يقتل الجوع الملايين وذلك من أساليب الاستعمار الرأسمالي والماركسي للسيطرة على القوى البشرية بإجاعتها.
كذلك فإن حاجة المسلمين في الدرجة الأولى إلى التوالد والتناسل لأن الإسلام مهدد في معاقله الأولى ويواجه حرباً صهيونية استعمارية لا قبل له بها وأن هذه الحرب ستطول، ويسقط فيها كثير من المسلمين وأن تعبئة الأمم في ميادين النمو الاقتصادي بوسائل العمل المنظم تغني عن كل تدبير مناف لطبائع الأشياء وأن هذه المبالغ الضخمة التي تصرف في مجال تحديد النسل وإنشاء مستشفيات التعقيم وإنتاج حبوب منع الحمل وهي تزيد على 100 مليار من الدولارات لو أنفقت في مجال النمو الاقتصادي لجاءت بنتائج إيجابية وعلينا أن نذكر أن من مقاصد الشريعة الرغبة في تكثير سواد الأمة الإسلامية وقد أمتن بالتكثير في القرآن إذ قال: "واذكروا إذ كنتم قليلاً فكثركم وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين" سورة الأعراف: الآية رقم 85.
الإطار الصحيح:
ولا ريب أن كل مشاكل الأمم يمكن التغلب عليها بالتفوق البشري شريطة أن يتحرك هؤلاء البشر من خلال عقيدة صحيحة كتلك التي حركت المسلمين الأوائل، والإسلام وحده هو العقيدة القادرة على إطلاق الطاقات المفطورة في أعماق هذه الأمة، وما استطاع مجتمع متخلف أو نام أن يحقق التقدم ويصل إلى القوة من خلال اعتناقه عقيدة المجتمعات الأخرى.
ومن هنا يتبين أن قصة الانفجار السكاني ليست أسطورة يراد بها تقليل عدد المسلمين ونسلهم في سبيل التمكين للنفوذ الأجنبي والوافد وعمليات التهجير بما يزيد غيرهم بالاستيطان وامتلاك الثروة.(/5)
مؤامرة تحديد النسل وأسطورة الانفجار السكاني
تكشف الأبحاث والإحصائيات العالمية أن العالم الآن يضم 3.5 مليار من السكان، ترتفع إلى 7 مليارات نسمة في نهاية القرن الحالي، وقد زاد الجنس البشري سبعمائة مليون نسمة في السنوات العشر الأخيرة، وفي كل عام يولد بالعالم 127 مليون طفل ويصل إلى سن التعليم منهم 95 مليون طفل وإن الدول النامية: في آسيا وأمريكا اللاتينية هي أكثر الدول تأثراً بهذه الزيادة إذ أن ثلثي سكان العالم يعيش في هذه المناطق وأن خمسة أسداس الزيادة المنتظرة في عدد السكان تكون أيضاً في هذه المناطق، وقد أصبح الوافدون يزيدون عن الراحلين في الشهر الواحد، بما لا يقل عن سبعة ملايين نفس فالعالم الآن يستقبل كل يوم 30 ألف نسمة زيادة صافية بعد الخسائر.
العبرة لم يؤمن:
وقد استغرق العالم ثلاثة آلاف عام بأكملها قبل أن يتضاعف تعداده ولكنه الآن يتضاعف تلقائياً كل خمسة وأربعين عاماً. ولا ريب أن لنا نحن المسلمين عبرة في دراسة هذه الأرقام. فنحن نؤمن بأن الكون كله لله تبارك وتعالى وأنه هو الخالق، وأن ظاهرة التفوق البشري هذه ظاهرة طبيعية، في طريق اكتمال صورة الكون والأرض على النحو الذي أشار إليه القرآن الكريم، لتأخذ الأرض زخرفها وزينتها، ولتخرج الأرض مذخورها من معطيات الحياة من قلب البحار ومن قلب صخور الجبال ومن جوف الأرض. وأن للمسلمين في هذه الثلاثمائة ألف طفل يومياً أكثر من 219 ألف طفل يومياً، وهذا يدل على أن ظاهرة "التفوق البشري" تمثل جيشاناً ضخماً في عالم الإسلام بما يدل على تفوق ظاهرة لهذه القوة المؤمنة بالله، بينما نجد أن الانحسار السكاني واضح الدلالة في عالم الغرب.
ظاهرة غريبة:
وفي إحصائيات أخرى نجد أن عدد سكان العالم الآن هو 3700 مليون نسمة وأنه إذا سار معدل المواليد على حالته الآن فإن العدد سيتضاعف خلال 26 سنة – أي في نهاية القرن الميلادي – ويكون الرقم قد ارتفع إلى 7400 مليون نسمة، وأن هذه الزيادة ستكون من نصيب الدول النامية في آسيا وأفريقيا أي أنه من بين 224 طفل يولدون في الدقيقة الواحدة 202 طفل في الدول النامية "العالم الإسلامي" و 22 طفلاً في الدول المتحضرة "الغرب".
وهذه الإحصائيات تعطينا مؤشراً واضحاً للأحداث.
ذلك أن ظاهرة تقلص حجم المواليد في عالم الغرب، وزيادة هذا الحجم في عالم الإسلام، من الظواهر التي تزعج الرأسمالية الغربية والنفوذ الغرب المسيطر اليوم في بلاد المسلمين والعرب إزعاجاً شديداً، ذلك لأنهم يحسون بمدى الخطر الذي ينتظرهم في السنوات القادمة، ويترصد بهم نتيجة نضوب المواليد نسبتها في البلاد الغربية بينما تزداد هذه النسبة وتتضاعف في بلاد أفريقيا وآسيا.
محاولة خداعة تحت اسم مثير:
ولما كانت هذه الظاهرة ستصبح بعيدة المدى في متغيرات موازين السيطرة والنفوذ وتملك الموارد الطبيعية والطاقة وغيرها في السنوات القادمة فإن الغرب يشن حملة شديدة وعاصفة عنيفة على هذه الزيادة المضطرة بوصفها بعيدة الأثر في عالم الإسلام تحت اسم مثير هو ما يطلق عليه اسم "الانفجار السكاني" ويجند له عشرات من الأقلام والمفكرين والساسة دون أن يشير إلى حقيقة الموقف وطبيعة التحول الاجتماعي والحضاري الذي يوحي بأن فساد المجتمعات الغربية، قد أدى إلى نضوب منابع "الوالدية" بها، نتيجة لشيوع الخمر والماريجوانا والترف، وانصراف المرأة الغربية عن رسالتها كلية وكراهيتها الشديدة للولادة وتربية الأولاد، والإسراف في عمليات الزواج غير الشرعي وظاهرة اللقطاء واستعمال حبوب منع الحمل.
انهيار الحضارة الغربية:
هذا الاضطراب الاجتماعي في عالم الغرب المرتبط بمرحلة الانهيار في الحضارة الغربية، هو مصدر انخفاض نسبة المواليد بما أدى إلى انزعاج الغرب لهذا السبب، وما يحاوله الآن من إغراء وتشجيع الزواج والولادة بإغراءات خطيرة دون جدوى، بينما يشن في الناحية الأخرى حملة شديدة على الولادة المتزايدة في البلاد النامية والمتخلفة وينفق ملايين كثيرة في بلاد العرب والإسلام من أجل "تحديد النسل" وتعقيم الرجال، والإغراء بإعطاء الحبوب واللوالب وغيرها من أجل تقليل نسبة المواليد.
ولا شك أن الغرب يرى في ظاهرة التقلص في مواليده وزيادة نسبة مواليد المناطق التي تسمى "البلاد النامية" خطراً شديداً على نفوذه وعلى المقدرات التي يحصل عليها من الخامات والثروات والمواد الأولية وعلى كل ما يعنيه على التفوق المتصل على عوالم أفريقيا وآسيا المتخلفة.
أبعاد المؤامرة:(/1)
من أجل هذا نجد المجتمع الغربي لا يتبنى فكرة تحديد النسل فحسب، بل يفرضه فرضاً على عالم الإسلام، بينما يعلن البابا بيوس الثاني عشر رأيه صراحة في تأييد المسيحية لكثرة النسل، ويواجه المسلمون – مع حملة تحديد النسل – ذلك التحدي الخطير: تحدي الهجرة والنمو المتزاد لليهود في فلسطين ونمو المسيحية في أوربا وفي أجزاء كثيرة من العالم الإسلامي، بينما يجبر المسلمون بوسائل شتى فيها الإغراء أو التعقيم الإجباري "كما حدث لمسلمي الهند على يد أنديرا غاندي" على خفض تعدادهم، وهنا تنكشف المؤامرة، ويتبين أن هناك خطة مدبرة ضد المسلمين بالذات ذلك أن غير المسلمين يخشون تكاثر المسلمين، ويحاولون إيقاف هذا النمو والتزايد بكل وسيلة ومن هنا جاءت الدعوة إلى تحديد النسل والحد من تعدد الزوجات.
وبينما يطلب إلى المسلمين تحديد نسلهم، تترك الصين ليتزايد سكانها بمعدل 14 مليوناً كل سنة.
الأكذوبة:
ولا ريب أن تهديد العالم الثالث بنضوب الثروات هو أكذوبة كبرى، فإن الخطر الحقيقي كله كامن في سوء استخدام الثروات والكنوز التي تفيض بها الأراضي البكر. وسوء التخطيط لتطوير إنتاجي أفضل. وبينما تنقل هذه الخامات إلى بلاد الغرب وتنهب، ثم تعيد تصديرهما للأمم المترفة الاستعمارية لا يحصل أصحاب هذه الثروات إلا على الفتات.
الانحسار السكاني في الغرب:
وتتحدث الأبحاث عن ظاهرة الانحسار السكاني في الغرب، وتصفها بأنها ظاهرة مخيفة وخطيرة تقلق الخبراء الاجتماعيين والسياسيين ورجال الأعمال، فأمريكا تتجه نحو حالة الصفر في النمو السكاني. فهي تقف الآن في النقطة التي يكون فيها عدد المواليد مساوياً لعدد الوفيات. وتتحدث الأبحاث عن هذا الخطر الهائل الذي يتهدد الولايات المتحدة والدول الغربية على بعد بضعة أجيال، مما يؤدي إلى انخفاض القوة العاملة وما يؤدي إلى ركود الإنتاج، في حين أن الدول الفقيرة تنموا نمواً متزايداً.
وتقول الأبحاث أن عدد سكان أمريكا (212 مليون نسمة) وأن النمو السكاني في أمريكا يصل إلى درجة الصفر (2 / 2) عندما يبلغ السكان 260 مليون نسمة. ويشارك الولايات المتحدة في هذه الظاهرة "السويد وألمانيا الغربية، اليابان، هنغاريا، رومانيا" وأن نسبة المواليد في هذه الدول في هبوط مستمر منذ الحرب العالمية الأخيرة، وأن الهبوط كان هائلاً في السنوات الأربع الماضية، في السويد وفنلندا والنمسا وبلجيكا وألمانيا. أما هنغاريا وبريطانيا فقد بلغت درجة الصفر. والقلق ناجم من أن القوة العاملة سوف تتضاءل في المستقبل بما يؤدي إلى ركود الإنتاج، ومن أجل ذلك شددت بعض دول أوروبا في قضايا الإجهاض وفرضت عقوبات على من يفعله، ومنع السوقيات تداول الحبوب المانعة للحمل. وأعطوا إجازات أطول للزوجة الحامل.
ويتوقع الخبراء أن تصل أكثر دول أوروبا إلى درجة الصفر في النمو السكاني في بداية القرن الواحد والعشرين، كما يرى بعض الخبراء أن الانحسار السكاني إلى درجة الصفر سيؤدي إلى ركود اقتصادي واجتماعي خطير.
التعقير أو التحديث:
ويرجع الخبراء هبوط الخصب في المدى البعيد في الدول المتطورة إلى مجموعة عوامل يطلقون عليها "التعقير أو التحديث" ويقول الخبراء أن موانع الحمل والإجهاض قد خفضت المعارضة الأخلاقية لضبط النسل، وأن ثلث السكان من النساء الكاثوليكيات يمارسن موانع الحمل. بالرغم من تعاليم الكنيسة الكاثوليكية، التي تقول أن موانع الحمل أمر خاطئ غير مستحب، كذلك فإن الموجة الجديدة للأنوثة قد ساعدت على جعل نسبة المواليد منخفضة حيث شجعت المرأة على تحدي دورها كربة بيت وأم.
وقال الدكتور جو يلدز: أن المرأة لم تشعر بأن عليها إنجاب الأطفال لتصبح إنساناً بشرياً، ويرى كثير من النساء أن مساهمتهن في المجتمع أو تحقيق اكتفاء ذاتي أكبر، يكون ببقائهن في أعمالهن، بدلاً من البقاء في البيوت مع الأطفال وأن المرأة شيئاً مهملاً إذا كانت أماً أو ربة بيت (6.5 مليون امرأة عاملة تؤلف 46% من القوة العاملة في الولايات المتحدة).
صيحات الخبراء:
ويشير التقرير إلى خطورة امتناع الشباب المتزوج عن إنجاب الأطفال يقول "بول ايرليس" في كتابه "القنبلة البشرية" عام 1968 وكتاب آخر "حدود النمو" أن العالم يواجه كارثة إذا تقلص النمو السكاني. وقال ولفريد نيكرمان: أن الإنسان قد استخف بحجم الموارد الطبيعية الهائلة في العالم. وهناك إشارة إلى أن التضخم الاقتصادي يعد عائقاً في إنجاب الأطفال وأنه بوجود دخلين في الأسرة، غداً في مقدور الكثير من الأزواج التمتع بالأمور الترفيهية.
هنا يكمن السبب:(/2)
وهكذا نجد الخلفية الواضحة لموقف الغرب إزاء التفوق البشري في عالم الإسلام، وتجنيده اتباع المحافل الماسونية وأندية الروتاري والليونز للكتابة عن الانفجار السكاني والأخطر المتوهمة للكوارث التي ستصيب البلاد من زيادة السكان. وهذه الحشود من العلماء الذين تجمعهم مؤتمرات الوالدية في تحديد النسل ومؤتمر الغذاء العالمي وقد أكدت عشرات المصادر والدراسات أن الخوف من نمو السكان في البلاد النامية والمتخلفة، هو الذي يقلق سادة الغرب فإن هؤلاء سيصبحون قوة عددية متزايدة على غير هوى المتصدرين للنفوذ الاقتصادي العالمي.
وسوء النية:
ويشير البرفسور خورشيد أحمد الأستاذ بجامعة كراتشي في بحثه الضافي عن سوء نية الأوروبيين، والتخطيط الاقتصادي لإدامة سيطرة الدول المتقدمة على الشعوب النامية، ويقول: "أن آسيا والعالم الإسلامي هي أكبر كمناطق الأرض اليوم ازدحاماً بالسكان". وما عدد السكان في البلاد الغربية بالقياس إليها إلا قليل، وأن هذا التفوق السكاني سوف يقضي على الأسس التي أقامها الغرب لسيادته السياسية العالم منذ القرون الخمسة الماضية، وعلى ذلك التفوق الفني والعلمي الذي كان له على الشرق، والذي به استطاع أن يقيم احتكاره السياسي على العالم. لقد آمن الاستعمار إلى أبعد الأبعاد، على الرغم من قلة سكانه، ولكن الأوضاع الحالية والحقائق الجديدة في العالم، قد فندت هذا الخيال الخاطئ وماطت اللثام عن وجه الحقيقة، وأنه لاجل التناقض المضطرد في عدد سكان البلاد الغربية.
حصاد النتائج:
فقد ظهرت بوادر الانحطاط والأفول في السياسة، رغم الشعور بعد الحرب العالمية الأولى خاصة، بأن خطة تحديد النسل ضررها أكر من نفعها من الوجهتين السياسية والاجتماعية، كان من نتائج ذلك أن فقدت فرنسا مكانتها العلمية شيئاً فشيئاً وأعلن المارشال بيتان عقب الحرب العالمية الثانية اعترافه بأنه من الأسباب الرئيسية التي عملت على توهين قوة فرنسا وزاحتها عن مكانتها العالمية: قلة عدد الأطفال والسكان. وقد بدأت آثارها السيئة في حياة إنجلترا وغيرها وأوجست خيفة من آثارها السويد وألمانيا وفرنسا وإنجلترا وإيطاليا، وشعرت بحاجة ماسة إلى إعادة النظر في خطتها بشأن عدد السكان، ولذا فهي تبذل الآن جهوداً متتابعة لزيادة عدد سكانها بدلاً من تقليله.
إلا أن الغرب لن يستطيع مع كل هذه الجهود أن يزيد عدد سكانه إلى حد يستطيع معه أن يحتفظ بمكانته السياسية ويبقى متربعاً على كرسي السيادة العالمية، بل الذي لاشك فيه أن سيعود عاجزاً في المستقبل عن مقاومة الشرق والعالم الإسلامي مهما بذل من جهوده لزيادة عدد السكان في أقطاره، وأشار الدكتور خورشيد إلى أن عدد السكان في بلاد الشرق أكبر بدرجات من عدد السكان في الغرب، وأن هذا معناه أنه ليس في الإمكان بقاء شعوب الشرق محكومة مغلوبة على أمرها بعد تدربها على الآلات الميكانيكية وتصنيعها في العلوم الفنية، بل سيكون من النتيجة اللازمة لهذه النهضة كسابق الفطرة، أن يفقد سادة الغرب على العرب أزهى أيام حياتها، وأن تبرز القيادة العالمية في أماكن فيها زيادة السكان ولها في نفس الوقت خبرة فنية وتكتيكية حربية، فكل ما يصنعه الغرب اليوم للاحتفاظ بسيادته العالمية في مثل هذه الأوضاع خطير للغاية، وأن أي محاولة للحد من زيادة السكان في الشرق عن طريق تحديد النسل ومنع الحمل مسألة فاشلة تماماً".
الخوف الرأسمالي:
وهكذا يتبين لنا ارتباط أبعاد هذه المحاولة الخطيرة التي يقوم بها الغرب لإيقاف النمو السكاني والتفوق البشري في عالم الإسلام، وكذلك لإيقاف القدرة على استعمال التكنولوجيا والسيطرة عليها، وتحويل إرادة المسلمين والعرب لتوجيه مقدراتهم وثرواتهم مقدارتهم الاقتصادية المالية إلى طريق الاستهلاك والترف، يقول الدكتور خورشيد: "إن هذيان أمريكا ما تبذل من النصائح والمواعظ عم مشكلة السكان إنما هو نتيجة إلى حد كبير لشعورها بخطر تلك النتائج والمؤثرات السياسية المتوقعة على أساس تغير الأحوال في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية.
يقول آرثر كرومول: إنه لما يعجب الناس في البلاد المتقدمة إعجاباً فطرياً أن يزداد عدد سكان الناس في البلاد غير المتقدمة، وذلك أنهم يرون في زيادتهم المضطرة خطراً داهماً على مستواهم الرفيع في المعيشة وعلى سلامتهم السياسية.
كيف أعلنوا نواياهم؟:(/3)
وقد أشار "ميك كارل" إلى هذه المؤامرة الخطيرة لإنقاص سكان العالم الإسلامي فقال "إن أهل الشرق سوف لا يلبثون إلا قليلاً حتى يطلعوا على حقيقة هذا الدجل ثم لا يغتفرونه لأهل الغرب، لأنه استعمار من نوع جديد، يهدف إلى دفع الأمم غير المتقدمة ولا سيما الأمم السوداء إلى مزيد من الذل والخسف، حتى تتمكن الأمم البيضاء من الاحتفاظ بسيادتها وأن القوة الغالبة لا تكون في المستقبل إلا للبلاد التي تتمتع بزيادة السكان وتحلى في نفس الوقت بالعلوم الفنية. وأن محاولة أمم الغرب للاحتفاظ بسيادتها وقيادتها للعمل، هي التي تدعوها إلى العمل على نشر حركة تحديد النسل ومنع الحمل في بلاد آسيا وأفريقيا، في نفس الوقت التي تعمل البلاد الأوروبية الآن ما في وسعها لزيادة سكانها، وفي نفس الوقت تستعين بأحسين ما عندها من أساليب الدعاية لتقيم حركة تحديد النسل في البلاد الآسيوية والأفريقية. وللأسف أن كثيراً من المسلمين يتقدمون ليقعوا في شرك دجلها.
محمد إقبال:
وقد تنبه لهذا المعنى الفيلسوف الإسلامي محمد إقبال فقال:
كل ما هو واقع اليوم أو على وشك الوقوع في الغد القريب في بلادنا أن هو إلا من آثار دعاية أوروبا، هنالك سيل عرم من الكتب والرسائل الأخرى قد انحرف في بلادنا لدعوة الناس إلى اتباع خطة منع الحمل وتشويقهم إلى قبول حركتها، على حين أن أهل الغرب في بلادهم يتابعون الجهود الفنية لرفع نسبة المواليد وزيادة عدد السكان.
ومن أهم أسباب هذه الحركة تدهور عدد السكان في أوروبا وتناقصه مضطرداً، بناء على الظروف التي ما خلفتها أوروبا إلا بنفسها وقد استعصى عليها اليوم أن توجد لها حلاً مرضياً، وأن عدد السكان في الشرق على العكس من ذلك في زيادة مضطردة ما ترى فيه أوروبا خطراً مخيفاً على كيانها السياسي.
ويقول العلامة علال الفاسي: أن أكبر الخطر أن تدرس حركة تحديد النسل منفصلة عن سياقها السياسي والتاريخي فنحن لا نستطيع أن نفهمها على حقيقتها. ولا أن نرسم لأنفسنا خطة عملية راشدة إلا داخل نطاق التحدي، فإذا أضفنا إلى هذا: الخطط الصهيونية لإجلاء العرب عن الشرق الأوسط، وتهجير أكبر عدد مكن من اليهود إليه، وخلق حركات داخل كل بلد إسلامي وعربي من الاقليات، التي يصل بها التعصب أحياناً إلى الانفصال عن الوطن الوالد، عرفنا أن التنقيص في عدد المواليد لا يخدم إلا مصلحة الاستعمار والصهيونية، كذلك فإن عدداً من علماء الطب والاجتماع والدين من جهة وعلماء الاقتصاد من جهة أخرى، يرون أن تحديد النسل خطر على قوة الدولة العددية وعلى زيادة إنتاجها ويقاومون الدعوات التي سبقت في بلادهم والحركة التي نشأت عنها فكيف يمكننا نحن الذين ما زلنا في طور التخلف وما زلنا نأمل أن يكون من شعبنا قوة مادية وإنسانية، أن نتجه إلى معالجة ضعف الإنتاج الاقتصادي بأضعاف الإخصاب الإنساني.
موقف الإسلام:
يقول علماء الإسلام: أنه لا يجوز للإنسان أن ينظم تخطيطاً جماعياً على الشكل الذي تدعو إليه هذه المنظمات، لأن ذلك يتنافى مع مقاصد الشريعة الإسلامية التي جعلت من غايات الأسرة "تكثير النسل" وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "تناكحوا تناسلوا فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة".
وقد نص الإمام الشاطبي في الموافقات على أن مما أجمعت عليه الملل والنحل وجوب حفظ المال والنفس والعرض والنسل فمحاولة المساس بواحدة من هذه الأربعة بغير حق مناف للشرائع كلها ولا يقع إلا من الظالمين الذي قال الله تعالى فيهم:
"وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد" سورة البقرة: الآية 205، وقد التبس على بعض المتملقين ما قاله بعض الفقهاء في مسألة إباحة العزل، مع أن قضية العزل هي قضية التخطيط العائلي لأنها مسألة تتعلق بحالات فردية اختيارية، لا تتدخل فيها الدولة ولا تنظمها ولا تدعو إليها وتجعلها جزءاً من برنامجها يقول العلامة علال الفاسي: إما إدعاء أن التنقيص من عدد السكان ضروري لتنفيذ التخطيطات الاقتصادية وتحقيق النمو فهو خطأ من الناحية الاقتصادية ومن الناحية الاجتماعية، لأن المواليد لا يولدون بأفواههم فقط بل يولدون بعقولهم وسواعدهم، فهم مادة وعامل قوي في النمو الاقتصادي وتقوية الإنتاج، وليسوا مجرد طفيليين في المجتمع وإنما عجز التدبير من الحاكمين وسوء توزيع الثروة على المواطنين، والتخلي عن الأقاليم الوطنية للمستعمرين هو الذي يدفع إلى هذا التفكير الكسول، الذي يرضي بهذه التدابير غير الإنسانية، ولا يعلم أن مقتضيات التطور الحديث يقضي بتحمل الدولة لتكاليف العائلة.
حكم التعقيم:(/4)
ومن جهة أخرى فقد نص الفقهاء على أن خصى المواطن ممنوع شرعاً بالإجماع لكونه يعوق عن الغاية المقصودة من الشارع كما نصوا على أن أخذ الأدوية لمنع الحمل ممنوع، كما في النوازل الموجودة في كتاب الجامع من المعيار "للونشريشي". وأحسن من هذه الكتاب كله قول الله تبارك وتعالى: "ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم" سورة الإسراء، الآية رقم 30. وفي الآية الأخرى: "ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقهم وإياهم" سورة الأنعام، الآية رقم 150.
وقد أوضحت الشريعة الإسلامية سفه الذين يقتلون أولادهم مخافة الفقر "قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفهاً بغير علم وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله" سورة الأنعام، الآية رقم 139.
من فعل الناس بأنفسهم:
أما الرزق فإن الله تبارك وتعالى قد يسر طريقه وجعله مستطاعاً وأعطى الإنسان أدواته من صيد ونار وغيره ولكن صعوبة الرزق بدأت بعد أن تدخلت أهواء الناس ومطامعهم وظهرت عمليات الاحتكار والاحتجاز، وظهرت عوامل التفرقة والاستغلال، والقوى الذي يسيطر على الكثير فلا يترك للضعفاء والفقراء ما يطعمهم أو يقوتهم، هذه هي الأزمة وهي ليست أزمة الرزق نفسه وإنما هي أزمة الجشع والتسلط.
وتقدير الله بالخير:
وهناك قانون الوفرة الذي يؤكد وجود ثمرات طيبات لكل من يعيش على ظهر الأرض مهما بلغ عدد هؤلاء السكان وذلك بتقدير الله تبارك وتعالى وما تزال هناك مذخورات كثيرة في البحار والجبال، وقد أعطى الحق تبارك وتعالى عهده وميثاقه إلى البشر بضمان الطعام وضمان الرزق لكل مخلوق ودابة وحشرة، بحيث تطمئن النفس الإنسانية إلى عهد الله تبارك وتعالى الصادق الأكيد، فلا تكون مثل هذه الصيحات الضالة مصدراً لزعزعة الإيمان، فلقد حفظ الله تبارك وتعالى للإنسان هذه الموارد التي لا تنضب في نفس الوقت الذي دعاه إلى السعي في الأرض والأكل من رزق الله.
ولو وضعت الموازين الحقيقية لقضية الطعام ولو روعي في توزيعه ما أمر الله تبارك وتعالى به، لأمكن للإنسانية أن تتجنب الكثير من عمليات البخل والشح، حيث ينفق بعض الأفراد في بعض البلاد ما يوازي عشرات أضعاف ما ينفقه الآخرون. وهناك في بعض البلاد المنتجة تغرق المحاصيل في البحر أو تحرق للمحافظة على مستوى أسعار التصدير بينما يقتل الجوع الملايين وذلك من أساليب الاستعمار الرأسمالي والماركسي للسيطرة على القوى البشرية بإجاعتها.
كذلك فإن حاجة المسلمين في الدرجة الأولى إلى التوالد والتناسل لأن الإسلام مهدد في معاقله الأولى ويواجه حرباً صهيونية استعمارية لا قبل له بها وأن هذه الحرب ستطول، ويسقط فيها كثير من المسلمين وأن تعبئة الأمم في ميادين النمو الاقتصادي بوسائل العمل المنظم تغني عن كل تدبير مناف لطبائع الأشياء وأن هذه المبالغ الضخمة التي تصرف في مجال تحديد النسل وإنشاء مستشفيات التعقيم وإنتاج حبوب منع الحمل وهي تزيد على 100 مليار من الدولارات لو أنفقت في مجال النمو الاقتصادي لجاءت بنتائج إيجابية وعلينا أن نذكر أن من مقاصد الشريعة الرغبة في تكثير سواد الأمة الإسلامية وقد أمتن بالتكثير في القرآن إذ قال: "واذكروا إذ كنتم قليلاً فكثركم وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين" سورة الأعراف: الآية رقم 85.
الإطار الصحيح:
ولا ريب أن كل مشاكل الأمم يمكن التغلب عليها بالتفوق البشري شريطة أن يتحرك هؤلاء البشر من خلال عقيدة صحيحة كتلك التي حركت المسلمين الأوائل، والإسلام وحده هو العقيدة القادرة على إطلاق الطاقات المفطورة في أعماق هذه الأمة، وما استطاع مجتمع متخلف أو نام أن يحقق التقدم ويصل إلى القوة من خلال اعتناقه عقيدة المجتمعات الأخرى.
ومن هنا يتبين أن قصة الانفجار السكاني ليست أسطورة يراد بها تقليل عدد المسلمين ونسلهم في سبيل التمكين للنفوذ الأجنبي والوافد وعمليات التهجير بما يزيد غيرهم بالاستيطان وامتلاك الثر(/5)
مؤامرة تحديد النسل وأسطورة الانفجار السكاني
تكشف الأبحاث والإحصائيات العالمية أن العالم الآن يضم 3.5 مليار من السكان، ترتفع إلى 7 مليارات نسمة في نهاية القرن الحالي، وقد زاد الجنس البشري سبعمائة مليون نسمة في السنوات العشر الأخيرة، وفي كل عام يولد بالعالم 127 مليون طفل ويصل إلى سن التعليم منهم 95 مليون طفل وإن الدول النامية: في آسيا وأمريكا اللاتينية هي أكثر الدول تأثراً بهذه الزيادة إذ أن ثلثي سكان العالم يعيش في هذه المناطق وأن خمسة أسداس الزيادة المنتظرة في عدد السكان تكون أيضاً في هذه المناطق، وقد أصبح الوافدون يزيدون عن الراحلين في الشهر الواحد، بما لا يقل عن سبعة ملايين نفس فالعالم الآن يستقبل كل يوم 30 ألف نسمة زيادة صافية بعد الخسائر.
العبرة لم يؤمن:
وقد استغرق العالم ثلاثة آلاف عام بأكملها قبل أن يتضاعف تعداده ولكنه الآن يتضاعف تلقائياً كل خمسة وأربعين عاماً. ولا ريب أن لنا نحن المسلمين عبرة في دراسة هذه الأرقام. فنحن نؤمن بأن الكون كله لله تبارك وتعالى وأنه هو الخالق، وأن ظاهرة التفوق البشري هذه ظاهرة طبيعية، في طريق اكتمال صورة الكون والأرض على النحو الذي أشار إليه القرآن الكريم، لتأخذ الأرض زخرفها وزينتها، ولتخرج الأرض مذخورها من معطيات الحياة من قلب البحار ومن قلب صخور الجبال ومن جوف الأرض. وأن للمسلمين في هذه الثلاثمائة ألف طفل يومياً أكثر من 219 ألف طفل يومياً، وهذا يدل على أن ظاهرة "التفوق البشري" تمثل جيشاناً ضخماً في عالم الإسلام بما يدل على تفوق ظاهرة لهذه القوة المؤمنة بالله، بينما نجد أن الانحسار السكاني واضح الدلالة في عالم الغرب.
ظاهرة غريبة:
وفي إحصائيات أخرى نجد أن عدد سكان العالم الآن هو 3700 مليون نسمة وأنه إذا سار معدل المواليد على حالته الآن فإن العدد سيتضاعف خلال 26 سنة – أي في نهاية القرن الميلادي – ويكون الرقم قد ارتفع إلى 7400 مليون نسمة، وأن هذه الزيادة ستكون من نصيب الدول النامية في آسيا وأفريقيا أي أنه من بين 224 طفل يولدون في الدقيقة الواحدة 202 طفل في الدول النامية "العالم الإسلامي" و 22 طفلاً في الدول المتحضرة "الغرب".
وهذه الإحصائيات تعطينا مؤشراً واضحاً للأحداث.
ذلك أن ظاهرة تقلص حجم المواليد في عالم الغرب، وزيادة هذا الحجم في عالم الإسلام، من الظواهر التي تزعج الرأسمالية الغربية والنفوذ الغرب المسيطر اليوم في بلاد المسلمين والعرب إزعاجاً شديداً، ذلك لأنهم يحسون بمدى الخطر الذي ينتظرهم في السنوات القادمة، ويترصد بهم نتيجة نضوب المواليد نسبتها في البلاد الغربية بينما تزداد هذه النسبة وتتضاعف في بلاد أفريقيا وآسيا.
محاولة خداعة تحت اسم مثير:
ولما كانت هذه الظاهرة ستصبح بعيدة المدى في متغيرات موازين السيطرة والنفوذ وتملك الموارد الطبيعية والطاقة وغيرها في السنوات القادمة فإن الغرب يشن حملة شديدة وعاصفة عنيفة على هذه الزيادة المضطرة بوصفها بعيدة الأثر في عالم الإسلام تحت اسم مثير هو ما يطلق عليه اسم "الانفجار السكاني" ويجند له عشرات من الأقلام والمفكرين والساسة دون أن يشير إلى حقيقة الموقف وطبيعة التحول الاجتماعي والحضاري الذي يوحي بأن فساد المجتمعات الغربية، قد أدى إلى نضوب منابع "الوالدية" بها، نتيجة لشيوع الخمر والماريجوانا والترف، وانصراف المرأة الغربية عن رسالتها كلية وكراهيتها الشديدة للولادة وتربية الأولاد، والإسراف في عمليات الزواج غير الشرعي وظاهرة اللقطاء واستعمال حبوب منع الحمل.
انهيار الحضارة الغربية:
هذا الاضطراب الاجتماعي في عالم الغرب المرتبط بمرحلة الانهيار في الحضارة الغربية، هو مصدر انخفاض نسبة المواليد بما أدى إلى انزعاج الغرب لهذا السبب، وما يحاوله الآن من إغراء وتشجيع الزواج والولادة بإغراءات خطيرة دون جدوى، بينما يشن في الناحية الأخرى حملة شديدة على الولادة المتزايدة في البلاد النامية والمتخلفة وينفق ملايين كثيرة في بلاد العرب والإسلام من أجل "تحديد النسل" وتعقيم الرجال، والإغراء بإعطاء الحبوب واللوالب وغيرها من أجل تقليل نسبة المواليد.
ولا شك أن الغرب يرى في ظاهرة التقلص في مواليده وزيادة نسبة مواليد المناطق التي تسمى "البلاد النامية" خطراً شديداً على نفوذه وعلى المقدرات التي يحصل عليها من الخامات والثروات والمواد الأولية وعلى كل ما يعنيه على التفوق المتصل على عوالم أفريقيا وآسيا المتخلفة.
أبعاد المؤامرة:(/1)
من أجل هذا نجد المجتمع الغربي لا يتبنى فكرة تحديد النسل فحسب، بل يفرضه فرضاً على عالم الإسلام، بينما يعلن البابا بيوس الثاني عشر رأيه صراحة في تأييد المسيحية لكثرة النسل، ويواجه المسلمون – مع حملة تحديد النسل – ذلك التحدي الخطير: تحدي الهجرة والنمو المتزاد لليهود في فلسطين ونمو المسيحية في أوربا وفي أجزاء كثيرة من العالم الإسلامي، بينما يجبر المسلمون بوسائل شتى فيها الإغراء أو التعقيم الإجباري "كما حدث لمسلمي الهند على يد أنديرا غاندي" على خفض تعدادهم، وهنا تنكشف المؤامرة، ويتبين أن هناك خطة مدبرة ضد المسلمين بالذات ذلك أن غير المسلمين يخشون تكاثر المسلمين، ويحاولون إيقاف هذا النمو والتزايد بكل وسيلة ومن هنا جاءت الدعوة إلى تحديد النسل والحد من تعدد الزوجات.
وبينما يطلب إلى المسلمين تحديد نسلهم، تترك الصين ليتزايد سكانها بمعدل 14 مليوناً كل سنة.
الأكذوبة:
ولا ريب أن تهديد العالم الثالث بنضوب الثروات هو أكذوبة كبرى، فإن الخطر الحقيقي كله كامن في سوء استخدام الثروات والكنوز التي تفيض بها الأراضي البكر. وسوء التخطيط لتطوير إنتاجي أفضل. وبينما تنقل هذه الخامات إلى بلاد الغرب وتنهب، ثم تعيد تصديرهما للأمم المترفة الاستعمارية لا يحصل أصحاب هذه الثروات إلا على الفتات.
الانحسار السكاني في الغرب:
وتتحدث الأبحاث عن ظاهرة الانحسار السكاني في الغرب، وتصفها بأنها ظاهرة مخيفة وخطيرة تقلق الخبراء الاجتماعيين والسياسيين ورجال الأعمال، فأمريكا تتجه نحو حالة الصفر في النمو السكاني. فهي تقف الآن في النقطة التي يكون فيها عدد المواليد مساوياً لعدد الوفيات. وتتحدث الأبحاث عن هذا الخطر الهائل الذي يتهدد الولايات المتحدة والدول الغربية على بعد بضعة أجيال، مما يؤدي إلى انخفاض القوة العاملة وما يؤدي إلى ركود الإنتاج، في حين أن الدول الفقيرة تنموا نمواً متزايداً.
وتقول الأبحاث أن عدد سكان أمريكا (212 مليون نسمة) وأن النمو السكاني في أمريكا يصل إلى درجة الصفر (2 / 2) عندما يبلغ السكان 260 مليون نسمة. ويشارك الولايات المتحدة في هذه الظاهرة "السويد وألمانيا الغربية، اليابان، هنغاريا، رومانيا" وأن نسبة المواليد في هذه الدول في هبوط مستمر منذ الحرب العالمية الأخيرة، وأن الهبوط كان هائلاً في السنوات الأربع الماضية، في السويد وفنلندا والنمسا وبلجيكا وألمانيا. أما هنغاريا وبريطانيا فقد بلغت درجة الصفر. والقلق ناجم من أن القوة العاملة سوف تتضاءل في المستقبل بما يؤدي إلى ركود الإنتاج، ومن أجل ذلك شددت بعض دول أوروبا في قضايا الإجهاض وفرضت عقوبات على من يفعله، ومنع السوقيات تداول الحبوب المانعة للحمل. وأعطوا إجازات أطول للزوجة الحامل.
ويتوقع الخبراء أن تصل أكثر دول أوروبا إلى درجة الصفر في النمو السكاني في بداية القرن الواحد والعشرين، كما يرى بعض الخبراء أن الانحسار السكاني إلى درجة الصفر سيؤدي إلى ركود اقتصادي واجتماعي خطير.
التعقير أو التحديث:
ويرجع الخبراء هبوط الخصب في المدى البعيد في الدول المتطورة إلى مجموعة عوامل يطلقون عليها "التعقير أو التحديث" ويقول الخبراء أن موانع الحمل والإجهاض قد خفضت المعارضة الأخلاقية لضبط النسل، وأن ثلث السكان من النساء الكاثوليكيات يمارسن موانع الحمل. بالرغم من تعاليم الكنيسة الكاثوليكية، التي تقول أن موانع الحمل أمر خاطئ غير مستحب، كذلك فإن الموجة الجديدة للأنوثة قد ساعدت على جعل نسبة المواليد منخفضة حيث شجعت المرأة على تحدي دورها كربة بيت وأم.
وقال الدكتور جو يلدز: أن المرأة لم تشعر بأن عليها إنجاب الأطفال لتصبح إنساناً بشرياً، ويرى كثير من النساء أن مساهمتهن في المجتمع أو تحقيق اكتفاء ذاتي أكبر، يكون ببقائهن في أعمالهن، بدلاً من البقاء في البيوت مع الأطفال وأن المرأة شيئاً مهملاً إذا كانت أماً أو ربة بيت (6.5 مليون امرأة عاملة تؤلف 46% من القوة العاملة في الولايات المتحدة).
صيحات الخبراء:
ويشير التقرير إلى خطورة امتناع الشباب المتزوج عن إنجاب الأطفال يقول "بول ايرليس" في كتابه "القنبلة البشرية" عام 1968 وكتاب آخر "حدود النمو" أن العالم يواجه كارثة إذا تقلص النمو السكاني. وقال ولفريد نيكرمان: أن الإنسان قد استخف بحجم الموارد الطبيعية الهائلة في العالم. وهناك إشارة إلى أن التضخم الاقتصادي يعد عائقاً في إنجاب الأطفال وأنه بوجود دخلين في الأسرة، غداً في مقدور الكثير من الأزواج التمتع بالأمور الترفيهية.
هنا يكمن السبب:(/2)
وهكذا نجد الخلفية الواضحة لموقف الغرب إزاء التفوق البشري في عالم الإسلام، وتجنيده اتباع المحافل الماسونية وأندية الروتاري والليونز للكتابة عن الانفجار السكاني والأخطر المتوهمة للكوارث التي ستصيب البلاد من زيادة السكان. وهذه الحشود من العلماء الذين تجمعهم مؤتمرات الوالدية في تحديد النسل ومؤتمر الغذاء العالمي وقد أكدت عشرات المصادر والدراسات أن الخوف من نمو السكان في البلاد النامية والمتخلفة، هو الذي يقلق سادة الغرب فإن هؤلاء سيصبحون قوة عددية متزايدة على غير هوى المتصدرين للنفوذ الاقتصادي العالمي.
وسوء النية:
ويشير البرفسور خورشيد أحمد الأستاذ بجامعة كراتشي في بحثه الضافي عن سوء نية الأوروبيين، والتخطيط الاقتصادي لإدامة سيطرة الدول المتقدمة على الشعوب النامية، ويقول: "أن آسيا والعالم الإسلامي هي أكبر كمناطق الأرض اليوم ازدحاماً بالسكان". وما عدد السكان في البلاد الغربية بالقياس إليها إلا قليل، وأن هذا التفوق السكاني سوف يقضي على الأسس التي أقامها الغرب لسيادته السياسية العالم منذ القرون الخمسة الماضية، وعلى ذلك التفوق الفني والعلمي الذي كان له على الشرق، والذي به استطاع أن يقيم احتكاره السياسي على العالم. لقد آمن الاستعمار إلى أبعد الأبعاد، على الرغم من قلة سكانه، ولكن الأوضاع الحالية والحقائق الجديدة في العالم، قد فندت هذا الخيال الخاطئ وماطت اللثام عن وجه الحقيقة، وأنه لاجل التناقض المضطرد في عدد سكان البلاد الغربية.
حصاد النتائج:
فقد ظهرت بوادر الانحطاط والأفول في السياسة، رغم الشعور بعد الحرب العالمية الأولى خاصة، بأن خطة تحديد النسل ضررها أكر من نفعها من الوجهتين السياسية والاجتماعية، كان من نتائج ذلك أن فقدت فرنسا مكانتها العلمية شيئاً فشيئاً وأعلن المارشال بيتان عقب الحرب العالمية الثانية اعترافه بأنه من الأسباب الرئيسية التي عملت على توهين قوة فرنسا وزاحتها عن مكانتها العالمية: قلة عدد الأطفال والسكان. وقد بدأت آثارها السيئة في حياة إنجلترا وغيرها وأوجست خيفة من آثارها السويد وألمانيا وفرنسا وإنجلترا وإيطاليا، وشعرت بحاجة ماسة إلى إعادة النظر في خطتها بشأن عدد السكان، ولذا فهي تبذل الآن جهوداً متتابعة لزيادة عدد سكانها بدلاً من تقليله.
إلا أن الغرب لن يستطيع مع كل هذه الجهود أن يزيد عدد سكانه إلى حد يستطيع معه أن يحتفظ بمكانته السياسية ويبقى متربعاً على كرسي السيادة العالمية، بل الذي لاشك فيه أن سيعود عاجزاً في المستقبل عن مقاومة الشرق والعالم الإسلامي مهما بذل من جهوده لزيادة عدد السكان في أقطاره، وأشار الدكتور خورشيد إلى أن عدد السكان في بلاد الشرق أكبر بدرجات من عدد السكان في الغرب، وأن هذا معناه أنه ليس في الإمكان بقاء شعوب الشرق محكومة مغلوبة على أمرها بعد تدربها على الآلات الميكانيكية وتصنيعها في العلوم الفنية، بل سيكون من النتيجة اللازمة لهذه النهضة كسابق الفطرة، أن يفقد سادة الغرب على العرب أزهى أيام حياتها، وأن تبرز القيادة العالمية في أماكن فيها زيادة السكان ولها في نفس الوقت خبرة فنية وتكتيكية حربية، فكل ما يصنعه الغرب اليوم للاحتفاظ بسيادته العالمية في مثل هذه الأوضاع خطير للغاية، وأن أي محاولة للحد من زيادة السكان في الشرق عن طريق تحديد النسل ومنع الحمل مسألة فاشلة تماماً".
الخوف الرأسمالي:
وهكذا يتبين لنا ارتباط أبعاد هذه المحاولة الخطيرة التي يقوم بها الغرب لإيقاف النمو السكاني والتفوق البشري في عالم الإسلام، وكذلك لإيقاف القدرة على استعمال التكنولوجيا والسيطرة عليها، وتحويل إرادة المسلمين والعرب لتوجيه مقدراتهم وثرواتهم مقدارتهم الاقتصادية المالية إلى طريق الاستهلاك والترف، يقول الدكتور خورشيد: "إن هذيان أمريكا ما تبذل من النصائح والمواعظ عم مشكلة السكان إنما هو نتيجة إلى حد كبير لشعورها بخطر تلك النتائج والمؤثرات السياسية المتوقعة على أساس تغير الأحوال في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية.
يقول آرثر كرومول: إنه لما يعجب الناس في البلاد المتقدمة إعجاباً فطرياً أن يزداد عدد سكان الناس في البلاد غير المتقدمة، وذلك أنهم يرون في زيادتهم المضطرة خطراً داهماً على مستواهم الرفيع في المعيشة وعلى سلامتهم السياسية.
كيف أعلنوا نواياهم؟:(/3)
وقد أشار "ميك كارل" إلى هذه المؤامرة الخطيرة لإنقاص سكان العالم الإسلامي فقال "إن أهل الشرق سوف لا يلبثون إلا قليلاً حتى يطلعوا على حقيقة هذا الدجل ثم لا يغتفرونه لأهل الغرب، لأنه استعمار من نوع جديد، يهدف إلى دفع الأمم غير المتقدمة ولا سيما الأمم السوداء إلى مزيد من الذل والخسف، حتى تتمكن الأمم البيضاء من الاحتفاظ بسيادتها وأن القوة الغالبة لا تكون في المستقبل إلا للبلاد التي تتمتع بزيادة السكان وتحلى في نفس الوقت بالعلوم الفنية. وأن محاولة أمم الغرب للاحتفاظ بسيادتها وقيادتها للعمل، هي التي تدعوها إلى العمل على نشر حركة تحديد النسل ومنع الحمل في بلاد آسيا وأفريقيا، في نفس الوقت التي تعمل البلاد الأوروبية الآن ما في وسعها لزيادة سكانها، وفي نفس الوقت تستعين بأحسين ما عندها من أساليب الدعاية لتقيم حركة تحديد النسل في البلاد الآسيوية والأفريقية. وللأسف أن كثيراً من المسلمين يتقدمون ليقعوا في شرك دجلها.
محمد إقبال:
وقد تنبه لهذا المعنى الفيلسوف الإسلامي محمد إقبال فقال:
كل ما هو واقع اليوم أو على وشك الوقوع في الغد القريب في بلادنا أن هو إلا من آثار دعاية أوروبا، هنالك سيل عرم من الكتب والرسائل الأخرى قد انحرف في بلادنا لدعوة الناس إلى اتباع خطة منع الحمل وتشويقهم إلى قبول حركتها، على حين أن أهل الغرب في بلادهم يتابعون الجهود الفنية لرفع نسبة المواليد وزيادة عدد السكان.
ومن أهم أسباب هذه الحركة تدهور عدد السكان في أوروبا وتناقصه مضطرداً، بناء على الظروف التي ما خلفتها أوروبا إلا بنفسها وقد استعصى عليها اليوم أن توجد لها حلاً مرضياً، وأن عدد السكان في الشرق على العكس من ذلك في زيادة مضطردة ما ترى فيه أوروبا خطراً مخيفاً على كيانها السياسي.
ويقول العلامة علال الفاسي: أن أكبر الخطر أن تدرس حركة تحديد النسل منفصلة عن سياقها السياسي والتاريخي فنحن لا نستطيع أن نفهمها على حقيقتها. ولا أن نرسم لأنفسنا خطة عملية راشدة إلا داخل نطاق التحدي، فإذا أضفنا إلى هذا: الخطط الصهيونية لإجلاء العرب عن الشرق الأوسط، وتهجير أكبر عدد مكن من اليهود إليه، وخلق حركات داخل كل بلد إسلامي وعربي من الاقليات، التي يصل بها التعصب أحياناً إلى الانفصال عن الوطن الوالد، عرفنا أن التنقيص في عدد المواليد لا يخدم إلا مصلحة الاستعمار والصهيونية، كذلك فإن عدداً من علماء الطب والاجتماع والدين من جهة وعلماء الاقتصاد من جهة أخرى، يرون أن تحديد النسل خطر على قوة الدولة العددية وعلى زيادة إنتاجها ويقاومون الدعوات التي سبقت في بلادهم والحركة التي نشأت عنها فكيف يمكننا نحن الذين ما زلنا في طور التخلف وما زلنا نأمل أن يكون من شعبنا قوة مادية وإنسانية، أن نتجه إلى معالجة ضعف الإنتاج الاقتصادي بأضعاف الإخصاب الإنساني.
موقف الإسلام:
يقول علماء الإسلام: أنه لا يجوز للإنسان أن ينظم تخطيطاً جماعياً على الشكل الذي تدعو إليه هذه المنظمات، لأن ذلك يتنافى مع مقاصد الشريعة الإسلامية التي جعلت من غايات الأسرة "تكثير النسل" وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "تناكحوا تناسلوا فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة".
وقد نص الإمام الشاطبي في الموافقات على أن مما أجمعت عليه الملل والنحل وجوب حفظ المال والنفس والعرض والنسل فمحاولة المساس بواحدة من هذه الأربعة بغير حق مناف للشرائع كلها ولا يقع إلا من الظالمين الذي قال الله تعالى فيهم:
"وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد" سورة البقرة: الآية 205، وقد التبس على بعض المتملقين ما قاله بعض الفقهاء في مسألة إباحة العزل، مع أن قضية العزل هي قضية التخطيط العائلي لأنها مسألة تتعلق بحالات فردية اختيارية، لا تتدخل فيها الدولة ولا تنظمها ولا تدعو إليها وتجعلها جزءاً من برنامجها يقول العلامة علال الفاسي: إما إدعاء أن التنقيص من عدد السكان ضروري لتنفيذ التخطيطات الاقتصادية وتحقيق النمو فهو خطأ من الناحية الاقتصادية ومن الناحية الاجتماعية، لأن المواليد لا يولدون بأفواههم فقط بل يولدون بعقولهم وسواعدهم، فهم مادة وعامل قوي في النمو الاقتصادي وتقوية الإنتاج، وليسوا مجرد طفيليين في المجتمع وإنما عجز التدبير من الحاكمين وسوء توزيع الثروة على المواطنين، والتخلي عن الأقاليم الوطنية للمستعمرين هو الذي يدفع إلى هذا التفكير الكسول، الذي يرضي بهذه التدابير غير الإنسانية، ولا يعلم أن مقتضيات التطور الحديث يقضي بتحمل الدولة لتكاليف العائلة.
حكم التعقيم:(/4)
ومن جهة أخرى فقد نص الفقهاء على أن خصى المواطن ممنوع شرعاً بالإجماع لكونه يعوق عن الغاية المقصودة من الشارع كما نصوا على أن أخذ الأدوية لمنع الحمل ممنوع، كما في النوازل الموجودة في كتاب الجامع من المعيار "للونشريشي". وأحسن من هذه الكتاب كله قول الله تبارك وتعالى: "ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم" سورة الإسراء، الآية رقم 30. وفي الآية الأخرى: "ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقهم وإياهم" سورة الأنعام، الآية رقم 150.
وقد أوضحت الشريعة الإسلامية سفه الذين يقتلون أولادهم مخافة الفقر "قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفهاً بغير علم وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله" سورة الأنعام، الآية رقم 139.
من فعل الناس بأنفسهم:
أما الرزق فإن الله تبارك وتعالى قد يسر طريقه وجعله مستطاعاً وأعطى الإنسان أدواته من صيد ونار وغيره ولكن صعوبة الرزق بدأت بعد أن تدخلت أهواء الناس ومطامعهم وظهرت عمليات الاحتكار والاحتجاز، وظهرت عوامل التفرقة والاستغلال، والقوى الذي يسيطر على الكثير فلا يترك للضعفاء والفقراء ما يطعمهم أو يقوتهم، هذه هي الأزمة وهي ليست أزمة الرزق نفسه وإنما هي أزمة الجشع والتسلط.
وتقدير الله بالخير:
وهناك قانون الوفرة الذي يؤكد وجود ثمرات طيبات لكل من يعيش على ظهر الأرض مهما بلغ عدد هؤلاء السكان وذلك بتقدير الله تبارك وتعالى وما تزال هناك مذخورات كثيرة في البحار والجبال، وقد أعطى الحق تبارك وتعالى عهده وميثاقه إلى البشر بضمان الطعام وضمان الرزق لكل مخلوق ودابة وحشرة، بحيث تطمئن النفس الإنسانية إلى عهد الله تبارك وتعالى الصادق الأكيد، فلا تكون مثل هذه الصيحات الضالة مصدراً لزعزعة الإيمان، فلقد حفظ الله تبارك وتعالى للإنسان هذه الموارد التي لا تنضب في نفس الوقت الذي دعاه إلى السعي في الأرض والأكل من رزق الله.
ولو وضعت الموازين الحقيقية لقضية الطعام ولو روعي في توزيعه ما أمر الله تبارك وتعالى به، لأمكن للإنسانية أن تتجنب الكثير من عمليات البخل والشح، حيث ينفق بعض الأفراد في بعض البلاد ما يوازي عشرات أضعاف ما ينفقه الآخرون. وهناك في بعض البلاد المنتجة تغرق المحاصيل في البحر أو تحرق للمحافظة على مستوى أسعار التصدير بينما يقتل الجوع الملايين وذلك من أساليب الاستعمار الرأسمالي والماركسي للسيطرة على القوى البشرية بإجاعتها.
كذلك فإن حاجة المسلمين في الدرجة الأولى إلى التوالد والتناسل لأن الإسلام مهدد في معاقله الأولى ويواجه حرباً صهيونية استعمارية لا قبل له بها وأن هذه الحرب ستطول، ويسقط فيها كثير من المسلمين وأن تعبئة الأمم في ميادين النمو الاقتصادي بوسائل العمل المنظم تغني عن كل تدبير مناف لطبائع الأشياء وأن هذه المبالغ الضخمة التي تصرف في مجال تحديد النسل وإنشاء مستشفيات التعقيم وإنتاج حبوب منع الحمل وهي تزيد على 100 مليار من الدولارات لو أنفقت في مجال النمو الاقتصادي لجاءت بنتائج إيجابية وعلينا أن نذكر أن من مقاصد الشريعة الرغبة في تكثير سواد الأمة الإسلامية وقد أمتن بالتكثير في القرآن إذ قال: "واذكروا إذ كنتم قليلاً فكثركم وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين" سورة الأعراف: الآية رقم 85.
الإطار الصحيح:
ولا ريب أن كل مشاكل الأمم يمكن التغلب عليها بالتفوق البشري شريطة أن يتحرك هؤلاء البشر من خلال عقيدة صحيحة كتلك التي حركت المسلمين الأوائل، والإسلام وحده هو العقيدة القادرة على إطلاق الطاقات المفطورة في أعماق هذه الأمة، وما استطاع مجتمع متخلف أو نام أن يحقق التقدم ويصل إلى القوة من خلال اعتناقه عقيدة المجتمعات الأخرى.
ومن هنا يتبين أن قصة الانفجار السكاني ليست أسطورة يراد بها تقليل عدد المسلمين ونسلهم في سبيل التمكين للنفوذ الأجنبي والوافد وعمليات التهجير بما يزيد غيرهم بالاستيطان وامتلاك الثروة.(/5)
مؤامرة تمييع الدين
(1) )
عناصر الموضوع :
1. خطر تمييع الدين وثوابته
2. إنكار الأمور الغيبية
3. إنكار معجزات الأنبياء
4. تمييع قضية الحكم على المرتدين
5. تمييع أحكام الفقه وأصول الإسلام
6. إلغاء الحواجز الدينية بين المسلم والكافر
7. نشر الوعي بين المسلمين تجاه هذه القضايا
مؤامرة تمييع الدين (1):
معاول الهدم في العقيدة الإسلامية كثيرة، ومنها التمييع لكثير من القضايا الخاصة بهذا الدين، ومن هذا التمييع: إنكار الأمور الغيبية والمعجزات الخاصة بالرسل.. تمييع قضية الحكم على المرتدين.. تمييع أحكام الفقه وأصول الإسلام.. تمييع الحواجز بين المسلم والكافر..
خطر تمييع الدين وثوابته:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإننا معشر المسلمين مطالبون شرعاً بالدفاع عن حياض الإسلام، والذود عن هذه الشريعة المطهرة، ولأن ديننا أعز شيء لدينا، وجُبل الإنسان على الدفاع عن أغلى شيء عنده، وعن النفيس مما لديه، فلابد للمسلم أن يضع نُصب عينيه الدفاع عن شريعة الإسلام، وأن يجعل له ذلك وظيفةً، وألا يقصر في القيام في هذا الأمر، يسعى لله بالحجة والبيان، وينافح عن الإسلام، وعندما يكون المسلمون في ضعف يتكاثر الطاعنون، ويرفع أهل الضلال رءوسهم، يريدون النيل من هذا الدين القويم. ونحن لا ننكر أيها الإخوة! في مرحلة الاستضعاف التي نعيشها أننا نتعرض لحملة شرسة من أعداء الدين، وأن هناك كثيراً من الخراب في الفكر والعقيدة الذي تسلل إلى نفوس بعض المسلمين ممن حملوا معاول الهدم، يشعرون أو لا يشعرون، ولكنك لا يمكن أن تغمض عين البصيرة عن الروابط التي تربط أعداء الدين في الخارج مع أعداء الدين داخلنا وبيننا؛ لأن الإغماض عن ذلك نوع من الغفلة، لا يمكن أن يليق بمسلم صاحب بصيرة. ومعاول الهدم كثيرة في هذه العقيدة التي هي صامدة في نفوس أبنائها مهما حصل، ومن ذلك أيها الإخوة موضوع خطير جداً يدندن حوله، ويراد تقريره، وهو موضوع التمييع، تمييع عدد من أحكام الدين، وشعائر الدين، وعدد من المسلمات والثوابت في هذه الشريعة المطهرة. لقد تولى إفك التمييع وهذا المهمة عدد من المنتسبين إلى أهل الإسلام، الذين يتسمون بأسماء المسلمين، ولكنهم في الحقيقة يريدون أن يقلعوا الشريعة حجراً حجراً، وبعضهم يظن أن ما يفعله هو أمر طيب في صالح الشريعة، وبعضهم يفعل ما يفعل عن تعمد واستمداد من أهل الباطل والكفر وصناديده. وهذا التمييع أيها الإخوة! أمرٌ جد خطير؛ لأنه قد حصل بسببه التباس عند كثير من المسلمين الذين تأثروا بهذه الأفكار المطروحة، وهذا التمييع صار في جوانب متعددة، ولنأخذ بعض الأمثلة تحت بعض العنوانين لنبين ما هو المقصود بقضية التمييع.
إنكار الأمور الغيبية:(/1)
إن هؤلاء الطاعنين في شريعتنا، يميعون على سبيل المثال كثيراً من أمور الغيب والعقيدة؛ ولأن عقولهم لا تقبل وجود أشياء غيبية كالملائكة والجن مثلاً؛ لأنهم لا يحسون بها ولا يرونها، فيريدون إنكارها. ولذلك فإنهم يدندنون حول قضية إمكانية أن يعيش المسلم بسلوك الإسلام دون أن يعتقد ببعض الأمور الغيبية، ويقولون: إن المهم هو فقه الشريعة، وأما فقه العقيدة فإنه مسألة فيها حرية وسعة، وأن المسلم يمكن أن يعيش بسلوك الإسلام، حتى ولو أنكر بعض الرموز والخيالات الموجودة في هذا الدين، يقول محمد أركول من ضُلال هذا العصر: لابد من أن نقر أن الذي حرك القبائل أيام النبي محمد -ونحن نقول: صلى الله عليه وسلم- وهو لم يقل: صلى الله عليه وسلم، هو الإيمان كما ورد في القرآن، والتصورات الأخروية من وعد ووعيد، التي دخلت عقول الناس وجعلتهم يؤمنون بها كحقائق واقعية، وليس كخيال ورموز، ونحن ننظر إليها في هذا العصر كخيال ورموز. وكذلك يقول حسن حنفي : ألفاظ الجن والملائكة والشياطين ألفاظ تتجاوز الحس والمشاهدة، ولا يمكن استعمالها؛ لأنها لا تشير إلى واقع، ولا يقبلها كل الناس. وكذلك يرى زكي نجيب محمود : إن الغيب والإيمان به خرافة. ويقول واحد آخر ممن يحسب على المشيخة والمشايخ، يقول عن إحدى صفات الله تعالى: إن العقائد لا تُخترع ولا تُفتعل على هذا النحو المضحك، عقيدة أن لله رجلاً ما هذا؟! فيريد إنكار القدم أو الساق أو اليد أو الوجه من صفات الرب عز وجل التي أثبتها لنفسه في كتابه سبحانه وتعالى، وقال: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ [الرحمن:27]. وكذلك أثبت صفة القبضة له سبحانه وتعالى، وأثبت صفة اليد له عز وجل، أثبتها له سبحانه، وهو المتصف بها، ونحن لا نعرف إلا ما أخبرنا به في كتابه، وما حدثنا به عنه رسوله صلى الله عليه وسلم: وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [الزمر:67].. بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ [المائدة:64]. وهذا يقول: هذا سخف، لله كذا، هذا شيء مضحك! استهزاء بصفات الله، والذي قبله يقول: العوالم الغيبية رموز وخيالات، والذي بعده يقول: الشياطين والملائكة ليس لها وجود، لا يقبلها كل عقل، ثم يقولون: فكيف إذاً يلتقي المسلمون الذين يؤمنون بهذه والذين لا يؤمنون، يمكن أن يلتقوا على السلوك الإسلامي، وعلى الأخلاق الإسلامية، أما هذه العقائد والأمور الغيبية فلا يلزم الجميع أن يؤمنوا بها. سبحان الله! ما هي أول صفة وصف الله بها المؤمنين في سورة البقرة؟ الم * < ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ * < الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ .. [البقرة:1-3] بل إقامة الصلاة: وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * < وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ ..)[البقرة:3-4] أعادها وكررها: بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ [البقرة:4] وما فيها من المشاهد الغيبية، من الحوض والصراط والميزان والجنة والنار، وعرش الرحمن وكرسي الرحمن، والمنابر من نور عن يمين الرحمن، وظل العرش: وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ [البقرة:4] أولئك المؤمنون حقاً أيها الإخوة: أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [البقرة:5] فإذا لم يؤمنوا ببعض هذه الأشياء، فليسوا على هدىً من ربهم، وليسوا بالمفلحين، وليسوا هم المؤمنون حقاً. فهل رأيتم إذاً وتراً من الأوتار الذي يعزف عليها هؤلاء في قضية تمييع هذه الأمور؟
إنكار معجزات الأنبياء:(/2)
ومن الأشياء التي يريدون التخلص منها معجزات الأنبياء، لماذا أيها الإخوة؟ لأنها غيب، وعقولهم لا تتحمل الغيبيات، عقل فاسد وضيق، لا تتحمل عقولهم الغيبيات، فهذا أحدهم يقول: الذي ادعى أنه يحمل الجمع في الفقه بين القرآن والسنة، وألف كتاباً خطيراً جداً في السنة النبوية، يريد أن يزلزلها وينسف ثوابتاً فيها، يقول: على أنه لا صلة للعقيدة بأن الرسول عليه الصلاة والسلام أظلته غمامة أو كلمه جماد، والرجل الصالح لا يُغمز مكانته إنكاره لهذه الخوارق. لاحظ معي يقول: إذاً لا صلة للعقيدة بقضية أن الرسول عليه الصلاة والسلام أظلته الغمامة أو كلمه جماد، والرجل الصالح لا يغمز مكانته إنكاره لهذه الخوارق، إذاً يمكن أن يكون الرجل صاحب مكانة في الدين، وهو ينكر هذه الخوارق، والله تعالى هو الذي أيد نبينا صلى الله عليه وسلم بالمعجزات، وهو الذي أعطاها له ردءاً وتأييداً منه سبحانه؛ ليتبين قومه أنه نبي فعلاً ولا يقولوا: كذاب، لقد انشق القمر وأراهم القمر شقين، ورأوا أموراً عجيبة، ورأى أتباع النبي محمد صلى الله عليه وسلم من الخوارق ما زاد إيمانهم، ومن المعجزات ما أكد يقينهم وثبتهم: قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة:260]. فرأوا تكثير الطعام بين يديه، ونبع الماء من بين أصابعه، وتسبيح الأكل وهو يؤكل، وسلم عليه الحجر بمكة ، فكانت المعجزات تأييداً له ولأصحابه وبرهاناً على نبوته أمام الكفار، ومات صلى الله عليه وسلم وأبقى لنا هذه المعجزة الخالدة، وهي القرآن الكريم. أيها المسلمون! إن الله عز وجل لا يعجزه أن يؤيد رسولاً من رسله بأن تمشي إليه شجرة أو يحيي له ميتاً، أو يخرج له ناقة من صخرة، أو ينبع الماء من بين أصابعه، أو يرزقه فاكهة الشتاء في الصيف، أو يحا له طائراً قد ذبح وقطّع، فالله يؤيد أنبياءه بالمعجزات، ويعطي الكرامات لأوليائه، وليس ذلك على الله بعزيز، والله على كل شيء قدير، ولما رأى إبراهيم الخليل هذه الطيور التي قطّعت وذبحّت ووزعت على الجبال، ثم دعاها فجاء عنق هذا إلى جسده، ورجلا هذا إلى بقية الجسد وتركبت وطارت إليه، وقال: أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:259] وأن الله عزيز حكم، كما قال ذلك عزير وقالها إبراهيم. إذاً أيها الإخوة! هؤلاء الذين ينكرون الجن اليوم، ويقولون: إنهم غير موجودين، وإن الصرع لا يمكن أن يحدث، وإن الشياطين ليس لها تسلط على البشر، والله سبحانه وتعالى قد ذكر ذلك بقوله عز وجل: إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ [البقرة:275] وأن الشياطين تمس الناس، نعم لم يجعل الله لهم سلطاناً عاماً على الإنس يصرعون من يشاءون ويلتقون كيف شاءوا، كلا، إن ذلك يحدث على نطاق ضيق وعدد قليل، ولكنه يحدث، ونقر أنه يحدث، ولا نقول: عقولنا لا تقبل ذلك.
تمييع قضية الحكم على المرتدين:
ومن التمييع الذي يمارسه هؤلاء: تمييعٌ في قضية الحكم على المرتدين الذين نطقوا بالكفر، فهذا أحدهم وهو فهمي هويدي يعتذر عن نزار قباني الشاعر الملحد الضال، الذي نطق شعره بالكفر صراحة، فينقل عنه عبارة كفرية واضحة، يقول فيها نزار:
لا تسافر مرة أخرى
لأن الله منذ رحلت
دخل في نوبة بكاء عصبية
وأضرب عن الطعام!
ثم قال: وبعت الله!(/3)
هذا الذي قاله الأفاك الأثيم الذي ذهب إلى الله، والله سيتولاه، فماذا قال صاحبنا في الدفاع عنه، يقول: فالكلام الذي صدر عن نزار لا يدخل في إطار إنكار الله بطبيعة الحال، وإن تمنينا أن يتسم حديثه عن الله بالقدر الواجب من الإجلال، إلا أننا نقول: إنه غلب على نزار اعتبار صنعة الشعر، والأوزان والقوافي وكذلك هذه الموهبة، وأطلق العنان للتعبير، فجاء كلامه على ذلك النحو غير المستحب. غير المستحب!! واحد يقول: بعت، ويقول: نحو غير المستحب!! واحد يقول: إنه سبحانه أضرب عن الطعام! ودخل في نوبة بكاء عصبية! ثم تقول أنت عنه: صنعة الشعر غلبته فجاء الأسلوب غير المستحب! سبحان الله! هذا هو التمييع أيها الإخوة! أن نأتي إلى واحد قد صرح بالكفر الذي لا يوجد أشد منه، ثم نعتذر إليه بأن صنعة الشعر جاءت في كلامه على الأسلوب غير المستحب، وكنا تمنينا أن يأتي بالأسلوب الآخر، وكنا تمنينا أن يحاكم مرتداً وتقطع رقبته، وتمنينا نحن المسلمين، هذا الذي نتمناه في أي واحد يهاجم الله عز وجل أن يحاكم شرعاً بالردة، فإذا أقر ولم يرجع أن تضرب رقبته بالسيف انتصاراً لله تعالى، هذا الذي تمنينا. نتمنى هدايته ولكن لو لم يهتد، فإذاً ماذا نتمنى؟ أن يقام عليه حد الردة: وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ [الرعد:13] هذا هو الله عز وجل : وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ [الرعد:13] سبحانه وتعالى! هذا رعده وبرقه: وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ [الرعد:13].
تمييع أحكام الفقه وأصول الإسلام:
من التمييع كذلك: تمييع أحكام الفقه وأصول الإسلام التي جاءت بها الأحكام، فيقول أحدهم وهو محمد عبده في موضوع الوضوء بالكولونيا: ومن أين جاء أن ماء الزهر والورد لا يصح الوضوء به، وماء الكولونيا أحسن شيء للوضوء، فإنه يمنع آثار المرض، قاله في كتاب تاريخ الأستاذ الإمام ، والذي يدافع فيه عن أحد كبار المنافقين في هذا العصر وهو جمال الدين الأفغاني ، وقد ذهبا إلى الله، وليس عندنا علم هل تابا أم لا، فالله يتولاهما، ولا نحكم على مصيرهما في الدار الآخرة، أمرهما إلى الله. لكن نحن نأخذ العبرة، ونريد أن نعرف ما هي الأساليب التي يمشي بها هؤلاء بين المسلمين، من الذي قال: إن الوضوء بالكولونيا لا يجزئ، فماء الكولونيا أحسن شيء للوضوء. نقول: الذي قال هم أئمة الدين من فقهاء المسلمين سلفاً وخلفاً، أنه لا يجزئ الوضوء إلا بالماء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حدد الطهارة بالماء، وفي حالة فقده يتيمم بالتراب، هذا الذي جاءت به الأحاديث، الماء طهور وبه يتوضأ ويرفع الحدث الأكبر والأصغر، وإذا عدم فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً [النساء:43] ولم يقل: كولونيا مَاءً فَتَيَمَّمُوا [النساء:43]. والعاقل والبليغ والمثقف والعامي والفلاح والدكتور كلهم يعرفون معنى لفظة الماء: (( فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً )) وأي عاقل يفرق بين الماء والعصير، والماء والشاي، والماء والكولونيا، والماء والزعفران، وماء الورد وماء الزهر، كل ذلك بينه فرق بيّن.
موقفهم من الربا:
أما الموقف من حكم الربا، فماذا يقولون؟ يقول ذلك الرجل: والفقهاء مسئولون في التشديد على الأغنياء في الربا، فاضطروا الفقراء للاستدانة من الأجنبي، بأرباح فاحشة استنزفت الثروات، ويجّوز بعضهم كما جّوز ذلك جمال الدين الأفغاني الذي قال بجواز الربا المعقول الذي لا يثقل كاهل المديون، ولا يتجاوز في برهة من الزمن رأس المال. فإذاً جرى على ذلك أذنابهم بعد ذلك بعشرات السنين، ووضحوا قولهم وأصلوه، وقالوا: الربا المعقول، يقول ربنا عز وجل الذي نحن نؤمن بشرعه وقدره، وبما أراده واصطفاه لنا من الشريعة والدين، يقول في القرآن الكريم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا [البقرة:27] ما بقي ½%، وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [البقرة:278-279] وأنت تقول: ربا معقول! ما هو الربا المعقول؟ الذي نعقله ما جاء في هذه الشريعة، وكل شيء يخالف الشريعة غير معقول وسخيف، وتافه وترهات وباطل، لا يوجد شيء اسمه ربا معقول، هناك في هذه الشريعة شيء قطعي وهو تحريم الربا.
موقفهم من الحدود:(/4)
ثم انصب كلامهم في تميع الحدود الشرعية بعد الأحكام الفقهية، على قضية حد الردة، وإبطال حد الردة، وأن الإنسان حر إذا غير دينه، يا أخي! إذا غير دينه هو حر، لماذا يقتل؟! كيف يكون حراً في اختياره، ولا حرج عليه ولا تبعة، ونبينا صلى الله عليه وسلم الذي نؤمن به وبشرعه الذي جاء به من عند ربه يقول: (من بدل دينه فاقتلوه) من بدل دينه: أي: الإسلام، وليس من ترك النصرانية و اليهودية إلى الإسلام، المقصود واضح من بدل دينه، أي: الشرع الحكيم الصحيح الإسلام والتوحيد (من بدل دينه فاقتلوه) نص في المسألة. كيف يقال: إن عقوبة الإعدام لا تتناسب مع القرن العشرين، ونحن على مشارف القرن الواحد والعشرين، فيجب إلغاء عقوبة الإعدام. ولذلك يدندنون في الفضائيات والبرامج التي تبث، في مسألة رجم الزاني المحصن أنها غير صحيحة، ويقولون: لم تُذكر في القرآن، سبحان الله! فقد ثبتت في السنة، ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده كما يقول عمر ، وحتى لا يقول قائل، فقد قالها عمر رضي الله عنه قبل أكثر من ألف وأربعمائة سنة قال: أن يأتي أناس يقولون: ما وجدناها في كتاب الله. وجاءوا فعلاً في كثير من الأوقات، وفي هذا الوقت بالذات وقالوا: ما وجدناها في كتاب الله. فقد رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ماعز و الغامدية ، ورجمُت شراحة الهمدانية ، ورجم عمر رضي الله عنه و علي ، ورجم أبو بكر ، ورجم الصحابة بعد النبي صلى الله عليه وسلم، دلالة على أن ذلك الحكم ليس منسوخاً ولا باطلاً. الزاني المحصن الذي وطأ وذاق حلاوة الحلال في عقد صحيح إذا زنا وثبت عليه باعترافه أو بأربعة شهود؛ يرجم حداً من الله تعالى. ثم يقولون: لا يناسب العصر الحاضر، لأنه ليس موجوداً في كتاب الله. فإذا قلنا لهم: حد السرقة موجود في كتاب الله، قال تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ [المائدة:38] يقول قائلهم: إن الشريعة لا تريد أن يتحول المجتمع إلى أناس مشوهين، هذا مجلود، وهذا مقطوع اليد، وهذا مفقوء العين، وهذا مكسور السن بقضية القصاص، اسجنه وامش، أو أي عقوبة مالية ، فنقول: هذا موجود في كتاب الله: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا [المائدة:38] موجود، قالوا: هذه همجية لا تصلح في هذا القرن. وهكذا ترون أيها الإخوة! قضية صب الكلام على تمييع الحدود الشرعية التي أنزلها الله؛ من حد الردة وحد الزنا للمحصن، وحد السرقة، أنهم يريدون إبطال ذلك، وإقناع المسلمين أن ذلك كان في عهدٍ مضى ولا يناسب هذا الزمان. هذه قليل جداً جداً مما يقولونه في بعض هذه المسائل، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من المتمسكين بالحق والدين، ومن الحريصين على تنفيذ شرعه المبين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
إلغاء الحواجز الدينية بين المسلم والكافر:(/5)
الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذي أنزل الكتاب، والحمد لله الذي نصر نبيه صلى الله عليه وسلم والأصحاب، وهزم الأحزاب، والحمد لله مجري السحاب، أشهد أن لا إله إلا هو الملك العزيز الوهاب، وأشهد أن نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم سيد البشر وأولي الألباب، جاءنا بالحق والصواب، وأشهد أن من تبعه بإحسان إلى يوم الدين هم أولوا النهى والألباب، صلى الله عليه وعلى من تبعه. عباد الله: من أخطر أنواع التمييع الذي يقوم به هؤلاء ممن يسمون بالعقلانيين وأصحاب الفكر المستنير -يسمون أنفسهم بالتنويريين- من أخطر ما يقومون به تمييع الحواجز الدينية بين المسلم والكافر، المسلم الذي يشهد أن لا إله إلا الله، والذي هو من خير أمة أُخرجت للناس، الموحد لربه، المطيع لنبيه الذي يعتمد الشرع، ويُوفي له، المسلم الذي لا يتحايل على الدين، المسلم الذي يطبق الإسلام، يريدون التمييع في الحد بينه وبين أرباب الديانات الأخرى من اليهود والنصارى وغيرهم من أنواع المشركين. التمييع بين المسلم الحنيفي وبين اليهودي الذي هو من الأمة الغضبية، أهل الكذب والبهت، والغدر والمكر والحيل، وقتل الأنبياء، وأكل السحت والربا، أخبث الأمم طوية وأرداهم سجية، وأبعدهم من الرحمة، وأقربهم إلى النقمة، عاداتهم البغضاء، وديدنهم العداوة والشحناء، أهل السحر والكذب والحيل، هؤلاء الذين سبوا ربهم، فقالوا: تعب يوم السبت وارتاح، وقالوا: إنه بخيل: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا [المائدة:64] والذين عادوا نبينا صلى الله عليه وسلم بعدما تبين لهم أنه نبي الله، وقامت الأدلة عندهم، وطابق الوصف المذكور في كتبهم، عادوه وناصبوه إلى أن دسوا له السم في الشاة. التمييع بين المسلم وبين النصراني الذي هو من الأمة المثلثة، أمة الضلال وعبّاد الصليب، الذين سبوا الله مسبة لم يسبها أحد، وقالوا كلاماً تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هداً. قالوا: إن الله ثالث ثلاثة، وإن مريم صاحبته، والمسيح ابنه، وأنه نزل عن كرسي عظمته والتحم ببطن الصاحبة وجرى ما جرى، وأن هؤلاء عبّاد الصلبان وعبّاد الصور المنقوشة بالألوان في الحيطان، الذين يقولون في دعائهم: يا والدة الإله ارزقينا، واغفري لنا وارحمينا، دينهم شرب الخمور، وأكل الخنزير، وترك الختان، والتعبد بالنجاسات، واستحلال الخبائث، كيف يمكن أن تميع الحدود بين المسلم وبين مثل هؤلاء؟ واليهود والنصارى أهل الكتاب أحسن حالاً من الهندوس والبوذيين وبقية مشركي الأرض، فما بالك بالبقية أيضاً. إن الدعوة إلى تمييع الحواجز الدينية بين هذه الديانات الثلاث، قد جرت على خطة مرسومة من هؤلاء باسم وحدة الأديان تارة، أو الملة الإبراهيمية تارة، أو وحدة الدين الإلهي وأرباب الكتب السماوية تارة أخرى، وكلمة العالمية ووحدة الأديان، يريدون صهر الأديان الثلاثة في بوتقة واحدة، كيف يجتمع الذي يقول: لا إله إلا الله، هو الله أحد صمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، مع من يقول: إن عيسى هو الله أو عيسى ابن الله، أو عزير ابن الله؟! كيف يجتمع قتلة الأنبياء، والذين مسخهم الله قردة وخنازير تحت مظلة واحدة مع من هم خير أمة أخرجت للناس؟! كيف يجتمعون؟! كيف يجتمع الذين قال الله عنهم: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ [المائدة:73] مع من يقول: لا إله إلا الله لم يتخذ صاحبة ولا ولداً؟ كيف يجتمع هذا مع هذا في قضية الملة الإبراهيمية أو وحدة الأديان؟! إن الجمع بين هؤلاء ردة ظاهرة وكفر صريح ولاشك، ثم هؤلاء من جلدتنا وبألسنتنا يقولون: إن اجتماع هؤلاء من أجل أن يكون السلام عاماً في العالم هو هدفنا الذي نسعى إليه، وأن تزول العداوات بين أهل الأديان، فهل الإسلام جاء لإزالة العداوات بين أهل الأديان؟ هل جاء الإسلام ليعيش أهل الأديان كلهم متآلفين؟ سؤال خطير جداً أيها الإخوة! لأن عدداً من الناس يظن الجواب: نعم، هل جاء الإسلام لكي يتصافى المسلمون، واليهود، والنصارى، والمجوس، والهندوس، والبوذيون، يتصافون ويكونون على قلب رجل واحد. أم جاء الإسلام بقوله تعالى: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ [الأنفال:39] أليس الإسلام قد جاء لأجل هذا، إذا كنا نحن لا نستطيع أن نطبقه الآن، ولا نستطيع أن نجاهدهم؛ لأنه ليس عندنا قوة، فإن المبدأ يجب أن يبقى سليماً، وهي عداوتهم ما بقينا، وكرههم لأجل الله ما حيينا، أن نكرههم وأن نبغضهم، حتى لو لم نستطع أن نقاتلهم، يجب أن تكون العقيدة في هذه المسألة واضحة. ثم انظر إلى ما يقوله صاحب كتاب: السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث ، يقول: ولا ريب أن هؤلاء النصارى عرب أنقياء، والعربي الصحيح -وإن لم يكن مسلماً وضع هذه الجملة الاعتراضية في الاعتراض- وإن لم يكن مسلماً فله موقف كريم من إخوانه المسلمين. سبحان(/6)
الله! معروف أن النصارى العرب من ألعن أنواع النصارى، إن لم يكونوا هم ألعن أنواع النصارى على الإطلاق، وما ابتليت الأمة في هذا الزمان بمثلهم، والتاريخ معروف. ثم كيف يقال: له موقف كريم من إخوته المسلمين؟! ما هي الأخوة أيها الإخوة؟! أي نوع من الأخوة هذه؟ كيف نشأت رابطة أخوة بيننا وبينهم؟ قال: وإن وقف -أي:هذا النصراني- إيمانه بالنبوة إلى عيسى بن مريم، فلن يبخس محمد بن عبد الله حقه. قل لي: كيف لن يبخسه حقه إذا لم يؤمن به رسولاً خاتم الأنبياء؟! كيف لم يبخسه حقه إذا كان يقول: لا أؤمن بنوبته، أو يقول: نبي مثل غيره، لا ميزة لشريعته، ولا ينسخ نبوة من قبله، وليس دينه خاتم الأديان ولا نبوته خاتم النبوات، أليس هذا من البخس العظيم؟! أما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (أنه لا يسمع بي يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار) ؟ ثم يقول هذا: فلن يبخس محمد بن عبد الله حقه بوصفه سيد رجالات العروبة، ومؤسس نهضتها الكبرى. هل النبي عليه الصلاة والسلام بعث ليكون سيد العروبة أم سيد الناس والعالم؟ هل كانت المشكلة بين محمد عليه الصلاة والسلام وكفار قريش العروبة؟! هل كانت القضية أنهم إذا اجتمعوا معه على العروبة انتهت القضية، أو كانت المشكلة والقضية هي: لا إله إلا الله التي رفضوا أن يقولوها؟ أليس هذا هو محور الصراع والحرب التي قامت بينه وبين قريش؛ العرب الأنقياء من جهة العروبة، الحرب قامت بينه وبينهم في بدر و أحد والخندق وفتح مكة وغيرها، قامت حرب أريقت فيها الدماء، أمن أجل أن يكون سيد العروبة؟ إذاً فلماذا امتدت فتوحاته إلى خارج الجزيرة ؟ ولماذا ذهب إلى تبوك بلاد النصارى؟
نشر الوعي بين المسلمين تجاه هذه القضايا:
هذا التمييع أيها الإخوة! هذا الذي يقرأه كثير من الناس في الوسائل السيارة، ويسمعونه في هذه الوسائل المسموعة والمنظورة، هذا الكلام الذي نقوله هو ما يُدس للمسلمين، فهل نعقل ونميز؟ وهل نكون على مستوى الوعي؟ إن هذه مسألة خطيرة أيها الإخوة؛ لأن الله قال: لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ [الأنفال:42] فلا بد أن تكون هناك بينة؛ لتبين للناس ما نزّل إليهم، البينة والبيان، والله لا يرضى أن يختلط الحق بالباطل: مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ [آل عمران:179] لا بد أن يميز الخبيث من الطيب ، هذا التمييز الذي نريده أن يكون موجوداً في حس المسلم وعقله، وأن يكون عنده علم يدفع به الشُبهات، العلم يا إخوان هو الذي تعرف به، هل ما يعرض عليك حق أم باطل؟ نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا الفقه في دينه، والتمسك بسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم اجعلنا من أهل الهدى والتقوى، ومن المتمسكين بالعروة الوثقى، اللهم أحينا مسلمين، وتوفنا مؤمنين، وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين، اللهم اجمع شملنا على التوحيد يا رب العالمين، اللهم ألف بين قلوبنا وأصلح ذات بيننا، وأخرجنا من الظلمات إلى النور، واهدنا سبل السلام، واجعلنا سلماً لأوليائك، حرباً على أعدائك، نحب بحبك من أحببت، ونبغض من أبغضت إنك سميع الدعاء. اللهم إنا نسألك الأمن والإيمان في بلادنا وسائر بلاد المسلمين، ومن أراد بلدنا هذا بسوء؛ فاجعل كيده في نحره، ثَبِّتْ علينا الأمن والإيمان، إنك أنت سميع الدعاء يا رحمن. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
( مؤامرة تمييع الدين (2) )
عناصر الموضوع :
العصرانيون وانهزاميتهم
انحراف الفهم عند الانهزاميين
من الأحكام التي تتعلق بالحج والأضحية
مؤامرة تمييع الدين (2)
ختم الله الأديان بالإسلام، وجعله صالحاً لكل زمان ومكان، وعليه فنحن في غنى عن غيره من الأفكار البشرية والأديان، ولا يجوز الخروج عن أحكامه مجاراة للحضارة، ولا تمييعها استجابة لضغط الواقع المتوهم.
العصرانيون وانهزاميتهم:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: عباد الله: فقد تحدثنا في الخطبة الماضية عن ظاهرة تمييع الدين، التي يسعى إليها بعض المنتسبين إلى المسلمين، ويقودون فيها حرباً على التمسك بالدين، بكل صغيرة وكبيرة فيه، كما أمرنا الله تعالى بأن نستمسك بجميع العرى، وأن نأخذ بجميع الشرائع والأحكام، كما قال عز وجل: ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً [البقرة:208] أي: تمسكوا بجميع شعب الإسلام والإيمان، وهؤلاء يريدون أن يميعوا هذه الأحكام، وأن يحذفوا أشياء مما لا يروق لهم، وأن يجعلوا هذا الدين ثوباً فضفاضاً يفصّلونه كيف يشاءون، ويتسع عندهم لكل شيء يلبسونه به، سواء كان حقاً أم باطلاً.(/7)
ضغط الواقع هل هو مصدر من مصادر التشريع؟
إن مما دفع إلى اتخاذ هذا التمييع -أيها الإخوة- قضية خطيرة نادراً ما ينجو منها الواحد منا، ألا وهي الانهزامية وضغط الواقع على الإنسان المسلم، وعندما نظر بعض هؤلاء إلى الواقع وما فيه، وتسلط الكفار على المسلمين وهيمنتهم وسيادتهم في العالم بزعمهم، فإنهم تحت هذا الضغط صاروا يقدمون التنازل تلو التنازل، والفتاوى الشاذة باسم الواقع وظروفه، ويفصلون من الإسلام فستاناً يناسب الذوق الغربي. وكأن الواقع صار عندهم مصدراً من المصادر التشريعية، فكأنهم قالوا: مصادر التشريع القرآن والسنة والقياس والإجماع والواقع، ولا تخلو هذه الانهزامية من نظرة انبهار للغرب ولما عندهم، ولا تخلو هذه الانهزامية وهذا المنهج في التمييع، من التأثر بقادة الانحلال الفكري في المسلمين.
من أقوال الانهزاميين في التأثر بالغرب:
إنه تأثر بمنهج المنحرفين أمثال: سلامة موسى و طه حسين ، حيث يقول الأول: كلما ازددت خبرة وتجربة توضحت أمامي أنه يجب علينا أن نخرج من آسيا ، وأن نلتحق بأوروبا ، فإني كلما زادت معرفتي بالشرق زادت كراهيتي له، وشعوري بأنه غريب عني، وكلما زادت معرفتي بأوروبا، زاد حبي لها وتعلقي بها، وشعوري بأنها مني وأنا منها، هذا هو مذهبي الذي أعمل له طول حياتي سراً وجهراً، فأنا كافرٌ بالشرق مؤمن بالغرب. ثم يقول: الرابطة الشرقية سخافة، فما لنا ولهذه الرابطة الشرقية، وأي مصلحة تربطنا بأهل جاوه ، وماذا ننتفع بهم؟ وماذا ينتفعون بنا؟ إننا في حاجة إلى رابطة غربية، ثم يقول: وما الفائدة من تأليف رابطة مع الهندي أو الجاوي؟ فما هو المقصود -أيها الإخوة- بهذه العبارات؟ قطع الصلات بين المسلمين، وتدمير القاعدة الإسلامية في أن المؤمنين إخوة، وإن الإسلام يوحد بين الأجناس على هدي الدين، فإذا أسلموا صاروا سواء، أليس هذا مما نعرفه قطعاً من دين الإسلام؟ أيها الإخوة: إن هؤلاء يريدون أن يجعلوا نسباً بين المسلم والكافر، ويقطعوا نسب المسلم بأخيه المسلم، هذه الحقيقة، لأجل الهزيمة التي يحسون بها، يريدون الانبتات والانقطاع عن الإسلام وأهله، والارتباط بالغرب وأهله. ويقول طه حسين في السبيل للخروج من الهزيمة التي نعيشها، يقول: السبيل إلى ذلك واحدة، وهي: أن نسير سير الأوربيين ونسلك طريقهم، لنكون لهم أنداداً، ولنكون لهم شركاء في الحضارة خيرها وشرها، حلوها ومرها، ما يحب منها وما يُعاب. إذاً لابد أن نسير سير الغربيين ونأخذ بكل شيء، بما يُحب وما يُعاب، هذه هي الفلسفة التي يقولون بها، فتأثر بها هؤلاء حتى جعل واحد منهم -أيها الإخوة- قاعدة أصولية عجيبة يقول فيها: شرع المتقدمين علينا حضارياً شرع لنا، عند المسلمين قاعدة يناقشها علماء الأصول، هل شرع من قبلنا شرع لنا أم لا؟ هل شرع موسى أو شرع عيسى شرع لنا أم لا؟ وقالوا: بأن شرع من قبلنا شرع لنا إذا لم يرد له ناسخ في شرعنا، أو لم يتعارض مع شرعنا، قال به بعض علماء الأصول؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له في القرآن: فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِه [الأنعام:90] فقالوا: شرع من قبلنا من الأنبياء إذا لم ينسخ في شرعنا، ولم يتعارض معه شرع لنا. فماذا قال هذا الأصولي الحديث؟ شرع المتقدمين علينا حضارياً شرع لنا، إذاً شرع الكفار هو شرع لنا، أرأيتم خطورة هذه العبارة أيها الإخوة! وما يدندن حوله هؤلاء؟! أن تصير طريقة الكفار هي طريقتنا، وأن نهتدي بهديهم، ونسير على منوالهم، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (لتتبعن سنن من كان قبلكم، حذو القذة بالقذة) حذرنا من ذلك وقال: حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، وهذا عين ما قاله طه حسين ، حلوها ومرها، ما يُحب وما يُعاب، أن نسير على طريقتهم، والنبي صلى الله عليه وسلم حذر وقال: (حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه). إن الله تعالى قد حذر نبيه صلى الله عليه وسلم من التأثر بضغوط الكفار: وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً [الإسراء:73]. كادوا أن يفتنوك لتفتري علينا غيره تحت ضغطهم وضغط واقعهم، ولكن الله ثبته: (( وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً )) [الإسراء:74] ثم قال تعالى: إِذاً لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ [الإسراء:75] لجاءك العذاب مضاعفاً.
الجهاد وإقامة الحدود همجية عند العصرانيين:(/8)
أيها الإخوة: طريقة الدين واضحة متميزة، ليس لنا نسب مع أولئك القوم، بل إن الله لا يرضى لعباده الكفر، بل إن الله أمرنا بمقاتلتهم عند القدرة والاستطاعة ولابد من ذلك، ثم قام هؤلاء يجارون الغربيين، انظر في الأطروحات التي تسمعها صباح مساء؛ ما هي السيرة عند هؤلاء المستنيرين -العقلانيين- بزعمهم، وليس لهم من العقل نصيب؛ لأن العقل الصحيح الصريح لا يعارض ما جاء عن الله ورسوله، لكن عقول مريضة، ثم ينتسبون إلى العقل بزعمهم. هزيمة تلو هزيمة، تراجعات تحت ضغوط الكفار، لما اعترض الغربيون على أحكام الجهاد، ماذا قال هؤلاء المنهزمون: مالنا وللجهاد يا سادة؛ نعوذ بالله من الهمجية، ولما اعترض الغربيون على الرق، قال هؤلاء: إنما هو حرام عندنا أصلاً، فيحرمون ما أحل الله، والله حكيم حيث سنه وشرعه، ولا يستطيع أحد أن يلغي شرع الله تعالى.
موقف العصرانيين من تعدد الزوجات:
ولما أطال هؤلاء الغربيون وأذنابهم لسان القدح في تعدد الزوجات، جاء هؤلاء المنهزمون ينسخون بضلالهم وجهلهم آيات القرآن ويحرفون الكلم عن مواضعه. ويقولون: لا تعدد في الدين، وإنه لا يمكن العدل، وإذاً لا يجوز التعدد، وخلطوا الأمور: لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورُ [التوبة:48] خلطوها ببعضها، لا يمكن العدل في المحبة القلبية، لكن يمكن العدل في المبيت والنفقة، وليس الإنسان المسلم مطالباً بأن يعدل في المحبة القلبية، والنبي عليه الصلاة والسلام كان يحب عائشة أكثر من بقية نسائه، ومع ذلك تزوج أكثر من واحدة، ولم يكن ظالماً عليه الصلاة والسلام إطلاقاً. إذاً لن تعدلوا في المحبة القلبية، ولكن إذا عدلتم في المبيت والنفقة، فتزوجوا مثنى وثلاث ورباع، ولمَّا قال الغربيون: لابد من مساواة الرجل بالمرأة في جميع نواحي الحياة، وافقهم هؤلاء المنهزمون، وقالوا: هذا هو الذي ينادي به ديننا ويدعو إليه، ولذلك رفضوا مبدأ أن تكون المرأة غير متولية للولايات العامة؛ كما قال بذلك أهل الإسلام استناداً على حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لن يفلح قومٌ ولوا أمرهم امرأة). ولذلك لا تتولى المرأة ولاية عامة في المجتمع الإسلامي، لا خلافة ولا وزارة ولا قضاء؛ لأنها لا يمكن أن تقوم بحجابها المفروض عليها، وتحريم الخلوة المفروض، والحيض والنفاس الذي هو من طبيعتها، وضعف عقلها مقابل قوة عاطفتها، لا يمكن أن تقوم بولاية عامة. ولو وُجد لذلك حالات شاذة، فإن الدين لا يُبنى على الشواذ، وليست الحالات الشاذة قاعدة أصلاً، ولما قام هؤلاء بالهجوم على الحدود الشرعية، وقالوا: إنها همجية في رجم الزاني المحصن، وقطع يد السارق ونحو ذلك، قام هؤلاء يوافقون الغرب ويقولون: لا رجم في الإسلام، ويقولون: إن إنزال الحد لا يتفق مع روح القرآن، وإن تحويل المجتمع إلى مجموعة من المشوهين لا تريده الشريعة. وهذا في الحقيقة استهزاء بحدود الله تعالى، ولذلك فإن هؤلاء أذناب الغرب المنهزمين من أبنائنا، يقولون: بعدم معاقبة المرتد، وينكرون حد الردة، وينكرون رجم الزاني المحصن، وليس على شارب الخمر حد معين عندهم، ويجوز للمرأة المسلمة أن تتزوج باليهودي والنصراني؛ لأن هناك ضغطاً من الخارج، يقول: لماذا تفرقون؟ لماذا ليس عندكم مساواة؟ أين العدل؟ لماذا لا تتزوج المسلمة يهودياً أو نصرانياً؟ فلتتزوج، فقال هؤلاء بجواز الزواج وقرروه، والله تعالى قال في كتابه العزيز: لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ [الممتحنة:10].. وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا [البقرة:221] لا تزوج ابنتك ولا أختك إلى مشرك: (وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا) فقال هؤلاء: بلى.. يجوز أن تنكح. عاندوا الشريعة، وخرجوا عن أحكام الدين، وكذبوا بشرع الله تعالى، وعاندوا أحكامه، كل ذلك تحت مطرقة الضغط، وتحت الضغوط تأتي الانهزامية، وتقدم التراجعات، ويقال: الإسلام دين سماحة، وليس دين جهاد ولا دين حدود، تُنسف الأشياء هكذا، يريدون إلغاءها بجرة قلم، إنه انهزام أمام الكفرة. أين عزة المسلم الذي يفتخر بشريعته؟ أين العزة المسلم الذي يرى أن هذه القوانين الغربية تتهاوى وتسقط وتثبت فشلها يوماً بعد يوم؟! إن الشريعة -أيها الإخوة- مفخرة للمسلمين، ولا يمكن إنقاذ العالم من الظلم إلا بتطبيق الشريعة الإسلامية.
انحراف الفهم عند الانهزاميين:
إن تهمة الجمود قد ألصقها هؤلاء بفقهاء المسلمين و السلف الصالح ، قالوا: هؤلاء -أي السلف الصالح - نصيون حرفيون، انظر للسب للسلف ، يقولون: السلف نصيون حرفيون، وأهل نصوص، وجامدون، ونحن نريد أن نحرر هذا الجمود، وأن نطلق الحرية للاجتهاد، ومناسبة الواقع. ولذلك قال واحد منهم: ضعوا من المواد ما يبدو لكم أنه يوافق الزمان والمكان -أي: العصر الحاضر- وأنا لا يعوزني بعد ذلك أن آتيكم بنص من المذاهب يطابق ما وضعتم.
رأي الانهزاميين تجاه الفنون:(/9)
فإذاً تحت الضغط يحدث التراجع، ولما عاب بعضهم على الإسلام أنه يعادي ما يسمونه بالفنون الجميلة، كالموسيقى، ونحت التماثيل، والتصاوير، والرقص، وغير ذلك، قام هؤلاء المنهزمون منا يقولون: كلا، بل إن الإسلام يحتضن هذه الفنون ويشجع عليها، ويحضُ عليها، وأنه يقر الرقص والموسيقى والتصوير والغناء ونحت التماثيل، من الذي سماها فنون جميلة؟ أليس أولئك الكفرة؟ أليست عندنا فنون قبيحة؟ أليس النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل مصور في النار) أليس يقال لمن صنع تمثالاً من ذوات الأرواح يضاهئون خلق الله، يقال لهم يوم القيامة: أحيوا ما خلقتكم؟ أليس النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر أن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلبٌ ولا صورة من صور ذات الأرواح؟ لا يجوز إلا ما اتخذ للحاجة كالإثباتات، وتتبع المجرمين، وغير ذلك من الحاجات والضرورات، وأما التزيين فلا يجوز بذلك أبداً، وكذلك رقص النساء أمام الرجال ومخاصرتهم، وكذلك الموسيقى التي حرمها الإسلام، لما تسبب من الإدمان والصد عن ذكر الله، لا تجتمع الألحان مع قراءة القرآن في جوف عبد ولا يمكن.
أولويات الدعوة لا تجيز تحليل ما حرم الله:
أيها الإخوة: إن هذه الانهزاميات تدلنا بوضوح على مقدار ما وصل إليه القوم من الانحراف، مما يُوجب على أبناء المسلمين أن يكونوا في غاية الوعي لمثل هذه الدسائس، وقال بعضهم يوصي الدعاة إلى الله وصية عجيبة للغاية، صاحب كتاب السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث : وأوصي الدعاة الذين يذهبون إلى كوريا ألا يفتوا بتحريم لحم الكلاب، فالقوم يأكلونه، وليس لدينا نص يفيد الحرمة، ولا نريد أن نضع عوائق أمام كلمة التوحيد، سبحان الله! ليس لدينا نص يفيد الحرمة، أولئك يأكلون الميتة أليس كذلك؟ ويأكلون الخنزير أليس كذلك؟ إذاً لا نفتي بتحريم الخنزير حتى لا نضع عائقاً أمام كلمة التوحيد: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ [المائدة:3] والنبي صلى الله عليه وسلم قطع بتحريم ذوات الأنياب وذوات المخالب، والكلب من أي قسم؟ ما بال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً. فرق أن يؤجل الداعية الإخبار بالحكم، ويبدأ بالأساسيات والأمور العقدية، لكن أن يفتي بإباحة لحم الكلاب طمأنة لأولئك القوم لأنهم يستلذون به ويحبونه. وعجباً أيها الإخوة! نحن لو دعونا بوذياً يأكل الكلاب فلن نبدأ معه بتحريم لحم الكلاب، بل نبدأ معه بلا إله إلا الله، نبدأ معه بكلمة التوحيد والدعوة إلى الإسلام، عندنا ستة في أركان الإيمان ندعوه إليها، وخمسة في أركان الإسلام ندعو إليها، وبعد ذلك إذا استقر دينه وإيمانه أخبرناه بتحريم الميتة والخنزير والخمر ولحم الكلب وغيرها، أما أن نفتيه بإباحة ذلك إن ذلك ضلال مبين، إن ذلك تحريف للكلم عن مواضعه.
ولاية المرأة بين الشرع والانهزامية:
ويقول هذا المنهزم أيضاً: إننا لسنا مكلفين بنقل تقاليد عبس وذبيان إلى أمريكا و أستراليا ، إننا مكلفون بنقل الإسلام فحسب، وإذا ارتضوا أن تكون المرأة حاكمة أو قاضية أو وزيرة فلهم ما شاءوا، إذا كانوا كفاراً فليس دون الكفر شيء، فليفعلوا ما شاءوا، كما قال الله تعالى: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ [فصلت:40] مهدداً ومتوعداً، لكن أن نقول: اطمئنوا يا دعاة مساواة المرأة بالرجل، فإنه يجوز في شرعنا أن تتولى المرأة الولاية العامة، ونخالف النص الصحيح الذي رواه البخاري عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة) أن نخالف ذلك، وما جرى عليه عمل الخلفاء الأربعة، ومن بعدهم من أئمة المسلمين وعلمائهم من عدم الجواز ونقول: يجوز ذلك؛ انهزاماً أمام الكفرة، فلماذا أيها الإخوة؟ من أجل عيون الكفرة نتنازل عن شرعنا، أيهما أغلى عندنا شريعتنا أم الكفرة؟ هذه هي القضية الخطيرة، أيهما تقدم؟ ما هي الأولويات لديك؟ لماذا هذا التمييع؟ أمن أجل عيون الكفرة نميع ديننا؟ وقال واحد من القوم: لولا حكاية القرآن آيات الله التي أيد بها موسى وعيسى عليهما السلام، لكان إقبال أحرار الإفرنج عليه -أي: على الإسلام- أكثر، واهتدائهم به أسرع وأعم، ماذا يقصد؟ المعجزات النبوية عصا موسى، وما قيض الله لعيسى من المعجزات في شفاء المريض، وإحياء الميت بإذن الله إلى آخره، قال: هذه عوائق لو لم تكن موجودة في القرآن كان إسلام الكفار أسرع، سبحان الله! من أجل حفنة من هؤلاء الإفرنج تصل الانهزامية بنا إلى حد أن نتمنى أن الله لم يذكرها في القرآن، القضية خطيرة جداً!
موقف الانهزاميين من الأفكار والأنظمة الغربية:(/10)
ولما قام هؤلاء الغربيون يتباهون بما لديهم من الأنظمة كالديمقراطية و الاشتراكية ، قام هؤلاء المنهزمون يقولون: عندنا في الإسلام نفس الشيء، الديمقراطية هي الشورى، سبحان الله! مولود مشوه ولد من رحم الغرب الكافر ( الديمقراطية أو الاشتراكية ) يساوي ما أنزله الله الحكيم العليم الخبير من فوق سبع سماوات؛ في هذا القرآن الحكيم الكريم المجيد على النبي محمد صلى الله عليه وسلم، هذا يساوي هذا، وتطبيقهم هو هذا، عجباً كيف تستوي هذه الأمور؟ أين الشورى التي فيها أهل الحل والعقد والعلم والعقل من تلك الديمقراطية التي ينتخب فيها الخمار والسكير والحشاش والزاني والمعتوه والبليد والسفيه؟ أصوات متساوية مع العاقل والعالم عندهم؛ فأي عقل لديهم في هذا؟ ثم أي عقل لدى هؤلاء الذين يقولون: إن الإسلام أخوة في الدين و اشتراكية في الدنيا، ويقولون: اشتراكية الإسلام. وقال بعضهم في كتابه يدافع عن الإسلام بزعمه: إن أبا ذر كان اشتراكياً، وإنه استقى نزعته الاشتراكية عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الافتراء والله، وهكذا يريدون أن يقولوا: إن المبادئ الغربية موجودة في الإسلام، نعم إن الإسلام قد أقر ما كان في الجاهلية من الخير، كحِلف الفضول لما كان متضمناً من رفع الظلم عن المظلوم، فأقرها النبي عليه الصلاة والسلام، وأخبر بعد البعثة أنه سُر بحضوره، لكن أن نأخذ كل ما فصله القوم وما انتقوه وما اختاروه، ونقول: موجود عندنا لنطمئن الغربيين.. سبحانك هذا بهتان عظيم! وبالجملة أيها الإخوة! يتصف هؤلاء بصفات واضحة، وقد ذكر الله لنا صفات المنافقين في القرآن لنحذرهم، ونحن لا بد أن نذكر صفات هؤلاء لنحذرهم ومنها: تقديس العقل، وتقديم العقل على النقل، الطعن في السلف الصالح أنهم حرفيون ونصيون ولا يراعون الواقع، التأثر بالضغوط والانهزامية، واللين مع أعداء الله، والشدة على أولياء الله، التعالم، تفسير القرآن بما يخدم أهواءهم، رد ما شاءوا من الأحاديث النبوية، ضرب العقل بالنقل، تتبع زلات العلماء وسقطاتهم، تمجيد الفرق الضالة، هدم الحواجز بين المسلمين ومن خالفهم، التلاعب بالمصطلحات، والكذب والتحايل، والتعجل في إصدار الأحكام والفتوى بغير علم، هذه سماتهم. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعز دينه، وأن يعلي كلمة الدين، وأن ينصر من نصر الدين، وأن يخذل من خذل المسلمين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
من الأحكام التي تتعلق بالحج والأضحية:(/11)
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. عباد الله! إن موسم الحج قد اقترب، ويجب على كل مسلم قادر بالغ قد استوفى الشروط أن يحج بيت الله الحرام: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [آل عمران:97] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (عجلوا الخروج إلى مكة فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له من مرض أو حاجة) ولا يجب على الإنسان المسلم أن يستدين للحج، بل من تمكن منه حج، ومن لم يتمكن أجَّل حتى يستطيع، وكذلك كل معذور من مريض وامرأة مرضعٍ أو حاملٍ وغيرها من أهل الأعذار؛ لهم أن يؤجلوا ذلك حتى يزول العذر. وإذا حج الإنسان على نفقته أو على نفقة غيره، فإن حجه مجزئ ولا حرج عليه، ومن وجب عليه الحج وأمكنه أن يفعله لابد أن يبادر إليه فوراً ولا يجوز التأخير، وبعض الناس يتوهمون أنه إذا حج ولم يُضحّ عنه فإن حجه ناقص، وهذا لا صحة له، وبعضهم يربط بين الحج وقضاء صيام رمضان، وهذا الربط غير صحيح أيضاً، وإذا كان الإنسان مطالباً بدينٍ قدم قضاء الدين على الحج، ولا حرج عليه في ذلك، فإذا سمح له صاحب الحق وأجله وأخره لما بعد الحج، فعل ذلك وكتب الدين في وصية وذهب للحج. وأما أهل البلدان من غير الحجاج، فإنهم سيشاركون الحجاج في بعض الأحكام أجراً لهم ومواساة لهم في أحكام الحج، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من كان له ذبح يذبحه، فإذا أهل هلال ذي الحجة، فلا يأخذن من شعره ولا من أظفاره شيئاً حتى يضحي). إذا دخل العشر وأراد أحدكم أن يضحي فلا يمس من شعره ولا من بشره شيئاً، فهذا يدل على النهي، وظاهره التحريم عن أخذ شيء من الشعر والأظفار والبشرة لكل من أراد الأضحية، ابتداء من أول ليلة الواحد من ذي الحجة، فإذا عرفنا دخول ذي الحجة فمن تلك الليلة، يمتنع المسلم عن هذه الأشياء، إذا كان عنده أضحية أو نواها. وكذلك فإن أهل الإنسان من الزوجة والأولاد لا يجب عليهم الالتزام بهذا الحكم، وإنما الذي يلتزم هو الذي بذل الثمن، وهو الذي نوى وأراد الأضحية، سواء يذبحها بنفسه أو بتوكيل غيره، وتوكيله لغيره لا يخرجه عن هذا الحكم، وعلى أية حال فإن الأضحية صحيحة ولو خالف، ولكن المخالفة فيها إثم يجب على المسلم أن يتورع عنه، وكل من عرضت له حاجة في أخذ شيء من الظفر كما لو انكسر، أو احتاج لحلاقة شعرٍ لجرح أو غيره فلا بأس به، ولما كان المضحي مشابهاً للمحرم بفعل بعض أحكام النُسك وهو الذبح، فالهدي للحاج، والأضحية للمسلم في البلد، شاركه في بعض أحكام محظورات الإحرام. وأما بالنسبة لهذه الأضاحي، فإن استسمانها واستحسانها من شعائر الدين، وسنأتي على ذلك في الخطبة القادمة بإذن الله تعالى أو التي بعدها في هذه المسألة. وأما شهر ذي القعدة فإذا لم نعلم انقضاؤه بدخول ذي الحجة أكملناه ثلاثين يوماً، وامتنعنا بعده لمن أراد أن يُضحي، وكذلك فإن الذين يشتركون في أضحية عن ميتهم مثلاً، يلزمهم ذلك الحكم، والمضحي يجوز له الطيب والجماع ولبُس المخيط وغير ذلك، وإنما الذي يحظر عليه الأخذ من الشعر والأظفار والبشرة فقط، ولعلها تكون فرصة لاتباع السنة وللمداومة عليها في إطلاق اللحية وغيرها. أيها الإخوة: إن الحاج ليس عليه أضحية، وإنما عليه الهدي إذا كان متمتعاً أو قارناً، وبناءً عليه فإن الحاج إذا كان له هدي وليس له أضحية فإنه لا يلزمه هذا الحكم من أول ذي الحجة، بل إنه يمتنع عن الأخذ من الشعر والأظفار وغيرها إذا أهل بالإحرام. وأما من ترك أضحية في البلد، وأراد أن يذهب للحج ويُهدي هناك، فيلزمه ذلك الحكم من أول الشهر حينئذٍ. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين إنه سميع مجيب قريب. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وانصر من نصر الدين، اللهم انصر المجاهدين في سبيلك يا رب العالمين، اللهم ارفع الظلم عن المستضعفين من المسلمين، اللهم إنا نسألك العون لهم يا أرحم الراحمين، اللهم إنا نسألك الأمن في البلاد والنجاة يوم المعاد، اللهم ثبتنا على الإيمان، ومن أراد بلدنا هذا بسوء فاجعل كيده في نحره، اللهم إنا نسألك أن تغفر لنا ذنوبنا، وتكفر عنا سيئاتنا، اللهم أدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(/12)
مؤتمر حقوق الإنسان
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ... الفهرسة/ أصول الفقه /السياسة الشرعية
التاريخ ... 18/8/1424هـ
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
بداية والحق يقال نشكر لكم جهودكم الجبارة بهذا الموقع الفذ والمتنوع والمتجدد، الحافل بكل ما يواكب التطورات في الساحة والحكم الشرعي لكل منها، فكم حاجتنا اليوم لمعرفة الأحكام الشرعية فيما يدور حولنا من أحداث ومستجدات، ومن هذا المنطلق أحببت أن أجد جواباً عن موضوع حقوق الإنسان، حيث سيعقد في الرياض يومي 18و19 شعبان مؤتمر بعنوان (حقوق الإنسان في السلم والحرب)، ولقد تم دعوة 150 شخصية عالمية مهتمة بهذا المجال أو قريبة التخصص منه، وتم توجيه آلاف الدعوات داخل المملكة لحضور هذا المؤتمر، وسؤالي هو:
أولاً: ما حكم إقامة مثل هذا المؤتمر؟ وما حكم المشاركة فيه أو حضوره؟
ثانياً: هل في الشرع الحنيف ما يسمى حقوق إنسان؟ أي بمعنى هل حقوق المسلمين والكفرة واحدة؟
ثالثاً: إذا طلب مني المشاركة وأنا أعلم وجود الكثير من المنكرات كدعوة الكفار إلى هذا البلد للحضور، والاختلاط في مقر الحفل، وغير ذلك، هل يجوز لي المشاركة مع أني لا أستطيع تغيير أي من هذه المنكرات؟.
رابعاً وأخيراً: أرجو سرعة الرد لأن المشاركة في هذا المؤتمر تحدد خلال الأسبوع القادم ويجب أن أعرف وغيري حكم المشاركة فيه وهل نوافق أم نعتذر؟ وجزاكم الله خيراً.
الجواب
أول من دعا إلى حقوق الإنسان تعاليم الإسلام فهي التي رعت حقوق الإنسان جد الرعاية حيث عامة نداءات القرآن متوجهة إليه بأصله الإنسان أو إلى بعض أفراده بوصفه مؤمناً أو كافراً، فمن الأول قوله تعالى: "وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ" [الحجر:26]، وقوله: "وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ" [لقمان: من الآية14]، وقوله: "وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى" [النجم:39]، وقوله: "أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ"[القيامة:3]،وقوله: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً"[البقرة: من الآية168]، وقوله: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ"[النساء: من الآية170]، وقوله: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ" [البقرة:21]، وقوله: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ"[الحجرات: من الآية13]،وقوله تعالى: "وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ" [البقرة:45]، وقوله: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ"[المائدة: من الآية51]، وقوله: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ" [المائدة:90]، وقال تعالى: "وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ" [فصلت:26]، وقوله: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ"[التحريم:7]، إلى غير ذلك من الآيات ولا تفاضل بين بني الإنسانية إلا بتقوى الله سبحانه، كما جاء في الحديث: " لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا أحمر على أسود، ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى" انظر مسند أحمد (23489)، وفي حديث آخر "الناس بنو آدم، وآدم من تراب" أخرجه أحمد (8736)، وغيره من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه - وحقوق الإنسان التي أمر الله برعايتها هي حقوق المسلم والكافر على السواء، وإقامة مؤتمر لعرض حقوق الإنسان في السلم والحرب وفي المملكة العربية السعودية أمر محمود يشكر الساعون بعقده والمشاركون فيه، ودعوة غير المسلمين للتحدث فيه بما لا يتعارض مع أحكام الإسلام لا شيء في ذلك، ولا يتوقع أن يشتمل على منكر ظاهر وإن وجد- وجب على القادر إنكاره بالأسلوب المناسب ومن دعي إلى المشاركة في هذا المؤتمر ونحوه تعين عليه ووجب عليه الامتثال. والله ولي التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد.(/1)
مؤتمرات حوار الأديان خلل واضطراب أم فتنة وانحراف ؟!
د.عدنان علي رضا النحوي
الدعوة إلى حوار الأديان دعوة احتلت مساحة غير قليلة في الآونة الأخيرة، سواء من الصحافة العربية والأجنبية ، أو المؤتمرات والندوات . وظهرت آراء تعارض وآراء تخالف . ولكن منطلق الدعوة إلى هذا الحوار كان واضحاً أنه من الغرب ، وأن هناك قوى كثيرة تدعمها . وبعض المسلمين يبني ذلك على قوله تعالى :
(ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) [ النحل : 125]
فيأخذون بعض هذه الآية ويتركون بعضها الآخر الذي هو الأساس . إنهم يقولون : يجب أن نتعامل مع هؤلاء وهؤلاء بالحكمة ونخاطبهم بالتي هي أحسن . وفي سبيل هذا الهدف يمكن أن نتنازل ونتعاون ونتقارب . وبذلك يلغون القاعدة التي قامت عليها الإشارة إلى الحكمة وما تلاها ، ألا وهي : " ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ …" ! تَركوا الدعوة إلى الإيمان والتوحيد ، وأقاموا مكانها علاقات اجتماعية واقتصادية ومصالح مادية ، وأخذوا من الآية الكريمة ما يظنّون أنه يسوّغ ما هم فيه من علاقات تطورت حتى أصبح فيها المسلمون يمتدحون مبادئ هؤلاء وفلسفاتهم ونظمهم وأدبهم وفكرهم ! انقلبت الآية وأصبحنا نحن الذين نُدْعَى ولسنا الذين يدعون ، على الأقل من الناحية العمليّة التطبيقية والنتائج الملموسة !
فالحوار أساسه وجود قضيّة محدّدة بين فريقين أو أكثر . فيعرض كلُّ طرف رأيه ، ويردُّ الآخر عليه . وحتى يبدأ الحوار بداية سليمة يجب أن يكون أحد الطرفين هو صاحب القضيَّة التي يريد أن يعرضها على غيره ، حتى يتلقَّى منه القبول أو الرفض . أما بالنسبة " لحوار الأديان " فأرى الواقع يختلف . فما هي القضيَّة وما هو الهدف ؟! هل يريد النصراني أن يتنازل عن معتقده ؟! هل يريد اليهودي أن يتنازل عن معتقده ؟! هل يريد المسلم أن يتنازل عن دينه ؟! أغلب الظنّ أن هذا كله غير وارد بصورته المطلقة ، حتى أصبح مصطلح " الحوار " وهماً غير محدد . إلا أن الهدف ، كما يبدو ، ليس التنازل الكلي عن معتقد أو دين ، وإنما محاولة الوصول إلى حلٍّ وسط أو نقطة تفاهم لإزالة الخلاف ، كما يقال . وهذا ، إن صحَّ ، قد يفرض التنازل الجزئي . وأنَّى يستقيم الدين مع تنازل مهما كان جزئياً ؟! وأنَّى للتنازل أن يرفع الخلاف ؟!
بالنسبة للمسلم ، فإنَّ القضيَّة واضحة ، لا يحلَّ التنازل عن أيّ شيء من دينه ثبت بالكتاب والسنَّة . هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى فإنَّ الله سبحانه وتعالى حدَّد مهمَّة المسلم وعلاقاته مع أهل الكتاب والمشركين تحديداً واضحاً يقوم كلّه على تبليغ دين الله كما أُنزل على محمد r دون أي تبديل أو تحريف ، ودعوة الناس إليه دعوة واضحة حاسمة . لا خور فيها ولا ضعف ولا تنازلات ولا مساومات . على المسلم أن يبلَّغ دعوة الله صافية نقية ، والله يهدي من يشاء ، ويقضي بما يشاء .
والآخرون ليس أمامهم إلا إحدى اثنتين : إما أن يستجيبوا ويؤمنوا ويلتزموا، وإما أن يتولَّوا ويرفضوا ويدبروا . فإن استجابوا فقد أصبحوا مسلمين، وإن أدبروا وتولوا فهم الخاسرون ، والله عليم بالمفسدين :
ولنأخذ نموذجاً من الحوار الحقِّ الذي يأمر به الله سبحانه وتعالى :
(الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ * فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ )
[ آل عمران : 60- 63 ]
هذه الآيات نزلت في وفد نصارى نجران . وهكذا بدأت القضيَّة بإعلان الحق الذي لا يجوز الشك فيه أو التنازل عنه :
(الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ )(/1)
إعلان مدوٍّ يملأ الكون ! إعلان فاصل حاسم نافٍ لكلّ ريبة أو شك : " الحق من ربك " إنه من عند الله فمن يجرؤ أن يمتري أو يشك فيه غير المنافقين والمشركين . وتصبح القضيَّة في نهاية المطاف إذا أصرَّ كلّ طرف على موقفه ، وهما موقفان متناقضان ، ليس بينهما نقطة لقاء ، أنَّ أحد الطرفين هو الصادق والآخر الكاذب ، فكانت نهاية الحوار بأمر من الله الدعاء باللعنة على الكاذبين ! نزل الوحي الكريم على رسول الله r يأمره بذلك فانسحب وفد نجران من هذا " الحوار " ، يرومون النجاة ! موقف مفاصلة وحسم ، وموقف تبليغ رسالة الله كما أُنزلت . لم يحمل الحوار أي ساحة للمساومات والتقريب بين الحق والباطل . ثمَّ يفصل سبحانه وتعالى الأمر بأن هذا هو القصص الحق ، وأنه لا إله إلا الله وحده، وأن الله هو العزيز الحكيم . هذه القضية التي كانت موضع الحوار :
( إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ )
ثمَّ تمضي الآيات الكريمة لتوجّه الخطاب ، ليس إلى نصارى نجران فحسب ، وإنما إلى أهل الكتاب كلهم على مرّ الزمن كله ، لتفصل القضيّة ذاتها كما فصَّلها مع نصارى نجران :
( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ) [ آل عمران : 64]
القضية المطروحة للحوار هي نفس القضيّة السابقة :
( .... أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ ...)
ويكاد يكون الأُسلوب واحداً :" تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ... " فهي دعوة جليَّة حاسمة ، دعوة إلى الله الواحد الذي لا إله إلا هو ، لتكون هذه القضيّة متساوية بيننا وبينكم ، نؤمن بها حقاً من عند الله وتؤمنون بها ، فتكون بذلك كلمة سواء ، نستوي نحن وأنتم بالإيمان بها ، فآمنوا حتى تستوي الكلمة بيننا، لأن هذه هي نقطة الخلاف الرئيسة وبغير تسويتها لا يتم لقاء .
هذه القضية هي قضيّة الخلاف الذي يدور عليها الحوار . إنها ليست نقطة لقاء كما توهَّم بعضهم ، وظنَّ أنها هي التي نلتقي بها اليوم مع النصارى واليهود، وأنَّى ذلك ؟! فإن كانت هي نقطة الاتفاق واللقاء ، فلماذا ندعوهم إليها ، ونقول لهم : " تعالوا إلى كلمة سواء ؟! " ولماذا لم يقبلوا بها من محمد r ، ورفضوها وأَبَوْها وتولّوْا وأدبروا ؟! فهل يقبلونها اليوم ؟!
فما هو الموقف إن لم يقبلوا بهذا التوحيد الصافي البعيد عن التثليث وأمثاله؟! الموقف جليّ واضح أمر من عند الله :
( .... فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ )
نعم ! تولوا ! فنعلن بصورة حاسمة فاصلة : " بأنَّا مسلمون " ولا شيء غير ذلك .
وهكذا انتهى الحوار أيام محمد r : دعوة وتبليغ ، وحجة ووحي ، ثبات الدعوة الإسلامية على مفاصلتها ووضوحها ، وإدبار أهل الكتاب .
فهل يمكن أن ينتهي الحوار اليوم على صورة أخرى إلا أن يكون هنالك تنازل ؟! وأين هو الحوار وأهل الكتاب يعملون كل وسائل التدمير والفتك بأرواح مئات الألوف من المسلمين في جميع أنحاء الأرض ؟! وأين هو الحوار ، والتاريخ يحمل أبشع جرائم أهل الكتاب بالمسلمين في الأندلس والحروب الصليبية والهند وشمال أفريقيا ووسطها وفي كل دار من دور الإسلام .
أين الحوار ؟! والمسلمون مستضعفون بين هزائم وفتن وهوان ؟! الحوار يحتاج إلى نفسية قويَّة وقضية حق ، وبلاغ فاصل حاسم ! إنه ليس باب مجاملات ومساومات وتنازلات !
الحوار في مفهوم الإسلام وسيلة للدعوة والبلاغ . إنه يبتدئ بإعلان الحق للقضية ، بإعلان القضيَّة بصورتها التي تمثَّل الحق ، ثمَّ يعرضها مع البيَّنة والحجَّة ، ثمَّ يتلقَّى الإجابة من الطرف الآخر بالقبول أو الرفض . ويمكن معاودة الإعلان والعرض ، وزيادة الحجج والأدلة حتى يتيسَّر طريق الإقناع ، وحتى يعذر المسلم نفسه بين يدي الله يوم القيامة ، وحتى تقوم الحجة على الضالين في الدنيا والآخرة . ثم ينتهي الحوار بإعلان الموقف الفاصل الحاسم :
( ... فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ )
( ... فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ )
الحوار بالنسبة للدين يختلف عن الحوار في قضايا التجارة ومصالح الدنيا . قضايا الدين قضايا حق تقرَّر مصير الإنسان في الدنيا والآخرة . إنها كلها تحمل الحقيقة الكبرى في الكون ، تحمل أكبر وأخطر قضيَّة في حياة كل إنسان ، وأكبر قضيَّة وأخطرها في الكون كله ، دونها أي حقائق جزئية أخرى .(/2)
لقد ظهرت الدعوة إلى حوار يدور بين رجال من المسلمين ورجال من الأديان الأخرى قبل عقود ، تحت شعارات عدة . ولقد رافق هذا الاتجاه نماذج متعددة من الأدب نثراً أو شعراً تدعو إليه . وانتشرت شطرة من بيت شعر تقول : " ... إن النصارى إخوة للمسلمين "!
ولقد نشط النصارى في بلاد الشام خاصة نشاطاً واسعاً من خلال الدعوة إلى هذا التقارب ، تدعمهم دول أجنبية متعدّدة استطاعت أن تتسلل إلى قلب الخلافة الإسلامية من خلال هذا الدعم . ورافق هذه الدعوة دعوة أخرى ترفع " العروبة " شعاراً بدلاً من " الإسلام " ، ودعوة تنادي بأن لا يكون للدِّين تدخل في الحياة . ونالت هذه الدعوات إعلاماً واسعاً جداً في الصحافة والندوات والمظاهرات والأناشيد . وحسبك هذا النشيد :
مِنَ الشَّامِ iiلِبَغْدانِ
إلى مِصْرَ iiفَتَطْوانِ
ولا دِينٌ iiيُفَرِّقُنا
بِعَدْنَانٍ وغسَّانِ ...
... بلادُ العُرْبِ أَوْطاني
ومِنْ نَجْدٍ إلى iiيَمنٍ
فلا حدٌّ iiيُبَاعِدُنَا
لسانُ الضَّادِ iiيَجْمَعُنا
وغنَّى المسلمون هذا النشيد وردَّدوه في كثير من أصقاعهم ، وغنَّاه الأطفال في مدارسهم . وتنازل الكثيرون عن إسلامهم ، ولم يتنازل النصارى عن نصرانيتهم بل زادوا تمسُّكاً بها ، وارتباطاً مع القوى النصرانيَّة الأوروبيّة والأمريكية . وفي الوقت نفسه ، وهم يتعصَّبون لدينهم ، يتهمون المسلمين بالتعصَّب الطائفي . ويُصدِّق كثير من المسلمين هذه الفرية ، ويحاولون أن يتبرؤوا منها ولو بالتنازل عن بعض خصائص الإسلام وقواعده ، والمشاركة ببعض عادات النصارى ، والنصارى يزدادون تعصباً لدينهم .
وكان من أخطر نتائج هذه الدعوات المتلاحقة بزخارفها القوميَّة والإقليميَّة، والعلمانيَّة ، أن تسلّلت أفكار التنازل شيئاً فشيئاً إلى قلوب بعض المسلمين ، وأخذت تظهر على ألسنتهم بين حين وآخر ، يدعون بها إلى تنازلات واضحة عن بعض قواعد الإسلام ، وإلى تقارب مع بعض الأديان الأخرى كالنصارى وغيرهم، وأخذ هؤلاء يحاولون البحث عن قواعد فقهية يسوّغون بها دعواهم ، ويُنْزِلون الآيات والأحاديث على غير معناها الحق ، ويتهمون المسلمين بأنهم لا يعترفون بالآخر ، خلاف الحقيقة التي تقول إنَّ الآخر هو الذي لا يعترف بالمسلمين وأن المسلمين هم المعتدى عليهم .
كان من بين الدعاة من أخذ يدعو إلى عدم الإصرار على كلمة " الجزية " التي تؤخذ من أهل الكتاب ، ويدعون إلى تغيير اسمها مراعاة لشعور النصارى أو أهل الكتاب بعامَّة ، والبعض الآخر يدعو إلى زواج المسلمة من نصراني أو يهودي ، وإمامة المرأة للرجال في الصلاة تحت شعار مساواة المرأة بالرجل ....الخ، وأخذ بعضهم يدعوا إلى المساواة بين النصارى والمسلمين في أمور أخرى بتحريف آيات الله وأحاديث رسوله r . يدعون إلى المساواة فيما هو مخالف للنصِّ الصريح في الكتاب والسنَّة .
ومن خلال هذه الاتجاهات أخذت تتزايد الدعوة إلى تقارب الأديان وإلى الحوار بين رجالها وتطرح المسوِّغات لهذه الدعوة بين حين وآخر . واتخذت خطوات عملية في لقاءات بين بعض علماء المسلمين وبين بعض علماء أهل الكتاب ، بالإضافة إلى زيارات إلى الفاتيكان تحت هذا الشعار . من الصعب أن نَذْكُر كلَّ ما تمَّ في هذا الصدد ، ولكن نذكر ما صرَّح به أحد العلماء الذين زار الفاتيكان من أجل الحوار أنَّ البابا قال لهم : نحن لا نعترف بمحمد r رسولاً من عند الله . ويتساءل هذا بعد ذلك : فلماذا الحوار إذن ؟! وأقول له : اسأل نفسك لماذا هذا الحوار ! وليس هذا هدفنا بهذه الكلمة ، ولكن هدفنا هو مناقشة المبدأ ومسوِّغاته والنصح للأمَّة بما يُرضي الله .
النقطة الأولى التي يجب أن نسجِّلها هي أنه في الوقت الذي يدعو فيه بعض المسلمين إلى الحوار والتقارب مع الأديان الأخرى ، نجد الدعوة إلى الحوار بين المسلمين أنفسهم وإلى تقاربهم دعوة ضعيفة ، أو نجد أنها تُقاوم أو غير مرغوب فيها نفسيّاً ولا عمليَّاً ، مع أنَّها هي الأوْلى !
والنقطة الثانية هي أن هذه الدعوات تدور وصفوف أهل الكتاب أكثر تماسكاً وصفوف المسلمين أكثر فرقة . وهذه الظاهرة جعلت أهل الكتاب يتعاملون مع المسلمين على أساس من نهج وتخطيط يُغذِّي تعاونهم فيما بينهم لتحقيق أهداف عليا التقوا عليها ، ولا يعطّلها اختلاف أطماعهم على الغنائم من ثروات العالم الإسلامي . وفي الوقت نفسه لا يحمل المسلمون نهجاً ولا خطة يلتقون عليها لتحقيق أهدافهم الربَّانيَّة التي تغيب في عجاج الخلاف والشقاق .
عندما يأتي رجال الدين من أهل الكتاب إلى الرجل المسلم ، فإنهم لا يأتون بوازع فردي معزول عن صفّهم ، وإنما يأتون من خلال توجيه ونهج يخدم أهدافهم المعلنة وغير المعلنة ، ويقف وراءهم صفُّهم . وأما المسلم حين يستقبل منهم أحداً ينكشف عندئذ غياب التخطيط ، وينكشف تباين الآراء ويظهر التراجع أو الوهن ، وينكشف أنه وحده يحمل هواه لا قضية أمته ودينه .(/3)
والنقطة الثالثة هي أن بعض قواعد الإسلام تغيب أحياناً في ضباب هذه الدعوات وغموض مصطلحاتها ، حتى إن بعض الآيات أو الأحاديث تُردَّد هنا وهناك كحجَّة لقول القائل ، وتكاد توحي بسلامة هذه الحجة ، حتى إذا دُرِست الآية أو الحديث وعرفت المناسبة وفقهُها تغيَّرت الصورة كلها ، وتغيَّر الفقه والحكم .
والنقطة الرابعة هي أنه لا يحلُّ لنا أن نحمِّل الإسلام وفِقْهَ الإسلام ما يراه البعض من آراء تحت ضغط واقع المسلمين اليوم من وهن وهزائم واستسلام في كثير من المواقع . هنالك أمور غير قليلة في واقع المسلمين يفرضها عليهم الواقع، فلماذا يحاول البعض أن يتلمَّس من بين الآيات والأحاديث مسوِّغات تزيدنا إثماً على إثم ، وتزيدنا اندفاعاً في مسلسلات التنازل ، وتزيد من الخدر في عروق المسلمين .
لا ننكر أننا نحن المسلمين اليوم في ظلمة شديدة وفواجع وهزائم . وإننا نحاول الخروج من هذا الظلام وقد اضطرب الميزان في أيدينا وغلبت الأهواء والمصالح ، وأصبحت النجاة التي يرُومها الكثيرون هي السلامة في الدنيا ، ناسين أمر الآخرة أو غافلين عنه ، وأنه لم يعد هو المعنى الحقيقي للنجاة . الكثيرون يريدون الخلاص من الفقر ومن خطر القتل والإبادة ، ومن العدوان والظلم ، خلاصاً لا يُنجي من عذاب الآخرة .
فتوحي شياطين الإنس والجنِّ إلى بعض النفوس بأنَّ النجاة من أهوال الدنيا هي في مجاملة أعداء الله أو الركون إليهم ، ثمَّ تبنِّي أفكارهم ، ثم الدعوة إليها نيابة عنهم . لقد ظنَّ الكثيرون أنَّ هذا هو باب النجاة من صروف الدنيا وعدوان الظالمين . فهرعوا يتسابقون إلى ذلك ، كلٌّ يعلن عن موالاته أو يُسِرُّه ويعلن غيره. لقد غاب عن بال هؤلاء أن أعداء الله يعرفون الإسلام ، وأن لديهم أناساً متخصصين لذلك ، وأنهم يعلمون علم اليقين أن الإسلام يناقض ما يدّعونه.
عندما يرى هؤلاء أن بعض المسلمين قد أخذوا يتنازلون عن بعض قواعد دينهم ، أو إخفاء بعضها الآخر ، وأنهم يُخْفُون الجهاد ومعانيه ، ويبرزون السلام وأمانيه ، مشوّهين بذلك حقائق الإسلام ، وفاصلين بعضها عن بعض ، فإنهم حين يفعلون ذلك يخسرون احترام هؤلاء الأعداء ، ويخسرون نصر الله وتأييده ، فيخسرون بذلك الكثير الكثير ، ويخسرون أسباب النجاة والنصر . أولئك الذين يركنون إلى أعداء الله يخسرون كل شيء . واستمع إلى قوله سبحانه وتعالى :
(فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ ) [ هود : 112-113]
وأخيراً أتساءل وأدعو غيري ليتساءل ويفكر : هل يُعقل أن يبعث الله لعباده أدياناً مختلفة تتصارع فيما بينها ، والله يريد أن يهدي عباده إلى الحق الذي لا يتبدّل ؟! فالدين عند واحد هو الإسلام دين نوح وإبراهيم وموسى وعيسى وجميع الأنبياء والرسل ، دين واحد :
( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ) [ آل عمران : 19]
وكذلك :
( وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ )
[ آل عمران : 85]
هذا هو الحقُّ من عند الله يقبله القلب ويؤمن به . وإلى ذلك ندعو ونبلِّغ، ونعلن بصورة حاسمة فاصلة !
فالإسلام أعطى لأهل الكتاب من يهود ونصارى حقوقهم العادلة في ظلِّ حكم الإسلام . ولم يجدوا في تاريخهم كله أرحمَ ولا أعدلَ من الإسلام . ولكن الفتنة تقلب الحقائق وتتيه بها النفوس ، وتثور العصبيات الجاهلية لتحرف الناس عن دين الله الحق الواحد ، دين الإسلام(/4)
مؤتمن على صندوق ويأخذ منه
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ... الفهرسة/ المعاملات/الوديعة والعارية
التاريخ ... 5/4/1424هـ
السؤال
أعمل في وحدة عسكرية أمين صندوق، وآخذ أحياناً من المبلغ الذي بالصندوق، مع العلم أن المسؤول عني قد أعطاني الضوء الأخضر بذلك، ومع أنه لم تتم مساءلتي عن أي شيء بخصوص النقص الذي يحصل بالصندوق أحياناً، وأنا في حالة العجز؛ بل يتم تصحيح الوضع عن طريق المسؤول عني، وتنتهي (السالفة) دون أي شيء يذكر، وأعمل أميناً للصندوق منذ أربع سنوات تقريباً، وقد أخذت منه مبالغ كبيرة، ما رأي سماحتكم في ذلك، وجزاكم الله ألف خير.
الجواب
عملك هذا حرام لا يجوز لك بأي حال، ومسؤولك المباشر الذي أعطاك الضوء الأخضر شريك لك في الإثم ولا شك، فأنت قد أخذت مالاً بغير حق، وغذيت به نفسك وأهلك وولدك، وفي الحديث : "إنه لا يربو لحم نبت من سحت إلا كانت النار أولى به" رواه الترمذي (614) من حديث كعب بن عجرة – رضي الله عنه- ، ولكن من رحمة الله أن الذنوب مهما عظمت تكفرها التوبة الصادقة، قال تعالى: "قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ" [الزمر:53]، ويقول سبحانه: "وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى" [طه:82]، ويقول النبي – صلى الله عليه وسلم – : "التوبة تجب ما قبلها" ذكره الألباني في السلسلة الضعيفة (1039) ولعل الذي جرّأك وصاحبك على هذه الفعلة أن ما في الصندوق مال عام ليس لأحد بعينه، حيث كل موظف يأخذ استحقاقه، ولكن الحق بخلاف ذلك، فإن الأخذ من المال العام أعظم من الاختلاس والسرقة من المال الخاص لآحاد الناس، فالريال الواحد من هذه السلفة المتبقية في الصندوق حق مشاع لكل منسوبي هذه الدائرة دون تخصيص أحد بعينه، ومن لازم صدق التوبة إعادة الحق إلى محله، فعليك أن تعيد المبالغ التي أخذت بغير حق إلى الصندوق، فإن كان يلحقك وصاحبك أذى أو ضرراً بذلك لاكتشاف الأمر؛ فلتحاولا أن تقدما بقيمة المبلغ من الأعيان ما قد تحتاج إليه هذه الدائرة كتبرع، وإن تعذر ذلك فأخرجه إلى الفقراء والمساكين، ويكفيك أن تدفعه إلى الجمعيات الخيرية؛ كجمعية تحفيظ القرآن، أو البر ونحو ذلك، وعليكما بالتوبة النصوح قبل أن يأتيكما الموت فتندمان، ولات ساعة ندم. أحسن الله لنا ولكم الختام، أمين.(/1)
مؤسسات العمل الإسلامي والتنمية البشرية
د. خالد بن عبدالرحمن العجيمي*
مفهوم مؤسسات العمل الإسلامي
أولاً : العمل المؤسسي : القصد من المؤسسة هو تأطير العمل الجماعي الذي تقوم به مؤسسة ذات شخصية اعتبارية تبني هيكلها على أساس الالتزام بمبدأ الشورى وتوزيع الأعمال والتخصصات ، ووضع السياسات والبرامج والصلاحيات الإدارية والمالية على مجالسها الإدارية ولجانها الفرعية المتخصصة مع فرق العمل الميداني المتكاملة .
من هذا التعريف تخرج المؤسسة من مفهوم العمل الفردي الذي غالباً ما يتسم بالضعف وسوء التخطيط والارتجال والفردية . وقد أثبتت تجارب العمل الإسلامي أن الفردية في إدارة كثير من العمل الدعوي والتنموي هي السائدة . بل قد تستبد الفردية أحيانا بكامل المؤسسة فيصير أمرها إلى فرد واحد مستقل عن رأي الجماعة وشورى المؤسسة مما يولد النفرة بين القلوب ن ويفضي إلى التنازع والفشل .
وبالجملة فإن إشاعة ثقافة العمل المؤسسي هي العاصم من تضخم الفردية والعشوائية والرتابة .
ومن النقاط التي ينبغي مراعاتها لقيام العمل المؤسسي :
وضع هيكل تنظيمي محكم .
تحديد الواجبات والحقوق والصلاحيات الإدارية والتنفيذية .
التدريب على العمل المؤسسي وإشاعة ثقافة العمل الجماعي .
إشاعة روح الحوار والتناصح والتقويم الدوري المستمر .
ثانياً : مؤسسات العمل الإسلامي :
نشأت مؤسسات العمل الإسلامي لسد الفجوة في مجالات العمل الدعوى الإنساني والاجتماعي والثقافي والتربوي . ففي الجانب الإغاثي وهو الجانب الإنساني الذي يعد الركيزة الأولى للعمل الخيري ويتمثل في تقديم الإغاثة العاجلة ، وإعانة الفقراء ، وحفر الآبار وتقديم الخدمة العلاجية وغيرها من الأعمال الإنسانية ، أما الجانب الذي يتعلق بالناحية الاجتماعية والتربوية والثقافية والدعوية فيتمثل في كفالة الأيتام ، وإنشاء المدارس ، وبناء المساجد والمراكز الإسلامية ، وكفالة طلاب العلم ، وطباعة المصحف ونشره ، وطباعة وتوزيع الكتب النافعة . كذلك تهتم المؤسسات الإسلامية بإقامة الدورات الشرعية وتسيير القوافل الدعوية .
وبصفة عامة فإن المؤسسات تسعى عبر نشاطاتها المتنوعة إلى تقوية الإيمان في نفوس المسلمين وذلك عن طريق تعليمهم أمور دينهم عقيدة وشريعة وتحصينهم ضد الدعوات الضالة والمناهج المنحرفة والنظريات الباطلة .
كما تحرص المؤسسات بشكل استراتيجي على الوقوف إلى جوار ضعفاء المسلمين عند نزول المحن والمصائب والكوارث كالفيضانات والمجاعات والحروب والأوبئة الفتاكة حيث تقدم العون الإغاثي فتواسي آلام المصابين وتداوي جراحهم ، وتخفف مصابهم .
كما تهدف المؤسسات إلى توسيع دائرة المنتمين للإسلام بدعوة غير المسلمين إلى الدخول في الإسلام .
هذا وتتخذ المؤسسات الإسلامية وسائل متنوعة وأساليب متعددة مما يحقق في المحصلة النهائية تكامل الجهود وتناسق العطاء وتأكيد بعضه بعضا ، فالتنوع في الأساليب لا يخلق تنافراً بل يؤسس تكاملاً وتعاوناً وتعاضداً خاصة إذا حرص القائمون على المؤسسات على تبادل الخبرات والمعلومات ، وسد الثغرات هنا وهناك سواء كان ذلك بالمال إذا دعا الحال ، أو بالفكرة والتوجيه والرأي ، خاصة في أوقاتنا الحرجة هذه بسبب توالي المصائب وكيد الأعداء ، وقلة النصير .
لكل ذلك فإن المؤسسات الإسلامية تقوم بجهود مباركة لا تخطئها العين المنصفة ، غير أن النقص من طبيعة البشر ، والكمال لله وحده ، لذلك فإن مؤسساتنا الإسلامية يجب ان تسلك وتشجع ثقافة المراجعة والنقد الهادف ، لتصحح مسارها وتجدد حياة فكرها وشعورها ، لتصبح خياراً مشجعاً للبلاد التي تعمل فيها ، والشعوب التي تستهدفها بالدعوة والعمل الخيري ، خاصة في ظروف المتغيرات الحالية والمتوقعة مما يطلب خططاً متجددة وبرامج ذكية تخرج بها من ضيق البلاء إلى سعة الرجاء .
ثالثاً:
مفهوم تنمية الموارد البشرية
لقد وردت تعريفات كثيرة لمفهوم تنمية الموارد البشرية كل مفهوم منها يركز على جانب ويغفل جوانب أخرى فهناك تنمية الموارد البشرية في الجانب الاقتصادي والاجتماعي والإداري والثقافي والاستثماري .
وقد قام الدكتور جمال محمد أحمد عبده باستقصاء معنى التنمية الواردة في القرآن الكريم فوجد الباحث باستقصائه مرادفات كثيرة للفظ التنمية ورد منها في القرآن الكريم أحد عشر مرادفاً بالإضافة إلى ما ورد في السنة الصحيحة 1 .
أول المرادفات التي حصل عليها هي ( التزكية ) قال تعالى ( خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها ) 2 .
أما ثاني المرادفات فهو (الإنبات ) قال تعالى ( قتقبلها ربها بقبول حسن وانبتها نباتاً حسنا ) 1.
أما ثالث المرادفات هو ( التربية ) قال تعالى ( وقل رب أرحمهما كما ربياني صغيرا )2 .
ورابع المرادفات هو ( التكثير ) قال أو ( التكاثر) قال تعالى ( أعلموا إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد )3.(/1)
خامس المرادفات هو ( التثمير ) قال تعالى ( انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه )4.
سادس هذه المرادفات هو ( التنشئة ) قال تعالى ( ثم أنشأنا من بعدهم قروناً آخرين )5 .
ومن خلال هذه المفاهيم حدد الدكتور جمال عبده مفهوم الموارد البشرية في المنهج الإسلامي بقوله " كل أفراد المجتمع الإسلامي هم من الموارد البشرية ، الكامنة والفاعلة في آن واحد ، إذ إن لكل منهم وجهين ، أحدهما يكون فيه مورداً كامنا تنميته والأخر يكون فيه فاعلا " لتحقيق أهداف المجتمع النهائية ( الهدف من وجود الإنسان )6 والأهداف الإنسانية ( عمران الأرض وأداء الحقوق )7
رابعاً :
أهمية تنمية الموارد البشرية في المنظمات الخيرية وأساليب تقييمها
وبناء على تعريف بعض الباحثين فإن العمل الخيري يحتاج إلى جميع أفراد المجتمع الإسلامي رجالاً ونساء شيباً وشبابا صغارا وكبارا في دعمه مادياً ومعنوياً .
ومن هنا برزت أهمية توظيف العنصر البشري بكل فئاته وأنواعه وقدراته واستعداداته وإمكاناته لخدمة العمل الخيري وتطويره والارتقاء به لسد احتياجات المسلمين من جميع الجوانب الاقتصادية والتعليمية والتربوية والصناعية والزراعية والاجتماعية والصحية . لذلك فالعنصر البشري يعد من أغنى الموارد التي تملكها المنظمة لأن قوة أي منظمة تستمد من قوة رجالها لامن قوة خططها أو لوائحها أو أنظمتها أو مواردها المالية ولا سيما إذا وجدت القوى البشرية المدربة التي تستطيع تسخير هذه الإمكانات لتحقيق أهداف المنظمة الخيرية وقد " أصبحت الإدارة الحديثة مؤمنة بأنه إذا كان نجاح المنظمة مرهونا بتحقيق أهدافها فإن أفراد القوى العاملة هم الوسيلة لتحقيق هذه الأهداف ، وحتى تزدهر وتتطور المنظمة فإن عليها أن تعيد ترتيب أولوياتها وان تتبنى مدخلاً بناء وفعالا لإدارة الموارد البشرية يقوم على تكوين فريق متكامل من العاملين لديهم الخبرة والمهرة ولديهم أيضا الرغبة الاختيارية في العمل بكفاءة ويتوفر لديهم الحافز لرفع كفاءتهم الإنتاجية ويشعرون بالرغبة في البقاء في المنظمة والولاء لها ويتأكد ذلك بأهمية سعي المنظمة للإبقاء والمحافظة على قوة عاملة مستقرة وتقوية جهود أعضائها بطريقة إيجابية وبناءة . 1
وبناء على ذلك سنركز على تنمية نوعين من القوى البشرية التي لها صلة وثيقة ومباشرة بالعمل الخيري وهذا لا يعني عدم اهتمامنا بباقي فئات المجتمع ولكن لصلة هذين النوعين بالمنظمة الخيرية وعملها فهما في أشد الحاجة إلي حسن توظيفهما والاستفادة منهما للقيام بالعمل الخيري على أكمل وجه .
وهاتان الفئتان هما :
فئة الموظفين
فئة المتطوعين
وسنفصل القول عند كل فئة حسب نوع عملها ومسؤولياتها والمهام المطلوبة منها
ضرورة تطوير الموارد البشرية :
وبناء على الاحتياجات الفعلية للعمل الخيري التي تزداد يوما بعد يوم فإن ذلك يتطلب إعداد كوادر بشرية قادرة على الإبداع والابتكار في مجال العمل الخيري حتى تتعدد روافد العطاء لأنه إذا لم يكن هناك إبداع في عرض مشاريع العمل الخيري بمختلف صوره فلن يكون هناك إقبال من قبل الناس لدعمه مادياً ومعنوياً ، وحتى يظهر العمل الخيري بصورة مقبولة ومتحسنة من الناس ويتركون دعم العمل الخيري . لذلك كان لا بد من الاهتمام بالعنصر البشري حتى يقدم العمل الخيري في صور وأشكال تتناسب مع التطور الحاصل في مختلف الأماكن والجوانب .
وسائل التطوير :
ولتطوير العنصر البشري والارتقاء بأدائه اليومي هنالك وسائل متعددة تتمثل في الآتي :-
التدريب :
يعد التدريب جزءا من تنمية الموارد البشرية التي تهدف إلى زيادة المعلومات وتنمية المهارات وتعديل الاتجاهات لدى الفئة العاملة في مشروع ناجح ، وللأسف فإن هذا الجانب التدريبي معطل لدى العاملين في العمل الخيري رغم تعاملهم مع مختلف شرائح المجتمع .
1- وللتدريب تعريفات كثيرة منها ( كل جهد إداري يؤدي إلي إمداد العاملين بالتعليمات والإرشادات والتوجيهات والمعلومات بالشكل أو الأسلوب الذي يضمن إلمامهم بدقائق عمل معين وظروفه أو من شأنها أن تمدهم بمهارات فنية أو علمية أو سلوكية تمهد المسيرة نحو تحقيق أهدافهم وأهداف المنظمة) 2
وتعريف آخر هو ( تلك الجهود الهادفة إلى تزويد الموظف بالمعلومات والمعارف التي تكسبه مهارة في أداء العمل أو تنمية وتطوير ما لديه من مهارات ومعارف وخبرات بما يزيد من كفاءته في أداء عمله الحالي ، أو بعده لأداء أعمال ذات مستوى أعلي في المستقبل .1
ونظرا للتطور والتوسع الهائل في مجال العمل الخيري لا بد من التدريب حتى يتكافأ مع هذا التطور الجاري ورغم أن التدريب أصبح اليوم مكلفاً مادياً ويستغرق وقتا وجهداً كبيرين إلا أن المنظمات الخيرية بحاجة ماسة إليه وقد شعرت بعض المنظمات الخيرية بأهميته فأنشأت 0 إدارة التدريب ) للاهتمام بأداء العاملين فيها وتنميتهم .
ب- أهداف التدريب في العمل الخيري :
للتدريب أهداف متعددة تبرز في الآتي :-(/2)
إحداث تغيير في طبيعة الفرد بما يحقق أهداف المنظمة .
تأهيل العامل في المجال الخيري لمواجهة التحديات الخارجية وفهم طبيعة هذه التحديات .
تحقق توزيع العاملين في المنظمة بوضع الرجل المناسب في المكان المناسب .
التخلص من حدة الإشراف إذ أن التدريب يمكن الإنسان من القيام بعمله على أحسن وجه مما يجعله أقل حاجة للإشراف عليه .
الكشف عن الأفكار الجديدة والأساليب المستخدمة في العمل .
تسهيل مهمة الإشراف على العاملين ومن ثم توجيههم بالطرق المناسبة وذلك لما يفعله التدريب في الكشف عن مواطن القوة والضعف عند هؤلاء العاملين .
توطيد العلاقة بين العاملين بعضهم ببعض وبينهم وبين رؤسائهم .
زيادة كفاءة العاملين مما يفتح أمامهم فرص الترقي ويرفع معنوياتهم.
تمكينهم من أداء أعمالهم بكفاءة حتى في حالة تغيير المديرين .
زيادة مهارات العاملين ومن ثم زيادة إنتاجهم .
ترشيد العادات السلوكية وتطوير القيم عند العاملين لنكفل لهم المحافظة على توازنهم النفسي .
ولهذا فالعامل الجيد في العمل الخيري ربما توافر فيه المهارات المطلوبة لأداء واجبه على النحو المطلوب وحتى العامل ذو الخبرة السابقة فالأول تجعله مؤهلاً لإنجاز أعماله بطريقة فعالة والثاني تجعله مطلعاً على أحداث التقنيات والمعلومات في عمله فهي تطور معلوماتهم وتنمي قدراتهم ولاسيما العاملين في المجال الخيري كي يقدموا خدمات للمجتمع المحلي والعالمي أجمع لأنهم في حاجة إلى تدريب أكثر من غيرهم ولأنهم يتعاملون مع جميع فئات المجتمع.
ج- الدورات المقترحة في العمل الخيري :
مهارات كتابة التقارير .
فن توزيع الأغذية والأدوية في موقع الكارثة .
إعداد تكاليف ميزانية الإغاثة .
فن جمع التبرعات ..
مهارات إدارة المنظمات الخيرية .
كيفية التعامل مع المتطوعين .
إدارة الاجتماعات .
بناء فريق العمل .
فن الإلقاء والتحدث العام .
مهارات تشخيص المشكلات واتخاذ القرارات .
مهارات الاتصال الفعال .
مهارات إدارة المشاريع الخيرية ومتابعتها .
فن إعداد البرنامج الخيري للمجتمع .
مهارات إقامة المعارض الخيرية.
وهذه الأمثلة على سبيل المثال لا الحصر ويمكن للمنظمة ان تنسج على منوالها حسب الاحتياج .
د- الزيارات الميدانية :
الزيارة الميدانية هي ( جولة مخطط لها بعناية لمكان خارج نطاق مكان التدريب الأساسي وتهدف الزيارة إلى إتاحة الفرصة للمتدربين للمشاهدة المباشرة للأشياء والعمليات والمواقف التي لا يمكن نقلها أو إنتاج مثيل لها في مكان التدريب 1
ويمكن للمنظمة الاستفادة من الزيارة الميدانية بإتاحة الفرصة للموظفين بزيارة أماكن النكبات والكوارث أو المخيمات أو المشاريع المختلفة للمنظمة ليشاهد بنفسه على أرض الواقع حقيقة ما يحدث فيساعد ذلك في حصوله على المعلومات والخبرات بطريقة واقعية ملموسة ، يصعب إحضار هذه الواقعة بمكانها وزمانها إلى مكان التدريب . وهذا يتيح له ربط النظريات بالتطبيق الفعلي فهذه الزيارات تنمي شخصيته وتوسع مداركه وتزيد من خبرته وتطلعه على حقيقة الموقف وكيفية معالجته فعلياً بالإضافة إلى إكسابه القدرة على التصرف السليم واتخاذ القرار إذا صادفه موقف مماثل في مكان أخر .
هـ - دراسة حالة :
هي دراسة مشكلة حقيقية مرت بها المنظمات الخيرية من خلال تعاملها مع الأحداث والنكبات ومن ثم التغلب عليها . ويمكن دراسة هذه الحالة من خلال تنظيم حلقة تضم عددا من موظفي المنظمة الخيرية المراد تطويرهم ، فيوزع عليهم تقرير شامل عن هذه المشكلة المراد مناقشتها ويحتوي التقرير على صورة واقعية ودقيقة لهذه المشكلة مبيناً كيف تم حلها ن ثم يقوم موظفو المنظمة بقراءة هذا التقرير ومناقشته من جميع الجوانب وإبداء آرائهم حوله.
ومن مميزات هذه الطريقة :
تنمية قدرة موظفي المنظمة على المناقشة المتعمقة لأحداث المشكلة .
تكوين القدرة لدى موظف المنظمة على حل المشكلات بطريقة علمية صحيحة .
تنمية القدرة لديهم لاتخاذ القرار في مواقف مماثلة .
د- العصف الذهني :
تعرف اجتماعات العصف الذهني على أنها وسيلة للحصول على اكبر عدد ممكن من الأفكار من مجموعة من الأشخاص خلال فترة زمنية قصيرة . ويتضمن هذا التعريف ثلاثة عناصر هي :
عدد كبير من الأفكار .
مجموعة من الأشخاص : يفضل ألا يزيد عدد الأشخاص المجتمعين لعرض الأفكار عن أثني عشر شخصا
الوقت القصير : فإنه لن يستغرق هذا النوع من الاجتماعات وقتا طويلاً حيث تتوارد الأفكار في مثل هذه الاجتماعات بمعدل يصل إلي مائة فكرة كل عشرين دقيقة .
وخلال هذا العصف الذهني يتم الآتي :
توليد الأفكار المبتكرة
التعرف على قدرات الأفراد الفعلية
تنمية القدرة الفعلية للتركيز في مشكلة واحدة .
شرح طريقة العصف الذهني بعدة مراحل تتلخص بالآتي :
كتابة المشكلة على شكل سؤال على لوحة كبيرة في مكان بارز للجميع .(/3)
يطلب من المشاركين أن يقدم كل واحد منهم فكرة فقط على أن يقوم أحد الأعضاء بكتابة هذه الأفكار على اللوح البارز أمام الجميع ويراعي في هذه المرحلة عدم النقد أو الاعتراض أو التقييم .
تحدد مدة المرحلة الأولى لكتابة الأفكار .
تبدأ المرحلة التالية بقراءة الأفكار فكرة فكرة ثم مناقشة مدى صلاحيتها للتنفيذ .
دراسة هذه الأفكار المتبقية مع مراعاة هذه المعايير وهي :
تكاليف التنفيذ .
جهة التنفيذ .
مدى مناسبة الفكرة لمنظمة والموظفين المتبرعين .
مدى شرعيتها وقانونيتها .
ما تحققه من ربح .
بعد دراسة الأفكار تختار الفكرة التي انطبقت عليها المعايير ليبدأ في تنفيذها .
فوائد العصف الذهني :
ولطريقة العصف الذهني في تطوير الموظفين عدة فوائد هي :
تعويدهم على التفكير والابتكار .
تكوين القدرة على اتخاذ قرار جماعي .
الجرأة على مناقشة اقتراحاتهم .
تعويدهم على احترام آراء الآخرين والانصياع لرأي الجماعة .
ز- الاستفادة من الخبراء :
تعتمد هذه الوسيلة على دعوة مسئولي المنظمات الخيرية من أهل الخبرة والتجربة في مجال العمل الخيري للاستفادة من تجاربهم وخبراتهم في مختلف الأمور التي تواجه موظفي المنظمة الخيرية سواء أكان هؤلاء الخبراء من داخل قطر المنظمة أو من خارجه .
ومزايا هذه الوسيلة :
أنها فرصة فعالة لتبادل الخبرات والمعلومات .
توسيع مدارك موظفي المنظمات الخيرية .
التنسيق بين مسئولي المنظمات الخيرية .
ح- إسناد بعض المهام بالوكالة :
والمقصود بها هو تكليف موظفي المنظمة المراد تطويرهم ببعض المهام كالإشراف بالوكالة علي بعض مخيمات اللاجئين أو حضور بعض المؤتمرات الخاصة بالعمل الخيري أو غير ذلك فيكون هذا التكليف لهذا الموظف بمثابة تطوير له في مجال عمله . وهذه الوسيلة تعد من أكثر الوسائل نجاحاً في تطوير أداء الموظف فهو يعطي من خلالها تدريبا وخبرة وصقلاً لشخصيته المهنية بالإضافة إلى إعداده ليتولى مهام وظائف أعلى .
ومن ميزات هذه الوسيلة :
توسيع أفق الموظف وتنمية مهاراته المختلفة.
اختبار مهارات القيادة والقدرة على صنع القرار في مواقف حقيقية.
تتمكن الإدارة العليا من معرفة مدى قدراته وإمكاناته.
ك- الأفلام التدريبية :
المقصود بها شرح بعض المعاني والمهارات والمفاهيم المراد توصيلها للمتدربين من خلال عرض الفيلم التدريبي . وتمتاز هذه الوسيلة بعدة ميزات منها:
إتاحة الفرصة للمتدرب في سرعة تعلمه.
إتاحة الفرصة للمتدرب لإعادة ومراجعة المادة التدريبية والعرض البطيء للأجزاء المعقدة والصعبة من البرنامج.
التركيز على النقاط الرئيسية للمادة التدريبية.
تأثيرها الجانبي على المتدربين بسبب شرح المشاهد والمؤثرات الصوتية.
أساليب تقييم أداء الموارد البشرية في المنظمات الخيرية هذا العنصر التقييمي المهم لأداء موظفي المنظمات الخيرية – للأسف – مهمل وشبه معطل في معظم المنظمات الخيرية رغم أهميته البالغة لأي عملية تطوير جادة . وقد أدى هذا الإهمال إلى التخبط في بعض المنظمات المعرفة مدى ما حققته من أهداف تسعى إليها وكذلك مدى قوة المورد البشري أو ضعفه لتطويره أو علاج نواحي الضعف فيه.
وبناء على ذلك سنتعرض لهذا المفهوم حتى تطبقه المنظمات الخيرية لترقي بموظفيها وتتعرف على مواطن الاحتياج في عملها ومن ثم تتمكن من إسناد الوظائف إلى الأكفاء من موظفيها القادرين على النهوض بأعباء هذه المهام وإهمال هذا التقييم لأداء الموظفين يعني إهدار للإمكانات البشرية المتاحة.
أ-مفهوم تقييم الأداء :
وردت عدة تعريفات توضح مفهوم تقييم الأداء ومنها هذان التعريفان:
التعريف الأول : تقييم الأداء هو ( نظام يتم من خلاله تحديد مدى كفاية أداء العاملين لأعمالهم(1)
التعريف الثاني : تقييم الأداء هو ( تحليل وتقييم أداء العاملين لعملهم ومسلكهم فيه وقياس مدى صلاحيتهم وكفاءتهم في النهوض بأعباء الوظائف الحالية التي يشغلونها وتحملهم لمسؤولياتهم وإمكانات تقلدهم المناصب ووظائف ذات مستوى أعلى . ومن ثم فتقييم الأداء يأخذ في الحسبان كلا من الأداء الحالي للعاملين وقدراتهم المستقبلية)(2)
ب – فوائد تقييم الأداء :
إعطاء معلومات وافية عن أداء الموظف بالمنظمة وللموظف نفسه حتى يتمكن الموظف من تحسين أداء عمله بطريقة أفضل لأنه إذا لم يعرف مواطن صوابه وخطأه فلن يتحسن أداءه . وبذلك تتمكن المنظمة من إيجاد برامج لتدريب وتطوير الموظف لتحسين أدائه.
تحديد مناسبة الوظيفة الحالية للفرد وتحديد إمكانية نقله إلى وظيفة أخرى وربما الاستغناء منه إن لم يكن ذا كفاءة عالية في وظيفته الحالية.(3)
تحفيز موظفي المنظمة الخيرية لشعورهم بوجود معايير دقيقة وموضوعية وعادلة تنصفهم.
إرشاد الإدارة العليا في المنظمة الخيرية وتعريفها بمستحقي العلاوات والترقيات والمكافآت من موظفي المنظمة.
تحديد الاحتياجات التدريبية والتنويرية لموظفي المنظمة في جميع أقسام.(/4)
القدرة على توزيع العمل بطريقة مناسبة على موظفي المنظمة بما يتناسب وقدراتهم واستعداداتهم الفعلية التي ظهرت في أثناء التقييم.
ج-أساليب تقييم الأداء :
هناك أساليب ووسائل متعددة لتقييم أداء الموظفين باستعمال معايير تختلف من منظمة إلى أخرى مثال ذلك:
مقارنة أداء الموظف الفعلي في ضوء المعايير التي وضعت من قبل الإدارة العليا في المنظمة الخيرية.
إجراء اختبارات مختلفة للموظفين لقياس مستوى معرفة الموظف بأساسيات عمله والخبرات التي اكتسبها من واقعه العملي.
سؤال زملائه وأقرانه في العمل عن أدائه الوظيفي . مع ملاحظة أنه عند الاستفسار ينبغي الحرص على سؤال من يمتاز بالأمانة والموضوعية.
إعداد التقارير الدورية عن أداء الموظفين بتصميم استمارة تضم قائمة منتقاة للمعايير وتشتمل هذه المعايير على :
الصفات المهنية للموظف مثل التزامه بمواعيد العمل وقدرته الإدارية ومعرفته بطبيعة العمل الذي يمارسه ودقته في أداء العمل وقدرته على تطوير عمله ومدى تحقيقه لأهداف المنظمة.
أما الصفات الشخصية فتشمل على الإخلاص في عمله والمبادرة والحماس والتعاون والولاء للمنظمة والمثابرة والتضحية.
وهناك أساليب أخرى للتقييم يمكن للإدارة العليا فيها أن تختار ما يناسبها حسب طبيعة عملها وأهدافها.
خامسا
نماذج وتجارب من نشاطات بعض المؤسسات الإسلامية في مجال التنمية البشرية
نستعرض تحت هذا العنوان نماذج من نشاط بعض المؤسسات الإسلامية في مجال التنمية البشرية خاصة دون التطرق لسائر وجوه الأنشطة التي تقوم بها هذه المؤسسات على تعددها وتنوعها.
أولا : نشاط لجنة مسلمي إفريقيا ( الكويت ) في مجال التنمية البشرية :
تأسست لجنة مسلمي إفريقيا ( جمعية العون المباشر ) في عام 1981/ 1401هـ بعد زيارة قامت بها مجموعة من المهتمين بالعمل الخيري إلى جمهورية مالاوي . ومنذ الأيام الأولى تم تحديد أهداف الجمعية ووسائلها والمتبرعين المستهدفين بالخطاب الإعلامي . وفيما يلي بيان لمقومات وأساليب تنفيذ مشروع اللجنة الخيري والدعوي :
بعض أهداف اللجنة وطرق تنفيذها :
استهدفت تنمية المجتمعات الإسلامية المهمشة في إفريقيا بمساعدتها في بناء مؤسساتها التعليمية والدينية والاجتماعية والصحية ، وتوفير الماء والكتاب والمنحة الدراسية دون وسيط بيننا وبين المحتاج مما استدعى إعداد كادر تنفيذي كبير.
رفضت الجمعية حتى مجرد النظر في المساعدات الفردية نظرا لما يتطلبه ذلك من إمكانات للبحث في دراسة كل حالة.
اعتماد الحكمة والموعظة الحسنة في الدعوة ، وتجنب الدخول في مواجهات مع الآخرين ما أمكن ذلك.
التركيز على التعليم كوسيلة أساسية لانتشال المسلمين من واقعهم والمؤلم.
التطوير :
يقول الدكتور عبد الرحمن السميط بهذا الخصوص :
عانت إفريقيا أكثر من غيرها بسبب المستعجلين على التغيير وربما ساهم هذا الاستعجال لدى بعض الدعاة على إصرار البعض على التمسك بأخطائه.
رأينا الدماء تسيل في بعض المساجد في بوركينافاسو ، ويتطلب ذلك دخول الشرطة النصارى وغير المسلمين بأحذيتهم إلى المساجد ، وصدور قرار من رئيس الجمهورية وهو غير مسلم بإغلاق هذه المساجد حفاظا على الأمن العام ، وحراستها من أن يدخلها أي مسلم للصلاة . . .! كل هذا من أجل خلاف حول الكتف في الصلاة أو الإسبال ناقشه الفقهاء المسلمون منذ مئات السنين ولم يستخدموا السكين والطوب ولا أسالوا دماء المسلمين.
مثل هذا رأيناه عشرات المرات في موزبيق وغانا والسنغال وتشاد وغيرها وهذا من ثمار المستعجلين.
من واقع تجربتنا أن هناك أفكارا ناجحة في تطوير الدعوة الإسلامية منها :
1- استهداف قبيلة أو منطقة بالدعوة الإسلامية : وشعورا منا بأن الأثر الكبير لا يتضح إلا بالتركيز في العمل فقد استهدفنا مجموعات بشرية في كل دولة وركزنا العمل فيها عن طريق بناء مركز إسلامي متكامل فيه مسجد ومدرسة ودار للأيتام ودار لتدريب النساء ودار للمهتدين ومستوصف وبيت لمدير مشروع أسلمة المنطقة والذي يكون في العادة عربيا من خارج المنطقة حتى نتحاشى الحساسيات القبيلة. . . الخ.
ومن هذا المركز يكون منطلق الدعوة للمنطقة المجاورة عبر مجموعة من الدعاة ممن يجيدون لغة القبيلة أو القبائل المجاورة ويتم تزويدهم بوسيلة نقل أو سيارة أو دراجات بخارية أو دراجات هوائية.
ونقول بتركيز المشاريع الخيرية من إفطار صائم وأضاحي وتوزيع مساعدات وبناء مساجد ومدارس وحفر آبار وكفالة أيتام في هذه المنطقة التي يتم متابعة النشاطات فيها بشكل دوري حيث يزورها مدير القطاع مرة كل شهرين وعليه أن يرسل تقارير تفصيلية عن مناشط الدعوة الإيجابيات والسلبيات في عملنا كل شهر.(/5)
وكمثال على ذلك بدأنا برنامج أسلمة قبائل الغبرا في شمال كينيا قبل تسع سنوات وكان المتوقع أن تسلم هذه القبيلة في عام 2009م ولكن الله يسر وأسلم معظم أفراد القبيلة خلال الفترة الماضية.وانتقل الهدف إلى أسلمة قبائل أخرى في المنطقة تاركين من لم يسلم من الغبراء لإخوانهم المسلمين بعد أن استطعنا بفضل الله رفع الحس الديني لدى الكثير من المثقفين من أبناء القبيلة.
2- المعاهد الشرعية : أحد أبرز أسباب نجاح مشاريع أسلمة القبائل هو إنشاء معهد شرعي لتدريس مبادئ الشرع بصورة تناسب مستوى الطلبة في المنطقة وعادة نأخذ الطلبة واحدا من كل قرية من مستويات دراسية متقاربة ( مثلا خريج الصف الثامن ) ومن أعمار متقاربة وندرسهم بطريقة الحلقات التقليدية لمدة أربع سنوات يتدرب فيها الطالب على الدعوة ضمن الظروف المحلية ، فمثلا يخرجون كل أسبوع مشيا على الأقدام مسافة 10-20كيلو مترا إلى قرى مجاورة ويقيمون الدروس في المساجد أو تحت الأشجار وقد ساهم هؤلاء الطلبة في إسلام الآلاف من الوثنيين والنصارى ونحاول نصحهم بالابتعاد عن استثارة الأطراف الأخرى قدر الإمكان.
ورغم معاناة هذه المعاهد من قلة المناهج والمراجع وعدم وجود المواصلات للوصول إلى القرى الأبعد إلا أنهم تركوا أثرا بالغا.
3- كفالة الأيتام في المراكز الإسلامية تحت إشراف تربوي هادف :
إن معيشة اليتيم لمدة 12 سنة في بيئة إسلامية نظيفة وتحت إشراف برامج تربوية يساهم في تعميق مفاهيم الإسلام في نفسه ونحاول خلال فترة إقامته معنا تحبيب الدعوة إلى الله إليه ، وغرس مفاهيم العقيدة الإسلامية ومبادئ الإسلام في نفسه.
وقد أسلمت مئات القرى التي جاء منها هؤلاء الأيتام بعد تخرجهم من هذه المراكز أو أثناء دراستهم في المراكز.
4- مركز تدريب المرأة : تتدرب المرأة في هذه المراكز على مبادئ الإسلام وقراءة وحفظ السور القصيرة من القرآن ، والخياطة والأشغال اليدوية ورعاية الطفل ومحو الأمية ، ونقبل في هذه المراكز النساء والفتيات بغض النظر عن ديانتهن ولا كونهن محجبات أولا ، ولكن من واقع تجربتنا في بعض مراكزنا فإن جميعهن يتخرجن مسلمات محجبات دون أي ضغط منا ولا إجبار ، وقد قامت الخريجات بدور فاعل في نشر الإسلام بين الجيران." أ . هـ
وهكذا تمضي جهود هذه اللجنة المباركة إلى غاياتها بتوفيق الله حيث أسهمت في التنمية البشرية والتطوير الاجتماعي للجماعات المستهدفة ببرامجها الحيوية والمتجددة دوما.
ثانيا : نشاط منظمة الدعوة الإسلامية ( السودان ) في مجال التنمية البشرية :
تكونت منظمة الدعوة الإسلامية استجابة لأمر الله الذي أوجب على عباده المؤمنين إبلاغ دينه للناس كافة والسعي لتحرير الإنسان على وجه الأرض من ربقة الشرك والضلال والتدرج به على نهج الدين القويم والتبشير بالحق والعدل هداية إلى الخير في الدنيا والآخرة ، ولقد اختارت المنظمة فور تكوينها أن يكون تخصصها التبشير بالإسلام بين غير المسلمين والجماعات المسلمة الناطقة بغير العربية.
واختارت المنظمة أن تكون القارة الإفريقية ميدانا لنشاطها باعتبار أن إفريقيا من أولى القارات التي دخلها الإسلام وكان له أثر في تشكيل وجهتها الحضارية وصياغة مجتمعاتها ، إلا أن الاستعمار حرص أن يبدل تلك الوجهة ليقطع أصولها ويطمس آثارها حتى تخلص له القارة بموقعها الخطير وشعوبها ومواردها الغنية البكر ومساحاتها الشاسعة ، ولقد واكب هذه الهجمة الاستعمارية تحرك صليبي مكثف لاستباحة القارة ومناورة المد الإسلامي المتنامي في ربوعها مستغلا الظروف الصعبة التي يعيشها إنسان إفريقيا حتى تتم استمالته بمختلف أنواع الخدمات والمعونات وفرضوا حضارة الغرب ولغاته على كثير من الأقطار الإفريقية ليطبعوا مظاهر الحياة فيها بالطابع الغربي استنادا على تفوق الحضارة الغربية في العلوم والتكنولوجيا والنفوذ الغربي في عالم السياسة والاقتصاد ، الأمر الذي اقتضى أن ينهض المسلمون لمواجهته حماية للعقيدة ونشرا للدعوة ، فكان أن اجتمع نفر من المهتمين بأمر الدعوة الإسلامية من مختلف الأقطار في رجب 1400هجرية وأجمعوا على ضرورة إنشاء كيان إسلامي متخصص للاضطلاع بعبء الدعوة الإسلامية في إفريقيا والتصدي للحملات الجائرة بذات الوسائل فجاء قرار إنشاء المنظمة في فجر هذا القرن الذي شهد صحوة إسلامية متنامية في مختلف بقاع المعمورة.
أهداف المنظمة:
حدد النظام الأساسي للمنظمة الأهداف التالية :
نشر الإسلام عقيدة وشريعة في أوساط غير المسلمين وترشيد الجماعات المسلمة القادرة على فهم عقيدة التوحيد والتعبير عن معانيها العميقة في الحياة الفردية والاجتماعية.
نشر روح التفاهم والتسامح بين الجماعات المسلمة وأصحاب الديانات الأخرى.
توجيه الجماعات المسلمة وتطويرها فكريا وثقافيا وفقا لتعاليم القرآن والسنة كمعيارين موحدين للفكر والشعور والممارسة الإسلامية.(/6)
الإسهام في التنمية الاجتماعية والاقتصادية والرعاية الصحية للجماعات المسلمة وغيرها.
وقد تبنت المنظمة منذ نشأتها نهجا متفردا لنشر الدعوة الإسلامية في إفريقيا تحقيقا للأمر الرباني باتباع الحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن بحيث تخضع أعمالها لقدر كبير من التخطيط والتنظيم والموازنة بين الحاجات والإمكانات وترتيب الأولويات حماية للجهد وتوفيرا للطاقات واستجابة لضرورات الواقع الأليم الذي يعانيه المسلمون في إفريقيا من جهل وفقر ومرض فأصبحوا عرضة لكافة الخطط الاستعمارية والتنصيرية التي تسعى لاستغلال ضعفهم وتكريس تخلفهم وتحويلهم عن قبلتهم الحضارية وسلخهم عن عقيدتهم الإسلامية فاتخذت المنظمة أسلوب العمل المتكامل الذي تقوم به الدعوة الإسلامية مصحوبة بالتنمية والخدمات الاجتماعية وفي مجالات لم يطرقها الدعاة ألا منذ عهد قريب برغم ما ورد في القرآن من تعاليم تأمر بفعل الخير وتجعله فريضة يومية في حياة المسلم . . . والمسلمون مأمورون بفعل الخير مثلما هم مأمورون بالركوع والسجود حيث قال تعالى [ يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون ]
فأصبحت المنظمة على ذلك تخدم في مختلف المجالات وتوظف خدمتها للدعوة إلى الله وإبلاغ كلمته في مجالات التعليم والشباب والرعاية الصحية والاجتماعية والطفولة ولأمومة والإغاثة والإعلام وغيرها من مجالات الخدمة الإنسانية . . ووضعت نصب أعينها أن يقوم هذا العمل على عاتق كوادر بشرية مؤهلة وعلى قدر كبير من التخصص والفهم لطبيعة العملية . التبشيرية ، بتنسيق تام مع الهيئات العاملة في حقل الدعوة على الصعيد القاري والعالمي لتوظيف الجهود الإسلامية المبذولة التي ترمي لتبصر الواقع الحضاري والاجتماعي واتجاهاته في إفريقيا.
وجماع القول إن المنظمة تتبع أسلوبا حكيما يتسم بقدر كبير من الفهم والمرونة لتطوير الوسائل المستخدمة والاستفادة من كل النظم والوسائل العصرية الفاعلة في مجالات الاتصال والتأثير.
وسائل المنظمة :
تأكيدا للمؤسسية في عمل المنظمة فقد تكون هيكلها الإداري من مجلس الأمناء والأمانة العامة تتبع لها مؤسسات فاعلة " مؤسسة دان فوديو الخيرية ، المجلس الإفريقي للتعليم الخاص ، الجمعية الإفريقية الخيرية . . ـ معهد البحوث وتدريب الدعاة . . وغيرها وهي مؤسسات تخدم التنمية البشرية في مجالاتها المختلفة ".
كما يتبع لأمانتها العامة المكتب التنفيذي ، المدير التنفيذي وتحت إدارته مكاتب البعثات الخارجية والمكاتب الخارجية ، ومكتب السودان البعثات الإقليمية ، إضافة إلى الإدارات المتخصصة : إدارة الدعوة ، إدارة تنمية الموارد ، إدارة المشروعات ، إدارة التعليم ، إدارة الشؤون الصحية ، الإدارة المالية ، إدارة الإعلام ، إدارة الشؤون الإدارية.
هذا وللمنظمة علاقات متصلة مع غالب الدول الإفريقية والدول العربية في مجالات عملها المذكورة.
ومما يجدر الإشارة إليه من أعمال هذه المنظمة الرائدة وأثرها الحيوي النافع في مجال التنمية البشرية إنشائها معهد البحوث وتدريب الدعاة بناء على رؤية استراتيجية ونظرة فاحصة معاصرة , حيث جاء في ديباجة أهدافه ووسائله ما يأتي :
أن التطور التكنولوجي والعلمي الكبير الذي انتظم العالم جعل التخصص في المواضيع ضرورة ملحة لأي عمل ناجح ومن ثم كان لا بد للمنظمة وهي متخصصة في إطار الدعوة الإسلامية في مواجهة التنصير والانحرافات العقدية أن تخصص نفسها بمؤسسة قادرة على البحث العلمي في هذا المجال الحيوي الخطير . ومن ثم أنشأت معهد متخصص في علوم التنصير وتدريب الدعاة المسلمين ذات شخصيات اعتبارية باسم معهد البحوث وتدريب الدعاة ، وهو مؤسسة غير سياسية تشجع البحث العلمي في إطار تخصصها وتجمع المعلومات وتحللها وتنشر نتائجها للإدارة التنفيذية للمنظمة أو لأي جهة إسلامية أخرى يمكنها الاستفادة من تلك المعلومات . والمعهد مقره الرئيسي في الخرطوم عاصمة السودان .
والقصد أن يكون هذا المعهد متخصصا في علوم التنصير وتدريب الدعاة والبحث العلمي في مجال تخصصه وجمع المعلومات وتحليلها ، وإصدار نتائجها مما يمكن الاستفادة من تلك المعلومات ويهدف بصورة تفصيلية إلى تحقيق ما يلي :
1. القيام بالدارسات والأبحاث الميدانية التي تعين علي وضع الخطط والبرامج لنشر الدعوة الإسلامية في إفريقيا والتصدي لكل التيارات المناوئة للإسلام والعمل علي حماية الهوية الحضارية للشعوب الأفريقية المسلمة .
2. تدريب العاملين في مجال الدعوة الإسلامية في أفريقيا سواء كان هؤلاء عاملون في منظمة الدعوة الإسلامية أو في غيرها بحيث يكونون أكثر تأهيلا ومعرفة لبيئة العمل وإدراكا لأساليب الدعوة بصورة علمية مخططة واكتسابا لمهارات تعين في العمل .(/7)
3. إنشاء مكتبة متخصصة لتجمع الكتب والمقالات والوثائق وكافة المعلومات المتعلقة بالأنشطة والدعوات الدينية في إفريقيا أو أي أنشطة معادية للإسلام وكذلك الوثائق الخاصة بالعمل الإسلامي في البلاد الأفريقية .
4. طبع ونشر الكتب والدوريات المخصصة .
5. وضع خطط وبرامج متخصصة لتدريب المرأة المسلمة الداعية .
6. التعاون مع المؤسسات المماثلة في مجال البحث العلمي المشترك وتبادل المراجع والدوريات والمعلومات .
وبعد فإن الذي تحقق من تلك الإنجازات ما كان ليتحقق لولا فضل الله تعالي ثم بجهود المخلصين من إخواننا الدعاة في معظم البلاد العربية والأفريقية ، وإنفاق الموسرين الخيرين من أهل الفضل والإحسان الذين تشهد لهم تلك الإنجازات ببذلهم وعطائهم لأجل تبليغ رسالة الإسلام وإنقاذ إخوانهم المسلمين .
ولازالت منظمة الدعوة تشق الطريق وسط عواصف من التحديات والمجابهات والمشاكل والصعوبات ، ولازالت عزيمة الدعاة قائمة ، ولازال الأمل في الله كبيرا أن تبلغ المنظمة ما تصبوا إليه.
ثالثا : نشاط الندوة العالمية للشباب الإسلامي ( السعودية ) في مجال التنمية البشرية :
موجز خطة وبرامج عمل الندوة الدعوي إفريقيا(1) :
حرصت الندوة علي تنفيذ خطة عمل تحقق رسالتها وأهدافها ، وذلك من خلال العمل علي محاور ثلاثة :
1- تنفيذ برامج دعوية لنشر العقيدة الصحيحة وتعاليم وأحكام الإسلام الحنيف بين ربوع المسلمين الذين يتفشى بينهم الجهل والبدع والخرافات وفكر الفرق الضالة ، وتشمل هذه البرامج جل الأنشطة التي تنفذها المنظمة في أفريقيا وهي: بناء وإعمار المساجد وإعادة إحياء رسالتها ، تشييد حلق تحفيظ القران الكريم ودعمها ، كفالة الدعاة و الأئمة وتنظيم الدروس العلمية الأسبوعية والدورية للوعظ والإرشاد ، ودعم المراكز والجمعيات الإسلامية لتنفيذ برامجها واستضافة وفودها بالمملكة ، التوسع في الدورات العلمية الشرعية وتطويرها بحيث تشمل المحاضرة والمسابقة والبحث والحوار إلى جانب التعليم والتربية ، تنفيذ المخيمات التربوية الشبابية والنسائية ، إمامة المسلمين في شهر رمضان المعظم ، الدعوة بالمراسلة ، التوزيع المجاني للمواد الدعوية – من مصاحف وكتب ونشرات وأشرطة – باللغات العالمية والمحلية المتاحة علي نطاق واسع ، عقد بعض المؤتمرات حول موضوعات هامة وملحة .
2- تنفيذ برامج محددة لمواجهة التنصير تسعي إلى التوعية بأهدافه ووسائله والتحذير منها ثم المساهمة – في حدود المتاح – لسد حاجات المسلمين الملحة التي يسعى المنصرون من خلالها إلى تحقيق أهدافهم ، واهم هذه البرامج : المحاضرات والدروس ، وتوزيع الكتب والنشرات التي تعالج عقائد النصارى وتوضيح زيفها ، أشرطة المناظرات ، تنفيذ بعض البرامج الإعلامية التلفازية والإذاعية ، تنفيذ البرامج التعليمية من إنشاء للمدارس الإسلامية وتقديم الدعم للكليات والمعاهد والمدارس الإسلامية القائمة ، وتقديم المنح الدراسية –في شتي العلوم الشرعية والتقنية – والمساعدات للطلاب الفقراء ، وتنظيم الدراسات التأهيلية والمهنية ، وحفر الآبار وإنشاء المشروعات الصحية والاجتماعية ، وكفالة الأيتام ومساعدة الفقراء من خلال المساعدات الفردية والاغاثية – عند النكبات الكوارث – وتيسير القوافل التنموية للأرياف والقرى ، وإقامة موائد الإفطار في رمضان وتوزيع لحوم الأضاحي .
3- تنفيذ برامج لدعوة غير المسلمين وتشمل تنظيم المحاضرات التي تعرف بالإسلام ومحاسنه ، وتوزيع الكتب والنشرات والأشرطة التي توضح اوجه الخلل في المذاهب والشرائع الوضعية والمحرفة مقارنة بمحاسن الإسلام . وتكثيف برامج الرعاية الخاصة بالمهتدين الجدد وتشمل تقديم المساعدات الفردية والعائلية وتنظيم مخيمات ودورات الإيمان .
هذا كما اعتمدت الندوة آلية في تنفيذ مناشطها في إفريقيا يتم فيها ما يلي:
مراعاة ظروف كل منظمة علي حدة وتحديد الأنسب لها من المناشط والبرامج والخدمات ، بحيث تسير القوافل إلى المناطق التي تحتاج إليها وتنشأ المساجد في المناطق التي تحتاج إليها وتقدم المنح الشرعية التقنية في المناطق التي بها نهضة علمية ، وذلك في إطار خطط مرنة قابلة للتعديل حتى خلال العام الواحد . وهكذا مراعاة الاعتدال والتوسط في المقررات والمناهج التي تنفذ في الدورات والمخيمات وسائر الملتقيات واعتماد التيسير كأصول شرعية معتبرة في ذلك .
أ - المتابعة الدائمة للعمل قبل وبعد التنفيذ ، بتقديم تقارير مفصلة بالبرامج المنفذة واوجه الصرف ، وترفع التقارير للجان متخصصة ترصد ما عليها من ملاحظات يستفاد منها في توجيه العمل والتخطيط المسبق للمناشط المستقبلية .
هذا وفيما يلي عرض سريع لأهم البرامج التي اعتمدتها الندوة العالمية لتحقيق خطة عملها المنوه عنها .
إنشاء وإعمار المساجد :(/8)
أولت الندوة اهتماما كبيرا لبناء وإعمار المساجد وإحياء رسالتها ، لما لها من أهمية بالغة في نفوس المسلمين ولأثرها العظيم في تشكيل حاضرهم ومستقبلهم ، ويبلغ متوسط عدد المساجد التي تنشئها الندوة أو تدعمها في إفريقيا سنويا (125) مسجدا بمبلغ (5.431.000) ريالا .
وعلى الصعيد نفسه تنظم الندوة سنويا جولات دعوية إلى عدد من دول إفريقيا حيث يشارك الأئمة والمشايخ في إحياء رمضان وإمامة المصلين في صلاة التراويح والتهجد.
حلق تحفيظ القرآن الكريم
حرصا على العناية بتحفيظ القرآن الكريم وتعليم علومه وقواعد تلاوته وتجويده بين الشباب المسلم ، تنشئ الندوة في إفريقيا العديد من حلق تحفيظ القرآن وتزودها بنسخ من القرآن الكريم وترجمات معانيه وتوظف لها محفظين موثوقين علما وسلوكا ، ويبلغ متوسط عدد الحلق التي تدعمها الندوة في إفريقيا سنويا (140) حلقة بمبلغ (305.600) ريالا.
كفالة الدعاة والمعلمين:
نظرا للحاجة الماسة في إفريقيا إلى أكفاء يقومون بتعليم الناس أصول وتعاليم دينهم من خلال دروس يومية أو أسبوعية أو دورية تقوم الندوة بكفالة عدد من الدعاة الموثوقين سنويا في المناطق التي يثبت فيها حاجة ساكنيها للدعاة المتفرغين ، كما يتم كفالة بعض المعلمين لتعليم الطلاب تعاليم الدين الإسلامي الحنيف ، ويبلغ متوسط عدد الدعاة الذين تكفلهم الندوة في إفريقيا سنويا (79) داعية بمبلغ (151.300) ريالا.
القوافل الدعوية والتنموية:
تعد القوافل الدعوية إحدى الوسائل العملية الهامة التي تقوم بها الندوة لنشر الإسلام ، وتوجيه العامة – في القرى والأرياف – إلى نهج الإسلام الحنيف في الأمور الشرعية والحياتية والاجتماعية ، كتقديم العلاج الطبي والإغاثي وبرامج الأمومة والطفولة والخدمات البيطرية والزراعية وغيرها.
كما أن دعوة غير المسلمين تمثل جزءا هاما من برنامج القافلة ، ويبلغ متوسط عدد القوافل التي تسيرها الندوة إفريقيا سنويا (17) قافلة بمبلغ (215.700) ريالا.
دعم المراكز والجمعيات الإسلامية:
تتعاون الندوة مع أهم وأوثق الجمعيات والمراكز والمؤسسات في إفريقيا وتقدم الندوة من خلالها الدعم للشباب في تلك المناطق. ويبلغ عدد المراكز والجمعيات التي تدعمها الندوة في إفريقيا سنويا (35) مركزا وجمعية بمبلغ (715.000) ريالا.
الدعوة بالمراسلة:
تستقبل الندوة الرسائل الواردة من الشباب المسلم – بعدد من اللغات المحلية والعالمية السائدة في أفريقيا – وتزودهم بالردود المناسبة لها ، وتزود "المراسلين" بفتاوى أهل العلم حول الأمور التي تشكل عليهم ، وتزودهم كذلك بالكتيبات الهادفة المناسبة ، ويبلغ متوسط عدد الرسائل التي ترسلها الندوة إلى الشباب المسلم في إفريقيا سنويا (6.100) رسالة بمبلغ (164.500) ريالا.
التوزيع المجاني للكتب والأشرطة الدعوية:
توزع الندوة العالمية للشباب الإسلامي سنويا في إفريقيا الآلاف من الكتب والأشرطة – بشتى اللغات – مجانا على المراجعين لمكاتبها فضلا عن ما يوزع من خلال المخيمات والمحاضرات واللقاءات والقوافل...الخ ، ويبلغ متوسط عدد الكتب والأشرطة التي توزعها الندوة مجانا في إفريقيا سنويا (281.000) مادة.
استضافة الوفود الإسلامية:
تتولى الندوة استضافة العديد من ممثلي ووفود الجمعيات الإسلامية خلال زيارتهم للمملكة تخفيفا لأعبائهم المالية ، ويبلغ متوسط عدد الوفود الذين تستضيفهم الندوة من إفريقيا سنويا (32) وفدا بمبلغ (3.000) ريالا.
إنشاء المشروعات التعليمية ودعمها
تولي الندوة اهتماما بالغا بالمدارس والمعاهد ومراكز التأهيل والتدريب الفني والمهني – نشرات للعلم النافع الذي يرجي – بحول الله تعالى – أن يقهر الفقر والجهل والمرض والتخلف وينتفع به شباب الأمة وبلدانهم وأمتهم ، ويواجه التحديات الخطيرة خاصة الجهل والتنصير. ويبلغ متوسط المشروعات التعليمية التي تنشئها الندوة في إفريقيا سنويا (30) مشروعا بمبلغ (2.275.500) ريالا.
المنح الدراسية:
كما هو معروف فإن برنامج المنح الدراسية مخصص لدعم شريحة هامة معينة من شباب الأمة ، تتمثل في الطلاب الفقراء النابغين الأذكياء المشهود لهم بالالتزام والجد والمثابرة في التحصيل العلمي في التخصصات التي تحتاجها الأمة بصفة عامة وبلدان الطلاب على وجه الخصوص ، ويبلغ متوسط عدد المنح الدراسية التي تقدمها الندوة في إفريقيا سنويا (1.555) منحة (2.013.400) ريالا.
المساعدات الطلابية:
وتقدم الندوة على الصعيد نفسه دعما للطلاب الفقراء لتخفيف أعبائهم المالية بالمساهمة في تكاليف المعيشة والسكن وتذاكر السفر وشحن الكتب والمساعدات في الرسوم الدراسية وغيرها من المساعدات مما يرجى أن يكون سببا في رفع معاناتهم وتسهيل أمورهم التعليمية ، ويبلغ متوسط عدد المساعدات التي تقدمها الندوة للطلاب الأفارقة سنويا (11.617) مساعدة بملبغ (234.200) ريالا.
المخيمات التربوية الشبابية:(/9)
حرصا على تحقيق المخيمات التربوية وما يرجى منها من توحيد العمل والجهد الإسلامي وتبادل الخبرات بين الشباب المسلم ، تقيم الندوة سنويا العديد من المخيمات الشبابية للمساهمة في تربية الشباب المسلم تربية إسلامية صحيحة ، وهي مخيمات متنوعة : شبابية ونسائية وهناك مخيمات الإيمان التي تنظم لرعاية المهتدين الجدد للإسلام . ويبلغ متوسط عدد المخيمات التربوية التي تنظمها الندوة في إفريقيا سنويا (32) مخيما بمبلغ (478.300) ريالا.
الدورات العلمية والتأهيلية:
تعقد الندوة في إفريقيا العديد من الدورات المكثفة لرفع كفاءة شريحة معينة من الشباب والدعاة الذي يحتاجون لرفع كفاءتهم العلمية والدعوية (من خلال الدورات العلمية والشرعية) أو إلى التأهيل في مجال ما (كاللغات والحاسوب والإدارة والسكرتارية أو حرفة من الحرف...) أو لرعاية المهتدين الجد ، ويبلغ متوسط عدد الدورات المتنوعة التي تنظمها الندوة في إفريقيا سنويا (54) دورة بمبلغ (860.500) ريالا.
شحن المطبوعات والأشرطة:
يدعم هذا البرنامج برامج أخرى مثل/ برنامج المراسلات الدعوية ، وبرنامج المساعدات الطلابية ، وبرنامج التوزيع المجاني للإصدارات المطبوعة والمسموعة والمرئية ، والمخيمات والدورات والقوافل الدعوية... الخ ، ويبلغ متوسط عدد الطرود التي تشحنها الندوة لمناشطات في إفريقيا سنويا (1.156) طردا بمبلغ (114.500) ريالا.
المؤتمرات المحلية والدولية:
في إطار حرص الندوة على تدارس أبرز القضايا على الساحة الإسلامية بتأصيل أسبابها وإيجاد الحلول لها ، يتم تنظيم عدد من المؤتمرات والمشاركة في مؤتمرات الهيئات الإسلامية والدولية المعنية بشؤون الشباب التي تقام في إفريقيا ، وتعقد الندوة في إفريقيا سنويا مؤتمرا واحدا على الأقل بمبلغ (16.725) ريالا.
المساعدات الفردية والإغاثية:
تقدم الندوة سنويا مساعدات مالية مقطوعة للأفراد المحتاجين ولدعم بعض المشروعات والهيئات الإسلامية في إفريقيا ، ويبلغ متوسط عدد المساعدات التي تقدمها الندوة في إفريقيا سنويا (32.220) مساعدة بمبلغ (416.400) ريال.
المخيمات الطبية:
تنظم الندوة سنويا بعض المخيمات الطبية في إفريقيا ، ويتم خلال فترة المخيم الكشف على المرضى وتشخيص أدوائهم وصرف العلاج اللازم ، كما يتم إجراء بعض الجراحات البسيطة في الموقع ، ويبلغ متوسط عدد المخيمات الطبية التي تنفذها الندوة في إفريقيا سنويا (3) مخيمات طبية بمبلغ (585.500) ريال.
حفر الآبار والمشروعات الصحية والاجتماعية:
تفاعلا مع ما خلفته مشكلة الجفاف والجدب والفقر في إفريقيا توسعت الندوة في حفر الآبار وإنشاء وترميم المشروعات الصحية والاجتماعية من مستشفيات ودور أيتام ومراكز تأهيل للمعاقين في المناطق الفقيرة . ويبلغ متوسط عددا الأضاحي التي توزعها الندوة في إفريقيا سنويا (6.640) أضحية بمبلغ (1.102.100) ريالا.
إفطار الصائمين:
يعد مشروع إفطار الصائمين تفعيلا لعمل الندوة الدعوي والإغاثي ، حيث يصاحب برنامج الإفطار دروس لتعليم القرآن وأداء صلاة التراويح والقيام وأخرى دعوية ، مما يضفي على شهر رمضان لمسات إيمانية وجوا روحانيا ، ويبلغ متوسط عدد الوجبات التي تقدمها الندوة في رمضان في إفريقيا سنويا (120.000) وجبة بمبلغ (498.200) ريالا.
كفالة اليتيم:
حرصا على رعاية أيتام المسلمين الفقراء وصونهم من الوقوع في براثن التنصير ، تكفل الندوة إعاشة وتعليم عدد من الأيتام في إفريقيا ، ويبلغ متوسط عددهم سنويا (604) أيتام بمبلغ (734.100) ريالا.
دعوة غير المسلمين :
بفضل من الله سبحانه وتعالى أسفرت الجهود الدعوية للندوة عن اهتداء جمع من غير المسلمين إلى الإسلام ، ويبلغ متوسط عدد المهتدين الجدد للإسلام بواسطة الندوة العالمية في إفريقيا سنويا (4.900) مسلم جديد.
مشروعات دعوية أخرى:
يضاف إلى ما سبق تقديم الندوة لمجموعة من المساعدات الأخرى مثل (كسوة العيد ، الحقيبة المدرسية ، ووجبة الحاج ، وزكاة الفطر...) وغيرها ، ويبلغ متوسط تكلفة تلك المساعدات في إفريقيا سنويا مبلغ (110.100) ريال.
نماذج لمشاريع دعوية نفذتها الندوة في إفريقيا:
1. مسجد سالم العطاس ، مساحتة (224)م2 تكلفة مبلغ (35.000) ريال ويقع بمنطقة (كونا) بدولة (غانا).
2. مسجد باعقيل ، مساحته (170) م2 تكلف مبلغ (40.268) ريال ويقع بمنطقة (انكامي ) بدولة (توجو).
3. مسجد الروضة الشريفة ، مساحته (175)م2 تكلف مبلغ (56.000) ريال ويقع بمنطقة (جروي) بدولة ( الكاميرون).
4. مسجد محمد بن زيد ، مساحته (170)م2 تكلف مبلغ (55.000) ريال ويقع بمنطقة (سنبكونس) بدولة (بوركينا فاسو).
5. مسجد الغامدي ، ماحته (600)م2 تكلف مبلغ (25.000) ريال ويقع بمنطقة (جالكعيو) بدولة (الصومال).
6. مجمع الإمام النووي ، تكلف مبلغ (450.000) ريال ، ويتكون المجمع من :مدرسة ، مسجد ، مركز كمبيوتر ، بئر ، مرافق ، ويقع بدولة الصومال.(/10)
7. مدرسة الندوة العالمية ، مساحتها (768)م2 تكلفت مبلغ (400.000) ريال وتقع بمنطقة (أوغن) بدولة (نيجيريا).
8. مجمع مريم ناظر ، تكلف مبلغ (350.000) ريال ، يتكون المجمع من: مسجد ، مدرسة ، مرافق ، ويقع بدولة مالي.
9. مجمع العصيمي ، تكلف مبلغ (2.003.500) ريال ، ويتكون المجمع من مسجد ، مدرسة ، مركز إسلامي ، بئر ، مرافق ، مكتب الندوة في تشاد ويقع بدولة تشاد.
10. مجمع دار الندوة ، تكلف مبلغ (275.000) ريال ، ويتكون المجمع من: مسجد ، مدرسة تحفيظ قرآن كريم ، بئر ، مرافق ، مكتب الندوة في تشاد ويقع بدولة تشاد.
سادسا
أنماط العلاقة المقترحة بين مؤسسات العمل الإسلامي
والجامعات في مجال التنمية البشرية والتوصيات الخاصة بذلك
تستهدف هذه الورقة في الأساس إثارة التفكير في إعادة النظر في بعض المسلمات التقليدية حول رسالة التعليم الجامعي ، ذلك أن الذين ينتقدون نمط التعليم الجامعي التقليدي إنما ينطلقون من اتهام هذا النمط بتجنبه أهم خصائصه ، ألا وهي خصيصة حاجة المجتمع لمساعدة الجامعة.
إن بعض نقاد التعليم الجامعي يتهمون الجامعات بأنها تنكبت عن الطريق ، وخذلت ثقة المجتمع فيها ، ذلك أنها بدلا من البحث عن الحقائق شغلت نفسها ببناء حصون أكاديمية لحماية المعتقدات القديمة (التربوية) ، وبدلا من أن تبتعد قليلا عن عدم الانتظام الذي يحدث في المجتمع أحيانا لتدرس على نحو موضوعي للتخفيف منه أبعدت نفيها بمسافات شاسعة عن مشكلات المجتمع الملحة حيث تشتد حاجته لمساعدتها ، وبدلا من المحافظ على استقلالها باعتباره ضرورة للجهد العقلي الأمين والمنتج فإنها دافعت بشراسة عن استقلالها باعتباره امتيازا وغاية في ذاته ، وبدلا من قيامها بتشكيل شباب قادر على حل مشكلات المجتمع في الغد ، دربتهم على الهرب من نفس المشكلات.
إن هذا النقد يفيد في أن تنظر الجامعات إلى برامجها وخططها ، أتظل تقدم الجامعة برامج تعليمية بالطريقة النمطية أم أنها تنظر إلى هذه البرامج كجزء من مشروع حضاري وتربوي أكثر شمولا واتساعا بحيث يشمل خدمة المجتمع سواء في النطاق الطبيعي أو في المجال الإنساني ، مرتبطة في ذلك بالمتجمع المحيط عضويا وموضوعيا بل وهيكليا ، سعيا إلى التخلص من واقع التخلف ، وحالات الفقر والجهل والمرض ، ووصولا إلى تسريع خطى التنمية البشرية والاقتصادية.
ثمة فرضية تقول بان حلقات مفقودة بين نتائج الدراسات والبحوث التي تجريها الجامعات وبين التطبيق الفعلي لهذه النتائج في مؤسسات المجتمع.
وانطلاقا من هذه الفرضية يجيء الدور المهم الذي يمكن أن تؤديه الجامعة من خلال المؤسسات الخيرية الإسلامية المرتبطة أصلا بالخدمة الاجتماعية والتنمية البشرية ، ومن هنا يمكن أن يتم التقويم
التعاون
1. عن أبي موسى رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا ثم شبك بين أصابعه" . متفق عليه.
2. عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى" . متفق عليه.
3. قوله صلى الله عليه وسلم : "والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه" . رواه مسلم .
4- قوله عليه الصلاة والسلام: "أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس وأحب الأعمال إلى الله تعالى سرور يدخله على مسلم ، أو يكشف عنه كربة ، أو يقضي عنه دينا ، أو يطرد عنه جوعا ، لأن أمشي مع أخي في حاجة أحب إلى من أن اعتكف في هذا المسجد – يعني مسجد المدينة – شهرا... ومن مشى مع أخيه في حاجة حتى تتهيأ له أثبت الله قدمه يوم تزول الأقدام" . أخرجه الطبراني وصحح الألياني.
التنسيق
التنسيق في الأصل ما كان على طريقة نظام واحد . وهو التنظيم . والتنسيق الذي نعنيه في هذه الدراسة هو العمل بين مؤسستين أو جهتين بحيث تتفاديا التضارب والتناقض والتكرار بين أهدافها وأساليب عملها ، وبحيث يؤديا في محصلة أعمالهما إلى نتيجة واحدة ويحققا هدفا مشتركا.
التكامل
الكمال: التمام ، والتكامل بين اثنين هو أن يكمل أحدهما الآخر ، أي هذا يكمل نقص هذا ، فإن عمل المؤسسات الإسلامية يكمل عمل الجماعات في تحقيق الأهداف ، بحيث لا يستغني أحدهما عن الآخر في نواحي تكميلية قد يعجز عنها أحدهما بطبيعته ويقوم بها الآخر بتخصصه وعنايته وإمكاناته وتجربته.
وبناء على هذه التعريفات للتعاون والتنسيق والتكامل يمكننا إدراك مدى أهمية قيام هذه الأصول التنظيمية بين الجامعات ومؤسسات العمل الإسلامي في خدمة التنمية البشرية والطفرة الاقتصادية.
برامج المشاركة المقترحة(/11)
البرامج المشتركة التي تحقق المقصد من التعاون والتنسيق والتكامل بين الجامعات والمؤسسات الإسلامية هي برامج تأخذ صفة الشراكة من خارج المجتمع الطلابي وذلك لإثراء تفاعلات الطلاب مما يساعد على نموهم بما يتاح لهم من المشاركة النشطة مع أعضاء المجتمع المحلي ممثلا في مؤسسات العمل الإسلامي خارج الجامعة ، وقد تكون هذه الشراكة ضمن الأنشطة الصيفية التي تكمل نمو الطالب المعرفي والتربوي ولاجتماعي من خلال استخدام معارفه النظرية ومهارته الفردية في خدمة مجتمعه.
وفي ذات السياق تحقق هذه الشراكة إخراج الجامعة من هم الوظيفة التعليمية التقليدية الغالب ، إلى وظيفتي البحث وخدمة المجتمع.
إن عملية التنمية البشرية أصبحت تعتمد على قواعد معرفية أصيلة وعلى قواعد التقنية الحديثة (Technology Base) ولا سبيل إلى تطبيق ذلك إلا بالتعاون والتكامل والتنسيق بين الجامعات مراكز المعرفة والتقنية ومؤسسات العمل الإسلامية المختصة والمهتمة بخدمة المجتمع.
وهذا الأمر ستكون له نتائج إيجابية على الجامعات وكذلك المؤسسات ، ذلك أن الكفاءة البحثية للجامعات ممثلة في الجانب التطبيقي من قبل المؤسسات يعد معيارا مهما من معايير الجدارة والتميز ، كما أن المؤسسات تكتسب بارتباطها بالجامعات بعدا مهنيا مطمئنا للمتعاونين معها باعتبار أن الصفة الغالبة على أنشطتها العمل الطوعي الخيري سواء كان من الممولين لمشاريعها أو العاملين في مؤسساتها.
وفي إفريقيا ومن دفع حركة الدعوة والتعليم الإسلامي التي وفرت لأبناء إفريقيا في كثير من البلدان فرص التعليم الجامعي والتي جاءت إشباعا للطلب الاجتماعي والاقتصادي والإنمائي المتزايد على التعليم العالي من بين المجتمعات الإفريقية المختلفة ، مما يتيح لهذه الجامعات حديثة النشأة أن تتبنى مشاريع إبداعية للتعاون والتنسيق والتكامل مع مؤسسات العمل الإسلامي يكون لها انعكاساتها وتفاعلها مع المجتمع المحلي المستهدف بالتنمية والتطوير.
ومن هنا فعلى الجامعات المختلفة في إفريقيا ذات النهج والرسالة المشتركة تصميم برامج للتنمية البشرية تراعي الحاجات الضرورية في محيطها الاجتماعي.
ففي بعض أنحاء من إفريقيا تحتاج الجامعات إلى برامج ومناهج تستهدف تنمية روح الإخاء الإسلامي والتدامج الاجتماعي وإشاعة ثقافة السلام الاجتماعي بين القبائل ذات الأصول المتعددة وتعديل روح التنافس القبلي إلى اتجاهات تخدم القيم الإسلامية المرعية دون التركيز على الأعراق والتباين القبلي.
وفي أماكن أخرى منها يمكن للجامعات بالاشتراك مع المؤسسات الإسلامية تصميم برامج للتطوير الاجتماعي والنهوض بالمستوى الحرفي لدى السكان في إفريقيا في المجالات الاقتصادية والتنموية المختلفة.
في حين تحتاج في أماكن أخرى بالاشتراك مع المؤسسات العمل الإسلامي إلى تصميم للتنمية البشرية من خلال برامج محو الأمية الأبجدية والثقافية وتوجيه السلوك الاجتماعي لخدمة النماء الاقتصادي وإدخالها ضمن النشاط الاقتصادي ، وتحويلها من ثقافة الاستحواذ التفاخري إلى دائرة النشاط القومي.
كذلك تحتاج بعض الجامعات في إفريقيا بالاشتراك مع مؤسسات العمل الإسلامي إلى تصميم برامج تهدف إلى إشاعة ثقافة السلام الاجتماعي في إفريقيا ، وتطوير أساليب ووسائل سبل كسب العيش ، والاهتمام ببرامج محو الأمية الأبجدية والدينية لدى المسلمين هناك. كما يمكن أن تقوم الجامعة بتطوير الثقافات المحلية وتنقيتها من المظاهر السالبة في التصور والممارسة.
هذه مجرد أمثلة ممكن النظر فيها أو البناء على منوالها ، القصد منها فتحه كوة من التفكير لاستنباط أنماط من سبل التعاون والتنسيق والتكامل بين الجامعات في إفريقيا ومؤسسات العمل الإسلامي التي تعني بحركة التعليم والبناء والتنمية.
سابعا
الخاتمة والتوصيات
وبعد فإن على الجامعات ومؤسسات العمل الإسلامي واجب تحتمه الظروف القائمة التي تواجه المسلمين في هويتهم واصل وجودهم وتهدد ثقافتهم وقيمهم وأساليب حياتهم وآدابهم وفنونهم وكل مكونات حضارتهم.
إن على الجامعات والمؤسسات وحدها إمكانية النهوض بالأمة من كبوتها ، وهي الأساس في إنفاذ ما تطرقت إليه هذه الورقة من أفكار ورؤى ، إن المؤسسات والجامعات إذا صلحت صلح أمر المجتمع المسلم وبصلاح المسلمين ينصلح الآخرون إن شاء الله تعالى ، ذلك أن ما خسره العالم بانحطاط المسلمين ما زالت آثاره قائمة وتداعياته ماثلة.
فاحرصوا بارك الله جهودكم وسدد خطاكم على إنقاذ هذه الخطوة غير المسبوقة في الشراكة بين الجامعات ومؤسسات العمل الإسلامي الخيرة.
وقبل الختام بجدر بنا أن نضع بين أيديكم التوصيات التي نعتقد أنها تفيدنا في هذا الأمر:
التوصيات:
• ضرورة إنشاء مجلس تنسيق يضم المؤسسات العاملة في إفريقيا والجامعات الإفريقية لتحديد الأهداف والخطط الاستراتيجية المشتركة.(/12)
• إقامة دورات تدريبية للعاملين في المؤسسات الإسلامية بالتعاون مع الجامعات في المجالات المتماثلة.
• تطوير العلاقة بين الجامعات ومؤسسات العمل الإسلامية عن طريق الاهتمام بالبحث العلمي وتوجيه البحوث قدر المستطاع نحو البحوث التطبيقية ذات العائد التنموي بشريا واقتصاديا على المجتمع.
• التعاون بين الجامعات والمؤسسات الإسلامية عن طريق تبادل الخبرات والمعلومات والمختصين بين الجهتين بما يحقق المشاركة الفعالة في مجالات البحث والتدريب والاستشارة.
• أهمية التعاون مع المؤسسات الإسلامية لتحديث برامج التعليم المستمر في الجامعات كما وكيفا بحيث تغطي أكبر عدد من المستفيدين ، وجدير بالذكر أن جامعة هارفارد تخدم 45 ألف طالب من الكبار يدرسون بعض الوقت كل عام.
• ضرورة شراكة مؤسسات العمل الإسلامي بمنظورها الدعوي المميز مع الجامعات للتخفيف من ظاهرة الاغتراب والاستلاب الثقافي التي تتسم بها أغلب مناهج التعليم الجامعي.
• أهمية الانخراط في عضوية المنظمات الإقليمية والعالمية للاستفادة من عضويتها لتنفيذ مشروعات ذات صبغة مشتركة ، مع الاستفادة من التجارب الناضجة لبعض المؤسسات القائمة حاليا مثل الإيسيسكو ورابطة الجامعات الإسلامية واتحاد الجامعات العربية وغيرها من المؤسسات.
• العناية بالتوثيق والإحصاء وإشاعة الشفافية في التعامل المالي ، والاهتمام بذلك مع التركيز على ضرورة إصدار النشرات الدورية والإصدارات المختلفة التي تبين ذلك الأمر مدعمة بالإحصاء والبيانات المهمة.
• المناداة بقيام دورية سنوية في شرق ووسط وجنوب غرب إفريقيا للمزيد من التفاكر والتباحث والوصول إلى أفضل النتائج والمقاصد.
• أهمية أن تضطلع رابطة الجامعات الإسلامية وتبادر لتطوير العلاقة بين الجامعات ومؤسسات العمل الإسلامي الخيري وبخاصة فيما يتصل ويخدم حركة الدعوة والتنمية في إفريقيا.
• الخروج بأمانة تنسيقية لتنفيذ ما سبق ذكره ونقترح جامعة إفريقيا العالمية بما توفر لها من إمكانيات وكوادر بشرية مقتدرة ومميزة أن تكون مقرا مناسبا لهذه الأمانة على أن تكون رعايتها والإشراف عليها من قبل رابطة الجامعات الإسلامية .
وهذا وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
قام بإعداد البحث
قسم الدراسات والبحوث بلجنة شباب إفريقيا
بالندوة العالمية للشباب الإسلامي
بإشراف د/ خالد بن عبدالرحمن العجيمي
----------------------------------
1 جمال محمد عبده ، دور المنهج الإسلامي في تنمية الموارد البشرية ، عمان ، دار الفرقان ، مؤسسة الرسالة ، الطبعة الأولى 1404هـ - 1984م ص 217 – 220 .
2 سورة التوبة – الآية 3
1 سورة آل عمران – الآية 37 .
2 سورة الإسراء – الآية 24 .
3 سورة الحديد – الآية 20 .
4 سورة الأنعام – الآية 99 .
5 سورة المؤمنون – الآية 42 .
6 المرجع السابق ص 237 .
7 المرجع السابق ص 243 – 246 .
1 د. زكي محمود هاشم ، إدارة الموارد البشرية ، الكويت ، ذات السلاسل لطباعة والنشر والتوزيع ن الطبعة الأولى 1409 ه ـ - 1989م ص 22 .
2 د. منصور أحمد منصور قراءات في تنمية الموارد البشرية ، الكويت ،وكالة المطبوعات طبعة عام 2976م ص 203 .
1 مرجع سابق د. زكي محمود هاشم ، إدارة الموارد البشرية ص 255 .
1 وليم تريس نرجمة د. سعد احمد الجبالي ، تصميم نظم التدريب والتطوير ، معهد الإدارة العامة بالرياض طبعة 1411هـ - 1990م ص 339 .
(1) مرجع سابق ، د. أحمد ماهر ، إدارة الموارد البشرية ،ص 284
(2) مرجع سابق ، د. زكي محمود هاشم ، ‘دارة الموارد البشرية ، ص 191
(3) مرجع سابق ، د. أحمد ماهر ، إدارة الموارد البشرية ، ص 289
(1) ضمن أبحاث ملتقى خادم الحرمين الشريفين الإسلامي الثقافي – جوهانسبيرج – جنوب إفريقيا ، 6-9/7/1423هـ.(/13)
مؤمن آل يس.. ودروس للدعاة إلى الله
(الشبكة الإسلامية)
دين الله رحمة، ونبي الله صلى الله عليه وسلم أعظم رحمة: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)[الأنبياء:107].
إن إنقاذ الناس من الكفر ـ بلا شك ـ رحمة، وإن إرشاد الضال رحمة، وإن التثبيت على الصراط المستقيم بعد حيرة الشك رحمة، وإن إخراج الإنسان من فتنة الشهوات وحيرة الشبهات رحمة، وإن توبة العاصي رحمة، وإن الهداية بعد العمى والضلال رحمة، وإن العلم النافع بعد الجهل رحمة.
ومن الرحمة: أن تُقدَم النصيحة للمخطئ، وأن يوعظ الغافل، وأن ينبَه الشارد، وأن يُدلَّ الناسُ دومًا على الخير، وأن يؤمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر.
وإن الداعي إلى دين الله عز وجل يكون رحيمًا بالعباد، حكيمًا، واسع الصدر، صدوقًا، مخلصًا، يبدأ بنفسه، ويتمنى الخير للناس جميعًا، ويدعوهم إلى ما أحبه لنفسه ورضيه لروحه مما فيه صلاح الدنيا وسعادة الآخرة، فهو يعيش لدعوته يرجو رحمة الله وفضله..
حبيب وطريق النور
إنه طريق النور، طريق الأنبياء والمرسلين، ومن معالمه الأساسية ما وضحه مؤمن آل يس حين قال لقومه: (اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ * وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ * إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ)[يس:20- 25].
فقد أسمع هذا الداعي الأمين الصالح الناس معتقده الصحيح المؤسس على الدليل والبرهان قبل أن يفارق الدنيا، وكأنه يريد أن يقول: ألا هل بلغت، اللهم فاشهد.
لقد شافه الداعي الأمين قومه بذلك، وصدع بالحق إظهارًا للثبات على الدين وعدم المبالاة بما يصدر عن المتعنتين، وإن إضافة الرب إلى ضمير المخاطبين في (إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ) لتحقيق الحق والتنبيه على بطلان ما هم عليه من اتخاذ الأصنام أربابًا، أي: إني آمنت بربكم الذي خلقكم (فَاسْمَعُونِ)، أي: فاسمعوا قولي واقبلوه، فإني لا أبالي بما يكون منكم بعد ذلك.
لقد كان هذا الداعي الأمين قوي الحجة، ساطع البرهان، صادق اللهجة، ثابت الجنان، عظيم الرغبة في الخير لنفسه وللناس، اعتصم بحبل الله، وأخلص العمل لله، وثابر في الدعاء إلى الله حتى حظى بالشهادة، ونال الكرامة، وفاز بالرضوان، وفرح بلقاء ربه، فقد ضاقت صدور الملحدين، وتحير أمام الحجة البالغة الحاقدون المناوئون، فوثبوا على الرجل الصالح وثبة رجل واحد فقتلوه (قيل رجموه ، وقيل حرقوه، وقيل وطؤوه بأرجلهم ) ولم يكن له أحد من القوم يمنع عنه، ويرد هجمتهم الشرسة. فلم يزالوا به حتى فاضت روحه إلى بارئها، وظل القلب الطاهر يهتف "اللهم اهدِ قومي إنهم لا يعلمون".
ياليب قومي يعلمون
وجاءته البشرى، واستقبلته ملائكة الرحمة، ووجد دارًا خيرًا من داره، وأهلاً خيرًا من أهله، لقد كان رحيمًا بالناس فرحمه رب الناس: (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ) فلما شاهدها (قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ *بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي)[يس: 26، 27]، أي بغفران ربي لي.
لقد أذهب الله عن حبيب حزن الدنيا وسَقْمهَا ونصَبَها، وهو المؤمن الناصح، فلما عاين من كرامة الله تمنى على الله أن يعلم قومه ما عاين من الكرامة والرحمة والرضوان: (قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ).
فتمنى أن يعلموا بحاله ليعلموا حسن مآله وحميد عاقبته ليؤمنوا مثل إيمانه فيصيروا إلى مثل حاله.. قال ابن عباس رضي الله عنهما: "نصح قومه في حياته بقوله: (يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ) وبعد مماته بقوله: (يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ)".[رواه ابن أبي حاتم].
إن حبيبًا وأمثاله من الدعاة المخلصين لعقيدتهم هم أشبه بالمنارات على الطريق، وفي سيرهم عبرة وعظة، والواعظ الناجح هو الذي يقتبس، وعلى طريق هذه النماذج العالية يجتهد في السير، ومن كتاب ربنا نتعلم، ومن سنة نبينا صلى الله عليه وسلم نتزود، وإن هذه الآية الكريمة فيها تنبيه عظيم، ودلالة على وجوب كظم الغيظ، والحلم على أهل الجهل، والترؤف على من أدخل نفسه في غمار الأشرار وأهل البغي، والتشمر في تخليصه، والتلطف في افتدائه، والاشتغال بذلك عن الشماتة والدعاء عليه.(/1)
ألا ترى كيف نصح حبيب لقومه في حياته وبعد موته؟ ألا نرى كيف تمنى الخير لقتلته والباغين له الغوائل والهلاك وهم كفرة عبدة أوثان؟ ألا نذكر في هذا المقام الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم وقد اشتد أذى قومه، وهو الناصح الأمين الرحيم بهم، فلم يدع عليهم في أشد الأوقات حرجًا، وكان يدعو لهم بالهداية "اللهم اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون"، "لعل الله يخرج من أصلابهم من يعبد الله".
إننا في أشد الحاجة إلى هذه المناهج العالية، وإن الدعاة إلى الله يجب عليهم أن يلزموا نفس الطريق، طريق المرسلين والصديقين في الرحمة بالناس، والرفق بهم، والتلطف في إرشادهم، وفي الوصول إلى القلوب والعقول بالقول الحسن، والكلم الطيب، والحكمة، والدليل والبرهان، ولين الجانب، والإخلاص، والصبر، وتحمل الأذى والمشقة مع حسن التوكل على الله، وتفويض الأمر إليه وحده، وإن الله عز وجل ناصر أولياءه، وخاذل أعداءه ..وقد انتقم من قوم حبيب بعد قتلهم إياه غضبًا منه عليهم؛ لأنهم كذبوا رسله، وقتلوا وليه، وما احتاج في إهلاكه إياهم أكثر من صيحة ملك، فبادوا عن وجه الأرض، فلم يبق منهم باقية، جزاء تعنتهم، ومكابرتهم، وقتلهم الناصح الأمين.(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ) (محمد:7،8 ) .
فطوبى لمن قدم إيمانًا صادقًا وعملاً صالحًا.(/2)
مؤهلات النصر في جيل الصحابة
الحمد لله وحده و الصلاة و السلام على من لا نبي بعده صلى الله عليه و سلم تسليما كثيرا
و بعد ..
إن كل أمة تعتز بتاريخها و تفخر ببطولات أبنائها و رجالاتها و إن أحق أمم الأرض بهذا الاعتزاز و الفخار هي الأمة الإسلامية لما أنجبته على طول تاريخها من رجال و أبطال يقف التاريخ أمام صفحات بطولاتهم وقفة إعزاز و فخر و ليس هذا فحسب بل لشهادة العزيز الغفار قال سبحانه و تعالى " كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ "
فسبحان من قدمنا على الناس وسقانا من الإسلام أروى كأس و جعل بيننا أفضل نبي رعا و ساس وقال لنا كنتم خير أمة أخرجت للناس .
و إن كل أمة قادة و رموزا يمثلون قيمة و يوجهون الأمة ليصعدوا بالناس إلى القمة ويبلغوا بها درجات الجنة فإن قادة و رموز المجتمع المسلم هم صحابة النبي صلى الله عليه و سلم ، من نقتهم المحن ، و محصتهم الفتن ، الذين وضعوا أيديهم في يد النبي صلى الله عليه و سلم حتى ارتفعت راية الإسلام خفاقة و انتشر الإسلام في ربوع الأرض فمن رام الرفعة و العزة استهدى بهديهم و اتبع طريقهم.
وهذه جملة من المؤهلات التي أهلت الصحابة – رضي الله عنهم – لقيادة البشرية على سبيل الاختصار لا الحصر :
1- تعظيمهم لأمر الله عز و جل و أمر رسوله صلى الله عليه و سلم
كان الصحابة – رضي الله عنهم – يسارعون إلى تنفيذ أوامر الله عز و جل و أمر رسوله صلى الله عليه و سلم عملا بقول الله تعالى " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ " ( الأنفال20 )
و قوله عز و جل " وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُّبِيناً " ( الأحزاب 36 )
فهذا موقف الصحابة الكرام – رضي الله عنهم – و استجابتهم لأمر الله عز و جل و أمر رسوله صلى الله عليه و سلم و خروجهم إلى حمراء الأسد في صبيحة يوم أحد و قد دعاهم رسول الله صلى الله عليه و سلم للخروج فخرجوا على ما بهم من جراح و ألم تعظيما لأمر الله عز و جل و أمر رسوله صلى الله عليه و سلم و سجل الله عز و جل لهم ذلك الموقف في كتابه الخالد في سورة آل عمران .
2- صدقهم – رضي الله عنهم – في إيمانهم و أقوالهم و أعمالهم
و قد وصف الله عز و جل المهاجرين الكرام بالصدق ، فقال تعالى " لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ " ( الحشر 8 )
و نزل فيهم – رضي الله عنهم – قوله تعالى " مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً " ( الأحزاب 23 )
و لا نستطيع أن ننسى موقف أنس بن النضر رضي الله عنه يوم أحد و قوله لسعد بن معاذ الجنة و رب النضر إني أجد ريحها من دون أحد قال سعد : فما استطعت يا رسول الله ما صنع ، قال أنس بن مالك رضي الله عنه : فوجدنا به بضعا و ثمانين ضربة بالسيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم ووجدناه قد قتل وقد مثل به المشركون فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه .
3- زهدهم في الدنيا و رغبتهم في الآخرة
إنما سبق الصحابة رضي الله عنهم بقوة يقينهم بالآخرة الباقية و زهدهم في الدنيا الفنية قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه للتابعين لأنتم أكثر عملا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم لكنهم كانوا خير منكم كانوا أزهد في الدنيا و أرغب في الآخرة
تصف أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فراش رسول الله صلى الله عليه و سلم فتقول " كان ينام أدما حشوه ليفا " متفق عليه وهذا عمر رضي الله عنه و هو خليفة المسلمين يرقع ثوبه و ينام على ظنفة رحله متوسدا الحقيبة و يقول هذا يبلغني المقيل.
4- شجاعتهم النادرة و استهانتهم بالحياة الدنيا
و كأن صحابة النبي صلى الله عليه و سلم تمثلت لهم الآخرة و تحلت لهم الجنة بنعمائها كأنهم يرونها رأي العين فطاروا إليها طيران الحمام الزاجل لا يلوي شيء و تعددت صور شجاعتهم فهذا عمير بن الحمام يوم بدر يقول " بخ بخ إنها الحياة الطويلة إن أنا بقيت إلى أن آكل تلك الثمرات وألقاها من يده ثم قاتلهم حتى قتل ".(/1)
وفي يوم اليمامة أغلقت بنو حنيفة أنصار مسيلمة الكذاب الباب عليهم و أحاط بهم الصحابة فقال البراء بن مالك : يا معشر المسلمين ألقوني عليهم في الحديقة فاحتملوه فوق الجحف ورفعوها بالرمح حتى ألقوه عليهم من فوق سورها فلم يزل يقاتلهم دون بابها حتى فتحه و دخل المسلمون الحديقة من حيطانها و أبوابها يقتلون من فيها من المرتدة من أهل اليمامة حتى خلصوا إلى مسيلمة – لعنه الله – 5- قطع حبال الجاهلية وموالاة الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين :
كان الواحد من الصحابة بمجرد أن يدخل الإسلام يجتهد كل الاجتهاد أن يقطع حبال الجاهلية و أن يخلع على باب هذا الدين مل ماضيه بما فيه من سوءات وظلمات
فهذا عبد الله بن أبي سلول يستأذن النبي صلى الله عليه و سلم بأن يأتي برأس والده رأس المنافقين و هذا حنظلة بن أبي عامر يطلب من النبي صلى الله عليه و سلم قتل أبيه لما آذى الرسول صلى الله عليه و سلم والمسلمين فينهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك كما نهى عبد الله بن أبي بن سلول .
6- استهانتهم بزخارف الدنيا وزينتها الجوفاء :
علم الصحابة – رضي الله عنهم – حقارة الدنيا وزيف زخارفها فاستهانوا بها فلم تبهرهم الأضواء و لم تشغلهم الشهوات ، و ما موقف الصحابي الجليل ربعي بن عامر يوم القادسية عنا ببعيد حين دخل على رستم و قد مزق النمارق و الوسائد التي وضعت له وهو إنما يمزق شهوات الدنيا الفانية وزخارفها الجوفاء .
7- حرصهم على الاجتماع و الوحدة ونبذ الخلاف :
كان الصحابة – رضي الله عنهم – من أحرص الناس على أسباب الرفعة و النصر و التي من أسبابها الوحدة و الاجتماع و نبذ الخلاف قال تعالى " وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ " ( آل عمران 103 )
قال علي رضي الله عنه السنة و الله سنة محمد صلى الله عليه و سلم و البدعة ما فارقها ، و الجماعة و الله مجامعة أهل الحق و الفرقة مجامعة أهل الباطل وإن كثروا .
8- مسارعتهم – رضي الله عنهم – إلى التوبة والإنابة إن بدرت منهم المعصية:
كما في قصة ماعز الذي أقر عند رسول الله صلى الله عليه و سلم على نفسه بالزنا فأمر بإقامة الحد عليه ثم أتت الغامدية تقر على نفسها كذلك . و كذا الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك بغير عذر حتى نزلت براءتهم من السماء فقد كان الصحابة – رضي الله عنهم – من أسرع الناس إلى التوبة و الإنابة و الاعتراف بالذنب ، كما أنهم دائما أسرع الناس إلى الخير فرضي الله عنهم أجمعين .
9- تكافلهم فيما بينهم و مواساتهم لإخوانهم
قد مدح الله عز و جل الأنصار الكرام بقوله تعالى " وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ " ( الحشر 9 )
و كانوا رضي الله عنهم يمتثلون قوله سبحانه " إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ "
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال قدم عبد الرحمن بن عوف فآخى النبي صلى الله عليه و سلم بينه و بين سعد بن الربيع الأنصاري ، فعرض عليه أن يناصفه أهله و ماله ، فقال عبد الرحمن بن عوف : بارك الله لك في أهلك و مالك " البخاري
10- اتهامهم أنفسهم دائما بالتقصير
قال تعالى " وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ " ( يوسف 53 ) هذا أبو بكر رضي الله عنه يدخل عليه عمر يوما و هو يجند لسانه فيقول له : مه غفر الله لك فيرد عليه أبو بكر قائلا : إن هذا الذي أوردني الموارد " البخاري
وهذا أبو الدرداء يصيبه المرض و يدخل عليه أصحابه ليعودوه و يقول له أي شيء تشتكي ؟ فيقول ذنوبي فيقولون له : أي شيء تشتهي فيقول الجنة "
11- أنفتهم و استعلاء الإيمان في قلوبهم
هذا الإيمان الذي رفع رأسهم عاليا و أقام صفحة عنقهم فلن تنحني لغير الله أبدا .
12- تزكية نفوسهم بالعبادات
وعى الصحابة رضوان الله عليهم عمليا من أن تطهير النفس و تزكيتها هما أساس التغيير المنشود و أساس النجاح و النصر المنشود في الدنيا و الفوز و الفلاح في الآخرة قال تعالى " قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا " ( الشمس 9 )
" قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى " ( الأعلى 14 ، 15 )
13- ثباتهم أمام المطامع و الشهوات
لا شك في أن قوة الإيمان في قلب العبد تجعله يترفع عن شهوات الدنيا و أغراضها الدنيئة فيصون العرض و يؤدي الأمانة ، و يعف عن الغلول .
14- حرصهم على الأخذ بأسباب القوة
عملا بقوله عز و جل " وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ " ( الأنفال 60 )
وقوله صلى الله عليه وسلم " المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف " رواه مسلم
15- استنصارهم بالله عز و جل و طلبهم العزة بما أعزهم الله عز و جل به :(/2)
و قد كان من هدي الصحابة الكرام أنهم يطلبون النصر من الله عز و جل عملا بقوله تعالى " وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ " ( الأنفال 10 )
و يطلبون العزة بما أعزهم الله عز و جل به من الإيمان و العمل بالإسلام و طاعة النبي صلى الله عليه و سلم كما قال عمر : إنا كنا أذل قوم فأعزنا الله بالإسلام فمهما نطلب العز بغير ما أعزنا الله به أذلنا الله " .
16- ثقتهم بنصر الله عز و جل
قال تعالى " وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ " ( الروم 47 )
و قال تعالى " وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ " ( الصافات 173 )
و قال صلى الله عليه وسلم " إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها " فكان من ثقة الصحابة الكرام بنصر الله عز و جل يتهمهم المنافقون بالغرور كما قال تعالى " إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَؤُلاء دِينُهُمْ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ فَإِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ " ( الأنفال 49 )(/3)
ما أحلاها حياة
قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ[162]لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:163].
ما أجملها حياة أخي الحبيب حين تكون كلها لله عز وجل .. يستطيع كل واحد منا أن يجعل حياته كلها لله عن طريق شيء واحد فقط وهو الإخلاص فإخلاصك في أعمالك كلها وجعلها ابتغاء وجه الله عز وجل يجعل منها بابًا لحصولك على الأجر والثواب العظيم، ولا أتكلم هنا من الأعمال الدينية فقط، بل أتكلم أيضًا عن الأمور الدنيوية والأشياء المباحة التي نفعلها يوميًا بلا نية ولا توجه.
ولعلك تتساءل الآن عزيزي الشاب. هل معنى كلامك أنني على سبيل المثال يمكن أن أحصل ثوابًا عندما ألعب الكرة أو عندما أتنزه مع أصدقائي أو عند جلوسي مع أسرتي في البيت؟
أقول وبكل صراحة ووضوح نعم
نعم تستطيع أن تحصل على الثواب والأجر حتى أثناء نومك وقبل أن تتهمني بالمغالاة دعني أسوق لك الدليل على كلامي:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: [[ وفي بضع أحدكم صدقة ]] [أي في معاشرته زوجته] قالوا: يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته وله فيها أجر قال: [[أرأيتم إن وضعها في الحرام أيكون وزر. فكذلك إن وضعها في الحلال فله بها أجر]] وهذا دليل صريح على أن الأمور المباحة تحصل بها الأجر لو نويت نية طيبة، وقال ابن مسعود رحمه الله: [[إني لأحتسب نومتي مثلما أحتسب قومتي ]] هل تأكدت الآن من كلامي أخي العزيز.
وهكذا تستطيع أن تحصل الثواب والأجر لمدة 24 ساعة في اليوم ولذلك سيكون جوابك يوم القيامة عن السؤال [[عن عمرك فيما أفنيته]] جوابًا قويًا لأنك أفنيته كله في طاعة الله ..
وسيطلب مني البعض ذكر بعض الأمثلة عن الأمور المباحة العادية التي تفعلها يوميًا بلا نية ولا قصد معين ونستطيع بنيتنا أن نحصل منها الأجر والثواب، مثلاً شيء مثل الأكل والشرب فنحن نأكل يوميًا على الأقل مرة أو مرتين، فلو نويت أنك تأكل لتتقوي على طاعة الله، وتحافظ على صحتك التي ستسأل عنها يوم القيامة، بهذه النية تستطيع أن تحصل الثواب طوال فترة تناولك للطعام،
مثال آخر وهو قضاء حوائج المنزل وشراء مستلزمات البيت لوالديك تستطيع أن تنوي في هذا الأمر أنك تطيع والديك وهذا هو بر الوالدين 'الآباء والأمهات' وأنك تسعى في قضاء حاجة المسلم وتحصل بهذا على أعظم الأجر والثواب.
وغيرها أخي الحبيب من الأمور الاعتيادية في حياتنا وأخيرًا يجب أن تعلم أن العمل الواحد يفعله الكثير من الناس ولكن تتفاوت مراتبهم عند الله عز وجل بتفاوت نواياهم فاحرص على أن تجعل نيتك خالصة لوجه الله تعالى.
وكن مثل عمر بن عبد العزيز كما وصفه سليمان بن عبد الملك حينما قال: [والله ما أعلم عمر خطا خطوة إلا ولها نية](/1)
ما أحوج العالم إلى محمد!
محمد العبدالكريم 10/11/1425
22/12/2004
يقول المفكر الانجليزي برنارد شو عن حبيبنا محمد -صلى الله عليه وسلم-: " ما أحوج العالم إلى محمد ليحل مشاكل العالم وهو يحتسي فنجان قهوة ".
إن من أهم سمات ديننا وشرع ربنا: الاختصار والاقتضاب ، وحمل المعاني في صورة كلمة محدودة أو كلمات معدودة ؛ تمتد عبر الزمان والمكان : بمفهومها وبإيمائها وبإشارتها وبمقتضاها...إلى فضاء اللا محدود من المعاني.
في قوله تعالى على سبيل المثال: ( ولا تقل لهما أف ) فالملفوظ كلمات معدودة، والمسكوت عنه معانٍ تتناول كل أنواع الأذى وهذا ما يُسمى بالتنبيه بالأدنى على الأعلى: أي دون الحاجة لذكر النهي عن الضرب والشتم، فهي معلومة ضرورية لكل مبتدئ باللغة: إنها من باب أولى، فهو اختصار لكنه يحمل من "عمومه المعنوي" ما "يستغرق" الأذى والاعتداء.
لقد كان من صفاته عليه الصلاة والسلام أنه أوتي جوامع الكلم واختصرت له الحكمة اختصاراً، بل كان ينهى عن التكلف والتقعر والتشدق في الكلام وجاء عن ابن مسعود رضي الله عنه في الحديث الذي رواه مسلم: ( هلك المتنطعون قالها ثلاثاً : المبالغون الأمور ).
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الله يبغض البليغ من الرجال الذي يتخلل بلسانه كما تخلل البقرة ).
وعقد النووي -رحمه الله- في رياض الصالحين : باب كراهية التقعير في الكلام والتشدق فيه وتكلف الفصاحة واستعمال وحشيّ اللغة ودقائق الإعراب في اللغة. إن استطلاع الشريعة يدل بكل تأكيد على منحى الاختصار في الكلام والعلاج بالإيجاز في الحديث ما أمكن، وفي وصية النبي عليه السلام لجرير بن عبد الله البجلي يتأكد هذا المعنى حين يقول له: ( يا جرير: إذا قلت فأوجز، وإذا بلغت حاجتك فلا تتكلف).
فالمبالغة في الكلام والثرثرة لا تدل في الغالب إلا على غشاوة الفكرة التي يُراد إيضاحها فلا يُستطاع إلى إيصالها إلا بكلام كثير يزيد الغبار ويحفر في البحر ولا يحقق للقارئ إلا نتائج رمادية أو ضبابية، هي كما يُقال: تحصيل حاصل، في حين اختزال المعاني في كلمات معدودة يدل على وضوح ماذا نريد على وجه التحديد.
من جانب آخر فإن تحقيق نتائج ذات مستوى متقدم يتطلب عملاً جيداً خير من كلام جيد، فلو كنا نسعى إلى تحقيق مستوى متقدم من التآلف وجمع القلوب، فإن في سيرة محمد -صلى الله عليه وسلم- كلاماً قليلاً وعملاً جباراً كثيراً تحقق في صور كثيرة، من أدلها زواجه عليه الصلاة والسلام من قبائل مختلفة استطاع من خلاله أن يقلل الشحن النفسي ضد الدعوة، فللزواج بعد آخر لا يقف عند حدود العلاقة بين الرجل والمرأة، وهذا المعنى يجب أن يتجلّى في سيرة رموز "الصحوة " على وجه الخصوص.
فنحن نجد اليوم في سيرة بعض السياسيين زواجاً لا يمكن تفسيره هكذا دون أن نستبطن من ورائه مصالح " عُليا " قد تكون شخصية، لكنها في كل الأحوال تخفي ورائها أبعاداً مختلفة.
وعلى كل حال يجب ألا نعتمد في فلسفة شخصياتنا على غرس الإكثار من الأحاديث والمقالات والكتابات المطولة والخطب المطولة والحوارات ... دون أن يكون لها رصيد تطبيقي واضح ، ورضي الله عن ابن مسعود القائل : " كنا لا نتجاوز عشر آيات حتى نتعلم ما فيهن من العلم والعمل" . فالاتجاه إلى العمل والإنجاز يجب أن يكون فورياً غير مؤجل مسبوقاً بقدر من التخطيط في زمن محدود؛ حتى ولو كان العمل كمياً فإنه يحقق "الكيف" على المدى الطويل، لاسيما إذا أُتبع بالبحث والتطوير والتجديد .
كما يجب أن تتميز شخصيات الدعاة والخطباء والمحاضرين ... بعمق اللفتات اللفظية التي توجز وتحدّ من الإسهاب. وهذا التميّز بلا شك يستدعي عملاً علمياً "وفنياً " في مؤهلات الداعية.
وللحقيقة ؛ فإننا قد مَلِلنا من وقوف كثير من الدعاة في المساجد وعلى منابر الجمعة ... يتحدثون أمام الناس فيسهبون في التذكير دونما احترام لأداء الرسالة، ولولا الوجوب الشرعي في الحضور والاستماع لما رأيت سامعاً أو حاضراً لأكثر الذين يخطبون وفي جعبتهم الهاجس الأمني والمصلحة الشخصية التي صارت فوق كل اعتبار؛ مما بدّد طاقتهم وتركيزهم في درء احتمالات نسبتها واحد في المليون .
هؤلاء يجب يدركوا أن مساحة المتاح والممكن أوسع مما أوهمهم به الشيطان، ولو أتعبوا أنفسهم قليلاً في تطوير أدائهم الفني لرسالة الجمعة، وأتبعوا ذلك توسعاً في المعلومات لأمكن من خلالهم تحقيق انجازات في مجالات مهمة وحساسة، لكن الحق أن أكثرهم ربما يلحظون الجانب الشخصي لهم ويلبسونه ثوب المصلحة الشرعية، وهكذا تدور الأيام ويحسبون أنهم مهتدون!(/1)
ما أسوأ أن يباع الدين في المزاد العلني..
عبد الرحمن عبد الوهاب
fiqhofglory@yahoo.com
سنعالج في هذا المقال ثلاث تصريحات من رموز على الساحة .. تخص الإسلام [ دين الله ].. وكان وقعها علينا فيما يشبه الصدمة .. أصابتنا بالقلق فيما يخص الوضع الإسلامي على الساحة ..
كانت بدايتها من تصريح لشيخ الازهر .. بفتح باب التنصير .. بمصر .. وفتاوي الترابي .. بحلية زواج الكتابي من مسلمة .. وكانت ثالثة الأثافي .. فتوى القذافي ,, بجواز طواف النصاري واليهود بالبيت الحرام ..
نعم لقد كان كل تصريح ألعن من اخيه .. مما يجعلنا ان نستشعر قلق حقيقي تجاه ديننا .. فأمر الدين .. له من القدسية بمكان .بألا نسمح .. بأي حال من الأحوال من النيل منه ..أو العبث به.. أو اللعب به أو ان يتحول .. الى ملطشة .. لكل من هب ودب .. ناهيك عن بيعه ..على مائدة الصليبية والصهيونية العالمية ..كما هو جلي من تصريحات الثلاثة .. وهو ما سنأتي عليه في هذا المقال
أهلا .. أهلا ..أيها السادة ..
والليالي من الفساد حبالى ... مثقلات يلدن كل عجيبة
.. وهانحن في زمن العجائب .. أيها السادة .. وأتساءل :هل بدأ عصر الردة ؟!
فيا موت ذر إن الحياة ذميمة ويانفس جدي إن دهرك هازل,,,
نعم ففي بعض الاحيان يكون الموت أرحم حالا من هكذا واقع .. كما قال الشاعر .. رب عيش أخف منه الحمام ..ايها السادة متى تعود الخلافة .. متى يعود هذا الشيخ المتوضيء خليفتنا .. ليحمي حوزة الدين .. يعود ليحمي دين الله من عبث الاقزام والمبطلين ..
حاولت أن أقلب الموضوع على كافة جهاته .. وعصرت ذهني بما فيه الكفاية .. كي أجد تبرير أو مسوغا .. أو منطلقا عقلانيا أو عقديا .. أو سياسيا .. أو موضوعيا لكل التصريحات وتسلسلها في فترة زمنية متعاقبة .. واحدة تلو أخرى..كطلقات نارية متعاقبة كان الاسلام فيها شاخصاً على منصة الاعدام .. الا انني إنني عجزت . وكأنهم دخلوا مزادا لبيع الدين بعد بيع الأوطان .. فخرج الثلاثة على الملأ يشهرون البيع في المزاد العلني.. وكأنه دين ابوهم .. وليس دين الله ..فهاهم يشرعوا لنا من الدين ما لم يأذن به ألله .. وما لم يوحى به الى محمد بن عبد الله,
,فياضيعة الدين في هذا الزمان ..
نعم أيها السادة .. لقد مضت أزمنة مزادات بيع الأنفس والأرواح لله .. بناء على الاية الكريمة ,, {إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (111) سورة التوبة
وهاقد بدأنا حلقة جديدة في مزادات من نوع جديد ألا وهي بيع الدين .. بيع الاسلام على مائدة الصليبية العالمية ..سقى الله زمان الغطاريف الاوائل ..شم الانوف من فرسان وائل .. وربيعة .. وبني شيبان .. وقريش وهاشم .. وعبد المطلب ...,
إذا ذكرت يوما غطاريف وائل فنحن أعاليها ونحن الجماهر ..
سقى الله زمان السيوف حيث كانت المزادات من نوع آخر كما قال أبي فراس ..
شرينا وبعنا بالسيوف نفوسهم ونحن أناس بالسيوف نتاجر ..
وانتهى بنا الحال الى نوع أخر من مزادات البيع ..
وكأن الحال يتطابق حرفيا مع قول امير المؤمنين على ابن ابي طالب ,,
: (( إلى الله أشكو من معشر يعيشون جهالاً ويموتون ضلالاً ليس فيهم سلعة أبور من الكتاب إذا تلي حق تلاوته ولا سلعة أنفق بيعا ولا أغلى ثمنا من الكتاب إذا حرف عن مواضعه ولا عندهم أنكر من المعروف ولا أعرف من المنكر((
كان من تضارب السيوف تظهر بارقة المجد .. وهاهي سيوف المجد قد صدئت .. واستثنت من الصراع ..وهانحن اليوم وما بقي و ما ندر من سيف يدافع عن أرض وعرض الأمة يقف الان متهما أمام القضاء العسكري ..
حتى في المفهوم الغربي .يعترفون بذلك من واقع التجربة الإنسانية ..أنه في حال عدم وجود مقاومة .. لن يكون هناك تقدما ولا حرية ولا مجدا . لا مناص فأنتم تريدون محاصيلا بدون حرث لأرض.. انتم تريدون مطرا بدون برق .. وتريدون محيطا متلاطم بدون هدير الامواج العاتية .. .فريدريك دوغلاس 1857
"If there is no struggle there is no progress, no freedom .. no glory..no way ..you want crops without plowing up the ground, they want rain without thunder and lightening. They want the ocean without the awful roar of its many waters.. Frederick Douglass, 1857
A. Alvarez quote - When there is no peril in the fight, there is no glory in the triumph.
وبعيدا عن دوغلاس وابي فراس والفاريز .. فلقد أعطى الحق المنزل .. التصور .. الرائع لحقيقة الامر ..(/1)
{ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (40) سورة الحج
هاقد وصلنا الى زمن .. صار فيه .. رفع الاذان جريمة* ..في بعض دول الاسلام .. وتلاوة القرآن جريمة يفصل مقترفها من الجامعات ..كما حدث في أداب بني سويف ..
ترى ماذا يحدث في زمن العجائب .. زمن .. تنادي منظمة مسيحية كما جاء في الغارديان البريطانية .. قانونا بفرض حظر تداول القرآن في بريطانيا . تقوم بالتبليغ عن المكتبات التي تبيع القرآن في المكتبات .. وبإبلاغ الشرطة عن الموظفين الذين يبيعون القرآن .
المشكلة ليست بنت اليوم ..فلم يكن القرآن الكريم في دائرة الاتهام منذ اليوم فقط .. بل المسألة قديمة .. لأنه كتاب المجد والثورة ..ذلك لأنه نور .. والنور فاضح ..للخفافيش .. وأبناء الظلام .. إن اخشى ما يخشاه أبناء الظلام أن توقد شمعة .. فما بالك هذا النور المبين .. أن يعري الطغاة ويعري الظالمين ختى من ورقة التوت ..
وهو مصدر العزة .. وهو .. آلية كبرى من آليات الجهاد .. فلقد قال تعالى .. {فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} (52) سورة الفرقان.. تأمل كلمة جهادا .. وكلمة كبيرا ..
فلقد ادرك الأعداء هذا منذ القدم قيمة مجد القرآن .. فقد صرح بذلك كلادستون الوزير البريطاني أمام مجلس العموم بعد الحرب العالمية الأولى قائلاً : لا نستطيع السيطرة على المسلمين والاستيلاء على بلادهم ما دام هذا الكتاب في أيديهم . مشيراً إلى القرآن الكريم بيده..
ووزير المستعمرات الفرنسي قال أمام البرمان الفرنسي في باريس عام 1932 بمناسبة مرور مائة عام على احتلال فرنسا للجزائر : (( لم يقف في طريقة فرنسة الجزائر غير هذا القرآن ))
وكما قام قبل سنتين تقريبا القسيس كوتينو فرناندو بإحراق القرآن في برنامج على الهواء مباشرة فلم نرى أي احتجاج إسلامي على هذا العمل..
انتهاء الى ماحدث في غوانتناموا بدوسه بالنعال .. واستعماله كورق حمام .. ناهيك عما وضعته أمريكا لنا من قرآن بديل .. أليس كان كل هذا حريا .. بتفعيل دور القرآن في الحياة الإسلامية . سياسيا و اجتماعيا .. وتعض الامة علي قرآنها بالنواجذ .. وتحكم به الارض وتهيمن به على العالم ..
لا ان الأمور على ماظهر من تصريحات .. تفيد ان الأمة .. بدأت تأخذ منحى آخر .. مفادة فتح مزاد لبيع الدين من خلال ما صدر من تصريحات .. والتي بصددها هذا المقال
ان التصريحات .. جد خطيرة ولن نقول ان أصحابنا الثلاثة قد تعاطوا حبوبا للهلوسة .. أو رفع عنهم القلم فخرجت تصريحاتهم وفتاويهم نكدا وعارا .. ولكن من خلال ما سلف من تقارير للاوربيين والجهات الكنسية .. العالمية .. تفيد .. ان الامر ليس هلوسة .. أو هرطقة ولم يرفع عنهم القلم .. بل هي سياسات قيد التنفيذ.. و لها ما وراءها من خبيئات... ولكن إلى أي مدى صار هذا الواقع بائساً بهذه الامة المنكوبة بأبنائها ..
نعم انها تلك النوعية التي قال الله تعالى عنها ,,
{الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} (51) سورة الأعراف
ولا يعدو الامر مثار خيانة .. لله ورسوله ..
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } (27) سورة الأنفال
* * *
نقول بداية .. لقد اكمل الله الدين وأتم النعمة .. وكان القرآن مهيمنا على الشرائع .. فمن المعلوم أن الله جل وعلا قد بعث رسوله ـ صلوات الله وسلامه عليه بدين الإسلام ،]دين الحق] . {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} (33) سورة التوبة. وجعله صلى الله عليه وسلم ـ خاتم الرسل، وجعل ملته ناسخة لجميع الملل، وكتابه مهيمنا على كافة الكتب قال تعالى: (وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه). [المائدة:48]. وكان من تمام النعمة على العباد، أن أكمل الله ـ جل وعلا ـ لهم هذا الدين، وكفاهم به عن غيره، فانتظمت بذلك مصالحهم واستقامت أمورهم على وجه التمام والكمال. كما قال تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً) .[ المائدة : 3]. ومن المعلوم أيضا ـ بالضرورة ـ أن مقتضى كمال الدين وتمام النعمة صلاحيته لكل زمان ومكان، على اختلاف الأعصار وتنائي الأمصار. وذلك لأن كمال الملة إنما كان لتحقق وصفين اثنين: الأول: كونها تفي بمقاصد التشريع العامة. والثاني: كونها صالحة لكل زمان ومكان...(/2)
فمن خلال هذا الدين يستلهم الإنسان القوة .. ويستمد من الله العون .. ويستجلب النصر من عند الله ,, { وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} (126) سورة آل عمران وان كان اعداء المسلم من أعتى جبابرة الارض .. فقط يكفيه الله .. {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ } (36) سورة الزمر
الدين قوام الحياة .. والإنسان بدون دين ما هو الا كائن هش.. سرعان ما تزروه الرياح ومن اول طلقة يهرب من الميدان .. اما مفعول العقيدة شيء آخر .. تجعله صلبا .. تزول الجبال ولا يزل .. بل هو قادر على ازالة الجبال ..من مواضعها العقيدة .. جديرة بالتضحية .. وحينما تكون راسخة رسوخ الجبال تتغير الدنيا .. وهكذا كانت الأدبيات تشير الى ذلك لدى المسلمين الاوائل .. بل والاواخر.. يقول ُخفاف بن الندّبة .. في الاصمعيات ..
لا دينكم دينى ولا أنا كافر حتى يزول إلى صراة شمام
ويتضح كيف ان ُخفاف ,,كان معتزا بدينة .. وانه لن يبدله.. ولن يكون كافرا .. وان زال جبل شمام وهو جبل لباهلة في نجد .. إلى صراة بالعراق .. والمقصود .. لن يتخلى عن دينة وان انتقل الجبل من موضعة ..
أرأيتم كيف انتصر الاسلام بالأمس .. انه بهذا النوع من اليقين .. !!
ولم يختلف التصور لدى هاشم الرفاعي ..
هاتوا لي من الايمان نورا .. وقووا بين جنبي اليقينا ..
أمد اليد اقتلع الرواسي وابني المجد مؤتلقا مكينا ..
بالإيمان .. يكون للإنسان حيثية ووجود .. وكيان .. يتعلم من حقائق الإيمان فقه المجد والثورة .. وبدون ايمان لن يصمد في ميادين الكفاح ولا صنع الأمم ولا بنائيات المجد ..
و كانت آليات الكفر .. هو نزع ذلك العنصر النشط من ضمائر الشعوب كما نوهنا عن الحرب ضد القرآن أعلاه .. حتى يكونوا بمثابة ضحايا سهلة البلع .. والهضم .. فبدون ايمان يكون الكيان الإسلامي فارغا.. ضائعا .. سهل جدا السيطرة عليه .. أما من خلال تفعيل القرآن يتفتق الواقع عن قضايا لم تكن معروفة قبلا .. {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (122) سورة التوبة حيث ارتبط الفقه بالجهاد وأهل الثغور ..
من خلال الإيمان تبدو نقاط مهمة ..
أن قيمة الإنسان الحقيقية هي فقط بإيمانه وحبه لربه ..و باعتماده على ربه ,, وكانت معادلات قديمة عرفناها من الأنبياء و العابدين .. ان من خاف الله خافه كل شيء .. ومن احبه الله أحبته الخلائق والكائنات .. ووضع له القبول في الأرض .. ومن استنصر بالله .. نصره الله .. ومن خذله الله سقط من أعين البشر .. ومن حل عليه غضب من الله فقد هوى .. { وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى} (81) سورة طه إذ أن من خرج عن دائرة الإيمان .. انتهى ككيان وكوجود ....وكإنسان بداية .. وكمكافح وثائر ومجاهد .. انتهاء .. وافتقد القيم والمبادئ العليا التي يعيش من أجلها ومن أجلها يموت ..
وكان التصوير القرآني رائع في هذا الصدد ..
{ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ } (31) سورة الحج
* * *
ألا أنه هو الدين.. القيم .. { ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (30) سورة الروم
فأما إذا كان شيخ الازهر غير مقتنع بأنه المهيمن على ما قبله من الشرائع- .. فأتاح لها العنان وشرع النوافذ والابواب ..
ليمارس الكفر من التبشير دوره على الساحة – بناء عن قناعات خاصة تتناقض عما أجمع عليه عموم السلف والخلف - فهذا شيء آخر- لتتلقف جريدة المصري المتحدثة بلسان الالقباط الخبر .. حيث فوجىْ المسلمون صباح يوم الأحد الموافق 2 أبريل 2006 بتصريح للأنبا يوحنا قلتا فى جريدة "المصرى اليوم" ، يعلن فيه على الملأ بأن شيخ الأزهر ورئيس لجنة الحوار فى الأزهر قد وقعا على وثيقة تبيح للمؤسسات الكنسية المختلفة بأن تقوم بعمليات التبشير فى مصر دون ان يتعرض لها أحد !
ترى ما الذي يحدث على الساحة .. ؟
نعم لقد كان الدين الإسلامي هو ذلك .. الدين الرائع في الوجود .. كونه .. دين الفطرة .. يعلم البشرية .. المجد والثورة والكفاح .. ضد الظلم والطغيان ..
ولقد كانت رايات الكفاح .. ضد الاستعمار على مر التاريخ .. رايات كان للإسلام فيها الدور البارز قبل ان تقطف منهم الثمرة وهو..ما عرف عنه الإسلام المقاوم ..(/3)
فكان لابد للكفر في ظل وضعنا الراهن .. واستباحته للأمة في افغانستان وفلسطين والعراق اليوم..وما يقوم به الدين من خلال فريضة الجهاد .. بالدور المناط به في تحرير الاوطان .. وتلقين الاستكبار العالمي .. الدرس .. فحاربوا الجهاد .. تحت يافطة الإرهاب ..!!وهو أمر قديم وسياسة معروفة.. قالها بن غوريون.. لن يكون سلام في المنطقة طالما الاسلام شاهرا سيفه ..
الا ان الرؤية لم تنته . فهناك اصطياد في الماء العكر من جهة اخرى حيث ثمة اطراف اخرى في الصراع. اليوم . لنرى تصريحات كنسية .. تقول يجب على الإسلام أن يتغير او يختفي عن الساحة ..
كان المشروع الكنسي العالمي .. يقول ان افريقيا نصرانية عام 2000.. وعرفوا تماما ان هناك دولا عصية على .. ان تمارس الكنيسة العالمية . بها هذا الدور .. وكان منها مصر .. فمصر .. كنانة الله في أرضه .. وهي زاوية الارتكاز في المنطقة .. وانه طالما استعصت مصر فلن يستكمل المشروع .. فضلا عن ذلك وانه اذا حدث على النقيض من جهة اخرى تحولاً اسلاميا في مصر من ناحية هيمنة القرآن كدستور.. فسيتغير شكل وجوهر المنطقة بأسرها ..
لهذا كانت مصر .. كما قال .. ، جيمس وولسي بالتحديد قبل الحرب على العراق ،و اعلنه مراراً، ، بالنسبة للاستراتيجية الأميركية، بأن العراق الهدف التكتيكي، السعودية الهدف الاستراتيجي، ومصر الجائزة الكبرى..
strategic pivot, Egypt as the prize”. “Iraq as the tactical pivot, Saudi Arabia as the
لماذا مصر بالذات .. لأنها هي الكيان الاهم ذو الثقل الاستراتيجي والعقدي في المنطقة ..
بل ان الذي يراقب.. مقالات اليهود .. تراهم .. يتكلمون عن مصر .. وكأنهم يبكون على الاطلال ,, يقول يوري أفينيري .. في مقال له .. ها قد عدنا ثانية ياشرم الشيخ .
“Sharm-al-Sheikh, We Have Come Back Again…”. يتكلم عن شرم الشيخ وكأنه يبكي الاطلال
I was there in 1956. A beautiful gulf (“Sharm-al-Sheikh means “the bay of the old man”), a few small houses and a distinctive mosque. Before our army withdrew, a few months later, it blew up the mosque in a fit of pique..
..لقد كنت هناك 1956 يصف المسجد المميز . والساحل .. والبيوت المتناثرة .. ويقولها علانية انه قبل ان ينسحب الجيش نسف المسجد في قمة من الغل ..
وهانحن اليوم نرى أساليبا تجاه الاسلام لا تختلف كثيرا عن الغل اليهودي الذي حدث بحق كبرياء المسجد والذي تكلم عنه افينيري .. فلقد صدرت تصريحات منذ أشهر عن هدم المساجد في مصر وكانت الحجة المفضوحة انها بدون تصريح .. في الوقت الذي يعلن فيه يتباهى فيه أحد كتاب النصارى وعلى جرائدنا ان الكنيسة المصرية تبني كنائسا من اميريكا اللاتينية إلى اليابان .. مرورا بالبحرين وقطر والكويت .. في استفزازا لمشاعر المسلمين .. وأنهم عما قليل سيبنون كنائسا في شارع بنسلفانيا افنيو المجاور للبيت الابيض .. ولم يكتفي الامر بهذا فجاءنا تصريح شيخ الازهر ليزيد الطين بلة.. الامر الذي تلقفه الاب يوحنا قلتا .. ونشره على جريدة المصري .. كتصريح ومستند لتمرير مشروع التنصير ضد الإسلام .. ولكن هيهات ثم هيهات .. أن نسمح لهذه الجريمة ان تمر ..
مما لا شك .. فيه أن مصر المسلمة .. كانت دوما .. هي الشوكة .. لهذا قالها .. حافظ إبراهيم ..
أنا إن قدر الإله مماتي .. لن ترى الشرق يرفع الرأس بعدي
وكانت مصر عصية دوما .. على المؤامرات .. حتى في أحلك اللحظات .. كانت دوما مصر هي العصية على الانكسار .. والتاريخ يشهد .. لها ولشعبها الكريم الصولات والجولات والكفاح التي سجلها التاريخ بأحرف من نور ..
ولكن هانحن نرى اليوم من يعضون اليوم اليد البيضاء وينكرون لها الجميل .
ولا يعرفون ان واقع الحال يقول ..
لا ترغبن عزا بذل عشيرة فالذليل من ذلت عشائرة ..
مصر كانت العز بن عبد السلام ذلك الشيخ الذي كان يقطر وجهه عزة وهيبة .. الذي باع السلاطين في المزاد .. ولكننا هانحن نعيش اليوم زمن الانكسار .. والانحطاط .. علماء دين لينوا العريكة ..دخلوا في مزاد من نوع آخر وهو بيع الدين على مائدة الصليبية واليهودية العالمية .. أضاعوا البلاد والعباد ., ولكننا لن نسمح لهم بأن يضيعوا الدين .. أرقب الشيخ ياسين وما به من عجز الجسم .. ولكنه كان كالطود الاشم .. ومضى ولم يهادن ولم يبدل .. مضى وهو يقول نحن مشروع شهادة .. بينما كان موقف الآخرين اليوم مشروع خيانة .. وخيابة ..
ما أسوأ ان يباع الدين على مائدة الصليبية العالمية ..(/4)
ايها السادة .. هناك ثوابت ,هناك أمور قطعية .. لا يمكن العبث بها .. كيف وقول الرسول .. واضح [من بدل دينه فاقتلوه ].. ان السماح بالتبشير بالنصرانية على ارض الاسلام سابقة خطيرة .نحو تبديل الدين وفتح باب الردة .. .. تبديل الذي هو أدنى بالذي هو خير .. تبديل الكفر بالايمان .. وشطب مسيرة المجد بالعار .. .ونذير شؤم وعار .. يذكرنا بغرناطة .. قبل أفول الإسلام من هناك .. ولكنه هاهو اليوم يتم على نار هادئة ..لأنهم يعرفون غضبة الشعب المصري .... كانت التصريحات النصف مسلوقة وشبه معلنه .. خشية ان تنتفض الشعوب . وكان كل هذا مرتبطا بموقف الحكومة الامريكية .. تجاة الافغاني المرتد .. اذ كان موقف مفتى عموم العالم .. وكونداليزا بنت ابي رايس واضحا ..في الدفاع عن هذا المرتد .. واعتبروها حرية اعتقتاد .. بينما الوضع الفقهي واضح تجاه هذا الامر .. فقهيا .. وله باب خاص اسمه باب الردة .. فترابط الامور .. من أدناها هنا .. الى أقصاها هناك .. هو فتح باب الردة على مصراعية .. والحجة المفضوحة .. حرية الاعتقاد .. كما هو الحال .. للجريمة التي اقترفت في حق المصطفى .. تحت ذرائع حرية التعبير ..يذكرني بمثل في جنوب شبه الجزيرة .. يقول .. أذا وجدت السعادين تطامر أحرص على جربتك .. أي اذا وجدت القرود تتقافز .. فلتحرص على مزرعتك .. وهو ما نحن بصددة .. تفافز السعادين ..
نحن الان .. ما يجريه علينا الضمير والاخلاق .. الوقوف كسد منيع للحيلولة دون تنفيذ المشروع .. ديننا مضطهد .. لإاقل ما يفرضه علينا الضمير .. والواجب هو الوقوف بجانب ديننا .. وهو أمر حتى الغربيون أنفسهم ,, يعتبرون ان نزولك الى صفوف المضطهدين .. من المواقف الكريمة ..
“To throw oneself to the side of the oppressed is the only dignified thing to do in life” Edwin Markham..
فما بالك لو كان المضطهد هو دينك دينك الذي قال عنه المصطفى .. دينك دينك لحمك ودمك ..
.الغريب على الساحة هنا في هذا ان شيخنا .. هو الذي سدد تلك الطعنة النجلاء الى الإسلام .. .. على ارض الإسلام في مصر .. ليس له الا معنى واحد .فتح باب الردة .. زرع شتلات كافرة في ارض الاسلام .. وترك العنان للكفر .. بأن يزاحم الإيمان ..على أرضنا نحن وفي عقر دارنا ..فأي مصيبة تلك الأمة المنكوبة بنوعية جديدة من العلماء .. فلم يكتفوا بكونهم علماءً للسلاطين ..فحسب بل هاهم اليوم أصبحوا عملاء للصليبية والصهيونية العالمية ..ولا نعرف ما هو دورهم بالتحديد علماء ام عملاء .. خيبك الله من أمة ..
ولم يمر .. التصريح الفضيحة لشيخ الأزهر إلا ,أتانا على قدر .. تصريحات الترابي .. بأنه يجيز زواج المسلمة من كتابي .. وهذه سابقة خطيرة .. أخرى تصب في مشروع الصليبية في السودان ..
بعد ان شاركوا في الحكومة تمهيدا بأن يحكم الصليب السودان ..
نعم لقد عجز الكفار .. ان يكيدوا للإسلام من خارجه .. ولكن الكيد هاهو يأتينا من الداخل .. ولكننا نهيب بعلماءنا الربانيين الأفاضل .. ومصر العزيزة لن تخلوا منهم أبدا وكذا في السودان الشقيق نهيب بهم ان يقفوا ضد المشروع .. وألا يسمحوا بالعبث بالدين .. فهم ورثة الأنبياء .. وها قد جاء دورهم لينافحوا عن دين الله ..
..لم تمر ليلة على تصريح الترابي .. الا وقد جاءنا تصريح القذافي كفضيحة أخرى .. بجيز لليهودي والنصراني ان يحجوا إلى البيت العتيق حسب الفقه القذافي.. نعم هذا هو الاسلام الأمريكي المراد .. الاسلام المطور .... الذي نوه عنه كبيرهم .. على الاسلام ان يتغير أو يختفي من الساحة ..
أهلا اهلا أيها السادة ..
الغاية لن تقتصر أن يزاحم الكفر الإيمان في ارض مصر فقط .. تبعا لتصريحات شيح الأزهر .. أو يمارس القوامة على المرأة المسلمة في بيوت المسلمين.ويفترش نساءهم كما اراد الترابي. بل .. ايضا يريدون ان يزاحم الكفر الايمان .في عقر داره . داخل الحرم المكي .. وحول الكعبة ..فأي واقع نعيش .. وأي بلايا حلت بنا ..
..ما هذا الذي يحدث على الساحة .. أي جريمة تقترف اليوم في حق دين الله ..
(سقونا من شراب يجعل الانسان من غير مواقف
ثم أعطونا مفاتيح الولايات و سمونا ملوكاً للطوائف
رهنوا الشمس لدى كل المرابين وباعوا بالملاليم
القمر
شنقوا التاريخ من رجليه باعوا الخيل و الكوفية
البيضاء
باعوا أنجم الليل وأوراق الشجر)
وايم الله ..انهم لم يكتفوا بهذا يا ابن قباني .. هاهم يبيعون( لا اله الا الله )و على عينك يا تاجر...يا لها من حسرة على دين الله العظيم .. ان يباع اليوم على مائدة المرابين ..
ولكن كلا ..
انه دين الله.. نحوطه بالمهج والأرواح .. ندافع عنه ما بقينا ..
لن نسمح لكائنا من كان بالعبث او التلاعب به .. سواء أكان من العوام أم من الخواص أم من علية القوم .. في أعلى الهرم السياسي .. او الديني ..
أجل لن نسمح ..و.. لن يحدث ذلك إلا على جثثنا ..(/5)
أجل لن نسمح وان قتلنا أو طارت دون ذلك جماجمنا..فلقد قال تعالى عنه .انه ذكر لك ولقومك .. انه شرفنا ومجدنا .. ولا شيء غير ذلك ..
وقال عنه الله تعالى ان هو إلا ذكر للعالمين .. إذ انه لا يتخلى إمرءً ما عن شرفه ومجده .. إلا إذا كان معتوها او مجنونا .. ولم نصل إلى هذه المرحلة بعد ..ولن نقر لك يا شيخ الأزهر ولا لأمريكا ولا الصليبية العالمية عينا بأن يزاحم الكفر الإيمان على الساحة بغية أن تُمحي لا اله الا الله من الصدور والبيوت والمساجد والمآذن .. واستكمال المهزلة ..
أيها السادة ..الاسلام لكم قضية وجود .. وهو من القضايا الضخمة في هذا الوجود الإنساني بل أولاها .. نربأ بها عن ممارسة هذا الوضع من العبثية والتهريج ..
أجل . على هذا الثلاثي المرح ان يبحثوا عن قضية غير دين الله القيم العظيم للعب بها .. .. إذ ان العقيدة أمر جد لا يحتمل هذا النوع من الهزل...أجل ..فليحزموا حقائبهم وليرحلوا .. وليربئوا بأنفسهم عن غضبة الشعوب فإذا هبت الريح لن تبقى على شيء ..نعم .. قد تتهاون الشعوب في أي شيء .. إلا الدين ..فهو خط أحمر ..لا يمكن تجاوزه وهيهات ان نسمح بتجاوزه ..أجل فليشوفوا لهم لعبة ثانية ..
ما أسوأ أن يبيع الإنسان نفسه .. والأسوأ ألا يقبض الثمن.
ولنقولها مدوية وفوق رؤوس الاشهاد .. إن لم يكونوا قادرين .. على تحريرالاوطان .. وحماية الدين ,,في هذا الوقت الحرج .. فليغربوا بوجوههم عن الساحة .. فهانحن رأينا المؤامرة في العراق وفلسطين وافغانستان .. كيف مررت وكيف نفذت وكيف للأوطان قد بيعت .. وهاقد جاء أخيرا الدور على الدين لإستكمال المشروع الصليبي في المنطقة .. نعم .. الى هنا .. وكفى .. لا مجال للتنازلات .. قيد أنملة .. ارحلوا .. لأن ليس لديكم رصيد تقدمونه إلا مزيدأً من البيع والتنازلات وصفقات العار.. أغربوا بوجوهكم عن الساحة .. فدين الله أثمن وأغلى ما في الوجود .. وإذا هدد الدين انتفت كل مبررات الوجود.. وهانحن أصبحنا اليوم أمامنا مليون عام قادم .. لنصلح ما قد افسدتموه .انتم في خمسين عاما .. ... أن ديننا مهدد وثغورنا مستباحة .. ارحلوا ولن ننسى لكم الجميلا.
نعم أيها السادة :إنها ردة ولا أبا بكر لها !! فإما تعود الديار كما كانت وإلا فبطن الأرض خير من ظهرها...
هوامش :
فتوى للشيخ عبد الله الفقية ..
مقال الدكتورة زينب عبد العزيز .. تنازلات الازهر الى أين ..الشعب الاليكترونية ..
الاصمعيات: ..أبي سعيد عبد الملك بن قريب 122-216
تصريحات الترابي ذكرت على العربية نت ..14/3/1427
تصريحات القذافي ذكرت على العربية نت والمصريون الاليكترونية 14/3/1427
James Woolsy: hawaii.indymedia.org/mail.php?id=347&comments=
James Woolsy: www.jakarta.indymedia.org.au/pdf.php3?article_id=
Uri Aveniri.. Sharm-al-Sheikh, We Have Come Back Again…”.
British Guardian. newspaper 12/10/2005
لافتة لأحمد مطر
* ممنوع الأذان!
المتهم سيف الله بن حسين روى كيف اعتدى عليه أعوان طلائع السجون في تونس بصورة وحشية بعد تجريده من جميع ثيابه بسبب رفعه الأذان داخل السجن، مما خلف له آثارا عديدة بأنحاء جسمه، إلا أنه أصر على حقه لم يثنه الإعتداء على مواصلة الأذان عند موعد الصلاة قائلا للمحكمة " لقد فاتهم أنني مستعد للموت دون ديني!" موقع الكلمة التونسي ..(/6)
ما أطيَبَ ذِكرَ الحبيب صلى الله عليه وسلم د. محمد عمر دولة*
الحمد لله الرحيم الودودِ القريبِ المجيب، والصلاة والسلام على الحبيب، وعلى آله وصحبِه ومن تبعَه من كلِّ لبيبٍ أرِيب.
وبعد، فإذا كان ذِكرُ الأحبةِ حُلواً على اللسانِ حبيباً إلى القلوب؛ كما قال الشاعر:
أَعيدُوا لي الْحَديثَ بذِكْرِ لَيلى ** أَعِيدُوه فَدَيتُكُمُ أَعِيدُوا
جَرى قلمُ السَعادةِ باسمِ لَيلى ** فَطابَ بذِكْرِها عيشي الرَغيدُ
فكيف بِذِكرِ الحبيبِ صلى الله عليه وسلم؟!
طِبتُم فَطابَ حَديثٌ توصَفونَ بِهِ ** مُكَرَّراً ذِكرُهُ ما كَرَّتِ الْحُقُبُ
فما مشى على الأرضِ مَن كان له مثلُ شَمائلِه** وشِيَمِه صلى الله عليه وسلم؟
شِيَمٌ مَتى ذُكِرَت بِمَحفَلِ سادةٍ** خَضعَت وَناديها النَّدِيُّ تَعَطَّرا
وَلَقَد أُكرِّرُ حَمدَه مُتَلذِّذاً ** وَالشَّهْدُ ألطفُ ما يَكون مُكرَّرا
فكيف لا يطيبُ الحديثُ عن الحبيبِ صلى الله عليه وسلم وهو أحبُّ الخلقِ إلى الحقِّ وأعظمُ الناسِ كَمالا وجَمالا وجَلالاً.
ولقد خَلَوْتُ مع الحَبيب وبَيْنَنَا ** سِرٌّ أرَقُّ منَ النسيمِ إذا سَرى
فَدُهِشْتُ بينَ جَمالِهِ وجَلالِهِ ** وغدا لِسانُ الحالِ عنِّي مُخْبِرا
فأَدِرْ لِحَاظَكَ في مَحاسِنِ وَجْهه** تَلْقَ جَميعَ الحُسْنِ فيه مُصَوَّرا
لو أنَّ كُلَّ الْحُسْنِ يَكمُلُ صُورةً ** ورآهُ كان مُهَلِّلاً ومُكَبِّرا
فلا أحسنَ من ذِكرِ الحبيبِ صلى الله عليه وسلم وسَماعِ حديثِه، كما قال ابنُ فَرَح رحمه الله:
غرامي صحيحٌ والرجا فيك مُعضَلُ ** وحُزني ودمعي مُرسَلٌ ومُسَلسَلُ
ولا حَسنٌ إلا سَماعُ حديثِكم** مُشافَهةً يُملَى عليَّ فأنقلُ
ورَحِمَ الله مَن قال:
لا سَكَّن اللهُ قلباً عَنَّ ذِكرُكُمُ ** فلم يَطِرْ بجناحِ الشوقِ خفَّاقا!
لو شاء حَمْلِي نسيمُ الرِّيح حين هفا** وافاكُمُ بفتًى أضْناهُ ما لاقى
ولله دَرُّ ابنِ دقيقِ العيد حيث قال:
يا سائراً نحوَ الحجاز مُشمِّراً ** اجْهَدْ فَدَيْتُك فِي الْمَسِير وَفِي السُّرى
إنْ كَلَّتِ النُّجبُ الركائبُ تارةً ** فأعِدْ لَهَا ذِكر الحَبيب مُكَرَّرا
وما أحسنَ ما قيل:
فَتىً أَعجَزَ المُدَّاحَ نَظمُ صِفاتِهِ ** فَقَد فَنِيَتْ أَقلامُنا وَالقَراطِسُ
كَريمٌ يَفوحُ الطِّيبُ مِن طِيبِ ذِكرِهِ ** فَتَعبَقُ عَنِّي مِن ثَناهُ المَجالسُ
وما ألطفَ ما قيل:
لولا ثناؤك ما تضوَّع نَشرُها ** أرَجاً ولا سَرَّ الرُّبا مَسْراهُ
تِلْكُم بِضاعَتُكم تُرَدُّ إليكُمُ ** والشيءُ قد يُهدَى إلى مولاهُ
ولا ريبَ أنَّ ذِكرَ شمائلِ الحبيبِ ينفعُ القلب ويزيدُ الْحُب، كما قال ابنُ دقيق العيد رحمه الله:
كم ليلةٍ فيكَ وَصَلْنا السُّرَى ** لا نَعْرِفُ الغَمضَ ولا نَستَرِيحْ
واختلَفَ الأَصْحاب مَاذَا الَّذِي** يُزِيلُ مِن شَكواهُمُ أَوْ يُرِيحْ
فَقِيلَ تَعْرِيسُهُمْ سَاعَةً ** وقلتُ بلْ ذِكْراك وهوَ الصَّحِيحْ
وهذا موضوعُنا القادم بإذن الله. والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.(/1)
ما أعظمَ رحمةَ الله!
د. محمد عمر دولة*
لا ريبَ أنَّ الرحمةَ مِن أعظمِ الصِّفاتِ في الوُجُود، حتى سَمَّى الله عز وجلَّ بها نفسَه الشريفَةَ ووصفَ بها ذاتَه الكريمة في مَواضِعَ عدةٍ من التنزيلِ الحكيم؛ فقال عزَّ وجَلَّ: (تَنْزِيلٌ مِن الرحمنِ الرحيم)،[1] وقال جَلَّ جَلالُه عن كِتابِه العزيز: (ولقد جِئناهم بكتابٍ فصَّلْناه على عِِلمٍ هُدىً ورحمةً لقوم يؤمِنُون)،[2] وقال سبحانه في صِفَةِ نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم: (وما أرْسَلْناك إلا رَحْمةً للعالَمِين).[3]
والرحْمةُ هِبَةٌ مِن الله للعَبد؛ فإنَّ الله عزَّ وجلَّ هو الرحمنُ الرَّحِِيمُ المنعِمُ المتفضِّلُ بكلِّ أنواعِ الرحمةِ. وكلُّ خَيرٍ يُصِيبُهُ العبدُ فمن رحمةِ الله، حتى ما يتقرب به العبدُ إلى ربه؛ فمَرَدُّه إلى رحمةِ الله وفَضلِه؛ لِشِدةِ حاجةِ العبدِ إلى التوفيقِ والتيسيرِ والتسديدِ، كما قال الله عزَّ وجَلَّ: (فبما رَحمةٍ مِن الله لِنْتَ لهم ولو كنتَ فظاً غليظَ القَلبِ لانفَضُّوا مِن حَولِك).[4]
فالوِقايةُ والحفظُ مِن السيئاتِ.. من رَحْمَةِِ الله وحدَه، كما قالت ملائكة الرحمن وهي تستغفر للذين آمنوا (وقهم السيئات ومن تق السيئات يومئذ فقد رحمتَه وذلك هو الفوز العظيم).[5]
والعِصمةُ رحمةٌ من عند الله؛ وليست لأحد إلا الله عز وجل، كما قال نوح صلى الله عليه وسلم لابنه حين قال: (سآوي إلى جبلٍ يَعصِمُني من الله قال لا عاصِمَ اليومَ مِن أمرِ الله إلا مَن رَحِم).[6] وصلَّى الله وسلم على نبيِّ الله يوسف فقد قال وهو المعصومُ: (وإلا تَصْرِفْ عني كيدَهن أصْبُ إليهن وأكُنْ من الجاهِلِين فاستجاب له ربُّه فصرفَ عنه كيدَهن إنه هو السميع العليم).[7]
والنجاةُ مِن سَخطِ الله والإجارة من عذابِه.. رحمةٌ من الله دون سواه، كما قال الله عز وجل:
(قل إني أخاف إنْ عَصيتُ ربي عذابَ يومٍ عظيمٍ من يُصْرَفْ عنه يومئذٍ فقد رحمه وذلك الفوز المبين).[8] وقال جلَّ جلاله: (قل أرأيتم إن أهلكني الله ومَن مَعي أو رحمنا فمَن يُجِير الكافرين مِن عذاب أليم).[9]
وكَشفُ الضُّرِّ رحمةٌ من الله، كما قال الله عز وجلَّ: (ولو رحمناهم وكشَفْنا ما بهم من ضُرٍّ لَلَجُّوا في طغيانهم يعمهون).[10] وقال سبحانه: (وإن يمسسك الله بضر فلا كاشفَ له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير)؛[11] وقال جلَّ جلاله في سياق الامتِنان: (أمَّنْ يُجِيبُ المضْطرَّ إذا دعاه ويَكشِفُ السُّوءَ ويَجعلُكم خُلَفاءَ الأرضِ أإلهٌ مع الله قليلا ما تَذَكَّرُون).[12]
ومغفرة الذنوب.. رحمة من عند الله؛ ليست لأحدٍ سواه تبارك وتعالى، كما قال أبونا آدم عليه السلام: (ربَّنا ظلَمْنا أنفُسَنا وإنْ لم تَغْفِرْ لنا وتَرْحَمْنا لنكونَنَّ مِن الخاسِرِين).[13] وقال نوح عليه السلام: (وإلا تغفرْ لي وترحمني أكن من الخاسرين).[14] وقال قوم موسى عليه السلام لما سُقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا: (لئن لم يَرحَمْنا ربُّنا ويَغفِرْ لنا لنكونن من الخاسرين).[15] وقال عز وجل: (يُعَذِّبُ مَن يشاء ويَرحَم من يشاء وإليه تقلبون وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماءِ وما لكم من دون الله من وليٍّ ولا نصير).[16]
وما أحسن ربط النبي صلى الله عليه وسلم رحمة المخلوق برحمة الخالق، ورحمة الدنيا برحمة الآخرة كما روى البخاري عن عمر قال: (قدم على النبي صلى الله عليه وسلم سبيٌ، فإذا امرأةٌ من السبي تحلب ثديها تسقي إذ وجدت صبياً في السبي فأخذته فألصقته ببطنها وأرضعته، فقال لنا النبي صلى الله عليه وسلم: أتُرَون هذه طارحة ولدها في النار؟ قلنا: لا وهي تقدر على أن لا تطرحه. فقال: الله أرحم بعباده من هذه بولدها).
فشتان بين رحمة الخالق والمخلوق! كما روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم (جعل الله الرحمة في مائة جزء. فأمسك عنده تسعة وتسعين جزءاً. وأنزل في الأرض جزءاً واحداً. فمن ذلك الجزء يتراحم الخلق حتى ترفع الفرس حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه).(/1)
ومن أعظم الرحمات تفريج ما يكون يوم القيامة من الكربات والناس أجمعون محبوسون في العرصات، كما روى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يدنو من أحدكم ربّه حتى يضعَ كنفه عليه فيقول: عملتَ كذا وكذا، فيقول نعم. ويقول: عملت كذا وكذا. فيقول: نعم. فيقرّره ثم يقول: إني سترت عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم) وفي رواية: (أتعرف ذنب كذا وكذا) وفي رواية أخرى (اقرأ صحيفتك فيقرأ ويقرّره بذنبٍ ذنبٍ. ويقول: أتعرف؟ أتعرف؟)، وفي حديث أبي ذرّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إني لأعلم آخر أهل الجنّة دخولاً الجنّة وآخر أهل النار خروجاً منها، رجل يؤتى به يوم القيامة. فيقول: اعرضوا عليه صغار ذنوبه. فيقال: عملتَ يوم كذا وكذا، كذا وكذا، وعملت يوم كذا وكذا، كذا وكذا. فيقول: نعم، لا يستطيع أن ينكر وهو مُشفِق من كبار ذنوبه أن تُعرَض عليه. فيقال له: فإن لك مكان كل سيئة حسنة. فيقول: ربّ قد عملتُ أشياء لا أراها ههنا. فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه). وفي حديث ابن مسعود فرحة الرجل الذي ترفع له شجرة فيسأل الله أن يدنيه منها على أن لا يسأله غيرها، فإذا أدناه منها سأله غيرها مرّتين، حتى (ترفع له شجرة عند باب الجنّة هي أحسن من الأوليين. فيقول: أي ربّ أدْنني من هذه لأستظل بظلها وأشرب من مائها لا أسألك غيرها. فيقول: يا ابن آدم ألم تعاهدني أن لا تسألني غيرها؟ قال: بلى يا ربّ هذه لا أسألك غيرها. وربه يعذره لأنه يرى ما لا صبر له عليه فيدنيه منها. فإذا أدناه منها فيسمع أصوات أهل الجنّة فيقول: أي ربّ ادخلنيها. فيقول: يا ابن آدم ما يَصْرِيني منك؟[17] أيرضيك أن أعطيك الدنيا ومثلها معها. قال يا ربّ أتستهزئ مني وأنت رب العالمين. فضحك ابن مسعود فقال: ألا تسألوني ممّ أضحك؟ فقيل: ممّ تضحك؟ قال: هكذا ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ممّ تضحك يا رسول الله؟ قال: من ضحك رب العالمين حين قال: أتستهزئ مني وأنت ربّ العالمين؟ فيقول: إني لا أستهزئ منك ولكني على ما أشاء قدير).
ولله دَرُّ صاحبِ الظِّلالِ حينَ قال: "مِنْ رَحمةِ الله أنْ تُحِسَّ بِرَحمةِ الله؛ فرحمةُ اللهِ تَضُمُّك وتَغْمُرُك وتَفِيضُ عَلَيْك؛ ولَكِنْ شُعُورُك بِوُجودِها هو الرَّحمةُ، ورَجاؤك فيها وتَطَلُّعُك إليها هو الرَّحمةُ، وثِقَتُك بها وتَوَقُّعُها في كلِّ أمْرٍ هو الرَّحمة... ورَحمةُ اللهِ لا تَعِزُّ على طالبٍ في أيِّ مكانٍ وفي أيِّ حالٍ؛ وَجَدَها إبراهيمُ عليه السلام في النارِ، ووَجَدَها يوسف عليه السلام في الْجُبِّ كما وَجَدَها في السِّجن. ووَجَدَها يونسُ عليه السلام في بطنِ الْحُوتِ في ظُلُماتٍ ثلاث. وَوَجَدَها موسى عليه السلام في اليَمِّ وهو طِفْلٌ مُجَرَّدٌ مِنْ كلِّ قُوةٍ ومِن كلِّ حِراسةٍ، كما وَجَدَها في قَصرٍ فرعون وهو عَدُوٌّ له مُتَرَبِّصٌ به ويَبحثُ عنه. ووَجَدَها أصْحابُ الكهفِ في الكهفِ حين افْتَقَدُوها في القُصُورِ والدُّورِ، فقال بعضُهم لِبَعضٍ: (فَأْوُوا إلى الكَهفِ يَنْشُرْ لكم رَبُّكم مِن رَحْمَتِه)،[18] ووَجَدَها رسولُ اللهِr وصاحبُه في الغارِ والقومُ يتبعونَهما ويَقُصُّون الآثار، ووَجَدَها كلُّ مَن آوَى إليها يائساً مِن كلِّ مَنْ سِواها؛ مُنقطِعاً مِن كلِّ شُبْهَةٍ في قُوةٍ ومِن كلِّ مَظِنَّةٍ في رَحمةٍ؛ قاصِداً بابَ اللهِ وَحْدَه دُونَ الأبواب".[19]
----------
[1] فصلت 2.
[2] الأعراف 52.
[3] الأنبياء 107.
[4] آل عمران 159.
[5] غافر 9.
[6] هود 43.
[7] يوسف 33-34.
[8] الأنعام 15-16.
[9] الملك 28.
[10] المؤمنون 75.
[11] الأنعام 17.
[12] النمل 62.
[13] الأعراف 23.
[14] هود 47.
[15] الأعراف 149.
[16] العنكبوت 21-22.
[17] أي ما يقطع عني مسألتك؟
[18] الكهف 16.
[19] في ظلال القرآن 22/2923.(/2)
ما أقلَّ الشاكرين د. محمد عمر دولة*
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد، فإنَّ الشُّكرَ خَصلةٌ من أشرفِ العبادات، وقُربةٌ من أشرفِ القُربات، وطاعةٌ من أكرمِ الطاعات عند الله عز وجلَّ.
وقد بَيَّنَ القرآن الكريم في كثيرٍ من الآيات أنَّ الله جلَّ جلالُه يُنعم على عِبادِه بأنواعِ النِّعَمِ (لعلَّهم يشكرون): كما قال تعالى: (وهو الذي سخَّرَ البحرَ لتأكلوا منه لحماً طَرِيّاً وتستخرجوا منه حِلْيةً تلبسونها وترى الفلكَ مَواخِرَ فيه ولِتَبتغوا مِن فَضلِه ولعلكم تشكرون)،[1] وقال عزَّ وجلَّ: (والله أخْرَجَكم من بُطُونِ أمهاتِكم وجعلَ لكم السمعَ والأبصارَ والأفئدةَ لعلكم تشكرون).[2] وقال جلَّ جلاله: (ومِن رحمتِه جعلَ لكم الليلَ والنهارَ لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضلِه ولعلكم تشكرون).[3] وقال تعالى: (ومن آياتِه أن يرسلَ الرياحَ مُبشِّراتٍ وليذيقَكم من رحمتِه ولتجريَ الفلكَ بأمرِه ولتبتغوا من فضلِه ولعلكم تشكرون).[4] وقال عز وجل: (واذكُرُوا إذْ أنتم قليلٌ مُستَضْعَفُون في الأرضِ تخافون أن يتَخَطَّفَكم الناسُ فآواكم وأيَّكم بنَصْرِه ورزقَكم من الطيِّباتِ لعلَّكم تشكرون).[5] إلى غير ذلك من الآيات.[6]
وقد امتنَّ الله عزَّ وجلَّ على عِبادِه بالنعمِ العظيمةِ والآلاء الجسيمة، فقال تعالى: (أفرأيتم الماءَ الذي تشربون أأنتم أنزلتمُوه مِن المزنِ أم نحن المنْزِلُون لو نشاءُ جَعلناه أُجاجاً فلولا تشكُرون).[7] وقال الله عزَّ وجل: (وإنْ تَعُدُّوا نِعمةَ الله لا تُحصُوها).[8] وقال جلَّ جلالُه: (وأسْبَغَ عليكم نِعَمَه ظاهرةً وباطِنةً)، قال الطبري رحمه الله: "يقول: (ظاهرةً) على الألسُن قولا، وعلى الأبدان عَملاً... (وباطنةً) في القلوب اعتقادا ومعرفة".[9]
ولكنْ لَما كان شُكرُ النِّعَمِ خاصاًّ بِمَن عرفَ أنها من عندِ الله، فلم تَشغَلْه النِّعمةُ عن المنعِم، كما قال يوسف عليه السلام: (ذلك مِن فَضلِ الله علينا وعلى الناسِ ولكنَّ أكثرَ الناسِ لا يشكُرون)؛[10] كان الشاكِرُون قليلاً؛ لغلبةِ الغفلةِ على الناس، كما قال تعالى: (إنَّ الله لذو فَضلٍ على الناس ولكنَّ أكثرَ الناسِ لا يشكُرون).[11] وقال جلَّ جلاله: (وإن ربَّك لذو فضلٍ على الناسِ ولكنَّ أكثرَهم لا يشكرون).[12] وقال عزَّ وجلَّ: (الله الذي جعلَ لكم الليلَ لِتَسكُنوا فيه والنهارَ مُبصِراً إنَّ الله لَذو فَضلٍ على الناسِ ولكنَّ أكثرَ الناسِ لا يَشكُرون).[13] قال الشوكاني رحمه الله: "(إنَّ الله لذو فضلٍ على الناس) يتفضلُ عليهم بنعمه التي لا تُحصَى (ولكنَّ أكثرَ الناسِ لا يشكرون) النعمَ ولا يعترفون بها؛ إما: لِجُحُودِهم لها وكفرهم بها كما هو شأن الكفار، أو لإغفالهِِِم للنظرِ وإهمالِهم لما يجب مِن شُكرِ المنعم، وهم الجاهِلُون".[14]
فكَم مِن الناسِ قد مَكَّنَ الله له في أنواعِ المعايشِ ورزقَه أعظمَ الرزقِ؛ وهو مُقبِلٌ على النِّعَمِ غافِلٌ عن شُكْرِ الله عزَّ وجَل! كما قال تعالى: (ولقد مَكنَّاكم في الأرضِ وجَعَلْنا لكم فيها مَعايشَ قليلا ما تَشكُرون)، وقال تعالى: (اعمَلُوا آلَ داود شُكراً وقليلٌ من عِبادي الشكور) قال الشوكاني رحمه الله: "بَيَّنَ بعد أمرِهم بالشكر أنَّ الشاكِرِين له من عباده ليسُوا بالكثير، فقال: (وقليلٌ مِن عبادي الشكور): أي العاملُ بطاعتِي الشاكرُ لِنِعمتِي قليلٌ".[15]
وللهِ دَرُّ عُلمائنا السابِقِين وسَلفِنا الصالِحِين رضي الله عنهم ؛ فقد كانوا ـ لقوةِ إيمانِهم ورُسُوخِ عِلمِهم ـ في غايةِ العِنايةِ بِشُكرِ الله عزَّ وجلَ والإشفاقِ من جُحُودِ نِعَمِه؛ حتى كتبَ بعضُ عُمالِ عمر بن عبد العزيز إليه: إني بأرضٍ قد كثرتْ فيها النِّعمُ؛ حتى لقد أشفَقتُ على أهلِها من ضَعفِ الشُّكر"![16]
ورَحِمَ الله طلقَ بن حبيب حيث قال: "إنَّ حقَّ الله أثقلُ مِن أن يقومَ به العِبادُ، وإنَّ نِعَمَ الله أكثرُ مِن أن يُحصِيَها العِبادُ؛ ولكن أصبِحُوا تائبين وأمسُوا تائبين"[17] ورضي الله عن الإمام الشافعي حيث قال: "الحمد لله الذي لا يؤدِّي شُكرَ نِعمةٍ من نِعَمِه إلا بنِعمةٍ حادِثةٍ تُوجِبُ على مُؤدِّيها شُكرَه بها".[18] قال ابن كثير رحمه الله: "وقال القائل في ذلك:
لو كلُّ جارحةٍ منِّي لها لغةٌ **** تُثْنِي عليك بِما أولَيْتَ مِن حَسَنِ
لكان ما زاد شُكْري إذْ شَكَرْتُ به **إليك أبلغَ في الإحسانِ والْمِنَن".[19]
------------
[1] النحل 14. وقال في فاطر 12: (وما يستوي البحران هذا عذبٌ فراتٌ سائغٌ شرابُه وهذا ملحٌ أُجاجٌ ومن كلٍّ تأكلون لحماً طَرِيّاً وتستخرجون حِلْيةً تلبسونها وترى الفلكَ فيه مَواخِرَ لِتَبتغوا مِن فَضلِه ولعلكم تشكرون).
[2] النحل 78.
[3] القصص 73.
[4] الروم 46.
[5] الأنفال 26.(/1)
[6] فقد قال تعالى: (ثم عفونا عنكم من بعد ذلك لعلكم تشكرون) البقرة 52، وقال: (ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون) البقرة 56، وقال: (ولتكبِّرُوا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون) البقرة 185، وقال: (ولقد نصركم الله ببدرٍ وأنتم أذلةٌ فاتقوا الله لعلكم تشكرون) آل عمران 123، وقال: (ولكن ليطهِّرَكم وليتم نعمتَه عليكم لعلكم تشكرون) المائدة 6، وقال: (كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون) المائدة 89، وقال: (والبُدنَ جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خيرٌ فاذكروا اسمَ الله عليها صَوافَّ فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا القانعَ والمعترَّ كذلك سخَّرناها لكم لعلكم تشكرون) الحج 36، وقال: (الله الذي سخَّرَ لكم البحرَ لتجري الفلك فيه بأمرِه ولتبتغوا من فضلِه ولعلكم تشكرون) الجاثية 12.
[7] الواقعة 68-70.
[8] إبراهيم 34، والنحل 18.
[9] جامع البيان للطبري 21/78.
[10] يوسف 38.
[11] البقرة 243. ويونس 60.
[12] النمل 73.
[13] غافر 61.
[14] فتح القدير 4/498.
[15] فتح القدير للشوكاني 4/317.
[16] جامع العلوم والحكم لابن رجب ص 245.
[17] تفسير القرآن العظيم 2/541.
[18] المرجع السابق.
[19] المرجع السابق.(/2)
ما البديل؟؟
الحمد لله، كاشف الهموم ومجلي الغموم، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمّد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:
فمع الغزو الإعلامي المكثف تحولت كثير من بيوت المسلمين إلى مرتع مفتوح لدعاة الشر والفساد، وزاد تعلق الناس بالشاشات وما يعرض فيها، حتى أنها دخلت في تنظيم أوقات حياتهم، وتربية أفكارهم وتغيير معتقداتهم وتوجيه صغارهم!
وقد يطول زمن الجلوس في بعض البيوت أمام الشاشات إلى ساعات طويلة لو جُمعت في عمر الإنسان لكانت أياماً وشهوراً وسنيناً. وهكذا يفقد كثير من الناس ما هو أغلى من الذهب والفضة وأكثر فائدة وأعظم أثراً..ألا وهو الوقت.
فإن كان المال يستطيع الموفق أن يستثمره وينميه، وأحياناً يأتي من وارث، أو هبة، أو غير ذلك إلا أن الزمن لا يُنمى ولا يوهب ولا يُشترى مطلقاً!
ومن تحدث عن هذا الأمر وأسهب في مضار ما يُعرض يفاجئه سؤال عجيب ألا وهو قول الكثير من الناس: ما البديل إذاً؟
أخي المسلم:
إن صدقت في السؤال وأحسنت النية فالبدائل كثيرة، وتغير مسار الحياة سهل ميسور، وقد سبقك الكثير!
وإني لأعجب للرجل العاقل والمرأة الفطنة كيف يجعلان حثالة القوم وسفلة المجتمع من الحاقدين والصليبين والمنافقين والمهرجين يوجهون فكرهما ويربون أولادهما ويغرسون فيهما ما شاءوا من الرذيلة وسيء الخلق!
ولإعانة من أراد التخلص من الشاشة تقرباً إلى الله عزّ وجلّ وطاعة وامتثالاً لأمره، أطرح له بدائل عدة لعل فيها ما يغني عن هراء الممثلين والممثلات وسخف الأغاني الماجنة والمسلسلات الساقطة، وبث السموم والأفكار المخالفة لدين الله عزّ وجلّ .
ومن تلك البدائل:
1- تحقيق التقوى في النفس والأبناء وعندها يأتي الفرج سعادة للنفس وطمأنينة في القلب. فإنّ الله تعالى يقول: { ومن يتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً } ويقول تعالى: { إنَّه مَن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فإنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أجْر المُحْسِنٍينَ } ومن أعظم أنواع الصبر؛ الصبر على الطاعة والبعد عن الحرام. وأذكر هنا أن امرأة صالحة كانت تلغي كثيراً من ارتباطاتها وزياراتها لبعض من حولها خوفاً على أبنائها من متابعة المسلسلات والشغف بالتمثيليات فأكرمها الله عزّ وجلّ بأن جعل أبناءها بررة حافظين لكتاب الله عزّ وجلّ قرت بهم أعين والديهم. « ومن ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه » .
2- الحرص على العبادة وخاصة الصلاة في أوقاتها والإكثار من نوافل الطاعات من صلاة وصيام وعمرة وصدقة وقراءة للقرآن. ونرى أن من يحس بالفراغ والوحشة إنما هو ذلك الذي ابتعد عن النوافل وفرط في الطاعات، والكثير من العُبَّاد ينظر إلى الوقت وقصره وسرعة انقضائه لأنه استثمره خير استثمار.
3- تحري أوقات الإجابة والتضرع إلى الله عزّ وجلّ فإن الشاشات وما يُعرض فيها والتعلق بذلك بلاء وشقاء يرفعه الله عزّ وجلّ بالدعاء والمجاهدة والصبر.
4- معرفة فتاوى العلماء في حكم هذه الشاشات وما يُعرض فيها وغرس البعد عن الحرام في قلوب الصغار وتربيتهم على طاعة الله عزّ وجلّ والبعد عن معصيته. خاصة أن الأمر تجاوز مجرد الشهوات إلى إثارة الشبهات حول مسلَّمات عقدية نؤمن بها وهي من أساس دين الإسلام.
5- قراءة ما يُعرض عن الشاشات وخطر ما فيها وهذا يُسهل أمر الصبر والمصابرة، فإن في معرفة الأضرار الدينية والطبية والنفسية سلوى لمن أراد الابتعاد وسعى إلى النجاة. وأنصح بقراءة كتاب "بصمات على ولدي" لطيبة اليحيى. فقد أوردت بالأرقام والإحصاءات ما يجعل المسلم يبتعد عن هذه الشاشات. كما يوجد في المكتبات كتب متميزة خاصة بتربية الصغار تربية إسلامية.
6- الاستفادة من الأوقات للقيام بالواجبات الاجتماعية من بر الوالدين وصلة الأرحام وتفقد الأرامل والمساكين وإعانة أصحاب الحوائج.
7- الاشتغال بطلب العلم وحث أهل البيت على زيادة معلوماتهم الشرعية في ظل تيسر الأمر بوجود أشرطة العلماء السمعية. فيستطيع رب المنزل أن يرتب له ولأسرته درساً يومياً أو أسبوعياً.
8- ربط أهل البيت والأطفال بسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ودعوته وصبره وجهاده وقراءة دقائق حياته فإن في ذلك أثراً على تربية النفوس وتهذيبها وربطها بمعالي الأمور.
9- وضع دروس يومية منتظمة بجدول ثابت لحفظ آيات من القرآن الكريم وفي هذا أثر عظيم جداً، ولو رتب أحدنا حفظ بعض الآيات كل يوم لختم القرآن في سنوات قليلة وفي ذلك خيرا الدنيا والآخرة. وبعض الناس قارب عمره الأربعين سنة ولم يحفظ خمسة أجزاء من كتاب الله عزّ وجلّ؟!
10- الاهتمام بإيجاد مكتبة أسرية متنوعة تحوي مختلف العلوم وتكون في متناول الجميع، فإن في ذلك تنمية للمواهب والمدارك عن طريق القراءة حتى يصبح الكتاب- بعد حين- رفيقاً لا يمله أهل المنزل.
11- الاستفادة من برامج الحاسوب الآلي المتوفرة بكثرة بما في ذلك المسابقات وبرامج اختبار الذكاء وغيرها.(/1)
12- معرفة نعمة الله على الإنسان باستثمار الوقت في عمل صالح فإن تلك نعمة عظيمة قال ابن القيم: "وبالجملة، فالعبد إذا أعرض عن الله واشتغل بالمعاصي ضاعت عليه أيام حياته الحقيقية التي يجد غبَّ إضاعتها يوم يقول: { يا لَيْتَنِي قدَّمْتُ لِحَيَاتِي } واستشعار قيمة الوقت يدفع إلى الحرص والمحافظة عليه وإنفاقه فيما ينفع. والرجل الفطن يلحظ ضياع كثير من الطاعات والقربات وفواتها عليه بسبب جلوسه أمام الشاشة وما تضييع الصلوات وخاصة صلاة الفجر إلا دليل على ذلك، كما أن في ضياع صلة الرحم والكسل عن القيام بالواجبات الأسرية دليلاً آخر. وفي ضياع الوقت بهذه الصورة مدعاة إلى التوقف والتفكر والمحاسبة!
13- القيام بالنزهات البرية للأماكن الخلوية البعيدة عن أعين الناس والتبسط مع الزوجة والأبناء وإشباع رغباتهم في اللعب والجري وصعود الجبال واللعب بالرمال. وهذه الرحلات من أعظم وسائل ربط الأب بأسرته وهي خير من الذهاب بهم لأماكن اللهو التي تفشو فيها بعض المنكرات ولا يستطيع الأب أن يجلس مع أسرته وأبنائه بحرية تامة.
14- وضع برنامج رياضي للأب والأم والأبناء بمعدل يومي عشر دقائق مثلاً حتى وإن اقتصر على التمارين الخفيفة.
15- زيارة الصالحين والأخيار والاستفادة من تجاربهم، والاستئناس بأحاديثهم، وربط الناشئة بهم ليكونوا القدوة بدلاً من الممثلين والمهرجين.
16- إشغال الفتيات بأعمال المنزل وتدريبهن على القيام بالواجبات المنزلية وتعويدهن على تحمل مسئولية البيت وتربية الأطفال والقيام بشؤونهم.
17- وضع جدول زمني- شهري مثلاً- لحضور بعض محاضرات العلماء في المساجد.
18- مشاركة الجهات الخيرية والمؤسسات الإغاثية بالعمل والجهد والمساهمة بالوقت في تخفيف هموم المسلمين ورفع معاناتهم.
19- جعل يوم في الأسبوع يوماً مفتوحاً في المنزل لإلقاء الكلمات المفيدة وبث الفوائد بين الجميع وطرح الأفكار ورؤية إنتاج المنتجين في الأبناء والصغار.
20- جعل قائمة بالأنشطة والدرجات والتقديرات للأبناء وتحسب نقطة لكل عمل جيد، وأخرى لكل جهد مميز وهكذا في نهاية الأسبوع توضع الجوائز لصاحب أعلى النقاط. بما في ذلك الانضباط أيام الأسبوع والمذاكرة وغيرها.
21- تسجيل الأولاد في حلق تحفيظ القرآن الكريم في المساجد، والأم وبناتها في دور الذكر لتحفيظ القرآن الكريم وإظهار الفرح بذلك وتشجيعهم على المراجعة مع بعضهم البعض وذكر ما حفظوا كل يوم. وفي هذا ربط لهم مع كتاب الله عزّ وجلّ.
22- جعل أيام سمر للأسرة يجتمعون فيه ويكون الحديث مفتوحاً، ويركز على قصص التوبة ومآسي المسلمين وقصص من أسلموا حديثاً وذكر بعض الطرائف والنكت المحمودة.
23- التأمل الدقيق في بيوت كثير من الأخيار التي تخلو من شاشات، وكيف هو بفضل الله صلاح أبنائها واستقرار أهلها وحسن تربيتهم على التقوى والصلاح فإن ذلك يدفع الرجل إلى الحذو حذوهم ويدفع بالأم إلى السير على طريقهم. .
24- الإكثار من شكر وحمد الله عزّ وجلّ على أن أبدل المعصية بالطاعة والسيئات بالحسنات والفرح بذلك فإن في ذلك ثباتاً على الأمر وإشاعة لتحول كبير في الأسرة.
25- القيام بأعمال دعوية أسرية مثل مراسلة هواة المراسلة ودعوتهم إلى الالتزام بهذا الدين وإرسال الكتب إليهم، أو كتابة رسائل توجيه ونصيحة للطلاب والطالبات وغيرها، كل لبني جنسه.
26- اختيار أسر من الأخيار وزيارتهم ومعرفة كيفية استفادتهم من أوقاتهم وكذلك سؤالهم كيف يعيشون سعداء بدون شاشة!
27- كثير من الناس لا يعرف خلجات بناته ولا هوايات أبنائه ولا هموم زوجته لأن وقت الأسرة مليء بالاجتماع على مشاهدة الشاشة فحسب، وبدون الشاشة يكون الحديث مشتركاً والتقارب أكثر بإيراد القصص والطرف وتبادل الأحاديث والآراء.
28- الاهتمام بهوايات الأبناء وتوجيهها نحو خدمة الإسلام والمسلمين وتشجيعهم على المفيد منها.
29- إعداد البحوث علامة على مقدرة الشخص وتمكنه العلمي. ولكل عمر من الأعمار مستوى معين من البحوث وهذا يجعل الأسرة تعيش جواً علمياً إذا أرادت ذلك وسعت إليه.
30- كثير من الناس يتعذر بوجود الشاشة لرغبته في معرفة أحداث العالم وأخبار الكون! ومع حرصه هذا فإنه غافل عن أخبار الآخرة وأحداث يوم الحسرة والندامة وأحوال البرزخ وأهوال البعث والنشور والصراط وغيرها! وله كفاية بالإذاعة وبعض الصحف لمتابعة الأخبار والأحداث!
31- لو طلب منك شخص أو جهة أن تضع في صالة منزلك خمسة أفراد ما بين رجل وسيم وامرأة فاتنة منهم الفاجر والفاسق ومنهم المهرج ومنهم المنصر، وشرطت عليهم أن لا يتحدثوا ولا يجتمعوا بأبنائك وزوجتك إلا بحضورك! فهل يا ترى تخرج مطمئن الفؤاد إلى هؤلاء وهم في عقر دارك!! إن كان الأمر كذلك وبقية إيمان في قلبك فأخرجهم حتى ولو لم يكن هناك بديلاً.
أخي المسلم، أختي المسلمة:(/2)
هناك أمور كثيرة لا يكفي لها الوقت لو ذكرت، إنما الهدف ذكر طرف منها للتخلص من الشرور ودفعها بين يدي المسلم. وفي طاعة الله عزّ وجلّ وتقواه خير معين، وهذا البيت الصغير هو مملكتك التي تستطيع أن تجعلها جنة وارفة الظلال بالطاعة والعبادة وحشن الخلق وطيب المعشر.
وكثير جعل هذا المسكن والقرب جحيماً بسوء التربية وحلول المعصية وفساد الطباع { يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ } وكما أن للطاعة أثراً فإن للمعصية شؤماً.
ويا أيها الأب ويا أيتها الأم: المسؤولية عظيمة والحساب شديد والأمانة بين أيديكم، فإياكم وضياع الأولاد وإهمالهم فإنكم مسؤولون ومحاسبون عنهم غداً. يقول الله جلّ وعلا: { يا أيُّها الَّذين ءَامَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالحِجَارَةُ } .
وأذكركم بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: « كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته، فالإمام راعٍ وهو مسئول عن رعيته، والرجل راعٍ في أهله وهو مسئول عن رعيته » [متفق عليه].
وأجزم أن كثيراً من الآباء لو علم أن الشاشات تسبب مرضاً معيناً لمن يراها ولو لدقائق لما بقي في البيوت شاشات إطلاقاً. ولكن لأن هذا مرض عضوي اهتم الآباء به أما مرض القلوب والشهوات فالأمر مختلف. وشتان ما بين زماننا وأهله وصدر الإسلام وأهله. فلما نزلت آية تحريم الخمر ما قال الصحابة: لنا سنوات، ولدينا منها مخزون كبير أو ما هو البديل إذاً!
بل سالت الشعاب بالخمر المراق طاعة وامتثالاً. ولما نزلت آية الحجاب خرج نساء المسلمين وهن كالغربان متشحات بالسواد لا يرى منهن شيئاً. { وما كان لمؤمنٍ وَلا مُؤمنةٍ إذا قَضَى الُله وَرَسُولُهُ أمْراً أن يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ الَلهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَلاً مُّبيناً } .
ولأهل الإسلام: { فَلْيَحْذَرِ الَّذينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أن تُصِيبَهُمْ فتنةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عذابٌ أليمٌ } .
قال ابن كثير: "أي عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو سبيله ومنهاجه وطريقته وسنته وشريعته" ثم قال رحمه الله في قوله تعالى: { تُصِيبَهُمْ فتنةٌ } أي في قلوبهم من كفر أو نفاق أو بدعة.
أقر الله الأعين بصلاح الأولاد وضاعف الأجر والمثوبة للوالدين على حسن التربية والتوجيه لهم، وصلى الله على نبينا محمّد وعلى آله وصحبه أجمعين.
عبد الملك القاسم(/3)
ما البديل؟
عبدالملك القاسم
دار القاسم
الحمد لله، كاشف الهموم ومجلي الغموم، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:
فمع الغزو الإعلامي المكثف تحولت كثير من بيوت المسلمين إلى مرتع مفتوح لدعاة الشر والفساد، وزاد تعلق الناس بالشاشات وما يعرض فيها، حتى أنها دخلت في تنظيم أوقات حياتهم وتربية أفكارهم وتغيير معتقداتهم وتوجيه صغارهم!
وقد يطول زمن الجلوس في بعض البيوت أمام الشاشات إلى ساعات طويلة لو جمعت في عمر الإنسان لكانت أياما وشهورا وسنينا. وهكذا يفقد كثير من الناس ما هو أغلى من الذهب والفضة وأكثر فائدة وأعظم أثرا.. ألا وهو الوقت.
فإن كان المال يستطيع الموفق أن يستثمره وينميه، وأحيانا يأتي من وارث، أو هبة، أو غير ذلك، إلا أن الزمن لا ينمى ولا يوهب ولا يشترى مطلقا!
ومن تحدث عن هذا الأمر وأسهب في مضار ما يعرض يفاجئه سؤال عجيب ألا وهو قول الكثير من الناس: ما البديل إذا؟
أخي المسلم: إن صدقت في السؤال وأحسنت النية فالبدائل كثيرة، وتغيير مسار الحياة سهل. ميسور، وقد سبقك الكثير!
وإني أعجب للرجل العاقل والمرأة الفطنة كيف يجعلان حثالة القوم وسفلة المجتمع من الحاقدين والصليبين والمنافقين والمهرجين يوجهون فكرهما ويربون أولادهما ويغرسون فيهما ما شاءوا من الرذيلة وسيء الخلق!
ولإعانة من أراد التخلص من الشاشة تقربا إلى الله عز وجل وطاعة وامتثالا لأمره، أطرح له بدائل عدة لعل فيها ما يغني عن هراء الممثلين والممثلات وسخف الأغاني الماجنة والمسلسلات الساقطة، وبث السموم والأفكار المخالفة لدين الله عز وجل ومن تلك البدائل:
ا- تحقيق التقوى في النفس والأبناء وعندها يأتي الفرج سعادة للنفس وطمأنينة في القلب. فإن الله تعالى يقول: ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويقول تعالى: إنه من يتق ويصبرفإن الله لا يضيع أجر المحسنين . ومن أعظم أنواع الصبر؛ الصبر على الطاعة والبعد عن الحرام. وأذكر هنا أن امرأة صالحة كانت تلغي كثيرا من ارتباطاتها وزياراتها لبعض من حولها خوفا على أبنائها من متابعه المسلسلات والشغف بالتمثيليات فأكرمها الله عز وجل بأن جعل أبناءها بررة حافظين لكتاب الله عز وجل قرت بهم أعين والديهم. { ومن ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه }.
2- الحرص على العبادة وخاصة الصلاة في أوقاتها والإكثار من نوافل الطاعات من صلاة وصيام وعمرة وصدقة وقراءة للقران. ونرى أن من يحس بالفراغ والوحشة إنما هو ذلك الذي ابتعد عن النوافل وفرط في الطاعات، والكثير من العباد ينظر إلى الوقت وقصره وسرعة انقضائه لأنه استثمره خير استثمار.
3- تحري أوقات الإجابة والتضرع إلى الله عز وجل فإن الشاشات وما يعرض فيها والتعلق بذلك بلاء وشقاء يرفعه الله عز وجل بالدعاء والمجاهدة والصبر.
4- معرفة فتاوى العلماء في حكم هذه الشاشات وما يعرض فيها وغرس البعد عن الحرام في قلوب الصغار وتربيتهم على طاعة الله عز وجل والبعد عن معصيته. خاصة أن الأمر تجاوز مجرد الشهوات إلى إثارة الشبهات حول مسلمات عقدية نؤمن بها وهي من أساس دين الإسلام.
5- قراءة ما يعرض عن الشاشات وخطر ما فيها وهذا يسهل أمر الصبر والمصابرة، فإن في معرفة الأضرار الدينية والطبية - والنفسية سلوى لمن أراد الابتعاد وسعى إلى النجاة. وأنصح بقراءة كتاب (بصمات على ولدي) لطيبة اليحيى. فقد أوردت بالأرقام والإحصاءات ما يجعل المسلم يبتعد عن هذه الشاشات. كما يوجد في المكتبات كتب متميزة خاصة بتربية الصغار تربية إسلامية.
6- الاستفادة من الأوقات للقيام بالواجبات الاجتماعية من بر الوالدين وصلة الأرحام وتفقد الأرامل والمساكين وإعانة أصحاب الحوائج.
7- الاشتغال بطلب العلم وحث أهل البيت على زيادة معلوماتهم الشرعية في ظل تيسر الأمر بوجود أشرطة العلماء السمعية. فيستطيع رب المنزل أن يرتب له ولأسرته درسا يوميا أو أسبوعي.
8- ربط أهل البيت والأطفال بسيرة الرسول ودعوته وصبره وجهاده وقراءة دقائق حياته فإن في ذلك أثرا على تربية النفوس وتهذيبها وربطها بمعالي ا لأمور.
9- وضع دروس يومية منتظمة بجدول ثابت لحفظ آيات من القران الكريم وفي هذا أثر عظيم جدا، ولو رتب أحدنا حفظ بعض الآيات كل يوم لختم القران في سنوات قليلة وفي ذلك خيرا الدنيا والآخرة. وبعض الناس قارب عمره الأربعين سنة ولم يحفظ خمسة أجزاء من كتاب الله عز وجل؟!
10- الاهتمام بإيجاد مكتبة أسرية متنوعة تحوي مختلف العلوم وتكون في متناول الجميع، فإن في ذلك تنمية للمواهب والمدارك عن طريق القراءة حتى يصبح الكتاب - بعد حين – رفيقا لا يمله أهل المنزل.
11- الاستفادة من برامج الحاسوب الآلي المتوفرة بكثرة بما في ذلك المسابقات وبرامج اختبار الذكاء وغيرها.(/1)
12- معرفة نعمة الله على الإنسان باستثمار الوقت في عمل صالح فإن تلك نعمة عظيمة قال ابن القيم: "وبالجملة، فالعبد إذا أعرض عن الله واشتغل بالمعاصي ضاعت عليه أيام حياته الحقيقية القي يجد غب إضاعتها يوم يقول: يا لينتي قدمت لحياتي واستشعار قيمة الوقت يدفع إلى الحرص والمحافظة عليه وانفاقه فيما ينفع. والرجل الفطن يلحظ ضياع كثير من الطاعات والقربات وفواتها عليه بسبب جلوسه امام الشاشة وما تضييع الصلوات وخاصة صلاة الفجر إلا دليل على ذلك، كما أن في ضياع صلة الرحم والكسل عن القيام بالواجبات الأسرية دليلا آخر. وفي ضياع الوقت بهذه الصورة مدعاة إلى التوقف والتفكر والمحاسبة!
13- القيام بالنزهات البرية للأماكن الخلوية البعيدة عن أعين الناس والتبسط مع الزوجة والأبناء وإشباع رغباتهم في اللعب والجري وصعود الجبال واللعب بالرمال. وهذه الرحلات من أعظم وسائل ربط الأب بأسرته وهي خير من الذهاب بهم لأماكن اللهو التي تفشو فيها بعض المنكرات ولا يستطيع الأب أن يجلس مع أسرته وأبنائه بحرية تامة.
14- وضع برنامج رياضي للأب والأم والأبناء بمعدل يومي عشر دقائق مثلا حتى وإن اقتصر على التمارين الخفيفة.
15- زيارة الصالحين والأخيار والاستفادة من تجاربهم، والاستئناس بأحاديثهم، وربط الناشئة بهم ليكونوا القدوة بدلا من الممثلين والمهرجين.
16- إشغال الفتيات بأعمال المنزل وتدريبهن على القيام بالواجبات المنزلية وتعويدهن على تحمل مسئولية البيت وتربية الأطفال والقيام بشئونهم.
17- وضع جدول زمني- شهري مثلا - لحضور بعض محاضرات العلماء في المساجد.
18- مشاركة الجهات الخيرية والمؤسسات الإغاثية بالعمل والجهد والمساهمة بالوقت في تخفيف هموم المسلمين ورفع معاناتهم.
19- جعل يوم في الأسبوع يوما مفتوحا في المنزل لإلقاء الكلمات المفيدة وبث الفوائد بين الجميع وطرح الأفكار ورؤية إنتاج المنتجين في الأبناء والصغار.
25- جعل قائمة بالأنشطة والدرجات والتقديرات للأبناء وتحسب نقطة لكل عمل جيد، وأخرى لكل جهد مميز وهكذا في نهاية الأسبوع توضع الجوائز لصاحب أعلى النقاط. بما فيم ذلك الانضباط أيام الأسبوع والمذاكرة وغيرها.
21- تسجيل الأولاد في حلق تحفيظ القرآن الكريم في المساجد، والأم وبناتها في دور الذكر لتحفيظ القرآن الكريم واظهار الفرح بذلك وتثجيعهم على المراجعة مع بعضهم البعض وذكر ما حفطوا كل يوم. وفي هذا ربط لهم مع كتاب الله عز وجل.
22- جعل أيام معمر للأسرة يجتمعون فيه ويكون الحديث مفتوحا، ويركز على قصص التوبة ومآسي المسلمين وقصص من أسلموا حديثا وذكر بعض الطرائف والنكت المحمودة.
23- التأمل الدقيق في بيوت كثير من الأخيار التي تخلو من الشاشات، وكيف هو بفضل الله صلاح أبنائها وإستمرار أهلها وحسن تربيتهم على التقوى والصلاح فإن ذلك يدفع الرجل إلى الحذو حذوهم ويدفع بالأم إلى السير على طريقهم.
24- الإكثار من شكر وحمد الله عز رجل على أن أبدل المعصية بالطاعة والسيئات بالحسنات والفرح بذلك فإن في ذلك ثباتا على الأمر وإشاعة لتحول كبير في الأسرة.
25- القيام بأعمال دعوية أسرية مثل مراسلة هواة المراسلة ودعوتهم إلى الالتزام بهذا الدين وإرسال الكتب إليهم، أو كتابة رسائل توجيه ونصيحة للطلاب والطالبات وغيرها، كل لبني جنسه.
26- اختيار أسر من الأخيار وزيارتهم ومعرفة كيفية استفادتهم من أوقاتهم وكذلك سؤالهم كيف يعيشون سعداء بدون شاشة!
27- كثير من الناس لا يعرف خلجات بناته ولا هوايات أبنائه ولا هموم زوجته لأن وقت الأسرة مليء بالاجتماع على مشاهدة الشاشة فحسب، وبدون الشاشة يكون الحديث مشتركا والتقارب أكثر بإيراد القصص والطرف وتبادل الأحاديث والآراء.
28- الاهتمام بهوايات الأبناء وتوجيهها نحو خدمة الإسلام والمسلمين وتشجيعهم علي المفيد منها.
29- إعداد البحوث علامة على مقدرة الشخص وتمكنه العلمي. ولكل عمر من الأعمار مستوى معين من البحوث وهذا يجعل الأسرة تعيش جوا علميا إذا أرادت ذلك وسعت إليه.
30- كثير من الناس يعتذر بوجود الشاشة لرغبته في معرفة أحداث العالم وأخبار الكون! و مع حرصه هذا فانه غافل عن أخبار الآخرة وأحداث يوم الحسرة والندامة وأحوال البرزخ وأهوال البعث والنشور والسراط وغيرها! وله كفاية بالإذاعة وبعض الصحف لمتابعة الأخبار والأحداث!
31- لو طلب منك شخص أو جهة أن تضع في صالة منزلك خمسة أفراد ما بين رجل وسيم وامرأة فاتنة منهم الفاجر والفاسق ومنهم المهرج ومنهم المنصر، وشرطت عليهم أن لا يتحدثوا ولا يجتمعوا بأبنائك وزوجتك إلا بحضورك! فهل يا ترى تخرج مطمئن الفؤاد إلى هؤلاء وهم في عقر دارك!! إن كان الأمر كذلك وبقية إيمان في قلبك فأخرجهم حتى ولو لم يكن هنالك بديلا.
أخي المسلم، أختي المسلمة:(/2)
هناك أمور كثيرة لا يكفي لها الوقت لو ذكرت، إنما الهدف ذكر طرف منها للتخلص من الشرور ودفعها بين يدي المسلم. وفي طاعة الله عز رجل وتقراه خير معين، وهذا البيت الصغير هو مملكتك التي تستطيع أن تجعلها جنة وارفة الظلال بالطاعة والعبادة وحسن الخلق وطيب المعشر.
وكثير جعل هذا المسكن والقرب جحيما بسوء التربية وحلول المعصية وفساد الطباع يخربون بوتهم بأيديهم . وكما أن للطاعة أثرا فإن للمعصية شؤما.
ويا أيها الأب ويا أيتها الأم: المسؤولية عظيمة والحساب شديد والأمانة بين أيديكم، فإياكم وضياع الأولاد وإهمالهم فإنكم مسؤولون ومحاسبون عنهم غدا. يقول الله جل وعلا: يا أيها الذين آمنوا قو أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة .
وأذكركم بقول الرسول : { كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته، فالإمام راع وهو مسئول عن رعيته، والرجل راع في أهله وهو مسئول عن رعيته } متفق عليه.
وأجزم أن كثيرا من الآباء لو علم أن الشاشات تسبب مرضا معينا لمن يراها ولو لدقائق لما بقي في البيوت شاشات إطلاقا. ولكن لأن هذا مرض عضوي اهتم الآباء به أما مرض القلوب والشهوات فالأمر مختلف. وشتان ما بين زماننا وأهله وصدر الإسلام وأهله. فلما نزلت آية تحريم الخمر ما قال الصحابة: لنا سنوات، ولدينا منها مخزون كبير أو ما هو البديل إذا! بل سالت الشعاب بالخمر المراق طاعة وامتثالا. ولما نزلت آية الحجاب خرج نساء المسلمين وهن كالغربان متشحات بالسواد لا يرى منهن شيئا. وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا .
ولأهل الإسلام فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم .
قال ابن كثير: (أي عن أمر رسول الله وهو سبيله ومنهاجه وطريقته وسنته وشريعته) ثم قال رحمه الله في قوله تعالى: تصيبهم فتنة أي في قلوبهم من كفر أو نفا ق أو بدعة.
أقر الله الأعين بصلاح الأولاد وضاعف الأجر والمثوبة للوالدين على حسن التربية والتوجيه لهم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(/3)
ما الجديد الذي جاء به الإسلام
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله ومن والاه وبعد :
يتسائل المسيحيون عن الجديد الذي جاء به الإسلام ، وقبل البدء بالإجابة ، نحن كذلك نود أن نسألهم الآتي :
.
ما الجديد الذي جاء به يشوع النبي في سفره زيادةً على شريعة موسى ؟ وما الجديد الذي جاءت به راعوث النبية في سفرها زيادة على شريعة موسى ؟ وما الجديد الذي جاء به كل انبياء بني اسرائيل زيادة عن شريعة موسى ؟!
أما عن الجديد الذي جاء به الإسلام فنقول وبالله التوفيق :
ان ما جاء به الإسلام لم يكن جديداً بقدر ما كان تصحيحاً للرسالات التي سبقته وكيف ان الاسلام كان مجدداً بالدرجة الأولى لما أوحاه الله على أول الانبياء ، فنجد أن القرآن الكريم قد جاء بعقيدة التوحيد الصحيحة، إذ أفرد الله سبحانه بالعبودية، وبيَّن أنه الخالق والمدبر لكل أمر في هذا الكون من مبتداه إلى منتهاه، وأن مقاليد الكون كلها بيده سبحانه، وهذا واضح لكل قارئ لكتاب الله وضوح الشمس في كبد السماء؛ بينما تقوم عقيدة اليهود المحرَّفة على وصف الخالق بصفات بشرية لا تليق بجلاله سبحانه، وفي أحسن أحوالها تقول بوجود إله حق، إلا أن مفهوم الإله في تلك العقيدة أنه إله قومي خاص بشعب إسرائيل فحسب .
وكذلك فإن عقيدة المسيحية تقوم على أكثر من تصور بخصوص الذات الإلهية، ويأتي في مقدمة تلك التصورات عقيدة التثليث، وعقيدة حلول الذات الإلهية في شخص عيسى عليه السلام، تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا .
ثم في مجال العقيدة أيضًا، لا توجد كلمة واحدة في جميع أدبيات الكتب المقدسة - كما يذكر عبد الأحد داود في كتابه "محمد في الكتاب المقدس" - حول قيامة الأجساد، أو حول الجنة والنار؛ بينما نجد القرآن الكريم حافلاً بهذه المسائل، بل جعل الإيمان بها من أهم مرتكزات الإيمان الصحيح .
أما في مجال التشريع، فقد جاء القرآن الكريم بشريعة واقعية، راعت مصالح الدنيا والآخرة معًا، ولبَّت مطالب الجسد والروح في آنٍ؛ ففي حين دعت الشريعة المسيحية إلى الرهبانية، التي تعني اعتزال الحياة وتحقير الدنيا - وكان هذا الموقف من الشريعة المسيحية رد فعل على العبودية اليهودية للحياة الدنيا ومتاعها - رأينا القرآن يذمُّ موقف النصارى من الرهبنة، وينعى عليهم هذا الموقف السلبي من الحياة، فيقول: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} (الحديد:27) فالشريعة الإسلامية - كما نزلت في القرآن - ترى في الرهبانية موقفًا لا يتفق بحال مع ما جاءت به من الوسطية والتوازن بين حاجات الروح والجسد .
وهذه الوسطية الإسلامية أمر مطرد وجارٍ في جميع أحكام الشريعة الإسلامية، يقف عليها كل من تتبع أمرها، وعرف حقيقتها، وهذا ما لم يكن في الشرائع السابقة البتة.
وبعبارة أخرى يمكن القول: لقد جاءت شريعة الإسلام بتشريع يواكب الحاضر والمستقبل جميعًا، باعتبارها الرسالة الأخيرة التي أكمل الله بها الدين، وختم بها الرسالات، ونقلها من المحيط المحدَّد إلى المحيط الأوسع، ومن دائرة القوم إلى دائرة العالمية والإنسانية {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ}(سبأ:28) .
أما في مجال العبادات، فلم يحصر القرآن مفهوم العبادة في نطاق ضيق، ولاضمن شكليات محددة وطقوس جامدة، بل وسع مفهوم العبادة غاية الوسع، وجعل القصد من الخلق والحياة العبادة {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ}(الذاريات:56) وأيضاً لم يقيِّد أداء العبادة في مكان محدد، بل جعل الأرض كلها مكانًا لذلك {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}(البقرة:115) ولا يخفى أن الأمر في الشرائع السابقة لم يكن على ما جاء به القرآن .
أما في مجال المعاملات، فنقف على بعض الأمثلة التي توضح جديد القرآن:
- في محيط الأسرة نظرت التوراة إلى المرأة باعتبارها مصدر كل شر، أما الإسلام فقد رفع مكانة المرأة، ولم يفرق بينها وبين الرجل إلا في مواضع اقتضتها طبيعة الأشياء والأمور {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} (البقرة:228) .
- أما في السلم والحرب، فقد اعتبر القرآن السلام هو الأصل في الإسلام: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كافة..}(البقرة:208) وجعل الحرب ضرورة تقتضيها سَنَن العمران والدفع الحضاري من الخير للشر ومن الحق للباطل؛ هذا فضلاً عن آداب القتال التي شرعها الإسلام. وكل هذا لا نقف عليه في الشريعتين اليهودية والنصرانية .(/1)
- أما في شؤون المال والاقتصاد فقد كان الربا وما يزال قوام الاقتصاد بين أهل الكتاب...وكان المال وما زال عند أهل الكتاب المعبود والغاية التي يجب الوصول إليها بأية وسيلة كانت...في حين جاء الإسلام بتحريم كل تعامل ربوي، وآذن القرآن بحرب من الله لكل من يتعامل به...وبين الموقف الصحيح من المال، وأن الأصل فيه أنه لله، وأن الإنسان في هذه الحياة مستخلف عليه ومحاسب عليه، كسباً وإنفاقاً {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فيه} (الحديد:7).
والأمثلة على هذا أكثر من أن يحصرها مقال كهذا، وفيما ذكرنا غنية لما أردنا بيانه. والحمد لله الذي { لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى والأَخرة وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } (القصص:70) وصلى الله على خاتم المرسلين .
المصدر: المسيحية في الميزان http://alhakekah.com/i(/2)
ما الحكمة من إخبار الرسول صلى الله عليه وسلم لحذيفة بأسماء المنافقين :28 الموضوع : استشارات ثقافية وفكرية السائل : عبير السؤال
أنا صاحبة الاستشارة رقم 241567، أود من شيخنا الفاضل الذي من علي بعد فضل الله بإجابتي على هذه الاستشارة، وأود منه إذا أمكن أن يكتب لي أسماء الكتب والمراجع التي من الممكن أن أرجع إليها بخصوص الموضوع، وأود أن أعلم ما الحكمة من إخبار الرسول صلى الله عليه وسلم لحذيفة بأسماء المنافقين؟
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم
الأخت الفاضلة/ عبير حفظها الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فنسأل الله العظيم أن يرزقكِ العلم النافع والعمل الصالح، وأن يلهمكِ السداد والرشاد وأن يزيدكِ حرصاً وتوفيقاً!
فإن طموح الطلاب والطالبات ورغبتهم في التعمق في الدراسة مما يثلج الصدور، ويبشر بأننا – بحول الله وقوته – على أبواب جولة جديدة، تشرق فيها شمس الإسلام على أيدي شباب يتسلح بعد الإيمان بالعلم، وهكذا يرتفع البنيان وقد أحسن من قال :-
في العلم والأخلاق مجدكمُ **** هذا البناء الذي يعلو ببانيهِ
ولا يخفى على أمثالكِ أهمية دراسة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، والوقوف على نماذج من تربيته لأصحابه وتوزيعه للأدوار والمهام، ووضع الرجل المناسب في المكان المناسب، وذلك بعد اكتشاف المواهب وتوجيهها لخدمة الدين، ويؤسفنا أن نقول إن عدوّنا استفاد من تاريخنا وحضارتنا، وسبقنا في وضع الأسس المتينة للدولة التي يشيع فيها الأمن وتتكافأ فيها الحقوق وينتشر فيها العدل.
والقائد الناجح هو الذي يوجه الطاقات إلى خدمة الإسلام وطاعة رب الأرض والسموات، وهذا أحد أسرار انتصار الإسلام وانتشاره في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين، حيث كان خالد هو سيف الله، وأبو عبيدة هو الأمين والصديق هو الحازم الراشد، والفاروق هو الشديد في الدين، وابن عفان هو صاحب الحياء، وعلي رضي الله عنه هو فارس الإسلام ورجل المعضلات، وحذيفة هو صاحب الأسرار، وأبو هريرة راوية الأخبار، وهكذا .
وقد كان اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بتحقيق الأمن بكافة جوانبه عظيماً، وقد اختار لهذا الجانب طائفة من كرام الصحابة، وكلهم كانوا من الكرام، وعلى رأس هؤلاء حذيفة رضي الله عنه والزبير بن العوام وعبد الله بن جحش ونعيم بن مسعود، وغيرهم من الصحابة الذين ينبغي أن ندرس سيرهم لنستخرج من صفاتهم ومناقبهم صفات رجل الأمن الذي ينبغي أن يكون تقياً نقياً ورعاً أميناً شجاعاً عفيفاً، عنده قدرة على كتمان الأسرار وملتزم بالتوجيهات ومنضبط حسب التعليمات، مع إخلاص في النية وبعد عن سوء الطوية.
وقد طلب النبي صلى الله عليه وسلم من أصحابه أن يحصوا له من يلفظ بالإسلام، فقالوا أتخاف علينا؟ وعلموا قيمة ذلك العلم في زمن الردة وفي مواطن الأزمات، وخص حذيفة بأسماء المنافقين ليكون المجتمع المسلم في مأمن من شرورهم، وحفظ حذيفة الشر، ووفق الله الراشدين فلم يعط المنافقين موقعاً، وقد ورد أن عمر سأل حذيفة هل لبث منهم أحد؟ فقال لا إلا واحداً، فما لبث عمر رضي الله عنه أن هُدي إليه فعزله رضي الله عنه، وقد سأل عمر رضي الله عنه حذيفة رضي الله عنه وقال له : هل أنا ممن سماهم النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال حذيفة لا ولا أبرئ بعدك أحدا.
وكان عمر رضي الله عنه يبحث عن حذيفة في الجنائز، فإذا خرج حذيفة خرج عمر رضي الله عنه، وقد كانت لهذا الصحابي الجليل مواقف مشهودة، ومن تلك المواقف أنه كان السبب في جمع القرآن في عهد عثمان رضي الله عنه، عندما قال لابن عفان أدرك الناس فقد اختلفوا،
وقد كان عمر رضي الله عنه يسأله عن الفتن وعن بابها الذي هو عمر رضي الله عنه، وذلك عندما قال له: أيُكسر أم يُفتح؟ قال حذيفة بل يكسر، فحمد عمرُ ربَه لأن ذلك دليل على أن الفتن بعده رضي الله عنه.
ولعلك تلاحظين أن هذه المواقف تبين أهمية التعريف بمواطن الخطورة وبأهل الشر، وقد كان حذيفة يسأل عن الشر مخافة أن يدركه.
أما أهم المراجع في هذا الموضوع فهي كما يلي:-
1- كتب التفسير وخاصة عند تفسير سورة التوبة والمنافقون وسورة محمد وبداية البقرة وسورة النساء والنور.
2- كتب السنة مع ملاحظة أبواب الملاحم والفتن.
3- بدائع الفوائد لابن القيم.
4- الجهاد لمحمد نعيم ياسين.
5- ظاهرة النفاق وخبائث المنافقين في التاريخ – عبد الرحمن حبنكة الميداني رحمه الله (هام).
6- مؤلفات أنور الجندي – أحمد البهي - ومحمد قطب – وابن سبأ للعودة.
7- العلمانية – سفر الحوالي.
8- كشف أسرار الباطنية وأخبار القرامطة - محمد مالك الحمادي اليمني.
وأرجو أن تتمكني من سماع شريط للشيخ الدكتور عائض القرني وعنوانه ثلاثين علامة للمنافقين .(/1)
وأرجو أن تكون الحكمة من أخبار حذيفة رضي الله عنه بأسماء المنافقين قد وضحت، وأن تكون الفائدة قد ظهرت، فما أحوجنا إلى مسلمين فطنين يعرفون أقدار الرجال، ويميزون أهل النفاق بسيماهم وبلحن القول، فإن المريب يكاد أن يقول خذوني.
ونسأل الله أن يكتب لكِ التوفيق والسداد، وأن ينفع بكِ بلاده والعباد، وأن يكفينا شر المنافقين وأهل السحر .
والله وليّ التوفيق والسداد!
المجيب : د. أحمد الفرجابي(/2)
ما الذي تغير بعد 5 سنوات من الحرب الأمريكية المجنونة؟
د. علي عبد الباقي
مفكرة الإسلام: نحن الآن في الذكرى الخامسة لأحداث 11 سبتمبر عام 2001، التي زلزلت الوجدان الأمريكي، وعلى إثرها دخلت إدارة بوش في حرب مجنونة ضد العرب والمسلمين تحت غطاء ما سمي بـ'الحرب على الإرهاب'. فهل حققت هذه الحرب أهدافها، وهل تغير العالم بعدها؟ وفي أي اتجاه تغير؟.
آخر استطلاع للرأي تم إجراؤه في أمريكا أكد أنّ واحداً من كلّ ثلاثة أمريكيين يؤمن بضلوع السلطات الأمريكية، علي نحو أو آخر، في ما جري يوم 11 سبتمبر عام 2001م. وهناك اتجاه شعبي أمريكي يتزايد يوماً بعد يوم، يعتمد التظاهر والاعتصام وحملات التوعية، ويتحالف معه عشرات المعلّقين في صحف وإذاعات محلية، فضلاً عن أساتذة جامعات وأخصائيين في الهندسة المعمارية وتفجير المباني العملاقة والتصوير السينمائي. هذا الاتجاه وهذا التيار الشعبي، يتبنى فكرة المؤامرة، وينطلق من فرضية أن أحداث سبتمبر 2001م هي من تخطيط الإدارة الأمريكية، أو أن هناك أناساً في هذه الإدارة علموا بالمخطط قبل وقوعه، ولكنهم لم يتصدوا له، وتركوا الكارثة تقع حتى يمكنهم استغلالها لتحقيق أهدافهم.
وإذا كان هذا التيار الصاعد يتهم الأبيض بالتآمر، فليس غائباً أن الإدارة الأمريكية الحالية تستخدم التآمر كطريقة للعمل وإدارة شؤون العالم، وليست كاستثناء لحل مشكلة أو الوصول إلى غاية لا تدرك بالطرق الأخلاقية. والإدارة الأمريكية الحالية لا تملك الحد الأدنى من القيم أو الأخلاق الذي يجب أن يتوافر لكي يمتنع المرء عن التآمر. نعم، ربما يكون نفر من الإدارة الأمريكية قد علموا بما سيحدث، وتم اتخاذ قرار ما على المستوى القيادي بترك الأمر يحدث، وعدم المبادرة بمحاولة إيقافه، أو الحد من نتائجه المباشرة، هذا أمر ممكن ومتوقع، لاستفزاز الوجدان الأمريكي للتعاطف، وتأييد القيام بأعمال عسكرية بشعة بدعوى الرد على العدوان.
هذا التيار، أجبر الحكومة الأمريكية علي إصدار سلسلة تقارير تدحض نظرية المؤامرة وتدعم الرواية الرسمية للأحداث، وتدعم أيضاً النظرية الثابتة اليقينية الراسخة للرئيس الأمريكي جورج بوش والتي تؤكد أن أحداث 11 سبتمبر كانت جولة للشرّ الإسلامي ضدّ الخير الذي يخرج من واشنطن ليضيء العالم ويهديه إلى دليل القِيَم الأمريكية، وطرائق الأمريكان في العيش والديمقراطية والفلسفة والسياسة والاجتماع والاقتصاد، ولا وسيلة لانتصار الخير علي الشرّ إلا بما يفعله هو في أفغانستان والعراق ثمّ فلسطين ولبنان.
ففي خطاب له مؤخراً أمام المحاربين القدماء، اعتبر بوش أنّ الحرب علي الإرهاب أكثر من نزاع عسكري، إنها الصراع الأيديولوجي الذي سيحدّد وجهة القرن الواحد والعشرين.
وفي رأي بوش فإن هذه المجموعات الإسلامية [الإرهابية، في نظره] تشكّل خطوطاً لحركة واحدة هي عبارة عن شبكة عالمية من المتشددين الذين يستخدمون الإرهاب لقتل مَن يعترض إيديولوجيتهم الشمولية الاستبدادية.
ويتناغم مع هذا كله صدور تقرير عن البيت الأبيض مؤخراً بعنوان 'الإستراتيجية القومية في محاربة الإرهاب' يصف الحرب الإرهاب بأنها حرب عقائد وإيديولوجيات، ونتيجة لهذا التنميط الأيديولوجي المتعصب، تعتبر الإدارة الأمريكية أن الإرهاب لا ينشأ بتأثير عوامل الفقر والفاقة والبؤس، والعداء لسياسات الولايات المتحدة في العالم، والنزاع الإسرائيلي ـ الفلسطيني، أو ردّ الفعل علي حرب أمريكا ضدّ الإرهاب، وإنما نشأ لظرف أيديولوجي مبعثه كراهية إسلامية لقيم أمريكا الحضارية.
إستراتيجية خاطئة
وبرغم التركيز الأمريكي الشديد على ظاهرة الإرهاب ومكافحته بمختلف الوسائل، وإعلان الرئيس الأمريكي المتكرر عن مواصلته الحرب ضد الإرهاب، لا تبدو تلك الحرب قد حققت أهدافها بعد، بل على العكس من ذلك حيث تبدو الإستراتيجية الخاطئة التي اعتمدتها إدارة الرئيس بوش في الحرب على الإرهاب قد ساهمت وعززت في اتساع نطاق عمليات تنظيمات العنف، وعلى رأسها تنظيم القاعدة الذي تضاعفت قوته واتسع نشاطه، وهو الآن يشن حرب استنزاف واسعة ضد الولايات المتحدة بعد أن أثبت قدرته في احتواء الهجمات الأمريكية, فعلى سبيل المثال، أثبتت الهجمات التي نفذها تنظيم 'القاعدة' بعد 11 سبتمبر 2001 واستهدفت مدريد ولندن وشرم الشيخ أن التنظيم ما زال نشطاً في الساحة الدولية، وأن العنف بات أقوى مما كان عليه، وأقدر على تنفيذ خططه بعد أن أعاد تنظيم القاعدة تجميع صفوفه وتحول إلى حركة عالمية، حيث يعتقد الكثيرون أن الحرب الضروس التي شنتها الولايات المتحدة على أفغانستان ضد تنظيم القاعدة شكلت تحولاً استراتيجياً في تنظيم الحركة التي تحولت من تنظيم هرمي متسلسل إلى تنظيم مفتوح يضم كل من يؤمن بفكر ونهج القاعدة القائم على استهداف المصالح الأمريكية في أي بقعة من العالم.(/1)
و لنأخذ ما يجري على الساحة العراقية في الوقت الراهن كمثال آخر على اتساع رقعة العنف في العالم, فالولايات المتحدة ورغم مرور أكثر من ثلاثة أعوام على احتلالها للعراق،إلا أنها فشلت في تحقيق ما كانت تروج له قبيل غزوها لذلك البلد، من أنها ستحول العراق إلى واحة من الأمن والأمان والاستقرار، ونموذجاً تحتذي به الدول العربية! لكن ما جرى كان على العكس من ذلك تماماً، فقد أدت سياستها المتهورة والمتغطرسة طيلة الفترة الماضية إلى تدهور الأحوال الأمنية بشكل غير مسبوق مما أدى إلى اتساع رقعة العنف في العراق.
كيف تغير العالم؟
يمكن رصد التغيرات التي طرأت على المحيط الدولي والعلاقات الدولية بعد وقوع أحداث ذلك اليوم، وذلك فيما يلي:
أولاً: بدأت حقبة جديدة في العلاقات الدولية يمكن أن نطلق عليها حقبة القطب المطلق وذلك تمييزاً لها عن حقبة القطب الأوحد التي ميزت فترة التسعينيات من القرن الماضي. وتحاول الولايات المتحدة تأكيد هذه الحقيقة كل يوم وذلك عبر تفردها بالتدخل في كل صغيرة وكبيرة على أرض المعمورة، وذلك من منطلق أنها تتأثر بشكل أو بآخر بما يحدث في مختلف أرجاء الكون.
ثانياً: دخل العالم في أتون حرب جديدة هي الحرب على الإرهاب، بزعامة الولايات المتحدة، وتوجهت أنظار العالم من الشرق إلى الغرب إلى مطاردة هذا الفيروس المتنامي، وبات على كل دولة أن تقدم العون للولايات المتحدة في حربها على الإرهاب طوعاً أو إجباراً. واقتصر تفسير مفهوم الإرهاب على الولايات المتحدة التي احتكرت وحدها مفردات هذا التعبير.
ثالثاً: لم تعد العلاقات بين ضفتي الأطلسي كما كانت عليه قبل وقوع أحداث الحادي عشر من سبتمبر، فقد حدثت انشقاقات عديدة على خلفية التجاذب الأمريكي الأوروبي حول كيفية إدارة الحرب على الإرهاب، ومعالجة الملفات الدولية العالقة، وهو ما وضح جلياً إبان أزمة الحرب على العراق، وازدياد الفجوة والتفاوت الفكري بين الولايات المتحدة وأوروبا بشكل عام. ولذا لم يكن غريباً أن تتراجع الولايات المتحدة عن عنادها مع أوروبا وتسمح لها بالمشاركة في إدارة الملف العراقي عبر بوابة الأمم المتحدة.
رابعاً: اتسعت بشكل غير مسبوق الشقة بين الشرق والغرب، وبات هاجس الشك وعدم الثقة في الآخر قاسماً مشتركاً في العلاقة بين الطرفين، وبدلاً من تقليل الفجوة بينهما، دفعتها أحداث سبتمبر نحو حلقة جديدة من اللاعودة، أي أن هذه العلاقة غلب عليها طابع الصراع أكثر من التعاون، وذلك على خلفية الاختلاف الفكري والثقافي والحضاري بين الطرفين، والذي كان أول من أشار إليه صموئيل هنتجتنون في بداية التسعينيات من القرن الفائت.
خامساً: بات العالم الإسلامي قاسماً مشتركاً على طاولة العلاقات الدولية، ولم يعد يخلو مؤتمر دولي أو لقاء عالمي من الحديث عن ضرورة إصلاح أوضاع هذا العالم، باعتباره مصدراً للقلاقل والاضطرابات التي تحدث في مختلف أرجاء الكون. ولذا تبذل الدول الإسلامية جهوداً مضنية لإثبات العكس، وتبرئة الدين الإسلامي من تصرفات بعض القلة المتهورة، وهو ما لم يجد له صدى حتى الآن، وجزء من تفسير ذلك أن الغرب لا يفرق بين المجتمعات الإسلامية وبعضها البعض، بل يضع البيض كله في سلة واحدة.
خسائر بالجملة
إدارة بوش، تكبدت خسائر كبيرة في أعقاب حربها التي أعلنتها على 'الإرهاب'، كنتيجة مباشرة لأحداث 11 سبتمبر، فإذا كان من أهداف هذه الحرب تدمير وتفكيك تنظيم القاعدة، واعتقال قادته، وعلى رأسهم أسامة بن لادن، فإن الحرب الأمريكية الغاشمة نالت دولاً عديدة وأهدافاً كثيرة ولم تستطع الوصول للـ'القاعدة'، بل تحول هذا التنظيم من منظمة إقليمية محلية، إلى منظمة دولية لها فروع منتشرة في مختلف أنحاء العالم، استطاعت الوصول بعملياتها إلى قلب أوروبا، وإلى آسيا وأفريقيا، ويمكن أن تزداد خطورة هذا التنظيم وتتضاعف إذا نجح في إنتاج وامتلاك أسلحة كيماوية وبيولوجية.
كما أن الحرب الأمريكية المجنونة على ما يسمى 'الإرهاب' قادت الأمريكان إلى أن يخرجوا خارج أراضيهم، وبالتالي يواجهوا حركات مقاومة تستخدم أساليب حرب العصابات، لتقتل وتصيب الآلاف من جنودهم.
ونتيجة لأخطاء إدارة بوش في أفغانستان والعراق ولبنان، فقد تم تدمير صورة أمريكا في العالم العربي والإسلامي، الأمر الذي أدى إلى أن تخسر حربها في كسب عقول وقلوب العرب المسلمين.
ومن ناحية الخسائر الاقتصادية فقد كلفت الحرب المجنونة على 'الإرهاب' في أفغانستان والعراق دافع الضرائب الأمريكي أكثر من 350 مليار دولار.
حرب مفتوحة لإخضاع العرب والمسلمين
لقد تبنت إدارة بوش إستراتيجية 'الحرب الشاملة على الإرهاب'، دون تعريف لمعنى 'الإرهاب' الذي تريد شن الحرب عليه، أو تحديد للوسائل والآليات المتبعة في شن هذه الحرب ولا متى وكيف تنتهي.(/2)
وإدارة بوش لم تعتبر أن الحرب انتهت بتدمير القاعدة واحتلال أفغانستان وإسقاط حكومة طالبان وتنصيب حكومة أخرى مكانها، لأن 'الحرب على الإرهاب'، بالنسبة لها، حرب كونية مفتوحة في الزمان والمكان. ولأن لديها قوائم عديدة أدرجت عليها تصنيفات لا تحصى من التنظيمات 'الإرهابية'، والدول 'الراعية للإرهاب' أو الدول 'العاصية'، أو دول 'محور الشر'، فلم يكن بوسع أحد أن يتنبأ بشكل ومكان 'الضربة' المقبلة، لكن الجميع أحس بوجود 'أجندة سياسية' لا علاقة لها بالضرورة بما جرى في أيلول 2001. فغزو الولايات المتحدة للعراق ثم احتلاله عام 2003، رغم أنف مجلس الأمن، وكذلك حرب إسرائيل على لبنان في 12 تموز [يوليو] الماضي، لم تكن من المنظور الأميركي سوى حلقات في 'الحرب الكونية على الإرهاب'.
'الحرب الكونية على الإرهاب' هي إذاً، وببساطة شديدة، حرب إخضاع منطقة الشرق الأوسط برمتها للإرادة الأميركية وسحق كل من يتصدى لمقاومتها: دولاً كانت أم تنظيمات أم تيارات. ولأن التيار الإسلامي بات هو التيار الرئيسي الذي يحمل راية المقاومة في هذه المرحلة فلا بأس من نعته بالفاشية كي يسهل تبرير الحرب عليه.
ومن السذاجة الاعتقاد بأن هذه الإدارة ستغير من سياستها تجاه المنطقة، فهي سياسة تنبع من رؤية أيديولوجية شديدة الوضوح، وهي رؤية لا تقتصر في الواقع على جناح بعينه وإنما تشمل معظم أجنحة اليمين الأميركي المتطرف، بشقيه العلماني والديني ولا تقتصر فقط على الفصيل المعروف باسم 'المسيحية الصهيونية'، كما قد يتبادر إلى ذهن البعض.
بوش وثقافة التنميط
تهدف ثقافة التنميط إلى تقديم الأفكار والمفاهيم التي تتبناها بعض الجماعات والأفراد، من أجل توصيف الأطراف الأخرى بسمات وخصائص معينة أمام الرأي العام، ومن أبرز الأمثلة المعاصرة لصناعة التنميط، قيام الإدارة الأمريكية بالحديث عن محور الشر، خلال فترة الرئيس ريغان، ثم تطورت عملية التنميط أكثر في عهد إدارة الرئيس بوش وأصبحت هذه العملية تتطرف إلى محور الشر [في وصف المعارضين للهيمنة الأمريكية]، ومحور الخير [في وصف المؤيدين للهيمنة الأمريكية]، ثم تطورت صناعة التنميط هذه أكثر فأكثر، وذلك باستخدام بضاعة إعلامية جديدة، تمثلت في مصطلح [الفاشية الإسلامية] الذي استغل جورج بوش مشاعر الغضب الغربي عند انتشار خبر اكتشاف محاولة تفجير الطائرات المسافرة بين لندن وأمريكا، وأحداث لبنان الأخيرة، ومن ثم قام بالحديث بشكل غاضب أمام الرأي العام، وأطلق مصطلح هذه البضاعة الجديدة، من خلال تصنعه اتصالات عدم الرضا والاستياء، وتقمصه لدور الشخص الغاضب. أكدت الدراسات الجارية بأن المصطلح الذي أطلقه جورج بوش لم يأت من فراغ، بل له جذوره وتداعياته والتي يمكن تتبعها في الكثير من نشرات وإصدارات مراكز دراسات المحافظين الجدد والمؤسسات الفكرية والثقافية الصهيونية التابعة للوبي الإسرائيلي في أمريكا، وأيضاً في شبكات وسائط الإعلام الغربية التي تديرها وتشرف عليها العناصر الصهيونية واليهودية.
ثقافة مجنونة
إن المتابع للإعلام الأمريكي، وخاصة الصحف والمجلات ومواقع الإنترنت المتحمسة لليمين المتعصب الذي يحكم أمريكا الآن، يستطيع أن يكتشف بسهولة أن من المفاهيم السائدة بين هذا اليمين المتطرف، الادعاء بأن سياسات التهدئة التي اتبعتها الإدارات الأميركية المتعاقبة تجاه العالم الإسلامي هي المسئولة عن استهزائه الذي وصل ذروته في أيلول 2001. فمنذ خمسين عاما تنازل ترومان وإيزنهاور عن حقوق الغرب في النفط رغم ملكيته الحقيقية، بحكم اكتشافه له ومعرفته بكيفية استخراجه. وقد جاءت الضربة الأولى من إيران في عهد مصدق حين تجرأ على تأميم النفط. بعدها لم يمانع الغرب من التنازل عن بعض حقوق ملكيته لعالم يختلف معه في كل شيء. غير أن التنازل في حقوق الملكية أغرى العالم الإسلامي بالاعتداء على قيمة الحرية. وهكذا جاءت الضربة الثانية من إيران الخميني هذه المرة، حين تم احتجاز رعايا السفارة الأميركية أولا ثم حين أصدر الخميني فتوى تبيح قتل سلمان رشدي. ولأن رد كارتر على هذا العدوان الصارخ على الحرية كان ضعيفا، فقد تجرأ العالم الإسلامي للاعتداء على حياة الأميركيين نفسها.
ويعتقد اليمين الأمريكي أيضاً أن القتلة الأوائل كانوا فلسطينيين من خاطفي الطائرات في نهاية الستينات قبل أن تنضم إليهم قوميات كثيرة أخرى. ولأن الإدارات الأمريكية المختلفة ظلت تنظر إلى هذه الجرائم باعتبارها جرائم فردية يتعين معاقبة مرتكبيها وفقا للقانون، إلا أن الاكتفاء بمعاقبة المجرمين أو حتى بإبادتهم ليس له سوى نتيجة واحدة وهو إعادة تكوين جيوش جديدة من مجرمين أشد بأسا، ومن هنا فإن الحل الجذري هو محو الدول التي ترعى الإرهاب من الوجود بأشد أنواع الأسلحة فت(/3)
ما الرأي الشرعي في التأمين الصحي؟
السائل : نور ... المستشار : عبد العزيز بن محمد بن حماد العمر
السؤال:
أفيدونا جزاكم الله خيراً في حكم التأمين الطبي، الذي يقدم مجاناً للعاملين في القطاع الخاص، بحيث يدفع المريض فقط مبلغا محددا عند كل زيارة لقائمة من المراكز الطبية، وأما تكاليف العلاج فلا يدفعها، مع العلم بأن التأمين يشمل بعض التخصصات الطبية وليس جميعها. وجهة العمل ملزمة بالتأمين الطبي للموظفين لديها.
الاجابة :
الحمد لله وبعد: فإن التأمين الصحي من القضايا المستجدة في العصر الحاضر، وقد اختلف العلماء في حكمه، فقال بعض الفقهاء المعاصرين إن التأمين الصحي محرم لما فيه من الغرر والجهالة لأنه إذا دخل الإنسان في ذلك فإما أن يكون غانماً أو غارماً، وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر، وقال البعض بجواز التأمين الصحي ببعض الضوابط، وأن ما فيه من الغرر والجهالة فهو مغتفر لكونه يسيراً، ولتكييفه الفقهي على عقد الجعالة في كتب الفقه، كما يقول الفقهاء: "من داوى مريضاً حتى يبرأ من جرحه أو مرضه أو رمد عينيه فله كذا من المال. صح جعالة". قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ودليل ذلك: أي الجعالة ـ إذا طلب الطبيب جعلاً على شفاء المريض جاز كما أخذ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قطيع الغنم على شفاء سيد الحي، فرقاه بعضهم حتى برأ، فأخذوا القطيع وأقرهم الرسول قائلاً: اضربوا إليّ معكم بسهم" قال شيخ الإسلام: "فإن الجعل كان على الشفاء لا على القراءة ولو استأجر طبيباً إجارة لازمة على الشفاء لم يجز؛ لأن الشفاء غير مقدور له فقد يشفيه الله وقد لا يشفى" اهـ.
ولكن في الوقت الحاضر انتشرت شركات التأمين بما فيه التأمين الصحي، وغالب هذه الشركات لا تراعي في نظامها الأحكام الشرعية، فالتعامل معها إذا كان ضرورة ملزمة كأن يكون الموظف يجبر عليه ويستقطع من راتبه بدون اختياره وبدون إرادته، فلا حرج فيه ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، قال الله عزّ وجل: "لا يكلف الله نفساً إلا وسعها" "ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا" "إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان" فإذا كان إجبارياً فإن الإنسان إذا أخذ شيئاً من راتبه فله أن يسترده عن طريق العلاج، وأما إن كان اختيارياً فأرى أنه لا يدخل فيه لما سبق ذكره أن غالب شركات التأمين لا تراعي في نظامها الأحكام الإسلامية.
ومن أراد التوسع فلينظر بحث فضيلة الشيخ سعود بن عبدالله الفنيسان (التأمين الصحي في المنظور الإسلامي) في مجلة البحوث الفقهية المعاصرة عدد 1417 (31) وبالله التوفيق.(/1)
ما العمل إذا استحالت العشرة بين الزوجين؟
د. ليلى بيومي 21/7/1427
15/08/2006
تتكاثر المشاكل، ويتراكم الفشل، ويفقد كل من الزوجين قناة التواصل مع الآخر، وتغيب الأرضية المشتركة التي يمكن أن ترد الطرفين إلى التمسك بالميثاق الغليظ، ويصبح كل طرف هو مصدر الهم والنكد والبلاء للطرف الآخر، بدلاً من أن يكون سبب راحته وسعادته.
وهكذا سُدّت كل الطرق المؤدية إلى التصالح والتفاهم والوئام... فكيف يمكن التصرف في هذه الحالة؟
يرى د.أحمد عبد الراضي أستاذ علم الاجتماع أنه قد يقع الزوجان فريسة انفعالات حادة ومتوالية، ربما تكون لأسباب قوية، وربما تكون لأسباب بسيطة يمكن التغلب عليها وحلها، ولذلك ينبغي على الزوجين بمجرد إحساسهما بهذه الانفعالات أن يخرجا في رحلات للترويج عن نفسيهما، حتى يتغير لديهما جو هذه الانفعالات. فالابتعاد عن مسرح الانفعالات والتوتر ضروري عند الإحساس بتفجر المشكلات الزوجية.
ويمكن أيضاً الاتفاق بين الزوجين على تحكيم الأصدقاء المشهود لهم بالنزاهة والإخلاص والنصح لوجه الله، وأن يكونوا من أهل الخبرة والتجربة.
ويمكن بعد ذلك استدعاء حكمٍ من أهل الزوج وحكمٍ من أهل الزوجة، من ذوي الخبرة والدين ليتفحصا المشكلة، ويساعدا الزوجين في تجاوز الخلافات.
وممكن أيضاً أن يبتعد الطرفان عن بعضهما مؤقتاً لعدة أيام أو حتى لعدة أسابيع، يراجع كل طرف مسيرة حياته بأمانة، فربما وقف على أخطاء معينة وقع فيها فيعاهد نفسه على تصحيحها.
إن كثيراً من الأزواج بعد أن يقع الطلاق، وتهدأ الانفعالات الحادة، وينسحب كل طرف من حياة الطرف الآخر، يتأكد كلاهما أنه كان على خطأ، وأنه ما كان ينبغي أن يسمح للمشاكل بأن تتضخم بهذا الشكل الذي أدّى إلى هذا الطلاق، وأن هذه النهاية ما كان ليتمناها، وعندها يبدأ كل من الزوجين بتذكّر الأيام الحلوة والمواقف الجميلة التي كانت تربطه بالآخر، فيحاول أن يجعل هذا الارتباط ممتداً أو يتصور كذلك، فيبدأ بشكل تلقائي في محاولة معرفة أخبار من كان شريكه في هذه الذكريات.
المجتمع يظلم المطلقة!!
وترى د. وجيدة إبراهيم خبيرة الاستشارات الأسرية أن الطلاق يكون حلاً عندما تصبح العلاقة الزوجية مستحيلة، أي حينما تكون العلاقة بين الطرفين دائما علاقة متوترة؛ إذ يكون الزوجان في صراع دائم وشجار دائم، وحينما ينعدم الاحترام بين الزوجين، وحينما يلجأ الزوج مثلاً إلى العنف الجسدي، وإلى العنف اللفظي، فيشتم زوجته أو يضربها أمام الأطفال.
وتضيف د. وجيدة أن الطلاق يكون حلاً أيضاً حين يمنع حدوث ضرر أكبر، أو من وقوع الحياة المشتركة في خانة الإلزام، يعني حينما يصبح أحد الطرفين ملزماً باستمرار الزواج، أي عندما تكون الحياة المشتركة غير طوعية وإنما تكون حياة إلزامية إجبارية.
إلا أن د. وجيدة تتطرق لنقطة أخرى وهي أن المجتمع يظلم المرأة في هذا الوضع، يظلم المرأة أكثر مما يظلم الرجل، فالرجل بعد الطلاق يمكنه أن يبني حياته من جديد فيتزوج بشكل كثير طبيعي وبشكل سهل جداً، بينما المرأة المطلقة فإن النظرة لها غير منصفة، ويتم تحميلها مسؤولية الطلاق.
فالمجتمع ظالم وغير عادل بالنسبة للنظر للمرأة؛ إذ يجعل العبء والوزر على المرأة، وقد لا يكون لها أي علاقة بما حدث. وفي أحيان كثيرة لا يكون الحرج على أي واحد من الزوجين، فقد تُطلّق المرأة من الرجل؛ لأنها غير متوافقة معه؛ ثم تتزوج رجلاً تتوافق معه، وهو يتزوج امرأة يتوافق معها، وفي هذا يقول القرآن (وإن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ). فأحياناً يكون الطلاق فيه خير للرجل، وفيه خير للمرأة.
حرب غير مسوّغة
وتؤكد د.إلهام فراج أستاذة علم الاجتماع أن الملاحظ في مجتمعاتنا أنه حينما يحدث الطلاق فإن كلاً من الطرفين يشن هجوماً على الطرف الآخر، ويتهمه بكل النقائص الممكنة، ويسيء إلى سمعته، ويحمّله مسؤولية إخفاق الزواج، مما يجعل الطلاق يتم بطريقة غير كريمة تفتقر إلى الاحترام بين الطرفين؛ فالزوج يشهّر بزوجته، والزوجة تشهر بزوجها، وفي بعض الأحيان تصطدم أسرة الزوج مع أسرة الزوجة، وتتوسع دوائر الخلاف ومساحات الكراهية.
وتزداد المشكلة تعقيداً وخطورة عندما يكون الزوج والزوجة من نفس العائلة كأن تكون الزوجة ابنة عم الزوج أو ابنة خاله أو ابنة خالته، فيسود العداء بين أجنحة العائلة الواحدة، وتحدث القطيعة بينهم، الأمر الذي يتنافى مع الغاية التي من أجلها شُرِع الطلاق، والذي يهدف لوضع حد ونهاية لمسلسل الآلام والمشاكل الأسرية التي استعصت بين الزوجين، وأصبح من مصلحة كلٍ منهما الفراق.
لكن الملاحظ أنه في الكثير من حالات الطلاق أن الروابط والعلاقات بين أسرتي الزوج والزوجة تنقطع، وتصل المأساة إلى ذروتها في حالة زواج البدل؛ فتكون الخسارة أفدح، ويدفع الأبرياء ثمن أخطاء لم يرتكبوها.(/1)
وحينما يقع الطلاق، فإن الزوجة تحاول بكل السبل تشويه صورة زوجها في أذهان أطفالها، وتنعته بأبشع الصفات، وهي تحسب أنها بذلك تكسبهم لصفها لتبعدهم عن والدهم، أو لتنتقم من والدهم بحرمانه من رؤيتهم، ليس هذا فحسب بل تعمل جاهدة على تشويه صورة عائلة والدهم من أجداد وأعمام وعمات...الخ.
فينشأ الأبناء وهم يحملون في قلوبهم كراهية والدهم وكراهية أعمامهم وعماتهم وجدهم وجدتهم، فتكون بذلك قد ساهمت بقطع كل صلة بينهم في الوقت الذي هم فيه بحاجة لتقوية الروابط مع أسرة أبيهم، ومع أقاربهم ومع عائلتهم الممتدة؛ لأنهم جزء لا يتجزأ منها حتى بعد الطلاق.
وتؤكد د.إلهام أن الشعور بالإحباط والاكتئاب يلازم المطلّق والمطلّقة في فترة ما بعد الطلاق، وهو أمر طبيعي، ولكنه يؤثر على سير العلاقة الطبيعية، ومن الضروري تجاوز الأحقاد والضغائن والالتفات إلى المشاركة في المسؤوليات عوضا عن المحاربة النفسية المستمرة. فليس هناك ضير أن يتفق الطليقان على نظام معين لمواصلة حياتهما بشكل طبيعي، وتقاسم المسؤوليات في حالة وجود أبناء يعكس أرقى صور التقدم المجتمعي، ولكن المسألة لا تعتمد على المطلّقين فقط بل على الظروف الاجتماعية المحيطة وخاصة الأهل. فمسؤولية الأسرة وخاصة الأبناء لا يمكن أن تنتهي لأحد الطرفين بمجرد أن ينفصلا، فهناك التزامات سواء كانت للأب أو للأم يجب أن يلتزم كلا الطرفين بها، وهناك مسؤوليات يتحتم أن يشترك فيها الطرفان حتى بعد الطلاق، فهما اللذان كوّنا هذه الأسرة، وأصبحت جزءًا من مجتمع بل ومن وطن بأكمله، وبالتالي تكون عملية تجاهلها أمراً غير منطقي، بل وغير أخلاقي.
الطلاق لم يعد كارثة
وتقول د. سعاد شعبان أستاذ علم النفس: إن الطلاق لم يعد شبحاً يهدد حياة المرأة، فمع ازدياد نسبة الطلاق في كل دول العالم صارت المرأة تخرج من محنتها هذه أكثر قوة وثقة في مواجهة مجتمعها والحياة عموماً
الزواج لا يدوم بالإكراه
بينما يؤكد د. محمد المسير الأستاذ بجامعة الأزهر أن الأصل في الطلاق أنه لا يجوز إلا لأسباب قوية جداً، وإذا وقع الطلاق فيجب أن يكون التسريح بإحسان كما قال القرآن الكريم (فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإحْسَانٍ)، ومن روائع الشريعة الإسلامية أنها جعلت للرجل أكثر من فرصة، فلم تجعل الطلاق مرة واحدة وبه ينتهي الأمر، ولكن جعلت الأصل فيه أن يكون رجعياً، ومعنى ذلك أن الزوج يستطيع أن يعيد زوجته ما دامت في العدة، وأمامه فرصه ثانية إذا وقع الطلاق الثاني، أما إذا وقع الطلاق الثالث فهنا يختلف الأمر، فلا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره.
ويضيف د. المسير: إن فلسفة الإسلام الراشدة جعلت من حق الزوج أن يعيد زوجته إليه خلال فترة الثلاثة شهور الأولى، وهى فترة العدة، ويتم ذلك دون إذن من الزوجة حرصاً على أشياء كثيرة يمكن أن تتحطم من خلال الطلاق. فهناك أبناء قد يتشرّدون، وأسرة قد تنهار، وتتفكك وظروف نفسية قد تصل إلى حالة مرضية، وامرأة قد تتشرّد أو تلجأ إلى الانحراف، وهناك رجل في سن معينة قد يكون في أشد الحاجة إلى زوجته التي يعتمد عليها، ولذلك أعطى الشرع فرصة للرجل لأن يعيد النظر مرة ثانية في قضية الطلاق الذي وقع خلال ثلاثة أشهر، فقد يكون هذا الطلاق قد وقع نتيجة لحالة انفعالية أو تحت ضغط ظروف غير طبيعية، وهنا يصبح من الممكن تدارك مثل هذه الظروف لإعادة الحياة إلى مجاريها.
إن الإسلام يبيح الطلاق؛ لكنه لا يأمر به إلا عندما تتعرض الزوجة للضرر من زوجها، وتكاد العشرة بينهما تصبح مستحيلة.
إننا نسأل المعترضين على إباحة الطلاق في الإسلام: ماذا ترَوْن إذا بلغت العشرة بين الزوجين حالة لا يطيق فيها أحدهما صاحبه؟ هل ننتظر حتى يتخلص أحدهما من الآخر بقتله؟ أو يبحث عن شريك آخر بطريقة غير شرعية؟
وهل مما يجوز في منطق العقلاء أن نفرض على الزوج والزوجة أن يبقيا بالإكراه في سجن لا يستطيعان الخروج منه إلا بطريق غير مشروع؟
العدة فرصة للمراجعة
وترد د. نادية هاشم أستاذة الفقه بجامعة الأزهر على من يحاول من خصوم الإسلام والحاقدين عليه جعْل من مسألة الطلاق في الإسلام جريمة تهدم الأسر وتشرّد الأولاد، فتقول: إن الطلاق لم يكن هو الخطوة الأولى في علاج النشوز، وإنما سبقته المراحل التي تحدث عنها القرآن من الموعظة ثم الهجر في المضاجع ثم الضرب. وفى النهاية إذا أصبحت العشرة مستحيلة، فلم يشأ الإسلام أن يفرض على الزوجين هذه العشرة بالإكراه، وإنما شرع لها حلّين سلميين هما: الطلاق، والخُلع.
والإسلام جعل الطلاق آخر سبل العلاج إذا أخفقت كل محاولات الإصلاح، ومع أن الإسلام يبيح الطلاق ويؤكد مشروعيته، لكنه يعدّه أمرًا بغيضًا عند الله، لا يحبه ولا يشجع عليه، ولكنه آخر الدّواء إذا استعصى داء النشوز على كل الأدوية السابقة.(/2)
وهنا نسأل الذين يعيبون تشريع الإسلام للطلاق فنقول: أيهما أفضل للطرفين: أن يعيشا في بيت الزوجية، وكأنهما سجينان في سجن مشترك، بما يمكن أن يؤدي إليه الشقاق بين الزوجين من آثار سلبية على الأولاد وعلى المناخ العام داخل الأسرة؟ بل وربما أدّى فرض استمرار العشرة في ظل النفور الدائم بين الزوجين إلى انحرافات أخلاقية خطيرة ومدمرة.
فهل هذا أفضل؟ أم أن يكون الطلاق فرصة إلى مراجعة كل من الزوجين موقفه من الطرف الآخر، وقد يهدأ الغضب ويخف التوتر، وتكون المصالحة وإعادة الحياة في ظل السلام العائلي؟ خاصة إذا عرفنا أن للطلاق في الإسلام صفتين يسميهما الفقهاء وهما: طلاق رجعى، يمكن أن يراجع فيه الزوج زوجته خلال فترة زمنية محددة، وطلاق بائن لا رجعة بعده، ولكل من النوعين شروطه وضوابطه.
والمهم في ذلك أن الطلاق الرجعي يُعطي فرصة زمنية خلال العدة، للطرفين خلالها أن يراجع كلٌ منهما نفسه بعيدًا عن مثيرات التوتر والنشوز.
وقد لوحظ في حالات كثيرة أن الطلقة الرجعية تكون بمثابة تنبيه وتحذير للطرفين؛ فيراجعان موقفيهما ويعودان إلى حياة مستقرة هادئة.(/3)
ما المنهج في فكر الحداثة؟
د. بدران بن الحسن 18/10/1425
01/12/2004
هذا سؤال يحتاج إلى تفكيك وتركيب حتى يمكن الإجابة عنه.
تفكيك، أو بعبارة أخرى تحليل إلى عناصر أوّلية، لنفهم المنهج، والحداثة، وفكر الحداثة.
ثم تركيب لهذه العناصر، حتى نستطيع الإجابة عنه، باعتباره يعالج قضية مكتملة الصورة في أذهاننا.
ولهذا، نرى أن نبدأ الحديث عن الحداثة باعتبارها مرحلة تاريخية ارتبطت بالتطور الحضاري الغربي، كما ارتبطت بتطور التاريخ العالمي في صلته بالغرب وبالحضارة الغربية.
ثم بعد ذلك نتحدث عن جذور الحداثة، أو الأسباب المباشرة التي أدت إلى الحداثة، وهي كما نعتقد؛ الإصلاح الديني والسياسي، وحركة النهضة الصناعية، وتفجر المعرفة وظهور التكنولوجيا.
هذه العوامل الثلاثة التي أحدثت انقلاباً في علاقة الأوروبي بالعالم والكون والحياة، كما غيّرت نظرته الكونية كما يقول الفيلسوف الألماني ألبرت شفيتزر.
وهذا يقود إلى تناول الحداثة باعتبارها موقفا فكرياً، أي الحديث عن فكر الحداثة من خلال النظر إلى الحركة الفكرية التي واكبت ظاهرة الحداثة؛ من ثورة على نمط التفسير الكنسي للعالم والحياة والتاريخ، والنسق الأرسطي للتفكير القائم على الاستنباط والدوران داخل محيط المبادئ الفكرية المجرّدة، والاعتماد على الاستنتاجات العقلية، إلى نظرة وضعيّة؛ تؤمن بإمكانية المعرفة من خلال الحواس، واعتماداً على الطبيعة، واستبعاداً للميتافيزيقا واللاهوت الغيبي المسيحي.
وهذا بدوره يؤدي بنا إلى الإمساك بخيوط المنهج الذي قام عليه هذا الفكر؛ فكر الحداثة، وإلى الحديث عن أهم مفردات بل قواعد هذا المنهج، التي هي في تصورنا الفصل بين الفكر الكنسي الأرسطي الجامد وبين الفكر الوضعي العملي الواقعي، وجعل الإنسان مصدر القيم ومركزها؛ اي مرجعيّة إنسانية (هيومانية كما يقول المسيري) كامنة غير متعالية على الطبيعة.
وكذا توسّع مسار العلمنة واستبعاد المقدس من أن يكون فاعلاً في التاريخ، وهذا بدوره يقود إلى إفراغ مفاهيم مثل: الله، والغيب، والأخلاق من معانيها، ومن فاعليتها العلمية والاجتماعية.
لنصل في الأخير إلى مأزق هذا المنهج، ومآلاته الرهيبة على الفكر والحضارة والتاريخ الإنساني، بل وخطورته على الإنسان في أخص خصائصه؛ وهي إنسانية الإنسان وكرامته.
وإذا جئنا إلى العناصر التي تركب سؤالنا عن المنهج في فكر الحداثة، فإن الحداثة في المعنى اللغوي تأتي من الحديث ضد القديم، ولهذا فنحن أمام ثلاثة مصطلحات مترابطة تشكل مفهوما واحداً في مجموعها، هذه المصطلحات هي: الحديث (Modern)، والحداثة (Modernity)، والتحديث (Modernization).
فالأول يعبّر عن وصف لشيء يتصف بأنه حديث ضد قديم، أما الثاني فيعبّر عن حالة أو ظاهرة (phenomenon)، أما الثالث فيعبر عن عملية قصدية تبتغي القيام بتحول من قديم إلى حديث عبر مرحلة زمنية وتاريخية هي الحداثة (process of modernization).
إذن هناك مرحلة تاريخية شهدت ولا تزال تشهد عملية تحول من القديم إلى الجديد (الحديث) شاملة لكل الأبعاد الاجتماعية والثقافية والعلمية وغيرها. وبعبارة أخرى فهي مرحلة تحول ذات أبعاد متعددة.
وإذا تعلق الأمر بالحداثة باعتبارها ظاهرة غربية صاحبت التطور الحضاري الغربي، فإننا نقول بصددها: إنها تلك التحولات ذات الأبعاد المتعددة التي حدثت في المجتمعات الغربية منذ عصر النور والثورة الصناعية والإصلاح الديني إلى بدايات القرن العشرين الميلادي، عبر مسار معقد، وتراكم متنوع، دام عدة قرون.
أما فكر الحداثة، فهو ذلك الفكر الذي مهّد لهذا التحول الحضاري الغربي أو صاحبه، باعتباره (أي الفكر) عملية تعبير عن الظاهرة، وصياغة تجريدية لها ولتجاربها ومقولاتها وإنتاجاتها.
أما المنهج في الحداثة، فهو التصورات والمفاهيم والمقولات التي على أساسها بُني هذا الفكر، وعلى أساسها تمت الصياغات النظرية للحداثة.
الحداثة وأوجهها المتعددة
الحداثة موقف عقلي، يتمثل في عدم الرضا بالطرق التقليدية للحياة، والتركيز على استغلال الموارد الطبيعية مستخدمة في ذلك المعرفة والتقنية الحديثة، والتغير الاجتماعي أحد أهم علاماتها، كما أن النمو الاقتصادي أكبر نجاحاتها، وهي تلمس الحياة الانسانية في كل جوانبها تقريباً، ولذلك فيمكن القول: إنها ذات أبعاد أو أوجه متعددة.(/1)
ومن الصعوبة بمكان إعطاء تعريف محدّد للحداثة، أو تجسيدها في نموذج واحد؛ فالاقتصاديون يركزون اهتمامهم على النمو الاقتصادي، وذلك من خلال ربطها بالتقنية والتصنيع اللذين أدّيا إلى نشوء الرأسمالية والاشتراكية في العالم الغربي. بينما علماء الاجتماع يقدمون لنا عدة تعاريف ونماذج للظاهرة، ويركزون اهتمامهم على ما لحق بنية المجتمع من تغيير، أما علماء السياسة فيركّزون على جانب الأنظمة السياسية وتوازنات السلطة وكيفية تشكيل الحكومات وإدارتها للصراع بين طبقات المجتمع، ومن هذه الزاوية فإن الحداثة تنطبع فيما حدث من تطورات في بنية الديمقراطيات الغربية.
بينما الإعلاميون يرون أن الحداثة تتجلى فيما طرأ على وسائل وطرق وأنواع الاتصال من تطوّر وتغيّر وتعدّد وكثرة ومركزية. وبالتالي ما يحدث في المجتمع من تطوّر في مستوى العلاقات بين مكونات المجتمع وطرق التواصل فيما بينها.
وإذا تأملنا هذه التحدّيات المختلفة في ظاهرها، نجد أن الرابط بينها هو التقنية (Technology)، أي أن الحداثة وسيلتها الأساس هي التقنية، وما لها من عوامل وآثار اجتماعية وثقافية.
ففي الجانب الاقتصادي حولت التقنية (التكنولوجيا) العملية الاقتصادية من المفاهيم البدائية البسيطة إلى ثورة في المعاملات المعقّدة والمتشابكة، وهذا بدوره ارتبط وأنتج نظم الرأسماليّة والاشتراكيّة والشيوعيّة وغيرها، وهي كلها لا تعدو أن تكون إفرازاً طبيعياً للتقدم التكنولوجي.
هذه المظاهر والتمظهرات المادية للحداثة، لا ينبغي أن تحجب عنا حقيقة أن الحداثة لها موقف فكري وثقافي، أو كما سبق، موقف عقلي، هذا الموقف أو المحتوى الثقافي، يتمثل في التركيز على التعامل العلمي (Scientific) مع الواقع، والمقصود منه الخضوع للتفسير الوضعي للحياة بعيداً عن أي لاهوت متعالٍ أو غيب. وهو ما يعني أن الحداثة في جوهرها الثقافي والفكري والعقلي موقف مادي (Materialistic) منفصل عن أي قيم متعالية ليست من صنع الواقع الاجتماعي أو الطبيعي.
وهذه المظاهر أو الأوجه المتعددة للظاهرة ترجع إلى جذر واحد يربطها، ويشكل من خلالها الحداثة كسيرورة تاريخية للمجتمع الغربي. غير أن الأمر لا يتوقف هنا، فعلينا أن نُفَصّل القول في المنهج الذي سارت عليه الحداثة، قصداً أو عن غير قصد.
المنهج؛ الرؤية والمفاهيم والتطبيقات:
الحديث عن المنهج في الحداثة يقتضي منّا تفصيل الكلام عن الرّؤية الكونيّة التي شكّلت هذا المنهج، ثم أهم المفاهيم التي انتجتها أو قامت عليها الحداثة، ثم بعض التطبيقات لهذا المنهج والمتمثلة في المظاهر التي يمكن أن تنطبع فيها الحداثة، وكذلك القطاعات التي تشملها.
فيما يتعلق بالرؤية الكونية، فإنها بدأت تتشكل منذ بدايات القرن الخامس عشر الميلادي، وذلك من خلال ثلاثة تيارات مهمة في التاريخ الحضاري الغربي؛ وهي حركة الإصلاح الديني (البروتستانتي خاصة)، والعقلانية أو الفلسفة العقلانية الحديثة، وكذلك التيار الإنساني (humanism).
حيث عملت الاتجاهات الثلاثة متضافرة معاً وظيفياً ومتعاقباً زمانياً ومتكاملة على بناء رؤية كونية حديثة للعالم، والتخلص من الرؤية القائمة على المنظور الكنسي الأرسطي التقليدي (Ecclesiastic).
وإذا كانت البروتستانتية حررت المسيحي الغربي من سلطة الكنيسة والباباوات وانفرادهم بتفسير النصّ المسيحي الديني المقدس، والهيمنة على العقل والمعرفة، فإن الحركة الإنسانية عملت على التركيز على أن الإنسان الفرد هو المرجع في كل شيء؛ سواء في ذلك القيم أو المعايير أو الحقيقة في هذا العالم.
ومن جهتها عملت الفلسفة العقلانية على التأسيس للتفسير العقلي لحركة التاريخ والحضارة، وعلى إيجاد معاني عقلانية لكل المفاهيم المرتبطة بالإنسان في هذا الكون، فشكّلت العقلانية ابتداءً من كوبرنيكوس وكبلر وغاليليو ثم ديكارت وسبنسر وسبينوزا ولوك وهيوم وغيرهم من التجريبيين أيضا، هذه العقلانية شكّلت نظرة للكون قائمة على استبعاد المقدس عن أن يساهم في صناعة التاريخ، كما أنها رسّخت مفهوم المادة في مقابل الروح، أو انفصال الأخروي عن الدنيوي، خاصة العقلانية الديكارتيّة التي مهّدت للعلمانية على مستوى التفكير، لتنطبع في الواقع في علمانية روسو والثورة الفرنسية، التي حصرت المقدس إلى حساب توسيع الزمني في هذه الحياة.
هذه التيارات الثلاثة، إضافة إلى اتجاهات البحث في الفلك والبيولوجيا والفيزياء وعلوم الكيمياء والعضويات، صاغت مع "أوغست كونت" ما يسمى "بالوضعية" باعتبارها ليست اتجاهاً فلسفياً فحسب، بل رؤية كونية قائمة على تنميط الإنسان وعقله وتجربته مرجعاً للحقيقة ومصدراً للتفسير، ومن الطبيعة المجال الأوحد للفعل التاريخي، الذي ليس له امتداد آخر (غيباً كان أو ميتافيزيقا) متعالٍ عن المادة.(/2)
هذه هي الرؤية المركزية لمنهج الحداثة، الوضعية والعلمانية رؤية للكون والتاريخ والإنسان، ووفق هذه الرؤية وما حدث فيها من تعديلات عبر الزمن، تطوّرت الحداثة، ونضجت لديها مجموعة من المفاهيم تميز هذه المرحلة عن مرحلة ما قبل الحداثة (أي مرحلة القرون الوسطى)، ولعل من أهم هذه المفاهيم؛
مفهوم العلم (Science) حيث أعطى له محتوى وضعياً، وصار العلم هو ما أنتجه العقل البشري من خلال تعامله مع الواقع؛ طبيعيا كان أو اجتماعياً، إضافة إلى المعرفة الرياضية واللغوية، ولا شيء خارج الطبيعة واللغة والرياضيات.
وعليه تم استبعاد كل ما له صلة بالغيب من مفهوم العلم، ولهذا صار الدين خارجاً من مفهوم العلم، بل لا صلة للدين بالعلم، كما أن قضايا الدين لا يمكن إقامة الدليل عليها، لأنها ذات طبيعة فوق تاريخية، أو ما وراء الطبيعية، والعلم نطاقه العقل والتجربة والواقع. فصار الدين يشكل في عُرف الحداثة حيّزاً ضيّقاً ضمن نوع من أنواع الأسطورة، وإن سمح الأمر –كما يقول أركون أحد فلاسفة الحداثة الغربية- فإن الدين ذو بنية أسطورية متعالية.
استبعاد المقدس، أو علمانية الحياة (Secularism)
وهو مفهوم مرتبط بالنظرة الكونية التي شكلت الحداثة، فلا دخل للدين في صناعة التاريخ، وإن أمكن إعطاؤه دوراً فهو دور مشارك وليس مركزيا، وذلك من خلال الدور الاجتماعي للقيم الدينية، والتي يقوم فيها الدين، أو المقدس، بأداء دور لصالح الزمني أو الدنيوي، أما أن يهيمن الدين على التاريخ أو يوجهه أو يصوغ الحياة، فهذه نظرة كنسية تم القضاء عليها، وتم حصر الدين أو المقدس في أداء دور ثانوي تقتضيه الضرورة العقلية المنطقية كما هو شأن "ديكارت" و"كانت"، أو تقتضيه الضرورة الاجتماعية كما هو شأن "دوركايم". أي أن دور الدين محدد بالضرورة، وبقدر ضئيل، وإن لم يُزل تماماً فإن تهميشه قد تمَّ. وهذا بدوره أعطى مكانا لمفهوم آخر هو المادية.
والمادية (Materialism)، وإن كانت تشكل نظرة كونية ورؤية كلية للحياة من خلال التيارات الثلاثة السابقة الذكر، فإنه يشكل مفهوماً مركزياً في تراث الحداثة المفهومي والفكري، فاعتباراً من مفهوم العلمنة والحياة، فإن المادة هي ذات الأولوية في صناعة وتوجيه حركة التاريخ.
ولهذا نجد مفهوم الكم قد أُعطي أولوية كاملة على حساب مفهوم الكيف، كما أن معيار الكم صار هو الفيصل في قياس التقدم والتخلف، والقوة والضعف، والفاعلية وعدمها. أما المفاهيم الروحية مثل الله، الحق والخير والدين، فصارت فارغة من محتواها إلا بمقدار ما تنفع وما يقابلها من مادة، وما تجلبه من ربح مادي وتراكم للمادة.
وهناك مفهوم آخر من المفاهيم المركزية في فكر الحداثة هو مفهوم التقدم، حيث أُعطي له محتوى جعل منه حصان طروادة لكل ثائر على القيم، أو معارض للعُرف والمعروف والمتعارف عليه. فالتقدم مفهوم يتغنى به الحداثيون، ويجعلون العلامة عليه القطيعة مع التراث ومع السلف والتوجه نحو المستقبل ونشدان التغيير إلى ما لا نهاية.
وأهم جوانب التقدم، وأكثرها وضوحاً، هو التقدم المادي، وطبعاً في التعليم والتقنية والسيطرة على الطبيعة، والتحكم في مواردها.
والمفهوم الآخر هو العقلنة (Rationality)، حيث تقوم الحداثة على عقلنة كل شيء؛ الإنسان والطبيعة والتاريخ، وحتى الدين ذاته قد تمت عقلنته، فكل شيء تم إخضاعه للإدراك العقلي، ومناهج النظر العقلي. فكل ما يمكن عقله فهو داخل ضمن إطار الإدراك والتعامل، وبالتالي فهو واقعي، وحتى ما لم يكن قابلاً لذلك فقد تم إخضاعه، ويتجلى ذلك في جهود "كانت" و"ديكارت" و"هيجل" وغيرهم.
في الأخير، وإكمالا للحديث عن المنهج، فإن أهم تطبيقات هذا المنهج تتجلى في الثورة الفرنسية، والتي كان "روسو" أباها الأول، حيث رفعت شعار "اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قِسّيس"، مما يعني الثورة على كل قديم، وعلى النظامين الكنسي والسياسي بصفة خاصة. ومعروف ما كان للثورة الفرنسية من تأثير في العالم الغربي خاصة، من حث على تغيير الأوضاع القائمة.
كما أن من تطبيقات هذا المنهج، انتشار الديمقراطية الغربية، وسيادتها في أنظمة الحكم، واتخاذها منهج الحكم الوحد، وما تستلزمه هذه الديمقراطية من علمانية وعلمنة، وفصل بين الدين والدولة، وصراع التوازنات، وحديث عن حقوق الانسان وتغييب لحقوق الله.
ثم التقدم المادي الاقتصادي الكبير الذي حدث في الغرب، وما جره ذلك من استنزاف لموارد الطبيعة، وإتلاف لقدراتها، وتنميط الإنسان كأنه كائن ذو بعد واحد؛ هو البعد المادي، واعتبار التقدم الاقتصادي معياراً أوحدَ لقياس رفاهية وسعادة الانسان وتحقيقه لأهدافه في هذا العالم.
وكذلك من هذه التطبيقات نجد العلوم الطبيعية والاجتماعية والانسانية التي تطورت بشكل مذهل لتحقيق مقولات التقدم والتحديث، ولكن وفق منظور مادي ورؤية اختزالية تختصر الإنسان وتطلعاته وأشواقه في أفق مادي محدود.
وختام الكلام(/3)
إن الحداثة ظاهرة ارتبطت بالوعي الغربي أصالة، ولها علاقة وطيدة بالتحولات التاريخية التي حدثت في الغرب، وهي بمفاهيمها إفراز طبيعي لحركة المجتمعات الغربية خلال التاريخ.
أما الحداثة خارج الغرب فهي تابعة في منهجها وفي تاريخها وفي نتائجها للحداثة الغربية؛ لأنها وليدة إشعاع الحضارة الغربية على العالم وبالتالي إشعاع فوضاه على بقية العالم بتعبير مالك بن نبي عليه رحمة الله، وهي بفعل تأثير الهيمنة الغربية على العالم، وعلى مصائر الشعوب، ومقاليد التاريخ، خلال هذ القرون الثلاثة الأخيرة. وهي من قبيل تقليد المغلوب للغالب حسب التعبير الخلدوني، والله أعلم.(/4)
ما بال المتهجدين بالليل من أحسن الناس وجوها ؟
اعلم – يا راعاك الله – أن كثيراً من الكسالى والبطالين إذا سمعوا بأخبار اجتهاد السلف الأبرار في قيام الليل ، ظنوا ذلك نوعاً من التنطع والتشدد وتكليف النفس مالا يطاق ، وهذا جهل وضلال ، لأننا لمّا ضعف إيماننا وفترت عزائمنا ، وخمدت أشواقنا إلى الجنان ، وقل خوفنا من النيران ، ركنا إلى الراحة والكسل والنوم والغفلة ، وصرنا إذا سمعنا بأخبار الزهّاد والعّباد وما كانوا عليه من تشمير واجتهاد في الطاعات نستغرب تلك الأخبار ونستنكرها ، ولا عجب فكل إناء بالذي فيه ينضح ، فلما كانت قلوب السلف معلقة باللطيف القهار ، وهممهم موجهة إلى دار القرار ، سطروا لنا تلك المفاخر العظام ، وخلفوا لنا تلك النماذج الكرام ، ونحن لمّا ركنا إلى الدنيا ، وتنافسنا على حطامها ، صرنا إلى شر حال ، فأفق أخي الحبيب من هذه الغفلة فقد ذهب أولئك العبّاد المجتهدون رهبان الليل ، وبقي لنا قرناء الكسل والوسادة !!
1- قال سعيد بن المسيب رحمه الله : إن الرجل ليصلي بالليل ، فيجعل الله في وجه نورا يحبه عليه كل مسلم ، فيراه من لم يره قط فيقول : إن لأحبُ هذا الرجل !! .
2- قيل للحسن البصري رحمه الله : ما بال المتهجدين بالليل من أحسن الناس وجوها ؟ فقال لأنهم خلو بالرحمن فألبسهم من نوره .
3- صلى سيد التابعين سعيد بن المسيب – رحمه الله – الفجر خمسين سنة بوضوء العشاء وكان يسرد الصوم.
4- كان شريح بن هانئ رحمه الله يقول :ما فقد رجل شيئاً أهون عليه من نعسة تركها!!! ( أي لأجل قيام الليل ) .
5- قال ثابت البناني رحمه الله : لا يسمى عابد أبداً عابدا ، وإن كان فيه كل خصلة خير حتى تكون فيه هاتان الخصلتان : الصوم والصلاة ، لأنهما من لحمه ودمه !!
6- قال طاووس بن كيسان رحمه الله : ألا رجل يقوم بعشر آيات من الليل ، فيصبح وقد كتبت له مائة حسنة أو أكثر من ذلك .
7- قال سليمان بن طرخان رحمه الله : إن العين إذا عودتها النوم اعتادت ، وإذا عودتها السهر اعتادت .
8- قال يزيد بن أبان الرقاشي رحمه الله : إذا نمت فاستيقظت ثم عدت في النوم فلا أنام الله عيني .
9- أخذ الفضيل بن عياض رحمه الله بيد الحسين بن زياد رحم الله ، فقال له : يا حسين : ينزل الله تعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا فيقول الرب : كذب من أدعى محبتي فإذا جنه الليل نام عني ؟!! أليس كل حبيب يخلو بحبيبه ؟!! ها أنا ذا مطلع على أحبائي إذا جنهم الليل ،.....، غداً أقر عيون أحبائي في جناتي .
10- قال ابن الجوزي رحمه : لما امتلأت أسماع المتهجدين بمعاتبة [ كذب من أدعى محبتي فإذا جنه الليل نام عني ] حلفت أجفانهم على جفاء النوم .
11- قال محمد بن المنكدر رحمه الله : كابدت نفسي أربعين عاماً ( أي جاهدتها وأكرهتها على الطاعات ) حتى استقامت لي !!
12- كان ثابت البناني يقول كابدت نفسي على القيام عشرين سنة !! وتلذذت به عشرين سنة .
13- كان أحد الصالحين يصلي حتى تتورم قدماه فيضربها ويقول يا أمّارة بالسوء ما خلقتِ إلا للعبادة .
14- كان العبد الصالح عبد العزيز بن أبي روّاد رحمه الله يُفرش له فراشه لينام عليه بالليل ، فكان يضع يده على الفراش فيتحسسه ثم يقول : ما ألينك !! ولكن فراش الجنة ألين منك!! ثم يقوم إلى صلاته .
15- قال الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى : إذا لم تقدر على قيام الليل وصيام النهار فاعلم أنك محروم مكبل ، كبلتك خطيئتك .
16- قال معمر : صلى إلى جنبي سليمان التميمي رحمه الله بعد العشاء الآخرة فسمعته يقرأ في صلاته : {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} حتى أتى على هذه الآية {فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا } فجعل يرددها حتى خف أهل المسجد وانصرفوا ، ثم خرجت إلى بيتي ، فما رجعت إلى المسجد لأؤذن الفجر فإذا سليمان التميمي في مكانه كما تركته البارحة !! وهو واقف يردد هذه الآية لم يجاوزها {فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا }.
17- قالت امرأة مسروق بن الأجدع : والله ما كان مسروق يصبح من ليلة من الليالي إلا وساقاه منتفختان من طول القيام !! ....، وكان رحمه الله إذا طال عليه الليل وتعب صلى جالساً ولا يترك الصلاة، وكان إذا فرغ من صلاته يزحف ( أي إلى فراشه ) كما يزحف البعير !!
18- قال مخلد بن الحسين : ما انتبه من الليل إلا أصبت إبراهيم بن أدهم رحمه الله يذكر الله ويصلي إلا أغتم لذلك ، ثم أتعزى بهذه الآية { ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء} .
19- قال أبو حازم رحمه الله : لقد أدركنا أقواماً كانوا في العبادة على حد لا يقبل الزيادة !!(/1)
20- قال أبو سليمان الدارني رحمه الله : ربما أقوم خمس ليال متوالية بآية واحدة ، أرددها وأطالب نفسي بالعمل بما فيها !! ولولا أن الله تعالى يمن علي بالغفلة لما تعديت تلك الآية طول عمري ، لأن لي في كل تدبر علماً جديدا ، والقرآن لا تنقضي عجائبه !!
21- كان السري السقطي رحمه الله إذا جن عليه الليل وقام يصلي دافع البكاء أول الليل ، ثم دافع ثم دافع ، فإذا غلبه الأمر أخذ في البكاء والنحيب .
22- قال رجل لإبراهيم بن أدهم رحمه الله : إني لا أقدر على قيام الليل فصف لي دواء؟!! فقال : لا تعصه بالنهار وهو يقيمك بين يديه في الليل ، فإن وقوفك بين يديه في الليل من أعظم الشرف، والعاصي لا يستحق ذلك الشرف .
23- قال سفيان الثوري رحمه الله : حرمت قيام الليل خمسة أشهر بسبب ذنب أذنبته .
24- قال رجل للحسن البصري رحمه الله : يا أبا سعيد : إني أبيت معافى وأحب قيام الليل ، وأعد طهوري فما بالي لا أقوم ؟!! فقال الحسن : ذنوبك قيدتك !!
25- وقال رجل للحسن البصري : أعياني قيام الليل ؟!! فقال : قيدتك خطاياك .
26- قال ابن عمر رضي الله عنهما : أول ما ينقص من العبادة : التهجد بالليل ، ورفع الصوت فيها بالقراءة .
27- قال عطاء الخرساني رحمه الله : إن الرجل إذا قام من الليل متهجداً أًبح فرحاً يجد لذلك فرحاً في قلبه ، وإذا غلبته عينه فنام عن حزبه ( أي عن قيام الليل ) أصبح حزيناً منكسر القلب ، كأنه قد فقد شيئاً ، وقد فقد أعظم الأمور له نفعا ( أي قيام الليل ).
28- رأى معقل بن حبيب رحمه الله :قوماً يأكلون كثيراً فقال : ما نرى أصحابنا يريدون أن يصلوا الليلة .
29- قال مسعر بن كدام رحمه الله حاثاً على عدم الإكثار من الأكل :
وجدت الجوع يطرده رغيف *** وملء الكف من ماء الفرات
وقل الطعم عون للمصلي *** وكثر الطعم عون للسبات
30- كان العبد الصالح علي بن بكار رحمه الله تفرش له جاريته فراشه فيلمسه بيده ويقول : والله إنك لطيب !! والله إنك لبارد !! والله لا علوتك ليلتي ( أي لا تمت عليك هذه الليلة ) ثم يقوم يصلي إلى الفجر !!
31- قال الفضيل بن عياض رحمه الله : أدركت أقواماً يستحيون من الله في سواد هذا الليل من طول الهجعة !! إنما هو على الجنب ، فإذا تحرك ( أي أفاق من نومه ) قال : ليس هذا لك !! قومي خذي حظك من الآخرة !!.
32- قال هشام الدستوائي رحمه الله : إن لله عبادا يدفعون النوم مخافة أن يموتوا في منامهم.
33- عن جعفر بن زيد رحمه الله قال : خرجنا غزاة إلى [ كأبول ] وفي الجيش [ صلة بين أيشم العدوي ] رحمه ، قال : فترك الناس بعد العتمة ( أي بعد العشاء ) ثم اضطجع فالتمس غفلة الناس ، حتى إذا نام الجيش كله وثب صلة فدخل غيضة وهي الشجر الكثيف الملتف على بعضه ، فدخلت في أثره ، فتوضأ ثم قام يصلي فافتتح الصلاة ، وبينما هو يصلي إذا جاء أسد عظيم فدنا منه وهو يصلي !! ففزعت من زئير الأسد فصعدت إلى شجرة قريبة ، أما صلة فوالله ما التفت إلى الأسد !! ولا خاف من زئيره ولا بالى به !! ثم سجد صلة فاقترب الأسد منه فقلت : الآن يفترسه !! فأخذ الأسد يدور حوله ولم يصبه بأي سوء ، ثم لما فرغ صلة من صلاته وسلم ، التفت إلى الأسد وقال : أيها السبع اطلب رزقك في مكان آخر !! فولى الأسد وله زئير تتصدع منه الجبال !! فما زال صلة يصلي حتى إذا قرب الفجر !! جلس فحمد محامد لم أسمع بمثلها إلا ما شاء الله ، ثم قال : الله إني أسألك أن تجيرني من النار ، أو مثلي يجترئ أن يسألك الجنة !!! ثم رجع رحمه الله إلى فراشه ( أي ليوهم الجيش أنه ظل طوال الليل نائماً ) فأصبح وكأنه بات على الحشايا ( وهي الفرش الوثيرة الناعمة والمراد هنا أنه كان في غاية النشاط والحيوية ) ورجعت إلى فراشي فأصبحت وبي من الكسل والخمول شيء الله به عليم .
34- كان العبد الصالح عمرو بن عتبة بن فرقد رحمه الله يخرج للغزو في سبيل الله ، فإذا جاء الليل صف قدميه يناجي ربه ويبكي بين يديه ، كان أهل الجيش الذين خرج معهم عمرو لا يكلفون أحداً من الجيش بالحراسة ؛ لأن عمرو قد كفاهم ذلك بصلاته طوال الليل ، وذات ليلة وبينما عمرو بن عتبة رحمه الله يصلي من الليل والجيش نائم ، إذ سمعوا زئير أسد مفزع ،فهربوا وبقي عمرو في مكانه يصلي وما قطع صلاته !! ولا التفت فيها !! فلما انصرف الأسد ذاهبا عنهم رجعوا لعمرو فقالوا له : أما خفت الأسد وأنت تصلي ؟!! فقال : إن لأستحي من الله أن أخاف شيئاً سواه !!
35- قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله : أفضل الأعمال ما أكرهت إليه النفوس .(/2)