لا للواقع نعم للإدمان
مفكرة الإسلام : 'أعيش في أحلام مستمرة فالحياة في ظل الأحلام أفضل بكثير من الحياة في ظل هذا الواقع'
[ فن الهروب من الواقع ] فن يجيده العديد من شباب الأمة، وهو يضمن لهم فيما يضمن عدم التعرض للضغوط النفسية الناشئة عن الحياة في ظل الواقع المحيط، فتنطلق أحلام اليقظة تصوغ خيالًا ورديًا تتحقق فيه كل الأماني، وتنصرف طاقات الشباب في هذه الأحلام عوضًا عن توجيهها إلى البناء وشق الصعاب.
ومن الشباب من لا تكفيه أحلام اليقظة منفذًا للهورب من واقعه المر، بل يعمد إلى ما هو مغيب له عن الواقع تمامًا، وهو اللجوء إلى عالم المخدرات، والغياب عن الوعي والواقع غيابًا تامًا لا وهميًا كما في أحلام اليقظة، ولئن كانت أحلام اليقظة من وسائل تفريغ الطاقات؛ فإن الانجراف في طريق مغيبات العقول من وسائل استنفاذ هذه الطاقات من مصادرها واستنزافها بالكلية.
ومما يدلل على ذلك ما أكدته الإحصائيات التي أعدتها أقسام علاج الإدمان بالمستشفيات النفسية، ومنها مستشفى الدكتور عادل صدقي للطب النفسي، حيث أكدت الإحصائية أن عدد المدمنين للمواد المخدرة من المترددين على عيادات العلاج النفسى يُقدر بحوالى 20 ألف مدمن من جميع الأعمار، و تزيد فيها نسبة الفتيات المدمنات بصورة كبيرة، وهناك إحصائية أخرى تشير إلى أن عدد اللاجئين للعلاج من المدمنين يصل لحوالى 10 آلاف من متعاطى المواد المخدرة، هذا بخلاف المتعاطين من غير المتجهين للعلاج.
وقد أقر خبراء العلاج النفسى بالمستشفى أن العامل النفسى المرضي هو العامل الرئيسي لدفع المريض إلى هاوية الإدمان، وليس العامل الطبي الذي يأتي في المرتبة الثانية؛ لأن المريض فى هذه المرحلة يكون فاقداً لقاعدة السلوكيات تمامًا، ومنها مثلًا تحمل المسؤولية وكيفية التعامل مع الآخرين وغيرها، لذا يتم بناءً على ذلك الإعداد النفسى للسلوكيات والعلاج الطبى سويًا على خطى واحدة.
وأكد المختصون حقيقة مهمة للغاية، وهي أن الشخص الذي تعرض للإدمان مرة تصبح قابليته لتكرار الإدمان مرتفعة، وأنه لا يوجد ما يسمى مريض بالإدمان يشفى تمامًا، وليس هذا حملًا على اليأس، ولكن المقصود أنه تكون قابليته لإعادة الوقوع في شرك الإدمان أسهل من ذلك الذي لم يتعرض لهذا البلاء.
ولئن كان الهروب من الواقع أحد أكثر أسباب الوقوع في التعامل مع المخدرات؛ فإن هناك أسبابًا أخرى تصل بمتعاطي المخدرات إلى حد الإصابة بالإدمان، وهذه الأسباب شديدة التنوع وتختلف تبعًا لظروف كل مريض ومنها:
[1] الهروب من المشاكل كحل مؤقت إلى الإدمان، وهذا ما بيناه في الحديث عن الهروب من ضغط الواقع، وتحت ضغط المشاكل اليومية أو المصائب المفاجئة.
[2] سيطرة بعض الأصدقاء على المريض أو أصدقاء السوء، وهذه كذلك من أخطر الأسباب، حيث كثيرًا ما ينجرف الأصحاب لتقليد بعضهم البعض، والاقتداء بأصحاب الشخصيات القوية في تصرفاتهم وأفعالهم، بغض النظر عن اعتبار مقياس الصواب والخطأ في هذه التصرفات، ودافعهم لذلك الحفاظ على علاقتهم بهم وارتباطهم بصحبتهم.
[3] الشعور بإحساس النضج الكامل عند المريض وميله للتجربة المنفردة، وهذه تنشأ عن فقدان البوصلة لمعرفة الصواب من الخطأ، وتنشأ كذلك لدى البعض عن وجود الرغبة غير المشبعة في التجربة، والمغامرة والانطلاق بلا قيود، والتحرر من أسر الظروف.
[4] المعاملة القاسية داخل المنزل، وهذه كسابقاتها من أسباب الفرار من الواقع إلى الخيال والأوهام، سواء كانت مصطنعة عبر الإغراق في أحلام اليقظة، أو بتعمد إذهاب العقل بالغيبة عن الواقع.
[5] وأخطر أسباب الادمان هو تجربة المواد المخدرة، وهذا السلوك أو الفهم نابع من ثقافة سائدة منتشرة فى أعمار ومستويات تعليمية مختلفة، وهذا المفهوم الخطأ يتمثل أن الشاب لا بد له أن يقوم بتجربة كل شيء في شبابه، واعتبار هذا المسلك من علامات الرجولة، بغض النظر عن كونها ضارة أو نافعة، فكل ما يشغل تفكيره ويهم باله أن يفسح لنفسه مجالًا واسعًا قدر الإمكان للحرية الزائفة، التي تؤدي في نهاية طريقها إلى الدمار، وليس دمار هذا الشاب فقط بل دمار أسرة بأكملها تفقد حلمها وأملها، أو تفقد عائلها والمسؤول عنها.
والمسلم خلقه الله تعالى لتحقيق كمال العبودية له سبحانه في هذه الأرض بعمارتها، والقيام بواجب نصرة دين الله فيها، ولكي يقوم بهذا الدور المتفرد؛ يلزمه أن يقف في وجه الصعاب واثقًا من عون الله تعالى له وإعانته إياه، فالصبر على عظائم الأمور هو انتصار للحياة.
وحين تشتد الأزمات تكون مقياسًا للمؤمن الصادق، فالمسلم الحق لا يمكن بحال من الأحوال أن يقدم على الإدمان أو التعامل مع ما يغيب عقله؛ لأنه في كل أوقاته خيرها وشرها وحلوها ومرها، سيتكل على الله ويتقبَّل المصيبة على أنها ابتلاء لتمحيص إيمانه وإظهار صبره ورضاه، ويرى الصعاب تحديًا يلزمه أن يقف رافعًا رأسه واثقًا من تخطيه ما دام مصحوبًا بعناية الله ولطفه.(/1)
وها هو حبيبنا المصطفى صلى الله عليه وسلم يقول: [[ عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر وكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له ]]. رواه مسلم.(/2)
لا لمخدرات الشعوب أبو صرة عبيد علي أحمد*
في كل هجمة من اعتداء سافر من دول الغرب على بلادنا وعلى بلدان الشرق يبررونها على أنها: رسالة لنشر العدالة وتشر التقدم ولتحضر الشعوب ولرفاهيتها، ويلبسونها لباس (الديموقراطية)وكأن الديموقراطية التي يدعونها مسوغاً لبربريتهم وهمجيتهم التي يسومون بها شعوب المنطقة.
* جاء الاستعمار الغربي لبلادنا ومكث حملاً ثقيلاً أكثر من خمسين عاماً، فأين عدالته وأين تقدمه؟!!. حقيقة أنه جاء استعماراً واستثماراً لرفاهية الشعوب الغربية ، واستنزافاًَ وخراباً بل واستعباداً على شعوب الشرق الإسلامي.
* ثم رحل! وخلف وراءه وكلاء وعملاء يبشرون بمبادئه التي خلت من أي قيمة إيمانية أو روحية ،وساروا على نهجه أكثر من خمسين عاماً أخرى، ولم تحقق مسيرتهم شيئاً حتى في المجالات المادية التي تبنوها، ودعوا لها ونالوا بها الرضى من السادة في الغرب، ولم يدروا أن رضي السادة إلى حين أن تتحقق لهم أغراضهم منهم، واستنفاد تاريخ صلاحيتهم، وحينئذ ينبذونهم كما تنبذ النواة، وتحرك الشعوب – المغلوبة على أمرها – وتتسع الفجوة والجفوة بين الشعوب وحكامها، ويتسع الرتق على الراتق،وساعتها فالمسوغات عديدة للتدخل من جديد باسم (الديموقراطية) والعدالة، وما جرى ويجري في العراق أعظم شاهد!!.
والآن.. وبعد ظهور بوادر الصحوة الإيمانية في بلادنا كنتاج طبيعي لأمة لها تاريخها الحضاري وإرثها الإيماني ومبادئها الأخلاقية التي تنبع من داخلها، علينا: أن نعي الدرس، ونعود لمصدر قوتنا وعزتنا، وأن نقول لدعاة التغريب في بلادنا: لا.. وألف لا لديمقراطيتكم الجديدة والقديمة، لا وألف لا لمخدرات الشعوب بمعسول الشعارات الزائفة باسم الديموقراطية، والعدالة والرفاهية فلقد خبرناكم طوال الخمسين عاماً وأكثر، ولقد شاهدنا ونشاهد يومياً ما جرى ويجري في البلاد التي ابتليت بكم.
• لا للديمقراطية الغربية التي تستحل إراقة الدماء ونسف المنازل على رؤوس العجزة والأسر في غزة والضفة والعراق وتحرّم بل وتجرّم أيادي الخير إن مُدّت إليهم.
• بل أين تلكم الديموقراطية التي تسوّغ لنفسها حرمان حماس والشعب الفلسطيني من اختيارهم (الديموقراطي!!)، الذي ارتضوه لأنفسهم؟!!.
• إنها الديموقراطية الغربية الخاوية الخالية المفرغة حتى من مبادئها التي تدّعيها!!.
• فهل نعي الدرس؟!، ونعي الوقفة الأخيرة هذه قبل ضحى الغد؟!!، فنعود إلى مبادئنا، ونصدق النية ففي العودة الصادقة – إن شاء الله – حتمية النصر والتمكين: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (سورة النور: 55). فعلينا إخوتي: الوقوف جميعاً متحدين لنحقق عوامل التمكين والنصرة: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا ).
• ولا.. ثم لا..لمخدرات الشعوب..(/1)
لا محل للتسامح مع أعداء الرسول يا دكتور حمزة!
05-2-2006
بقلم عبدالله بن صالح العجيري
"...أليس الأحق بالدعوة إلى مقام التسامح المزعوم هذا مخالفي الأمة الذين لم يراعوا حرمة ولا شعورا فيقدموا اعتذاراتهم الصريحة مما وقع وجرى ، مشفوعة بالإجراءات الكفيلة لعدم وقوع هذا الأمر مرة أخرى ؟..."
إن الناظر في أحوال الأمة اليوم ، وما تمارسه من أدوار في التصدي للهجمة القبيحة على شخص النبي صلى الله عليه وسلم ليسره ما يرى ويشاهد .
وإن في هذه الأحداث لدليلا على الغيرة الإسلامية العظيمة المتأصل في كيان هذه الأمة ، والمتولد من ذلك الغضب الإسلامي ، الغضب الذي سنه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نرى حرمات الله تنتهك ، وأي حرمة أجل وأرفع من حرمته صلى الله عليه وسلم ، وأي غضب يجب أن يكون أعظم من الغضب حين يتنقص من مقامه صلى الله عليه وسلم ويستهزأ به ؟! .
وفي الوقت الذي تتوسع فيه دائرة هذا الاستهزاء بين أهل الكفر بإعادة نشر تلك الصور الآثمة في محاولة (لتفريق دمه الشريف بين القبائل) ، نرى كتابا ومثقفين قد تباينت طرائقهم في تناول هذا الحدث ، ما بين متوجع مما حصل ، ومتألم مما جرى ووقع ، ومطالب بوقف هذا المسلسل المشؤوم .
لكن من أغرب وأعجب ما اطلعت عليه جزءا من مقال للدكتور حمزة بن قبلان المزيني والمنشور في جريدة الوطن في عددها الصادر يوم الخميس الثالث من شهر الله المحرم لسنة 1427هـ ، والمعنون بـ (الحكمة في إدارة المعركة) والذي تناول فيه وسائل المقاومة الممكنة التي ينبغي أن تمارس في ظل ما حدث وحصل ، مستعرضا جملة من الأحداث السابقة وكيف تباينت ردود أفعال الأمة اتجاهها ، مثنيا على بعض هذه المواقف والتي حققت المقصود ، وذاما لأخرى .
وتناول فيما تناول مسألة المقاطعة كردة الفعل الإسلامية الأوضح والأظهر لما وقع من تنقص واستهزاء بدين الأمة المتمثل في السخرية من شخص رسول الأمة صلى الله عليه وسلم .
وليس المقصود بهذه المقالة تناول هذه القضية - قضية المقاطعة - والذب عنها والمدافعة ، أو مصادرة رأي فرد لا يرى بالمقاطعة لرأي رآه ، فإن إبداء الرأي في مثل هذه القضية في إطاره الصحيح غير محرم ولا محظور ولا يدعو ضرورة لسوء الظن أو الطعن أو التهمة .
لكن الغريب حماسة البعض في التنقص من خيار الأمة في المقاطعة عبر شعارات ومقالات وكتابات تقول بالنص أو الإشارة (لا لمقاطعة البضائع الدنماركية)! في أسلوب استفزازي ومصادرة للرأي ممن يزعم أنه من أصحاب الرأي والرأي الآخر .
ولا أعلم مبررا مقبولا للحماسة المضادة في موضوع مقاطعة البضائع الدنماركية والتي تصل بصاحبها إلى حد اتهام الأمة بالسطحية والسذاجة ، وأنها لا تعدو أن تكون ظاهرة صوتية ليس إلا ، لا تتحرك ولا تتقدم إلا كردة فعل ما هي إلا كزوبعة في فنجان آيلة للذهاب والزوال ، إلى آخر ما هنالك من كتابات بعض مدعي الثقافة والذين يتحمسون لتسجيل مواقفهم في مصادمة الأمة والسبح ضد التيار بدل تسجيل المواقف في موافقة الحق الذي عليه سواد الأمة على مذهب (خالف تعرف)! .
وموضوع المقاطعة وما تستجلبه من مصالح وما يتصل به من أحكام موضوع شائك كبير يستدعي بحوثا ودراسات تناقش ما يندرج تحته من مسائل فرعية وما أكثرها وحكم كل مسألة منها ، وعسى أن يرى مثل هذا المشروع النور ، فإن المكتبة الإسلامية الشرعية في حاجة ماسة إليه.
وعودا على المقصود فعنوان مقال الدكتور (الحكمة في إدارة المعركة) ، والحكمة هي وضع الشئ في موضعه ، فلا نقاش في أن صد العدوان الذي وقع وجرى يجب أن يكون في ضمن هذا الإطار وبالحكمة ، ولا يجوز أن يخرج عنه ذات اليمين وذات الشمال بتهور طائش ، أو عبث سخيف ، يهدر طاقات الأمة ، ويبدد قوتها ، ولا يحقق المصلحة المرجوة بل قد يستجلب ما يستجلبه التهور من مفاسد .
والحكمة لا تعني ضرورة التهدئة واللين ، وإنما هي المعالجة بالدواء الأنجع للأزمة الراهنة والذي يحقق أكبر قدر من المصالح الشرعية ويقلل ما يمكن من المفاسد المعتبرة ، فهذا هو الإطار الذي يريد الدكتور أن يقدم من خلاله الحلول والتوصيات الممكنة للخروج من الأزمة الراهنة .
وليسمح لي القارئ أن أسائل الدكتور بناء على ما سبق أمن الحكمة اليوم أن يُدعى المسلمون وهم يرون ما يجري ويحدث إلى التسامح والمسامحة؟.(/1)
وأدع الدكتور ليجيب بأحرفه كما سطرها في آخر مقاله وهو الجزء الأساس الذي كتبت من أجله هذه السطور: (ولا بأس من التذكير هنا بأن الله سبحانه وتعالى قد كفى رسوله الكريم المستهزئين. ولنا، من جهة أخرى، فيه صلى الله عليه وسلم قدوة حسنة في تسامحه المبدئي مع من آذوه في حياته وألقوا القاذورات على ظهره وهو ساجد في فناء الكعبة وكسروا رباعيته في غزوة أحد وحاولوا قتله والتآمر عليه. ومع ذلك فقد سامحهم وقال حين ظفر بمن آذاه من قريش قولته الشهيرة "اذهبوا فأنتم الطلقاء" وكذلك كان فعله صلى الله عليه وسلم مع المنافقين الذين تآمروا عليه وتحالفوا مع أعدائه ضده؛ فلم يقتلهم ولم يعاقبهم مع أنه يعرفهم معرفة حقة).
هذا نص كلام الدكتور كما ورد في مقاله دون زيادة أو نقصان .
الدكتور يريد أن يذكرنا بتسامح النبي صلى الله عليه وسلم المبدئي مع من آذاه ، وهو القدوة الأسوة ، والمطلوب من القارئ أن يقدر الرسالة المفهومة من هذه الكلام والذي لا يقدر الكاتب على التفوه بها صراحة ونصا ، خصوصا في الظرف الذي تعيشه الأمة اليوم والذي بدأت ملل الكفر تصرح بمواقفها مما حصل وجرى وتتابع على نشر الصور الآثمة تحت شعارات حرية (التحقير)!.
إن الدكتور يدعونا إلى أن نقتدي بالرسول صلى الله عليه وسلم في تسامحه مع من آذاه ، وعفوه عمن نال منه وعصاه ، وعليه فإن الواجب على الأمة اليوم أن تستبدل هذه الغضبة العارمة بالمسامحة والتسامح ، والتغاضي عما وقع وجرى اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم الذي تسامح مع مخالفيه ، ولم يعاقبهم ، مع معرفته بهم ، ومعرفته لأذيتهم له! .
أليس من الغريب أن تأتي مثل هذه الدعوة والأمة تسمع وترى ما يقع من إهانة لمقامه صلى الله عليه وسلم يتلوها إهانة ؟!.
أليس من العجيب أن نُذكر بالتسامح في وقت تُستفز فيه المشاعر وتُستغضب الأمة مع سبق الإصرار والترصد ؟!.
أليس الأحق بالدعوة إلى مقام التسامح المزعوم هذا مخالفي الأمة الذين لم يراعوا حرمة ولا شعورا فيقدموا اعتذاراتهم الصريحة مما وقع وجرى ، مشفوعة بالإجراءات الكفيلة لعدم وقوع هذا الأمر مرة أخرى ؟!.
إن التسامح الشرعي الصحيح لا يكون إلا إذا وقع في موقعه الصحيح ، وأولئك المستهزئين بمقامه صلى الله عليه وسلم ليسوا موضعا صالحا للتسامح ، وإن التسامح مع أمثال أولئك المجرمين جريمة شرعية لا يجوز أن يكون بحال .
بل إن التسامح والحال كما نرى مخالف للطبيعة الإنسانية والفطرة البشرية ومن استُغضِب فلم يغضب فهو حمار كما قال الإمام الشافعي ، ولئن كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم الحق في التجاوز عمن أساء إليه فإن هذا ليس إلى الأمة ، بل الأخذ بحقه والغضب له واجب إسلامي لا يجوز أن يمس أو يتنازل عنه .
وأي عيش يبقى وأي حياة تطيب يوم يمس جناب النبي صلى الله عليه وسلم والأمة تقف موقف المتفرج المتسامح ، المتغاضية عن صفعات الخصوم ، والتي لا تطالب بحقها ، فإن طلبته فبالأسلوب الهادئ اللين ، وبالابتسامة المهذبة ، وبالكلمة المؤدبة ، لا تجرح المشاعر ، ولا تسفز المخالف .
إن إجماع الأمة عامة منعقد على حرمة التسامح مع ساب النبي صلى الله عليه وسلم ، وعدم جواز إسقاط حقه الشريف صلى الله عليه وسلم ، وما قال عالم ولا شبه عالم بمثل ما يريد الدكتور أن يقوله ، وفي كتاب الصارم المسلول على شاتم الرسول لشيخ الإسلام ابن تيمية عظة وعبرة .
أما أحوال النبي صلى الله عليه وسلم مع من طعن فيه وشتمه فليست كلها على النحو الذي يريد الدكتور تصويره بل له مقامات ومواقف أخذ فيها بحقه الشريف نصرة لدين الله وشرعه ، وإلا فإذا ترك المستهزئ يقول ما شاء ويستهزئ بمن شاء دون أخذ ومحاسبة وعقوبة ، فأي دعوة تبقى وأي دين يعيش .
ويكفي من ذلك أن تعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بقتل بعض من شتمه ولو كانوا متعلقين بأستار الكعبة ، وما قصة كعب بن الأشرف عن ذهن القارئ ببعيد ، وقصة مقتل عقبة بن أبي معيط فيها عظة وعبرة لمن نظر وتأمل .
وإن ما نراه من تآزر ملل الكفر على تشويه صورته صلى الله عليه وسلم لهو دليل على الحقد الدفين ، والحسد العظيم من هذا الانتشار الواسع والمتسارع لدين الإسلام ، الأمر الذي حدا بهم إلى اتخاذ مطية السوء هذه صدا لباب الإقبال على هذا الدين أن يفتح ، وردا لكل وارد عليه ، أفيصح بعد هذا أن نتواصى بالتسامح وندعوا إلى المسامحة ونحن نرى ما نرى ؟!.(/2)
فوالله لو لم تكن البراءة من الكفر وأهله من أصول ديننا ، لكانت البراءة منهم اليوم واجبة مقابلة بالمثل ، فكيف وهي من أصول الإسلام الكبرى ، يقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ * قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ * قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمْ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَكَاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ) .
هذا أمر ربنا ، وهذا هو الفرقان بيننا وبينهم ، وإن رغمت أنوف.(/3)
{لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ}.. لا للاختلاط
إن قضية الاختلاط بين الرجل والمرأة من القضايا الشائكة التي كثر حولها الكلام والحديث، وحدث فيها كثير من خلط الأوراق بين مؤيد للاختلاط المحرم وداعيًا إليه ومرغبًا فيه، بل إن هناك من يدعو إلى المحرمات الظاهرة والفواحش البينة تحت دعوى رفع الظلم عن المرأة المسجونة في سجن الرجال، أو إن شئت قلت في سجن الدين.
وبين أطراف أخرى يجعلون المرأة كالعصفور الحبيس داخل القفص، ويحاول أن يقنعه أن هذا القفص جميل ولا بد أن يموت بداخله مهما كانت الظروف.
والحقيقة أن من يريد أن يتكلم في هذا الموضوع ويتناوله تناولاً صحيحًا وواقعيًا لا بد أن يتصور مجتمع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ تصوراً صحيحًا تكاملاً حتى تنزل النصوص بصورتها الصحيحة، ولا بد لنا أن نفرق بين الاختلاط المحرم، وبين مطلق الاختلاط لحاجة من حاجات المرآة، وكذلك ليس معنى منع الاختلاط أن ننشئ مجتمعًا للرجال وآخر للنساء.
فهذا لم يكن في عصر من عصور الإسلام، بل نريد مجتمعًا يعيش فيه الجميع بلا فتنة ولا ريبة، فالمرأة تتحرك بلا حرج ولكن وفق الضوابط الشرعية لقضاء حاجاتها.
ولكي نفهم هذا الهدي فلا بد لنا أن نتأمل قول الله ـ عز وجل ـ في سورة القصص على لسان ابنتي شعيب حيث قالتا: {لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} [القصص:23].
ـ وهكذا سجل القرآن هذا المشهد الجليل، عبرة لأولى الألباب، وعظة للنساء وكيف يكون خروجهن؟
فليس الخروج بلا سبب وبلا حاجة، بل هو ضرورة ملحة وحاجة ماسة، خروج لا اختلاط فيه ولا زحام، ولا فتنة فيه ولا إغراء، خروج كله عفة وطهر واحتشام.
ـ إذن ليست العبرة في الخروج ولكن سبب الخروج وكيفية الخروج، ولكن انظر إلى المقابل للواقع البائس للمتحررات من الدين والفضيلة في هذا العصر وقد عجت بهن الشوارع والطرقات، واكتظت بهن المكاتب والحافلات، تاركات البيوت وتربية الأجيال، على غير شيء يجنينه غير ضياع الأولاد، وإهمال حقوق الأسرة وتشتت الشمل هنا وهناك، وغابت أمور كثيرة من العفة والتستر وراحة البال!
ـ امتلأت الشوارع بالفتيات، كأنهن عارضات أزياء، يتقلبن في أردية الغرب، نافرات من رواء الإسلام العفيف، مقتديات بكثير من نساء الفن الهابط، بعيدات عن سيرة الصحابيات في صدر الإسلام.
ـ إن الإسلام لا يحرم على المرأة الخروج لحاجة وسبب مهم، سواء أكان للتعليم أو للعلاج أو زيارة مريض، أو صلة رحم، أو العلم إن كان هذا العمل مباحًا خاليًا من المحرمات الشرعية والاختلاط، لا بد أن يكون هذا العمل أيضًا مفيدًا للمرأة وللأمة على حد سواء، وللمرأة أن تذهب إلى أي مكان مع محارمها.
ـ وفي المقابل انظر ماذا جلب لنا الاختلاط من النظرات المحرمة، وكثيرًا من الكلمات الفارغة، فتعددت قصص الحب والغرام، وغضب كل زوج على زوجه، فقل الحب في البيوت، وكثر على قارعة الطريق، وفي مكاتب العمل، وقاعات الدروس.
ـ لقد دخل كل واحد من هؤلاء في مقارنات خاطئة، وقد زين الشيطان فيها نساء الخارج ورجاله، وقبح زوجات البيوت ورجالها، فكثرت النزاعات، وارتفعت الشكاوى والأصوات، هذا بالإضافة إلى تيسير الفاحشة على الشباب والفتيات، وهذا كله أضاع جهد الأمة وشتتها، فلا المرأة جلست لأداء دورها ورسالتها, ولا الرجل خرج إلى عمله وإلى جهاده، بل خرج كل منهما يفتن الآخر ويضيع عمره وجهده ويشغله عما ينفعه، بل انقلبت محاريب العلم إلى ملاهٍ ليلية ونوادي للعشاق، وصالات لعرض الأزياء، فبعد المجتمع المسلم الجاد المجاهد عن أهدافه وطموحاته وراح يلهث وراء السراب والضياع.
ولو امتثلت النساء إلى قول بنتي شعيب في حيائها وعفتها لصلح المجتمع وجمع شمله وتوجه نحو هدفه.(/1)
لا نُلهينّكِ يا غزةُ!
الكاتب : حسين بن رشود العفنان
الحمد لله والصلاة والسلام على رسولنا وقدوتنا وعزنا وحبيبنا محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه أجمعين:
لا نُلهينّكِ يا غزةُ!
إنا عنكِ مشغولونَ ! بكأسِ العالمِ ، وجوهرةِ الأرضِ، والولاءِ والبراءِ في الملاعبِ والمدرجاتِ!
تُُرى يا غزةُ ! من ستضعفُ قوتُه من الفرقِ والمجموعاتِ ، ويُخرجُ من الملاعبِ عاجزًا منهزمًا ؟
كأسُ الأرضِ مجدٌ كالنجمِ علوُه ، وكالجوزاءِ مكانُه!الكأسُ (محلُّه سامقٌ ، ومجدُه باسقٌ ، وشرفُه نجمٌ طارقٌ) فمن نالَه رفعَ من الترابِ إلى السحابِ!
فيا غزةُ ـ في ظنكِ ـ من أحقُّ الدولِ بنيلِ هذا الشرفِ ؟
غزةُ!
لا أريدُ أن أزيدَكِ غمًّا إلى غمِّكِ! لكنّ هناكَ خبرًا سينغصُ عيشكِ !
سيغيبُ اللاعبُ العالميُّ (فلان ) ،عن المباراةِ القادمةِ! لأنّه أصيبَ في قدمِه!
واللاعبُ المشهورُ (علان) جفتْهُ عشيقتُهُ! لا أدري كيفَ سيلعبُ بقوةٍ؟! وهو مُدلّه العقلِ و متشتتُ الفكرِ ؟
ولكنّ هناكَ بشرًى ستذهبُ أحزانَكِ، وتشفي فؤادكِ، وهي عودَةُ اللاعبِ الكبيرِ (فلنتان) من الجَمامِ نشيطًا معافًى!
والأكبرُ من ذلكَ نجاحُ الفريقِ العالميِّ (علنتان) أمامَ خصمِه الشديدِ في ليلةٍ مسكيةٍ!
لا نُلهينكِ ـ يا غزةُ !
فإنّا مشغولونَ بتحريرِ المرأةِ، ونزعِ حجابِها!وكسوتِها بالضيّقِ والشفافِ والقصيرِ وتعليمِها قيادةََ السيارةِ والخروجَ في الشوارعِ و الفضائياتِ وعصيانَ زوجِها وأبيها وأخيها والتطاولِ عليهم وإخراجِها من بيتِها لتبيتَ في كلّ شاشةٍ وصفحةٍ وجوالٍ وعينٍ وفرجٍ!
إنّا مشغولونَ بإنشاءِ القنواتِ والشبكاتِ ونشرِ الكتبِ والمجلاتِ لنثقفَ ألوانَ الفجورِ والفواحشِ لننفضَ رهجَ الجهلِ عنّا واسوءتاه! فنحنُ لا نعرفُ كيفَ ننشئُ العلاقاتِ الجنسيةَ ، ونجهل أنواع الخمور، وعلمُ الموسيقى والرقصِ، لا يسعُ المثقفَ جهلُه ، وعندنا ضيقُ أفقٍ فمازالَ هناكَ ، مقدساتٌ ، وشعائرُ!
غزةُ ـ لا أعلّ اللهُ لكِ جسمًا ـ
اعتصمي باللهِ وحدَه فلا عاصمَ اليومَ!
ولا تخشي اليهودَ، فهم أجفلُ من نعامة!
فكلما هوى حجرٌ حسبوهُ صاروخًا على هاماتِهم! وكما هبتْ نسمةٌ ظنّوها دبابةً تكرُّ عليهم !
وما تطويقُهم إياكِ إلا شاهدًا على حطتِهم!
فقد بالَ الشيطانُ في مسامعِهم، فاستجابُوا، فاستزلَّهم، فتاهُوا وتجبرُوا!
ولابدَ لمن ركبَ هذا المركبَ الوعرَ أنْ يخنسَ ويصغرَ! مهما طالَ ليلُه وعظمتْ قوتُه وكثرتْ أعوانُه!
غزةُ!
اللهُ أرحمُ بنا من أُمّنا وأبينا يعلمُ أنّكِ مظلومةٌ مهضومةٌ، ففوضي أمركِ إليه فهو نصيرُ الظالمين وظهيرُهم!
كمْ أمةٍ سكرتْ بكأسِ غرورِها ذهبَ الإلهُ بجيشِها الأسطوري
صدقتَ حسانَ الصحوةِ!(/1)
لا يقرضونه إلا بتأمين
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ... الفهرسة/ المعاملات/التأمين
التاريخ ... 19/10/1425هـ
السؤال
أنا أعمل في شركة تعطي قرضًا للموظف لشراء سيارة (القرض بدون فوائد)، ولكن تشترط أن ترهن السيارة باسم الشركة، وأن تؤمن السيارة تأمينًا شاملاً، فهل يجوز لي تأمين السيارة تأمينًا شاملاً؟ حيث إني مضطر إلى ذلك إن أخذت القرض من الشركة، ولكني لست مضطرًا لأخذ القرض؛ لأني أستطيع شراء سيارة أخرى بثمن رخيص.
الجواب
ما دمت غير مضطر للقرض من هذه الشركة فأنت غير ملزم بالتأمين من قبلها، أما إذا اضطررت ضرورة شرعية إلى التأمين الشامل من قبل الشركة أو غيرها فلا بأس عليك- إن شاء الله- لا لأن التأمين الشامل حلال في الأصل، وإنما هو جائز للضرورة التي لا تستطيع دفعها، ويلحقك ضرر من عدم حصولك على هذا التأمين الشامل، وأذكرك بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "البِرُّ حُسْنُ الخُلُقِ، والإِثْمُ ما حَاكَ في صَدْرِكَ وكَرِهْتَ أنْ يَطَّلِعَ عليه النَّاسُ". رواه مسلم (2553)، من حديث النواس بن سمعان، رضي الله عنه، وقوله صلى الله عليه وسلم- أيضًا- في اجتناب الشبهات: "الحَلالُ بَيِّنٌ والحرامُ بَيِّنٌ، وبينَهُما أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ لا يَعْلَمُهُنَّ كثيرٌ مِن النَّاسِ، فمَن اتَّقَى الشُّبُهاتِ فقد اسْتَبْرَأ لِدِينِهِ وعِرْضِه، ومَن وقَع في الشُّبُهاتِ وقَع في الحَرَامِ". رواه البخاري (52) ومسلم (1599)، من حديث النعمان بن بشير، رضي الله عنهما. والله أعلم.(/1)
لا يَشكُرُ الله مَن لا يَشكُرُ الناس د. محمد عمر دولة*
لا شكَّ أنَّ لِشُكرِ الله عَزَّ وجلَّ ثَمراتٍ اجتماعية؛ تتجلَّى في صِلَةِ الآخَرِين ومُجازاتِهم بالإحْسانِ وإكْرامِهم وحُسْنِ مُعامَلَتِهم؛ فإنَّ مَن وَطَّنَ نَفسَه على شُكْرِ الله عَزَّ وجَلَّ؛ صارَ الشُّكرُ له سَجِيةً يتعاملُ بها مع كلِّ مَن أحسنَ إليه؛ وخُلُقاً يُجازي به كلَّ مَن تَفضَّلَ عليه.
وما أروعَ حديثَ النبي صلى الله عليه وسلم : (لا يَشكُرُ الله مَن لا يَشكُرُ الناس)[1] وكلُّ حديثِه رائعٌ وبديعٌ صلى الله عليه وسلم ، كما قيل:
ولا حَسَنٌ إلا سَماعُ حَديثِكم ** مُشافَهةً يُمْلَى عليَّ فأنقلُ[2]
فقد روى أحمد[3] والطيالسي[4] والترمذي[5] وأبو داود[6] والبيهقي[7] والقضاعي[8] والبخاري في (الأدب المفرد)[9] عن أبي هريرة رضي الله عنه[10] قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : (مَن لا يَشكُر الناسَ لا يَشكُر الله).
ورواه البيهقي في (شعب الإيمان) عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما والمنذري في (الترغيب والترهيب) عن الأشعث بن قيس[11] قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : (أشْكَرُ الناسِ لله أشْكَرُهم للناس).[12]
فقد صار الشُّكرُ صِفةً نفسيةً راسخةً؛ تهذب السلوك وتعين على البِرِّ وتهدي إلى أحسنِ المعاملة؛ [13] فالشُّكْرُ مَنهَجٌ يتبعُه صاحِبُ الفَضلِ، وأسلُوبٌ يَعْتَمِدُه الحرُّ؛ الذي يرى الإحسانَ قَيْداً في رَقَبَتِه ودَيْناً يجب عليه أداؤه ومعروفاً ينبغي عليه الوَفاءُ به
وقد تَرجَمَ ابنُ حبان رحمه الله لِهذا الحديث: (ذكر ما يجب على المرءِ مِن الشُّكرِ لأخيه المسلم عند الإحسانِ إليه). [14] ورَوَى الهيثمي في باب (شُكر المعروف) عن أبي هريرة رضي الله عنه يقول: سمعت أبا القاسم صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يشكر الله مَن لا يشكر الناس)، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (مَن استعاذَكم بالله فأعِيذُوه، ومَن سألكم بالله فأعْطُوه ومَن دعاكم فأجِيبُوه، ومَن صَنعَ إليكم معروفاً فكافِئوه؛ فإنْ لم تجدُوا ما تكافئونه؛ فادعُوا له حتى تروا أنْ قد كافَيْتُمُوه).[15]
قال القرطبي رحمه الله: "قال الخطابي: هذا الكلام يتأول على معنيين أحدهما: أنَّ مَن كان مِن طبعِه كُفْرانُ نِعمةِ الناسِ وترك الشكرِ لِمَعْرُوفِهم؛ كان مِن عادتِه كُفرانُ نعمةِ الله عزَّ وجَلَّ وترك الشُّكرِ له. والوجه الآخر: أن الله سبحانه لا يَقبَلُ شُكرَ العَبدِ على إحْسانِه إليه؛ إذا كان العبد لا يشكرُ إحسانَ الناسِ إليه ويكفرُ مَعروفَهم؛ لاتصالِ أحدِ الأمْرَين بالآخر".[16]
ولو تأمَّلْنا حالَ الشاكِرِين لله عزَّ وجَلَّ؛ لَوَجَدْناهم أحْسَنَ الناسِ مُعامَلةً للناسِ، سواء في بِرِّ الوالِدَيْن وشُكْرِهما أو في المعاملة بين الزوجين أو غير ذلك؛ وقد قَرَنَ الله بين حَقِّهِ في الشُّكْرِ وحقِّ الوالدَيْن، فقال تبارك وتعالى: (ووصَّينا الإنسانَ بوالِدَيْه حملَتْه أُمُّه وَهْناً على وَهْنٍ وفِصالُه في عامَيْن أن اشْكُرْ لي ولِوالِدَيْك إليَّ المصير).[17] فمَن كان شاكِراً لأنْعُمِ الله وفضلِه وإحسانِه؛ كان شاكِراً لوالِدَيْه، مُعتَرِفاً بفضلِهما عارِفاً بحقِّهما قائماً بِبِرِّهما؛ ورحم الله الزين العراقي حيث قال: "فإن قيل ما وَجْهُ تعلُّقِ رِضَى الله عنه برِضَى الوالد؟ قلنا: الجزاء مِن جنسِ العملِ؛ فلما أرْضَى مِن أمرِ الله بإرضائه رضي الله عنه؛ فهو من قبيل (لا يشكر الله مَن لا يشكر الناس)".[18]
وهذا مُشاهَدٌ كذلك في حالِ النساء ومعاملتهن أزواجَهنَّ؛ فإذا كانت الزوجة صالحةً شاكرةً لربِّها؛ فإنها تكون قائمةً بحقِّ زوجِها شاكِرةً له، وإذا كانت جاحِدةً لِفَضلِ الله عليها؛ فإنها تكون كافرةً لِعَشيرِها جاحِدةً لحقِّه عليها، فتكون من اللاتي ذَمَّهنَّ رول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: (يُكْثِرْنَ الشكاةَ ويَكْفُرْن العَشِير).[19]
ولله دَرُّ البخاري فقد ترجَمَ في كتاب (الإيمان) باب (كُفْران العَشِير، وكُفرٌ دون كُفْر) قال ابن حجر رحمه الله: "قال القاضي أبو بكر بن العربي في شَرْحِه: مُرادُ المصنِّفِ أن يُبيِّنَ أنَّ الطاعاتِ كما تُسَمَّى إيمانا، كذلك المعاصي تسمى كفراً؛ لكن حيث يطلق عليها الكفرُ لا يراد الكفرُ المخرِجُ من الملةِ. وخَصَّ كُفرانَ العشيرِ مِن بين أنواعِ الذنوبِ؛ لِدَقِيقةٍ بَديعةٍ، وهي قوله صلى الله عليه وسلم (لو أمَرْتُ أحداً أن يَسجُدَ لأحدٍ؛ لأمَرْتُ المرأةَ أن تسجدَ لزوجِها)؛ فقرَنَ حَقَّ الزوجِ على الزوجةِ بحقِّ الله؛ فإذا كَفَرَت المرأةُ حَقَّ زَوجِها وقد بَلغَ مِن حَقِّه عليها هذه الغايةَ؛ كان ذلك دليلا على تَهاوُنِها بِحَقِّ الله؛ فلذلك يُطْلَقُ عليها الكُفْرُ، لكنه كُفرٌ لا يُخْرِجُ عن الملة".[20](/1)
فلا تَعارُضَ بين شُكْرِ الناسِ وشُكْرِ الله كما قد يتوهَّمُ بعضُ الناس، بَلْ لا يَقْدِرُ على شُكْرِ الناسِ إلا القادِرُ على شُكْرِ الله عزَّ وجَلَّ، كما قال ابنُ العربي رحمه الله: "أصْلُ النِّعَمِ مِن الله، والخلقُ وَسائطُ وأسبابٌ؛ فالْمُنْعِمُ حقيقةً هو الله، وله الحمدُ وله الشُّكرُ؛ فالحمدُ خَبَرٌ عن جَلالِه، والشُّكرُ خَبَرٌ عن إنْعامِه وأفْضالِه؛ لكنه أذِنَ في الشُّكرِ لِلناس لِما فيه مِن تأثيرِ المحبة والأُلْفَة".[21] فتأمَّلْ هذه الثمار النفسية والاجتماعية للشكر.
فمن كان لربِّه شاكِراً حامِداً ذاكِراً؛ كان لِفَضلِ عِبادِه شاكِراً حيث يغدُو الوفاءُ والبرُّ له مَنهَجاً يُحتَذَى، والاعترافُ بالفضل ومُجازاة المعروف بالمعروفِ أُنموذَجاًً يُقتدَى و(هَلْ جزاءُ الإحسانِ إلا الإحسان)[22] .
- - - -
[1] قال العجلوني: "رواه أحمد بسند رجاله ثقات عن الأشعث بن قيس رفعه، وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة مرفوعا، وصححه الترمذي عن أبي هريرة، وقال الحافظ ابن حجر: فيه أربع روايات: رفع لفظ الجلالة والناس، ونصبهما، ورفع الأول ونصب الثاني، وبالعكس، وتوجيهها ظاهر". كشف الخفاء ومزيل الإلباس للعجلوني 2/508، حديث 3146. مؤسسة الرسالة، بيروت، ط4، 1405 هـ.
[2] من القصيدة الغرامية لابن فَرَح.
[3] مسند أحمد 2/258، حديث 7495 و7926، و8006، و90022، و9945، و10382، مؤسسة الرسالة.
[4] مسند أبي داود الطيالسي 1/326، حديث 2491. دار المعرفة بيروت.
[5] سنن الترمذي4/339، حديث 1954-1955، باب (ما جاء في الشكر لمن أحسن إليك). وقال: هذا حديث حسن صحيح.
[6] سنن أبي داود 4/255، باب في شكر المعروف، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يشكر الله من لا يشكر الناس). حديث 4811.
[7] السنن الكبرى للبيهقي 6/182، في باب شكر المعروف، حديث 11812.
[8] مسند الشهاب لمحمد بن سلامة القضاعي 2/35، حديث 829، و830. وترجم به (لا يشكر الله من لا يشكر الناس)، مؤسسة الرسالة بيروت، ط2، 1407 هـ.
[9] الأدب المفرد للبخاري 1/85، دار البشائر الإسلامية بيروت، حديث 218.
[10]وقد وردت روايات أخر عن غير أبي هريرة منهم: الأشعث بن قيس، وابن عمر رضي الله عنهم أجمعين.
[11] الترغيب والترهيب للمنذري 2/45، حديث 1435، دار الكتب العلمية بيروت، ط1، 1417 هـ.
[12] شعب الإيمان 6/516، حديث 9118. دار الكتب العلمية بيروت، ط1، 1410 هـ.
[13] قال ابن العربي رحمه الله: "(من لا يشكر الناس لا يشكر الله) روي برفع الجلالة والناس، ومعناه من لا يشكره الناس لا يشكره الله، وبنصبهما: أي من لا يشكر الناس بالثناء بما أَوْلوه لا يَشكُر الله؛ فإنه أمر بذلك عبيده، أو مَن لا يَشكُر الناسَ كمن لا يشكر الله، ومَن شَكرَهم كمن شَكَره، وبرفع الناس ونصب الجلالة وبرفع الجلالة ونصب الناس، ومعناه: لا يكون من الله شاكرا إلا من كان شاكرا للناس، وشُكرُ الله ثناؤه على المحسِنِ وإجراؤه النِّعَمِ عليه بغير زوال". فيض القدير للمناوي 6/240. المكتبة التجارية الكبرى، مصر، ط1.
[14] صحيح ابن حبان 8/198. حديث 3407، مؤسسة الرسالة بيروت، ط2، 1414 هـ.
[15] موارد الظمآن للهيثمي1/506، حديث2070، وحديث2071.
[16] الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 1/398،
[17] لقمان 14.
[18] فيض القدير للمناوي 4/33.
[19] رواه البخاري 1/19.
[20] فتح الباري لابن حجر 1/83، دار المعرفة بيروت.
[21] فيض القدير 6/224-225.
[22] الرحمن 60.(/2)
لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ
الكاتب: الشيخ د.علي بن عمر بادحدح
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه،،، وبعد :
فإن أنباء تجَدُّد العدوان الصهيوني الآثم على فلسطين ولبنان تطغى على كل الأخبار، وتشغل المساحة الأكبر في وسائل الإعلام المختلفة، فعلى مرأى ومسمع من العالم كله قام الكيان الصهيوني بأبشع جرائم القتل التي كان ضحاياها من المدنيين من النساء والأطفال والشيوخ، كما مارس التدمير الآثم على خدمات الكهرباء والمياه والمطارات والموانئ والجسور والطرقات، في جريمة كبرى لا مثيل لها في وضوحها وبشاعتها، وفي خضم المناورات والحسابات السياسية تختلط كثير من الحقائق والرؤى الصائبة، وهذه نظرات مستلهمة من القرآن والسنة حول المفاهيم والمواقف :
أولاً: مفاهيم الصراع المبدئية
1- الصراع مع اليهود الصهاينة - ومركزه أرض الإسراء - صراع عقدي حضاري ، وأسبابه لها جذور تاريخية في عداء اليهود للإسلام منذ بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ، و من هنا يأتي فهم سياق الأحداث الجارية من مثل قوله تعالى: { كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ } [ المائدة: 64]، أي "كلما عقدوا أسباباً يكيدونك بها،وكلما أبرموا أموراً يحاربونك بها يبطلها الله ويرد كيدهم عليهم" [ ابن كثير ص 634 ] "وكون المراد من الحرب محاربة الرسول صلى الله عليه وسلم هو المروي عن الحسن ومجاهد" [ الألوسي 6/183] ، ومزيد من البيان نجده في قوله تعالى: { لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا } [ المائدة:82 ] ،" وهذا خبر مطلق منسحب على الزمن كله، وهكذا هو الأمر حتى الآن، وذلك أن اليهود مَرَنُوا على تكذيب الأنبياء وقتلهم، ودَرَبُوا العتوَّ والمعاصي، ومَرَدُوا على استشعار اللعنة وضرب الذلة والمسكنة، فهم قد لحَجَتْ عداوتهم، وكثُرَ حسدهم، فهم أشد الناس عداوة للمؤمنين" [ ابن عطية ص 568]، وطبيعة الإجرام والعدوان اللإنساني الغاشم الذي يمارسه الكيان الصهيوني المحتل نراه جلياً بكل قسوته وفظاعته في قوله تعالى: { كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلّاً وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ * اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلّاً وَلا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ } [ التوبة:8 _10] .
2- الغايات التي يريدها الصهاينة،وأمريكا الداعمة لهم ، والغرب المتواطئ معهم معرفتها سهلة لظهورها في الواقع مصداقاً لقول الله تعالى: } يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ } [ التوبة:32-33)
] ، فالغايات الكبرى هي مناوأة الإسلام، ومحاربة عقائده ومبادئه، ومن ثم استهداف معتنقيه وحملته بالقتل بصفة دائمة كما ورد في قوله تعالى: { وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [ البقرة:217].
3- سنة الكون لا تتبدل ولا تتغير فالتمكين في الأرض ممزوج ومسبوق بسنة الابتلاء ، قال تعالى: { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ } [ البقرة: 214](/1)
4- نهاية الصراع وعاقبة المواجهة والجهاد واضحة عند المسلمين، وهي دائرة بين اثنتين: (النصر أو الشهادة) وفي الأولى عز الدنيا، وفي الثانية فوز الآخرة { قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ * قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ } [ التوبة:52]، والبيان التوضيحي لذلك نجده في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( تكفل الله لمن جاهد في سبيله لا يخرجه إلا الجهاد في سبيله وتصديق كلماته بأن يدخله الجنة أو يرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه مع ما نال من أجر أو غنيمة ) رواه البخاري.
ثانياً: مفاهيم المقاومة والانتصار
1- إن مقاومة المحتل والدفاع عن الأرض والعرض حق مكفول في جميع الملل والشرائع ، ومشروعية المقاومة ضد المحتل أقرتها الأعراف والقوانين الدولية، واستمداد المشروعية - عند المسلم - لا يفتقر إلى ذلك لأن أساسه الوحي المعصوم ومواده آيات القرآن الكريم فالحق جل وعلا يقول: { وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ * أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَأُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ } [ التوبة:12 – 14]، وفي سنة سيد المجاهدين صلى الله عليه وسلم عن سعيد بن زيد قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد ) [ رواه الترمذي،وله رواية مختصرة عند البخاري ]، فهل بعد هذه المشروعية الواضحة المحددة في الحالات المختلفة حاجة لمزيد ؟
وينبغي التنبيه أن مشروعية الجهاد الإسلامي الصحيح المشروع دائمة ومستمرة ومستمدة من سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم فقد روى سلمة بن نفيل الكندي قال:كنت جالسا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رجل: يا رسول الله أذال الناسُ الخيل ووضعوا السلاح، وقالوا لا جهاد، قد وضعت الحرب أوزارها، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجهه وقال: ( كذبوا، الآن الآن جاء القتال، ولا يزال من أمتي أمة يقاتلون على الحق، ويزيغ الله لهم قلوب أقوام ويرزقهم منهم حتى تقوم الساعة، وحتى يأتي وعد الله، والخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة ) رواه النسائي.
2- إن المرابطين المقاومين المجاهدين في سبيل الله، ومن ورائهم المؤمنون بالله حق الإيمان يدركون الحقائق الإيمانية ويعرفون الموازين الإسلامية فيمضون في معاركهم وهم على بصيرة،فهم على يقين أن النصر من الله وليس بعدة ولا عتاد ولا كثرة أعداد { قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ } [ البقرة: 249] { وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ } [ آل عمران: 126]، ومن قوة إيمانهم يثبتون ويصبرون فموقفهم في مثل هذه المواجهة - رغم شدتها - التقدم لا التراجع وكأنهم يمضون مع قوله تعالى: { وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً } [ النساء:104]، ويجددون ما مضى عليه أسلافهم من المجاهدين المؤمنين { مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً } [ الأحزاب:23 ].(/2)
3- إن المقاومة دليل حياة الشعوب، ومؤشر على كرامة وحرية الرافضين للاحتلال ، ولا يرضى بالذل ويستسلم للعدوان إلا من سفه نفسه وفقد إنسانيته، ،ولا بد من تثبيت معاني كرامة وعزة المسلم وأنه يجب أن لا يذل إلا لخالقه استجابة لنداء الحق جل وعلا: { وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } [ آل عمران:139]، وحين يكثر الظلم وتتوالى الضربات والإهانات تضمر هذه المعاني ، وللأسف فإننا نجد أن وسائل الإعلام تسهم في تكريس ذلك من خلال تزييف معاني العزة والكرامة والاستهزاء بها، وبالتالي تنسى هذه المعاني مع مرور الزمن وتعاقب الأجيال، مما يستدعي التأكيد على ذلك سيما في مثل هذه الأزمنة التي مرت فيها الأمة الإسلامية بحالات من الضعف الشديد، ولعل من سبل مواجهة ذلك إبراز أثر المقاومة في العزة والاستعلاء الإيماني.
4- إن تاريخ أمتنا يكشف لنا أن المسلمين انتصروا في معاركهم الكبرى جميعها رغم قلة قوتهم عدداً وعدة مقارنة بعدوهم، ففي يوم بدر يقول سبحانه وتعالى: { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ } [ آل عمران:13]، وهكذا كان الحال في اليرموك والقادسية، بل وفي حطين وعين جالوت، ومثل ذلك في فتح الأندلس والقسطنطينية، وفي العصر الحديث كانت المقاومة الباسلة للمحتل الفرنسي في الجزائر، وللمحتل الإيطالي في ليبيا، وللمحتل الإنجليزي في مصر والعراق وغير ذلك، وقل أن تجد في التاريخ مقاومة لمحتل لديها قوة مكافئة للمحتل فضلاً عن أن تكون متفوقة عليه، ومن ثم لا بد من تقديم ضريبة العز، وبذل عربون النصر من خلال تقديم الشهداء، وضرب أروع أمثلة التضحية والفداء، وأما الانتظار إلى أن تتعادل الكفة وتتكافأ القوى فغير ممكن وخاصة في ظل حكومات عربية لا هم لها سوى الحفاظ على كراسي حكمها، وبالتالي فإن اقل القليل هو دعم المقاومة الشعبية التي تنهك هذا العدو وتزلزل كيانه وتقلق راحته .
ثالثاً: مفاهيم المواجهة الحالية
1- إن أساس المواجهات الحالية وأصلها يتمثل في الاحتلال، ووجود الصهاينة المحتلين على أرض فلسطين ولبنان هو السبب لكل ما يجري، ولذا يجب أن تتجه الأنظار إلى لب المشكلة لا إلى آثارها، ولا يغيب عن ذهن أي عاقل ما سبق هذه الاعتداءات الصهيونية على فلسطين ولبنان من أعمال إجرامية مليئة بالغطرسة والعدوان من قتل وهدم وتجريف واعتقال وهو ما يعتبر سمة أساسية في هذا الكيان الغاصب، الذي يضرب عرض الحائط بكل القوانين والقرارات الدولية،فلا يصح بحال قطع ما يحصل الآن من قصف لفلسطين ولبنان عن تاريخ هذا الكيان المليء بالانتهاكات والعدوان والظلم الشنيع ، ومن ثم فإن كل فعل ضد هذا الإجرام الفظيع أقل درجاته أنه من باب الدفاع عن النفس، واسترداد الحق، ومعاقبة المجرم المعتدي، { فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } [ البقرة:194 ]، { وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ } [ الشورى:39 ] .
2- ينبغي الانتباه إلى أنه - في هذه الأحداث الدامية العصيبة - يوجد عدو مشترك وهو العدو الصهيوني الذي استقوى بأمريكا وغيرها من قوى الاستكبار ، ومارس القتل والتشريد للمستضعفين من المسلمين بكافة أجناسهم وطوائفهم وهذا عدو للجميع، وينبغي التوحد في مواجهته ، حتى وإن اختلفنا في المذاهب والتوجهات، وإن كل ما يضر العدو الصهيوني ويؤذيه ويوقع فيه النكاية فالموقف منه التأييد بعض النظر عن مصدره ومعتقده أو مذهب فاعله، ولذلك أصل في أول سورة الروم { غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ } [ الروم: 5].(/3)
3- إن المعارك والمواجهات الحالية إنما هي جزء من مرحلة طويلة في مضمار الصراع ، ولا زالت هناك مراحل مليئة بالمواجهات فلا ينبغي أن تختصر القضية في هذه الأحداث الجارية حالياً، ولا ينبغي أن نؤخذ بالأحداث الآنية فالأيام دول، { وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ } [ آل عمران: 140]، وفي يوم أحد : " قال أبو سفيان يوم بيوم بدر يوم لنا ويوم علينا، ويوم نُسَاء ويوم نُسَر، حنظلة بحنظلة وفلان بفلان وفلان بفلان " ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا سواء، أما قتلانا فأحياء يرزقون وقتلاكم في النار يعذبون ) ، وإن الأحداث الراهنة - بما فيها من شدة و عسر - تكشف صدق الصادقين وزيف المدعين الذين وجدوا في ظاهر الأحداث فرصة للتشفي من أمتهم ومبادئها، وتأكيداً لخنوعهم ودعوتهم المخذلة للارتماء في أحضان الخصوم والأعداء { مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ } [ آل عمران:179].
4- إن العقيدة الصهيونية قائمة على استغلال أي فرصة لضرب أي جهة تقاومها أو تفكر في مقاومتها مستقبلاً ، ويخطئ من يظن أن المقاومة في فلسطين لها قدرة على تجنب القتال لأنه مفروض عليهم بحكم النظرية العدوانية الصهيونية ومن خلال التفوق في القوة والآلة العسكرية التي تتظافر على وجوب إرغام الجميع لسيادتها سواء تحت تهديد القوة أو الاستسلام المسمى بأسماء السلام أو التطبيع .
رابعاً: مواقف الأطراف المختلفة
1- إن موقف الدول الكبرى تراوح بين التأييد الظالم والسكوت المظلم، والمسارعة للضغط على الطرف المظلوم وتحميله المسئولية، ومطالبته بتنفيذ شروط المعتدي والرضوخ لإرادته دون قيد أو شرط، وإضفاء الشرعية على عدوانه وصبغه بالدفاع عن النفس ، وهذا هو موقف أمريكا المعلن، وموقف أوروبا المبطن، وموقفهم جميعاً - قبل الأحداث الأخيرة - كان متفقاً على محاربة الحكومة الفلسطينية المنتخبة ومحاصرتها هي والشعب الفلسطيني بكامله رغم المأساة والمعاناة، وكل ذلك دليل على زيف دعاوى تحقيق الديموقراطية، وعدم مصداقية الحفاظ على حقوق الإنسان، واختلال ميزان العدل، وغياب المساواة، وترسيخ مبادئ الظلم والعدوان ، كما أنه دليل على أن تلك الدول تتبنى الإضرار بالعرب والمسلمين وتفرح بأذاهم وتساعد على ذلك وتؤيده ، بل إن أمريكا تمنع مجرد إدانة المعتدي وذلك من خلال استخدام حق النقض الفيتو الذي يمثل شريعة الغاب، ويلغي الحق والعدل بالقوة والهوى، { وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ } [ البقرة:120]
2- تعودت الشعوب المضطهدة في فلسطين ولبنان وغيرها أن تسمع من الدول العربية كلمات الشجب والاستنكار التي لا تدفع ولا تنفع، وقبل هذه الأحداث كانت مجازر شاطئ غزة وجرائم وحشية يهودية متكررة، فضلاً عن وجود آلاف الأسرى الفلسطينيين بمن فيهم من النساء والأطفال وكل ذلك قابله السكوت المطبق طوال الأشهر السابقة في فلسطين ، وموقف الدول العربية من الأحداث الحالية يكشف عن ضعف وعجز وتخاذل وانكسار، وليت الأمر توقف عند هذا الحد على ما فيه من خزي وعار ومهانة، إلا أننا نرى بعض تلك الحكومات نزلت إلى درجة لم تكن متوقعة من التخلي التام عن المقاومة المشروعة بل وإدانتها بشكل مباشر أو غير مباشر، وذلك يتضمن إعطاء العدو الصهيوني مشروعية التدمير والعدوان ، وهذا ما تذكره وتستشهد به أمريكا، وأين هذه المواقف من قوله تعالى: { وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [ الأنفال:72 ]،وهذا كله بخلاف ما عليه شعوب البلدان العربية والإسلامية التي تؤيد في معظمها المقاومة وتتلهف لمعاونتها والوقوف في صفها .
خامساً: الموقف من حزب الله
1- إن اتخاذ المواقف - في مثل هذه الأحداث - يؤسس على قاعدة جلب المصالح ودرء المفاسد، وذلك يرجع إلى اجتهاد أهل الشأن حسب تقديرهم المستهدي بأصول الشريعة ومحكماتها، والمستند إلى معرفة وخبرة واقعية بمجريات الأحداث، وهو اجتهاد قد يعتريه الخطأ ويتغير بحسب ظروف الزمان والمكان .
2- لا يخفى على أي مطلع أن الحزب شيعي المذهب، وله ارتباطاته الواضحة بإيران، وصلاته المعروفة بسوريا،وذلك له أثره الواضح على توجهاته وأعماله، ولكن هذا ليس هو المقياس الوحيد في هذه المعركة التي نحن بصددها .(/4)
3- إن للحزب وحلفائه أهدافاً تخصهم وتصب في مصالحهم الذاتية، وأهدافاً يشتركون فيها - من خلال العمل الميداني على الأقل - مع المقاومة في فلسطين ومع مصالح بقية الأمة، وذلك في إلحاق الضرر بالعدو الصهيوني، وكل أذى ونكاية في هذا العدو مطلوبة ومرغوبة.
4- الوقت الحالي - مع استمرار هذا العدوان - ليس وقتاً مناسباً للمحاسبات المذهبية أو الطائفية بل هو وقت ينبغي فيه التركيز على العدو الأكبر الذي يهلك الحرث والنسل ويهدد البلاد والعباد .
5- إن النظرة الكلية للصراع تقتضي رد الجزئيات إلى الكليات وربط الفروع بالأصول والنظرة الشاملة هي المطلب الذي يساعد على صواب الرأي ووضع الأمور في نصابها من خلال رؤية خطورة وشمولية المعركة، والأطراف المشاركة والمؤيدة للعدوان، بحيث يكون التأييد أو التحفظ في إطار محدد ومتوازن، وبما يحقق المصالح ويدفع المفاسد.
6- إن العدوان الصهيوني الحالي في لبنان ليس وليد وقته وليس ردة فعل لحدث معين - كما يبدو للناظر لأول وهلة - بل إن الوقائع تدل على غير ذلك، حيث لا يمكن أن يكون تحديد الأهداف الكثيرة، والعمليات المتواصلة مع تحديد مدد ومطالب معينة، كل ذلك لا يُمكن إلا بتخطيط مسبق وإعداد مبيت، ومثل هذا تماماً يُقال في الأحداث الأخيرة في فلسطين بعد عملية (الوهم المتبدد) وما تلاها من عمليات عسكرية وخطف للوزراء والنواب، وهذا يتوافق مع إستراتيجية العدوان الصهيوني الذي يسعى إلى إنهاء كل قوة محتملة يمكن أن تشكل مقاومة له أو حجر عثرة في طريق مخططاته.
سادساً: المواقف والأعمال المطلوبة
إنه لابد لنا إزاء هذه الأحداث أن نغير في مسيرة حياتنا فكراً وشعوراً وسلوكاً بما يلزم من الاستمساك بالدين والاعتصام بالكتاب والسنة وهذه بعض الخطوات المطلوبة :
1- تجديد التوبة، وصدق الالتجاء إلى الله، والاجتهاد في الاستقامة على شرع الله، واجتناب المعاصي والابتعاد عما حرم الله.
2- تحقيق الأخوة الإيمانية وتوكيد الرابطة الإسلامية بنصرة إخواننا المجاهدين في فلسطين ببذل المال وتقديم الإغاثة لهم بكل الوسائل والإمكانات المتاحة ومشاركتهم شعورياً وعاطفياً باستشعار مصابهم وآلامهم، علماً بأن إخواننا من أهل السنة في لبنان أصابهم بلاء كثير وحصل لهم تهجير كبير وهم موجودون في مزارع شبعا الحدودية وبعض قرى الجنوب و مدينتا صيدا وصور هما عمق سني لشمال لبنان.
3- التوعية بالحقائق الإيمانية والمبادئ الإسلامية في مواجهة الأعداء ومجابهة الخطوب وتوضيح المعاني الشرعية الصحيحة للمفاهيم الإسلامية المهمة كالجهاد والولاء والبراء، وتعزيزها في ضوء النصوص الشرعية والأحداث الواقعية وحقيقة الصراع بين الحق والباطل مع التحذير من التخذيل واختلاط المفاهيم .
4- التخفف من الدنيا وتجنب الركون إليها والبعد عن الاستكثار من المباحات والانشغال بالكماليات ، والاعتبار بما جرى لإخواننا من الدمار والعدوان، وتهيئة النفوس لحياة الجد والعزم، واستنهاض الهمم لعيش العزة والكرامة، وتحديث النفس بالدفاع عن الإسلام والمسلمين وصد عدوان المعتدين .
5- العمل على إحياء المقاطعة الاقتصادية للبضائع والخدمات والمصالح التجارية للكيان الصهيوني وأمريكا الداعمة له، والتنبيه على أهمية ذلك وجدواه كسلاح من أسلحة المقاومة ضد العدو.
6- استحضار ضراوة المعركة وخطورة المؤامرة التي يجتمع فيها العدو الصهيوني، مع دعم مطلق من أمريكا، وتآزر مباشر وغير مباشر من بعض دول أوروبا، وأهمية إدراك استهداف مكامن القوة والعزة عند المسلمين، والعمل على تفريق صفهم وتفتيت وحدتهم والاستفراد بهم كلاً على حده على مستوى الدول والشعوب، وضرورة تفويت الفرصة على الأعداء بالوحدة والنصرة حتى لا يأتي يوم يقال فيه أكلت يوم أكل الثور الأبيض .
7- الابتهال إلى الله تعالى، والقنوت في الصلوات، والتضرع في الخلوات، وتحري أوقات الإجابة في جوف الليل والأسحار بأن يعز الله الإسلام والمسلمين ويحبط كيد الأعداء المجرمين .
8- قيام علماء الإسلام ودعاته ومفكريه بواجبهم في إيقاظ الأمة وتنبيهها للمخاطر، وتقوية عزيمتها، وحفظ إراداتها من أسباب الوهن والإحباط والاستسلام، وكشف طرائق ومخاطر الذين يسعون في جعلها تابعة ذليلة خانعة، ومن أوجب واجباتهم وضع التصورات والخطط وبرامج الأعمال التي تستهدف نهضة الأمة ووحدتها ورفع معنوياتها وزيادة فاعليتها ورسم مستقبلها وحفظ حقوق أجيالها وعدم الاكتفاء بإلقاء التبعة في ذلك على الحكومات.
والله نسأل أن يلم شمل المسلمين ويوحد صفهم ويزيد قوتهم، وأن يدحر أعداءهم من اليهود وحلفائهم ، وأن يكتب العاقبة للمؤمنين، ويجعل الدائرة على الكافرين ولو بعد حين، والحمد لله رب العالمين(/5)
لابد من العمل لله
عن ثوبان رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زُوي لي منها. وأُعطيت الكنزين الأحمر والأسود. وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة عامة، وألا يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم. وإن ربي قال: يا محمد! إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يُرد، وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة عامة، وأن لا أسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من بأقطارها ( أو قال: من بين أقطارها )، حتى يكون بعضهم يهلك بعضا، ويسبي بعضهم بعضا.[1]
قال النووي: وهذا الحديث فيه معجزات ظاهرة, وقد وقعت كلها بحمد الله كما أخبر به صلى الله عليه وسلم.[3]
وحاصله أنه طوى له الأرض وجعلها مجموعة كهيئة كف في مرآة نظره. قال السندي: وهو يحتمل أن يكون حقيقة، ويحتمل أنه الإدراك فيكون مجازا. فإنه لما أدرك جميعها صار كأنه جُمعت له حتى رآها. والمراد من الأرض ما سيبلغها ملك الأمة لا كلها، يدل عليه ما بعده. (فرأيت مشارقها ومغاربها ): أي جميعها.
قوله: ( وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوى لي منها ): أي من الأرض. والمعنى: أن الأرض زُويت جملتها له مرة واحدة، فرآها. ثم هي تُفتح له جزأٌ جزأٌ منها، حتى يأتي عليها كلها.
قوله: ( وأُعطيت الكنزين الأحمر والأبيض ): ( وأُعطيت ) على بناء المفعول وقد أعطاه الله تعالى مفاتيح الخزائن المفتوحة على الأمة. والمراد بـ ( الكنزين ) : الذهب والفضة, والمراد خزائن كسرى وقيصر ملكي العراق والشام. وذلك أن الغالب على نقود ممالك كسرى الدنانير, والغالب على نقود ممالك قيصر الدراهم. وفي النهاية: فالأحمر مُلك الشام، والأبيض مُلك فارس. وإنما قال لفارس الأبيض لبياض ألوانهم ولأن الغالب على أموالهم الفضة, كما أن الغالب على ألوان أهل الشام الحمرة وعلى أموالهم الذهب.
وفيه إشارة إلى أن ملك هذه الأمة يكون معظم امتداده في جهتي المشرق والمغرب, وهكذا وقع. وأما في جهتي الجنوب والشمال فقليل بالنسبة إلى المشرق والمغرب. وصلوات الله وسلامه على رسوله الصادق الذي لا ينطق عن الهوى, إن هو إلا وحي يوحى.
قوله: ( أن لا يهلكها ): أي أن لا يهلك الله الأمة. ( بسنة ): السنة: القحط والجدب وهو من الأسماء الغالبة. ( عامة ): يعم الكل. أي بقحط شائع لجميع بلاد المسلمين. قال البغوي: وإنما جرت الدعوة بألا تعمهم السنة كافة، فيهلكوا عن آخرهم. فأما أن يُجدب قوم، ويخصب آخرون، فإنه خارج عما جرت به الدعوة.
قوله: ( وأن لا يسلط عليهم عدوا ): وهم الكفار ( من سوى أنفسهم )، أي كائنا من سوى أنفسهم. وذلك لأن العدو من أنفسهم أهون، ولا يحصل به الهلاك الكلي ولا إعلاء كلمته السفلى. ( فيستبيح بيضتهم ): والمعنى: أي يستأصل جماعتهم وأصلهم. والبيضة أيضا العز والملك. قال الجزري في النهاية: أي مجتمعهم, وموضع سلطانهم, ومستقر دعوتهم. وبيضة الدار: وسطها ومعظمها. أراد إذا أُهلك أصل البيضة كان هلاك كل ما فيها من طعم أو فرخ. وإذا لم يهلك أصل البيضة ربما سلم بعض فراخها. وقيل أراد بالبيضة الخوذة, فكأنه شبه مكان اجتماعهم والتئامهم ببيضة الحديد. قال القاري: والنفي منصب على السبب والمسبب معا، فيُفهم منه أنه قد يسلط عليهم عدو، لكن لا يستأصل شأفتهم.
قوله: ( إذا قضيت قضاء ): قال المظهر: اعلم أن لله تعالى في خلقه قضاءين مبرما ومعلقا بفعل, كما لو قال: إن فعل الشيء الفلاني كان كذا وكذا, وإن لم يفعله فلا يكون كذا وكذا، من قبيل ما يتطرق إليه المحو والإثبات، كما قال تعالى في محكم كتابه: [ يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ ] [ الرعد: 39 ] . وأما القضاء المبرم، فهو عبارة عما قدره سبحانه في الأزل من غير أن يعلقه بفعل, فهو في الوقوع نافذ غاية النفاذ, بحيث لا يتغير بحال ولا يتوقف على المقضى عليه ولا المقضي له, لأنه من علمه بما كان وما يكون. وخلاف معلومه مستحيل قطعا, وهذا من قبيل ما لا يتطرق إليه المحو والإثبات. قال تعالى: ] َلا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ [ [ الرعد: 41 ] ... فقوله سبحانه وتعالى في الحديث: ( إذا قضيت قضاء فلا يرد ) من القبيل الثاني, ولذلك لم يُجب إليه. وفيه أن الأنبياء مستجابو الدعوة إلا في مثل هذا.
قوله سبحانه وتعالى: ( وإني أعطيتك ): أي عهدي وميثاقي. ( لأمتك ): أي لأجل أمة إجابتك. ( ألا أهلكهم بسنة عامة ): أي لا أهلكهم بقحط يعمهم, بل إن وقع قحط فيكون في ناحية يسيرة بالنسبة إلى باقي بلاد الإسلام. فلله الحمد والشكر على جميع نعمه.
قوله: ( ولو اجتمع عليهم ): أي الأعداء الذين هم ( من بأقطارها ): أي بأطرافها، جمع قطر، وهو الجانب والناحية. والمعنى فلا يستبيح عدو من الكفار بيضتهم ولو اجتمع على محاربتهم من أطراف بيضتهم. ( حتى ) بمعنى كي، أي لكي يكون بعض أمتك يهلك بعضا.(/1)
والحديث مقتبس من قوله تعالى: ] أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ [ [ الأنعام: 65 ] . وقد أفاد الحافظ بن كثير في تفسيره لهذه الآية ( 1/687-689 )، وذكر جميع طرق الحديث الذي يعد طرفا من الحديث المذكور.
وهذا الحديث يبشر باتساع دولة الإسلام حتى تشمل المشارق والمغارب، أي الأرض كلها ... وفي هذا من الخير ما فيه.
إن هذا الحديث يطرح علينا تساؤلات عديدة من وحي الأحداث الراهنة التي تمر بها أمتنا الإسلامية، نعرضها فيما يلي:
* هل ستصمد أمة الإسلام أمام تلك الهجمة الشرسة التي يقودها التحالف الأمريكي الصهيوني عليها حاليا؟
والإجابة بكل تأكيد هي نعم. فلن يتمكن هذا التحالف – وإن بدا للناظر غير ذلك – من تفكيك الأمة الإسلامية أو تضييع الإسلام. قد يستطيع هذا التحالف تحقيق انتصارات مؤقتة وفي أماكن متفرقة من الأمة الإسلامية، لكنه لن يستطيع ضرب الأمة كلها في مقتل. بل سوف تقوم الأمة الإسلامية – حين يأذن الله – بضرب هذا التحالف ودحره والانتصار عليه.
* كيف تهزم الأمة الإسلامية – إذن - هذا التحالف الأمريكي الصهيوني؟
بالاعتصام بشرع ربها وسنة نبيها صلى الله عليه وسلم. فلن ينجي هذه الأمة من المحنة التي تمر بها حاليا سوى الرجوع إلى الله تعالى، وأن تجعل الله تعالى في صفها على عدوها. أما أن تعادي الأمة ربها، ثم تطلب منه النصر على عدوها، فهذا من المحال الذي لا يمكن أن يتحقق.
لابد من التبصرة بالتاريخ الأسود للأمريكان واليهود، ومحاولة تزييفهم لتاريخ الأمة الإسلامية ووعيها. وتبصرة جميع الناس بذلك، حتى تنجلي الغشاوة عن أعين أفراد الأمة، ويعرفون الحقيقة ناصعة، ويقفون على حقيقة الدور الأمريكي والصهيوني الذي امتد للعبث بتاريخ أمتهم ومقدراتها، ويريد لهذه الأمة ألا تقوم لها قائمة أبدا.
ويأتي بعد هذه التبصرة مرحلة العمل. إن الله سبحانه وتعالى تكفل بحفظ دينه، فدين الله سيعود ليهيمن بسلطانه من جديد على الكرة الأرضية، وينشر عدالته وتعاليمه فيما بين أبناء العالم. ولن يكون الإسلام هو السعيد إذا اخترت أنت العمل له، بل السعيد هو أنت لأنك في هذه الحالة سيكتب لك أن تكون من أصحاب الجنة. قال تعالى: ] فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [ [ آل عمران: 185 ] .
فينبغي علينا في ضوء هذه البشارة العظيمة التي جاءت في هذا الحديث أن نجتهد وأن نشمر سواعدنا لخدمة الدين، وألا ننخذل أو نضعف بسبب أن أعدائنا قد سبقونا وتخطونا. فالعمل العمل يا أبناء الإسلام! و] َلا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلاَدِ [ [ آل عمران: 196 ] . إنك حينما تعرف أن مصير عدوك هو إلى النار والهوان، لأشفقت عليه مما يفعله بنفسه الآن. كما أن من الواجب علينا أن ندرس طبيعة عدونا: أفكاره ودعايته واستراتيجيته التي يحاربنا بها.
وهذا الأمر مستفاد من القرآن الكريم. فقد أخبرنا تعالى عن قصة قارون، أحد الأغنياء في قوم نبي الله موسى عليه السلام. فقد أغرته ثروته الباهظة بعصيان الله تعالى وعدم الاستجابة لنبيه عليه السلام. فلما ظهر لقومه ورأوا ما هو عليه من ثراء وتقدم، تمنى ضعاف النفوس، الذين لا يدركون حقائق الأمور، أن يكون لهم مثل ما لدى قارون، وأن يحرزوا نفس درجة التقدم المادي الذي أحرزه. قال تعالى: ] فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [ [ القصص: 79 ] . وأما العلماء فقالوا لهم لا تغتروا بهذه الزينة، لأنها ليست في مرضاة الله. فمآلها قطعا إلى الزوال. قال تعالى: { وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلاَ يُلَقَّاهَا إَِّلا الصَّابِرُونَ } [ القصص: 80 ] . فما كان من الله إلا أن خسف به الأرض بعد طول إمهاله له، واستمراره في طغيانه وتجبره. قال تعالى: ] فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ اْلأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنْ المُنْتَصِرِينَ [ [ القصص: 81 ] . فعلم الذين كانوا يتمنون أن يصبحوا مثله حقيقة الأمر، وحمدوا الله كثيرا على نعمه أن منعهم أن يكونوا مثله. قال تعالى: ] وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِاْلأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلاَ أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ َلا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ [ [ القصص: 82 ] .(/2)
كشف الصحفي الأمريكي البارز سيمور هيرش في محاضرة ألقاها أمام اتحاد الحريات المدنية الأمريكي عن وجود أشرطة فيديو تصور الجنود الأمريكيين يغتصبون أطفالا ذكورا عراقيين كانوا يصرخون فزعا وألما، بينما تتعالى ضحكات مغتصبيهم وزملائهم الذين كانوا يستمتعون بمشاهدة تلك الفظائع،[3] يصبح من الممكن تصور ذلك، وأنه يتم وفق منظومة تاريخية لبلد لا يرى سوى الإرهاب والاستهتار في التعامل مع من يعتبرهم أعداء له!!
وهذا هو المعنى الذي يفصح عنه توماس باورز، في كتاب حروب الاستخبارات، حيث يقول: " التاريخ السري الأمريكي يقدم دليلا شاملا على أننا نفتقر إلى الصبر، كما أننا نميل إلى الاعتقاد بأن لكل مشكلة حلا تكنولوجيا، وأن أي شيء يمكن إنجازه بأداة ملائمة الضخامة، وأن احترامنا لأفكار البشر هو مجرد أمر وقتي ".[4]
ألا ترى أن هذه هي نفس العقيدة التي يتعامل بها اليهود مع الفلسطينيين في الأراضي المحتلة؟! إنها العقيدة التي تعطيهم الحق في ذبح الضحية، ثم التعجب منها إذا أظهرت ملامح للمقاومة، أو أبدت اعتراضا على طريقة الذبح!!!
وبدءا من وتزل صار قطع رأس الهندي وسلخ فروة رأسه من الرياضات المحببة في أمريكا، بل إن كثيرا منهم يتباهى بأن ملابسه وأحذيته مصنوعة من جلود الهنود. لذلك فقد كتب الدكتور أولمان مذكرة بعنوان: " الصدمة والرعب " ( shock and awe ) وُضعت أمام بوش الصغير ونشرتها الصحافة الأمريكية ( وبينها نيويورك تايمز، وواشنطن بوست، ولوس أنجلوس تايمز )، وفيها يقول بالنص: على الولايات المتحدة أن تستعمل أقوى شحنة من القوة المكثفة، والمركزة، والكاسحة، بحيث تنهار أعصاب أي عدو يقف أمامها، وتخور عزيمته قبل أن تنقض عليه الصواعق من أول ثانية في الحرب إلى آخر ثانية، ويتم تقطيع أوصاله، وتكسير عظمه، وتمزيق لحمه، دون فرصة يستوعب فيها ما يجري له.
إن حضارة بهذا السجل الإجرامي تتوقع منها القيام بأي فعل لا يستند إلى الأخلاق في سبيل إعلاء باطلها والتعالي على كل الأمم التي تعيش بجوارها. وهكذا فيجب عليك عدم التعجب مهما سمعت من ممارسات شاذة مع ضحايا الحروب التي تقوم بها الولايات المتحدة. ومن هذا القبيل: كشف أحد السجناء العراقيين الذين أُطلق سراحهم أن القوات الأمريكية التي احتجزته لشهور طويلة في سجن أبو غريب ( 40 كم غرب بغداد ) عذبته في ما يسمى " غرفة الديسكو "، وقال: " يدخل السجين إلى هذه الغرفة ويطلب منه الرقص 8 ساعات متواصلة على إيقاعات الأغاني الصاخبة، وإذا توقف فإنهم يضربونه. وأكد السجين العراقي أن كل عمليات الاستجواب كانت تتم معه بعد إتمام رقصته، مشيرا إلى أن " الموضوع لا يحمل أي فكاهة، فهذه الغرفة شكلت أحد أهم أساليب التعامل مع سجناء المقاومة "!!!
وفي أسلوب ينم عن همجية لم يعرفها التاريخ من قبل قامت القوات الأمريكية باستخدام النساء والأطفال كدروع بشرية لحمايتهم ... فيما كان يُسمع صراخ الأطفال واستغاثة النساء من فوق رتل الدبابات، وذلك أثناء " حرب الشوارع " بالفلوجة. واشنطن تستهدف من إزاحة صدام حسين ونظامه عن سدة الحكم برغم استجابته لكل متطلبات التركيع والترويض، لكي يكون هذا النظام أمثولة تحمل في طياتها رسالة لمن تريد واشنطن أن تبعث لهم برسائل محددة داخل المنطقة وخارجها! إن تعامل الولايات المتحدة مع من تعتبره أحد أعدائها لابد أن يمر أولا بحملة دعائية ضخمة يُصور فيها العدو المفترض على أنه أحد الوحوش الكاسرة أو الهمجية الذي لابد من القضاء عليه حتى لا يعرقل سير الحضارة على الكرة الأرضية. ثم يأتي الدين لخدمة هذه المعركة، فيصور هذا الوحش الكاسر الهمجي على أنه أحد الشياطين الماردة أيضا، الأمر الذي يحتم على الرب من الدخول في المعركة بجانب الأمريكان ضد هذا الوحش. وهكذا تصبح المعركة على هذا العدو مبررة أخلاقيا وعقديا.
إن الثقافة وأسلوب الحياة الأمريكية ليس إلا القتل والدموية، وهذا ما أكد عليه المؤرخ تشارلز بيرد بقوله: " منذ أن انتهت الحرب العالمية الثانية وتحقق انتصارنا على اليابان ونحن في دوامة العدو الشهري، وتعني أننا في كل شهر نواجه عدوا مرعبا يجب علينا أن نضربه قبل أن يقضي علينا ".[14] الملف الثاني: الإرهاب النووي الأمريكي:(/3)
الملف الثاني الأكثر خطورة في هذا الشأن، هو استخدام الولايات المتحدة لكل ترسانتها النووية في حروبها، دون أن يردعها رادع في هذا المجال. ففي حرب الخليج الثانية، استخدم الحلفاء 300 طن متري من اليورانيوم المنضب في أسلحتهم، الأمر الذي أدى إلى كوارث في أوساط العراقيين، وإصابة أطفالهم بأمراض سرطانية غير مألوفة. وتشير التقديرات إلى أن الولايات المتحدة استخدمت كمية أكبر بخمس مرات من اليوارنيوم المنضب، أي 1500 طن متري، في حربها على العراق. هذا يعني أن الجيلين العراقيين المقبلين سيهلكان تقريبا، وسيكونان فريسة المرض والضعف. فما هي فائدة الديمقراطية إذا كانت تأتي إلى شعب خسر مئات الآلاف من أبنائه تحت ( القصف السجادي ) لحرب (التحرير) الأمريكية، وسيهلك أجياله المقبلة بفعل الأمراض السرطانية؟!
ولكن القصة ليست وليدة اليوم، بل تعود إلى سنوات بعيدة من التاريخ. فقد كان وليم برادفورد حاكم مستعمرة بليموث يري أن نشر الأوبئة بين الهنود عمل يدخل السرور والبهجة علي قلب الله، " فمما يرضي الله ويفرحه أن تزور هؤلاء الهنود وأنت تحمل إليهم الأمراض والموت ". هكذا يموت 950 من كل ألف منهم، وينتن بعضهم فوق الأرض دون أن يجد من يدفنه. إن علي المؤمنين أن يشكروا الله علي فضله هذا ونعمته.
كانت هذه " المعجزات " الإلهية صورة عن رغبات المستوطنين وطموحاتهم. فلطالما توحدت القدرة الإلهية مع الشعب المختار كما يري كوتون ماذر، أحد أبرز أنبياء الاستعمار، " فبعد أن ظن هؤلاء الشياطين " أن بعدهم عن العالم سينقذهم من الانتقام، استطاع الله أن يحدد مكانهم ويكتشفه، وأرسل قديسيه الأبطال من إنجلترا، وأرسل معهم بعض الأوبئة السماوية القاتلة التي طهرت الأرض منهم. إن الله يفسح مكانا لشعبه في هذه المجاهل إذ هو يقتل الهنود بأوبئة من أنواع مدمرة لا يعرف لها البشر مثيلا إلا ما تحدثت عنه التوراة.
ويستمر السجل الإجرامي غير المسبوق. ففي عام 1952 وجهت الصين الشعبية وكوريا الشمالية الاتهامات إلى الولايات المتحدة بأنها استخدمت الذخائر البيولوجية في أثناء الحرب الكورية. وشُكلت لجنة علمية لتقصي الحقائق، حيث كانت الغارات الجوية الأمريكية على كوريا تسقط قنابل تحوي رائحة كريهة تشبه رائحة الجلد المحروق أو القرون المحترقة. كما ألقت أنواع غير معروفة من الحشرات. كما ألقت براغيث ملوثة وفئران الحقول المصابة بالطاعون والريش الحامل لجراثيم الجمرة الخبيثة ( الانثراكس ) والمحار الملوث بالبكتريا المسببة لأمراض الكوليرا تجاه خزانات المياه.
فكنا نرى أجساد المتطوعين العرب وفدائيي صدام بالعين المجردة وهي تنصهر وتذوب حتى العظام.
يقول " كيم يونغ إيل ": " إن أمريكا هي الدولة الوحيدة التي استخدمت القنبلة الذرية أثناء الحرب، وهي تتحمل اليوم المسئولية كاملة عن انتشار الأسلحة النووية. أما بقية الدول الأخرى الساعية للحصول على السلاح النووي، فهي تحاول فقط حماية نفسها ". وهكذا يشهد شاهد من أهلها على حقيقة الوضع الراهن!!
إن كل هذا ليس إلا مثالا لما يكون عليه الحال إذا تغطرست القوة ولم تجد ما يهذبها أو يردعها من الدين. وكل ما حدث من قبل، وما يحدث الآن ليس إلا بسبب تخلف المسلمون عن دورهم المنوط بهم أدائه في قيادة البشرية على الكرة الأرضية. فهل يعود المسلمون إلى ربهم، ويتمسكون بتعاليم دينهم؟ وهل يعرف المسلمون زيف الحضارة القائمة من حولهم، والتي لا تعرف إلا الغدر والخيانة؟!! آمل أن يكون ذلك سريعا.(/4)
لاتتركوا فراغاً بعدكم
مما يمدح به بعض الرجال أنه حين مضى لم يُسَدَّ الفراغ الذي تركه، ولم يجد الناس من يخلفه، وتكثر هذه الحالة حين يحل بعض طلبة العلم أو الدعاة في بلدة مقفرة، فيعمرها بالدعوة والعلم، والأغلب أن بقاءه فيها إلى أمد.
وترك الفراغ يدل بلاشك على قدرة وعطاء متميز، فالناس ألف منهم كواحد.
ولكن مع الإيمان بتفاوت قدرات الناس وطاقاتهم ألا يمكن أن نخفف من أثر فقد هؤلاء العاملين؟
إن اتساع الهوة التي يتركها من يذهب قد تكون نتيجة للفارق الكبير في القدرة والعطاء بينه وبين من بعده، وقد تكون نتيجة لطبيعة الأسلوب الإداري الذي يمارسه، لذا فثمة وسائل يمكن أن تقلل من أثر هذا الأمر:
1 – أن يعتني بالطلاب، ويربي طائفة منهم ويعلمهم، حتى يتهيئوا لسد مكانه، وأن يحذر من أن يستهلك ممارسة العمل جهده فلا يبقى للتعليم والتربية نصيب من ذلك.
وقد كان للسلف اعتناء بإعداد التلاميذ، قال ابن جماعة: »واعلم أن الطالب الصالح أعود على العالم بخير الدنيا والآخرة من أعز الناس عليه، وأقرب أهله إليه، ولذلك كان علماء السلف الناصحون لله ودينه يلقون شبك الاجتهاد، لصيد طالب ينتفع الناس به في حياتهم، ومن بعدهم، ولو لم يكن للعالم إلا طالب واحد ينتفع الناس بعلمه وهديه وإرشاده لكفاه ذلك الطالب عند الله تعالى فإنه لا يتصل شيء من علمه إلى أحد فينتفع به إلا كان له نصيب من الأجر ([1]).
2- أن يمارس أسلوب العمل الجماعي، ويعود العاملين معه عليه؛ فقد يصعب أن يوجد بعده مثله، لكن حين يدار العمل بطريقة جماعية سيكون أكثر نضجاً، ومالم يترب العاملون معه على ممارسة العمل الجماعي فلن يجيدوه بعده.
3 – توزيع المسؤوليات والتفويض، فبعض الناس لفرط حرصه على العمل يربط كل صغيرة وكبيرة به شخصياً، فقد تسير الأمور حال بقائه، لكنه حين ينصرف سرعان ماينفرط عقدها.
4 - الاعتناء بالصف الثاني من العاملين، والتفكير باستمرار فيمن يخلفه من بعده، وتهيئة المجال له.
5 - الاعتناء برفع مستوى العاملين، وأن تكون الأعمال الدعوية ميداناً لتدريب الطاقات والرفع من كفاءتها.
6 - تدوين التجارب والإجراءات، فقد لايوجد بعده من يستوعب التجربة كاملة، أو يرتبط إنجاز بعض المهام والأعمال بإجراءات محددة، فتدوين ذلك وتنظيمه يسهل المهمة على من بعده.
7- ومما يعين على ذلك ألا يعجل قدر الإمكان بالانتقال إلى بلده، وأن يحتسب بقاءه في سبيل الله عز وجل، والدعوة تستحق منا أكثر من ذلك.
--------------------------------------------------------------------------------
([1]) - تذكرة السامع والمتكلم (63)(/1)
لاتهملوا الموعظة
إن النفوس تصيبها القسوة والغفلة، وتبتعد القلوب عن الله وتتعلق بالدنيا ومافيها، ويلابس الناس الذنب والمعصية، فيحتاجون للتذكير والوعظ.
ومن يتأمل سنة النبي صلى الله عليه و سلم يرى أنه كان يعنى بالموعظة، وكان كثيراً مايذكِّر أصحابه ويرقق قلوبهم، ولم تكن الموعظة خاصة بأولئك حديثي العهد بالإسلام والتوبة، ولا بالمقصرين المخلطلين، إنما كانت هدياً راتباً له صلى الله عليه و سلم يتخول بها أصحابه.
عن العرباض بن سارية- رضي الله عنه- قال: وعظنا رسول الله صلى الله عليه و سلم موعظة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقلنا يارسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا([1]).
ويصف حنظلة الأسيدي وكان من كتاب رسول الله صلى الله عليه و سلم مجالسه صلى الله عليه و سلم فيقول: لقيني أبو بكر فقال كيف أنت يا حنظلة؟ قال: قلت: نافق حنظلة قال: سبحان الله ما تقول؟ قال: قلت: نكون عند رسول الله صلى الله عليه و سلم يذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه و سلم عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات فنسينا كثيرا، قال أبو بكر فوالله إنا لنلقى مثل هذا([2]).
وحين دفن النبي صلى الله عليه و سلم أحد أصحابه جلس على القبر وهو لما يلحد فوعظ أصحابه موعظة
بليغة وذكر لهم مايلقاه العبد بعد موته من أحوال البرزخ وأهواله([3]).
وفي خطبه الجمعة كان يعنى صلى الله عليه و سلم هذا الأمر؛ فعن أم هشام بنت حارثة بن النعمان قالت: ماحفظت (ق) إلا من في رسول الله صلى الله عليه و سلم يخطب بها كل جمعة، قالت: وكان تنورنا وتنور رسول صلى الله عليه و سلم واحدا([4]).
وقد أخبر تبارك وتعالى عن عباده المتقين وأنهم بحاجة إلى تعاهد النفوس ورعايتها، فقال (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين* الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين* والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على مافعلوا وهم يعلمون).
بل أخبر صلى الله عليه و سلم عن نفسه فقال: "إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة".
فإذا كانت هكذا نفوس المتقين الذين بلغوا الرتب العالية والمنازل الرفيعة، فكيف. ممن هم في ون ذلك بكثير؟ كيف بنا اليوم ونحن نعيش عالما مليئا بالفساد والمنكرات، ونلابس ونواقع كثيرا منها صباح مساء، ناهيك عن الاستغراق في فضول المباحات والوقوع في المشتبهات، وهذه دائرة ربما لم نفكر فيها لأنا لم نتجاوز ما قبلها.
فلئن كان الرعيل الأول وخير القرون يتعاهدهم نبيهم صلى الله عليه و سلم بالوعظ والتذكير، ويتخولهم بها، ويسمعون منه كل جمعة ذلك، فكيف بجيلنا نحن؟
بل وكيف نتصور بعد ذلك أن المواعظ إنما هي لفئات خاصة من حديثي العهد بالاستقامة والتوبة، أما الدعاة ومن قطعوا شوطا في الطريق فهم في غنى عن ذلك كله، وهم بحاجة للحديث عن القضايا الفكرية والدعوية والمسائل الساخنة.
(5) رواه مسلم (2702)
*
(1) رواه الترمذى (2157) وأبو داود (4607) وابن ماجه (42). (2)
(3)
(4)
--------------------------------------------------------------------------------
([1]) رواه الترمذى (2157) وأبو داود (4607) وابن ماجه (42)
([2]) رواه مسلم (2750)
([3]) رواه أحمد (18063)
([4]) رواه مسلم (873)(/1)
لاخيار للخليج إلا بدعم المقاومة العراقية
مهنا الحبيل *
لا شك أنه من أسباب الحبور والسعادة انتشار مشاعر التضامن بين أرجاء الوطن العربي لدعم الشعب اللبناني وصمود المقاومة فيه في مواجهتها للمعركة الإستراتيجية للعدو، هذا الاستثناء للبنان وبعد أن أقفل النظام الدولي بشدة أبواب الدعم لأهلنا في فلسطين وفي العراق يعيد طرح السؤال مرة أخرى عن أهمية مشاعر التضامن، وواجب الدعم لقوى المقاومة وبنيتها الإنسانية في جميع الجبهات العربية، وحديثنا هنا عن العراق لا يسقط أو يخفف أبداً من المسؤولية تجاه فلسطين القضية المركزية، والتي تعاني أيضاً من حصار دولي ظالم يستهدف روح المقاومة وشخصيتها الاعتبارية لإضعافها حتى يتمكن العدو من تنفيذ مشروع الاستسلام النهائي.
لكن خصوصية المرحلة التي نعيشها هي التي دفعتني لكي أكتب عن ضرورات دعم المقاومة العراقية ومسؤولية الشعب العربي في الخليج، بل وحتى المؤسسة الرسمية فيه بحكم الجوار والتأثير لو وعت حجم المعركة، وأدركت معنى تراجع المقاومة العراقية أمام المشروع الإستراتيجي المعادي بطرفيه الأمريكي والإيراني، و تبعات تمكن المشروع من منطقة الخليج العربي.
ثلاث جبهات تقاتل دونها المقاومة
الحالة العراقية فريدة، وهي تجربة نادرة منذ تشكل العالم الجديد، وإعلان عُصبة الأمم، وبعدها هيئة الأمم المتحدة .
الجبهة الأولى : الوقوف في وجه الآلة الحربية الغازية
فلقد واجهت المقاومة العراقية أعنف آلة حرب وأقدرها تقدماً وتقنية، وأكثرها وحشية وجراءة على انتهاك القيم الإنسانية، ونفّذت مشروعها دون أي طرف مقابل في التوازن الدولي أو الصراع الإقليمي أو النظام الرسمي العربي المحيط بالعراق، كل هذه الأطراف كانت تخدم معادلة واحدة في معركة احتلال العراق هي معادلة المحتل الأمريكي قبل بدء المعركة وبعد الاحتلال وحتى هذه الساعة.
وعلى الرغم من ذلك كله فقد أثبتت المقاومة الوطنية العراقية أن الإنسان العربي المنتمي لقيم الإسلام الأصيل شخصية نضالية لا نظير لها في تاريخ المقاومة الشعبية في العالم الجديد، سواء العالم الثالث المضطهد أو حركات مقاومة في مناطق أخرى، كلها استفادت من ميادين أطراف إقليميه أو دولية للمواجهة مع الاحتلال الجاثم على بلدانها، فيما انفرد العراقيون بالمهمة التاريخية الصعبة، بل والمستحيلة، وكسروا قاعدة التحليل الإستراتيجي في مثل هذه الحالات، وهاهم حتى الآن يتقدمون على ساحة المواجهة العسكرية المباشرة مع قوات الاحتلال الأمريكي، ويلحقون به الخسائر، ويهرب هو إلى ساحات التآمر السياسية مع الأطراف الداخلية والإقليمية لمحاولة احتواء انتصار المقاومة العراقية.
الجبهة الثانية: إيران الصفوية
لقد واجه المحتل تصاعد قوى المقاومة بإعطاء الفرصة لإيران لتركيع هذه الانتصارات المتصاعدة، فأصبحت المقاومة في مواجهة مع الطرف الإيراني على جبهتين :
الجبهة الأولى
هي القوى الأمنية المعدة أيدلوجياً وعسكرياً في إيران، والتي تم إدخالها مع الاحتلال، وانضمت إلى الجيش العراقي الذي أسسه بريمر، وكانت تُستخدم في عمليات الاقتحام والحصار لمناطق ومدن المقاومة كالفلوجة والرمادي وغيرها جنباً إلى جنب مع قوى الاحتلال.
والجبهة الثانية
هي المؤسسات الأمنية الداخلية التي كانت تتولى إنهاك وتعذيب وقتل المقاومين العراقيين والوصول إلى المعلومات الأمنية التي تخدم الاحتلال في حربه الشرسة مع المقاومة العراقية، ومع ذلك كله انتصرت المقاومة العراقية على الاحتلالوحلفائه، وأظهرت بسالة وقوة احتمال منقطعة النظير، كانت الروح الفدائية والتضحية في سبيل الأمة العربية ومرجعيتها الإسلامية وقوداً للعراقيين الأبطال.
الجبهة الثالثة الوحدة الوطنية
وأما الجبهة الأخطر فكانت قدرة وقوة المقاومة الإسلامية الوطنية العراقية على توحيد أهداف معركتها على الرغم من الضغوط النفسية الهائلة التي تُصب عليها، بل والذي يستفزّها لدخول معارك توظّف لمصلحة الحرب الأهلية في العراق، ومن خلال أجواء خطيرة كانت تسعى لكي تدخل المقاومة في هذه اللعبة القذرة إلاّ أن المقاومة حافظت على خطها النضالي الشريف، وتجنّبت أن تقع في نفس الفخ الذي زرعه الاحتلال لبعض القوى العسكرية القادمة من خارج العراق، والتي استخدمت لكي تكون طرفاً مقابلاً للطرف الإيراني في إشعال الفتنة وتبادل عمليات القتل رداً على جرائم مؤسسات الأمن الداخلي التي أسسها الاحتلال ودعمتها إيران.
لا خيار للخليج العربي إلا بدعم المقاومة العراقية(/1)
إذاً نحن أمام حالة فريدة في مواجهة مشروع خطير لا يستهدف الهوية القومية والإسلامية للمنطقة فحسب، بل ويستهدف استقرارها ووحدتها الاجتماعية والوطنية، ونحن نرى أنه كلما تكرّس مشروع الاحتلال الأمريكي على الأرض مع الثقافة الإيرانية المعادية لوحدة المجتمع العربي في الخليج ظهرت لنا أبواق من القنوات تسعى لإيقاد الفتنة بين مواطني المنطقة كلها، وليس العراق فحسب، وكلما انتصرت قوى المقاومة وغطاؤها السياسي كالمؤتمر السياسي الذي يرأسه الشيخ جواد الخالصي والشيخ حارث الضاري الزعيم الإسلامي الوطني الكبير تراجعت حُمّى الخطاب الطائفي ومفاهيم الطائفية السياسية التي تمزّق المجتمعات العربية في الخليج لمصلحة الموقف الإيراني والأمريكي معاً.
أما المنظور الأمريكي فسيكون من الغباء أن نتصور بأن الأمريكيين قد أغفلوا منطقة الخليج من مشروعهم للشرق الأوسط الجديد، وتوقعاتهم التي وردت في دراستها، بل إن الخليج هو محور هذا المشروع خاصة مع تداعيات الحرب الأهلية في العراق على المنطقة، وبالتالي إيجاد قواعد لعبة جديدة كلياً، وإعادة رسم المنطقة على قاعدة لعبة الشطرنج (كش ملك)-وأشير هنا إلى الخريطة الجديدة لتقسيم المنطقة على أساس طائفي بعد تداعيات أحداث العراق؛ أي مفاهيم أساسية لمنطقة الولاء والحماية بحسب ما يُفرض حتى على الطرف الأمريكي من تداعيات ضخمة لا يستطيع مواجهتها، ولكن يسعى لتأمين مصلحته العليا وإنهاك الخصوم في حروب يعيد بعدها سيطرته على المنطقة بتخطيط جديد يقابله المعسكر الإيراني وخطته الإمبراطورية.
إذاً ننتهي إلى حقيقة هي أن صمّام الأمان للمحافظة أولاً على وحدة العراق وإنقاذه من مخطط الحرب الأهلية، وبالتالي حماية المنطقة وهويتها القومية الإسلامية يكمن في دعم المقاومة العسكرية والسياسية، والتي تحتاج إلى دعم مادي لو تُرك لأهل الخليج إيصاله لهذه الأطراف الراشدة التي لا تعبث بدماء الأبرياء لكان في هذا الدعم وقاية لا تساوي سياسياً ولا اجتماعياً مقابلها الكبير ونتائجها الإيجابية، وهنا تبرز مهمة مؤسسات المجتمع المدني، والجمعيات السياسية في الخليج.
الأمر الثاني هو التحصين الإعلامي الراشد ضد خطاب الفتنة والفرقة الذي تتبناه القنوات الإيرانية المؤسسة حديثاً في الخليج، وما تفعله من تفرقة الصف وتعزيز جوانب الخلاف في قضايا كبرى بين أبناء الطائفيين لتمهيد الأجواء أمام فتنة لا يعلم مداها إلا الله، وهذه المهمة تقوم بها مشاريع إعلامية مستقلة ينبغي أن يُفتح لها المجال لكشف المخطط الأمريكي والإيراني على السواء، ويكفي أن يُعزّز إسناد مثل هذه المهمة إلى مجلس يضم كأساس له القوى الشيعية العروبية في العراق، والتي رصدت الفتنة الطائفية وآثارها على الوطن العراقي، ومن ثم امتداداته إلى المنطقة، مع من يماثلهم في الوعي من الطرف السني، ويستخرج خطاباً موحداً يهدي للوحدة ويدعم وحدة الشعب العراقي وصمود مقاومته، واليوم هو يوم العمل، أما غداً فيلتفت الآخر إلى ما قيل وهو يتمتم:
محضْتُهمُ نصحي بمُنعرجِ اللّوى *** فلم يستبينوا القولَ إلا ضُحى الغدِ
--------------
* كاتب ومحلل سياسي(/2)
لاميةُ العَجَم - للطغرائي
أصالَةُ الرَّأيِ صانَتْني عنِ الخَطَلِ
وحِليةُ الفَضْلِ زانَتْني لَدَى العَطَلِ
مَجدي أخيراً ومجدي أولاً شَرَعٌ
والشَّمسُ رأدَ الضُّحى كالشَّمسِ في الطَّفَلِ
فيمَ الإقامَةُ بالزَّوراءِ لا سَكَني بِها ولا ناقَتي فيها ولا جَمَلي
ناءٍ عن الأهلِ صِفرُ الكَفِّ مُنفردٌ كالنَّصْلِ عُرِّيَ مَثناهُ عنِ الخِلَلِ
فلا صديقٌ إليهِ مُشتكَى حَزَني ولا أنيسٌ إليهِ مُنتهى جَذَلي
طالَ اغترابيَ حتَّى حَنّ راحلتَي ورَحْلُها وقنا العَسَّالةِ الذُبُلِ
وضَجَّ من لَغَبٍ نِضوي وعَجَّ لِما يلقاهُ قلبي وَلَجَّ الرَّكبُ في عَذَلي
أريدُ بَسطةَ كفٍّ أستعينُ بها على قضاءِ حقوقٍ للعُلى قِبَلي
والدَّهرُ يعكِسُ آمالي ويُقنعُني من الغنيمةِ بعدَ الكَدِّ بالقَفَلِ
وذي شَطاطٍ كصَدرِ الرُّمحِ مُعتقِلٍ بمثلِهِ غيرِ هَيَّابٍ ولا وَكَلِ
حُلوِ الفَكاهةِ مُرِّ الجِدِّ قد مُزجَتْ بقَسوةِ البأسِ منهُ رِقَّةُ الغَزَلِ
طَردتُ سَرحَ الكَرَى عن وِرْدِ مُقلتِهِ واللَّيلُ أغرَى سَوامَ النَّومِ بالمُقَلِ
والرَّكبُ مِيلٌ على الأكوارِ من طَربٍ صاحٍ وآخرَ من خَمرِ الكرى ثَمِلِ
فقلتُ أدعوكَ للجُلىَّ لتَنصُرَني وأنتَ تَخذُلُني في الحادِثِ الجَلَلِ
تنامُ عَيني وعينُ النَّجمِ ساهرةٌ وتستَحيلُ وصِبغُ الليلِ لم يَحُلِ
فهلْ تُعينُ على غَيٍّ هَمَمتُ به والغَيُّ يَزْجُرُ أحياناً عَنِ الفَشَلِ
إنّي أُريدُ طُروقَ الحيِّ من إضَمٍ وقد حَمَتهُ رُماةٌ من بَني ثُعَلِ
يَحمونَ بالبيضِ والسُّمْرِ اللِّدانِ بهِ سُودَ الغَدائرِ حُمرَ الحَليِ والحُللِ
فَسِرْ بِنا في ذِمامِ الليلِ مُهتدياً بنفحَةِ الطِّيبِ تَهدينا إلى الحِلَلِ
فالحبُّ حيثُ العِدى والأُسْدُ رابضَةٌ حولَ الكِناس لها غابٌ من الأَسَلِ
نَؤُمُّ ناشئةً بالجِزعِ قد سُقيتْ نِصالُها بمياهِ الغُنْجِ والكَحَلِ
قد زادَ طيبَ أحاديثِ الكِرامِ بها ما بالكرائِمِ من جُبنٍ ومن بَخَلِ
تبيتُ نارُ الهَوى منهنَّ في كبدٍ حَرَّى ونارُ القِرَى منهمْ على القُلَلِ
يقتُلنَ أنضاءَ حُبٍّ لا حَراكَ بهمْ ويَنحَرونَ كِرامَ الخيلِ والإبلِ
يُشفَى لديغُ العَوالي في بيوتِهمِ بنهلةٍ من غَديرِ الخمرِ والعَسَلِ
لعلَّ إلمامةً بالجزعِ ثانيةً يَدِبُّ منها نسيمُ البُرءِ في عِلَلي
لا أكرهُ الطَّعنةَ النَّجلاءَ قد شُفِعَتْ برشفةٍ من زُلالِ الأعينِ النُّجلِ
ولا أهابُ الصِّفاحَ البيضَ تُسعدُني باللَّمحِ من خَلَلِ الأستارِ في الكِلَلِ
ولا أُخلُّ بغزلانٍ أُغازلُها ولو دَهَتني أُسودُ الغابِ بالغيَلِ
حُبُّ السَّلامةِ يَثني همَّ صاحبِه عنِ المعالي ويُغري المرءَ بالكَسَلِ
فإنْ جَنَحتَ إليهِ فاتَّخذْ نَفَقاً في الأرضِ أو سُلَّماً في الجوِّ فاعتزلِ
ودَعْ غِمارَ العُلى للمُقدِمينَ على رُكوبِها واقتَنعْ منهنَّ بالبَلَلِ
يَرضى الذَّليلُ بخفضِ العيشِ يَخفضُهُ والعِزُّ عندَ رَسيمِ الأينُقِ الذُّلُلِ
فادرأْ بها في نُحورِ البيدِ جافلةً مُعارضاتٍ مثاني اللُّجمِ بِالجُدُلِ
إنَّ العُلى حدَّثتنْي وهيَ صادقةٌ فيما تُحدِّثُ أنَّ إلعِزَّ في النُّقَلِ
لو أنَّ في شرفِ المأوى بُلوغَ مُنىً لم تبرحِ الشَّمسُ يوماً دارةَ الحَمَلِ
أهبتُ بالحظِّ لو ناديتُ مُستمعاً والحظُّ عنّيَ بالجُهَّالِ في شُغلِ
لعلَّهُ إنْ بدا فضلي ونقصُهُمُ لِعينهِ نامَ عنهمْ أو تنبَّهَ لي
أُعلِّلُ النَّفسَ بالآمالِ أرقُبُها ما أضيقَ العيشَ لولا فَسحةُ الأملِ
لم أرضَ بالعيشِ والأيامُ مقبلةٌ فكيفَ أرضى وقد ولَّتْ على عَجَلِ
غالىَ بنفسيَ عِرفاني بقيمتِها فصُنْتُها عن رخيصِ القَدرِ مُبتذَلِ
وعادةُ النَّصْلِ أن يَزهو بجوهرِهِ وليسَ يعملُ إلا في يَديْ بَطَلِ
ما كنتُ أوثِرُ أنْ يمتدَّ بي زَمني حتَّى أرى دولةَ الأوغادِ والسِّفلِ
تَقَدَّمَتْني أناسٌ كانَ شَوطُهُمُ وراءَ خطويَ إذْ أمشي على مَهَلِ
هذا جزاءُ امريءٍ أقرانُهُ دَرَجوا من قبلهِ فتمنَّى فُسحةَ الأجلِ
وإنْ علانيَ مَنْ دوني فلا عجبٌ لي أُسوةٌ بانحطاطِ الشمسِ عن زُحلِ
فاصبرْ لها غيرَ محتالٍ ولا ضَجرٍ في حادثِ الدَّهرِ ما يُغني عن الحيَلِ
أعدَى عَدوِّكَ أدنى منْ وثَقتَ بهِ فحاذِرِ الناسَ واصحبهمْ على دَخَلِ
فإنَّما رجلُ الدُّنيا وواحدُها مَنْ لا يُعوِّلُ في الدُّنيا على رَجُلِ
وحُسنُ ظنِّكَ بالأيامِ مَعْجِزةٌ فظُنَّ شرّاً وكُنْ منها على وَجَلِ
غاضَ الوفاءُ وفاضَ الغدرُ وانفرجتْ مسافةُ الخُلْفِ بينَ القَولِ والعملِ
وشانَ صِدْقَكَ بينَ الناسِ كذبُهُمُ وهلْ يُطابَقُ مُعوَجٌّ بمُعتدلِ
إنْ كانَ ينجمُ شيءٌ في ثَباتهمِ على العُهودِ فسَبقُ السَّيفِ للعَذَلِ
يا وارِداً سُؤرَ عيشٍ كلُّهُ كّدّرٌ أنفقتَ صَفوَكَ في أيامِكَ الأولِ
فيمَ اقتحامُكَ لُجَّ البحرِ تركبُهُ وأنتَ تكفيكَ منهُ مُصَّةُ الوَشَلِ
مُلكُ القناعةِ لا يُخشى عليه ولا يحتاجُ فيه إلى الأنصارِ والخَوَلِ(/1)
ترجو البقاءَ بدارٍ لا ثباتَ لها فهلْ سمعتَ بظلٍّ غيرِ مُنتقلِ
ويا خبيراً على الأسرارِ مُطَّلعاً أُصمتْ ففي الصَّمتِ منجاةٌ من الزَّلّلِ
قد رشَّحوكَ لأمرٍ إنْ فطِنتَ لهُ فاربأْ بنفسِكَ أنْ تَرعى معَ الهَمَلِ(/2)
لاميّةُ ابن المقري
زيادةُ القولِ تَحكي النقصَ في العملِ
ومنطقُ المرءِ قد يَهديهِ للزَّلَلِ
إنَّ اللسانَ صغيرٌ جِرمُهُ ولَهُ
جرمٌ كبيرٌ كما قد قيل في المَثَلِ
فكم ندمتُ على ما كنتُ قلتُ بهِ وما ندمتُ على ما لم أكنْ أقُلِ
وأضيقُ الأمرِ أمرٌ لمْ تجدْ معهُ فتىً يُعينُكَ أو يهديكَ للسُبُلِ
عقلُ الفتى ليس يُغني عن مُشاورةٍ كعفةِ الخود لا تُغني عن الرَّجلِ
إن المشاورَ إما صائبٌ غَرَضاً أو مخطيءٌ غيرَ منسوبٍ إلى الخَطَلِ
لا تحقِرِ الرأيَ يأتيكَ الحقيرُ بهِ فالنَّحل وهو ذُبابٌ طائرُ العسلِ
ولا يغرَّنكَ ودٌ من أخي أملٍ حتى تُجرِّبهُ في غَيبةِ الأملِ
إذا العدوُّ أحاجتهُ الأِخا عِلًلٌ عادت عداوته عندَ انقضا العِلَلِ
لا تجزعنَّ لخَطبٍ ما به حِيَلٌ تُغني وإلا فلا تَعْجَزْ عن الحيَلِ
لا شيءَ أولىَ بصبرِ المرءِ في قدرٍ لابُدَّ منهُ وخطبٍ غيرِ مُنتقلِ
لا تجزعنَّ على ما فاتَ حيثُ مضى ولا على فَوْتِ أمرٍ حيثُ لمْ تَنَلِ
فليسَ تُغني الفتى في الأمرِ عُدَّتُهُ إذا تقضَّت عليه مُدّةُ الأجلِ
وقدرُ شكرِ الفتى لله نعمتَهُ كقَدرِ صبرِ الفتى للحادثِ الجَلَلِ
وإنَّ أخوفَ نهجٍ ما خشيتُ بهِ ذهابَ حريةٍ أو مُرتضى عَملِ
لا تفرحنَّ بسقطاتِ الرجالِ ولا تهزأ بغيركَ واحذرْ صَولةَ الدُّولِ
لا تأمنِ الدهرَ إنْ يُعلي العدوَّ ولا تستأمنِ الدَّهرَ إن يُلقيكَ في السَفَلِ
أحقُّ شيءٍ بردٍّ ما تخالفُهُ شهادةُ العقلِ فاحكِمْ صنعةَ الجَدَلِ
وقيمة المرء ما قد كانَ يُحسِنه فاطلب لنفسك ما تعلو به وسَلِ
أُطلب تَنَلْ لذةَ الإدراكِ مُلتمساً أو راحةَ اليأسِ لا تركَنْ إلى الوكَلِ
فكلُّ داءٍ دواهُ ممكنٌ أبداً إلا إذا امتزجَ الإقتارُ بالكَسَلِ
والمالُ صُنهُ وورِّثهُ العدوَّ ولا تحتاجَ حيّاً إلى الإخوانِ في الأكُلِ
وخيرُ مالِ الفتى مالٌ يَصونُ بهِ عِرضاً وينفُقُهُ في صالحِ العَمَلِ
وأفضلُ البرِّ ما لا منَّ يَتبعه ولا تَقَدَّمَهُ شيء من المَطَلِ
وإنما الجودُ بذلٌ لم تُكافَ بهِ صُنعاً ولم تنتظرْ فيه جزا رجلِ
إن الصنائعَ أطواق إذا شُكرتْ وإن كُفِرنَ فأغلالٌ لمُنتحلِ
ذو اللؤمِ يَحْصَرُ مهما جئتَ تسألُهُ شيئاً ويُحصرُ نطقُ الحرِّ إن يَسَلِ
وإن فوتَ الذي تَهوى لأهونُ منْ إدراكِهِ بلئيمٍ غيرِ مُحتفلِ
وإن عندي الخَطا في الجودِ أحسنُ من إصابةٍ حصلتْ بالمنعِ والبُخلِ
خيرٌ من الخير مُسديهِ إليكَ كما شرٌ من الشَّرِّ أهلُ الشَّرِّ والدَّخَلِ
ظواهرُ العُتبِ للإخوانِ أحسنُ من بواطنِ الحقدِ في التسديدِ للخلَلِ
داوِ الجهولَ وسامحهُ تُكِدْهُ ولا تَصحبْ سوى السمح واحذرْ سقطةَ العَجَلِ
لا تشربنّ نقيعَ السُّمِّ مُتّكلاً على عقاقيرَ قدْ جُرِّبنَ بالعملِ
والقَ الأحبَّةَ والإخوانَ إن قطعوا حبلَ الوَدادِ بحبلٍ منكَ متَّصلِ
وأعجزُ الناسِ منْ قد ضاعَ من يدهِ صديقُ وُدٍّ فلمْ يَرْدُدْهُ بالحِيَلِ
استصفِ خِلَّك واستخصلهُ أحسنَ من تبديلِ خِلٍّ وكيفَ الأمنُ بالبَدَلِ؟
واحملْ ثلاثَ خِصالٍ من مطالبهِ تحفظهُ فيها ودعْ ما شئتَهُ وقُلِ
ظُلمُ الدَّلالِ وظُلمُ الغَيظِ فاعفهِما وظُلمُ هفوتِهِ فاقسِط ولا تَمِلِ
وكُنْ مع الخَلْقِ ما كانوا لخالقِهِمْ واحذرْ مُعاشرةَ الأوغادِ والسَّفَلِ
واخشَ الأذى عندَ إكرامِ اللئيم كما تخشى الأذى إن أهنتَ الحُرَّ في حَفَلِ
والغدرُ في الناسِ طبعٌ لا تثِقْ بهمُ وإنْ أبيتَ فخُذْ في الأمنِ والوَجَلِ
من يقظةٍ بالفتى إظهارُ غفلتهِ مع التحرُّزِ من غَدرٍ ومن خَتَلِ
سَلِ التَّجاربَ وانظرْ في مراءتَها فللعواقبِ فيها أشرفُ المُثُلِ
وخيرُ ما جرَّبته النفسُ ما اتَّعظتْ عن الوقوعِ به في العجزِ والوَكَلِ
فاصبرْ لواحدةٍ تأمنْ توابِعها فربَّما ضِقتَ ذَرعاً منه في النَّزّلِ
وللأمورِ وللأعمالِ عاقبةٌ فاخشَ الجَزا بَغتةً واحذرهُ عن مَهَلِ
ذو العقلِ يتركُ ما يهوى لخشيتِهِ من العلاجِ بمكروهٍ من الخَلَلِ
مِنَ المروءةِ تركُ المرءِ شَهوتَهُ فانظر لأيّهِنا آثرتَ فاحتمل
استَحي من ذمِّ مَنْ يدنُ تُوسعُهُ مَدحاً ومن مَدْحِ منْ غابَ ترتذلِ
شرُّ الورى بمساوي الناس مشتغلٌ مثلُ الذبابِ يُراعي موضعَ العِلَلِ
لو كنتَ كالقدحِ في التقويمِ معتدلاً لقالتِ الناسُ هذا غيرَ معتدلِ
لا يظلمُ الحرَّ إلا منْ يطاولُهُ ويظلِمُ النَّذلُ أدنى منهُ في الصُّوَل
يا ظالماً جارَ فيمنْ لا نصيرَ لهُ إلا المهيمنُ لا تغترَّ بالمَهَلِ
غداً تموتُ ويقضي الله بينكما بحكمةِ الحقِّ لا بالزيغ والمَيَلِ
وإن أولى الوَرَى بالعفو قدرُهُمُ على العقوبةِ إنْ يظفر بذي زَلَلِ
حلمُ الفتى عن سفيهِ القومِ يُكثرُ منْ أنصارهِ ويُوقِّيهِ منَ الغِيَلِ
والحِلْمُ طبعٌ فما كسبٌ يجودُ به لقولِهِ (خُلقَ الإنسانُ من عَجَلِ)(/1)
لاميّةُ الصّفدي
الجَدُّ في الجدِّ والحِرمانُ في الكَسَلِ فانصبْ تُصِبْ عنْ قريبٍ غايةَ الأملِ
واصبرْ على كلِّ ما يأتي الزَّمانُ بهِ صبرَ الحُسامِ بكفِّ الدّراعِ البَطَلِ
وجانبِ الحرصَ والأطماعَ تحظَ بما ترجو من العزِّ والتأييدِ في عَجَلِ
ولا تكونَنْ على ما فاتَ ذا حَزَنٍ ولا تظلَّ بما أُوتيتَ ذا جَذَلِ
واستشعرِ الحِلمَ في كلِّ الأمورِ ولا تُسرع ببادرةٍ يوماً إلى رجلِ
وإنْ بُليتَ بشخصٍ لا خَلاقَ لهُ فكُنْ كأنَّكَ لمْ تسمعْ ولمْ يَقُلِ
ولا تُمارِ سفيهاً في مُحاورَةٍ ولا حليماً لكيْ تنجو منَ الزَّلَلِ
ولا يغرَّنكَ منْ يُبدي بشاشَتَهُ إليكَ خِدعاً فإنَّ السُّمَ في العَسَلِ
وإنْ أردتَ نَجاحاً أو بلوغَ مُنىً فاكتُمْ أمورَكَ عن حافٍ ومُنتعلِ
إنَّ الفتى من بماضي الحَزْمِ مُتَّصفٌ وما تعوّدَ نقصَ القولِ والعملِ
ولا يقيمُ بأرضٍ طابَ مسكنُها حتى يقدَّ أديمَ السَّهلِ والجَبَلِ
ولا يضيعُ ساعاتِ الزَّمانِ فلنْ يعودَ ما فاتَ من أيامهِ الأولِ
ولا يُراقِبُ إلا مَنْ يُراقِبُهُ ولا يُصاحبُ إلا كلَّ ذي نُبُلِ
ولا يعدُّ عُيوباً في الوَرَى أبداً بل يعتني بالذي فيهِ من الخَلَلِ
ولا يظُنُّ بهمْ سُوءاً ولا حَسَناً بل التجاربُ تَهديهِ على مَهَلِ
ولا يُؤَمِّلُ آمالاً بصبحِ غدٍ إلا على وَجَلٍ من وثبةِ الأجلِ
ولا يَصدُّ عن التقوى بصيرتَهُ لأنها للمعالي أوضحُ السُّبُلِ
فمنْ تكنْ حُللُ التقوى ملابسَهُ لمْ يخشَ في دهرهِ يوماً من العَطَلِ
مَنْ لمْ يصنْ عِرضَهُ مما يُدَنِّسهُ عارٍ وإن كانَ مغموراً منَ الحُلَلِ
مَنْ لم تُفدهُ صُروفُ الدهر تجربةً فيما يحاولُ فليرعى مع الهَمَلِ
مَنْ سالَمتهُ الليالي فليثِقْ عَجِلاً منها بحَرْبِ عدوٍّ جاءَ بالحِيَلِ
منْ ضيَّعَ الحَزْمَ لم يظفرْ بحاجتِهِ ومنْ رمى بسهامِ العُجْبِ لمْ ينَلِ
منْ جادَ سادَ وأحيا العالمونَ لهُ بديعَ حمدٍ بمدحِ الفِعلِ مُتَّصِلِ
منْ رامَ نيلَ العُلى بالمالِ يجمعُهُ من غيرِ جُودٍ بُلي منْ جهلهِ وَبُلي
منْ لمْ يصُنْ نفسَهُ ساءَتْ خليقتُهُ بكلِّ طَبْعٍ لئيم غيرِ مُنتَقلِ
منْ جالسَ الغاغَة النُّوكَى جَنَى نَدَماً لنفسهِ ورُمي بالحادثِ الجَلَلِ
فخُذْ مقالَ خبيرٍ قد حَوى حِكَماً إذ صغتُها بعدَ طولِ الخُبر في عَمَلي(/1)
لاميَّة ابن الوَردي
إعتزلْ ذِكرَ الأغاني والغَزَلْ وقُلِ الفَصْلَ وجانبْ مَنْ هَزَلْ
ودَعِ الذِّكرَ لأيامِ الصِّبا فلأيامِ الصِّبا نَجمٌ أفَلْ
إنْ أهنا عيشةٍ قضيتُها ذهبتْ لذَّاتُها والإثْمُ حَلّ
واترُكِ الغادَةَ لا تحفلْ بها تُمْسِ في عِزٍّ رفيعٍ وتُجَلّ
وافتكرْ في منتهى حُسنِ الذي أنتَ تهواهُ تجدْ أمراً جَلَلْ
واهجُرِ الخمرةَ إنْ كنتَ فتىً كيفَ يسعى في جُنونٍ مَنْ عَقَلْ
واتَّقِ اللهَ فتقوى الله ما جاورتْ قلبَ امريءٍ إلا وَصَلْ
ليسَ منْ يقطعُ طُرقاً بَطلاً إنما منْ يتَّقي الله البَطَلْ
صدِّقِ الشَّرعَ ولا تركنْ إلى رجلٍ يرصد في الليل زُحلْ
حارتِ الأفكارُ في حكمةِ مَنْ قد هدانا سبْلنا عزَّ وجَلْ
كُتبَ الموت على الخَلقِ فكمْ فَلَّ من جيشٍ وأفنى من دُوَلْ
أينَ نُمرودُ وكنعانُ ومنْ مَلَكَ الأرضَ وولَّى وعَزَلْ
أين عادٌ أين فرعونُ ومن رفعَ الأهرامَ من يسمعْ يَخَلْ
أينَ من سادوا وشادوا وبَنَوا هَلَكَ الكلُّ ولم تُغنِ القُلَلْ
أينَ أربابُ الحِجَى أهلُ النُّهى أينَ أهلُ العلمِ والقومُ الأوَلْ
سيُعيدُ الله كلاً منهمُ وسيَجزي فاعلاً ما قد فَعَلْ
إيْ بُنيَّ اسمعْ وصايا جَمعتْ حِكماً خُصَّتْ بها خيرُ المِللْ
أطلبُ العِلمَ ولا تكسَلْ فما أبعدَ الخيرَ على أهلِ الكَسَلْ
واحتفلْ للفقهِ في الدِّين ولا تشتغلْ عنهُ بمالٍ وخَوَلْ
واهجرِ النَّومَ وحصِّلهُ فمنْ يعرفِ المطلوبَ يحقرْ ما بَذَلْ
لا تقلْ قد ذهبتْ أربابُهُ كلُّ من سارَ على الدَّربِ وصلْ
في ازديادِ العلمِ إرغامُ العِدى وجمالُ العلمِ إصلاحُ العملْ
جَمِّلِ المَنطِقَ بالنَّحو فمنْ يُحرَمِ الإعرابَ بالنُّطقِ اختبلْ
انظُمِ الشِّعرَ ولازمْ مذهبي في اطَّراحِ الرَّفد لا تبغِ النَّحَلْ
فهوَ عنوانٌ على الفضلِ وما أحسنَ الشعرَ إذا لم يُبتذلْ
ماتَ أهلُ الفضلِ لم يبقَ سوى مقرف أو من على الأصلِ اتَّكلْ
أنا لا أختارُ تقبيلَ يدٍ قَطْعُها أجملُ من تلكَ القُبلْ
إن جَزتني عن مديحي صرتُ في رقِّها أو لا فيكفيني الخَجَلْ
أعذبُ الألفاظِ قَولي لكَ خُذْ وأمَرُّ اللفظِ نُطقي بِلَعَلّْ
مُلكُ كسرى عنهُ تُغني كِسرةٌ وعنِ البحرِ اجتزاءٌ بالوَشلْ
اعتبر (نحن قسمنا بينهم ) تلقهُ حقاً ( وبالحق نزلْ)
ليس ما يحوي الفتى من عزمه لا ولا ما فاتَ يوماً بالكسلْ
اطرحِ الدنيا فمنْ عاداتها تخفِضُ العاليْ وتُعلي مَنْ سَفَلْ
عيشةُ الرَّاغبِ في تحصيلِها عيشةُ الجاهلِ فيها أو أقلْ
كَمْ جَهولٍ باتَ فيها مُكثراً وعليمٍ باتَ منها في عِلَلْ
كمْ شجاعٍ لم ينلْ فيها المُنى وجبانٍ نالَ غاياتِ الأملْ
فاتركِ الحيلةَ فيها واتَّكِلْ إنما الحيلةُ في تركِ الحِيَلْ
أيُّ كفٍّ لمْ تنلْ منها المُنى فرماها اللهُ منهُ بالشَّلَلْ
لا تقلْ أصلي وفَصلي أبداً إنما أصلُ الفَتى ما قد حَصَلْ
قدْ يسودُ المرءُ من دونِ أبٍ وبِحسنِ السَّبْكِ قدْ يُنقَى الدَّغّلْ
إنما الوردُ منَ الشَّوكِ وما يَنبُتُ النَّرجسُ إلا من بَصَلْ
غيرَ أني أحمدُ اللهَ على نسبي إذ بأبي بكرِ اتَّصلْ
قيمةُ الإنسانِ ما يُحسنُهُ أكثرَ الإنسانُ منهُ أمْ أقَلْ
أُكتمِ الأمرينِ فقراً وغنى واكسَب الفَلْسَ وحاسب ومن بَطَلْ
وادَّرع جداً وكداً واجتنبْ صُحبةَ الحمقى وأرباب الخَلَلْ
بينَ تبذيرٍ وبُخلٍ رُتبةٌ وكِلا هذينِ إنْ زادَ قَتَلْ
لا تخُضْ في حق سادات مَضَوا إنهم ليسوا بأهلِ للزَّلَلْ
وتغاضى عن أمورٍ إنه لم يفُزْ بالحمدِ إلا من غَفَلْ
ليسَ يخلو المرءُ مِنْ ضدٍّ ولَو حاولَ العُزلةَ في راسِ الجبَلْ
مِلْ عن النَمَّامِ وازجُرُهُ فما بلّغَ المكروهَ إلا من نَقَلْ
دارِ جارَ السُّوءِ بالصَّبرِ وإنْ لمْ تجدْ صبراً فما أحلى النُّقَلْ
جانِبِ السُّلطانَ واحذرْ بطشَهُ لا تُعانِدْ مَنْ إذا قالَ فَعَلْ
لا تَلِ الأحكامَ إنْ هُمْ سألوا رغبةً فيكَ وخالفْ مَنْ عَذَلْ
إنَّ نصفَ الناسِ أعداءٌ لمنْ وليَ الأحكامَ هذا إن عَدَلْ
فهو كالمحبوسِ عن لذَّاتهِ وكِلا كفّيه في الحشر تُغَلْ
إنَّ للنقصِ والاستثقالِ في لفظةِ القاضي لَوَعظاً أو مَثَلْ
لا تُوازى لذةُ الحُكمِ بما ذاقَهُ الشخصُ إذا الشخصُ انعزلْ
فالولاياتُ وإن طابتْ لمنْ ذاقَها فالسُّمُّ في ذاكَ العَسَلْ
نَصَبُ المنصِبِ أوهى جَلَدي وعنائي من مُداراةِ السَّفلْ
قَصِّرِ الآمالَ في الدنيا تفُزْ فدليلُ العقلِ تقصيرُ الأملْ
إن منْ يطلبهُ الموتُ على غِرَّةٍ منه جديرٌ بالوَجَلْ
غِبْ وزُرْ غِبَّاَ تزِدْ حُبَّاً فمنْ أكثرَ التَّردادَ أقصاهُ المَلَلْ
لا يضرُّ الفضلَ إقلالٌ كما لا يضرُّ الشمسَ إطباقُ الطَّفَلْ
خُذْ بنصلِ السَّيفِ واتركْ غِمدهُ واعتبرْ فضلَ الفتى دونَ الحُلُلْ
حُبّكَ الأوطانَ عجزٌ ظاهرٌ فاغتربْ تلقَ عن الأهلِ بَدَلْ
فبمُكثِ الماءِ يبقى آسناً وسَرى البدرِ بهِ البدرُ اكتملْ
أيُّها العائبُ قولي عبثاً إن طيبَ الوردِ مؤذٍ للجُعلْ(/1)
عَدِّ عن أسهُمِ قولي واستتِرْ لا يُصيبنَّكَ سهمٌ من ثُعَلْ
لا يغرَّنَّكَ لينٌ من فتىً إنَّ للحيَّاتِ ليناً يُعتزلْ
أنا مثلُ الماءِ سهلٌ سائغٌ ومتى أُسخِنَ آذى وقَتَلْ
أنا كالخيزور صعبٌ كسُّرهُ وهو لدنٌ كيفَ ما شئتَ انفتَلْ
غيرَ أنّي في زمانٍ مَنْ يكنْ فيه ذا مالٍ هو المولَى الأجلّ
واجبٌ عند الورى إكرامُهُ وقليلُ المالِ فيهمْ يُستقلْ
كلُّ أهلِ العصرِ غمرٌ وأنا منهمُ، فاترك تفاصيلَ الجُمَل
وصلاةُ اللهِ ربي كُلّما طَلَعَ الشمسُ نهاراً وأفلْ
للذي حازَ العُلى من هاشمٍ أحمدَ المختارِ من سادَ الأوَلْ
وعلى آلٍ وصحبٍ سادةٍ ليسَ فيهمْ عاجزٌ إلا بَطَلْ(/2)
لباس القواعد من النساء و حكم مصافحة الرجال لهن
السؤال :
ما هو الحد الذي تعرف به القواعد من النساء ؟
و هل تجوز مصافحة القواعد من النساء الأجنبيات عن الرجل ؟
و هل هناك فرق بين ما إذا كانت المرأة كافرة أو أعجمية ؟
الجواب :
أقول مستعيناً بالله تعالى :
يقول الله تعالى : ( وَ الْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَ أَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَ اللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) [ النور : 60 ] .
و القواعد من النساء فيما ذهب إليه جمهور المفسرين هنّ النساء اللائي تجاوزن سن النكاح لتقدمهن في العمر أو لإياسهن من المحيض .
قال ابن منظور: قَعَدَتِ المرأَةُ عن الحيض و الولدِ تَقْعُدُ قُعوداً ، و هي قاعد : انقطع عنها ، و الجمع قَواعِدُ .
و في التنزيل : ( وَ الْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ ) . قال الزجاج في تفسير الآية : هنَّ اللَّواتي قعدن عن الأَزواج . و قال ابن السكّيت : امرأَة قاعِدٌ إِذا قعدت عن المحيض ، فإِذا أَردتَ القُعود – بمعنى الجلوس - قلتَ : قاعدة .
و قال أَبو الهيثم : القواعد من صفات الإِناث لا يقال : رجال قواعِدُ . اهـ من لسان العرب .
و قال الإمام الطبري في تفسيره : ( القواعد جمع قاعدة ، يقال للواحدة من قواعد البيت قاعدة ، و للواحدة من قواعد النساء و عجائزهن قاعد ، فتلغى هاء التأنيث ؛ لأنها فاعل من قول القائل : قعدت عن الحيض ، و لا حظ فيه للذكور ، كما يقال : امرأة طاهر و طامث ؛ لأنه لا حظ في ذلك للذكور ) .
هذا ما يتعلق بحدّ القواعد من النساء و بيان صفتهن التي تترتب عليها الأحكام الشرعيّة الخاصة بهن .
أما عن مصافحتهن فلم يفرّق الشارع الحكيم في تحريم مصافحة المرأة بين صغيرة و كبيرة ، بل شملهن في الحكم ؛ و هو تحريم مصافحة الرجل للمرأة قولاً واحداً تستوي فيه الصغيرة و الكبيرة و المسلمة و الكافرة .
فقد روى الشيخان ، و اللفظ للبخاري عن أمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت : ( مَا مَسَّتْ يَدُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ يَدَ امْرَأَةٍ إِلا امْرَأَةً يَمْلِكُهَا ) .
و روى النسائي و ابن ماجة و أحمد في حديث مبايعة النساء بإسنادٍ صحيح عن أميمة بنت رقيقة رضي الله عنها أنّ رسول الله صلى الله عليه و سلّم قال لهن : ( إنّي لا أصافح النساء ) .
و روى الطبراني في جامعه بإسنادٍ صححه الألباني عن معقل بن يسار رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لأن يُطعن في رأس أحدكم بمِخْيَط من حديد خير له من أن يمسّ امرأة لا تحلّ له ) ، و المِخيَط هو الإبرة ، أو المِسلّّّة .
و عليه فإنّ مصافحة الرجل للمرأة أو العكس حرامٌ ، و لا عِبرة بما يتذرّع به بعضهم من تعرّضه للإحراج ، أو الاضطرار إلى فعل ذلك ، لأنّ الحقّ أحقّ أن يُتّبَع ، و على المسلم أن لا يُعرّض نفسه للفتن ، أو يضع نفسه في موضع يضعف فيه عن مقاومة الحرام ، و مجاهدة نفسه عن الوقوع به ، و الله أعلم .
أما ما اختصت به القواعد من النكاح فهو التجوّز في اللباس ، حيث يرخص للمرأة الكبيرة ما لا يرخص لغيرها في باب اللباس ، و هو ما دلت عليه آية سورة النور التي صدّرت بها جوابي هذا ، و ما فهمه أهل الفقه و التفسير منها .
قال الإمام الطبري في تفسير آية النور : يَقُول تَعَالَى ذِكْره : وَ اللَّوَاتِي قَدْ قَعَدْنَ عَنِ الْوَلَد مِنَ الْكِبَر مِنْ النِّسَاء ، فَلا يَحِضْنَ وَلا يَلِدْنَ ؛ وَاحِدَتهنَّ قَاعِد . ( اللاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا ) يَقُول : اللاتِي قَدْ يَئِسْنَ مِنَ الْبُعُولَة ، فَلا يَطْمَعْنَ فِي الأَزْوَاج . ( فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاح أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابهنَّ ) يَقُول : فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ حَرَج وَ لا إِثْم أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابهنَّ ، يَعْنِي جَلابِيبهنَّ ، وَ هِيَ الْقِنَاع الَّذِي يَكُون فَوْق الْخِمَار وَ الرِّدَاء الَّذِي يَكُون فَوْق الثِّيَاب ، لا حَرَج عَلَيْهِنَّ أَنْ يَضَعْنَ ذَلِكَ عِنْد الْمَحَارِم مِنَ الرِّجَال وَ غَيْر الْمَحَارِم مِنَ الْغُرَبَاء غَيْر مُتَبَرِّجَات بِزِينَةٍ ... و َقَوْله ( غَيْر مُتَبَرِّجَات بِزِينَةٍ ) يَقُول : لَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاح فِي وَضْع أَرْدِيَتهنَّ إِذَا لَمْ يُرِدْنَ بِوَضْعِ ذَلِكَ عَنْهُنَّ أَنْ يُبْدِينَ مَا عَلَيْهِنَّ مِنْ الزِّينَة لِلرِّجَالِ . وَ التَّبَرُّج : هُوَ أَنْ تُظْهِر الْمَرْأَة مِنْ مَحَاسِنهَا مَا يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تَسْتُرهُ .اهـ .(/1)
و قال الإمام القرطبي في تفسير الآية ذاتها مبيناً علّة الترخيص للقواعد من النساء في أن يضعن عنهن الجلابيب : ( إِنَّمَا خُصَّ الْقَوَاعِد بِذَلِكَ لانْصِرَافِ الأَنْفُس عَنْهُنَّ ؛ إِذْ لا مَذْهَب لِلرِّجَالِ فِيهِنَّ ، فَأُبِيحَ لَهُنَّ مَا لَمْ يُبَحْ لِغَيْرِهِنَّ ، وَ أُزِيلَت عَنْهُمْ كُلْفَة التَّحَفُّظ الْمُتْعِب لَهُنَّ ) .
قلت : إذا علم أن للقواعد من النساء فسحة في الترخص في اللباس ؛ فينبغي عدم التوسع في العمل بهذه الرخصة ، بل الواجب قصرها على ما ذهب إليه جمهور المفسرين و الفقهاء ، و هو عدم لبس الجلباب ( و هو الثوب الفضفاض الساتر الذي ترتديه المرأة فوق ثيابها عند الخروج من البيت ، أو لقاء غير المحارم من الرجال ) ، و هذا ما ذكره الطبري و القرطبي و ابن كثير و السيوطي ، و عامة المفسرين ، و عزوه إلى السلف الصالحين ، و ساقوا بأسانيدهم ما يدل على أنه فهم السلف للمراد من الآية و أقتصر من ذلك على جملة من الآثار في بيان المراد من كلام الملك الجبّار اقتبسها من تفسير الجلال السيوطي الموسوم بالدر المنثور في التفسير بالمأثور :
• أخرج ابن المنذر و ابن أبي حاتم و البيهقي في السنن عن ابن عباس في قوله ( و القواعد من النساء ) قال : هي المرأة لا جناح عليها أن تجلس في بيتها بدرع و خمار، و تضع عنها الجلباب ما لم تتبرج .
• و أخرج عبد الرزاق و الفريابي و عبد بن حميد و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و الطبراني و البيهقي في السنن عن ابن مسعود في قوله ( فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن ) . قال : الجلباب و الرداء .
• و أخرج سعيد بن منصور و ابن المنذر عن ابن عمر في الآية قال : تضع الجلباب .
• و أخرج عبد بن حميد و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله ( و إن يستعففن خير لهن ) قال : يلبسن جلابيبهن .
• و أخرج سعيد بن منصور و ابن المنذر و البيهقي في السنن عن عاصم الأحول قال : دخلت على حفصة بنت سيرين و قد ألقت عليها ثيابها فقلت أليس يقول الله ( و القواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحاً فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن ) . قالت : اقرأ ما بعده ( و إن يستعففن خير لهن ) و هو ثياب الجلباب .
و بعدُ فلا يسوغ ما تعمد إليه بعض النساء اللائي تقدّمن في السنّ من التساهل في اللباس ، و إن كان الأشنع من هذا ما آلت إليه حال الكثيرات من فتيات المسلمين في شرق العالم و غربه من التبرج و السفور و مجارات الكافرات في اللباس و الزينة و الاختلاط و اتباع خطوات الشيطان .
فليحذر من رضي بالله ربّاً و بالإسلام ديناً و بمحمداً صلى الله عليه و سلّم نبيّاً من الانحراف عن شريعة الله تعالى تحت أي ذريعة يتذرع بها المتساقطون أمام الشبهات و الشهوات ، فإن من يريد الفلاح و النجاح يدعُ ما لا بأس به خوفاً ممّا به بأس .
هذا و الله الهادي إلى سواء السبيل ، و بالله التوفيق .(/2)
لبنان والمنطقة إلى أين؟
الطاهر إبراهيم
كان لافتا للنظر إعلان باريس وواشنطن مساء يوم السبت 5 آب "أغسطس" الجاري عن التوصل إلى اتفاق مبدئي، للإعلان عن وقفٍ لإطلاق النار بين إسرائيل وحزب الله، ومن دون أن يعني ذلك وقفا للحرب بين الطرفين. ولم تكن هذه المعلومة الأخيرة هي عجيبة العجائب الوحيدة، بل إن الحكومة اللبنانية، على لسان مندوبها في مجلس الأمن، كانت تقول بأعلى صوتها: إنها الخاسر الوحيد من بنود وقف إطلاق النار هذا التي تم تسريبها إلى الصحافة، قبل أن يصدر قرار عن مجلس الأمن بذلك.
ابتداء يمكننا أن نكتب ونقرأ العلاقة السطحية البسيطة لموقف حزب الله من كل ما جرى وما يجري حاليا على أرض لبنان، وكذلك موقف الآخر اللبناني من كل ما جرى ويجري حاليا على أرض لبنان. الآخر اللبناني كان يقول ليس لأحد من اللبنانيين مهما كان شأنه أن ينفرد لوحده ويصادر على لبنان، ممثلا بحكومته، قرار الحرب والسلم. وبالتالي فما يجري حاليا هو قيام حزب الله بتوريط لبنان في ما لا طاقة له به، وبالتالي فإن هذه الحرب هي من اختصاص كل العرب، وكل العرب وكأنهم غير موجودين، وكل التحرك الخجول الذي رأيناه من وزراء الخارجية العرب إنما كان قبضَ الريح.
أما حزب الله، فيقول هذه قراءة مغلوطة للواقع. فنحن نقاتل من أجل استعادة أرضنا المحتلة في مزارع شبعا. وإذا تخلى بعض اللبنانيين أو أكثرهم أو أنهم لا طاقة لهم بقتال إسرائيل، فنحن نستطيع ذلك، وعلى الذين لا يقدرون على مساعدتنا أن يمسكوا ـ على الأقل ـ ألسنتهم عنا، وذلك أضعف الإيمان.
وكما أسلفنا، فإن كلتا القراءتين أبسط من أن تكونا قراءة للواقع الظاهر والمختبئ خلف كل ما يجري، وأن وراء الأكمة ما وراءها، فما هي هذه الأكمة؟ وما وراءها؟
المثل العربي يقول: "يدك منك ولو كانت شلاء". فأعضاء حزب الله هم مواطنون لبنانيون، وبالتالي فهم جزء من الشعب العربي، ولهم حق النصرة علينا بمفهومها الواسع الذي عبر عنه الحديث النبوي الشريف "أنصر أخاك ظالما أو مظلوما".
لكن هناك أمورا أخرى لا يجب تجاهلها. فقد كشف القتال الذي يجري حاليا على أرض لبنان عدة حقائق، لعل أهمها: أن السلاح الذي يملكه حزب الله يفوق بكثير إمكانية أي حزب في الوطن العربي أن يملك جزءا يسيرا منه، وأن "إيران" هي من تزوده به. وإذا كان من حق حزب الله أن يملك هذا السلاح حسب مفهومه لهذا التملك، فإن من حق اللبنانيين أن يسألوا عن حقيقة دوافع إيران في إتاحة هذا الكم الهائل من هذا السلاح ليتملكه حزب الله؟
وإذا كنا نعتقد -ومن دون أدنى مداهنة أو تزلف- بأن لحزب الله الحق بأن يكون لديه هذا السلاح، فإننا نشك بدوافع إيران من وراء إتاحة هذا السلاح لكي يتملكه حزب الله، ونؤكد أن مواقف إيران هي تعبير حي للمثل المعروف "يكاد المريب أن يقول خذوني"، خصوصا بعد أن رأينا كيف قدمت إيران كل التسهيلات أمام واشنطن والتحالف الدولي في احتلال "أفغانستان.
وإذا كنا لا نوافق على كثير من سياسات "طالبان" في حكم أفغانستان، فإن هذا لا يبرر لنا أن نرضى بأن تقوم أي دولة خصوصا إذا كانت تزعم أنها ترفع راية الإسلام مثل إيران- بالمساعدة في إيقاع أي دولة إسلامية أو غير إسلامية تحت نير الاحتلال. وإذا كان التخبط السياسي لدولة ما يعتبر مبررا لتقديم المساعدة للأجنبي، فهذا يعني —حسب هذه القراءة المغلوطة- أن كثيرا من الدول العربية أو الإسلامية تستحق أن ترزح تحت الاحتلال الأجنبي.
وإذا كانت القراءة تبدو مشوشة بعض الشيء عند ما يأتي الحديث عن أفغانستان وما قدمته هذه الدولة أو تلك للتحالف الذي قادته أمريكا ضد طالبان، فإن ما قدمته "طهران" لواشنطن أثناء احتلالها بغداد، وما تفعله حاليا أجهزة مخابراتها وما يلوذ بها من ميليشيات تم إنشاؤها وتسليحها وتمويلها من قبل إيران من تدمير يلحق بكل شيء في العراق، فإن نوايا إيران في سورية ولبنان لا يخفي إلا على الأعمى.
على أن هذه المقدمات لا تعني أن نقول إن حزب الله، عندما أسر الجنديين الإسرائيليين، إنما كان بدافع إيراني صرف، لأن التسليم بهذه المقولة هو تسطيح واضح للموضوع. فلم يكن حزب الله، كما المنظمات الفلسطينية، يخفي سعيه وراء أسر جندي أو أكثر للمقايضة به على إطلاق سراح معتقلين لبنانيين، وربما فلسطينيين أيضا.
من يقرأ التصريحات التي أدلى بها وزير الخارجية الإيراني "منو شهر متقي" أثناء زيارته الأخيرة إلى لبنان، وعبر فيها عن تحفظاته "عن خطة الحكومة اللبنانية الشاملة لحل النزاع القائم في لبنان"، كما جاء في خطاب الرئيس "فؤاد السنيورة" في روما حول المبادئ السبعة التي اعتمدها إجماع الحكومة بكامل أعضائها، يتأكد لديه أن "متقي" إنما كان يتكلم وكأن له في لبنان أكثر مما للحكومة اللبنانية. فقد قال السنيورة: "إن منوشهر متقي تجاوز الحدود وبعض الأطراف سارعوا إلى اعتماد موقفه".(/1)
ما هو واضح من كلام السنيورة أن هناك لبنانيين، أيضا، يشاركون متقي في تحفظاته.
اللاعبون الكثر، من خارج لبنان، على الساحة اللبنانية، يهمهم بالدرجة الأولى مصالحهم أو إفشال مصالح اللاعبين الآخرين.
فواشنطن وباريس كلٌ له "ليلاه" التي يغني عليها، وليس للبنان في حساباتهما إلا ما يتوفر من الوقت الضائع. فرنسا يهمها أن تحفظ بعض ماء الوجه الذي يمكن أن تظهر به في مؤتمر "الفرنكفونية" الذي سيعقد لاحقا هذا العام.
أما واشنطن فهي لا تبكي على ماء الوجه، فليس لديها ماء وجه تبكيه، بل تريد في جملة ما تريد -إضافة إلى مصالح إسرائيل- أن تلعب مباراة على أرض لبنان لعلها تعوض خسائر تكبدتها على الملعب العراقي الذي هزمتها فيه طهران، مع أن واشنطن هي من حدد شروط اللعبة يوم أدخلت حكام العراق الجدد على ظهور دباباتها.
لا نريد أن نضيف الكثير فوق ما قلناه عن إيران، فما يظهر أن إيران ماضية في ما تريد إلى نهاية المباراة. ولعل بعض ما تريد هو إضعاف دول المنطقة حتى تبقى هي المفاوض الوحيد مع أمريكا. ولكن ماذا عن سورية التي بقيت جالسة على مقاعد الاحتياط منذ بدأت الحرب، مع أنها الأقرب إلى لبنان؟ وكأنها ليست لها علاقة بما يجري على الملعب اللبناني، وهي البلد الذي خرج من لبنان بعد وجود فيه لثلاثة عقود.
لعلنا لا نبتعد كثيرا عن الحقيقة المؤلمة، وهي أن لبنان أصبح كرة تتقاذفه أرجل اللاعبين. كما أصبح فريق منه يخوض معركة غير لبنان، والبعض الآخر واقف يتفرج لا حول له ولا قوة. ويا ويل لبنان إذا لم يدرك أبناؤه ما يدبره له اللاعبون من غير أبنائه.(/2)
لتبلون في أموالكم وأنفسكم
د.ناصر بن يحيى الحنيني
عباد الله يقول ربنا الحكيم الخبير العليم الحليم في محكم التنزيل: ? وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ? (محمد:31) ويقول سبحانه: ?وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ? (الأنبياء:35) ويقول جل وعلا: ? وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ?(البقرة:155) ويقول المولى جل وعلا: ?وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْض ? (محمد: 4)، ويقول سبحانه: ?الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ?(الملك:2) ويقول سبحانه: ?لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ? (آل عمران:186)
وجاء في البخاري: عن عروةَ أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَأَيْتِ قَوْلَهُ: ?حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِّبُوا ? (يوسف:110) أَوْ كُذِبُوا قَالَتْ: بَلْ كَذَّبَهُمْ قَوْمُهُمْ. فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَقَدْ اسْتَيْقَنُوا أَنَّ قَوْمَهُمْ كَذَّبُوهُمْ وَمَا هُوَ بِالظَّنِّ. فَقَالَتْ: يَا عُرَيَّةُ لَقَدْ اسْتَيْقَنُوا بِذَلِكَ. قُلْتُ: فَلَعَلَّهَا أَوْ كُذِبُوا. قَالَتْ: مَعَاذَ اللَّهِ لَمْ تَكُنِ الرُّسُلُ تَظُنُّ ذَلِكَ بِرَبِّهَا. وَأَمَّا هَذِهِ الْآيَةُ قَالَتْ هُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ الَّذِينَ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَصَدَّقُوهُمْ وَطَالَ عَلَيْهِمْ الْبَلَاءُ وَاسْتَأْخَرَ عَنْهُمْ النَّصْرُ حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَتْ مِمَّنْ كَذَّبَهُمْ مِنْ قَوْمِهِمْ وَظَنُّوا أَنَّ أَتْبَاعَهُمْ كَذَّبُوهُمْ جَاءَهُمْ نَصْرُ اللَّهِ. "
وجاء أيضاً في البخاري: "قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ?حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا ? خَفِيفَةً ذَهَبَ بِهَا هُنَاكَ، وَتَلَا ?حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ? ( البقرة:214) فَلَقِيتُ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ فَذَكَرْتُ لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ قَالَتْ عَائِشَةُ مَعَاذَ اللَّهِ وَاللَّهِ مَا وَعَدَ اللَّهُ رَسُولَهُ مِنْ شَيْءٍ قَطُّ إِلَّا عَلِمَ أَنَّهُ كَائِنٌ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ وَلَكِنْ لَمْ يَزَلْ الْبَلَاءُ بِالرُّسُلِ حَتَّى خَافُوا أَنْ يَكُونَ مَنْ مَعَهُمْ يُكَذِّبُونَهُمْ فَكَانَتْ تَقْرَؤُهَا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِّبُوا مُثَقَّلَةً"
وجاء في مسلم عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيٌّ قَبْلِي إِلَّا كَانَ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ عَلَى خَيْرِ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ وَيُنْذِرَهُمْ شَرَّ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ، وَإِنَّ أُمَّتَكُمْ هَذِهِ جُعِلَ عَافِيَتُهَا فِي أَوَّلِهَا، وَسَيُصِيبُ آخِرَهَا بَلَاءٌ وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا، وَتَجِيءُ فِتْنَةٌ فَيُرَقِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ هَذِهِ مُهْلِكَتِي ثُمَّ تَنْكَشِفُ، وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ هَذِهِ هَذِهِ. فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنْ النَّارِ وَيُدْخَلَ الْجَنَّةَ فَلْتَأْتِهِ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَلْيَأْتِ إِلَى النَّاسِ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْه.ِ وَمَنْ بَايَعَ إِمَامًا فَأَعْطَاهُ صَفْقَةَ يَدِهِ وَثَمَرَةَ قَلْبِهِ فَلْيُطِعْهُ إِنْ اسْتَطَاعَ فَإِنْ جَاءَ آخَرُ يُنَازِعُهُ فَاضْرِبُوا عُنُقَ الْآخَرِ.)
وجاء في الصحيحين واللفظ لمسلم: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( مَثَلُ الْمُؤْمِنِ كَمَثَلِ الزَّرْعِ لَا تَزَالُ الرِّيحُ تُمِيلُهُ، وَلَا يَزَالُ الْمُؤْمِنُ يُصِيبُهُ الْبَلَاءُ. وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ كَمَثَلِ شَجَرَةِ الْأَرْزِ لَا تَهْتَزُّ حَتَّى تَسْتَحْصِد.)(/1)
وجاء في صحيح مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تَذْهَبُ الدُّنْيَا حَتَّى يَمُرَّ الرَّجُلُ عَلَى الْقَبْرِ فَيَتَمَرَّغُ عَلَيْهِ وَيَقُولُ: يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَكَانَ صَاحِبِ هَذَا الْقَبْرِ وَلَيْسَ بِهِ الدِّينُ إِلَّا الْبَلَاءُ ).
وجاء في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري: (عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً قَالَ الْأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَمَا يَبْرَحُ الْبَلَاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ )
أيها المؤمنون: إننا من خلال هذه النصوص الشرعية والتوجيهات الربانية أمام حقيقة شرعية وسنة كونية: وهي أن البلاء حاصل لهذه الأمة وخاصة من يقوم بأمر الله، ومن خلال هذه النصوص الشرعية يمكن أن نقف بعض الوقفات على وجه الاختصار:
الوقفة الأولى:
أن الابتلاء سنة ماضية لكل الناس حتى صفوة الخلق وأحبهم إلى الله عزوجل وهم أنبياؤه ورسله: ?حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِّبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ ? (يوسف: 110) ، فيا من تمسكت بشرع الله لا تجزع لا تترد لا تنكص على عقبيك وأسأل الله الثبات على دينك واصدق مع ربك .
الوقفة الثانية:
أن الابتلاء رحمة بالأمة على وجه العموم، وبكل فرد مؤمن على وجه الخصوص كما قال جل وعلا: : ?وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ? (محمد:31) فالأمة ينقى صفها وتعرف صديقها من عدوها ومؤمنها من منافقها، فتأخذ حذرها ولا يبقى معها إلا الصفوة، وهنا يأتي النصر بعد التصفية وبعد التمحيص فهو خير للأمة، وأما الأفراد كما قال جل وعلا:?الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ ? (العنكبوت:1-2) فالله ثبتنا وارزقنا الصدق في الأقوال والأعمال والنيات.
الوقفة الثالثة:
أن الابتلاء يكون بالخير والشر، بما تكره النفوس وبما تحبه كما قال جل وعلا: ? وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ? (الأنبياء:35) يقول عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه مبيناً خطورة الابتلاء بالسراء وأنها لا تقل خطراً وضرراً على المؤمن من الضراء يقول:" ابتلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالضراء فصبرنا ثم ابتلينا بالسراء بعده فلم نصبر. " فالمال فتنة والمناصب فتنة فاللهم ثبتنا حتى نلقاك وأنت راضٍ عنا .
الوقفة الرابعة:
أن الثبات والنجاة وقت الفتن من عند الله، فلا تعلق قلبك بغيره سبحانه ولا تظنن أن المخلوق يملك لك شيئاً. ولتعلم أن المقادير وأن الكون كله بيده سبحانه، فهو الذين يثبت المؤمنين، كما قال جل وعلا وليس المخلوقين: ?يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ? (إبراهيم: 27) فعليك بالدعاء، فهذا نبينا صلى الله عليه وسلم أمرنا بالتعوذ من الفتن ما ظهر منها ومابطن، والله سبحانه يحب من عباده أن يدعوه ويتضرعوا إليه عند حلول البلاء فقال سبحانه: ?وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ? (الأنعام:42) وقال سبحانه: ?وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ ? (المؤمنون:76)
الوقفة الخامسة:(/2)
أن من أقوى العوامل على الثبات على الحق عند حلول الابتلاء بعد رحمة الله وتثبيته للمؤمن: هو الصبر، ومن أوتي الصبر فقد أوتي الخير كله، وتدبر معي الآيات التي ذكرت الابتلاء كيف نوهت وأشادت بالصبر فالله سبحانه لما قال: ?لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً ? (آل عمران:186) قال في آخر الآية ?وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ? وقال سبحانه: ?وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ? (البقرة:155)، وقال سبحانه مبينا العاقبة الحميدة للصبر حينما يبتلى المؤمنون بكيد الأعداء قال: ?وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ ? (آل عمران: 120) وأنبياء الله هذا منهجهم عند حلول البلاء والفتنة الصبر: ?وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا ? (الأنعام: 34).
الوقفة السادسة:
أن الابتلاء يدل على صحة المسار وصدق السائر إلى الله الداعي إلى رضوانه سبحانه وتعالى، فالأنبياء أشد الناس بلاء وبقدر إيمان العبد يزاد له في البلاء، وهو طريق الإمامة في الدين والتمكين في الأرض قال سبحانه: ?وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ ? (السجدة:24) وقال بعض السلف بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين، وقال الإمام مالك:" إن محمد بن المنكدر لما ضرب، فزع لضربه أهل المدينة فاجتمعوا إليه فقال: لا عليكم إنه لاخير فيمن لا يؤذى في هذا الأمر"
الوقفة السابعة:
أن الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله ونصرة دين الله من أعظم الأسباب للثبات على الدين وقت نزول المحن والبلايا، كما قال جل وعلا: ?وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ? (العنكبوت:69) فبسبب صدقهم وبذلهم وجهادهم ودعوتهم وفقوا وهدوا لمايحبه الله وهو الثبات على الدين، وفازوا بمعية الله وتأييده لهم ونصرتهم سبحانه لهم، فكيف يهزم ويخذل من كان الله معه نسأل الله أن يثبتنا على الحق وأن لا يكلنا إلى أنفسنا أو إلى أحد من خلقه طرفة عين.(/3)
لتحكم بين الناس بما أراك الله
الشيخ عبد العزيز بن باز
س: قال الله - تعالى -: (لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ) هل معنى هذا أن الله أمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - بأن يحكم بكتاب الله ولا يجتهد رأيه فيما لم ينزل عليه كتاب؟ وهل اجتهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟
ج: الله - جل وعلا - أمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - بأن يحكم بين الناس بما أنزل الله عليه، قال - سبحانه -: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ) فكان يحكم بما أنزل الله، فإذا لم يكن هناك نص عنده اجتهد - عليه الصلاة والسلام - وحكم بما عنده من الأدلة الشرعية كما قال في الحديث الصحيح: "إنكم تختصمون إلي فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فمن قضيت له بحق أخيه فإنما أقطع له قطعة من النار فليحملها أو يذرها" متفق على صحته من حديث أم سلمة - رضي الله عنها -، ومعنى هذا أنه قد يجتهد في الحكم حسب القواعد الشرعية. لأنه لم ينزل عليه فيه شيء، فمن عرف أن الحكم ليس بمطابق وأن الشهود زور فقد أخذ قطعة من النار، فليحذر ذلك وليتق الله في نفسه، ولو كان الرسول هو الحاكم عليه.
لأن الحاكم ليس له إلا الظاهر من ثقة الشهود وعدالتهم، أو يمين المدعى عليه، فذا كان المدعي أحضر شهودا يعلم أنهم قد غلطوا ولو كانوا تقاة وأن الحق ليس له، أو يعلم أنهم شهود زور ولكن القاضي اعتبرهم عدولا؛ لأنهم عدلوا عنده وزكوا لديه، فان هذا المال الذي يحكم به له أو القصاص كله باطل بالنسبة إليه لعلمه ببطلانه، وهو قد تعدى حدود الله وظلم، وإن حكم له القاضي. لأن القاضي ليس له إلا الظاهر، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: "فمن قطعت له من حق أخيه شيئا فإنما أقطع له قطعة من النار" والنبي - صلى الله عليه وسلم - يحكم بما أنزل الله فيما أوصاه الله إليه، وما لم يكن فيه نص اجتهد فيه - عليه الصلاة والسلام - حتى تتأسى به الأمة، وهو في ذلك كله يعتبر حاكما بما أنزل الله لكونه حكم بالقواعد الشرعية التي أمر الله أن يحكم بها، ولهذا قال للزبير بن العوام - رضي الله عنه - لما ادعى على شخص في أرض: "شاهداك أو يمينه فقال الزبير إذا يحلف يا رسول الله ولا يبالي فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - ليس لك إلا ذلك" متفق عليه.
"ولما بعث معاذا وفدا إلى اليمن قال له إن عرض لك قضاء فبم تحكم؟ قال أحكم بكتاب الله قال فإن لم تجد قال فسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال فإن لم تجد قال أجتهد رأي ولا آلو فضربه - صلى الله عليه وسلم - في صدره وقال الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله" رواه الإمام أحمد وجماعة بإسناد حسن.
مجموع فتاوى ومقالات بن باز - المجلد السادس
http://www.islamspirit.com المصدر:(/1)
لحوم العلماء مسمومة
فضيلة الشيخ: ناصر ابن سليمان العُمر
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه.
ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله،
صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً كثيرا.
(يا أيها الذين أمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون).
(يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا).
(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا ،يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما).
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون، فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
نلتقي في هذه الليلة المباركة، في بيت من بيوت الله مع موضوع من أهم الموضوعات التي نحن بأمس الحاجة إلى التفقه فيها.
والصحوة اليوم، هذه الصحوة المباركة بحاجة إلى ترشيد وتوجيه حتى لا تأتى من داخلها، فالنار تأكل بعضها إن لم تجد ما تأكله.
إن لم تجد هذه الصحوة من يوجهها ويرشدها فإنني أخشى عليها من نفسها قبل خشيتي عليها من أعدائها.
ومن هنا جئت هذه الليلة لأتحدث لكم وأتحدث معكم عن هذا الموضوع الذي استمعتم إلى مقدمته من أخي الفاضل.
وأحب أن أنبه أن لهذا الموضوع قصة لابد أن تروى:
فقد بلغني في العام الماضي أن هناك بعض الطيبين ينتسبون إلى هذه الصحوة يلتقون في مناسبات مختلفة ويكون جل حديثهم عن العلماء، يقيمون العلماء ويقومون العلماء ويذمون ويمدحون، وهم شباب أحسن ما نقول فيهم أنهم من طلاب العلم لا من العلماء.
فتأثرت في هذا الموضوع فقمت وبدأت أجمع وأقرأ في كتب السلف:
هل كان شبابهم وعلمائهم يفعلون مثل ما نفعل؟؟
ثم قمت وألقيت هذا الموضوع في إحدى الجامعات، ولكنني اعتذرت عن إخراجه لأنه لم يستوي على سوقه بعد.
ومرت فترة وأوذي أحد الدعاة إلى الله، بل أحد العلماء وطعن في عرضه وكانت تلك الطعنة موجهة إلى كل عالم وإلى كل طالب علم،فآلمتنا وأحزنتنا وأقضت مضاجعنا.
وطلب مني بعض الأخوة الذين استمعوا إلى هذه المحاضرة أن أقوم بإخراجها فاعتذرت لأنني قلت أنها لم تكتمل بعد.
وجاءت الأحداث الأخيرة، جاءت الأحداث المريرة، جاءت الفتن التي كقطع الليل المظلم التي نعيش فيها هذه الأيام، فماذا حدث؟
حدث ما يريده الأعداء، واستبيحت لحوم العلماء، ولم يقتصر الحديث عن العلماء على طلاب العلم أو على الدعاة، بل فتح الباب لمن هب ودب حتى تطاول العامة وتطاول المنافقون والعلمانيون على علمائنا.
وقل أن تدخل إلى مجلس أو منزل إلا وتسمع فيه حديثا عن عالم من العلماء وإلى اليوم.
فقلت إن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز.
فجئت إليكم أيها الأحبة مذكرا وناصحا ومبينا ومحذرا من عاقبة الحديث في لحوم العلماء.
وموضحا قدر الإمكان المنهج الصحيح لمعالجة هذه القضية وفق منهج أهل السنة والجماعة.
والموضوع طويل وعناصره كثيرة، ولكنني سأحاول الاختصار قدر الإمكان ولعلي أكتفي من القلادة بما أحاط بالعنق.
فلحوم العلماء مسمومة ورحم الله أبن عساكر حيث يقول:
(أعلم يا أخي وفقني الله وإياك لمرضاته وجعلنا ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته أن لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في هتك أستار منتقصهم معلومة، وأن من أطلق لسانه في العلماء بالثلب بلاه الله قبل موته بموت القلب).
(فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم).
ألخص أسباب الحديث عن هذا الموضع بما يلي:
أولا أن مكانة العلماء في الإسلام مكانة عظيمة، فيجب تعظيمهم وإجلالهم.
ثانيا تساهل كثير من الناس في هذا الجانب.
ثالثا وقوع طلاب العلم في علمائهم من حيث لا يشعرون.
رابعا عدم فهم كثير من الدعاة للمنهج الصحيح في هذه القضية.
خامسا وأخيرا وهو مهم جدا الهجمة الشرسة المنظمة من المنافقين والعلمانيين على علماءنا تبعا لأسيادهم من اليهود والنصارى.
من أجل ذلك جئت أتحدث معكم أيها الأخوة، وأبين بعض هذه الأسباب فأقول:
النقطة الأولى مكانة العلماء وفضلهم يقول جل وعلا:
(قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون).
ويقول سبحانه:
(إنما يخشى اللهَ من عباده العلماء).
ويقول جل وعلا:
(وأطيعوا الله والرسول وأولي الأمر منكم).
وأولو الأمر كما قال العلماء هم العلماء، وقال بعض المفسرين أولو الأمر الأمراء والعلماء.
ويقول جل وعلا:
(يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات والله بما تعملون خبير).
وروى البخاري عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال:
(من يرد الله به خيرا يفقه في الدين).
قال أبن المنير كما ذكر أبن حجر:
( من لم يفقه الله في الدين فلم يرد به خيرا).
وروى أبو الدرداء رضي الله عنه أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال:(/1)
(فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب ليلة القدر، العلماء هم ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهم، وإنما ورثوا العلم فمن أخذ به فقد أخذ بحظ وافر).
وهو حديث حسن أخرجه أبو داوود والترمذي والدارمي.
ومن عقيدة أهل السنة والجماعة كما قال الإمام الشيخ عبد الرحمن أبن سعدي رحمه الله:
(أنهم يدينون الله باحترام العلماء الهداة).
من عقيدة أهل السنة والجماعة أنهم يدينون الله ويتقربون إلى الله جل وعلا باحترام العلماء الهداة.
قال الحسن:
(كانوا يقولون موت العالم ثلمة في الإسلام لا يسدها شيء ما اختلف الليل والنهار).
وقال الإمام الأوزاعي:
(الناس عندنا أهل العلم ومن سواهم فلا شيء).
وقال سفيان الثوري:
(لو أن فقيها على رأس جبل لكان هو الجماعة).
لو أن فقيها كان على رأس جبل وحده لكان هو الجماعة.
الناس من جهة التمثال أكفاء…… أبوهمُ أدم والأم حواء
فإن يكن لهم في أصلهم نسب….... يفاخرون به فالطين والماء
ما الفضل إلا لأهل العلم إنهمُ…… على الهدى لم استهدى أدلا
وقدر كل امرأ ما كان يحسنه…… والجاهلون لأهل العلم أعداء
أما تعظيم العلماء ووجوب تقديرهم واحترامهم، فاسمعوا إلى قوله تعالى:
(ذلك ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه).
ويقول جل وعلا:
(ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب).
والشعيرة كما قال العلماء كل ما أذن وأشعر الله بفضله وتعظيمه، إذا العلماء قد أذن الله وأشعر الله بفضلهم وتعظيمهم:
(يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات والله بما تعملون خبير)
فتعظيمهم واجب:
(ذلك ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه).
(ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب).
قال أحد العلماء:
(أعراض العلماء على حفرة من حفر جهنم).
وفي صحيح البخاري عن أي هريرة رضي الله عنه، قال قالَ رسول الله (صلى الله عليه وسلم):
(قال الله عز وجل من آذى لي وليا فقد آذنته بالحرب).
أيها الأخوة كلنا ندرك أن من أكل الربى فقد آذنه الله بالحرب:
(فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله).
إن لم ينتهي آكل الربى عن أكله الربى فليأذن بحرب من الله ورسوله، كلنا يدرك هذه القضية.
ولكن هل نحن ندرك أيضا أن من آذى أولياء الله فقد حارب الله جل وعلا:
(قال الله عز وجل من آذى لي وليا فقد آذنته بالحرب).
روى الخطيب البغدادي عن أبي حنيفة والشافعي رحمهم الله أنهما قالا:
(إن لم تكن الفقهاء أولياء الله فليس لله ولي).
قال الشافعي: (الفقهاء العاملون).
وقال ابن عباس رضي الله عنهما:
(من آذى فقيها فقد آذى رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، ومن آذى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقد آذى الله عز وجل).
إذا أيها المؤمن، أخي الكريم هل ندرك مكانة العلماء ؟
لعلنا من خلال النصوص التي ذكرتها وتحدثت عنها تبين لنا بعض ما يجب علينا في حق علمائنا،
ولعلها مناسبة طيبة أن أنبه إلى خطورة اللسان لأننا تساهلنا في ألسنتنا.
فأذكر أولا فضل اللسان، أذكر أيها الأخوة امتنان الله عليكم بهذه الألسنة هذه الجارحة اليسيرة.
يقول جل وعلا عن موسى عليه السلام:
(واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي). ويقول (ولا ينطلق لساني).
ويقول عن أخيه هارون: (هو أفصح مني لسانا).
ويقول سبحانه وتعالى ممتنا على عبده:
(ألم نجعل له عينين ولسانا وشفتين).
ومن أجل أن أوضح قيمة هذا اللسان، والفضل له، لنأخذ مثلا واحدا:
الذي نزعت منه هذه النعمة أو الأبكم، إذا أراد أن يعبر عن ما في نفسه، تتحرك يداه وشفتاه وعيناه ورأسه وجزء من جسمه ولا يستطيع أن يعبر عن ما في نفسه، وتبقى في نفسه حسرة.
وأنت أيها المؤمن بكلمات يسيرة معدودة تعبر عن ما في نفسك، أليست هذه نعمة؟
(ألم نجعل له عينين ولسانا وشفتين).
والصحة تاج على رؤوس الأصحاء لا يراه إلا المرضى.
إذا هل نحن نحافظ على هذا اللسان، أو نطلقه في علمائنا وفي عوام الناس.
استمعوا إلى خطورة ذلك:
يقول جل وعلا:
( إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم).
(فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد).
ولذلك جاء الأمر بحفظه والتحذير من تركه:
(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا).
(ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد).
(ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا).
وفي الحديث الذي رواه الترمذي:
(وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم).
ويقول الرسول (صلى الله عليه وسلم) في الحديث المتفق عليه:
(من يضمن لي ما بين لحييه وما بين فخذية أضمن له الجنة).
عموم الناس وكثير من الناس وأخص الطيبين منهم لا يقع في ما بين فخذيه، أي يضمن ما بين فخذيه، وهذه نعمة من الله جل وعلا. أي يضمن الفرج وما حوله.
ولكن هل نحن نضمن ما بين لحيينا؟
هل يمر علينا يوم بدون أن نتحدث في عرض مسم أو في عرض عالم. ؟(/2)
(من يضمن لي ما بين لحييه وما بين فخذيه أضمن له الجنة).
ويقول الرسول (صلى الله عليه وسلم):
(المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده).
ويقول (صلى الله عليه وسلم): استمعوا إلى هذا الحديث:
(إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يزل بها إلى النار أبعد ما بين المشرق والمغرب).
يصاب الفتى من عثرة في لسانه ......... وليس يصاب المرء من عثرة الرجل
فعثرته في القول تذهب رأسه .......... وعثرته بالرجل تبرأ على مهل
احفظ لسانك أيها الإنسان ................. لا يلدغنك إنه ثعبان
كم في المقابر من قتيل لسانه ......... كانت تهاب لقائه الشجعان
الصمت زين والسكوت سلامة .............. فإذا نطقت فلا تكن مكثارا
فإذا ندمت على سكوتك مرة ............ فلتندمن على الكلام مرارا
قال حاتم الأصم:
(لو أن صاحب خبر جلس إليك ليكتب كلامك لاحترزت منه، وكلامك يعرض على الله جل وعلا فلا تحترز).
هنا يتبادر سؤال:
هل لحوم العلماء فقط هي المسمومة؟
هل لحوم بقية الناس مباحة؟
يقول جل وعلا:
(والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا).
ويقول (صلى الله عليه وسلم) مبينا ذلك:
(كل المسلم على المسلم حرام دمه وعرضه وماله) رواه مسلم.
وقال (صلى الله عليه وسلم) في حجة الوداع:
(إن دمائكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا..ألا هل بلغت). متفق عليه.
فالغيبة أيها الأخوة محرمة، وغيبة العلماء من أشد أنواع الغيبة، يقول جل وعلا:
(ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم).
وقال (صلى الله عليه وسلم):
أتدرون ما الغيبة؟
قالوا الله ورسوله أعلم.
قال ذكرك أخاك بما يكره،
قيل افرأيت إن كان في أخي ما أقول.
قال إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته). مسلم.
هذا إذا كان فيه ما يقول وهو من عموم الناس، كيف بالحديث عن العلماء بالحق وبالباطل؟
وفي سنن أبي داوود عن أنس رضي الله عنه قال قالَ رسول الله (صلى الله عليه وسلم):
(لما عرج بي إلى السماء مررت بقوم لهم أضفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم فقلت من هؤلاء يا جبريل؟ قال هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم).
كيف بالذي يقع في لحوم العلماء؟
واسمعوا إلى هذه الكلمة من ابن القيم رحمه الله، والله إنها كلمة تكتب بماء الذهب، لماذا؟
لأنها تنطبق على كثير من الناس الطيبين وكثير من طلاب العلم، اسمع إلى هذا الكلام القيم من ابن القيم قال:
( وكم ترى من رجل متورع عن الفواحش والظلم ولسانه يفري في أعراض الأحياء والأموات ولا يبالي ما يقول).
وكم ترى من رجل متورع عن الفواحش والظلم، لو رأى أن شابا أو إنسانا نظر إلى امرأة لقال له حرام ولزجره، ولكن لسانه يفري في لحوم الناس عموما والعلماء خصوصا، ولا يبالي بما يقول.
بعد هذه المقدمات أيها الأخوة وهي جزء من الموضوع، ندخل في صلب الموضوع في الحديث عن لحوم العلماء.
********
النقطة الثانية ما هي الأسباب التي تجعل الناس يتحدثون عن في لحوم العلماء؟
استمعوا إلى هذه الأسباب:
السبب الأول الغَيرَة والغِيرة.
الغَيرَة محمودة فهي من الغيرَة على دين الله جل وعلا، ولكن قد يكون الباعث للحديث غيرَة ولكنها ينجر شيئا فشيئاً حتى يقع هذا الذي غار على دين الله في لحوم العلماء من حيث لا يشعر.
وهناك مزيد بيان لهذه القضية.
أما الغِيرَة فهي مذمومة وهي قرينة الحسد، قال سعيد ابن جبير رحمه الله:
(استمعوا لعلم العلماء ولا تصدقوا بعضهم على بعض، فوالذي نفسي بيده الهم أشد تغايرا من التيوس في زرابها).
كلام العلماء بعضهم في بعض من الأقران، يقول الإمام سعيد ابن جبير انهم أشد تغايرا من التيوس في زرابها. ألستم ترون التيوس كيف ينطح بعضها بعضا ويؤذي بعضها بعضا.
فيقول خذوا من كلام العلماء واستفيدوا من علمهم ولا تصدقوا كلام بعض على بعض من الأقران.
ولذلك قال الذهبي:
(كلام الأقران بعضهم في بعض لا يعبأ به لاسيما إذا كان لحسد أو مذهب أو هوى، والحسد يعمي ويصم ومنه التنافس للحصول على جاه أو مال، فقد يطغى بعضهم على بعض ويطعن بعضهم في بعض من أجل القرب من سلطان أو الحصول على جاه أو مال).
أيها الأخوة، الحسد، الغيرة، التنافس من أسباب الحديث في لحوم العلماء.
السبب الثاني الهوى:
قال الله جل وعلا: ( ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله).
وقال: ( فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين)
وقال شيخ الإسلام:
(صاحب الهوى يعميه الهوى ويصمه).
وكان السلف يقولون:
(احذروا من الناس صنفين، صاحب هوى قد فتنه هواه، وصاحب دنيا أعمته دنياه).
الهوى خطير وبعض الذين يتكلمون في لحوم العلماء لم يتجردوا لله جل وعلا، بل دفعهم الهوى لهذا الأمر.
السبب الثالث التقليد:(/3)
(إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون).
وأبين أن التقليد ليس مذموما بعمومه، وقد فصل العلماء في قضية التقليد ولكنني أحذر من التقليد الذي يؤدي إلى الحديث في لحوم العلماء.
قال ابن مسعود رضي الله عنه:
(ألا لا يقلدنا أحدكم دينه رجلا إن آمنَ آمن وإن كفرَ كفر فإنه لا أسوة في الشر).
وقال أبو حنيفة:
( لا يحل لمن يفتي من كتبي أن يفتي حتى يعلم من أين قلت).
وقال أحمد:
( من قلة علم الرجل أن يقلد دينه الرجال).
التقليد يؤدي أيها الأخوة إلى الحديث في لحوم العلماء، تقليد لفلان.
أحيانا تستمع إلى بعض الناس يتكلم في عرض عالم، تقول له هل استمعت إلى هذا العالم؟
قال لا والله. من قال لك؟ قال فلان. فهذا تقليد.
وأخطر منه السبب الرابع وهو التعصب:
ولي وقفة مع موضوع التعصب لحساسيته وعلاقته بهذا الموضوع.
قال أبو حامد الغزالي:
(وهذه عادة ضعفاء العقول يعرفون الحق بالرجال، لا الرجال بالحق).
ومن أشد أنوع التعصب الحزبية.
الحزبية لمذهب أو جماعة أو قبيلة أو بلد.
ومن خلال سبري لأقوال الذين يتحدثون في لحوم العلماء خاصة من الدعاة وطلاب العلم، من أبرز الأسباب التعصب وسبب التعصب هو الحزبية.
هذه الحزبية الضيقة، هذه الحزبية التي فرقت المسلمين إلى شيع وأحزاب، فأقول إن الحزبية أيها الأخوة أودت بالكثير للحديث في لحوم العلماء.
وهل أنا إلا من غزية إن غوت… غويت إن ترشد غزيت أرشد
إذا ضل من يتعصب له ضل معهم، وإن اهتدوا اهتدى معهم.
إن قال هؤلاء في عالم كلاما أخذ به، وإن رفعوا الحجاب عنه رفع معهم.
أحبتي الكرام تأملوا في خطورة هذه القضية، سمعت أن بعض طلاب العلم يتكلمون في بعض العلماء، في الأيام القريبة الماضية، وفجأة تغير موقف هؤلاء الطلاب، فسألت:
فقالوا أنهم سمعوا أن فلاناً من العلماء يثني على هذا العالم فأثنوا عليه.
ما الذي تغير ؟ لماذا كنتم تقدحون به منذ أيام والآن أصبحتم تمدحونه.
اسمحوا لي أن أقول بكل مرارة أن بعض طلاب العلم وبعض الدعاة قد سلموا عقولهم لغيرهم.
قلدوا في دينهم الرجال كما قال الإمام أحمد.
قلدوا في دينهم الرجال، إن اخطئوا أخطئوا معهم وإن أصابوا أصَابوا معهم.
التعصب لمذهب أو جماعة أو بلد أو قبيلة خطير جدا،من الملاحظ أن هناك من ينتصر لعلماء بلده ويقدح في العلماء الآخرين.
لا.. أيها الأحباب كيف نقدح في لحوم العلماء حتى لو كانوا من بلاد أخرى فبلاد المسلمين بلاد واحدة.
هذا التعصب والفتنة التي نعيش فيها هذه الأيام أفرزت أمورا خطيرة يجب أن يقف أمامها الدعاة وطلاب العلم، كل أهل بلد تعصبوا لعلمائهم:
أهل الشرق تعصبوا لعلماء الشرق.
وأهل الغرب تعصبوا لعلماء الغرب.
وأهل الوسط تعصبوا لعلماء الوسط.
ليس هذا هو المنهج الصحيح، نحن لا نعرف الحق بالرجال وإنما نعرف الرجال بالحق.
نأخذ بالحق مهما كان قائله.
أيها الأخوة هذه مسألة خطيرة، التعصب، الحزبية الضيقة هي التي أودت بنا إلى كثير من المهالك، فالله اللهَ أيها الأخوة انتبهوا لهذا السبب فهو سبب خطير.
السبب الخامس التعالم:
حيث يتكلم في عرض العالم ليفند قوله تقوية لقوله الضعيف، وما أكثر المتعالمين في عصرنا.
التعالم سبب من أسباب الحديث في لحوم العلماء.
السبب السادس النفاق وكره الحق:
سبب من أسباب الحديث في لحوم العلماء:
(في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا).
(وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون).
(وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون)
فالمنافقون والعلمانيون في عصرنا من أسباب الحديث في لحوم العلماء والمؤسف أنني استمعت في مجلس من المجالس إلى أحد هؤلاء المنافقين من القوميين والحداثيين وأمثالهم يتحدث في لحوم العلماء، فقلده بعض الطيبين من حيث لا يدري، ووافقه على ما يقول حتى رُد عليه في مجلسه.
الآن العلمانيون يتحدثون في علمائنا كلاما ننزه أسماعكم عن سماعة، فالنفاق وكره الحق من الأسباب الرئيسة في الحديث عن لحوم العلماء.
السبب السابع تمرير مخططات الأعداء كالعلمنة ونحوها:
أدرك العلمانيون أخزاهم الله أنه لا يمكن أن تقوم لهم قائمة والعلماء لهم هيئة وشأن، فماذا يفعلون ؟
بدئوا في النيل من العلماء، بدئوا في تحطيم صورة العلماء، بدئوا في الغمز واللمز.
من أجل ماذا؟ من أجل تمرير مخططات الأعداء، لا أقول لكم هذا من فراغ.
لقد استمعت إلى بعض هؤلاء فيما نقل لي عن طريق الثقاة، قالوا في العلماء كلاما والله لا يقبله عاقل فضلا عن طالب علم، لا يقبله عامي من عوام المسلمين في علمائهم.
ماذا يريد هؤلاء؟ يريدون أن يحطموا صورة العلماء.
ولي وقفة بعد قليل مع هذه القضية مبينا وموضحا ومنبها.
النقطة الثالثة الآثار المترتبة على الحديث في العلماء؟:
إذا تحدثنا في علمائنا وأكلنا لحوم العلماء وأصبح الديدن في مجالسنا أن نتحدث في علمائنا ماذا يحدث؟ انظروا ماذا يحدث:(/4)
أولا إن جرح العالم سيكون سببا في رد ما يقوله من الحق.
جرح العالم ليس جرحا شخصيا، أنت عندما تجرح رجلا من عموم الناس فإنك تقدح في عرضه فقط، أما جرح العالم فليس جرح شخصيا إنما يكون سببا لرد ما يقوله من الحق.
ولذلك انتبه المشركون إلى هذه القضية فماذا فعلوا؟
ما طعنوا في الإسلام أولا…لا، ركزوا في الطعن على شخص الرسول (صلى الله عليه وسلم)، على الشخص الطاهر، لماذا ؟ لأنهم يعلمون علم اليقين أنهم إذا استطاعوا أن يشوهوا صورة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في أذهان الناس فلن يقبل ما يقوله من الحق، ولكنهم باءوا بالخسران والحمد لله.
سؤال يا أحباب:
لماذا قبل بعثة الرسول (صلى الله عليه وسلم) كان هو الأمين، كان هو الصادق، هو الحكم، هو الثقة، ما الذي تغير؟
عندما جاء بهذا الدين أصبح ساحر، كاهن، كذاب، مجنون.
إذا هم لا يقصدون شخص محمد ابن عبد الله ابن عبد المطلب، هم يقصدون شخص رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، لماذا ؟ لأنهم يعلمون أنهم إذا استطاعوا أن يؤثروا في أذهان الناس عن شخصية الرسول فلن يقبل ما معه، ولكنهم باءوا وخسروا.
هذا هو أسلوب المنافقين الآن، هذا هو أسلوب العلمانيين الآن.
فلذلك جرح العالم ليس جرحا شخصيا.
ثانيا أن جرح العالم جرح للعلم الذي معه وهو ميراث النبي (صلى الله عليه وسلم).
لأن العلماء هم ورثة الأنبياء، فجرح العالم جدر لأرث النبي (صلى الله عليه وسلم) وهذا معنى قول أبن عباس أن من آذى فقيها فقد آذى رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، ومن آذى رسول الله فقد آذى الله جل وعلا.
إذا من يجرح في العالم يجرح العلم الذي معه، ومن جرح هذا العلم جرح أرث الرسول (صلى الله عليه وسلم)،إذا هو يطعن بالإسلام من حيث لا يشعر.
ثالثا أن جرح العلماء سيؤدي إلى إبعاد طلاب العلم عن علماء الأمة وسلفها.
رابعا أن تجريح العلماء تقليل لهم في نظر العامة، وذهاب لهيبتهم وريحهم .
وهذا ما يسر أعداء الله ويفرحهم، يقول أحد الزعماء الهالكين في دولة عربية بعد أن سلط إعلامه على العلماء واستهتر بالعلماء واستهزأ بالعلماء، ماذا قال في النهاية؟ قال:
(عالم..شيخ.. أعطه فرختين يفتي لك بالفتوى التي تريد). أخزاه الله.
سقطت قيمة العلماء في نظر العامة، والله إن خطورة هذا الأمر شأن عظيم.
ذهبت إلى بعض الدول الإسلامية وسألت عن العلماء فما وجدت علماء، أصبح العامة لا ينظرون للعلماء، لا يأبهون بالعلماء، لماذا ؟
لأن العلمنة سلطت أقلامها عليهم ومن هنا استمعوا إلى الأثر الخطير الذي قلت لكم أنني سأقف معه.
رابعا تمرير مخططات الأعداء.
من الآثار العظيمة والخطيرة في توجيه السهام إلى العلماء تمرير مخططات الأعداء.. كيف؟
ما فيه داعي للنظريات يا أحباب، اسمعوا إلى قضايا واقعية.
الحديث في رجال الحسبة الآن وهم من طلاب العلم كثُر، أصبحت أعراض رجال الحسبة مستباحة، ولم يقتصر هذا الأمر على عموم الناس وعلى المنافقين والعلمانيين، بل وقع فيه بعض طلاب العلم من حيث يشعرون أو لا يشعرون.
تجلس في بعض المجالس فتسمع أخطأت الهيئات، أخطأ رجال الهيئات، فعل رجال الهيئات.
سبحان الله! ما يخطئ إلا رجال الهيئات!
لماذا لا نتكلم عن أخطاء غيرهم ؟
اطلعت بالأمس على فتوى لسماحة الشيخ محمد ابن إبراهيم رحمه الله:
مجموعة من طلاب العلم اشتكوا أحد المسؤولين، ومن خلال الفتوى أو الرسالة التي قرأتها لشيخنا محمد ابن إبراهيم يبدوا أنهم زادوا في الشكوى.
أتعلمون ماذا حدث؟ أهينوا وسجنوا ، هذا في زمن الشيخ محمد ابن إبراهيم رحمه الله.
فكتب الشيخ رسالة ينبه إلى خطورة التعرض لطلاب العلم.
ولكني أسألكم هل رأيتم أحدا سجن عندما تكلم في أعراض رجال الحسبة ورجال الهيئات؟
جاءني بعض شباب الهيئات يقولون، تطاول الرجال والنساء علينا ولا نجد من يحمينا فنحن المتهمون دائما…ما المقصود؟
المقصود هو القضاء على الهيئات وتحطيم الهيئات.
حتى أصبحنا مع كل أسف نسمع من بعض طلاب العلم، وليسو طلاب علم ولكن المحسوبين على الدعاة أو المحسوبين على طلاب العلم أو المحسوبين على الشباب الصالحين يطالبون ويتكلمون في أعراض الهيئات وأنها تتجاوز وأنها..وأنها.
غيرهم ما يتجاوز! غيرهم ملائكة ! غيرهم رسل!
من يستطيع يتحدث في غيرهم؟ يقطع لسانه.
أما الهيئات، أما رجال الحسبة فهم المتهمون، رجل الحسبة متهم حتى يثبت براءته.
هذا لغرض يا أحباب، لا نكون أغبياء، لا نكون مغفلين.
القضاة، أسمع الحديث عن لحوم القضاة، طلاب علم وعلماء.
القاضي الفلاني فيه كذا، القاضي الفلاني فعل كذا، القاضي الفلاني اشترى أرض، القاضي الفلاني اشترى سيارة، القاضي الفلاني يؤخر المعاملة.
سبحان الله يا إخوان!
ما يخطئ إلا القضاة، لماذا نتحدث عن أخص ما في بيوت قضاتنا؟
ما دخلنا عن ما في بيوتهم؟ لكن قضايا مقصودة لتحطيم القضاء الشرعي.
سبحان الله! ماذا يقصد بهذا الكلام؟ أتدرون ماذا كانت النتيجة؟(/5)
قال بعضهم نحن لسنا بحاجة إلى القضاة وتعقيدات القضاة والمحاكم، القانون الفرنسي أرحم لنا من هؤلاء.
ويا أحباب حتى لا تتصوروا أني أتكلم من فراغ، هناك من يطالب بالقانون الفرنسي، وكاد أن يتحقق لهم الأمر.
أذكر لكم مثالا، نظام المرافعات الذي الغي، والحمد لله أنه الغي، ويشكر من كان سببا في إلغائه، نشكر كل من كان سببا في إلغاء هذا النظام.
أتدرون ما هو نظام المرافعات الذي كان على وشك التطبيق؟ مأخوذ من النظام المصري حرفا بحرف، والنظام المصري مأخوذ من النظام الفرنسي.
لا تتصورون الأمر صعب.. ولكن الحمد لله تدارك العلماء الأمر واستجاب المسؤولون لهذا الأمر، ونسأل الله أن يستجيبوا لبقية الأشياء الأخرى التي تخالف شريعتنا. نسأل الله ونقول لهم هذا ما يجب على العلماء أن يوضحوا.
أما الحديث عن الدعاة فحدث ولا حرج، الحديث عن الدعاة، عن المتطرفين، عن.. عن.. خذ الألقاب التي جاءتنا لم نعرفها أبدا.
إذا باختصار من آثر الكلام في لحوم العلماء وطلاب العلم تمرير مخططات الأعداء فانتبهوا لهذا الأمر.
********
النقطة الرابعة المنهج الصحيح في معالجة هذه القضية:
أحبتي الكرام سيسأل بعضكم ويقول هل أنت تريد منا أن نقدس العلماء؟
ماذا نفعل أمام أخطاء العلماء؟
أليس العلماء يخطئون؟ نعم أنا قلت أنهم يخطئون.
طّيب.. ما دمت تقول أنهم يخطئون ماذا نفعل؟
إذا استمعوا إلى المنهج الصحيح في معالجة هذه القضية، باختصار كيف نجمع بين احترام علمائنا وتقديرهم ومكانتهم وبين بيان الحق؟
واقسم هذا الموضوع إلى ثلاث نقاط:
1/ أول ما يجب في هذه القضية على العلماء أن يحموا أنفسهم.
كيف العلماء يحموا أنفسهم؟ كل واحد يكون معه جنديين أو ثلاثة!!؟
كيف يحمي العلماء أنفسهم؟
(على رسلكما إنه صفية).
رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حمى نفسه، مع من؟ أمام الصحابة، حتى استغربوا، لكن الرسول (صلى الله عليه وسلم) بين أن الشيطان يجري من ابن أدم مجرى الدم.
(على رسلكما إنها صفية)، فدافع عن عرضه (صلى الله عليه وسلم) أمام الصحابة.
(رحم الله امرأ دفع الغيبة عن نفسه).
كيف يحمي العلماء أنفسهم؟
إذا المسؤولية الأولى على العلماء أنفسهم أن يحموا أنفسهم.. كيف ؟ يحمون أنفسهم بما يلي:
* أن يكون العالم قدوة في علمه وعمله.
(أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم)
* على العالم أن يتثبت في الفتوى ويستكمل شروطها.
إذا طُلبت منه فتوى ينظر لماذا هذه الفتوى، ما هي آثار هذه الفتوى، ماذا يراد بهذه الفتوى.
على العالم أن يتثبت، ويستكمل شروط الفتوى، وذلك بفقه الأصول وفقه الفروع وفقه الواقع.
وإلا فلا يلومن إلا نفسه، إن تعرض له الناس.
ونحن لا نبرأ الناس من كلامهم في العلماء، لكنه كان سببا في الحديث في العلماء، عليه أن يتثبت ولا يتعجل، لا يكتفي بأنه قيل له كذا وكذا ثم يفتي، لا.
عليه أن يتأكد، يسأل ويتثبت عن ماذا يراد بهذه الفتوى؟
هل يراد بها استغلال أو غيره. عليه أن يتثبت في الفتوى.
* أن يحذر العالم من الاستدراج، والغفلة والتدليس.
فهناك من يستدرج العلماء، هناك من يستغفل العلماء، هناك من يلبّس على العلماء، فعلى العلماء أن يكونوا كما قال عمر وهو من أئمة العلماء رضي الله عنه :(لست بالخب ولا الخب يخدعني)، يقول أنا ما أخادع ولكن لا أحد يخدعني، رضي الله عنه.
نعم لا يُخدع العالم، فينتبهوا إلى أن هناك من يريد أن يدلس عليهم، من يريد أن يهون لهم الأمور، من يقول: لا… المراد بهذه الفتوى فقط كذا مسألة بسيطة. ثم تستغل الفتوى لغرض في النفس.
* على العالم أن يكون جريئا في الحق لا تأخذه في الله لومة لائم.
نحن نطالب ونطلب من علمائنا أن تكون لهم جرأة كأسلافنا رضي الله عنهم.
كجرأة أبس سعيد الخدري عندما وقف أمام مروان أبن الحكم عندما أراد أن يقدم الخطبة على الصلاة، فقال له
( يا مروان الصلاة قبل الخطبة يوم العيد، فسحبه من ثوبه قال مروان قد ترك ما هنالك).
فأنكر عليه علانية ولم يقل نكتب له ورقة ونصيحة سرية بيننا وبينه بعد. لا
أمام العلم، الصلاة قبل الخطبة يا مروان.
كالعز أبن عبد السلام سلطان العلماء، وقد ذكرت في محاضرة سابقة قصة سلطان العلماء، وأعيدها مرة أخرى لتعرفوا كيف يكون العلماء، وكيف يحمي العلماء أنفسهم.
كان الملك السلطان الصالح أيوب ملكا وواليا لدمشق وللشام عموما، وبسبب خلاف بينه وبين أبناء عمه تنازل للنصارى عن بعض الحصون.
ماذا فعل العز أبن عبد السلام في هذه القضية عندما تنازل الملك الصالح للنصارى عن بعض الحصون؟
قام على المنبر وخطب في جامع بني أمية ولم يدعو للملك الصالح إنما قال:
(اللهم أبرم لهذه الأمة أمرا رشدا يعز في أهل طاعتك ويذل فيه أهل معصيتك، ويأمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر، ونزل من على المنبر).
مجرد الدعاء للسلطان لم يدعو له.. ما يستحق.
ثم جاء الناس يستفتونه أن النصارى بدءوا يشترون السلاح من دمشق، فهل نعطيهم السلاح؟
قال ما يجوز أن تبيعوا عليهم السلاح.(/6)
ماذا فعل السلطان سجنه، ونحن نستغرب أحيانا يا أخوان أن يسجن عالم، طبيعي أن يسجن عالم.
سجن الإمام أحمد أبن حنبل، سجن العز أبن عبد السلام، وسجن أبن تيمية.
(ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا أمنا وهم لا يفتنون).
فلما سجنه، توقع أنه يعتذر وأن يطلب أن يسامحه، ولم يعتذر العز أبن عبد السلام.
فأرسل السلطان إليه أحد أعوانه وما أكثرهم، وقال له:
يا شيخ سوف أشفع لك عند السلطان أن يخرجك، فقط نريد منك شيئا واحدا أن تذهب معي إلى السلطان لتعتذر له وتقّبل رأسه.
طلب بسيط…ماذا قال العز أبن عبد السلام؟
قل دعك عني.. والله لو طلب مني السلطان أن يقبل يدي ما سمحت له أن يقبل يدي.
عافني الله مما ابتلاكم به يا قوم.. أنتم في واد وأنا في واد.
رفض.. توقيع، تعهد بسيط فتخرج وتعاد إلى الخطبة.
لا.. العالم لا يمكن أن يكون ذليلا في يوم من الأيام، لا يمكن أن يكون العالم ذليلا أمام فاسق، أو أمام ظالم يطلب منه هذا الشيء.
الآن عندنا سلطانيين، السلطان الحقيقي العز أبن عبد السلام، والسلطان الرسمي الملك الصالح أيوب.
السلطان ذهب لمقابلة النصارى، فخاف أن يخرج سلطان العلماء بالقوة.
فما كان من الملك الصالح إلا أن أخذ العز ابن عبد السلام معه وسجنه في خيمة، وجلس الملك الصالح أيوب مع النصارى، وبينما هو جالس معهم بدأ العز أبن عبد السلام يقرأ القرآن.
فسمعه الملك الصالح، أتدرون ماذا قال ؟
قال الملك الصالح النصارى تستمعون إلى الذي يقرأ.
قالوا نعم نستمع، قال تعرفون من هو؟ قالوا لا، لا نعرفه.
قال هذا من أكبر قساوستنا وسجنته، جاء بلغتهم مع أكبر أسف ولم يقل أكبر علمائنا.
أتدرون لماذا سجنته؟ قالوا لا.
قال إنه أفتى بعدم جواز بيع السلاح إليكم فسجنته من أجلكم.
يا للحسرة، ماذا قال النصارى؟
قالوا والله لو كان هذا قسيسا لنا لغسلنا رجليه وشربنا مرقتها.
هذا الرجل الذي يقف هذا الموقف الشجاع أمام أعدائه والله يستحق من يغسل رجليه ويشرب المرقه.
فخجل السلطان وأطرق وأمر بإطلاق العز أبن عبد السلام.
العالم يجب أن يكون صاحب مواقف شجاعة يا أخوان.
الخضر الحسين شيخ الأزهر، عندما كانت للأزهر مكانة وقوة.
عندما تولى محمد نجيب الثورة في مصر، قام وقال:
سنساوي الرجل بالمرأة.
فما الذي حدث؟ ما الذي حدث؟
اتصل به الخضر حسين وقال له:
أسمع إما أن ترجع عن قولك وإلا سوف أنزل غدا وأنا لابس كفني ومعي جميع الأزهريين إلى الشوارع فإما الحياة وإما الموت.
فجاءه محمد نجيب وجاءته الوزارة يقولون:
يا شيخنا، يا إمامنا نحن نعتذر لك الآن والكلام كان خطأ.
قال لا.. لا تعتذروا لي بل اعتذروا أمام العامة.
قالوا صعب أن نعتذر أمام العامة.
قال لا يوجد خيار إما أن تعتذر أنت يا محمد نجيب أمام الناس وإلا سأنزل للشارع وأنا لابس كفني.
فخرج من الغد محمد نجيب وقال الصحافة كذبت علي، أنا لم أقل شيئا.
هكذا يكون العالم.. إذا السلطان الحقيقي هو العالم.
بهذا نحمي أنفسنا أيها الأخوة وهو الأسلوب الأول لحماية أعراض العلماء.
2/ ما هو الواجب علينا اتجاه علمائنا ؟
الواجب علينا اتجاه علمائنا ما يلي:
* أن نحفظ للعلماء مكانتهم ودورهم في قيادة الأمة وأن نتأدب معهم.
انظروا إلى آداب طالب العلم كما قال السلف:
يقول العراقي:
(لا ينبغي للمحدث أن يحدث بحضرة من هو أولى منه بذلك، وكان إبراهيم والشعبي إذا اجتمعا لم يتكلم إبراهيم بشيء).
وقال أبن الشافعي:
(ما سمعت أب ناظر أحدا قط فرفع صوته).
وقال يحيى أبن معين:
(الذي يحدث في البلد وفيها من أولى منه بالتحديث فهو أحمق).
وقال الصعلوكي:
(من قال لشيخه لما؟ على سبيل الاستهزاء لم يفلح أبدا).
وتأدب أبن عباس مع عمر رضي الله عنهما حيث مكن سنة يريد أن يسأله عن مسألة من مسائل العلم فلم يفعل.
وقال طاووس ابن كيسان:
( من السنة أن يوقر العالم).
وقال الزهري:
(كان سلمةَ يماري أبن عباس فحرم بذلك علما كثيرا).
وقال البخاري:
( ما رأيت أحدا أوقر للمحدثين من يحيى ابن معين).
وقال المغيرة:
(كنا نهاب إبراهيم كما نهاب الأمير).
وقال عطاء ابن أبي رباح:
(إن الرجل ليحدثني بالحديث، فأنصت له كأني لم أسمعه أبدا وقد سمعته قبل أن يولد).
قال الشافعي:
( ما ناظرت أحدا قط إلا وتمنيت أن يجري الله الحق على لسانه).
وذكر أحد العلماء.. يا شباب استمعوا إلى هذه القصة:
(ذُكر أحد العلماء عند الإمام أحمد أبن حنبل وكان متكئاً من علة أي مريض فاستوى جالسا وقال لا ينبغي أن يذكر الصالحون فنتكئ )
وقال الجزري:
(ما خاصم ورع قط).
الأدب مع العلماء.
* أن نعلم أنه لا معصوم إلا من عصمه الله وهم الأنبياء والملائكة.
ما فيه أحد معصوم يا أخوان، ما فيه أحد ما يخطئ.
قال الإمام سفيان الثوري:
(ليس يكاد يفلت من الغلط أحد).
وقال الإمام أحمد:
(ومن يعرى من الخطأ والتصحيح).
وقال الترمذي:
(لم يسلم من الخطأ والغلط كبير أحد من الأئمة مع حفظهم).
وقال ابن حبان:(/7)
( وليس من الإنصاف ترك حديث شيخ ثبت صحة عدالته بأوهام يهم في روايته، ولو سلكنا هذا المسلك تُرك حديث الزهري، وجريج، والزهري، وشعبة لأنهم أهل حفظ وإتقان ولم يكونوا معصومين حتى لا يهنوا في رواياتهم).
إذا لماذا نحن يا إخوان نتلمس أخطاء العلماء؟ لماذا..؟ ما أحد يسلم من الخطأ.
* أن الخلاف منذ عهد الصحابة وإلى أن تقوم الساعة.
نعم الخلاف منذ عهد الصحابة وإلى أن تقوم الساعة سيبقى الخلاف
(ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم).
فطبيعي وجود قضية الخلاف يا إخوان.
* أن نفوت الفرصة على الأعداء وأن ننتبه إلى مقاصدهم وأغراضهم وندافع عن علمائنا.
* أن نحمل علمائنا على المحمل الحسن، ولا نسيء الظن فيهم حتى ولو لم نأخذ بأقوالهم.
وأريد أن أوضح يا إخوان أننا لسنا ملزمين بأخذ كل أقول العلماء.. لا.
يا أحباب هناك فرق كبير بين أن نأخذ بقول عالم وبفتوى العالم، وبين التجريح في شخصه.
نحن لسنا ملزمين أن نأخذ بفتوى العالم إذا كان هناك دليل يخالفها، الشافعي وغير الشافعي يقول:
(إذا صح الحديث فهو مذهبي).
لسنا ملزمين، ولكن هل يعني أنه إذا لم نأخذ بقوله أن نجرحه ونتكلم في عرضه؟ لا.
قال عمر رضي الله عنه:
(لا تظن بكلمة خرجت من أخيك المسلم سوء وأنت تجد لها في الخير محمل).
أن ننتبه إلى أخطائنا وعيوبنا، وننشغل بها عن عيوب الناس عامة وأخطاء العلماء خاصة.
يا واعظ الناس قد أصبحت متهما إذ عبت منهم أمورا أنت تأتيها
وأعظم الإثم بعد الشرك نعلمه في كل نفس عماها عن مساويها
عرفنها بعيوب الناس تبصرها منهم ولا تبصر العيب الذي فيها
أقول لمن يتحدث في أعراض العلماء وينسى نفسه :
كناطح صخرة يوما ليوهنها فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل
يا ناطح الجبل العالي ليكلمه أشفق على الرأس لا تشفق على الجبل
أشفق على الرأس لا تشفق على الجبل، قد يقصر العالم، ولكن هل يعني أنه إذا قصر نترك علمه وعمله.
أعمل بعلمي وإن قصرت في عملي ينفعك علمي ولا يضررك تقصيري
تقصيري علي، وهذا ما يجب علينا اتجاه علمائنا.
3/ وهي مهمة جدا كيف نبين الحق دون أن نقع في علمائنا؟
وهذا بيت القصيد، إذا أخطأ العالم فكيف نستطيع أن نبين خطأ العالم دون أن نقع في عرضه؟
لأنه اختلط الأمر على الناس، فإما السكوت حتى على الخطأ، أو النيل من العلماء.
فاللبس الموجود الآن أنه إذا قام أحد العلماء أو أحد طلاب العلم وبين الحق بدليله قالوا:
قف أنت تحدثت بأعراض العلماء، أنت تنتقص العلماء، أنت تحدث فتنة بين العلماء.
والجانب الآخر أنه كلما تحدث العلماء بكلمة بدأ الطعن فيهم، العلماء فيهم، والعلماء فيهم، والعلماء فيهم.. لا يا إخوان.
إذا ما هو المنهج الذي نجمع فيه بين بيان الحق وعدم الالتزام بالفتوى إلا إذا كانت وفق الدليل دون أن نقع في أعراض علمائنا؟
يتحقق ذلك وفق النقاط التالية:
* التثبت من صحة ما ينسب إلى العلماء، فقد تشاع أقول لإغراض لا تخفى.
ليس كل ما ينسب إلى العلماء صحيح، أولا يجب أن نتثبت هل ما قاله العالم صحيح أو غير صحيح، وكم استمعنا لأقوال نسبت إلى كبار علمائنا، ولما ذهبنا إليهم قالوا والله كذب ما قلنا شيء.
تجد بعض الناس في المجلس: الشيخ فلان قال، الله يهديه وفيه وفيهِ وفيه.
ماذا قال؟ قال كذا، تذهب وتسأل العلم يقول والله ما قلت شيء.
فأولا يجب التثبت هل العالم قال أو ما قال.
* أن هناك فرق عظيم جدا بين رد الأقوال ومناقشتها والصدع بالحق، والطعن في العلماء.
فرق كبير جدا، فرق بين عدم الأخذ بالقول وعدم الأخذ بالفتوى والرد على الفتوى وبين الطعن في العلماء، فرق كبير جدا.
يجوز لنا أن نبين الحق.
يجوز لنا أن لا نأخذ بالفتوى إن لم توافق الدليل.
ولكن لا يجوز لنا الطعن في العلماء.
* أن يقصد المتحدث بكلامه وجه الله جل وعلا.
الإخلاص يا إخوان، أن يقصد وجه الله جل وعلا والدار الآخرة، وأن يحذر من الأغراض العارضة كالهوى والتشفي وحب الظهور.
إذا اضطر أحدنا لقول كلمة الحق ومواجهة العلماء فليتقي الله جل وعلا:
(فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا).
أن يخلص لله حتى يقبل منه، وينتبه أنه أحيانا قد يكون رده فعلا لله، لكن يدخل أعرض بعد ذلك كحب الظهور، فرصة أن فلان يرد على العلماء، يأتيه الشيطان، فليحذر من هذه الأعراض.
التشفي، بعض الناس إذا سمع أن أحد العلماء أخطأ سارع بنشر هذا الخطأ، ل.
فلننتبه للأخطاء العارضة، فعلى من يتولى الرد على العلماء أو على أقوال العلماء بعبارة أدق أن يكون مخلصا لله جل وعلا.
* الإنصاف والعدل.
يا إخوان اعدلوا مع علمائكم، يجب الإنصاف مع العلماء، ابن تيمية رحمه الله يقول:
(أهل السنة أعدل مع المبتدعة من المبتدعة بعضهم مع بعض).
يعني الآن إما نأخذ كل ما قاله العلم أو نرد كل ما قاله ؟؟؟ إما أنه أسود أو أبيض.
أين الإنصاف ؟
(ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون).(/8)
ويتضمن ذلك الثناء على العالم بما هو أهل له.
أيضا عدم التجاوز في بيان الخطأ الذي وقع فيه.
إذا وقع أحد العلماء في خطأ وأردت أن تبين خطأ العالم، ليست فرصه أن تتناول عرضه في كل شيء، وترجع تبحث عن تاريخه كله من ولد حتى توفي.
لا تتجاوز النقطة التي أردت، وإذا أراد أحد أن يسحبك إلى هذا فقل أتق الله.
لا تتجاوز، عدم التجاوز في بيان الحق، لأن الإنسان إذا انطلقَ انطلق.
العدل والإنصاف والثناء عليه بما هو أهل له.
* أن نسلك مسلك رجال الحديث في تقويم الرجال.
إذا أردنا أن نقوم العلماء، أن نتحدث في العلماء أن نسلك مسلك أهل الحديث، ومسلك أهل الحديث فسره العلماء، وأدلكم على رسالة جميلة مختصرة صغيرة في حجمها كبيرة في قيمتها تبين لكم هذا المنهج لأن الوقت الآن لا يتسع لشرحه، وهي رسالة بعنوان:
منهج أهل السنة والجماعة في تقويم الرجال ومؤلفاتهم/ للشيخ أحمد الصويان.
هذه الرسالة مطبوعة حديثة وموجودة في المكتبات وتعالج منهج أهل السنة والجماعة في تقويم العلماء ومؤلفاتهم.
إذا علينا أن نسلك منهج أهل الحديث.
* أن نعلم أن الخطأ على نوعين.
خطأ في الفروع وخطأ في الأصول، أما مسائل الفروع فهي مسائل اجتهادية يجوز فيها الخلاف ولا تبرر الحديث في لحوم العلماء، ونبين خطأ العالم في هذه المسألة دون التعرض لشخصه.
دون أن تعرض لشخصه، إنما نقول أخطأ. خالفه الصواب ولكن لا نتعرض لشخصه وهذا في المسائل الاجتهادية في الفروع.
أما مسائل الأصول وهي العقيدة، فيبين القول الصحيح ويحذر من أهل البدع في الجملة، وينبه إلى خطورة الداعي إلى بدعته دون إفراط ولا تفريط.
يقول شيخ الإسلام كما أسلفنا:
( أهل السنة أعدل مع المبتدعة من المبتدعة بعضهم مع بعض).
الله أكبر، أهل السنة أعدل مع المبتدعة أعدل من المبتدعة بعضهم مع بعض، لأن المبتدعة أكل في لحوم بعضهم البعض، أما أهل السنة فلا، ينصفون حتى مع الكفار.
إذا كيف بمن أخطأ، إذا كان الخطأ في بدعة فيحذر من البدعة، ويحذر من المبتدعة، ويحذر من الداعي إلى بدعته، ويبين خطورة هذا الأمر، لكن إياك أن تتعرض لشخصه.
استمعت منذ فترة إلى قصة مؤلمة ومحزنة، أحد الدعاة إلى الله المجاهدين في أفغانستان اتهمه بعض الناس في أخطاء في العقيدة، ويا ليتهم اقتصروا على بيان أخطائه في العقيدة.
والله يا إخوان بدءوا يذكرون قصص له في داخل بيته عن بنته وعن زوجته وعن أولاده.
أيجوز هذا يا إخوان؟ ألا نتقي الله جل وعلا. وهذا موجود في شريط..
يا أخي إذا كنت صادقا تريد أن تبين أن هذا العالم أو أن هذا المجاهد وهو عالم مجاهد رحمه الله وقع في أخطاء، نحن لا نحجر عليك أن تبين الخطأ، لكن ما دخل ابنته وزوجته وأولاده؟
لماذا التعرض للعلماء بهذا الشكل؟ لماذا؟ لماذا؟
لا نقول لا تقولوا كلمة الحق، قولوا كلمة الحق، بل نحن نقول لا تسكتوا عن كلمة الحق، لكن لا يجوز أن يكون بهذا الأسلوب يا إخوان.
التعرض لأشخاصهم والطعن فيهم، أسرارهم البيتية والله نشرت.
أيجوز هذا ؟ هل هذا من منهج أهل السنة؟ هل هذا من منهج السلف؟
إذا هذا هو المنهج.
* أخيرا إذا أمكن الاتصال بمن وقع منه الخطأ.
لعله أن يرجع عن خطئه سواء كان في الفروع أو الأصول، أقول إذا أمكن، لعله أن يرجع.
أليس قصدك الحق؟ ألست تريد بيان الحق؟
يا أخي دعه هو يرجع، أحسن لك وأحسن للحق، دعه يخرج على الملأ ويقول يا إخوان أنا تراجعت عن قولي، هذا أفضل من أن ترد عليه.
لأنك إذا رددت عليه قد يقتنع نصف الناس، ولكن إذا رجع هو سيقتنع كل الناس الذين أخذوا بفتواه، لكن بعض الناس يقول لا.. بسرعة سأرد عليه قبل أن يرجع.
إذا أخطأ عالم وجدت من يقول بسرعة أرد عليه قبل أن يرجع، نعم ما يجوز هذا.
إذا أمكن الاتصال فيه ومناصحته وتخويفه بالله، يرجع هو إلى الحق.
ألست تريد الحق؟ دعه يرجع.
هذا ما نريده، وقد تناظر اثنان من العلماء في مسألة من المسائل، كل واحد قال قولا وخطئه الآخر، فاجتمعوا يتناظرون وقالوا ليس هناك داع أن نذهب نتخطى أما العامة، تعالوا نتناظر.
ما الذي حدث ؟
عندما انتهت المناظرة كل واحد أخذ بقول الثاني، ورجعوا بقولين آخرين يحتاجون إلى مناظرة ثانية لأنهم يردون الحق، فلما بين الأول أدلته قال الآخر كلامك صحيح، ولما بين الثاني أدلته قال الأول كلامك صحيح، فرجعوا بقولين، لأن رائدهم الحق.
ألا نسلك هذا المنهج ؟؟
********
النقطة الخامسة أمور لابد من بيانها:
1/ أننا لا ندعو إلى تقديس الأشخاص والتغاضي عن الأخطاء أو السكوت عن الحق.
والخلط في ذلك، فلا إفراط ولا تفريط، ولا غلو ولا جفاء.
لا أدعو في محاضرتي إلى تقديس العلماء، لا أدعو إلى أنه لا يجوز أبدا أن نتحدث عن العلماء في أخطائهم، من فهم هذا فقد أخطأ.
لكن بينت لكم المنهج والفرق بين الحديث عن العلماء وأعرض العلماء وبين بيان كلمة الحق بالأسلوب الذي بينت.
2/ مسألة مهمة جدا حدثت في الأيام الماضية، ما هي ؟(/9)
دعوى الإجماع، وهذه جاءتني أسئلة كثيرة حولها:
فلان يخالف الإجماع إجماع العلماء.
من هو فلان يخالف إجماع العلماء، هذا يحدث فتنة.
يا إخوان الإجماع ليس بالأمر البسيط، هناك فرق كبير بين الإجماع والاجتماع.
الإجماع كما بينه العلماء أن يجمع علماء الأمة المعتبرون على مسألة من المسائل ولو خالف واحد لم ينعقد الإجماع.
يجتمع خمسمائة، ستمائة ونقول هذا إجماع الأئمة، من قال أن هذا إجماع الأمة؟
فرق بين الإجماع والاجتماع، ولذلك انتبهوا، ارجعوا إلى أصول الفقه، ونقرأ ما في أصول الفقه حتى لا نأخذ الأمور خطئ.
الإجماع له شروط، الإجماع له ضوابط، الإجماع ليس إجماع علماء بلد فقط بل هو إجماع علماء الأمة جميعا، وإذا خالف واحد من العلماء المعتبرين في شرق الأرض أو مغربها لم ينعقد الإجماع.
ولذل قال بعض العلماء أن الإجماع لم ينعقد بعد الصحابة، لأنه صعب جدا أن ينعقد الإجماع.
واحد أرسل لي ورقة يقول لي أن فلانا خال إجماع الأمة، مع أن العلماء أجمعوا وزيادة.
طيّب.. بارك الله فيك نحن نعرف إجماع العلماء فما هي الزيادة؟
أنا والله ما قرأت لا في كتب الفقه ولا أصول الفقه الزيادة.
نعم كذا كتبها أن العلماء أجمعوا وزيادة على المسألة الفلانية وخلاف فلانا وفلانا.
طيّب.. فقهنا إجماع العلماء فأين الزيادة ؟ الزيادة كالنقص.
فيجب أن تفهم هذه الضوابط، ومن هذه الضوابط أن إجماع علماء بد ليس إجماع.
ثم ناحية أخرى أن العبرة ليست بالكثرة أو القلة، العبرة بالحق.
3/ أن بعض العلماء قد يفتون بفتوى لها أسبابها، فيأتي آخرون ويخالفون هذه الفتوى.
ثم يبدأ الطعن في المخالف ويتهم بتهم باطلة كالفتنة وحب الخلاف وحب الظهور وقلة العلم وهلم جرا، فعلينا أن ننتبه أنه قد يقوم العلماء ويفتون بفتوى.
يأتي بعض طلاب العلم ويخالفون هذه الفتوى، فيبدأ الطعن في هذا العالم المخالف، يبدأ الطعن بالمخالفين، من أنت حتى تخالف؟ أنت تحب الفتنة، أنتَ أنت.
ولذا علينا أن ننتبه إلى ما يلي:
- أنه كل يأخذ من قوله ويرد إلا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وما جاء به.
أن المخالفيِن علماء يجب احترامهم وتقديرهم، والمخالَفين علماء أيضا.
لماذا حرام الحديث عن هؤلاء وحلال الحديث في هؤلاء ؟
لا يجوز الحديث لا في أعراض هؤلاء ولا في أعراض هؤلاء، لا المخالفِين ولا المخاَلَفين.
- أننا نعرف الرجال بالحق ولا نعرف الحق بالرجال.
- أن نتثبت من صحة الفتوى واكتمال شروطها عند الموافقين والمخالفين ، المهم من صحة الفتوى، أما من أين جاءت فلا يهم. المهم هل الفتوى التي صدرت من هذا العالم أو ذاك مكتملة الشروط أم لا.
- أن مسائل الاجتهاد يجوز فيها الخلاف، فلماذا يا إخوان تضيق أنفسنا بالخلاف؟ صحابة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) اختلفوا.
عندما أرسلهم الرسول إلى بني قريظة اختلفوا.
اختلفوا بعد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لكن ما أدى بهم ذلك إلى الفتنة وإلى طعن بعضهم في بعض.
- النقطة الأخيرة في هذه المسألة أن مجرد المخالفة ليس خطأ.
ولا عبرة للصغر والكير هنا إذا توافرت الشروط، ما يأتينا واحد يقول هذا عالم صغير خالف العالم الكبير،لا.. لا، هذا ما فيه عبرة.
العلماء قديما وحديثا الصغير يخالف الكبير وقد يكون الحق مع الصغير في سنة، السن لا قيمة له هنا، فالعبرة بتوافر شروط الفتوى وأسباب الفتوى.
الشيخ عبد العزيز في حياة الشيخ محمد ابن إبراهيم (رحمهم الله) أفتى بفتوى خالف بها الشيخ محمد، وما قال له الشيخ محمد من أنت حتى تخالفني.
وما قال له الناس من أنت حتى تخالف الشيخ محمد، أو تخالف العلماء.
مع أن الراجح هو قول الشيخ عبد العزيز رحمه الله.
أبن تيمية خالف علماء بلده، وثبت أن الحق معه رحمه الله.
لا عبرة بالصغير والكبير في هذه المسائل، العبرة بمن معه الدليل صغر أو كبر.
********
النقطة السادسة لماذا تبرز أخطاء العلماء أكثر من غيرهم:
السبب بسيط جدا أن الثوب الأبيض الناصع لو وجد فيه نقطة سوداء تبين من مسافة بعيدة.
العلماء كالثوب الأبيض أي نقطة سواد تبين فيهم، فلا نستغرب أن تبرز أخطاءهم.
أما غيرهم فكالثوب الأسود لو تضع عليه فحم أو شحما ما بان.
ولذلك نحن في الصيف الواحد منا يستبدل ثوبه كل يومين أو ثلاثة ثوب أبيض، بينما في الشتاء قد يجلس الثوب أسبوعين أو ثلاثة مع أن الوسائل التي قد تغير الثوب في الشتاء أكثر من الصيف.
ولكن الثوب الأسود لا يبين فيه شيء.
فالعلماء كالثوب الأبيض تبرز أخطاءهم ولو هي صغيرة جدا.
فعلى العلماء أن ينتبهوا إلى هذه النقطة كما ننتبه لثيابنا، فكل واحد قبل أن يخرج يتفقد ثوبه، بل ولا يكتفي بل يسأل أهله النظر إلى ثوبه من الخلف هل به شيء.
يتفقد أعماله، وعلى الآخرين أيضا أن لا يضخموا هذه القضايا، أما غيرهم فلا يبين فيهم شيء مهم كبر، فحم أو سواد أو زيت لا يبين فيهم شيء.
********
النقطة السابعة نحذر من المدح بما يشبه الذم:
يأتي يمدح الشيخ فلان فيقول:(/10)
الشيخ فلان ما شاء الله، فيه وفيه…. لكن، ثم حط بعد لكن!!
يقدم له مدحا ربما لمدة خمس دقائق ومن ثم كلمتين فقط يدخلهما، وهذا هو قصده.
فأنبه إلى خطورة هؤلاء، وأن يخوفوا بالله عجل وعلا.
الذم بما يشبه المدح كما تكلم البلاغيون.
********
النقطة الثامنة أن من أساء الأدب مع العلماء سيلقى جزاءه عاجلا أو آجلا:
وقال لإمام الذهبي في ترجمة أبن حزم:
(وصنف كتبا كثيرا وناظر عليها وبسط لسانه وقلمه، ولم يتأدب مع الأئمة في الخطاب بل فجج العبارة، وسب وجدع فكان جزاءه من جنس فعله بحيث أعرض عن تصانيفه جماعة من الأئمة وهجروها ونفروا منها أحرقت في وقته).
وما نراه من الواقع المشاهد أن من يسب العلماء يسقط من أعين العامة والخاصة.
ويقول الحافظ ابن رجب:
(والواقع يشهد بذلك، فإن من سبر أخبار الناس وتواريخ العالم وقف على أخبار من مكر بأخيه فعاد مكره عليه، وكان ذلك سببا لنجاته وسلامته أي الممكور فيه).
********
النقطة التاسعة وهي وقفة أوجهها للعلماء وطلاب الذين يبتلون بهذه البلوى:
فأقول عليهم بالصبر وأن يتقوا الله جل وعلا.
وليعلموا أنهم ليسو أفضل من الأنبياء والرسل.
ورسولنا (صلى الله عليه وسلم) ما سلم من الكلام في عرضه، بل حتى في داخل بيته (صلى الله عليه وسلم) في قضية الإفك وغيرها, فلهم أسوة وقدوة برسولنا (صلى الله عليه وسلم)، وليعلموا أن العاقبة للمتقين.
فهذا يوسف يقول الله عز وجل عنه:
(قال أنا يوسف وهذا أخي قد من الله علينا إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين)
وعن موسى يقول الله عز وجل:
(قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين).
ويقول سبحانه وتعالى:
(ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله).
وصدق من قال:
ولست بناجي من مقالة طاعن ولو كنت في غار على جبل وعر
ومن الذي ينجو من الناس سالما ولو غاب عنهم بين خافيتي نسر
********
النقطة العاشرة والأخيرة أقول للمتحدثين في العلماء:
اتقوا الله، توبوا إلى الله، انيبوا واثنوا على العلماء بمقدار غيبتكم لهم، وأقول لهم العاقبة للمتقين وأنتم الخاسرون:
كناطح صخرة يوما ليوهنها فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل.
يا ناطح الجبل العالي ليكلمه أشفق على الرأس لا تشفق على الجبل
والعالم عالي.
فأقول:
اتقوا الله واحفظوا لعلمائكم كرامتهم وقيمتهم،
وانتبهوا للمنهج الذي بينته في الحديث عن أخطاء العلماء.
أسال الله أن ينفعنا بما علمنا، وأن يجعلنا ممن يستمعون القوا فيتبعون أحسنه.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
تم بحمد الله وتوفيقه.
………………………………………………………
أخي الحبيب – رعاك الله
لا نقصد من نشر هذه المادة القراءة فقط أو حفظها في جهاز الحاسب،
بل نأمل منك تفاعلا أكثر من خلال:
إبلاغنا عن الخطأ الإملائي أو الهجائي كي يتم التعديل.
- نشر هذه المادة في مواقع أخرى على الشبكة.
- مراجعتها ومن ثم طباعتها وتغليفها بطريقة جذابة كهدية للأحباب والأصحاب.
- في حال إمكان ذلك الأستاذان من الشيخ لتبني طباعتها ككتيب يكون صدقة جارية لك.
أخي الحبيب لا تحرمنا من دعوة صالحة في ظهر الغيب.
من خلال اقتراحاتك وتوجيهاتك لأخيك يمكن أن تساهم في هذا العمل الجليل.
اللهم اجعل هذا العمل خالصا لوجهك الكريم.
للتواصل:
أخوكم البوراق / anaheho@maktoob.com(/11)
لخطاب الإسلامي التربوي بين الحظر والتخويف
د.عبدالله بن ناصر الصبيح * 8/4/1424
08/06/2003
"الخطاب التربوي الوعظي" سواء كان في شريط أو كتيب، وسواء كان خطبة أو محاضرة؛ استفاد منه كثيرون فتعلموا منه بعض ما جهلوه من دين الله عز وجل، وقرب لهم ماخفي عليهم من علوم الإسلام وتاريخ الأمة، فجعلها ميسرة سهلة المأتى. ولكن يلاحظ على بعض المتحدثين أو الواعظين ملاحظتان :
الأولى: أنهم ضيقوا مساحة المباح في حديثهم، ووسعوا من دائرة المحظور فصار لا فعل يباح عندهم إلا بدليل.
والثانية: أنهم بالغوا في التحذير من المعصية، حتى أنساهم ذلك سعة رحمة الله عزوجل، وعظيم عفوه، وشفقته على عباده.
ومن مبالغة بعضهم في التحذير: أنه استجلب ما لا يصح من القصص والأخبار، وبحث عن الغرائب. والبحث عن الغرائب كما هو معروف مدعاة للكذب من حيث يشعر المرء أو لا يشعر.
ومن المبالغات أن بعضهم رتب على صغائر الذنوب فظائع العقوبات ردعا للعامة. وربما كان هذا مجديا مع البعض ولكنه ليس مجديا مع آخرين، وأهم من ذلك أنه مخالف لسنة الرسول - صلى الله عليه وسلم- الذي كان يضع الخطأ في حجمه الطبيعي.
و هذا الأسلوب الدائر بين الحظر والتخويف –فقط- نتج عنه أمور منها: أنه أعاد صياغة بعض أذهان الشباب بما لايتفق مع سماحة الإسلام وعفويته، فصار هُّم أحدهم التنقير عما يظنه من المحظورات، واستصدار فتاوى المفتين فيها منعا وتحريما، وربما كان ما منعه يقع في دائرة المباح. ولا شك أن هذا من الإفراط الذي يذمه الله ورسوله ، ومن حرم شيئا مما أباح الله عزوجل لعباده كان كمن أباح شيئا مما حرمه الله سبحانه.
وهذا الخلل لايقتصر على صاحبه، بل يتعداه إلى غيره في صورة فعل اجتماعي ينافي الصواب، وفي صورة صراع اجتماعي حول المباح والممنوع، وفي صورة خلل علمي ومعرفي يختزل الخلاف الفقهي، ويلغي المعتبر منه ويسيء الظن بمن أخذ به لأنه لم يتفق مع رأي الواعظ.
ومنها أن هذا الخطاب ربما نتج عنه سوء ظن البعض بدين الله عزوجل، حيث يرى أن الشريعة الطاهرة المبرأة من كل نقص عاجزة عن مستجدات الحياة، وعن تقديم حلول عملية لما يعانيه الناس من شؤون حياتهم.
ومنها أن بعض الشباب - لما ضيقت عليه سبل المباح وألجم بالخوف- نفر من دين الله سبحانه فبعضهم تذرع بالشك، وآخرون تلبسوا بالتمرد، وصاحب ذلك نفور من كل ذي دين. وما بهؤلاء النفرة من دين الله سبحانه، ولكنه الجهل في الخطاب الذي أودى بهم إلى هذا السبيل.
وقد تحدث معي بعض هؤلاء الشباب فاستمعت إلى حديثهم، وكنت أجد أحدهم ربما بكى من خشية الله، ولكن الخطاب الذي سد عليه المنافذ جعله يسلك غير الجادة، وينفر كالجمل الشرود لايلوي على شيء.
وبعض هؤلاء لما حدثته عن سعة رحمة الله، وشفقته بعباده حتى أولئك الذين عصوه، بعضهم دمعت عيناه واستعبر، وكان كمن يسمع ذلك أول مرة.
إننا بحاجة إلى أن نعيد صياغة خطابنا التربوي بما يتفق مع فطرة الإسلام فلا يكون خطابنا سببا في إيقاعهم في الحرج.
إن الله عزوجل خلق الإنسان ذا فطرة سليمة متوازنة، والأفكار التي نتلقاها تسهم في نضج الفطرة، أو في انحرافها وتشوهها. ومن مسؤوليات الخطاب التربوي المحافظة على الفطرة وإنضاجها، ولكن حينما يكون الخطاب نفسه مشوها قاصرا عن حقيقة الفطرة فإن نتيجته سوف تكون تشويها للفطرة. تأمل حديث الفطرة الذي يقول فيه الرسول -صلى الله عليه وسلم-:"كل مولود يولد على الفطرة وأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه"، تأمل كيف كان خطاب الأبوين وتنشئتهما المنحرفة جعلت من المولود منحرفا في دينه، وكذلك الخطاب التربوي قد يحرف الناشيء عن الإسلام الصحيح.
إن من يتأمل السنة يعجب من الأعمال الكثيرة التي ورد النص عليها بأنها تكفر الخطايا والذنوب بالجملة، فالوضوء و أداء الصلاة في جماعة يكفر الذنوب،وأداء صلاة الجمعة يكفر ما بين الجمعتين وصيام يوم عرفة يكفر خطايا سنتين كاملتين وغير ذلك كثير. إن المعنى العظيم الذي تغرسه هذه النصوص في نفس المسلم هو أنه في كنف الله ورعايته وأنه مشمول برحمته ما أقبل عليه، حتى وإن عصاه عزوجل. والرسول -صلى الله عليه وسلم- قرب هذا المعنى لصحابته في صورة فريدة فقال لهم وقد رأى امرأة تحتضن ولدها وترضعه:" أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار ؟ قالوا: لا و الله! فقال: "لله أرحم بعباده من هذه بولدها".(رواه البخاري ومسلم).
إن الحديث عن عظمة الله ينشىء التقوى في القلب، وإذا تأملت سورة الإخلاص لاتجد فيها ذكرا لثواب أو عقاب وإنما تجد فيها عظمة الله سبحانه ووحدانيته واستغناءه عن خلقه. وهذا المعنى في سورة الفاتحة واضح جلي فهو عزوجل الرحمن الرحيم وهو رب العالمين، وهذا المعنى يتكرر على قلب المسلم وسمعه في كل ركعة من ركعات صلاته في اليوم والليلة.(/1)
ومع العناية بهذه المعاني العظيمة في الخطاب التربوي فإن مما ينبغي التنبه له ألا يكون خطابنا كالخطاب المسيحي لايتحدث إلا عن المحبة فقط ويغفل جانب العقوبة فالله سبحانه إنما يُعبد بالحب والخشية معا.
وهذا الخطاب المتوازن هو الذي ينشئ نفسا متوازنة مستقيمة الفطرة.
واستجابة الناس للخطاب التربوي تتباين فمنهم من يبعد ومنهم من يقرب، ومهمة الخطاب التربوي ألا يقيم العزلة مع من نفروا، ولا يدخل اليأس في قلوب من قصروا، بل يحتوي الجميع، ويشعرهم برحمة الله عزوجل، مستمرا في خطابهم مبلغا إياهم دين الله سبحانه.
وخطابنا التربوي المعاصر ربما كان قصير النفس، يجنح إلى التصنيف، ومفاصلة المخالفين، وإنزالهم منزلة الرافضين لأصل الخطاب المناوئين للتوحيد. وهذا من بذورالفشل الذاتية التي تعيق الخطاب وتحول بين القلوب وبينه.
في موقعة القادسية كان من ضمن جيش الفتح الإسلامي (أبو محجن) ، وماأدراك من أبو محجن! أبو محجن رجل حده عمر رضي الله عنه في الخمر في سنة واحدة سبع مرات كما يقول ابن كثير، ومع ذلك خرج مع جيش المسلمين ينصر الله ورسوله، فشرب الخمر في الجيش فسجنه سعد رضي الله عنه. ولما دارت المعركة وحمي وطيسها شعر أن المعركة تعنيه، وأن واجبه نصرة دين الله حتى وإن كان هذا الدين هو الذي سجنه، وقال متحسرا متشوقا للجهاد:
كفى حزنا أن تدحم الخيل بالقنا ... ...
و أُترك مشدودا عليّ وثاقيا
إذا قمت عناني الحدي وأغلقت ... ...
مصارع من دوني تصم المناديا
ودعا أبو محجن زوجة سعد، وسألها أن تُطْلِقَهُ وتعيره فرس سعد، وحلف لها إن سلمه الله أن يرجع في آخر النهار ويضع رجله في القيد، ففعلت وخرج وقاتل قتالا شديدا ثم رجع في آخر النهار، ووضع رجله في القيد كما وعد رضي الله عنه وأرضاه، ولما علم سعد أطلقه وما حده، وقال له اذهب، فقال أبو محجن: والله لا أشربها أبدا.
وفي رواية أوردها الطبري أن أبا محجن ماشرب الخمر بعد إسلامه قط، ولكنه كان صاحب شراب في الجاهلية، وهو شاعر ربما تغنى بالخمر ولذلك حبسه سعد، ومن شعره في الخمر قوله:
إذا مت فادفني إلى أصل كرمة ... ...
تروي عظامي بعد موتي عروقُها
ولا تدفنني بالفلاة فإنني ... ...
أخاف إذا ما مت ألا أذوقها
أبو محجن هو أحد الذين تأثروا بالخطاب التربوي في عصر الصحابة، بل هو أحد مخرجاته، وقد قررنا من قبل أن مخرجات الخطاب لابد أن تتفاوت. ومع أن أبا محجن كان مغرما بالخمر لايصبر عنها وجلد بسببها عدة مرات أو أنه تغنى بها في شعره إلا أنه لم يتخل عن الانتماء لهذا الدين فنصره بنفسه وماله. والخطاب التربوي لم يقس عليه فيقصيه، بل أفسح له المجال للجهاد وهو على ماهوعليه من شرب الخمر أو التغني بها.
ومن يعيش في أجواء خطابنا التربوي المعاصر لا يفتأ من العجب من أبي محجن الذي لم تلحقه حمية الجاهلية والانتصار للنفس، فيحارب هذا الدين الذي جلده عدة مرات أو سجنه على التغني بالخمر، ولا يفتأ من العجب من المجتمع المسلم الذي لم يناصب أبا محجن العداء فيقصيه كجمل أجرب بل رضي بمصاحبته إلى الجهاد وما رأينا مستنكرا لذلك، ولا يفتأ من العجب من الخطاب التربوي الراشد الذي ما شحن نفوس الناس على أمثال أبي محجن، بل كان يعلم الناس أن الحدود كفارة للذنوب.
إن كثيرين في عصرنا بأثر من خطابنا التربوي ربما ضاق بمن اختلف معه، فلا يشترك معه في عمل ينصر الدين، وكي يكون للخلاف مسوغا تجده يسبغ على المخالف أسماء من التصنيف، إما تصم المخالف بالبدعة والضلالة أو بالكفر أو بالجهل والقصور عن المسؤولية.
إن الخطاب التربوي الراشد ينبغي أن يستوعب كل من نطق بالشهادتين ويقربهم من دين الله عزوجل بدلا من تنفيرهم منه.
*أستاذ علم النفس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلا(/2)
لذة التعبد عند السَّلف
فلله در أقوام ؛ شغلهم تحصيل زادهم عن أهليهم وأولادهم , ومال بهم ذكر المآل عن المال في معادهم ، وصاحت بهم الدنيا فما أجابوا شغلًا بمرادهم , وتوسدوا أحزانهم بدلًا عن وسادهم , واتخذوا الليل مسلكًا لجهادهم واجتهادهم , وحرسوا جوارحهم من النار عن غيهم وفسادهم , فيا طالب الهوى جز بناديهم ونادهم : أَحيَوا فُؤَادِي ! ولَكِنَّهم علَى صَيحَة من البين ماتُوا جميعًا , حرمُوا رَاحة النَّوم أَجفَانهم , وَلَفُّوا علَى الزفرات الضُّلوعَا , طُول السَّواعد شُمُّ الأُنوف ؛ فطابُوا أُصُولًا , وطَابُوا فُرُوعا , أَقبلت قلوبهم تراعي حق الحق , فذهلت بذلك عن مناجاة الخلق 0 فالأبدان بين أهل الدنيا تسعى , والقُلوب في رياض الملكوت ترعى , نازلهم الخوف فصاروا والهين , وناجاهم الفكر فعادوا خائفين , وجَنَّ عليهم الليل فباتوا ساهرين , وناداهم منادى الصَّلاح حىّ على الفلاح فقاموا متهجدين , وهبت عليهم ريح الأَسحار فتيقظوا مستغفرين , وقطعوا بند المجاهدة فأصبحوا واصلين , فلمَّا رجعوا وقت الفجر بالأَجر نادى الهجر : يا خيبة النائمين .
لله قَوْمٌ شَرُوا مِنْ الله iiأَنْفُسَهُم
فَأَتْعَبُوهَا بِذِكْرِ اللهِ iiأَزْمَانَا
أَمَّا النَّهَارُ فَقَدْ وَافَوا iiصِيامَهُمُ
وَفِي الظَّلَامِ تَرَاهُمْ فِيهِ iiرُهْبَانَا
أَبْدَانُهُم أَتْعَبَتْ فِي اللهِ iiأَنْفُسَهَم
وَأَنْفُسٌ أَتْعَبَتْ فِي اللهِ أَبْدَانَا
ذَابَتْ لُحُومُهُمُ خَوْفَ العَذَابِ غَدًا
وَقَطَّعُوا اللَّيلَ تَسْبِيحًا وَقُرْآنَا
فلله در أقوام هجروا لذيذ المنام , وتنصلوا لما نصبوا له الأقدام , وانتصبوا للنصب في الظلام يطلبون نصيبًا من الإنعام , إِذا جنّ الليل سهروا , وإذا جاء النَّهار اعتبروا , وإذا نظروا في عيوبهم استغفروا , وإذا تفكروا في ذنوبهم بكوا وانكسروا .
وإليك بعضًا من صورهم , ونماذج من هديهم , عسى أن نحذو حذوهم , ونتأسى بهديهم .
لذةُ التعبد عند رسول الله صلى الله عليه وسلم
ونبدأ بسيد المرسلين , وإمام المتقين , وخاتم النبيين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم , الذي ما اكتحلت العيون بمثل رؤيته , ولا شرفت النفوس بمثل صحبته , إِنْ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيَقُومُ لِيُصَلِّيَ حَتَّى تَرِمُ قَدَمَاهُ أَوْ سَاقَاهُ فَيُقَالُ لَهُ فَيَقُولُ أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا .
وَعَنْ أَبَي هُرَيْرَةَ فِي قَصَصِهِ يَذْكُرُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : إِنَّ أَخًا لَكُمْ لَا يَقُولُ الرَّفَثَ - يَعْنِي بِذَاكَ ابْنَ رَوَاحَةَ - قَالَ :
وَفِينَا رَسُولُ اللَّهِ يَتْلُو iiكِتَابَهُ
إِذَا انْشَقَّ مَعْرُوفٌ من الْفَجْرِ سَاطِعُ
أَرَانَا الْهُدَى بَعْدَ الْعَمَى iiفَقُلُوبُنَا
بِهِ مُوقِنَاتٌ أَنَّ مَا قَالَ وَاقِعُ
يَبِيتُ يُجَافِي جَنْبَهُ عَنْ iiفِرَاشِهِ
إِذَا اسْتَثْقَلَتْ بِالْكَافِرِينَ iiالْمَضَاجِعُ
بل إن شئت أن تراه قائمًا , أو راكعًا , أو ساجدًا , أو ذاكرًا , في أي ساعة من ليل أو نهار وجدته صلى الله عليه وسلم بأمر الله قائمًا , ولعبادة الله ملازمًا , فقد كان عمله صلى الله عليه وسلم ديمة .
عَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ : قُلْتُ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : هَلْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْتَصُّ من الْأَيَّامِ شَيْئًا ؟ قَالَتْ : لَا , كَانَ عَمَلُهُ دِيمَةً , وَأَيُّكُمْ يُطِيقُ مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُطِيقُ ؟!.
ولذلك نرى الصَّحابة رضي الله عنهم ما رأت عيونهم ولا سمعت آذانهم النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا وهو على طاعة .
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الشِّخِّيرِ قَالَ : رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي وَفِي صَدْرِهِ أَزِيزٌ كَأَزِيزِ الرَّحَى , من الْبُكَاءِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : فَقَدْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ لَيْلَةٍ , فَظَنَنْتُ أَنَّهُ ذَهَبَ إِلَى بَعْضِ نِسَائِهِ , فَتَحَسَّسْتُهُ فَإِذَا هُوَ رَاكِعٌ أَوْ سَاجِدٌ , يَقُولُ : سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ , لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ , فَقَالَتْ : بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي , إِنِّي لَفِي شَأْنٍ وَإِنَّكَ لَفِي آخَرَ .
وعَنْ عَائِشَةَ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا فَاتَتْهُ الصَّلاة مِنْ اللَّيْلِ ؛ مِنْ وَجَعٍ أَوْ غَيْرِهِ , صَلَّى مِنْ النَّهَارِ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً .(/1)
وعَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ : صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَافْتَتَحَ الْبَقَرَةَ , فَقُلْتُ : يَرْكَعُ عِنْدَ الْمِائَةِ , ثُمَّ مَضَى , فَقُلْتُ : يُصَلِّي بِهَا فِي رَكْعَةٍ فَمَضَى , فَقُلْتُ : يَرْكَعُ بِهَا ثُمَّ افْتَتَحَ النِّسَاءَ فَقَرَأَهَا , ثُمَّ افْتَتَحَ آلَ عِمْرَانَ فَقَرَأَهَا , يَقْرَأُ مُتَرَسِّلًا , إِذَا مَرَّ بِآيَةٍ فِيهَا تَسْبِيحٌ سَبَّحَ , وَإِذَا مَرَّ بِسُؤَالٍ سَأَلَ , وَإِذَا مَرَّ بِتَعَوُّذٍ تَعَوَّذَ , ثُمَّ رَكَعَ , فَجَعَلَ يَقُولُ : سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ , فَكَانَ رُكُوعُهُ نَحْوًا مِنْ قِيَامِهِ , ثُمَّ قَالَ : سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ , ثُمَّ قَامَ طَوِيلًا قَرِيبًا مِمَّا رَكَعَ , ثُمَّ سَجَدَ , فَقَالَ : سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى , فَكَانَ سُجُودُهُ قَرِيبًا مِنْ قِيَامِهِ .
بل نرى عند الشدائد والصعاب وتغير الزمان , يكون هو أقرب الخلق من الرحمن .
فَعَنْ عَلِي بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ : مَا كَانَ فِينَا فَارِسٌ يَومَ بَدرٍ غَيْرَ الْمِقْدَادِ بْنِ الأَسْوَدِ , وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا وَمَا فِينَا قَائِمٌ إِلَّا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ تَحْتَ شَجَرَةٍ يُصَلِّي وَيَبْكِي حَتَّى أَصْبَحَ .
وعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ فِي يَوْمٍ حَارٍّ , حَتَّى يَضَعَ الرَّجُلُ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ من شِدَّةِ الْحَرِّ , وَمَا فِينَا صَائِمٌ إِلَّا مَا كَانَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَابْنِ رَوَاحَةَ .
سماعه القرآن :
وكان صلى الله عليه وسلم يحب سماع القرآن من غيره .
فَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ قَالَ : قَالَ : لِي النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اقْرَأْ عَلَيَّ , قُلْتُ : آقْرَأُ عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ ؟! قَالَ : فَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ من غَيْرِي , فَقَرَأْتُ عَلَيْهِ سُورَةَ النِّسَاءِ ؛ حَتَّى بَلَغْتُ [فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا من كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا]قَالَ : أَمْسِكْ فَإِذَا عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ .
عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي مُوسَى : لَوْ رَأَيْتَنِي وَأَنَا أَسْتَمِعُ لِقِرَاءَتِكَ الْبَارِحَةَ ؛ لَقَدْ أُوتِيتَ مِزْمَارًا من مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ.
لذة التعبد عند الصحابة رضي الله عنهم
فمهما سطَّر البنان , وتكلم العلماء بكلِّ لسان ؛ فإن سير هؤلاء يعجز عن وصفها إنسان .
فهم أولى بالحديث من قول العباس بن الأحنف عن محبوبته :
وَحَدَّثْتَنِي يَا سَعْدُ عَنْهًا فَزِدْتَنِي جُنُونًا فَزِدْنِي مِنْ حَدِيثِكَ يَا سَعْدُ
فهم مصابيح الدُّجى , وينابيع الرشد والحجى , خصوا بخفي الاختصاص , ونقوا من التصنع بالإخلاص , وهم الواصلون بالحبل , والباذلون للفضل , والحاكمون بالعدل , هم المبادرون إلى الحقوق من غير تسويف , والموفون للطَّاعات من غير تطفيف .
هُم الرِّجَالُ وَعَيْبٌ أَنْ يُقَالَ iiلِمَنْ
لَمْ يَتَّصِفْ بِمَعَانِيَ وَصْفِهم رَجُلُ
أبو بكر الصديق :
السّابق إلى التَّصديق , الملقب بالعتيق المؤيد من الله بالتوفيق , {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} [سورة التوبة : 40]
كان رقيق القلب غزير الدَّمع , عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : لَمَّا مَرِضَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَضَهُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ , أَتَاهُ بِلَالٌ يُوذِنُهُ بِالصَّلَاةِ , فَقَالَ : مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ , قُلْتُ : إِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ أَسِيفٌ إِنْ يَقُمْ مَقَامَكَ يَبْكِي , فَلَا يَقْدِرُ عَلَى الْقِرَاءَةِ .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ نُودِيَ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ : يَا عَبْدَ اللَّهِ هَذَا خَيْرٌ , فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّلاة دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّلاة , وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الْجِهَادِ , وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الرَّيَّانِ , وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّدَقَةِ , فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا عَلَى مَنْ دُعِيَ من تِلْكَ الْأَبْوَابِ مِنْ ضَرُورَةٍ , فَهَلْ يُدْعَى أَحَدٌ مِنْ تِلْكَ الْأَبْوَابِ كُلِّهَا ؟ قَالَ : نَعَمْ وَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ .(/2)
كان صِدِّيقًا ما اهتز إيمانه ولا تزعزع وجدانه , عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَاتَ وَأَبُو بَكْرٍ بِالسُّنْحِ - يَعْنِي بِالْعَالِيَةِ - فَقَامَ عُمَرُ يَقُولُ : وَاللَّهِ , مَا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , قَالَتْ : وَقَالَ عُمَرُ : وَاللَّهِ مَا كَانَ يَقَعُ فِي نَفْسِي إِلَّا ذَاكَ , وَلَيَبْعَثَنَّهُ اللَّهُ فَلَيَقْطَعَنَّ أَيْدِيَ رِجَالٍ وَأَرْجُلَهُمْ , فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ فَكَشَفَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَبَّلَهُ , قَالَ : بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي , طِبْتَ حَيًّا وَمَيِّتًا , وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُذِيقُكَ اللَّهُ الْمَوْتَتَيْنِ أَبَدًا . ثُمَّ خَرَجَ , فَقَالَ : أَيُّهَا الْحَالِفُ عَلَى رِسْلِكَ ! فَلَمَّا تَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ جَلَسَ عُمَرُ , فَحَمِدَ اللَّهَ أَبُو بَكْرٍ وَأَثْنَى عَلَيْهِ , وَقَالَ : أَلَا مَنْ كَانَ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ , وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ , وَقَالَ [إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ] وَقَالَ [وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ من قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ] قَالَ فَنَشَجَ النَّاس يَبْكُونَ .
عمر بن الخطاب :
الفاروق , ذو المقام الثابت المأنوق , أعلن الله به دعوة الصّادق المصدوق , فجمع الله له بما منحه من الصَّولة ؛ ما نشأت لهم به الدَّولة , كان معارضًا للمبطلين , موافقًا في الأحكام لرب العالمين , كان فارقًا بين الحق والباطل .
فَفِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَمَّا قَالَ أَبُو سُفْيَانَ : أَفِي الْقَوْمِ مُحَمَّدٌ ؟- ثَلَاثَ مَرَّاتٍ - فَنَهَاهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُجِيبُوهُ , ثُمَّ قَالَ : أَفِي الْقَوْمِ ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ ؟-ثَلَاثَ مَرَّاتٍ - ثُمَّ قَالَ : أَفِي الْقَوْمِ ابْنُ الْخَطَّابِ ؟-ثَلَاثَ مَرَّاتٍ -ثُمَّ رَجَعَ إِلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ : أَمَّا هَؤُلَاءِ فَقَدْ قُتِلُوا , فَمَا مَلَكَ عُمَرُ نَفْسَهُ فَقَالَ : كَذَبْتَ وَاللَّهِ يَا عَدُوَّ اللَّهِ , إِنَّ الَّذين عَدَدْتَ لَأَحْيَاءٌ كُلُّهُمْ , وَقَدْ بَقِيَ لَكَ مَا يَسُوءُكَ .
ورغم شدته على الكفّار كان على إخوانه رقيق القلب سريع الدَّمع .
عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ أَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ آخِذًا بِطَرَفِ ثَوْبِهِ ؛ حَتَّى أَبْدَى عَنْ رُكْبَتِهِ , فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَمَّا صَاحِبُكُمْ فَقَدْ غَامَرَ , فَسَلَّمَ , وَقَالَ : إِنِّي كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ ابْنِ الْخَطَّابِ شَيْءٌ , فَأَسْرَعْتُ إِلَيْهِ ثُمَّ نَدِمْتُ , فَسَأَلْتُهُ أَنْ يَغْفِرَ لِي فَأَبَى عَلَيَّ , فَأَقْبَلْتُ إِلَيْكَ فَقَالَ : يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ - ثَلَاثًا , ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ نَدِمَ , فَأَتَى مَنْزِلَ أَبِي بَكْرٍ فَسَأَلَ : أَثَّمَ أَبُو بَكْرٍ ؟ فَقَالُوا : لَا , فَأَتَى إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَلَّمَ , فَجَعَلَ وَجْهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَمَعَّرُ , حَتَّى أَشْفَقَ أَبُو بَكْرٍ , فَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ , فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ! وَاللَّهِ أَنَا كُنْتُ أَظْلَمَ - مَرَّتَيْنِ , فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي إِلَيْكُمْ , فَقُلْتُمْ : كَذَبْتَ , وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ :صَدَقَ وَوَاسَانِي بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ , فَهَلْ أَنْتُمْ تَارِكُو لِي صَاحِبِي مَرَّتَيْنِ فَمَا أُوذِيَ بَعْدَهَا .
وَعَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَقّاصٍ قَالَ : كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِي الله عَنْهُ يَقْرَأُ فِي العَتَمَةِ بسُورَةِ يُوسُف , وأنا في مُؤَخِّرِ الصُّفُوفِ , حَتَّى إِذَا جَاءَ ذِكرُ يُوسُف ؛ سَمِعْتُ نَشِيجَهُ فِي مُؤَخِّرِ الصَّفِّ .
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْطَبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ فَقَالَ : هَذَانِ السَّمْعُ وَالْبَصَرُ .
عثمان رضي الله عنه :(/3)
القانت الحيي ذو الهجرتين , الكريم الجواد ذو النورين , كان حظُّه من النَّهار الجود والصيام , ومن الليل السجود والقيام , مبشر بالجنة على بلوى تصيبه .
كان رضي الله عنه يحيي الليل بالقرآن , وثبت أنه قرأ القرآن في ركعة .
عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُثْمَانَ قَالَ : قُمْتُ خَلْفَ الْمَقَامِ وَأَنَا أُرِيُد أَنْ لَا يَغْلِبَنِي عَلَيهِ أَحَدٌ تِلْكَ اللَّيلة , فَإِذَا رَجُلٌ يَغْمِزُنِي فَلَمْ ألْتَفِتْ , ثُمَّ غَمَزَنِي فَالْتَفَتُّ , فَإِذَا عُثْمَانُ بْنُ عَفّان رَضِي الله عَنْهُ فَتَنَحَّيْتُ فَتَقَدَّمَ فَقَرَأَ القُرْآنَ فِي رَكْعَةٍ .
وكان رضي الله عنه رقيق القلب , غزير الدمع , كان أذا رأى قبرًا بكى حتى يرحم .
عَنْ هَانِئٍ مَوْلَى عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : كَانَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِذَا وَقَفَ عَلَى قَبْرٍ بَكَى حَتَّى يَبُلَّ لِحْيَتَهُ , فَقِيلَ لَهُ تَذْكُرُ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ فَلَا تَبْكِي , وَتَبْكِي من هَذَا , فَقَالَ : إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : الْقَبْرُ أَوَّلُ مَنَازِلِ الْآخِرَةِ , فَإِنْ يَنْجُ مِنْهُ فَمَا بَعْدَهُ أَيْسَرُ مِنْهُ , وَإِنْ لَمْ يَنْجُ مِنْهُ فَمَا بَعْدَهُ أَشَدُّ مِنْهُ , قَالَ : وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ مَنْظَرًا قَطُّ إِلَّا وَالْقَبْرُ أَفْظَعُ مِنْهُ .
بشَّره النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة على بلوى تصيبه ؛ فكان صابرًا محتسبًا حتى لقي ربه .(/4)
عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ أَنَّهُ تَوَضَّأَ فِي بَيْتِهِ ثُمَّ خَرَجَ , فَقَالَ : لَأَلْزَمَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَلَأَكُونَنَّ مَعَهُ يَوْمِي هَذَا . فَجَاءَ الْمَسْجِدَ فَسَأَلَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَقَالُوا : خَرَجَ وَوَجَّهَ هَا هُنَا , قَالَ : فَخَرَجْتُ عَلَى إِثْرِهِ أَسْأَلُ عَنْهُ حَتَّى دَخَلَ بِئْرَ أَرِيسٍ , فَجَلَسْتُ عِنْدَ الْبَابِ - وَبَابُهَا من جَرِيدٍ -حَتَّى قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَاجَتَهُ فَتَوَضَّأَ , فَقُمْتُ إِلَيْهِ فَإِذَا هُوَ جَالِسٌ عَلَى بِئْرِ أَرِيسٍ , وَتَوَسَّطَ قُفَّهَا وَكَشَفَ عَنْ سَاقَيْهِ ؛ وَدَلَّاهُمَا فِي الْبِئْرِ , فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ ثُمَّ انْصَرَفْتُ فَجَلَسْتُ عِنْدَ الْبَابِ , فَقُلْتُ : لَأَكُونَنَّ بَوَّابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْيَوْمَ , فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ فَدَفَعَ الْبَابَ , فَقُلْتُ مَنْ هَذَا ؟! فَقَالَ : أَبُو بَكْرٍ , فَقُلْتُ : عَلَى رِسْلِكَ , ثُمَّ ذَهَبْتُ فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ! هَذَا أَبُو بَكْرٍ يَسْتَأْذِنُ , فَقَالَ : ائْذَنْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ , فَأَقْبَلْتُ حَتَّى قُلْتُ لِأَبِي بَكْرٍ : ادْخُلْ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُبَشِّرُكَ بِالْجَنَّةِ , فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ فَجَلَسَ عَنْ يَمِينِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهُ فِي الْقُفِّ , وَدَلَّى رِجْلَيْهِ فِي الْبِئْرِ كَمَا صَنَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَكَشَفَ عَنْ سَاقَيْهِ , ثُمَّ رَجَعْتُ فَجَلَسْتُ وَقَدْ تَرَكْتُ أَخِي يَتَوَضَّأُ وَيَلْحَقُنِي , فَقُلْتُ : إِنْ يُرِدْ اللَّهُ بِفُلَانٍ خَيْرًا - يُرِيدُ أَخَاهُ - يَأْتِ بِهِ , فَإِذَا إِنْسَانٌ يُحَرِّكُ الْبَابَ , فَقُلْتُ : مَنْ هَذَا ؟ فَقَالَ : عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ , فَقُلْتُ : عَلَى رِسْلِكَ , ثُمَّ جِئْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ , فَقُلْتُ : هَذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَسْتَأْذِنُ , فَقَالَ : ائْذَنْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ , فَجِئْتُ فَقُلْتُ : ادْخُلْ , وَبَشَّرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجَنَّةِ , فَدَخَلَ فَجَلَسَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْقُفِّ عَنْ يَسَارِهِ , وَدَلَّى رِجْلَيْهِ فِي الْبِئْرِ , ثُمَّ رَجَعْتُ فَجَلَسْتُ , فَقُلْتُ : إِنْ يُرِدْ اللَّهُ بِفُلَانٍ خَيْرًا يَأْتِ بِهِ , فَجَاءَ إِنْسَانٌ يُحَرِّكُ الْبَابَ , فَقُلْتُ : مَنْ هَذَا ؟ فَقَالَ : عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ , فَقُلْتُ : عَلَى رِسْلِكَ , فَجِئْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ , فَقَالَ : ائْذَنْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ عَلَى بَلْوَى تُصِيبُهُ , فَجِئْتُهُ , فَقُلْتُ لَهُ : ادْخُلْ وَبَشَّرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجَنَّةِ عَلَى بَلْوَى تُصِيبُكَ , فَدَخَلَ فَوَجَدَ الْقُفَّ قَدْ مُلِئَ , فَجَلَسَ وِجَاهَهُ من الشَّقِّ الْآخَرِ . قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ : فَأَوَّلْتُهَا قُبُورَهُمْ .
علي بن أبي طالب رضي الله عنه :
نُور المطيعين , وولي المتقين , وإمام العابدين , من أسرع الصحابة إجابة , وأعظمهم حلما , وأوفرهم علما , وأقومهم قضية , حُرمنا علمه بسبب غلو الشِّيعة فيه وكذبهم عليه -وإلى الله المشتكى , وأما فضائله فقد لاحت في الأفق , وإليك ما قيل بحضرة خصمه ومن لاحت بينهما السيوف - معاوية رضي الله عنه .(/5)
دخل ضرار بن ضمرة الكِناني على معاوية , فقال له : صِفْ لي عليًا , فقال أو تعفيني يا أمير المؤمنين , قَالَ : لا أعفيك , قَالَ : أما إذ لا بد ؛ فإنه كان والله بعيد المدى , شديد القوى , يقول فصلا , ويحكم عدلا , يتفجر العلم من جوانبه , وتنطق الحكمة من نواحيه , يستوحش من الدنيا وزهرتها , ويستأنس بالليل وظلمته , كان والله غزير العبرة , طويل الفكرة , يقلب كفه , ويخاطب نفسه , يعجبه من اللباس ما قصر , ومن الطعام ما جشب , كان والله كأحدنا يدنينا إذا أتيناه , ويجيبنا إذا سألناه , وكان مع تقربه إلينا وقربه منا ؛ لا نكلمه هيبة له , فإن تبسم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم , يعظم أهل الدين ويحب المساكين , لا يطمع القوي في باطله , ولا ييأس الضعيف من عدله , فأشهد بالله لقد رأيته في بعض مواقفه ؛ وقد أرخى الليل سدوله , وغارت نجومه يميل في محرابه قابضًا على لحيته يتململ تململ السَّليم , ويبكي بكاء الحزين , فكأني أسمعه الآن وهو يقول : يا ربنا يا ربنا يتضرع إليه ثم يقول للدنيا : إلَيَّ تغررَّتِ , إلَيَّ تشوفت , هيهات هيهات , غُرِّي غَيْري , قد بنتك ثلاثًا , فعمرك قصير , ومجلسك حقير , وخطرك يسير , آه آه من قلة الزاد , وبعد السَّفر , ووحشة الطريق .
فوكفت دموع معاوية على لحيته ؛ ما يملكها , وجعل ينشفها بكمه وقد اختنق القوم بالبكاء , فقال : كذا كان أبو الحسن رحمه الله , ثم قَالَ : كَيْفَ وَجْدُك عليه يا ضرار ؟ قَالَ : وَجْدُ مَنْ ذُبِحَ وَاحِدُهَا فِي حَجْرِهَا ؛ لَا تَرْقَأُ دَمْعَتُهَا , وَلَا يَسْكُنُ حُزْنُها - ثُمَّ قَامَ فَخَرَجَ .
أبو عبيدة ابن الجراح :
أبو عبيدة الأمين الرَّشيد , والقائد السَّديد اختاره عمر ؛ وهو يتمنى ملأ مكانه رجالًا كأبي عبيدة .
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : إِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَمِينًا , وَإِنَّ أَمِينَنَا أَيَّتُهَا الْأُمَّةُ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ .
دخل عمر بن الخطاب على أبي عبيدة بن الجراح , فإذا هو مضطجع على طنفسة رحله متوسدًا الحقيبة , فقال له عمر : ألا اتخذت ما اتخذ أصحابك ؟! فقال : يا أمير المؤمنين هذا يبلغني المقيل .
وعن عمر بن الخطاب أنه قَالَ لأَصْحَابِهِ : تَمَنُّوا , فقال رجل : أتمنى لو أن لي هذه الدار مملوءة ذهبًا أنفقه في سبيل الله , ثم قَالَ : تَمَنُّوا , فقال رجل : أتمنى لو أنها مملوءة لؤلؤا وزبرجدًا وجوهرًا ؛ أنفقه في سبيل الله وأتصدق , ثم قَالَ : تَمَنُّوا , فقالوا : ما ندري يا أمير المؤمنين , فقال عمر : أتمنى لو أن هذه الدّار مملوءة رجالًا مثل أبي عبيدة بن الجراح .
معاذ بن جبل :
مقدام العلماء , وإمام الحكماء !!!
قَالَ ابن مسعود رضي الله تَعَالَى عنه : إن معاذ بن جبل رضي الله تَعَالَى عنه كان أمة قانتًا لله حنيفًا , فقيل له : إن إبراهيم كان أمة قانتًا لله حنيفًا ! فقال : ما نسيت , هل تدرون ما الأمة وما القانت ؟ ! الأمة الذي يُعَلِّم الخير , والقانت المطيع لله وللرسول , وكان معاذ يُعَلِّم النَّاس الخير , ومطيعًا لله ولرسوله .
وكان معاذ بن جبل شابًا جميلًا سمحًا من خير شباب قومه , لا يُسأل شيئا إلا أعطاه , حتى أدان دينا أغلق ماله , فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكلم غرماءه ففعل , فلم يضعوا له شيئًا , فلو ترك لأحد لكلام أحد لترك لمعاذ لكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم , فدعاه النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلم يبرح حتى باع ماله وقسمه بين غرمائه , فقام معاذ لا مال له , فلما حجَّ بعثه النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى اليمن ليجبره , وكان أول من حجز عليه في هذا المال معاذ , فقدم على أبي بكر رضي الله تَعَالَى عَنْهُ من اليمن وقد تُوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم
قَالَ أبو نعيم : وغُرماء معاذ كانوا يهودًا فلهذا لم يضعوا عنه شيئًا .
فلما قبض النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واستخلفوا أبا بكر , فاستعمل أبو بكر عمر على الموسم فلقي معاذًا بمكة ومعه رقيق , فقال : هؤلاء أهدوا لي وهؤلاء لأبي بكر , فقال عمر : إني أرى لك أن تأتي أبا بكر , قَالَ فَلَقِيه من الغد , فقال : يا ابن الخطاب ! لقد رأيتني البارحة وأنا أنزوي إلى النار وأنت آخذ بحجزتي , وما أراني إلا مطيعك , فأتى بهم أبا بكر , فقال : هؤلاء أهدوا لي وهؤلاء لك , قَالَ : فإنا قد سلمنا لك هديتك , فخرج معاذ إلى الصَّلاة ؛ فإذا هم يُصلون خلفه , فقال : لمن تصلون هذه الصَّلاة ؟ قالوا لله عز وجل , قَالَ : فأنتم لله فأعتقهم .(/6)
وعن معاذ رحمه الله تَعَالَى لَمّا أن حضره الموت , قَالَ : انظروا أصبحنا ؟ فأتى , فقيل : لم تصبح , قَالَ : انظروا أصبحنا ؟ فأتي فقيل :لم تصبح حتى أتى في بعض ذلك , فقيل له : قد أصبحت , قَالَ : أَعُوذُ بالله من ليلة صباحها إلى النار , مرحبًا بالموت , مرحبًا زائر مغيب , حبيب جاء على فاقة , اللهم إني قد كنت أخافك , فأنا اليوم أرجوك , اللهم أن كنت تعلم أني لم أكن أحب الدُّنيا وطول البقاء فيها لكرى الأنهار , ولا لغرس الشَّجر , ولكن لظمأ الهواجر , ومكابدة السّاعات , ومزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر.
بين أبي عبيدة ومعاذ :
وقد أراد عمر رضي الله عنه أن يوقع اختبارًا - بعد أن فتحت الدنيا , على أبي عبيدة ومعاذ رضي الله عنهما , ليختبر حال الأمراء والعلماء .
وروي أن عمر رضي الله عنه أخذ أربعمائة دينار , فقال لغلام له : أذهب بها إلى أبي عبيدة , ثم تله ساعة في البيت حتى تنظر ما يصنع , قَالَ : فذهب بها الغلام , فقال : يقول لك أمير المؤمنين : خذ هذه , فقال : وصله الله ورحمه , ثم قَالَ : تعالي يا جارية ! اذهبي بهذه السَّبعة إلى فلان , وبهذه الخمسة إلى فلان , حتى أنفذها , فرجع الغلام إلى عمر وأخبره فوجده قد أعد مثلها لمعاذ بن جبل ؛ فأرسله بها إليه , فقال معاذ : وصله الله , يا جارية ! اذهبي إلى بيت فلان بكذا , ولبيت فلان بكذا , فاطلعت امرأة معاذ , فقالت : ونحن والله مساكين فأعطنا , ولم يبق في الخرقة إلا ديناران , فدحا بهما إليها , ورجع الغلام فأخبر عمر فسر بذلك , وقال : إنهم إخوة بعضهم من بعض .
وهذه القصة تبين فطنة عمر في اختباره لحال الأمراء والعلماء , فبهم صلاح الأمة إن صلحوا , وفسادها إن فسدوا .
أبو موسى الأشعري :
كان رحمه الله بالقرآن مترنما وقائما , وفي طول الأيام طاويًا وصائمًا , صاحب القراءة والمزمار .
عن أبي سلمة : كان عمر إذا جلس عنده أبو موسى , ربما قَالَ لَهُ ذَكِّرنا يا أبا موسى , فيقرأ .
عن أبي إدريس عائذ الله قَالَ : صَامَ أبو موسى الأشعري حتى عاد كأنه خلال , فقيل له : يا أبا موسى لو أجممت نفسك , قَالَ : إجمامها أريد , أني رأيت السّابق من الخيل المضمر , وربما خرج من منزله فيقول لامرأته شُدِّي رحلك , ليس على جهنم معبر .
وكان رحمه الله شجاعًا بطلًا مغوارًا لا يخشى بأسًا ولا يعبأ بعدو .
عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : لَمَّا فَرَغَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حُنَيْنٍ , بَعَثَ أَبَا عَامِرٍ عَلَى جَيْشٍ إِلَى أَوْطَاسٍ فَلَقِيَ دُرَيْدَ بْنَ الصِّمَّةِ , فَقُتِلَ دُرَيْدٌ وَهَزَمَ اللَّهُ أَصْحَابَهُ , قَالَ أَبُو مُوسَى : وَبَعَثَنِي مَعَ أَبِي عَامِرٍ فَرُمِيَ أَبُو عَامِرٍ فِي رُكْبَتِهِ , رَمَاهُ جُشَمِيٌّ بِسَهْمٍ فَأَثْبَتَهُ فِي رُكْبَتِهِ , فَانْتَهَيْتُ إِلَيْهِ , فَقُلْتُ : يَا عَمِّ مَنْ رَمَاكَ ؟ فَأَشَارَ إِلَىَّ , فَقَالَ : ذَاكَ قَاتِلِي الَّذِي رَمَانِي فَقَصَدْتُ لَهُ فَلَحِقْتُهُ , فَلَمَّا رَآنِي وَلَّى فَاتَّبَعْتُهُ , وَجَعَلْتُ أَقُولُ لَهُ : أَلَا تَسْتَحْيِي ؟ أَلَا تَثْبُتُ ؟ فَكَفَّ , فَاخْتَلَفْنَا ضَرْبَتَيْنِ بِالسَّيْفِ فَقَتَلْتُهُ , ثُمَّ قُلْتُ لِأَبِي عَامِرٍ : قَتَلَ اللَّهُ صَاحِبَكَ قَالَ : فَانْزِعْ هَذَا السَّهْمَ فَنَزَعْتُهُ فَنَزَا مِنْهُ الْمَاءُ , قَالَ : يَا ابْنَ أَخِي ! أَقْرِئْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السَّلَامَ , وَقُلْ لَهُ : اسْتَغْفِرْ لِي . وَاسْتَخْلَفَنِي أَبُو عَامِرٍ عَلَى النَّاس , فَمَكُثَ يَسِيرًا ثُمَّ مَاتَ , فَرَجَعْتُ فَدَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِهِ عَلَى سَرِيرٍ مُرْمَلٍ وَعَلَيْهِ فِرَاشٌ ؛ قَدْ أَثَّرَ رِمَالُ السَّرِيرِ بِظَهْرِهِ وَجَنْبَيْهِ , فَأَخْبَرْتُهُ بِخَبَرِنَا وَخَبَرِ أَبِي عَامِرٍ , وَقَالَ : قُلْ لَهُ اسْتَغْفِرْ لِي , فَدَعَا بِمَاءٍ فَتَوَضَّأَ ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ , فَقَالَ : اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِعُبَيْدٍ أَبِي عَامِرٍ , وَرَأَيْتُ بَيَاضَ إِبْطَيْهِ ثُمَّ قَالَ : اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَوْقَ كَثِيرٍ من خَلْقِكَ من النَّاس , فَقُلْتُ : وَلِي فَاسْتَغْفِرْ , فَقَالَ : اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ ذَنْبَهُ , وَأَدْخِلْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُدْخَلًا كَرِيمًا .
واجتهد الأشعري قبل موته اجتهادًا شديدًا , فقيل له لو أمسكت ! ورفقت بنفسك بعض الرفق , قَالَ : إن الخيل إذا أرسلت فقاربت رأس مجراها , أخرجت جميع ما عندها , والذي بقي من أجلي أقل من ذلك , فلم يزل على ذلك حتى مات .(/7)
قَالَ الذَّهبي : وكان أبو موسى صوَّامًا قوَّامًا , ربانيًا زاهدًا عابدًا , ممن جمع العِلْمَ والعمل والجهاد , وسلامة الصَّدر , لم تُغيره الإمارة ولا اغتر بالدُّنيا .
بين معاذ بن جبل وأبي موسى الأشعري :
عَنْ أَبِي بُرْدَةَ قَالَ : بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا مُوسَى وَمُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ إِلَى الْيَمَنِ , قَالَ : وَبَعَثَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى مِخْلَافٍ -قَالَ وَالْيَمَنُ مِخْلَافَانِ - ثُمَّ قَالَ : يَسِّرَا وَلَا تُعَسِّرَا , وَبَشِّرَا وَلَا تُنَفِّرَا , فَانْطَلَقَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَى عَمَلِهِ , وَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِذَا سَارَ فِي أَرْضِهِ كَانَ قَرِيبًا من صَاحِبِهِ أَحْدَثَ بِهِ عَهْدًا فَسَلَّمَ عَلَيْهِ , فَسَارَ مُعَاذٌ فِي أَرْضِهِ قَرِيبًا من صَاحِبِهِ أَبِي مُوسَى , فَجَاءَ فَقَالَ : يَا عَبْدَ اللَّهِ ! كَيْفَ تَقْرَأُ الْقُرْآنَ ؟ قَالَ : أَتَفَوَّقُهُ تَفَوُّقًا , قَالَ : فَكَيْفَ تَقْرَأُ أَنْتَ يَا مُعَاذُ ؟ قَالَ : أَنَامُ أَوَّلَ اللَّيْلِ فَأَقُومُ وَقَدْ قَضَيْتُ جُزْئِي من النَّوْمِ , فَأَقْرَأُ مَا كَتَبَ اللَّهُ لِي فَأَحْتَسِبُ نَوْمَتِي كَمَا أَحْتَسِبُ قَوْمَتِي .
عبد الله بن عمر :
المتعبد المتهجد المتتبع للأثر المتشدِّد , كادت أن تكون له الخلافة فصانه الله وحفظه من الفتن , قَالَ نَافِعٌ : دخل ابن عمر الكعبة فسمعته يقول وهو ساجد : قد تعلم ما يمنعني من مزاحمةِ قريش على هذه الدنيا إلا خوفك .
وعن سعيد بن جبير قَالَ : رَأَيْتُ ابن عمر وأبا هريرة وأبا سعيد وغيرهم كانوا يرون أنه ليس أحد منهم على الحال التي فارق عليها محمد صلى الله عليه وسلم ؛ غير ابن عمر .
وكان لعبد الله بن عمر مِهْرَاسٌ فيه ماء , فيصلى ما قُدِّر له , ثم يصير إلى فراشه فيغفى إغفاء الطَّائر , ثم يقوم فيتوضأ , ثم يصلي , ثم يرجع إلى فراشه , فيغفى إغفاء الطَّائر , ثم يثب فيتوضأ , ثم يصلي , فيفعل ذلك في الليلة أربع مرات , أو خمسًا .
وعن عبد الله بن عبيد بن عمير عن أبيه أنه تلا : {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا من كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ} [سورة النساء : 41] فجعل ابن عمر يبكي حتى لصقت لحيته وجيبه من دموعه , فأراد رجل أن يقول لأبي : أقصر فقد آذيت الشيخ .
وعن نافع , كان ابن عمر إذا قرأ : {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} [سورة الحديد : 16] بكى حتى يغلبه البكاء .
وقيل لنافع : ما كان يصنع ابن عمر في منزله , قَالَ : لا تُطِيقونه , الوضوء لكلِّ صلاة , والمصحف فيما بينهما .
عن حمزة بن عبد الله بن عمر عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قَالَ : تَلَوْتُ هذه الآية :{لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [سورة آل عمران 3/92] فذكرت ما أعطاني الله تَعَالَى , فما وجدت شيئًا أحبَّ إلي من جاريتي رضية , فقلت : هي حرة لوجه الله عزَّ وجل ؛ فلولا أني لا أعود في شيء جعلته لله عز وجل لنكحتها ؛ فأنكحها نافع فهي أم ولده .
عن نافع قَالَ : كَانَ ابن عمر إذا اشتد عجبه بشيء من ماله قرَّبه لربه عزَّ وجل . قَالَ نافع : وكان رقيقه قد عرفوا ذلك منه , فربما شمر أحدهم فيلزم المسجد ؛ فإذا رآه ابن عمر رضي الله تَعَالَى عنه على تلك الحالةِ الحسنة أعتقه فيقول : له أصحابه يا أبا عبد الرحمن ! والله ما بهم إلا أن يخدعوك , فيقول ابن عمر : فمن خدعنا بالله عز وجل تخدَّعنا له , قَالَ نافع : فلقد رأيتنا ذات عشية وراح ابن عمر على نجيب له قد أخذه بمالٍ عظيم ؛ فلما أعجبه سيره أناخه مكانه , ثم نزل عنه , فقال : يا نافع انزعوا زِمامه ورحله , وجللوه وأشعروه , وأدخلوه في البدن .
وعن ابن سيرين أن رجلًا قَالَ : لابن عمر أعمل لك جَوَارِش , قَالَ : وما هو ؟ قَالَ : شيء إذا كَظَّك الطَّعام فأصبت منه سهل , فقال : ما شبعت منذ أربعة أشهر , وما ذاك أن لا أكون له واجدا , ولكن عهدت قومًا يشبعون مرة , ويجوعون مرة .
قَالَ الذَّهبي : وأين مثل ابن عمر في دينه , وورعه , وعلمه , وتألهه , وخوفه , من رجل تعرض عليه الخلافة فيأباها , والقضاء من مثل عثمان فيرده , ونيابة الشّام لعلي فيهرب منه , فالله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب .
عبد الله بن عباس :
بدر الأحبار , والبحر الزَّخار , دعوة النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالفقه والتفسير .
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : ضَمَّنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ : اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْكِتَابَ.
وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ الْخَلَاءَ فَوَضَعْتُ لَهُ وَضُوءًا , قَالَ : مَنْ وَضَعَ هَذَا ؟ فَأُخْبِرَ , فَقَالَ : اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ .(/8)
وعن أبي وائلٍ قَالَ : خطبنا ابن عباس وهو أمير على الموسم , فافتتح سورة النُّور , فجعل يقرأ ويفسر , فجعلت أقول : ما رأيت ولا سمعت كلام رجل مثل هذا , لو سمعته فارس والرُّوم والترك ؛ لأسلمت .
عن ابن أبي مُليكة قَالَ : صَحِبت ابن عباس من مكة إلى المدينة , فكان إذا نزل قام شطر الليل , فسأله أيوب السَّخْتِياني كيف كانت قراءته ؟ قَالَ قَرَأ : {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ } [سورة ق : 19] فجعل يرتل , ويكثر في ذلك النَّشيج .
عن ابن أبي مليكة قَالَ : صحبت ابن عباس من مكة إلى المدينة , فكان يصلي ركعتين ؛ فإذا نزل قام شطر الليل ويرتل القُران حرفًا حرفًا , ويكثر في ذلك من النَّشيج والنَّحيب .
عن أبي رجاء قَالَ : رأيت ابن عباس وأسفل من عينيه مثل الشِّراك البالي من البكاء .
أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب :
ابن عَمِّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأخوه من الرَّضاعة , ولقد أحبه النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد طول عداء ؛ وشهد له بالجنة , وقال : أرجو أن يكون خلفًا من حمزة , وقيل : إنه لم يرفع رأسه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حياءً منه منذ أسلم .
ولما احتضر أبو سفيان قَالَ : لا تبكوا علي فإني لم أتنطف بخطيئة منذ أسلمت .
وعن سعيد بن المسيب : أن أبا سفيان بن الحارث كان يصلي في الصَّيف نصف النهار حتى تكره الصَّلاة , ثم يصلي من الظهر إلى العصر .
عن سعيد بن عبيد الثقفي قَالَ : رَمَيْتُ أبا سفيان يوم الطّائف فأصبت عينه فأتى النبي فقال : هذه عيني أصيبت في سبيل الله , قَالَ : إن شئت دعوت فَرُدَّت عليك , وإن شئت فالجنة , قَالَ : الجنة .
عبد الله بن رواحة :
المتفكر عند نزول الآيات المتصبر عند تناول الرّايات , نعاه النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم قتل ؛ وهو على منبره صلى الله عليه وسلم بالمدينة .
لما أراد ابن رواحة الخروج إلى أرض مؤتة من الشّام ؛ أتاه المسلمون يودعونه فبكى , فقالوا له : ما يبكيك ؟! قَالَ : أما والله ما بي حب الدنيا , ولا صبابة لكم , ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية : {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71)} [سورة مريم : 71] فقد علمت أني وارد النار , ولا أدري كيف الصُّدور بعد الورود .
وقيل تزوج رجل امرأة ابن رواحة , فقال لها : تدرين لم تزوجتك ؟! لتخبريني عن صنيع عبد الله في بيته , فذكرت له شيئًا لا أحفظه غير أنها قالت : كان إذا أراد أن يخرج من بيته صلى ركعتين , وإذا دخل صلى ركعتين ؛ لا يدع ذلك أبدًا .
وعن سليمان بن يسار أن النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَبْعَثُ ابن رواحة إلى خَيْبَر , فَيُخَرِّص بَيْنَهُ وَبَيْنَ يَهُود , فَجَمَعُوا حُلِيَّا مِنْ نِسَائِهم , فقالوا : هَذَا لك وخَفِّفْ عَنّا , فقال : يا معشر يهود ! والله إنكم لمن أبغض خَلْقِ الله إلي , وما ذاك بِحَامِلي على أن أَحِيف عليكم , والرِّشوة سُحت , فقالوا : بهذا قامت السَّماء والأرض .
وعن بكر بن عبد الله المزني قَالَ : لَمّا نَزَلَتْ هذه الآية : "وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا" ذهب عبد الله بن رواحة إلى بيته فبكى , فجاءت امرأته فبكت , وجاءت الخادم فبكت , وجاء أهل البيت فجعلوا يبكون , فلما انقطعت عبرته قَالَ : يا أهلاه ما الذي أَبْكَاكُم ؟! قالوا : لا ندري ! ولكن رأيناك بكيت فبكينا , قَالَ : إِنَّه أنزلت على رسول الله آية , يُنبئني فيها ربي عز وجل أني وارد النّار , ولم ينبئني أني صادر عنها , فذلك الذي أبكاني .
وإن عبد الله بن رواحة أتى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يخطب , فسَمِعه وهو يقول : اجلسوا فجلس مكانه خارج المسجد ؛ حتى فرغ من خطبته , فبلغ ذلك النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَقَالَ : زَادَك الله حِرْصًا عَلَى طَواعِية الله ورسوله .
وإن عبد الله بن رواحة قَالَ حِينَ أَخَذَ الرّاية يومئذ :
أَقْسَمْتُ يَا نَفْسُ لَتَنْزِلَنَّه
طَائِعَةً أَوْ iiلَتُكْرِهَنَّه
إِنْ أَجْلَبَ النَّاس وَشَدُّوا الرَّنَّه
مَا لِي أَرَاكِ تَكْرَهِينَ iiالْجَنَّه
قَدْ طَالَمَا قَدْ كُنْتِ مُطْمَئِنَّه
هَلْ أَنْتِ إِلَّا نُطْفَةٌ فِي شَنَّه
قَالَ ابن إسحاق وقال أيضًا :
يَا نَفْسُ إِلَّا تُقْتَلِي iiتَمُوتِي
هَذَا حِمَامُ الْمَوْتِ قَدْ لَقِيتِ
وَمَا تَمَنَّيْتِ فَقَدْ iiأُعْطِيتِ
إِنْ تَفْعَلِي فِعْلَهُمَا iiهُدِيتِ
وَإِنْ تَأَخَّرْتِ فَقَدْ iiشَقِيتِ
يُريد جعفرًا وزيدًا رضي الله عنهما , ثم أخذ سيفه فتقدم فقاتل حتى قُتل .(/9)
وقبل أن ينزل أتاه ابن عمه بعظم من لحم , فقال : شُدَّ بهذا صلبك فإنك قد لاقيت من أيامك هذه ما قد لقيت , فأخذه من يده ثم انتهش منه نهشة , ثم سمع الحطمة في ناحية النَّاس , فقال : وأنت في الدنيا , ثم ألقاه من يده ثم أخذ سيفه ؛ فتقدم فقاتل حتى قتل رضي الله تَعَالَى عنه .
تميم بن أوس الداري :
صلى ليلةً حتى أصبح أو كاد يقرأ آية يرددها ويبكي : {أَمْ حَسِبَ الَّذين اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21)} [سورة الجاثية : 21]
عائشة رضي الله عنها :
الصِّديقة بنت الصديق , أفقه نساء الأمة على الإطلاق , المبرأة من كل عيب ونقص رضي الله عنها .
عَنْ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ : سَمِعْتُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تَقُولُ : كَانَ يَكُونُ عَلَيَّ الصَّوْمُ من رَمَضَانَ , فَمَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقْضِيَ إِلَّا فِي شَعْبَانَ , الشُّغْلُ من النَّبِيِّ أَوْ بِالنَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .وقال أحد الرواة : فَظَنَنْتُ أَنَّ ذَلِكَ لِمَكَانِهَا من النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
فلما تُوفي النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانت تصوم الدَّهر .
عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ لِعُرْوَةَ ابْنَ أُخْتِها : إِنْ كُنَّا لَنَنْظُرُ إِلَى الْهِلَالِ , ثُمَّ الْهِلَالِ , ثَلَاثَةَ أَهِلَّةٍ فِي شَهْرَيْنِ , وَمَا أُوقِدَتْ فِي أَبْيَاتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَارٌ , فَقُلْتُ : يَا خَالَةُ ! مَا كَانَ يُعِيشُكُمْ ؟ قَالَتْ : الْأَسْوَدَانِ : التَّمْرُ وَالْمَاءُ ؛ إِلَّا أَنَّهُ قَدْ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِيرَانٌ من الْأَنْصَارِ , كَانَتْ لَهُمْ مَنَائِحُ , وَكَانُوا يَمْنَحُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَلْبَانِهِمْ فَيَسْقِينَا .
عن عروة بن الزبير قَالَ : كانت عائشة تقسم سبعين ألفًا , وهي ترقع درعها .
عن أم ذَرَّة قالت : بعث ابن الزبير إلى عائشة بمالٍ في غرارتين , يكون مائة ألف , فدعت بطبق ؛ فجعلت تقسم في النَّاس , فلما أمست قالت : هاتي يا جارية فَطُوري , فقالت أم ذرة : يا أم المؤمنين ! أما استطعت أن تشتري لنا لحمًا بدرهم , قالت : لا تعنفيني لو ذكرتيني لفعلت .
ومرت عائشة رضي الله عنها بهذه الآية : {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27)} [سورة الطور : 27] فقالت : اللهم من علينا وقنا عذاب السَّموم , إنك أنت البر الرحيم , فقيل للأعمش : في الصَّلاة , فقال : في الصَّلاة .
أسماء بنت أبي بكر :
ذات النِّطاقين العابدة الصابرة المحتسبة , جعلت من نطاقها سفرة للنبي صلى الله عليه وسلم .
عَنْ أَسْمَاءَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : صَنَعْتُ سُفْرَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِ أَبِي بَكْرٍ حِينَ أَرَادَ أَنْ يُهَاجِرَ إِلَى الْمَدِينَةِ , قَالَتْ : فَلَمْ نَجِدْ لِسُفْرَتِهِ وَلَا لِسِقَائِهِ مَا نَرْبِطُهُمَا بِهِ , فَقُلْتُ لِأَبِي بَكْرٍ : وَاللَّهِ مَا أَجِدُ شَيْئًا أَرْبِطُ بِهِ إِلَّا نِطَاقِي , قَالَ : فَشُقِّيهِ بِاثْنَيْنِ فَارْبِطِيهِ بِوَاحِدٍ السِّقَاءَ , وَبِالْآخَرِ السُّفْرَةَ , فَفَعَلْتُ . فَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ ذَاتَ النِّطَاقَيْنِ .
وكانت عظيمة الولاء شديدة الاتباع , منعت نفسها عن أُمِّها حتى تعلم أيرضى رسول الله أم لا !!
عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَتْ : قَدِمَتْ عَلَيَّ أُمِّي وَهِيَ مُشْرِكَةٌ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَاسْتَفْتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , قُلْتُ : وَهِيَ رَاغِبَةٌ أَفَأَصِلُ أُمِّي ؟ قَالَ : نَعَمْ صِلِي أُمَّكِ .
وكانت شجاعة مهيبة , لا تخشى بأسًا , قَالَ هشام بن عروة : كثر اللُّصوص بالمدينة , فاتخذت أسماء خِنْجَرًا زمن سعيد بن العاص : كانت تجعله تحت رأسها , فقيل لها ما تصنعين بهذا ؟ قالت : إن دخل علي لصٌ بعجت بطنه - وكانت عَمْياء .
وكانت عظيمة القدر شديدة المراس , احتسبت ولدها قبل قتله عند الله سبحانه وتعالى .(/10)
عن عُروة بن الزبير قَالَ : دخلت أنا وعبد الله بن الزبير على أسماء قبل قتل ابن الزبير بعشرِ ليال , وإنها وَجِعَةٌ , فقال عبد الله : كيف تجدينك قالت : وجعة , قَالَ : إِنَّ في الموت لعافية . قالت : لعلك تَشْتَهِي موتي فلذلك تتمناه ؟! فلا تفعل ! فالتفتت إلى عبد الله فضحكت , وقالت : والله ما أشتهي أن أموت حتى يأتي على أحد طرفيك : إما أن تُقْتَل فأحتسبك , وإما أن تظفر فتقر عيني عليك , وإياك أن تعرض خطة فلا توافق , فتقبلها كراهية الموت , وإنما عني ابن الزبير أن يُقْتَل فيحزنها ذلك - وكانت ابنة مائة سنة .
ولما قُتل وصلب كانت صابرةً محتسبة , ولم تخش من صولة الحجاج وبطشه , بل واجهته بما لا يحب .
عَنْ أَبِي نَوْفَلٍ قَالَ : رَأَيْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ عَلَى عَقَبَةِ الْمَدِينَةِ , فَجَعَلَتْ قُرَيْشٌ تَمُرُّ عَلَيْهِ وَالنَّاسُ ..ثُمَّ أَرْسَلَ الْحَجَّاجُ إِلَى أُمِّهِ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ , فَأَبَتْ أَنْ تَأْتِيَهُ , فَأَعَادَ عَلَيْهَا الرَّسُولَ لَتَأْتِيَنِّي أَوْ لَأَبْعَثَنَّ إِلَيْكِ مَنْ يَسْحَبُكِ بِقُرُونِكِ , فَأَبَتْ , وَقَالَتْ : وَاللَّهِ لَا آتِيكَ حَتَّى تَبْعَثَ إِلَيَّ مَنْ يَسْحَبُنِي بِقُرُونِي : فَقَالَ : أَرُونِي سِبْتَيَّ فَأَخَذَ نَعْلَيْهِ ثُمَّ انْطَلَقَ يَتَوَذَّفُ حَتَّى دَخَلَ عَلَيْهَا , فَقَالَ : كَيْفَ رَأَيْتِنِي صَنَعْتُ بِعَدُوِّ اللَّهِ ؟ قَالَتْ : رَأَيْتُكَ أَفْسَدْتَ عَلَيْهِ دُنْيَاهُ , وَأَفْسَدَ عَلَيْكَ آخِرَتَكَ . بَلَغَنِي أَنَّكَ تَقُولُ لَهُ يَا ابْنَ ذَاتِ النِّطَاقَيْنِ ! أَنَا وَاللَّهِ ذَاتُ النِّطَاقَيْنِ , أَمَّا أَحَدُهُمَا : فَكُنْتُ أَرْفَعُ بِهِ طَعَامَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَطَعَامَ أَبِي بَكْرٍ من الدَّوَابِّ , وَأَمَّا الْآخَرُ : فَنِطَاقُ الْمَرْأَةِ الَّتِي لَا تَسْتَغْنِي عَنْهُ , أَمَا إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدَّثَنَا : أَنَّ فِي ثَقِيفٍ كَذَّابًا وَمُبِيرًا . فَأَمَّا الْكَذَّابُ فَرَأَيْنَاهُ , وَأَمَّا الْمُبِيرُ فَلَا إِخَالُكَ إِلَّا إِيَّاهُ , فَقَامَ عَنْهَا وَلَمْ يُرَاجِعْهَا .
وَقِيلَ لِابْنِ عُمر : إِنَّ أَسْمَاءَ فِي نَاحِيةِ الْمَسْجِد - وَذَلِكَ حِينَ صُلِبَ ابْنُ الزُّبير -فَمَالَ إِلَيْهَا , فَقَالَ : إِنَّ هَذِه الْجُثَثُ لَيْسَتْ بِشَيءٍ , وَإِنَّمَا الأَرْوَاحُ عِنْدَ الله , فَاتَّقِي الله وَاصْبِرِي , فَقَالَتْ : ومَا يَمْنَعُنِي وَقَدْ أُهْدِي رَأسُ يَحْيى بْنِ زَكَرِيّا إِلَى بَغِي مِنْ بَغَايا بَنِي إِسْرَائِيل .
وقد جاءت أسماء حتى وقفت عليه ؛ فدعت له طويلا , ولا يقطر من عينها دمعة , ثم انصرفت رضي الله عنها , وماتت بعده بليال .
وكانت رضي الله عنها صَوّامة قوامة , لا تفتر من العبادة حتى ماتت .
عن عبّاد بن حمزة قَالَ : دخلت على أسماء وهي تقرأ : {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27)} [سورة الطور : 27] قَالَ : فوقفت عليها ؛ فجعلت تستعيذ وتدعو , قَالَ عَبّاد : فذهبت إلى السُّوق فقضيت حاجتي ؛ ثم رجعت وهي فيها بعد تستعيذ وتدعو .
عمر بن عبد العزيز :
أمير المؤمنين كان أوحد أمَّته في الفضل , ونجيب عشيرته في العدل , جمع زهدًا وعفافًا وورعًا وكفافًا , شغله آجل العيش عن عاجله , كان رحمه الله للرعية أمنًا وأمانًا , كان عالِمًا عابدًا مفهمًا حكيمًا .
عن جويرية بن أسماء قَالَ : قَالَ عُمَرُ : إِنَّ نَفْسِي هَذَه تَوّاقة , لم تعط من الدنيا شيئًا إلا تاقت إلى ما هو أفضل منه , فلمّا أُعطيت الخلافة التي لا شيء أفضل منها , تاقت إلى ما هو أفضل منها !! أي - الجنة أفضل من الخلافة .
وكان رحمه الله قد اجتهد بالعبادة حتى أصبح لا يُغالَب عليها .
قَالَ مَنْصُور أبو أمية خادم عمر بن عبد العزيز : رأيت عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وله سَفْط في كوة , مفتاحه في إزاره , فكان يتغفلني , فإذا نظر إلي قد نمت ؛ فتح السَّفط فأخرج منه جبية شعر ورداء شعر ؛ فصلى فيهما الليل كُلَّه , فإذا نودي بالصبح نزعهما .
وقالت فاطمة امرأة عمر بن عبد العزيز : أنها دخلت عليه فإذا هو في مُصَلّاه يده على خده سائلة دموعه : فقالت : يا أمير المؤمنين أشيء حدث ؟! قَالَ : يا فاطمة إني تقلَّدت أمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم , فتفكرت في الفقير الجائع والمريض الضَّائع , والعاري المجهود , والمظلوم المقهور , والغريب المأسور , والكبير , وذي العيال في أقطار الأرض , فعلمت أن ربي سيسألني عنهم , وأن خصمهم دونهم محمد صلى الله عليه وسلم , فخشيت ألا تثبت لي حجة عند خصومته ! فرحمت نفسي ؛ فبكيت .
وكان رحمه الله عفيف النَّفس , أجهد نفسه وضيَّق عليها ؛ حتى كان حاله كحال أي رجلٍ من عامة المسلمين .(/11)
عن أبي عثمان الثقفي قَالَ : كان لعمر بن عبد العزيز غلام يعمل على بغل له يأتيه بدرهم كُلَّ يومٍ , فجاءه يومًا بدرهم ونصف , فقال : ما بدالك ؟ فقال : نفقت السُّوق , قَالَ : لا ولكنك أتعبت البغل , أرحه ثلاثة أيام .
صلَّى عمر بن عبد العزيز بالنَّاسِ الجمعة ؛ ثم جلس وعليه قميص مرقوع الجيب من بين يديه ومن خلفه , فقال له رجل : يا أمير المؤمنين إِنَّ الله قد أعطاك ؛ فلو لبست , فقال : أفضل القصد عند الجدة , وأفضل العفو عند المقدرة .
وعن عمرو بن مهاجر قَالَ : اشْتَهَى عمر تفاحًا , فقال : لو أن عندنا شيئا من تفاح , فإنه طيب , فقام رجل من أهله فأهدى إليه تفاحًا , فلمّا جاء به الرَّسول , قَالَ : ما أطيبه وأطيب ريحه وأحسنه , ارفع يا غلام واقرأ على فلان السَّلام , وقل له : إن هديتك قد وقعت عندنا بحيث تحب , قَالَ عمرو بن مهاجر : فقلت له يا أمير المؤمنين : ابن عمك رجل من أهل بيتك , وقد بلغك أن النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يأكل الهدية , ولا يأكل الصدقة , قَالَ : إِنَّ الهدية كانت للنبي صلى الله عليه وسلم هدية , وهي لنا رِشْوَة .
وكان رحمه الله متواضعًا لم تغيره الخلافة , بل زادته حسنًا , ودينًا , وتواضعًا .
فعن رجاء بن حيوة قَالَ : سمرت ليلة عند عمر بن عبد العزيز فاعتل السِّراج , فذهبت أقوم أصلحه ؛ فأمرني عمر بالجلوس ثم قام فأصلحه ثم عاد فجلس , فقال : قمت وأنا عمر بن عبد العزيز , وجلست وأنا عمر بن عبد العزيز , ولؤمٌ بالرجل إن استخدم ضَيْفَه .
ومن حلمه وسعة صدرة ملاطفته لشاعر يقول الرفث .
فقد أتى فتيان إلى عمر بن عبد العزيز وقالوا : إن أبانا توفي وترك مالا عند عمنا حميد الأمجي , فأحضره عمر فلمّا دخل قَالَ أنت القائل :
شَرِبْتُ الْمُدَامَ فَلَمْ أُقْلِعْ
وَعُوتِبْتُ فِيهَا فَلَمْ iiأَسْمَعْ
حُمَيْدُ الَّذِي أَمَجٌ iiدَارُهُ
أَخُو الْخَمْرِ ذُو الشَّيْبَةِ الأَصْلَع
أَتَاهُ الْمَشِيبُ عَلَى iiشُرْبِهَا
وَكَانَ كَرِيمًا فَلَمْ iiيَنْزَع
قَالَ : نعم , قَالَ : ما أراني إلا سوف أَحدُّك , إنك أقررت بشرب الخمر , وأنك لم تنزع عنها , قَالَ : إيهات ! أين يُذهب بك ؟ ألم تسمع الله يقول : {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمْ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ (226) } [ سورة الشعراء : 224-226 ] فقال : أولى لك يا حميد ! ما أراك إلا قد أفلت , ويحك يا حميد كان أبوك رجلًا صالحا , وأنت رجل سوء , قَالَ : أصلحك الله وأينا يشبه أباه , كان أبوك رجل سوء , وأنت رجل صالح , قَالَ : إن هؤلاء زعموا أن أباهم توفي وترك مالا عندك , قَالَ : صدقوا وأحضره بختم أبيهم , وقال : أنفقت عليهم من مالي , وهذا مالهم , قَالَ : ما أحد أحق أن يكون هذا عنده منك , فقال : أيعود إلي وقد خرج مني ؟!.
وبكى عمر بن عبد العزيز يومًا , فبكت فاطمة , فبكى أهل الدّار ولا يدري هؤلاء ما أبكى هؤلاء , فلما تجلى عنهم العبر , قالت له فاطمة : بأبي أنت يا أمير المؤمنين ! مم بكيت ؟! قَالَ : ذكرت يا فاطمة مُنصرف القوم من بين يدي الله عز وجل , فريق في الجنة وفريق في السعير , قَالَ : ثم صرخ وغشي عليه .
قالت فاطمة امرأة عمر بن عبد العزيز : إنه قد يكون في النَّاس من هو أكثر صلاة وصيامًا من عمر بن عبد العزيز , وما رأيت أحدا أشد فرقا من ربه منه , كان إذا صلى العشاء قعد في مسجده ؛ ثم يرفع يديه فلم يزل يبكي حتى تغلبه عينه , ثم يتنبه فلا يزال يدعو رافعًا يديه يبكي حتى تغلبه عينه , يفعل ذلك ليله أجمع .
قَالَ الذَّهبي : قد كان هذا الرجل حسن الخلق والخلق , كامل العقل حسن السَّمت جيد السِّياسة , حريصًا على العدل بكل ممكن , وافر العلم فقيه النفس ظاهر الذكاء والفهم , أواهًا منيبًا قانتًا لله حنيفًا زاهدًا مع الخلافة , ناطقًا بالحق مع قِلِّة المعين وكثرة الأمراء الظَّلمة الَّذين ملُّوه , وكرهوا محاققته لهم , ونقصه أعطياتهم , وأخذه كثيرًا مما في أيديهم مما أخذوه بغير حق , فما زالوا به حتى سَقوه السُّم , فحصلت له الشَّهادة والسَّعادة , وعد عند أهل العلم من الخلفاء الرّاشدين , والعلماء العاملين .
أبو مسلم الخولاني :
سيد التابعين , وزاهد العصر , أسلم في أيامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ودخل المدينة في خلافة أبي بكر رضي الله عنه , كان عابدًا مجاهدًا , آمرًا بالمعروف ناهيًا عن المنكر .(/12)
عن عطية بن قيس : أن أناسًا من أهل دمشق أتوا أبا مُسلم الخولاني في منزله ؛ وكان غازيًا بأرض الرُّوم فوجدوه قد احتفر في فسطاطه حفرة , ووضع في الحفرة نطعًا وأفرغ ماءً فهو يتصلق فيه وهو صائم , فقال له النفر ما يحملك على الصِّيام وأنت مسافر , وقد رَخَّص الله تَعَالَى لك الفطر في السَّفر والغزو , فقال : لو حضر قتال أفطرت ؛ وتقويت للقتال , إن الخيل لا تجري الغايات وهي بُدْنى , إنما تجري وهي ضمرات , إن بين أيدينا أيامًا لها نعمل .
وكان رحمه الله يجتهد في العبادة , حتى كان يُكلف نفسه فوق ما تريد .
عن عثمان بن أبي العاتكة قَالَ : كان من أمر أبي مُسْلِم الخولاني أن عَلَّق سوطًا في مسجده , ويقول : أنا أولى بالسَّوط من الدواب , فإذا دخلته فترة مشق ساقه سوطًا أو سوطين , وكان يقول : لو رأيت الجنة عيانًا ما كان عندي مستزاد , ولو رأيت النار عيانًا ما كان عندي مستزاد .
وقد جاء رجلان إلى أبي مسلم فلم يجداه في منزله , فأتيا المسجد فوجداه يركع فانتظراه , فأحصى أحدهما أنه ركع ثلاث مائة ركعة .
وعن سليمان بن يزيد العدوى قَالَ : قَالَ أبو مسلم : يا أم مسلم سوي رحلك ؛ فإنه ليس على جهنم معبرة .
وقيل : ألقاه الأسود العنسي الكذاب في النار , فخرج منها ناجيا سالما رحمه الله .
عن شرحبيل الخولاني قَالَ : بينا الأسود العنسي باليمن فأرسل إلى أبي مسلم , فقال له : أتشهد أن محمدًا صلى الله عليه وسلم رسول الله ؟ قَالَ : نعم
قَالَ : فتشهد أني رسول الله ؟ قَالَ : ما أسمع !
قَالَ : فأمر بنار عظيمة فأُجِّجَت , وطرح فيها أبو مسلم , فلم تضره .
فقال له أهل مملكته : إن تركت هذا في بلدك أفسدها عليك ؛ فأمره بالرَّحيل فقدم المدينة , وقد قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم , واستخلف أبو بكر , فعقل راحلته على باب المسجد , وقام إلى سارية من سواري المسجد يصلي إليها , فبصره به عمر ابن الخطاب رضي الله تَعَالَى عنه , فأتاه فقال : من أين الرجل ؟ قَالَ : مِنْ اليمن , قَالَ : فما فعل عدو الله بصاحبنا الذي حرَّقه بالنّار فلم تضره ؟ قَالَ : ذاك عبد الله بن ثوب , قَالَ : نَشدتك بالله أنت هو ؟ قَالَ : اللَّهم نعم , قَالَ : فقبل ما بين عينيه , ثم جاء به حتى أجلسه بينه وبين أبي بكر , وقال : الحمد لله الذي لم يمتني من الدنيا حتى أراني في أمة محمد صلى الله عليه وسلم من فعل به كما فعل بإبراهيم خليل الرحمن عليه السلام .
قَالَ الحوطي : قَالَ إِسْمَاعيل : فأنا أدركت قومًا من المدّادين الَّذين مدوا من اليمن , يقولون لقوم من عنس : صاحبكم الذي حرَّق صاحبنا بالنّار فلم تضره .
وربما وصل به الأمر إلى معارضة الخليفة نفسه , فيحلم عليه , ويصبر ؛ لعلمه أنه يفعل ذلك حسبةً لله .
عن أبي مسلم الخولاني , أن معاوية بن أبي سفيان خطب النَّاس , وقد حبس العطاء شهرين أو ثلاثة , فقال له أبو مسلم : يا معاوية إن هذا المال ليس بمالك ولا مال أبيك ولا مال أمك , فأشار معاوية إلى النَّاس أن امكثوا , ونزل فاغتسل ثم رجع , فقال : أيها النَّاس إن أبا مسلم ذكر أن هذا المال ليس بمالي ولا بمال أبي ولا أمي وصدق أبو مسلم , إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : الغضب من الشَّيطان , والشَّيطان من النار , والماء يطفىء النار , فإذا غضب أحدكم فليغتسل , أغدوا على عطاياكم على بركة الله عز وجل .
صلة ابن أشيم :
كان من العبّاد , والمجاهدين المحتسبين , زوج العالمة العابدة , معاذة العدوية .
قالت معاذة العدوية : ما كان صلة يجيء من مسجد بيته إلى فراشه إلا حبوًا , يقوم حتى يَفْتر في الصَّلاة .
وعن حماد بن زيد العبدي , أن أباه أخبره , قَالَ : خَرَجْنا في غزوةِ إلى كابل , وفي الجيش صلة بن الأشيم , قَالَ : فترك النَّاس عند العتمة ثم اضطجع , فالتمس غفلة النَّاس , حتى إذا قلت هدأت العيون , وثب فدخل غِيضة قريبًا منه , ودخلت في إثره , فتوضأ ثم قام يصلي فافتتح , قَالَ : وجاء أسدٌ حتى دنا منه , فصعدت في شجرة , قَالَ : أفتراه التفت إليه أو عذبه حتى سجد , فقلت : الآن يفترسه , فلا شيء ! فجلس ثم سَلَّم , فقال : أيها السَّبع , اطلب الرزق من مكان آخر ؛ فَولَّى وإن له زئير , أقول : تصدع الجبال منه , فما زال كذلك يصلي حتى إذا كان عند الصبح , جلس فحمد الله بمحامد لم أسمع بمثلها إلا ما شاء الله , ثم قَالَ : اللهم إني أسألك أن تجرني من النار , أو مثلي يجترئ أن يسألك الجنة , ثم رجع فأصبح , كأنه بات على الحشايا , وأصبحت وبي من الفترة شيء الله به عليم .
وقد ضرب أعظم المثل في الصبر , والاحتساب رحمه الله .
عن ثابت البناني قَالَ : إِنَّ صِلَة بن أشيم كان في مغزى له ومعه ابن له , فقال : أي بني تقدم فقاتل حتى أحتسبك , فحمل فقاتل حتى قتل , فاجتمعت النِّساء عند امرأته معاذة العدوية , فقالت : مرحبًا إن كنتن جئتن لتهنئنني ! فمرحبًا بكن , وإن كنتن جئتن لغير ذلك فارجعن .(/13)
الربيع بن خُثَيْم :
المخبت الورع , المعترف بذنبه , المفتقر لربه , أحد العبّاد الزهاد .
وكان الربيع بن خُثَيْم : إذا دخل على عبد الله بن مسعود , لم يكن عليه إذن لأحد حتى يفرغ كل واحد من صاحبه , فقال له عبد الله : يا أبا يزيد لو رآك رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحبك , وما رأيتك إلا ذكرت المخبتين .
وكان رحمه الله عظيم الصبر , سريع الاحتساب .
خرج الربيع بن خُثَيْم يوما فلما انتهى إلى مسجد قومه , قالوا له : يا ربيع لو قعدت فحدثتنا اليوم , قَالَ : فَقَعَد , فجاء حجر فشجه , فقال : فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف .
وكان الرَّبيع إذا قيل له : كيف أصبحت يا أبا يزيد ؟ يقول : أصبحنا ضُعفاء مذنبين , نأكل أرزاقنا , وننتظر آجالنا .
وكان رحمه الله عظيم التأثر , سريع الاعتبار .
قَالَ إبراهيم التيمي : حدثني من صحب ربيع بن خُثَيْم عشرين سنة , أنه ما تكلم بكلام منذ عشرين سنة , إلا بكلمة تصعد , وما سمع منه كلمة عتاب .
وكان الرَّبيع بعدما سَقَطَ شِقه ؛ يهادي بين رجلين إلى مسجد قومه , وكان أصحاب عبد الله يقولون : يا أبا يزيد , لقد رخص الله لك , لو صليت في بيتك ؟! فيقول : إنه كما تقولون , ولكني سمعته ينادي حي على الفلاح , فمن سمع منكم ينادي حي على الفلاح ؛ فليجبه , ولو زحفًا , ولو حبوا.
وكانت أم الربيع بن خُثَيْم تنادي ابنها الربيع , فتقول : يا بني ! يا ربيع ! ألا تنام ؟! فيقول : يا أمّاه من جن عليه الليل وهو يخاف البيات ؛ حق له أن لا ينام , فلمّا بلغ ورأت ما يلقى من البكاء , والسَّهر نادته , فقالت : يا بني لعلك قتلت قتيلًا ؟ فقال : نعم يا والدة , قد قتلت قتيلًا , قالت : ومن هذا القتيل يا بني حتى يُتحمل على أهله فيعفون ؟ والله لو يعلمون ما تلقى من البكاء , والسَّهر بعد ؛ لقد رحموك , فيقول : يا والده ! هي نفسي .
وقالت ابنة الربيع للربيع : يا أبت لم لا تنام والناس ينامون ؟ فقال : إن البيات في النار ؛ لا يدع أباك أن ينام .
قيل للربيع ابن خُثَيْم : ألا ندعوا لك طبيبًا ؟! قَالَ : أَنْظِروني فتفكر ثم قَالَ : " وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا " قَالَ : فذكر حرصهم على الدُّنيا ورغبتهم , وما كانوا فيها , وقال : قد كانت فيهم أطباء , وكان فيهم مرضى , فلا أرى المداوي بقى , ولا أرى المداوى , وأهلك النّاعت والمنعوت , لا حاجة لي فيه .
عن أبي وائل قَالَ : خرجنا مع عبد الله بن مسعود , ومعنا الرَّبيع بن خُثَيْم , فمررنا على حداد , فقام عبد الله ينظر إلى حديدة في النَّار , فنظر ربيع إليها فتمايل ليسقط , فمضى عبد الله حتى أتينا على أتون على شاطئ الفُرَات ؛ فلمّا رأى عبد الله والنار تلتهب في جوفه قرأ هذه الآية {إِذَا رَأَتْهُم من مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (12) وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13) } [ سورة الفرقان : 12-13 ] قَالَ : فصعق الرَّبيع ؛ فاحتملناه فجئنا به إلى أهله , قَالَ : ثم رَابطه إلى المغرب فلم يفق , ثم إنه أفاق ؛ فرجع عبد الله إلى أهله .
وعن عبد الرحمن بن عجلان قَالَ : بِتُّ عند الرَّبيع بن خُثَيْم ذات ليلة , فقام يُصَلِّي فمر بهذه الآية : {أَمْ حَسِبَ الَّذين اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21) }[ سورة الجاثية : 21 ]
فمكث ليلته حتى أصبح , ما جاوز هذه الآية إلى غيرها ببكاءٍ شديد .
وكان الرَّبيع يقول : أكثروا ذكر هذا الموت الذي لم تذوقوا قبله مثله , ولما احتضر الربيع ؛ بكت ابنته , فقال : يا بنية , لم تبكين ؟ قولي : يا بشراي أتى الخير .
عطاء بن أبي رباح :
الإمام العلم , فقيه الحرم , مفترش الجنبين لا يعبأ بالألم , الذي دَلَّ عليه ابن عمر لما نزل البيت مستلم .
عن سعيد بن أبي الحسن البصري قَالَ : قَدِمَ ابن عمر مكة , فسألوه . فقال : تجمعون لي المسائل ؛ وفيكم عطاء بن أبي رباح .
قَالَ ابن جريج : كان المسجد فِراش عطاء عشرين سنة , وكان من أحسن النَّاس صَلاة .(/14)
قَالَ الأصمعي : دخل عطاء بن أبي رباح على عبد الملك , وهو جالس على السَّرير , وحوله الأشراف , وذلك بمكة في وقت حجه في خلافته , فلما بصر به عبد الملك , قام إليه وسلم عليه , وأجلسه معه على السَّرير , وقعد بين يديه , وقال : يا أبا محمد ما حاجتك ؟ قَالَ : يا أمير المؤمنين , اتق الله في حرم الله , وحرم رسوله , فتعاهده بالعمارة , واتق الله في أولاد المهاجرين والأنصار , فإنك بهم جلست هذا المجلس , واتق الله في أهل الثغور , فإنهم حصن المسلمين , وتفقد أمور المسلمين , فإنك وحدك المسئول عنهم , واتق الله فيمن على بابك فلا تغفل عنهم , ولا تغلق دونهم بابك , فقال له : أفعل , ثم نهض وقام , فقبض عليه عبد الملك , وقال : يا أبا محمد , إنما سألتنا حوائج غيرك , وقد قضيناها , فما حاجتك ؟ قَالَ : ما لي إلى مخلوق حاجة , ثم خرج , فقال عبد الملك : هذا وأبيك الشَّرَف , هذا وأبيك السُّؤدد .
وعن عَطِاءٍ قَالَ : لو ائتمنت عَلَى بَيْتِ مَالٍ لكنت أمينًا , ولا آمن نَفْسِي على أَمَةٍ شَوْهاء .
قُلت -أي الذَّهبي : صدق رحمه الله ففي الحديث ؛ "أَلَا لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ فَإِنَّ ثَالِثَهُمَا الشَّيْطَانُ .
وعن ابن جريج قَالَ : لَزِمت عطاء ثماني عشرة سنة , وكان بعد ما كبر وضعف , يقوم إلى الصَّلاة فيقرأ مئتي آية من البقرة , وهو قائم لا يزول منه شيء ولا يتحرك .
قَالَ عمر بن ذر : ما رأيت مثل عطاء بن أبي رباح , وما رأيت عليه قَمِيصًا قط , ولا رأيت عليه ثوبًا يساوي خمسة دراهم .
الأسود بن يزيد :
كان مجتهدًا في العبادة , يصوم حتى يخضر جسده ويصفر , وكان علقمة بن قيس يقول له :لم تعذِّب هذا الجسد ؟! فيقول : راحة هذا الجسد أريد , فلمّا احتضر بكى , فقيل له : ما هذا الجزع ؟ قَالَ : مَالِي لا أجزع ؟! ومن أحق بذلك مني ؟! والله لو أتيت بالمغفرة من الله عز وجل ؛ لهمني الحياء منه مما قد صنعته , إن الرجل ليكون بينه وبين الرَّجل الذنب الصغير , فيعفو عنه ؛ فلا يزال مستحيًا منه . ولقد حجَّ الأسود ثمانين حجة .
طاوس بن كيسان :
الفقيه إمام أهل اليمن النُّجباء , طاوس الزُّهاد والعلماء .
عن داود بن إبراهيم , أن الأسد حبس النَّاس ليلة في طريق الحج , فدق النَّاس بعضهم بعضًا , فلمّا كان في السّحر ذهب عنهم ؛ فنزل النَّاس يمينًا وشمالا , وألقى النَّاسُ أنفسهم فناموا , وقام طاووس يُصلِّي , فقال رجل لطاووس : ألا تنام فإنك نصبت الليلة ؟ قَالَ طَاووس : وهَلْ يَنَامُ السَّحر .
وكان لطاووس طريقان إلى المسجد , طريق في السُّوق , وطريق آخر , فكان يأخذ في هذا يومًا وفي هذا يومًا , فإذا مرَّ في طريق السُّوق فرأى تلك الرؤس المشوية ؛ لم ينعس تلك الليلة .
وكان طاوس يجلس في بيته , فقيل له في ذلك فقال : حيف الأئمة وفساد النَّاس.
قَالَ مجاهد لطاوس : يا أبا عبد الرحمن ! رأيتك تصلِّي في الكعبة , والنبي عليه السلام على بابها , يقول لك : اكشف قناعك , وبين قراءتك , قَالَ : اسكت لا يسمعن هذا منك أحد , حتى تخيل اليه أنه انبسط من الحديث .
أتى طاوس رجلا في السحر , فقالوا : هو نائم , قَالَ : ما كنت أرى أن أحدا ينام في السحر .
قَالَ رجل لطاوس : ادع الله لنا , قَالَ : ما أجد في قلبي خشية فأدعو لك .
توفي طاوس بالمزدلفة أو بمنى , فلما حمل أخذ عبد الله بن الحسن بن علي بن أبي طالب بقائمة السَّرير , فما زايله حتى بلغ القبر .
محمد بن واسع :
الإمام العامل , والخاضع الخامل , أدمى الحزن قلبه , ما قعد ولا قام مقام سوء حتى لقي ربه .
قَالَ سُليمان التيمي : ما أحد أحب أن ألقى الله بمثل صحيفته , مثل محمد بن واسع .
وعن ابن واسع : إن الرَّجل ليبكي عشرين سنة , وامرأته معه لا تعلم .
وقال جعفر بن سليمان : كنت إذا وجدت من قلبي قسوة ؛ غدوت فنظرت إلى وجه محمد بن واسع , كان كأنه ثكلى .
قَالَ حماد بن زيد : قَالَ رجل لمحمد بن واسع : أوصني , قَالَ : أُوصِيك أن تكون ملكًا في الدنيا والآخرة , قَالَ : كيف ؟ قَالَ : ازهد في الدُّنيا .
وعنه قَالَ : طُوبى لمن وجد عشاء ولم يجد غداء , ووجد غداء ولم يجد عشاء , والله عنه راضٍ .
قَالَ ابن شوذب : قَسَم أمير البصرة على قرائها , فبعث إلى مالك بن دينار ؛ فأخذ , فقال له ابن واسع : قبلت جوائزهم ؟ قَالَ : سَلْ جُلَسَائي , قالوا : يا أبا بكر اشتر بها رقيقًا فأعتقهم , قَالَ : أنشدك الله أقلبك السّاعة على ما كان عليه قبل أن يجيزك ؟! قَالَ : اللهم لا , قَالَ : أَيُّ شيء دخل عليك ؟ فقال مالك لجلسائه : إنما مالك حمار , إنما يعبد الله محمد بن واسع .
قَالَ ابن عيينة : قَالَ ابن واسع : لو كان للذنوب ريح ما جلس إليَّ أحد .(/15)
قَالَ الاصمعي : لما صاف قتيبة بن مسلم للترك , وهاله أمرهم , سأل عن محمد بن واسع , فقيل : هو ذاك في الميمنة , جامح على قوسه , يُبصبص بأصبعه نحو السَّماء , قَالَ : تلك الإصبع أحب إلي من مائة ألف سيفٍ شهير , وشابٍ طرير .
قَالَ ابن واسع وهو في الموت : يا إخوتاه تدرون أين يُذهب بي ؟ والله إلى النّار , أو يعفو الله عني .
وقال : يكفي من الدُّعاء مع الورع , يسير العمل .
وعن محمد بن واسع , وقيل له : كيف أصبحت ؟ قَالَ : قَرِيبًا أجلي , بعيدًا أملي , سيئًا عملي .
وقيل اشتكى رجل من ولد محمد بن واسع إليه , فقال لولده : تستطيل على النَّاس , وأمك اشتريتها بأربع مائة درهم , وأبوك فلا كثر الله في المسلمين مثله , وقيل : إنه قَالَ لِرَجُلٍ : هَلْ أَبْكَاكَ قَط سَابِق عِلْم الله فِيك ؟!
وعن أبي الطيب موسى بن يسار , قَالَ : صحبت محمد بن واسع إلى مكة , فكان يصلي الليل أجمعه , يصلي في المحمل جالسا , ويومئ
هَرِم بن حيان :
كان دائم الحزن , سريع الدَّمع , عظيم الخوف من الله سبحانه وتعالى .
بات هرم بن حيان العبدى عند حممة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم , قَالَ : فبات حممة ليلته يبكي كلها حتى أصبح , فلما أصبح , قَالَ لَهُ هرم : يا حممة ! ما أبكاك ؟ قَالَ : ذكرت ليلة صبيحتها تبعثر القبور , فتخرج من فيها , وتناثر نجوم السَّماء ؛ فأبكاني ذلك , وكانا يصطحبان أحيانًا بالنَّهار , فيأتيان سوق الريحان , فيسألان الله تَعَالَى الجنة , ويَدْعُوان , ثم يأتيان الحدّادين , فيتعوذان من النار , ثم يفترقان إلى منازلهما .
كان هرم بن حيان يخرج في بعض الليل , وينادي بأعلى صوته عجبت من الجنة , كيف ينام طالبها ؟ وعجبت من النار , كيف ينام هاربها ؟ ثم قرأ : {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ } [سورة الأعراف : 97]
عن مالك بن دينار , قَالَ : اسْتُعْمِل هرم بن حيان , فظن أن قومه سيأتونه , فأمر بنار فأوقدت بينه وبين من يأتيه من القوم , فجاءه قومه يُسَلِّمون عليه من بعيد , فقال : مرحبًا بقومي , ادنوا , قالوا : والله ما نستطيع أن ندنو منك , لقد حالت النار بيننا وبينك , قَالَ : وأنتم تريدون أن تَلْقَوْني في نار أعظم منها ؛ في نار جهنم , قَالَ : فَرَجَعُوا .
ثابت البناني :
المتعبد النّاحل , المتهجد الذّابل , قد أحب الصَّلاة حتى تمنى الصَّلاة بعد انقطاع العمل .
كان ثابت البناني يقول : اللهم إن كنت أعطيت أحدًا من خلقك أن يُصَلِّي لك في قبره فأعطنيه .
قَالَ الذَّهبي : فيقال : إن هذه الدعوة استجيبت له , وإنه رُئِي بعد موته يصلي في قبره - فيما قيل .
وكان يقول ثابت رحمه الله : ما أكثر أحد ذكر الموت , إلا رُئي ذلك في عمله .
وقال ثابت رحمه الله : كابدت الصَّلاة عشرين سنة , وتنعمت بها عشرين سنة .
قَالَ شعبة : كان ثابت البناني يقرأ القرآن في كُلِّ يوم وليلة , ويصوم الدَّهر .
وقال حماد بن زيد : رأيت ثابتًا يبكي حتى تختلف أضلاعه .
وقال جعفر بن سُليمان : بكى ثابت حتى كادت عينه تذهب , فنهاه الكحّال عن البكاء , فقال : فما خيرهما إذا لم يبكيا ؟! وأبى أن يعالج .
وقال حماد بن سلمة : قرأ ثابت : {أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا} [سورة الكهف: 37 ] وهو يصلي صلاة الليل ينتحب ويُرَدِّدها .
عبد الله بن عون :
الإمام العلم , الحافظ لِلِسَانه , الضابط لأركانه , كان للقرآن تاليًا , ولأعراض المسلمين عافيا .
عن خارجة , قَالَ : صَحِبْتُ ابن عون أربعًا وعشرين سنة , ما سمعت منه كلمة أظن عليه فيها جُنَاح .
وعن سلام بن أبي مطيع , قَالَ : كَانَ ابْنُ عَوْن أَمْلَكُهُم لِلِسَانِه .
عن معاذ بن معاذ -واحد من أصحاب يونس بن عبيد -أنه قَالَ : إِنِّي لأعرف رجلًا منذ عشرين سنة , يتمنى أن يَسْلَمَ له يوم من أيام ابن عون , فما يقدر عليه .
وقال ابن المبارك : ما رأيت مُصَلِّيا مثل ابن عون .
وعن ابن عون , أن أمه نادته فأجابها , فعلا صوته صوتها ؛ فأعتق رقبتين .
قَالَ بكار السيريني : صحبت ابن عون دهرًا , فما سمعته حالفًا على يمين , برةً ولا فاجرة .
وكان ابن عون إذا صلى الغداة , يمكث مستقبل القبلة في مجلسه , يذكر الله , فإذا طلعت الشمس صلَّى , ثم أقبل على أصحابه .
قَالَ قُرَّة بن خالد : كنا نعجب من ورع محمد بن سيرين , فأنساناه ابن عون .
قَالَ بكار بن محمد : كان ابن عون يصوم يومًا , ويفطر يومًا .
قَالَ معاذ بن معاذ : ما رأيت رجلًا أعظم رجاء لأهل الإسلام من ابن عون , لقد ذُكِرَ عنده الحجّاج وأنا شاهد , فقيل : يزعمون أنك تستغفر له ؟ فقال : مالي لا أستغفر للحجّاج من بين النَّاس ؟ وما بيني وبينه ؟ وما كنت أبالي أن استغفر له السّاعة .(/16)
قَالَ بكار بن محمد : كان ابن عون إن وصل إنسانًا بشيء ؛ وصله سرًا , وإن صنع شيئًا صنعه سرًّا , يكره أن يطَّلع عليه أحد .
عامر بن عبد قيس :
العابد العالم , الخائف الوجل , أضَرَّ ببدنه ليتنعم به في الآخرة .
قَالَ عَامِرُ بن عبد قيس : لأجتهدن فإن نجوت فبرحمة الله , وإن دخلت النّار فلبعد جَهْدِي .
وكان يقول : ما أبكي على دنياكم رغبة فيها , ولكن أبكي على ظمأ الهواجر , وقيام ليل الشِّتاء , وقيل له : إن الجنة تدرك بدون ما تصنع ! وإن النار تتقى بدون ما تصنع ! فيقول : لا حتى لا ألوم نفسي , ومرض فبكى , فقيل له : ما يبكيك وقد كنت وقد كنت .. فيقول : مالي لا أبكي ! ومن أحق بالبكاء مني ! والله ما أبكي حرصًا على الدنيا , ولا جزعًا من الموت , ولكن لبعد سفري , وقلة زادي , وإني أمسيت في صعودٍ وهبوطٍ , جنةٍ أو نار , فلا أدري إلى أيهما أصير .
وعن الحسن أن عامرًا كان يقول : من أُقرئ ؟ فيأتيه ناس فيقرئهم القرآن , ثم يقوم فيصلِّي إلى الظُّهر , ثم يُصَلِّي إلى العصر , ثم يُقرئ النَّاس إلى المغرب , ثم يصلي ما بين العشاءين , ثم ينصرف إلى منزله , فيأكل رغيفًا وينام نومةً خفيفة , ثم يقوم لصلاته , ثم يتسحر رغيفًا ويخرج .
وكان عامر بن عبد قيس لا يزال يُصَلِّي من طلوع الشمس إلى العصر , فينصرف وقد انفتحت ساقاه , فيقول : يا أمارة بالسُّوء إنما خلقت للعبادة , وهبط واديًا به عابد حبشي فانفرد يصلي في ناحية ؛ والحبشي في ناحية أربعين يومًا لا يجتمعان إلا في فريضة.
ومَرَّ عامر بن عبد قيس في الرَّحبة , وإذا برجل يُظْلَم , فألقى رداءه , وقال : لا أرى ذمة الله تخفر وأنا حي ؛ فاستنقذه , ويُرْوى أن سبب إبعاده إلى الشّام كونه أنكر وخلَّص هذا الذِّمي , ولما سُير عامر بن عبد الله ؛ شيعه إخوانه , وكان بظهر المربد , فقال : إني داعٍ فأمنوا : اللهم من وشي بي , وكَذَبَ عَلَي وأخرجني من مصري , وفرق بيني وبين إخواني , فأكثر ماله , وأَصِحَّ جسمه , وأطل عمره .
قَالَ قتادة : لما احتضر عامر بكى , فقيل : ما يُبكيك , قَالَ : ما أَبْكِي جزعًا من الموت , ولا حرصًا على الدنيا , ولكن أبكي على ظمأ الهواجر وقيام الليل .
منصور بن المعتمر :
حليف الصيام والقيام , من أحسن النَّاس صلاة , و أسردهم صياما .
عن الثوري قَالَ : لو رأيت منصورًا يصلي لقلت يموت الساعة .
وكان منصور من العُبّاد صام ستين سنة وقامها , وكان جيرانه يحسبونه بالليل في الصيف خشبةً قائمة , فلما مات كانوا يقولون الخشبة ما فعلت !
قالت ابنة لجار منصور بن المعتمر لأبيها : يا أبت ! أين الخشبة التي كانت في سطح منصور قائمة ؟! قَالَ : يا بنية ! ذاك منصور كان يقوم بالليل .
وكان منصور يصلي في سطحه فلمّا مات ، قَالَ غلامٌ لأمه : يا أمه الجذع الذي كان في سطح آل فلان ليس أراه ، قالت : يا بني ليس ذاك جذعًا ؛ ذاك منصور قد مات .
وصام منصور وقام , وكان يأكل الطَّعام ؛ ويُرى الطَّعام في مجراه .
وعن زائدة أن منصور بن المعتمر : صام ستين سنة , يقوم ليلها , ويصوم نهارها , وكان يبكي ، فتقول له أمه : يا بني قتلت قتيلا ! فيقول : أنا أعلم بما صنعت بنفسي , فإذا كان الصُّبح كحل عينيه , ودهن رأسه , وفرق شفتيه , وخرج إلى النَّاس .
وعن سفيان وذكر منصورًا بن المعتمر , فقال : قد كان عمش من البكاء .
عن أبي بكر بن عياش قَالَ : ربما كنت مع منصور في منزله جالسًا فتصيح به أمه وكانت فظة غليظة ، فتقول : يا منصور ! يريدك ابن هبيرة على القضاء فتأبي عليه ! وهو واضع لحيته على صدره ؛ ما يرفع طرفه إليها , وكان يقول للأم ثلاثة أرباع البر .
وكانت أم منصور تقول له : يا بني إن لعينك عليك حقًا , ولجسمك عليك حقًا ، فكان يقول لها منصور : دعي عنك منصورًا , فإن بين النفختين نومًا طويلا .
سفيان الثوري :
لقد ضرب سفيان المثل في العبادة , حتى ترأس على أهل زمانه - رحمه الله . فلقد كان عابدًا متنسكًا ، قائمًا بأمر الله ، لا يعيقه عائق , ولا يخشى في الله لومة لائم .
قَالَ سُفْيَان بن عيينة : ما رأيت رجلًا أعلم بالحلال والحرام من سفيان الثوري .
وعن أبي عاصم النبيل قَالَ : سمعت سفيان يقول : كان الرَّجل إذا أراد أن يطلب العلم ؛ تعبد قبل ذلك عشرين سنة .
قَالَ مؤمل بن إسماعيل : قَدِمَ سفيان مكة فكان يُصلِّي الغداة ويجلس يذكر الله حتى ترتفع الشمس , ثم يطوف سبعة أسابع - أشواط - يُصلي بعد سبوع ركعتين يطولهما , ثم يصلي إلى نصف النَّهار , ثم ينصرف إلى البيت , فيأخذ المصحف فيقرأ , فربما نام كذلك , ثم يخرج لنداء الظهر , ثم يتطوع إلى العصر , فإذا صلى العصر أتاه أصحاب الحديث فاشتغل معهم إلى المغرب , فيصلي ثم ينتقل إلى العشاء ؛ فإذا صلَّى فربما يقرأ ثم ينام .(/17)
وعن يوسف بن أسباط , قَالَ : قَالَ لي سُفيان بعد العشاء : ناولني المطهرة أتوضأ , فناولته فأخذها بيمينه , ووضع يساره على خدِّه , فبقي مفكرًا ونمت , ثم قمت وقت الفجر , فإذا المطهرة في يده كما هي , فقلت : هذا الفجر قد طلع , فقال : لم أزل منذ ناولتني المطهرة أتفكر في الآخرة حتى السّاعة .
وقال عبدالرزاق : دعا الثوري بطعامٍ ولحم , فأكله ثم دعا بتمر وزبد فأكله , ثم قام يصلي , وقال : أحسن إلى الزِّنجي وَكُدَّه .
وقال عبد الرَّزاق أيضًا : لما قدم سفيان علينا , طبخت له قدر سَكْبَاج فأكل , ثم أتيته بزبيب الطائف فأكل , ثم قَالَ : يا عبد الرَّزاق أَعْلِف الحمار وَكُدَّه , ثم قام يصلي .
وكان قد تغدَّى , وأتى برطب فأكل , ثم قام إلى الصَّلاة فصلَّى ما بين الظهر والعصر , ثم قَالَ : يقال : إذا زِدت في قَضِيم الحمار , فزِد في عَمَلِه .
وعن أبي خالد الأحمر قَالَ : أكل سفيان ليلةً فشبع فقال : إن الحمار إذا زيد في عَلَفِه زيد في عمله , فقام حتى أصبح .
عبد الله بن المبارك :
الإمام السَّخي الجواد , أليف القرآن والحج والجهاد .
قَالَ إسماعيل بن عياش : ما على وجه الأرض مثل عبد الله بن المبارك , ولا اعلم أن الله خلق خَصْلَةً من خصال الخير إلا وقد جعلها في عبد الله بن المبارك , ولقد حدثني أصحابي أنهم صحبوه من مصر إلى مكة فكان يُطعمهم الخبيص , وهو الدهر صائم .
وكان عابدًا زاهدًا ورعًا , يُخْفِي ذلك ما استطاع .
قَالَ محمد بن الوزير -وصي ابن المبارك - : كنت مع عبد الله في المحمل فانتهينا إلى موضعٍ بالليل وكان ثم خوف ، قَالَ : فنزل ابن المبارك , وركب دابته حتى جاوزنا الموضع فانتهينا إلى نهر , فنزل عن دابته وأخذت أنا مقودته واضطجعت , فجعل يتوضأ ويصلي , حتى طلع الفجر ؛ وأنا أنظر إليه , فلما طلع الفجر ناداني ، قَالَ : قُمْ فتوضأ ، قَالَ : قلت : أنا على وضوء , فركبه الحزن حيث علمت أنا بقيامه , فلم يُكلمني حتى انتصف النهار , وبلغت المنزل معه .
وقال الحسن بن عرفة : قَالَ لِي ابن المبارك : استعرت قلمًا بأرض الشّام فذهبت على أن أرده إلى صاحبه , فلمّا قدمت مرو نظرت فإذا هو معي , فرجعت إلى الشّام حتى رددته على صاحبه .
لقد ملك ابن المبارك القلوب بدينه وسخائه حتى فاقت شهرته الرَّشيد .
قدم أمير المؤمنين الرَّشيد الرقة , فانجفل النَّاس خلف ابن المبارك , وتقطعت النِّعال , وارتفعت الغبرة , فأشرفت أم ولدٍ لأمير المؤمنين من برج من قصر الخشب ، فقالت : من هذا ؟ قالوا : عالم من أهل خراسان قَدِم ، قالت : هذا والله الملك ؛ لا ملك هارون الذي لا يجمع النَّاس إلا بشرطٍ وأعوان .
حسان بن أبي سنان :
حافظ الطرف واللسان , ثابت القلب و الجنان , من رآه خاله أبدًا مريضًا , خفي العبادة دائم الطّاعة .
قالت امرأة حسّان بن أبي سنان : كان يجيئني فيدخل معي في فراشي ثم يخادعني كما تخادع المرأة صبيها , فإذا عَلِم أني قد نمت سَلَّ نفسه فخرج , ثم يقوم فيصلي ، قالت : فقلت له : يا أبا عبد الله ! كم تُعذب نفسك ! ارفق بنفسك ، قَالَ : اسكتي ! ويحك , يُوشِكُ أن أرقد رقدة لا أقوم منها زمانًا .
وخرج حسّان يوم العيد , فلمّا رجع قالت له امرأته : كم من امرأة حسنة نظرت إليها اليوم ورأيتها , فلمّا أكثرت , قَالَ : ويحك ! ما نظرت إلا في إبهامي منذ خرجت من عندك حتى رجعت إليك .
قيل له : في مرضه الذي مات فيه كيف تجدك ؟! قَالَ : بخيرٍ إن نجوت من النار ، فقيل : له فما تشتهي ؟ قَالَ : ليلة بعيدة ما بين الطرفين ؛ أُحيى ما بين طرفيها .
الحسن بن صالح حي :
الفقيه العابد , والعالم الزاهد , محيي الليل بالقرآن طارت بسيرته الرُّكبان .
فعن أبي سليمان الدّاراني قَالَ : ما رأيت أحدًا الخوف والخشوع أظهر على وجهه من الحسن بن حي , قام ليلة حتى أصبح ب {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} [سورة النبأ : 1 ] يُردد آية فغشي عليه ؛ ثم عاد إليها فغشي عليه , فلم يختمها حتى طلع الفجر .
وكان لهم - يعني لآل الحسن بن صالح بن حي -خادم يخدمهم , فاحتاجوا إلى بيعها فباعوها , فلما كان في أول الليل ذهبت وألحت على مولاها تقيمه , وتقول : ذهب الليل ! مرة بعد مرة , حتى أضجرته فصاح بها , قالت : فلمّا أصبحت ذهبت إلى عند الحسن , فقالت : يا سبحان الله ! ما كان يجب عليكم فيما خدمتكم أن تبيعوني من مسلم ! فقال الحسن : سبحان الله ! وما له ؟ قَالَت : انتظرت ليقوم ليتهجد فلم يفعل , فألححت عليه فزبرني وشتمني , قَالَ : فَصَاحَ يا علي ! وقال : ما تعجب من هذه ! اذهب فتسلف ثمنها من بعض إخواننا وأعتقها .
قَالَ وكيع بن الجراح : كان علي والحسن ابنا صالح بن حي وأمهم قد جزَّؤوا الليل ثلاثة أجزاء , فكان عليُّ يقوم الثلث , ثم ينام , ويقوم الحسن الثلث , ثم ينام , وتقوم أمهما الثلث , فماتت أمهما , فجزءا الليل بينهما , فكانا يقومان به حتى الصّباح , ثم مات علي , فقام الحسن به كله .(/18)
أبو سليمان الداراني :
كان مداومًا على العبادة , ملازمًا للطاعة , شغله هم الآخرة عن كُلِّ هم .
عن أبي سليمان الدَّراني قَالَ : إنما هانوا عليه فعصوه , ولو كرموا عليه لمنعهم منها .
وقال : إذا وصلوا إليه لم يرجعوا عنه أبدًا , إنما رجع من رجع من الطَّريق .
وعن أبي سليمان الدَّراني يقول : بينا أنا ساجد إذ ذهب بي النَّوم , فإذا أنا بها يعني الحوراء قد ركضتني برجلها ، فقالت : حبيبي ترقد عيناك والملك يقظان ينظر إلى المتهجدين وتهجدهم , بؤسى لعينٍ آثرت لذَّة نومة على لذة مناجاة العزيز , قم فقد دنا الفراغ , ولقي المحبون بعضهم ببعض فما هذا الرُّقاد , حبيبي وقرة عيني أترقد عيناك وأنا أُرَبّى لك في الخدور منذ كذا وكذا , فوثبت فزعًا , وقد عرقت استحياءً من توبيخها إياي , وإن حلاوة منطقها لفي سمعي وقلبي .
[من كتاب العبادة واجتهاد السلف فيها للشيخ](/19)
لسان حال الخونة والمارقين ...
لماذا أنت محتار في شأنهم أيها المسلم الحائر؟
لسان حالهم يدلك عليهم..
لسان حالهم يعرفك بهم.. تعرفهم بسيماهم.. وتعرفهم في لحن القول.
بل تعرفهم بأقوالهم الواضحة وأفعالهم الفاضحة.. ومع ذلك لن يقولوا لك صراحة أنهم منافقون أو خونة أو مارقون.
لسان حالهم يتوجه إلى بوش.. إلى فرعون العصر الذي قال لهم بلسان حاله: ( هل لكم من إله غيري ؟.. لا أحد يضركم غيري, ولا أحد ينفعكم مثلي... أنا الغني والجميع فقراء إلي ).
ردوا عليه قائلين ولو بلسان حالهم:
( لا اله إلا أنت .. أنت النافع وأنت الضار، أنت المدمر وأنت المهلك وأنت المحيي وأنت المميت، أنت القابض وأنت الباسط.. من ينفع غيرك ومن يضر سواك؟
أنت ربنا .. لا ملجأ ولا منجا لنا منك إلا إليك ... نرجو رحمتك ونخشى عذابك إن عذابك للعرب والمسلمين ماحق.
لقد قرأنا رسائلك وفهمنا الدروس.
عرفنا وآمنا أن تسعة وتسعون بالمئة من حلول مشاكل الدنيا عندك.. لم تبقِ شيئاً لإله العرب والمسلمين.
لقد وصلت القمر والمريخ.. غزوت الفضاء .. تستنسخ ما تشاء .. تخلق ما تشاء, تصنع ما تشاء, بيدك العلم والتقنية والصناعة والثروة والقوة, ليس كمثلك شيء، تعلم ما يدور في الدنيا ولا أحد يعلم ما تريد، لا علم إلا علمك، ولا حكم إلا حكمك، ولا حول ولا قوة لنا إلا بك.
. . .
أنت يا بوش ويا خليفة بوش.. أنت فرعون عصرنا... أنت ربنا, لك نصلي ... لك نركع ... لك نسجد, باسمك نهتف ونسبح حتى ترضى ويرضى غلمانك وفتيانك وحواريوك ورعاة بقرك، وبيتك الأبيض يا بوش قبلتنا، نحج إلى بيتك الأبيض الجديد ونترك البيت العتيق، به نطوف ونسعى, نرجو رحمتك ونخشى عذابك الشديد.
نحج إليك كل عام مرة... ونعتمر كل عام مرة أو مرتين.
نأتيك حجاجاً ومعتمرين .. منادين :
لبيك بوشاً لبيك.
لبيك لا شريك لك لبيك.
لقد انتصرت على شركائك.. خنقتهم .. صفّيتهم .. ليبقى الملك كله بيديك.
تتصرف فيه كما تشاء.
تدني إليك من تشاء.
وتبعد من تشاء.
لبيك بوشاً لبيك.
. . .
ونخرج الزكاة كلها إليك... إلى بيت مال البوشيين.
بل كل أموالنا وخيرات بلادنا ونفطنا وكنوز أراضينا كلها بين يديك.
تصرّف فيها كما تشاء.
أنتج منها ما تشاء... صّنع ما تشاء... بع واشتر ما تشاء بأي سعر تشاء.
كل المال مالك... وكل الناس عبيدك.
خذ مالنا كله فهو مالك، ثم تصدق علينا منه بما تشاء , فأنت كريم وابن كريم، وكل من يخلفك على أمريكا من أمثالك كريم.
وكلنا في خدمة اقتصادك يا بوش.. لا نشتري ولا نستعمل ولا نقتني إلا ما خلقت... إلا ما صنعت وما صنع غلمانك وفتيانك ورعاة بقرك وحواريوك يا بوش.
أليست صناعتك صناعة أمريكية بوشية؟!...ألا ما أعظمها, ألا ما أجملها, ألا ما ألطفها, ألا ما أظرفها؟!!!
ما أجمل سياراتكم!!! ... ما أحسن ملابسكم!!! ... ما أطيب مشروباتكم !!!, سنسميها الكوثر وزمزم وسلسبيل وزنجبيل.. من شربها دخل جنتك، ومن امتنع عن شربها دخل نارك يا بوش.
نعم للتغيير الذي تريد!!
نغيّر قيمنا... نغير أخلاقنا... نغير سلوكنا وسلوك الناس عندنا، ونتبع ملّتك ومنهجك وشريعتك حتى ترضى عنا. كل همنا هو أن ترضى عنا يا بوش، ويا خليفة بوش.
سنأمر نسائهم وبناتهم أن يلبسن ويسلكن كما تشاء، وكما تحب وكما يحب حواريوك وغلمانك ورعاة بقرك حتى يرضوا وترضى عنا برضاهم.
لقد كفرنا بكرم العرب، وشرف العرب، وأخلاق العرب.
لم نعد نؤمن بقيم الإسلام، وأخلاق الإسلام، وتعاليم الإسلام.. تلك قيم وأخلاق وتعاليم عفا عنها الزمان.
الزمن زمنك يا فرعون.. والعصر عصرك يا فرعون.
الحق ما تراه حقاً, والباطل ما تراه باطلاً، فهل أنت راض عنا؟؟.
نحلل ما تحلل, ونحرم ما تحرم.
فليشربوا الخمور كما تشاء, ويلعبوا القمار ويأكلوا الربا، ليلهوا ويمرحوا كما تشاء.. ليذوقوا السعادة في جنتك والهناء, وينعموا بعبادتك وحبك والرضا.
نغير مناهجنا؟! ... هل هذا ما تريد منا؟! ... هل هذا ما يرضيك عنا؟!
فلنغير مناهجنا ولا ضير ..!!!
بل شرعنا في تغييرها وفق أمرك سيدي.. كما يرضيك.
شرعنا في التغيير رغم أنف علمائهم.
سجنا من سجنا, وعذبنا من عذبنا, وأغرينا من أغرينا، والكثير منهم بالتدريج إليك راجعون..
لقد بدأوا يفهمون الحاجة إلى التغيير.. بدأ الكثير منهم يفهمون أن الزمن زمنك يا فرعون, وأن العصر عصرك يا فرعون، وأن الدنيا دنياك يا فرعون، بدأ الكثير منهم بالدنيا يهتمون أكثر من اهتمامهم بالآخرة التي يدّعون كما كانوا في الحقيقية من قبل ذلك يفعلون.
بدأوا يهتمون بعطائك، بدولاراتك، بمناصب وجاه دولتك.
لقد عرفنا كيف نطوّعهم حتى يسود دينك إلا فئة قليلون هم لنا غائضون، سنرضيك فيهم عما قليل يا فرعون.
بوش ربنا ... مكّن لنا في قومنا ... مكن لنا في أرض العرب والمسلمين ... مكن لنا في رقاب العرب والمسلمين ...
لكي نحشرهم إليك.
لكي نسوقهم إليك كما تريد.
لكي تنشر فيهم دينك الذي تريد.
ولكي نسوق إليك أموالهم وكنوزهم كما تريد.(/1)
فرعون عصرنا ... ربنا ... لا حول ولا قوة لنا إلا بك.
لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت ... والشواهد كلها بين يديك.
ألم يروا كيف فعلت باليابان والإتحاد السوفيتي وفيتنام؟ وألمانيا وكوبا والعراق وأفغانستان؟؟..
ألم تدمر الأخضر واليابس؟ ... ألم تدمر المدن والدول والشعوب؟... ألم تقتل الملايين؟؟..
ألم يروا ماذا فعلت للكويت وقطر وسنغافورة ودبي؟..
ألا يروا حال من أنت غاضب عليه؟؟..
ألا يروا سعادة ورخاء من أنت منعم عليه ؟؟..
نحن معك يا بوش.
نحن عيونك ... نتجسس من أجلك على إخوتنا وأصدقائنا وأقاربنا ... لترضى عنا يا بوش.
نحن جنودك ... نخوض البحر من أجلك, ونتسلق الجبال من أجلك ... نطارد آبائنا وأبنائنا وإخواننا من أجلك ... ونسجنهم ونعذبهم ونقتلهم قرابين لك يا بوش حتى ترضى .
ولا تخش عساكرهم وشرطتهم ورجال أمنهم ... لقد دربناهم على الطاعة العمياء لنا ... لقد أصبح الكثير منهم مرتزقة يعيشون ويتصرفون بعقلية ونفسية المرتزقة الذين يعبدون السلطان، ونقود السلطان، من يدفع لهم فهو سيدهم، من ينهرهم ويحتقرهم فهو سيدهم.
لقد اختصرنا لهم الإله والدين والوطن والشرف والعرض في السلطان الذي يجب أن يعبد ويقدر ويحترم قبل كل شيء، وبعد كل شيء، بذلك يسهل علينا كثيراً أن نقنعهم من هو السلطان الأكبر الذي يجب أن يعبدوه ويسهروا على العمل لإرضائه.
يسهل علينا أن نقنعهم بأننا وإياهم عبيد لكم، ومن مصلحتنا جميعاً الإخلاص في العبادة لكي تتوالى الترقيات والرتب والدرجات .. وتتوالى النياشين والمزايا والهبات، ومن كان يقال لهم أرصدوا وحاربوا الخونة عملاء أمريكا سيقال لهم كونوا عملاء وخدم وجواسيس لأمريكا وإله أمريكا، سيقال لهم أرصدوا وحاربوا واسجنوا وعذبوا من يكره أمريكا وإله أمريكا.
ومن رحمتك بعبيدك – سيدي- أنك قد أمرت بتحريرهم من ربقة الطغاة، فنرحب كل الترحيب بالنموذج الديمقراطي الذي تريدون، سنعمل على تطبيقه كما تشاء.
وسنضمن أن يطمس النموذج كل من يكرهك أو يتمنى الشر لك ولدولتك الفاضلة.
سنزرع الفتن بينهم بكل الوسائل الممكنة لنمنع توحدهم وتعاونهم ضدنا ... ونمنعهم من تحقيق أهدافهم المريبة, ونمهد الطريق لحوارييك لتحكم بهم العالم كما تشاء.
سنضمن من خلال الديمقراطية البوشية العظيمة توفير الحرية, ولكن فقط لأتباعك وأحبابك وعملائك وجواسيسك وحوارييك يا بوش، سنضمن أن يفرز النموذج القيادات الموالية لك سيدي ... ليكون لك حواريون في كل مكان يقودون الشعوب باسمكم سيدي.
كن مطمئن البال يا سيدي ... نحن جنودك الأوفياء, في العلن وفي الخفاء, نغير ما تشاء كما تشاء.
نحن عبيدك ... نحن جنودك ... لك الأمر وعلينا السمع والطاعة.
نكره من يكرهك، ونحب من يحبك.
نعبدك ونشكرك حتى ترضى
نرجو رضاك ربنا ... وبعد الرضا نرجو العطاء.
أجزل لنا العطاء ... أنت الغني ونحن الفقراء.
أمنحنا من الدولار ما نعيش به في جنتك سعداء.
الغني من أغنيت، والفقير من أفقرت.
من ترضى عنه فقد استغنى, ومن غضبت عنه فقد افتقر وشقى، ولا حول ولا قوة لنا إلا بك ).
هذا هو لسان حال الخونة والمارقين ...
فماذا بقي لهؤلاء من الإسلام؟؟!
وماذا بقي لهم من الشرف؟؟!
بل ماذا بقي لهم من الإنسانية؟؟!
أمّا أنت أيها المسلم المحتار في أمرك لابد لك من مواجهة الخيار.
إن الله - سبحانه - لا يقبل أن يُعبد معه أحد.
وإن فرعون أمريكا لا يقبل أن يُعبد معه أحد.
فلم تترك بلا خيار, ولن تترك بلا خيار:
إمّا عبادة الخالق - سبحانه وتعالى - وفق كتابه العزيز، وسنة رسوله الكريم - صلى الله عليه وسلم - للفوز برضاه وجنته، والسعادة الحقيقية في الدنيا والآخرة، وإمّا عبادة فرعون وزمرته طمعاً في جنة زائفة حقيقتها الشقاء في الدنيا والآخرة، ولا أضنك تحار في الاختيار ما بقي لك بقية من عقل وإرادة وحرية قرار.
أمّا المسلمون المخلصون فهم على طريق الحق سائرون, يعرفون الحق وأهله, ويعرفون المنكر وأهله, ويجاهدون في الله حق جهاده، لا يضرهم من خذلهم، لا يضرهم من خانهم، لا يضرهم من والى الكفار والمشركين عليهم، لا يضرهم من عاداهم، ولا يضرهم من حاربهم إلا أذىً يوشك أن ينتهي إلى فتح مبين أو جنة نعيم.
الهادي المشعال(/2)
لست أول ولا آخر من تزوج زوجها
مفكرة الإسلام : إن تعدد الزوجات معروف في الشرائع السابقة, فلم يكن الإسلام أول من شرع تعدد الزوجات, ألم يخبرنا الشرع أنه كان لسليمان عليه السلام تسع وتسعون زوجة؟
وهذا غيلان الثقفي رضي الله عنه أسلم وله عشر نسوة في الجاهلية فأسلمن معه فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يتخير منهن أربع زوجات, وهذا دليل على وجود التعدد في الجاهلية وقبل بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد وردت نصوص الشريعة بضبطه وتهذيبه إقامة للعدل والحق.
موقف عظيم لزوجة عظيمة
قال لها زوجها: أريد الزواج بثانية ... ففكرت الزوجة ثم رأت أنه من دواعي الحكمة والعقل أن تبحث لزوجها عن الزوجة التي تناسبها كند وشريكة في زوجها وتكون أمًّا لأخوة أولادها بعد ذلك ...فبالفعل بحثت له عن زوجة حتى اطمأن قلبها إلى المرأة المناسبة وكانت بالفعل زوجته الثانية.
هذا حقيقة موقف عظيم لزوجة عظيمة ..لأنها فطنت لحال زوجها. فإذا طلب الرجل الزواج الثاني فهو في حاجة حقيقية لهذا الزواج, ومن الغريب أن هناك من النساء من ترضى أن يصاحب زوجها غيرها المهم أن لا يتزوج غيرها.
ومن الظلم الواقع على المرأة في هذا العصر غياب 'التعدد' في كثير من المجتمعات؟ وهنا يبدو الأمر مستغربًا, وغير متوازن, ولكنه يستقيم على الجادة إن رفعنا عن بصائرنا غبش التقاليد الغامضة, والأعراف المتسلطة, وإن خلصنا كذلك من النظرة الذاتية التي تجنح إلى الأثرة والأنانية.
وتتصور المرأة أن التعدد إجحاف في حق ذاتها وحط من شخصيتها, وإلغاء لاستقلالها, وأنه يسلبها كثيرًا من الاحترام والتملك ... وهذا تصور صحيح من زاوية المرأة الفرد، ولكنه في ذات الوقت تصور يُلقي بعدوانه الصارخ على جنس المرأة عمومًا حين تفتش بعض النساء اللائي حُرمن الزوج أو فقدنه عن زوج آخر فلا يجدن.
والإسلام حين يشرع وحين يبيح أمرًا ينظر إلى مصلحة العموم ويقدمها على مصلحة الذات جلبًا للمنافع العامة ودرءًا للمفاسد الهالكة ....وهو في هذه الحالة يتفق والمنطق السليم, والعقل الحكيم.
ولابد أن ينتبه القارئ إلى قاعدة هامة ...وهي أنه ليس معنى أن الأصل في الزواج التعدد أن ذلك واجب على كل الرجال, ولكن الأمر في الآية: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء:3] الأمر فيها الإباحة وهو سنة أيضًا عن الرسول صلى الله عليه وسلم, كما أن الأمر بالوجوب فيه حرج ومشقة منتفية شرعًا, وقد لا يستطيع الإنسان أن يتزوج بامرأة واحدة فكيف يؤمر بتعدد الزوجات.
وقد تسأل سائلة كيف أتقبل أن يتزوج زوجي وماذا أفعل في مشاعر الغيرة التي تقتلني؟ فنحن نقول أولاً لابد من الإيمان بالقضاء والقدر، والصبر على الابتلاء وفي الحديث الشريف قال صلى الله عليه وسلم: 'عجبًا لأمر المؤمن إن أمره كله خير, وليس ذلك لأحد إلا المؤمن, إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له, وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له' فلابد من الصبر الجميل على مثل هذه المواقف يقول تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10]
ومن المفيد أيضًا أن تشغلي نفسك بأولادك وتربيتهم, وبالاهتمام بالبيت, وحفظ كتاب الله, وصلة الأرحام وبر الوالدين وطلب العلم النافع ومتابعته بالعمل الصالح, وفي كل وجوه العبادة وإن فيها شغلاًَ, وهذا أجدى بكثير من الانشغال بالقيل والقال والكلام عن الضرائر مما يوغر الصدر ولا طائل ورائه ولا نفع.
واعلمي أن هذا حق أعطاه الشرع لزوجك فقفي عند حدود الأدب في التعامل مع الشرع الذي يتفق مع طبيعة البشر قال تعالى {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14]
'فلست ِ أول ولا آخر من تزوج زوجها, ولست بأفضل من أم المؤمنين عائشة أو زينب بنت جحش أو أم سلمة رضي الله عنهن.
وقد قرأتِ معنا كيف شاع هذا الأمر في الجاهلية وفي الأمم السابقة، بل صار يطالب الغرب والشرق بإباحته بدلاً من اتخاذ العشيقات والصديقات(/1)
' لست وحدك '
سلاح متعدد الاستخدامات
' لست وحدك ' ' الذي تقاوم بل الكثير يقاوم وينجح '
' لست وحدك ' الذي تفعل الخطأ بل كل الناس كذلك '
كثيرة هي النداءات الداخلية المتصاعدة داخل النفس البشرية تنتقل بها صعودا وهبوطا , حزنا وسرورا , نشاطا وفتورا , أملا وقنوطا, وتفاؤلا وتشاؤما تنقل الإنسان من حال إلى حال.
وأثر هذه النداءات الداخلية على حياة الشخص أكبر بكثير من كونها مجرد خطابات داخلية لا أثر لها فالواقع يشهد أن تصرفات وسلوكيات الإنسان ما هو إلا حصيلة لمجموع الأفكار التي تدور في ذهنه طوال حياته وأن مواقفنا التي نتخذها مما حولنا إنما منبعها الأساسي الفكرة التي تسيطر على عقولنا والتي هي في المقام الأول ناتج وحصيلة مجموعة الخطابات الداخلية للنفس حول هذا الموضوع.
إن موقفنا من الآخرين بالحب أو الكره أو القرب أو البعد يتحدد بناء على ما نحدث به أنفسنا من كلمات داخلية حول هذا الآخر , والحال كذلك بالنسبة لما نحب ونكره من الأعمال وهذا الخطاب الداخلي لا يراه أحد ممن حولنا حتى أننا في بعض الأحيان إذا حاولنا أن نعبر عنه ونخرجه على صورة كلمات تعجزنا الألفاظ , إن الخطاب الداخلي للنفس البشرية هو أساس حركتها وسكونها , أساس نشاطها وفتورها , أساس ولائها وعدائها , أساس كل موقف وقرار نتخذه سواء على مستوى أنفسنا أو على مستوى تعاملاتنا وعلاقاتنا مع الآخرين.
ونحن نستخدم الكلمات في حوارنا مع أنفسنا ومع غيرنا ففي لحظات خلوتنا ننعزل عن الآخرين ونفكر مع أنفسنا فيما نريد وندير حوارا ذاتيا ونسأل أنفسنا : ماذا نريد؟ وهذا يعني أن لكل منا لغتين أو مستويين من الحوار يستخدمهما في حياته ولهما أبلغ الأثر على سلوكه تجاه نفسه وتجاه الآخرين وهما:
-1- لغة مع نفسك ونسميها اللغة الداخلية.
-2- لغة مع الآخرين ونسميها اللغة الخارجية.
وبناء على طبيعة مفردات كل لغة تتحدد تصرفاتنا وسلوكياتنا تجاه الآخرين وتجاه أنفسنا وبالتالي فعلينا أن نتعلم كيف نتكلم لنتمكن من توجيه أنفسنا وتوجيه غيرنا من بعد ذلك.
إن الكلمة سواء كانت داخلية أو خارجية لها وقع مهم للغاية علينا وعلى من حولنا , فنحن عندما نتكلم مع الآخرين إنما نحاول مطالبتهم بما نريد , ولكننا باختيار أسلوبنا في الكلام معهم نختار أيضا أسلوبنا في الحصول على ما نريد , فكلماتنا تعبر دائما عن طريقتنا في الفعل والتنفيذ , وعن تجاهلنا التام لكل الطرق البديلة التي يمكن أن تتوفر لتحصيل ما نريد , كلماتنا في الحقيقة تعكس توجهاتنا واستعداداتنا , وما يغيب عن أذهاننا فهو في الواقع غائب من قاموس كلماتنا وبالتالي فهو ساقط من حساباتنا لأن الكلمات هي تحضير للأفعال التي ننوي القيام بها أو بمعنى أوضح إنما نعرف الرجل من كلامه أي نعرف ما الذي يريده وكيف يريد الحصول عليه لأن الكلام ما هو إلا مرآة الداخل فنحن نعبر بألفاظنا عن رغباتنا وأحلامنا وآمالنا.
لقد أثبتت بعض الأبحاث والدراسات أن الشخص الذي يصرح بأنه جائع يأكل أكثر من الذي لا يجاهر بجوعه , وأن الذي يهدد بالعنف يلجأ إليه في الواقع أكثر من الذي يعبر عن كرهه للعنف , وتبين أن الذين يتحدثون كثيرا عن السعادة يكونون أكثر مرحا من الذين يتحدثون عن التعاسة والأسى أي أن الإنسان يكتسب الحالة العضوية من حالته النفسية والتي بدورها يكتسبها من مفردات الكلام وطبيعة هذا الكلام من حيث السرعة والبطء والوضوح والغموض وغيرها من التفاعلات الداخلية.
إن تأثير الكلمات على من يقولها أقوى بكثير من تأثيرها على من يسمعها , فالكلمات تسبق الأفعال , وهي تعبر عن الاستعدادات النفسية وتحدد الخيارات التي يجعلها الشخص محورا لتفكيره فإذا استطعنا تغيير كلماتنا , فسنتمكن في النهاية من تغيير أفعالنا , فالتغيير يبدأ بالكلام وينتهي بالأفعال وهذا هو طريق كل إنسان لبدء التغيير الحقيقي في نفسه وكذا فيمن حوله.
وكلما نضج الإنسان كلما فهم وأدرك أهمية الكلمات وتأثيرها وأصبح أكثر دقة وحرصا في استخدامها , فمن المعروف أن الوعد الذي نقطعه على أنفسنا هو في الأصل كلام , لكنه يدفعنا إلى الوفاء به فعليا والالتزام بأدائه , والقائد يحفز أتباعه على الإنجازات من خلال شحنهم بالكلمات , ونحن دائما ما نصف القائد بأن كلمته مسموعة قبل أن نقول إن أفعاله نافذة , فالقائد الحق هو من يتميز بالقدرة على الإقناع , لا من يجبر أتباعه على الانصياع.
بناء على كل ما سبق دعونا في هذا اللقاء نركز على الجانب الأهم من الكلام ألا وهو ما أسميناه سابقا باللغة الداخلية , حيث أنه على الحقيقة المسؤول الأول عن صياغة فكر الإنسان وسلوكه وكذلك يحدد ملامح تصوره عن نفسه , وعن الآخرين وصورة التعامل المثلى معهم.(/1)
' لست وحدك ' هذا الخطاب الداخلي كمثال يعتبر كغيره من الخطابات الداخلية أحد الأسلحة متعددة الاستخدامات حيث يمكنه أن يدفع الإنسان نحو التفاؤل والطموح والعمل ويمكنه كذلك القعود بهمته عن النظر إلى الأعلى وتبرير القعود والتخاذل والأمر كالتالي:
' لست وحدك الذي تفعل الخطأ بل كل الناس كذلك ' : الشخص في العادة لا يرضى أن يرى نفسه على خطأ أو مصرا على باطل ولا يحب بالتأكيد أن يراه الناس كذلك ولكنه في الوقت ذاته يرتبط بالخطأ ارتباطا وثيقا فهو لا يملك – تبعا لوجهة نظره – الانفكاك عنه إذن فما الحل ؟ الحل الأسهل والذي سرعان ما تلجأ إليه النفس أن كل الناس كذلك ,أنني لست الوحيد الذي يفعل الخطأ وانظر حولك , ففي مجال المعاصي مثلا , يتحدد الخطاب الداخلي لمرتكب المعصية بقوله أنا أفضل من كثير من الآخرين ويقيس نفسه على من هو أكثر منه في نوع المعاصي أو درجتها أو عدد مرات حدوثها وتكرارها بل وقد تلجأ النفس إلى التأكيد على أن الكل يفعل ذلك لبيان أن من يخالف ليسوا إلا أقلية , هذا النوع من الخطاب النفسي لن يولد إلا مزيدا من الاستقرار على المعصية , والكثير من المخزون الاحتياطي لتمويل الشعور بالفشل والإحباط والانهزام النفسي عند أول تجربة أو محاولة فهي محكوم عليها بالفشل من البداية لماذا ؟ لأن الخطاب النفسي الداخلي يغذي هذا النوع من الفشل , فشخص يخاطب نفسه بخطاب داخلي مستمر مؤداه أنه لن ينجح ولن يحقق ما يريد ثم هو بعد ذلك يضحك على نفسه وعلى من حوله بدعوى أنه مع هذا الكم من الإحباط واليقين الداخلي بالفشل إلا أنه سيبذل ما عليه ويؤدي العمل لكي يقوم بما يلزم القيام به , ولست بحاجة هنا للحديث عن نوع النتائج التي سنحصل عليها عند تنفيذ أي عمل بهذه النفسية إن المصير هو الفشل المحتوم بلا جدال.
وفي المقابل تأمل في أثر الخطاب الداخلي المعنون: ' لست وحدك الذي تقاوم بل الكثير يقاوم وينجح ' على كلا المستويين الديني والدنيوي , إنها نفسية وروح المقاتل التي لا تفتر ولا تلين , روح ملؤها التفاؤل والبذل , هذه الروح هي التي نرجو لها النجاح , إنه لست وحدك الذي تتعرض للفشل في المرات الأولى من بداية أي عمل فكم من شخص فشل ثم نال النجاح بعد ذلك بالصبر وتكرار المحاولة , ولو كان استسلم للفشل الأول ونادى كما يفعل الجهال بأعلى صوته : هذا قدري ولا مفر لي منه – لو فعل ذلك
– لما نال ما ناله من النجاح وتحقيق المراد , وأن العبد منا إنما خلقه رب العالمين ليعمر الأرض كلها ولتكون مسخرة لأمره فكيف والحال كذلك أن يصغر قدر العبد عند نفسه وتنخذل قواه وتتكسر طموحاته مع أول موقف يشتم منه رائحة الفشل أو الانكسار , إنه لست وحدك فطابور النجاح والتفوق وتحقيق الطموح طويل ومليء بالنماذج وكلهم شعارهم الصبر والدأب لتحقيق المراد لا غير.
إنه لا يمكن لك عزيزي القارئ أن تحقق في عالم الواقع ما تعجز عن تصور نفسك وأنت تحققه , والمشكلة أن ظروف العالم المعاصر تربط الشخص إلى عجلة دائرة لا تتوقف من التنفيذ داخل نظام ثابت فتسلبه لحظات الخيال التي تمكنه من تصور نفسه وهو ينجح أو حتى أن يفكر أن يضع هدفا لنفسه يريد تحقيقه , وهكذا يمضي أكثر الناس حياتهم في قوالب ينتجها الآخرون , فهذا يكتفي بأن يكون موظفا وذلك لا يأمل في أن يصبح أكثر من عامل , ويندر أن تجد من يرتقي بطموحه وأفكاره فوق هذه الأدوار المحددة سلفا , إلا أن الذهن البشري يمكنه أن يتغير , بل إنه الشيء الوحيد الذي يتغير تغيرا مؤثرا فيما حوله , وبتغيره تتغير حياة صاحبه وبدونه لا يحدث أي تغيير وعلى صاحبه - أي أنت - أن يؤمن بأن:
التغيير ممكن وليس مستحيلا.
التغيير شخصي يبدأ من الذات لا من الخارج.
التغيير مفيد ولا يتحتم أن يكون مؤلما.
يقول رب البرية جل وعلا:' إن الله لا يغير ما يقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم , وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال ' وفي هذه الآية ملمحان رئيسيان:
الأول: التغيير الحقيقي في الأمم كاملة إنما ينشأ عن تغيير الأفراد لذواتهم , وسبحان الله ما أوضح المنهج القرآني في بيان طبائع الفنوس وحقيقة قدراتها وطرق التعامل المثلى معها , فالله تعالى يخبر عن نفسه أنه لن يغير حال قوم أو أمة حتى يبدأ أفراد هذه الأمة بالتغيير من داخل ذواتهم لأن لفظة ' ما بأنفسهم ' تؤكد ذلك , وهي إشارة لبيان المدخل الفعال لإحداث التغيير الحقيقي للأمة.
الثاني: من لم يغير فلا يلم إلا نفسه لأن الله تعالى أمر بالتغيير , تغيير الباطل إلى الحق , والهوى إلى الاتباع , والكسل إلى النشاط , والتشاؤم إلى التفاؤل , والحزن إلى السرور , ومن أبى أن يجاهد نفسه في سبيل التغيير وما ينشأ عنه من نعيم الدنيا والآخرة فليستعد فلا مرد لعقاب الله تعالى لمن أبى الارتقاء والرفعة وتحمل المسؤولية.(/2)
عزيزي الشاب: إنها ثورة أدعوك إليها , ثورة على روتين الحياة , وعلى الثوابت التي لا يقرها الشرع وتخنق الطاقات وتعطل المواهب , ثورة للتغيير فانطلق ولا تتخاذل ولا تتهاون , انطلق وارفع درجة الخطاب الداخلي إلى أقصى درجات التفاؤل والأمل والبهجة والسرور فأنا والله على يقين من امتلاكك لبركان متفجر من الطاقات الكامنة تنتظر أن تثور , فهلم إلى التغيير الداخلي , فهذا أوان أن يراك الآخرون كما ينبغي أن تكون.
جزاك الله عن نفسك وعن الإسلام والمسلمين خير الجزاء والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(/3)
لسنا الطّرف الأضعف في صراعٍ يُفرض علينا
د. محمد بن سعود البشر 28/12/1425
08/02/2005
لسنا مع القائلين بالصراع بين الحضارات، ولسنا مأمورين في شريعتنا الإسلامية التي جاءت رحمة للعالمين بالدخول في صراع من أي نوع مع من لم يعتد علينا، ولسنا –أيضًا- متربّصين بمن أخطأ في حقّنا لكننا رغم ذلك لسنا الطرف الأضعف في أي صراع قد يُفرض علينا.
أقول هذا بعد ما هالني الكم الكبير من الأُطروحات والمقالات وحتى الرسائل العلمية التي قدمها المفكرون والمثقفون من العرب والمسلمين في إعلان موقف الإسلام الرافض لنظريّة (صمويل هنتجتون) والقائلة بصراع الحضارات، والمرجِّحة أن الصراع القادم أو لنقل الحالي هو بين حضارة الغرب والحضارة الإسلاميّة.
ومع كل الاحترام للكتابات القيّمة والموضوعيّة التي تعرض الأدلة العقليّة والنقليّة على أن الحضارات لا تتصارع بل تتفاعل وتتلاقى وتتلاقح لخير الإنسانية، إلا أنه مما يُؤسف له أن كثيراً من الكتابات والأُطروحات وضعتنا ووضعت حضارتنا الإسلاميّة وديننا الإسلاميّ في موقف المتهم الذي يقبع خلف ا لقضبان، ويجتهد قدر استطاعته لتقديم أدلّة براءته.
وإذا كانت القاعدة الفقهيّة والقانونيّة تقول: إن البينة على من ادّعى فإن (صمويل هنتجتون) ومن يقول مثل قوله هم المطالبون بأن يقدموا الأدلة التي تفيد تورّط الحضارة الإسلاميّة في أي صراع آنيٍّ أو مستقبليٍّ مع غيرها من الحضارات، أو حتى وجود نوايا لدى المسلمين لقهر حضارة الغرب، عبر صراع من أيّ نوع، ولتكن دعوتنا نحن المسلمين بعد ذلك، للعالم أن يصدر في موضوعيّة ومصداقيّة هذه الأدلة، وهل تديننا أم تدين قائلها، وتكشف نواياه ونوايا بعض المنتسبين لحضارة الغرب في إشعال نار صراع بين المسلمين والغرب؛ لأسباب لن تبدو ساعتها بخافية على ذي لبّ... لكن ما حدث أن المدّعي ألقى تهمته وأشعل قتيل الصّراع دون دليل، وانساق المتحمسون من أبناء أمتنا لدفعها قبل أن يطالبوا بإثبات صحة الاتّهام.. والدلائل التي لا بد أن تتوافر لقبول الدعوى شكلاً أو موضوعًا.
وإنما كان من البدهيّات أن الصراع بين أي طرفين لا يعني أن كليهما راغب فيه، فيكفي أن يكون أحدهما هو الساعي إليه مغترًا بقوته، أو باحثاً عن مصلحة، أو مدفوعًا بأحقادٍ انتقامية، أو غير ذلك من أسباب الصراع، فعندها لن يجد الطرف الآخر سوى الدفاع عن نفسه بكل ما أوتي من قوّة.
إنّ الترويج لنظريّة الصراع بين الحضارات، وجعل الحضارة الإسلامية الخصم الرئيس لحضارة الغرب، نذير سوء بأن ثمّة محاولات جادّة لتوريطنا في صراع مع الغرب، أو بالأدق فُرِض هذا الصراع علينا، ظنًا من القائلين بالصراع أننا الطرف الأضعف، وأن هزيمتنا وانكسارنا نتيجة حتمية مسلَّم بها.
ولا شك أن التفوق للحضارة الغربيّة الماديّة يُرجّح –بالمفهموم المادي الصرف- هزيمتنا الحضاريّة لو أصبح هذا الصراع حتميًا ومباشرًا وهو ما دفع بكثير من مفكّرينا ومثقفينا إلى الإسراع في دفع هذه التهمة.
لكن القارئ المدقق لوقائع التاريخ يدرك أن تفوّق الغرب أو لنقل تفوق الحضارة الأمريكيّة -إن جاز التعبير- لا يجعلنا الطرف الأضعف في حالة نشوب الصراع. ولا يجب أن توهم بذلك، فصراع الحضارات ليس معركة عسكريّة، وقوة السلاح لا تبيد حضارة إنسانيّة، وإن دمّرت مظاهرها؛ لأن الحضارة هي الإنسان بتاريخه وأفكاره وثقافته قبل أن تكون بمنجزاته الماديّة.
وميراثنا من هذه الحضارة يتجاوز أربعة عشر قرنًا تشكلت خلالها قواعد الشخصيّة الإسلاميّة وترسّخت من جيل إلى جيل، ربما دون وعي أو التفات إلى ملامح هذه الشخصيّة، لكن في لحظات الخطر والتحدي تظهر الملامح القويّة لشخصيّة المسلم رغم كل محاولات تشويهها، وفصلها عن قواعدها الحضاريّة لتقول لكل من أرادها بسوء: إنّنا لسنا الطرف الأضعف.(/1)
لصعود نحو الهجرة
2006/01/25 ... عبد الحميد الكبتي**
في كل عام وبعد موسم الحج المبارك، موسم المغفرة والرحمات، يبدأ العام الهجري الجديد، ويتجدد معه تذكر هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، تلك الهجرة التي أنجبت دولة حضارية في زمن قياسي في تاريخ الأمم، وسادت قوانين السماء الربانية أرجاء المعمورة، وأينع البناء الحضاري في كل روضة وربوة من فيحاء هذه الدنيا.
ومع إشراقة كل عام جديد يقف المسلم بين يدي هذا الحدث، متأملاً معتبرًا محللاً، علّه يرتقي بنفسه وبمن حوله إلى مستوى الحدث الضخم في تاريخ البشرية، يستمطر الرحمات لواقع مؤلم ونفس جموح، وتشتت في الجهود والإمكانات.
وللهجرة معنيان: حسي ومعنوي، وفي معناها اللغوي هي الانتقال، وقد يكون الانتقال حسيًّا بترك مكان لآخر، وقد يكون معنويًّا بالانتقال من ثقافة إلى أخرى.
ومن معاني هذا الأخير قول الله تعالى: {والرُّجْزَ فَاهْجُرْ} (المدثر: 5)، وقوله عز وجل: {واهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلاً} (المزمل: 10)؛ فهي مراجعة لكافة الموروثات الثقافية والبنائية، واكتشاف الجوانب التي عدا عليها الخطأ أو الفساد في الفهم والتطبيق، مراجعة عملية فاعلة.
والهجرة إن هي إلا رديف لمعنى التزكية، قال صلى الله عليه وسلم: "لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها" [أبو داود بسند صحيح].
إن الحديث عن الهجرة يجب ألا نقف فيه عند مظاهر هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، ونسرد التفاصيل التي وردت عنها، بل نحن مطالبون بالغوص في عميق جذرها، وتحليل نفسية الهجرة وفلسفتها؛ كي نعي وندرك منها بعضًا من سبل الخلاص لأنفسنا وأمتنا الكريمة.
إن التلازم بين معنيي الهجرة -الجسدي والنفسي- لا يزال قائمًا ما دام المؤمنون لم يمسكوا بزمام الأستاذية العالمية، ولا يزالون حتى ذلك الوقت يحتاجون إلى المعين المزدوج للهجرة النبوية العطرة، ولا يتوقف أبدًا المعنى النفسي أو المعنوي؛ لأنه بمثابة الزاد والتزكية للأنفس والمجتمعات.
فالهجرة النبوية نهر جاري العطاء في كل حين بإذن ربه، يغرف منه المؤمن رواء له حينًا بعد حين، يربط الحداثة بالواقع، ويتلقط منها ما يريد.
أهمية الهجرة
تكمن أهمية الهجرة في:
- تخليص المؤمنين من حالة العوَز وقلة الأمن، ومن ثم إطلاق قدراتهم الإنتاجية في حالتَي السلم والحرب معًا، قال تعالى: {ومَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وسَعَةً} (النساء: 100)، والمراغم هو المنعة والقوة، أو ما يرغِم به المؤمنون أعداءهم على مساومتهم ومنعهم من العدوان عليهم، والسعة هي سعة العيش، وقال تعالى: {والَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً ولأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (النحل: 41).
فالمهاجر في سبيل الله اليوم إنما يهاجر ليطلق لنفسه قدراتها، ويتحلل من كل قيد يلزمه بالقعود، والمهاجر في سبيل الله اليوم مطالَب بأن يطلق لفكره وعقله وعلمه كل الآفاق الرحبة الواسعة.
والأمة تقف أمام أمر إطلاق الطاقات هذا وتتمعن في نفسها، وما يكبلها من آسار الأغلال الثقيلة التي جعلتها في آخر الأمم، وتمعن الأمة النظر في الأمن والحريات التي هي أول مدارج الصعود نحو الهجرة؛ لتعي الهوة الكبيرة بينها وبين الهجرة النبوية العطرة.
كذا المسلم -بله الداعية- يقف ليراجع فكره ونفسه، ويستخرج الأغلال التي تحيط به أن ينطلق الانطلاقة المباركة وفق شرع ربنا الحكيم، وقدوته صاحب الهجرة عليه الصلاة والسلام.
إن الأعداد الكبيرة من المسلمين التي تهاجر اليوم الهجرة العكسية إلى بلاد الغرب، ثم تظل تدور حول نفسها متأثرة بالمحيط الذي تعيش فيه، غاب عنها معنى إطلاق الطاقات هذا، وفات عليها لُباب الأمر في فقه الهجرة.
- والهجرة بمعناها الشامل حركة تجديد مستمر، وعامل من عوامل قوة الأمة الفكرية والمادية؛ كونها تتمحور حول المثل الأعلى عليه الصلاة والسلام، ولا تزال الأمة بعافية ما دامت على صلة قوية بهذا المثل الأعلى، سواء في إنضاج فكرها أو تقدم مدنيتها، ومن تدبَّر أحداث الهجرة ودقائقها أدرك أهمية حركة التجديد، وترك البيئات المغلقة إلى البيئات المفتوحة، سواء أكانت بلدًا أو مؤسسة، أو حتى نفس المؤمن ذاته؛ إذ المثل الأعلى يحث دائمًا على أسمى الغايات، ويدفع لإنجاز أرقى الحضارات، ولن يتحقق ذلك إلا بالتجدُّد المنفتح، المتعلق بالمثل الأعلى عليه الصلاة والسلام.
- والهجرة مطلب قوي لتماسك الجبهة الداخلية في الأمة؛ إذ هي المراجعة والمحاسبة، سواء الذاتية أو الجماعية أو المؤسسية.
إذ جوهر الهجرة يقوم على هَجْر كل ما لا يليق، وبهذه النظرة الواعية لمعنى الهجرة يكون النقد البناء، وتكون المراجعات الربانية للسَّيْر، والتفرس في الأخطاء، وهذا من أقوى عوامل النهوض الحضاري.(/1)
إن حالة الأمة اليوم -وحال أفرادها في الغالب- لفي أشد الحاجة إلى إطلاق الطاقات الكبيرة التي تحوزها في أبنائها، وتوفير الأمن والاستقرار لهم؛ فما سعى النبي صلى الله عليه وسلم للمدينة إلا بعد سنوات من الكبت والتضييق؛ فكانت المدينة المنورة البيئة التي انطلق فيها البناء الحضاري، ونلمس اليوم إما كبتًا لمجتمعات كاملة، أو فقدانًا للدور في كثرة من أفراد الأمة.
وحركة التجديد التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها" (أبو داود بسند صحيح) هذه الحركة تحتاج إلى تجديد في الأفراد والمؤسسات.
والنقد الداخلي والتوبة والمراجعة قوة تتماسك بها الأمة، وتسترد بها عافيتها، ويتنفس بها كل فرد أنسام البناء الحضاري.
وما أصدق قول شاعر الدعوة وليد الأعظمي حين قال:
يا هجرة المصطفى والعين باكيةٌ والدمع يجري غزيرًا من مآقيها
يا هجرة المصطفى هيّجت ساكنةً من الجوارح كاد اليأس يطويها
هيجت أشجاننا والله فانطلقت منا حناجرنا بالحزن تأويها
إنها دموع الداعية تنهمر من مآقيه على واقع أمته، وتعطل منابع الخيرات فيها، لكن الأمل يتجدد دائمًا بهجرة الحبيب محمد عليه الصلاة والسلام مصدر الاقتداء في المحن والمنح.
ومع إدراك فقه الهجرة وأبعادها يُطوَى اليأس، وتُطوَى معه مراحل في النفس وفي الآفاق الدعوية، وما ثمة مكان للحزن: {إِلا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة 40].
-----------
** كاتب ليبي مقيم بسويسرا(/2)
لطائف في سورة النازعات ... ... ...
لقد اختلف في تفسير أوائل تلك السورة لأن: ( الموصفات المقسم بها محذوفات وأقيمت صفاتها مقامها، وكان لهذه الصفات تعلقات مختلفة اختلفوا في المراد بها ) [البحر المحيط :10/ 194].
ونحن نريد أن نصل إلى جمع بين تلك الأقوال يعطي للسورة كلها معنى غير المعنى الظاهر أمامك، وسأذكر لك أقوال المفسرين في هذه الآيات [ مقتبسة من البحر المحيط: 10/394 ]
النَّازِعَاتِ
الملائكة تنزع نفوس بني لآدم.
وقال الحسن وقتادة والأخفش: هي النجوم تنزع من أفق إلى أفق .
وقال السدي وجماعة: تنزع بالموت إلى ربها، وغرقاً إغراقا في الصدر، وقال أيضا: النفوس تحن إلى أوطانها وتنزع إلى مذاهبها، ولها نزع عند الموت .
وقال عطاء وعكرمة: القسي أنفسها تنزع بالسهام. وقال عطاء أيضاً: الجماعات النازعات بالقسي وغيرها إغراقاً .
وقال مجاهد: المنايا تنزع النفوس.
وقيل: النازعات: الوحوش تنزع إلى الكلأ.
وقيل: جعل الغزاة التي تنزع في أعنتها نزعا تغرق فيه الأعنة لطول أعناقها لأنها عراب، والتي تخرج من دار الإسلام إلى دار الحرب، قاله في الكشاف .
غَرْقاً
أي: إغراقاً، وهي المبالغة في الفعل.
وقال ابن عباس وعلي: أو غرقاً في جهنم، يعني نفوس الكفار .
وَالنَّاشِطَاتِ
قال ابن عباس ومجاهد: الملائكة تنشط النفوس عند الموت، أيْ: تحلها وتنشط بأمر الله حيث كان.
وقال ابن عباس أيضاً وقتادة والحسن والأخفش: النجوم تنشط من أفق إلى أفق، تذهب وتسير بسرعة.
وقال مجاهد أيضاً: المنايا .
وقال عطاء: البقر الوحشية وما جرى مجراها من الحيوانات الذي ينشط من قطر إلى قطر.
وقال ابن عباس أيضاً: النفوس المؤمنة تنشط عند الموت للخروج.
وقيل: التي تنشط للإزهاق.
وَالسَّابِحَاتِ
قال عليّ ومجاهد: الملائكة تتصرّف في الآفاق بأمر الله، تجيء وتذهب.
قال قتادة والحسن: النجوم تسبح في الأفلاك.
وقال أبو روق: الشمس والقمر والليل والنهار.
وقال عطاء وجماعة: الخيل، يقال للفرس سابح.
وقيل السحاب لأنها كالعائمة في الهواء.
وقيل: الحيتان دواب البحر فما دونها وذلك من عظم المخلوقات.
وقال عطاء أيضاً: السفن.
وقال مجاهد أيضاً: المنايا تسبح في نفوس الحيوان.
فَالسَّابِقَاتِ
قال مجاهد: الملائكة سبقت بني آدم بالخير والعمل الصالح.
وقال ابن مسعود: أنفس المؤمنين تسبق إلى الملائكة الذين يقبضونها، وقد عاينت السرور شوقاً إلى لقاء الله تعالى.
وقال عطاء: الخيل.
وقيل: النجوم.
وقيل المنايا تسبق الآمال.
فَالْمُدَبِّرَاتِ
قال ابن عطية: لا أحفظ خلافاً أنها الملائكة، ومعناها أنها تدبر الأمور التي سخرها الله تعالى وصرفها فيها، كالرياح والسحاب وسائر المخلوقات.
وقيل الملائكة الموكلون بالأحوال: جبريل للوحي وميكائيل للمطر وإسرافيل للنفخ في الصور وعزرائيل لقبض الأرواح.
وقيل: تدبيرها: نزولها بالحلال والحرام .
وقال معاذ: هي الكواكب السبعة، وإضافة التدبير إليها مجاز، أيْ: يظهر تقلب الأحوال عند قرانها وتربيعها وتسديسها وغير ذلك .
وإذا نظرنا في سياق السورة وجدناها تحفل بسياق عنيف وسريع، وهم لا يزالون { يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً نَّخِرَةً قَالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ } يجدون أمامهم { فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ } فسياق السورة يخطف الأبصار ويسوق الإنسان بسرعة هائلة إلى مصيره الذي يتساءل عن وقته فيجد الإجابة { كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} .
ووسط كل هذا العنف تخرج إلينا قصة موسى وفرعون ليضرب الله لك مثلا عمليا سريعا عمن تحدى الله بقوته واعتقد أن القيامة سراب كيف أخذه الله بسرعة وعنف { فَحَشَرَ فَنَادَى فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى }.
ثم ينقلك من قصص القرون الماضية إلى شيء تراه عيناك ولكن قلبك غافل عن تدبره، فجأة تراه أمامك مما يجعلك فعلا تنظر إليه وبإمعان: { أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا وَمَرْعَاهَا وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ }. وفجأة تقوم القيامة { فَإِذَا جَاءتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى } ساعتها تتذكر كل ما فعلت في حياتك، ولكن المشكلة أنك تبدأ وأنت في قراءة تلك الآيات بتسير شريط حياتك أمامك { يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ مَا سَعَى }. وأنت في حال تذكرك هذا تفاجأ {وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَى } .(/1)
أما أوائل السورة إذا دققنا في كل ما قيل من معاني حوله – ولاحظ أنها ليست السورة الوحيدة التي تحتفل بكثرة التأويل لآياتها - وجدناها تجمع بين الشدة والسرعة والذهاب بقوة وعنف إلى مكان معلوم. إن تلك الكلمات أشبه بدوال مجهولة الهوية أو كثيرة المعاني تدل على مدلول واحد، وهو قوة الله في الكون، وأن الإنسان حتما سينقضي أجله، بل فعلا يشعر الإنسان في سورة النازعات بأنه سينتقل إلى العالم الآخر فور إنتهائه من السورة. ... ...(/2)
لطائف قرآنية
1 ــ أن معرفة سبب النزول تورث العلم بالمسبب، قال الزركشي في البرهان ( ج 1 / ص 45 ): وأخطأ من قال أنه لا طائل تحته، مثل: { فلا جناح ..... }، إلا أن العبرة بعموم اللفظ.
2 ــ قد ينزل الشيء مرتين، كما قيل في الفاتحة، وقوله تعالى: { إنك لا تهدي من أحببت.... }.
3 ــ من علوم القرآن: علم الوجوه والنظائر، ألف فيه ابن الجوزي وابن فارس، مثل: لفظ الأمة يأتي على معان كثيرة.
4 ــ لابد من معرفة مراحل التنزيل والتدرج في التشريع، مثل: مراحل تحريم الخمر، والربا، والجهاد، والزكاة، والصوم.
5 ــ معرفة المكي والمدني فالمكي أكثر من المدني، ومن الفروق:
* ــ أن ما نزل قبل الهجرة فهو مكي، والمدني خلافه.
* ــ أن كل سورة فيها { يا أيها الناس... } وليس فيها { يا أيها الذين آمنوا... } فهي مكية
* ــ أن كل سورة فيها { كلا... } فهي مكية.
* ــ أن كل سورة فيها ذكر قصة آدم عليه السلام فهي مكية سوى سورة البقرة.
* ــ أن كل سورة فيها ذكر المنافقين فهي مدنية سوى سورة العنكبوت.
* ــ أن السور المكية قصيرة الآيات، وتركز على العقيدة، واليوم الآخر، والمدنية بخلافها.
6 ــ أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يفسر القرآن تفسيراً تاماً، ذكره الزركشي في البرهان.
7 ــ مما ينفع في الترجيح معرفة رجال التفسير، فأعلمهم الصحابة، ومن أعلمهم ابن عباس، قال بعض تلاميذ ابن عباس: ( خطب ابن عباس في الموسم بسورة البقرة لو سمعته الروم والترك والديلم لأسلموا )
وذلك ببركة دعاء رسول الله له، وكان كثير الرجوع إلى أشعار الجاهلية، فمن ذلك ما ذكره السيوطي في الإتقان في مناظرته لرجلين من الخوارج فسألاه عن مائة وخمسين كلمة من القرآن، وفي كل كلمة يذكر لهم شاهدها من شعر العرب، فمثلاً: قالوا له: الوسيلة، قال: الحاجة، قالوا وهل تعرفها العرب، قال:
أما سمعت عنترة يقول: إن الرجال لهم إليك وسيلة *** إن يأخذوك تكحلي و تخضبي
ومن أعلم التابعين مجاهد تلميذه، قال سفيان: إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به، وأعلم الناس بالتفسير أهل مكة لأنهم تلاميذ ابن عباس.
8 ــ من التفسير ما هو نافع، وهو الأغلب، أما غير النافع من الإسرائيليات، فهي لا تصدق ولا تكذب، بل
يستأنس بها، وتذكر للاستشهاد لا للاعتقاد كما قرره ابن كثير.
وقد تكون الإسرائيليات محرم إقرارها، مثل: الإفاضة في ذكر مرض أيوب عليه السلام، وأنهم نبذوه حتى أُلقي على المزابل، ولم تبق معه إلا زوجته.
ومثل تفسيرهم: ( ولقد همت .... ) فذكروا أن يوسف حل الإزار، وجلس منها مجلس الرجل من امرأته، ثم قام عنها.
ومنها خلافات لا فائدة فيها مثل لون كلب أهل الكهف، وشجرة آدم، ونوع عصا موسى عليه السلام.
أحسن الطرق في التفسير، تفسير القرآن بالقرآن، وقد فسر النبي: الظلم بأنه الشرك، لما قالوا: أينا لم يظلم نفسه، في قوله: { الذين آمنوا..... }
ثم بالسنة، مثل: { ألا إن القوة... }، الوحي، رواه مسلم.
ومثل: { للذين أحسنوا.... } فسرها بالرؤية.
ومثل: { طبقاً عن طبق.... } حالاً بعد حال، رواه البخاري.
ثم بأقوال الصحابة، ثم باللغة العربية، وأقوال التابعين.
9 ــ أمور يجب الحذر منها:
1 ــ نقل أقوال المفسرين في العقيدة والصفات من غير نظر وتأمل في معتقد السلف.
2 ــ الخوض فيما استأثر الله بعلمه.
3 ــ التهجم على التفسير من غير آلة مع الجهل بأقوال الشريعة واللغة.
4 ــ الاعتقاد مثل الاستدلال، وجعل المذاهب أصلاً، والتفسير تابعاً له.
5 ــ الحذر من تفسير العوام للقرآن، مثل { وقل اعملوا... }، و { ولا تنسَ نصيبك... } ومن جهلهم يزيدون في القرآن: ( وكفى الله المؤمنين شر..... ) بل يضعون آية من عندهم: ( قد جعل الله لكل شيء سبباً )
بعض المعاني اللطيفة:
ــ قد يعبر عن شيئين، والمقصود واحد، مثل: { نسيا حوتهما }، والذي نسي واحد.
ــ { يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم }، والرسل من الإنس.
ــ { يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان }، وهو الملح.
ــ بين الآيات و خواتيمها تناسب، فمثلاً: { والسارق.... }، فختم الآية بغفور رحيم، فقال أعرابي:
هذا لا يصح....
ــ لكن قد يكون الختم في نظرنا غير مناسب، لكن أعظم مما نظن، مثل قول عيسى عليه السلام، {إن تعذبهم
... العزيز الحكيم }، فهذا مقام تبرؤ من عملهم، وليس استشفاعاً.
ــ قد يذكر الشيء من غير مقابلة، مثل: { أصحاب الجنة... }، { خير لكم... }.
ــ من الخبر ما يكون إنشاءً و طلباً، أمراً و نهياً: { والوالدات يرضعنَّ.. }، { ومن دخله كان أمناً. }
{ فلا رفث..... }، { فإمساك بمعروف... }، { عليكم أنفسكم... }
ــ ليس كل أسلوب موجود عند العرب يجوز وقوعه في القرآن، مثل: الهجاء والمدح المفرط والهزل، فالجماع
يسمى في القرآن ملامسة أو مس أو دخول: { فلما تغشاها... }، وكذا قضاء الحاجة يسمى غائطاً.
ــ فرق بين خاطىء ومخطىء، فالأول: آثم، { إنك كنت من الخاطئين.. }، والثاني: معفو عنه:
{و ليس عليكم.... }.(/1)
ــ لابد من معرفة المحذوف، مثل { لكن الراسخون..... والمقيمين الصلاة }، والسبب في النصب على ستة أقوال، ونقل النحاس عن سيبويه: أن النصب على المدح، أو على الذم، مثل: { وامرأته حمالة.. }
ــ من الكتب النافعة في هذا كتاب المسائل السفرية، سئل عنها ابن هشام، وهو مسافر، ومنه قال تعالى:
{من شفع شفاعة... }، والكفل: النصيب، فلم غاير بينهما، فالجواب: أن تنويع اللفظ أعذب من تكراره، فقيل زعم بعضهم أن النصيب من الخير، والكفل من الشر، فكان ذكره أنسب، فقال: هذا مردود بقوله: {يؤتكم كفلين من رحمته.. }.
http://www.abdslam.com المصدر:(/2)
لطيفة في سورة النازعات ...
طريق القرآن
لقد اختلف في تفسير أوائل تلك السورة لأن: ( الموصفات المقسم بها محذوفات وأقيمت صفاتها مقامها، وكان لهذه الصفات تعلقات مختلفة اختلفوا في المراد بها ) [البحر المحيط :10/ 194].
ونحن نريد أن نصل إلى جمع بين تلك الأقوال يعطي للسورة كلها معنى غير المعنى الظاهر أمامك، وسأذكر لك أقوال المفسرين في هذه الآيات [ مقتبسة من البحر المحيط: 10/394 ] النَّازِعَاتِ الملائكة تنزع نفوس بني لآدم.
وقال الحسن وقتادة والأخفش: هي النجوم تنزع من أفق إلى أفق .
وقال السدي وجماعة: تنزع بالموت إلى ربها، وغرقاً إغراقا في الصدر، وقال أيضا: النفوس تحن إلى أوطانها وتنزع إلى مذاهبها، ولها نزع عند الموت .
وقال عطاء وعكرمة: القسي أنفسها تنزع بالسهام. وقال عطاء أيضاً: الجماعات النازعات بالقسي وغيرها إغراقاً .وقال مجاهد: المنايا تنزع النفوس.وقيل: النازعات: الوحوش تنزع إلى الكلأ.
وقيل: جعل الغزاة التي تنزع في أعنتها نزعا تغرق فيه الأعنة لطول أعناقها لأنها عراب، والتي تخرج من دار الإسلام إلى دار الحرب، قاله في الكشاف .
غَرْقاً أي: إغراقاً، وهي المبالغة في الفعل.
وقال ابن عباس وعلي: أو غرقاً في جهنم، يعني نفوس الكفار .
وَالنَّاشِطَاتِ قال ابن عباس ومجاهد: الملائكة تنشط النفوس عند الموت، أيْ: تحلها وتنشط بأمر الله حيث كان.
وقال ابن عباس أيضاً وقتادة والحسن والأخفش: النجوم تنشط من أفق إلى أفق، تذهب وتسير بسرعة.
وقال مجاهد أيضاً: المنايا .وقال عطاء: البقر الوحشية وما جرى مجراها من الحيوانات الذي ينشط من قطر إلى قطر.وقال ابن عباس أيضاً: النفوس المؤمنة تنشط عند الموت للخروج.وقيل: التي تنشط للإزهاق.
وَالسَّابِحَاتِ قال عليّ ومجاهد: الملائكة تتصرّف في الآفاق بأمر الله، تجيء وتذهب.
قال قتادة والحسن: النجوم تسبح في الأفلاك. وقال أبو روق: الشمس والقمر والليل والنهار.
وقال عطاء وجماعة: الخيل، يقال للفرس سابح. وقيل السحاب لأنها كالعائمة في الهواء.
وقيل: الحيتان دواب البحر فما دونها وذلك من عظم المخلوقات.وقال عطاء أيضاً: السفن.
وقال مجاهد أيضاً: المنايا تسبح في نفوس الحيوان.
فَالسَّابِقَاتِ قال مجاهد: الملائكة سبقت بني آدم بالخير والعمل الصالح.
وقال ابن مسعود: أنفس المؤمنين تسبق إلى الملائكة الذين يقبضونها، وقد عاينت السرور شوقاً إلى لقاء الله تعالى.وقال عطاء: الخيل.وقيل: النجوم.وقيل المنايا تسبق الآمال.
فَالْمُدَبِّرَاتِ قال ابن عطية: لا أحفظ خلافاً أنها الملائكة، ومعناها أنها تدبر الأمور التي سخرها الله تعالى وصرفها فيها، كالرياح والسحاب وسائر المخلوقات.
وقيل الملائكة الموكلون بالأحوال: جبريل للوحي وميكائيل للمطر وإسرافيل للنفخ في الصور وعزرائيل لقبض الأرواح.وقيل: تدبيرها: نزولها بالحلال والحرام .
وقال معاذ: هي الكواكب السبعة، وإضافة التدبير إليها مجاز، أيْ: يظهر تقلب الأحوال عند قرانها وتربيعها وتسديسها وغير ذلك .
وإذا نظرنا في سياق السورة وجدناها تحفل بسياق عنيف وسريع، وهم لا يزالون ? يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً نَّخِرَةً قَالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ ? يجدون أمامهم ? فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ ? فسياق السورة يخطف الأبصار ويسوق الإنسان بسرعة هائلة إلى مصيره الذي يتساءل عن وقته فيجد الإجابة ? كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا ? .
ووسط كل هذا العنف تخرج إلينا قصة موسى وفرعون ليضرب الله لك مثلا عمليا سريعا عمن تحدى الله بقوته واعتقد أن القيامة سراب كيف أخذه الله بسرعة وعنف ? فَحَشَرَ فَنَادَى فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى ?.
ثم ينقلك من قصص القرون الماضية إلى شيء تراه عيناك ولكن قلبك غافل عن تدبره، فجأة تراه أمامك مما يجعلك فعلا تنظر إليه وبإمعان: ? أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا وَمَرْعَاهَا وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ ?. وفجأة تقوم القيامة ? فَإِذَا جَاءتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى ? ساعتها تتذكر كل ما فعلت في حياتك، ولكن المشكلة أنك تبدأ وأنت في قراءة تلك الآيات بتسير شريط حياتك أمامك ? يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ مَا سَعَى ?. وأنت في حال تذكرك هذا تفاجأ ?وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَى ? .(/1)
أما أوائل السورة إذا دققنا في كل ما قيل من معاني حوله – ولاحظ أنها ليست السورة الوحيدة التي تحتفل بكثرة التأويل لآياتها - وجدناها تجمع بين الشدة والسرعة والذهاب بقوة وعنف إلى مكان معلوم. إن تلك الكلمات أشبه بدوال مجهولة الهوية أو كثيرة المعاني تدل على مدلول واحد، وهو قوة الله في الكون، وأن الإنسان حتما سينقضي أجله، بل فعلا يشعر الإنسان في سورة النازعات بأنه سينتقل إلى العالم الآخر فور إنتهائه من السورة.(/2)
لعبة نقل المتاعب
أ. د. عماد الدين خليل 21/8/1426
25/09/2005
-1-
في الشرق الإسلامي كثيرون ممن كلفوا أنفسهم، ولعلهم كُلّفوا، بحمل أسفار المتاعب والعقد الحضارية المستعصية من عالم الغرب إلى عالم الإسلام والادعاء بأنها من صنع الإسلام.
ليس هذا فحسب، بل إنهم يضيفون إليها، وينفخون فيها من أجل تضخيمها ومنحها حجماً أكبر من حجمها الحقيقي، مع إضافة بعض الأصباغ المحلية لكي تتحقق القناعة المطلوبة، ويعتقد السذّج من الناس بأن هذا من صنع الإسلام، أو على الأقل من صنع المسلمين والبيئة الإسلامية.
-2-
إننا نتذكر هنا - على سبيل المثال - نموذجاً من عشرات بل من مئات وألوف، تلك الصحفية المصرية المعروفة وهي ( تكافح ) لمدى يقرب من نصف القرن، من أجل تصوير المرأة الشرقية كما لو كانت تعاني من متاعب ومآس ومعضلات معقدة مستعصية متشابكة، لا تعاني المرأة الغربية عشر معشارها، بل لا تعاني منها على الإطلاق. بل إنها - المرأة الغربية - يجب أن تُتّخذ مثلاً أعلى يتحتم أن تحذو المرأة الشرقية حذوه إذا ما أرادت فعلاً تحقيق النقلة المرجوة من الجحيم إلى النعيم.
وكانت هذه الصحفيّة المثابرة التي سخّرت لمحاولتها حشداً من الصحف والمجلات وحتى الكتاب والأدباء، تسعى إلى تغطية المحاولة والالتفاف على مراميها الحقيقية بصيغ وأساليب عدة أبرزها -ولا ريب- محاولة تعليق المعاناة القاسية للمرأة الشرقية على الرجل المسلم الجاهل، ولكنها من وراء هذا التعليق كانت تشير بإصبع الاتهام- ومن طرف خفي- إلى الإسلام نفسه، والبيئة الإسلامية التي صاغها هذا الدين.
-3-
ومضت الصحفيّة المذكورة فيما أسمته معركة تحرير المرأة إلى هدفها المرسوم دون كلل أو ملل .. عقود عديدة والصحف المصرية، وعدد من الصحف العربية تتبارى بالدعوة المترعة حماساً، وتؤكد القول شهراً بشهر وأسبوعاً بأسبوع ويوماً بيوم، حتى خُيّل للناس، لكثرة ما أُعيد القول ولُجّ في الطلب، أن المرأة المسلمة تعاني فعلاً من الويلات، وأنه قد آن الأوان لتخليصها -وبأسرع وقت- مما تعانيه.
ولم يكن الأمر صعباً إذا خلصت النية وصدق العزم، فما على هذه المرأة سوى أن تنظر إلى ما تفعله أختها في عالم الغرب فتحذو حذوه، هناك حيث تستردّ سعادتها الضائعة وكرامتها الممتهنة وحقها المسلوب.
والأصوات المخلصة التي نبهت إلى خطورة اللعبة، وخبثها ، بل إلى خطئها ابتداء، كاد يُطوَى عليها، واضطر بعضها –فعلاً- إلى أن يصمت، أما أولئك الذين واصلوا المجابهة فإن الصخب والضجيج الذي أحاط بدعوى (الصحفيّة) غطّى على أصواتهم؛ فلم يعد يُعرف ما الذي تريد أن تقول.
-4-
وتدور الأيام دورتها، وتزداد قنوات الاتصال بالحياة الغربية قوة وسرعة وانتشاراً، ويعرف الشرقيون من خلال الصحف والمجلات والسينما والإذاعة والتلفاز والدراسات والأعمال الأدبية المترجمة، كم تعاني المرأة الغربية هناك، وكم تتعذب .. ويعرفون - كذلك - مقدار ماتتخبط فيه من مشاكل ومآسٍ ومنغّصات .. ثم هم يعرفون ان المرأة المسلمة، على ماتعانيه من متاعب بسبب الرجل المسلم الجاهل، لا الإسلام نفسه، إنما تحيا حالة أقرب إلى إنسانيتها، وتكوينها، ومطامحها، من شقيقتها في الغرب بما لا يقبل قياساً!!
وتدور الأيام دورتها فاذا أصوات قادمة من الغرب، من نسوة غربيات
عالمات ومتخصصات، لامجرد دعيّات أو مهرّجات، تشير بالحرف الواحد إلى أن الهندسة الإسلامية لدور المرأة في العالم هي الهندسة الوحيدة المنسجمة بإعجاز باهر مع تكوين المرأة ومطالبها، ورغائبها الجسدية والنفسية، وأن ماعداها ليس سوى الفوضى والتخبط والضلال وأن حصيلته لن تكون سوى الشقاء الذي يلف المرأة الغربية رغم مايبدو ظاهراً من أنها تعيش سعيدة، ولكنه ليس سوى الديكور الذي يخفي وراءه الوجه القبيح.
-5-
وتدور الأيام دورتها فإذا عالم الغرب يشهد من الوقائع والأحداث في دائرة المرأة، مايؤكد صدق هذه المقولات جميعاً، فيتجاوز نطاق الجدل إلى ساحة الرؤية المشهودة التي تحمل إقناعها المبين.
ونحن نعرف جميعاً - على سبيل المثال فحسب - ماحدث في إيطاليا. فبعد كفاح دام أكثر من عقد من الزمن قدر البرلمان الإيطالي أن ينتزع بأغلبية ساحقة حق الطلاق بالنسبة لطرفي المعادلة الزوجية: الرجل والمرأة، واعتبرت الصحف اليسارية ذلك انتصارا كبيرا لقضية الإنسان.
بينما كان (الطلاق) بالنسبة للصحفية إياها واحداً من الأهداف التي تسترت وراءها، وظلت تصوّب عليها أعيرتها النارية دون كلل او ملل لمدى ثلاثين أو أربعين عاماً!!
ترى، ألا تزال هذه المرأة المثابرة تصر على استمرار الحرب ضد الطلاق، الذي هو بمثابة صمام أمان لما قد يصيب الحياة الزوجية من مشاكل وشروخ مستعصية، والذي لم يُمارس في عالم الإسلام، رغم حلّيته، إلا في نطاق محدود إذا ما قورن بما شهدته الساحة الغربية نفسها، بما فيه المعسكر الشيوعي، الأمر الذي تؤكده الإحصائيات التي لاتميل يميناً أو شمالاً؟
-6-(/1)
وغير الطلاق مسائل أخرى كثيرة تصورتها صاحبتنا مشاكل ومعضلات وشمّرت عن ساعد الجد سعياً لحلها، واتخذتها أهدافاً سدّدت إليها سهامها دون كلل أو ملل، لكنها في حقيقة الأمر لاتعدو أن تكون الوضع الطبيعي الصحيح، المرسوم بعناية، والذي شذت عنه المرأة الغربية فشقيت وتعذّبت، وهاهي الصحفيّة إياها تبذل جهوداً استثنائية مضاعفة لكي تدفع المرأة المسلمة إلى الخروج من هذا الوضع أسوة بما فعلته زميلتها الغربية، مهما تكن النتائج، وبغض النظر عن المصير الذي ستؤول إليه.
فهي - مثلاً - تريد أن تحطّم حاجز القِوامة، قِوامة الرجل على المرأة في مؤسسة الأسرة .. لماذا؟
إذا كان الإسلام قد منح الزوجة من الحقوق المادية والأدبية والقانونية مالم تتمتع به امرأة في العالم .. إذا فهمنا (الحق) طبعاً على أنه قيمة إيجابية ترتبط ارتباطاً عميقاً بالنظام، وتشكل جانباً بنائياً في صيرورته، لا مجرد تسيّب وتفلّت وفوضى وضرب على غير هدى.
وإذا كان الإسلام قد رتّب على الزوج من الواجبات تجاه زوجته ما يمنح حقوقها تلك مزيداً من الحصانة والضمانات .. فماذا لو منح حق قيادة مؤسسة الأسرة للرجل باعتباره أكثر قدرة على ممارسة هذه الوظيفة بحكم موقعه الاجتماعي، وربما - اللهم دون حسم أو جزم - بحكم عقلانيته وعدم استجابته المبكرة للدوافع والمؤثرات العاطفية؟!
ومعلوم أنه مامن تنظيم أو مؤسسة في حضارة مامن الحضارات إلا واختيرت لها (القيادة) المتفردة التي تعرف - بحكم كفاءتها وإمكاناتها وارتباطاتها - كيف تسوسها وتسير بها صوب النمو، وتجتاز المشاكل والعقابيل، ومعلوم كذلك أن ازدواج السلطة يعني التفكك والدمار، وهو يتمخض عن حشود من السلبيات تفوق كثيرًا مايمكن أن يتأتى عنها من إيجابيات.
الصحفيّة تأبى الإذعان لهذه البداهات وتصر على استيراد الصيغة الغربية التي تضيع فيها المرأة والرجل معاً حيث تضيع القيادة، وحيث تصبح مؤسسة الأسرة مركباً بدون قبطان.
-7-
وماذا عن تفرغ المرأة للبيت؟ ماذا عن دورها الكبير هناك؛ الدور الواسع المتشعب الخطير الذي اعترفت به التجربة الواقعية قبل وبعد تأكيدات الأديان، والشرائع؟
إن الإسلام - طبعاً - لايرفض خروج المرأة، لايرفض توظيفها هنا أو هناك، لايقف بمواجهة الإفادة من كفاءاتها في هذه الدائرة أو تلك من دوائر الدولة أو النشاط العام ومؤسساتها، لكنه يرفض ألاّ تكون هناك ضوابط ومعايير وخرائط دقيقة تتحرك المرأة على ضوئها، فلا تهدر طاقاتها أو تضيع.
والإسلام- كما هو شأنه في كل مسائل الحياة- يرتب سلماً للأولويات هو بمثابة ضرورة من الضرورات الاجتماعية بل الحضارية، وهو هنا بصدد وظيفة المرأة، يجعل مهمتها في مؤسسة الأسرة هي القاعدة، أو الضرورة، أو المهمة الأولى في وجودها، وبعدها تتسلسل الوظائف والمهمات، على ضوء الحاجة الاجتماعية، ووفق الظرف التاريخي الذي يعيشه شعب من الشعوب.
فعندما كانت الدولة الإسلامية الفتية تقاتل خصومها في كل مكان، عندما كانت مهمتها تعزيز مكانتها في الأرض بأيد لم تكن تكفي لتنفيذ هذا الهدف الكبير كان لابد للمرأة أن تدخل طرفاً في المعادلة، وأن تقف إلى جانب الرجل تحمل السلاح وتقاتل.
وعندما كانت الأمة الإسلامية تجابه التحديات الحضارية، بعد الفتح، وتعمل عقلها لتنفيذ قيمها العقدية في واقع الحياة، وتشكيل التيار الثقافي الذي يحمل صبغتها، كان لابد للمرأة كذلك أن تدخل طرفاً في المهمة، وأن تكتب وتحدّث وتعلّم وتتعلم .. إلى آخره ..
لم يقل أحد في الحالتين بأن المرأة خرجت عن دورها المرسوم، وأن عليها أن ترجع لكي تظل في البيت. ولكن كانت مهمتها كربة بيت .. كزوجة .. وأم .. ومربية .. هي القاعدة التي أكد عليها الإسلام، وغدت في حس المسلمين بمثابة بداهة من البداهات. وكانت المعادلة بهذه الصيغة واضحة ومقنعة، ولم يترتب عليها -كما يتوهم عشاق جلب المتاعب الحضارية أي معضلة تقتضي دراسة أو حلاً ..
وتجيء الصحفيّة المثابرة لكي تصرخ على مدى أربعين عاماً بأن على المرأة أن ترفض عبوديتها للبيت، وأن تخرج لكي تحقق أنوثتها وحريتها وتكسب حقها المهدور دون أن تدرك - هذه الصحفيّة - أو لعلها تدرك وتتعمد التجاهل، أن أنوثة المرأة لن تتحقق إلا من خلال وظيفتها الأساسية كزوجة وأم ومربية، وإلا من خلال كونها طرفاً في معادلة الحياة والتخلق، تلك التي تضم الرجل والمرأة والأطفال، منذ كان هنالك تقابل بين الرجل والمرأة من أجل استمرار الحياة.
-8-
ومسألة التحجب، كانت هي الأخرى الساحة التي قدمت فيها صاحبتنا فنوناً من الإثارة بالكلمة الحادة التي تجرح وتدمي، وبالصورة التي تكاد الأحرف فيها تصرخ حتى تبح أصواتها.(/2)
فما دامت المرأة الغربية قد كشفت عن ساقيها فإنه يتحتم على المرأة الشرقية المسلمة أن تكشف هي الأخرى عن ساقيها .. ومادامت المرأة الغربية قد عرضت جانباً من ثدييها فإن لزميلتها المسلمة أن تحذو حذوها .. مادامت المرأة الغربية قد لطخت وجهها وهي تغادر البيت بحفنات من الأحمر والأبيض ورشّت على جسدها حفنات أخرى من العطور فإن للمرأة المسلمة أن تلطخ وترش هي الأخرى .. مادامت المرأة الغربية تلهث وراء (الموضات) الجديدة في عالم الأزياء فإن المرأة الشرقية يجب أن تلهث هي الأخرى، وترغم زوجها على أن يلهث هو الآخر لكي يغطي مطالبها جميعاً ..
لماذا؟ هل ثمة أي قيمة (حضارية) تكمن في الطبيعة المتعهرة التي تكون عليها المرأة في الشارع أو الدائرة أو المعمل؟ هل ثمة أي عرقلة أو إعاقة للصيرورة الحضارية في كون المرأة ترفض التبرّج، وتأبى التزين إلا لزوجها وزميلاتها؟
-9-
إن الحديث عن البعد الحضاري لمسألة التحجّب أو التبرّج يطول، ومن أجل الاقتصاد في الكلمات أحب أن أشير إلى واحدة من الظواهر المشهورة تستمد قدرتها على الإقناع من كونها أمراً معيشاً شهدناه بأم أعيننا في هذا البلد أو ذاك من بلدان الإسلام.
إن إقبال الشباب على الفتاة المحجبة أخذ يتصاعد حتى كاد يسجل أرقاماً قياسية. ويستطيع المرء أن يستخلص في هذا المجال المحصلة التالية: إذا حدث وإن تساوت امرأتان في الجمال، وربما في الحسب والموقع الاجتماعي، فإن حظ المرأة المحجبة من الخطبة يزيد بنسبة ملحوظة عن حظ السافرة .. لماذا؟
الجواب واضح قد لاتدركه صاحبتنا بسهولة بعد إذ التوى تكوينها، وغابت عنها بداهات الاشياء.
إن الفتاة المحجبة أكثر قبولاً للحياة الزوجية حتى بالنسبة لبعض الإباحيين والمتحللين أنفسهم؛ لأنهم يعرفون جيداً أن هذه الحياة التي تتطلب ثقة وأمناً واستقراراً شيء، والبهيمية التي تتوخى إشباع الشهوة العابرة شيء آخر.
فالتجربة الجنسية المحضة مسألة بسيطة قد تلبي نداءها هذه المرأة أو تلك، ولكن الزواج تجربة معقدة وممارسة مركبة تتضمن أكثر من وجه، وتتداخل فيها دوافع شتى لاتقتصر على المساحة الجنسية الصرفة. ولن تصلح لهذه التجربة مطلق أنثى كما يقول المناطقة، بغض النظر عن كافة الجوانب المعقدة المتشابكة، بل لابد من توفر حد أدنى من الشروط لكي يستقيم البناء ويتماسك ويتجاوز صيغته الكرتونية التي تنادي بها الصحفيّة إياها والتي تجعل من مسألة بناء العائلة وإشباع حاجة الأبوة والأمومة وتنفيذ وظيفة استمرارية الحياة، أمراً ثانوياً بالنسبة للتحقق الشكلي للمرأة المتحررة.
- 10-
إن نقل المعضلات الغربية إلى عالم الشرق ومحاولة وضع رداء إسلامي على جسدها المتقرح، إن كان مقبولاً قبل أربعة عقود أو خمسة، فإنه ليس بمقبول الآن بعد أن أصبح بمقدور قنوات الاتصال اليومي في الحياة الغربية، أن تنقل إلينا دقيقة بدقيقة مايجري هناك.
ولن يكون بمستطاع ألف أخرى من الصحفيّة المذكورة أن تطمس على هذا الذي يشهده الجميع لكي ترمي به الإسلام والمسلمين(/3)
لعشاق المناظر الإباحية ما رأيكم بهذا المنظر ...
الرسالة الأولى:
لعشاق المناظر الإباحية ما رأيكم بهذا المنظر؟؟؟ مع الاعتذار مسبقا!
بدر شاب في مقتبل العمر طالب في الجامعة وحين يعود لمنزله يقضي وقت فراغه أمام شاشة الكمبيوتر يعرف كل شيء عن عالم الإنترنت ولكنه لا يعرف سوى الجانب الأسود منه.. هو أمام الناس وأهله شابا مستقيما وسامته جعلته فارس أحلام كل بنت ولكنه حين يدخل غرفته يتحول إلى عبد لشهوته..
عبد الرحمن صديقه المقرب ولكنه من عباد الله ومن شباب الدعوة..
خرج الإثنان في سيارة الأول وأثناء سيرهم صادفتهم نقطة تفتيش.. بادر عبد الرحمن بفتح درج السيارة ليخرج دفتر بيانات السيارة وإذا به يرى تلك الصور العارية!
صمت رهيب يلف السيارة يتبعه زفير قوي من بدر الذي ملأ العرق وجهه بعد أن أشار له الشرطي بمواصلة السير.. يلتفت على عبد الرحمن فإذا به يستغفر الله ويحمده ليدور هذا الحوار..
عبد الرحمن: ما هذه الصور يا بدر؟
بدر: لقد طلبها أحد الطلبة مني و أنا ذاهب لأعطيها إياه.
عبد الرحمن: ألا تعلم أنك ترتكب معصية؟ ألا تعلم أن من دل على ضلالة فله آثام من تبعه لا ينقص من آثامهم شيئا؟ ألا تخاف الله؟ أتخاف الشرطي المخلوق ولا تخاف الخالق؟ أ..
بدر مقاطعا بتهكم يكفي خلاص دع خطبك للمسجد أنا ما زلت شابا وما أفعله أهون من أن أزني وسأتوب عندما يهديني الله ولست بحاجة لخطبتك.
عبد الرحمن: أنزلني هنا فلن أشاركك في الإثم.
يعود بدر للمنزل يغلق باب غرفته.. يشغل الكمبيوتر.. ويبدأ بمزاولة هوايته في البحث عن المواقع الإباحية.. صور ماجنة وأفلام هذا ما أحتاجه لأرفه عن نفسي بعد كلام ذلك المتخلف.. ما أجملها.. يقوم فيوصد الباب.. نعم سأجلس عاريا وأتخيل نفسي معهم.. إنه شعور جميل.. ولو مارست العادة السرية فسيكون أجمل وأكثر واقعية.. نعم إنها النشوة التي تسعد الإنسان حقا..
وما هي إلا لحظات حتى أنهى شهوته الشيطانية ولكن ما هذا الألم الشديد في صدري.. آه يصرخ وقد تلوثت يده.. يا رب.. يا رب.. آه يشتد الألم يفتح الباب وإذا بوالديه أمامه.. لقد أنساه الألم لبس ملابسه إنها حلاوة الروح بل إنها الفضيحة.
يحاول تبرير المنظر ولكن ملك الموت كان أسرع منه ليموت على تلك الصورة...
إنها قصة خيالية ولكن هل يستطيع أحد مدمني المواقع الإباحية أن يضمن عدم تكرار هذا المشهد فيكون مكان بدر؟ وهل يتمنى أحدنا أن يموت مثل تلك الميتة؟
بالطبع.. لا إذن بادر أخي بالتوبة قبل أن تختم حياتك بخاتمة سوء وتذكر أن الله يفرح بتوبة العبد وهو القائل: " قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا"
إخواني لقد كتبت ملخص هذه القصة في ذلك الموقع و لله الحمد تأثر بها عدد من رواد تلك المواقع إنه أسلوب من أساليب الدعوة أتركه لمن أراد إتباعه.
هم يستخدمون العناوين الجذابة للفساد فلم لا نستخدمها للدعوة؟؟
الرسالة الثانية:
أخي الكريم.. أختي الكريمة...
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أما بعد:
اجعل هذه الرسالة حجة لك لا عليك.
قال الله - تعالى - (إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة) سورة النور.
هل تعلم: أن ما تقوم به من تبادل الصور الفاضحة يعتبر سيئة جارية.
(أي أن إثمها وإثم من نشرها جار معك حتى تتوب إلى الله).
ترضى لأمك وأختك مشاهدة هذه الصور؟؟ أليس المسلمون إخوانك؟؟
بأي شيء تجيب ربك عندما يسألك عن (نشر الصور المحرمة) يوم القيامة؟؟
هل تعلم: أنك تتحمل آثام كل من شاهد هذه الصور التي قمت بتبادلها.
هل تعلم: أن رصيدك من السيئات يزداد بازدياد متبادلي هذه الصور حتى بعد مماتك.
هل تعلم: أن تبادل هذه الصور بين الناس بعد مماتك قد يسبب عذابك في القبر حتى قيام الساعة.
هل تعلم: بأن الله - سبحانه وتعالى- يغار ومن غيرته أنه حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن.
أخي الكريم تذكر...
قول الله - تعالى -: (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون).
أخي الكريم تذكر...
قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (اضمنوا لي ستاً من أنفسكم أضمن لكم الجنة، اصدقوا إذا حدثتم، وأوفوا إذا وعدتم، وأدوا إذا ائتمنتم، واحفظوا فروجكم، وغضوا أبصاركم، وكفوا أيديكم).
أخي إن ما تقوم به يعد نشر للفساد، وإماتة للقلوب، ولهو للناس عن ذكر الله وأعلم أن النظر سبب الزنا، فأحذر من الوقوع فيه، وإن من وقع به بسبب تلك الصور فأثمه يقع عليك.
فتوبوا إلى الله قبل فوات الأوان.
ثم إذا كنت بارعاً في استخدام الإنترنت لماذا لا تنصر دين الإسلام وتنكر المنكر أينما كان، ففرصتك باقية. فهل تفعل؟.
نسأل الله لك الهداية. والله من وراء القصد(/1)
لعشرة الأواخر والدعاء
...
...
التاريخ : 23/10/2005
الكاتب : إبراهيم بن محمد الحقيل ... الزوار : 2369
< tr>
الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله .
أما بعد : فعندما تنزل الحاجة بالعبد فإنه ينزلها بأهلها الذين يقضونها ، وحاجات العباد لا تنتهي . يسألون قضاءها المخلوقين ؛ فيجابون تارة ويردون أخرى . وقد يعجز من أنزلت به الحاجة عن قضائها . لكن العباد يغفلون عن سؤال من يقضي الحاجات كلها؛ بل لا تقضى حاجة دونه ، ولا يعجزه شيء ، غني عن العالمين وهم مفتقرون إليه . إليه ترفع الشكوى ، وهو منتهى كل نجوى ، خزائنه ملأى ، لا تغيضها نفقه ، يقول لعباده { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ}
كل الخزائن عنده ، والملك بيده { تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }[ الملك] {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ }[ الحجر ] ، يخاطب عباده في حديث قدسي فيقول : (( يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أًدخل البحر )) [ رواه مسلم 2577] ويقول سبحانه : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ }[ فاطر] .
لا ينقص خزائنه من كثرة العطايا ، ولا ينفد ما عنده ، وهو يعطي العطاء الجزيل { مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللّهِ بَاقٍ } [ النحل : 96] قال النبي عليه الصلاة والسلام (( يدُ الله ملأى لا تغيضها نفقه سحاءُ الليل والنهار ، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماء والأرض ؟ فإنه لم يغض ما في يده ، وكان عرشه على الماء وبيده الميزان يخفض ويرفع )) [ رواه البخاري 684 ومسلم 993] .
هذا غنى الله ، وهذا عطاؤه ، وهذه خزائنه ، يعطي العطاء الكثير ، ويجود في هذا الشهر العظيم ؛ لكن أين السائلون ؟ وأين من يحولون حاجاتهم من المخلوقين إلى الخالق ؟ أين من طرقوا الأبواب فأوصدت دونهم ؟ وأين من سألوا المخلوقين فرُدوا ؟ أين هم ؟ دونكم أبواب الخالق مفتوحةً ! يحب السائلين فلماذا لا تسألون ؟ .
لماذا الدعاء ؟!
لا يوجد مؤمن إلا ويعلم أن النافع الضار هو الله سبحانه ، وأنه تعالى يعطي من يشاء ، ويمنع من يشاء ، ويرزق من يشاء بغير حساب ، وأن خزائن كل شيء بيده ، وأنه تعالى لو أراد نفع عبد فلن يضره أحد ولو تمالأ أهل الأرض كلهم عليه ، وأنه لو أراد الضر بعبد لما نفعه أهل الأرض ولو كانوا معه . لا يوجد مؤمن إلا وهو يؤمن بهذا كله ؛ لأن من شك في شيء من ذلك فليس بمؤمن ، قال الله تعالى : {وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } [ يونس : 107] .
نعم والله لا ينفع ولا يضر إلا الله تعالى { إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ } [ النحل : 53]
{ وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ } [ الإسراء : 67] سقطت كل الآلهة ، وتلاشت كل المعبودات وما بقي إلا الله تعالى { ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ }[ الإسراء : 67] {قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً } [الفتح :11]
لا يسمع دعاء الغريق في لجة البحر إلا الله . ولا يسمع تضرع الساجد في خلوته إلا . ولا يسمع نجوى الموتور المظلوم وعبرته تتردد في صدره ، وصوته يتحشرج في جوفه إلا الله . ولا يرى عبرة الخاشع في زاويته والليل قد أسدل ستاره إلا الله {وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى {7} اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى }[طه:8] يغضب إذا لم يُسأل ، ويحب كثرة الإلحاح والتضرع ، ويحب دعوة المضطر إذا دعاه ، ويكشف كرب المكروب إذا سأله {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ }[النمل:62] .
روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( يتنزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول : من يدعوني فأستجيب له ؟ من يسألني فأعطيه ؟ من يستغفرني فأغفر له ؟)) [ رواه البخاري 7494 ومسلم 758](/1)
الله أكبر ، فضل عظيم ، وثواب جزيل من رب رحيم ، فهل يليق بعد هذا أن يسأل السائلون سواه ؟ وأن يلوذ اللائذون بغير حماه ؟ وأن يطلب العبادُ حاجاتهم من غيره ؟ أيسألون عبيداً مثلهم ، ويتركون خالقهم ؟! أيلجأون إلى ضعفاء عاجزين ، ويتحولون عن القوي القاهر القادر ؟! هذا لا يليق بمن تشرف بالعبودية لله تعالى ، يقول النبي صلى الله عليه وسلم (( من نزلت به فاقة فأنزلها بالناس لم تُسدَّ فاقته ، ومن نزلت به فاقة فأنزلها بالله فيوشك الله له برزق عاجل أو آجل )) [ رواه أبو داود 1645والترمذي وصححه 2326 ] .
فضل الدعاء
إن الدعاء من أجلِّ العبادات ؛ بل هو العبادة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ؛ ذلك لأن فيه من ذلِّ السؤال ، وذلِّ الحاجة والافتقار لله تعالى والتضرع له ، والانكسار بين يديه ، ما يظهر حقيقة العبودية لله تعالى ؛ ولذلك كان أكرم شيء على الله تعالى كما قال النبي عليه الصلاة والسلام (( ليس شيء أكرم على الله من الدعاء )) [ رواه الترمذي وحسنه 3370 وابن ماجه 3829] .
وإذا دعا العبد ربه فربه أقربُ إليه من نفسه { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}[ البقرة : 186] ، قال ابن كثير رحمه الله تعالى : (( في ذكره تعالى هذه الآية الباعثة على الدعاء متخللة بين أحكام الصيام إرشاد إلى الاجتهاد في الدعاء عند إكمال العدة بل وعند كل فطر كما روى ابن ماجه عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( إن للصائم عند فطره دعوةً ما ترد )) [رواه ابن ماجه 1753 ، وانظر تفسير ابن كثير 1/ 328 ] دعوةٌ عند الفطر ما ترد ، ودعاء في ثلث الآخر مستجاب ، وليلةٌ خير من ألف شهر ، فالدعاء فيها خير من الدعاء في ألف شهر . ما أعظمه من فضل ! وأجزله من عطاء في ليالٍ معدودات . فمن يملك نفسه وشهوته ، ويستزيد من الخيرات ، وينافس في الطاعات ، ويكثرُ التضرع والدعاء .
ليالي الدعاء
نحن نعيش أفضل الليالي ، ليالٍ تعظُم فيها الهبات ، وتنزل الرحمات ، وتقال العثرات ، وترفع الدرجات .
فهل يعقل أن تقضى تلك الليالي في مجالس الجهل والزور ، وربُ العالمين ينزل فيها ليقضي الحوائج . يطلع على المصلين في محاريبهم ، قانتين خاشعين ، مستغفرين سائلين داعين مخلصين، يُلحون في المسألة ، ويرددون دعاءهم : ربنا ربنا . لانت قلوبهم من سماع القرآن ، واشرأبت نفوسهم إلى لقاء الملك العلام ، واغرورقت عيونهم من خشية الرحمن . فهل هؤلاء أقرب إلى رحمة الله وأجدر بعطاياه أم قوم قضوا ليلهم فيما حرم الله ، وغفلوا عن دعائه وسؤاله؟ كم يخسرون زمن الأرباح ؟ وساء ما عملوا ؟ ما أضعف هممهم ، وما أحط نفوسهم ، لا يستطيعون الصبر ليالي معدودات !!
من يستثمر زمن الربح ؟!
هذا زمن الربح ، وفي تلك الليالي تقضى الحوائج ؛ فعلق – أخي المسلم – حوائجك بالله العظيم ، فالدعاء من أجل العبادات وأشرفها ، والله لا يخيب من دعاه قال سبحانه : { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } [ غافر : 60] وقال تعالى : { ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ {55} وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ}[ الأعراف :56] .
العلاقة بين الصيام والدعاء
آيات الصيام جاء عقبها ذكرُ الدعاء { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}[ البقرة : 186] قال بعض المفسرين : (( وفي هذه الآية إيماءٌ إلى أن الصائم مرجو الإجابة ، وإلى أن شهر رمضان مرجوة دعواته ، وإلى مشروعية الدعاء عند انتهاء كل يوم من رمضان )) [ التحرير والتنوير 2/179] والله تعالى يغضب إذا لم يسأل قال النبي عليه الصلاة والسلام (( من لم يسأل الله يغضب عليه )) [ رواه أحمد 2/442 والترمذي 3373 ] .
الله تعالى أغنى وأكرم
مهما سأل العبد فالله يعطيه أكثر ، عن أبي سعيد رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال : (( ما من مسلم يدعو الله بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث : إما أن تعجل له دعوته ، وإما أن يدخرها له في الآخرة ، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها . قالوا : إذاً نكثر ، قال : الله أكثر )) [ رواه أحمد 3/18].(/2)
والدعاء يرد القضاء كما قال النبي عليه الصلاة والسلام (( لا يرد القضاء إلا الدعاء ، ولا يزيد في العمر إلا البر )) [ رواه الترمذي وحسنه 2139 والحاكم وصححه 1/493] . وفي حديث آخر قال عليه الصلاة والسلام : (( الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل فعليكم عباد الله بالدعاء )) [ رواه أحمد 5/234 والحاكم 1/493] فالله تعالى أكثر إجابة ، وأكثر عطاءً .
الذل لله تعالى حال الدعاء
إن الدعاء فيه ذلٌ وخضوع لله تعالى وانكسار وانطراح بين يديه ، قال ابن رجب رحمه الله تعالى : وقد كان بعض الخائفين يجلس بالليل ساكناً مطرقاً برأسه ويمد يديه كحال السائل ، وهذا من أبلغ صفات الذل وإظهار المسكنة والافتقار ، ومن افتقار القلب في الدعاء ، وانكساره لله عز وجل ، واستشعاره شدة الفاقةِ ، والحاجة لديه . وعلى قدر الحرقةِ والفاقةِ تكون إجابة الدعاء ، قال الأوزاعي : كان يقال : أفضل الدعاء الإلحاح على الله والتضرع إليه )) [ الخشوع في الصلاة ص72] .
أيها الداعي : أحسن الظن بالله تعالى
والله تعالى يعطي عبده على قدر ظنه به ؛ فإن ظن أن ربه غني كريم جواد ، وأيقن بأنه تعالى لا يخيب من دعاه ورجاه ، مع التزامه بآداب الدعاء أعطاء الله تعالى كل ما سأل وزيادة ، ومن ظن بالله غير ذلك فبئس ما ظن ، يقول الله تعالى في الحديث القدسي : (( أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا دعاني )) [ رواه البخاري 7505 ومسلم 2675] .
الدعاء في الرخاء من أسباب الإجابة
إذا أكثر العبدُ الدعاء في الرخاء فإنه مع ما يحصل له من الخير العاجل والآجل يكون أحرى بالإجابة إذا دعا في حال شدته من عبد لا يعرف الدعاء إلا في الشدائد . روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (( من سره أن يستجيب الله له عند الشدائد فليكثر من الدعاء في الرخاء )) [ رواه الترمذي وحسنه 3282 والحاكم وصححه 1/ 544] .
ومع أن الله تعالى خلق عبده ورزقه ، وأنعم عليه وهو غني عنه ؛ فإنه تعالى يستحي أن يرده خائباً إذا دعاه ، وهذا غاية الكرم ، والله تعالى أكرم الأكرمين .
روى سلمان رضي الله عنه فقال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( إن الله حييٌّ كريم يستحيي إذا رفع الرجل إليه يديه أن يردهما صفراً خالتين )) [ رواه أبو داود 1488والترمذي وحسنه 3556] .
العبرة بالصلاح لا بالقوة
قد يوجد من لا يؤبه به لفقره وضعفه وذلته ؛ لكنه عزيز على الله تعالى لا يرد له سؤالاً ، ولا يخيب له دعوة ، كالمذكور في قول النبي صلى الله عليه وسلم (( رب أشعث مدفوع ٍ بالأبواب لو أقسم على الله لأبره )) [ رواه مسلم 2622] .
أيها الداعي : لا تعجل
إن من الخطأ أن يترك المرء الدعاء ؛ لأنه يرى أنه لم يستجب له ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (( يستجاب لأحدكم ما لم يعجل فيقول : قد دعوت فلم يستجب لي )) [ رواه البخاري 6340 ومسلم 2735] .
قال مُورِّقٌ العجلي : (( ما امتلأت غضباً قط ، ولقد سألت الله حاجة منذ عشرين سنة فما شفعني فيها وما سئمت من الدعاء )) [ نزهة الفضلاء ص 398] .
وكان السلف يحبون الإطالة في الدعاء قال مالك : (( ربما انصرف عامر بن عبد الله بن الزبير من العتمة فيعرض له الدعاء فلا يزال يدعو إلى الفجر ))[ نزهة الفضلاء 484] . ودخل موسى بن جعفر بن محمد مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فسجد سجدة في أول الليل فسمع وهو يقول في سجوده : (( عظمُ الذنبُ عندي فليحسن العفو عندك يا أهل التقوى ويا أهل المغفرة ، فما زال يرددها حتى أصبح )) [ نزهة الفضلاء 538] .
الصيغة الحسنة في الدعاء
ينبغي – أيها المسلم – أن تقتفي أثر الأنبياء في الدعاء ، سئل الإمام مالك عن الداعي يقول : يا سيدي فقال : (( يعجبني دعاء الأنبياء : ربنا ربنا )) [ نزهة الفضلاء 621] .
هذه أيام الدعاء
هذا بعض ما يقال في الدعاء ، ونحن في أيام الدعاء وإن كان الدعاء في كل وقت ؛ لكنه في هذه الأيام آكد ؛ لشرف الزمان ، وكثرة القيام . فاجتهد في هذه الأيام الفاضلة فلقد النبي صلى الله عليه وسلم يشد فيها مئزره ، ويُحيي ليله ، ويوقظ أهله . كان يقضيها في طاعة الله تعالى ؛ إذ فيها ليلة القدر لو أحيا العبد السنة كلها من أجل إدراكها لما كان ذلك غريباً أو كثيراً لشرفها وفضلها ، فكيف لا يُصبِّر العبد نفسه ليالي معدودة .
فاحرص – أخي المسلم – على اغتنام هذه العشر ، وأر ِ الله تعالى من نفسك خيراً . فلربما جاهد العبدُ نفسه في هذه الأيام القلائل فقبل الله منه ، وكتب له سعادة لا يشقى بعدها أبداً ، وهي تمرُّ على المجتهدين واللاهين سواء بسواء ؛ لكن أعمالهم تختلف ، كما أن المدون في صحائفهم يختلف ، فلا يغرنك الشيطان فتضيع هذه الأيام كما ضاع مثيلاتها من قبل .(/3)
أسأل الله تعالى أن يتولانا بعفوه ، وأن يرحمنا برحمته ، وأن يستعملنا في طاعته ، وأن يجعل مثوانا جنته ، وأن يتقبلنا في عباده الصالحين ، والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين .
إبراهيم بن محمد الحقيل
ص. ب 27028 الرياض 11417(/4)
لعلكم تتقون
طريق القرآن
الحمد لله والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وبعد / فلسائل أن يقول : ما هي الحكمة من عبادة الصوم ؟ وسوف تكون الإجابة التي لا شك فيها : التقوى.
نعم إنها التقوى ... إنها التقوى ? لعلكم تتقون ? ، وهي الحكمة والغاية من العبادة ...
نعم .. أن يكون تركنا للمشارب والمآكل والشهوة إخلاصاً لله تعالى واتباعاً لأمره .. ، وحينها نشعر بأثر العبادة ، نشعر بأثرها علينا في أجسامنا ومجتمعنا وقلوبنا والدنيا بأسرها ..
ولذا أيها الأحبة يجب علينا أن نفتش في دواخل قلوبنا ونفوسنا ، وأن نخلص له تعالى في عملنا ...
نعم لنتأمل قوله _ صلى الله عليه وسلم _ : ( ( من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ) ) .. ( إيماناً واحتساباً ) .. إيماناً بالله تعالى وتصديقاً لنبيه _ صلى الله عليه وسلم _ وعملاً بما أمره الله به ، واحتساباً للأجر منه تعالى لا من غيره ..
فلم يصم لأجل أن الناس صاموا .. أو لأجل أن لا يقال عنه : بأنه مفطر .. بل صام إيماناً واحتساباً ...
وعليه فإني أوجه النداء لنا كلنا بأن نتقي الله تعالى في هذا الشهر الكريم وأن نحقق التقوى في الصيام لله تعالى لا لغيره ..
فيا من اجتهدت في الصيام وضيعت الصلاة .. ما حققت التقوى ... فاتق الله والزم طاعته ، واعلم بأن ما أنت عليه معصية عظيمة ..
ويا من أمضى نهاره صائماً عما أحل الله له في غير رمضان من طعام وشراب ومأكل ؛ امتثالاً لأمر الله .. لكنه كذب وغش واغتاب وبهت ونمَّ وتكلم في أعراض الناس وسخر من هذا وذاك وأكل الحرام .. ما حققت يا أخي التقوى وأنت قائم على تلك المعاصي .. فتب إلى ربك وحقق التقوى بامتناعك عن تلك الكبائر ، ولقد جاء في الصحيح: ( ( من لم يدع قول الزور والعمل به ، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه ) ) .
ويا من اجتهد في النهار في الصوم وتلاوة القرآن والحرص على الصدقة .. وضيَّع الليل ما بين شياطين الفضاء والقنوات الملهية وقيل وقال ولعب وسهر وضياع .. ما حققت يا أخي التقوى .. فاتق الله والزم طاعة ربك واحذر مخالفته ومعصيته ....
نعم ( لعلكم تتقون ) ، إن رمضان فرصة لنا أن نجدد العهد مع الله تعالى ، وأن نتوب ونؤوب إليه وأن نتخلص من أمراض قلوبنا وذنوبنا وأن نصحح مسيرنا إلى الله تعالى بالتوبة النصوح ولزوم العمل الصالح ..
إنها فرصة لنا كي نفتح صفحة جديدة من أعمارنا نعمرها بالعبادة وبالقرب منه تعالى ...
إنها فرصة لنا كي نصفي ما بيننا وبين أنفسنا وأقربائنا وأهلنا..
فرصة لصلة الرحم ، وبذل المعروف وفعل الجميل والإكثار من الطاعات وتلمس ذوي الحاجات ..
لم يكن رمضان شهر السهر والسمر والأكل والشرب .. كلا ، بل هو شهر العبادة .
أتدرون ما العبادة ؟ عبادة الجسد والروح ، عبادة القلب والروح ، عبادة الظاهر والباطن ،
العلم والعمل ، الجد والمثابرة ، وهزيمة النفس الأمارة بالسوء والشيطان ..
إن غزوة بدر الكبرى يوم الفرقان التي خلد الله ذكرها في كتابه كانت في رمضان.
وفتح بلد الله الحرام مكة المكرمة يوم أن اندحر الشرك والكفر عن أطهر البقاع كان في رمضان ، والخير كله في رمضان ..
نعم لم يكن شهر كسل ودعة وأكل وشرب وسهر وضياع ونغم وأفلام ومسلسلات ومسابقات وفوازير ..
والله إننا لنستحي من الله تعالى أن يمن علينا بنعمة هذا الشهر الكريم وما فيه من الفضائل وعظيم الأجر ، وينظر إلينا سبحانه وقد قابلنا نعمته بالجحود .. لعب ولهو وسمر وسهر .. ، لا بل ينزل تبارك وتعالى في ثلث الليل الآخر ، وبعضنا على حالة ... نسأل الله أن لا يؤاخذنا بما فعل السفهاء منا ..
نعم كلنا مقصرون ، وكلنا مذنبون ، ولكن لنتفكر يا عباد الله .. لنتفكر قبل أن لا ينفع الندم ولا ينفع العمل .. والله المستعان .
إنه ينبغي علينا رجالاً ونساءً أن نتقي الله في صيامنا وأن نحقق الإيمان والاحتساب فيه ..
ولعلي أهمس في أذن أختي المسلمة لأقول :
إياكِ ثم إياكِ وأن يذهب عليك شهرك سدى ، ما بين نوم وطبخ وسواليف وزيارات وتلفاز ..
أدركي أختي فجيعة فوات العمر ، ... وما أشد الفجيعة حينما يفوت على المسلمة رمضان ولم يغفر لها ؟ ، أسأل الله لنا التوفيق والهداية والرشاد .(/1)
لغة الحوار في القرآن الكريم ( 1 )
د. المقرئ أبو زيد الإدريسي
لغة الحوار في القرآن الكريم هو جزء من موضوع كامل عن منهج الحوار في القرآن الكريم، وأحتاج هنا أن أفكك عناصر العنوان وأقف عليها عنصرا عنصرا لنخلص بعد ذلك إلى التبرير العلمي والمنهجي لاختيار هذا الموضوع. ولنسأل لماذا الحوار ولماذا القرآن ولماذا اللغة.
إنني اعتبر البشرية كلها تعيش اليوم أزمة حوار حقيقي وأتصور أن كثيرا من المشاكل والصدامات الدامية التي تدفع البشرية ثمنها كان ممكنا أن تتجنب أصلاً أو يخفف أثرها أو تقل سلبياتها لو لجئ إلى الحوار واستنفذت أغراضه ووسائله.
والأمة الإسلامية تعرف عمودياً وأفقياً أزمة حوار حقيقية، أزمة علاقة بين الحاكم والمحكوم، أزمة علاقة بالمستوى الأفقي بين عناصر المجتمع المدني من مختلف جوانبه وتوجهاته الاجتماعية والسياسية، أزمة علاقة فيما بين الأنظمة على مستوى العالم العربي والإسلامي، أزمة علاقة بين التيار القومي والتيار الإسلامي والتيار العلماني، وهناك أزمة تنزل إلى مستوى الأسرة فيما بين الزوج والزوجة وما بين الزوجين والأولاد لغياب الحوار. فالحوار رئيسي وضروري وممر استراتيجي لحل هذه الأزمة، أزمة الاختلاف والصدام السلبي التي نعيشها اليوم.
أما القرآن فإنه يمثل القاسم المشترك أو الكلمة السواء بين المسلمين، وأول شروط الحوار الناجح أو على الأقل كي لا يرتد إلى انتكاسة أسوأ من الخلاف الأول، أن ينطلق المتحاورون من قاعدة وأرضية مشتركة، والقرآن هو المنطلق الذي يمكن للمسلمين أن يعودوا ويحتكموا إليه.
أما محورية اللغة فلأن النص القرآني أساساً هو نص لغوي أنتج باللغة العربية وفق قواعدها ومحكوم بضوابطها وينتهي إلى مآلاتها اللغوية، وهذا اختيار الله - عز وجل - وليس هذا تحكم من أحد. فالله - تعالى -اختار أن يتواصل مع البشر بهذه اللغة. وهذه اللغة لا بد أن تتكون وتتشكل في محيط واقعي? وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم? فلا بد إذن أن يكون النبي يتكلم بلسان قومه، فكان القرآن باللسان العربي، وبالتالي خضع القرآن الكريم لآليات هذا اللسان وضوابطه في الاستنباط فكانت هذه الأرضية الصلبة للتأويل.
أرضيتان صلبتان في القرآن. متنه ولغته، وقد أجمع علماء اللغة المسلمون أن القرآن نازل بلغة العرب خاضع لسننها في الأداء، ومن هنا لم يجد السلف حرجاً في أن يخضعوا تأويل القرآن لضوابط اللغة. لأن اعتماد بعض الانتقائيين على معاني القرآن مباشرة دون اعتماد قوانين اللغة يؤدي إلى السقوط في تضارب وتعارض يجتهد الأصوليون والمجتهدون بآليات درء التعارض بين النصوص لحلها.
وسأتناول بالبحث عنصرين من بين سبعة عناصر يمكن أن تعتبر أهم المؤشرات اللغوية الدالة على الحوار ومستوياته ومقاصده وأخلاقه ومنهاجيته في القرآن الكريم. ولنبدأ بالعنصر الأول ولنطرح السؤال التالي: هل القرآن الكريم دعوة إلى الحوار، أم دعوة إلى التبليغ التلقيني المتعالي، أم دعوة إلى الإقصاء الذي هو عكس الحوار؟ كيف نثبت ذلك لغوياً باللغة المحضة، باللغة كمادة موضوعية محكومة بقواعد بعيدا عن التأويليه والانتقائيه؟
يقرر بعض المفكرين أن القرآن الكريم ما ادعى دعوى إلا كان له من نفسه عليها دليلاً. أي أن القرآن مستغنٍ بذاته عن خارجه وأنه لا شيء في القرآن كدعوى أو منهج أو شعار إلا ومادة القرآن تقدم عليه أمثلة وتطبيقات ونماذج. وأنا أستأنس بهذه الإشارة لكي أقول أن القرآن الكريم يدعوا إلى الحوار ومن مستلزمات الحوار الاعتراف بالطرف الآخر وبحقه في الوجود وبحقه في التعبير عن رأيه وبحقه في الاختلاف مع الآخر الذي هو الحق الذي هو القرآن. القرآن الكريم يؤسس لهذا ودليلي من اللغة هو فعل قال أو مادة القول باعتبارها مؤشراً لغوياً حاسماً وصارماً على حوارية أي نص. وفي اعتقادي أن أي نص وتخصصي أصلا في اللسانيات وحياً أو غير وحي قرآناً أو شعراً، أهم مؤشر على وجود روح الحوار فيه هو تصرف مادة القول. أي فعل قال ومشتقاتها.
وبقدر حضور هذه المادة وبقدر توزعها وتنوعها بقدر وجود تصريفاتها بقدر ما يكون حظ هذا النص من الحوارية. فطرحت هذا السؤال على نفسي واستعنت بالمعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم وعكفت على المصحف مدة فانتهيت إلى ما يأتي:(/1)
مادة - ق و ل - تتكرر في القرآن 1722 مرة هذا رقم فظيع ينبغي الوقوف عنده خشوعاً ساعات إن لم أقل دهراً من الزمان وأكثر من ذلك الحضور الكمي، الحضور الكيفي إذ تتصرف على تسعة وأربعين تصريفاً واشتقاقاً لأنه لو كانت (قال) متصرفة تصريفاً واحداً -قال أو يقول منسوبة إلى الذات الإلهية، قلت أو قلنا أو ما شاء من التصرفات الدالة على جهة المتكلم المتعالي- لما كان هناك أي معنى لاستعمال مادة القول كمؤشر على الحوار. فهذا يكون مؤشراً على التلقين وعلى التعالي وعلى الصوت الواحد وعلى الرأي الواحد والفكر الواحد. ولكن نجدها متوزعة على تسعة وأربعين اشتقاقا تتوزع على كل أطراف المقام الحواري. من متكلم ومخاطب ومستمع ومحاور ومقاطع وغائب وحاضر ومذكر ومؤنث ومثنى وجمع.
نجد "قال" 529 مرة، و "يقولون" 92 مرة، و "قل" 332 مرة، و "قولوا" 13 مرة، و "قيل" 49 مرة، و "القول" 52 مرة، و "قولهم" 12 مرة. وأنا أذكر الأرقام كمؤشر على الحوارية عالي الترداد داخل النص القرآني بشكل لافت للنظر وخاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار المعطيات السبعة الآتية الملتصقة بهذا المؤشر.
أولاً: الآخر الذي يؤشر على كلامه (بقال أو قالوا أو يقولون أو قولهم) أي حضور الآخر الذي يبتدأ كلامه بهذه اللازمة هو حضور ضخم والحاصل أننا أمام نص غريب، فقد نستنتج من نص بشري لو وجدنا فيه هذه الدرجة العليا من الحضور لمؤشر الحوار- مادة القول - أن صاحب النص شخص مفتوح شخص ذو طبيعة حوارية، شخص يؤمن بحق الآخر، شخص أنتج نصاً متعدد الأصوات، شخص حضاري بالمعنى الحقيقي، لأنه يستحضر رأيه ورأي الآخرين ويناقشه. أما وأن الأمر يتعلق بكلام الله - عز وجل - فالأمر يحتاج إلى وقفه.
ثانياً: الأصل في كلام الله أنه متعالي. والوضع المقامي يؤثر في القراءة الدلالية للفعل اللغوي تأثيراً قوياً جدا لأنك إذا أخذت الأمر مثلاً من أعلى إلى أسفل فهو أمر أقيموا الصلاة وإذا كان من أسفل إلى أعلى فهو دعاء اللهم صل على سيدنا محمد وصلِ في صيغته الصرفية هو فعل أمر ولكن يدخل المقام فيتغير لأنه ليس هناك أحد من العباد يأمر الله فيتحول إلى فعل دعاء. وإذا كان خطاب مثيل وند فيصبح المعنى التماساً وسؤالاً، كأن أقول لزميلي أعطني القلم، فأنا لست رباً له فآمره ولست عبداً له فأدعوه بل هو مثلي فيكون كلامي التماساً عند تساوي عنصري المقام.
فالنص الإلهي نص متعالٍ بطبيعته لأنه من الله يخاطب البشر وطبيعة النص المتعالي المفروض فيه أن يكون ذا صوت واحد هو صوت الحق المطلق والعلم المطلق والفهم المطلق والحكمة المطلقة والمعرفة المطلقة. ثم هو أصلاً لم يأت في سياق الحوار بل هو نص جاء في سياق هداية وتبليغ وإبلاغ وتعليم وأمر وخبر. فإذا استحضرنا أن النص نص إلهي ذو طبيعة متعالية المفروض فيه أن يكون ذا صوت واحد وألا يكون متعدد الأصوات وألا ينكر عليه ذلك ولا أن يكون حوارياً...زاد ثقل الأمر.
وإذا كان كلام العقلاء منزهاً عن العبث فماذا نقول عن كلام الله، إنه الحق المطلق والصواب المطلق ورغم ذلك يكرر حقيقة 1722 مرة في حين عندما يكون المنتج للكلام في المقام ذا وزن ثقيل إذا قال الأمر مرة واحدة يأخذ هذا الأمر ثقله ووزنه وهيبته من المقام، من طبيعة المتكلم? لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله?. ومعنى هذا عندما يستعمل الله - تعالى -التكرار فالأمر له خطورة والأمر له وزن. فالعنصر الأول الذي نريد أن نقف عنده في هذا المؤشر هو هذا الاستحضار الثقيل للرأي الآخر. الذي يستغرق تقريبا خمسين بالمائة، أي أن هذا المؤشر الحواري نصفه من كلام الله والصالحين والأنبياء والملائكة والمؤمنين، والنصف الثاني هو للكفار والمشركين والملاحدة والزنادقة والبخلاء والمنهزمين والمغرضين. فالقرآن يقاسم الآخر بصدر رحب خمسين بالمائة.(/2)
ثالثاً: أن القرآن يستعرض الرأي الآخر رغم أنه باطل رغم أنه ضلال رغم أنه خطأ، رغم أنه لا يملك أي حظ من الصوابية. مقابل ذلك، في دائرة الحق والباطل يتحرك البشر والمسلمون منهم في دائرة الصواب والخطأ، لكن من أزماتنا النفسية قبل أن تكون من أزماتنا المعرفية أننا نتماهى بالذات الإلهية من فرط قراءتنا للقرآن والتباس الأمر علينا. هل نقرأ القرآن متلقين؟ أم نقرأ القرآن لنخاطب به الآخرين وبالتالي يختلط علينا الأمر أحيانا فنضع أنفسنا في حالة تماهي مع الله ونتخندق في خندق الحق ونجعل الآخر في جانب الباطل، رغم أن الله - عز وجل - عندما يتكلم يستحضر الآخر وبكل هذا الثقل. فتجد في القرآن كلام الملحدين الذين ينكرون وجود الله أصلاً? وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر?، وكلام اليهود? وقالت اليهود يد الله مغلولة?، وكلام النصارى "إن الله ثالث ثلاثة"، وكلام المنافقين المغرضين الذين يفلسفون كل رذائلهم وأقل رذائلهم رذيلة البخل، يفلسفون بشكل خطير يمكن أن تنطلي شبهتها على الضعاف "وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من لو يشاء الله أطعمه" شبهة خطيرة يمكن أن تعلق يوردها القرآن دون أن يستحضر أنها يجب أن تباد وتمحى وتقصى لأنها قد تفسد على المسلمين خلق الكرم والاستجابة لأمر الله بالإنفاق وإعطاء الزكاة بناء على حيثية تحايلية تأويليه فاسدة لأن الله هو الذي يغني ويفقر ويرفع ويضع ويوسر ويعسر. كما أننا نجد كل الطوائف الفاسدة والآراء الأخرى موجودة داخل النص القرآني وبهذا الحضور.
رابعاً: يستحضر القرآن الكريم (الآخر) رغم فساده، فالآخر ليس ضعيفاً وليس مهمّشاً. ليس كما هي عادة وسائل الإعلام في إدارة الحوار حيث يحكم على طرف سلفاً أن يكون ضعيفا للتظاهر بالانفتاح والإنصاف والحوار لتخدير وغسل دماغ المشاهدين بآليات وتمثيلية مزيفة لإظهار أن هناك تعدد في الأصوات. فليس في القرآن هذا الأسلوب المتحايل، بل العكس هناك استحضار للآخر بقوة وبأخلاقيات عالية جداً، يستحضره دون أن يبتره؛ فهناك طريقة لإقصاء الآخر وهي طريقة بليدة ممجوجة هو أن تكتب وتقصي الرأي الآخر وتنكر أنه موجود. وهناك أُسلوب أمكر وأذكى في الإقصاء هو أن تستحضر الآخر وتبتر كلامه وتشوهه وتقطعه. فالقرآن الكريم يستحضر الآخر استحضاراً كاملاً يعطيه الفرصة الكاملة لكي يتم جملة مفيدة لكي يتم نصاً كاملاً ليتم فكرةً واضحةً بكل قوتها.
خامساً: القرآن يسبغ جمالية أدائه البياني وبراعة أسلوبه على الآخر فعندما نقرأ في القرآن وينتقل الكلام من كلام الله بأسلوبه العالي الرفيع لا يحكي عن الآخر بلغة ركيكة وأداء رديء و بيان ضعيف، بل بالعكس إن القرآن الكريم يخلع أداء الجمال البياني على الجميع فتجد تعبير القرآن الكريم عن الآخر أجمل من تعبيره هو، الدهريون يقولون "إن هي إلا أرحام تدفع وأرض تبلع" و القرآن يحكي عنهم: "وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر"، فالتعبير القرآني أبلغ وأجمل لأنه يمنح الآخر فرصة الحضور في التاريخ ويمنحه فرصة الحضور في الجمال، الحضور المعنوي.
سادساً: القرآن يخلد الرأي الآخر لأن القرآن كلام الله، والله وعد بخلوده ولم يستحفظنا إياه كما استحفظ أهل الكتاب. وقامت على خدمة النص القرآني جيوش مجيشة من العلماء، من أشرف شيء فيه وهو معانيه إلى الشيء المادي فيه وهو الخط. هذا الجيش من العلماء الذي ينقسم على أكثر من ثلاثين تخصص من أجل حماية هذا النص وخدمته يحمي داخل هذا النص الرأي الآخر ويخلده.
سابعاً: وأخيرا لا يرد عليه، وقد تتبعت السياقات القرآنية ولم أقم بإحصاء دقيق ففي أغلب الأحيان لا يكلف نفسه حتى أن يرد على الرأي الآخر فيعطيه الفرصة الكاملة للاستمرار فلا يكون وصياً على عقل المسلم. فلما حصن المسلم بالرؤية الكاملة والعقيدة الصافية والمنهج والإدراك السليم يتركه هو كي يرد من عنده. الرأي الآخر - بما هو ضلال وكفر وباطل- يستحضره كلام الله المتعالي وبقوة ولا يبتره، يجمّله بلغة القرآن، يخلده ولا يرد عليه. أي حوارية أعلى من هذه الحوارية؟ أي خلق في استحضار الآخر وإعطائه فرصة الوجود ومناقشته وإعطائه فرصة في أن يخلد برأيه بعد أن تفنه ذوات القائمين عليه؟
إن كان من درس نقف عليه بعد هذا الإحصاء لمؤشر الحوار فهو أن القرآن الكريم يريد أن يعطينا درساً في الانفتاح على الرأي الآخر، درساً في قبول حق الرأي الآخر في الوجود وليس صوابيته. فالصوابية مجال تدافع فكري ومعرفي قائم على النزاهة أي على طلب الحق. وأول شروط النزاهة أن تترك الآخر لكي يقع تدافع موضوعي بين رأيك ورأيه. وإن كان من درس نأخذه من هذا المؤشر الأول هو أن الإسلام هو عين الإيمان بحرية الفكر، وحرية الرأي الآخر، والإيمان بإفساح المجال للرأي الآخر. واحترام الرأي الآخر.(/3)
فالإسلام يؤمن بقوته الذاتية ويؤمن بأن الحق بذاته يزهق الباطل ?بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون?. فالويل اعتبرها هنا كلمة معرفية (الويل) أي بطلان الاستدلال وفساده، وليس يقصد به الوعيد لأن الوعيد في السياق سيصبح قمعاً للحوار وقمعاً للرأي الآخر، وهذا ما لا ينسجم مع روح السياق ولا مع روح النص القرآني بأكمله. إن للإسلام قوة ذاتية هي قوة الذاتية الكامنة في الحق كما أن الضعف الذاتي كامن في الباطل، ولهذا يستمد الباطل قوته من أشياء خارجة عنه ويستمد الحق قوته من داخله ومن ذاته فقط. فالإسلام قوي بما يأتي به من أدلة وما يطرحه من أفكار وقوي بتهافت الرأي الآخر.
بل أكثر من ذلك فالإسلام يطرح قوته في سياق التحدي المفتوح. القرآن يفتح التحدي في سياق الزمن إلى يوم القيامة ويفتحه على حضارات وعلوم ومعارف واستدلالات قد يتلبسها الباطل لا حدود لها كماً وكيفاً وزماناً ومكاناً إلى يوم القيامة، أي أنه تحدي للتخليد. فالرأي الآخر لعله باطل في زمن الصحابة لقوة إيمانهم وانطلاقهم من الحق وردهم للباطل بطريقة إيمانية. فلعل قوما آخرين سيجمعون حضارات وعلوم أقوى يستطيعون الاستدلال بها. فالقرآن الكريم يقر بهذا الاحتمال ويفتح هذا الحوار إلى ما لا نهاية مع كل من يريد أن يكرر المواجهة من أطراف أخرى وزوايا أخرى لم تكن منظورة ولا موجودة. أكثر من ذلك إن ذلك التحدي يصل إلى مقام الإيمان نفسه إن هذا الكلام يتعبد به فتصير من عبادتنا أن نفسح المجال للرأي الآخر وأن نعطيه فرصة لأن يبقى حاضراً حضوراً تاريخياً ومعرفياً في الزمان والمكان إلى قيام الساعة.
وأريد أن أنتقل من النسق النظري في القرآن الكريم إلى التطبيق التاريخي لأن البعد التطبيقي يعطي للجانب النظري معناه ويرسخه أكثر في النفس.
الرسول - صلى الله عليه وسلم - بصفته أول وأعظم تلميذ في مدرسة القرآن. والأستاذ الذي تخرج بعد رحلة التلمذة من القرآن فأعطى دروساً لمن بعده من جيل الصحابة. و أنا أسجل لقطة واحدة أسميها مدرسة (أوَ قد فرغت يا ابن الوليد). فالنبي - صلى الله عليه وسلم - أرسل إليه المشركون المغيرة ابن الوليد لكي يذوده عن اختياره بتبليغ الرسالة ويصرفه إلى قناعة أخرى وحلول وسطية علّها تحل الإشكال داخل البيت المكي دون تفجير من الداخل. جاء الرجل يتكلم بلغة مؤدبة عالية ويعرض بطريقة سلمية عروض سخية، يا محمد إني وافد قريش إليك. إن كنت مريضاً طلبنا لك دواء، وإن كنت تريد ملكاً ملكناك علينا وإن كنت تريد مالاً جمعنا لك من حر مالنا حتى ترضى، وإن كنت تريد النساء زوجناك حسان بناتنا. وهذا الكلام يبدو في ظاهره مؤدباً ويبدو عرضاً لخيارات واحتمالات فيها شيء من النسبية والإيمان بوجود احتمالات أمام هذه الحالة، ولكنه في العمق هو عين الإقصاء ليس فيه فتح لمجال الحوار الحقيقي وليس فيه أدب وهو في العمق عين استهزاء. كما لو أنه يقول للرسول بالعبارة الصريحة: إما أنك وصولي أو انتهازي أو مجنون أو شهواني، يضعه أمام أربعة احتمالات لا أخلاقية ولم يذكر له احتمالاً خامساً، وإن كنت نبياً فأعطنا دليلك أو نتحاور أو.. فالتنويع الذي طرحه كان تنويعاً مغلوطاً أو تنويعاً شكلياً مثل تنويع الغربيين اليوم وحوارهم معنا، هو تنويع على إيقاع واحد واحتمال واحد وهو أنك باطل. وهو إقصاء في الحقيقة لأنه اتهام بأحط ما يمكن أن يركب الإنسان من أجله الأخطار، وفيه إقصاء حقيقي لمصداقية الرسول - صلى الله عليه وسلم - فرأسماله الحقيقي هو صدقه مع نفسه وهو استفزاز حقيقي، ولو أن واحداً منا تعرض له فقد لا يملك إلا أن يكوّم يده ثم تطير أضراس المخاطب. فليست العظمة في أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تحمل هذا الكلام وليست العظمة فقط في أنه تركه ينتهي، فأقصى ما يمكن للواحد منا إن كان متحلياً بروح حضارية أن يترك الآخر حتى يكمل فنحن نقاطع بعضنا بعضا. ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - وصل إلى ذروة ما يحلم به المحاور الحضاري وهو أن يكمل الآخر رأيه دون أن يقاطعه، دون أن يستفزه، ولكن يزيد شيئا ملائكياً غير موجود عند البشر بل هو موجود عند الأنبياء فيقول له (أو قد فرغت يا ابن الوليد) يعني هل عندك شيئا آخر تضيفه؟ هل تريد فرصة أخرى في الحوار؟ قال نعم. قال: فاسمع، ثم تلا عليه سورة من القرآن.(/4)
فمدرسة (أو قد فرغت يا ابن الوليد) مدرسة تبين لنا أن الفهم السطحي الذي عندنا من حمل الحق والحماس له غير صحيح. و نحن من فرط إيماننا بالحق نتعصب له وننفعل ونقاطع ونلقن ونرفع الصوت ونتعالى ونتهجم على الآخر. وإن أقررنا أنها عيوب بررناها أنها من طبيعة الإنسان المؤمن بالحق، فإن وجدنا شخصاً ليناً هادئاً ساكناً مفسحاً المجال للآخر، اعتقدناه ضعفا في يقينه أو ضعفاً في صحة موقفه. وموقف النبي - صلى الله عليه وسلم - يبين شيئاً عظيماً جداً أن الحماس الذي يخرج عن آداب الحوار الفكرية والأخلاقية ليس قريناً لليقين الكامل في الحق، فالذي قال (لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أدع هذا الأمر أو أهلك دونه) هو نفسه ترك الرجل حتى أكمل، وما انفعل ثم أعطاه فرصة جديدة، ثم أجابه بهدوء.
وفي إضاءة لتلاميذ التلميذ الأول والأستاذ الأول لن آخذ من جيل الصحابة ولا جيل التابعين بل من جيل بدء تأسيس المعرفة. من أوائل من كتب في السيرة النبوية ابن هشام بعد ابن إسحاق وابن شهاب. وقد قامت الدكتورة عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ) - رحمها الله - بإحصائية في الشعر الذي أورده ابن هشام في المجلدات الأربعة وكان سياقها غير سياقي ونيتها غير نيتي، كانت تتحدث عن الأدب وهي أديبة وكانت ترد على من ادعى أن الإسلام أضعف الشعر فأرادت أن تبين أن هذا لم يحصل، فجاءت بالوثيقة التي سجلت الحركة الشعرية السجالية التدافعية بين المشركين والمسلمين في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهي السيرة. فقامت بإحصاء وهي على غير بال بالنتيجة التي سأستنتجها منها فوجدت أن في سيرة ابن هشام ألف بيت من الشعر خمسمائة بالتمام والكمال شعر المسلمين والصحابة المنافحين عن النبوة والإسلام والمادحين للمسلمين والإسلام والمنشدين لأشعار النصر في معارك الإسلام، وخمسمائة بالتمام والكمال للمشركين الذين شتموا عرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والذين سبوا الدين والمسلمين وهيجوا عليهم الأحقاد.
قد لا يكون ابن هشام فعل هذا بوعي، ولعل سر العظمة أن التخلق عند المسلمين بهذا الخلق صار تلقائياً عفوياً مندمجاً في كيانهم، ويمارسونه بطريقة لا شعورية. أكثر من هذا، ربما لا يحمل الرقم خمسمائة إلى خمسمائة دلالة كبيرة لأنه قد يكون فرضاً أن يكون المسلمون أنتجوا خمسمائة بيت والكفار أنتجوا ثلاثة آلاف فقط فقام هو بإقصاء ألفين وخمسمائة ليبدوا وكأن الأمر متوازن. فهذا غير صحيح فحسان بن ثابت وحده ربما أنتج أكثر مما أنتجه شعراء قريش بأكملهم. وفي كتب تاريخ الأدب نجد أن شعر قريش كان قليلاً وضعيفاً لأنهم أهل حضر أما أهل المدينة فهم أقرب إلى مدرسة الشعر الجنوبي التي أسسها امرئ القيس قبل ذلك بقرنين واعتبارات أخرى لا ندخل فيها الآن.
وسوف نتابع عرض تتمة الموضوع في الحلقة القادمة بإذن الله.
http://www.alrashad.org المصدر:(/5)
لغة الصمت
(إلى الذين سألوني عن الصمت الطويل
حين كان الصمت أبلغ من الكلام المغشوش)
د. ماهر حتحوت
من منكم يفهم لغة iiالصمت
كي أُسمعه ألف قصيدة
خالية من نبرات iiالصوت
أحرفها جمر iiالتنهيدة.
يا صحبي .. للصمت iiبيان
أصدق من كل iiالكلمات
لو صيغت من رعشات iiلسان
يتلوى في حلق ظمآن
يتلمس نبعاً في iiالظلمات.
من يجهل لغتي .. iiفليتركني
لا يتوهم بي iiالإعياء
فالشعر الكامن في iiصمتي
لا أنشده iiللبلهاء.
من قال بأنّ الشعر كلام ii؟!
الشعر .. هنيهة صدق iiإنساني
الشعر شعورٌ iiوجدانيّ
يسكب في شريان الحرف ii..
فالأحرف نورٌ iiنورانيّ.
والكلمة دنيا من iiأحلام
لا يكبحها سور iiالخوف.
فلإن قهر الخوف iiالكلمة،
فلتتحصَّن خلف iiالصمت
ولنخلع عن ألستنا iiالصوت
ولنترنَّمْ دون iiكلام
ولنتصافح دون iiسلام
فالكلمة إن تسلبها iiالصدق
تحكم فيها iiبالإعدام.
وأنا يا صحبي لم iiأتعبْ
أنا شاعر صدق لا iiيكذبْ
أنا فارس شعرٍ لم يُغْلَبْ
فالصمت الناطق ليس iiهزيمة
لكن تزييف iiالترنيمة
أو صلب الحرف جوار الحرف
كي نصنع زورا تنغيمة
يصطكُّ عليها قيد iiالخوف..
لدليل أن هناك iiجريمة
اُرْتُكِبَت في حق iiالكلمة
سحقتها ذَلاًّ iiوهزيمة
سلبتها من قدس iiالمضمون.
من يقتُلْ ابنته iiمجنون
والشاعر كلمته بنته
لا يسقيها كأس iiمنون
ويخاف على قدس iiالكلمات
من غول يملك صفّ iiعيون
عفريت مجنون القسمات
يتربص شراً iiبالكلمات.
وأنا يا أصحابي شاعر
أبحث عن لغة iiأخرى
لا تدركها عين iiالغول
بالصمت .. أقول ..
نظرة عيني تقدح iiشررا
زمَّةُ شفتي تنطق iiجمرا
وبسيف الصمت أصول iiأجول
إطراقي شعر iiمملول
وشرودي بيت iiمذهول
* * *
ولهاثي أشعله شعرا
والتنهيدة بيت iiقصيدة
إن لم تفهم لا iiتتكلَّمْ
لا تتوهَّمْ أن iiمُتّ
فغدا .. سأفضُّ غلاف الصمت
عن أحلى أثمار iiالألحان
عن شعر لا يدركه iiالموت.
حين أُسطِّر في iiالأبيات
أصدق إحساس iiالإنسان
تتمطَّى الكلمة في iiاطمئنان
لا تتناهشها الغيلان ii..
حتى يأتي هذا iiالحين
فالصمت الناطق ليس iiبلادة
الصمت iiبلاغة
الصمت يطِنُّ بألف iiطنين
الصمت نواح .. الصمت iiأنين
الصمت نذير فيه iiرنين.
من لا يفهم لا iiيتكلم
من يجهل لغتي iiفليتركني
لا يتوهم بي iiالإعياء
فالشعر الكامن في iiصمتي
لا أرويه iiللبلهاء؟(/1)
لغتي الحبيبة ماذا دهاك ؟ …
د. زينب بيره جكلي
ضادي حباك الله خير مكانة لك دون غيرك في الجنان الموقف
أنت التي نزل الأمين بهديها وسما بها فوق الذرا المتلطف
ما زال هولاكو يمزق سفرها وعواصف الأعراق فيها تعصف
اللغة العربية لغة حبيبة إلى قلوبنا ، لغة تهتز لها مشاعرنا ، وتطرب لسماعها أفئدتنا ، لغة ليست كسائر اللغات العالمية ، إنها لغة حملت كلام رب العالمين الذي أنزله الوحي الأمين ، ويكفيها بذلك فخرا وسموا .
لغة نطق بها خير البشرية أحاديثه الشريفة لتكون للعالمين بشيرا ونذيرا ، فحقها إذا أن تكون اللغة العالمية كما أراد الله سبحانه وتعالى لها ، وهي أهل لذلك ، فقد حملت حضارة أمة مجيدة كان خليفتها الرشيد يقول للغمامة : " سيري أنى شئت فخراجك يجبى إلي " …
لغة ترجمت بها علوم الأوائل كما حملت حضارات الأمم ، ولم تضعف ولم تعجز عن حمل هذه العلوم في الوقت الذي كان فيه الغرب يغط في سبات عميق ، ويظن في جهاز الساعة الذي أهداه الرشيد للملك شارلمان جنيّا يحركها .
ما بالنا اليوم نتهم هذه اللغة ، وهاتيك الحضارة ؟ أنعيبا كما نعب الغرب ؟ وتردادا لما يقوله العدو ؟ أليست لنا هويتنا ومكانتنا ؟ … ولكن :
من يهن يسهل الهوان عليه
ما لجرح بميّت إيلام
إن الدعوة إلى القضاء على اللغة ليست بنت الساعة أو الآونة الراهنة ، وإنما بدأت منذ قرنين من الزمان ، يوم عاد من ثقف في بلاد الغرب لينددوا بالعربية ، ولينشروا محاضرات ، ويؤلفوا كتبا يطعنون فيها بها ، ويدعون إلى الأخذ باللهجات العامية باسم المواطنة الفرعونية أو الفينيقية أو الآشورية ، أو ما شابه ذلك من دعوات منكرات يستعين بها العدو الذي ينهج نهج " فرق تسد " .
ولم يتوقفوا عند هذا بل راحوا يضعون لكل عامية قواعد ، ويدعون إلى دراستها ، بل دعوا أيضا إلى نقل معاني القرآن الكريم إلى العامية كما نقل الإنجيل إلى العامية المصرية ، وصدر عن جامعة الدول العربية ، ونأسف لهذا ، كتب تدرس اللهجات المحلية وتدعو إليها … ، وأذكر هنا قول الزمخشري رحمه الله : " ولعل الذين يغضون من العربية ويضعون من مقدارها ويريدون أن يخفضوا من منارها كانوا من الشعوبية ، وكان عملهم منابذة للحق الأبلج ، وزيغا عن سوء المنهج , وهم كما قال الشاعر :
عربي لسانه ، أعجمي رأيه ، فارسية أعياده "
ونحن نعلم تماما أن العامية تختلف من بلد إلى بلد ، بل في البلد الواحد ، وهي لا ثبات لها ولا استقرار ، وتفصل العرب عن بعضهم بعضا ، وكفانا ما نعانيه من الانفصال السياسي .
ولم تقف الدعوة عند هذا الحد ، بل تعدى الأمر ذلك إلى المطالبة باللغة الإنكليزية ، وبأحرفها اللاتينية ، بل إن بعضهم قال بالأخذ باللغة اليونانية وحروفها … ، كما طالب الحداثيون الذين هم من أشد أعداء العربية في زماننا هذا بإلغاء قواعد اللغة العربية ، أو بكتابة الكلمات بتسكينها …
أرأيتم أبناء الضاد كيف أن الغاية هي التخلص من الفصحى وحروفها وقواعدها بأي وسيلة كانت ، وليس هناك من هدف إلا فصلنا عن قرآننا ، وعن حضارتنا ، و تراثنا .
ولم يكتف الأبالسة بهذا بل طلعوا علينا بأسلوب جديد عندما أعياهم تنفيذ ما سبق إزاء الوقفة الصامدة من أبناء العربية ، ، وراحوا يضعفون العربية باسم التسهيل والتحسين ، وصرنا نرى خريجين من أقسام اللغة العربية يخطئون في قواعدها وإملائها ، ويهاجمون من ينتقدهم في ذلك … ونرى أشعارا ملفقة بل خارجة عن اللغة ، واسمعوا إن شئتم قول أحد أدعياء الشعر الذين يبغون تضييع اللغة والقضاء عليها ماذا يقول :
" حين أتى الحمار من مباحث السلطان
كان يسير مائلا كخط ما جلان
خيرا أبا أتان
أتقثدونني ؟
نعم ، مالك كالسكران ؟
لا شيء بالمرة ، يبدو أنني نعثان
كل الذي يقال عن قثوتهم بهتان "
يقصد أتقصدونني ، نعسان ، قسوتهم .
وهذا آخر يقول :
" الدرج الحالي بزيزفون
والفوقه تعرش يا سمينة
الحلوة التخطر كالظنون
الدرج الرنا إلي عهدا
والكاد لي يشهق من دلال
يقول جن جن أو أشدا "
أدخل ال التعريف والضمير على الظرف ، وال التعريف على الفعل .
أمثل هذا يستحق أن ينشر إلا أن تكون غايته هدم اللغة وقواعدها ، ولهذا يقول د. وليد قصاب :
لغة الخواجا أعمشت أبصارهم عما أخبئ من كنوز صفاء
وإذا حداثي تشاعر بينهم كان الكلام كرقية العجماء
لا حس فيه ولا معاني تصطفى يا ضيعة الأدباء والشعراء
ولقد أثبتت العربية أهليتها لحمل العلوم المعاصرة ، إذ أصدرت المجامع اللغوية في البلدان العربية معاجم للمصطلحات الأجنبية ، ولألفاظ الحضارة المعاصرة ، وصدرت مجلة اللسان العربي لتنشر بحوثا ومصطلحات علمية باللغة العربية ، كما نشرت معاجم في علوم الرياضيات والفيزياء والكيمياء والجيولوجيا ، ودرست بعض الجامعات العربية هذه العلوم كلها بالفصحى بعد أن أثبتت أهليتها لذلك ، لما تحويه من اشتقاق ونحت وقياس وتوليد ومجاز …(/1)
وإن أي أمة تعلم أبناءها بلغتها تثبت أنها أهل لأن تحيا الحياة الكريمة ، ، هذه فيتنام بعد تحررها أمرت أن تدرس العلوم بلغتها المحلية ، وترجمت الكتب العلمية إلى لغتها خلال سنة فحسب ، وكذلك فعلت الصين وروسيا ، بل إن العبرية على ضآلة مفرداتها تدرس بها العلوم في مناطقها ، وليست المشكلة في اللغات ولكن المشكلة في عقدة النقص ، وفي الرغبة بالتبعية ، وليت لنا اليوم من يقف وقفة الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان حين عرب الدواوين في الدولة الإسلامية ، إذ أصر على ذلك على الرغم من تهديد ملك الروم له ، ورد ردا قاطعا أوقف العدو عند حده ، ولا زالت العربية ترفرف في سماء بلادنا بهذه الوقفة الصامدة الراسخة .
لن أطيل أكثر وفي الجعبة كثير ، وفي القلب أكثر ، ولكني أحث كل غيور على لغته وعلى دينه و عروبته أن يشد أزر هذه اللغة ، وأن يعلي شأنها ، لتكون في ضمير كل عربي وعلى لسان كل من ينتسب إلى هذه الأمة ، لينطق بها كل إنسان من المحيط إلى الخليج ، بل إلى ما وراء المحيط والخليج ، وليس حملة شهادات اللغة العربية فحسب ،لأنها شعار المسلم والعربي على السواء .
ولقد أصدر ، كما علمنا ، صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة الرئيس الأعلى للجامعة ـ حفظه الله ورعاه ـ قرار التعريب في الشارقة ، وقرار إنشاء جمعية حماية اللغة العربية ، وطالب المسؤولين بتنفيذ القرار، وبقي علينا السعي والعمل على تطبيقه حق تطبيق …
أئمة اللغة الفصحى وقادتها ألا البدارَ فإن الوقت من ذهب
ردوا إلى لغة القرآن رونقها هيا إلى نصرها في جحفل لجب
ووالله لئن قصرنا فسيتم للباغين ما أرادوا ، وليؤتين الإسلام والعربية من قبلنا ، ولتظهرن دعوات نابيات ، وها قد أطلت البربرية والكردية والفرعونية برؤوسها ، وما يجري على الساحة ليس بمجهول ، فالبدار البدار … وإلا فعلينا السلام(/2)
لغز الجزيرة .. مع من؟ وضد من؟
عبدالفتاح الشهاري
منذ زمنٍ بعيد والمواطن العربي يعي بأن إعلامه الرسمي ليس إلا قوالب جامدة تتكرر كل وقتٍ في رتابة مميتة، وجمود عقيم، يفضي بمتابعيه إلى بلادة متناهية، وشللٍ فكري؛ ولذا فإن البحث عن المصدر الموثوق للخبر كان الشغل الشاغل للباحثين عن الحقيقة، أيًّا كان مصدرها، أو قائلها.. وإلى عهدٍ قريب كانت إذاعة (صوت أمريكا)، وإذاعة (البي بي سي) أهم مصادر تلقي للخبر على جميع المستويات، وبمختلف الشرائح والفئات.
ولم يكن انطلاق قناة (الجزيرة) في العام 1996م يمثل بالنسبة للكثيرين في بداية الأمر وحتى وقتٍ ليس ببعيد سوى أنها بوق إعلامي لبعض التوجهات الفكرية التي تخدم المصالح الأمريكية، أو أنها سرطان صهيونيّ خفيّ زرعته إسرائيل في وسط الوطن العربي؛ لكي يؤدي دوره في اللعب بثقافة المشاهد العربي، والمساعدة في خلخلة البنية القومية لديه، وهدم الثقة في نفسه، والقيام بدور صهر المعتقدات الإسلامية وإذابتها في قالب عالميّ حتى يستطيع التكيف مع محيطه دون مبادئ أو عقائد.
كسرت قناة (الجزيرة) القاعدة العربية المتبعة في تناولها لعدد من القضايا السياسية الهامة والحسّاسة، التي كان الإعلام الرسمي بمنأىً عنها، ولهذا فإن أول من هاجمها هو الإعلام الرسمي؛ بل كان له دور في تعميق ونشر الإشاعات حول مصداقية هذه القناة وما تقوم به من زعزعة الثقة بين الشعوب والحكّام، ولأن نظرية المؤامرة محيطة بكل جهدٍ قد يكون خارج المألوف في عالمنا العربي؛ فإن هذا الأمر كان حاجزاً صلباً يقف حائلاً دون التعامل معها بأي نوعٍ من الثقة أو الاطمئنان، وسرعان ما تشكَّل لدى الكثيرين بأن قناة (الجزيرة) ماهي إلا لعبة إعلامية تبنتها قطر، وبدعم أمريكي، لنشر الثقافة الصهيونية في العالم العربي.
ولأن الصحافة في عالمنا العربي بعيدة كل البعد عن معناها المهنيّ الذي يسعى إلى الخبر أينما كان وكيفما كان فقد كان هذا سبباً كافياً في عدم التفريق بين الإعلام كعمل مهني بحت، وبين الدعوات الأيديولوجية المختلفة، ولهذا فإن قضايا عدة ساعدت على بلورة قناة (الجزيرة)، ودفعها إلى أن تحتل مكان الريادة في عالم الإعلام العربي، يمكن إجمالها في النقاط التالية:
- تجاوزت قناة (الجزيرة) الحالة النمطية والتقليدية للإعلام العربي، في وقتٍ بات المشاهد ينظر إليه بشيء من الريبة خاصة فيما يتناوله من أخبار مُعلَّبة، وبرامج ذات طابعٍ راكد.
- اعتمدت قناة (الجزيرة) طابع البرامج الحوارية والتي تجمع أصحاب الفكر المضاد، والرأي المعاكس، واستطاعت بذكاءٍ إعلامي يؤكد مهنية القناة أن تستقطب العديد من الأسماء السياسية والفكرية العالمية من شتى الاتجاهات والتوجهات، والتي تحظى بتأييد شعبي عربي واسع من جميع الشرائح المثقفة والغير مثقفة؛ مما لامس شيئاً من حالة التعطش الفكريّ، الذي كان يبحث عنه المشاهد العربي.
- ساهمت (الجزيرة) في تشكيل رؤية إعلامية جديدة كسرت من خلالها القيود الرسمية التي كانت تحيط برسالته.
كما أن هناك عوامل مباشرة أخرى ساعدت إلى حدٍّ كبير في تكوين القناة، وهي في المقابل نفس العوامل التي أذكت نار السخط على القناة ومنها:
- التمويل الضخم والغير طبيعي للجزيرة، وهذا العامل تحديداً هو ما أحاطها بهالة من التوجس والحذر من طبيعة الجهة الممولة والداعمة..
- الحرفية الإعلامية العالية لدى كادر القناة، والذين في أغلبهم كانوا ضمن العاملين في هيئة الإذاعة البريطانية الـ(بي بي سي).
- هامش الحرية غير المسبوق والتي تتمتع به (الجزيرة).
لذا فإن قناة (الجزيرة) ربما أنها المشروع الذي يحمل في جوانبه غموضاً كبيراً يكتنفه حتى الآن، إذ إنها جمعت التناقضات من الاتهامات التي توجه إليها؛ فالقوميون يتهمونها بالعمالة الأمريكية حيناً والإسرائيلية حيناً آخر، وأمريكا تتهمها بأنها تثير مشاعر العداء والبغض، وإسرائيل تتهمها بتأجيج حماس الانتحاريين. كما واجهت أثناء مسيرة عملها عددًا من الإشكالات والتصادمات مع الحكومات العربية، ولكنها بلغت أوجها، في مواقفها التي برزت في مواقع كانت أكثر حساسية بالنسبة لتلك الحكومات عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر، حيث تعد (الجزيرة) المنبر الإعلامي الوحيد الذي صاحب خطوات الحملة الأمريكية منذ هجمتها على أفغانستان وحتى احتلالها العراق، وكان لنتيجة نقلها لوقائع تلك الهجمات التي تشنها أمريكا على المسلمين في كل مكان أثرٌ بالغٌ في تأجيج مشاعر التعاطف لدى الشعوب العربية والإسلامية مع بعضها البعض؛ ولهذا فإن نتائج ووقائع هذا النقل المرئي والحي لحالات القتل، والهدم، والتشريد التي تقع على المسلمين؛ جعلت من المحطة عدوًّا لدودًا لهذه الحكومات العربية؛ بل وحتى الأمريكية والإسرائيلية على خلاف ما أثير عنها.(/1)
ففي ديسمبر من العام 2001 تم اعتقال مراسلي (الجزيرة) في الأردن أثناء قيامهم بتغطية مسيرة مؤيدة لـ(أسامة بن لادن) .. متزامناً مع توقيف مراسلة أخرى في العاصمة الأردنية أيضاً.
وفي مارس العام 2002 احتجزت السلطات المصرية الطاقم التلفزيوني للقناة أثناء أدائه لعمله الصحفي في تغطية مظاهرات طلابية نُظِّمت دعمًا للانتفاضة الفلسطينية في جامعة الإسكندرية.
وفي مايو من نفس العام شن وزير الإعلام البحريني (نبيل الحمر) هجومًا شديدًا عليها بسبب ما وصفه "بالإساءة للبحرين وشعب البحرين"، وقال: إن بلاده لن تتعامل معها لا في الحاضر ولا في المستقبل. وأبلغ (الحمر) حينها صحافيين عربًا وأجانب أن (الجزيرة) طلبت المشاركة في تغطية الانتخابات البلدية التي أجريت في البحرين - في ذلك الحين - لكن المنامة لم تستجب لطلبها. وأضاف "نحن نعتقد دائمًا بأن (الجزيرة) تتعمد دائما الإساءة إلى البحرين وإلى شعب البحرين".
وفي أكتوبر من نفس العام أيضاً أوصى وزراء الإعلام في مجلس التعاون الخليجي في اجتماعهم في مسقط بضرورة مقاطعة (الجزيرة) الفضائية لما تبثه من أخبار وبرامج تسيء إلى منطقة الخليج على حد قولهم.
وفي نوفمبر أعلن مدير مكتب (الجزيرة) الفضائية القطرية في الكويت أن وزارة الإعلام الكويتية أبلغته شفهيًّا بإغلاق المكتب.
وعلى المستوى الإسرائيلي وفي يونيو من نفس العام انتقد وزير الخارجية الإسرائيلي (شيمون بيريز) بشدة محطة (الجزيرة)، متهماً إياها بزرع الحقد، وقال في المقابلة: "أنها تحرض على الحقد، وإن لها نفوذاً أقوى من نفوذ الشيوخ والأئمة"، وقد استدل على قوله هذا في نفس اللقاء الذي بثته الإذاعة الإسرائيلية بأن قناة (الجزيرة) تبث باستمرار - خمس أو ست مرات في اليوم نفسه - الصورة ذاتها لمنزل فلسطيني مدمّر من قِبل القوات الإسرائيلية، وبالتالي فإن ما يحصل من هجمات انتحارية يُقتل فيها رضيع يهوديّ – على حد قوله –؛ فإن هذا ناجم عن الدعاية وليس فقط عن تربيته.
كما واجهت (الجزيرة) بعد احتلال العراق انتقادات لاذعة على لسان رامسيلفد يتهما بأن لها دوراً في تأجيج وتعميق الكُرْه ضد قوات بلاده.
كل هذه الجهات المختلفة والمتناقضة تماماً التي تكيل الاتهام إلى هذه القناة، ليس له تفسير إلا أنه ينبئ عن ضعفٍ في شخصيتنا العربية، مع توجسٍ، وترقُّبٍ حذر لكل ما يحيط بنا، مهما كانت درجة استقاء الفائدة منه..
ومن جانب الطاقم والكادر الإعلامي لقناة (الجزيرة) فإنه قد تعرض لعدد من الضربات الموجعة التي تُحتِّمها المهنة، ففي مايو من العام الجاري 2004 قُتِل في كربلاء بالعراق (رشيد حميد والي) أحد مراسلي القناة أثناء تغطيته لقتالٍ دائر بين القوات الأمريكية ومقاتلين عراقيين، حينما أطلقت عليه دبابة عراقية قذيفة أَوْدَت بحياته على الفور، كما قُتل قبله في العام الماضي 2003 بعد دخول قوات الاحتلال ثلاثة من طاقم العمل الصحافي في الجزيرة.
وأيضاً لم يسلم بعضهم من توجيه الاتهامات إليه بالعمالة الصهيونية المطلقة، ومن ذلك ما حدث عند اعتقال (ابن الشيبة) في باكستان أحد قياديي تنظيم القاعدة والمطلوبين لدى الإدارة الأمريكية بعد إذاعة (يسري فوده) برنامجه (سري للغاية) والذي اعتبره البعض دليلاً موجهاً بشكل مباشر أو غير مباشر للكشف عن هوية الشخص المطلوب، وربما أن في وضعٍ كهذا لا يمكن أن يُلقى اللوم بأكمله على قناة (الجزيرة) إن لم يتم النظر إليها بمهنية مجردة كأي وسيلة إعلامية تبحث عن الخبر أينما كان، إذ يتحمل عبء المسؤولية أيضاً الطرف الآخر في عدم التحرز من إجراء مثل هذه المقابلات.
كما اعتُقل مراسلها (تيسير علّوني) في إسبانيا بعد توجيه تهمة تواطؤه مع القاعدة، وذلك عقب إجراء لقاءٍ تلفزيونيٍّ مع (أسامة بن لادن).
لقد تفردت قناة (الجزيرة) بعدة مزايا على الصعيد المهني، وعلى الصعيد الموضوعي، بشهادة خبرات إعلامية عالمية بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، ومن ذلك ما ذكرته وكالة (رويترز) في تقرير لها: "إن قناة (الجزيرة) التليفزيونية الفضائية صنعت لنفسها اسمًا على المستوى العربي ببث ما لم تكن تجرؤ معظم الشبكات العربية على تقديمه".
وفي أكتوبر من العام 2001 وعندما بدأت المعركة بين أمريكا وقوات طالبان الأفغانية حققت (الجزيرة) نصرًا على أكبر القنوات التليفزيونية العالمية ببثها اللقطات الحية الوحيدة للضربات التي تقودها الولايات المتحدة ضد أفغانستان والأحاديث المصورة لـ (أسامة بن لادن) وأقرب مساعديه وهم يهددون بالمزيد من الدمار، حتى وصل ثمن بيع الدقيقة الواحدة من أحاديث ابن لادن للشبكات التلفزيونية بمبلغ عشرين ألف دولار.(/2)
كما أنها في نفس العام أيضاً تفردت ببث فيلم تسجيلي لزعيم تنظيم القاعدة (أسامة بن لادن) وإلى جانبه زعيم تنظيم الجهاد المصري الدكتور أيمن الظواهري خلال احتفال بتخريج دفعة جديدة من مقاتلي القاعدة، وقالت الجزيرة حينها: إن الاحتفال كان أيضًا بمناسبة الإعلان عن اتحاد التنظيمين.
وفي العام 1998 أعدّت لقاءُ انفردت به مع (أسامة بن لادن) لإلقاء الضوء على فكر وأهداف زعيم القاعدة. وقد كانت الجزيرة القناة الفضائية الإخبارية الوحيدة التي تعمل من داخل الأراضي الأفغانية التي تسيطر عليها حركة طالبان.
كما انفردت (الجزيرة) بالكثير من الموضوعات من بينها لقطات لأحداث مهمة مثل قصف طالبان لتمثالي (بوذا) العملاقين الأثريين في مايو من العام 2000.
وإجمالاً فإن قناة (الجزيرة) مثّلت حضوراً جمع بين المهنية الصحفية، وبين الواجب الإنساني، في عددٍ لا يستهان به من بؤر الصراع الساخنة، ابتداءً من أفغانستان، ومروراً بفلسطين ومجازر نابلس ورفح وجنين وأخيراً في العراق، وتحديداً ما حصل في الفلوجة.
ولهذا فليس أمر إغلاق (الجزيرة) في العراق تحديداً بالأمر المستغرب، فإنها منذ بدء تغطيتها لأحداث القصف الذي كان يتعرض له العراق من الاحتلال الأمريكي، وهي متهمة من قبل (عملاء أمريكا في ذلك الحين) بأنها متواطئة مع (صدام حسين)، وممَولَة من قبل حزب البعث الاشتراكي – مع أنه كان قد صدر أمر توقيفها أثناء الحرب من (الصحاف) في ذلك الحين لاتهامه إياها بعدم الصدق في نقل الحقائق –؛ ولذا فإن إشارات كانت ترسل من وقتٍ لآخر من الحكومة المؤقتة إما مباشرة في حين أو بتوجيه ونصائح من الإدارة الأمريكية في حينٍ آخر إلى مكتب قناة الجزيرة بأنه سيتم إيقافها عن العمل إن لم تغير من طريقة نقلها وعرضها للأحداث.
ولذا فقد كانت (الجزيرة) بمثابة المندوب السامي الأوحد، والمُمثل الرسمي المعتمد للمواطن العربي لنقل وقائع الصورة الحية المعاشة في العراق، وبشهادة العراقيين أنفسهم؛ فعلى شاشتها فقط كانت تنقل صور القصف العنيف الذي كانت تتعرض له المدن العراقية، والمداهمات، التي كان يتلقاها المواطن العراقي..!! ولكن الواقع يثبت باستمرار منذ أن جاءت قوات (الحرية!!) بأن كل ما فعلته هذه القوات الأمريكية هو أنها أبقت على نفس مضمون وجوهر وسياسة نظام الحكم، ولكنها فقط غيَّرت في الأوجه والمسميات..(/3)
لغز الحياة والموت (2)
الحياة رحلة قصيرة تنتهي بالموت المحتوم لكل مخلوق
1- الإنسان بفطرته التي فطره الله تعالى عليها يخشى الموت ويحاذر وقوعه، بل يفر منه محاولا الخلاص من سلطانه. وتؤكد وجود هذه الفطرة البشرية وقائع الحياة التي لا تكاد تحصى، وكثير من الآيات الكريمة في كتاب الله تعالى يقول تعالى: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ } [البقرة/243]. وقوله تعالى: { وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ } [ق/19]. وقوله تعالى: { قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ } [الجمعة/8] وقوله تعالى: { قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ } [الأحزاب/16].
2- وكما بينت هذه الآيات محاولة فرار الإنسان من الموت فإنها قد بينت أيضا ألا فائدة من الفرار من الموت ولا سبيل إلى الخلاص منه، وذلك في قوله تعالى: { فَقَالَ لَهُمُ اللّهُ مُوتُواْ } ، { وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ } ، { إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ } ، { قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ } . وكذلك في قوله تعالى: { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ } [الأنبياء/35]. وقوله تعالى: { حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ } [الأنعام/61]
بل إن الله تعالى يتحداهم أن يحموا أنفسهم من الموت إذا جاءهم كما في قوله تعالى: { قُلْ فَادْرَؤُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [آل عمران/168]. ولو أنهم حاولوا أن يحموا أنفسهم من الموت أو أن يهربوا منه إذا جاءهم أجلهم فما هم بقادرين على النجاة منه، كما في قوله تعالى: { أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ } [النساء/78]، وكما حاول ابن نوح أن يصنع فما أفلح في أن يحمي نفسه، كما قال تعالى في شأنه: { قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ } [هود/43].
3- وإذا كان الموت أمرا لا مفر منه ، وأنّ كل نفس ستذوق طعمه لا محالة، كما يرشدنا القرآن الكريم وكما هو ظاهر كالشمس لكل ذي عينين، فمن يذيق الناس طعم الموت، ومن يجعله نهاية كل مخلوق ؟ يجيب القرآن الكريم على ذلك بشكل قاطع أن الله تعالى وحده هو الذي قضى بالموت على كل مخلوق وألزمه أن يتجرع كأسه وأن يستسلم لسلطانه، كما بينّا ذلك في الآيات التي أوردناها سالفاً.
4- ولئن أنكر البعض أن هناك خالقاً خلقهم، وأنه هو الذي أحياهم وهو الذي يميتهم، فإنهم لم يستطيعوا أن ينكروا أن هناك عمليتي حياة وموت، تجريان أمام أبصارهم، في ملايين الأحياء الجديدة من بشر وحيوان ونبات وفي ملايين الأموات، ولكنهم عزوا ذلك للدهر والزمان، منكرين بالطبع أن هناك حياة أخرى بعد هذه الحياة الدنيا، وقد سُمّي هؤلاء بالدهريين. ويسجل القرآن الكريم إفكهم فيقول تعالى: { وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ } [الجاثية/24].(/1)
5- والله تعالى لم يقضِ بالموت على كل مخلوق فحسب، بل جعل لكل مخلوق بل ولكل أمة من الأمم، أجلاً لا ريب فيه، لا يملك أحد ان يتجاوزه بالزيادة أو النقصان. والآيات القرآنية تقرر ذلك على وجه قطعي. فيقول تعالى: { وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَابًا مُّؤَجَّلاً } [آل عمران/145]، ويقول: { فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى } [الزمر/42]. ويقول: { وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } [المنافقون/11]. ويقول: { وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ } [الأعراف/34]. ويقول: { وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ } [النحل/61]. وقال تعالى: { قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ - أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ - يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاء لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } [نوح/2-4]. وقال تعالى: { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لاَّ رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إَلاَّ كُفُورًا } [الإسراء/99]. وقال تعالى: { ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ - مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ } [المؤمنون/42-43].
6- وإذا ساور البعض وهْمٌ بأن أحداً سوى الله قادر على أن يفرض الموت على نفس لم يحِنْ أجلها فإن القرآن قد جاء يبطل هذا الوهْم ويدحضه. فقد مكر قوم إبراهيم عليه السلام به ليقتلوه انتصارا لأصنامهم التي حطمها فأوقدوا له ناراً وألقوه فيها، ولكن الله تعالى نجاه من مكرهم وكيدهم، قال تعالى: { قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ - قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ 69 وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ - وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ } [الأنبياء/68-71].
ولما ترك يونس عليه السلام قومه مغاضبا وجاء الى سفينة تأخذه بعيداً عن قومه ، فلعبت بها الأمواج واقترح ركابها إلقاءَ بعضهم في البحر طمعا في نجاة البعض الآخر من الغرق . فكان نصيب يونس عليه السلام ان يُرمَى في الماء فالتقطه الحوت لا ليكون قبراً له ، بل سفينة نجاة تحمله الى شاطئ السلامة والأمان مع ظل وطعام . ويذكر القرآن الكريم هذا الحدث العظيم: { وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ - إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ - فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ - فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ - فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ - لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ - فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاء وَهُوَ سَقِيمٌ - وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ } [الصافات/139-146].
ومن المكائد التي يذكرها القرآن الكريم ما صنع مشركو مكة من تآمرهم في دار الندوة على حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إذ أزمعوا آخر الأمر أن يقتلوه ، وما درى أولئك والناس جميعا أن لو اجتمع الخلق على أن يضروا أحداً بشيء لم يقدّره الله عليه ما قدروا على ذلك، ولو أجمعوا أمرهم على أن يضعوا حداً لحياة إنسان لم يحن أجله ما وسعهم ذلك . لذلك نجّى الله تعالى نبيّه من كيدهم ورعاه وحفظه هو وصاحبه الصديق رضي الله تعالى عنه حتى حلاّ على أهل النصرة في المدينة أعزاء ظافرين. يقول تعالى: { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } [الأنفال/30]. ويقول جل جلاله: { إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [التوبة/40] قرآن كريم
جواد الزهيري(/2)
لغتي الجميلة
بقلم الدكتورعدنان علي رضا النحوي
مالي خَلَعْتُ ثيابي وانْطَلَقْتُ إِلى
سِواي أَسأَلهُ الأثوابَ و الحُلَلا
قَدْ كانَ لي حُلَلٌ أزْهو بِبْهجَتها
عِزّاً وَيزْهو بِها مَنْ حَلَّ وارْتحَلا
أَغْنى بِها ، وَتمدُّ الدفْءَ في بَدَني
أَمْناً وتُطْلِقُ مِنّي العزْمَ والأَمَلا
تموجُ فيها الّلآلي مِنْ مآثِرها
نوراً وتبْعَثُ مِنْ لآلاِئها الشُّعَلا
حتى أفاءتْ شُعوبُ الأرْضِ تَسألُها
ثوباً لتستُرَ مِنْها السُّوءَ و العِلَلا
مدَّت يَدَ الجودِ كَنْزاً مِنْ جَواهِرها
فَزَيَّنتْهُم وكانوا قبلها عُطُلا
جادتْ عليهم وأوفَتْ كلَّ مسْألةٍ
بِرّاً تَوالى ، وأوْفَتْ كلَّ مَنْ سَألا
** **
*
** **
هذا البيانُ وقدْ صاغتْهُ معْجِزةً
تمضي مع الدّهرِ مجْداً ظلَّ مُتَّصلا
تكسو مِنَ الهدْيِ ، مِنْ إعجازِهِ حُللاّ
أو جَوْهَراً زيَّنَ الأعطافَ والعُطَلا
نسيجُه لغةُ القَرآنِ ، جَوْهرُهُ
آيٌ منَ اللهِ حقّاً جَلّ واكْتَملا
نبعٌ يفيضُ على الدّنيا فيملؤُها
رَيّاً وَيُطلقُ مِنْ أحواضِهِ الحَفَلا
أو أنه الروّضُ يُغْني الأرْضَ مِنْ عَبَقٍ
مِلْءَ الزَّمانِ نديّاً عودُهُ خَضِلا
تَرِفُّ مِنْ هَدْيِهِ أنداءُ خافِقَةٍ
معَ البكورِ تَمُدُّ الفَيْءَ و الظُّلَلا
وكلُّ مَنْ لوّحتْه حَرُّ هاجِرةٍ
أوى إليه ليلْقى الرّيَّ و البَلَلا
** **
*
** **
عجبتُ !! ما بالُ قومي أدْبَروا وجَرَوْا
يرْجونَ ساقطةَ الغاياتِ والهَمَلا
لمْ يأخذوا مِنْ ديارِ الغرْبِ مكرُمةً
مِنَ القناعةِ أوْ علماً نَما وَعَلا
لكنّهمْ أخذوا لَيَّ اللّسانِ وقدْ
حباهُمُ اللهُ حُسْنَ النُّطْقِ مُعْتدِلا
يا ويحهمْ بدَّلوا عيّاً بِفصحِهمُ
وبالبيانِ الغنيِّ استبدلوا الزَّلَلا
إن اللّسانَ غذاءُ الفكرِ يحْملُهُ
عِلْماً وفنّاً صواباً كانَ أو خَطَلا
يظلُّ ينسلُّ منه الزّادُ في فِطَرٍ
تلقى به الخَيْرَ أو تلقى بِهِ الزَّللا
الأَعْجَمِيُّ لِسانٌ زادُهُ عَجَبٌ
تَراهُ يَخْلطُ في أَوْشابِهِ الجدَلا
لمْ يَحْمِلِ الهدْيَ نوراً في مَصادِرِهِ
ولا الحقيقة إلا كانت الوَشلا
** **
*
** **
فحسبُنا مِنْ لِسانِ الضّادِ أنّ له
فيضاً من النّور أو نبعاً صَفا وجَلا
وأنه اللغة الفصحى نمت وزهتْ
تنزّلتْ وبلاغاً بالهُدى نزلا
وأنه ، ورسول الله يُبلغه
ضمَّ الزمان وضمَّ الآيَ وَالرُّسلا
وأنه الكنزُ لا تفنى جواهرهُ
يُغْني اللياليَ ما أغْنى بِهِ الأُوَلا
يظلُّ يُطْلِقُ من لأْلائِهِ دُرراً
على الزمان غنيَّ الجودِ متصلا
فعُدْ إلى لغةِ القرآنِ صافيَة
تَجْلو لكَ الدَّربَ سهْلاً كانَ أو جبلا
تجلو صراطاً سويّاً لا ترى عِوجاً
فيه ولا فتنةً تَلْقى ولا خَللا
تجلو سبيلاً تراهُ واحداً أبداً
وللمُضلّين تْلقى عندهُمْ سُبُلا
** **
*
** **
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(/1)
لبَّيْكَ يَا اللهُ !
بقلم الدكتورعدنان علي رضا النحوي
الكعبةُ الغَرَّاءُ بَيْنَ حَجيجهَا ... ... نُورٌ وَتَحْتَ ظِلاَلِهِا رُكْبَانُ
تَتَقَطَّعُ الأَيَّام مِنْ أَحْدَاثِهَا ... ... وَحَجيجُهَا مُتوَاصِلٌ رَيَّانُ
أجْرَى لَهَا الرَّحْمَانُ زَمْزَمَ آيَةً ... ... فَاْبتَلَّتِ السَّاحاتُ وَالأَزْمَانُ
وَجَرَى بِكُلِّ عُرُوقِهَا مِنْهُ هَوَىً ... ... وَصَفتْ على جَنَباتِهَا الغُدْرَانُ
رُدِّي عَليَّ مِنَ الهَوى وَحَنَانِهِ ... ... كم كَانَ يَحْلو مِنْ هواَكِ حَنَانُ
تَمْضين وَالأَيَّامُ تَنْثُرُ وُدَّهَا ... ... طِيباً فَتَنْفُضُ عِطْرَهَا الأَرْدَانُ
** ... * ... **
أمَقَامَ إِبْرَاهِيمَ ، وَالبَيْتُ العَتِيـ ... ... ــقُ هُدىً وَآياتٌ لَهُ وَبَيانُ
الطَّائفُونَ الرَّاكِعُونَ لِرَبَّهِمْ ... ... خَفَقَتْ قُلُوبُهُمُ وَضَجَّ لِسَانُ
تَتَزاحَمُ الأَقدَامُ في سَاحَاتِهِ ... ... وَتَرِفُّ بَيْنَ ظِلالِهِ الأَبْدَانُ
وَمِنَىً صَدَى رَبَواتِهِا التَّوْحِيدُ وَالتْـ ... ... ـتَكْبيرُ وَالإِخْباتُ وَالإِذْعَانُ
عَرَفَاتُ سَاحَاتٌ تَضِجُّ وَرَحْمَةٌ ... ... تَغْشَى وَدَمْعٌ بَيْنَهَا هَتَّانُ
لَبَّيْكَ يَا أَللهُ ! وَانْطَلَقَتْ بهَا ... ... رُسُلٌ وَفَوَّحَتِ الرُّبَى وَجِنَانُ
لَبَّيكَ والدُّنْيَا صَدىً والأُفْقُ يَرْ ... ... جِعُهَا نَدىً يَبْتَلُّ مِنْهُ جَنَانُ
لَبَّيْكَ وَحْدَكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ الرضا ... ... اَلخيرُ مِنْكَ بِبَابِكَ الإِحْسَانُ
** ... * ... **
لَبَّيْكَ ، والْتَفَتَ الفُؤادُ وَدَارَتِ الْـ ... ... ـعَيْنَانِ وَانْفَلَتَتْ لَهَا الأَشْجَانُ
دَقَّتْ قَوَارِعُها الدِّيَارَ فَزُلْزلَتْ ... ... تَحْتَ الخُطى الأرْبَاضُ وَالأرْكانُ
جَمَعتْ مَرَامِيهِ البلادَ فَمَشْرِقٌ ... ... غَافٍ وَغَرْبٌ لَفَّهُ النِّسْيانُ
** ... * ... **
أَيْنَ الحَجِيجُ ! وَكُلُّ قَلْب ضَارعٌ ... ... وَمَشَارِفُ الدُّنْيَا لَهُ آذَانُ
نَزَعُوا عَنِ السَّاحَاتِ وَانْطَلَقَتْ بِهمْ ... ... سُبُلٌ وَفَرَّقَ جَمْعَهُمْ بُلْدَانُ
وَطَوَتْهُمُ الدُّنْيَا بِكُلِّ ضَجيجِهَا ... ... وَهَوَىً يُمَزِّقُ شَمْلَهُمْ وَهَوَانُ
وَمَضى الحَجيج كَأَنَّهُ مَا ضَمَّهُمْ ... ... عَرفَاتُ أَوْ حَرَمٌ لَهُ وَمَكَانُ
بِالأَمْسِ كَمْ لَبَّوا عَلى سَاحَاتِهِ ... ... بِالأَمسِ كم طَافُوا هُنَاك وَعَانُوا
عَرَفَاتُ سَاحَاتٌ يَمُوتُ بِهَا الصَّدى ... ... وَتَغِيبُ خَلْفَ بِطاحِهِ الأَلْوَانُ
لَمْ يَبْقَ في عَرَفَاتِ إِلاَّ دَمْعَةٌ ... ... سَقَطَتْ فَبَكَّتْ حَوْلَها الوُدْيانُ
هي دَمْعَةُ الإِسْلامِ يَلْمَعُ حَوْلَها ... ... أمَلٌ وَتُهْرَقُ بَيْنَها الأَحْزَانُ
** ... * ... **
وَتَلَفَّتَ الأَقْصَى لَمكَّةَ لَوْعَةً ... ... أَخْتَاهُ ! تَنْهَشُ أَضْلُعِي الغِرْبَانُ
أخْتَاهُ ! أَيْنَ المُسْلِمُونَ وَحَشْدُهُمْ ... ... أَيْنَ المَلايينُ الغُثَاءُ ! أَهَانُوا ؟
أُخْتَاهُ ! وَانْقَطَعَتْ حِبَالُ نِدَائِهِ ... ... وَاغْرَوْرَقَتْ مِنْ دَمْعِهِ الأَجْفَانُ
وَهَوَتْ مَعَاوِلُ كَيْ تَدُقَّ حِيَاضَهُ ... ... وَهَوَتْ على أَمْجَادِهِ الجُدْرَانُ
** ... * ... **
القِبْلَتَانِ مَرَابِعٌ مَوْصُوِلَةٌ ... ... دَرَجَتْ عَلى سَاحَاتَهَا الفِتْيَانُ
القِبْلَتَانِ يَمُوجُ بَيْنَهُما الهُدَى ... ... نُوراً وَيَخْشَعُ عِنْدَهُ الإِنسَانُ
القِبْلَتَانِ وَكُلُّ رَابِيَةٍ لَها ... ... حَرَمٌ وَكُلُّ شِعَابِهِ أَكْنَانُ
يُهْدي الحَمامُ إِلى الشِّعَافِ هَدِيلَهُ ... ... وَيَرُدُّ جُنْحَيْهِ رِضَىً وَأَمَانُ
وَيَضُمُّ بَيْنَهُما ظِلاَلَ نُبُوَّةٍ ... ... وَالصَّاحِبَيْنَ فَطَابَ مِنْهُ مَكانُ
** ... * ... **
أكَتَائِبَ الرَّحْمَانِ أَيْنَ رِسَالَةٌ ... ... فَتَحَتْ قُلوبَ العَالِمينَ فَدَانُوا
هَلاَّ أَعدْتِ إلى القُلوبِ يَقينَهَا ... ... وَ البُشْرَياتُ نَوَاضِرٌ وَجِنَانُ
عَهْدٌ مَعَ الرَّحْمَانِ أوْفَى حَقَّهُ التـ ... ... ـتَوْرَاةُ والإِنْجِيلُ وَالْقُرْآنُ
** ... * ... **
حَرَمٌ يُبَارِكُهُ الإِله ! رَحِيقُهُ ... ... تَغْنَى بِهِ الذُّرُوَاتُ وَالوُدْيَانُ
حَرَمٌ تَحِنُّ لَهُ القُلوبُ وَيَرْتَوي ... ... عِنْدَ اللِّقاءِ وَخَفْقِه الظَّمْآنُ
** ... * ... **
يَا أُمَّةَ القُرْآنِ دَارُكِ حُلْوَةُ ... ... مَا طَوَّفَتْ ذِكْرى وَهَاجَ حَنَان
مَغْنَاكِ مَنْثُورُ الأزَاهِر كُلُّها ... ... عَبَقُ إِذا خَضِرَتْ بِهِ العِيدَانُ
لا أَنْتَقِي مِنْ غَرْسِ رَوْضِكِ زَهْرَةً ... ... إِلاَّ وَكَانَ عَبيرَهَا الإِيمَانُ
يَشْكُو ! ويَشْكُو كُلُّ مَنْ عَرَفَ الَهوى ... ... أَوْ هَاجَهُ مِنْ طَرْفِكِ الحِرْمَانُ
ذَبَلَتْ أَزَاهِرُهُ وَصَوَّحَ رَوْضُهُ ... ... وَبَكَى على أَطْلاَلِهِ السُّكَّانُ(/1)
** ... * ... **
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
· ديوان الأرض المباركة(/2)
لفظ التوحيد في السنة النبوية
طلال بن علي الجابري
استقر التوحيد بأقسامه الثلاثة - عند أهل الحق - :
1- توحيد الألوهية . 2- توحيد الربوبية . 3- توحيد الأسماء والصفات .
ووفقهم الله - عز وجل - للعمل بمقتضى هذه العقيدة السمحة ، إلا أنه لا بد لأهل الحق من المدافعة والمنابذة من أهل الزيغ أو الجهل بين الحين والآخر [ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ ]( الأحزاب : 62 ) ، ومن ذلك :
1- إنكار تقسيم التوحيد من بعض أهل البدع وادعاؤهم أن أول من جاء به شيخ الإسلام ابن تيمية ، وابن القيم ، وابن عبد الوهاب ؛ رحم الله الجميع . وقد تولى الرد على هذه الفرية جمعٌ من العلماء . قال الشيخ بكر أبو زيد : ( هذا التقسيم الاستقرائي لدى متقدمي علماء السلف أشار إليه ابن منده و ابن جرير و الطبري وغيرهم ، وقرره شيخا الإسلام ابن تيمية و ابن القيم ، وقرره الزبيدي في تاج العروس ، وشيخنا الشنقيطي في أضواء البيان في آخرين ؛ رحم الله الجميع ، وهو استقراء تامٌّ لنصوص الشرع ، وهو مطرد لدى أهل كل فن كما في استقراء النحاة كلام العرب إلى اسم وفعل وحرف ، والعرب لم تَفُهْ بهذا ، ولم يعتب على النحاة في ذلك عاتب ، وهكذا من أنواع الاستقراء ) .
2- تسمية أقسام التوحيد اصطلاحاً . وهذا خطأ ؛ والصواب أنه استقراء من نصوص القرآن الكريم وليس اصطلاحاً أنشأه بعض العلماء من عندهم ؛ ولهذا نجد أن العلماء لا يسمون ذلك اصطلاحاً ، بل يقولون إنه استقراء كما في ( أضواء البيان 3/410 414 ) وما تقدم من كلام الشيخ بكر أبو زيد وغيرهما ، وقد سمعت الشيخ عبد الله الغنيمان يرد هذه التسمية ويسميها : استقراء .
3- زعم بعضهم أن لفظ التوحيد مصطلح عليه ( أي أنه من عند العلماء ) ولم يرد في القرآن ولا في السنة ، كما صرح بعضهم في درسه بذلك ، وقد نبهته ورجع جزاه الله خيراً . ثم وجدت الخطأ نفسه من بعض الفضلاء في كتاب له ، وهذا لا نشك أنه ناشئ من عدم الاستقراء . ورحم الله أهل الاستقراء التام « كدت لا أراهم إلا في كتاب أو تحت تراب » .
وها هنا بعض الأحاديث النبوية الثابتة في ذكر لفظ التوحيد ولن آتي به إلا صريحاً ؛ لأن بعضهم قال إنه جاء متصرفاً ، أما صريحاً فَلَمْ يأت . فإلى الأحاديث :
1- أخرج الإمام أحمد عن جابر - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يُعذب ناسٌ من أهل التوحيد في النار حتى يكونوا حُمماً ، ثم تدركهم الرحمة فيخرجون ويطرحون على أبواب الجنة ، قال : فيرش عليهم أهل الجنة الماء فينبتون كما ينبت القثاء في حمالة السيل ثم يدخلون الجنة » .
2- وجاء في صحيح مسلم وغيره في كتاب الحج عن جابر - رضي الله عنه - : « ... فأهلَّ بالتوحيد ... » [3] .
3- أخرج أبو داود وغيره ، وصححه الحاكم والذهبي وحسنه النووي والعسقلاني ؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبعض النسوة : « عليكن بالتسبيح والتهليل والتقديس ، ولا تغفلن فتنسين التوحيد ( وفي رواية : الرحمة ) ، واعقدن بالأنامل ؛ فإنهن مسؤولات ومستنطقات » .
وفي الجملة فقد يكون هناك أكثر وأكثر من الأحاديث النبوية الصحيحة في ذكر لفظ التوحيد ؛ وإنما أردت إثبات هذا اللفظ الشريف ، ويكفي في ذلك حديث واحد ؛ ولله الحمد . كما أني أنصح الجميع بعدم النفي لبعض القضايا أو الأسماء إلا بعد الاستقراء التام والاعتماد على العلماء المتقدمين في ذلك ؛ لأنهم أهل الاستقراء حقيقة من أمثال شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وغيرهما ، رحمهم الله .
وأذكر في هذا المقام أن بعض أهل البدع قال : لم يرد تسمية صفات الله بلفظ ( صفة ) ، أما الأسماء فقد وردت ! ! وهو بهذا الزعم يشوش على بعض البسطاء من العامة والله المستعان ، وغاب عنه حديث في صحيح البخاري عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث رجلاً على سرية وكان يقرأ لأصحابه في صلاته فيختم بـ [ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ]( الإِخلاص : 1 ) ، فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : « سلوه لأي شيء يصنع ذلك ؟ » فسألوه فقال : لأنها صفة الرحمن وأنا أحب أن أقرأ بها . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « أخبروه أن الله يحبّه » .
[ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلامٌ عَلَى المُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ ]( الصافات : 180-182 ) ._(/1)
لقاء مع فضيلة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني
فضيلة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني من أعلام الدعوة الإسلامية في هذا العصر ، ومن كبار علماء الحديث ، أمضى عمره في تعلم الحديث وتعليمه والتصنيف فيه ، ووضع السنة بين يدي الأمة ، وكان لكتبه ودروسه ولقاءاته الفضل والأثر الكبير في التوجه نحو السنة الصحيحة والابتعاد عن الضعيف والموضوع .
وقد كانت رغبة قديمة عند (مجلة البيان) في اللقاء به والاستفادة من علمه ، وتعريف القراء بعلمائنا البارزين الذين لا ينكر دورهم التجديدي في هذا العصر وقد جاءت الفرصة المناسبة والتقاه رئيس التحرير وكان معه هذا الحوار .
س : فضيلة الشيخ عندما قمتم بتدريس مادة الحديث في الجامعة الإسلامية في المدينة النبوية كان لكم دور بارز في إيجاد تيار من الشباب المتعلم الذي يبحث عن الدليل الشرعي ، ويهتم بالحديث ، والبحث عن تخريجه وتمييز الصحيح من الضعيف ، هل أنتم راضون عن هذا التيار ، وهل هو في ازدياد وانتشار ؟
ج : ليس لي صلة بالجامعة ، ولما تركتها أو تركتني ، كنت أتردد ما بين آونة وأخرى في سبيل مراجعة بعض المحاضرات هناك . لم تعد الظروف تساعدني على التردد عليها لذلك لا أعرف واقعها الآن . ولكن بصورة عامة لا تزال قائمة بواجبها في نشر الثقافة الإسلامية السلفية ، ولا شك أن بعض إخواننا من الطلاب الذين كانوا يوم كنا ندرس هناك مادة الحديث ، هم الآن أساتذة ودكاترة ، ولا أدري هل التأثير ما يزال مستمراً كما كان في العهد الأول أم ازداد ، هذا مما لا سبيل لنا إلى معرفته إلا بالتردد على الجامعة والاطلاع على مسيرتها .
س : ولكن هناك ملاحظة ، على بعض هؤلاء التلاميذ أو تلامذتهم ، عندهم خشونة أو قسوة في عرض المنهج ، ألا ترون أنّ هذا يجب أن يصحح ؟
ج : نعم ، نحن نقول كما قال رب العالمين [ ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ والْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ ]وهذا يجب أن يوجه إلى جميع الدعاة .
س : هل لكم ملاحظات على التيار السلفي في البلاد العربية والعالم الإسلامي ؟ وما هي ؟
ج : باعتقادي أن التيار السلفي والحمد لله اكتسح الأجواء الإسلامية كلها ، وأكبر دليل على ذلك أن الذين كانوا بالأمس القريب يعادونه أصبحوا يتزلفون إليه ، ويتبنون اسمه ، هذا يبشر بخير ، لكن في الواقع أرى أن الدعوة السلفية والتي يعود إليها الفضل فيما يسمى اليوم بالصحوة الإسلامية ، وإن كان كثير من الدعاة الإسلاميين يتجاهلون هذه الحقيقة ، ولا يربطون الصحوة بالدعوة السلفية الحقة ، لكن الحقيقة هي أن الصحوة الموجودة اليوم والتي يعبر عنها بالرجوع إلى الأصل (الكتاب والسنة) ، ونحن نعبر عن هذا الرجوع بعبارة أدق كما هو معلوم من محاضراتنا .
إن الدعوة إلى الكتاب والسنة يجب أن يقرن بها الدعوة إلى منهج السلف الصالح في فهم هذين المصدرين الوحيدين ، وإن كان الآخرون لا يدندنون حول هذا المنهج مع أنه ضروري جداً ، إذ عدم الاهتمام به هو سبب الفرقة القديمة المعروفة تاريخياً ، والفرق الحديثة الموجودة اليوم ، ولم يكن سبب هذا وذاك إلا عدم الرجوع إلى فهم الكتاب والسنة على منهج السلف الصالح . أقول : إن الدعوة السلفية - مع انتشارها وما نتج عنها من هذه الصحوة العصرية -
مجملة تحتاج إلى علماء يبينون أولاً تفصيل الكلام حولها ، وتوسيع دائرة الدعوة السلفية ، إنها هي الإسلام بكل تفاصيله تجمع كل شؤون الحياة .
هذا التعميم في البيان للدعوة السلفية بحاجة إلى علماء عاشوا حياتهم يدرسون الكتاب والسنة ويدعون الناس قولاً وكتابة وعملاً ، فإن كثيراً من الشباب الذين يتبنونها ، يستعجلون الدعوة إليها قبل أن يفهموا تفاصيلها ، ومن آثار ذلك كثرة الرسائل والمؤلفات التي تطبع في العصر الحاضر من مؤلفين عديدين جداً ، ولا تكاد تجد في هذه الكثرة الكاثرة من هؤلاء من يشار إليه بأنه شيخ ، وأعني بكلمة شيخ المعنى اللغوي (مسن وكبير) وأعني أيضاً المعنى العرفي : أنه متمكن في علمه ، هذا الشباب المتحمس لم يدرس الإسلام دراسة على الأقل تسوغ له أن يؤلف وأن يدعو الناس سواء بكتاباته أو بمحاضراته .
* ظاهرة الكتب الكثيرة الآن ظاهرة غير صحية ؟
ج : أبداً أبداً تنبئ بصحوة ، وتنذر بآن واحد ، ومن نتائج هذه الظاهرة كثرة الناشرين والطابعين مع قلتهم في الزمن السابق ، القلة السابقة وإن كانوا اتخذوا الطباعة والنشر مهنة للعيش -وهذا لا بأس به شرعاً - ولكن كانوا في الغالب يشكلون لجاناً علمية ، لا يطبع الكتاب إلا بعد مروره على هذه اللجنة . أما الآن مع الأسف الشديد نجد الأمر أن النشر هو للتجارة وليس لخدمة العلم ، وتجد لافتات ضخمة يقال أن هذا الكتاب قام على تحقيقه أو التعليق عليه لجنة من أهل الاختصاص وحينما تقرأ تحزن لكثرة الأخطاء المطبعية ، مع شعورك بأنه لم يحقق !(/1)
تعاون المؤلفون المحدثون مع الناشرين في غزو المكتبات بشتى المؤلفات ، تجد رسائل متعددة في موضوع واحد ، هذا يأخذ من هذا وهذا يأخذ من ذاك وليس هناك علم جديد .
قبل أمس اتصل بي أحد الجزائريين ، أعجبتني لغته مع أن لغة الجزائريين صعبة فلهجتهم غير لهجتنا ولكن هذا الأخ كانت لهجته عربية فصحى لا يلحن ، ماذا سألني ، قال : أنا بصدد جمع أوهام الحافظ الذهبي في تلخيصه للمستدرك التي أشرت إليها في كتبك حيث تقول أنت مثلاً : أخرجه الحاكم وقال صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي ، فما رأيك ؟
قلت له : لا تفعل ، ولئن فعلت فاجمع لنفسك ، لأني أريدك ألا تكون إمعة ، ولا مقلداً ، لا لبكر ولا لزيد ولا لناصر ، نريد منك أن تنشر جهدك واجتهادك وكل إنسان يستطيع أن يجمع قول فلان مع قول فلان ويؤلف رسالة ، ماذا يستفيد الناس من هذا المجهود هكذا أقول لطلاب العلم ، لا تتسرعوا في التأليف والنشر وأضرب لهم مثلاً : عندي كتاب هو أول كتاب يمكن أن يقال أنه تأليفي وهو في مجلدين واسمه : ( الروض النضير في ترتيب وتخريج معجم الطبراني الصغير ) ألفته وكان عمري 25 سنة ، حينما يراه الإنسان يتعجب من الجهد ومن العناية بالخط ، أما الآن بعد أن بلغت من الكبر عتياً أستفيد منه كثيراً ، ولكن لا أرى أنه صالح للنشر ، لماذا؟
لأنني أستدرك على نفسي بنفسي، وهناك مثال واضح جداً ، كنت أنا مع الجمهور الذين إذا رأوا حديثاً بإسناد كل رجاله ثقات إلا شخصاً واحداً وثقة ابن حبان ، كنت أقول هذا إسناد صحيح ، على هذا جريت في هذا الكتاب ، لكن فيما بعد ، رأيت أن توثيق ابن حبان لا يوثق به ، والآن من فضل الله علي وعلى الناس أن كثيراً ممن عنوا بعلم الحديث أصبحوا يقولون كما صرت أنا أقول لا كما كنت أقول ، ثم جدّ معي شيء عثرت عليه منذ بضع سنين أن وجه الصواب في الذي نشرته وانتشر عن ابن حبان ، الصواب فيه أنه ليس على إطلاقه ( يعني لا يقول أحد أن توثيق ابن حبان لا يوثق به ) تبين لي هذا من الممارسة العملية ، هذه نقطة لم تذكر في علم المصطلح ، صرت أقول : توثيق ابن حبان لا يوثق به إلا إذا كان هذا الموثق له رواة كثيرون عنه ، إذا كانوا ثقات ، عندئذ تطمئن النفس إلى الاعتداد بتوثيق ابن حبان ثم حصلت عجائب ، الناشئون الذين أخذوا تنبيهي الأول صاروا يردون علي : أنت لماذا تصحح هذا الحديث وفيه فلان ، لم يوثقه إلا ابن حبان ؟ !
طبعاً أبين لهم الآن أنه تكشف لي كذا وكذا .. وليس بشيء تفردت به ، هذا غير مذكور في علم مصطلح الحديث ، لكن يفهمه الإنسان بالممارسة .. ، الخلاصة ، نحن نريد الآن من الناشئ ألا يتسرع .
س : بعض الناس ينتقدون منهج الجامعات الإسلامية في طرق التعليم ، وأنهم لا يخرجون طلبة علم مؤهلين ليكونوا علماء ، ما هي الطريقة المثلى للتعلم برأيكم ؟
ج : الجامعات ليس بإمكانها أن تخرج علماء ، لكن الجامعات تهيئ الطلبة ليكونوا علماء ، والحق أن الذين يتخرجون لا يقومون بواجبهم ، لا يتابعون الاستفادة من القواعد العلمية والتوجيهات التي تلقوها من أساتذتهم لينكبوا على العلم ، ثم عند النضج العلمي كتابة ومحاضرة ونشراً ، فأصبح جل هؤلاء المتخرجين همهم أن يصبحوا أساتذة ومعلمين أو أن يصبحوا موظفين كبار في بعض الدول . إن مصيبة العالم الإسلامي اليوم هي فقدان التقوى ، فقدان التربية ، وفي اعتقادي أن الناس لا يختلفون في أن العلم وحده لا يكفي بل قد يضر صاحبه .
س : أعتقد أن هناك ضعفاً في طرق التعليم ، وكذلك في المناهج المقررة ، ما رأيكم ؟
ج : ليس عندي دراسة للمنهج حتى أفيدك ، ولكن عليك أن تلاحظ في الجامعات عدد السنين التي وضعوها والأوقات التي حددوها والتي لا تساعد على دراسة العلم كما كانوا قديماً يدرسون ، في بعض جامعات الهند أو في بعض الحلقات على الطريقة القديمة كنت أسمع أنهم يدرسون الكتب الستة فعرفت فيما بعد أنهم كانوا يدرسونها للبركة ، الأوقات التي تنظم في الجامعات لا تساعد على التوسع في المناهج ..
أضرب لك مثلاً بشخصي : أنا يوم كنت هناك بالجامعة ، كان من المقررات الجزء الأول من (سبل السلام) فأنا ما استطعت أن أنهي من المقرر إلا أقل من الربع ، لأني كنت أدرس الحديث الواحد في حصتين ، ضاق الطلاب ذرعاً ، فراحوا يشكونني إلى الشيخ عبد العزيز بن باز رئيس الجامعة يومها ، وكنا نلتقي بالرئيس والأساتذة فقال لي : إن الطلاب يشكون من تطويلك ، فقلت له : صحيح ، لكن هناك أقوال وأحكام مختلف فيها بين المذاهب ، لا بد أن أذكر دليل كل واحد وأعمل تصفية ، فقال لي : اكتف بما يحضرك ، ولا تذكر كلام العلماء بالتفصيل . الطلاب الذين يتخرجون إن لم يتابعوا الخطأ في الدراسة ويتوسعوا فيها لانجد بينهم علماء ، والسبب أن الطالب عندما يأخذ شهادة الدكتوراه يصبح أستاذاً في الجامعة أو يتوظف في دائرة من الدوائر ، فهو لا يستثمر المفاهيم والقوانين التي تلقاها ، كما لا يتفرغ للعلم وللعلم فقط .(/2)
س : ألا ترون إحياء حلقات العلم إتماماً للدراسات الجامعية ؟
ج : نعم ، ولكن نعود إلى المشكلة ، من الذي يدرِّس ؟ س : نعود إلى بعض النواحي العلمية ، سمعت من بعض الإخوة الدكاترة في الجامعات الإسلامية وطلبة العلم نقداً لطريقتكم في تقسيم كتب السنن إلى صحيح وضعيف يقولون : ربما يتبين لكم بعدئذ أن هذا الحديث ضعيف أو العكس ، فما رأيكم ؟ ج : هذا ممكن وواقع وماذا يريدون ؟ س : لو تبقى سنن أبي داود وتعلقون عليه في الهامش فيبقى الكتاب كاملاً كما ألفه أبو داود ؟ ج : هذه مشكلة ، ولكن لنترك صحيح أبي داود وضعيفه .
أنا عندي الآن سلسلتان : الصحيحة والضعيفة كما تعلم ، وكثيراً ما يقع أن أنقل حديثاً من الصحيحة إلى الضعيفة ، وبالعكس ، وهذا مستنكر عند الجهلة ، ومقبول مشكور جداً عند أهل العلم ؛ ما الفرق بين الصورة الأولى والصورة الأخرى ؟
ربما بعد سنوات نعيد طبع سنن أبي داود وأنا من فضل الله علي نادراً ما أعيد طباعة كتاب إلا وأعيد النظر فيه ، لأنني متشبع أن العلم الصحيح لا يقبل الجمود ، وأنا أتعجب من مؤلف ألف كتاباً من عشرين سنة خلت ويعيده كما هو لا يغير ولا يبدل ، ما هذا العلم ، هل هو وحي من السماء ؟ أم جهد إنسان يخطئ ويصيب ...
ولنفرض أننا استجبنا لهؤلاء وأعدنا طباعة الكتاب وانتقلت أحاديث من الضعيف إلى الصحيح وبالعكس فنعود لنفس القضية ، ومن الممكن أن ننقل هذا الاقتراح إلى مختصري للبخاري ، ولكنهم لم يقولوا : دع البخاري كما هو ؛ ولكنهم يقرونه ولا ينكرونه ، وأنا أقول الحقيقة انني لما بدأت بتقسيم سنن أبي داود من نحو أربعين سنة إلى صحيح وضعيف ، عرضت وجوه النظر أمامي تماماً ، قلت : أفعل هذا أو هذا ، ثم ترجح عندي وأيدني في ذلك بعض الأدباء الحريصين على العلم مثل الأخ حمدي عبيد ، أيدني في جعل السنة قسمين ، ترجح عندي وفي داخل مشروعي تقريب السنة بين يدي الأمة من جهة ..
ومن جهة ثانية تقريب السنة الصحيحة وليس الضعيفة ، وبعدئذ لا خوف ، لأن عامة الناس ليسوا بحاجة إلى معرفة الضعيف ، وإنما يحتاج ذلك خاصتهم ، فإذا كان رجل من عامة الناس أقدم له صحيح أبي داود وأقول هذا حسبه ، أما الخاصة فيجب عليهم معرفة الضعيف ، فالمفروض أنهم موجهون للناس .
لقد ترجح عندي ذلك وقدوتي في ذلك الأئمة : أئمة الصحاح مثل البخاري ...
س : أستاذنا ، هل هناك بعض الفتاوى الفقهية ، قلتم بها من زمن ثم رجعتم عنها لإطلاعكم على أدلة أقوى ؟
ج : ربما بلغك عني إشاعة أني تراجعت عن القول بتحريم الذهب المحلق على النساء ، فهذا كذب ، وربما هناك إشاعات أخرى وكلها ليس لها أصل .
س : نعود إلى النقطة التي ذكرتموها في أول الحديث ، وهي أن منهج أهل السنة يحتاج إلى تفصيل حتى يساعد المسلمين عل حل مشكلاتهم . هل نستطيع أن نقول أن الخطوط العريضة لهذا المنهج ، وأعني طريقة تفكير واستدلال أهل السنة هو ما كتبه الشافعي في الرسالة أو الشاطبي في الموافقات أو ابن تيمية في كثير من كتبه وخاصة (درء تعارض العقل والنقل) ؟
ج : نعم هؤلاء العلماء الذي ذكرتهم من نوادر علماء المسلمين ، الذين يتمثل المنهج العلمي السلفي في كتبهم .
س : أستاذنا هل عندكم زيادة عما كتبه الأخ الشباني بالنسبة لحياتكم الشخصية ؟
ج : ليس عندي زيادة وما كتبه فيه الكفاية .
س : سؤال أخير ، ما هي نصيحتكم للشباب المسلم في هذا العصر ؟
ج : نصيحتي في ناحيتين : ربما فهمت الأولى من كلامي السابق ، أن يتفقهوا بالدين اعتماداً على قوله -عليه الصلاة والسلام- : » من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين « وأن لا يكتفوا بالعلم دون العمل ، لأن الحقيقة التي ألمسها لمس اليد كما يقال أن أكثر شبابنا الناهض اليوم همته في النواحي الفكرية دون الناحية العلمية والعملية لذلك أنا أنصح هؤلاء أولاً أن يتوسعوا ما استطاعوا بمعرفة العلم الصحيح المستقى من الكتاب والسنة إما بأشخاصهم إذا أمكنهم أو بالاستعانة بأهل العلم ، وأن لا يقدموا على شيء يصدر عنهم عن جهل اعتماداً على ثقافتهم القليلة الضحلة ، هذا من جهة ...
ومن جهة أخرى أن يهتموا بالعمل أكثر مما يهتمون بالعلم ، لأننا نرى مع الأسف الذين يهتمون بالعلم أكثرهم لا يعملون ، وبالأولى أن الذين لا يهتمون بالعلم ألا يعملوا ، فليعكسوا الأمر ، عليهم أن يهتموا بالعمل أكثر من العلم ، فإذا كان أهل العلم يتركون العمل ، فالأحرى بغيرهم ممن لا يعلم أن يترك العمل أيضاً ، فعلى أهل العلم وطلبته أن يصرفوا جهودهم إلى العمل ويعكسوا الحال الحاضرة إلى علم وعمل كثير لتتعدل كفة النقص في المجتمع .
فكما لا ينفع علم بلا عمل فكذلك لا ينفع عمل دون علم وهذه حقيقة - ولله الحمد - متفق عليها بين علماء المسلمين ، هذه نصيحتي للشباب المسلم الناشئ في هذا العصر .(/3)
وشكرنا الشيخ على هذه الفرصة الطيبة فجزاه الله خيراً ومد الله في عمره وبارك فيه . ونرجو أن يكون لنا معه لقاء آخر . وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .(/4)
لقد آن الأوان...؟؟!! ... ... ...
التفرق المحمود، والمذموم:
الفِرقة، بكسر الفاء، هي: الجماعة من الناس، المفارقة عن الجماعة الأم..
والفُرقة، بضم الفاء، هي: حال التفرق، عكس الاجتماع والاتحاد..
فالأولى مذمومة في حال، ومحمودة في حال، فإن كانت المفارقة سببها التمسك بالحق فهي محمودة، وإن كان سببها الخروج عن الحق فهي مذمومة..
ولذا نجد في الأثر أن هذه الأمة ستفترق إلى ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار، أي ثنتين وسبعين فرقة، وواحدة في الجنة، هي الفرقة الناجية، التي تكون على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم، فهذه الناجية فرقة تمسكت بالحق، فأفلحت ونجت..
روى الترمذي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
- (لَيَأْتِيَنَّ عَلَى أُمَّتِي مَا أَتَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ، حَتَّى إِنْ كَانَ مِنْهُمْ مَنْ أَتَى أُمَّهُ عَلَانِيَةً لَكَانَ فِي أُمَّتِي مَنْ يَصْنَعُ ذَلِكَ، وَإِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ تَفَرَّقَتْ عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً، وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةً، كُلُّهُمْ فِي النَّارِ إِلَّا مِلَّةً وَاحِدَةً، قَالُوا: وَمَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟، قَالَ: مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي).. الإيمان، باب: افتراق هذه الأمة، صحيح الترمذي 2/334 ( 2129).
في وصية النبي صلى الله عليه وسلم لحذيفة إذا وقت الفرقة ( كما في البخاري في الفتن):
- (تدع تلك الفرق كلها، ولو أن تعض على أصل شجرة، حتى يدركك الموت وأنت على ذلك)..
هذا يدل على أن الفِرقة محمودة إذا كان فراقها وخروجها سببه لزوم الحق، ورفض الباطل..
وأما الثانية، وهي الفُرقة، فهو وصف مذموم في كل حال، لأنه ينم عن الاختلاف، والتنافر، والعداوة، بين أهل الملة الواحدة، مع وجود الحق ومعرفته، وقد نهى الله تعالى عن مثل هذا، فقال:
- {ولاتكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم}..
- {منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولاتكونوا من المشركين * من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون}.
فأهل الكتاب والمشركون هم من علاماتهم الفُرقة وما ينبني عليها من العداوة، وذلك لأنهم أهل هوى وحب للدنيا، وقد مزقوا دينهم فكانوا أحزابا وشيعا، وأهل الإسلام مأمورون بضد ذلك، فإن امتثلوا فقد حققوا دينهم، وإلا فهم مشابهون لأولئك الضلال في صفاتهم..
- الأصل الشرعي: الاجتماع.. الأصل القدري: الاختلاف:
والواقع أن أهل الإسلام وقعوا في هذا المحذور، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بحدوث ذلك، في حديث الافتراق، فكان ذلك من علامات النبوة: الإخبار بما في المستقبل..
- أخبر بها ليحذر أهل الحق من هذه الفتنة، المسببة للعداوة والبغضاء، وضعف المسلمين..
- أخبر بها لأنها واقعة قدرا، وإن كانت مكروهة شرعا .. ليدفعها المسلمون ما استطاعوا..
ففي الاجتماع فائدتان، وفي الفرقة مفسدتان:
- في الاجتماع: القوة، وبها ينتصر الحق.. والتآخي، وبه يذوق المؤمنون الطعم الجميل للحياة..
- في الفرقة: الضعف، وبه ينهزم الحق.. والعداوة، وبها يذوق الناس الطعم القبيح للحياة..
قال تعالى: {واعتصموا بحبل الله جميعا ولاتفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها ..}.
فالشريعة تنهى التفرق بين المسلمين، وتأمر بالاجتماع، بالاعتصام بحبل الله تعالى، الذي هو الكتاب والسنة، في نصوص كثيرة متنوعة، لكنها أيضا تبين أن التفرق قدر واقع، يجب التوقي منه، ومدافعته، والتقليل من شره، كالمرض، فإن معرفة أن المرض قدر واقع لم يمنع الناس من الوقاية منه، ومن علاجه بكل وسيلة، فهذا مرض البدن، والتفرق مرض المجتمع، فلا بد من التوقي منه، وعلاجه إن وقع بكل وسيلة..
وتجربة الأنبياء أثبتت أن من الممكن القضاء على التفرق والاختلاف، وتحصيل الاجتماع..
قال تعالى:{ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولايزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين}..
فقد بين أن الخلاف هو الأصل، لكن كذلك بين أن الاجتماع ممكن في قوله: {إلا من رحم ربك}.
والاجتماع هو الأصل في أمة المسلمين، وفي تاريخ البشرية، فأمة الإسلام بنيت علي يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي جمعها، ووحدها، وربط بينها، فمات وهي مجتمعة متحدة، ثم بعد عقود سرى المرض إلى الجماعة، بفعل المرضى المفسدين، الذين يفسدون في الأرض ولايصلحون، حتى تمكن فأفسد وفرق..
وكذا البشرية في أول أمرها كانت على الاجتماع، من عهد نوح إلى آدم، عشرة قرون، لم يكن بينهم تفرق، حتى حدث مرض الشرك، بعبادة الأصنام، قال تعالى:(/1)
{كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم}.
فالأنبياء ما بعثوا إلا ليردوا الناس إلى الاجتماع، وطريقه عبادة الله وحده، فإذا اجتمع الناس على هذا، وطبقوه بصدق انتفى التفرق.. ففي عبادة الله وحده تنتفي كل حظوظ النفس، وتتلاشى وساوس الشيطان وحظوظه، التي هي سبب التفرق في الأصل.
- التفرق في الأصول، لا في الفروع:
التفرق في الأصول له وجه، أما في الفروع فلا وجه له، فالأول يستحق به التفرق، أما الآخر فلا يسوغ التفرق لأجله..
والأصول هي أصول الدين، التي من خالفها يكون مبتدعا أو كافرا، وهي التي اتفق عليها السلف من الصحابة رضوان الله عليهم ومن بعدهم من التابعين ومن تبعهم، مما أجمع عليه كلهم، أو جمهورهم.
وأما الفروع فهي ما تسمى فروع العقيدة والفقه ونحوها، مما اختلف أولئك الأعلام فيه، وتراجحت أقوالهم فيها، وهو ما كان النص يحتمل الخلاف، كقوله صلى الله عليه وسلم:
(لايصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة)..
فصلى بعضهم في الطريق، وبعضهم صلاها في بني قريظة بعد خروج الوقت، فلم ينكر على أحد، لأن النص يحتمل هذا، وهذا.. يحتمل أن أراد إسراعهم، ويحتمل أنه أراد الظاهر..
ومثل ذلك حديث رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه، قال: (نور أنى أراه).. فهم بعضهم أنه رآه بعينه، وبعضهم بقلبه.. فقائل بهذا، وقائل بهذا، والنص يحتمل، وإن كان الراجح معلوما، لكنه غير مقطوع به.. فاختلفوا..
ومثل ذلك الأخذ من اللحية ما زاد عن القبضة، قد ورد وصح عن جمع من الصحابة، فمن قال به لم يخرج عن السنة، ولم يأتي بما يوجب الفرقة..
والأمثلة كثيرة، لكن يحتاج من أهل العلم من يميزها، ويعددها، ويوضحها، ويخرجها في مؤلف للناس، حتى يعرف الناس ما الذي يسوغ لهم الخلاف فيه، فيجتنبوا التفرق فيه، وما الذي لايسوغ الخلاف فيه، فيتمسكوا فيه بالحق..
فقدر من الاختلاف مقبول..
فالإسلام إنما جاء متفقا مع حاجات الناس، وفطرهم، وعقولهم، لذا لم يمنعهم من الخلاف مطلقا، لأن ذلك كما أنه محال، كذلك هو داء، فإن افتراض الناس أن يكونوا على رأي واحد مطلقا في كل صغيرة وكبيرة، خلاف المصلحة والطبيعة البشرية:
فحياة الناس لا تستقيم إلا بتفرد كل إنسان بشخصيته وتفكيره، فلا بد أن يكون له مجال يصول وفيه ويجول بفكره دون عائق أو مانع، حتى ينتج ويبدع، ويتبين للناس قدر نعمة الله على الإنسان بهذا العقل الجبار، أولم نسمع لقوله تعالى:
{سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق}؟..
ففي الإنسان آية عظيمة هي العقل، فلا يجوز الحجر على العقل، حتى يكون صورة متسنسخة لغيره، لايفكر إلا بما يمليه غيره من المسيطرين، هذا خطأ كبير، وهو ضد تعاليم الإسلام، لكن مع إعطاء كل عقل مجال من الحرية، لا بد كذلك من تحديد هذا المجال بحدود الشريعة، وإلا فإن العقل يطغى، فيخرج من المفيد إلى الضار..
وهذا مثل أمامنا:
الحضارة الغربية، أعطت للعقل مجالا غير محدود، فأنتج المفيد والمضر، فما هذه الأسلحة الغربية المدمرة، وما تلك الاختراعات المفسدة للأخلاق، وما الأبحاث الطبية الخطيرة المضادة للصالح البشري، إلا مثال، ولو أنهم جعلوا للعقل حدودا، لما جنوا من ورائه كل تلك المفاسد..
فنحن بين فريقين:
- فريق يريد من العقول أن تكون مستنسخة، على صورة واحدة، صورة الآمر المستبد الظالم.
- وفريق لا يريد أن يحد للعقل حدودا، يمنع من تعديها..
- والوسط: حده بحدود الشارع، فالله تعالى أعلم بعباده، هو الذي خلق العقل، وحد له حدودا، فله الحق أن يحد ما يشاء، كما يشاء..
- وحدود العقل في الإسلام:
أن يفكر وينتج ما شاء، كيف شاء، بشرط ألا يجلب على نفسه أو البشر شيئا من الضرر في: الدين، أو النفس، أو العرض، أو العقل، أو المال..
خلاصة الكلام في هذه المسألة:
أن نعرف ما الذي يسوغ فيه الخلاف، وما الذي لا يسوغ فيه الخلاف، ويكون ذلك بتحديد الأصول والفروع بتحرير ودقة.. فإن أكثر خلاف الناس اليوم في أشياء يسوغ فيها الخلاف، فخلافهم ناتج عن جهل..
والمشتغلون بالعلم عليهم أن يبحثوا ويفحصوا هذه المسائل، ويخرجوا للناس بقول محرر، فيه بيان ما يسوغ وما لا يسوغ من الخلاف، ولو خالف ذلك بعض أقوالهم السابقة، وإلا فإنهم ربما عمقوا الخلاف، وأسهموا في الفرقة من حيث لا يشعرون..(/2)
ومن الحسن ألا يخرج واحد برأي منفردا إلا بعد أن يطلع عليه إخوانه من العلماء، فذلك مما يعين على تكامل النظرة تجاه المسألة، فهذا يحرر زاوية منها، والآخر زاوية أخرى، وهكذا، فيقف كل على ما فاته، فيكتمل تحرير المسألة وتمحيصها بالتضافر والتعاون، فإذا اتحد منهجهم، توحد فتواهم في الأصول، أما الفروع فلا ضير في الاختلاف بعد ذلك، وعلى جميع المسلمين أن يعوا أن الاختلاف في فروع المسائل حق مشروع، ولايترتب عليه عداوة ولا بغضاء، ولا فرقة.
أبو سارة ...(/3)
لقد رحل أبو فِهْر غريباً!
أيها الأحبة ..
لقد رحل "أبو فِهْر" غريباً!
لعمرك ما الرزية فقد مالٍ *** ولا شاةٌ تموت ولا بعيرُ
ولكنَّ الرَّزية فَقدُ قَرْمٍ(1) *** يموت بموته بشرٌ كثيرُ
في يوم الخميس الثالث من ربيع الآخر1418هـ الموافق السابع من شهر(آب)1997 وافت المنية الشيخ العلامة/ محمود محمد شاكر-أبا فهر– عَلَمَ العربية في هذا الزمان، ورجل اللغة التي وهب نفسه للدفاع عنها وردِّ الإعتبار لها، والوقوف أمام خصومها وخصوم هذه الأمة...
لقد غاب الشيخ/ محمود شاكر دون دمعة وفاء، رحل كأنه طيف جاء ثم ذهب، لم يشعر به إلا القليل ممّن يعرفون للرجال مقاماتهم وحقوقهم، ولو كان الشيخ واحداً من أولئك الذين هجروا أمتهم، ورطنوا بالرموز، ولاكت ألسنتهم الأسماء العجمية وسلك في مسالك الأحزاب العلمانية الكافرة لرأيت لموته رنينا وجلبة، ولتسامعت به النساء في خدورهنّ، ولكن الشيخ مضى غريبا كما تعيش محبوبته (اللغة العربية) غريبة كذلك بين أهلها.
وفاءً لهذا الإمام الفحل، وقياما بحق الرجل العظيم/ محمود محمد شاكر فإننا نتقرب إلى الله–تعالى- بتعريف الشاب المسلم به، فكيف يجوز لطلاّب الهدى ورجال هذه المرحلة أن يجهلوا من استشهدوا بكلامه النفيس في تكفير الحاكمين بالياسق العصري؟...
إن الشيخ/ محمود شاكر أحمد عبد القادر هو الذي كتب حكم الله في هذه القوانين الكافرة.. كما في أثر تفسير الطبري رقم (12036) وكما نقله عنه الشيخ/ أحمد شاكر (شقيقه) في عمله لعمدة التفسي4/156 وما بعدها.
وإيماناً منا أن نهضة الأمة وقيامها من كبوتها لن تكون بإزالة طواغيت الحكم وكشفهم فقط مع أنهم أعظم المجرمين جرماً، إنما بإدراك طلاب الهدى أن معركتنا مع خصوم هذه الأمة على جميع الصُّعُد وفي كل الميادين، وأن ميدان اللغة والثقافة والأدب هو من أعظم هذه الميادين.
ألا فليعلم الشباب المسلم من طلاب الهدى والحق أن حصر أبواب الخير والحق في جانب واحد يصفه الشباب المسلم المقاتل هو ظلم لمفهوم الطائفة المنصورة، وظلم لديننا، وظلم للرجال الأوفياء لهذا الدين وهذه الأمة، ولذلك يجب علينا أن نعي طبيعة هذه المعركة وعمق جوانبها وشمول أدواتها، إذ المقصود منها قبل كل شيء هو هذا الإنسان، الإنسان المسلم الذي أُريدَ له أن يتنكّر لدينه وتاريخه ورجاله وثقافته، ولذلك فلنعلم كذلك أنه ما من رجل مسلم أو امرأة مسلمة في هذا العالم غلا ويقف على ثغرة من ثغور الإسلام المتسع الأطراف وفي كل الميادين، وحيث كان هذا المرء وفيّاً صادقاً مخلصاً متقناً لهذه الوقفة فإنّه يستحق منّا المحبة والولاء والأخوة، وهو منّا ونحن منه، بل يشرفنا أن نكون منه وأن نتعلم منه وأن يكون إماماً لنا.
إننا نعتقد وبيقين وصدق أن الشيخ/ محمود شاكر كان إماماً في الحق وصخرة لا تلين أمام أعداء الأمة والدين.
رحم الله الشيخ وأسكنه فسيح جنانه، وليس لنا إلا الصبر، وإن كان ثمّة دمعة تذرف من عيوننا فهي –والله- على أنفسنا أنّنا سنموت وحاجتنا في الصدر لم تقض باللقاء به والجلوس بين يديه وهي حاجة كانت تملأ الجوانح وتعمل في الصّدر، لكنّها سدود الباطل وحواجز الرِّدة التي تعيق هذه الحاجات وتحبسها دون تفريج لها.
(1) القرم من الرجال: السيد المعظم..
ثم هي دمعة أخرى أن لا تعرف الأمة حقَّ الرِّجال وتجهل مقاماتهم، وهي التي تتسمع أخبار حصب جهنَّم، وتملأ أعينها وآذانها صور أهل الشر وأئمة الضلال.
رحم الله أبا فهر وألحقه بالصالحين، آمين آمين.
معركة تحت راية القرآن
كانت معركة اللغة العربية ضدَّ أعداء الأمة والدين أوسع وأرحب وأعنف من كل المعارك التي خاضها أئمة الدين ورجال الأمة على الجبهات الأخرى، بل إن أئمة اللغة كانوا الأسبق والأكثر إحساسا بتيّار الزندقة القادم من غيرهم من المشايخ وأهل الفقه، وقد أرادها هؤلاء الرجال معركة تحت راية القرآن، غير منبتّة عنه، ولعلَّ الشباب المسلم اليوم بحاجة إلى معرفة هذه المعركة ودراسة تاريخها ومعرفة رجالها من أئمة الهدى، وخصومهم من الزنادقة، لأن هذه المعركة مازالت قائمة وتستعر يوما بعد يوم، وأغلبنا في غفلة ولا يعرف شيئاً عن أدواتها وحقيقتها وتطورِّها والنتائج التي تُفضي إليها، وميدان الأدب هو من أهم الميادين "جميعاً وأخطرها، وإن لم يكن كذلك عند كثير من النّاس ومصدر خطورته هو أنه أقدر الأدوات على تطوير الرّأي العام وعلى صوغ الجيل وتشكيله فيما يراد له من صور، وذلك لتغلغله في حياة الناس، وتسلله إلى أعماق نفوسهم عن طريق الصحافة والمسرح والسينما والإذاعات الأثيرية ثمَّ عن طريق الكتب المدرسية وما يناسبها من كتب الأطفال والشباب، والمعركة ذات شقّين: أحدهما يتصل بأساليب الأدب وموضوعاته والآخر يتصل بلغته.(2)
الرافعي يقود المعركة...(/1)
كان من أوائل الرجال الهداة في هذه المعركة هو الفارس المجلّى والسيف اليماني المحلى الأستاذ الكبير مصطفى صادق الراّفعي عليه من الله أوفى الرّحمات وأسبغها.
لقد كان الرافعي كاتب الإسلام الأول في هذا العصر وفي هذه المعركة ومع أنه كان واحداً من كثيرين في هذه المعركة، ولكن الرافعي هو العلم المتميز بقوة العاطفة الهادرة وبأسلوبه الناري وقمعه الرادع وصلصلته المرنة التي لا تستمدّ رنينها من قوة الألفاظ وحدها، فالألفاظ في متناول الكاتبين جميعا، ولكنها تستمد قوتها مما وراء الألفاظ من روح غلاّبة قاهرة، هي روح البطل الجبار الذي يثق من قوته الحربيّة، ومهارته الفنية في حلبات الصّيال.(3)
البداية:
تفتحت المعركة من كوَّةٍ فتحها رجل مستعرب أعمى الله بصيرته فخرق في الأمر خرقاً، هو
(2) الإتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر2/272-273. للدكتور محمد محمد حسين رحمه الله، وهذا الكتاب يكشف لك بدايات الكشوف التي استقرت بعد ذلك لتيار الزندقة وقواعد الاسلام المستتر!!(زعموا) إنما مبدأ كشفها تم على يد رجال الأدب والثقافة لهذه الأمة، فالأفغاني ومحمد عبده كانت بدايات التنبه الى ما هم عليه إنما تعتمد على هذا الكتاب وكذلك الإشارة الى جرائم سعد زغلول وارتباطه بأفكار التحلل الإجتماعي والسياسي كتحرير المرأة وغيرها. إنما الفضل فيها يعود الى هذا الكتاب ايضا، ثم لا ننسى فضل الكتاب الفرد في هذا الباب: "موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين وعبادة المرسلين"، لشيخ إسلام الدولة العثمانية مصطفى صبري رحمه الله.
(3) "مصطفى صادق الرافعي فارس القلم تحت راية القرآن" لمحمد رجب البيومي ص45. كتبت إحدى الجرائد العربية الصادرة في أمريكا لمصطفى صادق الرافعي قائلة: إنك لو تركت (الجملة القرآنية) والحديث الشريف لكنت الان المرجع الذي لا ينازع، ولبز مذهبك في البلاغة المذاهب كلها من قديم أو حديث (الجملة القرآنية) لأرسلان نقلا عن مجلة الزهراءج 8/1، وأدباء المهجر!!(جبران وميخائيل نعيمة والريحاني) هم من أول من أدخلوا الأسلوب التوراتي ورموزه في الأدب العربي، وكانت لهم مجلة اسمها(الفنون) يقوم عليها ثالث اسمه نسيب عريضة، ولها خبر في "سبعون" لنعيمة.
الدكتور "طه حسين"(4) حينما أراد أن يطبق مبدأ "الشك الدّيكارتي"(5) الذي زعمه على القرآن فأعلن في مبحث الشعر الجاهلي أن ورود قصة إبراهيم –عليه السلام- في القرآن ليست كافية للدّلالة على وجود رجل حقيقي اسمه "إبراهيم"، وكان باب هذا الأمر الخطير مدخله عند هذا الرجل التشكيك بالشعر الجاهلي، وأنّ هذا الشعر إنّما هو صنيعة العصور الإسلامية، ولكنهم نحلوه للجاهلين.. وبالرغم من أن ارتباط مسألة نفي الحقائق التاريخية – التي وردت في القرآن- بالدين واضحة المعالم، إلا أن نفس صحة نسبة الشعر الجاهلي لما قبل الإسلام قد تبدو ضعيفة الصلة بالمسائل الدينية ولكنها في الحقيقة من أوثق الصلات بالقرآن الكريم، ذلك لأن الشعر الجاهلي يمثل حقيقة قوة أهله في البيان والبلاغة، والقرآن الكريم تحدّى العرب في أعظم قواها وملكاتهم وهي ملكة البيان والبلاغة، فإذا تمَّ نفي الدليل على هذه القوة والملكة سقط معنى التحدي الوارد في القرآن الكريم.
طه حسين في هذا الكتاب الذي أصدره سنة1926م صرح باعتماده على مبدأ "الشك الديكارتي" في مبحثه في أصول الشعر الجاهلي، وقال فيه: إنه للوصول إلى الحقيقة لا بد أن (يتجرد الباحث من حل شيء كان يعلمه من قبل وأن يستقبل موضوع بحثه خالي الذِّهن ممّا قيل فيه خلوّا تاماً)، وصرّح بأنه يجب علينا (حين نستقبل البحث عن الأدب العربي وتاريخه أن ننسى قوميتنا وكل مشخصاتنا، وأن ننسى ديننا وكلّ ما يتصل به، وأن ننسى ما يضاد هذه القومية وما يضاد هذا الدين، يجب أن لا نتقيد بشيء، ولا نذعن لشيء إلا مناهج البحث العلمي الصحيح، ذلك أنّا إذا لم ننسى قوميتنا وديننا وما يتصل بها فسنضطر إلى المحاباة وإرضاء العواطف وسنغل عقولنا بما يلائم هذه القومية وهذا الدين، وهل فعل القدماء غير هذا؟ وهل أفسد علم القدماء شيء غير هذا؟ وفي نفيه لحقيقة إبراهيم وإسماعيل –عليهما السلام- يقول: (للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل وللقرآن أن يحدثنا عنهما أيضا، ولكن ورود هذين الإسمين في التوراة والقرآن لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي).(6)
إلا أن الشيء الذي كتمه ولم يعترف به أنَّ مسألة التشكيك بالشعر الجاهلي قد سرقها من المستشرق "مرجليوث".(7)
(4) كانت المعركة قد بدأت من قبل طه حسين وسلامة موسى في معركة القديم والجديد واللغة العامية، ولكنها كانت تطل ولا تبدو، وتنهر ولا تقوم، حتى اشتده أوارها في الوقت الذي ذكرناه ومن بابها حمي الوطيس على يد طه حسين، وهو الذي فتح فتوحا من الشر في أبواب متعددة منها ترجمة قصص الجنس وقصص اليونان القديمة المسرفة في الإباحية، كما ترجم شعر المنحرف(بودلير)..(/2)
(5) هو الفيلسوف الفرنسي رينييه ديكارت(1596-1650م) الذي قرر أن الرياضيات والعلم الطبيعي هو العلم الوحيد الذي يقدم لنا معرفة تقينية، أشهر كتبه مقال له سماه "مقال في المنهج" وطرح فيه مبدأ –الشك المنهجي- وهو الشك في اي شيء يقبل للشك،وهو يعتبر أن ثمة أمور يتبين صدقها عن طريق النور الفطري، وهي غير قابلة للشك، وبهذا رفض مقولة التخلي عن كل موروثات الباحث بحجة الموضوعية، وهي النقطة التي لم يفهمها طه حسين بل خالفها كل المخالفة في كتابه المذكور "في الشعر الجاهلي".. وديكارت هو صاحب –الكوجيتو-(أنا أفكر إذا أنا موجود).. وهو كمعاصره فرنسيس بيكون يعتبران أساس نهضة أوروبا الصناعية بعد تحرير أفكارها من التصورات الأرسطية القديمة.
(6) هذه النصوص مأخوذذة من كتاب "الإتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر" للدكتور محمد محمد حسين رحمه الله تعالى..
(7) اسمه دافيد صموئيل مرجليوت(1858-1940) انجليزي كان أستاذا أكسفورد، اهتم بالدراسات العربية والسامية، كتب بحثا عن أوراق البردي العربية في مكتبة بودلي بأكسفورد، وترجم قسما من البيضاوي، ونشر رسائل المعرى، أهم كتبه في باب الإستشراق: "محمد ونشأة الاسلام" ظهر سنة1905م، ثم أتبعه بكتاب سماه "المحمديون" وترجم باسم الاسلام وذلك سنة1914م، حاقد متعصب، نقم عليه زملاؤه من المستشرقين لوضوح
وكان طه حسين يقوم بإلقاء هذه المفاهيم على طلبة السنة الأولى في كلية الآداب في الجامعة المصرية، وقبل أن تقوم العواصف الإيمانية ضد كتاب (في الشعر الجاهلي) وتتوالى الردود عليه من كل حدب وصوب بعد طباعته، كانت هناك قبل ذلك معركة خفية تدور رحاها داخل الجامعة في نَفْسِ شاب لم يكمل السّادسة عشر من عمره، كان هذا الشاب قد قرأ رأي "مرجليوث" الذي نشره في بحث بعنوان (أصول الشعر العربي)، وكان لـ"طه حسين" يد على هذا الشاب بإدخاله في كلية الآداب مع دراسته الفرع العلمي، ولكن الطالب وجد في أستاذه الخيانة للعلم ولحقِّ الكلمة، هذا الشاب كان الشيخ/ محمود شاكر رحمه الله تعالى.
محمود شاكر يصف المحنة:
وقد وصف محمود شاكر –رحمه الله- هذه الفترة تفصيلاً في المقدمة الجديدة لكتابه "المتنبي" حيث يقول(8):- (...كان ما كان، ودخلنا الجامعة، بدأ الدكتور "طه" يلقي محاضراته التي عرفت بكتاب في" الشعر الجاهلي" ومحاضرة بعد محاضرة، ومع كل واحدة يرتد إلي رجع من هذا الكلام الأعجمي الذي غاص في يمّ النسيان! وثارت نفسي، وعندي الذي عندي من المعرفة بخبيئة هذا الذي يقوله الدكتور"طه" = عندي الذي عندي من هذا الإحساس المتوهج بمذاق الشعر الجاهلي، كما وصفته آنفا، والذي استخرجته بالتذوق، والمقارنة بينه وبين الشعر الأموي والعباسي. وأخذني ما أخذني من الغيظ، وما هو أكبر وأشنع من الغيظ، ولكني بقيت زمناً لا أستطيع أن أتكلم.
تتابعت المحاضرات، والغيظ يفور بي والأدب الذي أدبنا به آباؤنا وأساتذتنا يمسكني، فكان أحدنا يهاب أن يكلم الأستاذ، والهيبة معجزة، وضاقت علي المذاهب، ولكن لم تخل أيامي يومئذ في الجامعة من إثارة بعض ما أجد في نفسي، في خفوت وتردد. وعرفت فيمن عرفت من زملائنا شاباً قليل الكلام هادىء الطباع، جم التواضع، وعلى أنه من أترابنا، فقد جاء من الثانوية عارفاً بلغات كثيرة، وكان واسع الإطلاع، كثير القراءة، حَسَن الإستماع، جيد الفهم، ولكنه كان طالبا في قسم الفلسفة، لا في قسم اللغة العربية. كان يحضر معنا محاضرات الدكتور، وكان صفوه وميله وهواه مع الدكتور "طه" ذلك هو الأستاذ الجليل "محمود محمد الخضيري". نشأت بيني وبينه مودة فصرت أحدثه بما عندي، فكان يدافع بلين ورفق وفهم، ولكن حدتي وتوهجي وقسوتي كانت تجعله أحيانا يستمع ويصمت فلا يتكلم. كنّا نقرأ معا، وفي خلال ذلك كنت أقرأ له من دواوين شعراء الجاهلية، وأكشف له عما أجد فيها، وعن الفروق التي تميز هذا الشعر الجاهلي من الشعر الأموي والعباسي. وجاء يوم ففاجأني "الخضيري" بأنه يحب أن يصارحني بشيء وعلى عادته من الهدوء والأناة في الحديث، ومن توضيح رأيه مقسماً مفصلاً، قال لي: إنه أصبح يوافقني على أربعة أشياء:_
الأول: أن اتكاء الدكتور على "ديكارت" في محاضراته، اتكاء فيه كثير من المغالطة، بل فيه إرادة التهويل بذكر "ديكارت الفيلسوف"(9)، وبما كتبه في كتابه "مقال عن المنهج" وأن تطبيق الدكتور لهذا المنهج في محاضراته، ليس من منهج "ديكارت" في شيء.
(7) كذبه وكثرة تزويراته، ومع كل هذا اختير عضوا مراسلا لمجمع اللغة العربية/ دمشق سنة1920م!! وذلك بعد أن سيطر عليها أنصار العامية من أمثال طه حسين وأحمد لطفي السيد وعبدالعزيز فهمي وأمين الخولي..وصل بعض هؤلاء الى رئاسة المجمع.
(8) مقدمة المتنبي ص13 وما بعدها.
(9) لاحظ أن هذا الكلام يدل على أنه مجرد ذكر رجل أعجمي كاف للاستدلال وتحقيق الأثر في نفس السامع، وهو يدلك على مدى الإنبهار الذي كان يعيشه الطلبة والأساتذة لما يقوله الأعاجم.(/3)
الثاني: أن كل ما قاله الدكتور في محاضراته، كما كنت أقول له يومئذ، ليس إلا سطواً مجرداً على مقالة "مرجليوث"، بعد حذف الحجج السخيفة، والأمثلة الدالة على الجهل بالعربية، التي كانت تتخلّل كلام ذاك الأعجمي وأن ما يقوله الدكتور لا يزيد على أن يكون " حاشية" وتعليقاً على هذه المقالة.
الثالث: أنه على حداثة عهده بالشعر وقلة معرفته به، قد كان يتبين أن رأيي في الفروق الظاهرة بين شعر الجاهلية وشعر الإسلام، أصبح واضحاً له بعض الوضوح وأنه يكاد يحس بما أحس به وأنا أقرأ له الشعر وأفاوضه فيه.
الرابع: أنه أصبح مقتنعاً معي أن الحديث عن صحة الشعر الجاهلي، قبل قراءة نصوصه قراءة متنوعة مستوعبة، لغو باطل وأن دراسته كما تدرس نقوش الأمم البائدة واللغات الميتة، إنما هو عبث محض.
وافق أن جاء في حديثه هذا في يوم من أيام العصبية. فالدكتور "طه" أستاذي، وله علي حق الهيبة، هذا أدبنا. وللدكتور "طه" علي يدٌ لا أنساها، كان مدير الجامعة يومئذ "أحمد لطفي السيد" يرى أن لاحق لحامل " بكالوريا" القسم العلمي في الإلتحاق بالكليات الأدبية، ملتزما في ذلك بظاهر الألفاظ!! فاستطاع الدكتور " طه" أن يحطم هذا العائق بشهادته لي، وبإصراره أيضا. فدخلت يومئذ بفضله كلية الآداب، قسم اللغة العربية، وحفظ الجميل أدب لا ينبغي التهاون فيه. وأيضا فقد كنت في السابعة عشرة من عمري، والدكتور طه في السابعة والثلاثين، فهو بمنزلة أخي الكبير، وتوقير السن أدب ارتضعناهُ مع لبان الطفولة. كانت هذه الآداب تفعل بي فعل هوى المتنبي بالمتنبي حيث يقول:
رَمَى واتّقى رَمْيي، وَمِنْ دونِ ما اتقَى **** هوىً كاسِرٌ كَفَّي، وقَوسي، وأسْهُمي
فذلك ظللت أتجرع الغيظ بحتاً، وأنا أصغي إلى الدكتور "طه" في محاضراته، ولكني لا أستطيع أن أتكلم، لا أستطيع أن أناظره كِفاحاً، وجهاً لوجه، وكل ما أقوله، فإنما أقوله في غيبته لا في مشهده. تتابعت المحاضرات، وكل يوم يزداد وضوح هذا السطو العريان على مقالة "مرجليوث"، ويزداد في نفسي وضح الفرق بين طريقتي في الإحساس بالشعر الجاهلي، وبين هذه الطريقة التي يسلكها الدكتور "طه" في تزييف هذا الشعر. وكان هذا " السطو" خاصة ممّا يهزّ قواعد الآداب التي نشأت عليها هزاً عنيفاً، بدأت الهيبة مع الأيام تسقط شيئا فشيئاً، وكدت ألقي حفظ الجميل ورائي غير مُبال، ولم يبق لتوقير السن عندي معنىً، فجاء حديث الخضري، من حيث لا يريد أو يتوقع، لينسف في نفسي كل ما التزمت به من هذه الآداب. وعجب الخضري يومئذ، لأني استمعت لحديثه، ولم ألقه لا بالبشاشة ولا بالحقارة التي يتوقعها، وبقيت ساكناً، وانصرفت معه إلى حديث غيره.
وفي اليوم التالي جاءت اللحظة الفاصلة في حياتي. فبعد المحاضرة، طلبت من الدكتور" طه" أن يأذن لي في الحديث، فأذن لي مبتهجاً، أو هكذا ظننت. وبدأت حديثي عن هذا الأسلوب الذي سماه "منهجا" وعن تطبيقه لهذا "المنهج" في محاضراته، وعن هذا " الشك" الذي اصطنعه، ما هو، وكيف هو؟ وبدأت أدلل على أن الذي يقوله عن "المنهج" وعن" الشك" غامض، وأنه مخالف لما يقوله "ديكارت"، وأن تطبيق منهجه هذا قائم على التسليم تسليماً سلما يداخله الشك، بروايات في الكتب هي في ذاتها محفوفة بالشك! وفوجىء طلبة قسم اللغة العربية، وفوجىء الخضيري خاصة. ولما كدت أفرغ من كلامي، انتهرني الدكتور "طه" وأسكتني، وقام وقمنا لنخرج. وانصرف عني كل زملائي الذي استنكروا غضاباً ما واجهت به الدكتور "طه"، ولم يبق معي إلا محمود محمد الخضيري (من قسم الفلسفة كما قلت). وبعد قليل أرسل الدكتور "طه" يناديني فدخلت عليه وجعل يعاتبني، يقسو حيناً ويرفق أحيانا، وأنا صامت لا أستطيع أن أرد. لم أستطع أن أكاشفه بأن محاضراته التي نسمعها كلّها مسلوخة من مقاله "مرجليوث"، لأنها مكاشفة جارحة من صغير إلى كبير، ولكني على يقين من أنه يعلم أني أعلم، من خلال ما أسمع حديثه، ومن صوته، ومن كلماته، ومن حركاته أيضا!! وكتماه هذه الحقيقة في نفسي كان يزيدني عجزاً عن الرد، وعن الإعتذار إليه أيضاً، وهو ما كان يرمي إليه. ولم أزل صامتاً مُطرقاً حتى وجدت في نفسي كأني أبكي من ذلِّ العجز، فقمت فجأة وخرجت غير مودع ولا مبال بشيء. وقضي الأمر! ويبس الثرى بيني وبين الدكتور: "طه" إلى غير رجعة!(/4)
ومن يومئذ لم أكف عن مناقشة الدكتور في المحاضرات أحياناً بغير هيبة، ولم يكف هو عن استدعائي بعد المحاضرات، فيأخذني يمينا وشمالاً في المحاورة، وأنا ملتزم في كل ذلك بالإعراض عن ذكر سطوه على مقالة مرجليوث، صارفاً همي كله إلى موضوع " المنهج" و"الشك" وإلى ضرورة قراءة الشعر الجاهلي والأموي والعباسي قراءة متذوقة مستوعبة، ليستبين الفرق بين الشعر الجاهلي والشعر الإسلامي قبل الحديث عن صحة نسبة هذا الشعر إلى الجاهلية، أن التماس الشبه لتقرير أنه باطل بالنسبة، وأنه موضوع في الإسلام، من خلال روايات في الكتب هي في حد ذاتها محتاجة إلى النظر والتفسير. ولكني من يومئذ أيضاً لم أكف عن إذاعة هي الحقيقة التي أكتمها في حديثي مع الدكتور "طه" وهي أنه سطا سطْواً كريهاً على مقالة المستشرق الأعجمي، فكان، بلا شك، يبلغه ما أذيعه بين زملائي. وكثر كلامي عن الدكتور " طه" نفسه، وعن القدر الذي يعرفه من الشعر الجاهلي، وعن أسلوبه الدال على ما أقول. واشتد الأمر، حتى تدخل في ذلك، وفي مناقشتي، بعض الأساتذة كالأستاذ "نلّينو"(10) والاستاذ جويدي(11) من المستشرقين، وكنت أصارحهما بالسطو، وكانا يعرفان، ولكنهما يداوران. وطال الصراع غير المتكافىء بيني وبين الدكتور "طه" زماناً، إلى أن جاء اليوم الذي عزمتُ فيه على أن أفارق مصر كلها، لا الجامعة وحدها غير مبال بإتمام دراستي الجامعية طالباً للعزلة، حتى أستبين لنفسي وجه الحق في "قضية الشعر الجاهلي" بعد أن صارت عندي قضية متشعبة كل التشعب.(12) ولطبيعة خاصة لهذا الرجل قرر أن يترك الجامعة بعد أن سقطت هيبتها من نفسه، وعجز أن يحتمل هذا الفساد الذي رآه في أساتذته ومعلّميه.
فمن هو محمود محمد شاكر -أبو فهر-؟
(10) هو كارلو ألفونس نلينو(1872-1938م) مستشرق إيطالي، درس اللغة العربية دون أستاذ وهو فتى، ودرس العبرية والسريانية، كان أول كتبه"قياس الجغرافين العرب لخطوط الزوال" دعته الجامعة المصرية القديمة سنة1909 لإلقاء محاضرات في تاريخ الفلك عند العرب باللغة العربية، ونشرت محاضراته بعد ذلك في كتاب تحت عنوان "علم الفلك، تاريخه عن العرب في القرون الوسطى" سنة1911، وكتب وهو في الثالثة والعشرين مقالا سماه "نظام القبائل العربية في الجاهلية"، كان يقول (لاأريد أن يغريني شيء على الخروج من دراسة العرب وحدهم إلى دراسة أخرى، ولكني أريد أن أعرف عن العرب كل شيء) لجأت إليه وزارة المستعمرات الإيطالية لتستعين بخبرته ومعرفته بأحوال العالم الإسلامي، فعين مديرا للجنة تنظيم المحفوظات العثمانية ولكتب الترجمة، تولى الإشراف على مجلة (الدراسات الشرقية)، دعي للتدريس في الجامعة المصرية مرة ثانية فيما بين1928-1931 لتدريس تاريخ اليمن بكلية الآداب وعين عضوا في المجمع اللغوي سنة1932، مدحه طه حسين في كتابه "في الشعر الجاهلي" وغيره وبقي معظما له إلى اخر عمره.. وطه حسين يعد تلميذا له. انظر دراسة د.يوسف بكار بعنوان "أوراق نقديةجديدة عن طه حسين" المبحث الأول (خصوصية الذات ونفوذ الاخر) عن مدى تأثر طه حسين بهذا المستشرق.
(11) اجنتيسو جويدي(1844-1935م) مستشرق إيطالي، ويسمى جويدي الكبير تمييزا له عن ابنه ميكلنجلو، اهتم بالدرسات السامية وخاصة العربية الحبشية والعبرية، دعي سنة1908 ليكون أستاذا في الجامعةالمصرية القديمة، نشر بعض المخطوطات القديمة مثل "شرح ابن هشام لقصيدة-بانت سعاد" وكتاب "الإستدراك" لأبي بكر الزبيدي، وكتاب "الأفعال" لابن القوطية، وبعض تاريخ الطبرين، ولما احتلت إيطاليا ليبيا، كلفته وزارة المستعمرات الإيطالية بالاشتراك في ترجمة "مختصر سيدي خليل" في الفقه المالكي إلى اللغة الإيطالية، فتولى ترجمة قسم العبادات ..ويعد طه حسين من تلاميذه.
(12) "المتنبي" ص13-17.
والده هو محمد شاكر (توفي سنة1929م) شيخ أزهري كان وكيلاً للجامع الأزهر (1909–1912م)، وأمه بنت الشيخ/ هارون عبد الرزّاق (توفي سنة1918م) والد المحقق/ عبد السلام هارون، والشيخ/ محمود محمد شاكر هو شقيق المحدث الإمام الشيخ أحمد شاكر صاحب الجهود العظيمة في خدمة السُّنة النبوية، ولا بأس من الاستطراد قليلاً في ترجمة الشيخ/ أحمد شاكر شقيق المترجم أبي فهر.(13)
المحدِّث العلاّمة الشيخ/ أحمد محمّد شاكر:(/5)
كناه والده شمس الأئمة أبا الأشبال، ولد سنة (1892م)، ولما عيّن والده قاضيا للقضاة في السودان سنة(1900م) رحل بولده معه هناك وألحقه بكلية "غوردن" – وهي كلية أسسها الإنجليز سنة(1903م) في الخرطوم، وسميت باسم الضابط الإنجليزي "تشارلز غوردن" الذي يعرف باسم "غوردن باشا"، وكان قد قُتل في السودان لما استولى المهدي السوداني على الخرطوم سنة(1885م) – فبقي أحمد شاكر تلميذاً بها حتى عاد أبوه من السودان، وتولى مشيخة علماء الإسكندرية سنة(1904) فألحق ولده أحمد من يومئذ بمعهد الإسكندرية الذي يتولاه، وكان لوالده أكبر الأثر في تربيته، فقد قرأ له ولإخوانه تفسير "البغوي" وتفسير "النسفي"، وقرأ لهم صحيح مسلم وسنن "الترمذي" والشمائل له وبعض صحيح البخاري، وقرأ لهم في أصول الفقه جمع الجوامع "للسّبكي" وشرح "الأسنوي" على المنهاج "للبيضاوي" وقرأ لهم في المنطق شرح "الخبيصي" على القطبيّة، وقرأ لهم في الفقه الحنفي كتاب الهداية "للمرغيناني"، وحين انتقل والده إلى القاهرة سنة1909م التحق أحمد شاكر بالأزهر، وهناك بدأ الطلب على يد مشايخ الأزهر وعلماء القاهرة، وفي سنة1917م حاز أحمد شاكر على الشهادة العالمية من الأزهر وعُيِّنَ في بعض الوظائف، ثم أصبح قاضيا سنة1951 ثم رئيساً للمحكمة الشرعية العليا وهي آخر وظائفه وقد كانت هذه الفترة هي فترة التقنين للتشريعات الجاهلية وتسويغها عن طريق أزلامها في الصحافة والمنتديات، فكان خلال ذلك كله يكتب المقالات والرسائل التي تهاجم هذه الرِّدة الجديدة، وقد جمعت هذه الأبحاث في كتابين له هما: (كلمة حق) و(حكم الجاهلية).
وكان اهتمامه بالسُّنة عظيماً حيث بدأ في تحقيق كتبها والعناية بها، فحقق كتاب الإمام العظيم/ محمد بن إدريس الشافعي في أصول الفقه المسمى بـ"الرسالة" وقدم له مقدمة ضافية، ونشر كتاب (جماع العلم) وهو في الأصول كذلك، وكتاب (الخراج) ليحيى بن آدم القرشي، وخرَّج أحاديثه، واعتنى بشرح "الطحاوية لابن أبي العزِّ الحنفي"، ونشر مجلدين من سنن "الترمذي" والمجلد الأول من صحيح "ابن حبان"، والمحلى/ لابن حزم والإحكام في أصول الإحكام له، وفي سنة1946م شرع الشيخ –رحمه الله- في تحقيق مسند الإمام "أحمد بن حنبل" والذي لم يتم منه إلا ثلثه حيث وافته المنية قبل الإنتهاء منه، وشارك أخاه محموداً في تحقيق تفسير "الطبري" الذي لم يتم واختصر تفسير "ابن كثير" بروح نقدية عالية سمَّاه "عمدة التفسير"… والشيخ/ محمود شاكر يعتبر أن كتاب (الطلاق في الإسلام) الذي كتبه أخوه/ محمد شاكر، هو من أفضل كتبه لما تحلى به من روح الإجتهاد وقوة الملكة الفقهية، وما زال الشيخ / أحمد شاكر يعتبر إماماً في الحديث، وتزداد مرتبة التقدير له من المهتمين بالسُّنَّة يوما بعد يوم.
وكان لأحمد شاكر –رحمه الله تعالى- جهود في نشر كتب اللغة والأدب حيث نشر كتاب "الشعر والشعراء" لابن قتيبة و "لباب الآداب" لأسامة بن منقذ و"المعرَّب" للجواليقي، و"إصلاح المنطق" لابن السُّكيت و"الأصمعيات" و"والمفضلّيّات"، وكان يستعين في تحقيق كتب الأدب
(13) ترجمة الشيخ أحمد شاكر والكثير من ترجمة أخيه محمود أخذتا من كتاب "محمود شاكر-الرجل والمنهج" للأستاذ عمر حسن القيام، من إصدارات دار البشير ومؤسسة الرسالة.
بأخيه محمود، وهذه الكتب الأخيرة شاركه فيها ابن خاله عبد السلام هارون. وفي يوم السبت 14/6/1958م أتته منيته ومضى لسبيله –رحمه الله تعالى- وأسبغ عليه رحمته ورضوانه-.
وللشيخ شقيق آخر اسمه علي كان قاضياً شرعياً.
عودة إلى الشيخ محمود شاكر:
ولد سنة1909م وتلقّى أول تعليمه في مدرسة الوالدة/ أم عباس في القاهرة سنة 1916م. وبعد ثورة1919. انتقل إلى مدرسة القربيّة بدرب الجماميز، ثم دخل المدرسة الخديوية الثانوية سنة1921م، ولنترك محمود شاكر يحدثنا عن هذا النظام المدرسي المسمى بـ(الأكاديمي) وكيف كانت نظرته له وما هي مشاعره عندما انتظم طالباً في هذه المدارس.
مدارس (دنلوب) وجرائمها في حق النشء تعليماً وتربية:
يقول -رحمه الله تعالى-: فمنذ بدأت أعقل بعض هذه الدنيا، وأرى سوادها وبياضها بعين باصرة شغلتني الكلمة وتعلق قلبي بها، لأني أدركت أول ما أدركت أن (الكلمة) هي وحدها التي تنقل إلى الأشياء التي أراها بعيني وتنقل إلي أيضاً بعض علائقها التي تربط بينها، والتي لا أطيق أن أراها بعيني.. ثم قذف بي أبي –رحمه الله- إلى المدرسة.(14)(/6)
فلا أزال أذكر أول ساعة دخلتها، ولا أزال أذكر ذلك الرّعب الذي فض نفسي وهالني، حين صك سمعي ذلك الصوت المبهم البغيض إليّ منذ ذلك الحين، صوت الجرس!(15) صوت مصلصل مؤذي، جاف، أبكم، أعجم لا معنى له، وإذا هو غل يطوقني ويشلّ إرادتي، رنين منكر سري بالفزع في نفسي، وردد الوجيب الوخاز في قلبي، كدت أكره المدرسة من يومئذ من جرّاء هذا الجرس الأعجمي الخبيث... هكذا أخذني أول البلاء، ثم زاد وربا حين ساقونا إلى الفصول كالقطيع صفوفاً، ولكن لم يلبث فزعي أن تبدد بعد أن دخلنا الفصل، واستقر بنا الجلوس، ثم بدأ الدرس الأول على الرِّيق، وهو درس اللغة الإنجليزية! ونسيت كلّ ما نالني حين سمعت هذه الحروف الغربية النطق التي لم آلفها، وفتنتني وغلبني الاهتمام بها، وجعلت أسارع في ترديدها وحفظها. اغتالت هذه الحروف الجديدة وكلماتها كلّ همّتي، اغتالتها بالفرح المشوب بطيش الطفولة، وكان حبُّ الجديد الذي لم آلفه قد بزّ حسن الانتباه إلى القديم الذي ألفته منذ ولدت، فقلَّ انتباهي إلى لغتي العربية، قصر انتباهي إليها، بل لعلي استثقلتها يومئذ وكدت أنفر منها، وكذلك صرت في العربية ضعيفاً جداً، لا أكاد اجتاز امتحانها إلا على عسر، وعلى شفى، وهكذا أنفذَ (دنلوب) اللعين أول سهامه في قلبي من حيث لا أشعر، ودرجت على ذلك أربع سنوات في التعليم الإبتدائي، ولبلاء يطغى علي عاما بعد عام، ولكن كان من رحمة الله بي أن أدركتني ثورة مصر في سنة1919م(16) وأنا يومئذ في السنة الثالثة، فلما كانت السنة الرابعة سقطت في امتحان –الشهادة الإبتدائية-... وصنع الله حيث سقطت، وأحسن بي إذ ملأ قلبي مللاً من الدروس المعادة، واتسع الوقت فصرت حراً أذهب حيث يذهب الكبار إلى الأزهر، حيث أسمع خطب الثوار، وأدخل "رواق السنارية" وغيره بلا حرج، وفي هذا الرواق سمعت أول ما سمعت مطارحة الشعر، وأنا لا أدري ما الشعر إلا قليلاً، وكتب الله لي الخير على يد أحد أبناء خالي ممن كان يومئذ مشتغلاً بالأدب والشعر، فأراد يوما أن يتخذني وسيلة إلى شيء يريده من عمته، التي هي أمي –رحمها الله-، فأبيت إلا أن يعطيني هذا الديوان الذي سمعتهم يقرؤون شعره ويتناشدونه، وقد كان،
(14) تأمل في كلمة -قذف- ففيها الكثير من المعاني التي يريد الشيخ أن يكشفها للناس
(15) في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تصحب الملائكة رفقة فيها كلب ولا جرس ..وفيه كذلك –الجرس مزامير الشيطان..وفي شنن أبي داود: لا تدخل الملائكة بيتا فيه جرس..
• دنلوب: المندوب الإنجليزي المسمى كذبا ب(السامي) على مصر في فترة الاختلال وكان قسا حاقدا.
(16) حركة شعبية بدأها مشايخ وعلماء الأزهر ضد الإحتلال الإنجليزي، وانضمت لها كل طوائف الشعب وكانت غسلامية المنطلق ولم تحقق نتائجها بسبب القيادة الفاسدة التي تولاها بعد ذلك سعد زغلول.
فأعطاني ديوان المتنبي بشرح الشيخ "اليازجي"، وكان مشكولاً مضبوطاً جيد الورق، فلم أكد أظفر به حتى جعلته وردي، في ليلي ونهاري، حتى حفظته يومئذ، وكأن عيناً دفينة في أعماق نفسي قد تفجرت من تحت أطباق الجمود الجاثم، وطفقت أنغام الشعر العربي تتردد في جوانحي، وكأني لم أجهلها قط، وعادت الكلمة العربية إلى مكانها في نفسي.(17)
وما قاله الشيخ هو تصوير لواقع التعليم في بلادنا المنكوبة بسياسة زنادقة همهم نزع مقومات وجودنا، وخصائص هويتنا، حتى ينشأ جيل مبتورٌ عن تاريخه ودينه، وإن أقصر الطرق لهذه الجريمة البشعة هو حرف الناس عن العربية والتي هي وعاء هذا الوجود وحامية هذه الهوية، وبدونها لن يكون إحساس المسلم بدينه ولن يدرك تاريخه كما هو، وهذا هو واقع من اضطلع في آداب الغير وانتهج سبل علومهم في البحث والدراسة، رأيناه من أشد الناس نقمة على هذا الدين، وإذا بحث فيه فإنه يزوره ويكذب عليه ولا يخرج منه بالهداية التي هي معقد هذا الدين ولبه وحقيقته.
ثم بين الشيخ أن هذا الإحساس بالكلمة العربية لم يزحزح شيئاً من الكلمة الإنجليزية التي غرسها "دنلوب" اللعين في غضارة الفتى اللَّيِّن، ثم ازداد إحساسه في الرياضيات كمنافس جديد في نفسه، فآثره محمود شاكر على غيره، ولأجل ذلك التحق بالقسم العلمي ونال درجة البكالوريا سنة1925م.
تتلمذ الشيخ على أئمة الأدب...(/7)
وفي أثناء ذلك اتصلت أسباب محمود شاكر بأسباب اثنين من كبار العلم بالأدب هما:- سيد بن علي المرصفي، ومصطفى صادق الرّافعي، والمرصفي إمام من أئمة العربية في زمانه، وحامل أمانتها، كان من جماعة كبار العلماء في الأزهر، وتولى تدريس العربية فيه إلى أن نالت منه الشيخوخة، وكسرت ساقه فاعتكف بمنزله بالقاهرة يدرِّس طلابه الذين كانوا يقصدونه إلى أن توفي (سنة1931م). وقد انتفع به الكثير من الأدباء والنقاد والمفكرين كأحمد حسن الزّيّات، وحسن السندوبي، وأحمد محمد شاكر وعلي الجارم، وعبد الرحمن البرقوقي وهو صاحب كتاب" رغبة الآمل في كتاب الكامل" و "أسرار الحماسة"، ففي سنة 1922م اتصل محمود شاكر بالمرصفي، فحضر دروسه التي كان يلقيها بعد الظهر في جامع السلطان برقوق، ثم قرأ عليه في بيته "الكامل" للمبرد و"الحماسة" لأبي تمام وشيئا من "الأمالي" لأبي علي القالي، وبعض أشعار الهذليين.
أما الرافعي (18-1937م) فهو من هو، وصفه شاكر بقوله: - "الرافعي" كاتب حبيب إلى القلب، تتنازعه إليه أسباب كثيرة من أخوّة في الله، ومن صداقة في الحبّ، ومن مذهب متفق في الروح، ومن نية معروفة في الفن، ومن إعجاب قائم بالبيان.." وقال عنه في رسالة وجهها إليه أنه: ملجأ يعتصم به المؤمنون حين تناوشهم ذئاب الزندقة الأدبية التي جعلت همها أن تلغ ولوغها في "البيان القرآني".. وقد قويت الصلة بينهما جداً حتى قال شاكر عن "الرافعي" بعد وفاته في مقدمة كتاب "حياة الرافعي" إنه صار: ميراثاً نتوارثه، وأدباً نتدارسه، وحناناً نأوي إليه.
وبعد انتهاء البكالوريا التحق شاكر بالجامعة كما تقدم في كلية الآداب- قسم اللغة العربية- وهناك كانت البداية في معركته التي عاشها إلى يوم وفاته، معركته ضد أعداء الأمة، وكانت ساحة هذه المعركة هي ساحة اللغة والثقافة والأدب، فإنه بعد أن اكتشف أمر أستاذه وسقطت هيبة الجامعة من نفس الفتى قرر تركها وراءه غير آسف، قد حاول أساتذة ثنيه، ولكن صلابة الفتى أبت إلا الفراق، فكان له.
(17) أباطيل وأسمار لمحمود شاكر2/555-557.
وفي سنة 1928م شدّ الرحال إلى الحجاز، وهناك أنشأ مدرسة (جدة) وعمل مديراً لها ولكن بعد سنتين عاد إلى القاهرة.
وخلال المدة(1929-1935م) كان شاكر يعيش في شبه عزلة أعاد خلالها قراءة التراث طلباً لليقين في قضايا كثيرة، وكانت قضية الشعر الجاهلي تستبد بمعظم اهتمامه فأجاز لنفسه أن يسمي هذه المرحلة من حياته بـ(محنة الشعر الجاهلي)، وخلال هذه الفترة كان يكتب بعض المقالات في الصحف والمجلات، وقد وصف معاناته في تلك الأيام أنها كانت (تطغى كالسيل الجارف يهدم السدود ويقوض كل قائم في نفسي وفي فطرتي).(18)
تأليف كتاب "المتنبي"...
سنة1935م انتدبته مجلة (المقتطف) –لصاحبها فؤاد صرّوف- إلى كتابه كلمة عن "المتنبي" في الذكرى الألف لوفاته، فلبّى شاكر الدعوة، وتم الإتفاق على أن تكون الكلمة ما بين عشرين إلى ثلاثين صفحة من صفحات المقتطف، وقد وصف هذه التجربة في المقدمة الجديدة لكتابه "المتنبي" وأفاض فيها.. كما ذكر أنه مزّق ما كتب عدة مرات لعدم اقتناعه بما كتب حتى استقر على اكتشاف في شخصية المتنبي.
وقد استخدم في كتابه هذا كلّ أدواته الإبداعية، ومارس قدرته النقديّة والبحثية في دراسة المتنبي بصورة لم يسبق إليها، وهو الفن الذي سماه بالتذوق، وانتهى إلى نتائج لم يقل بها أحد قبله منها:_
1- القول بعلوية المتنبي وهي التي تم اكتشافها بعد ذلك من خلال المخطوطات التي ترجمت له.
2- اكتشافه حبّ المتنبي لـ"خولة" أخت سيف الدولة "الحمداني".
وقد عمد شاكر إلى الدخول في النصوص الشعرية ودراستها دراسة تحليلية من داخلها للوصول إلى هذه النتائج، وهو الأمر الذي يخالف منهج الكثيرين في اعتماد الأخبار فقط لمعرفة نفسية الشخصية وما يحيط بها من ظروف.
وهذا الأمر هو الذي ميّز شاكر في اعتماده للمبدأ العلمي والذي سماه (التذوق)، ويعني به فيما يعني الغوص في كلام القائل وتحليله للخروج بالنتائج المطلوبة.
وبكتابه هذا نشأت معركة جديدة بينه وبين الآخرين، خاصة بينه وبين طه حسين بعد سنتين من صدوره إذ أخرج هذا الأخير كتابا سماه "مع المتنبي" واندلعت هذه المعركة في مجلة البلاغ تحت عنوان (بيني وبين طه) بيّن فيها شاكر (عدم بصر) طه حسين بالشعر وبسطوه على بعض ما قاله شاكر في الشّك حول والد المتنبي سطواً فجاً قبيحاً.. وبلغت اثنتي عشرة مقالة حتّى جاءه نعي أستاذه وصديقه "مصطفى صادق الرافعي" (1937م) (فانهدم في نفسي كلّ ما كان قائماً، وذهب الدكتور "طه" وكتابه جميعاً من نفسي تحت الهدم فـ:-
ليت الحوادث باعتني الذي أخذت *** مني بحلمي الذي أعطت وتجريبي(19)(/8)
في سنة1940م شرع الشيخ شاكر في قراءة التراث وشرحه، فنشر كتاب " إمتاع الأسماع بما للرسول –صلى الله عليه وسلم- من الأبناء والأموال والحفدة والمتاع" للمقريزي، و "المكافأة وحسن العقبى" لأحمد بن يوسف بن الداية الكاتب، وفي هذه السنة عهد صاحب " الرسالة" أحمد حسن الزيات إلى شاكر بتحرير باب " الأدب في أسبوع"، فأجاب إلى ذلك وكتب طائفة من التعقيبات والتعليقات.. وفي هذه الفترة ألف الشعر ومنه قصيدته " تحت الليل" التي قال فيها:-
(18) إقرا ما كان يعاينه في ما خطه مصطفى صادق الرافعي وعلى لسان (أبي محمد البصري) في "وحي القلم" في مقالة(الانتحار) الرابعة، فإنها هي المعاني التي حدثها لشيخه الرافعي عن نفسه.
(19) مقدمة المتنبي ص107.
أهيم وقلبي هائمٌ وحشاشتي *** تهيمُ فهل يبقى الشّقي المبعثرُ؟
لئن أبقت الآمال مني لطالما *** تقلّبتُ في آلامِها أتضوّر
تنازعني من كلِّ وجه ساحر *** يمثل لي إقبالها ويصور
فيهوى لها بعضي، وبعضي موثق *** بأشواقه الأخرى إلى حيث تنظر
ومن شعره كذلك:
ذكرتك بين ثنايا السطور *** وأضمرت قلبي بين الألم
ولستُ أبوح بما قد كتمت *** ولو حزَّ في نفسي حدّ الألم
فكم كتم اللَّيل من سرنا *** وفي اللِّيلِ أسرارُ من قد كتم
القوس العذراء ...
وفي سنة1952م نشر الشيخ/ محمود شاكر قصيدته الرائعة (القوس العذراء) وهي قصيدة طويلة تبلغ مائتين وثمانين بيتاً استلهمها من قصيدة الشماخ- رضي الله عنه- التي مطلعها:
عفا بطن قوٍّ من سليمى فغالز *** فذات الغضا فالمشرفات النوافز
والشماخ هو ابن ضرار الغطفاني، شاعر فحل، صحابي، أدرك الجاهلية ثم أسلم، كان أعوراً، وعلى عوره كان وصّافاً، أجاد وصف الحمر الوحشية، غزا في فتوح عمر –رضي الله عنه، وشهد القادسية ثم غزا أذر بيجان مع سعيد بن العاص، فاستشهد في غزوة موقان سنة أربع وعشرين من الهجرة في عهد عثمان –رضي الله عنهما-(20).
وفي زائيّته التي نسج الشيخ/ شاكر على منوالها، وصف الشماخ قصّة قوّاس صنع قوسا فأتقنها حتى كانت رميتها لا تخيب، ثّم اضطره فقره إلى بيعها، فأخذ الشيخ شاكر هذه القصة ونسج عليها رائعة من روائع الشعر المعاصر.. جعلها واسطة بينه وبين صديق له لم تبلو مودته وصداقته:
فدع الشماخ ينبئك عن قوَّاسها البائس من حيث أتاها
أين كانت في ضمير الغيب من غيلٍ نماها؟
كيف شقت عينه الحجب إليها فاجتباها؟
كيف ينغل إليها في حشا عيصٍ وقاها؟
كيف أنحا نحوها مبراته، حتى اختلاها؟
كيف قرت في يديه واطمأنت لفتاها؟
كيف يستودعها الشمس عامين تراه ويراها؟
وفي هذه القصيدة القصصية استودع شاكر نظرته للحياة، وبيّن فيها صراع العاطفة مع العقل، وكيف يهزم المال الحب؟، وكيف يتحطم المثال على صخرة الواقع.. وشاكر في هذه القصيدة كأنه يبرر لنفسه ما أصابه من اضطراب بين مواقفه الجريئة الواضحة وبين ما كان يقع فيه من أعمال لا تستقيم مع رؤاه:-
وفاضت دموع كمثل الحميم لذاعة نارها تستهل
بكاء من الجمر، جمر القلوب، أرسلها لاعج من خيل
وغامت بعينيه واستنزفت دم القلب يهطل فيما هطل
وخانقة ذبحت صوته وهيض اللّسان لها واعتقل
وأغضى على ذلّة مطرقا عليه من الهم مثل الجبل
أقام وما أن به من حراك تخاذل أعضاؤه كالأشل
ولكن الشيخ يختم قصيدته بالأمل وبوجوب ترك اليأس بعد السقوط على خلاف ختم الشماخ قصيدته:
(20) من مقدمة "القوس العذراء" للشيخ شاكر.
أفق يا خليلي أفق لا تكن حليف الهموم صريع العلل
فهذا الزمان وهذي الحياة علمتنيها قديما.. دول!!
أفق لا فقدتك ماذا دهاك؟ تمتع! تمتع بها لا تُبَل
بصنع يديك تراني لديك، في قدِّ أختي! ونِعْمَ البدل
صدقت! صدقت! وأين الشّباب؟ وأين الولوع؟ وأين الأمل؟
صدقت! صدقت!! نعم صدقتُ! سِرُّ يديك كأن لم يزل
حباك به فاطر النّيرات، وباري النّبات، ومرسي الجبل
فقم واستهِلّ، وسبّح له ! ولبَّ لرب تعالى وجل
كانت هذه القصيدة وما زالت صفعة في وجه الراحلين عن ثقافتنا وتراثنا، مصعرين خدودهم باحتقار وازدراء، موجهين هاماتهم نحو اليونان والرومان لا يعرفون إلا الأساطير الوثنية، ولا يتمثلون إلا الصور الشِّركية لآلهتهم النجسة، لقد كانت هذه القصيدة وما زالت محطمة للحواجز الوهمية التي يزعمها أهل الصّغار في عدم فهمهم للتراث وعدم استيعابهم له، فها هو الشيخ/ شاكر يقتحم أكثر الحصون مناعة في الشعر الجاهلي، شعر الشماخ الذي قيل فيه:- (كان شديد متون الشعر، أشد أسر كلام من لبيد وفيه كزازة) واستخرج منه شاكر هذه اللؤلؤة الصافية، يستخدمها ليبث روحه فيها، ويجللها بمضمون فلسفي رائع، يكشف بها عن نفسه وعن آرائه وقدراته، ولذلك وقف النقاد وقفة احترام وتقدير لهذه القصيدة، وكثرت الدراسات حولها، ومن هؤلاء النقاد: الدكتور إحسان عباس، والدكتور مصطفي هدّارة، وزكي نجيب محمود(21)، ومحمد محمد أبي موسى..(/9)
يقول الدكتور إحسان عباس عنها: - "ليست في محاولة الإبتكار بقدر ما هي في العودة إلى التراث، وربط الحاضر بالماضي، وإيداع القوة الرمزية فيما يبدو بسيطا ساذجاً لأول وهله. وفي ذلك كله نوع من الإبداع جديد، وبرهان ساطع على أن تطلب الرموز في الأساطير الغربية عن التراث يدل على جهل به، أو على استسهال لاستخدام رموز جاهزة أو عليهما معاً.(22)
وفي سنة1952م كذلك، نشر الشيخ/ محمود شاكر كتاب "طبقات فحول الشعراء" وانشغل فيه بتحقيق تفسير الإمام الطبري "جامع البيان وتأويل القرآن"، والذي شاركه فيه أخوه أحمد، فنشر منه ثلاثة عشر مجلداً، ولكن بعد وفاة أخيه تقاعس الشيخ محمود عن العمل في هذا التفسير حيث أنه خلال ثلاثة عشر عاماً بعد وفاة شقيقه لم ينشر سوى ثلاثة مجلدات ثم ترك العمل لخلاف حصل بينه وبين دار المعارف التي تولت نشر الكتاب.
وفي سنة1958م كتب شاكر فصلاً في إعجاز القرآن كان مقدمة لكتاب مالك بن نبي "الظاهرة القرآنية" ونشر هذا الفصل في كتاب مستقل "مداخل إعجاز القرآن".
الشيخ في سجن الهالك المرتد عبد الناصر...
وفي سنة 1959م سُجِنَ الشيخ تسعة أشهر مع إخوانه وذلك عندما تعرض الإسلاميون للمحنة الأولى في صدامهم مع الهالك عبد الناصر.. وكان سبب سجنه –رحمه الله- وقوته ضد ممارسات
(21) زكي نجيب محمود مر في أطوار نظرته للأمة وتراثها ..انظر نظراته وتقلباته في كتاب "الفكر الديني عند زكي نجيب محمود" للدكتورة منى أحمد أبوزيد، وكتابة نقده للقوس العذراء كان في طوره الأول قبل انتقاله لتبني الفلسفة المادية الوضعية وتاليفه كتاب "خرافة الميتافيزيقيا"..
(22) أشار الأستاذ عمر حسن القيام في كتابه"محمود شاكر_ الرجل والمنهج" إلى عدم الإعتماد على الشيخ في تقييمه للأمور السياسية، ووقوعع الإضطراب فيها، ومثل على ذلك بنظرة الشيخ إلى حركة العسكر ضد فاروق، وهذا حق، ومثله كذلك مدحه لفؤاد صروف صاحب (المقتطف) وهو إنجليزي الهوى والميل ، ومجلة المقتطف كانت من أوائل من دعا الى العامية على يد يعقوب تقلا صروف/ لبناني الأصل منشؤها الأول.. ثم عمل الشيخ مدققا لغويا في دار ومكتبة الهلال، وهي دار كان الشيخ يقر أنها مشبوهة، وأصحابها من خصوم هذه الأمة وأولياء لأعدائها.
العسكريين الذين استلموا الحكم بعد انقلاب1952م.(23)
وفي سنة 1962 نشر الجزء الأول من "جمهرة نسب قريش" للزبير بن بكّار.
معركة "أباطيل وأسمار" وسجن الشّيخ مرّة أخرى:
في سنة1964 بدأ لويس عوض –الذي عُيِّنَ مستشاراً ثقافياً لجريدة الأهرام– ينشر مقالات تحت عنوان: (على هامش الغفران- شيء من التاريخ) مزج في مقالاته خبث الطويّة التي كان مبناها على نصرانية الأصل، وتربيته في الغرب، مع جهل بتاريخ الأمة ولغتها، فاشتعلت حمية الشيخ/ محمود شاكر لمّا رأى:-
كشيش أفعى أجمعت لعضٍّ *** فهي تحك بعضها ببعض
وإذا هو أسود سالخ (وهو أقتل ما يكون من الحيّات) يمشي بين الألفاظ فيسمع لجلده حفيف، ولأنيابه جرش، فما زلت أنحدر مع الأسطر والصوت يعلو، يخالطه فحيح، ثمّ ضباج، ثم صفير، ثم نباح (وكلها من أصوات الأفاعي)(23).. بهذا قرر الشيخ أن يترك عزلته عن الكتابة، ويمسح عن قلمه الصدأ الذي أصابه، ويخرج وقد لبس لأمته ليكشف ما يقوم به المزورة لتاريخنا، الداعون إلى تحطيم مقومات هويتنا، فبدأ بنقض ما يقوله لويس عوض، وقام بكشف جهله وجهل جماعته بآداب هذه الأمة، وصال فيهم بثقة اكتسبها من إدراكه العميق لهذه الثقافة، ومن ثقته بهذا الدين، وأرجع هجومهم على هذه الثقافة على أصولها، وأنها هجوم على دين الله تعالى، فربط بين لويس عوض وبين سلامة موسى وبين دوائر الاستشراق التي تربّي أمثالهما على عينها، ثم تخرجهم وقد تبوؤا على مراكز القرار، فعاثوا في الأمة الفساد، وقوضوا أبنيتها الشامخة بألاعيبهم وأكاذيبهم، والشيخ وإن اتخذ لويس عوض نموذجا فإنما أراد بمقالاته التي سمّاها "أباطيل وأسمار" أن يكشف عن جيل كامل حمل معاول الهدم والتدمير، ورضي لنفسه أن يكون تابعاً لدوائر التبشير والإستشراق.
في مقالاته "أباطيل وأسمار" صنع الشيخ/ شاكر ملحمة فكرية رائعة أبان فيها عن قضية المنهج الذي أفسده هؤلاء فقال:- ولفظ (المنهج)(24) كما سيأتي يحتاج مني إلى بعض الإبانة، وإن كنت لا أريد به الآن ما اصطلح عليه المتكلمون في مثل هذا الشأن، بل أريد به (ما قبل المنهج) أي الأساس في تناول المادة، وشطر في معالجة التطبيق.(25)
وتعد كتب الشيخ نموذجاً لتطبيق هذا المنهج بكل أمانة وقوّة.
والعظيم في الأمر أن الشيخ جعل كلّ ذلك من أجل الدين، وجعلها معركة له وتحت رايته..(/10)
قال الشيخ واصفاً حال هذه الفترة في عرضه لكتابه:- وقد بدأت أكتب هذه الكلمات بعد عزلة ارتضيتها لنفسي منذ سنين لأني خشيت أن لا أقوم بحق القلم عليّ وبحق الناس عليه، فوجئت بأشياء كنت أراها هينة لا خطر لها، فاستبان لي بعد قليل من مذاكرة أصحابي أن الأمر أهول مما ظننت، فمن أجل ذلك فارقت عزلتي، وبدأت حريصاً على أن لا أخون حق القلم عليّ، ولا حق الناس عليه.(26)
ونعم، لم أكن غافلاً عما يجري من حولي بل كنت مصروفا عن متابعة بعض الحوادث والنوابت، وعن تعليقها بأسبابها، وعن اتباعها بنتائجها، إذ كنت امرءاً ملولاً، وهو مما قضى الله أن أكونه، يسرع إليّ المللُ فأطرح شيئاً كثيراً أعلم عن أصحابه من السخف ما أعلم، فلا أقرأه ولا ألقي إليه
(23) أكثر ما يشدك إلى الشيخ محمود شاكر وكلامه هو وضوحه، وإصراره على تسمية الأشياء بأسمائها، فلا يقبل أعذار المجمجمين، واما قدرته على التصوير فهي الغابة التي لا تخطؤها العين.
(24) شرح الشيخ شاكر موضوع المنهج بالتفصيل في كتابه: "رسالة في الطريق إلى ثقافتنا"..
(25) أباطيل وأسمار ص24
(26) كان الشيخ يقول في اخرايامه: إن الذي رأيته في شبابي أفضل مما فيه الآن، لأن الأمور الثقافية في نزول لا في صعود.
بالا. فمن ذلك ما كان يكتبه "أجاكس عوض"، الذي كان يُعرف، فيما غَبَر، باسم "لويس عوض".(27)
كان من سوالف الأقضية أن كتب الله عليّ يوما ما: أن أقرأ له شيئا سماه "بلوتولند"، وقصائد أخرى(28) وكتب تحته "من شعر الخاصة" وأهداه إلى "كريستوفر سكيف" وذلك في1947 من الميلاد. ولما كنت أعلم حَبْءَ "سكيف" هذا، وأنه كان أستاذاً في كلية الآداب بجامعة القاهرة، وأنه كان جاسوساً محترفاً في وزارة الاستعمار البريطانية، وأنه كان أيضاً مبشراً ثقافياً شديد الصفاقة سيء الأدب، وأنه كان ماكراً خبيثاً خسيس الطباع، وأنه كان يفرق بين طلبة القسم الإنجليزي في الجامعة: يمدّ يداً إلى هذا، لأنه تابع له حاطب في هواه، وينفض يده من ذاك، لأنه يعتصم ببعض ما يعتصم به المخلصون لدينهم ووطنهم، حميّة وأنفة، واستنكافاً أن يضع في عنقه غُلاً للسيادة البريطانية، وللثقافة التبشيرية المسيحية. وكنت أعلم فوق ذلك، أنه " شرلتان" عريض الدعوى، لا يستحق أن يكون أستاذاً في جامعة، ولكن سياة بريطانيا كانت يومئذ هي الغالبة، وكانت كلمتها هي النافذة. فأصبح سرّ "أجاكس عوض" مفضوحاً عندي، بإهدائه "بلوتولند، وقصائد أخرى" إلى هذا الجاسوس المحترف، والمبشر الثقافي الصفيق، و"الشرلتان" الذي صار أستاذاً في الجامعة، "كريستوفر سكيف"!.
لم يمنعني ذلك من الإقدام على قراءة الكتاب، فإذا أوله هذا العنوان" حطموا عمود الشعر"! وتحته مباشرة هذا الكلام: "لقد مات الشعر العربي، مات عام1933، مات بموت أحمد شوقي، مات ميتة الأبد، مات".. فتوقفت دهشة، ولم يخامرني شك في أن كاتب هذا داخل فيما يسميه الأطباء: "مانياهلو سينارتوريا"، وهو الهذيان والوسوسة واختلاط العقل. وقلت: ط حاله لُطف"! ومضيت أقرأ هذه المقدمة مشتاقا، لكي أُسَرِّي عن نفسي وكانت أيامنا يومئذ جالبة للغم. وصدق ظني فضحكت ولم أبال بما وجدت فيه من بغض شديد للعرب، ومن حقد آكل على دينهم وكتابهم(29)، ومن غرور فاجر وسوء أدب. ولم اعبأ بالرائحة الخبيثة التي تفوح من تحت ألفاظه، فقد كنت ألفتُ أن أجد ذفرها حين ألقى جماعات المبشرين في ثيابهم المختلفة، حين يستخْفون فيها وحين يستعلنون. وقنعت بما سرَّى عني الهموم من هذيانه ووسوسته واختلاطه، وأنزلت أقواله وأحقاده حيث نزل، إذ كان يومئذ شيئاً مغموراً لا يُؤبَهُ له.(30)
وقد كشف شاكر جهل عوض باللغة العربية، وأنه ومن هم على شاكلته لا يحسنون قراءة التراث ولا يفهمون من ثقافة الأمة شيئاً، بل كشف سوء نواياهم وارتباطهم بالأجنبي، وقد اعترف أنه لا يكشف لويس عوض بمقدار أن يكشف هجمة عاتية على هذه الأمة، لتبصر الأمة حقيقة ما يراد بها من هؤلاء الكتبة.. اقرأ ما يقوله عن لويس عوض: "إن تكن هذه عجيبة فلويس عوض أعجب منها! فقد ملأه مالئه منذ دهر ثمّ تركه، وضبطه له إلى أهدافه بعينها ثم أطلقه فانطلق يجوس خلال الآداب عامَّة، ثم الآداب العربية خاصة، وهو لا يكاد يرى إلا ما ركب لأجله : لا يكاد يرى إلا
(27) سمى الشيخ شاكر "لويس عوض" بأجاكس عوض، لأن لويس شبه نفسه في أحد مقالاته برمز يوناني تتداوله خرافات اليونان اسمه: أجاكس بن تلامون، اقرأها متمتعا مع رد عليه في المقالة رقم عشرين من "أباطيل وأسمار".
(28) هي أول ديوان من شعر النثر!! أصدره "لويس عوض" ومع تفاهته فما زال بعضهم يعده من أوائل(الابداع) للفن الشعري الحديث.. انظر ما كتبه ناجي علوش في مقدمة "ديوان بدر شاكر السياب" المجلد الأول.
(29) لقد كشف لويس عوض هذا واضحا عندما ترجم لنفسه ولأيامه..
(30) أباطيل وأسمار ص8-9.(/11)
اليونان والرّوم، والقرون الوسطى والمثقفين والحضارة الحديثة، والحروب الصليبية والصلبان والخلاص، والفداء، والخطيئة، وكسر رقبة البلاغة، وكسر عمود الشعر العربي، واللغة العامية، والفتح الإنجيلزي لمصر سنة1882(31)، وما شئت من أمثال ذلك مما ضمنّه كتبه ومقالاته قديماً وحديثاً.
فهذا التركيب الموجَّه(!!) لا يكاد يرى ابن خلدون إلا مقرونا باورسيوس ولا المعرِّي إلا مقروناً براهب دير الفاروس وبالحروب الصليبية والصلبان التي غصّت بها حلب(!!) ولا "وردة الدهان" وهي آيات العذاب يوم القيامة، إلا مقرونة بروزا مستيكا (مريم العذراء)، ومعاذ الله، وبرَّأها مما في عقله من السمادير ولا يكاد يرى عمر مكرم وعرابي وجمال عبد الناصر إلا مقرونين بالمعلم يعقوب رئيس الخونة المظاهرين للفرنسيين الغزاة أيام نابليون ولا توفيق الحكيم ونجيب محفوظ وصلاح عبد الصبور، إلا مقرونين بعقائد الخلاص والفداء والخطيئة. ثم تأتي الطامة الكبرى، فلا يكاد يرى القرآن العظيم إلا مقروناً بترجمته إلى اللغة العامية، كما تُرجِم الإنجيل إلى اللغات الحديثة وهي عامية اللاتينية، وإلا مقرناً بكسر رقبة البلاغة، وكسر عمود الشعر العربي. وهنا وهناك تراه طائشاً، زائغ العينين خفيف العقل سليط اللسان، قد استرخت مفاصل عقله، وانحلت تلافيفه. هذا، والذي أطلقه واقف من بعيد ينظر، وفي عينيه الدهشة ويحك ذقنه بيده، ويفتر ثغرة عن ابتسام، إعجاباً باختراعه المدهش الذي ركّبه وأطلقه، ولم يكن يظن ظناً أنه قادر على أن يتحرك في عمود واحد من إحدى الصحف السرية!! فإذا به (يبرطع) في ثمانية أعمدة، في أكبر صحيفة في العالم العربي والإسلامي، هي الأهرام، وعلى أشرف منصة في معهد الدراسات العليا التابع للجامعة العربية ويأتي في خلال "برطعته" (وهي البلتعة بالفصحى) بالعجائب التي لا تنقضي س، وقد ارتدى طيلسان أستاذ جامعي، بلا حسيب ولا رقيب. وهذا نجاح مدهش ولا شك وحق لمالئه أن يميد به الغرور وتستخفه الخُيلاء باختراعه هذا العجيب! فهذه هي الفضيحة التي لا تنكر للإختراع المسجل (لويس عوض)(32)!.
ثم كشف الشيخ/ شاكر في كتابه أصل المسألة الخبيثة وهي الدعوة إلى العامية، وأرجعها إلى أصولها التي خرجت منها- دوائر التبشير والإستشراق"(33)-، وكشف عن اهتمام هؤلاء القوم بالصحافة لأهميتها… ونقل عن المبشر –رولس كاش- قوله:- إن الصحافة لا توجه الرأي العام فقط أن تهيئة لقبول ما ينشر عليه، بل هي تخلق الرأي العام.. (يقول الشيخ:- فتأمل هذه العبارة تأملاً جيداً)..
وقد استغل المبشرون الصحافة المصرية على الأخص للتعبير عن الآراء المسيحية أكثر مما استطاعوا في أي بلد إسلامي آخر.. يقول الشيخ: تأمل هذا أيضاً.
لقد ظهرت مقالات كثيرة في عدد من الصحف المصرية إما مأجورة في أكثر الأحيان أو بلا أجرة في أحيان نادرة..
واكتشف الشيخ أمر التعليم وما صار إليه بذكر أقوال دهاقنة الكفر مثل قول "زويمر": ينبغي للمبشرين أن لا يغيظوا إذا رأوا نتيجة تبشيرهم للمسلمين ضعيفة، إذ من المحقق أن المسلمين قد نما في قلوبهم الميل الشديد إلى علوم الأوروبيين وتحرير النساء.(34)
(31) سمى لويس عوض الاستعمار الانجليزي لمصر فتحا، كما سمى دخول الصحابة رضي الله عنهم لمصر فتحا!!
(32) أباطيل وأسمار ص110-111.
(33) انظر ارتباط الدعوة إلى العامية بنصارى الشروق وكيف هي استجابة لدوائر الكفر الغربية في-التبشير والاستعمار- للخالدي وفروخ و"الفصحى لغة القرآن" لأنور الجندي.
(34) نصوص المبشرين تستيع الإطلاع عليها في كتاب "الغارة على العالم الاسلامي" الذي نشره الأستاذ محب الدين الخطيب رحمه الله تعالى.
ومثل قول المبشر "تكلي": يجب أن نشجع إنشاء المدارس وأن نشجع على الأخص التعليم الغربي، إن كثيرين من المسلمين قد زُعْزِعَ اعتقادهم حينما تعلموا اللغة الإنجليزية، إن الكتب المدرسية الغربية تجعل الإعتقاد بكتاب شرقي مقدس أمراً صعباً جداً..
يعلق الشيخ قائلاً: وهذا واضح كل الوضوح في أن أمر التعليم على الصورة التي أرادوها والتي أرادها "دنلوب" وأمثاله هي نزع اعتقاد الشباب المسلم في كتاب الله الذي أنزله على نبيه – صلى الله لعيه وسلم-، والذي عبّر عنه " وليام جيفرد بلغراف" بقوله: متى توارى القرآن، ومدينة مكة من بلاد العرب، يمكننا حينئذ أن نرى العربية يتدرج في سبيل الحضارة التي لم يبعده عنها إلا محمد وكتابه..
(وخسىء المبشر التالف). ثم كشف الشيخ شاكر كيف استأجر هؤلاء المبشرون جماعة من الكتبة الذين يتسمون بأسماء إسلامية لتمرير مخططاتهم وأفكارهم ومناهجهم، ومن هؤلاء الدكتور/ محمد أحمد خلف الله.(35)
وبين الشيخ أن النصارى القبط هم من أعان المستعمرين على تمرير مخططاتهم في هذه الأمة، ورد في كتابه على من سمّى تطبيق الحدود وحشية وذلك في مقالته الثامنة عشرة من الكتاب.(/12)
ومن فصول الكتاب الرائع شرحه لكلمة " دين" وذلك في المقالة الرابعة والعشرين، وكشف فيها عن خطأ الناس القاصر في فهمهم لهذه الكلمة.
ومن مقالات الكتاب القيمة ما كشف فيها الشيخ عن جهل هؤلاء الكتبة المستأجرين بلغة أساتذتهم وأئمتهم عن الغرب، فإنه في المقالة الخامسة والعشرين بين فيها جهل لويس عوض لترجمته مسرحية "أرسطو فان" والتي عنوانها الضفادع(36) وهي المقالة الأخيرة في الكتاب حيث توقفت المقالات، فإنه بعدها وفي آب سنة1965: (أحاطت بي الأسوار وأظلمت الدنيا، وسمعت ورأيت وفزعت وتقززت… وكان ما كان..
وعلمت، حتى ما أُسائل واحداً *** عن علم واحدة لكي ازدادها
وتسليت عن كل ما ألقي إلي بقول شيخ المعرة ..
يسوسون الناس بغير عقل *** فينفذ أمرهم ويقال ساسة
فأفًّ من الحياة وأُفُّ منِّي *** ومن زمن رئاسته خساسة)
ذلك أن الشيخ سيق إلى السجن مرة ثانية، فقد تكالب عليه الخصوم، وراحوا يتهمونه أنه يدعو إلى فتنة طائفية دينية" ونعمت التهمة"، فاستجابت السلطة لهم وتم سجنه وبقي فيه سنتين وشيئاً حتى كانت جريمة حزيران عام1967م.
وقد شهد له إخوانه أنه كان في السجن مثالاً للصبر على كبر سنِّه ومرضه ن وكان كذلك سمح الروح واسع الصدر، وقد طُلِبَ منه أن يعتذر كما كتب ليفرج عنه، فرفض أشد الرفض.
الوحدة الموضوعيِّة للقصيدة في الشعر الجاهلي:……………..
وبعد خروج الشيخ من السجن عاد مرة ثانية إلى دراسة الشِّعر الجاهلي، فكتب مجموعة من المقالات تحت عنوان:- " نمط صعب ونمط مخيف" وذلك على صفحات مجلة " المجلة" في الفترة(1969-1970)، وفي هذه المقالات قام الشيخ/ شاكر بدراسة قصيدة ابن أخت تأبط شراً التي مطلعها:
(35) رجل سار على منهج طه حسين في التشكيك في القرآن وهو علماني النزعة مع فرج فودة في مناظرة المشهودة التي دعا فيها إلى تبني العلمانية كاملة من غير نقص.
(36) وينطق كذلك أرسطوفانس(445-485ق م) مؤلف إغريقي، كتب ما يزيد على أربعين مسرحية، لم يصل منها إلا 11 مسرحية، والمعلومات حول حياته قليلة، أول مسرحياته هي (أصحاب المأدبة) شاهد محاكمة سقراط ثم إعدامه، ومسرحية (الضفادع) كتبها بعد الحادثة، وهي مسرحية من نوع (الكوميديا) تحكي عن موت (الدراما)الاثينية، وكيف عاد بيوروبيدس ليعيد للمسرح إعتباره.
إن بالشعب الذي دون سلع لقتيلا دمه ما يطل
قذف العبء عليَّ وولَّى ن فأنا بالعبء له مستقلُّ
ووراء الثَّأرِ منّي ابن أخت، مصِعٌ عقدته ما تُحلُّ
مطرق يرشح موتاً، كما أطرق أفعى، ينفث السّمّ صلُّ
خبر ما نابنا مصمئلّ! جلّ حتى دقَّ فيه الأجلُّ
وسبب دراسته لهذه القصيدة أن (يحيى حقي) أشاد بترجمة (جوته) لهذه القصيدة وزعم حقي أن القصيدة الجاهلية تفتقر للوحدة الموضوعيّة..
قام الشيخ بالكشف عن قائلها لاختلاف الرواة في تعيينه، ونفى أن تكون لتأبط شراً أو الشّنفري، وجزم أنها لابن أخب تأبط شرّاً، وحقَّق القول في زمن إنشادها وأن ابن أخت تأبط شرَّا أنشدها بعد أن ثأر لخاله من هذيل، ثم رتَّب الشيخ القصيدة ترتيبا جديدا، وهي مواصلة له لتأكيد صحة نسبة الشعر الجاهلي، وهي المسألة التي بقيت هاجسة إلى آخر أيّامه، فإنه اعتبرها قضيته التي أحس بها وهو طالب عند الشيخ المرصفي، ثم عانى منها ما عانى بعد أن تفجرت هذه القضية على يد طه حسين.
وكان الشيخ شاكر –رحمه الله تعالى- يعتبر أن القضيّة الأولى لإعادة الإعتبار للقصيدة الجاهلية وفهمها بكونها تحمل وحدة موضوعية واحدة، هو ترتيب القصيدة، فقد ذكر الدكتور/ ناصر الدين الأسد أن الشيخ/ شاكر كان في تدريسه للطلاب –الأصمعيات- يبذل جهداً كبيرا في إعادة ترتيب القصيدة بعد تجميعها من مظانِّها ليفهم الناظر وحدة الموضوع فيها.
وفي سنة1970م أسهم الشيخ/ شاكر في نشر الوحشيات- وهو الحماسة الصغرى لأبي تمام الطائي، وفي عام1974 أعاد نشر كتاب ابن سلام "طبقات فحول الشعراء"، ثم أعاد نشر كتابه "المتنبي" سنة1976 مع مقدمة جديدة، تحدث فيها عن الكتاب وقصته وتحدث فيها عن فساد الحياة الأدبية، وعرض صور السرقة التي يقتات عليها بعض المؤلفين، وكشف فيها عن منهجه في تذوق الشعر تذوقا علمياً للوصول إلى ما يريده الباحث، سواء كان المراد من فهم مكنونات الشّاعر النّفسيّة أو معرفة البيئة المحيطة به.
وفي سنة1975 ألقى الشيخ/ محمود شاكر سلسلة من المحاضرات حول الشعر الجاهلي في جامعة/ محمد بن سعود بالرياض.
في سنة1982 بدا الشيخ بنشر كتاب "تهذيب الآثار" للإمام أبي جعفر الطبري.
وفي سنة1984 نشر شاكر "دلائل الإعجاز" وضمَّ إليه "الرسالة الشافعية في الإعجاز" لعبد القاهر الجرجاني.
رسالة الشيخ/ شاكر إلى أمة الإسلام وكتابه "رسالة في الطريق إلى ثقافتنا"،(/13)
في سنة1987 كتب الشيخ شاكر كتابه رسالة في الطريق الى ثقافتنا وهذا الكتاب على صغره غنيّ بالفوائد والمعلومات، وجعلها في طبعة "المتنبي" الجديدة مقدمة لكتابه، شرح فيها باسطا مسألة تذوق الشعر ومنهجه فيه، وبين فيه مزية (الكتب المبتدأة الموضوعة في العلوم المستخرجة، فإنا نجد أربابها قد سبقوا في فصول منها إلى ضرب من النظم والمعرفة، أعيا من بعدهم أن يطلبوا مثله، أو يجيئوا بشبيه له، فجعلوا لا يزيدون على أن يحفظا تكل الفصول على وجوهها.(37) فقد أراد أن يبين عظمة الأوائل وقيمتهم في أبواب العلم، وفي ذلك ردّ على من زعم أن أساليب النقد وعلومه، ومناهج التذوق لا بصر للأوائل بها، وهذا الذي دعا الدكتور/ محمد محمد أبا موسى أن يكتب كتابه القيم "الإعجاز البلاغي"درلسة تحليليّة لتراث أهل العلم" ويقول :- إنهم لم يتكلوا في
(37) من كتاب عبد القاهر الجرجاني "الرسالة الشافية"
الإعجاز لأن برهانه كان قائما في نفوسهم ومضى الأمر على ذلك حتى تبدلت أحوال العرب، ولانت جلودهم(38)، ونجم في مجتمع المسلمين أهل التشكيك وجاهروا بالزيغ، وكثر القول في القرآن وإعجازه، واندست مقالة أهل الضلالة.(39)
وأشار الدكتور محمد محمد أبو موسى إلى أن الكثير من أهل التحقيق يوهمون الناشئة أن كلام/ شاكر- في اعتبار أن مناهج التذوق والنقد لآداب العربية خاصة لهذه البيئة ولا عبرة بما يقوله الأجانب في هذا الباب- في هذا الباب يمثل موقفه المتشدد.(40) وعلى القارىء الرجوح إلى شرح الشيخ/ شاكر لكلمة سيبويه في أول الكتاب: - وأما الغقل فأمثلة أخذت من لفظ أخذت من لفظ أحداث الأسماء، وبنيت لما مضى، وما يكون ولم يقع، وما هو كائن لا ينقطع.. وشرحه كذلك لكلام الجرجاني في أن ما قاله سيبويه لم يمكن لأحد بعده أن يلحق شأوه، أو أن يتقدم عليه.
(المنهج) عند الشيخ شاكر:………
شرح الشيخ في الرسالة بعض ما يعنيه بالمنهج قائلا:-
كان منهجي، كما نشأ واستتبّ في نفسي، كان منهجا يحمل بطبيعته نشأته رفضا صريحا واضحا قاطعا غير متلجلج، لأكثر المناهج الأدبية التي كانت فاشية وغالة وصار لها السيادة على ساحة الأدب الخالص إلى يومنا هذا، كما حدّثتك آنفا.
فلكي تكون على بينة مرة أخرى..
فاعلم، قبل كل شيء، أن تسميتها "مناهج" تجاوز شديد البعد عن الحقيقة وفساد غليظ وخلط، إذا كنت تريد أن تكون على ثقة من معنى هذه الألفاظ التي تجري الآن بيننا، ولكن قد كان ما كان، فهكذا اصطلحوا على تسميتها!
وقديماً تناولت لفظ "المنهج" وحاولت البيان عنه فقلت:
"ولفظ المنهج" يحتاج مني هنا إلى بعض الإبانة، وإن كنت لا أريد به الآن ما اصحلح عليه المتكلمون في مثل هذا الشان، بل أريد به "ما قبل المنهج" أي الأساس الذي لا يقوم "المنهج" إلا عليه.
"فهذا الذي يسمّى"منهجا" ينفسم إلى شطرين: شطر في تناول المادة وشطر في معالجة التطبيق.
"فشطر المادة يتطلّب قبل كل شيء جمعها من مظانها على وجه الإستيعاب المتيسر، ثم تصنيف هذا المجموع، ثم تمحيص مفرداته تمحيصا دقيقا، وذلك بتحليل أجزائها بدقة متناهية، وبمهارة وحذق وحذر، حتى يتيسر للدارس أن يرى ما هو زيف جليا واضحا، وما هو صحيح مستبينا ظاهرا، بلا غفلة، وبلا هوى، وبلا تسرع".
"وأما شطر التطبيق، فيقتضي ترتيب المادة بعد نفي زيفها وتمحيص جيدِّها، باستيعاب أيضاً لكلِّ احتمال للخطأ أو الهوى أو التسرع. ثم على الدارس أن يتحرى لكلّ حقيقة من الحقائق موضعا هو حقّ موضعها، لأن أخفى إساءة في وضع إحدى الحقائق في غير موضعها، خليق أن يشوه عمود الصورة تشويها بالغ القبح والشناعة".
وأزيدك الآن أن "شطر التطبيق" هو الميدان الفسيح الذي تصطرع فيه العقول وتتناصى الحجج، (أي تأخذ الحجة بناصية الحجة كفعل المتصارعين)، والذي تسمع فيه صليل الألسنة جهرة أو خفية، وفي حومته تتصادم الأفكار بالرفق مرة وبالعنف أخرى، وتختلف فيه الأنظار اختلافا ساطعا تارة أخرى، وتفترق فيه الدروب والطرق أو تتشابك أو تلتقي. هذه طبيعة هذا الميدان،
(38) قال البصريون يفتخرون على الكوفيين بأصالة علومهم: نحن نأخذ باللغة عن حرشة الضباب، وأكلة اليرابيع، وأنتم تأخذونها عن أكلة الشواريز وباعة الكواميخ.
(39) "الإعجاز البلاغي" ص20.
(40) السابق ص8.
وطبيعة النّازليّة من العلماء والأدباء والمفكرين. وعندئذ يمكن أن ينشأ ما يسمى "المناهج والمذاهب".(41)
وبيَّن أصالة المنهج وأنه ليس بالأمر المبتدع قائلاً:-(/14)
تبين لي يومئذ تبيّنا واضحاً أن شطري المنهج: "المادة والتطبيق" كما وصفتهما لك في أول هذه الفقرة، مكتملتان اكتمالا مذهلا يحير العقل، منذ أوليّة هذه الأمة العربية المسلمة خاحبة اللسان العربي، ثم يزدادان اتساعا واكتمالاً وتنوعاً على مر السنين وتعاقب العلماء والكتاب في كل علم وفنّ، وأقول لك غير متردد أن الذي كان عندهم من ذلك، لم يكن قط عند أمة سابقة من الأمم، حتى اليونان، وأكاد أقول لك غير متردد أيضا أنهم بلغوا في ذلك مبلغا لم تدرك ذروته الثقافة الأوروبية الحاضرة اليوم، وهي في قمة مجدها وازدهارها وسطوتها على العلم والمعرفة.
كنت أستشفّ "شطري المنهج"، كما وصفتهما، تلوح بوادره الأُوَل منذ عهد علماء صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن حُفِظَت عنهم الفتوى كعمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر كانت كاللمحة الخاطفة والإشارة الدّالة. ثم زادت وضوحاً عند علماء التابعين كالحسن البصري وسعيد بن المسيّب، وابن شهاب الزهري، والشعبي، وقتادة السّدوسيّ، وإبراهيم النّخعي. ثم اتسع الأمر واستعلن عند جلة الفقهاء والمحدثين من بعدهم، كمالك بن أنس، وأبي حنيفة وخاصبيه أبي يوسف ومحمد بن الحسن الشيباني، والشافعي والليث بن سعد، وسفيان الثوري، والأوزاعي، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، والبخاري ومسلم، وأبي عمرو بن العلاء، والخليل بن أحمد، وأبي جعفر الطّبري، وأبي جعفر الطحاوي. ثم استقر تدوين الكتب فصار نهجا مستقيما، وكالشمس المشرقة، نوراً مستفيضاً عند الكاتبين جميعا، منذ سيبويه، والفراء، وابن سلام الجمحي، والجاحظ، وأبي العباس المبرد ن وابن قتيبة، وأبي الحسن الأشعري، والقاضي عبد الجبار المعتزلي، والآمدي، وعبد القاهر الجرجاني، وابن حزم، وابن عبد البر، وابن رشد الفقيه وحفيده ابن رشد الفقيه الفيلسوف، وابن سينا، والبيروني، وابن تيمية وتلميذه ابن قيّم الجوزية، وآلاف مؤلّفة لا تحصى حتى تنتهي إلى السيوطي، والشوكاني، والزبيدي، وعبد القادر البغدادي في القرن الحادي عشر الهجري.
سُنّة متبعة ودرب مطروق في ثقافة متكاملة متماسكة راسخة الجذور، ظلت تنمو وتتسع وتستولي على كل معرفة متاحة أو مستخرجة بسلطان لسانها العربي، لم تفقد قط سيطرتها على النّهج المستبين، مع اختلاف العقول والأفكار والمناهج والمذاهب، حتى اكتملت اكتمالا مذهلاً في كل علم وفنّ، وكان المرجو والمعقول أن يستمر نموها واكتمالها وازدهارها في حياتنا الأدبية العربية الحديثة راهنا، (ثابتا)، إلى هذا اليوم، لولا… ولكن صرنا، واحسرتاه، إلى أن نقول مع العرجيّ الشاعر: "كان شيئا كان، ثم انقضى".(42)
ارتباط الثقافة بالدين…
وربط بين الثقافة والدين ربطا وثيقا، حيث اعتبر ثقافة كل أمة متصلة بدينها، وأن تخلي الأمة عن ثقافتها هو جزء من التخلي عن دينها ن ولذلك فليس هناك ثمة أمة تغلب أخرى إلا وتنشط إلى تسويق ثقافتها عند الأمة المغلوبة، وهذا ما يحاول جمع من المثقفين المضبوعين بالآخر أن
(41) ص21و22.
(42) ص24و25، وفي الهامش كتب الشيخ في تعريف كلمة العرجي الشاعر: من بيتين تترقرق فيهما عبرات الآسى كله وحسرات العمر يقول:
ياليت شعري، هل يعودن لي *** ذا الود من ليلى كما قد مضى؟
إذا قلبها فارق كله *** أم كان شيئا كان، ثم انقضى
يغالطوه، حيث يزعمون وجود ثقافة عالميّة، لا تختص بأمة ولا دين من الأديان.
جذور الفساد الأدبي……
ثم صار الشيخ إلى جذور الفساد الأدبي في حياة أمتنا اليوم، وهو فصل مهم جدير بالعناية والإطلاع ودراسته دراسة واعية مستوعبة، حيث ربط الشيخ بين الحروب الصليبية ونشاط الرهبان، واستطرد في بيان المعركة بين الأمتين المسلمة والنصرانية، حتى ربط بين الحروب القديمة وحركة الإستشراق والتي أقبلت مع هجمة الإستعمار، وأعاد التنبيه إلى كتابه "أباطيل وأسمار" حيث جعله فاضحاً لهذه السموم التي قبعت في داخل أمتنا تعمل فيها فتكا وتدميراً، يقول الشيخ –رحمه الله تعالى- واصفاً تلك الهجمات:-(/15)
"ومع هذه الأساطيل الفاجرة، خرجت من مكامنها أعداد وافرة من رجال يجيدون اللسان العربي وألسنة دار الإسلام الآخر، ومنهم رهبان وغير رهبان، وركبوا البرّ والبحر، وزحفوا زرافات ووحداناً في قلب دار الإسلام: على ديار الخلافة في تركية، وعلى الشام، وعلى مصر، وعلى جوف إفريقية وممالكها المسلمة = وخرجوا في القلوب حميّة الحقد المكتم، وفي النفوس العزيمة المصممة، وفي العيون اليقظة، وفي العقول التنبه والذكاء، وعلى الوجوه البشر والطلاقة والبرءاة وفي الألسنة الحلاوة والخلابة والمماذقة، ولبسوا لجمهرة المسلمين كل زيّ: زي السائح، وزيّ الصديق الناصح، وزي العابد المسلم المتبل= وتوغلوا يستخرجون كل مخبوء كان عنهم من أحوال دار الإسلام، أحوال عامته وخاصته، وعلمائه وجهّاله. وحلمائه وسفهائه، وملوكه وسوقته، وجيوشه ورعيته، وعبادته ولهوه، وقوته وضعفه، وذكائه وغفلته، حتى تدسّسوا إلى أخبار النساء في خدورهنّ، فلم يتركوا شيئاً إلا خبروه وعجموه، وفتشوه وسبروه، وذاقوه واستشفوه . ومن هؤلاء، ومن خبرتهم وتجربتهم، خرجت أهم طبقة تمخضت عنها اليقظة الأوروبية "طبقة المستشرقين" الكبار، وعلى علمهم وخبرتهم وتجاربهم، رست دعائم "الاستعمار" ورسخت قواعد التبشير".(43)
الإستشراق…
ثم كشف عن طريقة الإستشراق في دراسة أمتنا، ودراسة ثقافتها ودينها وذلك عن طريق الإهتمام بالمخطوطات التي سارع المستشرقون إلى اقتنائها عن طريق الشّراء أو النّهب، ثم عن طريق الرحلات الإستكشافية التي جابت الأماكن بلا كلّ ولا ملل، ووصلوا إلى المجاهيل وأعماق الصحراء والقرى البعيدة النائية، وذلك كله من أجل الإحاطة بهذه الأمة والإطلاع على كل شيء فيها ليسهل التعامل معها وأدراك مكامن قوتها حتى وصلوا إلى خبرة (بكل ما في دار الإسلام قديماً، وما هو كائن فيها حديثا).(44)
وكان من تنبيهاته المهمة أن ما كتبه المستشرقون لا يمكن أن يكون قاعدة لأهل هذا الدين ولا لقوم هذه الأمة لأن كتب (الإستشراق) ومقالاته ودراسته كلها مكتوبة أصلا للمثقف الأوروبي وحده لا لغيره، وأنها كتبت له لهدف معين، في زمان معين، وبأسلوب معين، لا يراد به الوصول إلى الحقيقة المجردة، بل الوصول الموفق إلى حماية عقل هذا الأوروبي المثقف من أن يتحرك في جهة مخالفة للجهة التي يستقبلها زخف المسيحية الشمالية على دار الإسلام في الجنوب.(45)
ثم قام الشيخ –رحمه الله- ببيان أنه لا يمكن للمستشرق أن يستوعب ثقافة هذه الأمة، ولا أن يقوم بتحليلها كما هي في نفسها.. يقول:- غاية ما يمكن أن يحوزه (مستشرق) في عشرين أو ثلاثين سنة، وهو مقيم بين أهل لسانه الذي يقرع سمعه بالليل والنهار، أن يكون عارفاً معرفة ما بهذه
(43) ص53 من الرسالة.
(44) ص57 من الرسالة.
(45)ص61 من الرسالة
(اللغة)(46) وأحسن أحواله عندئذ أن يكون في منزله طالب عربي في الرابعة عشرة من عمره، بل هو أقل منه على الأرجح..(47)
أما إمكانية إحاطة المستشرق لأمر الثقافة فهذا أمر عسير جداً، وهو أبعد من قضية أحاطته للغة .. يقول الشيخ –رحمه الله تعالى-: "وإذا كان أمر" اللغة "شديداً لا يسمح بدخول" المستشرق" تحت هذا الشرط اللازم للقلة التي تنزل ميدان "المنهج" و "ما قبل المنهج"، فإن شرط "الثقافة" أشد وأعتى، لان "الثقافة"، كما قلت آنفا: "سرٌّ من الأسرار الملثّمة في كل أمة من الأمم وفي كل جيل من البشر، وهي في أصلها الراسخ البعيد الغور، معارف كثيرة لا تحصى، متنوعة أبلغ التنوع لا يكاد يحاط بها، مطلوبة في كل مجتمع إنساني، للإيمان بها أولاً من طريق العقل والقلب = ثم للعمل بها حتى تذوب في بنيان الإنسان وتجري منه مجرى الدم لا يكاد يحس به – ثم الإنتماء إليها بعقله وقلبه انتماءً يحفظه من التفكك والإنهيار" … وهذه القيود الثلاثة "الإيمان" و "العمل" و "الإنتماء"(48)، هي أعمدة "الثقافة" وأركانها التي لا يكون لها وجود ظاهر محقق إلا بها، وإلا انتقض بنيان "الثقافة"، وصارت مجرد معلومات ومعارف وأقوال مطروحة في الطريق، متفككة لا يجمع بينها جامع، ولا يقوم لها تماسك ولا ترابط ولا تشابك.
وبديهي، بل هو فوق البديهي، أن شرط "الثقافة" بقيوده الثلاثة، ممتنع على "المستشرق" كل الإمتناع، بل هو أدخل في باب الاستحالة من اجتماع الماء والنار في إناء واحد، كما يقول أبو الحسن التُّهامي الشاعر:
ومكلِّفُ الأيام ضدّ طباعها *** متطلِّبٌ في الماء جذوة نارِ(/16)
وذلك أن "الثقافة: و"اللغة" متداخلتان تداخلا لا انفكاك له، ويترادفان ويتلاحقان بأسلوب خفي غامض كثير المداخل والمخارج والمسارب، ويمتزجان امتزاجاً واحداً غير قابل للفصل، في كلّ جيل من البشر وفي كله أمة من الأمم. ويبدأ هذا التداخل والترافد والتلاقح والتمازج منذ ساعة يولد الوليد صارخاً يلتمس ثدي أمِّه تلمساً، ويسمع رجع صوتها وهي تهدهده وتناغيه، ثم يظل يرتضع لبان "اللغة" الأول، ولبان "الثقافة" الأول، شيئاً فشيئا، عن أمه وأبيه حتى يعقل، فإذا عقل تولاء معهما المعلمون والمؤدبون حتى يستحصد(أي يشتد عوده)، فإذا استحصد وصار مطيقاً إطاقة ما للبصر بمواضع الصواب والخطأ، قادراً قدرة ما على فحص الأدلة واستنباطها فناظر وباحث وجادل، فعندئذ يكون قد وضع قدمه على أول الطريق = لا طريق "المنهج" و "ما قبل المنهج"، فهذا يعيد جداً كما رأيت= بل على الطريق المفضي إلى أن تكون له "ثقافة" يؤمن بها عن طريق العقل والقلب =ويعمل بها حتى تذوب في بنيانه وتجري منه مجرى الدم لا يحسه به= وينتمي إليها بعقله وقلبه وخياله انتماءً يحفظه ويحفظها من التفكك والإنهيار.(49)
مفهوم الثقافة…
ثم بين الشيخ ما يكتنف لفظ الثقافة من تزوير وغموض، وبدا يعرف قارئه ما يقصد بلفظ الثقافة وأنها تقوم على شيئين:
أولهما: أصول ثابتة مكتسبة تنغرس في نفس الإنسان منذ مولده حتى يشارف حد الإدراك، وهو ما يتلقاه من أبويه وأهله وعشيرته، وسمّى هذا الطور بأساس التسخير…
(46) يقول هردر(1742-1803): إن لغة الأباء والأجداد مخزن لكل ما للشعب من ذخائر الفكر والتقليد، والتاريخ والفلسفة والدين.. وفيها ينبض قلب الشعب، ويتحرك كل روحه.
(47) ص67 من الرسالة.
(48) بدأ بعض المفكرين يدركون إنهيار الإدارة (العمل) عند اقرانهم والدارسين، ودعوا الى تجديد الإدارة والاهتمام بها.. انظر كتاب د.فهمي جدعان والذي عنوانه "الطريق الى المستقبل" فصل "نقد الفعل" وما نبه عليه الشيخ من ارتباط الثقافة بالعملن وهو يحاول الكثير الإزوار عنه والتنكر له.
(49) ص69-70 من الرسالة.
وثانيهما:- فروع منبثقة عن الطور الأول، وهو طور النظر والمباحثة وممارسته التفكير والتنقيب والفحص، فعندئذ تتكون النواة الجديدة. (ويبدأ العقل عمله المتسبب في الإستقلال بنفسه، ويستبد بتقليب النظر والمباحثة وممارسة التفكير والتنقيب والفحص وهذه تسمى "ثقافة"
نفي خديعة الثقافة العالمية…
ثم يشرع في بيان ارتباط الثقافة واللغة بالدين، وينفي وجود ثقافة (عالمية)، أي ثقافة واحدة يشترك فيها البشر جميعا، ويقول: إن هذا (تدليس كبير، وإنما يراد بشيوع هذه المقولة بين الناس والأمم، هدف آخر يتعلق بفرض سيطرة أمة غالبة على أمة مغلوبة لتبقى تبعا لها… فالثقافات المتباينة تتحاور وتتناظر وتتناقش، ولكن لا تتداخل تداخلاً يفضي إلى الامتزاج البتة، ولا يأخذ بعضها على بعض شيئاً، إلا بعد عرضه على أسلوبها في التفكير والنظر والاستدلال(50).. ويفضي بعد هذا إلى وجوب استبعاد عمل المستشرقين وإقصائه في دراستهم لأمتنا وتاريخها وثقافتها.
رواد النهضة كما يراهم شاكر:………
والشيخ شاكر يرى أن الأمة كان بإمكانها أن (تنهض) وأن تدخل طوراً تجديدياً في تاريخها المعاصر، ولكن كان ما كان… ويعلق أن النهضة كان يمكن لها أن تكون على يد خمسة رجال هم:-
1- عبد القادر بن عمر البغدادي(1682م) صاحب "خزانة الأدب" في مصر، وهو الذي يعتبره الشيخ شاكر الرائد في تبنّيه إعادة قدرة الأمة على التذوق، تذوق اللغة والشعر والآداب وعلوم اللغة.
2- الجبرتي الكبير حسن بن إبراهيم (والد صاحب التّاريخ) (1774م) في مصر، ويعتبره الشيخ/ شاكر رائد في تنبيه الأمة إلى الصناعات الحضارية وعلوم الكيمياء والفلك.
3- محمد بن عبد الوهاب(1792م) في جزيرة العرب، ويعتبره الشيخ شاكر رائداً في تحقيق النّهضة الدينية، وردّ البدع والعقائد الفاسدة.
4- محمد عبد الرّزّاق المرتضى الزبيدي صاحب "تاج العروس"(1790م) في الهند وفي مصر، فهو رائد بعث التراث اللغوي الديني.
5- محمد بن علي الشوكاني(1834م) في اليمن، ويعده الشيخ شاكر إماماً في إحياء عقيدة السلف ونبذ التقليد والدعوة إلى الوحدة وتجريم التعصبّ.
ثم بين الشيخ شاكر أسباب عدم حصول النهضة، ويربط بين الإخفاق الحاصل وبين جهود المستشرقين في إيجاد الصراعات تحت عناوين:- (الأصالة والمعاصرة) و (القديم والجديد) و (الثقافة العالمية) وبالقضية الهزلية (قضية موقفنا من الغرب).
التوصيف الموضوعي لهجمة نابليون على مصر:-…(/17)
اعتبر الشيخ أن هجمة نابليون على مصر هي من أجل إجهاض ما كان يمكن أن يكون من نهضة لهذه الأمة .. يقول -رحمه الله- : وئدت (اليقظة) أو كادت، وخربت ديارها أو كادت،و استؤصلت شأفة أبنائها أو كادت، واقتطعت أسبابها بالسطو أو كادت، والحمد لله على نعماء (الحملة الفرنسية) التي كان سفاحها المبير (المتحضر) ينوي أن ييشىء لبقايا السيف والتدبير من أبناء القاهرة العتيقة المهدمة (قاهرة جديدة) يستمتعون فيها بجمالها وفنونها، ومسارحها وملاهيها، وقصورها
(50) ص75من الرسالة.
ومتنزهاتها، ويتبخترون في شوارعها خدما فارهين للسادة الأحرار أبناء "الحرية والإخاء والمساواة".(51)
بداية التغريب …
قد افاض الشيخ/ شاكر في جرائم محمد علي الألباني المسمى بالكبير، والعجيب أن بعض الإسلاميين اليوم يريدون عد ما فعله هذا الباشا الكبير هو بداية نهضة لهذه الأمة موافقة لهم للتغربيين.(52)
وكتاب الشيخ لمحة خاطفة للصراع الدائر بين الإسلام وخصومه، وكشف للأدوات الجديدة لهذا الصراع، فحري بالشباب المسلم الاطلاع عليه ودراسته.
وبعد…
هذا شيء قليل من ترجمة الشيخ الأستاذ/ محمود محمد شاكر –رحمه الله تعالى-، أردنا أن نُعَرِّفَ به، وأن نكشف عن معركة أهل الإسلام ضد زنادقة الأدب الذين ما زالوا يعيثون في عقل الأمة فساداً، وهي تنبيه لهذا الجانب العظيم (جانب الثقافة واللغة والأدب) وإشارة إلى أهميته، والذين يحتقرون هذه المعركة إنما يستخفون بهذه الأمة، إذ لا حياة لأمة من الأمم دون لغتها ودون آدابها، ولغة أي قوم هي وعاء دينهم ومشاعرهم وأحاسيسهم وهوية وجودهم، ولذلك صدق الشيخ/ شاكر عندما قال: ونحن نعرف أنك لا تحترم أية أمة ولا تقدرها إلا بعد أن تحترم لغتها وتاريخها، وليس شيءٌ أخطر على هذه الأمة من أن تجعل أبنائها يحتقرون لغتهم.(53)
والمساحة المخصصة لهذا البحث لا تسمح بالتوسع لبيان أكثر عن هذا الشيخ الجليل ومعتقداته ونتائج فكره ونظره، ولكن يكفي أن يخرج قارىء هذه الترجمة بصورة تقريبية عن شيخ العربية في هذا الزمان، وقد رأى البعض أن يسمي الشيخ (بالمحقق للتراث)، واعتبر هذا من باب التعظيم له، مع أن الشيخ كان يرفض هذا اللفظ واستبدلها بكلمة قراءة كما في مقدمة كتاب "طبقات فحول الشعراء" لمحمد بن سلام الجمحي، فإن القراءة العلمية العملية هي ما تحتاجه أمتنا في هذا العصر، القراءة التي تهضم التاريخ والتراث وتستوعبه على ما هو عليه، ثم تبدأ بعملية إنتاج لا يذهب بعيداً عن حاجات الأمة وضروراتها، ولا يسفه إلى دنايا الأمور وصغائرها، فإن التكرار آفة وإن تجملت بأثواب مصبوغة مزركشة.
لم يترك الشيخ مجلدات كثيرة من قلمه وإنشائه، لكنه ترك الكثير من الفهم والوعي والتدقيق، وكان واضحاً كل الوضوح مع كل كلمة يكتبها.
وقد ابتلي الشيخ بتلاميذ له لم يوفونه حقه كما أوفى تلاميذ الغير لأساتذتهم، فانظر إلى تلاميذ "طه حسين" وماذا فعلوا لأستاذهم، وكيف جعلوا اسمه في أبحاثهم ودراساتهم، فأين تلاميذ الشيخ من هؤلاء؟!.
وأخيراً، لقد كان الشيخ/ شاكر كما أراده أستاذه/ الرافعي حين قال له: "إن من الناس من يختارهم الله فيكونون قمح هذه الإنسانية، ينبتون ويحصدون ويعجنون ويخبزون ليكونوا غذاء الإنسانية في بعض فضائلها.(54)
رحم الله الشيخ شاكر وألحقه بالصالحين
(51) ص99-100، وقد كتب المفكر القومي الملحد ساطع الحصري فصلا رائعا (وقد يصدق الكذوب) لا أجمل منه في رد افتراءات بعض الدارسين وقولهم: إن النهضة والتنوير الثقافي والعلمي في مشرقنا بدأت بالحملة الفرنسية النابليونية على مصر، نشر في مجلة الثقافة القاهرة سنة1948، وقد أعيد طبعه مع فصول اخرى في كتاب "أراء وأحاديث في التاريخ والاجتماع" مركز دراسات الوحدة العربية.
(52) انظر ما كتبه البعض في مجلة الانسان –الإسلامية!! في عددها الأول.. وقديما قيل: اعرف المضمون من عنوانه.
(53) رياض الفكر لعبد الرازق البصير ص28.
(54) وحي القلم2/60.(/18)
لقد عطلت صلاة الجمعة في المسجد الأقصى واحد وتسعون عاماً !
فلا تيأسن فالنصر قادم !!
المتفائل الأسيف
</TD
أيها الأحبة في الله :
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته . أما بعد
إن الناظر في حال اليهود مع المسجد الأقصى وهم يهددون بهدمه بين الفينة والفينه وحال النصارى مع العراق من هنا وبلاد الأفغان والشيشان من هناك
يأتيه نوع من اليأس والإحباط وكنت أنا من ذلك النوع اليائس البائس المحبط حتى وصل بي الحال إلى أنني نقلت ذلك الإحباط واليأس إلى غيري
واستمر معي الحال حتى قرأت كتاب (( إشارات على الطريق لفضيلة الشيخ علي بن عبد الخالق القرني حفظه الله )) والذي وجدته في مكتبة هذا الموقع المبارك -صيد الفوائد- الذي أسأل لله أن يجزي القائمين عليه خير الجزاء ووجدت فيه فصلاً عنون له الشيخ بـ (( لا تكن يائساً )) وقد ذكر فيه قصصاً وكلاماً فيه من البلاغة الشي الجميل فنقلته لكم بتصرف وإنني اتمنى أن ينال إعجابكم واستحسانكم وأن يجعلكم متفائلين مثلي ,وأترككم الآن مع كلام الشيخ :
إشارة : لا تكن يائساً
(( فالمستقبل لدين الله والعزة لأولياء الله. منا من رأى تفشي الشر والمنكر وانتشاره واستفحاله رأى العدو تبجح وتقوى وتحت ظل هذه الرؤية رأى أنه مهما عملنا فلن نغير من الواقع شيء ولن نجني سوى التعب والمشقة فليس إذا في السعي فائدة. فإذا بك تنظر إليه متهجم الوجه عاقد الحاجبين مقطب الجبين رافعاً راية: لو أسلم حمار آل الخطاب ما أسلم عمر يحسب يوم الجمعة الخميسا مردداً حين يطلب منه خدمة دينه –ولو بالكلمة- : أنت تؤذن في خرابة لا أحد حولك تنفخ في قربة مقطوعة وغيرها من عبارات :
تصدا بها الأفهام بعد صقالها .......... وترد ذكران العقول إناثاً
هلك الناس ...هلك الناس في نظره وقد هلك، وصف النبي صلى الله عليه وسلم وصفا دقيقا كما في صحيح مسلم : (( إن قال الرجل هلك الناس فهو أهلكهم)) .
معاشر المؤمنين : مما لا شك فيه أن حقائق اليوم هي أحلام الأمس . وأحلام اليوم هي حقائق الغد. والضعيف لا يظل ضعيفا أبد الآبدين. والقوي لا يظل قوي أبد الآبدين. ( وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ) (القصص:5 -6).
إننا نملك إيمانا بنصر الله لنا وثقة بتأييديه لنا ويقينا بسنة الله في إحقاق الحق وإبطال الباطل ولو كره المجرمون واطمئنانا إلى وعده الذي وعد به عباده المؤمنين ( لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً) (النور:55).
إنه وعد يشحذ الهمم ويستثير العزائم ويملأ الصدور ثقة واطمئنانا إن الدور لنا لا علينا والتاريخ معنا ( إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ) (الصافات:172). سنة الله رب العالمين قال صلى الله عليه وسلم : (( لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون))، (( وليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار ولا يترك الله بيتا مدر ولا بر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل)) كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم. فانت أيها المؤمن أجير عند الله كيفما أراد ان تعمل عملت وقبضت الأجر لكن ليس لك ولا عليك أن تتجه الدعوة إلى أي مصير ذاك شأن صاحب الأمر لا شأن الأجير، وحسبك أن من الأنبياء من ياتي يوم القيامة ومعه الرجل ومعه الرجلان والثلاثة ويأتي من ليس معه أحد ( فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ) (الشورى:48).
( وآية الآيات في هذا الدين أنه أشد ما يكون ٌقوة وأصلب ما يكون عودا وأعظم ما يكون رسوخاً وشموخاً حين ننزل بساحته الأزمات وتوصد عليهم المنافذ حينئذ يحقق الإسلام معجزته ينبعث الجثمان الهامد يتدفق الدم في عروق أبنائه ينطلق ينتفض).
يقول فيسمع ويمشي فيسرع ........... ويضرب في ذات الإله فيوجعُ
فإذا النائم يصحوا وإذا الغافل يفيق وإذا الجبان يتشجع وإذا الضعيف يتقوى وإذا الشتيت يتجمع وإذا بهذه القطرات المتابعة المتلاحقة من هنا وهناك من جهود القلة تكون سيلاً عارماً لا يقف دونه حاجز ولا سد).
لا يزخر الوادي بغير شعاب .......... وهل شمس تكون بلا شعاع
إن هذه الأمة تمرض لكنها لا تموت وتغفو لكنها لا تنام وتخبو لكنها لا تطفأ أبداً .(/1)
حين غزا التتار ديار المسلمين ودخلوها كالريح العقيم ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم دمروا المدن وخربوا العمران وأسالوا الدماء وأسقطوا الخلافة وعطلوا الصلوات وألقوا أسفار المكتبات في نهر دجلة حتى اسودّ ماؤه من كثر ما سال من مداد الكتب حتى أصبحت حضارة الإسلام والبشرية مهددة من هذا الغزو الوحشي الذي لا يبقي ولا يذر والذي يذكر بما جاء في وصف يأجوج ومأجوج حتى أحجم بعض المعاصرين للحدث عن الكتابة فيه منهم ابن الأثير رحمه الله الذي يقول ليت أمي لم تلدني ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا. مما رأى . من هول الفاجعة التي حلت بالمسلمين . ظن اليائسون حينها أن راية الإسلام نكست ولن ترتفع بعد ذلك اليوم أبداً وأن أمة الفتح والنصر قد حقت عليها الهزيمة فهيهات أن تعود إلى الميدان من جديد، ولم يمض سوى سنوات حتى تحققت معجزة الإسلام فإذا بهؤلاء الجبابرة الغازين للإسلام يغزوهم الإسلام فتسقط سيوفهم في صف المؤمنين تحت تأثير العقيدة الإسلامية فإذا بهم يدخلون بهم في دين المغلوبين على خلاف ما هو معروف أن المغلوب مولع دائما بتقليد الغالب المنصور ( لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ) (الروم:4). ( وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (الجاثية:26). ( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً) (فاطر:44)
لا تيأسوا إن تستردّوا عزكم .......... فلرب مغلوب هوى ثم ارتقى
وتجشموا للعز كل عظيمة ............. إني رأيت العز صعب المرتقى
إن قراءة متأنية لتاريخ الصلبيين وبيت المقدس تعطي الأمل بان الواقع سوف يتغير فاسمع إلى ابن كثير (في البداية والنهاية) وغيره من أهل السير وهم يسردون لك هذا الحدث: ( وفي ضحى يوم الجمعة لسبع بقين من شعبان سنة اثنين وتسعين وأربعمائة للهجرة دخل ألف ألف مقاتل بيت المقدس وصنعوا فيه ما لا تصنعه وحوش الغاب وارتكبوا ما لاترتكب أكثر منه الشياطين لبثوا فيه أسبوعا يقتلون المسلمين حتى بلغ عدد القتلى أكثر من ستين ألفا منهم الأئمة والعلماء والمتعبدون والمجاورون وكانوا يجبرون المسلمين على إلقاء أنفسهم من أعالي البيوت لأنهم يشعلون النار عليهم وهم فيها فلا يجدون مخرجا إلا بإلقاء أنفسهم من السطوح جاسوا فيها خلال الديار وتبروا ما علوا تتبيرا، وأخذوا أطنان الذهب والفضة والدنانير ثم وضعت الصلبان على بيت المقدس وأدخلت فيه الخنازير ونودي من على مآذن لطالما أذن بالتوحيد من عليها : أن الله ثالث ثلاثة- جل اله وتبارك- فذهب الناس على وجوههم مستغيثين إلى العراق وتباكى المسلمون في كل مكان لهذا الحدث وظن اليائسون ألا عودة لبيت المقدس أبداً إلى حظيرة المسلمين .
كم طوى اليأس نفوسا لو رأت .......... منبتا خصبا لكانت جوهرا
ويمضي الزمن ويعد الرجال وفي سنة ثلاثة وثمانين وخمسمائة للهجرة أعد صلاح الدين جيشا لإسترداد بيت المقدس وتأديب الصلبيين على مبداهم هم : إن القوي بكل أرض يتقي وفي وقت الإعداد تأتيه رسالة على لسان المسجد الأقصى تقول:
يا أيها الملك اذي ............ لمعالم الصلبان نكس
جاءت إليك ظلامة تسعى ...... من البيت المقدس
كل المساجد طهرت وأنا ....... على شرفي أنجس
فانتخى وصاح وا إسلاماه وامتنع عن الضحك وسارع في الإعداد ولم يقارف بعدها ما يوجب الغسل .
من ذا يغير على الأسود بغبها ........ أو من يعوم بمسبح التمساح
وعندها علم الصلبيون أن هذا من جنود محمد صلى الله عليه وسلم فتصالح ملوك النصارى وجاؤا بحدهم وحديدهم وكانوا ثلاثة وستين ألف فتقدم صلاح الدين إلى طبريا ففتحها بلا إله إلا الله فصارت البحيرة إلى حوزته استدرجهم إلى الموعد الذي يريده هو ثم لم يصل إلى الكفار بعدها قطرة ماء إذ صارت البحيرة في حوزته فصاروا في عطش عظيم.
وعندها تقابل الجيشان وتواجه الفريقان وأسفر وجه الإيمان وأغبر وجه الظلم والطغيان ودارت دائرة السوء على عبدة الصلبان عشية الجمعة واستمرت إلى السبت الذي كان عسيرا على أهل الأحد إذ طلعت عليهم الشمس واشتد الحر وقوي العطش وأضرمت النار من قبل صلاح الدين في الحشيش الذي كانت تحت سنابك خيل الكفار فاجتمع عليهم حر الشمس وحر العطش وحر النار وحر السلاح وحر رشق النبال وحر مقابلة أهل الإيمان.
وقام الخطباء يستثيرون أهل الإيمان ثم صاح المسلمون وكبروا تكبيرة اهتز لها السهل والجبل ثم هجموا كالسيل الدفاع لينهزم الكفار ويؤسر ملوكهم ويقتل منهم ثلاثون ألفاً حتى قيل لم يبق أحد ويؤسر منهم ثلاثون ألفا حتى قيل لم يقتل أحد، فلم يسمع بمثل هذا اليوم في عز الإسلام وأهله إلا في عهد الصحابة، حتى ذكر ان بعض الفلاحين رؤي وهو يقود نيفا وثلاثين أسيرا يربطهم في طنب خيمته، وباع بعضهم أسيرا بنعل يلبسها، وباع بعضهم أسيرا بكلب يحرس غنمه.(/2)
ثم أمر السلطان صلاح الدين جيوشه أن تستريح لتتقدم إلى فتح بيت المقدس، ففي هذه الإستراحة كيف كانت النفوس المؤمنة التي لا تيأس ؟ : الرؤوس لم ترفع من سجودها، والدموع لم تمسح من خدودها، يوم عادت البيع مساجداً ، والمكان الذي قال فيه : إن الله ثالث ثلاثة صار يشهد فيه : أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ثم سار نحو بيت المقدس ليفتح من الجهة الشرقية ويخرجهم منه فكان له ذلك على أن يبذل كل رجل منهم –ويخرج ذليلا- عن نفسه عشرة دنانير وعن المرأة خمسة وعن الطفل دينارين ومن عجز كان أسيرا للمؤمنين، فعجز منهم ستة عشر ألفاً كانوا أسراء للمسلمين.
ودخل المسلمون بيت المقدس، وطهروه من الصليب وطهروه من الخنزير، ونادى المسلمون بالآذان ووحدوا الرحمن وجاء الحق وبطلت الأباطيل وكثرت السجدات وتنوعت العبادات وارتفعت الدعوات وتنزلت البركات وتجلت الكربات وأقيمت الصلوات وأذن المؤذنون وخرس القسيسيون وأحضر منبر نورالدين الشهيد عليه رحمة الله الجليل الذي كان يأمل أن يكون الفتح على يديه فكان على يدي تلميذه صلاح الدين، ورقى الخطيب المنبر في أول جمعة بعد تعطل للجمعة والجماعة في المسجد الأقصى دام واحد وتسعين عاما، فكان مما بدأ به الخطيب خطبته بعد أن حمد الله أن قال: ( فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الأنعام:45)، ( لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ) (الروم:4).
معاشر المسلمين: إن الأقصى لم تعطل فيه الجمعة ولم تعطل فيه الجماعة ومع ذا :
يئست أنفس ونامت عيون ....... فجراح تغدو وتأتي جراح
فأين النجم من شمس وبدر ...... وأين الثعلبان من الهزبر
المؤمن لا يعر ف اليأس ولا يفقد الرجاء إذ هو واثق بربه ثم هو واثق بحق نفسه ثم هو واثق بوعد الله، إن مرت به محنة اعتبرها دليل حياة وحركة فإن الميت الهامد لا يضرب ولا يؤذى وإنما يضرب ويؤذى المتحرك الحي المقاوم- كما قيل – كالذهب والحديد يدخل النار فيستفيد إذ يذهب خبثه ويبقى بهاؤه.
يؤلف إيلام الحوادث بيننا .......... ويجمعنا في الله دين ومذهب
إن علينا –معشر المسلمين- أن نكون بحجم التحديات بصبر وثبات ولسان حال كل واحد منا :
فيقصر دون باعي كل باع ........... ويحصر دون خطبتي الخطيب
إني أبيٌَ أبيُ ذو مغالبة ............ وابن أبيّ أبيّ من أبيين
إن الوصول إلى القمة ليس الأهم لكن الأهم البقاء فيها، إن الإنحدار إلى القاع ليس هو الكارثة لكن الكارثة هو الاعتقاد أنه لا سبيل إلى الخروج من القاع، ليس والله الدواء في بكاء الأطلال وندب الحظوظ إنه في الترفع عن الواقع بلا تجاهل له، فالاستعلاء النفسي عليه في تحرر للفكر من إرهاقه ويأسه وخباله، بإرادة قوية حرة أبية يمكن تحويل عوامل الضعف إلى القوة باذن رب البرية ( إن الرسول صلى الله عليه وسلم حين حصل في أحد ما حصل شج وجهه وكسرت رباعيته وانخذل عنه من انخذل وإذا به يزيل الآثار النفسية من قلوب المؤمنين بنقلهم إلى مواجهة جديدة في حمراء الأسد لملاحقة المشركين الذين لو كانوا حقا منتصرين لما ولوا الأدبار قافلين ولقضوا على البقية الباقية من المسلمين وهذا يدل على حكمة الرسول الأمين عليه صلوات الله رب العالمين، وأبو بكر رضي الله عنه يأتي من بعده وقد تربى على سنته بعد أن كادت نواة الإسلام تضيع في طوفان الردة، فإذا به ينقل الأمة نقلة من واقع إلى واقع بتأب عن اليأس وترفع على الهزيمة وحاله:
فليس يجلي الكرب رأي مسدد ........... إذا هو لم يؤنس برمح مسدد
إن المستقبل لهذا الدين بدون منازع ولكنه لا يتحقق بالمعجزات السحرية ولكنه بالعمل والبذل والدعوة إلى الله من منطلقات صحيحة على منهج أهل السنة والجماعة ( ووعد الله لن يتخلف لكنه لن يتحقق أبدا على يد أقوام لا يستحقونه ولا يفهمون سننه ولا يضحون من أجله).
فإذا حاولت في الأفق منىً .......... فاركب البرق ولا ترضى الغماما
وما السيف إلا زبرة لو تركته ......... على الخلقة الأولى لما كان يقطع
ألا أنني لا أركب اليأس مركبا ......... ولا أكبر البأساء حين تغير
نفسي برغم الحادثات فتية .......... عودي على رغم الحوادث مورق
أيها اليائس مت قبل الممات .......... فإذا شئت حياة فالرجا
لا يذيق ذرعك عند الأزمات ........... إن هي اشتدت فأمل فرجا
البيض تصدأ في الجفون إذا ثوت ...... والماء يأسن إن أقام طويلاً
صانع السيف كمن يشهره ......... في سبيل الله بين الجحفل
حقق الله لنا آمالنا .......... وعلى الله بلوغ الأمل ))
هذا وصلي اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم(/3)
لقد كان في قصصهم عبرة
13/5/1424
أ. د .ناصر بن سليمان العمر
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين، وبعد:
فقد أكرمني الله _سبحانه وتعالى_ بأن عشت مع سورة يوسف – عليه السلام – عدة سنوات قارئاً ومتأملاً، فألفيت فيها كنزاً ودرراً، ومن ثم قمت بإلقائها دروساً لطلابي، بعد ذلك سجلتها عدة حلقات لنشرها من أجل أن تعم الفائدة منها، وفي هذا المقال أذكر مختصراً بعض تلك الدروس والعبر، اكتفيت فيها بالإشارة عن طول العبارة ، حيث إن التفصيل والشرح ومزيد البيان سيكون عند نشر تلك الحلقات – إن شاء الله – ، وآمل أن يكون ذلك قريباً.
فإليك أخي الكريم أهم تلك الدروس والعبر راجياً أن نفيد منها لنكون من أولي الألباب الذين قال الله فيهم: "لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ" (يوسف:111):
1. أن الوحي هو المصدر الوحيد الصادق لمعرفة أخبار السابقين.
2. قوة الارتباط بين أمة محمد والأمم السابقة، المبني على الارتباط الوثيق بين أنبياء الله ورسله _عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام_، فالأنبياء إخوة لعلات دينهم واحد وشرائعهم شتى.
3. أن مشكلات اليوم لها مايشابهها في الأمم الماضية، ومن هنا فإن كثيراً من وسائل حلّ تلك المشكلات في الماضي من أنجح الأساليب لحلّ مشكلات اليوم.
4. أن الصبر مفتاح كل خير، وعلاج كل مصيبة، وأعظمه الصبر الجميل.
5. كلما ازداد الأمر شدّة وضاقت الأرض على صاحبها قرب الفرج، وإن ظنّه الإنسان بعيداً، وبسبب الجهل بهذه الحقيقة كم ضاعت من فرص عظيمة على من ابتلي بمصيبة فاستعجل الأمر قبل أوانه، وكان الفرج قاب قوسين أو أدنى منه.
6. الإحسان البوابة الكبرى للولوج إلى قلوب الناس، والتربع على تاج السؤدد والقيادة والعز في الدنيا والآخرة.
7. الأخذ بالأسباب وإن بدت في الظاهر غير مؤثرة من أعظم وسائل تحقق المقصود، وهي باب من أبواب الإيمان والتوحيد.
8. إذا علم الله صدق المؤمن وإخلاصه وتقواه وصبره، يسّر له من الأمور مالايخطر له على بال، ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لايحتسب.
9. التفاؤل هبة من الله يكرم بها من يشاء من عباده، وهو جنة في الصدور، ومركب متين في الأزمات، ونعم الرفيق في الطريق.
10. المكر عاقبته وخيمة، وآثاره أليمة، وهو خيانة وشتيمة، والله لا يهدي كيد الخائنين، ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين.
11. التوحيد رأس الأمور وذراها، به بعثت الرسل، وأنزلت الكتب، ولأجله انقسم الناس بين مؤمن وكافر، وتقي وفاجر.
12. من استعجل شيئاً بغير طريق حله، لم يحصل على المراد، ولم يسلم من الإثم والعار والعقاب.
13. الحسد سلاح ذو حدين، يصيب الحاسد ويبلغ فيه مالايبلغ في المحسود ويؤذيه، فهل يعتبر الحاسدون.
14. أقدار الله نافذة، وإرادته ماضية، لايعجزه شيء، ولايحول دون مراده حائل، ونحن مطالبون بأن نقابل الأقدار الكونية بالأقدار الشرعية، وكل ذلك داخل في إرادته ومشيئته وقضائه وقدره، فنفر من قدر الله إلى قدر الله.
15. حبل الكذب قصير، وما أفلح كاذب، فأما الزبد فيذهب جفاء، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض.
16. العلاقة بين ما يرى النائم وبين حاله في اليقظة،ولهذا قد تكون الرؤية بشارة أو نذارة، وعن طريقها قد يتوقع غائب أو مجهول، لكن تأويل الرؤيا له أصوله وضوابطه، فهو علم وإلهام يؤتيه الله من يشاء.
17. الإيمان بعلم الله وحكمته يجلب للمسلم الطمأنينة والراحة والسكون، ومعرفة الأسماء والصفات والتصديق بهما يورث في القلب نوراً وبصيرة.
18. الانتصار على النفس أعظم وسائل الانتصار على الغير، ومن هزمته نفسه فلا يرجى أن ينتصر على عدوه، وقبل أن ينهزم اليهود أتاهم الله من حيث لم يحتسبوا.
19. الارتجال والفوضى لا تجلب الخير والسعادة، والتخطيط وبعد النظر سرّ الاستقرار والنماء والبقاء.
20. الشماتة فساد في الطوية، ومصيبة ورزية، لا تضر أحداً كما تضر صاحبها، وفي الأثر ولا يصح حديثاً: "لا تشمت بأخيك فيعافيه الله ويبتليك".
21. إذا فشت المعصية سهل ارتكابها، وهان على النفوس عارها ومصيبتها، وامرأة العزيز غلقت الأبواب في الأولى، فلما علمت النسوة أعلنتها صريحة داعية للفحشاء دون حياء أو خجل.
22. ما يتوهم أنه البلاء والمحنة، قد يكون هو العز والتمكين والمنحة، فما زاد البلاء المؤمنين إلا عزة ورفعة وتمكيناً قال _تعالى_: "وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ" (يوسف:56).(/1)
23. لا يستطيع أحد من البشر أن يحول بينك وبين تبليغ رسالة ربك إذا صدقت النية، وشبت العزيمة، وطلبت العون من الله، "بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره"، يقول_ تعالى_: "يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ" (يوسف: من الآية39).
24. لا تشغل نفسك كيف يأتي الفرج، فهذا ليس لك، وعليك بحسن الظن بمن بيده ملكوت السماوات والأرض، والأخذ بالأسباب الموصلة إليه، ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب.
25. لا تندم على بذل الإحسان حتى لعدوك، فثمن ذلك يأتي عاجلاً أو آجلاً،ولكن لا يقدر على ذلك إلا عظماء الرجال، وسادة الأمم "وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ" (فصلت:35).
26. استثمار الفرص إذا سنحت منهج تباشره النفوس السوية ذات الهمم العلية، وتحقق من خلاله المجد وتبلغ به المراد، وهكذا كان يوسف في كل مراحل حياته مستثمراً لكل فرصة سنحت في سرائه وضرائه، وانظر كيف كانت عاقبته ومآله.
27. موازين تقييم الرجل جماعه العقل، وتاجه العلم، وسياجه الحلم، فمن توافرت فيه هذه الصفات حاز المجد والسؤدد من أطرافه وجوانبه، فلا تغتر بالمظاهر وابحث عن الحقائق والمخابر.
28. الأمور بمآلاتها ومقاصدها، وليست العبرة في الألفاظ والكلمات؛ لأن الأعمال بالنيات، فمدح النفس قد يكون قربة وعقلاً، وقد يكون إثماً وقدحاً.
29. المرء يكتب تاريخه، فمن عرف بالكذب لا يحزن إن كذَّبه الناس إذا صدق، وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون.
30. عامل الناس بأخلاقك لا بأخلاقهم، وبهذا تحوز على الإطراء والثبات وحسن الذكر، ومن عامل الناس بأخلاقهم فسيكون محصلة لأخلاط من الأخلاق، كل يوم له خلق لا ثبات له ولا دوام.
31. الحيل منها المشروع ومنها الممنوع، فحيلة إخوة يوسف على أبيهم ارتدت عليهم، وجلبت لهم ولأبيهم البلاء والعناء، بينما حيل يوسف كانت طريقاً للسعادة والهناء.
32. البريء حقيقة لا يضره الكذب والافتراء، فمن كان موقناً بسلامة موقفه، وصدق ظاهره وباطنه، فسيرتد السهم إلى شانئه وباهته، فإن الله لا يهدي كيد الخائنين، ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله.
33. الاستشارة منهج العقلاء، ووسيلة الأسوياء، وهي استثمار للعقول، وشفاء للصدور، وتحقيق للمراد والمأمول.
34. لا تبث شكواك لمن لا يملك لها حلاً ولا عقداً، فضلاً عمن يشمت بك ويتسلى، فكن كيعقوب كان منهجه "إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ" (يوسف: من الآية86).
35. اقطع رجاءك من الخلق، وعلق قلبك بالخالق، ولا يعارض ذلك بذل الأسباب، بل هو من خير وسائل تحقيق المراد.
36. العفو زينة الرجال وتاجها، وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً، "وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ" (الشورى:43).
37. الأخبار السارة تنعكس آثارها على الفرد والجماعة، فإن لم تقدر على صنعها، فكن مبلّغاً لها، واحذر من بث خبر السوء فليس ذلك من شيمة الأسوياء.
38. كن معتدلاً في مواقفك وآرائك، واحذر الجزم والقطع بأمر لا تملك دليله، فيكون الأمر خلاف ما ذكرت فتندم بعد فوات الأوان، كما حدث لإخوة يوسف عندما قالوا: "تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ" (يوسف: من الآية95)، فمن كان في ضلاله ياترى؟
39. الاستغفار مفتاح كل عسير، وجابر لقلب كل كسير، وهاد عند كل أمر محير.
40. إعادة الفضل لأهله من شيم الرجال الأوفياء، وسبب لاستمرار الخير والفضل والعطاء.
هذه بعض الدروس والوقفات، أسأل الله أن ينفعني والقارئين بها، وأن ييسر تمام إخراجها، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.(/2)
لقد كان في قصصهم عبرة
6/2/1425
أ.د. ناصر بن سليمان العمر
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ" (آل عمران:102)، "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً" (الأحزاب:70، 71).
أما بعد فهذه سلسلة مقالات أقف فيها مع آيات في سورة يوسف، أسأل الله أن ينفع بها، وسوف أسلك في الوقوف مع الآيات مسلك التفسير الموضوعي؛ لحاجة الناس إلى استخراج ما يلمس واقع حياتهم، من الموضوعات التي عرضت في القرآن الكريم، كما أن التفسير التحليلي أُلفت فيه الأسفار العظام ولم يذر من ذهب لمن بقي فيه إلاّ الأثر، ولعلي أشير إلى ما دعت الحاجة إليه في موضوعه.
أسباب اختيار الموضوع:
أما اختياري للوقوف مع هذه الآيات فقد جاء لأسباب كثيرة، أهمها:
- ضرورة ربط واقع الناس بالقرآن والسنة، لما لهما من أثر على حياة الفرد والأمة، خاصة وأن الأمة تعيش وهناً وضعفاً لم تمر بمثله في تاريخها، وكلنا يبحث عن العلاج والعلاج في القرآن "إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ" (الإسراء: من الآية9)، وكلنا يرجو السلامة والنجاة من مضلات الفتن التي تتابع والنجاة في القرآن، قال النبي _صلى الله عليه وسلم_ يقول: "تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدا كتاب الله وسنتي".
فرغد الحياة في كتاب الله _جل وعلا_، ومعالجة مشكلات الحياة في ضوء القرآن الكريم من أقوى وسائل الخروج منها، بل من أقوى أسباب رقي الأمة، والعود بها إلى سابق عهدها، الذي كان يعيشه السلف الصالح _رضوان الله تعالى عليهم_.
- ومن أسباب اختيار سورة يوسف: نزولها في وقت حرج عاشه الصحابة الكرام _رضوان الله عليهم_، فقد نزلت في العهد المكي، والمسلمون في وقت شدة، لا تزال تكتنفهم أجواء عام الحزن، مع ترقبهم لبيعة العقبة الأولى وما ستسفر عنه.
فنزلت السورة في تلك الأجواء، شاحذة للهمم، مسلية عما مضى، مبينة السبيل التي سلكها من سبقهم للخروج من أزماتهم.
ففي قصة يوسف عظة وعبرة لهم، إذ مر _عليه السلام_ بأصناف من المحن والابتلاءات، ثم خرج منها جميعاً بتوفيق الله.
وفي الوقت نفسه تعيش أمتنا اليوم وقتاً حرجاً من تاريخها، خاصة بعد الغزو الغربي لأمة الإسلام، وعودة عصور الاستعمار، التي خلت، فبعد أن رزحت الأمة تحت وطأة الاستعمار عقوداً دُرست فيها معالم من علم الشريعة، كانت لا تخفى بين الناس، بدأت آثار الاستعمار تنحسر بقيام الصحوة الإسلامية المباركة في المشارق والمغارب، فلم يجد الأعداء بداً من إعادة الكرة للحيلولة بين الأمة وبين نهضتها.
ولما كان الارتباط بين الأمم السابقة واللاحقة وثيقاً، لتشابه الأحوال والظروف، وتوافق الطبع البشري ، وإن اختلفت العصور والآلات، كان من الطبيعي أن تكون في قصة يوسف دروس تناسب حال من نزل عليهم القرآن، وكذلك تناسب المسلمين في كل زمان ومكان،
ولعل من الدروس المهمة المستقاة من نزول سورة يوسف وبيان تفاصيل قصتها للصحابة الكرام، في ذلك الوقت، هو: بيان أن قراءة سير الأولين، وأخبار القرون الماضين، من أعظم الأسباب التي ترفع من شأن الأمة وتزيد من كفاءتها، ولهذا قال الله في كتابه العزيز في أكثر من موضع: "أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا" (يوسف: من الآية109) وقد تكرر معناها.
وقد انتزع بعض أهل العلم من قول الله _جل وعلا_: "لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ" (يوسف:7)، أن هناك من سأل النبي _صلى الله عليه وسلم_ عن قصة يوسف فنزلت هذه السورة.
وهذا لا يعارض ما سبق بيانه، فالله يسر سؤال السائل وقدره لحكمة عظيمة، منها ما يتعلق بواقع المسلمين إذ ذاك.(/1)
وإذا تأملت قول الله: "لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ" (يوسف:7)، بدا لك أن اللفظ أعم وأشمل من مجرد الإجابة على سؤال خاص، بل اللفظ مشعر بأن فيها جواباً لكل سؤال، وهذا ما رأيته في هذه السورة العظيمة، فإن هذه السورة اشتملت على أحكام شرعية تتعلق بفروع شتى، كما أنها تطرقت لأصول عظيمة تتعلق بالعقائد، والأحكام، والسياسات، والاقتصاد، والتربية، والاجتماع، وإذا تأملت خبر يوسف مع صاحبي السجن، وجدت طرفاً من أصول منهج الدعوة، فعندما سأل السجينان يوسف –عليه السلام- عن الرؤيا بدأ بالتوحيد، فدعا إليه رغم ظروف سجنه، ولم يعد السجن عائقاً عن الدعوة، بل جاء في السورة تقرير منهج الدعوة مجملاً: "قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ" (يوسف:108).
والأمة الآن قد بعدت عن عهد النبوة، وبعدت في بعض جوانب حياتها عن المنهج النبوي، وحدث الخلل في المنهج، وتبعاً لذلك تأخر الانتصار وضعفت نتائج الدعوات، وفي هذه السورة بيان المنهج النبوي الذي إن أخذنا به، فلن نضل مصداقاً لقوله _صلى الله عليه وسلم_: "تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا أبدا كتاب الله وسنتي".
وبالجملة فإن في السورة أحكاماً تتعلق بجميع شؤون الحياة، سيتناول الحديث _إن شاء الله_ بعضها في حلقات مقبلة.
ولعلي أتمم هذا المقال بآخر أفرده لذكر شيء مما جاء في هذه السورة العظيمة، وما تعرضت له من حكم وأحكام.
أسال الله أن ينفعنا بالقرآن، وأن يرزقنا العبرة بما نسمع، وصدق الله "لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى" (يوسف: من الآية111).
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(/2)
لقد نجحت حماس فهل ينجح الشعوب والقادة المسلمون ؟
لم تفتضح أمريكا ودول الغرب أول مرة، وإنما ظلّت – وستظلّ – تفتضح في قارعة الطريق فيما يتعلق بديموقراطيّتها المزعومة التي اتّخذتها "عجلاً جسدًا له خوار" لتضليل الشعوب والأمم في أرض الله الواسعة في جانب، واتخذتها – الديموقراطيةَ المزعومةَ – مطيّةً لتحقيق مآربها من الشعوب والأمم في جانب آخر؛ ولكنّها ربما لم تفتضح في الماضي افتضاحَها بالموقف الظالم الذي وقفته من "حماس" التي انتخبها الشعب الفلسطيني في الانتخابات العامة التي مضت لتحكمه وتُكْسِبَ الفلسطينيين الأمنَ وبعضَ القناعة التي ظلّوا يفتقدونهما منذ أن بَدَأَ عرضُ المسلسلِ السّلاميّ الخادع برعاية أمريكا، الذي لم يزدهم إلاّ استعبادًا وتبعيّةً ومظلوميّةً .
الشعبُ الفلسطينيُّ الذي جَرَّبَ حركةَ "فتح"، وتَعَامَلَ معها في الحكم والإدارة طويلاً هو الذي استَبْدَلَ "حماس" بها، وأولاها الأغلبيةَ، وصَوَّت لصالحها مقابلَ "فتح" ليُجَرِّب إسلاميّتَها وانتماءها الفلسطيني الواقعي مقابلَ علمانيّة "فتح" وميوعتها وضياعها بالانتماء غير الإسلامي، وبالولاء للعلمانيّة الغربيّة، وبالتنكّر للاتجاه الدينيّ الذي اعتبرته دائمًا عائقًا في طريق السلام وإكسابها هويّة "الاعتدال".
إن انتصار "حماس" على "فتح" كان مقياسًا لمصداقية أمريكا والغرب في شأن الديمقراطية التي ظلتا – ولا تزالان – تُطَبِّلانِ لها وتتظاهران بالإخلاص في عبادتها وتقديسها وإيثارها على جميع الحقائق السياسيّة باعتبارها مفتاحًا ذكيًّا للإنصاف مع الشعب وحكم الشعب نفسَه بنفسه في سيادة مطلوبة وبصلاحية منشودة وبحريّة مطلقة غير مقصوصة الجناح .
فعداؤهما – أمريكا والغرب – لحماس واعتراضهما طريقَ حماس إلى الحكم ، وفرضهما عليها الحصار الاقتصادي والعزل السياسي وإشارتهما على إسرائيل بالامتناع الكامل عن دفع ما لديها من مبالغ الضرائب التي يدفعها الفلسطينيون لصالح حكومتهم وإدارتهم، وتهديدهما البنوك في العالم كله ولاسيّما في الدول العربية وبالذات في دول الجوار بالويل إذا حَوَّلَتْ المبالغَ الآتية من مسلمي العالم إلى الفلسطينيين. ما إن وصلت حماس إلى الحكم حتى فرضت أمريكا والاتحاد الأوربي الحصارَ الاقتصاديّ الشامل ضدها وامتنعت عن التعامل معها بشكل من الأشكال، مرددة كلمة واحدة: لتعترف حماس بإسرائيل وبسريان مفعول الاتفاقيات السلامية المبرمة بين إسرائيل وفتح ، ولتنته عن إرادتها لمقاومة إسرائيل المسلحة. وقد صَرَّحت حماس أنّها لن تخضع أمام شروط أمريكا والغرب وإملاءاتهما الظالمة وقد صَوَّت الشعب الفلسطيني لصالح موقفها الإسلامي ومبدئها المتمثل في المقاومة والصمود في وجه الوحشية الإسرائيلية .
لقد ثبت بما لايدع مجالاً للشك أنّ أمريكا والغرب لايهمّهما الديموقراطية ومبادئ العدل وحقوق الإنسان ومصالح الشعوب والأمم – التي تتظاهران بالتعاطف معها – وإنما يهمهما أولاً وآخرًا المصالح الغربية الأمريكية الصهيونية الصليبية . فكل شيء معبود لديهما ومقدس عندهما إذا ساعدهما على تحقيق هذه المصالح، وكل شيء مرفوض مردود إذا عارضهما في مصالحهما. فالديموقراطية ومبادئ العدل وحقوق الإنسان وغيرها من الشعارات البراقة كلها تخضع لمقياس المصالح، ومعيار الأنانية الأمريكية الغربية .
ومحاربتهما "حماس" والاتجاهات الإسلامية في كل مكان في العالم باسم محاربة "الإرهاب" ليست أول دليل على نفاقهما ولكنهما دائما تبنّتا الظلم والاستعمار والاستعباد تجاه الإسلام والمسلمين. ليس العجيب موقف الغرب وأمريكا تجاه كل ما يمت إلى الإسلام بصلة، وإنما العجيب تغاضي القادة والحكام المسلمين والعرب عن كل موقف عدائي للغرب وأمريكا من الإسلام ، واعتبار ذلك نابعًا من المبدئيّة وآليّة العدل والإنصاف .
إنّ تراجع حماس – إذا اضطرت ولم يبق لديها إلاّ خيار التراجع لا قدّر الله – أمام الضغوط الأمريكية الغربية العالمية المُمدَّة بالتقاعد العربي والتجاهل الإسلامي والتخاذل العامّ من قبل الحكام المسلمين، سيكون خسارة غير مسبوقة في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، وسيكون خطأ لن يغفره التاريخ. وقد نجحت حماس في الامتحان وبقي أن تنجح الشعوب والقادة المسلمون ، وأن يقولوا لأمريكا والغرب: اصنعا ماشئتما فإننا قد آثرنا أن نحتفظ بحق تقرير مصيرنا بأيدينا، وها نحن الشعوب والحكام المسلمين العرب قد تعاضدنا وتضامنّا واتّحدنا، ولاحاجة بنا إليكم أيها الغرب والأمريكان . إليكم أيها الكلاب والذئاب، فلوموا ما بدا لكم واغضبوا وموتوا بغيظكم في أيّ واد شئتم . لقد آن الوقت أن نقاطع أمريكا والغرب وكل دول العالم تودّ أن تحاصرنا مثل ما صنعنا في قضية الرسوم المسيئة إلى سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، فاهتز العالم وارتعد الغرب والشرق .(/1)
إن الساعة تتطلب من الجماهير والقادة المسلمين الوقفة الشجاعة الصامدة الجريئة : وقفة صلاح الدين ، وفقة السلاطين والقادة المسلمين الصالحين ؛ لتنحلّ كل قضية عالقة، وكل أزمة معقدة، وكل مشكلة تستعصي على الحلّ. فهل تتحقق هذه الوقفة بإذن الله؟! إن الشعوب الإسلامية في كل مكان في العالم ينتظرونها بفارغ الصبر . [التحرير]
(تحريرًا في الساعة 10 من صباح يوم السبت 11/ ربيع الثاني 1427هـ = 20/مايو 2006م)(/2)
لقطات من رحلتي مع نحلة
التاريخ : 11/11/2005
الكاتب : طارق حسن السقا ... الزوار : 4043
< tr>
دفعتني نحلة إلى رحلة. الرحلة لم أكن قد خططت لها. و مكان الرحلة كان إلى عالم النحل العجيب. سبب هذه الرحلة حديث نبوي.فلقد قرأت ما جاء في شعب البيهقي عن مجاهد قال : صاحبت عمر بن الخطاب رضي الله عنه من مكة إلى المدينة فما سمعته يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا هذا الحديث: -
" إن مثل المؤمن كمثل النحلة.
إن صاحبته نفعك،
وإن شاورته نفعك،
وإن جالسته نفعك،
وكل شأنه منافع "
ودفعني هذا التشبيه إلى تلكم الرحلة. و كان القصد من ورائها الإجابة على سؤال0 لماذا شبه الرسول صلى الله عليه وسلم المؤمن الحق بالنحلة ؟ خاصة أنه قال في حديث آخر :-
" المؤمن كالنحلة
إن أكلت أكلت طيبا
وإن وضعت وضعت طيبا
وإن وقعت على عود لم تكسره "
وأثناء رحلة البحث عن الإجابة عن هذا السؤال جاءت هذه اللقطات .
اللقطة الأولى:
يظهر فيها حسن تعامل النحل مع أوامر ربه .يظهر فيها كيف يتعامل هذا المخلوق مع أوامر الخالق فمنذ أن أوحى الله سبحانه وتعالى إلي النحل " وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون* ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللا......"(النحل 69) منذ ذلك الوقت يستحيل أن تجد للنحل بيوتا في غير هذه الأمكنة الثلاث : الجبال .. والشجر.. والبيوت. على نفس ترتيب الآية. أمر من الله. أعقبه تنفيذ من النحل.بلا تسويف ولا تحايل ولا تباطؤ .
أنها صورة تعكس أرقى درجات السمع والطاعة للخالق من مخلوق.
ومن حسن الامتثال وكمال السمع والطاعة عند النحل , تجد أيضا أن أكثر بيوت النحل في الجبال – وهي المتقدمة في الآية ثم الشجر ثم فيما يعرش الناس ويبنون بيوتهم . وكذلك تجد أن أرقى وأجود أنواع العسل هي عسل نحل الجبال ثم عسل نحل الشجر ثم عسل نحل البيوت . وهنا لا يجب أن يفوتنا أن نضع هذه الصورة جنبا إلى جنب مع صورة تعاملنا نحن بني البشر مع أوامر ربنا عز وجل . لنقارن.. ونقارن.. ونمعن في المقارنة. علنا ندرك جانبا من الإجابة علي السؤال: لماذا شبه الرسول صلى الله عليه وسلم المؤمن الحق بالنحلة ؟ .
ومن طبائع النحل المعروفة والتي تدل على حسن امتثاله لأوامر ربه, أنه دائما ما يتخذ البيوت قبل المراعى . فهي إذا ما أصابت موضعا مناسبا بنت فيه بيوتها أولا. ثم بعد ذلك تخرج من تلك البيوت ترعى وتأكل من كل الثمرات ثم تأوي إلى بيوتها . لأن ربها سبحانه وتعالى أمرها بذلك . أمرها باتخاذ البيوت أولا ثم الأكل بعد ذلك . وهنا قد تبعد المراعى عن البيوت الأميال والأميال. وقد يفصل بين المراعي وبيوت النحل السهول و الجبال. وقد يتطلب هذا من النحل عبور الروابي والوديان . ومع ذلك فإن طاعتها لربها جعلها تنسى بعد المسافات وكثرة المشقات
فالمؤمن الحق – كالنحل – يجب ألا يفكر إلا في تنفيذه الأوامر الربانية. أما المشقات , والتبعات , والمنغصات فهي أمور ثانوية يجب ألا يفكر فيها المسلم . لأنه لو فكر فيها فربما تلكأ أو تباطأ أو قصر . ولكن طالما أن الأمر من عند الحق فيجب أن لا يشغل بال المؤمن الحق غير تنفيذ أمر الحق . وهكذا يفعل الصالحون.
انظر إلى نبي الله نوح لما أمره الله بأن يصنع الفلك في البيئة الصحراوية .وانظر إلي سيدنا موسى لما أمره الله : "أن اضرب بعصاك البحر . وانظر كيف تعامل سيدنا إبراهيم مع أمر الله له بذبح إسماعيل. وكلها أوامر تفوق قدرات عقول البشر . لكن انظر كيف كانت درجة السمع والطاعة من هؤلاء جميعا وكيف كانت النتائج . ليتأكد لك أن السعادة والفوز يكمنان في حسن تنفيذ العبد لأوامر ربه, حتى ولو كانت هذه الأمور تفوق قدرات عقولنا القاصرة ,أو حتى عجزنا عن استيعاب مرامي التكاليف ساعة التنفيذ. .
اللقطة الثانية :
وتظهر فيها كيف أن النحل يقضي حياته في حركة ونشاط وانتقال من طيب إلى أطيب, ومن أثر نافع إلى أنفع. "فمن اجل أن تقوم النحلة بإطعامنا كيلو جرام واحد ومن العسل أنها تقوم بما يقرب 600ألف إلى 800الف طلعة وتقف على مليون زهرة وتقطع ما يزيد عن 10أضعاف الكرة الأرضية رغم الرياح والأنواء". وكأن الرسول لما شبه المؤمن الحق بالنحلة أراده أن يتمثل هذا الخلق. وأراده أن يتحلى بثقافة النحل في السمو , وعلو الهمة, والتعامل مع الأمور بجدية, وقوة من يبتغي وجه الله:-
طالب العلم مع علمه.
والعامل في صناعته.
والتاجر في تجارته.
والمزارع في زراعته.
و الداعي إلى الله في دعوته.
فلا فلاح لكل من ينتج إنتاجا ماديا أو معنويا دون أن تسود بينهم ثقافة النحل في النفع والعطاء .
اللقطة الثالثة:(/1)
ويظهر فيها كيف أن النحل يجيد توظيف الطاقات . فالنحل يجيد هذه المهارة. وهذه مهارة لازمة للأمم والأفراد والجماعات . ولا يرقى الإنسان إلا بها . فمن النحل من يعمل العسل, وبعضها يعمل الشمع, وبعضها يسقي الماء, وبعضها يبني البيوت, وبعضها يقوم بأعمال النظافة ،وبعضها يقوم بأعمال التكييف والتبريد والتهوية , وبعضها يقوم بالتلقيح , وبعضها يقوم الاستكشاف والاستطلاع . الكل يعمل وينتج. كل حسب سنه ووظيفته وقدراته وميوله واستعداداته . فلقد علمنا النحل من خلال هذه اللقطة أنه من لا يجيد توظيف الطاقات يغرق في العثرات . ولعل الرسول صلى الله عليه وسلم كان ينوه- لي ولك- أن يتحلى كل منا به بهذا الخلق .
اللقطة الرابعة :
ويظهر فيها أحد طبائع النحل العجيبة . فالنحل يرفض رفضا باتا أن يوجد في مملكته عاطل عن العمل " فمن طبائع النحل أنها لا تترك عندها بطالا إلا نفته وأبعدته وأقصته عن الخلية . لأنه
يضيق المكان .
ويفني العسل .
ويعلم النشيط الكسل ".
وهذه مهارة إدارية راقية ما أحوجنا أن نتمثلها واقعا في حياتنا الإدارية . فلو علم كل عامل في مؤسسته أن مصيره الإقصاء مالم يؤدي ما هو مطلوب منه . وما لم يحقق ما هو مطلوب منه من مستهدفات حسب خطة المؤسسة العامة التي يعمل فيها , لعاد ذلك بمردود ايجابي على الأمة . أما أن تدخل المؤسسات الحكومية في بلاد المسلمين وتجدها مكتظة بالعشرات ممن لا وظائف لهم ولا عمل لهم فهذه انتكاسة.
لقد وصلت المؤسسات الصناعية العظمى في اليابان وأوروبا إلى ما وصلت إليه من رقي وارتقاء وتقدم بفضل تطبيقها لهذه السياسة الراقية التي يجب أن نتعلمها نحن من النحلة .
اللقطة الخامسة : -
تظهر كيف أن النحل يفضل العمل في صمت وهدوء وبعيدا عن أعين الناس. فيروى أن آرسطاطاليس صنع بيتا من زجاج لينظر إلى كيفية ما يصنع النحل . فأبت أن تعمل حتى لطخته بالطين من الداخل . لطخته بالطين حتى تنأى بنفسها عن الظهور . وكأنها وعت خطورة آفة الرياء والنفاق وحب الظهور وحب الرياسة وكلها آفات مهلكات. لطخة بيتها بالطين من الداخل بحثا عن الإخلاص . وكأنها تدرك قول ابن القيم رحمه الله تعالى): الإخلاص ألا تطلب على عملك شاهداً غير الله ، ولا مجازياً سواه). لطخته وكأنها أرادت أن ترسل لنا من- خلف الطين -رسالة مفادها أن عليكم بالإخلاص في كل أعمالكم وأقوالكم . فالإخلاص وهو قارب النجاة من الغرق في بحر النفاق والشرك والرياء وحب الظهور وبوار الأعمال نعوذ بالله من ذلك . و لعله الدرس الذي أراد الرسول صلى الله عليه وسلم من تشبيه المؤمن بالنحلة أن يأخذه عنها و يتعلمه منها .
اللقطة السادسة : -
ويظهر فيها مجموعة الآفات التي تعوق النحل عن العمل والإنتاج والتميز هذه الآفات هي : -
1 – الظلام
2 – الغيوم
3 – الرياح
4 – الدخان
5 - الماء
6 – النار
وكذلك المؤمن –له آفات تبعده عن العمل والإنتاج والتميز في حياته منها : -
1 – ظلام الغفلة
2- غيوم الشك
3 – رياح الفتنة
4 – دخان الحرام
5 – ماء السمعة
6 – نار الهوى . كما قال ابن الأثير
اللقطة السابعة: -
ويظهر فيها مجتمع النحل وهو لا يستطيع أن يعيش أو ينتج أو يعمل إلا في جماعات . جماعات يحكمها تنظيم دقيق مبهر . تنظيم تتوزع فيه الاختصاصات المسؤوليات والمهام في عيش جماعي رائع وتكافل عجيب . فإذا ما انعزلت إحداها عن جماعتها لسبب من الأسباب فإنها تسارع إلى أن تنضم إلى جماعة أخرى من طبيعتها . إذا قبلتها فنعمت . وإن لم تقبلها فإنها تموت .نعم تموت . تموت ببعدها عن الجماعة . فكأنها تدرك أن )الجماعة رحمة و الفرقة عذاب ) و. كأنها تعلم ( أن يد الله مع الجماعة ومن شذ شذ في النار) ،و كأنها وعت قول سيدنا على رضي الله عنه :( كدر الجماعة خير من صفو الفرد(. كأنها تريد إن تذكرنا- ونحن في زمن التشرذم- بما جاء في الصحيحين: «أن مَن فارق الجماعة شبراً فمات، فميتة جاهلية».
اللقطة الثامنة: -(/2)
ويظهر فيها إلى حسن استخدام النحل إلى الوقت . فالنحل لديه قدرة فائقة على الاستخدام المزدوج للوقت. فهو لا يضيع وقته أبدا فيما لا فائدة منه. بل يستغل كل ثانية فيما هو نافع ." فمثلا في طريقها الذي قد يصل إلى عشرات الكيلو مترات من مكان رحيق الأزهار إلى خلاياها. تجري النحلة عدة عمليات كيميائية بالغة التعقيد لتحويل الرحيق إلى عسل. ويتم هذا في الطريق ولا تنتظر حتى تعود. " ولقد أخذ اليابانيون هذه الفكرة من النحل في مجال الصناعة . فمعروف أن اليابان ليس عندها مواد أولية . وهم من كبار مصدري الستانلس.هذه المادة تتواجد بوفرة في استراليا .والمسافة بين البلدتين شاسعة . فصنع اليابانيون بواخر عملاقة تصل إلى أواخر استراليا . تأخذ المواد الأولية من هناك . وفي الطريق إلى أسواق الشرق الأوسط يتم تصنيع هذه المواد الأولية في البواخر أثناء العودة . ثم يتم تسليمها مصنعة جاهزة إلى أسواق المستهلكين في كل مكان . وهذا ما تفعله النحلة . وهذا ما يجب أن يتحلى به المؤمن الحق. فالوقت سلاح ارتقى من أتقن حسن استغلاله وتعس من عطله . وتاريخ الأمم خير شاهد: فالأمة التي لا تنشئ أبنائها على كيفية إتقان إدارة الوقت والاستفادة من كل وحداته أمة مهزومة لا يمكن لها ولا لأبنائها أن يرتقوا أو يتبوؤا منزلة بين العظماء .
وفي النهاية
هذا عرض سريع لعدد من اللقطات السريعة التي سجلها الباحث خلال هذه الرحلة . ولعل الرسول صلى الله عليه وسلم لما شبه المؤمن الحق بالنحلة كان يدعونا إلى أن نتمثل هذه الصفات واقعا في حياتنا :
-1. فمن خصائص ملك النحل أنه ليس له حمية يلدغ بها أحد في مملكته .
-2. أنه يتصف بالعدل والإنصاف بين أعضاء مملكته . .
-3. ملك النحل لا يسمح لمتطفل ولا لعدو أن ينتهك حرمة بيتها .
-4. ملكة النحل ترعى صغارها وتهتم بهم اهتماما لا حدود له.
-5. إن اتخاذ القرار في عالم النحل عملية تحكمها أرقى درجات الشورى والتشاور .
-6. النحل دائما ما يتنزه عن النجاسات والأقذار .
-7. النحل لا يأكل إلا طيبا .
-8 . النحل لا يأكل من كسب غيره .
-9. النحل لا يأكل إلا قدر شبعه .
-10. - إذا قل غذاء النحل ( العسل ) قذفه بالماء ليكثر خوفا على نفسه من نفاذه .
-11. - النحل لا يشرب من الماء إلا ما كان صافيا عذبا . ويجد في طلبه مهما بعد .
-12. النحل أصغر المخلوقات حجما وأضعفها بنية إلا أنها الأكثر عطاء وتأثيرا .
-13. بيت النحل تنطبق عليه أرقى المواصفات الهندسية في العمران والبنيان .
-14. النحل يسير في سبيل جمع الرحيق بسرعة 60 كم / ساعة وهو ما يعادل عشرة أمثال سرعة الإنسان .
-15. يعرف عن النحل قلة آذاه .
-16. يعرف عن النحل النظافة الكاملة والتامة .
-17. النحل يسعى في النهار سعيا لا حدود له .
-18. النحل يوفر الجهد والوقت على بعضه البعض .فإذا ما وقعت نحلة على زهرة وامتصت رحيقها فإنها تترك علامة أن هذه الزهرة مُص رحيقها من قبل حتى توفر الجهد والعناء على بني جنسها .
إن حشرة بهذه الصفات وهذه القدرات وهذا السمو وهذا الرقي لجديرة بأن يشبه بها المؤمن الحق كما يريده الله ورسوله.
ولما قال صلى الله عليه وسلم ( كل الذباب في النار إلا النحل )جاء هذا الكلام .وكأنه يحمل في طياته بشارة للمسلم الذي تعرف على طبائع هذه الحشرة وتعلم منها وسلك مسلكها أن يحرم جسده على النار. فكما استثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم النحل من بين الذباب من دخول النار. فلعل الله يستثنى المسلم العامل بهذه الأخلاق السامية وهذه الطبائع وهذه المهارات من بين بقية البشر ويحرم جسده على النار لينعم بصحبة النبيين والصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقا .
طارق حسن السقا
alsaqa22@hotmail.com
برمبال القديمة- أغسطس 2005م
-----------------------------------
المراجع : -
-1- حياة الحيوان – الدميري – باب النحل – ص 1249
-2 بحث بعنوان:التكوين الاجتماعي في عالم النحل كما صوره القرآن الكريم – د/ يحيى البشتاوي – موقع الهيئة العالمية للإعجاز العلمي في القرآن والسنة .
http://www.nooran.org/H/H5/2.htm
3-- ندوات الإعجاز العلمي : الندوة 08 / 30 : النحل ، لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي
http://www.nabulsi1.com/text/10nadwat/913-all/913-02d.html
4-من أسرار عالم النحل – مقال الدكتور حسان شمسي باشا
http://www.khayma.com/chamsipasha/Bee.htm
طارق حسن السقا(/3)
لقطات من كأس العالم
المصدر/المؤلف: موقع طريق الإسلام ... أرسلها لصديق
عرض للطباعة
عدد القرّاء: 1460
الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى أما بعد ؛
فقد أظلنا توقيت مسابقة كأس العالم التي تطل علينا كل أربعة أعوام، ولا شك أن الرياضة شيء جميل حض عليه الشرع، بل الرياضة تتحول إلى عبادة بالنية الصالحة ولا شك، ولكن لنا وقفات مع لقطات حية من كأس العالم.
الوقفة الأولى:
تدشن الدول العربية والإسلامية معظم مساحة إعلامها تقريباً لخدمة كأس العالم، سواء الفضائي أو الصحافي، في الوقت الذي تنال الدعوة الإسلامية من نفس الإعلام نذراً يسيراً في وقت يبني فيه الغرب حضارته على أساسين؛ أولهما العقيدة الراسخة (من خلال أيدلوجيات فلسفية استبدلوا بها دينهم) وثانيهما: المنظومة الثقافية العلمية التي لا غنى لحضارة عنها، في وقت تحتل مساحة البرامج العلمية والثقافية الهادفة أقل المساحات في إعلام كأس العالم العربي والإسلامي، وبالطبع في غير وقت كأس العالم فالمسلسلات والأفلام التي تدمر تصورات الجماهير لا تكلّ ولا تملّ مما يدل على أننا قلبنا هرم الأولويات فجعلنا الرياضة الترفيهية أصلاً وبناء الحضارة تابعاً، فأين العقول !!
الوقفة الثانية:
في الوقت الذي لا يجد فيه معظم شباب الدول الإسلامية والعربية والتي في أغلبها من الدول النامية، لايجد معظم الشباب ما يسد رمقهم فضلاً عمّن تقوم بها أسر جديدة، تقوم هذه الدول بالصرف على مدربين أجانب ولاعبي كرة ومعسكرات تدريب ما لو توُفرَ لأقامت به مشروعات تكفي لمعيشة الآلاف من الأسر الشابة، فهل الكرة مقدمة على بناء المجتمعات؟!
الوقفة الثالثة:
يشارك في كأس العالم دول استعمارية استباحت ديار المسلمين فسفكت الدماء وهتكت الأعراض على مسمع ومرأى من العالم الصامت، وبالطبع كل لاعب من لاعبيها لو دعي إلى الدخول في قواها العسكرية ما استطاع الرفض، فكيف بمن يهتف لمغتصب أخته وقاتل أخيه وأين الولاء لله وللرسول وأين البراء ممن عادى الله ورسوله .
الوقفة الرابعة:
تتركز كاميرات مصوري هذا الحدث الرياضي على إبراز مفاتن نساء الغرب من المشاهدات فيما لا يعد عيباً في عرفهم ولا أخلاقهم، فكيف بنا وقد قال الله تعالى: قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم فعليك بغض بصرك عما حرم ربك، وكيف بنسائنا وقد أطلقن لأعينهن العنان والله يقول: وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن وكيف ببناتك المراهقات أخي الكريم وقد تأثرن بنساء الغرب، والمصيبة في التقليد الأعمى وقد وصل الأمر إلى ظهور بنات العالم العربي في ملاعب كرة القدم بنفس طريقة الغربيات ممن لا خلاق لهم ولا دين، فأين ذهبنا وأين ذهبت أخلاقنا !
الوقفة الخامسة:
يتأثر المشاهد العربي والمسلم بالفرق الهائل في المستوى بين لاعبي دولته وبين لاعبي الغرب مما يكسب البعض مرْكبات النقص والانهزامية، بل قد يصل ببعضهم الحال إلى عزوِ ما نحن فيه إلى الإسلام، ولهؤلاء أقول: إن عزتنا الحقيقية في ديننا وما عَلَتنا الأمم إلا لمّا تركناه وراء ظهورنا واتبعنا كل ناعق، والحق أننا تأخرنا حضارياً ولكن المتابع للتاريخ يعلم أن الأمة مرت بعصور ضعف أكبر بكثير من عصرنا الحاضر، ولمّا عادت لكتابها ودينها وعرفت ربها عادت لسيادتها وعِزّها، ولك أخي الكريم في وضع المسلمين قبل فتح صلاح الدين بيت المقدس أُسْوَة، راجع ما اكتنف المسلمين من ضعف قبل الفتح وما علاها من عزة بعده وتعلم عوامل الضعف وأسباب العزة والقوة لتعلم أن الإسلام هو عزنا ومهما ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله.
الوقفة السادسة:
لماذا لا نجعل من كأس العالم موسماً دعوياً لنشر الشريط والكتيب والحض على التبرع للمنكوبين من المسلمين سواء المتضررين بالاستعمار أو منكوبي الزلازل والمحن، ولماذا لا ننشر على تجمعات مشاهدي مباريات كأس العالم قوائم بالمواقع الإسلامية ومقتطفات من ثمارها اليانعة، والمجال مفتوح للابتكارات الدعوية والأمة وَ لادة ولله الحمد.
وأخيراً اللهم انصر عبادك المستضغفين في العراق وألف بين قلوبهم وأصلح ذات بينهم اللهم انصر عبادك المستضعفين في فلسطين والشيشان وأفغانستان وفي كل مكان، إنك ربُّ ذلك والقادر عليه.
هذا والله أعلم وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إلي(/1)
لكل فتاة
هل حمدت الله عز وجل على اعظم نعمة انعم الله بها عليك الا وهي نعمة الاسلام 0
هل تؤدين الصلوات الخمس على وقتها لان اول مايحاسب عنه العبد يوم القيامة الصلاة فان صلحت صلح سائر عمله وان فسدت فسد سائر عمله ، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم : ( ان بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة ) رواه مسلم 0
هل تقرأين القران الكريم بتدبر وخشوع وحضور قلب وهل تعملين به ؟ قال الرسول صلى الله عليه وسلم : ( خيركم من تعلم القران وعلمه ) رواه البخاري 0
هل انت بارة بوالديك ؟ هل تصلين ارحامك ؟
هل احببت الخير للمسلمين ؟ وهل امرت بالمعروف ونهيت عن المنكر ؟
هل تكرمين الايتام والارامل والضعفاء والفقراء والمساكين وتتواضعين لهم وترحمينهم وخصوصا الاقارب ؟
هل حافظت على اذكار الصباح والمساء ؟ وهل راقبت الله في السر والعلن ؟
هل تحافظين على حجابك الشرعي الذي امرك به الله الذي خلقك ؟
هل اتخذت جليسات صالحات تذكرك بالله رؤيتهن ؟
هل تجنبت رفيقات السوء لانهن سبب الضلال والضياع فاحذريهن حفظك الله ؟
هل تجنبت الاختلاط بالرجال وهل قللت الخروج الى الاسواق ؟
هل تجنبت الاكثار من المزاح وكثرة الضحك وهل بكيت من خشية الله ؟
هل طهرت قلبك من امراض ( النفاق ، الرياء ، العجب ، الغل ، الحقد ، الحسد والبغضاء ) ؟
هل نظفت لسانك من الفاظ ( الشرك ، الكذب ، الغيبة ، النميمة ، واللغو) ؟
هل ابتعدت عن مزامير الشيطان ( الغناء ) ؟ فانها محرمة بالقران والسنة وهي بريد الزنا وسبب لقسوة القلب وسوء الخاتمة نعوذ بالله من سوء الخاتمة ؟
هل اخذت حذرك من المكالمات الهاتفية ؟ فكم من القصص المؤلمة بدأت بمكالمة وانتهت بمأساة والضحية الاخت المسلمة فاحذري الذئاب البشرية ؟ 0
فتاوى ورسائل للفتيات
جمع وترتيب :
أحمد بن صالح بن فهد الخليف(/1)
لكل قول حقيقة ...
10-02-2005
الحمد لله والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، أما بعد :
فمن السهل أن يتحدث المرء بما يريد ، بل لن يجد الإنسان أي صعوبة في نشر الاتهامات وتوزيع الألقاب على الآخرين ، وكذلك من السهل تغيير الحقائق وقلب الأمور بحيث يصبح الصادق كاذباً ، والكاذب صادقاً ، والأمين خائناً ، والخائن أميناً ، وتغيير الحقائق سياسة جديدة قديمة ، قد أشار إليها القرآن الكريم فعلى سبيل المثال قوله تعالى عن فرعون عليه من الله ما يستحق : (وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (26) غافر.
وهذه الآية الكريمة تضمنت أموراً عدة :
1 : اعتذار : ففرعون لا يريد أن يفعل أي فعل من تلقاء نفسه ، فهو يريد موافقة قومه وإذنهم رغم أنه المتفرد بالقرار السائل الذي لا يسأل ، فهو يستأذن قومه بقتل موسى، ولو أقبل على قتل موسى دون أن يستأذن قومه لما واجه أي اعتراض ، فقومه قد أذعنوا له بالطاعة والانقياد وأقروا له بالربوبية وهم على علم ويقين بأن ذلك ضلال محض وباطل لا حقيقة له قال تعالى حاكياً عنهم : (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14) النمل.
ولكنها الأهواء التي تجعل من أصحابها ذيولاً لا عقول لهم ، ولا إرادة ، تقلّبهم المصالح في دياجير الباطل والظلم والاستبداد دون أدنى تفكر أو اعتبار ، ومع هذا يستأذن فرعون قومه ليجعل من نفسه الحاكم الأمين الذي لا يخطو أي خطوة إلا بموافقة قومه ومباركتهم ، فهم رأس ماله إذ لا وجود له إلا بهم ، وهكذا تنبني حياة الكذب والأباطيل بين الراعي والرعية ، فالراعي يعلم حقيقة نفسه ، وكذلك الرعية يعرفون ذلك جيداً .
2 : تحدي : وذلك في قوله : ( وليدع ربه ) . فقد جاء هذا القول بعيد قوله لقومه ذروني اقتل موسى ، فهو يريد قتل موسى بلهجة المتحدي الذي لا يخاف عواقب الأمور ، فلسان حاله يؤكد لسان قاله ، فقد أنكر فرعون رسالة موسى نافياً أن يكون للناس إله غيره ،إذن فمن الطبيعي أن يظهر فرعون الثقة بنفسه وبموقفه أمام قومه ، وإن كان قومه عالمين بكذبه وافترائه .
3 : تعليل: ففرعون لا يريد أن يقتل موسى ظلماً وعدواناً بزعمه بل يريد قتل موسى شفقة بقومه وإرادة للإصلاح وقطع دابر الفساد ، فهو يقبل على هذا الأمر الصعب خوفاً من أن يبدل موسى معتقد قومه ، أو أن يظهر في الأرض الفساد ، إذن فهو درءاً للفتنة يريد قتل موسى عليه السلام متحدياً بذلك رب موسى سبحانه جل في علاه .
والمتأمل في هذا النص القرآني يدرك سفاهة فرعون وكذبه وخداعه ، فأي فساد يخافه فرعون على قومه ، وأي دين هذا الذي يخشى فرعون على تبديله ، أما دين فرعون فهو معروف قال تعالى : ( وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحاً لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38) القصص
ففرعون لا يرى لقومه إلهاً غيره ، فهو في زعمه المعبود المطاع ، وخلا ذلك كفر وضلال .
وأما الصلاح الذي يراه ويخاف من تغييره فهو ما قاله الله سبحانه عنه : (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) القصص
وما يفعله فرعون قمة الفساد ، إلا أن هذا الفساد بنظر فرعون إصلاح ، ودونه فساد يخشى على قومه منه ، والشاهد في المسألة أن فرعون استطاع الحكم على موسى كليم الله سبحانه بالفساد ، وأنه يعمل كل ما بوسعه من أجل التخلص من موسى عليه السلام للقضاء على مظاهر الفساد جميعها ، وما يفعله فرعون لعنه الله تعالى في رأيه إصلاحاً ورشاداً ، قال تعالى حاكياً عن فرعون في مخاطبته لقومه : (قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29) غافر
فسبيل الرشاد في نظر فرعون ، محاربة دين الله سبحانه ، وقتل رسله وأوليائه ، وإشاعة الفساد في الأرض وغير ذلك من الجرائم البشعة .
وإدعاء الأمور من غير أدلة سياسة فرعونية متكررة واجهها كل الأنبياء والدعاة إلى الله سبحانه ، ولا أدل على ذلك من موقف قريش وغيرهم من الرسول صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق ، فقد إُتهم صلى الله عليه وسلم بتهم كثيرة منها ( الجنون ) قال تعالى : (وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51)القلم(/1)
ومنها (التلقي عن الأعداء والمغرضين ) قال تعالى : (ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ (14) الدخان
فالرسول صلى الله عليه وسلم في نظر قومه متهم مجروح ، يعمل على نشر الفساد في الأرض ، ويرجعون ذلك إلى أسباب كثيرة منها ما ذكر ( الجنون والتلقي عن الأعداء ، والكهانة ، والسحر ) وغيرها من التهم الباطلة التي يعرفون هم بطلانها كما قال تعالى مبيناً حقيقتهم : (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ (33) الأنعام
إذن فليس الأمر راجعاً بالنسبة للكافرين إلى إحقاق حق وإبطال باطل ، بل إلى إتباع هوى ، فما جاءهم به الرسول صلى الله عليه وسلم مخالف لأهوائهم غير محقق لمصالحهم لذا خرجوا على الرسول صلى الله عليه وسلم بكل الأباطيل التي يعرفونها دفاعاً عن أهوائهم ومصالحهم ، فلو كانوا صادقين بما يفعلونه ضد الرسول صلى الله عليه وسلم لكفاهم أن يأتوا بأدلة على زعمهم كما قال تعالى : ( فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (157) الصافات
فعدول الكافرين عن الإتيان بأدلة واضحة ونهج كل طريق مستطاع كإنفاق أموالهم ، وتعريض أنفسهم للهلاك في سبيل صد الرسول صلى الله عليه وسلم عن دعوته ، لدليل واضح على عجزهم عن الإتيان ببينة تدل على صدقهم وصحة مواقفهم .
وهذا ما يقال للكافرين اليوم : هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ، ولكن حديثنا ليس متوجهاً إلى الكافرين الذين يعملون على تشويه صورة الإسلام ، فهذا ديدنهم وهذا حالهم لا يخفى على أي مسلم ، ولكن حديثنا ومع الأسف متوجه إلى أولئك الذين يلبسون لباس الحق ، ويدعون أنهم أهل حق ودعوة صدق ، ويطلقون لألسنتهم العنان في تشويه صورة المخالفين لهم ، واتهامهم بكل تهمة دون دليل أو برهان... اللهم إلا حدثنا ثقة ؟ ...
فنقول لهؤلاء جميعاً : إن سياسة توزيع الاتهامات على المخالفين لكم من غير برهان ، لهي سياسة فرعونية واجهها جميع الأنبياء والدعاة إلى الله سبحانه ، فمجرد الاتهام لا يعتبر شيئاً ، بل هو صفة ضعف وعجز ، فلو كان المتهم صاحب دليل لأتى بدليله وأراح نفسه من عناء التناقضات والتحذير والتشويه ، بل كان يكفيه أن يظهر البينة وعندها سيرى الناس بينته ويأخذون برأيه دون أن يتكلم بكلمة واحدة ، وهذا واضح للغاية ، أما أن يتعب نفسه من أجل تحذير الناس من زيد وعمرو لمجرد مخالفة زيد وعمرو له فهذا دليل إتباعه لهواه ونصرته لمذهبه أو حزبه دون تبصر أو هدى .
فمن السهل أن أقول هذا رجل مدعوم ، أو هذا عميل للجهة الفلانية ، أو هذا جاهل لا يفقه شيئاً ، أو ... أو ، ولكن الصعب أن آتي ببينة تدل على صدق قولي وعدم تعصبي لحزب ، أو إتباعي لهوى ، ومن ناحية ثانية ، فإن العدول عن الرد العلمي المبني على دليل واضح إلى الاتهام والتشكيك دليل على العجز والتجرد من الدليل والبينة ، وهذا عين ما وقع فيه الكافرون أعداء الرسل والدعاة وقد قدمنا أمثلة على ذلك .
بل أقول لهؤلاء المتهمين للناس من غير بينة : أنتم أحق الناس بما ترمون الناس به وأهل له ، وليس هذا قولا مفترى بل هو حق ونور وعندنا عليه برهان من الله سبحانه ، والأدلة على ذلك من وجوه:
1 : عموم الأدلة ، فالكافرون كانوا يعملون على هدم المصالح العامة المخالفة لأهوائهم تحت ذريعة الإصلاح والإحسان ، وكان واضحاً وضوح الشمس أن ما يرمي به الكافرون المؤمنين ، هو عين ما يقعون فيه ، وبلا شك فإن الذين يرمون الناس من غير بينة إنما حملهم على ذلك ما حمل الكافرين ، فالعلة واحدة ، والصورة هي الصورة .
2 : إن المؤمن شديد التوقي والحرص على عدم مخالفة الحق ، فهو منضبط بالضوابط الشرعية ، وما يحمله على ذلك خشية الله سبحانه ، وقد عظم الله سبحانه مسألة التقول على عباد الله من غير بينة أو دليل ، قال سبحانه : ( وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً (58) الأحزاب
وفي الحديث الصحيح عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( وَمَنْ قَالَ فِي مُؤْمِنٍ مَا لَيْسَ فِيهِ اَسْكَنَهُ اللَّهُ ردغة الخبال حَتَّى يَخْرُجَ مِمَّا قَالَ ) . رواه الإمام أحمد في مسنده، ومن يسمع هذه النصوص ويوقن بها ثم يتجرأ بعد ذلك على رمي الناس من غير بينة لدليل على عدم صدقه وإيمانه ، وعليه يكون أهلاً لما يرمي به الغير .
3 : إن رمي المؤمنين بغير بينة لمجرد مخالفة فكر أو نهج ما ، إتباع للظن المتمخض عن إتباع الهوى ، وقد وصف الله سبحانه أتباع الظن بأنهم اتباع كذب والهوى ، قال تعالى : (وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (116) الأنعام(/2)
وقال سبحانه : ( قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ (148 الأنعام
فاتباع الظن تخرص وكذب ، وإلا فمن يتهم الآخرين لا يخرج عن حالتين ، الأولى : أن يكون صاحب بينة ودليل . الثانية : صاحب ظن وهوى ، فإن فقد الدليل الصريح الصحيح ، فهو صاحب هوى ، وقد دلت النصوص بشكل واضح وقاطع على كذب أصحاب الظن اتباع الهوى .
4 : وكذلك فإن اتهام المؤمنين من غير بينة ،مخالفة صريحة للرسول صلى الله عليه وسلم ، فقد جاء في الحديث الصحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : (البينةُ على المدّعي، واليمين على من أنكر ). فأي إدعاء يقع على أي إنسان لا بد وأن تقوم عليه بينة ، فإن الإسلام شدد في حقوق المسلمين وجعل ذلك من الضرورات فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في خطبة الوداع في اليوم المشهود : (أيها الناس اسمعوا قولي ، فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبدا ، أيها الناس إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا ، وكحرمة شهركم هذا ، وإنكم ستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم ) . فأعراض المسلمين مصونة لا يجوز لأي امرئ أن ينتهكها ، أو يشهر بها ، فكيف إذا كان انتهاك عرض المسلم والتشهير به عن غير بينة ؟ فمن خالف ذلك الأمر يكون مخالفاً للرسول صلى الله عليه وسلم ، ومن الطبيعي أنه لا يخالف الرسول صلى الله عليه وسلم في مثل هذه المسألة العظيمة التي تقوم عليها مصالح العباد وحفظ أعراضهم إلا متهم مجروح .
5 : وكذلك فإن اتهام المسلمين من غير بينة ، وسبهم وتجهيلهم وتحقيرهم والإعراض عن مقارعة الحجة بالحجة ، لهو دليل العجز والضعف وقلة العلم ، وإلا ما الفائدة وراء إطلاق التهم المتعددة على العباد ـ كجاهل ، عميل ، حاقد ـ وغيرها من غير الإتيان بدليل ؟ بل لماذا يلجأ المرء إلى مثل هذه التهم وعنده البينة ؟ وقد وضحنا فيما مضى من القول : إن اتهام الناس وتوزيع الألقاب عليهم من غير بينة ، هو سياسة ماكرة يستعملها الكافرون للصد عن سبيل الله سبحانه لعدم استطاعتهم الإتيان ببينة تدل على صدق مزاعمهم ، وهذا هو حال المسلمين الذين يصدرون الاتهامات على عباد الله من غير بينة اللهم إلا أنهم يخالفونهم الرأي ، أو يردون على بعض شبهاتهم . وهذه القضية مبنية على أكذوبة أننا أصحاب دعوة حق ، ومن يخالفنا يكون مخالفاً للحق ، وكل مخالف للحق متهم مجروح ، نعم هذا هو دليلهم ، وهذه هي مرجعيتهم ، فلو أنهم أقاموا ولاءهم وبراءهم على قاعدة قولنا صواب يحتمل الخطأ ، وقول غيرنا خطأ يحتمل الصواب ، لعلموا يقيناً أنهم لا يمثلون الحق ، ولا ينحصر الحق في دعوتهم ، بل قد يكون الحق مع غيرهم ، وعليه لا ينظرون إلى مخالفيهم على أنهم حجر عثرة أمام العمل الإسلامي ، وأنهم يهدمون ما يبنون ، وأن من رد عليهم يعتبر مخالفاً للحق حاقداً على أتباعه ، ولكنها للأسف التربية الحزبية السخيفة التي تربي أبناءها على تقديس الأشخاص واستلهام الحق من أفواههم وأعمالهم ، وأن كل من يخالفهم فهو مخالف للحق معاد له ، لا بد من استباحة عرضه دون أدنى ورع .
ويا ليت المسألة وصلت إلى هذا الحد ، بل تعدته إلى ما هو أعظم منه ، تعدت إلى الحكم على بواطن العباد والشق عن قلوبهم ، فإنك ترى الرجل يعتاد المساجد ، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، ولا يقع في فاحشة ، ولا ... ولا ... إلى غيره ، ومع ذلك يتهم بنفسه ، كأن يقال: هذا منافق ، أو هذا حاقد ، فسبحان الله إذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكشف عن المنافقين الخلص الذين علم نفاقهم بالوحي رغم الأخطار التي تصيب الأمة منهم ،ولم يأمر المسلمين باتهامهم ، فكيف بمن حُكم بنفاقه لمجرد أنه مخالف للحزب الفلاني أو منتقد له ؟؟؟؟
فسبحان الله ، كيف يعتبر أولئك أنفسهم أنهم أصحاب دعوة حق ، وموقف صدق ، رغم ما فيهم من المخالفات الواضحات للآيات المحكمات ، وما عليه أهل السنة والجماعة ؟
أخي المسلم : إذا كان اتهام أي مسلم كبيرة من الكبائر ، فكيف بأن يكون المسلم المتهم عالماً أو داعياً قد وقف نفسه لنصرة هذا الدين ؟ كيف بأن يكون المتهم مربياً لأجيال ، أو هدّاماً لأفكار الكفر ، مبيناً حقيقة الكافرين ؟؟ وذنبه أنه غير موافق للحزب ، أو منتقد له مبيناً أخطاءه ، ولو يعلم هؤلاء عظمة ما يقترفونه من آثام لأقلعوا عن هذا الذنب العظيم الذي تبرأ صلى الله عليه وسلم من أصحابه كما جاء في الحديث الصحيح : (ليس منا من لم يوقر كبيرنا ويرحم صغيرنا ومن لم يعرف لعالمنا حقه ) . رواه الترمذي عن أنس رضي الله تعالى عنه .
فانظر أخي الحبيب كيف يتبرأ الرسول صلى الله عليه سلم من الذين لا يعرفون للعلماء حقوقهم ، فكيف بمن يتهجم عليهم أو يتهمهم ؟ إنها والله مسألة عظيمة لا يقع فيها إلا أصحاب الهوى ضعاف الإيمان أتباع الرجال نسأل الله العافية .(/3)
واعلم أيضاً أخي الحبيب ، أن العالم لا يجوز تتبع زلاته أو إظهارها أو التحدث بها إلا أن تكون حداً من حدود الله سبحانه لما جاء في الحديث الصحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : ( أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود) . أخرجه أبو داود وأحمد.
وهذا حديث صريح الدلالة بعدم جواز انتهاك حرمة العلماء وتتبع عثراتهم ، وأنه يعفى عن زلاتهم إلا أن تكون حداً من حدود الله سبحانه ، فانظر يرحمك الله إلى ما يقع فيه المتحزبون اليوم واحكم عليه من خلال المقاييس الشرعية وانظر ماذا ترى ؟
شبة والرد عليها :
أخي الحبيب : يحسن في هذا المقام أن أورد شبهة من شبهات المنتهكين لأعراض العلماء بسبب مخالفتهم وانتقادهم لهم من خلال ما يدل عليه لسان حالهم .
وتكمن هذه الشبهة بجواز الكذب على الآخرين بغية تسويق الفكر أو الدفاع عنه ، وهذه المسألة ترجع إلى ما ذكرت من كون هؤلاء يعتبرون أنفسهم على حق ، وأن من ينتقدهم يعتبر منتقداً للحق وعليه يجوز فضحه حتى بما ليس فيه بناء على جواز الكذب للمصلحة العامة .
والرد على هذه الشبهة واضح ويتلخص في وجهين :
الأول :
1 : إن الكذب الجائزلا يسار إليه إلا في حال انعدام الصدق ، وسد الطرق كلها إلى الحل ، أما إن كان هنالك طريق يوصلنا إلى الحل ، فالكذب في هذه الحالة لا يجوز .
2 : إن الكذب الجائز ، هو الكذب الذي يؤدي إلى إصلاح ذات البين ، لا الكذب الذي يؤدي إلى الفساد وتشويه العباد ، كما هو الحال في هذه المسألة .
3 : إن الكذب الجائز، هو الكذب الذي يصب في مصلحة المسلمين، لا الكذب الذي يصب في مصلحة حزب أو جماعة أو شيخ وما إلى ذلك ، فهذا قياس مع الفارق .
الثاني :
إن دعوة الأنبياء ما قامت على الكذب والخداع والتلبيس ، بل قامت على الآيات القاطعة والبراهين الواضحة ، والحجج الدامغة ، قال تعالى : (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25) الحديد
وهذه الآية الكريمة تدل على حقائق عدة :
1 : أن الله سبحانه عزز الرسل بالبينات ، أي بالدلائل الواضحات المادية والمعنوية ، فلم يرسل الله سبحانه الأنبياء بالإغراءات المادية ، أو بالحديد والنار ، والبينة تدل على الصدق والحقائق والبراهين والقوة ، وهذا خلاف ما يدل عليه الكذب وتغيير الحقائق .
2 : أن الله سبحانه أرسل الرسل ليقوم الناس بالقسط ، أي بالعدل وهذا ما أمر المؤمنين به إذ قال سبحانه : ( إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً (58) النساء
والعدل نقيض الظلم ، وهو يقتضي الصدق والحق ، لا الكذب والافتراءات ، وهذا خلاف ما عليه القوم ، إذ يرى هؤلاء أن الكذب وظلم العباد من أجل تحقيق مصالحهم أسلوباً شرعياً وهذا كما قلت قياس مع الفارق .
3 : بينت الآية الكريمة أن الذين يتبعون الحق وينصرونه ، هم الذين يلتزمون بأحكام هذه الآية إذ قال تعالى : ( وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ ) . أي أرسل الله سبحانه رسله بالبينات وأمر الناس بالعدل ليعلم من يتبع الحق ممن يعرض عنه .
وبهذا أخي الحبيب تعلم أن ما يتبعه هؤلاء في نهجهم يعارض بوضوح المنهج الحق ، وعليه فإن كل كلمة تصدر بحق أي إنسان لا بد وأن تكون قائمة على دليل حقيقي لنا فيها من الله برهان ، أما الخروج على عباد الله دون تثبت أو دليل لهو إتباع للظن الذي لا يغني من الحق شيئاً ، ودليل واضح على ضعف وعجز أصحابه نسأل الله العفو والعافية .
كلمة أخيرة :
وأخيراً أذكر أولئك الذين يطعنون بالناس دون تثبت بقوله تعالى : (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) ق
وقوله تعالى : ( إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) النور
وقوله تعالى : ( وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً (58) النور
وقد جاء في حديث معاذ رضي الله تعالى عنه : ( أويأخذ بما يقولون ؟ قال : ثكلتك أمك ، وهل يكب الناس على وجوههم يوم القيامة إلا حصائد ألسنتهم ) .
وبهذا أخي الحبيب تعلم خطورة الأمر وأنك مسؤول عنه يوم القيامة ، نسأل الله لنا ولك ولجميع المسلمين العفو والعافية إنه سميع مجيب
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
وكتب : إبراهيم بن عبد العزيز بركات
1/1/1426 هـ(/4)
لكل قول حقيقة
10-02-2005
الحمد لله والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، أما بعد :
فمن السهل أن يتحدث المرء بما يريد ، بل لن يجد الإنسان أي صعوبة في نشر الاتهامات وتوزيع الألقاب على الآخرين ، وكذلك من السهل تغيير الحقائق وقلب الأمور بحيث يصبح الصادق كاذباً ، والكاذب صادقاً ، والأمين خائناً ، والخائن أميناً ، وتغيير الحقائق سياسة جديدة قديمة ، قد أشار إليها القرآن الكريم فعلى سبيل المثال قوله تعالى عن فرعون عليه من الله ما يستحق : (وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (26) غافر.
وهذه الآية الكريمة تضمنت أموراً عدة :
1 : اعتذار : ففرعون لا يريد أن يفعل أي فعل من تلقاء نفسه ، فهو يريد موافقة قومه وإذنهم رغم أنه المتفرد بالقرار السائل الذي لا يسأل ، فهو يستأذن قومه بقتل موسى، ولو أقبل على قتل موسى دون أن يستأذن قومه لما واجه أي اعتراض ، فقومه قد أذعنوا له بالطاعة والانقياد وأقروا له بالربوبية وهم على علم ويقين بأن ذلك ضلال محض وباطل لا حقيقة له قال تعالى حاكياً عنهم : (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14) النمل.
ولكنها الأهواء التي تجعل من أصحابها ذيولاً لا عقول لهم ، ولا إرادة ، تقلّبهم المصالح في دياجير الباطل والظلم والاستبداد دون أدنى تفكر أو اعتبار ، ومع هذا يستأذن فرعون قومه ليجعل من نفسه الحاكم الأمين الذي لا يخطو أي خطوة إلا بموافقة قومه ومباركتهم ، فهم رأس ماله إذ لا وجود له إلا بهم ، وهكذا تنبني حياة الكذب والأباطيل بين الراعي والرعية ، فالراعي يعلم حقيقة نفسه ، وكذلك الرعية يعرفون ذلك جيداً .
2 : تحدي : وذلك في قوله : ( وليدع ربه ) . فقد جاء هذا القول بعيد قوله لقومه ذروني اقتل موسى ، فهو يريد قتل موسى بلهجة المتحدي الذي لا يخاف عواقب الأمور ، فلسان حاله يؤكد لسان قاله ، فقد أنكر فرعون رسالة موسى نافياً أن يكون للناس إله غيره ،إذن فمن الطبيعي أن يظهر فرعون الثقة بنفسه وبموقفه أمام قومه ، وإن كان قومه عالمين بكذبه وافترائه .
3 : تعليل: ففرعون لا يريد أن يقتل موسى ظلماً وعدواناً بزعمه بل يريد قتل موسى شفقة بقومه وإرادة للإصلاح وقطع دابر الفساد ، فهو يقبل على هذا الأمر الصعب خوفاً من أن يبدل موسى معتقد قومه ، أو أن يظهر في الأرض الفساد ، إذن فهو درءاً للفتنة يريد قتل موسى عليه السلام متحدياً بذلك رب موسى سبحانه جل في علاه .
والمتأمل في هذا النص القرآني يدرك سفاهة فرعون وكذبه وخداعه ، فأي فساد يخافه فرعون على قومه ، وأي دين هذا الذي يخشى فرعون على تبديله ، أما دين فرعون فهو معروف قال تعالى : ( وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحاً لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38) القصص
ففرعون لا يرى لقومه إلهاً غيره ، فهو في زعمه المعبود المطاع ، وخلا ذلك كفر وضلال .
وأما الصلاح الذي يراه ويخاف من تغييره فهو ما قاله الله سبحانه عنه : (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) القصص
وما يفعله فرعون قمة الفساد ، إلا أن هذا الفساد بنظر فرعون إصلاح ، ودونه فساد يخشى على قومه منه ، والشاهد في المسألة أن فرعون استطاع الحكم على موسى كليم الله سبحانه بالفساد ، وأنه يعمل كل ما بوسعه من أجل التخلص من موسى عليه السلام للقضاء على مظاهر الفساد جميعها ، وما يفعله فرعون لعنه الله تعالى في رأيه إصلاحاً ورشاداً ، قال تعالى حاكياً عن فرعون في مخاطبته لقومه : (قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29) غافر
فسبيل الرشاد في نظر فرعون ، محاربة دين الله سبحانه ، وقتل رسله وأوليائه ، وإشاعة الفساد في الأرض وغير ذلك من الجرائم البشعة .
وإدعاء الأمور من غير أدلة سياسة فرعونية متكررة واجهها كل الأنبياء والدعاة إلى الله سبحانه ، ولا أدل على ذلك من موقف قريش وغيرهم من الرسول صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق ، فقد إُتهم صلى الله عليه وسلم بتهم كثيرة منها ( الجنون ) قال تعالى : (وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51)القلم(/1)
ومنها (التلقي عن الأعداء والمغرضين ) قال تعالى : (ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ (14) الدخان
فالرسول صلى الله عليه وسلم في نظر قومه متهم مجروح ، يعمل على نشر الفساد في الأرض ، ويرجعون ذلك إلى أسباب كثيرة منها ما ذكر ( الجنون والتلقي عن الأعداء ، والكهانة ، والسحر ) وغيرها من التهم الباطلة التي يعرفون هم بطلانها كما قال تعالى مبيناً حقيقتهم : (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ (33) الأنعام
إذن فليس الأمر راجعاً بالنسبة للكافرين إلى إحقاق حق وإبطال باطل ، بل إلى إتباع هوى ، فما جاءهم به الرسول صلى الله عليه وسلم مخالف لأهوائهم غير محقق لمصالحهم لذا خرجوا على الرسول صلى الله عليه وسلم بكل الأباطيل التي يعرفونها دفاعاً عن أهوائهم ومصالحهم ، فلو كانوا صادقين بما يفعلونه ضد الرسول صلى الله عليه وسلم لكفاهم أن يأتوا بأدلة على زعمهم كما قال تعالى : ( فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (157) الصافات
فعدول الكافرين عن الإتيان بأدلة واضحة ونهج كل طريق مستطاع كإنفاق أموالهم ، وتعريض أنفسهم للهلاك في سبيل صد الرسول صلى الله عليه وسلم عن دعوته ، لدليل واضح على عجزهم عن الإتيان ببينة تدل على صدقهم وصحة مواقفهم .
وهذا ما يقال للكافرين اليوم : هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ، ولكن حديثنا ليس متوجهاً إلى الكافرين الذين يعملون على تشويه صورة الإسلام ، فهذا ديدنهم وهذا حالهم لا يخفى على أي مسلم ، ولكن حديثنا ومع الأسف متوجه إلى أولئك الذين يلبسون لباس الحق ، ويدعون أنهم أهل حق ودعوة صدق ، ويطلقون لألسنتهم العنان في تشويه صورة المخالفين لهم ، واتهامهم بكل تهمة دون دليل أو برهان... اللهم إلا حدثنا ثقة ؟ ...
فنقول لهؤلاء جميعاً : إن سياسة توزيع الاتهامات على المخالفين لكم من غير برهان ، لهي سياسة فرعونية واجهها جميع الأنبياء والدعاة إلى الله سبحانه ، فمجرد الاتهام لا يعتبر شيئاً ، بل هو صفة ضعف وعجز ، فلو كان المتهم صاحب دليل لأتى بدليله وأراح نفسه من عناء التناقضات والتحذير والتشويه ، بل كان يكفيه أن يظهر البينة وعندها سيرى الناس بينته ويأخذون برأيه دون أن يتكلم بكلمة واحدة ، وهذا واضح للغاية ، أما أن يتعب نفسه من أجل تحذير الناس من زيد وعمرو لمجرد مخالفة زيد وعمرو له فهذا دليل إتباعه لهواه ونصرته لمذهبه أو حزبه دون تبصر أو هدى .
فمن السهل أن أقول هذا رجل مدعوم ، أو هذا عميل للجهة الفلانية ، أو هذا جاهل لا يفقه شيئاً ، أو ... أو ، ولكن الصعب أن آتي ببينة تدل على صدق قولي وعدم تعصبي لحزب ، أو إتباعي لهوى ، ومن ناحية ثانية ، فإن العدول عن الرد العلمي المبني على دليل واضح إلى الاتهام والتشكيك دليل على العجز والتجرد من الدليل والبينة ، وهذا عين ما وقع فيه الكافرون أعداء الرسل والدعاة وقد قدمنا أمثلة على ذلك .
بل أقول لهؤلاء المتهمين للناس من غير بينة : أنتم أحق الناس بما ترمون الناس به وأهل له ، وليس هذا قولا مفترى بل هو حق ونور وعندنا عليه برهان من الله سبحانه ، والأدلة على ذلك من وجوه:
1 : عموم الأدلة ، فالكافرون كانوا يعملون على هدم المصالح العامة المخالفة لأهوائهم تحت ذريعة الإصلاح والإحسان ، وكان واضحاً وضوح الشمس أن ما يرمي به الكافرون المؤمنين ، هو عين ما يقعون فيه ، وبلا شك فإن الذين يرمون الناس من غير بينة إنما حملهم على ذلك ما حمل الكافرين ، فالعلة واحدة ، والصورة هي الصورة .
2 : إن المؤمن شديد التوقي والحرص على عدم مخالفة الحق ، فهو منضبط بالضوابط الشرعية ، وما يحمله على ذلك خشية الله سبحانه ، وقد عظم الله سبحانه مسألة التقول على عباد الله من غير بينة أو دليل ، قال سبحانه : ( وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً (58) الأحزاب
وفي الحديث الصحيح عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( وَمَنْ قَالَ فِي مُؤْمِنٍ مَا لَيْسَ فِيهِ اَسْكَنَهُ اللَّهُ ردغة الخبال حَتَّى يَخْرُجَ مِمَّا قَالَ ) . رواه الإمام أحمد في مسنده، ومن يسمع هذه النصوص ويوقن بها ثم يتجرأ بعد ذلك على رمي الناس من غير بينة لدليل على عدم صدقه وإيمانه ، وعليه يكون أهلاً لما يرمي به الغير .
3 : إن رمي المؤمنين بغير بينة لمجرد مخالفة فكر أو نهج ما ، إتباع للظن المتمخض عن إتباع الهوى ، وقد وصف الله سبحانه أتباع الظن بأنهم اتباع كذب والهوى ، قال تعالى : (وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (116) الأنعام(/2)
وقال سبحانه : ( قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ (148 الأنعام
فاتباع الظن تخرص وكذب ، وإلا فمن يتهم الآخرين لا يخرج عن حالتين ، الأولى : أن يكون صاحب بينة ودليل . الثانية : صاحب ظن وهوى ، فإن فقد الدليل الصريح الصحيح ، فهو صاحب هوى ، وقد دلت النصوص بشكل واضح وقاطع على كذب أصحاب الظن اتباع الهوى .
4 : وكذلك فإن اتهام المؤمنين من غير بينة ،مخالفة صريحة للرسول صلى الله عليه وسلم ، فقد جاء في الحديث الصحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : (البينةُ على المدّعي، واليمين على من أنكر ). فأي إدعاء يقع على أي إنسان لا بد وأن تقوم عليه بينة ، فإن الإسلام شدد في حقوق المسلمين وجعل ذلك من الضرورات فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في خطبة الوداع في اليوم المشهود : (أيها الناس اسمعوا قولي ، فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبدا ، أيها الناس إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا ، وكحرمة شهركم هذا ، وإنكم ستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم ) . فأعراض المسلمين مصونة لا يجوز لأي امرئ أن ينتهكها ، أو يشهر بها ، فكيف إذا كان انتهاك عرض المسلم والتشهير به عن غير بينة ؟ فمن خالف ذلك الأمر يكون مخالفاً للرسول صلى الله عليه وسلم ، ومن الطبيعي أنه لا يخالف الرسول صلى الله عليه وسلم في مثل هذه المسألة العظيمة التي تقوم عليها مصالح العباد وحفظ أعراضهم إلا متهم مجروح .
5 : وكذلك فإن اتهام المسلمين من غير بينة ، وسبهم وتجهيلهم وتحقيرهم والإعراض عن مقارعة الحجة بالحجة ، لهو دليل العجز والضعف وقلة العلم ، وإلا ما الفائدة وراء إطلاق التهم المتعددة على العباد ـ كجاهل ، عميل ، حاقد ـ وغيرها من غير الإتيان بدليل ؟ بل لماذا يلجأ المرء إلى مثل هذه التهم وعنده البينة ؟ وقد وضحنا فيما مضى من القول : إن اتهام الناس وتوزيع الألقاب عليهم من غير بينة ، هو سياسة ماكرة يستعملها الكافرون للصد عن سبيل الله سبحانه لعدم استطاعتهم الإتيان ببينة تدل على صدق مزاعمهم ، وهذا هو حال المسلمين الذين يصدرون الاتهامات على عباد الله من غير بينة اللهم إلا أنهم يخالفونهم الرأي ، أو يردون على بعض شبهاتهم . وهذه القضية مبنية على أكذوبة أننا أصحاب دعوة حق ، ومن يخالفنا يكون مخالفاً للحق ، وكل مخالف للحق متهم مجروح ، نعم هذا هو دليلهم ، وهذه هي مرجعيتهم ، فلو أنهم أقاموا ولاءهم وبراءهم على قاعدة قولنا صواب يحتمل الخطأ ، وقول غيرنا خطأ يحتمل الصواب ، لعلموا يقيناً أنهم لا يمثلون الحق ، ولا ينحصر الحق في دعوتهم ، بل قد يكون الحق مع غيرهم ، وعليه لا ينظرون إلى مخالفيهم على أنهم حجر عثرة أمام العمل الإسلامي ، وأنهم يهدمون ما يبنون ، وأن من رد عليهم يعتبر مخالفاً للحق حاقداً على أتباعه ، ولكنها للأسف التربية الحزبية السخيفة التي تربي أبناءها على تقديس الأشخاص واستلهام الحق من أفواههم وأعمالهم ، وأن كل من يخالفهم فهو مخالف للحق معاد له ، لا بد من استباحة عرضه دون أدنى ورع .
ويا ليت المسألة وصلت إلى هذا الحد ، بل تعدته إلى ما هو أعظم منه ، تعدت إلى الحكم على بواطن العباد والشق عن قلوبهم ، فإنك ترى الرجل يعتاد المساجد ، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، ولا يقع في فاحشة ، ولا ... ولا ... إلى غيره ، ومع ذلك يتهم بنفسه ، كأن يقال: هذا منافق ، أو هذا حاقد ، فسبحان الله إذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكشف عن المنافقين الخلص الذين علم نفاقهم بالوحي رغم الأخطار التي تصيب الأمة منهم ،ولم يأمر المسلمين باتهامهم ، فكيف بمن حُكم بنفاقه لمجرد أنه مخالف للحزب الفلاني أو منتقد له ؟؟؟؟
فسبحان الله ، كيف يعتبر أولئك أنفسهم أنهم أصحاب دعوة حق ، وموقف صدق ، رغم ما فيهم من المخالفات الواضحات للآيات المحكمات ، وما عليه أهل السنة والجماعة ؟
أخي المسلم : إذا كان اتهام أي مسلم كبيرة من الكبائر ، فكيف بأن يكون المسلم المتهم عالماً أو داعياً قد وقف نفسه لنصرة هذا الدين ؟ كيف بأن يكون المتهم مربياً لأجيال ، أو هدّاماً لأفكار الكفر ، مبيناً حقيقة الكافرين ؟؟ وذنبه أنه غير موافق للحزب ، أو منتقد له مبيناً أخطاءه ، ولو يعلم هؤلاء عظمة ما يقترفونه من آثام لأقلعوا عن هذا الذنب العظيم الذي تبرأ صلى الله عليه وسلم من أصحابه كما جاء في الحديث الصحيح : (ليس منا من لم يوقر كبيرنا ويرحم صغيرنا ومن لم يعرف لعالمنا حقه ) . رواه الترمذي عن أنس رضي الله تعالى عنه .
فانظر أخي الحبيب كيف يتبرأ الرسول صلى الله عليه سلم من الذين لا يعرفون للعلماء حقوقهم ، فكيف بمن يتهجم عليهم أو يتهمهم ؟ إنها والله مسألة عظيمة لا يقع فيها إلا أصحاب الهوى ضعاف الإيمان أتباع الرجال نسأل الله العافية .(/3)
واعلم أيضاً أخي الحبيب ، أن العالم لا يجوز تتبع زلاته أو إظهارها أو التحدث بها إلا أن تكون حداً من حدود الله سبحانه لما جاء في الحديث الصحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : ( أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود) . أخرجه أبو داود وأحمد.
وهذا حديث صريح الدلالة بعدم جواز انتهاك حرمة العلماء وتتبع عثراتهم ، وأنه يعفى عن زلاتهم إلا أن تكون حداً من حدود الله سبحانه ، فانظر يرحمك الله إلى ما يقع فيه المتحزبون اليوم واحكم عليه من خلال المقاييس الشرعية وانظر ماذا ترى ؟
شبة والرد عليها :
أخي الحبيب : يحسن في هذا المقام أن أورد شبهة من شبهات المنتهكين لأعراض العلماء بسبب مخالفتهم وانتقادهم لهم من خلال ما يدل عليه لسان حالهم .
وتكمن هذه الشبهة بجواز الكذب على الآخرين بغية تسويق الفكر أو الدفاع عنه ، وهذه المسألة ترجع إلى ما ذكرت من كون هؤلاء يعتبرون أنفسهم على حق ، وأن من ينتقدهم يعتبر منتقداً للحق وعليه يجوز فضحه حتى بما ليس فيه بناء على جواز الكذب للمصلحة العامة .
والرد على هذه الشبهة واضح ويتلخص في وجهين :
الأول :
1 : إن الكذب الجائزلا يسار إليه إلا في حال انعدام الصدق ، وسد الطرق كلها إلى الحل ، أما إن كان هنالك طريق يوصلنا إلى الحل ، فالكذب في هذه الحالة لا يجوز .
2 : إن الكذب الجائز ، هو الكذب الذي يؤدي إلى إصلاح ذات البين ، لا الكذب الذي يؤدي إلى الفساد وتشويه العباد ، كما هو الحال في هذه المسألة .
3 : إن الكذب الجائز، هو الكذب الذي يصب في مصلحة المسلمين، لا الكذب الذي يصب في مصلحة حزب أو جماعة أو شيخ وما إلى ذلك ، فهذا قياس مع الفارق .
الثاني :
إن دعوة الأنبياء ما قامت على الكذب والخداع والتلبيس ، بل قامت على الآيات القاطعة والبراهين الواضحة ، والحجج الدامغة ، قال تعالى : (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25) الحديد
وهذه الآية الكريمة تدل على حقائق عدة :
1 : أن الله سبحانه عزز الرسل بالبينات ، أي بالدلائل الواضحات المادية والمعنوية ، فلم يرسل الله سبحانه الأنبياء بالإغراءات المادية ، أو بالحديد والنار ، والبينة تدل على الصدق والحقائق والبراهين والقوة ، وهذا خلاف ما يدل عليه الكذب وتغيير الحقائق .
2 : أن الله سبحانه أرسل الرسل ليقوم الناس بالقسط ، أي بالعدل وهذا ما أمر المؤمنين به إذ قال سبحانه : ( إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً (58) النساء
والعدل نقيض الظلم ، وهو يقتضي الصدق والحق ، لا الكذب والافتراءات ، وهذا خلاف ما عليه القوم ، إذ يرى هؤلاء أن الكذب وظلم العباد من أجل تحقيق مصالحهم أسلوباً شرعياً وهذا كما قلت قياس مع الفارق .
3 : بينت الآية الكريمة أن الذين يتبعون الحق وينصرونه ، هم الذين يلتزمون بأحكام هذه الآية إذ قال تعالى : ( وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ ) . أي أرسل الله سبحانه رسله بالبينات وأمر الناس بالعدل ليعلم من يتبع الحق ممن يعرض عنه .
وبهذا أخي الحبيب تعلم أن ما يتبعه هؤلاء في نهجهم يعارض بوضوح المنهج الحق ، وعليه فإن كل كلمة تصدر بحق أي إنسان لا بد وأن تكون قائمة على دليل حقيقي لنا فيها من الله برهان ، أما الخروج على عباد الله دون تثبت أو دليل لهو إتباع للظن الذي لا يغني من الحق شيئاً ، ودليل واضح على ضعف وعجز أصحابه نسأل الله العفو والعافية .
كلمة أخيرة :
وأخيراً أذكر أولئك الذين يطعنون بالناس دون تثبت بقوله تعالى : (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) ق
وقوله تعالى : ( إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) النور
وقوله تعالى : ( وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً (58) النور
وقد جاء في حديث معاذ رضي الله تعالى عنه : ( أويأخذ بما يقولون ؟ قال : ثكلتك أمك ، وهل يكب الناس على وجوههم يوم القيامة إلا حصائد ألسنتهم ) .
وبهذا أخي الحبيب تعلم خطورة الأمر وأنك مسؤول عنه يوم القيامة ، نسأل الله لنا ولك ولجميع المسلمين العفو والعافية إنه سميع مجيب
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
وكتب : إبراهيم بن عبد العزيز بركات(/4)
لكن رائحته أزكمت الأنوف
وليد بن عثمان الرشودي 29/3/1425
18/05/2004
من هذا الذي لم يمت كمداً على مشاهد الصور في سجن "أبوغريب" ومن هو الذي لم ينفطر قلبه خوفاً على جموع المسلمين المعتقلين في سجون الحرية الأمريكية؟!.
للسائل أن يقول لماذا هذه الأسطر اليوم؟ وأين هي قبل أسبوعين حينما ظهرت تلك الفضيحة؟ والجواب إنما أخرتها بانتظار العدالة الأمريكية التي عودتنا خارجيتها بإخراج تقريرها السنوي عن حقوق الإنسان في العالم في مثل هذه الأيام، لأرى مقدار العدالة والحرية التي تصطبغ بها أمريكا، وخرج التقرير ليلة البارحة 17/5/2004م واكتفى نائب وزير الخارجية بتعبيره عن مآسي "أبوغريب" بأن الرئيس اشمئز من هذه الفعلة، مما أضاف عقوبة لا مثيل لها على السجناء مرة أخرى حينما يرون مثل هذا الاستهجان الأمريكي بهم.
الموقف أظهر دروساً وعبراً ألخصها في الآتي:
1- (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم).
2- لا تطلب الرحمة من عدوك، والحرب في العراق حرب دينية دنيوية اجتمع فيها الاثنان.
3- العدالة والحرية الأمريكية هي للرجل الأبيض فقط.
4- إن انتهاك الحقوق الإنسانية لا يُتهم به إلا المسلمون؛ أما غيرهم فلهم ما يبرر ذلك، وخذ على ذلك مثلاً: "غزة" و"رفح" وما تصنعه الجرافات الإسرائيلية هناك، والذي يقول عنها محامي الدفاع الأمريكي أنها: "دفاع عن النفس"!!
5- الإدارة الأمريكية اليوم تنشر الإرهاب وتؤجج ناره فهي تبحث عن حرب عالمية ثالثة.
6- الغرور بلغ بالإدارة الأمريكية مبلغه، وهذا انكسار في قوتها؛ فلو أحسن الناس استعماله في نشر الكراهية لأمريكا وتفعيل المقاطعة الاقتصادية والتوعية العامة عن الخطر الأمريكي!!
7- كشفت الأحداث أن هناك من هو أمريكي أكثر من الأمريكان، وذلك في مقالات صحفية نشرتها صحف عربية دافعت عن حادث "أبوغريب" أشد من دفاع رامسفيلد عن نفسه.
8-النفاق كشر عن نابه في هذه الحادثة، وأعلن ولاءه لأمريكا وبراءته من بني جلدته؛ حيث شاهدنا هذا في مقابلات إعلامية، حتى إن بعضهم يقول: "إن ما حصل في "أبوغريب" لا يستحق إثارة الضجة على أمريكا بسبب فعل بضع من الرجال والنساء، ولا يرقى إلى تشويه سمعتها أمام العالم"!
9- إن الحل الوحيد للخروج من أمام معضلة الغطرسة الأمريكية هو إعادة التربية الإسلامية للأمة، والبعد عن الاستغراق في اللحظة الحاضرة أو تكدير صفو المجتمعات الإسلامية بأعمال لا تحمد عقباها، وتكون ذريعة للمعتدي في عدوانه.
10- الواجب الوقوف مع سائر السجناء المسلمين في سجون الغرب؛ فإنهم يلاقون من الويلات ما لايعلمه إلا الله؛ فالدعاء.. الدعاء...
11- لا يجوز الاغترار بتقارير الحكومة الأمريكية بعد اليوم خصوصاً فيما يتعلق بالحريات الدينية أو المدنية أو حقوق الإنسان.
وأخيراً فهذه نصيحة للشعب الأمريكي الذي يرغب في العيش بسلام في هذه الحياة الدنيا أن يعلن براءته من أفعال حكومته؛ فإن رائحة أفعالهم أزكمت الأنوف(/1)
لكي ينتصر الإسلام
يتناول الدرس التغيير الذي يفعله الإسلام بالنفوس ورفعه لاهتماماتهم وهممهم، وهذا الفرد المسلم الذي يسمو بالإسلام عليه واجبات ومسئولية تجاه نفسه ودينه ومجتمعه وقضايا المسلمين وتفاعله معها، ومن هنا كانت الدعوة للمشاركة الفعلية الجادة في نصرة هذا الدين .
الحمد لله، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبدُه ورسولُه, بعثه الله تعالى على حين فترةٍ من الرسل، وانقطاعٍ من السبل؛ فهدى به من الضلالة، وبصر به من العمى، وجمع به بعد الفرقة، وأغنى به بعد العيلة, فصلوات الله وسلامه عليه، وعلى صحبه والتابعين الأبرار الأطهار .. أما بعد،،،
فإن الله أنعم على هذه الأمة ببعثة خاتم الرسل، فجعلها خاتم الأمم كما كان نبيها خاتم الرسل عليه.. بعث الله هذا النبي المختار في أمة كان كل همها وشغلها تتبع أصول أذناب الإبل في هذه الصحراء القاحلة, وكانت تركض وراء اليرابيع و الضببة تأكل منها، وتشرب من ماء هذه الصحراء، ثم لا هم لها بعد ذلك غير ذلك أبداً .
فصاح فيها النبي صلى الله عليه وسلم بنداء 'لا إله إلا الله محمد رسول الله' فرفعت إليه رءوسها، وفتحت له عيونها، وأصاخت له آذانها؛ فاهتدت بهداه؛ فكانت بذلك خير أمة أخرجت للناس، تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، وتؤمن بالله، وتجاهد في سبيله, فخرجت من هذه الصحراء القاحلة لتقول لأساتذة المدنية، وشيوخ الحضارة في فارس والروم:
'جئناكم لنخرج من شاء الله تعالى من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة العيش، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام'.
هذا النبي الذي بُعث في هذه الأمة كان من أعظم ما أهدى لها هداية السماء، ونور التوحيد الذي عرف به الإنسان معنى إنسانيته وكرامته . ذلك الإنسان الذي لم يكن له معنى في الجاهلية، وكان يرضى أن يطأطيء رأسه لإله من حجرٍ، أو شجرٍ، أو صنمٍ، فيعبد اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى.
بعث إليه صلى الله عليه وسلم؛ ليعلمه أن: لا إله إلا الله، وأنه لا يجوز أن يطأطيء رأسه إلا لله عز وجل، فلا يسجد لغيره، ولا يعبد سواه، مخلصاً له الدين ولو كره الكافرون؛ فنفخ فيه روح العزة، ومعنى الحمية، وسر الشجاعة والإنسانية، حتى علّم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك الإنسان الأعزل الفقير علمه ألا يذل ويخضع لشيء من متاع الدنيا، وكيف يذل لغير الله عز وجل!
تأبى عقيدتنا، تأبى أصالتنا أن يصبح العُرب أشتاتاً وقطعاناً
فلا لشرقٍ ولا غربٍ نطأطئها بل ترفض الجبهة الشماء إذعاناً
فأصبح هذا الأعرابي الذي كان يركض وراء إبله وغنمه، وكل همه من الدنيا ملبس، أو مطعم، أو مشرب, أصبح هذا الإنسان عزيزاً مرفوع الهامة، لا يذل لغير الله عز وجل، وليس لديه أي استعداد أن يهادن، أو يداهن في دين الله عز وجل, حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم في ضمن دروس العزة والكرامة التي ألقاها على هذه الأمة العظيمة:' مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دِينِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ وَمَنْ قُتِلَ دُونَ أَهْلِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ' رواه الترمذي- وأصله في البخاري ومسلم- .
فعلَّم النبي صلى الله عليه وسلم الإنسان أن يكون أبياً، رفيعاً، قوياً، عزيزاً، منيعاً، وألا يكون همه هذه الحياة الدنيا .
لابد أن يكون للإنسان سرٌ وراء هذه الحياة، ومعنىً فوق هذه الدنيا، وألا يكون الإنسان تراباً فحسب، بل هو حفنة من التراب عانقت هدي السماء؛ فارتفعت، وسمت، وشمخت، فأصبحت أعظم من كل معاني البشرية؛ لأنها ارتبطت بهدي الله، ونور الوحي النازل من السماء, فأصبح الإنسان بذلك عزيزاً، مرفوع الهامة، شامخ الأنف، لا يذل لغير الله طرفة أو لحظة . O:P>
لم يسمح النبي صلى الله عليه وسلم للقبيلة أن تهدر قيمة الفرد كما لم يسمح للفرد أن يعتدي على كرامة القبيلة،
أو المجتمع، أو الدولة بل جعل هذه الأشياء كلها تسير جنباً إلى جنب، فلا قيمة لقبيلة أفرادها مجموعة من الضعفاء، والأتباع المقهورين الأذلاء، الذين لا يرون لأنفسهم قيمة ولا كرامة, ولا قيمة لفردٍ لا ينتسب لذلك المجتمع الإسلامي الكبير، الذي يتعاون أفراده على البر والتقوى، ولا يتعاونون على الإثم والعدوان .
مسئولية الفرد المسلم:
لقد جاء الإسلام الذي يحمّل الإنسان -كل إنسان- مسئوليته على كافة المستويات، فإن النبي صلى الله عليه وسلم جاء يخاطب الفرد؛ ليحمّله مسئوليته على كافة الأصعدة:
مسئوليته في تعلم العلم الشرعي أصولًا وفروعاً عقيدة وأحكاماً: فلا يكون الإنسان مقلداً أو تابعاً، رضي أن يهدر عقله وفهمه، ويهدر إدراكه، ليكونَ تابعاً ومقلداً لفلان وفلانٍ، دون حجة، ولا هدى، ولا كتاب منير، بل إن(/1)
النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر العذاب الذي يصيب الفاجر، أو الكافر في قبره؛ بَيَّنَ أنَّ من أعظم أسباب هذا العذاب: أن يكون الإنسان مقلداً في دينه، لم يتعب في البحث عن الدين، ولم يجهد في استخراج الحجج واستنباطها، ولم يستخدم هذا العقل الذي أنعم الله تعالى به عليه في الوصول إلى الحق بالدليل الشرعي من آية، أو حديث، أو إجماع، و إنما رضي أن يكون مجرد مقلد لفلانٍ وفلانٍ . فقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن الإنسان إذا وضع في قبره:' يُقَالُ لَهُ يَا هَذَا مَنْ رَبُّكَ وَمَا دِينُكَ وَمَنْ نَبِيُّكَ' فأما المؤمن، أو الموقن، فيقول: ربي الله وديني الإسلام ونبيي محمد صلى الله عليه وسلم .. وحينئذ يُسأل سؤالًا رابعاً ما علمك؟ من أين حصلت على هذا العلم؟ هل هو بالهوى والتقليد، أو حصلت علية بالبحث والاتباع ؟ فيقول المؤمن الموقن:' قَرَأْتُ كِتَابَ اللَّهِ فَآمَنْتُ بِهِ وَصَدَّقْتُ' رواه أبوداود وأحمد .
إذاً هو علمٌ مبنيٌ على التحري والدليل، والاتباع والحُجة من كتاب الله تعالى، أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد أجهد هذا المسلم نفسه في طلب العلم، وثنى ركبه في مجالس الذكر، واستمع إلى قال الله، وقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم، وأعمل عقله حتى وصل إلى الهداية، وظفر بها وتمسك بها, ولهذا نجح في الاختبار العظيم، يوم يُوسَد في قبره، ويتخلى عنه كل أحبابه، وأتباعه، ويبقى وحيداً إلا من عمله الصالح .
أما الكافر أو المنافق، فيقول ما يقولون دون حجةٍ، ودون أن يستخدم هذه الجوهرة العظيمة: العقل، في معرفة دين الله
وفهم النصوص القرآنية، والأحاديث النبوية، والوصول إلى الحق, ولو كان يردد في هذه الدنيا العبارات، والألفاظ دون أن يعيها، فإنه يُخفق في الاختبار فيقول: هاه هاه لا أدري كنت أقول ما يقول الناس .
إذاً:كان يقول ويردد لكن دون وعي، ودون بصيرة، ودون أن يحرك إنسانيته، أو يستخدم مواهبه, إنما كان مجرد مقلد لفلان وفلان؛ فيخفق ولا يتذكر ماذا كان يقول في الدنيا، وينسى ما يجب أن يقول في القبر فيقول: لا أدري كنت أقول ما يقول الناس, فيقال له: لا دريت ولا تليت، فيضرب بمطرقة من حديد يصيح صيحة يسمعها من يليه إلا الثقلان، ولو سمعها الإنس والجن لصعقوا من هول ما يسمعون .
فصور نفسك وأنت في هذا الموقف العسير، وأنت تتعرض لهذا الابتلاء الكبير الذي لن ينفعك فيه مال، ولا جاه، ولا سمعة، ولا شهرة، ولا فلان ولا علان, إنما ينفعك فقط.. شيءٌ واحدٌ: علمٌ نافع، أو عمل صالح:
فهل تلقيت دينَ الله تعالى بالحجة والبرهان والدليل، أم تلقيته من فلانٍ وعلانٍ ؟
وهل اهتممت بهذا الدين وتتبعت أحكامه، أم اكتفيت بالموروثات الاجتماعية ؟ هذه الموروثات التي قد تكون صواباً في بعض الأحيان، وخطأً في أحيانٍ أخرى . ونحن نرى اليوم أن الكثير من المسلمين يتعصبون لهذه الموروثات، ويتناصرون من أجلها أكثر مما يتحمسون لبعض الأحكام الشرعية التي يسمعونها من أفواه العلماء، و الدعاة والمتحدثين .
إذاً لقد جعل الله تعالى عليك أنت بالذات مسئوليةً شخصيةً في تَعَلُمِ دينِ الله، ومعرفة أحكام ما أنزل الله على رسوله بالأدلة الشرعية، ولا يغنيك أن تكون مجرد مقلدٍ أعمى، دون أن تبحث عن دليلٍ أو حجةٍ, لا يكفي أن تكون مقلداً لما نشأت عليه في مجتمعك .
مسئوليته في وجوب تزكية النفس بهذا العلم : فأيُ معنى، أو قيمة لعلم يكون محصوراً في رأسك، لم يتحول إلى علم نافع بل هو علم مجرد, وكثيراً ما نواجه في مجتمعنا وواقعنا أشخاصاً إذا تكلموا كانوا كالفلاسفة, يعرفون ويتحدثون، وربما يستشهدون بالنصوص، وربما يقولون: قال فلان وعلان.. لكن إذا أتيت إلى واقعهم الشخصي في عباداتهم, في علاقاتهم بأهلهم: الوضع المنزلي الذي يعيشون فيه, الوضع الاقتصادي, الوضع الاجتماعي؛ لوجدت هؤلاء الأشخاص أبعد ما يكونون عن تمثل والتزام هداية السماء في تزكية أنفسهم، وتزكية من حولهم .
كم من إنسان قد يتكلم بالحق في لسانه، ولكنك حين تنظر إلى سلوكه الشخصي؛ تجد شيئاً آخر، وحين تنظر إلى بيته؛ تجد ألوان المعاصي والمنكرات، وتجد أهله وذريته وأولاده في وادٍ آخر، لم يتعاهدهم بالهداية، ولم يعلمهم، بل ولم يمنعهم من الحرام، فأتاح لهم كل وسائل الفساد، وكل وسائل الاتصال بالعالم كله، وهو يقول: هؤلاء على مستوى أن يميزوا الطيب من الخبيث.. نعم كانوا على مستوى أن يميزوا الطيب من الخبيث لو أنك تعاهدتهم، وعلمتهم، وربيتهم، وهذبتهم، ووضعت لهم الموازين المستقيمة التي يستطيعون أن يميزوا بها بين الحق والباطل، والهدى والضلال.(/2)
أما أن تتركهم لعوادي الزمن، وخطط الأعداء، يشاهد في التلفاز، ويسمع في المذياع، و يقرأ في الجريدة الكثير، ويسمع في المدرسة، ويجالس قرناء السوء، وربما أتيح له كثيراً أن يشاهد أفلام الفيديو، بل أن يطلع على القنوات الفضائية التي تبث من أنحاء العالم، ومنها قنوات تنصيرية، وقنوات جنسية، وقنوات تخريبية، وقنوات تنقل لنا قاذورات العالم كله، وما فيه من خير وشر, ثم تترك لهذا العقل الغض الطري البسيط، الذي لم ينضج بعد، ولم يملك إمكانية التمييز، وتقول: إنه قادرٌ؛ فإن الأمر حينئذ يكون كما قيل :
ألقاه في اليَمِ مكتوفاً وقال له إياكَ إياكَ أن تبتلَ بالماءِ
أو تجد هذا الإنسان الذي قد يفهم بعض النصوص: في تعاملاته التجارية قد يأكل الربا، ويأكل الحرام، وقد يغش، وقد يخدع، وقد يأخذ أموال الآخرين، أو يعتدي على أراضيهم، أو يأخذ مالهم بالباطل لا بالحق, ومع ذلك يلتمس لنفسه ألف عذرٍ وعذر.
فأين التزكية إذاً؟ وأين العلم الذي يجيده هذا الإنسان في لسانه، والله تعالى يقول:} وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا[7]فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا[8]قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا[9]وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا[10]{ 'سورة الشمس' فلا بد أن تزكي نفسك ثانياً بهذا العلم .
وهذه التزكية لا يغني فيها أحدٌ عن أحدٍ، ولا ينفع فيها قريبٌ عن قريبه، ولا أبٌ عن ابنه، ولا زوجٌ عن زوجه:} يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ[88]إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ[89] {'سورة الشعراء' .
مسئوليته في حمل هموم المسلمين والتحمس لقضاياهم: والإسلام لم يقنع منك أن تكون عالماً بالشرع فقط، أو أن تضيفَ إلي ذلك تزكية نفسك شخصياً، وتزكية أولادك وزوجك ومن ائتمنك الله عليهم فحسب, بل لابد أن تضيف إلى هذين الأمرين أمراً ثالثاً: هو عربون دينك، وإيمانك، وانتسابك إلى هذا الاسم الشريف العظيم: ' الإسلام ' وإلى هذا المجتمع المسلم، ألا وهو أن تكون متحمساً لقضايا المسلمين, متعاطفاً مع همومهم, فلا تعتبر أن ما يصيب المسلم في المشرق والمغرب قضيةٌ خارجيةٌ لا تعنيك، أو شأنٌ خاصٌ في دولةٍ من الدول, بل تعتبر أن من علامة صدق الإيمان في قلبك أن يتحرك المؤشر كلما سمعت خبراً, فإن كان الخبرُ ساراً؛ تحرك المؤشرُ بالفرحِ والسرو وإن كان الخبرُ مزعجاً؛ تحرك المؤشر بالحزن والتعاطف مع قضايا المسلمين بقدر ما تستطيع .
وأنت تستطيع الكثير.. ولو لم تستطع إلا الكلمة الطيبة؛ لكانت صدقة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم . فمن الذي يحول بينك وبين أن تتحدث عن قضايا المسلمين وهمومهم، أو تشاطرهم أفراحهم وأحزانهم, أو تعمل على توعية من حولك بما يعانيه المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها من ألوان الاضطهاد والتنكيل التي تبدأ بمحاولة نقلهم عن دينهم إلى دين آخر , سواء كان هذا الدين هو النصرانية، أو كان هذا الدين هو العلمانية، أو كان هذا الدين هو الإعراض عن دين الله عز وجل والجهل به، بدءاً بقضية التوحيد وشهادة أن محمداً رسول الله، التي أصبح من المسلمين من يجهلها, وانتهاءً بالأحكام الشرعية التي لا يفهم الكثير منها إلا أقل القليل, ومروراً بتجهيل المسلمين أمور دنياهم؛ ليصبحوا عالة على عدوهم، فهم يستوردون من عدوهم كل شيء، ويعتمدون على عدوهم في كل شيء,
فأصبح عدوهم يمسك بخناقهم .
والكلمة الطيبة منك لا تكفي.. لأنك تملك أكثر من ذلك, تملك المشاركة الحقيقية:
المشاركة بالمال مثلاً في قضايا المسلمين: فأنت تستطيع أن تشارك بالمال، وأن تؤدي بعض شكر نعمة الله عليك بالزكاة، أو غيرها من الصدقات التي قد تُطعِم بها جائعاً، أو تكسو عارياً، أو تروي ظمآن، أو تعالج بها مريضاً، أو يهدي الله بها ضالاً، أو متعرضا للتنصير والتكفير، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول:' تَصَدَّقَ رَجُلٌ مِنْ دِينَارِهِ مِنْ دِرْهَمِهِ مِنْ ثَوْبِهِ مِنْ صَاعِ بُرِّهِ مِنْ صَاعِ تَمْرِهِ -حَتَّى قَالَ- وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ' رواه مسلم والنسائي وأحمد.
إذاً: لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن يكون ذلك شق تمرة، أو ريالاً واحداً, فأنت لو تصورت أن ألف مليون مسلم اليوم، أو ألفاً ومائتي مليونِ مسلمٍ, لو أن كل واحد منهم تخلى عن ريالٍ واحدٍ فقط؛ لكان معنى ذلك أننا جمعنا في حملةٍ واحدةٍ ألف ومائتي مليون ريال !! كم سوف تنفع هذه الأموال ؟ كم سوف تدفع بإذن الله تعالى من الشرور عن المسلمين ؟
لكن المشكلة العظيمة: أن الكثيرين تخلوا عن دورهم.. ولو كان دوراً محدوداً.. ولو كان دوراً قليلاً، وظنوا أن المطالبةَ بالإنفاق والبذل هي مسئوليةُ الأغنياءِ فقط, أو تخلوا عن دورهم في الدعوة والهِداية، وظنوا أن الدعوة، والهداية، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي مسئولية العلماء، أوالدعاة، أوالخطباء فقط، ونسوا أن الله تعالى(/3)
خلقنا بشراً مسئولين مكلفين, وحين أنزل الدين لم يقل أبداً: إن الدين مسئولية فئة خاصة، ولا مسئولية طبقة معينة،
وإنما جعل مسئولية هذا الدين على عاتق كل واحد منا، سواء قام بها وحفظها، أم ضيعها؛ فهو مسئول بين يدي الله عز وجل, قال الله تعالى:} وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ[44] {'سورة الزخرف' .
لابد من المشاركة :
لنفرض جدلاً أنك لا تستطيع أن تتكلم، ولا أن تعمل، ولا أن تبذل المال، ولا أن تقف بنفسك مع إخوانك معلماً، وداعياً، ومرشداً، ومُصَبِّراًً, فإنك تستطيع ولابد أمراً بعد ذلك ألا وهو: المشاركة الوجدانية:
قدم الدليل العملي على أنك فعلاً تشعر بمشاعر المسلمين في كل مكان.
أثبت أنك لست شامتاً تسخر مما يقع للمسلمين .
قدم الأدلة المادية على أن روح الاخوة الإسلامية ما ماتت بعدُ في قلبك .
إن المشاركة الشعورية والوجدانية هي أحد الأشياء التي نحتاج إليها كثيراً ولو لم تعمل, فإن النبي صلي الله عليه وسلم كان يقول لأصحابه، وهو في معركة تبوك يقول لهم:' إِنَّ بِالْمَدِينَةِ أَقْوَامًا مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا إِلَّا كَانُوا مَعَكُمْ حَبَسَهُمْ الْعُذْرُ' رواه البخاري وابن ماجة. إذن لنفترض أنك معذورٌ، لا تستطيع أن تتكلم لأنك أبكم، ولا تستطيع أن تنفقَ لأنك فقيرٌ، ولا تستطيع أن تشاركَ بنفسك لأنك مريضٌ، ولا تستطيع أن تعمل شيئاً:
أثبت أن عندك قلباً يحزن لآلامهم.. ويفرح لفرحهم.
أثبت أن لديك مشاركةً وجدانيةً مع إخوانك في كل مكان .
أثبت أن روح الاخوة لا تزال تعمل في قلبك .
يا راحلين إلى البيت العتيق لقد سرتم جسوماً وسرنا نحن أرواحاً
إنا أقمنا على عذرٍ نكابده ومن أقام على عذرٍ كمن راحَا
هذا الشعور الوجداني في قلبك سيتبعه تمنٍ .. سيتبعه على أقل تقدير: دعوة ترفعها في الهزيع الأخير من الليل إلى رب العالمين تفتح لها أبوابُ السماء:
أتهزأ بالدعاء وتزدريه ولا تدري بما صنع الدعاء
سهام الليل لا تخطي ولكن لها أجلٌ وللأجل انقضاء
الأمة التي قوام أعدادها ألف ومائتا مليون هل تعتقد أنه لا يوجد فيها واحد مستجاب الدعوة ؟
ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم:' إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ' رواه البخاري ومسلم والنسائي وأبوداود وابن ماجة وأحمد .
نحن نجزم يقيناً أن في هذه الأمة من الأولياء من لو دعوا الله؛ لأجابهم, ولو استسقوا المطر من السماء؛ لسقاهم شراباً طهوراً, ولو سألوا الله تعالى؛ ما رد سؤالهم... فأين هؤلاء ؟ لماذا لا نحرك همم الناس ؟ العجائز، والأطفال، والكبار، والصغار، والسذج، والمتعلمين، والجميع، لنقل لهم: ادعوا الله لإخوانكم المسلمين في كل مكان أن يفرج الله تعالى عنهم كروبهم، ويزيل عنهم همومهم، ويؤمنهم من خوف، و يطعمهم من جوع، ويرويهم من ظمأ, وقبل ذلك كله أن يعلمهم من جهل، وأن يبصرهم في دينهم .
لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها:
إن آخر هذه الأمة لن يَصْلُحَ إلا بما صَلُحَ به أولها, فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم رَبَّى هذه الأمة على هذه المعاني, فرباها على المسئولية الشخصية في طلب العلم الشرعي والتعب وراء تحصيله بدليله, وربى هذه الأمة على مسئولية التزكية لهذا العلم للنفس وللغير, و ربى هذه الأمة على مسئولية المشاركة، وأن تكون الأمة جسداً واحداً،
إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى كما قال عليه الصلاة والسلام, وكما قال في الحديث الآخر المتفق عليه:'مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى' رواه البخاري ومسلم وأحمد. فلن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها .
فلا بد إذاً من دعوة لهذه الأمة:
دعوة إلى الدين كله لا بعضه، فلا ندعو إلى بعض الدين ونغفل عن بعضه } أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ [85] { 'سورة البقرة' . إننا لا نقبل تجزيء الإسلام، أو علمنته، فالدين جاء ليعلم الإنسان كيف يتوضأ، وكيف يصلي، وكيف يبيع ويشتري، وكيف يحكم, جاء ليهيمن على حياة الإنسان كلها، دقيقها وجليلها, ولا يجوز التفريط بشيء من الدين، أو اعتبار أن جزءً من الحياة غير داخل في مسألة الهداية الربانية .(/4)
ولا بد أن تكون الدعوة إلى الدين لا إلى الهوى، فالدين واحد أما الأهواء فهي شتى:} ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ[18] {'سورة الجاثية' . } وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ [49] {'سورة المائدة' . يجب أن ندعو إلى دين الله : كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم قولًا وفعلاً , لسنا ندعو إلى أهوائنا، ولا إلى أمزجتنا، ولا إلى رغباتنا، ولا إلى آرائنا الشخصية، وإنماً ندعو إلى دين الله تعالى.
أما آراؤنا فقد نعرضها، ولكننا لا نُلزم بها أحداً؛ لأنها تحتمل أن تكون خطأ، وتحتمل أن تكون صواباً .
ولابد أن تكون دعوتنا إلى الدين فوق مستوى أن ندعو إلى لافتةٍ خاصةٍ، أو رايةٍ خاصةٍ، واسمٍ خاصٍ، أو حزبٍ خاصٍ، أو شخصٍ معينٍ, و إنما نحن نهتم بالدين، وندعو إلى الدين، ولا يهمنا بعد ذلك أي جنس تكون، وأي لون تكون، وأي اسمٍ تنتحل، فإن المهم هو أن تكون ملتزماً بحقيقة الدين، وجوهره ومظهره.
فلا بد من هذا:
أولًا: أن نقوم بدعوة جادةٍ إلى دين الله عز وجل .
وثانياً: أن تكون هذه الدعوة موجهةً للأمة كلها فليست الدعوة إلى الإسلام حكراً على فئةٍ خاصةٍ، فالذي يُهمُنا أن ننقذ الناس بدين الله تعالى .
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداءك أعداء الدين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
من خطبة:لكي ينتصر الإسلام ...للشيخ/سلمان العودة(/5)
للأزواج فقط !!
إبراهيم عاصي *
... وإنه ما لم يحصل هذا الانفتاح ، فيقارع الرأي الرأي ، وينازل الفكر الفكر، منازلة علنية تحت ضوء الشمس ، حرة متكافئة ، بلا كبت ولا قهر ولا إبعاد .. إنه ما لم يحصل ذلك فإن الحقيقة تظل غائبة ضائعة ولا تتمحص ! وهذا ليس من مصلحة الإنسان في شيء .
أيها السادة :
بعد هذا الاستطراد السريع ، وقبل البدء بقراءة نص البحث الذي هو موضوع محاضرتنا لهذه الأمسية ..اسمحوا لي أن ألفت عنايتكم إلى النقاط التالية :
1 ـ إن عبارة (للأزواج فقط) تمثل عنوان المحاضرة وليس موضوعها . وهذا العنوان أشبه ما يكون (بالمانشيت) الصحفي ليس أكثر. إذ أن الموضوع ذو مساس بالأزواج وغير الأزواج من الجنسين ، ممن هم على أهبة الزواج القريب أو البعيد ، أو ربما على أهبة الطلاق أيضاً !!
حجر الزاوية في الموضوع هو (ظاهرة الخيانات الزوجية) إلا أن البحث يتشعب بعد ذلك ليتناول أموراً فرعية متعددة . وذلك عندما يتعرض الحديث إلى أسباب الظاهرة ونتائجها وكيفية علاجها .
2 ـ لقد اصطنعت للبحث أسلوب الحوار بين اثنين أحدهما يسأل ، والثاني يجيب . وما ذلك إلا تحاشياً مقصوداً مني لطريقة السرد المباشر الرتيب ، التي من شأنها أن تدخل السأم والملل إلى نفس السامع عندما تطول .
3 ـ إن المنطق العام للبحث ليس أرضية مجتمع بلدنا الضيق المحدود .. لا ، وإنما هي أرضية المجتمع العربي العام ، وحتى غير العربي من المجتمعات الأخرى . وأرجو ألا أكون في هذا مبالغاً .
4 ـ قد يلاحظ السامع فيما يلي ، أنني ألجأ أحياناً إلى عبارات تبدو فيها الصراحة فاقعة ، إن لم نقل جارحة أو محرجة لمشاعر بعض الحاضرين ، أو الحاضرات !!
وعذري الذي أبديه سلفاً ، هو أنني رأيت الصراحة في الحديث كالخط المستقيم في الهندسة . فكما أن الخط المستقيم في الهندسة هو أقصر بعد بين نقطتين .. كذلك الصراحة هي أسلم طريق للفهم بين متخاطبين ، لا سيما إذا كان التخاطب ينحو منحى الحديث الموضوعي ، الهادئ المتئد .
والآن هيا بنا في جولة مع الأزواج .. ولكن ليس مع الأزواج فقط !!
قلت لمحدثي : قد أفهم جنوح بعض العزبان من الشباب والفتيات نحو ارتكاب الخطيئة ، ولكنني لا أفهم أبداً السبب في الخيانات الزوجية ، التي بدت أسمع عنها الكثير من الناس ، أو أقرأ عنها باستمرار في صفحات " أخبار المجتمع " وزوايا " مشكلات اجتماعية " لكثير من الجرائد والمجلات !!
قال : وما السبب في أنك تفهم أحياناً ، ولا تفهم احياناً أخرى ؟
قلت : بالنسبة إلى غير المتزوجين ، قد يفهم الأمر على انه بحث عن إطفاء شهوة وإشباع غريزة ، لم تتح لهم الظروف بعد أن يشبعوها بالحلال ، فجنحت بهم نفوسهم الأمارة بالسوء بوسوسة من شياطينهم ، فأطفئوها بالحرام ..
أما بالنسبة إلى المتزوجين فإنني لا أفهم الأمر على أنه بحث عن إطفاء شهوة أو إشباع غريزة ، لأن ذلك متيسر لهم متى شاءوا حلالاً طيباً !!
قال : بل يجب أن تفهم الأمر في حالته الثانية ، على أنه أيضاً بحث عن إطفاء شهوة حرام وإشباع غريزة .
قلت : ولماذا الزوجة إذن ؟ بل لماذا الزواج أصلاً ؟!.
قال : هذا هو السؤال الوجيه الذي أنتظره منك .
قلت : وجب عليك إذاً أن تعطيني الجواب شافياً .
قال : لك ما تريد .. إن الزوج ـ ذكراً أو أنثى ـ خلق ليلبي أكثر من حاجة في حياة زوجه الآخر.
ومن ذلك : الحاجة الطبيعية المعروفة التي يترتب على تلبيتها دوام الجنس وإنجاب الأولاد وعمارة المجتمع . وبعبارة أخرى ، إن الغاية من الزواج بشكل عام هي : سكينة النفس ، بناء الأسرة ، استمرار النوع ، تلبية الرغبات الطبيعية عند كلا الجنسين بالطريق الطبيعي ، وبذلك يتميز الإنسان من الحيوان . إلا أن خللاً ما قد يطرأ على الحياة الزوجية ، فيفسد توازنها ، وذلك عندما تتعطل إحدى وظائف الزواج..
عندها يساق أحد الزوجين سوقاً إلى الملل فالقرف . فالخيانة وما يتبع ...
قلت : وكيف ذلك ؟ أنا لم افهم عليك كيف يصل الأمر إلى جد " الخيانة وما يتبع ..."!
قال : تريث وأنا كفيل بإفهامك . ولكن قل لي أؤحدثك أولاً عن الخيانة الزوجية وأسبابها لدى الأزواج أم لدى الزوجات ؟
قلت : على رأيك .. وإذا لم يكن لديك مانع ، فلا بأس بأسبابها عند الأزواج .
قال : الأسباب كثيرة ، ولكن أبرزها في رأيي هو " عدم التكافؤ" .
قلت : وما عدم التكافؤ هذا ؟
قال : عدم التكافؤ له وجوه عديدة .. فهناك عدم التكافؤ في السن ، كأن تكون الزوجة أكبر من زوجها بشكل لا يحتمل . وعدم التكافؤ في الشكل . كأن تكون الزوجة دون المستوى الذي يطمح إليه الزوج من الحسن أو تناسق الخلق . وعدم التكافؤ المزاجي والعاطفي ، كأن تكون الزوجة نزقة انفعالية متغطرسة ، وهو متمهل متواضع وقور. وعدم التكافؤ الثقافي ، كأن تكون أمية وهو متعلم مثقف . إلى آخر ما هنالك من حالات وتناقضات ...
قلت : وماذا أيضاً من أسباب ؟
قال : (المجتمعات المفتوحة) .
قلت : وماذا تعني بالمجتمعات المفتوحة ؟(/1)
قال : أعني بها مجتمعات المسابح ، والملاهي ، والنوادي ، وحفلات الكوكتيل ... ومجتمعات السهرات المختلطة ، السهرات التي تقام من أجل عرض المحاسن والمفاتن ، أو عرض الأزياء ، أو عرض خفة الدم والروح ، أو عرض الخدمات !!
قلت : ثم ماذا لديك من أسباب ؟
قال : كثرة (العرض) .
قلت : وما كثرة العرض هذه ؟
قال : أعني بكثرة العرض ، كثرة البضاعة النسائية المعروضة على الرجل في الشوارع والأسواق، والمحال التجارية والعامة ، والدوائر والمؤسسات والشركات .. فحيثما تلفت الرجل وقع نظره على الفتاة المتبرجة المزركشة ، أو المرأة المتصدية المتحدية بآخر ما لديها من أفانين التزويق والإغراء ! حتى ليحس المرء وكأنه يتحرك في متحف للشمع كبير، كل معروضاته أو جلها إناث مصطبغات ملونات وليس من لافتة على أي واحدة منهن ، تحذر المتفرج بقولها (احذروا الدهان) . ولو أن هذا التحذير وجد لسلم الكثير من المتفرجين من شر الوقوع فيما لا تحمد عقباه !
قلت : وما هذا الذي لا تحمد عقباه ؟
قال : أعني الوقوع في شرك إحداهن ، راغباً بها عن زوجته .
قلت : وكيف يحصل هذا ؟
قال : يحصل ذلك تلقائياً ، بمجرد المقارنة الذهنية ، من حيث يريد الزوج أو لا يريد .. تلك المقارنة التي تنعقد في ذهنه بين زوجته من جهة ، وبين الأعداد الغفيرة التي يعايشها في حياته العامة من جهة ثانية . مقارنة في اللون ، ومقارنة في الحجم والتكوين الجسدي ، ومقارنة في الذوق (والإتيكيت) .. وإلى آخر ما هنالك من مقارنات يسهو معها جميعاً أنه أمام مناظر أغلبها صنعي استهلاكي زائل ! كما يغفل وهو في غمرة المقارنة الذهنية عن أشياء جوهرية جداً . منها :
ـ عامل الزمن الذي مسح شيئاً من معالم زوجته ، التي مضى على زواجه منها (كذا سنة) ، والذي سيمسح بدوره من معالم جمال هذه الصبية التي خطرت من أمامه ، عاجلاً أم آجلاً لا محالة !
ـ وعامل الولادة : الذي لم تتعرض له تلك المراهقة أو هاتيك المتصابية التي مرت قبل قليل !
ـ وعامل الجهد : الجهد في تربية الأولاد ورعاية الأطفال ، والنهوض بأعباء البيت من طبخ وجلي وكنس وترتيب .. ذلك الجهد المرهق الذي تبذله زوجته على مر الأيام ، بينما لا تعاني منه ولا من بعضه تلك البطرة التي وجدها تشرب القهوة وتدخن السيكارة وراء مكتبها لأنها ألقت بتلك الأعباء جميعاً على الخادمة المسكينة رهينة البيت ، أسيرة الشغل الدائم !!
قلت : قف لقد ضبتك !
قال : بماذا ضبطتني ؟
قلت : بالتحيز للرجل . ومن فمك أدينك !
قال : وكيف ؟
قلت : ألم أقل (إنه يغفل وهو في غمرة المقارنة الذهنية) عن كذا وكذا مما عددت من عوامل ؟! فالمسؤول هو الزوج إذاً وليس الزوجة . أما هكذا ؟ إنه هو الذي يغفل . فلماذا تحملها المسؤولية لها وتحملها له ؟!
قال : إنك لم تضبطني بشيء يا صاحبي . بل إني لأراك كمن قبض على ريح لا أكثر! إن الجل الذي كتب عليه أن يعيش في متحف الشمع الذي حدثتك عنه ، كالرجل الذي ألقي به مكتوفاً في البحر وقيل له : " إياك إياك أن تبتل بالماء " !! ولو أن المرأة خرجت إلى أعمالها وقضاء حوائجها الضرورية وهي في مظهرها الطبيعي لا تزييف ولا إثارة لتحول البحر إلى جدول هادئ لطيف ولما غرق فيه أحد .
قلت : لننتقل إلى أسباب أخرى ، فهل لديك ؟
قال : الجعبة مليئة .
قلت : هات إذاً .
قال : هناك من الأسباب ما يمكن أن أسميه (بالتعفن النفسي والخلقي) . وهو موجود عند بعض الأزواج . وهذا سبب خاص بالأزواج لا دخل للزوجات فيه .
قلت : وكيف يكون ذلك ؟
قال : هناك صنف من الأزواج لهم طبع القطط أو أخلاق الخنازير ! فمعلوم لديك أن أشهى لقمة يبتلعها قط ، هي تلك التي يسرقها سرقة من المائدة ، أو من المطبخ أو النملية .. وكذا الخنزير فإن أشهى طعام لديه هو ما كان أخبث من غيره وأنجس ! لدرجة أنه عندما حرم في المداجن الحديثة من تناول النجاسات وذلك بربطه إلى معالف نظيفة الطعام ، قيل إنه أخذ يأكل روثه ويلتذ بهذا الأكل !! أقول : إن بعض الأزواج ، لهم مثل هذه الطباع والأخلاق الخنزيرية القططية . فهم يؤثرون الخبيث على الطيب ، والحرام على الحلال ، والخيانة على الأمانة ، حتى ولو كانت أزواجهم أجمل وأنضر، وأطيب وأطهر !!
والأنكى من ذلك ، أن هؤلاء (المتخنزرين) لا يستحيون من أن يلتمسوا لخياناتهم بعض الأعذار الشيطانية المنمقة ، مثل قولهم : " الأكل من طعام واحد يدعو إلى الملل ". وقولهم : " أكل المطاعم أحسن من أكل البيوت "!! (1)
قلت : غريب والله أمر هؤلاء ؟! ولكن ، زدني .. زدني معرفة بالأسباب . زادك الله علماً وفهماً .
قال : (وقد غلبه الضحك) وهناك يا صاحبي نفر من الأزواج يرتكبون الخيانة " شهامة ومروءة "!!
ضربت كفاً بكف وقلت دهشاً وأنا لا أكاد أصدق أذني : ماذا ؟ ماذا ؟
قال : يخونون (شهامة ومروءة) أفلا سمعت ؟!!
قال : وهل تراك بدأت تسخر مني وتهزأ بي ؟!
قال : معاذ الله . وكيف أسخر منك وأهزأ بك وأنت جليسي وأنيسي ؟!(/2)
قلت : إذا حدثتني عن أغرب (شهامة) وأعجب (مروءة) سمعت بهما في حياتي !
قال : بعضهم ، وهم من (أكابر) الشعراء وكتاب المقالة في بعض المجلات المشهورة .. يمارس الخيانة الزوجية بقصد (جبر خاطر) المرأة التي يزني بها ليس إلا !! وذلك بعد أن يقتنع اقتناعاً بأنها تعاني من نقص في ذهنها أو في جسدها (كذا)!! ولا يخفى عليك يا صاحبي ما في هذا (الصنيع) من (إنسانية وشهامة ومروءة)!!
قلت : بربك أجاد أنت في كلامك أم تمزح ؟
قال : ثق بأنني جاد لا مازح . وإليك بالحرف الواحد نص الاعتراف الذي أدلى به الشاعر الكاتب العلم أمام امرأة اسمها (مريم) ، جاءت تستجوبه صحافياً بقصد (نفع القراء) طبعاً :
س : ولكن هل مارست الخيانة فعلاً ؟ وفي أي ظروف ؟
ج : إنني لا أخون إلا إذا كنت مقتنعاً أن المرأة التي أخونها تعاني نقصاً في ذهنها وفي جسدها . وفي هذه الحالة تكون الخيانة تعويضاً عما ينقصها (!!!). أما في حالة الامتلاء فلا أبحث عن طعام آخر (!!!). (2).
قلت : (هاتفاً) برافو .. وعاشت القناعة التي هي كنز لا يفنى ! وعاشت الشهامة والمروءات !!
قال : وهل تريد مزيداً من الأسباب ؟
قلت : هات .. هات .. طيب الله أنفاسك .
قال : سأعطيك سبباً واحداً إضافة لما سبق ، ولن أزيد عليه . وإنه عندي من الأهمية لفي مقام خطير. ذلك لأنه يتعلق بالزوجة وحدها فقط .
قلت : وما هو ؟
قال : (عدم اهتمام الزوجة بزوجها).
قلت : وكيف ؟
قال : كثير من الزوجات ـ يا صاحبي ـ يرغمن أزواجهن إرغاماً على الانصراف عنهن والملل منهن ، ومن ثم يكون الانزلاق إلى الخيانة الزوجية !! وإلا فماذا يصنع الزوج الذي ابتلي بزوجة مهملة لهندامها وزينتها ؟ ويفتح عينيه عليها صباحاً ليراها في ثياب المطبخ ! يطل عليها ضحى فيجدها ما تزال مبعثرة الشعر ملطخة الوجه ! يرجع مكن عمله ظهراً ليبصرها في أهدام الغسيل ! يتفقدها مساءً فيلفيها قد سبقته إلى الفراش لتشخر وتشخر غاطة في نوم عميق !
في حين يرى غيرها من بنات جنسها ، يملأن الدنيا من حوله زينة وعطراً ، وخفة ورشاقة . يجمزن ويقمزن مثل ذكران الحجل أو ديكة الحبش في كل شارع وعند كل منعطف !!
ثم ماذا يصنع الزوج الذي يشتهي كلمة ملاطفة واحدة فقط من لسان زوجته (الوقور) ، مرة في اليوم ، في الأسبوع ولكنه لا يسمعها ، حتى لكأن لسانها أكله القط ! بل إنه لا يسمع إلا كلمة : هات ، هات !! وفي أحسن الأحوال لا يسمع إلا شكاواها على الأولاد الذين خالفوا أوامرها بغيابه وفعلوا كيت وكيت .. وعلى الجيران الذين أزعجوها فوبختهم بكيت وكيت .. وطبخة الغد ولوازمها من كيت وكيت !!؟
في حين أن غيرها من بنات جنسها ، يحاصرن زوجها من كل جانب ، وفي كل مكان . بحكم العمل أو الوظيفة .. بحكم التنقل أو التنزه .. يحاصرنه بكل ابتسامة حلوة ، أو عبارة جذابة ، أو حديث مؤنس لطيف !!
مثل هذا الزوج المنكوب ماذا يصنع ؟ أليس من حقه أن يمل ويقرف ؟ أليس من حقه أن يعاف ويكره ؟ ثم أليس مثل هذا الزوج ـ والحالة هذه ـ صيداً سهلاً لأية شيطانة أو زانية ؟!
قلت : بلى والله .. إنه لكذلك . ولكن قل لي ، ماذا عن أسباب الخيانة لدى الزوجات ، وقد عرفنا أهم أسبابها عند الأزواج ؟
* * *
قال : أول هذه الأسباب يا صاحبي هو (عدم التكافؤ) .
قلت : عرفنا منك (عدم التكافؤ) هناك كيف يكون .. أما هنا فكيف أشكاله ؟
قال : ما قلته هناك ، أقوله نفسه هنا تقريباً ، ولكن بشكل آخر.. كأن يكون هو الطاعن في السن وهي الصبية اللعوب .. أو دميم الخَلق شرس الطبع جافياً غليظاً . وهي الحسناء الرقيقة .. أو جاهلاً سقيم الذهن بليد العقل ، وهي الذكية المرهفة الحس والشعور.. أو كأن يكون من بيئة شعبية متواضعة ، وهي من وسط (راق) تعاني معه من (عقدة التعالي) فتسعى باستمرار عن طريق (النخر والنرفزة) للتعويض عما ساقها إليه القدر من (سوء حظ) و (تعاسة مصير) !!
أو كأن يكون هو الفقير الدرويش صاحب اليد السفلى ، وهي ذات الدخل والوفر صاحبة المنصب والوظيفة ، صاحبة اليد العليا ... وإلى آخر ما هنالك من مفارقات .
قلت : جزاك الله خيراً على ما فصلت . ولكن هل من سبب آخر لخيانة الزوجات أزواجهن ؟
قال : نعم .. والأسباب كثيرة ووفيرة .
قلت : إذاً زدني ، زدني معرفة بها . زادك الله علماً وفهماً .
قال : ومن الأسباب الهامة ـ يا صاحبي ـ في خيانة الزوجة(الماضي العاطفي والتجارب السابقة).
قلت : وماذا تعني بذلك ؟
قال : بعضهن يكون لهن قبل الزواج روابط وعلاقات معينة مع رجل ما ، خطيباً أو عشيقاً ، مخلصاً أو متسلياً .. ثم لأمر ما انقطع حبل الصلة من جهة ذلك الرجل ! كأن يكون خطب على خطبته شاب آخر أكثر منه مالاً أو أعلى منصباً ، فمكنه ذلك من إغراء الأهل بالتحول إليه ، ومكنه من الاحتيال على الفتاة للقبول به ، فتنفسخ الخطبة مع الأول لتنقلب إلى زواج من الثاني ، ثم ما تلبث أن (تذهب السكرة وتأتي الفكرة) ببروز الخطيب السابق عشيقاً لاحقاً من جديد !!(/3)
ـ أو كأن يكون الحبيب المتسلي العابث ، قد قضى أوطاره ، بعد أن ترك بصمات حوافره ـ أعني أصابعه ـ على قلب تلك الفتاة فأسرها بعد أن ملكه ، وهيهات أن يخلص من بعده لغيره !
ـ أو كأن تكون الحبيبة نفسها متسلية عابثة ، خطر لها وقد طرق الخطيب بابها ، أن تجرب بيت الزوجية بعد أن جربت ما سواه مع الأصدقاء ! ولكن هيهات أن تمحى آثار الماضي بسهولة ولو حصل الزواج .
قلت : وهل عندك من دليل على ذلك ؟
قال : وما نوع الدليل الذي تريد ؟
قلت : أريده دليلاً عصرياً علمياً ، وحذار من الميتافيزيقيا ، فأنا ـ كما تعلم ـ شاب عصري جداً !!
قال : فهمت عليك تماماً .. أيرضيك أن يكون الدليل من مجلة طبية جنسية مثلاً ؟
قلت : هذا بالضبط ما أريده .
قال : وما رأيك إذا كانت مجلة لبنانية ؟
قلت : يا سلام .. هذا عز الطلب .. بل أكون شاكراً لك جداً ومسلماً بكل حرف مما تقول !
قال : وما رأيك إذا جئتك بأقوال لشخصية أجنبية ، تستطيع أن تتنطع باسمه ، وتلوي لسانك بتلفظ أحرفه في أرقى المجالس ، وعلى أي وجه تشاء ؟!
قلت : عظيم .. عظيم جداً .. أنت ثاقب النظر.. أنت تقرأ الأفكار.. أنت تستشف الماورائيات !!
قال : اسمع إذاً :
يقول البحاثة (كنسي) ، أفهمت (كنسي) . يقول هذا البحاثة في الصفحة (30) من مجلة (طبيب العائلة) اللبنانية (3) :
"... فالمرأة التي اجتازت أحداثاً عاطفية مع عدة رجال قبل الزواج ، يسهل عليها الخيانة أكثر من الفتاة العذراء التي تزوجت مباشرة دون أية مغامرة .. إن نسبة الخيانة في حال الزوجات من ذوات التجارب السابقة 33% بينما لم تتجاوز نسبة الخيانة لدى الفتيات اللواتي ابتعدن عن العلاقات الجنسية قبل ليلة الزفاف 13% ".
قلت : (دهشاً) أكمل .. أكمل .
قال : وماذا أكمل ؟
قلت : بقية الأسباب في الخيانة عندهن .
قال : حاضر.. حاضر. ومن جملة الأسباب يا صاحبي : (التزويج الإلزامي)؟
قلت : (وما هذا التزويج الإلزامي) ؟ أنا سمعت (بالتعليم الإلزامي) أما التزويج فلا ؟
قال : أشرحه لك : في بعض الأحيان ترغم الفتاة على الزواج من شاب لا تحبه أو أنه لم يحز على رضاها .. وهذا الإرغام يأخذ في بعض الأرياف شكل القسر وممارسة العنف أو التلويح به .. على أنه قد يأخذ شكل الإحراج والإخجال أحياناً ، أو يأخذ شكل الإغراء المادي أو المعنوي أحياناً أخرى . والمقصود (بالمعنوي) : أن يكون الخاطب ذا منصب خطير أو مقام كبير مما يورط الأهل بشكل خاص في الموافقة بلا تحفظ ! فيضغطون على بنتهم قصد الموافقة ، فيحاورونها ويداورونها إلى أن تقع . ثم لا يمضي كبير وقت ـ بعد الزواج ـ حتى تقع الواقعة بينهما . وعلى قدر ما يحرص هو عليها ، فإنها تزهد فيه . ومع هذا وذاك فقد تستمر الحياة الزوجية ولكن في نطاق المراسم المعتادة لا أكثر. ويظل قلب الزوجة وتظل عواطفها موضوعة تحت الطلب !
قلت : هذا كلام معقول ومنطقي ، أفلا زدتني منه ؟
قال : سمعاً وطاعة .. ثم استأنف موضحاً : ومن أسباب الخيانة عندهن يا صاحبي : (المعاملة بالمثل) .
قلت : وكيف ذلك ؟
قال : يخون الزوج فتخون الزوجة ! قد لا تكون هي مهيأة للخيانة في الأصل ، ولكن ذلك يأتيها بالعدوى الخلقية ! ومرة قرأت اعترافاً لأحد المجرمين في هذا الباب يقر فيه صراحة أن (الزوج الخائن يشجع زوجته على خيانته بضمير مرتاح) !! على أن للإمام الشافعي يا صاحبي شعراً ما أروع أن نستشهد به في هذا المقام .. قال رضي الله عنه :
" من يزْنِ ـ يزنَ به ، ولو بجداره إن كنت يا هذا لبيباً فافهم !! "
قلت : لاشك في هذا عندي أبداً .. ولكن أليس من سبب في الخيانة يخص الزوجة وحدها أحياناً ؟
قال : بلى .
قلت : وما هو ؟
قال : (خباثة المنشأ).
قلت : وما (خباثة المنشأ) هذه ؟
قال : البنت تكون سليلة أسرة ملوثة من جهة الأم أو الأب ، أو من جهتهما كليهما معاً . في هذه الحالة لا يؤمن جانب البنت من الانحراف ، لأنها نشأت في وسط منحرف وعايشته زمناً طويلاً .. وقديماً قالوا : (البنت سر أمها) ، كما أنهم قالوا : (الولد سر أبيه). من هنا ندرك أنه من المجازفة الخطرة جداً أن يتخذ المرء لنفسه زوجة من وسط وضيع أو مشبوه بالوضاعة ، ولا سيما إذا كانت الشبهة من جهة الأم . وقد جاء في الأثر النبوي محذراً ومبصراً لنا في هذا المجال فقال :
" تخيروا لنطفكم فإن العرق نزاع ".
قلت : كلامك سليم ، ورأيك سديد وقد أعجبني وأقنعني ، إلا أنني سجلت عليك ملاحظة .
قال : وما هي ؟
قلت : لماذا شددت على (عفة الأم) أكثر من تشديدك على عفة الأب ، عندما قلت : (ولاسيما إذا كانت الشبهة من جهة الأم) ؟ فهل الأب ذنبه مغفور ؟!(/4)
قال : شكراً لصراحتك أولاً .. وثق بأنني ما أردت أن أقول إن ذنب الرجل مغفور.. ولكنني إذا شددت على عفة الأم ، فلأن أثر الأم يا صاحبي في بنتها يفوق أثر الأب أضعافاً مضاعفة .. الأم هي المثل الأعلى العملي في السلوك بالنسبة إلى البنت . والبنت تعايش هذا المثل أربعاً وعشرين ساعة ، في الأربع والعشرين ساعة !! وبذلك فهي تطلع على جميع الخفايا وتتلقن وتحفظ جميع الدروس نظرياً وعملياً . بينما ليس للأب في بنته مثل هذا الأثر الواضح الشديد .
قلت : هذا صحيح ، إنما قل لي لماذا لم تشر إلى (خباثة المنشأ) في الرجل وكيف أنها قد تكون من أسباب اقترافه الخيانة دونما مسوغ آخر سوى الخيانة ؟!
قال : الحق معك ، وافترضني سهوت ، وهأنذا أستدرك فأقول : إن خباثة منشأ الزوج قد لا تنعكس خيانة زوجية وحسب ، بل قد تأخذ أحياناً شكل (القوادة) والعياذ بالله !! ولا تستغرب من هذا الاحتمال أبداً ، (فهذا الجرو من ذلك الكلب) وفيما مضى قالوا :
هذي العصا من هذي العصية = لا تلد الحية إلا الحية
فعندما يكون الأب زناء فاقد المروءة والشرف ، لا يستغرب أن يشب أبناؤه على شاكلته وأسوأ !!
قلت : لا فض فوك .. ولكن أما ترى معي أن أحكامك تلك قاسية وشاملة ، وقد أغفلت ما قد يكون لها من استثناءات ؟!
قال : وكيف ؟
قلت : أليس الله قادراً على أن (يخرج الحي من الميت) ؟!
قال : بلى .
قلت : فلماذا تفعل بهذا (الحي) في مروءته وضميره ، (الحي) في أخلاقه وسلوكه ، الذي أخرجه الله من صلب أبوين ميتين نخوة ومروءة ، ولاسيما إذا كان هذا الحي فتاة ؟!
قال : سؤال وجيه حقاً .. ولفتة مهمة ودقيقة فعلاً .. ثم أضاف : لا مانع في هذه الحالة من أن تتزوج هذه الفتاة ، أو تنصح بالزواج منها للباحثين عن الزواج .
قلت : وإذا حصل شيء ما في المستقبل ؟
قال : تذكر عبارتي السابقة قبل قليل (إنها مجازفة خطرة جداً) ، وبالتالي فإن الذي يجازف عليه يتحمل مسؤولية مجازفته !
قلت : ولكن لماذا تسمي الإقدام على مثل هذا الزواج (مجازفة) ولا تسميه (تضحية) لإنقاذ مخلوق من براثن الرذيلة المحتمة فيما لو لم تمتد لها يد الإنقاذ ؟!
قال : سم عملك بأي اسم تشاء . فليكن (تضحية) أو (إنقاذ) أو (إنسانية) أو ما شئت من تسميات . المهم هو أنه إذا ما اقتضتك التضحية ثمناً ما فعليك أن تتحمله عن طيب خاطر لأن العرق يا صاحبي دساس .
قلت : ولماذا أراك تقدم (الحذر) على (الثقة) في هذا الموضع بالذات ؟
قال : أعود فأقول لك ثانية (لأن العرق دساس).. ومع هذا فأنا لم أوصك إلا بالحذر، فهل في هذه الوصية موضع لاستغراب ؟
قلت : لا .. ولكن بعد الذي مضى كله ، هل من سبب في خيانة الزوجة ، يكون الزوج وحده هو المسؤول عنه ؟
قال: نعم .
قلت : وما هو ؟
قال : (الحرمان) .
قلت : وماذا تعني بالحرمان ؟
قال : الحرمان على أنواع ، ولسوف أجتزئ لك بنوعين مهمين .
قلت : وما هما ؟
قال : الحرمان الأول (مادي) . الزوج يكون ميسوراً ويكون في بحبوحة من الرزق . ومع ذلك فهو يقتر على زوجته في الإنفاق ، ويضيق عليها في العيش لشح متأصل فيه لبخل متمكن في نفسه !! على حين ترى هذه الزوجة جاراتها ومعارفها يلبسن خيراً مما تلبس ويأكلن خيراً مما تأكل ، ويعشن في سعادة ونعيم ، ترنو هي إليه ولا تطاله ! تجد نفسها مستحقة له ولكن يبخل عليها به !
فماذا تكون النتيجة ؟ الكره المحتم للزوج ومن ثم التطلع إلى من يعوضها عن شحة وإمساكه ولؤمه كرماً وإغداقاً وذهباً .
قلت : وماذا عن الزوج عندما يكون فقيراً ؟ وبعبارة أخرى ، ما دور الحرمان المادي عندما يكون سببه الفقر؟ ثم هل يكون الفقر ـ في هذه الحالة ـ مسوغاً كافياً لانحراف الزوجات وخيانتهن ؟!
قال : أراك ستخرجنا عن سياق حديثنا الأصلي بمثل هذه التساؤلات . أما تلاحظ أننا نتحدث عن الحالة التي يكون فيها الزوج وحده هو المسؤول عن الانحراف ؟
قلت : ألاحظ ذلك بدقة وأعيه . ولكن أما تعلم أن تداعي الأفكار لابد منه وأن الشيء بالشيء يذكر ؟
قال : بلى .. وهذا جواب سؤالك :
ما من شيء يا صاحبي ، في أن الفقر هو علة العلل في أي مجتمع من مجتمعات الأرض .. وفي أن الفقر كفر أو كاد أن يكون كفراً .. وفي أن الفقر هو أبو الخبائث ، وهو المستنقع الذي تفرخ فيه أبشع أنواع المفاسد الاجتماعية ، ابتداءً من السرقة إلى الزنى وحتى الجريمة بأوسع معانيها .
إلا أن الزوج لا يكون مسؤولاً عن النتائج ـ في هذه الحالة ـ بأي شكل وعلى أي مقياس . المسؤول في هذه الحالة هو المجتمع بأسره ولاسيما الدولة الحاكمة فيه .
والزنى عندئذ قد يكون شكل الارتزاق والتكسب ، ولا يكون لمجرد التعويض عن شح في الزوج مطاع أو بخل فيه وتكالب على المادة . وأنا لا أتصور مجتمعاً هو في سلم الانحطاط أدنى دركه من مجتمع يرغم نساءه وفتياته على البغاء من أجل تحصيل لقمة عيشهن ورقعة كسائهن !!(/5)
قلت : هل لي أن أفهم من كلامك إذاً ، أنه لا ضير على الزوجة أو على الفتاة في حال (الفقر) في أن ترتكب الفاحشة من أجل الارتزاق ؟!
قال : ويلك ! وكيف تفهم هذا مني ؟! يا هذا إن مبدأ الآباء المتوارث منذ القديم هو القائل : (الحرة تموت ولا تأكل بثديها). وهذا قول حق ، فالحرة تموت جوعاً ولا تخون أو تزني من أجل اللقمة . ولكن لا تنس يا صاحبي أن قولهم ذاك هو نوع من المثل العليا التي تعبر عن مدى عفتهم وتمسكهم بالشرف والكرامة . والصراع قديم كما تعلم بين عالم المثل وعالم الواقع ، وعلى قدر الظروف المتاحة لكل منهما فإنه يغلب ويسود .. وليس كالفقر عاملاً مساعداً عنصر الرذيلة على غلبة عنصر الفضيلة .. وعلى أن تسود الفاحشة على حساب الفعة والشرف .
ثم إذا كانت المبادئ الكريمة والمثل الرفيعة متأصلة من نفوس الحرائر من النساء بحيث تمنعهن من التردي في حمأة البغاء ولو تعرضن إلى الهلاك .. فما الذي يمنع غير الحرائر من التردي فيه ؟! والجوع كافر والحاجة مذلة ملجئة !!!
قلت : إذاً أنت لا تعتبر الفقر مسوغاً للفاحشة ، وإنما تعتبره عاملاً جوهرياً وخطيراً قد يقود إليها ، ويغري بارتكابها ؟
قال : هذا ما أردته بالضبط .
قلت : لنرجع الآن إلى سياق حديثنا العام .. فماذا عن الحرمان الثاني الذي ألمحت إليه منذ فترة ؟
قال : أتعبتني يا هذا .. أما كفاك تساؤلات ؟
قلت : بالله إلا أتممت وأجبتني .
قال : لك ما تريد .. إنه (الحرمان العاطفي الجنسي) وكفى !
قلت : هذا الجواب المختصر لا يكفيني ! والخير بتمامه فهلا فصلت ؟
قال : لابد لي قبل كل شيء من أن أشير إلى أن الإرواء الجنسي والعاطفي شيئان متلازمان في الغالب ، أو أن أحدهما وهو (الجنسي) وسيلة رئيسية لبلوغ الإرواء الثاني وهو (العاطفي) . وعلى هذا فإن (الحرمان العاطفي الجنسي) يعني أول ما يعني حرمان الزوجة من المتعة الحسية التي هي إحدى الروابط الرئيسية بين أي زوجين .. ومن هنا فإن الزوج الذي يغفل عن هذه الناحية أو يتغافل عنها ، يكون قد فتح الباب على مصراعيه لزوجته كي تنحرف ، لتعوض حراماً ما فاتها عن طريق الحلال ، ولاسيما إذا كانت ما تزال شابة أو قريبة العهد بسن الشباب .
قلت : وهل من المعقول أن يغفل زوج أو يتغافل عن هذه المسألة الحساسة جداً في الحياة الزوجية ؟!
قال : الحق معك في أن تطرح هذا السؤال ، ولذا فإنني أميز لك بين نوعين من الحرمان الأول : الحرمان غير المقصود ، وهو ذلك الذي يتأتى عن قصور فيزيولوجي طارئ ، وفي مثل هذه الحالة ليس أمام الزوج إلا أن يسرح زوجته سراحاً جميلاً ، ما لم يكونا قد تخطيا سورة الشباب ونهم الكهولة إلى أعتاب الهرم والشيخوخة .. عندها لا ضير من استمرار الحياة الزوجية ، إذ لا خشية عندئذ من أية احتمالات .
قلت : لو افترضنا أن الزوجة رضيت بزوجها على علاته ، ولم ترد منه الفكاك ، فما الحل ؟
قال : الحل آنئذ عند الزوج وهو أدرى بظروفه ، فإن شاء أبقى عليها ، وإن شاء انفصل عنها .
قلت : وهل هناك صورة ثانية للحرمان غير المقصود ؟
قال : نعم ، وهي أكثر شيوعاً مما سبق .. إنها (البرود الجنسي) ، وفي هذه الحالة ليس أمام الزوج إلا أن يلازم دكاكين العطارين مكثراً من تناول التوابل الهندية .. وأن يظل على علم دائم بحقيقة (رأسماله) . " ومن عرف رأسماله باع واشترى "!!
قلت : ألا يحتمل أن يكون البرود الجنسي علة في الزوجة وليس في الزوج ؟
قال : بلى .
قلت : أفلا يحتمل إذاً أن يكون أحد الأسباب التي تدفع الزوج إلى الخيانة ؟
قال : بلى .
قلت : لماذا إذاً لم تضفه إلى الأسباب المتعددة التي ذكرتها آنفاً في خيانة الأزواج ؟
قال : أضفه الآن إن شئت .
قلت : لعلي عرفت الآن صور الحرمان غير المقصود ، فماذا بعده ؟
قال : الحرمان الثاني : وهو الحرمان العاطفي الجنسي (المفتعل) .
قلت : وكيف يكون ؟
قال : بعضهم يهمل زوجته انشغالاً بأمور دنياه من بيع وشراء وربح وتجارة ، وأسفار طويلة متتابعة ..
ـ وبعضهم يهملها زهداً فيها وتعلقاً بغيرها أو بمجهولة !!
ـ وبعضهم يهملها زهداً في الحياة نفسها وفي متاعها من نساء وغير نساء !!
وفي هذه الحالات جميعاً ، تصبح الزوجة المسكينة نهباً لأحاسيس مؤلمة : من غربة وإهمال ، ووحشة ، وعزلة عاطفية ، وخواء روحي ، وتوق جنسي ، ثم ما تلبث هذه الأحاسيس أن تتضخم مع الأيام ، حتى تصبح عقدة مزمنة تبحث لنفسها عن حل ، وهنا ينبري الشيطان ـ شيطان الإنس أو الجن ـ ليقود فريسته بهمة ونشاط ، فرحاً مسروراً ، إلى أحضان الإثم والآثمين !!
* * *
قلت : طيب الله أنفاسك ، لشد ما أفدتني والله . ولكن قل لي ، هل بمقدوري أن أثقل عليك زيادة عما فعلت حتى الآن ، فأحظى منك بأجوبة على بعض الأسئلة الأخرى ؟
قال : إذا كانت ذات علاقة بموضوعنا نفسه ، فعلى الرحب والسعة .
قلت : لها كل العلاقة .
قال : إذاً . اسأل .
قلت : هل تستطيع أن تحدثني عن عواقب الخيانات الزوجية ؟(/6)
قال : نعم .. وقد طلبت يسيراً ، العواقب متعددة وكثيرة ، وربما كان من الممكن حصرها في مجالات أربعة هي :
(المجال الأخلاقي ـ الصحي ـ الاجتماعي ـ النفسي) .
قلت : فهل تتكرم بأن تتناولها لي تباعاً بالتوضيح ؟
قال : أما في المجال الخلقي : فتبدو العواقب على شكل سقوط مروءة ، وانعدام نخوة ، وضياع شرف وقيم ، وارتكاس إلى الحياة الحيوانية البهيمية المتمثلة بصفتي (الكلبية والخنزيرية) !!
وأما في المجال الصحي : فإن شيوع الخيانات الزوجية يعني شيوع التزاني على أوسع نطاق . إذ أن الدائرة تتسع عندئذ حتى تشمل الآباء والأبناء .. وهذا أمر طبيعي جداً ، فقد قيل قديماً (والأصل تتبعه الفروع). وهكذا فإن الفاحشة تشيع في المجتمع ، وشيوع الفاحشة أقل ما يترتب عليه صحياً ، شيوع الأمراض الجنسية ولاسيما مرض الزهري ، هذا المرض الرهيب الذي يموت بسببه آلاف الناس كل سنة في البلاد الأوروبية والأمريكية .. والذي يتشوه بسببه آلاف الأطفال تشوهاً ولادياً .. عدا عن الإجهاضات التي لا حصر لها يلحقها بالحوامل !!
قلت : هذا فظيع والله وخطير !! فماذا عن العواقب في المجال الاجتماعي إذاً ؟
قال : هناك اختلاط في الأنساب .. وتفسخ الأسرة والأسرة كما هو معلوم حجر الزاوية في بناء المجتمعات .. ثم بعد التفسخ احتمالات الطلاق وبعد الطلاق خراب البيوت .. فتشرد الأولاد .. فضياع الأجيال .. فدمار الأمم !! وإن كنت في ريب مما أقول فهاك اعترافاً صريحاً (لشاهد من أهله).. إنه شهادة القاضية السويدية (بريجيدا أولف هامر) (4). تقول هذه القاضية في معرض الكلام عن ضياع الأنساب واختلاطها في بلادها (السويد) نتيجة للإباحية الجنسية التي آلت إليها الأمور هناك ، ما نصه حرفياً :
"... وهذا هو السبب في أن النساب في السويد أصبحت أحياناً : (سمك ، لبن ، تمر هندي) ! ثم هذا هو السبب في أن المرأة السويدية فجأة اكتشف أنها وهماًَ هائلاً بثمن مفزع ، هو سعادتها الحقيقية ... ولهذا فإنها تستقبل العام العالمي لحقوق المرأة ـ عام 1975 ـ بفتور مهذب ، وتحن إلى حياة الاستقرار العائلية المتوازنة جنسياً ، وعاطفياً ، ونفسياً .. فهي تريد أن تتنازل عن معظم حريتها في سبيل كل سعادتها ! " (5).
قلت : وهذا أشد هولاً وفظاعة !! أفلا حدثتني أخيراً عن العواقب في المجال النفسي ؟
قال : إن أخطر ما يحصل في هذا المجال ، هو انقلاب الخيانة المتقطعة إلى عادة فإدمان .. وعندما يصل الأمر إلى هذا الحد ، يصبح الزنى شيئاً مستباحاً لدى الزوجين ، يمارسه كل طرف بعلم الطرف الآخر وبرضاه التام !!
قلت : (وأنا لا أستطيع إخفاء دهشتي البالغة) أراك تبالغ كثيراً يا صاحبي ، فهل من المعقول أن يصل الأمر إلى هذا الحد من الدياثة ؟!!
قال : ليس في كلامي أية مبالغة .. وإن كنت في ريب مما أقول فاسمع هذه الطرفة ، وتمعن في مدلولها جيداً : " في إحدى الحفلات العائلية ـ وكان مكان الاحتفال نادياً مرموقاً ـ وقف عميد النادي ـ وقد لاحظ شيئاً ما على جو الحفل ـ وقف مخاطباً المحتفلين فقال : " يرجى من السادة الذين يصطحبون سيدات غير نسائهم ، ومن السيدات اللواتي يصحبن معهن رجالاً غير أزواجهن ، أن يغادروا مكان الاحتفال ".. وما هي إلا برهة حتى أقفر النادي من جميع المدعوين !! " .
قلت : ولكنها نكتة ليس أكثر.
قال : ولكنها إذ تطلق في مجتمع ما ، فإن لها دلالتها التي لا تنكر ! ومع هذا فاسمع ما وراه لي أحدهم عن يقين فقال :
" ومن احدث المبتكرات ـ مما يدخل في باب الإباحية الجنسية بين المتزوجين ـ أن بعض الأسر (الراقية) في أكثر من عاصمة أو مدينة عربية ، يجتمعون في سهرات عائلية بالتناوب ، كل مرة في بيت ، فيسمرون ويشربون ويطربون .. حتى إذا ما انقضى وقت السهرة ، أقبلت الزوجات إلى طاولة معينة في ركن من صالة البيت ، فالتقطت كل واحدة منهن مفتاحاً ـ لا على التعيين ـ من مجموعة مفاتيح السيارات الملقاة على تلك الطاولة . وهي مفاتيح سيارات الأزواج رموا بها هكذا خصيصاً من أجل (لعبة الحب) اليومية أو الأسبوعية فيما بينهم !! وبعد ذلك يغادرن السهرة تباعاً لتطابق كل واحدة ما بين المفتاح الذي التقطته وإحدى السيارات المصطفة في الشارع ، وبذا فإن تلك (الست) تكون في تلك الليلة من نصيب ذلك (السيد) كما أن ذلك (السيد) يكون من (يا نصيب) تلك (الست) فينطلقان بسيارتهما ليقضيا بقية الليل معاً . وهكذا يفعل بقية (الأسياد) وبقية (السيدات) "!!!
قلت : أعوذ بالله .. أعوذ بالله .. أجاد أنت أم مازح يا هذا ؟ قل لي بالله عليك ، أتغرف من خيالك أم تروي من الواقع ؟!
قال : ثق بأنه الواقع أنقله إليك بأمانة ، ليس إلا !! والأنكى من ذلك يا صاحبي أن الإباحية الجنسية هذه نتيجتها الحتمية هي جنون أفراد المجتمع وانتحارهم السريع ، وبذلك ينهار بسرعة كيان الأمم والشعوب !!
واسمع معي ثانية إلى كلام القاضية السويدية نفسها إذ تقول :(/7)
"... أباح القانون السويدي الحرية الجنسية للمرأة إلى أقصى حد ، لدرجة جعلت الرجل هو الفريسة والمرأة هي الصياد ! فكانت النتيجة على مستوى الأمة مذهلة حقاً !! ففي تقرير رسمي خطير لوزارة الشؤون الاجتماعية السويدية تعلن الحكومة أن 25% من سكان السويد مصابون بأمراض عصبية نفسية . وأن 30% من مجموع المصروفات الطبية في السويد تنفق في علاج الأمراض العصبية والنفسية . وأن 40% من مجموع الأشخاص الذين يحالون إلى التقاعد ـ قبل سن المعاش ـ بسبب العجز عن العمل تماماً هم من المرضى المصابين عقلياً !! وتفسر ظاهرة انتشار الأمراض العصبية عن نفسها على هيئة ارتفاع مذهل في نسبة حوادث الانتحار ".
***
أطرقت ملياً وأنا أفكر وأقدر، حتى كدت أصاب بالدوار، ثم رفعت رأسي إليه قائلاً : وما الحل يا صاحبي ؟
قال : وأي حل تعني ؟
قلت : حل هذه المعضلة الوخيمة ، معضلة الخيانات الزوجية بجميع أشكالها ، وبجميع أسبابها ومسبباتها !
قال : أو تريد الجواب مختصراً أم مطولاً ؟
قلت : الرأي رأيك ، فكما تريد أنت .
قال : لقد أتعبتني ـ ولا مؤاخذة ـ وإني لمختصر لك الجواب قدر المستطاع .
قلت : ألف شكر وشكر.. تفضل .
قال : أولاً : " قبل الرماء تملأ الكنائن " هكذا قالت العرب قديماً ، وهكذا أقول لك الآن ... بمعنى أنه يترتب على المتزوج ـ شاباً أو فتاة ـ أن يحسن الانتقاء ، ويتروى في البحث ، ويتعمق في الدراسة ، قبل الزواج لا بعده . بل قبل الخطبة إن استطاع لا بعدها . وهذا هو العامل الوقائي .
ثانياً : إذا جد ـ بعد الزواج ـ ما ليس في الحسبان ، واكتشف الزوج ـ رجلاً أو امرأة ـ ما كان خافياً عليه من أخلاق سيئة ، أو طبيعة منشأ ذميمة ، أو عدم تكافؤ ، أو برود ، أو نحو ذلك .. فعليه أن يتناول الأمور بحكمة وأناة ، وأن يعمل على إزالة ما يمكن إزالته من أسباب سواء أكان السبب قائماً فيه أو في الطرف الآخر وما من شك أنه ما من داء إلا وله دواء ، وما من مرض إلا وله شفاء ، (وآخر العلاج الكي). وهذا هو العمل العلاجي .
ثالثاً : أما ما يجمع الوقاية والعلاج معاً .. أما ما يقضي على معظم الأسباب ـ إن لم أقل كلها ـ ابتداءً وانتهاءً .. أما ما يحول دون المشكلة من أساسها ، وأنصح به أولاً وآخراً .. فهو " تقوى الله ". تقوى الله لشباب ، وتقوى الله للفتاة .. تقوى الله للزوجة ، وتقوى الله للزوج .
ـ فمن يتق الله يتسع صدره للكثير من النقائص والهفوات ، ما لم تدخل في باب محرم من حرمات الله .
ـ ومن يتق الله يبتعد عن موطن السوء ، وطرق الشيطان ، ويترفع عن خلق الكلاب والخنازير. ويحافظ على عفته وطهره في السر وفي العلن .
ـ ومن يتق الله يعرف حقوق زوجه عليه ـ مادية ومعنوية ـ فيحافظ عليها ولا يفرط بها مهما كلفه ذلك من عناء .
ـ ومن يتق الله يرض بقسمته . والزواج قسمة للمرأة كما هو قسمة للرجل .
ـ ومن يتق الله يوفق إلى صفوة من أهل التقوى والعفاف والطهر. فرسول الله صلوات الله عليه يقول : " إن لله ملائكة يسوقون الأهل إلى الأهل " .
وصدق الله العظيم القائل :
[الخبيثات للخبيثين ، والخبيثون للخبيثات ، والطيبات للطيبين ، والطيبون للطيبات].
إنها إحدى المعادلات الربانية القرآنية الخالدة . ومن أصدق من الله قيلاً ؟!!
قلت : جزاك الله خيراً ، وأنا لك علي وعن كل السامعين أجراً .
(وانفض مجلسنا)
* أديب سوري معتقل منذ عام 1979
الهوامش :
•نص محاضرة ألقيت بدعوة من المركز الثقافي في جسر الشغور بتاريخ 12 نيسان 1975 .
(1)انظر المقابلة المنشورة في " أنوار الأحد "، تاريخ 29 تموز 1973 تحت عنوان " نزار قباني مسكون بالمرأة منذ ولادته ".
(2)انظر المقابلة السابقة .
(3)العدد العاشر لسنة 1969 ، وهذه المجلة من بنات عم (الشبكة) و(الموعد) وأشباههما فتأمل !
(4)هذه القاضية السويدية أوفدتها الأمم المتحدة لتقوم بالطواف على عواصم الشرق الأوسط وقراه ودساكره بصحبة مترجمة من كل بلد في محاولة لدراسة مشاكل المرأة الشرقية العربية على الطبيعة ، لحساب الأمم المتحدة بمناسبة العام الدولي لحقوق المرأة ، عام 1975 .
(5)عن مجلة الأسبوع العربي ـ العدد (820) تاريخ 24 شباط 1975 ـ ص (50).(/8)
للبيت رب يحميه ولكن.. طارق مصطفى حميدة*
تعلمنا منذ الصغر أن النبي محمداً عليه الصلاة والسلام قد وُلد عام الفيل ..
وتابعنا مع قصة أصحاب الفيل، الحوار الذي يقال أنه دار بين أبرهة الأشرم وعبد المطلب، حين طلب إليه أن يرد إبله، فاستغرب أبرهة كيف تكون الإبل أغلى عنده من البيت الحرام، الذي يمثل دينه ودين آبائه وأجداده، فيرد عبد المطلب، كما تقول القصة، أنا رب الإبل .. وللبيت رب يحميه!!
ولقد حمى الله تعالى بيته، وأهلك أصحاب الفيل، وخلّد ذلك الحدث في قرآن يتلى إلى يوم القيامة.
إن هذه القصة، بشعارها الختامي(للبيت رب يحميه)، قد أصبحت جزءاً أساسياًً من تكويننا الثقافي ،حيث حفرت لنفسها عميقاً في عقولنا وأذهاننا ونفسياتنا .. والأخطر من ذلك ، في رأيي ،أن هذا الشعار قد أضحى أحد مواقفنا المتكررة حيال الأخطار الداهمة، والقضايا الاستراتيجية ..بمعنى أننا نتماهى مع الموقف المنسوب لعبد المطلب، فنترك الأعداء يجتاحون بلادنا، ويهددون مقدساتنا، ويقتلون إخواننا، ولا نملك إلا أن نغمض أعيننا على حلم أن يبعث الله تعالى على أعدائنا الطير الأبابيل ؟!
إن من عوامل قوة تأثير هذه العبارة قصرها، وكونها تسللت إلى عقولنا وقلوبنا وهي لما تزل صفحة بيضاء ناصعة، ولم تجد ما يعارضها أو يزاحمها، ولكونها تتعلق بجد الرسول عليه السلام فاعتبرناها نصاً دينياً واجب الالتزام، ثم إنها تتحدث عن قدرة الله تعالى المطلقة، ولا ننسى أنها تتناغم مع الطبيعة البشرية التي تؤثر الراحة، وتطلب السلامة، وتفضل غير ذات الشوكة، وقد رأينا كيف التفت أبو بكر الصديق، رضي الله عنه، إلى أن الناس في عهده قد فهموا الآية الكريمة: ( يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم )، على غير وجهها، فوجدوها فرصة كي يتخلوا عن واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
والسؤال الكبير الذي ينبغي التوقف عنده: أنه حتى لو صحت هذه القصة، وصحت نسبة هذا القول إلى عبد المطلب، علماً بأن علماء الحديث لم يحكموا بصحتها ،فهل يعتبر عبد المطلب مرجعية شرعية و قدوة للمسلم ؟؟
نعم ، قد نلتمس العذر لعبد المطلب وقريش، على اعتبار أنه لا قبل لهم بأبرهة وجيشه.. حيث إن عبارة (للبيت رب يحميه) فيها من الضعف والعجز أكثر مما فيها من الإيمان والتوكل على الله تعالى، لأن التوكل الحقيقي لا بد أن يرافقه الأخذ بالأسباب... وإذا قبلنا هذا الموقف من عبد المطلب ، فهل ُيقبل من أمة التوحيد التي يبلغ تعدادها أكثر من المليار والنصف، أن يبلغ بها الضعف وقلة الحيلة ، أن تتنحى وتلتزم جانب الخنوع ، تاركة الكفر يتغطرس ، وتعجز حتى عن أضعف الإيمان..
وتنام على أحلام الطير الأبابيل ، وشعارها : للبيت رب يحميه ؟؟(/1)
للخير مواسمٌ تُرصد..! ... ... ...
الشبكة
حين يطغى الانشغال ... وتسيطر المادة ... وتضعف الهمم ... و ُتسقى بكأس الكسل والعجز ... حيناً بعد حين ... ويقل الصاحب المعين ... و ُتشغل النفس بمشاغل شتى ... متفرقة تفرق أودية الحياة الدنيا ...
ساعتئذ . . .
الأولى بالمسلم أن يتفحص كوامن نفسه ... يفتش فيها ... يلمس حواشيها ... ُيحي فيها معاني اندرست ... وأحوال مضت ... يتربص بكل حادث يربطه ... وُيوصله بربه ... فيفر منه إليه ... ُملتمساً القرب والقبول ... رافعا ً من ثم َ لواء التوفيق والسداد .
فالمسلم الصادق الحريص على أمر نفسه ... الطالب لنجاتها ... المجاهد لها ... لحري ٌ به أن يلتمس مواسم الطاعات ليعمل فيها ... ولا يترك للأيام أن تعمل فيه ... فيرتقي بنفسه ؛ ينميها ... يزكيها ... ُيعدها ليوم تشخص فيه القلوب والأبصار ... وما ثمة غير أصحاب البصيرة ينعمون برحمة الله ... وهم فيها خالدون .
فاقبل أخي ـ أختي ـ على هذا الخير الكبير ... واعمل فيه وبه ... واغتنم ساعة بساعة ... فإنك اليوم في سعة من أمرك ... وبحبوحة من وقتك ... اقبل أيها الحبيب ... وتذوق معنا ما سنخطه لك من معان ... وجدد عبيرها في نفسك ... واعمل ... فإن الله يناله التقوى منك ... وادع الله تعالى أن نكون جميعا ً من الغانمين ... الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ...
وكن على شوق .... وردد معي ....
يا سائرين إلى البيت العتيق لقد *** سرتم جسوماً وسرنا نحن أرواحاً
إنما أقمنا على عذر وقد رحلوا *** ومن أقام على عذر كمن راحا
* من فضائل عشر ذي الحجة أن الله تعالى أقسم بها جملة ، وببعضها خصوصا ً . قال الله تعالى { وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ }. وإنما أقسم الله تعالى بمخلوقاتها لأنها تدل على بارئها ، وللإشارة إلى فضيلتها ومنفعتها ؛ ليعتبر الناس بها .. قال الحافظ ابن حجر في الفتح : وأخرج النسائي من حديث جابر رفعه قال : " العشر عشر الأضحى ، والشفع يوم الأضحى ، والوتر يوم عرفة " .
* ومن فضائل هذه الأيام : أنها الأيام العشر التي أتمها الله تعالى لموسى عليه الصلاة والسلام ، والتي كلم الله تعالى موسى في تمامها ، والتي كانت مرحلة إعداد وتهيئة لمرحلة جديدة في تبليغ رسالة الله ودعوته ، وذلك في قول الله تعالى : { وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً } .
* قال ابن كثير " فالأكثرون على أن الثلاثين هي ذو القعدة ، والعشر هي ذي الحجة ، قاله مجاهد ومسروق وابن جريج وروي عن ابن عباس وغيره" .
* ( لقد انتهت المرحلة الأولى من مهمة موسى التي أرسل لها . انتهت مرحلة تخليص بني إسرائيل من حياة الذل والهوان والنكال والتعذيب بين فرعون وملأه ، وإنقاذهم من أرض الذل والقهر إلى الصحراء الطليقة !؟ ، ولكن القوم لم يكونوا بعد على استعداد لهذه المهمة الكبيرة ! . مهمة الخلافة في الأرض بدين الله ..... وكانت هذه المواعدة إعداداً لموسى نفسه ، كي يتهيأ في هذه الليالي للموقف الهائل العظيم ، ويستعد لتلقيه ، وكانت فترة الإعداد ثلاثين ليلة ، أضيفت إليها عشرا ، فبلغت أربعين ليلة ، يروض موسى فيها نفسه على اللقاء الموعود ، وينعزل فيها عن شواغل الأرض ليغرق في هواتف السماء ، ويعتكف فيها عن الخلق ليستغرق فيها في الخالق الجليل ، وتصفو روحه وتشف وتستضيء ، وتتقوى عزيمته على مواجهة الموقف المرتقب وحمل الرسالة الموعودة .... ) .
* وكأن المعني بهذا الكلام كل مسلم يبتغي إعادة الرسالة إلى الأرض ، كل مسلم ينشد تهيئة روحه لما هو آت ، والله أعلم بما هو آت !! . وكأن الخوف من تقلبات النفس التي تمثلت في بني إسرائيل ، كأنها خطر داهم يحرص على تفاديه كل من أراد النجاة من عقبات اليوم الآخر وعقوباته .
* ولا يكونن العيش مع النصوص القرآنية بمعزل عن الواقع ، فلا يقف فهم النص على بيئة بني إسرائيل التي خرجوا منها وفروا من فرعون وجنده ، ولا على مصر فرعون أو فرعون مصر ، ولا على صحراء سيناء .....؛ وإنما النص القرآني يهيمن على كل بيئة مشابهة ، وحال مقارب ، وظرف مماثل ، ونفس أمّارة بالسؤ ، محبة للدعة والراحة ، من آفات البيئة القديمة ، وما فيها من معان سلبية بالية ، ولو على مستوى النظر والاعتبار ، وإذا كان الله سبحانه قد أنزل على بني إسرائيل المن والسلوى إذ هم في الصحراء ، فإن صحراء القلوب لتحتاج إلى مِنة من الله تعالى أن ينزل عليها اليقين والصبر والثبات والصدق في جميع الأمر ، فيغتنم المؤمن أوقاتاً كانت لإعداد غيره ، عله يناله منها بعض إعداد ... وهو فضل الله يؤتيه من يشاء .. والله واسع عليم .(/1)
* و " عشر ذي الحجة " هي ذات الأيام التي أكمل الله الدين لمحمد عليه الصلاة والسلام ، وذلك في قوله تعالى : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً فَمَنِ { . وهي أكبر النعم ، وقعت يوم عرفة من هذه الأيام المباركة ، نعمة أكمال الدين ، ... ... ... ... ...(/2)
للدعاة والغيورين هل موشي دايان أكثر تذكراً لحقائق ديننا منا!!!!
د. مهدي قاضي
أحبتنا
ما هذا
ما الذي أنسانا عدم التذكير بحقائق هامة من ديننا, أهي عاطفتنا المتألمة جداً لما نراه,
أم هو من تأثيرات الإعلام والواقع الذي ذابت فيه وبه مجتمعاتنا.
أستغرب جداً عندما أسمع دعوات الى الجهاد من الغيورين بدون تنبيه للأمة للتوبة والعودة الى حقيقة دينها وتطبيقه في كل الأمور والتي هي أهم عدة وسلاح تحمله الأمة في معركتها وأهم سبب لتحقيقنا النصر على الأعداء.
وأستغرب عندما أجد الذين يتكلمون بحرقة مطالبين الأمة بالقنوت والدعاء بدون أن يذكروها بأن يكون مع ذلك بدأ بالتوبة من الذنوب والعودة الى الله والتي هي أهم أسباب استجابة الدعاء.
أذكر منذ أكثر من 25 سنة هذه الكلمة التي نقلت عن موشي دايان وزير الدفاع الإسرائيلي أو غولدا مائير رئيسة الوزراء آنذاك عندما قيل لهم : إن الحجر والشجر سيكون في صف المسلمين في القتال منبهين المسلمين عن اليهود الذين يختبؤون خلفهم فقالوا : لستم أنتم هؤلاء المسلمين الذين ينطبق معنى الحديث عليهم إنما هم (ما معناه) المسلمون الحقيقيون المتمسكون بدينهم.
إخواني أنا لا أقول لا ندعو الأمة الى الجهاد والدعاء ؛ ولكن لنذكرها بأهمية تصحيح مسارها وعودتها الى الله وأوبتها عندما نذكر ذلك.
بل إن بعض هذه الخطابات عندما تذكر الجهاد والدعاء بدون ذكر التوبة والعودة – مع تقديرنا لها وأهميتها- قد ينتج عنها تضعيف لإدراك الأمة بحقيقة أمراضها والإنحرافات الخطيرة التي وقعت فيها حتى وصلت الى ما وصلت اليه من ضعف وذل.
وهذا يذكرني بالمشكلة التي ذكرها صاحب الكتاب القيم (هكذا ظهر جيل صلاح الدين وهكذا عادت القدس) د ماجد الكيلاني عندما بين خطورة التغني ببطولة صلاح الدين بدون التركيز وتذكير الأمة بالمنهج الإصلاحي الذي قاده آل زنكي ثم صلاح الدين والعلماء الصادقون قبلهم وبعدهم فأصلحوا المسلمين وتحقق النصر. ومما قاله في هذا الشأن إن هذا الفهم يصرف الأنظار بعيداً عن الأمراض الحقيقية التي تنخر في جسم الأمة.......) .وأنصح الدعاة والمصلحون بالإطلاع على هذا الكتاب القيم وايضا كتاب (الجهاد والتجديد في القرن السادس عشر) للشيخ محمد الناصر, وأيضا رسالة صغيرة قيمة بعنوان ( ما هو سبب تخلف المسلمين)لدار ابن المبارك.
قد يقول البعض لماذا أكثر وأكرر الحديث عن هذا الجانب ؟ وأقول كم والله تمنيت ألا أحتاج للكلام والتكرار عن هذا الموضوع ولكن.....ما إراه من إستمرار عدم أخذ هذا الجانب الهام الأساسي حقه من التذكير في واقع كلماتنا وفي واقع شعوبنا هو الذي يدفعني لذلك.
وأدعوا الإخوة معاودة النظر في الكلمة التي نقلتها عن الشيخ محمد العثيمين رحمه الله عن هذا الجانب على الرابط:
http://www.alfjr.com/showthread.php?s=&threadid=49695
وأيضاً موضوع كلمة للدعاة والمصلحين: الخطاب الدعوي ومذابح المسلمين) على هذا الرابط:
http://www.alfjr.com/showthread.php?s=&threadid=47749
أعود أيها الأحبة وأكرر ؛إن ما ذكرته لا يعني ولا يقصد به عدم حاجة الأمة للجهاد والنصرة والدعاء,........ولكن المقصود ألا نهمل ذكر وتذكر العودة الى الله والتوبة عند توجهنا لذلك لأنها أقوى سلاح ننتصر به وتستجاب دعواتنا, بل بدونه لا يمكن ان يتحقق النصر التام خاصة أننا نتكلم عن قضايانا وواقعنا المؤلم على مدى أمتنا ككل وليس فقط على قضية فلسطين وحدها-وإن كانت أهمها-.
على أي الجروح سأستريح-----وهذا الجرح في كبدي يصيح
فلنذهب للنصرة بل وواجبنا ذلك ولكن ليكن مع سلاحنا الأهم الأساس, فمن يذهب للنصرة ومعه سلاحه بيده وهو قوي معافى ليس كمن يذهب وليس معه سلاحه الأساس وصحته معلوله.
سنملك أمر دنيانا-----إذا القرآن أحيانا
ونور في مفاوزنا----وعدل في قضايانا(/1)
للشباب فقط في رمضان
محمد بن عبدالله الدويش
دار القاسم
أخي الشاب:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ... وبعد:
فقبيل أيام استقبلنا وإياك شهر رمضان المبارك , هذا الشهر أخي الفاضل يعني لدينا ولديك الكثير , وأنت شأنك شأن سائر المسلمين قد استبشرت بهذا الشهر الكريم ولاشك .
ويسرني أخي الفاضل في هذا الشهر الكريم أن أتوجه لك بأغلى ما أملك وأعز ما أقدم سالكاً سبيل المصارحة والحديث تحت ضوء الشمس .
إن المصارحة أخي الفاضل قد تكون مُرة الطعم لكن نتائجها محمودة , وقد ذقنا جميعاً مرارة التستر على العيوب , ولمسنا شؤم دفن الأخطاء باسم المجاملة. فآمل أن يتسع صدرك لسماع ما أقول .
ورع ولكن:
أخي الشاب: موقف نشاهده جميعاً في شهر الصيام: أن تجد شاباً معرضاً, غارقاً في وحل الشهوات , يتجرأ على الكبائر والمعاصي , ويتهاون في الطاعات الظاهرة , تجد هذا الشاب يتساءل عن قضايا دقيقة في الصيام . كأن يتوضأ فتنزل من أنفه قطرات من الدم دون قصد : فهل يؤثر هذا على الصيام أم لا ؟ مر في الشارع فدخل جوفه غبار فما الحكم ؟ وهو يسأل جاداً ولديه استعداد تام لتحمل تبعة السؤال من قضاء أو حتى كفارة . إن السؤال أخي الكريم عما يُشكل على المرء في عبادته مبدأ لا حق لأحد أن يرفضه , وإن وقوع المرء في معصية ليس مبرراً لعدم عنايته بالطاعة والسؤال عنها .
ولكن : ألا توافقني أن مثل هذا الشاب يعيش تناقضاً يصعب أن تجد تفسيراً له ؟!
فلماذا يتورع هنا ويسأل ويحتاط عن أمر اشتبه عليه. بينما يرتكب عن عمد وسبق إصرار ما يعلم أنه حرام بل كبيرة من الكبائر ؟!
الانضباط العجيب:
يحتج البعض من الشباب حين تنهاه عن معصية ، أو تأمره بطاعة أنه مقتنع تمام الاقتناع لكن شهوته تغلبه وهو لا يستطيع ضبط نفسه ، وقد يبدو العذر منطقياً لدى البعض لأول وهلة . ولكن حين ترى حال مثل هذا الشاب مع الصيام ترى منطقاً آخر.
فما أن يحين أذان الفجر حتى يمسك مباشرة عن الطعام ولو كان ما بيده هي أول لقمة لأنه استيقظ متأخراً . ويبقى عنده مائدة الإفطار ولا يتجرأ على مد يده قبل أن يسمع الأذان وهو أثناء النهار مهما بلغ به العطش والجهد لا يفكر في خرق سياج الصوم واستباحة حماه ألا ترى أن هذا السلوك وهو سلوك محمود ولا شك يدل على أنه يملك القدرة على ضبط نفسه والانتصار على شهوته ؟ إن الصيام أخي الشاب يعطينا درساً أننا قادرون بمشيئة الله على ضبط أنفسنا والانتصار على شهواتنا .
هل رأيت هؤلاء؟
هل تفضلت أخي الشاب أن تأتي إلى مسجد من المساجد مما رزق الله إمامه الصوت الحسن المؤثر فرأيت ذاك الجمع من الشباب الأخيار ؟ وقد عقدوا العزم على الوقوف بين يدي الله في تلك الصلاة ولو امتدت إلى السحر ، في حين ترك غيرهم صلاة الجماعة أصلاً ؟ ولو أتيت في العشر الأواخر لم تجد إلا القليل فقد توجهوا صوب البيت العتيق يبتغون مضاعفة الأجر ، وحط الوزر . في حين ترى غيرهم يقضي ليالي رمضان فيما لا يخفى عليك . ماذا لو وجه ذاك الشاب الذي يجوب الأسواق هذا السؤال إلى نفسه : ألا أستطيع أن أكون واحداً من هؤلاء ؟ كيف نجحوا ؟ وهم يعيشون في المجتمع نفسه ولهم شهوات ، وأمامهم عوائق كما أن لي شهوات وأمامي عوائق .
ألا تطيق ما أطاقوا؟
أخي الكريم: كثير هم الشباب الذين كانوا على جادة الانحراف ، وفي طريق الغفلة يمارسون من الشهوات ما يمارسه غيرهم ثم مَنَّ الله عليهم بالهداية فتبدلت أحوالهم وتغيرت وساروا في ركاب الصالحين ومع الطائعين المخبتين . وربما كان بعضهم زميلاً لك . فكيف ينجح هؤلاء في اجتياز هذه العقبة ويفشل غيرهم ؟ ولماذا استطاعوا التوبة ولم يستطع غيرهم ؟. إن العوائق عند الكثير من الشباب عن التوية والالتزام ليس عدم الاقتناع ، بل هو الشعور بعدم القدرة على التغيير . أفلا يعتبر هذا النموذج مثلاً صالحاً له ، ودليلاً على أن عدم القدرة لا يعدو أن يكون وهماً يصطنعه .
قبل أن تذبل الزهرة
لقد أبصرت عيناك أخي الكريم ذاك الذي احدودب ظهره ، وصارت العصا رجلاً ثالثة له وتركت السنون الطويلة آثارها على وجهه . أتراه ولد كذلك ؟ أم أنه كان يوماً من الأيام يمتلئ قوة ونشاطاً ؟ ألا تعلم أني وإياك سنصير مثله إن لم تتخطفنا المنية – وهذا أشد- وتزول هذه النضارة ، وتخبو الحيوية . فماذا أخي الكريم لو حرصنا على استثمار وقت الشباب في الطاعة قبل أن تفقده فنتمناه وهيهات .
وعن شبابه فيم أبلاه :
أخي الكريم : لا شك أنك تحفظ جيداً قوله : { لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع عن عمره فيما أفناه ، وعن شبابه فيما أبلاه ، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه }.
أخي الكريم : لنفكر ملياً واقعنا الآن فهل سنجد الإجابة المقنعة ، المنجية أمام من لا تخفى عليه خافية عن هذه الفقرة { شبابه فيما أبلاه } وهل حالنا الآن مع عمر الشباب تؤهل لاجتياز هذا الامتحان . ألا ترى أن أمامنا فرصة في اغتنام الشباب والإعداد للامتحان ؟
سابع السبعة:(/1)
أخبر أنه في يوم القيامة : { يوم تدنو الشمس من الخلائق فتكون قدر ميل ، ويبلغ منهم الجهد والعرق كل مبلغ }، أنه في هذا اليوم هناك من ينعم بظل الله وتكريمه، ومنهم { شاب نشأ في طاعة الله عز وجل } فماذا يمنع أن تكون أنت واحداً من هؤلاء ؟ وما الذي يحول بينك وبين ذلك . فأعد الحسابات ، وصحح الطريق . واجعل من الشهر الكريم فرصة للوصول إلى هذه المنزلة.
ما أعظم ما تقدمه في هذا الشهر الكريم:
أخي الشاب : لا شك أنك رأيت الناس وقد تبدلت أحوالهم في هذا الشهر . فالمساجد قد امتلأت بالمصلين ، والتالين لكتاب الله . والأماكن المقدسة ازدحمت بالطائفين والعاكفين ، والأموال تتدفق في مجالات الخير . فهذا يصلي ، وهذا يتلو ، والآخر ينفق ، والرابع يدعو .
فأين موقعك بين هؤلاء جميعاً ؟ ألأم تبحث لك عن موقع داخل هذه الخارطة . أليس أفضل عمل تقدمه ، وخير إنجاز تحققه التوبة النصوح وإعلان السير مع قافلة الأخيار . قبل أن يفاجئك هادم اللذات فتودع الدنيا إلى غير رجعة . فهل جعلت هذا الهدف نصب عينيك في رمضان وأنت قادر على ذلك بمشيئة الله ؟
التوبة والموعد الموهوم:
كثير من الشباب يقتنع من خطأ طريقه ، ويتمنى التغيير ، ولكنه ينتظر المناسبة ألا وهي أن يموت قريب له ، أو يصاب هو بحادث فيتعظ ، ويهزه الموقف فيدعوه للتوبة ، ولكن ماذا لو كان هو الميت فاتعظ به غيره ؟ وكان هذا الحادث الذي ينتظره فعلاً لكن صارت فيه نهايته ؟ ليس أخي الشاب للإنسان في الدنيا إلا فرصة واحدة فالأمر لا يحتمل المخاطرة.
فهلا قررنا التوبة اللحظة وسلوك طريق الاستقامة الآن؟
إن القرار قد يكون صعباً على النفس وثقيلاً ، ويتطلب تبعات وتضحيات لكن العقبى حميدة والثمرة يانعة بمشيئة الله.(/2)
للشباب فقط هل أنت حقاً سعيد؟!
من الأسئلة ما قد لا يكون الجواب عنها بالنفي أو الإثبات مقصوداً، بل المقصود منها تحريك الذهن الخامل أو المتخامل للتفكير فيها بما يدفع إلى اتخاذ الخطوات الصحيحة السريعة، ولأني أثرت معك ما هو من جنس هذه الأسئلة فاسمح لي أن أساعدك ـ وأنت أولى من يُساعَد ـ ببعض الحقائق لكي تعينك على أن تحسم مع نفسك ـ ولو نظرياً ـ جواب هذا السؤال، ولتحدِّد على ضوئه ما يلزمك من إجراء لإدراك المتعة والسعادة بما بقي من شبابك.
ولعلك تسلِّم معي - أخي - بأن السعادة الأخرويَّة لا تكون إلا بإحسان علاقتك بربِّك - سبحانه -، ولعل هذا ما يجعلك تقرِّر في نفسك الصلاح والإقبال على الله بعد إنجاز أهدافك الدنيويَّة من تخرُّجٍ وعملٍ وزواجٍ وبناءِ بيتٍ واستقرارٍ ماليٍّ وأُسريٍّ ...، لكني أكاد أجزم أنه يغيب عنك كليًّا أو جزئيًّا أن نفس هذا الإيمان والإقبال على الله هو سببٌ لسعادتك الآن، بل وللتوفيق في كل خططك المستقبليِّة.
وأنت إذا تأمَّلت معي آيات القرآن تبيَّن لك هذا الأمر، فتأمَّل معي في قوله تعالى: ((مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ))(97) سورة النحل تجد أن الحياة الطيبة أي السعيدة إنما المقصود بها سعادة الدنيا لأن الكلام عن الآخرة جاء مستقلاًّ بعدها، وقوله عزَّ وجلَّ: ((وَأَنْ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ـ أي في الدنيا ـ وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ))(3) سورة هود ، بل تكفَّل الله - تعالى - بالسعادة حتى لمن وقع عليهم الظلم واضطُرُّوا إلى ترك بلدانهم - وهذه من أسباب التعاسة عند الكثيرين - في قوله سبحانه: ((وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ))(41) سورة النحل. وإنما أكثرت معك من ذكر الآيات لأن هذه الحقيقة تكاد تكون غائبةً حتى عن بعض العقلاء من أمثالك.
وبما أن بعض الشباب قد لا يقتنع إلا بناءً على التجرِبة فإننا ندعوهم ـ وندعوك إن كنت منهم ـ إلى البدء الجادِّ في دروب الاستقامة لا على سبيل التجرِبة للتأكُّد من صدق الأمر؛ إذ كلام الله لا يتطرق إليه الشكُّ، ولكنها دعوةٌ أخويَّةٌ لتذوُّق هذه السعادة للقطع بكونها أعظمَ من كل نعيم البدن الظاهري من مأكل ومنصب ومركب قطعاً يدعوك للتمسُّك بها عن حبٍّ وقناعةٍ رغم كثرة المغريات ودواعي الفساد في هذا العصر خاصة لمن هم في مرحلتك.
ويكفينا نحن في باب التجربة ما حكاه ابن القيِّم - رحمه الله - عن بعض العارفين من قولهم: " لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه - أي من السعادة والسرور - لجالدونا عليه بالسيوف" وقول الآخر: "مساكين أهل الدنيا خرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها، قيل: وما أطيب ما فيها؟ قال: محبة الله - تعالى - ومعرفته وذكره".
ونحن وإن لم نصل إلى تذوَّق هذه السعادة كما ذاقوها فإننا نجزم بصدق هؤلاء في قولهم، وكمال إدراكهم وذوقهم بعد جزمنا التامِّ بصدق خبره - سبحانه وتعالى-.
وكلُّ ما أرجوه منك - أخي - وقد صبرت معي إلى آخر المقال ألاَّ يكون هذا آخرَ عهدك به، واسمح لي بأن أثقل عليك بطلب منك أن تستصحب في ذهنك هذه النقاط عند أخذك لفراشك قُبيل خلودك للنوم، وأن تنظر في حقيقة حالك التي لا يعلمها من البشر سواك، وأن تسأل نفسك بكلِّ صدق وتجرُّد: هل أنت - حقًّا - سعيد ؟
الطاهر أحمد الطاهر(/1)
للصلاة والثورة
شعر: نازك الملائكة
"شاعرة عراقية، تعد الشاعرة العربية الأولى. جمعت بين الموهبة الأصيلة، والثقافة الرفيعة.. اعتصمت بالقيم العليا في لحظات ضياع الشعراء المعاصرين لها، وعلى الرغم من ريادتها للشعر الجديد، لم تتنكر لعمود الشعر العربي الأصيل. والنص الذي بين أيدينا، من أواخر نتاجها".
"تلقت الشاعرة بطاقة تهنئة بعيد الفطر، عليها صورة لمسجد قبة الصخرة بالقدس"
يا قبةَ الصخرهْ
يا وردُ، يا ابتهال، يا حضرهْ
ويا هدى تسبيحة علوية النبرهْ
يا صلوات عذبة الأصداءْ
جاشت بها الأبهاءْ
يا حرقة المجهول، يا تطلُّعَ الإنسان للسماءْ
يا وَلهَ الركوع"؛ يا طُهْرَهْ
يا وردة الخشوع، يا نداه، يا عطرهْ
يا مسجداً أسْكَتَ تسبيحاته صهيونْ
من أجل حلْم وقحٍ مجنونْ
كبَّلَ في أرجائه الصلاة والخضرهْ
ولوّث التاريخ والفكرهْ
* * *
يا قبة الصخرهْ
يا جرح، يا ضماد يا زهرة
يا سَهَرَ الجراح في ارتعاشة الشفاهْ
يا حرقة الدعاء، يا تنهُّدَ الصلاهْ
هل تنبض الحياهْ
في هذه الأذرع والجباهْ؟
هل تدفق العطور والألوان والمياهْ؟
ينبجس النبع من الصخرهْ؟
وينبت الفداء ورداً ساخن الحمرهْ؟
نسقيه من تتمة الدعاءْ
من حمرة الدماءْ
نطعمه سنابل الفداءْ
تختصر الزمان في تسبيحة ثرّهْ
يصرخ فيها عطش الثورهْ
* * *
يا قبة الصخرهْ
حيث الخراب مُسدِلاً شَعْرَهْ
يا رعشة التقوى، ويا انخطافة الصلاهْ
يا أثر السجود في الجباهْ
يا صلوات لامست عطورها الشفاهْ
يا وردة روحية الخدودْ
قد ذبلت ولم يحسّ موتها الوجودْ
يا مسجداً عطشان للقرآن والسجودْ
مسائلاً: كيف اختفى تهجُّدُ الرواقْ؟
وأين تسبيحاته الصوفية الأشواقْ؟
ولهفة الجدران، وارتعاشة العمودْ
وسكرة البخور في أمسٍ نَدٍ مفقودْ
كم ضرعت نوافذ؛ وأمطرت أدمعَها أبوابْ
في صرعة العذابْ!
كم رتّلتْ حكايةَ الإرهابْ
لوردة يتيمة عذراء مصفرّهْ
عطورها اضطرّت إلى الهجرهْ
دماؤها تحدَّرتْ وانسكبتْ على المصلَّى قطرةً قطرهْ
* * *
يا قبة الصخرهْ
يا حقُّ، يا إيمان، يا ثورهْ
شمس حزيران طوتها غيمة في الفجر فانطوتْ
وأسدل الستار، والرواية انتهتْ
أقمارها هوتْ
أنجمها قد أغمضتْ عيونها، آفاقها خوتْ
ورودها تحت ثلوج الظلمة انحنتْ
ودولة اللصوص والقرودْ
ترشّفتْ دماءنا الحمراء وارتوتْ
ومزّقت أظفارُها ليونةَ الخدودْ
وأنشبت مخالب الحقودْ
في لحمنا، في كبرياء الأرض" في مراقد الجدودْ
غداً، غداً، تنفجر السجون واللحودْ
فلتسقطي يا دولة اليهودْ!
مازلتِ في سَكرَهْ
ميّتة الضمير؛ في تهوية قذْرهْ
تبعثرين السمّ والأشلاء بين الماء والخضرهْ
وتملأين الكأس بالدماء والخمرةْ
وباسم ماذا تُمنع الصلاة في الحضرهْ؟
وباسم ماذا يُسْرَقُ الأردنُّ والبيَّارة والنضرهْ؟
وباسم ماذا تُقْتَلُ الزهرهْ؟
* * *
يا قبة الصخرهْ
يا حقل قمح نادبٍ عطرهْ!
يا أرغناً مُقَطَّعَ الأوتارْ
يا معبداً مُرَوَّعَ القباب والأحجارْ
بين يدي جزّارْ
يقاتل الورود والسلام والأقمارْ
يسطو على الثمارْ
وينسف البيوت ظلماً؛ يحرق الأشجارْ
يشرّدُ الصغارَ والكبارْ
من أرضهم في ليلة ضائعة النهارْ
أصابعٌ للغدر إرهابية الأظفارْ
* * *
يا قبة الصخرهْ
يا جنح ليلٍ فاقدٍ فجرهْ
متى تُرى: ستنفض الغبارْ
عن أرضنا؟ ونرفع الحصارْ؟
متى تُرى: نقتحم الأسوارْ؟
وغنوة الأمواج والخلجان والأغوارْ
تهمس في أسماعنا بأعذب الأشعارْ
هتافها ينبض بالأسرارْ
فلنبدأ الإبحارْ
قلوعُنا والهةٌ؛ لعلها تعيش في انتظارْ
وفي المدى جزائر المرجان والمحارْ
* * *
يا قبة الصخرهْ
يا ذِكْرُ، يا ترتيلُ، يا حضرهْ
متى نصلّي فيك، هل ستنبت البذرهْ؟
هل نعبر المسالك الوعرهْ؟
ترمقنا ذئابُها بالنظرة والشزْرهْ
* * *
يا قبة الصخرهْ
وجهُكِ، هل نحظى به يا عذبة النظرهْ؟
ونحن قد شطّ بنا المزارْ
تقاذفتْنا البيد والبحارْ
وطوّحتْ بركبنا وأهلنا الأسفارْ
ترفضنا الكهوف، والغابات، والأمصارْ
خيامنا على خطوط النارْ
وزادنا التقوى، وملح الأدمع الغِزارْ
* * *
يا قبة الصخرهْ
يا صمتُ؛ يا ضياعُ يا حيرهْ
متى نرى أبوابك القدسيّة البرَّهْ؟
وننتهي إليك عبر الشُّعب الخطرهْ؟
جِرارُنا خاويةٌ، متى - ترى - تمتلئ الجرارْ؟
حقولنا قد يبستْ؛ فهل – تُرى - ستسقط الأمطارْ؟
وعند بواباتنا تنتظر الأقدارْ
متى نصلّي؟ إنما صلاتنا انفجارْ
صلاتنا ستطلع النهارْ
تسلّح العزَّل؛ تعلي راية الثوارْ
صلاتنا إنذارْ
إلى عدوّ، خادع، غدّارْ
تاريخه قد كُتبتْ سطوره بريشة المكر وحبر العارْ
صلاتنا ستشعل الإعصارْ
ستزرع السلاح والزنبق في القفارْ
تحوّل اليأس إلى انتصارْ
صلاتنا ستنقل الجدب إلى اخضرارْ
وتطعم الصغارْ
فاكهة الصمود والإصرارْ
يا قبة الصخرة من صلاتنا سيرتوي آذارْ
وتنبت الرايات والثمارْ
صلاتنا تفجّر الأنهارْ
وتبعث الغناء، والليمون، والأحرارْ
تعيدنا للوطن المسروق، تمحو العارْ
* * *
يا قبة الصخرهْ
يا رمز، يا تاريخ؛ يا فكرهْ
غداً، غداً،، يختلج اسم الله في القدس وفي الخليلْ(/1)
ينتفض العدل المدمَّى صارخاً، يستيقظ القتيلْ
تنبت من دمائه زهرهْ
في عطرها سمٌ وتخفي كأسها جمرهْ
تسكب في أشداق إسرائيلْ
مذاق هول زاحف من الفرات العذب حتى النيلْ
عندئذ ينطفئ الغليلْ
وترتوي جدائل الزيتون والنخيلْ
وتنعس الثارات بعد السهر الطويلْ
كأنما خيامنا عُدْنَ من الرحيلْ
* * *
يا قبة الصخرهْ
يا لغم، يا إعصار، يا سجينة خطْرهْ
على الذي يسجنها؛ غداً يصير سجنها قبرهْ
يا قبة الصخرهْ
حاشاكِ أن ترضَيْ هوانَ الأمة الحرهْ
سيهبط النصر على مرتّلِي القرآنْ
على المُصلِّين؛ وفي صوامع الرهبانْ
على الفدائيين في أودية النيرانْ
غداً، غداً، ينفجر البركانْ
ويبدأ الطوفانْ
ينتفض الشهيد في الأكفانْ
ويكسر القضبانْ
يقاتل الآسر والسّجانْ
ينتصر الإنسانْ
يرتفع الأذانْ
حراً عبيريّ الصدى من قبة الصخرهْ
يرطّب المهامه القَفْرهْ
ويعلن الصلاة والجهاد، والثورهْ
في القدس، في الجولان، في سيناءْ
في المدن العذراءْ
في الريف، في سجون إسرائيل، في الصحراءْ
في الأرض، في السماءْ
سيستحيل الماء، والتراب، والهواءْ
مَدافعاً فاغرةً، وثورةً حمراءْ
تزلزل العصابة السوداءْ
فيسقط الطغيانْ
ويُزهق الباطل والبهتانْ
ويمكرون مكرهم، ويمكر الرحمانْ.(/2)
للطلاق ...وجهُ مشرق؟!!
فوزية الخليوي 4/8/1426
08/09/2005
يسير كلٌّ منا إلى الأمام، وقد وضع نصب عينيه آمالاً يريد تحقيقها، وفجأة تحدث الكارثة، وتنقلب حياته رأساً على عقب بوقوع الطلاق!!
إن أزمة الطلاق ليست فقط حالة نفسية صعبة!!
فداخلياً: هي حالة تتكاتف فيها النفس والجسد معاً من انكسار للقلب و ضيق بالنفس وإحساس بالمرارة وخيبة الأمل، والشعور بالوحدة وفقدان النوم.
وخارجياً: تكمن في الموروث الثقافي الاجتماعي كقولهم: (ظل راجل ولا ظل حيطة) ، (دخول الرجل البيت رحمة ولو كان فحمة )... مما يهدّد المرأة بالنبذ الاجتماعي مستقبلاً!!
ومما يزيد من حيرتها في أمرها وإن كانت على شفا جرف هارٍ!!
وخسارة المرأة عاطفية أكثر منها مادية؛ لأنه موجود في إدراكها وعقلها ووجدانها!!
أرِقْت فبات ليلي لا يزولُ ... ...
وليل أخي المصيبة فيه طولُ
وفقد الزوج بالطلاق أصعب من فقده بالموت؟!
فكلاهما موجع ولكن الأول يشوبة الإحساس بالخيانة والظلم وخيبةالأمل!! مما لايحدث في الثاني!!
ثم إن نظرة المجتمع للمرأة المطلقة نظرة فيها الكثير من الريبة وتحميلها المسؤولية!! بينما فى الثاني هي نظرة عطف وشفقة!!
وحالة الاحباط هذه تقودها إلى الشعور بالاكتئاب مما يمنحها إحساساً بالذنب والندم تتسع هوتّه بوجود الأبناء الذين سيدفعون الثمن من مشاعرهم ومستقبلهم!!
لو ذاق طعم الفراق رضوى ... ...
لكاد من وجده يميد
قد حمّلوني عذاباً شوقاً ... ...
يعجز عن حمله الحديد!!
وما يحدث نتيجة هذة الضغوطات أن يدخل كل من الرجل والمرأة في حالة نفسية قد لا يستطيع الخروج منها فمن تناول الحبوب المهدئة إلى التردّد على العيادات النفسية؟؟ ولأن الكثير منا لايتقن فنّ قلب الصفحات بسهولة!! ولطيّ هذه الصفحة من حياتنا علينا التفكير ببعض الأمور الإيجابية:
(1) تكفير الذنوب:
فإنه ما أصاب المؤمن من همّ ولا غمّ ولا أذى إلا كفّر الله به من خطاياه قال ابن القيم فى مدارج السالكين: أذى الخلق لك كالدواء الكريه من الطبيب المشفق عليك! فلا تنظر إلى مرارة الدواء وكراهته!!ومن كان على يديه!! وانظر إلى شفقة الطبيب الذى ركّبه لك وبعثه على يدي من نفعك بمضرته!!
(2) تهذيب النفس:
هى فرصة كبيرة لأن يتأمل الفرد حاله وينظر فى عيوبه والأخطاء التي بدرت منه فى حق الآخرين على المدى الطويل.
(3) المناجاة مع الله:
عندما تدلهمّ الخطوب وتنغلق الأفهام يعلم المرء يقيناً أن لامناص إلا في القرب من الله قال ابن القيم: أقرب ما يكون الله من عبده عند ذله وانكسار قلبه ولأجل هذا كان " أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد" رواه مسلم لأنه مقام ذل وانكسار بين يدي ربه!!
(4) تعزيز الثقة بالنفس:
ففى اتخاذ قرار مصيري كالطلاق والمضي فى تحقيقه! على سلبيّته يعزز من ثقة المرء بنفسهوقدراته!!!
(5) العدل مع العباد:
وأكثر ما يتحقق ذلك فى النساء فمتى ما رأت الظلم الواقع عليها من تسريحها دونما سبب! أو تفضيل زوجة أخرى عليها! أو ضربها وشتمها! وما يسبق الطلاق من تبادل للاتهامات بين الزوجين! وكيل كل منهما التهم للآخر فى أمور قد تخفى ويتفاجأ فيها الطرف الآخر!! فهنا يدرك المرء مدى خطورة بخس العباد لحقوقهم؟!
(6) لمّ الشمل:
ما يحدث من التفاف الأسرة على المطلق وإسباغهم الحنان ومؤازرته في هذه المرحلةلأمر إيجابي لايحدث دائماً فى زحمة الحياة!
(7) تقوية أواصر الصداقة:
تتقوى العلاقة مع الأصدقاء الذين يبث لهم المطلق شكواه مما يخفف من ألم المعاناة على نفسه ويجد في ذلك الكثير من المشاركة الوجدانية التي تساهم في رفع الدعم المعنوي له!
(8) الاعتبار في تقلّب الأحوال:
في خوض غمار تجربه الطلاق حيث تكمن صعوبتها في الانقلاب الشديد عما كان المرء عليه؛ إذ تفقد المرأة الزوج المنزل وقد يشمل الأمر الأبناء أيضاً!!
وهذا من أشد العظات في أن الدنيا لا تدوم على حال!! ومما يخفّف من وطأة هذا الأمر على النفس أن يرى المطلق أن هذا ليس له وحده!! بل هو سنةٌ كونيةٌ ماضيةٌ في الخلق، وأن هناك الآلاف ممن خاضوا هذه التجربة!!
وفي قصة عشق عبد الرحمن بن أبى بكر لزوجته ليلى بنت الجودي لعبرة؛ إذ إنه شُغف بها فكانت أخته عائشة بنت أبي بكر رضي الله عنها تكلمه في هذا!!
فقال لها: دعيني فوالله إني لأرشف من ثناياها حب الرمان!!
فسقطت أسنانها فتركها؟! فكانت عائشة تكلمة في رحمتها فيأبى!! وكان أقصى ما فعله أن سرحها إلى أهلها!! فكانت عائشة تعجب من حاله معها!!
فَما لِيَ وَقِرناً لا يُغالَبُ كُلَّما ... ...
مَنَعتُ أَمامي جاءَني مِن وَرَآئِيا
(9) املئي قلبك بحب الله:
محبة الله هي البلسم الشافي لكل جراحناوقد قدّر الله أن المرء مع من أحب يوم القيامة...(/1)
والمحبة عندما سئل عنها الجنيد؟ قال: عبدٌ ذاهبٌ عن نفسه متصلٌ بذكر ربه قائمٌ بأداء حقوقهناظرٌ إليه بقلبه فإن تكلم فبالله وإن نطق فعن الله وإن تحرّك فبأمر الله وإن سكن فمع الله فهو باللهولله ومع الله!!!
ولأن الرجل هو صاحب السلطة والكلمة الأخيرة إذ إن من كمال رجولته أن يقدم بعض التنازلات!!! صيانةً للزوجة وحفظاً لماء وجهها!!
فله أقول:
(1) لاتلتمس العثرات:
ما أجمل أن يذكر كل من الزوجين صاحبه بالخير. ولا يبدي هفواته وسقطاته للآخرين ولو كانوا من أقرب الناس إليه!!
وقد بوّب النسائي" باب النهي عن التماس عثرات النساء" لحديث: نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يطرق الرجل أهله ليلاً. أن يتخوّنهم أو يلتمس عثراتهم" رواه البخارى 5243
وهذا من تمام الرجولة في حق الزوج ومن تمام العقل في حق الزوجة!!
تَعَمَّدَني بِالضَيمِ حَتّى شَكوتُهُ ... ...
وَمَن يَشكُ لا يَعدَم مِنَ الناسِ شاكِيا
(2)لاتمعن فى القسوة:
ففى الطلاق نفسه من الألم ما يكفى المرأة ويجرحها!!!فيا حبذا لو تنازل الرجل عن بعض الأمور ووضع نصب عينيه معاناتها المكبوتة!!
وصرخاتها المخنوقة!!
ويمضي قدماً دون وضع العراقيل أو محاولات التشفي!!
ولا أشك أن في هذه الحادثة شيء من القسوة عندما طلقت والدة الحجاج بعث زوجها لها من يبلغها على ألاّ يتعدى كلمتين!!!فقال لها الرسول: كنتِ فبِنتِ؟
فردت : كُنا فما حمدنا!!
وبِنا فما ندمنا!!!
وإنه لفرق واضح بين فعل الحسن بن علي عندما طلق زوجته الخثعمية؛ إذ بعث لها مبلغاً كبيراً من المال تطييباً لخاطرها فقالت: متاعُ قليل من زوج مفارقّ!!
(3)لاتنسيا الأيام الجميلة:
حتى إذا تُجُرّعت الغصّاتوانطلقت الآهات.... لايمنع أن نذكر الأيام الجميلة واللحظات الهانئة.....
ولا شك إن لتذكرها بلسماً شافياَ لجراحنا ..مما يخفف من وطأة المعاناة!!!!
(4) أنفق على عيالك:
تبقى مسألة النفقة الورقة الرابحة في يد الزوج بعد الطلاق وكثير من الأزواج يستخدمها لليّ يد الزوجة وإذلالها!!
والزوج العاقل هو الذي يفصل أبنائه عن المشكلة بل ويعدّهم جزءاً منه وإنفاقه عليهم كإنفاقه على نفسه!!
ورحم الله أيوب السختياني العالم الرباني الذي قال لتلامذته: لو أعلم أن أبنائي يحتاجون إلى بقلة ما جلست معكم ساعة!!
(5) كن فتياً:
الفتوة : هى فضيلة تأتيها ولا ترى نفسك فيها!
وقد سئل الأمام أحمد عن الفتوة؟ فقال: ترك ما تهوى لما تخشى!
ومن مظاهرها: ترك الخصومة والتغافل عن الزلة ونسيان الأذية.
ينسى صنائعه والله يظهرها ... ...
إن الجميل إذا أخفيته ظهرا(/2)
للعيد فرحة فلاتقتلوها!
د. عبد الوهاب الناصر الطريري 30/9/1424
24/11/2003
للعيد فرحة ، فرحة بفضل الله ورحمته ، وكريم إنعامه ، ووافر عطائه ، فرحة بالهداية يوم ضلت فئام من البشر عن صراط الله المستقيم ، يجمع العيدُ المسلم بإخوانه المسلمين ، فيحس بعمق انتمائه لهذه الأمة ولهذا الدين ، فيفرح بفضل الله الذي هداه يوم ضل غيره "ولتكملوا العدّة ولتكبروا الله على ما هداكم".
أيُّ نعمةٍ أعظم ، وأيّ منٍّ أمنُّ وأفضل من أن الله هدانا للإسلام فلم يجعلنا مشركين نجثو عند أصنام ، ولا يهود نغدو إلى بيعة، ولا نصارى نروح إلى كنيسة ، وإنما اجتبانا على ملة أبينا إبراهيم ودين نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم –"هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين".
وللعيد فرحة ببلوغ شهر رمضان يوم تصرّمت أعمارٌ عن بلوغه ، وفرحٌ بتوفيق الله وعونه على ما يسر من طاعته ، فقد كانت تلك الأيام الغرّ والليالي الزُّهْر متنزل الرحمات والنفحات ، اصطفت فيها جموع المسلمين في سبْحٍ طويل تُقطعُ الليل تسبيحاً وقرآنا ، فكم تلجلجت الدعوات في الحناجر ، وترقرقت الدموع في المحاجر ، وشفت النفوس ورقت حتى كأنما يعرج بها إلى السماء تعيش مع الملائكة ، وتنظر إلى الجنة والنار رأي عين ، في نعمة ونعيم لا يعرف مذاقها إلا من ذاقها . فحُقَّ لتلك النفوس أن تفرح بعدُ بنعمة الله بهذا الفيض الإيماني الغامر .
وللعيد فرحة بإكمال العدة واستيفاء الشهر ، وبلوغ يوم الفطر بعد إتمام شهر الصوم، فلله الحمد على ما وهب وأعطى ، وامتن وأكرم ، ولله الحمد على فضله العميم ورحمته الواسعة "قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فيلفرحوا هو خير مما يجمعون".
فهذا العيد موسم الفضل والرحمة ؛ وبهما يكون الفرح ويظهر السرور ، قال العلماء: "إظهار السرور في الأعياد من شعار الدين"، وشَرع النبي - صلى الله عليه وسلم- وتقريره إظهار الفرح وإعلان السرور في الأعياد ، قال أنس رضي الله عنه : "قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما ، فقال : إن الله أبدلكم بهما خيراً منهما : يوم الأضحى ويوم الفطر".
ففيه دليل على أن إظهار السرور في العيدين مندوب ، وأن ذلك من الشريعة التي شرعها الله لعباده ؛ إذ في إبدال عيد الجاهلية بالعيدين المذكورين دلالة على أنه يفعل في العيدين المشروعين ما يفعله أهل الجاهلية في أعيادهم من اللعب مما ليس بمحظور ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم – إنما خالفهم في تعيين الوقتين" .
ويبين هذا خبر عائشة - رضى الله عنها قالت : "دخل عليَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم وعندي جاريتان تغنّيان بدفّين بغناء بُعاث ، فاضطجع على الفراش ، وتسجّى بثوبه ، وحول وجهه إلى الجدار ، وجاء أبو بكر فانتهرهما ، وقال : مزمارة الشيطان عند النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فكشف النبي وجهه ، وأقبل على أبي بكر ، وقال : دعهما ، يا أبا بكر إن لكل قومٍ عيداً وهذا عيدنا".
ومن مشاهد السرور بالعيد بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم - ما فعله الحبشة ، حيث اجتمعوا في المسجد يرقصون بالدرق والحراب ، واجتمع معهم الصبيان حتى علت أصواتهم ، فسمعهم النبي - صلى الله عليه وسلم - فنظر إليهم ، ثم قال لعائشة : "يا حُمَيْراء أتحبين أن تنظري إليهم ، قالت : نعم ، فأقامها - صلى الله عليه وسلم - وراءه خدها على خده يسترها ، وهي تنظر إليهم ، والرسول - صلى الله عليه وسلم - يغريهم ، ويقول : دونكم يا بني أرفدة ، لتعلم يهود أن في ديننا فسحة ، إني بعثت بالحنيفية السمحة" .
فهذه مشاهد الفرح بالعيد ومظاهر السرور والبهجة تقام بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم - فيقرها ويحتفي بها .(/1)
ولكنك تعجب لتجاوز هذا الهدي النبوي المنير عند من يحاولون قتل أفراح العيد، والتضييق على مشاعر الناس، وكان ذلك يصدر في السابق من بعض الزُهّاد والعُبّاد، فروي عن بعضهم أنه رأى قوماً يضحكون في يوم عيد ، فقال : "إن كان هؤلاء تُقُبِّلَ منهم صيامهم فما هو فعل الشاكرين ، وإن كانوا لم يُتَقَبَّلْ منهم فما هذا فعل الخائفين"، وكان بعضهم يظهر عليه الحزن يوم العيد ، فيقال له : إنه يوم فرح وسرور ، فيقول : إنه لا يدري هل قُبِلَ صومه أم لا ؟ (لطائف المعارف 376) ، ولئن صدر هذا من عُبّاد وزُهّاد عن حسن نية ، فإن مثله يصدر اليوم من بعض الغيورين وعن حسن نيةٍ أيضاً ، فيجعلون الأعياد مواسم لفتح الجراحات، والنُّواح على مآسي المسلمين، وتعداد مصائبهم، والتوجع لما يحل بهم، ويذكرونك بأن صلاح الدين لم يبتسم حتى فُتِحتْ بيت المقدس ، وينسون قوله - عز وجل - ممتناً على عباده "وأنه هو أضحك وأبكى"، ويتناسون أن لكل مقام مقالاً، ولكل مناسبة حالاً، وأن مآسي المسلمين ثمار مُرّة لخطايانا وأخطائنا (قل هو من عند أنفسكم)، ولن يكون علاجها بالوجوم والتحازن، ولكن بالرأي السديد والعمل الرشيد، والشجاعة أمام الخطأ، ولو أنا قتلنا كل فرحة، وأطفأنا كل بسمة، ولبسنا الحزن، وتلفّعنا بالغم، وتدرعنا بالهم ما حرّرنا بذلك شبراً، ولا أشبعنا جوْعة، ولا أغثنا لهفة، وإنما وضعنا ضغثاً على إبالة .
وإن خير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - وقد كان يستعيذ بالله من الهم والحزَن ، يعجبه الفأل، دائم البشر، كثير التبسم .
إننا بحاجة إلى أن نجعل من هذا العيد فرصة لدفق الأمل في قلوبٍ أحبطها اليأس، وأحاط بها القنوط ، وتبدّت مظاهر اليأس في صور شتى ، منها : سرعة تصديق كواذب الأخبار، ورواية أضغاث الأحلام ، وقتل الأوقات في رواية الإشاعات ، والتي هي أمانٍ تروى على شكل أخبار من مصادر موهومة تسمى موثوقة . وهكذا في سلسلة من الإشكالات التي تدل على التخبط بحثاً عن بصيص أمل في ظلمة اليأس .
فيا أمة الإسلام ، أبشروا وأمِّلوا ما يسركم ، فعُمر الإسلام أطول من أعمارنا ، وآفاق الإسلام أوسع من أوطاننا ، وليست المصائب ضربة لازب ، لا تحول ولا تزول، فقد حصر المسلمون في الخندق ، وبعد سُنيّاتٍ فتحوا مكة ، وسقطت بغداد ، ثم بعد نحو قرنين فُتِحت القسطنطينية ، والله – عز وجل - لا يعجل لعجلتنا ، ولا تتحوّل سننه لأهوائنا، فسنن الله لاتحابي أحداً، ولنتذكر في هذا العيد ما أبقى الله لنا من خير، وما تطول به علينا من فضل، قطعت رجل عروة بن الزبير ومات ولده فقال: " اللهم إنك أخذت عضواً وأبقيت أعضاءً، وأخذت ابناً وأبقيت أبناءً فلك الحمد، ونحن نقول: لئن حلت بنا محن فقد أبقى الله لنا منحاً، ولئن أصابتنا نقم فقد أبقى الله لنا نعماً " وإن تعدوا نعم الله لاتحصوها"، ونحن أحوج ما نكون إلى أمل يدفع إلى عمل ، وفأل ينتج إنجازاً ، أما المهموم المحزون فهو غارق في آلامه ، متعثر في أحزانه ، مدفون في هموم يومه ، لا يرجو خيراً ولا يأتي بخير ، والله غالب على أمره ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون(/2)
للمسلمين حقٌّ مشهود ولليهود باطل مردود
بقلم الدكتور عدنان علي رضا النحوي
إن الأحداث الأخيرة التي تدور على أرض فلسطين ، وما يدور على صفحات بعض الصحف والمجلات من آراء متضاربة ، تدفع الإنسان إلى التأمّل فيما يجري اليوم ، وإلى استرجاع بعض أحداث الماضي في قضية فلسطين ، وإلى جذور المشكلة ، ومن ثمَّ إلى الردّ على بعض ما طُرِح من أفكار وآراء ، ومناقشتها من خلال الحقائق لا الظنون ، ومن خلال ميزان حقًّ لا اضطراب فيه :
1_ استغلال الشعار الديني لتسويغ ادعاء باطل وعدوان ظالم إجرامي :
مما يستوقف النظر ادعاء اليهود بحقّهم الديني في فلسطين ، واستغلال هذا الشعار منذ عهد ليس بالقصير لتجميع اليهود حوله . ولكن قادة اليهود اليوم هم من أبعد الناس عن أيّ تصّور دينيّ ، أو سلوك دينيّ في حياتهم ، وسياستهم واقتصادهم ، ومختلف نواحي نشاطهم . إنهم علمانيون ، قدموا من دول علمانية غربيّة أو اشتراكية أو شيوعية . وكلُّ ما لديهم اليوم حزب ديني أمام أحزاب أُخرى غير دينية . فما بال هؤلاء اتخذوا الدَّين وسيلة خادعة لتسويغ ادعاء باطل ؟! إنهم يُسخَّرون الإعلام كلّه للدعاية الكاذبة حتى صدّقها الكثيرون من عامة الناس في العالم الغربيّ ، وادعى تصديقها المجرمون من أصحاب المطامع والمصالح الظالمة .
2_ التناقض الواضح في سياسة الدول العلمانية :
ومما يلفت النظر التناقض الكبير في سياسة الدول العلمانية . ففي الوقت الذي يدّعون فيه أنهم لا يُدْخِلون الدَّين في شُؤُون الدولة والأمة ، نراهم هم الذين يُموَّلون الحركات التنصيريّة ، ويفتحون الأبواب لمؤتمراتها ، و ويغذونها بشتى الوسائل السرّيّة والعلنيّة . وأكثر من ذلك ، فقد جعلوا نشاط الحركات التنصيرية بمختلف اتجاهاتها ومذاهبها تمهيداً لزحف الجيوش المعتدية في شتى أنحاء الأرض ، خلال فترة طويلة من تاريخ عدوانهم الظالم الممتد ، وبصورة خاصة في عدوانهم الإجرامي على العالم الإسلامي . إنه تناقض ظاهر يضاف إلى ما نلقاه اليوم من تناقض في سياسة الدول العلمانيّة واليهود ، ومن اختلاف الموازين والمكاييل .
3_ من هم اليهود ؟! ومن هم النصارى ؟!
منذ أن بُعِث عيسى عليه السلام بدين الإسلام ، دين جميع الأنبياء والمرسلين ، والعلاقات بين النصرانية واليهود عداء ممتد استمرّ إلى عهد قريب ، وتمثل في المجازر التي دارت في معظم الدول المنتمية إلى النصرانية . ولتوضيح ذلك نقول إن الذين اتبعوا عيسى عليه السلام وصدّقوه وآزروه كانوا مسلمين . والذين كفروا به وحاربوه وتآمروا عليه كانوا يهوداً :
" فلما أحسّ عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون " [ آل عمران :52]
وكذلك :
" يأيّها الذين أمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى بن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة فأيدنا الذين آمنوا على عدوّهم فأصبحوا ظاهرين " [الصف :14]
فهاتان طائفتان من بني إسرائيل: طائفة آمنت بعيسى عليه السلام وبرسالته بدين الإسلام فكانوا مسلمين " ... واشهد بأن مسلمون ." وطائفة كفرت وحاربت فكانوا يهوداً . فلقد تآمروا على قتله حتى رفعه الله إليه . وامتدّ الصراع حتى العصر الحديث ، في تاريخ مليء بالصراع والمذابح . والنصارى يؤمنون بأن اليهود الذين تآمروا على عيسى عليه السلام حتى " صُلِبَ " حسب ظنّهم . ولم يجد النصارى ولا اليهود في تاريخهم أرحم ولا أعدل ولا أصدق من الإسلام حين يحكم شرعه ومنهاجه .
أما النصارى فهم الفئة التي انحرفت عن دين عيسى عليه السلام ، دين الإسلام ، عندما اصطدموا بالوثنية في أوروبا ، فتأَثَّرت من خلال ذلك الطائفة الغالبّة منهم بالوثنية ، ودخلوا في مساومات مع أباطرة الرومان ، فخرجوا من ذلك بنظرية التثليث ، وأُبيدت الفئة التي ظلت متمسكة بأن عيسى عليه السلام رسول الله ، وليس أبناً لله ولا هو الله سبحانه وتعالى عما يشركون . واستمرّ الصراع بين النصرانيّة واليهود في عداء مستمرّ ومجازر ممتدة من إسبانيا إلى غيرها من دول أوروبا . وزاد من حدّة الصراع تآمر اليهود المستمرّ على البلد الذي يؤويهم وخيانتهم الممتدة لكل من يعينهم ، حتى أصبح هذا السلوك سمةً ظاهرة في تاريخ اليهود برز في علاقتهم مع فارس ، ومع بابل ، ومع اليونان والرومان وغيرهم .
4_ التقاء النصرانية واليهود اليوم في جبهة واحدة :
إذا كان هذا هو تاريخ العلاقات بين اليهود والنصارى قروناً طويلة ممتدّة ، فما الذي حدث اليوم حتى أَصبحوا جبهة واحدة !(/1)
قد يظنّ البعض أن سبب التلاقي دينيٌّ وأنّ جذور الديانتين واحدة في التوراة والإنجيل . ولو كان هذا هو السبب ، لكان اللقاء قد تّم منذ عهد بعيد . ولو كان هذا هو السبب لظهر لنا تمسك كل طائفة منهم بالديّن ومعانيه ولأقرّوه في مجتمعاتهم . ولكن الدول الغربية أعلنت كلها عن نفسها أنها دول علمانيّة ، واليهود أصبحوا علمانيين بظهور الحركة الصهيونية وغيرها ، ولم يكن هذا يمنع كلّاً من الطائفتين من استغلال الدّين كلما دعت المصالح الدنيوية إلى ذلك .
فاللقاء الظاهر اليوم بين النصارى و اليهود ، وإن حمل بعض المظاهر الدينية أحياناً ، إلا أنه ليس لقاءً دينياً . ونعتقد أن الذي جمع هذين الطرفين ، وهم علمانيون ، وجود هدف علماني مشترك بينهما .
إن الدول الغربية أعلنت دائماً أن مصالحها الاقتصادية هي محور سياستها كلها . وهذه المصالح تمثّلت في أطماعهم الممتدّة في ثروا ت الأُمم والشعوب ، وبخاصة ثروات العالم الإسلامي . ولقد وجدوا من خبراتهم خلال القرون الطويلة أن الإسلام الذي أُنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ، وأنّ أتباعه الصادقين الملتزمين بهذا الدين ، هم العقبة الكأداء أمام استغلال تلك الثروات ونهبها ونقلها إلى ديارهم . فماذا حدث في الهند وإندونيسيا والعالم العربي وشمال أفريقيا ووسطها ، مثل جليّ على ذلك فما هدأت المقاومة أبداً في بلاد المسلمين منذ أن بدأ الغزو والعدوان الظالم . فإن هدأت حيناً فإنها تعود و تشتعل ، ما دامت جذوة الإيمان متَّقِدة في النفوس . ووجدوا أنّ حقائق هذا الدين العظيم لا تسمح بالمساومة ولا التنازل ، ولا تسمح بالظلم والعدوان . فوجدوا مع طول الخبرة أنه لا مجال أمامهم إلا إزاحة الإسلام عن طريقهم ، وفتنة أبنائه بكل وسائل الفتنة والتخدير ، وتجريد العالم الإسلامي من أسباب القوة الحقيقيّة . فوضعوا خططهم لذلك كيداً ومكراً ، وحقداً يخفونه حيناً ويكشفونه حيناً ، والتقت الأطماع والمصالح الدنيوية بين النصرانية العلمانيّة واليهود العلمانيين ، وما كان ليعطّل هذا اللقاء العلمانيّ وجود منتسبين إلى الإسلام على ضعف وقلة إعداد واستعداد .
ولقد أَبرز هذا اللقاءُ العلماني تعاوناً وثيقاً حمل الحقد الذي يختفي في مرحلة ، ويتحوّل إلى أساليب الإرضاء بالأفواه ، ثم يتفجّر كلما ملكوا القوة ذبحاً ومجازر وتقتيلاً وتدميراً :
" كيف إن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون . " [ التوبة :8 ]
إن المطامع الدنيويّة وأهواءها دفعتهم إلى تحريف ما أُنزل من عند الله ، فحرّفوا التوراة وحرّفوا الإنجيل ، واشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً :
" اشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً فصدّوا عن سبيله إنهم ساء ما كانوا يعملون ." [ التوبة :9]
فكلما هاجت المطامع ، وهي هائجة دائماً ، وكلّما ملكوا قوة تفجّر حقدهم عدواناً ومكراً وكيداً ، إنهم دائماً هم المعتدون الظالمون :
" لا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمّة وأولئك هم المعتدون " [ التوبة :10 ]
ولقد تمثّل هذا العدوان والمكر في مواقع كثيرة من العالم الإسلامي ، وبرز بوجهه الكالح وإجرامه المروّع في فلسطين . واللحظات الحالية ، وما يدور فيها من أحداث تمثّل أبشع تمثيل هذا الوجه الكالح .
ويتحدث نيكسون عن دولة اليهود بأنها الدولة الديمقراطية الوحيدة في المنطقة ، وبأنّ من بركات السياسة الأمريكية ضمان بقاء إسرائيل (1) . ويتحدث عن دولة اليهود في أكثر من مكان في كتبه الثلاثة الأخيرة ، ويبين أن العلاقة معها لا تقف عند حدود المعاهدة أو العطف ، ولكنها تمثل عمقاً في الاستراتيجية الأمريكية وحمايتها .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) نصر بلا حرب : 292 .
ويقول في مكان آخر إن محور علاقات أمريكا مع ألمانيا وأوروبا وآسيا والعالم كله هو مصالح أمريكا الاقتصادية ، وعلى العالم كله أن يخدم مصالح أمريكا . (1)
ومن خلال ممارسة هذا الدعم لدولة اليهود ، نرى كيف تُسحَق القيم ، ويُسحَق الإنسان ، وتضطرب كل المكاييل ، إلا مكيالاً واحداً هو " على العالم كله أن يخدم مصلحة أمريكا " .
ويؤكد هذا المبدأ الإجرامي قول نيكسون : " إن منطلق أمريكا يجب أن يكون الحرص على حماية مصالحها بعيداً عن المثل والأيديولوجيات ."
ولذلك منذ أن قامت دولة اليهود سنة 1948م ، توالت تصريحات وزراء الخارجيّة في دول أوروبا وأمريكا ، وتصريحات مسؤولين آخرين ، كلها تقول : " إسرائيل وجدت لتبقى " !(/2)
ولم يأتِ اليهود إلى فلسطين بقوتهم وحدهم . ولكنهم أتوا بهذا الدعم الكبير من جميع دول أوروبا النصرانيّة باختلاف مذاهبها ومن أمريكا ومن دول أخرى . وذلك وفق مخطط مدروس التزمه سفراء تلك الدول في دولة الخلافة الإسلامية ، الدولة التي قاومت هذا المخطط ، فكانت نتيجة المقاومة اعتقال الخليفة عبد الحميد الثاني ونفيه ، ثم تمزيق العالم الإسلامي بجهود ساهم فيها بعض المسلمين ، ثم إسقاط الخلافة الإسلامية على يد مصطفى كمال أتاثورك .
5_ لمن فلسطين ؟! وهل لليهود حق فيها ؟! (2)
إن فلسطين كلها حق للإسلام فقط ، وللمسلمين . وهي أمانة في أعناقهم إلى يوم القيامة سيحاسبون عليها . إن الله سبحانه وتعالى لا يفضّل جنساً عل جنس ولا دماً على دم ، وإنما هي التقوى تتفاضل فيها الشعوب عند الله ، والله بعث جميع الرسل والأنبياء بدين واحد هو الإسلام . وبعث في كلّ أُمَّة رسولاً يبلّغ رسالة ربَّه ،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) اغتنام اللحظة لنيكسون ، الشرق الأوسط في نشرها حلقات من الكتاب ابتدأت في 19/12/1991م .
(2) يراجع كتاب : " فلسطين بين المنهاج الربّاني والواقع " ، و "ملحمة فلسطين " و " ملحمة الأقصى" و" على أبواب القدس " للمؤلف .
دين الإسلام . فلم يبعث الله أحداً ليدعوَ إلى جنس أو دم أو عصبية ، وإنما بعثهم ليدعوا إلى التوحيد الخالص النقيّ :
" ولقد بعثنا في كلّ أُمّة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ... " [النحل :36]
لقد كان جميع الرسل ومن اتبعهم مسلمين . فهذا إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام يدعوان ربهما الله :
" ربّنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك ..." [ البقرة : 128]
" قولوا آمنا بما أُنزل إلينا وما أُنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرّق بين أحد منهم ونحن له مسلمون ." [ البقرة : 136]
وكذلك مع موسى عليه السلام :
"وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين" [ يونس:84]
ولقد سبق ذكر الآيات الكريمة التي تنص على أن عيسى عليه السلام كان مسلماً وأن الذين اتبعوه كانوا مسلمين . فالرّب واحد هو الله الذي لا إله إلا هو ، والدّين واحد هو الإسلام ، لا يقبل الله من أحد غيره :
" إن الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلاّ من بعد ما جاءهم العلمُ بغيا بينهم ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب " [ آل عمران :19]
وكذلك :
" ومن يبتغِ غير الإسلام ديناً فلن يُقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين "
[ آل عمران :85 ]
وأتباع كل نَبِيّ يجب أن يؤمنوا بالنبيّ بعده . فإن لم يؤمنوا فهم في ميزان لله كافرون فيمتدّ المسلمون مع التاريخ أمة واحدة تؤمن بالرسل كلهم وبخاتم الأنبياء والمرسلين محمد صلى الله عليه وسلم .
فجميع الأنبياء الذين دخلوا فلسطين ، دخلوا مسلمين باسم الإسلام يدعون إلى الإسلام ويحكمون بالإسلام ، وجميع الأنبياء والمرسلين على عهد مع الله أن يؤمنوا هم وأتباعهم بالنبيّ الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم .
" وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثمّ جاءكم رسول مصدّق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين ." [ آل عمران : 81]
ولقد أمّ محمد صلى الله عليه وسلم الأنبياء والمرسلين في المسجد الأقصى يوم أن أُسري به ، وجعل الله بذلك الدين والأرض أمانة في عنق المسلمين إلى يوم القيامة ، يحاسبون عليها . ففلسطين كلها شبراً شبراً ملك المسلمين ، ملك للإسلام ، لا حقَّ لأحد أن ينازعهم فيها أبداً .
ولقد نشرت بعض الصحف بعض الآراء حول ما أسموه الخلاف على مقدّسات الأقصى : الحائط والصخرة والمسجد . والحق يأتي من عند الله . فكما ذكرنا ، ففلسطين كلها بجميع مقدّساتها حق للمسلمين أبد الدهر . وإن ادّعى اليهود بأن لهم حقاً في فلسطين ، فهو افتراءٌ على الله وادّعاء باطل . فليس لليهود حقّ في أي شيء في فلسطين ، إلا بالباطل الذي يدعمه الإعلام ، وما يذكرونه من كتبهم المحرّفة . فالمسجد الأقصى كله بحائطه وصخرته ومسجده هو للإسلام مع سائر مقدّسات فلسطين . ويقول بعضهم إننا يجب أن نخاطب العالم بما يمكن أن يقبلوه ، ونبيّن حقّ اليهود حتى يُسْمَع كلامنا . فأيّ حقّ لهم ؟! وبأي لغة نخاطب العالم ؟! أبغير ما خاطب به محمد صلى الله عليه وسلم العالم كله ، وما خاطب به اليهود والنصارى ؟! أن الله انزل كتابه لنخاطب به العالم كله ، ونخاطب به اليهود والنصارى . وأعجب كيف يخاطب اليهود العالم بآيات التوراة المحرَّفة ليثبتوا باطلهم المفترى ، ويتردّد المسلمون ولا يخاطبون العالم بلغة القرآن ، الكتاب الوحيد الذي لم يُحرَّف لدى البشرية ؟! إنه الحق كله ، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه .(/3)
فللمسلمين في فلسطين حقٌّ مشهود ، ولليهود باطل مردود . وعلينا أن نعلن ذلك بالآيات البيّنات من كتاب الله .
6_ هل هنالك مؤامرة ضد المسلمين ؟! :
يعترض بعضهم حين يُقالُ إنّ هناك مؤامرة ضد الإسلام والمسلمين . يعترضون ويقولون : أنتم تغالون وتفسَّرون كل شيء بالمؤامرات ! كلمات عامة يطلقونها تترك أثرها في نفوس مَنْ يسأل عن حجةٍ وبينة ، فتطمئن هذه النفوس إلى أنه ليس هناك مؤامرة أبداً . ثم يستيقظون على فاجعة بعد فاجعة ، وهزيمة بعد هزيمة ، وقوارع بعد قوارع ، بين تدفق الدماء وتطاير الأشلاء .
الحقيقة أنه لا يُفَسَّر كلُّ شيء بالمؤامرات . ولكن تُفسَّر المؤامرات بالمؤامرات حين تقوم الحجة والبيّنة والواقع الذي يقنع . إذا لم يكن إخراج أهل فلسطين من أرضهم وديارهم ، وإحضار اليهود من مختلف بقاع العالم وإحلالهم مكان أهل فلسطين ، وتشتيت أهل فلسطين في شتى أنحاء الأرض ، تطردهم الأرض بعد الأرض ، إذا لم يكن هذا مؤامرة واضحة فكيف تكون المؤامرة ؟! إذا لم يكن دعم أمريكا وأوروبا لليهود هذا الدعم الذي تخلّى عن كلَّ القيم وسحقها مؤامرة ، فماهي المؤامرة إذن ؟! إذا لم يكن ما يجري في تيمور الشرقية مؤامرة فماهي المؤامرة إذاً ؟! إذا لم يكن إسقاط الخلافة الإسلامية مؤامرة فما هي المؤامرة إذاً ؟! إذا لم يكن ما يجري في كشمير والبوسنة والهرسك ، وإندونيسيا وغيرها من ديار المسلمين مؤامرة فكيف تكون المؤامرة إذاً ؟! إذا لم يكن ما جرى في الأندلس ، في الحروب الصليبية وغير ذلك من مؤامرة فكيف تكون المؤامرة !
إن تسلسل الأحداث وترابطها وامتدادها ، وامتداد الأطماع التي تتحقق ، والفتك المتعمَّد ، والجرائم المروّعة ، لتشير بوضوح وجلاء إلى المكر المبيّت والكيد المدبّر والمؤامرة التي يمسك بخيوطها المجرمون ويديرونها .
إنّ الذين لا يشعرون بالمؤامرة والتآمر إما أن يكونوا نائمين غافلين غائبين ، وإما أن يكونوا مشتركين في المؤامرة بصورة مباشرة أو غير مباشرة ، ويريدون أن يُبْقوا الناس في غفلتهم ، ويصرفوهم عن اليقظة والوعي والاستعداد ، ويدفعوا عن أنفسهم التهمة والجريمة .
المؤامرة تعني بإيجاز : مكر باطل وكيد ظالم وعدوان طاغٍ ، يمضي على خطة مدروسة ونهج مقرّر ، ليحقّق هدفه غير المعلن من ظلم واعتداء وإجرام !
أو ليس الذي يجري في فلسطين مكراً وكيداً وعدواناً ، وأنه يمضي على نهج وخطة؟! فكيف لا يكون مؤامرة وجريمة مروّعة .
لقد انطلق الإعلام منذ زمن يتهم المسلمين بالطائفية ، وهم بعيدون عن الطائفية وغيرها وهو الذي يثير الطائفية ، حتى صار بعض المسلمين يخجل من أن يثير قضية الإسلام ، أو شعار الإسلام حتى لا يُتَّهم بالطائفية . ولكن ظلّت الحركة التنصيرية عاملة سراً وجهاراً دون أن تُتَّهم بالطائفية ، ظلّت تدعو إلى النصرانية وتكيد للإسلام والمسلمين !
ويُتَّهم المسلمون اليوم بالإرهاب لأنهم يدافعون عن ديارهم وأعراضهم وثرواتهم ، أما المجرمون المعتدون بالسلاح المدمر ، المجرمون الذين يبيدون الآلاف ومئات الآلاف فلا يقال عنهم إِنهم إرهابيون .
إنها مؤامرة إجرامية بكل ما في كلمة مؤامرة من معنى ، تستغل الإعلام والأدب والفكر والدّين لتحقّق أهدافها الإجراميّة .
عندما جاء اليهود إلى فلسطين أول مرّة زعموا أنهم يأتون للزيارة دون أن يكون لهم أطماع . ثمّ تحولت الزيارة إلى إقامة ، ثم إلى إقامة مستعمرات ، وتوالت الخطوات حتى كشَّروا عن أنيابهم ، بعد أن أعدّوا العدّة ، من سلاح وإعلام واقتصاد ودعم دوليّ . مراحل متتالية تتم في غفلة من المسلمين ، أو شيء آخر أكبر من الغفلة . هذه هي المؤامرة في أبشع صورها من الكذب والخداع ، والمكر والكيد .
7_ الخلل في تخطيط المؤامرات عند اليهود ومن يواليهم :
إنهم يظنون أن الأمر بيدهم وحدهم . وأنهم قادرون على تحقيق ما يخطَّطون له . وقد كشف نيكسون وغيره عن هذا الظن والوهم ، حين قال في كتاب نصر بلا حرب : ص:335 :" نحن نقبض على ناصية المستقبل بأيدينا ":! كبر وغرور ليس بعده كبر أكبر ولا غرور أضلّ . ظنوا أن العلم الذي منّ الله به عليهم ، والصناعة المتطورة التي بلغوها ، والتجوال في آفاق الفضاء البعيد ، والسلاح المدمر الفتاك ، ظنّوا أن هذا كله كافٍ ليملكوا به ناصية المستقبل وغاب عنهم أو تجاهلوا أن الله وحده هو الذي يقدَّر كل شيء ، وأنه إذا أراد شيئاً فإنما يقول له كن فيكون ، وأن كلَّ ما يقدَّره الله يمضي على حكمة بالغة وحقًّ ماضٍ ، سواء عرفنا الحكمة أو لم نعرفها ، وأن لله سنناً ثابتة ماضية في الكون كله . وأنه هو وحده يقبض على ناصية المستقبل كله !(/4)
فما يبلغه المجرمون الظالمون هو بقدر الله ، لا يكون نتيجةً لقوة تخطيطهم فحسب ولكن لغفلة من يدّعي الانتساب إلى الحق والعدل وإلى دين الله ، الإسلام ، ونتيجة لسنن الله الثابتة التي تمضي على هؤلاء وهؤلاء عدلاً منه سبحانه وتعالى . فقد حرّم الله الظلم على نفسه وجعله محرّماً بين الناس . ومن سنن الله الثابتة قوله سبحانه وتعالى :
" وكذلك نولي بعض الظالمين بعضاً بما كانوا يكسبون " [ الأنعام : 129]
ومن السنن الثابتة أيضاً :
" ولكلّ أُمّة أجل فإذا جاء أَجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون " [الأعراف:34]
"... إنه لا يفلح الظالمون ." [ الأنعام : 135 ]
"... إنه لا يفلح المجرمون ." [يونس : 17]
"... إنه لا يفلح الكافرون ." [ المؤمنون :117]
فلا يُغَرَّ هؤلاء بما منّ الله عليهم به من أسباب بالقوة ، فسيأخذهم الله بذنوبهم وتدول دولتهم ويُطوى عزّهم . ولكن على المسلمين في الوقت نفسه أَن ينهضوا لما أمرهم الله ، وأن يتوبوا إلى الله ، فما نزل بنا هو ابتلاء من الله أو عقاب وتذكير ، وما أُعطِيَ هؤلاء هو ابتلاء مِن الله كذلك ، ليأخذ المجرمين بما كسبت أيديهم .
ولا يحلُّ للمسلمين أن يستكينوا ، فيقعدوا ولا يحاسبوا أنفسهم ، ويكتفوا بترديد البشرى التي جاءت في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يرويه أبو هريرة :" لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود . فيقتلهم المسلمون ، حتى يختبئ اليهوديُّ من وراء الحجر والشجر . فيقول الحجر أو الشجر : يا مسلم ! يا عبد الله ! هذا يهوديّ خلفي فتعال فاقتله ، إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود ."(1)[رواه مسلم ]
فسينال شرف تلك المعركة أولئك الذين يقومون بها في مقبل الأيام ، وينالوا أجرها وثوابها عند الله . وأما مسلمو اليوم فلهم أعمالهم لا أعمال من سيأتون ، وهم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) مسلم : 52/18/2922
محاسبون على ما يُفَرَّطون به اليوم . والحديث الشريف لا يسوّغ للمسلم القعود والاسترخاء ، لا اليوم ولا في أي وقت ، لينتظر بُشرى ذلك اليوم . والحديث الشريف ينبئ عن أمة مسلمة واحدة :"... حتى يقاتل المسلمون اليهود .."، والحجر والشجر يقول :"يا مسلم !يا عبد الله ! " فهو لا ينادي قوميّة ولا عنصريّة ولا إقليمية ، وإنما ينادي المسلم . إذا كان هنالك خلل في تخطيط أعداء الله ، حين لم يوقنوا بأن الله هو الذي يقدّر كل شيء ، ففي واقع المسلمين اليوم خلل كذلك ، خلل سيحاسبون عليه بين يدَي الله إلا أن يتوبوا إلى الله توبة نصوحاً . أن هنالك خللاً كبيراً في واقع المسلمين اليوم : غفلة وجري لاهث وراء الدنيا ، وعدم توافر نهج ولا تخطيط ، ولا إعداد ولا عدّة .
8_ أهل الكتاب في الإسلام :
عندما ندرك مهمّة الإسلام الأولى ، ولماذا اصطفى الله هذا الدين لعباده ، ولماذا بعث به جميع المرسلين ، نستطيع أن ندرك أحكام الإسلام وشرعه وفقهه ، حتى لا تتضارب التصورات في القلوب ، ولا المواقف في واقع الحياة .!
إنَّ مهمّة الإسلام الأولى الدعوة إلى الله ورسوله ، إلى الإيمان والتوحيد ، وتعهُّدَ الناس على ذلك ، واجتثاث الكفر من الأرض ، وتجفيف مستنقعاته ومصادره ، ثم تبليغ رسالة الله كاملة نهجاً وتصوّراً وعاطفة وممارسة في الحياة الدنيا كما أُنزِلت على محمَّد صلى الله عليه وسلم ، دون تحريف ولا تبديل ولا تأويل فاسد .
موقف الإسلام من الكفر والشرك واضح جليّ ، لا مساومة معه ولا مهادنة ،وإنما مهمة الإسلام تجفيف الكفر من الأرض ، وإنقاذ الناس من نار جهنم وعذابها . كيف لا تكون هذه هي مهمة الإسلام الأولى ، ومصير الناس إما إلى الجنة وإما إلى النّار ؟! كيف يُعقَل أن ترى أقواماً يتساقطون في هوة عميقة يتأجَّج فيها اللهيب ، إذا مضوا في طريقهم ، وأنت تنظر إليهم ولا تنهض وتسرع لإنقاذهم قبل أن يسقطوا ؟!
إذن موقف الإسلام من الكفر والشرك واضح ثابت : دعوة وبلاغ دون توقف أبداً ، لأن الأمر جلل ، وأنه أخطر ما في الحياة . فإذا أصرّ الكافر على كفره وأصرّ على أن يصدّ عن سبيل الله فالمواجهة واقعة لا محالة ، وعلى المسلمين أن يُعِدّوا أنفسهم ليوفوا بعهدهم مع الله وأمانتهم التي حملوا . إنه أمر الله إليهم وعهده معهم .(/5)
أما أهل الكتاب ، وهم النصارى واليهود ، فقد حرّفوا ما أنزل الله على أنبيائهم ، وارتكبوا مظالم كثيرة . ولحكمةٍ يعلمها الله جعل لهم في الإسلام منزلة غير منزلة الكافرين والمشركين . جعلهم الإسلام في ذمّة المسلمين ، فلا يُؤذون ولا يُظلمون ، ويُحَافظُ على أماكن عبادتهم ، ويتعاملون في الأحوال الشخصية بشريعتهم ، ولكن لا يُكَلَّفون بالجهاد في سبيل الله وإنما يدفعون مقابل حمايتهم والدفاع عنهم جزاءً للمسلمين يسميه الله " الجزية " ، ولا يسمح لهم بنشر ديانتهم المحرّفة ، ولا الإفساد في الأرض ، ويخضعون لشريعة الإسلام وحكمه ، ولا يتآمرون أو يتصلون بأعداء الإسلام ، بل عليهم أن يكونوا أعداءً لمن يعادي دولة الإسلام التي تحميهم وتعينهم . وفي الوقت نفسه يجب أن تظلّ الدعوة الإسلامية ماضية فيهم عسى أن يُسلموا . وإذا أبيح الزواج من نسائهم أو أكل طعامهم فإنما ذلك ليُسَّهل تبليغهم دين الله ودعوتهم إليه ، لا لمتعة دنيوية أو مصالح مادّية . إن تشريع الإسلام يهدف إلى شقّ السبيل أمام دعوته ، وتيسير سبل تبليغها وتعهد الناس عليها ، وإبعاد الناس عن الكفر والشرك . ويجب تبليغ الدعوة الإسلامية لأهل الكتاب ، والمضيّ بها . وقد سنَّ الإسلام لذلك سُنناً وحضّ على أساليب معيّنة ، وتبتدئ بالحكمة والموعظة الحسنة من أمُة قويّة ، تمضي إلى سائر أبواب الجهاد في سبيل الله ، حتى تبلغ القتال العسكريّ على منهج وخطة ، وإعداد . إن التشريع كله في الإسلام ، وإن الحكم والسياسة والاقتصاد ، وكل نشاط في الحياة يهدف إلى إخراج الناس من الظلمات إلى النور ، ومن الكفر إلى الإيمان ، ومن الضلال إلى الهدى . إن قضيّة الإيمان والتوحيد في الإسلام هي الحقيقة الكبرى في الكون والحياة ، وهي القضيّة الأخطر في حياة كل إنسان ، وهي التي تحدّد مصير الإنسان والشعوب عند الله . لذلك يقوم عليها التشريع والفقه كلُّه ، ويقوم الحكم ونظامه ، والسياسة والاقتصاد والاجتماع وغير ذلك .
فإذا نقض أهل الكتاب عهدهم مع المسلمين ، فقد خرجوا من ذمة المسلمين ووقفوا مع الكافرين والمشركين ، فيجري عليهم حكم الكافرين والمشركين . وكذلك إذا أعلنوا كفرهم بالله ونادوا بالإلحاد والشرك تحت أي شعار ، مثل الشيوعية والاشتراكية والبنيوية والعلمانية وغيرها من الشعارات ، فيصبح حكمهم حكم الكافرين والمشركين .
وأما إذا تغير الواقع وابتلى الله الناس بسلطان للكافرين أو أهل الكتاب ، واضطر المسلم لموقف من مواقف الذلَّ والهوان ، أو الفتنة والانحراف ، فلا يحلُّ لأحد أن يُحمَّل ذلك على الفقه في الإسلام ، ولا يلوي الآيات والأحاديث ليبحث عن مسوَّغ لفتنته وضلاله ، وذلَّه وهوانه . وإنما عليه أن ينهض من غفوته وغفلته ليوفي بعهده وأمانته ، فإن عجز واستكان فلا يحمّل عجزه على فقه الإسلام .
لا بدّ أن يعي الفقيه والعالم والداعية وكل من يلي أمراً في الإسلام ، أن للإسلام مهمّة جليلة أُولى ، وهدفاً أكبر ، يمثل عهداً مع الله وأمانة يحملها المسلمون مدى الدهر . وعلى هذه المهمة والهدف يقوم التشريع ، وتبنى العلاقات مع غير المسلمين على أساس من منهاج الله . لأجل ذلك بيّن الله صراطاً مستقيماً واحداً يجب اتباعه ، وسبيلاً واحداً ، حتى لا يُخْتَلَفَ عليه ولا يضلّ عنه أحد .
إنه صراط مستقيم وسبيل واحد ، يجمع المسلمين أُمّة واحدة . وبغير أن يكونوا أمّة واحدة لا يستطيعون أن يقوموا بالمهمة التي خُلِقُوا لها ، والأمانة التي حملوها ، والخلافة التي جُعلت لهم ، والعبادة التي أُمِروا بها ، والعمارة التي يجب أن يحققوها .
إن الأمّة المسلمة هي خير أُمّة أُخرِجَتْ للناس ، مادامت تحمل الخصائص الإيمانية الربانية والمفصّلة في منهاج الله . وهي الأُمّة التي أُخْرجتْ للناس كافّة ، للبشريّة كلها ، تحمل الأمانة الكبرى ، تحمل رسالة الله لتبلّغها وتتعهَّد الناس عليها ، حتى تكون كلمة الله هي العليا في الأرض كلها . فإذا تخلّى المسلمون عن هذه الأمانة ، فعندئذ يتفرّقون شيعاً وأحزاباً ، فلا ينالون رضاء الله بهذا التمزّق ، ولا يستطيعون مجابهة العدوّ وهم ممزّقون متفرقون .
" إنّ الذين فرَّقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ثمّ يُنَبّئهم بما كانوا يفعلون " [الأنعام : 159]
وكذلك :
" ولا تكونوا كالذين تفرّقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم " [ آل عمران :105]
عجباً كلّ العجب ! ألا يقرأُ المسلمون هذه الآيات ، ألا يعرفون معناها ومبناها وفحواها ؟! ألا يخشعون بين يديها ويتوبوا إلى الله وينهضون ليصلحوا ما أفسدوه بالتمزّق ، ثم يلتزموا أمر الله ليكونوا أمة واحدة ، أمة مسلمة ؟!(/6)
" وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبّل منا إنّك أنت السميع العليم . ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذرّيّتنا أمّة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم " [البقرة: 127ـ128]
9_ السلام الذي يدعون إليه ، أين هو ؟! ومن يُريد السَّلام ؟!
كلمة سلام من أسماء الله الحسنى :" اللهم أنت السلام ومنك السلام :! ويردّد المسلم الكلمة مرّات عديدة في يومه وهو يصلي ويدعو ، ويسعى ويجاهد في سبيل الله . إن السلام الذي يريده الإسلام هو السلام من عند الله ! إنه السلام الذي ينبع من شرع الله ودينه ، لتكون كلمة الله ُ هي العليا ودينه هو الأعلى . والمسلمون الصادقون الذين يوفون بعهد الله ويجاهدون في سبيل الله ، هم دعاة السّلام الصادقون ، الذين يُرْسُون دعائم السلام على الحقّ والعدل وحقوق الإنسان كما شرعها الله . وهؤلاء هم دعاة السّلام الحق لأنهم يعبدون الله بالسّلام وبالجهاد في سبيل الله . وأنّى للسّلام أن يقوم في الأرض إذا لم يكن قائماً على قاعدة عظيمة هي الجهاد في سبيل الله .
إن المجرمين في الأرض لا يمكن أن يكونوا دعاة للسّلام ، والأطماع تحرّكهم والأهواء تحكمهم . وهذا هو التاريخ البشريِّ كله لم يعرف السّلام الحقّ إلا في ظل الإسلام الحقّ . إنهم يخطَّطون لجرائمهم وعدوانهم وظلمهم ، ويجعلون السلام شعاراً يخفي هول الجرائم التي تُرْتكب ، والتي تظلّ ممتدّة في حياة الشعوب ، تنتقل من مرحلة إلى مرحلة ، ومن مفاوضات إلى مفاوضات ، وتبقى الجرائم تنمو وتزداد .
وهذا نيكسون رئيس الولايات المتحدة السابق ، يقول في كتابه "نصر بلا حرب " (ص: 39 ) :" ليس السلم الحقيقي إنهاء المنازعات بل هو وسيلة للعيش معها " ! نعم ! هكذا يرى المجرمون السلم شعاراً كاذباً يخفي الجريمة إن استطاعوا .
لا يقوم السلم إلاّ عندما تنتهي الأطماع ، ويتوقف الظلم والعدوان ، ويحكم شرع الله بدلاً من أهواء المجرمين . والمجرمون يريدون أن تمتدّ الجريمة وتستمرّ تحت شعار السلام ، الشعار الذي لا يعني إلا الخضوع والاستسلام لهم في مذلّة وهوان !
لا يمكن أن يكون المجرمون في الأرض والمفسدون فيها ، والغاصبون المعتدون دعاة سلام . ولكنهم يعرفون السلام شعاراً حتى يجري الضعفاء المخدّرون المخدوعون وراءه ، يلهثون إليه ، بعد أن تركوا بذل الجهود للإعداد والبناء استعداداً لمجابهة العدوان والظلم والإفساد . إن المجرمين في الأرض يحاولون دائماً ترك الآخرين ضعفاء دون عدة وإعداد ، يلهونهم بشهوات الدنيا ، وبالتنافس عليها ، والصراع الذي تضيع فيه الجهود والقوى .
لا يمكن للمجرمين أن يكونوا دعاة سلام ولو ادّعوا زوراً وبهتاناً انتسابهم إلى النصرانيّة أو اليهودية . وهذا الانتساب الخادع يزيد من قدرتهم على الظلم والإفساد في الأرض ، ونشر الفتنة بعد الفتنة . هؤلاء المجرمون ، سواءً أكانوا من الكافرين المشركين الملحدين ، أم من المنتسبين إلى أهل الكتاب ، أم من أي فئة أخرى ، فهم دائماً المعتدون :
" لا يرقبون في مؤمن إلاًّ ولا ذمّة وأولئك هم المعتدون " [ التوبة : 10 ]
كيف يقوم سلام ودماء المظلومين في الأرض تتدفّق ، وأشلاؤهم تتطاير ، والأعاصير ، واليتامى ، والثكالى ، والرضيع ، والهوى يفتن الناس ويصنع فيهم العجائب ، والوهم الذي يتمسَّك به الغافِلون المستسلمون ، والمنافقون المتخفّون :(/7)
لله الحمدُ على الحمد له د. محمد عمر دولة*
مَن تأمَّلَ حالَ أهلِ الجنةِ وقولَهم: (الحمدُ لله الذي أذْهَبَ عنَّا الحزَنَ إنَّ ربَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ الذي أحَلَّنا دارَ المقامَةِ مِن فَضلِه)؛ عَلِمَ فِقهَ الشاكِرِين الذين يُدْرِكُون فَضْلَ الله عزَّ وجلَّ عليهم في تَحْصِيلِهم خيرَ الدنيا والآخرة، قال ابن كثير رحمه الله: "قال ابن عباس رضي الله عنهما وغيره: غَفرَ لهم الكثيرَ مِن السيئات، وشَكرَ لهم اليسيرَ مِن الحسناتِ (الذي أحَلَّنا دارَ المقامةِ مِن فَضلِه) يقولون: الذي أعطانا هذه المنزلة وهذا المقام مِن فَضلِه ومَنِّه ورحمتِه لم تكن أعمالُنا تساوي ذلك، كما ثَبَتَ في الصحيحِ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: (لن يُدْخِلَ أحداً منكم عَملُه الجنةَ. قالوا: ولا أنتَ يا رسولَ الله؟ قال: ولا أنا؛ إلا أنْ يَتغَمَّدنِيَ الله تعالى برحمةٍ منه وفَضل)[1]".[2]
فالعبدُ الصالِحُ يَعمَلُ ويَعلَمُ أنَّ عَمَلَه مِن فَضلِ الله عليه؛ فلا يغترُّ بعملِه، وينظر إلى ما وَرَدَ مِن نسبةِ دُخُولِ الجنةِ إلى أعمالِ العبادِ على أنها من ثناءِ اللهِ على عِبادِه وامتنانِه عليهم، وإلا فالفَضلُ فَضْلُهُ والحمدُ له على مِنَّتِه ورَحْمَتِه؛ فما يَنبغِي لأحَدٍ أن يَغتَرَّ إذا قرأ قولَ الله عزَّ وجَلَّ لأهلِ الجنة: (وتلك الجنةُ التي أُورِثْتُمُوها بما كُنتم تعمَلُون)،[3] وقولَه جلَّ جلالُه: (ونُودُوا أنْ تلكم الجنةُ أُورِثْتُمُوها بما كُنتم تعمَلُون)؛[4] فيتوهَّمُ أنَّ العِبادَ قد استَحَقُّوا الجنةَ بِمُجرَّدِ أعْمالِهم! قال القرطبِي رحمه الله: "معنى (أُورِثْتُمُوها بما كُنتم تعمَلُون): أي وَرِثْتُم مَنازِلَها بِعَمَلِكم، ودُخُولُكم إياها برحمةِ الله وفَضلِه، كما قال: (ذلك الفَضْلُ مِن الله)،[5] وقال: (فسَيُدْخِلُه في رَحْمَةٍ منه وفَضْل)،[6] وفي صحيح مسلم: (لن يُدْخِلَ أحداً منكم عَملُه الجنة، قالوا: ولا أنتَ يا رسولَ الله؟ قال: ولا أنا إلا أنْ يَتَغَمَّدَنِيَ الله بِرَحْمةٍ منه وفَضْلٍ)، وفي غيرِ الصحيح: ليس مِن كافِرٍ ولا مُؤمِنٍ إلا وله في الجنةِ والنارِ مَنْزِلٌ، فإذا دخلَ أهلُ الجنةِ الجنةَ وأهلُ النارِ النارَ رُفِعَت الجنة لأهلِ النارِ فنظروا إلى مَنازلِهم فيها فقيل لهم: هذه مَنازِلُكم لو عَمِلْتُم بطاعةِ الله، ثم يقال: يا أهلَ الجنة رِثُوهم بما كنتم تعملون؛ فتُقْسَم بين أهلِ الجنة مَنازِلَهم. قلتُ: وفي صحيح مسلم: (لا يموت رجلٌ مُسلمٌ إلا أدخلَ الله مكانَه في النارِ يهوديا أو نصرانيا) فهذا أيضا ميراث؛ نَعَّمَ بِفَضلِه من شاء، وعَذَّبَ بِعَدْلِه مَن شاء، وبالجملة فالجنةُ ومَنازِلُها لا تُنالُ إلا بِرَحْمَتِه؛ فإذا دَخَلُوها بأعْمالِهم؛ فقد وَرِثُوها بِرَحْمَتِه ودخَلُوها بِرَحْمَتِه؛ إذْ أعْمالُهم رحمةٌ منه لهم وتَفَضُّلٌ عليهم".[7]
وكذلك إذا قرأ المسلمُ قولَ الله عزَّ وجَلَّ: (كُلُوا واشرَبُوا هَنيئاً بما أسْلَفْتُم في الأيامِ الخالِية).[8] لم يَتَبادَرْ إلى ذِهنِه إلا فَضلُ الله ورَحْمَتُه؛ وأما أعْمالُه فيَعلَمُ عُجَرَها وبُجَرَها، ويرى أنها بِضاعةٌ مُزْجاة وسِلْعةٌ كاسِدةٌ لا يُلقَى لها بالٌ ولا يُعَوَّلُ عليها بِحال! قال ابن كثير رحمه الله: "أي يقال لهم ذلك؛ تَفَضُّلا عليهم وامْتِناناً وإنْعاماً وإحْساناً؛ وإلا فقد ثبتَ في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: اعملوا وسَدِّدُوا وقاربوا واعلَمُوا أنَّ أحداً مِنكم لن يُدْخِلَه عَمَلُه الجنة! قالوا: ولا أنتَ يا رسولَ الله؟ قال: ولا أنا؛ إلا أن يَتغمَّدَني الله بِرَحْمَةٍ منه وفَضْل)".[9]
وقال ابنُ كثير رحمه الله: "روى النسائي وابن مردويه واللفظ له... عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (كلُّ أهلِ الجنةِ يرى مَقعدَه مِن النارِ فيقولُ: لولا أن الله هداني فيكون له شاكراً، وكلُّ أهلِ النار يرى مَقعَدَه من الجنة فيقول: لو أنَّ الله هَداني؛ فيكون له حسرة؛ ولهذا لِما أورثوا مقاعدَ أهلِ النار مِن الجنة نُودُوا (أنْ تلكم الجنةُ أورِثْتُمُوها بِما كنتم تعمَلُون) أي بِسَبِبِ أعمالِكم نالَتْكم الرحمة؛ فدخَلْتم الجنةَ وتبوأتُم مَنازِلَكم بحسبِ أعمالِكم؛ وإنما وجَبَ الحملُ على هذا لِما ثَبَتَ في الصَّحِيحَيْن عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: واعْلَمُوا أنَّ أحَدَكم لن يُدْخِلَه عَملُه الجنة؛ قالوا: ولا أنتَ يا رسول الله؟ قال: ولا أنا؛ إلا أن يتغمَّدَنِيَ الله برحمةٍ منه وفَضل)".[10]
ورَحِمَ الله شمسَ الدين الذهبي؛ ما أحْسَنَ قولَه: "الله تعالى يقول: (ادخُلُوا الجنةَ بِما كنتم تعمَلُون).[11] ولكنْ لا يُنْجِي أحَداً عَمَلُه مِن عَذابِ الله كما صَحَّ؛ بَلَى أعْمالُنا الصالِحةُ مِن فَضْلِ اللهِ عَلَينا ومِن نِعَمِه، لا بِحَوْلٍ مِنَّا ولا قُوةٍ؛ فله الحمدُ على الحمد له!".[12]
- - - -(/1)
[1] راجع مقالة: التواضع والشكر.
[2] تفسير القرآن العظيم 3/558-559.
[3] الزخرف 72.
[4] الأعراف 43.
[5] النساء 70.
[6] النساء 175.
[7] الجامع لأحكام القرآن 7/208-209.
[8] الحاقة 24.
[9] تفسير القرآن العظيم 4/416.
[10] تفسير القرآن العظيم 2/216.
[11] النحل 37.
[12] ميزان الاعتدال في نقد الرجال للذهبي 2/227-228. دار المعرفة بيروت، تحقيق البجاوي.(/2)
________________________________________
لم تقولون ما لا تفعلون؟!
رئيسي :أخلاق :
قال تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ[2]كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ[3]}[سورة الصف].
عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: كان ناس من المؤمنين قبل أن يفرض الجهاد يقولون: لودِدنا أنَّ الله عز وجل دلَّنا على أحبِّ الأعمال إليه فنعمل بها، فأخبر الله تعالى نبيه، صلى الله عليه وسلم أن أحب الأعمال: إيمانٌ به، لا شك فيه، وجهادُ أهل معصيته، الذين خالفوا الإيمان، ولم يُقِرّوا به.
فلما نزل الجهاد، كره ذلك ناس من المؤمنين، وشقَّ عليهم أمره، فأنزل الله سبحانه وتعالى قوله:{يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ...}'[أخرجه الطبري في تفسيره].
وإذا كانت العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، كما هو مقرر في علم الأصول، فإن الآية الكريمة، تبقى أبعد مدى من الحادثة الفردية التي نزلت لمواجهتها، وأشمل لحالات كثيرة غير الحالة التي نزلت بسببها، فهي تحيط بكل حالة من الحالات التي يقع فيها الانفصام بين الإيمان، والحركة به، أو بين القول والعمل، أو العلم والعمل.
والعلم لا يراد به أصلاً إلا العمل، وكل علم لا يفيد عملاً، ولا يتوقف عليه حفظ مقاصد الشريعة، فليس في الشرع ما يدل على استحسانه، والعلم المعتبر شرعاً، الذي مدح الله تعالى ورسوله أهله، على الإطلاق، هو العلم الباعث على العمل، الذي لا يخلِّي صاحبه جارياً مع هداه كيفما كان. بل هو المقيد صاحبه بمقتضاه، الحامل له على قوانينه طوعاً أو كرهاً. وعندئذ يصير العلم وصفاً من الأوصاف الثابتة لصاحبه، يأبى للعالم أن يخالفه ؛ لأن ما صار كالوصف الثابت لا ينصرف صاحبه إلا على وفقه اعتياداً وإن تخلّف فإنما يكون تخلّفه لعنادٍ أو غفلة[الموافقات1/61 وما بعدها].
وليس عالماً ذاك الذي لم يعمل بعلمه، ولا يستحق وصف التكريم هذا، فعن علي رضي الله عنه قال: 'يا حملة العلم: اعملوا به، فإن العالم من علم ثم عمل، ووافق علمه عمله، وسيكون أقوام يحملون العلم، لا يجاوز تراقيهم، تخالف سريرتهم علانيتهم، ويخالف علمهم عملهم، يقعدون حِلقاً، يباهي بعضهم بعضاً ؛ حتى إن الرجل ليغضب على جليسه أن يجلس إلى غيره ويدعه، أولئك لا تصعد أعمالهم إلى الله عز وجل'.
وقال الحسن البصري رحمه الله: 'العالم الذي وافق علمه عمله، ومن خالف علمه عمله فذلك راوية سمع شيئاً فقاله' .
وقال الثوري:'العلماء إذا علوا عملوا، فإذا عملوا شُغِلوا...'. وقال:'العلم يهتف بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل'[الموافقات 1/75 - 76].
فالذين لا يعملون بعلمهم، ولا يتسق سلوكهم مع عملهم، فضلاً عن أن يكونوا من الراسخين في العلم، وإنما هم رواة أخبار، وحفظة أسفار، والفقه فيما رووه أمر آخر وراء هذا، أو هم ممن غلب عليهم الهوى فغطّى على قلوبهم.
وهنا ينبغي أن يوجّه اللوم، والعتاب كلُ العتاب، لمن يفعل ذلك، وحسبك أن الله تعالى سمّى ذلك الانفصام بين القول والعمل مقتاً، بل جعله أكبر المقت، وأشدّ البغض، فقال :{كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ[3]}[سورة الصف].
وما سمَّى الله تعالى شيئاً بهذا الاسم، ولا أطلقه عليه إلا في أمرين:
أولهما: الجدال في الله، وآياته بغير سلطان وعلم، فقال سبحانه:{الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا... [35]}[سورة غافر].
وثانيهما: نكاح الرجل زوجة أبيه المتوفى عنها أو المطلقة- كما كان يفعله الجاهليون- فقال سبحانه:{ وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا[22]}[سورة النساء].
ومن هذا نعلم عظم الآفة الكبيرة والداء الخطير في الانفصام بين القول والعمل، أو بين الإيمان والسلوك.
إن الإيمان ليس مجرد كلمات يديرها الإنسان على لسانه، ويتحلى بها أمام الناس، ويتشدق بها في المناسبات دون أن يكون لها أثرها في سلوكه وواقعه، ودون أن تترجم إلى واقع حي يراه الناس، فيكون هذا الواقع العملي الظاهر والالتزام مؤشراً على الإيمان الصحيح وعمقه في نفس صاحبه.
أثر القدوة الحسنة:(/1)
والمؤمن لا يخالف قوله فعله، ويبدأ بنفسه أولاً فيحملها على الخير والبر، قبل أن يتوجه بهما إلى غيره؛ ليكون بذلك الأسوة الحسنة، والقدوة المثلى لمن يدعوهم، وليكون لكلامه ذلك التأثير في نفوس السامعين الذين يدعوهم، بل إنه ليس بحاجة إلى كثير عندئذ، فحسْبُ الناس أن ينظروا إلي واقعه وسلوكه، ليروا فيهما الإسلام والإيمان حياً يمشي أمامهم على الأرض، وليشعّ بنوره على من حوله، فيضيء الطريق للسالكين، وتنفتح عليه العيون ويقع في القلوب، فيحمل الناس بذلك على التأسي والاتباع.. فهو يدعو بسلوكه وواقعه قبل أن يدعو بقوله وكلامه.. ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم خير أسوة، فقد كان عليه الصلاة والسلام إذا أمر الناس بأمر كان أشد الناس تمسكاً به، وكان يحمل أهل بيته على ذلك قبل أن يدعو غيرهم.
و قَالَ سَعْدُ بْنُ هِشَامٍ: قُلْتُ يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَنْبِئِينِي عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: أَلَسْتَ تَقْرَأُ الْقُرْآنَ قُلْتُ: بَلَى قَالَتْ:' فَإِنَّ خُلُقَ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ الْقُرْآنَ'.رواه مسلم .
فمهما أمره القرآن بشيء امتثله، ومهما نهاه عنه تركه.
وهي إجابة دقيقة، وموجزة جامعة أيضاً، تحمل في طياتها كل ما يخطر على بال المرء من أخلاق الكمال وصفات العظمة، فحسبك أن يكون عليه الصلاة والسلام، ترجمة عملية حية لمبادئ القرآن الكريم، وإذا أردت أن ترى القرآن الكريم واقعاً عملياً في حياة الناس، فانظر إلى خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وادرس سيرته بكل وعي وبقلب مفتوح على الخير، وبعزيمة صادقة، تحمل على التأسي والمتابعة.. فكل واحد منهما يدل على الآخر.
دعاوى الإيمان:
وإنها لمصيبة كبيرة، وخسارة ما بعدها خسارة، أن يتحول الإيمان والإسلام في سلوك أصحابه إلى كلمات ودعاوى، لا تتجاوز الحناجر، وأن ينطلق المسلم، يدعو غيره إلى البر والهدى والخير، ولكنه يترك نفسه بمعزل عن ذلك، ويعطيها إجازة تتمتع بها، ولا يحملها حملاً على أن تكون سبّاقة إلى هذه الدعوة والعمل بمقتضاها.
ولقد نعى الله سبحانه، على بني إسرائيل- وبخاصة أولئك الأحبار فيهم- ووبَّخهم علي سلوكهم، فهم يأمرون الناس بالبر، الذي هو جماع الخير، ولكنهم ينسون أنفسهم فلا يأتمرون بما يأمرون الناس به، مع علمهم بجزاء من قصّر في أوامره سبحانه، فقال:{...وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ[44]}[سورة البقرة].
وفي ظلال هذه الآية الكريمة يتحدث الأستاذ سيد قطب رحمه الله عن آثار الدعوة إلى البر والمخالفة عنه في السلوك، فيقول:'ومع أن هذا النص القرآني كان يواجه ابتداءً حالة واقعة من بني إسرائيل فإنه في إيحائه للنفس البشرية، ولرجال الدين بصفة خاصة، دائم لا يخص قوماً دون قوم، ولا يعني جيلاً دون جيل..إن آفة رجال الدين حين يصبح الدين حرفة وصناعة لا عقيدة حارة دافعة أنهم يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، يأمرون بالخير ولا يفعلونه، ويدعون إلى البر ويهملونه، ويحرفون الكلام عن مواضعه، ويؤلفون النصوص القاطعة خدمة للغرض والهوى، ويجدون فتاوى وتأويلات، قد تتفق في ظاهرها مع ظاهر النصوص، ولكنها تختلف في حقيقتها عن حقيقة الدين، لتبرير أغراض وأهواء لمن يملكون المال أو السلطان! كما كان يفعل أحبار يهود.
والدعوة إلى البر والمخالفة عنه في سلوك الداعين إليه، هي الآفة التي تصيب النفوس بالشك، لا في الدعاة وحدهم، ولكن في الدعوات ذاتها، وهي تبلبل قلوب الناس وأفكارهم أنهم يسمعون قولاً جميلاً، ويشهدون فعلاً قبيحاً، فتتملكهم الحيرة بين القول والفعل، وتخبو في أرواحهم الشعلة التي توقدها العقيدة، وينطفئ في قلوبهم النور الذي يشعه الإيمان، ولا يعودون يثقون في الدين عدما فقدوا ثقتهم في رجال الدين'[ في ظلال القرآن: 1/86].
علماء السوء :
وما أعظم ذنب أولئك الذين يصدون عن دين الله ويقفون حجرة عثرة أمام الدخول فيه
والتمسك بأحكامه ؛ لأنهم بسلوكهم ذاك ينفّرون الناس من الدين، وتنطلق الألسنة المتبجحة لتقول: انظروا إلى فلان.. إنه يدعونا إلى شيء ويخالفنا إلى غيره، ولو كان ما دعونا إليه حقاً لاتبعه وتمسك به؟ فيتركون عندئذ الدين، بسبب سلوكه ذاك!!.(/2)
وكم يتحملون من أوزار الذين تابعوهم في سلوكهم ذاك، إذ أنهم حملوهم على المخالفة والإثم بالإيحاء والقدوة العملية، ولولاهم ما وقعوا في ذلك، فهم الذين سنَّوا هذه السنة السيئة، فكان عليهم إثمهم وآثام من اتبعهم، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ وَمَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ]رواه مسلم.وقبل أن يدعو الداعية غيره إلى الخير ينبغي أن يتمسك هو به، ولن يستطيع المريض أن يعالج مريضاً مثله .
جزاء علماء السوء:
وإذا كان لعدم الموافقة بين القول والعمل تلك الآثار، فإنه ليس غريباً أن يشدد الإسلام في عقوبة الذين يأمرون بالمعروف ولا يأتونه، فيجعلونه وراءهم ظهرياً، وينهون عن المنكر ويفعلونه، وأولئك هم علماء السوء، وصفوا الحق والعدل بألسنتهم وخالفوه إلى غيره، فلم يعملوا به:
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: [إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ... وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا قَالَ فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا قَالَ تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ قَالَ كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ عَالِمٌ وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ هُوَ قَارِئٌ فَقَدْ قِيلَ ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ...] رواه مسلم .
وقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ يُؤْتَى بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُ بَطْنِهِ- أي تنصبّ أمعاؤه وتخرج من جوفه بسرعة خارجة من دبره - فَيَدُورُ بِهَا كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِالرَّحَى فَيَجْتَمِعُ إِلَيْهِ أَهْلُ النَّارِ فَيَقُولُونَ يَا فُلَانُ مَا لَكَ أَلَمْ تَكُنْ تَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ فَيَقُولُ بَلَى قَدْ كُنْتُ آمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا آتِيهِ وَأَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ]رواه البخاري ومسلم .
ولا يغيبَّن عن ذهنك صورة ذاك الذي آتاه الله آياته، فلم يعمل بما آتاه الله من العلم، فانسلخ منها كما تنسلخ الحَية من جلدها، وتتركه على الأرض:{ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ[175]وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ[176]سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ[177]}[سورة الأعراف].
وليس هذا شأن يهود فحسب، بل إن إخوانهم من المنافقين يلتقون معهم في هذه السمة، وينهلون من نفس المنهل:
{وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ[47]وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ[48]}[سورة النور].
{وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ...[81]}[سورة النساء].
{ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ[204]وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ[205]}[سورة البقرة]
هذه صورة المنافقين، وتلك صورة يهود... فليحذر المؤمنون أن يقعوا فيما وقع فيه هؤلاء إذ ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلوب وصدّقته الأعمال، من قال حسناً وعمل غير صالح؛ ردّه الله على قوله، ومن قال حسناً وعمل صالحاً، رفعه العمل، وذلك بأن الله يقول:{... إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ...[10]}[سورة فاطر] .(/3)
وما أروع كلمة شعيب، عليه الصلاة والسلام، وما أكثرها إنصافاً عندما قال لقومه:{...وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ[88]}[سورة هود].
واقع بعض الدعاة المحزن:
وليت الدعاة، وليت الذين نصبوا أنفسهم للعمل الإسلامي يضعون هذا المبدأ الذي أرشد إليه شعيب عليه الصلاة والسلام نصب أعينهم، فلا يخالفون إلى ما ينهون عنه ليكون لكلامهم ذلك التأثير في نفوس المدعوين!.
وكم نجد أناساً يدعون إلى وحدة الكلمة، وجمع صفوف المسلمين على الحق، وهم أنفسهم في واقعهم دعاة فرقة وضلال ؛ يدعون إلى التمسك بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وهم أبعد الناس عن الكتاب والسنة، يقدمون آراءهم وآراء من يقلدونهم ويتبعونهم علي الكتاب والسنة، صراحة أو تأويلاً .
يدعون إلى الحفاظ على الأخوة الإيمانية وحقوق الأخوة، ولكنهم يزورّون عن إخوانهم، ولا يفون بحقوقهم لمجرد خلاف في الرأي، أو الفهم... يتحدثون عن وجوب التثبت في نقل الأخبار ولكنهم يجرون وراء الشائعات، ويرمون غيرهم بفظائع التهم، ولا يكلّفون أنفسهم الرجوع إلى مصدر صادق ليتثبتوا فيما ينقلونه؛ لئلا يظلموا إخوة لهم، أو يرمونهم بتهم باطلة!
يتحدثون عن تحريم الغيبة وآثارها وضررها، ولكنهم لا يتفكهون إلا بأعراض الآخرين، ولا يتندرون إلا بما يتخيلونه من سيئ الخلال .
ويتحدثون عن مفاصلة المشركين والعلمانيين والمرتدين والملحدين ولا يجدون بأساً أو غضاضة في مجالستهم ومداهنتهم، بل قد يرتمون في أحضانهم ويؤمِّلون عندهم ويرجون، ما لا يؤمِّلون عند الله ويرجون...إلى غير ذلك من المفارقات العجيبة الغريبة.
فليحذر المسلمون ذلك كله وأشباهه، فإنها أمراض جد خطيرة، ولها آثارها السيئة، في حياة الدعوة والدعاة، نسأل الله تعالى أن يلهمنا الصواب في القول والعمل، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
من مقالة:' ' للشيخ/ عثمان جمعة ضميرية
من: [ مجلة البيان عدد 1 – ذو الحجة 1406 ه 1986 م](/4)
لماذا أسلمة المعرفة ؟
إن تقليد العلم الغربي ، أو استيراده ، لا ينشئ حضارة ، أو يعيد بناءها بعد تفككها ودمارها..
إن هذا « يصنع» في أفضل حالات نجاحه عالماً ثالثاً يدور في فلك حضارات الغير .. قد يتقدم في سلّم المدنية «المادية» لكنه على المستوى الحضاري لا يملك خرائطه الثابتة المتميزة على سطح الكرة الأرضية.
إن اليابان والصين ـ مثلاً ـ إذ قدرتا على تجاوز المرور عبر هذه القناة الضيّقة، خرجتا من معركة التحدّي وهما أكثر أصالة وتحضّراً .. وهما تملكان في عالمنا المعاصر ثقلهما وحضورهما وتميزهما الملحوظ.
ماذا حدث بالنسبة لتركيا الكمالية سوى أنها أصبحت، حتى في منظور الغربيين أنفسهم ، مثلاً يضرب للتندّر على أولئك الذين يحاولون اللحاق بالغير وهم يتعاطون الكيدية منه ، ويقلّدونه صباح مساء ، متنازلين عن كل ما له مساس بشخصيتهم وأصولهم الحضارية؟
إن أسلمة المعرفة ، من خلال هذا التحليل الموجز ، تبدو ضرورة بالغة لأنها ستتجاوز بمسلمي اليوم والغد إحدى اثنتين قد تأتيان عليهم كأمة متميزة : الذوبان في الغير ، أو العزلة الكلية عن الاستفادة من تقدمه.
هاهنا ، وعندما يتاح لهذه الأمة أن تمارس نشاطها المعرفي في دائرة الإيمان ، فإنها ستعرف كيف تنتزع النار المقدسة من الآخرين ، لا لكي تحرق بها العالم أو تدمر بها نفسها بإغراء القوّة والتكاثر والتكديس ، ولكن لكي تبني ذاتها بمفردات المعرفة المنضبطة بمطالب الإيمان. بل إنها قد تمضي لكي تستعيد دورها المنسيّ: إعادة بناء العالم بالمعرفة المتبّصرة بالإيمان ، المستمدة من هدي الله سبحانه.
إن النشاط العلمي ينبثق في معظم الأحيان عن رغبة في الكسب ، أو طموح شخصي إلى الاكتشاف والتفوّق. فإذا وسّعنا دائرة التحليل صوب الجماعات فإن النشاط العلمي يتخذ غالباً وسيلة للتحقّق بالنمّو الاقتصادي والعمراني والاستراتيجي ، وبالقوة المسلحة.
وهذه كلها دوافع قد تكون مبررة ، خاصة وأنها قادت ـ بالفعل ـ إلى المضي بالحركة العلمية صوب آفاق لم تخطر ببال إنسان ، وتمخضت عن نمو اقتصادي وعمراني مذهل، وعن تفوّق للقوة يكاد يكون من قبيل السحر والخوارق.
لكن ماذا لو أضفنا إلى هذا كلّه ، أو قبل هذا كله ، الدافع الإيماني ، باعتباره الدافع الأكثر إلحاحاً وإلزاماً للنشاط العلمي الذي يجعل من سعي الإنسان في العالم ضرورة أو فريضة يتقرب بها إلى الله ؟ ويتحتم على أولئك الذين يملكون قدرة ما في نطاقها أن يواصلوا السعي لمزيد من الاكتشاف ، وبالتالي لمزيد من التحقق بالنمّو والقوة اللتين يأمر هذا الدين بالأخذ بأسبابهما كشرط حاسم للتحول بالإيمان من مواقع العزلة والانفصال إلى مراكز الاندماج والتناغم في هذا العالم ، من أجل أن تكون كلمته فيه هي الكلمة التي لا رادّ لها.
إن «أسلمة المعرفة» تعني وفق هذا التحليل ، منح النشاط العلمي ، على مستوييْ الكم والنوع ، وقوداً جديداً يدفعه للمزيد من الاشتعال والتألق اللذين يكشفان عن الحقائق.. يضيئان السنن والنواميس.. يشيران إلى مصادر القوة والطاقة المذخورة التي طالما أكد عليها كتاب الله ودعا المسلمين إلى تمزيق الستار الذي يحجبها ، وإخراجها للناس كي تمنحهم الخير الوفير.
المنار ، العدد 76 ، ذو القعدة 1424هـ
العلوم الإنسانية ، بخلاف العلوم الصرفة أو التطبيقية ، علوم احتمالية لكونها تتعامل مع الإنسان فرداً وجماعة ، وكل ما تطمح إليه هو أن تكون نتائجها مقاربة للحقائق أو مضيئة لها. وهذا لا يعني بطبيعة الحال أنها تخلو من الحقائق النهائية أو القاطعة ، أو تفتقد نقاط الارتكاز الموضوعية.
ورغم أن عدداً من علماء النفس والاجتماع وغيرهما من العلوم الإنسانية ، (ادعوا) اكتشافهم للحقيقة ، ومضوا أبعد من ذلك ، فقالوا بأن كشوفهم هي الحق الوحيد وأن ما دونه الباطل ، مدفوعين في ذلك وراء إغراءات ذاتية ليست موضوعية في معظم الأحيان ، فإن مما يكاد يجمع عليه الباحثون الجادون الأكثر تجرداً في دوائر العلوم الإنسانية ، أنه ليس بمقدور أحد كائناً من كان ، أن يضع يديه على الحقائق النهائية التي لا تتعرض للتبديل أو التحوير.
وعلى مدى عقود محدودة فحسب من القرن العشرين رأينا تساقط العديد من النظريات والكشوف (الإنسانية) أو تعرضها للتآكل والانكسارات في أقل تقدير ، لكي ما تلبث أن تخلي الطريق لمعطيات جديدة قابلة هي الأخرى للتعديل والتبديل ، أو الإلغاء والانسحاب من مجرى التسلط العلمي ، ورغم أن بعض هذه الكشوف حقق انتشاراً كبيراً وأنشأ أجيالاً من الناس ، وأقام دولاً وأنساقاً فكرية شمولية فإن المصير الذي آلت إليه في نهاية الأمر هو التدهور والسقوط.(/1)
والعبرة بالنتائج كما يقول المثل ، ومن ثم فإن التسليم المطلق بالعلم الغربي (الإنساني) من قبل العلماء العرب أو المسلمين بعامة ، والاعتماد عليه ، ونقله نقلاً اتباعياً أو استسلامياً ، إنما هو خطأ علمي ، قبل أن يكون خطيئة عقدية ، لكون هذه العلوم في الأعم الأغلب ، تنبثق حيناً أو تتمخض حيناً آخر عن منظومة من التصورات والأفكار التي تتعارض ابتداءً مع التصور الديني - عموماً - للكون والحياة والإنسان ومع التصور الإسلامي بوجه الخصوص ، هذا التصور الذي يملك من الحيوية ما يمكنه من منح علماء الإنسانية فرصاً أفضل للتوصل إلى نتائج موضوعية.
وهذا بإيجاز شديد ، هو أساس الدعوة إلى أسلمة المعرفة ، أو التأصيل الإسلامي للعلوم الإنسانية ، وهي دعوة اضطلعت بها مؤسسة كالمعهد العالمي للفكر الإسلامي ، وتبناها بشكل عام حشد من العلماء والدارسين ، بعد إذ رأوا فيها تعديلاً للوقفة الجانحة ، وعودة بالوضع الشاذ إلى سويته ، فإن النشاط العلمي في مجال الإنسانيات لن يستكمل أسبابه ما لم يستهد بمعطيات الوحي ومعاييره ، جنباً إلى جنب من معطيات الوجود ، إنه في هذه الحالة سيتحرك وفق ضوابط تقيه الانحراف والزلل ، وتقوده إلى نتائج أكثر دقة وانضباطاً.
ولن يتحقق ذلك بطبيعة الحال ، ما لم تشهد الجغرافيا العربية والإسلامية حشوداً من العلماء المتخصصين في هذا الحقل أو ذاك من حقول المعرفة الإنسانية ، وما لم تتهيأ لهم المختبرات ووسائل العمل الملائمة والتقنيات المتقدمة التي تعينهم في عملهم.
وحينذاك قد تستدعى كشوف (الآخر) للإفادة من حلقاتها الإيجابية ، وتنميتها والبناء عليها. ولكن هذا الجهد ليس هو نهاية المطاف ، كما كان يحدث في الماضي وإنما هو طبقة من عدة طبقات يصير فيها العالم المسلم أكثر استقلالية وأقدر على الكشف والإبداع.
إن المعرفة الإنسانية هي في نهاية الأمر فرصة لتأكيد الذات لا لنفيها ، ولقد مضى إلى غير رجعة ذلك الزمن البائس الذي كان العائدون من ديار الغرب ، من المتخصصين في الفروع الإنسانية ، يرجعون وهم يحملون إحساساً مبالغاً فيه بقداسة الكشف الغربي وشموليته وقدرته على الدوام ، وكاد جيلنا في خمسينيات القرن الفائت وستينياته يذهب ضحية هذه الرؤية ، ولولا أن تداركت رحمة الله ثلة من أبناء هذه الأمة رفضت الانجراف بعيداً باتجاه العلمانية الأوربية المدعاة ، وتشبثت بثوابتها الإسلامية التي هي مع العلم وليست نقيضه ، كما كان الحال في أوربا النصرانية ثم ما لبثت انهيارات العلم الإنساني الغربي أن منحتهم اقتناعاً أكثر عمقاً بسلامة موقفهم ، فمضوا يشقون طريقاً جديداً.
ثمة ما يجب أن يقال في هذا المجال وهو أن العقل الغربي كان يملك في الوقت نفسه القدرة المدهشة على نقد الذات ، ومحاولة تعديل الوقفة ، وتغيير القناعات الخاطئة فإذا استطاع علماؤنا أن يدخلوا من هذه الثغرة فإنهم سيفعلون الكثير.
مجلة المنار ، العدد 84 ، رجب 1425هـ.(/2)
لماذا اختاروا الجعفري ؟
أحمد فهمي
afahmee@hotmail.com
هل يمكن القول أن إبراهيم الجعفري مرشح السيستاني لمنصب رئاسة الحكومة العراقية سيكون رجل إيران الأول في العراق ؟ يبدو ذلك بالنسبة للكثيرين أمرا مرجحا لأسباب معروفة أبرزها أن الجعفري على علاقة قوية بإيران التي احتضنته تسع سنوات منذ فر سيرا على الأقدام هربا من نظام صدام عام 1980م ، كما أنه يترأس حزب الدعوة الديني وهذا يقربه من نظام الملالي في طهران ، ولكن هل يكفي ذلك لاعتباره رجل إيران في بغداد ؟
حقيقة الأمر أن اختيار الجعفري لتولي رئاسة الحكومة لم يأت بسبب تدافعات داخلية شيعية فقط ، فالرجل يمثل بحق نقطة الالتقاء الأصلح بين إيران والإدارة الأمريكية ، وذلك عند مقارنته ببقية الزعماء الشيعة في قائمة التحالف وأبرزهم عبد العزيز الحكيم وأحمد الجلبي ، وتبدو ملائمة شخصية الجعفري للظرف السياسي الحالي في كونها تحمل كما لا بأس به من المتناقضات والتي تجعله قابلا لإعادة الصياغة من جديد كما أنه لن يكون مقيدا بأطروحات أيديولويجية تكبل تحركاته السياسية ، وقد كان الجعفري يتخذ موقفا معارضا من الحملة الأمريكية على الفلوجة ، ويحاول أن يظهر في موقف المعارض لسياسة الاحتلال في نفس الوقت الذي يصر فيه على عدم مطالبة الإدارة الأمريكية بإعلان جدول زمني للانسحاب ، وهو مطلب يظهره أتباع السيستاني أحيانا ، وقد صرح الجعفري بعد إعلان اختياره لمنصب رئاسة الحكومة أنه لن يطلب من القوات الأمريكية مغادرة العراق في الظرف الحالي لعدم وجود الأمن ، وهنا موطن الملائمة في شخصية الجعفري فهو قريب من إيران أيديولويجا وسياسيا ولكنه براجماتي إلى الحد الذي يسمح له بتأييد الاحتلال الأمريكي دون مواربة .
يضاف إلى ما سبق أن منصب رئيس الوزراء في الفترة القادمة تنحصر أهميته في متابعة المهمة الرئيسة للمجلس الوطني المنتخب وهي كتابة دستور دائم للعراق ، وهي مهمة حُدد لانتهاءها نهاية هذا العام حيث سيتم حل المجلس وإجراء انتخابات جديدة ، وهذا يعني أن الجعفري لن يسعد بمنصبه أكثر من عشرة أشهر كحد أقصى وهي مدة متناسبة مع مواصفات المرحلة ومع شخصية الجعفري أيضا ، ولتوضيح ذلك نقول أن الجعفري لا يتبنى نموذج ولاية الفقيه المطبق في إيران ، بل يفضل نموذجا أكثر انفتاحا ويمكن اعتباره ممثلا لليبرالية الشيعية داخل التيارات الدينية الشيعية وهذا يقربه من الإدارة الأمريكية ولذلك أعلن الجعفري بعد اختياره صراحة أنه لن تكون هناك مساع لإقامة دولة دينية في العراق ، وهو بذلك يرد على تصريحات علاوي التي حذر فيها من الدولة الدينية .
وفي المقابل فإن نظام طهران صرح على لسان أكثر من مسؤول أنه لا يكترث إذا ما أقيم نظام علماني في العراق ، وقال حسين موسويان رئيس لجنة السياسة الخارجية بالمجلس الأعلى للأمن القومي أن إيران لا تخشى من قيام دولة ديمقراطية علمانية في العراق باعتبار ذلك يمثل تهديدا للمؤسسة الدينية في طهران ، حيث ستدفع الإيرانيين للمطالبة بمحاكاة النموذج العراقي الشيعي وتطبيق تعديلات ديمقراطية .
وقد كانت الإدارة الأمريكية تراهن على ذلك بالفعل وتعتبر النظام العلماني في العراق خطوة على طريق إسقاط نظام الملالي في طهران وجاء اختيار إياد علاوي رئيسا للوزراء ضمن الجهود الأمريكية لإقامة هكذا نظام ، ولكن نجح ملالي طهران في ممارسة ضغوطات قوية أدت إلى توحد الأحزاب الدينية الشيعية في قائمة واحدة لتركيز الدعم الشيعي الشعبي في اتجاه الزعماء الدينيين لفرملة السعي الأمريكي تجاه علمنة الدولة القادمة في العراق ، وهكذا وقف الطرفان في منتصف الطريق ، فلا الجعفري يتبنى إقامة الدولة الدينية ، ولا الإدارة الأمريكية حققت نجاحا في إقامة نظام علماني ، ويبدو الوضع مرشحا لاستمرار على هذا التأرجح حتى عند كتابة الدستور الدائم ، فاحتمالات كلا الدولتين : الدينية والعلمانية ، تبدو أضعف مع مرور الوقت ويبقى النموذج المختلط رائجا والذي يناسبه ترشيح شخصيات مثل إبراهيم الجعفري ، وإن كان ذلك لا ينفي أن النموذج الأفضل – أمريكيا – هو شخصية مثل إياد علاوي ..(/1)
ومن العوامل الداخلية التي دفعت بالجعفري للأمام في اتجاه المنصب أيضا التباينات القوية داخل الطائفة الشيعية التي تعاني من متضادات تذهب بريحها ، فهناك تنافر بين العلماني والديني ، وبين الموالي للاحتلال والموالي لإيران ، وبين المتشدد وبين المعتدل ، وبين الزعامتين السياسية والدينية ، هذا فضلا عن الانقسام الحزبي ، وفي أغلب هذه المتضادات يحتل الجعفري موقفا متوسطا تقريبا ، فهو ليس مواليا لإيران بنفس مستوى ولاء الحكيم ومجلسه الأعلى ، كما أنه ليس دينيا في مستوى السيستاني والمرجعيات الشيعية ، وهو أيضا زعيم سياسي لحزب ديني ، وعند مقارنة شخصية الجعفري بشخصية علاوي يتضح أن الثاني لا يناسب أبدا المرحلة القادمة ، فالبعد العلماني لشخصيته وولاؤه الواضح لأمريكا سيمثل عامل استفزاز للشيعة ولن يمكنه المساهمة الفعالة في تيسير عملية كتابة الدستور ، ومن ناحية أخرى فإن علاقة حزب الدعوة بالسنة ليست في مستوى العدائية التي يتسم بها أداء المجلس الشيعي الأعلى وجناحه العسكري فيلق بدر ، وإن كان الحزبان يتفقان في أيديولوجيا العداء لكن حزب الجعفري يمارس أداء سياسيا أكثر احترافا من مجلس الحكيم .
ويبقى لنا أن نقول أن العلاقة بين أمريكا وإيران تحدد إلى درجة كبيرة طبيعة الأوضاع السياسية السائدة في العراق ، وعلى ضوء ذلك يمكن أن نفهم المنحنى الزلق الذي تسير فيه إدارة بوش ، فهي من ناحية لا تريد أن تستفز الإيرانيين في العراق حتى لا تخرج الاوضاع عن السيطرة ، ومن ناحية أخرى تخشى من ردود العفل داخل العراق وبين الشيعة تجاه أي محاولة لإسقاط نظام الملالي في طهران ولو بتنفيذ ضربات عسكرية للمواقع النووية ، وربما يكون سبب تأخر الضربة الأمريكية لإيران حتى الآن هو سعيها لتأمين الأوضاع السياسية في العراق وتحقيق نسبة إرضاء للشيعة تضمن سكوتهم عندما تقوم بضرب " ماما إيران " .(/2)
لماذا الأسماء الحسنى !( 1 ) ...
طريق القرآن ...
...
لماذا الأسماء الحسنى ! للإجابة على هذا السؤال نقول : إن التوحيد كما هو معلوم ومدلل عليه في الكتاب والسنة وأجمعت عليه الأمة بل وجميع الملل هو رحى الدين والأصل الأصيل الذي لا يصح العلم والعمل إلا به وهو الركن الركين الذي جاءت الرسل للدعوة إليه قال تعالى?وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ?… [الانبياء:25].
وقال سبحانه: ? وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ?…[النحل:36].
وقال: ? لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ? …[الزمر:65] وذلك لأن الأعمال الصالحة التي هى ذروة سنام ما يصبو إليه كل مؤمن ما هي إلا بنيان أساسه هذا التوحيد وهذا الأساس أمران :
ـ صحة المعرفة بالله وأمره وأسمائه وصفاته
ـ تجريد الانقياد له ولرسوله دون ما سواه
ولما كانت منزلة التوحيد عظيمة ومكانته سامية فان العلماء قد اهتموا به اهتماماً بليغاً تعلماً وتعليماً فكان في ذلك أن قسموه أقساماً فبعضهم قال: التوحيد ثلاثة أقسام :
ـ توحيد الإلهية وهو توحيد العبادة
ـ توحيد الربوبية بالاعتراف بربوبية ورازقية وتدبير وحاكمية الله وحده لا شريك له
ـ توحيد الأسماء والصفات
وبعضهم يفصل تفصيلاً آخر فيجعله قسمان :
ـ توحيد في المعرفة والإثبات
ـ توحيد في الطلب والقصد .
قال ابن القيم رحمه الله: « واما التوحيد الذي دعت إليه الرسل ، ونزلت به الكتب فهو نوعان : توحيد فى المعرفة والإثبات وتوحيد فى الطلب والقصد ».
ولا تعارض بين هذين القسمين لعدة أوجه منها :
ـ أن توحيد الألوهية نظير توحيد القصد والطلب وذلك لأن مبنى هذا النوع أن يكون الله عز وجل معبوداً دون غيره من الآلهة الباطلة تدين له القلوب وتقصده الذوات فتكون في دينونتها ومقصدها متذللة له خاضعة معترفة بتمام العبودية والإلهية له فلا تقصد بالعبادة غيره ولا تطلب العون والرزق والهداية والتوفيق وكشف الضر وجلب النفع ورفع البأس من غيره سبحانه وتعالى قال عز وجل:? وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ? … [يونس:106] وقال: ? قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ?[الزمر:38] وقال: ? وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّه? …[المؤمنون:117] وقال تعالى: ? فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ? …[هود:123]، وجماع ذلك كله?إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ? …[الفاتحة:5] فلا تقصد غيره بالعبادة ولا تطلب من غيره الاستعانة والتوفيق .
فتأليهه إذاً قصده بالعبادة والطلب منه على جهة الدعاء والدعاء هو العبادة فكان القصد والطلب هو عين العبادة تحقيقاً لقوله تعالى: ? وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ?… [الذريات:56] أي ليوحدون.
ـ وأما توحيد المعرفة والإثبات فلا يعارض القسمة أيضاً لأنه شامل لفرعي التوحيد الآخرين فإنه من تمام المعرفة وكمال الإثبات أن تعلم الموصوف وصفاته وأفعاله على غرار ما يجب عليك نحو الموصوف وأفعاله ، ولذلك قال ابن القيم :
« فالأول - أي توحيد القصد والطلب – ما تضمنته سورة : ? قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ?… [الكافرون:1] ، والثانى – أى توحيد المعرفة والإثبات – هو إثبات حقيقة ذات الرب تعالى وصفاته وأفعاله وأسمائه وتكلمه بكتبه ، وتكليمه لمن شاء من عباده وعموم قضائه وقدره وحكمته » أ.هـ.(/1)
فهذا الأخير موجب للإلهية والعبادة وقد تقدم ، ومتى علمت كونه رازقاً مربياً مدبراً حكماً فقد وحدته بالمعرفة من جهة ووحدته بربوبيته من جهة أخرى وإذا علمت أن له صفات ذات وأفعال وأن أسمائه مقتضية لاتصافه بصفات الكمال كعلمك مثلا بكونه غفور رحيم قيوم عزيز فانك من خلال ذلك وحدته بإثبات هذه الأسماء والصفات و عرفته بها وأثبت له ما تقتضيه من رحمة ومغفرة وعزة وقيومية فتكون موحداً له في الأسماء والصفات من جهة ثانية ، فثبت بهذا التوافق بين هذه الأنواع من هذه الجهة ، وأما الجهة الثانية فهي ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله من تضمن توحيد الألوهية لتوحيد الأسماء والصفات حيث قال : ( التوحيد الذي جاءت به الرسل إنما يتضمن إثبات الإلهية لله وحده بأن يشهد أن لا إله إلا الله ولا يعبد إلا إياه ولا يتوكل إلا عليه ولا يوالي إلا له ولا يعادي إلا فيه ولا يعمل إلا لأجله وذلك يتضمن إثبات ما أثبته لنفسه من الأسماء والصفات قال تعالى: ?وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ? … [البقرة:163] .
قد تقدم قبل أن الله عز وجل أمر العباد بعبادته، وعدّ ذلك أسمى مطلوب خلق له هذا المخلوق الضعيف. والعبادة من التعبد الذي هو التذلل والخضوع، والاشتقاق يواكب المعنى، فإن المعبد من الطريق هو المذلل للمشاة، ولكن التذلل والخضوع للخالق له خاصية ، وهو أنه غير مجرد، إذ هو مصحوب بالحب والرجاء.
والعبادة كما عرفها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:هي قول جامع للأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة التي يحبها الله ويرضاها.
فهي شاملة لأعمال الجوارح والقلوب، بشرط أن تكون محبوبة لله عز وجل، فاحفظ هذا وكن له على ذكر. أما أنها كيف تكون محبوبة لله عز وجل، فهذا لا يتم إلا بأصلين تقدما: التوحيد الخالص من شوائب المقاصد الدنيّة. العمل الصالح الخالص من شوائب البدع والمبطلات الردّية. والذي أجمله الله بقوله تعالى: ? فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَد ? … [الكهف:110]، وبقوله أيضاً ? قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّه ? رباه بنعمه، ولأنه هو الخالق البارئ؛ وذاك الطالب هو المخلوق الضعيف .
قال تعالى: ? يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ? … [فاطر:15].
فإن قلت: قد فهمنا هذا من جهة الدلالة اللفظية، والعلاقة العقدية ولكن ما دليلك عليه؟ فالجواب: طبعاً الكتاب والسنة.
أما الكتاب فقوله تعالى: ? وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ? … [غافر:60]، وقال أيضاً على لسان إبراهيم ـ عليه السلام ـ: ? وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ……… ?48? فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّه ?… [مريم:48 ـ49]، فقابل الدعاء بالعبادة.
وأصرح منهما قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم: ( الدعاء هو العبادة )… [ رواه الترمذي ].
فنرجع إلى مقصودنا، وهو قول الله تعالى: ? وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَ ? … [الأعراف:180]، فبأدنى تأمل تعلم أن المراد [ ولله الأسماء الحسنى فاعبدوه به]، أو قل [ وله الأسماء الحسنى فادعوه بها، ودعاؤكم إياه بها عبادة منكم له]، والله أعلم. ولكن لعلك تقول: كيف السبيل إلى ذلك، وما مداه؟ فالجواب: قال تعالى ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً ? … [البقرة:208]، قال ابن كثير ـ رحمه الله ـ " إنهم أُمروا أن يعملوا بجميع شعب الإيمان، وشرائع الإسلام وهي كثيرة جداً " أ.هـ.(/2)
وهذا يشهد له قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ( الإيمان بضع وسبعون ـ وفي رواية بضع وستون ـ شعبة، أعلاها لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق……الحديث ) … [ متفق عليه]، وعليه فيكون أعظم ما يمكنك أن تلتزم به عند الدخول في الإسلام هو، لا إله إلا الله. قولاً: باللهج بها، فقد قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ( أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله ). وعملاً: قال الله تعالى: ? وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ? … (البينة: من الآية5) وقال تعالى ? قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ?… [الأنعام:162]. واعتقاداً: قال تعالى:? فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ …… ? … [محمد:19]، ومن العلم [ بلا إله إلا الله ] العلم بأسمائه وصفاته، ولا يتم علم بلا عمل، فقد قيل : هتف العلم بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل، فكن لهذا ذاكراً ، وهو أن أعلى شعب الإيمان [ لا إله إلا الله ] ومنها الأسماء والصفات. ثم نرجع بك إلى آلة هذه الشعب، وهي التي جمعها شيخ الإسلام في تعريفه للعبادة، وهي الأعمال الظاهرة والباطنة والأقوال الظاهرة والباطنة.
أما العمل الظاهر فهو العمل بالجوارح، وأما العمل الباطن فهو المتعلق بالقلب من جهة التأثر، كالخشية والرجاء مثلاً، وأما القول الظاهر فهو الذكر، والقول الباطن هو الاعتقاد.
فكانت العبادة شاملة عامة، تجمع قلبك وقالبك لله، فأنت به وله وإليه وعليه، لا تخرج عن طواعيته طرفة عين . قال تعالى: ? وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ? … [آل عمران:83].
فلك في كل خطرة من خطراتك، وحركة من حركاتك عبادة، وكل عبادة في عباداتك يجب أن تكون لله، ولا يتم لك ذلك إلا بأن تكون عالماً بأسمائه وصفاته، فللقلب عبادة، وللبصر عبادة، ولليد عبادة، …… وهكذا.
فعلمك بأن الله عليم وأن علمه وسع السماوات والأرض وأنه لا تخفى عليه خافية وأنه يعلم السر وأخفى عبادة القلب لله باسمه العليم . استحضارك أن الله عليم بأفعالك فتنزه لأجله السمع عن سماع اللغو والباطل عبادة لله باسمه (العليم) . استحضارك أن الله عليم بأفعالك فتنزه لأجله البصر عن النظر إلى المحرمات، عبادة لله باسمه ( العليم ).
وكذا علمه بأقوالك فتذكره، وتتنزه عن قول الزور والباطل واللغو، وهكذا اليد والرجل وغيرها من الجوارح، وكل الأسماء على هذا كما سيأتي عند شرحنا لكل اسم منها . قال ابن القيم رحمه الله في [مفتاح دار السعادة] ص (1/137): " والأسماء الحسنى والصفات العلى مقتضية لآثارها من العبودية، فلكل صفة عبودية خاصة هي موجباتها ومقتضياتها، أعني موجبات العلم بها، والتحقق بمعرفتها .
وهذا مطرد في جميع أنواع العبودية، التى على القلب و الجوارح، فعلم العبد بتفرد الرب تعالى بالضر والنفع، والعطاء والمنع، والخلق، والرزق والإحياء والإماتة يثمر له عبادة التوكل عليه باطناً ولوازم التوكل وثمراته ظاهراً.
وعلمه بسمعه تعالى وبصره وأنه لا يخفى عليه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، وأنه يعلم السر وأخفى، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور يثمر له حفظ لسانه وجوارحه وخطرات قلبه عن كل ما لا يرضي الله وأن يجعل تعلق هذه الأعضاء بما يحبه الله ويرضاه فيثمر له ذلك الحياءَ باطناً ويثمر له الحياءُ اجتناب المحرمات والقبائح.
ومعرفته بغناه وجوده وكرمه وبره وإحسانه ورحمته توجب له سعة الرجاء وتثمر له ذلك في أنواع العبودية الظاهرة والباطنة بحسب معرفته وعلمه … " أ.هـ . وعليه فثمرة هذه المعرفة من أنواع العبودية الظاهرة والباطنة بحسب درجة المعرفة والعلم بهذه الأسماء والصفات، فمتى كانت المعرفة بها عالية وصحبها العمل أثمرت ثماراً يانعة، وغمرت صاحبها بالمعارف القلبية، والأعمال الظاهرية، ومتى نقصت، نقصت ثمرتها. وأكد هذا المعنى رحمه الله في موضع آخر فقال في كتابه البديع [ طريق الهجرتين ] ص ( 215 ) : " ومن كان له نصيب من معرفة أسمائه الحسنى واستقراء آثارها في الخلق والفعل رأى الخلق والأمر منتظمين بها أكمل انتظام، ورأى سريان آثارها فيهما، وعلم بحسب معرفته ما يليق بكماله وجلاله …… " .
والأمر كما قال ـ رحمه الله ـ فإن العبادة لا تتم إلا بالمعرفة والعلم بهذه الأسماء والصفات، لأن من لا يدرك حقيقة اسم (العليم)، (الخبير)، (اللطيف) …… لا يمكنه أن يعبده حق عبادته، ولذا كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: ( أنا أعلمكم بالله ).(/3)
وشتان بين مصليين، مصل قائم بين يدي ربه، عالم باطلاع ربه على كل صغير وكبير من حركاته ظاهراً وباطناً، مستحضراً لذلك، وآخر لا يعلم من اسم (العليم) إلا رسمه، وما ورثه عن أبيه وأمه، إن كانا ورثاه من المعرفة شيئاً. والله أعلم، والحمد لله أولاً وأخرا ،، الحلقة القادمة " قواعد لمعرفة الأسماء الحسنى "(/4)
لماذا الدعوة إلى اللَّه عز وجل ؟
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وآله وصحبه، وبعد:
فقد يبدو لأول وهلةٍ غرابة عنوان هذه المقالة، إذ لا يعقل أنَّ أيِّ داعية إلى الله عز وجل لا يعرفُ الغاية من دعوته إلى الله عز وجل، وجهادهِ في سبيله سبحانه؛ وهذا صحيحٌ من حيث الجملة، ولكنْ هناك فرقٌ بين المعرفةِ الذهنية المجردة، وبين التحرك بهذه المعرفة، والسير على ضوئها في واقع الناس ودعوتهم إلى الله عز وجل، وكم رأى الواحد من نفسه ومن غيره غفلت عن هذه الأهداف، أو مصادماتها لواقع الدعوة العملي، مما ينشأ عنهُ مغالطات وانحرافات، وسببها البعدُ عن هذه الأهداف.
والمحافظة على هذه الأهداف، ومحاسبة النفسِ بين الحين والآخر على تحقيقها، كفيلٌ إن شاء الله تعالى أن تنطلق الدعوة بعيدة عن حظوظ النفس وأهوائها. وبالتالي يجدُ الداعي أثر دعوته وثمرتها جليًّا وسريعًا في نفسه وفي واقع الناس، كما يجدُ في نفسهِ أيضًا الحماس والاندفاع إلى الدعوةِ والجهاد، بغير مللٍ ولا فتور، وأكبر من ذلك كله قبول سعيه عند الله عز وجل.
والأهداف الأساسية للدعوة والجهاد في سبيل الله عز وجل، يمكنُ حصرها فيما يلي:
1- التعبُّد لله عز وجل بهذه الشعيرة العظيمة، شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتي هي أصل الدعوة إلى الله عز وجل والجهاد في سبيله سبحانه، فشعور الداعية أنَّهُ عبد لله عز وجل، يحبُّ ربه ويحب ما يحبه ربه من الدعوة والجهاد، يُعدُّ من أكبر الدوافع إلى بذل الجهد والجهاد في سبيل الله تعالى، ولو لم يحصل الداعية في دعوته وجهاده إلاَّ على شعوره بالعبودية لله عز وجل لكفى بذلك دافعًا وغاية عظيمة. كما أنَّ في مصاحبةِ شعور العبادة لله تعالى في جميع تحركات الداعية، أكبر الأثر في التربية على الإخلاص، وتحري الحق والصواب، واللذان هما شرطا قبول العبادة، والعكس من ذلك عندما ينسى أو يغفل الداعية أنَّهُ متعبدٌ لله تعالى بدعوته وحركته، فإنَّهُ بذلك يضعفُ إخلاصه، وتبدأ حظوظ النفس والهوى يسيطران على القلب، كما يضعفُ مع ذلك اتباع الدليل وتحري الحق، مما ينتجُ عنه في نهاية الأمر فتور الداعية، أو مزلة قدمه والعياذ بالله تعالى.
2- الفوز برضوان الله تعالى وجنته في الدار الآخرة، وهذا هو ثمرة التعبُّد لله عز وجل السابق ذكرها، وهي الغاية العظمى التي وعد الله عز وجل بها عباده الآمرين بالمعروف والنا هين عن المنكر، والداعين إليه على بصيرة، ولقد تكاثرت الآيات في كتاب الله عز وجل التي تمدح الداعين إليه سبحانه، والصابرين على ما أصابهم في سبيله، وما أُعد لهم في الدار الآخرة من الرضوان والنعيم المقيم. وعندما ينشدُ الداعية إلى هذه الغاية، وتنجذب نفسه إليها، فإنَّهُ يستسهل الصعاب، ويمضي في طريقه بقوةٍ وعزيمة وثبات، كما أنه عندما يتعلق بهذه الغاية العظيمة ولا ينساها، فإنَّهُ بذلك لا يلتفت إلى أعراض الدنيا الزائلة، ولا ينتظرُ جزاءَ عمله ودعوته وجهاده في الدنيا، وإنَّما يروضُ نفسه ويُربِّيها على أن تعطي من صبرها وجهدها وجهادها، ولا تأخذ منه شيئًا في الدنيا، وإنما تنتظر العطاء والثواب في الدار الآخرة من ربها الكريم، في دار النعيم المقيم، ولذلك فإنَّ أصحاب هذه النفوس المخلصة، لا يتطرق إليهم الوهن ولا الفتور الذي يتعرض له أصحاب الأغراض الدنيوية القريبة، الذين إن حصلوا على أهدافهم في الدنيا رضوا وواصلوا العطاء، وإن تأخرت عليهم فتروا وكلوا وتوقفوا.
أمَّا أصحاب الغاية العظيمة فهم لا يفترون ولا يتوقفون، لأنَّ وقت ومكان توفيت الأجر ليس مجالهُ الدنيا، وإنَّما فى الدارِ الآخرة، دار الحساب والجزاء، ولذلك فهم يعملون ويُجاهدون حتى يأتيهم اليقين.
3- إنقاذ الناس - بإذن الله تعالى - من عبادةِ العباد إلى عبادة الله وحده لا شريك له، ومن ظُلم الأديان إلى عدلِ الإسلام، ومن ضيقِ الدنيا وشقائها إلى سعتها وسعادتها، ومن عذابِ النار يوم القيامة إلى جنات النعيم.(/1)
وعندما يتذكرُ الداعية هذه المهمة الجسيمة، وهذا الهدف الأساس من دعوته وجهاده، فإنَّهُ يُضاعفُ من جهده، ولا يقرُّ له قرار وهو يرى الشرك المستشري في الأمة، والفساد المستطير في مجتمعات المسلمين؛ والذي يؤول بالناس إلى الشقاء والظلم وكثرة المصائب في الدنيا، وإلى العذاب الأليم في الآخرة. ولذلك فلا ترى الداعية المدرك لهذه الغاية من دعوته، إلاَّ خائفًا على نفسه وعلى الناس من عذاب الله عز وجل في الدنيا والآخرة، ولا تراهُ إلا ناصحًا للعباد رحيمًا بهم، يريد من دعوته هداية الناس، وإنقاذهم بإذن الله تعالى من الظلمات إلى النور، ومن عذاب الله عز وجل في الدنيا والآخرة، ولسانُ حاله ومقاله يرددُ قول مؤمن آل فرعون لقومه، فى قول الله عز وجل: (( وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبَادِ وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ )) (غافر: 30 ـ 33) .
وإنَّ مثل هذا الشعور، ليضفي الرفق بالناس والصبر على إعراضهم وأذاهم، والحرص على كلِّ مجالٍ يفتحُ لهم أبواب الخير، أو يغلق عنهم أبواب الشر، كما ينشئُ في القلب محبةَ المصلحين الداعين إلى الخير وهداية الناس في أي مكان من الأرض، كما أنَّهُ يدفعُ إلى بذل الجهد، والتخطيط والتعاون مع جميع الداعين إلى الخير والبر والتقوى، بعيدًا عن التعصب والحزبية والولاء ات الملوثة(/2)
لماذا اللغة العربية ؟ !
بقلم الدكتور عدنان علي رضا النحوي
إِن واقع اللغة العربية اليوم يتأثَّر كثيراً بواقع المسلمين، فهي تقوى بقوّتهم وتضعف بضعفهم، ولكنها تبقى في الميدان تصارع التحدِّيات، تبقى حيَّةً بكل خصائصها مهما ضُيِّق عليها أو غزاها الظالمون، ومهما اشتدَّ المكر والكيد لتوهينها أو عزلها عن الميدان.
وجميع اللغات تخضع إلى هذه القاعدة، فهي تقوى بقوّة أُمَمِها وتضعفُ بضعفها، ولكنها لا تستطيع كلُّها الصمود أمام التحديات التي تظهر أمامها. ويضرب لنا التاريخ أمثلة كثيرة على لغات وقفت ثم تراجعت، وعلى لغات أصبحت مجرّد تاريخ، وعلى لغات بادت مع شعوبها.
واختلاف اللغات بين الأُمم والشعوب آية من آيات الله، تحمل العبرة للتأمل والتدبر :
( ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين )
[ الروم : 22 ]
ولكنّ اللغة العربية تميّزت بخصائص لم تتوافر لأي لغة أُخرى. إِنها تميّزت بخصائص وهبتها القدرة العظيمة على الصمود أمام التحدّيات حيّة قوية، تدفع وتدافع وتصارع. وبعض هذه الميّزات ينبع من إمكاناتها الذاتيّة التي وهبها إياها الله من خلال مراحل تاريخها ونموّها، ومنها ما هو نعمة من الله عليها وعلى المسلمين وعلى الناس كافة، حين اختارها الله لغة رسالته إِلى عباده ولغة دينه، وحين تعهَّد الله بحفظ الذكر الذي نزل بها.
وتمرّ اللغة العربية اليوم بتحدّيات وصعوبات نابعة من واقع المسلمين، فلقد فقد الكثيرون من المسلمين اليوم الحافز الإيماني لتعلّم اللغة العربيّة. ظنّ بعضهم أنه يمكن الاستغناء عن اللغة العربية، وأنه يمكن دراسة القرآن الكريم والسنة المطهرة بأي لغة أُخرى إذا تُرجِما إليها. فضعفت النية والعزيمة لتعلّم لغة القرآن الكريم والتمسك بها في مناطق كثيرة في العالم الإسلاميّ، مع ما أخذ المسلمون يعانون منه من غزو كاسح وفواجع ومآسيَ، وهزائم في أكثر من ميدان.
ولقد تبع هذه الظاهرة وصاحبها ضعف في التصور الإيماني والتوحيد وضعف في تدبّر منهاج الله وفهمه وممارسته في واقع الحياة.
وقد أدرك الأعداء أهمية اللغة العربية وخطورة منزلتها في الإسلام وفي فهم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فكان من أهم محاولاتهم إِضعاف صلة المسلم بلغته العربية، وإِضعاف شعوره بضرورة التمسك بها، وطَرْح أفكار غريبة مريبة تصرف المسلم عن لغة دينه ورسالته في الحياة. واستمرت هذه المحاولات قروناً واستغرقت جهوداً كثيرة، ومتابعةً متواصلةً دون ملل. فَطُرِحَتْ أفكار لتغيير قواعد اللغة العربية أو بعضها، وأفكار لتغيير أحرفها وكتابتها، وأفكار لتغيير الشعر العربي. وكانت هذه المحاولات والأفكار التي تُطْرَح مرتبطة بسائر المناهج والتخطيط الذي يضعونه لغزو العالم الإِسلامي، وتدمير طاقاته الإِيمانية والفكرية والبشرية وغيرها.
لعل هذا الواقع المؤلم لم يشهد مثله تاريخ المسلمين الطويل،ولا انحسرت اللغة العربية مثل انحسارها اليوم. ولكننا نسرع بالقول لنبيّن ونؤكد أنها مازالت صامدة في الميدان تجابه التحدّيات كلها، وأنها ستنتصر، وينتصر المسلمون، وتعلو كلمة الله لتكون هي العليا، تدوّي بها اللغة العربية : الله أكبر، الله أكبر !
لم يكن المسلمون يسنّون قانوناً عسكرياً أثناء فتوحاتهم يفرضون على الناس به تعلّم اللغة العربية. لم يكن انتشار اللغة العربية في الأرض انتشار قسر وقهر. لقد أقبلت الشعوب كلها على تعلم اللغة العربيّة إقبال شوق ورغبة، بعد أن أسلمت وآمنت، وبعد أن عرفت من إيمانها وإسلامها منزلة اللغة العربية في الإسلام. وظلت اللغة العربية تنتشر بين الشعوب سواء أكان المسلمون منتصرين أم مَهزومين. ونَبَغ من الشعوب غير العربية عباقرة في اللغة وأئمة فيها، حين قدم الإِسلام للشعوب رسالته الربانيّة، رسالة الإِيمان والتوحيد، وحين تساوت الشعوب في ظلال هذه الرسالة وفي ظلال العبودية لله رب العالمين.
( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير )
[ الحجرات : 13 ]
ويوم فتح مكة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا معشر قريش إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء، الناس من آدم، وآدم من تراب " (1) .
وفي حجة الوداع خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس، فكان من بين ما قاله : " أيها الناس ! إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم، وآدم من تراب. أكرمكم عند الله أتقاكم، وليس لعربي على عجميّ فضل إلا بالتقوى. ألا هل بلغت ؟! اللهم اشهد ! قالوا : نعم. قال : فليبلِّغ الشاهد الغائب ". (2) .
فلم يكن انتشار اللغة العربية بين الشعوب إلا بحافز إيماني، يزيده قوة ووضوحاً امتداد السلطان والنفوذ، وامتداد الدعوة الإسلامية في الأرض. وأصبحت اللغة العربية أحد العوامل الجامعة للأمة المسلمة، وستظل كذلك على مدى التاريخ.(/1)
ولكننا اليوم نشهد واقعاً جديداً يحمل من التحدّيات الشيء الكثير. فقد انحسر سلطان المسلمين، وتمزّقت ديارهم، ومُنُوا بالهزائم تلو الهزائم، وغلب الأعداء على مواقع كثيرة، وأخذ الإيمان يضعف في بعض النفوس، والعلم بمنهاج الله يجفّ ويبهت، حتى غلب الهجر لمنهاج الله لدى كثير من المسلمين :
( وقال الرسول يا ربِّ إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً )
[ الفرقان : 30 ]
وامتدت الفتنة في كثير من ديار المسلمين، وأخذت الفتنة أشكالاً مختلفة متعددِّة، وتسلَّل الإِحباط إِلى نفوس كثيرة. وتبع ذلك كله ضعف عام لدى المسلمين في اللغة العربية !
فلقد انتشرت اللغات العاميّة ولهجاتها، وأصبح العامة من العرب أنفسهم لا يعرفون اللغة العربية الصحيحة، ولا يعرفها كذلك كثير من المثقفين العرب.
وانتشرت الأخطاء اللغوية في بعض الصحف والمجلات، والكتب وبعض الإذاعات. وفي مناطق كثيرة في العالم الإسلامي غلبت اللغات القومية وانحسرت اللغة العربية أو اختفت، وضعف الشعور باحترامها وتقدير منزلتها في دين الله، وضعف الحافز الإيماني والوعي الإسلاميّ بضرورة تعلمها، وضعفت النيّة تبعاً لذلك وهبطت الجهود. وقد ترى الرجل المسلم ينال أعلى الدرجات العلمية في أبواب شتى من العلوم، ويتقن من أجل ذلك اللغات الأجنبية ويبذل الجهد الكبير من أجل إتقانها، حافزهُ في ذلك الدنيا ونيل الشهادة وما يتبعها من مصالح دنيوية، ولا يجد في نفسه الحافز الإِيمانيّ لدراسة اللغة العربية، ولا الحافز الدنيوي.
وقد تجد المفكر المسلم أو الأديب يصبّ فكره وأدبه بلغة أجنبية عنه وعن قومه وعن دينه، أو بلغته القومية، بعد أن هبط الشعور والإحساس بضرورة تعلم اللغة العربية، وهبط الحافز الإِيمانيّ أو اختفى.
ونجد في بعض أقطار العالم الإسلامي أن اللغة العربية قد اختفت، واختفت حروفها وقواعدها. ونجد أن اللغة الأجنبية، لغة المحتلّ الظالم الطاغي الذي يحارب الإسلام، سادت في هذا البلد الإسلاميّ أو ذاك. وانتشرت مع هذه الظاهرة بعض العصبيات الجاهلية، وبهتت روح الإيمان والاعتزاز بمقوّمات الإسلام ولغة القرآن والوحي.
ونجد كذلك أن بعض المسلمين لا يتكلمون اللغة العربيّة في المؤتمرات العلميّة أو الإسلامية أو الدولية، بينما نجد آخرون يلتزمون لغتهم القومية في مثل هذه المؤتمرات.
وتنحسر اللغة العربية في الفنادق والمطاعم وغيرها من مواقع السياحة في كثير من أقطار العالم الإسلامي، وتنحسر كذلك في اللافتات على المحلات التجارية والصناعية وغيرها من المراكز العلميّة والإعلامية.
ومع هذا الانحسار الشديد فإن اللغة العربيّة واجهت هذه التحدّيات بقوة وثبات وصمود، وسجّلت انتصارات كثيرة في مواقع عديدة. فهناك مسلمون في كلّ بلد إسلامي يصرّون على تعلم اللغة العربية وعلى استخدامها، سواء أكان ذلك في بلادهم أم في بلد عربيّ يرتحلون إليه لدراسة الإِسلام ودراسة اللغة العربية.
إنهم يفعلون ذلك بحافز إيماني واع ومبادرة ذاتية. فهذه الجامعات الإسلامية في المملكة العربية السعودية تضمّ الشباب المسلمين من أقطار شتى من العالم الإسلامي، وكذلك جامعات بعض الأقطار العربية الأُخرى. وترى بعض المسلمين يصرّون على حفظ القرآن الكريم باللغة العربية دون أن يعرفوا اللغة العربية، إِنها ظاهرة تدلّ على إصرار المسلم على اللغة العربية وارتباطها بالقرآن الكريم، وتدل على مجابهة التحدّيات الشديدة التي برزت في العصر الحاضر.
وهناك مواقف كثيرة تدلّ على صمود المسلمين أمام التحدّيات القائمة، وتدل على وعيهم لمنزلة اللغة العربية في الإسلام. وإننا ندعو الله أن تنمو هذه المواقف وتمتد وتنتشر ليعمّ هذا الوعي جميع المسلمين.
إن أعداء الله لم يلقوا سلاحهم، ولم يوقفوا مكرهم ضد الإسلام والمسلمين وضد اللغة العربية، بل على العكس من ذلك، فإنهم يطوّرون أساليبهم وكيدهم دون ملل أو يأس. وعسى أن يردّ الله مكرهم إلى نحورهم، وعسى أن يصبح ما ينفقون من أجل ذلك حسرة عليهم :
(... ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين )
[ الأنفال : 30 ]
( إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثمّ يغلبون والذين كفروا إلى جهنم يحشرون )
[ الأنفال : 36 ]
ولكن يجب علينا أن نضع نهجنا نحن المسلمين، وأن نفصّل التخطيط لحماية اللغة العربية وإعزازها وإعلاء كلمة الله في الأرض. ومن أجل ذلك يجب أن تعرف الناشئة منزلة اللغة العربية في دين الله، وواجبها الشرعي على ضوء ذلك.
لقد كانت اللغة العربية لغة العرب وحدهم قبل أن يبعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم وقبل بدء الوحي. فمن اللحظة التي نزل فيها الوحي على النبيّ الخاتم باللغة العربية واختار الله سبحانه وتعالى هذه اللغة العظيمة لتكون لغة الوحي والنُبَّوة، ولغة القرآن الكريم، منذ تلك اللحظة أصبحت اللغة العربية هي لغة رسالة الإسلام، لغة الأمة المسلمة مدى الدهر، لغة كل مسلم.(/2)
لقد نمت اللغة العربية من خلال تاريخ طويل مرّت به الجزيرة العربية وبلاد الشام والعراق. واستقرت على صورة من القواعد والبناء والبيان في نثرها وشعرها، وتحدّدت مفهومات مصطلحاتها وتعبيرها، وأساليب بيانها، حتى تميّزت بذلك كله بروعة البيان وجمال التعبير وأسر الكلمة، وعبقرية شعرها وحرفه بالوزن والقافية، وحتى أصبحت هذه اللغة العظيمة غنيّة بكلماتها ومشتقاتها وقواعدها وبلاغتها. وأصبحت غنية بنغمتها وموسيقاها، وأصبح البيان يهزّ العربي وغير العربي ممن عرف العربيّة وأتقنها، وأصبحت اللغة كنزاً في حياة العربيّ تؤثر في فكره ونهجه، وأصبح الشعر ديوان العرب، وأجمع رجال العربيّة أن الشعر شَرُفَ بالوزن والقافية، كما يرد هذا التعريف في المعاجم.
فما نزل الوحي الكريم من عند الله باللغة العربية إلا بعد أن بلغت اللغة نضجها واستقرّت بها قواعد الإسلام وآيات الكتاب المجيد وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم. وأصبحت اللغة العربية تتميزّ " بجوامع الكلم "، مما لا يتيسرّ في لغة أخرى، حتى كان من خصائص النبيّ الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم أنه أوتي جوامع الكلم. فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال :
" أُعطيت فواتح الكلم وجوامعه وخواتمه "
[ رواه أحمد وابن عمرو ](3)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه :
" نصرتُ بالرعب وأعطيت جوامع الكلم "
[ رواه أحمد ](4)
وجاء القرآن الكريم ليبيّن منزلة اللغة العربية في الإسلام، وليبيّن أن اللغة العربية من خصائص منهاج الله وأنها منه :
( ألر تلك آيات الكتاب المبين. إنا أنزلناه قرآناً عربيّا لعلكم تعقلون )
[ يوسف : 2،1]
وكذلك :
( وإنه لتنزيل رب العالمين. نزل به الروح الأمين. على قلبك لتكون من المنذرين. بلسان عربيّ مبين )
[ الشعراء : 192ـ 195 ]
ويؤكد القرآن الكريم هذه الحقيقة الهامة في عدد غير قليل من سوره : النحل، فصّلت، طه، الزمر، الشورى، الزخرف، الأحقاف، ومع كل تأكيد ظِلٌّ جديد، ففي سورة الرعد يأتي ظل ممتد مع التشريع والحكم الذي تتسع له اللغة العربية :
( وكذلك أنزلناه حكماً عربيّاً ولئن اتبعت أهواءهم بعد ما جاءك من العلم ما لك من الله من وليٍّ ولا واق )
[ الرعد : 36 ]
ويرتبط معنى الوضوح واستقامة المعنى والبيان والتشريع والعلم باللغة العربية التي توفِّر هذا كله في سورة الزمر :
( ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكّرون. قرآناً عربيّاً غير ذي عوج لعلهم يتّقون )
[ الزمر : 28،27 ]
ولو تابعنا جميع الآيات الكريمة لوجدنا ظلاً يمتدُّ إلى ظلٍ يؤكد عظمة منزلة اللغة العربية في القرآن الكريم، وتبعاً لذلك في الإسلام.
ولقد جاءت رسالة الإسلام ونزل الوحي الأمين باللغة العربية ليخاطب القرآن الكريم شعوب الأرض كلها بمختلف أجناسها وأعراقها ولغاتها بهذا اللسان العربي المبين. فانتقلت اللغة العربية مع أول آية نزل بها الوحي نقلة واسعة هائلة تملأ العصور والأقطار والشعوب.
وحسبنا، لنعلم عظمة هذه اللغة، أن ندرك أن الله سبحانه وتعالى هو الذي اختارها واصطفاها ورضيها لكتابه ودينه ولعباده المؤمنين، فوسعت كتاب الله آياً وحكمة وبياناً معجزاً، يتحدّى العربَ أولاً، أهل الفصاحة والبيان، أن يأتوا بمثله، ويتحدى الناس كلهم ويتحدّى الإِنس والجنّ.
فأصبحت اللغة العربية لغة العبادة والطاعة في الصلاة وسائر الشعائر، ولا يُعتبر القرآن قرآناً إذا نُقل إلى لغة أخرى. إنما هو باب من أبواب التفسير غير الدقيق، يصلح لينقل بعض المعاني ولا يصلح لينقل الإِعجاز والمنهاج الرباني. ونعتقد أنه يستفاد منه مرحلياً، حتى إذا آمن القلب وأسلم الإنسان هرع إلى دراسة اللغة العربية، ليدرك فضل الله ونعمته على عباده باصطفائه هذه اللغة العربية لكتابه ولدينه.
ومن هنا ندرك مسؤوليتنا في توفير الفرصة الكاملة للإنسان ليأخذ دينه من كتاب الله باللغة العربية كما أُنزل من عند الله. فهذا واجب على المؤمنين وحقٌّ لكل إنسان.
ومن هنا ندرك مسؤوليتنا في أن ننمّي لدى المسلمين خاصة والناس عامة الشعور والإحساس بضرورة دراسة اللغة العربية، حتى يفقهوا كتاب الله وسنة نبيه، وحتى نكون أوفينا البلاغ بما أُنزِل وأدّيْنا الأمانة. فقد أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يبلغ الناس كافة ما أُنزل إليه، فإن لم يفعل ذلك فلا يكون قد بلّغ رسالته :
( يا أيها الرسول بلّغ ما أُنزل إليك من ربك وإن لم تفعلْ فما بلّغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين )
[ المائدة : 67 ]
فقد حملت اللغة العربية بفضل من الله : تمام البلاغ وكماله، والإنذار والبشْرى، والرحمة للعالمين، والعلمَ الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والبيان المعجز الميسَّر للذكر، والهدى والنور والشفاء، والموعظة والحكمة، والقول الفصل !.(/3)
لذلك نرى أن اللغة العربية جزء لا يتجزّأ من منهاج الله ، فبغيرها لا يكون الكلام كلام الله ولا كلام رسوله، ولا هو البلاغ المبين.
ونرى كذلك أنه من واجب كل مسلم أن تكون اللغة العربيّة هي لغته الأولى بالإضافة إلى لغته القومية.
ومما يؤكد هذه الحقيقة الهامة أنه عند نقل القرآن والسنة إلى لغة أخرى غير العربية فإن المعاني لا تُسْتَوفَى كما هي مستوفاة باللغة العربية، وإن الإعجاز الذي يحمله منهاج الله والذي تحدّى به العرب والإِنس والجنّ يفقد كثيراً من خصائصه، وإِن البيان المعجز المؤثر في النفس يختفي معظم تأثيره ولا يبقى الكلام عندئذ كلام الله، ولا القرآن قرآناً، ولا التلاوة تلاوة. وفي اللغة العربية، وألفاظ القرآن وتعبيراته بها، ما يتعذّر نقله إلى لغة أخرى. فكلمة الولاء، وآية، الإحسان، التقوى، عَرَض هذا الأدنى، قدم صدق، وأملي لهم، إمام، عاكفين، وكلمات كثيرة، وتعبيرات قرآنية كثيرة أعجزت العرب أن يأتوا بمثلها، فأنّى للغات غير العربية.
ولّلغة العربية جمال متميّز عن سائر اللغات. إنه جمال الوضوح والدقة في المعنى، وجمال الظلال الموحاة، وسائر أبواب الجمال الذي كشف عن بعضه العلماء المسلمين في تاريخ طويل. وسيظل الجمال متجدّداً تتفتح أبوابه مع الأيام. ولا تنطبق قواعد الجمال في اللغات الأُخرى على قواعد اللغة العربية، فلّلغة العربية جمال آسر هزّ جميع من درسها وعرفها. ولقد هزّت الأدباء والشعراء وهزّت الشعوب.
ولقد تحدّدت مصطلحاتها اللّغوية، حتى تستقرَّ أحكام الإِسلام وتشريعه على قواعد راسخة، وحتى تستوفي اللغة أسباب الوضوع والدقة والجمال. ولقد استقرّ مفهوم النثر ومفهوم الشعر، حتى لا يختلط الكلام، وحتى يتمايز كلام الله، وحتى تستقيم المعاني.
لذلك نرى أن اللغة العربية هي اللغة الأُولى للأدب الملتزم بالإسلام، الأدب الذي يريد أن يرقى من مراتب الجمال إلى مراتبه العالية.
ونرى أن اللغة العربيّة هي اللغة الرسمية للأمة المسلمة كلها، يخطئ من يستبدل بها غيرها، وأن واجب الأمة المسلمة وعلمائها ودعاتها وقادتها أن يبذلوا غاية جهدهم في هذا السبيل، فإنها عهد وأمانة.
ولقد تعهَّد الله سبحانه وتعالى بحفظ الذكر الذي أنزله على رسوله ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم وهذا يعني أنه تعهَّد بحفظ دينه و قرآنه وسنّة نبيه صلى الله عليه وسلم، واللغة العربية التي هي وعاء الذكر كله وبيانه ومادته :
( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون )
[ الحجر : 9 ]
ولكنه ابتلاء من الله سبحانه وتعالى ليمحّص عباده المؤمنين، وليرى من يوفي بالعهد والأمانة، ومن ينهض للغة دينه و قرآنه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ومن يتوانى أو يدبر، ويمضي الابتلاء على سنن لله ماضية، وحكمة بالغة وقدر وغالب.
ولن يستطيع الناس أبداً أن يأتوا بمثل هذا القرآن، ويمضي هذا التحدّي مع الدهر :
( قل لئن اجتمعت الإنس والجنّ على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً )
[ الإسراء : 88 ]
وكذلك :
( أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين )
[ هود : 13 ]
وكذلك :
( وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين )
[ البقرة : 23 ]
وأمام هذا التحدّي :
( فإن لَم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو فهل أنتم مسلمون )
[ هود : 14 ]
فليمض المسلمون إلى نصرة ربهم ونصرة دينهم واللغة التي اختارها الله لدينه، فليمضوا وهم مطمئنون إلى أن الله ناصر دينه ولغة دينه، وأنهم مبتلون. فليسعوا إلى النجاة في الدنيا والفوز في الآخرة. والحمد لله رب العالمين.
(1) أحمد زكي صفوت : جمهرة خطب العرب : ( ج : 1 )، ( ص : 154 ).
(2) المرجع السابق : ( ص : 157 ).
(3) صحيح الجامع الصغير وزيادته : 1/350/1069.
(4) الفتح الرباني : 22/41/732.(/4)
لماذا المنهج؟ (1 ـ 2)
أ. د. عماد الدين خليل 20/1/1427
19/02/2006
إن مسألة اعتماد منهج عمل دقيق، أو برنامج مرسوم، يجب أن تأخذ مكانة متقدمة في سلم الأولويات، ليس فقط بالنسبة للنشاط التاريخي، ولكن بالنسبة للفكر الإسلامي المعاصر عموماً من أجل أن يمضي إلى أهدافه بأكبر قدر من التركيز، والاقتصاد في الجهد، وتجاوز التكرار، وتغطية المواضيع الملّحة وفق تسلسلها في الأهمية.
منهج، أو برنامج عمل، واضح الأبعاد، محدّد المفردات، بيّن الملامح، مثبّت الأهداف، من أجل حماية أنشطتنا الثقافية كافة من الارتجال والفوضى، وربما التناقض والارتطام.
إن القوم في عالم الغرب يغزوننا اليوم بأكثر من سلاح، وإن (المنهج) الذي يستهدي بمقولاته ونظمه معظم المفكرين، أفراداً ومؤسسات، لهو واحد من أشد هذه الأسلحة مضاءً في تمكينهم من التفوق علينا وفرض فكرهم في ساحاتنا الثقافية كافة.
هم منهجيون في كثير من أفعالهم وممارساتهم، بغض النظر عن مدى سلامة هذا المنهج وصدق مفرداته وصواب أهدافه التي يتوخاها.. منهجيون وهم يتحاورون ويتناقشون .. منهجيون وهم يكتبون ويبحثون ويؤلفون .. منهجيون وهم يدرسون ويقرؤون ويطالعون .. إن المنهج بالنسبة للمثقف الغربي يعني ضرورة من الضرورات الفكرية، بل بداهة من البداهات، وبدونه لن تكون الحركة الفكرية بأكثر من فوضى لا يضبطها نظام، وتخبّط لا يستهدي بهدف، ومسيرة عمياء لا تملك معالم الطريق ..
ونحن، إلاّ قلّة من المفكرين، على النقيض من هذا في الكثير من أفعالنا وممارساتنا.. بلا منهج في حوارنا ومناقشاتنا.. بلا منهج في كتاباتنا وأبحاثنا وتآليفنا.. بلا منهج في دراساتنا وقراءاتنا ومطالعاتنا .. وأنشطتنا الثقافية بعامة ..
لكأن الرؤية المنهجية التي منحنا إياها كتاب الله وسنة رسوله عليه السلام( ) قد غابت عنا، وأفلتت مقولاتها من بين أيدينا، وتلقفها القوم كما تلقفوا الكثير من معطياتنا الثقافية فذكروها ونسيناها، والتزموا بها وتركناها، وتحققوا بحضورها الدائم، وغبنا نحن عنها، أو غابت هي عنا، فكان هذا الذي كان ..
ولكأن الخطط الخمسية التي قبسناها عنهم في أنشطتنا الاقتصادية هي الخطط الوحيدة التي يمكن أن تُؤخذ عنهم من أجل وضع مناهج عمل لممارساتنا الاقتصادية تتضمن المفردات، ووحدات الزمن المطلوبة، والأهداف، في سياق إستراتيجية بعيدة المدى، قد تتحقق بعد عشر من الخطط الخمسية أو عشرين ..
أليس ثمة مجالات أخرى، غير الاقتصاد، أو مع الاقتصاد، يجب أن يُبرمج لها، وأن تُوضع لها الخطط والمناهج الزمنية المحددة، الصارمة، لكي تصبّ ـ على هدى وبينة ـ في بحر الأهداف الإستراتيجية لمسارنا الثقافي؟
إن اعتماد المنهج في أنشطتنا الفكرية، ليس اقتباساً عن حضارة الغرب بقدر ما هو رجوع إلى الجذور والتقاليد الأصيلة التي صنعناها نحن على هدى كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، ومعطيات أتباع هذا الدين زمن تألقهم الحضاري..
وإن حيثيات الصراع الراهن مع الحضارة الغربية تتطلب ـ فيما تتطلب ـ أن يكون لنا منهج عمل فكري يمكننا- من خلال النظم الصارمة التي يلزمنا بها- من الأخذ بتلابيب القدرة على الفاعلية والتحقق بالريادة والكشف والابتكار والإضافة والإغناء..
أن نكون ـ باختصار ـ أنداداً للفكر الغربي، قديرين على أن ندخل معه في حوارٍ
يومي.. وأن نتفوق عليه ..
إن العقيدة التي نملكها، والمضامين الثقافية التي تخلّقت عبر تاريخنا الطويل في مناخ هذه العقيدة، تعلو، بمسافات لا يمكن قياسها، على عقائدهم وفلسفاتهم ورؤاهم ومضامينهم الثقافية.. هم يقولون هذا مراراً ويؤكدونه تكراراً، قبل أن نقوله نحن ونؤكده، وبعده ..
والذي يعوزنا هو المنهج.. هو طرائق العمل الإستراتيجي المبرمج المنظم المرسوم.. وحينذاك فقط يمكن أن نطمح، ليس فقط إلى تأصيل ذاتنا الثقافية وتحصينها ضد عوامل التفكك والغياب والدمار.. بل على التفوق على ثقافة الخصم واحتوائها، باطراح دمها الأزرق الفاسد والتمثل بدمها القاني النظيف ..
إن المنهج يعني-في نهاية التحلي- حشد الطاقات وتجميعها والتنسيق بين معطياتها لكي تصب في الهدف الواحد، فتكون أغنى فاعلية وأكثر قدرة على التجدد والإبداع والعطاء..
وغن غياب المنهج يعني ـ بالضرورة ـ بعثرة الطاقات وتفتيتها وإحداث التصادم بينها .. فلا تكون ـ بعد ـ جديرة بالإضافة والفاعلية والعطاء ..
لقد أكد القرآن الكريم والرسول عليه السلام هذا المعنى أكثر من مرة.. وحذرنا نبينا -صلى الله عليه وسلم- من أن الذئب لا يأكل من الغنم إلا الشياه القاصية..
إن العدسة (المفرقة) تبعثر حزمة الضوء فتفقد قدرتها على الإحراق، أما العدسة
(اللامّة) فتعرف كيف تجمع الخيوط لكي تمضي بها إلى البؤرة التي تحرق وتضيء ..
إن (المنهج) هو هذه العدسة اللامّة.. وبدونه لن يكون بمقدور آلاف الكتب التي تطرحها مطابعنا سنة بعد سنة أن تمنحنا (النار) التي نحن بأمس الحاجة إليها في صراعنا الراهن..(/1)
تحرق الضلالات والخرافات والأوهام .. وتضيء الطريق للمدلجين..
________________________________________
( ) أنظر الفصل الأول من كتاب (حول إعادة تشكيل العقل المسلم) للمؤلف للاطلاع على خصائص التصور المنهجي الذي طرحه القرآن الكريم.
لماذا المنهج؟ (2 ـ 2)
أ. د. عماد الدين خليل 5/2/1427
05/03/2006
هذا على مستوى الفكر الإسلامي عامة.. أما على مستوى الفكر التاريخي والكتابة
في حقل التاريخ الإسلامي، فإن المنهج يغدو ضربة لازب .. إذا ما أردنا بحق أن نستعيد معطيات هذا التاريخ ونجعلها أكثر قدرة على التكشف والوضوح، وأشد قرباً من البيئة التي تخلّقت فيها، وأعمق انسجاماً مع المناخ الذي تنفست فيه واستوت على سوقها.. ضربة لازب لأكثر من سبب:
أولاً: غياب الهدف وانعدام الرؤية للكثير من مؤلفاتنا التاريخية القديمة والحديثة.. أي على مستوى المصادر والمراجع على السواء، يقابل ذلك فوضى وارتجال وتخبط، كانت تعاني منها ـ ولا تزال ـ الكثير من هذه المؤلفات.
ثانياً: غياب الحسّ النقدي، أو عدم حضوره بشكل مؤكد، في معظم الأعمال التاريخية، على خلاف ما كان يحدث في ساحة المعارف الأخرى وبخاصة الحديث والمنطق والفلسفة .. إلى آخره.. يقابل ذلك استسلام عجيب وصل ببعض المؤرخين الكبار أنفسهم حدّ تقبل الكذب والخرافات والأضاليل والأوهام.
ثالثاً: طغيان النزعة (التجميعية) التي دفعت بعض المؤرخين القدماء وعدداً من
المؤرخين المحدثين إلى تحقيق نوع من التوسع الكمي الذي يُقبل، من أجل تحقيق تضخّمه المنشود، كل خبر أو رواية .. ويجيء ذلك على حساب نوعية الإنجاز التاريخي ومنهجيته وقدرته على التركيز والاختزال.
رابعاً: فقدان الأسلوب التركيبي الذي يعرف كيف يجمع الوقائع التاريخية ذات النسغ الواحد والمسار المتوحد، في نسيج تركيبي يمكن المؤرخ من إضاءة ملامحه وتعميق خطوطها وقسماتها، ومنحها المعنى والمغزى المستمد من خامة النسيج نفسه .. بدلاً من ذلك التداخل المهوّش بين الوقائع، والتقاطع بين أنماطها المتباينة، حيث يصعب على المرء أن يتبين الخطوط المميزة لهذا الحشد من التجارب التاريخية أو ذاك.
خامساً: تعرض المعطيات التاريخية لسيلٍ لا يرحم من التأثيرات (الذاتية) على حساب
(الموضوع)، أو من خلال الموضوع الذي اتخذ مركباً لعبور الأهواء والظنون والمصالح والتحزبات .. الأمر الذي غيّر من مكونات الواقعة التاريخية من جهة، وأضاف إليها ـ من جهة أخرى ـ الكثير الكثير مما لم يكن من صلب تكوينها.. فكان ذلك التزوير والتزييف الذي غطى على مجرى الرواية التاريخية في كثير من مساحاته.
سادساً: غياب المؤسسات التي تأخذ على عاتقها مهمة تعضيد التأليف التاريخي وتوجيهه ووضع أولوياته، على خلاف ما كان يحدث في بعض حقول المعارف الإنسانية الأخرى، وبخاصة الفلسفة والجغرافيا.
سابعاً: انطفاء آخر شمعات الفكر التاريخي في قرون الظلام الحضاري الذي لّف عالم الإسلام قبيل انبثاق الفجر الجديد.. وظهور ذلك الانقطاع المحزن في حقل الإنجاز التاريخي، وتلك الهوة العميقة بين معطيات الأجداد والأحفاد، والتي لعبت دوراً سلبياً ولا ريب في تمكين الفكر التاريخي من مواصلة مسيرة النضج والاكتمال.
ثامناً: السبق الزمني الذي مارسه الغربيون في أعقاب هذا الانقطاع، فأخذوا بذلك زمام المبادرة في التعامل مع تاريخنا الإسلامي كشفاً وإضاءة وتحقيقاً ونقداً وتركيباً .. ولكن بمناهجهم وأساليبهم وطرائقهم التي ألحقت بمعطياتنا التاريخية كسوراً وشروخاً وتناقضات ليس من السهولة إزالة آثارها المدمرة، دون اعتماد منهج أصيل قدير على حمل الأمانة والقيام بالمهمة الصعبة.
تاسعاً: غياب الرؤية الإسلامية الأصيلة لدى معظم أبناء الجيل الأول والثاني من المؤرخين المسلمين المحدثين أنفسهم .. فلم يكونوا في حقيقة الأمر سوى امتداد للمدرسة الاستشراقية الغربية، ولم يفعلوا سوى أن أضافوا إلى الكسور التي أحدثتها في مسار التاريخ الإسلامي كسوراً .. والرؤية الإسلامية هي المفتاح الذي لابدّ منه لدخول ساحة التاريخ الإسلامي، وبدونه لن يتحقق دخول مشروع.
عاشراً: ظهور المدرسة المادية التاريخية وانتشارها وكسبها الكثير من الأتباع والمعجبين، ومحاولة إقحام مقولاتها الصارمة، الفجة، في مجرى تاريخنا الإسلامي نقداً وتركيباً ..
وثمة أسباب أخرى كثيرة، أقل أهمية، تجعل من حضور منهج للفكر والنشاط التاريخيين ضرورة ملحة ..
والآن فإن محاولات عديدة، لحسن الحظ، شهدتها العقود الأخيرة من هذا القرن، استهدفت التحقق بالمنهجية المنشودة.. على مستوى الأفراد والمؤسسات، وهذا يدل على تزايد الوعي التاريخي الذي كان يعاني في الفترة السابقة من التسطح والضحالة والغياب.
إلا أن معظم تلك المحاولات لم تأت بطائل، فما أن مضت خطوات حتى توقفت(/2)
وأعلنت، بلسان الحال أو بلسان المقال، عجزها عن مواصلة الطريق: مؤسسات حكومية، وقيادات فكرية، وجامعات عربية، ومنظمات ثقافية، وتجمعات تخصصية، وأفراد متفرقون هنا وهناك .. كلهم دعوا إلى (المنهج) .. وإلى ما أسموه إعادة كتابة التاريخ .. وقاموا ببعض المحاولات الأولية وطرحوا بعض الإضاءات.. وليس ثمة أكثر من هذا.. ومضت الدعوة إلى اعتماد المنهج وإلى إعادة كتابة التاريخ تصدر من هنا أو هناك، ملحة في الطلب، مؤكدة القول .. وهي دعوة تؤكد ـ مهما كانت النيات التي تختبئ وراءها ـ حضور الوعي التاريخي، وتكشفه وانتشاره .. وتعزّز الوجهة العلمية القائلة بأن اكتشاف قدرات أمة من الأمم وتمكينها من (المعاصرة) و (الحركة) صوب المستقبل، والاستجابة للتحديات، والتفوق عليها، لا يتحقق إلا بالرجوع إلى التاريخ وكشف النقاب عن معطياته وملامحه ومؤشراته .. الأمر الذي لم يكن، في النصف الأول من القرن الماضي، على هذه الدرجة من الوضوح والتأكيد، يوم كان يُرى في الالتفات صوب الماضي، على أثر الصدمة الحضارية الغربية، نوع من الانتحار الزمني في عصر سباق الحضارات، وكان يُرى فيه نزوع رجعي ، وغياب عن العصر ، وعرقلة للتوجه المستقبلي..
ويوم أن كانت ذيول المدرسة المادية التاريخية تطرح بفجاجة وسخف مقولتها الخاطئة بضرورة تجاوز التوجه التاريخي، وقطع الجذور، وإلغاء مقولات المسيرة، والانطلاق من نقطة الصفر الزمنية صوب المستقبل!!
اليوم، غابت هذه الرؤى التي ينفيها العلم بحقائق الأشياء .. واليوم اختنقت تلك الأصوات التي لم تكن تملك سبباً للبقاء والاستمرار ..
واليوم تحل محل هذا وذاك تلك الدعوات الملحة التي تصدر ـ كما رأينا ـ عن العديد من مراكز الثقل والتوجيه والفاعلية: أكاديمياً وعقائدياً وسياسياً.. الأمر الذي يؤكد حضور
(التاريخ) في نسيج وجودنا الحاضر وحتمية اعتماد مكوناته في لحمة هذا النسيج وسداه، حيث لا يكف النول عن الذهاب والإياب ..
ترى ـ يتساءل المرء ـ: لماذا لم تستطع أية محاولة من هذه المحاولات أن تواصل الطريق وأن تحقق هدفها المنشود؟
إن الدعوة إلى التحقق بالمنهج وإلى إعادة كتابة التاريخ، أو ـ بعبارة أدق ـ إعادة عرضه وتحليله، ليست طريقاً مسدوداً.. فلماذا كان هذا الذي كان؟
ثمة أسباب عديدة وقفت ـ ولا تزال ـ في طريق هذا الهدف، ونحن إن عرفناها جيداً فكأننا نكون قد عرفنا مواطن الداء فسهل علينا انتقاء الدواء ..
فمن هذه الأسباب، على سبيل المثال لا الحصر:
أولاً: عدم وضوح الرؤية بالنسبة لطبيعة العمل. فمن قائل بضرورة إعادة كتابة التاريخ الإسلامي كله من أقصاه إلى أقصاه، واعتماد بنية جديدة لوقائعه وصيرورته ترفض بالكلية ما قدمه مؤرخنا القديم، ومن قائل بضرورة اعتماد صيغة انتقائية تأخذ بهذا وترفض ذاك، ومن قائل بضرورة إعادة تفسير وتحليل معطيات هذا التاريخ بدلاً من إعادة تركيبه.. وآخرون لا يعرفون على وجه الدقة واليقين ما الذي يقصدونه بالعمل المنشود؛ لأن الضباب يلّف تصورهم فلا يتيح لهم الفرصة لاستبانة ملامح الطريق ..
ثانياً: ومما يرتبط بهذا، غياب المنهج وضعف القدرة على التخطيط.. فقد تتضح الرؤية أحياناً، وتتحدد طبيعة العمل، وتتكشف أبعاده .. لكن أسلوب العمل وطرائقه.. المنهج ـ بعبارة أخرى ـ غير متحقق.. ونحن قوم ـ ولنقلها بصراحة ـ نعاني ضعفاً في قدراتنا التخطيطية، ليس هنا مجال استعراض أسبابه، ولشد ما ينعكس هذا الضعف على عدم طرح برنامج عمل محدد الخطوات، مكتمل المفردات، مثبت الأهداف والغايات.
ثالثاً: ونحن قوم نعاني ـ كذلك ـ من فقدان الروح الجماعية التي علمنا إياها هذا الدين وربانا عليها وألزمنا بها، ولكنا تخلينا عن الكثير من مقولاتها ومواضعاتها، وتجمدت تقاليدنا على صيغ فردية قد تبلغ حد الأثرة والأنانية في كثير من الأحيان، فتمحو القدرة على التوجه الجماعي الذي تتكامل فيه الطاقات، وتتضافر القدرات، ويتدفق العطاء لكي يصب في الهدف الواحد ..
والمشاريع الكبيرة في ميادين العقيدة أو الفكر أو العمران والاقتصاد، لهي بأمس الحاجة إلى هذه الروح الجماعية التي يعرف الغربيون كيف يعتمدون عليها لتحقيق الأعاجيب والمعجزات في ميادين الإنجاز .. وإعادة عرض التاريخ الإسلامي، أو تحليله، عمل كبير .. ويوم نتحقق ثانية بروح الفريق، كما أراد لنا الإسلام أن نكون، يوم نتجاوز الفرديات والحساسيات والأنانيات صوب ما هو أكبر وأشمل .. حينذاك نستطيع أن نضع خطواتنا على الطريق ..(/3)
رابعاً: غياب التوحد في الرؤية .. فليس بمقدور فريق من المؤرخين يتجه بعضهم يميناً ويمضي بعضهم الآخر شمالاً، أن يحققوا الهدف المنشود.. وكيف سيكون العمل، الذي يفترض أن يتوحد نسيجه، كيف سيكون إذا كان بعض النسّاجين ليبرالياً، وكان بعضهم الآخر مادياً وكان بعضهم الثالث إثنّياً، وكان بعضهم الرابع إقليمياً، وكان بعضهم الخامس مصلحياً؟ كيف يتحقق مشروع يُراد منه تقديم تحليل متوحّد لمجرى التاريخ الإسلامي، إذا كانت بعض مساحاته منسوجة بالقطن وأخرى بالصوف وثالثة بالديولين ورابعة بالحرير؟
إنه لأمر مستحيل .. بل هو مدعاة للسخرية يقيناً.
خامساً: وثمة ما يُراد أحياناً بمشروع كهذا: احتواؤه عقيدياً وتوظيفه من أجل هذه الأيديولوجية أو تلك .. وهذا نقيض الموضوعية .. والموضوعية شرط حاسم من شروط البحث العلمي الجاد .. ثم إن محاولات كهذه قد تملك المال والقدرة، ولكنها لا تملك النفس الطويل الذي يمكنها من المضي في الطريق حتى نهايته .. ذلك أنها رهينة بظروف مرحلية ومتغيرات زمنية.. وسرعان ما تتوقف بتحوّل صيغ معادلات الظروف المرحلية والمتغيرات الزمنية.
سادساً: وقد يرتبط بهذا انعدام النية الصادقة وتحويل الدعوة إلى عمل دعائي صرف .. والأعمال بالنيات ـ كما يقول رسولنا عليه السلام ـ ولكل امرى ما نوى .. وإذا طال الطريق بين النية والفعل، بسبب ضخامة العمل وانفساح المدى، فلا تُؤتمن العواقب، وربما يُكتفى بالمظاهر السريعة الخادعة بدلاً من الجوهر المخبوء، صعب المنال..
سابعاً: وقد تلعب الحواجز الجغرافية والسياسية بين مؤرخي عالم الإسلام، والتي يتزايد بمرور الأيام، دورها في إعاقة المهمة وعرقلة مضيّها إلى الهدف المرتجى .. فكلما تنادى حشد من المؤرخين.. هنا .. وهناك .. وهنالك، لتنفيذ هذا المطلب الملح، وجدوا
في طريقهم من الأسلاك الشائكة والعقابيل، ما يجعل تحركهم صعباً قاسياً ومهمتهم مستحيلة، فيكفون عن الإدلاج فيما لا بادرة ضوء فيه، ويعودون من حيث جاؤوا.
ثامناً: يرتبط بهذا ـ أحياناً ـ نقص ملحوظ في الاختصاصات وعدم تكاملها أحياناً .. فهي
قد تتزايد في جانب ما وتشح في جانب آخر.. تبرز وتطغى في هذه المرحلة
وتنزوي وتذوى في مرحلة أخرى.. والأعمال الجماعية، ما لم تتحقق بالتوازن
والتكامل والتغطية لكافة الجوانب والمساحات، فلن يُرجى تنفيذها.. وإعادة كتابة التاريخ الإسلامي، أو عرضه وتحليله مشروع كبير، فما لم تتبنه وتدعمه مؤسسة قديرة على لمّ الطاقات وتوفير الاختصاصات المتكاملة وتوازنها .. باء بالفشل المحتوم .. ولهذا كان هذا الإخفاق المحتوم مصير عدد من المحاولات التي لا تملك دعماً يمكنها من التكامل .. وسيكون ..
تاسعاً: وما يُقال عن هذا يمكن أن يُقال عن قلة الامكانات المادية والفنية لكل مشروع يدّعي القدرة على العمل بعيداً عن الدعم والإسناد .. والإمكانات المادية والفنية ضرورة من ضرورات المشاريع الفكرية الكبيرة، وإلا كنا كمن يرجو من ماكنة ضخّ لا تتجاوز العشرين حصاناً أن تسقي مزرعة تمتد مسافاتها إلى مئات الأفدنة وألوفها ..
عاشراً: وثمة أخيراً ـ وليس آخراً ـ ذلك الإحساس المتزايد بالإحباط، والذي يتراكم إثر إخفاق كل محاولة، وإخفاق كل مشروع بعد أن يمضي خطوات فحسب في الطريق .. وهو إحساس ذو تأثير سيئ غاية السوء، يوحي فيما يوحي بخطأ الفكرة واستحالة تحققها، ويكبّل الإرادة المسلمة من الداخل بالغلّ الذي يشلّها عن التهيؤ، وشحن الطاقة، والانطلاق لتنفيذ الأعمال الكبيرة.
وما لم نتداع لإنقاذ الدعوة من مزيد من الورطات والمطّبات والإخفاق، فإن الإحساس بالاحباط سينتزع المبادرة من أيدينا وسيسلمنا إلى الشلل المحتوم.
وبالتحقق بالبدائل في مقابل هذا كله يمكن أن نضع خطواتنا على الطريق ونمضي بجدّ إلى هدفنا المنشود.
أن تكون رؤيتنا لطبيعة العمل على قدر كبير من النقاء والتكشف والوضوح، وأن نملك منهجاً سليماً للعمل، وقدرات ذكية على البرمجة والتخطيط .. وأن تنمو في سلوكنا وتتغلغل في دمنا وشراييننا روح الفريق كما أراد لنا ديننا أن نكون، هنالك حيث تذوب المصالح الخاصة والتوجهات الفردية والحساسيات الذاتية والأنانيات، وحيث تكون روح الجماعة وحدها هي المؤشر والدليل.
كذلك يتوجب أن تتوحد رؤيتنا، وأن يمسك بها قاسم عقديّ مشترك يمنعها من التفتت والتناقض والتصادم والارتطام، يمنعها من أن يضرب بعضها بعضاً، وينفي بعضها بعضاً.. منطلق واحد وتوجه واحد ونسيج واحد في العطاء تركيباً وتحليلاً ..
أن يمسك العمل بتلابيب الموضوعية من بدء المسيرة حتى منتهاها.. إن الموضوعية هنا تعني (العلمية) وبدونها لن تتأتى النتائج المرجوة منبثقة عن رحم التاريخ نفسه، كما تخلقت وقائعها في الزمن والمكان .. لا كما يُراد لها أن تكون.(/4)
والنية المخلصة الصادقة، من وراء العمل، أمر ضروري، بل هي ضربة لازب إذا ما أريد للمحاولة أن تكون شجرة مباركة أصلها ثابت وفرعها في السماء، تؤتي أكلها كل حين. وإلا فليس ثمة إلا الشجرة الخبيثة التي ما لها من قرار، تعصف بها ذات اليمين وذات الشمال رياح التشريق والتغريب، وتتقاذفها عواصف الأهواء والنزعات والميول.
أما زوال الحواجز الجغرافية والسياسية فهو أمر يبدو للوهلة الأولى مستحيلاً، ولكننا إذا ما تذكرنا أننا في عصر السرعة، والاختزال، والاتصالات الخاطفة، والآلات الحاسبة، والمواصلات السريعة، والتيسيرات المدنية التي تتزايد طرداً بمرور الأيام.. وأننا في عصر الإنترنت والتواصل الثقافي والإعلامي اليومي، دقيقة بدقيقة وساعة بساعة، أدركنا أن المعادلة قد لا تكون في غير صالحنا، وأن هنالك من القدرات والإمكانات ما يمكن توظيفه لضرب الحواجز وقطع الأسلاك الشائكة وإزالة المتاريس .. هنالك حيث يمكن أن يلتقي بعضنا ببعض، وأن نعمل سوية كفريق واحد يتداعى لاعبوه المتمرسون من كل مكان من أجل تحقيق الفوز بأي ثمن كان!!
ومسألة تكامل الاختصاصات وتحقيق التغطية المتوازنة الشاملة لكافة مساحات المشروع، أمر ليس صعب المنال، ونحن في عصر (الأكاديمية) إذ يزداد الخريجون المتخصصون، سنة بعد سنة، ويوماً بعد يوم، بمعدل متواليات هندسية وليست حسابية على أية حال.. صحيح أن هذا التدفق الأكاديمي قد يطرح كميات لا تتضمن قدراً طيباً من التميز النوعي، إلا أنها ـ على أية حال ـ فرصة طيبة لتزايد العناصر الممتازة القديرة على الفعل الصادق والتنفيذ الذكي المرسوم.
أما قلة الإمكانات المادية والفنية فهي -ولا ريب- أقل الموانع شأناً؛ لأن إيجاد الشروط المادية الفنية وتوظيفها لخدمة المشروع، أمر سهل المنال يسير التحقيق في بلاد تملك الكثير وتقدر على استيراد الكثير ..
ويوم أن تتحقق هذه البدائل الإيجابية، وتوضع اللمسات الأولى، وتنطلق الخطوات على الطريق مغذّة السير صوب الهدف.. يومها لن يكون ثمة إحساس بالإحباط يشل الفاعلية ويكبل الخطا عن الانطلاق .. على العكس فإن الإنجاز الذي ستنفذه المحاولة سيحقق نوعاً من التسارع في القدرة على الفعل .. هنالك حيث تُختصر المسافات، وتُختزل حيثيات الزمان والمكان..(/5)
لماذا تراجع الغرب عن عدائه للختان ؟
الدكتور حسان شمسي باشا
حتى سنوات قليلة فقط،كان الناس في أمريكا ينظرون إلى الختان على أنه شعيرة دينية يمارسها اليهود هناك والمسلمون.
وكان الأطباء هناك يناهضون فكرة إجراء الختان على الوليدين بشكل روتيني . ولكن إرادة الله تعالى قضت أن تتبدى لهم الفوائد العلمية لخصلة من خصال الفطرة التي قال عنها الرسول عليه الصلاة والسلام : " الفطرة خمس : الختان والاستحداد وقص الشارب وتقليم الأظافر ونتف الإبط " .
وقد أكدت مقالة نشرت في مجلة : Postgraduate Medicine أن مليون طفل أمريكي يختن الآن كل عام في أمريكا . وأكدت دراسات أخرى أن 60 – 80 % من الوليدين في أمريكا يختنون بشكل روتيني . لماذا تراجع أعداء الختان عن موقفهم ؟ وكيف تجلت لهم الحكمة من وراء الختان ؟ نشرت في السنوات القليلة الماضية عشرات الأبحاث والمقالات العلمية التي أكدت فوائد الختان في الوقاية من التهاب المجاري البولية عند الأطفال ، ومن المشاكل الطبية في القضيب .
وكان هناك عدد من الأطباء الذين يعارضون فكرة إجراء الختان بشكل روتيني عند الوليدين . وكان من أشهر هؤلاء البروفسور ويزويل – رئيس قسم أمراض الوليدين في المستشفى العسكري في واشنطن - . وقد كتب هذا البروفيسور مقالا قال فيه : " لقد كنت من أشد الناس عداء للختان . وقد شاركت حينئذ في الجهود التي بذلها الأطباء آنذاك للإقلال من نسبة الختان . ولكن الدراسات العلمية التي ظهرت في الثمانينات أظهرت بيقين ازديادا في نسبة الالتهابات البولية عند الأطفال غير المختونين . وما ينطوي عليه من خطر حدوث التهاب مزمن في الكلى وفشل كلوي في المستقبل .
وبعد إجراء المزيد من الأبحاث ، وإجراء تمحيص دقيق لكل الدراسات العلمية التي أجريت في هذا المجال ، وصلت إلى نتيجة مخالفة تماما ، وأصبحت من أشد أنصار الختان . وأيقنت أن الختان ينبغي أن يصبح أمرا روتينيا عند كل مولود . ولم يكن البروفيسور ويزويل الوحيد الذي نادى بضرورة إجراء الختان ، بل إن الأكاديمية الأمريكية لطب الأطفال قد تراجعت تماما عن توصياتها القديمة ، وأصدت توصيات حديثة أعلنت فيها بوضوح ضرورة إجراء الختان بشكل روتيني عند كل مولود .
الختان يوفر على الدولة ملايين الدولارات :
وحتى من الناحية الاقتصادية التي تهم أصحاب المال والتخطيط ، فإن الختان عملية توفر على الدولة مبالغ طائلة . ويشرح ذلك البروفيسور ويزويل فيقول : " إذا افترضنا أن عملية الختان تكلف 1000 دولا تقريبا ، فإن الكلفة السنوية لختان جميع الأطفال الذين يولدون في أمريكا ستبلغ ما يقرب من 180 مليون دولا . فما هي الكلفة السنوية لهؤلاء لو تركناهم دون ختان ؟
إن الحقائق تقول أن 10 – 15 % من الأطفال الذكور غير المختونين سوف يحتاجون إجراء الختان في سن متقدم من العمر بسبب حدوث تضيق في القلفة أو التهاب متكرر في الحشفة ، وأن إجراء الختان عند الأطفال الكبار عملية مكلفة تصل إلى 2000 – 5000 دولا للعملية الواحدة .
فلو تركنا 1.8 مليون طفل يولدون سنويا في أمريكا دون ختان ، ولنفرض أن 10 % منهم فقط سوف يحتاجون للختان في المستقبل ، فإن كلفة ذلك سوف تصل إلى 360 – 900 مليون دولار سنويا ( وهي أضعاف ما هي عليه لو ختن كل هؤلاء بعد الولادة ) .
هكذا يحسبون .. ويقدرون .. وتأتي حساباتهم موافقة للفطرة السليمة .
ولكن العناية الإلهية قضت بألا تنتظر أجيال وأجيال من المسلمين ألفا وأربع مئة عام حتى تكتشف تلك الحقائق العلمية في الغرب ، ثم نتبعهم فيما يفعلون !!
هل تغني العناية الصحية بنظافة الأعضاء الجنسية عن الختان ؟ يقول البروفيسور ويزويل : " لقد ادعى البعض أن العناية الصحية بنظافة الأعضاء الجنسية يعطي وقاية مماثلة لتلك التي يمنحها الختان ، ولكن هذا مجرد افتراض ، وحتى اليوم لا توجد أية دراسة علمية تؤيد هذا الافتراض . ولا يوجد أي دليل علمي يشير إلى أن النظافة الجيدة في الأعضاء التناسلية يمكن لها بحال من الأحوال أن تمنع الاختلاطات التي تحدث عند غير المختونين " .
وقد أكد هذا القول الدكتور شوين الذي كتب مقالا رئيسا في إحدى أشهر المجلات الطبية في العالم N.E.T.M. عام 1990 جاء فيه : " أن الحفاظ على نظافة جيدة في المناطق التناسلية أمر عسير ، ليس فقط في المناطق المختلفة من العالم ، بل حتى في دولة كبرى ومتحضرة كالولايات المتحدة ، وكذلك الحال في إنجلترا ، فقد أكدت دراسة أجريت على أطفال المدارس الإنجليز غير المختونين أن العناية بنظافة الأعضاء التناسلية سيئة عند 70 % من هؤلاء الأطفال .
هكذا يقول خبراؤهم في الغرب .. ولكن الله تعالى جعل لتلك المشكلة علاجا منذ القدم ،فكان إبراهيم عليه السلام أول من اختتن تطبيقا للفطرة الحنيفية الخالصة . قالت تعالى :
" ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما "(/1)
وقد جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
" اختتن إبراهيم وهو ابن ثمانين سنة بالقدوم "
الختان وقاية من سرطان القضيب :
يقول الدكتور روبسون في مقال أن هناك أكثر من 60 ألف شخص أصيب بسرطان القضيب في أمريكا منذ عام 1930 . ومن المدهش حقا أن عشرة أشخاص فقط من هؤلاء كانوا مختونين . واليهود لا يصابون عادة بسرطان القضيب وهو يختنون أطفالهم في اليوم الثامن من العمر .
ويؤكد الدكتور شوين فائدة الختان في الوقاية من سرطان القضيب ، فيقول : " إن الختان الروتيني للوليدين يقضي تقريبا بشكل تام على احتمال حدوث سرطان في القضيب " .
ويقول الدكتور كوتشين أن نسبة حدوث سرطان القضيب عند المختونين في أمريكا هي صفر تقريبا . وأنه لو كان رجال أمريكا غير مختونين ، لأصيب أكثر من ثلاثة آلاف شخص سنويا بهذا السرطان المخيف .
هل يقي الختان من الأمراض الجنسية :
ليس هناك أدنى شك في أن الأمراض الجنسية أكثر شيوعا عند غير المختونين . فقد ذكر الدكتور فنك – الذي ألف كتابا عن الختان وطبع عام 1988 في أمريكا – أن هناك أكثر من 60 دراسة علمية أجمعت على أن الأمراض الجنسية تزداد حدوثا عند غير المختونين .
وقد قام الدكتور باركر بإجراء دراسة على 1350 مريضا مصابا بأمراض جنسية مختلفة ، فوجد ازديادا واضحا في معدل حدوث ثلاثة أمراض جنسية شائعة عند غير المختونين . وهذه الأمراض هي :
1. الهربس التناسلي Genital Herpes
2. السيلان Gonorrhea
3. الزهري Syphilis
وقد أكدت الدراسات العلمية الحديثة انخفاض حدوث مرض الإيدز عند المختونين .
ولكن ينبغي ألا يخطر ببال أحد أنه إن كان مختونا فهو في مأمن من تلك الأمراض ، فهذه الأمراض تحدث عند المختونين وغير المختونين ممن يرتكبون فاحشة الزنا أو اللواط ، ولكن نسبة حدوثها عند المختونين أقل .
الختان وقاية من التهاب المجاري البولية عند الأطفال :
أثبتت دراسة أجريت على حوالي نصف مليون طفل في أمريكا أن نسبة حدوث التهاب المجاري البولية عند الأطفال غير المختونين بلغت عشرة أضعاف ما هي عليه عند المختونين .
والتهاب المجاري البولية عند الوليدين قد لا يكون أمرا بسيطا ، فقد وجد الباحثون أن 36 % من الوليدين المصابين بالتهاب المجاري البولية قد أصيبوا في الوقت ذاته بتسمم من الدم ، كما حدثت حالات الفشل الكلوي والتهاب السحايا عند البعض . وقد يحدث تندب في الكلية عند 10 – 15 % من هؤلاء الوليدين .
وأكدت دراسة أخرى أن حدوث التهاب المجاري البولية عند الأطفال غير المختونين يبلغ 39 ضعف ما هو عليه عند المختونين .
وقد أكد الدكتور جينزبرغ أن جعل الختان أمرا روتينيا في أمريكا قد جعل منع حدوث 20.000 حالة من حالات التهاب الحويضة والكلية عند الأطفال سنويا .
وكانت نتائج هذه الدراسات هي العامل القوي الذي دفع أعداء الختان في أمريكا إلى العدول عن عدائهم ، والمطالبة بجعل الختان أمرا روتينيا عند كل طفل . وفي ذلك يقول البروفيسور ويزويل : " صوت أعضاء الجمعية الطبية في كاليفورنيا بالإجماع على أن ختان الوليد وسيلة صحية فعالة . لقد تراجعت عن عدائي الطويل للختان ، وصفقت مرحبا بقرار جمعية الأطباء في كاليفورنيا " .
وهكذا يصفقون مرحبين بإحدى خصال الفطرة ، بعد أن تأكدت لهم فوائدها العظيمة .
ورحم الله ابن القيم حين قال : " والفطرة فطرتان : فطرة تتعلق بالقلب ، وهي معرفة الله ومحبته وإيثاره على ما سواه. وفطرة عملية : هي هذه الخصال ، فالأولى تزكي الروح وتطهر القلب ، والثانية : تطهر البدن ، وكل منهما تمد الأخرى وتقويها ، وكان رأس فطرة البدن : الختان " .
من شاء التوسع فليراجع كتابنا " أسرار الختان تتجلى في الطب الحديث " ، وقد نشرته مكتبة السوادي بجدة .(/2)
لماذا تزوج زوجي؟
قالت إحدى الزوجات:
'هذا زوجي ... وقفتُ بجانبه منذ زواجنا وعشنا على الحلوة والمرة ... والسراء والضراء' حتى إذا صار غنيًا فاجأني بهذه المفاجأة .. زواجه الثاني ..فهل هذا جزاء صبري معه, وصدق الشاعر حين قال:
وعلمته رمي السهام فلما اشتد ساعده رماني
انتهى كلامها
عزيزتي الزوجة الشاكية:
هلا حكّمنا العقل والشرع في مسألة التعدد بعيدًا عن العواطف والدموع, إن الإسلام حين يشرع وحين يبيح أمرًا ينظر إلى مصلحة العموم يقدمها على مصلحة الذات، جلبًا للمصالح العامة, ودرءًا للمفاسد الهالكة ... وهو في هذه الحالة يتفق والمنطق السليم والعقل الحكيم.
اللهم لا اعتراض
عزيزتي القارئة:
لا يحق لأي مسلم أو مسلمة الاعتراض على مشروعية التعدد فذلك اعتراض على المشرع الخالق الواحد الأحد سبحانه وتعالى الذي قال: 'لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ' [الأنبياء:23].
فكما أن المريض لا يحق له الاعتراض على الصحيح، وكذلك الفقير لا يحق له الاعتراض على الغني والعقيم لا يحق له الاعتراض على من يُرزق بالولد .. وهكذا مما لا يعلم حكمته إلا الله فكذلك التعدد لا يعترض عليه ولا تشوه صورته أمام الناس لأن فيه حكمًا وفوائد منها ما نعلمه ومنها ما نجهله.
فالتعدد تقتضيه الحياة خاصة لفئة من الناس أعطاهم الله تعالى من المقومات في الدين والعقل والصحة والمال ما يمكنهم من القيام بهذا الواجب الشرعي بكماله وأداء حقوقه كاملة والرجال لهم النصيب الأوفر من هذه المقومات, ولذا جعل التعدد من نصيبهم دون النساء.
فلو تفهمنا تركيب الرجل النفسي والجسمي والعضوي وما كلفه الله به من العمل لأدركنا أن الرجل مُهيأ للتعدد دون المرأة, فلو جمع الرجل أكثر من امرأة بعقد شرعي لما حصل اختلاط في الأنساب بخلاف العكس.
والتركيب الجسمي للرجل أصح من المرأة في الغالب بحكم طبيعة عمله وخلوه من الحيض والنفاس والحمل والإرضاع عكس المرأة, والرجل في الغالب يتحكم بعقله وبالتالي يستطيع الجمع بين امرأتين وثلاث وأربع هذا بخلاف المرأة التي تتحكم فيها العاطفة لتحنو على الصغار وتصبر عليهم.
وما الحكمة من تعدد الزوجات؟
إن الحكمة من تعدد الزوجات ظاهرة جلية بالنسبة للرجل والمرأة والمجتمع, والإسلام دين شامل كامل يصلح لكل العصور والأمكنة فالذي قال: 'أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ' [الملك:14].
قال أيضًا سبحانه وتعالى: 'فانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُوا' [النساء: 3].
وهناك حالات تستدعي التعدد لا محالة مثل حالات المطلقة والأرملة والعانس والعقيم أضف إليها حالات خاصة بطبيعة الرجل الجسمية والجنسية, وظروف الحرب.
فقد تكون الزوجة عقيمًا وحب الأولاد غريزة في النفس الإنسانية, وفي هذه الحالة الزوج أمام أمرين: إما أن يطلق زوجته العقيم أو أن يتزوج عليها أخرى, ولا شك أن الزواج عليها أكرم بأخلاق الرجال ومروءتهم من تطليقها, وهذا الحل من مصلحة الزوجة وليس لإضرارها.
ومن المبررات الإنسانية التي عالجها نظام تعدد الزوجات كامرأة يتوفى عنها زوجها وما زالت شابة وعندها أطفال، فلو تزوج منها رجل متزوج لكان في ذلك إعفاف للمرأة وصون لكرامتها وكفالة هؤلاء اليتامى لقول النبي صلى الله عليه وسلم: 'أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا' وأشار بالسبابة والوسطى وفرّج بينهما شيئًا.
وفي حالة العنوسة يُعد نظام التعدد وحلاً واقعيًا وحكيمًا ووحيدًا كذلك لارتفاع نسبة العنوسة وعدد الفتيات المستعدات للزواج ولكنها لا تتزوج.
وقد تصل المرأة إلى سن اليأس ويظل الرجل قويًا تغلبه شهوته، وقد تكون طبيعة الرجل أنه يتمتع بقوة جنسية مما لا تكفي معه زوجه واحدة إما لكبرها أو لكثرة الأيام التي لا تصلح فيها للحياة الزوجية وهي أيام الحيض والنفاس والمرض وما أشبهها, وقد يصبر بعض الرجال على ذلك لكن ماذا لو لم يفعل؟
أضف إلى ذلك كثرة عدد النساء وقلة عدد الرجال لأنهم أكثر تعرضًا لأسباب الموت من الإناث بسب الحروب أو الحوادث وغير ذلك, وهو من علامات الساعة فلو اقتصر الرجل على واحدة لبقى عدد من النساء محرومًا من الزواج فيضطرون إلى ركوب الفاحشة.
والحل في هذه الحالة هو تعدد الزوجات وبدون ذلك تبقى المرأة عانسًا أو عرضة لضياعها وسقوطها, وبالتالي ضياع الفضيلة وتفشى الرذيلة والانحطاط الخلقي وضياع القيم الإنسانية.
وقال الإمام الشنقيطي رحمه الله في تفسيره أضواء البيان: 'والذي يبيحه الإسلام هو تعدد الزوجات لا تعدد العشيقات'.
إن إباحة تعدد الزوجات ينطوي على الخير وتحقيق المصالح ودفع المضار والمفاسد حتى وإن لم تعلم الحكمة تفصيلاً منه, وما أعظم الإسلام حين يضع لكل حالة دوائها, ويبصر عند التشريع كل الزوايا والدروب.
عزيزي القارئ:(/1)
لا تندفع وراء الناعقين, ولا تردد شعارات الآخرين, واقبل الشرع المنزل من لدن حكيم عليم .. فنحن نريد أصحاب العقول الواعية .. فكم من مطلقة أو عانس أو عقيم تلعن تلك الشعارات الزائفة التي حرمتها من العيش في كنف رجل متزوج بدلاً من معاناة الكبت أو الضياع(/2)
لماذا دعوة الإمام ولماذا الآن
21/11/1424
أ. د .ناصر بن سليمان العمر
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد: ما فتئ أهل البدع يطلون بقرنهم ملبسين في كل حين فترة وانقطاع من أهل العلم الذين ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، وإذا كان الذين عقدوا ألوية البدعة وأطلقوا عقال الفتنة مختلفين في الكتاب، مخالفين للكتاب، مجمعين على مفارقة الكتاب، يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم، يتكلمون بالمتشابه من الكلام ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم -نعوذ بالله من فتن المضلين- إذا كانوا كذلك فلا عجب أن ينسبوا لأهل العلم ما هم منه برءاء، ولا عجب كذلك من تعلقهم بحروف عجيبة من أجل نصرة الآراء والأهواء.
وكلامنا هنا عما بدأ يشيع ويذاع في الآونة الأخيرة عن دعوة الشيخ المجدد الإمام محمد بن عبدالوهاب –رحمه الله- ومن بعده أتباع دعوة التوحيد من الأئمة المرضيين، وليس ذلك غريباً أو جديداً، بل قد بدأ الكلام في الإمام ودعوته مع بزوغ فجر هذه الدعوة المباركة، وهذه سنة الله في الذين خلو من قبل، فما من صاحب دعوة حق إلاّ أوذي وعودي "وكذلك جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاء رَبُّك مَافَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ * وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْه وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُون"، وقال: "وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا"، وهكذا أتباع الأنبياء فأشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل كما ثبت عند البخاري وغيره.
ولكن الجديد هو عودة الطعن في هذه الدعوة من المعاصرين، بل من أناس تنكروا لفضلها فصوبوا سهامهم وسلوا أقلامهم فيمن علمهم العقيدة والتوحيد، متناسين تاريخاً مظلماً من الشرك والانحطاط عاشه من سبقهم، لم يشهدوه ولم يكونوا رجاله بعد أن من الله عليهم بدعوة التوحيد.
هذا مع أنهم يرون النصال تتكسر تلو النصال دون أن تصاب تلكم الدعوة المباركة بأذى، بل يرون كيف قامت بفضلها دولة إسلامية عجزت عن إقامتها زرافات وجماعات، بل يرون كيف قامت بها الدولة ابتداءً، ثم لما سقطت الدولة عادت بها فقامت ثم سقطت أخرى فقامت، وفي هذا مصداق كلمة ابن خلدون في تاريخه ومقدمته التي قرر فيها أن لكل دولة عصبية تقوم عليها، قال: "العصبية بها تكون الحماية والمدافعة والمطالبة وكل أمر يجتمع عليه، وقدعلمنا أن الآدميين بالطبيعة الإنسانية يحتاجون في كل اجتماع إلى وازع وحاكم يزع بعضهم عن بعض، فلا بد أن يكون متغلباً عليهم بتلك العصبية، وإلا لم تتم قدرته على ذلك"، ثم قال: " إذا استقرت الدولة وتمهدت قد تستغني عن العصبية والسبب في ذلك أن الدول العامة في أولها يصعب على النفوس الانقياد لها إلا بقوة قوية من الغلبة للغرابة، وأن الناس لم يألفوا ملكها ولا اعتادوه، فإذا استقرت الرئاسة في أهل النصاب المخصوص بالملك في الدولة وتوارثوه واحداً بعد آخر في أعقاب كثيرين ودول متعاقبة نسيت النفوس شأن الأولية، واستحكمت لأهل ذلك النصاب صبغة الرئاسة، ورسخ في العقائد دين الانقياد لهم والتسليم، وقاتل الناس معهم على أمرهم قتالهم على العقائد الإيمانية، فلم يحتاجوا حينئذ في أمرهم إلى كبير عصابة، بل كأن طاعتها كتاب من الله لا يبدل ولا يعلم خلافه، ولأمر ما يوضع الكلام في الإمامة آخر الكلام على العقائد الإيمانية، كأنه من جملة عقودها، ويكون استظهارهم حينئذ على سلطانهم ودولتهم المخصوصة، إما بالموالي والمصطنعين الذين نشؤوا في ظل العصبية وغيرها، وإما بالعصائب الخارجين عن نسبها الداخلين في ولايتها.
ومثل هذا وقع لبني العباس، فإن عصبية العرب كانت قد فسدت في عهد دولة المعتصم وابنه الواثق، واستظهارهم بعد ذلك إنما كان بالموالي من العجم والترك والديلم والسلجوقية وغيرهم، ثم تغلب العجم الأولياء على النواحي وتقلص ظل الدولة فلم تكن تعدو أعمال بغداد، حتى زحف إليها الديلم وملكوها، وصار الخلائق في حكمهم، ثم انقرض أمرهم وملك السلجوقية من بعدهم فصاروا في حكمهم، ثم انقرض أمرهم وزحف آخر التتار فقتلوا الخليفة ومحوا رسم الدولة".
وحتى لايسهب بنا المقام ألخص أسباب فتح هذا الملف لدعاوى المعاصرين على دعوة الإمام في النقاط التالية:
1- بيان خطر إسقاط هذه الدعوة التي نجحت في إقامة دولة، وأن نهايتها تعني نهاية الدولة كما قرر ابن خلدون.
2- بيان خطأ المنتسبين إليها ممن يسعون إلى إسقاطها بقصد أو بغير قصد، وتنبيه العقلاء لئلا يكونوا أدوات يحركها الغربي متى شاء وكيف شاء.(/1)
3- تنبيه الغافلين على حقيقة المحرضين على الدعوة من الغربيين، ومرادهم من ذلك، فهم ما أرادوا النيل ممن أفضوا إلى ربهم، ولكن مرادهم هدم الإسلام وتغير معالمه، ولهم في ذلك مداخل عدة، منها: محاربة الإسلام تحت شعار محاربة ما يسمونه الوهابية، ومنها: حربهم على الإسلام تحت شعار حربهم على ما يسمونه الإرهاب.
4- بيان أن هذه الدعوة ليست ديناً جديداً، بل ليست مذهباً دخيلاً أو أقوالاً مختصة بأناس ولكن ما جاءت به وقاله أئمتها أمر سبقهم أعلام الإسلام إليه وقالوا به، ثم جاء هؤلاء فجددوه.
5- بيان أن هذه الدعوة ليست مختصة بأهل نجد أو المملكة، بل هي دعوة لاتفرق بين من يلتزم منهج أهل السنة والجماعة أين كان وحيث وجد، سواء في أقصى الأرض أو أدناها، منتم لجماعة أو دولة، لافرق طالما أنه يلتزم الكتاب والسنة.
6- بيان بعض الشبه التي رمي بها الإمام ورميت بها دعوته، والتي طالما تبرأ منها الإمام وأتباعه، ومنها دعوى التكفير لغير مستحقه التي قال فيها الإمام: "وأما القول إنا نكفر بالعموم فذلك من بهتان الأعداء الذين يصدون به عن هذا الدين، ونقول: سبحانك هذا بهتان عظيم " (الرسائل الشخصية 15/101)، ومن ذلك أيضاً رميها بأنها تتشوف للدماء، وهذا باطل قال الشيخ الإمام: "وأما القتال فلم نقاتل أحداً إلى اليوم إلا دون النفس والحرمة، وهم الذين أتونا في ديارنا ولا أبقوا ممكناً، ولكن قد نقاتل بعضهم على سبيل المقابلة " وجزاء سيئة سيئة مثلها "، وكذلك من جاهر بسب دين الرسول بعد ما عرفه والسلام. " (الرسائل الشخصية 5/37)، إلى غير هذه الشبه مما سيجمع مع الوقت ويفند، والله المستعان، هو حسبنا وعليه التكلان.
هذا وفي الختام، أنبه القارئ الكريم إلى أن دعوة الشيخ الإمام دعوة تجديد لما اندرس من معالم التوحيد.
والتوحيد مما اتفقت عليه الشرائع السماوية فأنى له أن يأت بجديد فيها!
فمن المقرر أن الأنبياء إخوة لعلات كما جاء في حديث البخاري وغيره، قال الحافظ ابن حجر(الفتح 6/489): "ومعنى الحديث أن أصل دينهم واحد وهو التوحيد، وإن اختلفت فروع الشرائع"، وقال من قبله الحافظ ابن كثير(التفسير 2/67): "ديننا واحد": يعني بذلك التوحيد الذي بعث الله به كل رسول أرسله وضمنه كل كتاب أنزله، كما قال _تعالى_: "وما أرسلنا قبلك من رسول إلاّ نوحي إليه أنه لا إله إلاّ أنا فاعبدون"، وقال _تعالى_: "ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت"، "واسأل من أرسلنا قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون".
وهذه الآيات ظاهرة في توحيد الله بأفعال العباد، قال القرطبي في تفسير قول الله _تعالى_: "ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت" (10/103): "أي بأن اعبدوا الله ووحدوه، واجتنبوا الطاغوت، أي: اتركوا كل معبود دون الله كالشيطان والكاهن والصنم وكل من دعا إلى الضلال".
أما توحيد الله بأفعاله كالخلق والرزق والتدبير، فهو مما أقرت به الخلائق وإن جحده أفراد ظلماً وعلواً.
وكذلك مما اجتمعت عيه الشرائع توحيد الله بأسمائه وصفاته، فإن الأسماء والصفات من قبيل الأخبار المحققة والخبر المحقق لا يدخله النسخ ولو دخله لكان كذباً(1).
فإذا كان الأمر كذلك، فكيف للشيخ أن يأتي بجديد في أمر اتفقت عليه شرائع الرسل الصحيحة، فضلاً عن أئمة الإسلام المعتبرين من أهل السنة على اختلاف المذاهب.
هذا والله أسأل أن ينفع بهذا الجهد القراء، وأن يجزل للمشايخ المشاركين فيه أحسن الجزاء، وأشكر كل من تجشم مشقة الكتابة في سبيل نصرة السنة وأهلها، داعياً الله أن يجمعنا بهم عند حوض نبيه _صلى الله عليه وسلم_ غير مبدلين ولا مغيرين، والحمد لله رب العالمين.
_____________
(1) انظر( المحلى 2/14)، وغيره.(/2)
لماذا رمضان؟
د. وليد بن عثمان الرشودي 2/9/1424
27/10/2003
كم تتشوق النفوس إلى بلوغ شهر رمضان، وتلهج بالدعاء والتضرع إلى الله أن يبلغنا هذا الشهر الكريم حتى إن السلف يدعون الله ستة أشهر أن يبلغهم رمضان وستة أشهر أن يتقبله منهم. والسؤال: لماذا رمضان؟
إن المقلب ناظره في الكتاب الكريم والسنة النبوية يجد أن الله بحكمته يفضل بعض مخلوقاته على بعض، وجعل فضيلة شهر رمضان ظاهرة على سائر الشهور؛ فقال سبحانه: (شهر رمضان الذي أُنزل فيه القرآن)؛ بل فضل سبحانه بعض أيامه على بعض فقال سبحانه: (إنا أنزلناه في ليلة القدر)، وقال: (إنا أنزلناه في ليلة مباركة)، فهذا التفضيل وهذا الاصطفاء الإلهي لم يكن إلا لحكمة ظهر لنا بعضها وقد يخفى علينا بعضها، وحينما يقلب المرء ناظره في السُّنة النبوية تظهر له بعض أسرار الحكمة التي تدعو إلى التلهف والشغف لبلوغ شهر رمضان؛ ففي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم "إذا دخل شهر رمضان فتحت أبواب السماء وغلقت أبواب جهنم وسلسلت الشياطين" [رواه البخاري وزاد الترمذي "وينادي مناد يا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة"]، وعند أحمد من حديث أبي هريرة قال. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يبشر أصحابه: "قد جاءكم شهر رمضان شهر مبارك، افترض الله عليكم صيامه، يفتح فيه أبواب الجنة، ويغلق فيه أبواب الجحيم، وتغل فيه الشياطين، فيه ليلة خير من ألف شهر من حُرم خيرها فقد حُرم" فلا تعجب بعد ذلك أن تتطلع النفوس لإدراك مثل هذا الشهر الكريم الذي يبشر الرسول به ويصفه بالآتي:
1-أنه شهر مبارك.
2- تفتح فيه أبواب الجنات.
3-تغلق فيه أبواب جهنم.
4-تسلسل فيه الشياطين.
5-ينادي مناد: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر.
6-لله عتقاء من النار كل ليلة.
7-فيه ليلة خير من ألف شهر.
8-استجابة الدعاء؛ فإن للصائم دعوة مستجابة.
فمن هذا الذي لا يتمنى أن يدرك مثل هذه الفضائل.
إن الجو المادي الذي تعيشه النفوس فأصبحت لا تحس إلا بالمحسوسات فقط، وأصبحت العملية لديهم في هذه الحياة عملية حسابية بحتة سببت كثيراً من القسوة للقلوب والغفلة عن الله -جل وعلا-، ولننظر بنفس النظرة بالنسبة لشهر رمضان لنجد أن العملية الحسابية تكون في صف من سارع إلى تلقيه بالإقبال على الله والتوبة والندم، وكيف لا يكون ذلك والرسول -صلى الله عليه وسلم يقول-: "... ورمضان إلى رمضان كفارة لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر" [رواه مسلم]، وكلنا قد غشي من الذنوب ما الله به عليم، وقد مَنَّ الكريم بستر منه وكرم ونسأله العفو والمغفرة.
ومتابعة لما سبق؛ فإن المتأمل في أحوال رمضان وفضله يرى لزاماً على كل إنسان أن يستغل كل ثانية من ثوانيه في أمور شتى من العبادات المتنوعة، وهنا وقفات:
1-أن أفضل العبادات في رمضان هي ما جاء النص عليها مثل: القيام وتلاوة القرآن والصدقة.
2-أنه لا ينبغي حصر صور العبادة والإحسان فيما سبق؛ بل يجب توسيع الدائرة، حيث إن كل عمل صالح يقرب إلى الذل والانكسار لله وكمال المحبة له فهو عبادة، فالطبيب في عيادته، والجراح في غرفة عملياته، والمهندس في معمله أو طريقة أو مكتبه، والجندي في ميدانه، والمعلم في مدرسته..
وهكذا في صنوف عدة من أنواع العمل إذا استصحب فيها الاحتساب، وهو طلب الأجر من الله مع تحقيق عدم التفريط في عبادات أخرى إلا من أجل مصلحة أعظم؛ فله أجر مثل أولئك أو أعظم.
3-أن القيام في رمضان له فضائل عديدة؛ منها قول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه"، فلا أقل من الحرص والمواظبة في هذا الشهر الكريم.
4-عليك بالجود والنفقة والحرص على تفطير صائم، وقد تيسر ذلك كثيراً في هذه الأزمنة، فابذل الفضل من مالك، وجُد بالخير وتذكر دوماً (وما تنفقوا من خير تجدوه عند الله هو خيراً وأعظم أجراً)، وقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "كل امرئ في ظل صدقته حتى يفصل بين الناس" [رواه أحمد]، وتذكر "رب درهم سبق مائة ألف درهم".
5-قراءة القرآن من أفضل القربات إلى الله في رمضان، وقد كان جبريل ينزل كل ليلة يراجع القرآن مع النبي، وفي السنة الأخيرة راجعه مرتين، وصور الصحابة والسلف في قراءة القرآن في رمضان أكبر من أن توصف، حتى إن أحدهم كان يختم القرآن كل ليلة، وإذا دخلت العشر ختم القرآن مرتين كل ليلة، وصدق الله (ولقد يسرنا القرآن للذكر)، فأين نحن من هؤلاء؟!.
6- الدعاء له أوقات إجابة وخصوصاً في رمضان حين الفطر وفي جوف الليل، وتذكر أن للصائم دعوة مستجابة؛ فأكثر من الابتهال والتضرع.
7-الاعتكاف سُنّة مهجورة، وشرفها في انقطاعك عن الخلائق لغرض الاتصال بالخالق، فهي وظيفة شريفة فخذ نصيبك منها، ولا تكن من الغافلين.(/1)
وبعد أيها المطّلع على هذه الأسطر: لا بد أن تعلم أن وعد الله صدق؛ فإنه سبحانه لا يخلف الميعاد، أنت تدعوه فتقول: (ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد)، ومما وعدنا على رسله أن من صام رمضان وقام رمضان إيماناً واحتساباً، ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً؛ غفر له ما تقدم من ذنبه، فهذه ثلاث فرص، كلها تغفر لك ما تقدم من ذنبك إن عملت بها محتسباً الثواب، أي من غير تسخط ولا شكوى مع الإيمان الجازم باستحقاق الرب لهذه العبودية، والإيمان الجازم بالأجر المترتب عليها؛ فإنه يتحقق لك ذلك وهذا وعد صدق، فجد واجتهد وثابر وصابر، ولا تغب شمس اليوم الأخير من رمضان إلا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنوبك، فعندها تعلم لماذا رمضان؟.(/2)
لماذا علينا أن نعرف أعياد الكفار
إبراهيم بن محمد الحقيل 7/12/1426
07/01/2006
من المتفق عليه أن المسلم لا يعنيه –ابتداء- التعرف على أحوال الكفار، ولا يهمه معرفة تفاصيل شعائرهم وعاداتهم –ما لم يرد دعوتهم إلى الإسلام-، إلا إذا كانت شعائرهم تتسرب إلى جهلة المسلمين فيقعون في شيء منها عن قصد أو غير قصد، فحينئذ لا بد من معرفتها لاتقائها والحذر من الوقوع في شيء منها، وفي العصور المتأخرة يتأكد ذلك؛ للأسباب الآتية:
1- كثرة الاختلاط بالكفار سواء بذهاب المسلم إلى بلادهم للدراسة أو السياحة أو التجارة أو غير ذلك، فيرى أولئك الذاهبون إليهم بعض شعائرهم، وقد يُعجبون بها، ومن ثم يتبعونهم فيها، لا سيما مع هزيمة بعضهم النفسية، ونظرتهم إلى الكافرين بإعجاب شديد يسلب إرادتهم، ويفسد قلوبهم ويضعف الدين فيها، ومن ذلك أن كثيراً من المثقفين المغتربين يصف الكفرة بالرقي والتقدم والحضارة حتى في عاداتهم وأعمالهم المعتادة، أم كان ذلك عن طريق إظهار تلك الأعياد في البلاد الإسلامية –من قبل طوائف وأقليات أخرى غير مسلمة، فيتأثر بها جهلة المسلمين في تلك البلاد.
2- وزاد الأمر خطورة البث الإعلامي المباشر الذي به يمكن نقل كل شيء بالصوت والصورة الحية من أقصى الأرض إلى أدناها، وما من شك في أن وسائل إعلام الكفار أقوى وأقدر على نقل شعائرهم إلى المسلمين، دون العكس؛ حيث تشاهد كثيراً من قنوات الآخرين الفضائية تنقل شعائر أعيادهم، واستفحل الخطر أكثر وأكثر حينما تبنت بعض الدوائر العلمانية في جل البلاد الإسلامية كثيراً من الاحتفالات بأعياد الكفار وشعائرهم، وصار ذلك ينقل عبر الفضائيات العربية إلى الناس؛ فيغتر بذلك بعض المسلمين بسبب صدوره من بلاد إسلامية.
3- قد عانى المسلمون على مدى تاريخهم –وخصوصاً في مراحل الضعف- من تأثر بعضهم بشعائر غيرهم من جراء الاختلاط بهم، مما جعل كثيراً من أئمة الإسلام يحذرون عوام المسلمين من تقليد غيرهم في أعيادهم وشعائرهم، منهم –على سبيل المثال-:شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه العلامة ابن القيم، والحافظان الذهبي وابن كثير، وهم قد عاشوا عصراً واحداً كثر فيه اختلاط المسلمين بغيرهم خاصة بالنصارى، وتأثر جهلتهم ببعض شعائر دينهم خاصة أعيادهم، ولهذا أكثر الكلام عن ذلك هؤلاء العلماء في تضاعيف مصنفاتهم، وبعضهم أفرد لذلك كتاباً خاصاً، كابن تيمية في كتابه : (اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم)، وكالذهبي في رسالته: (تشبه الخسيس بأهل الخميس)، وغيرهما.
ولقد أطال ابن تيمية –رحمه الله تعالى- في ذكر أعيادهم وأعمالهم فيها، وبين مدى تأثر جهلة المسلمين بها، ووصف أعيادهم وأنواعها وما يجري فيها من شعائر وعادات مما يستغني عن معرفته المسلمون، إلا أن الحاجة دعت إلى ذلك بسبب ما كثر من اتباع كثير من المسلمين أهل الكتاب في تلك الشعائر.
وقد بين شيخ الإسلام أعيادهم وعرضها في مقام التحذير؛ حيث يقول رحمه الله تعالى بعد أن أفاض في الحديث عنها:"وغرضنا لا يتوقف على معرفة تفاصيل باطلهم؛ ولكن يكفينا أن نعرف المنكر معرفة تميز بينه وبين المباح والمعروف، والمستحب والواجب، حتى نتمكن بهذه المعرفة من اتقائه واجتنابه، كما نعرف سائر المحرمات؛ إذ الفرض علينا تركها، ومن لم يعرف المنكر جملة ولا تفصيلاً لم يتمكن من قصد اجتنابه. والمعرفة الجملية كافية بخلاف الواجبات".
وقال أيضاً:"وإنما عددت أشياء من منكرات دينهم لما رأيت طوائف من المسلمين قد ابتلي ببعضها، وجهل كثير منهم أنها من دين النصارى الملعون هو وأهله، ولست أعلم جميع ما يفعلونه، وإنما ذكرت ما رأيت من المسلمين يفعلونه وأصله مأخوذ عنهم".
4- أن بعض أعيادهم تحول في العصر الحاضر إلى اجتماع كبير له بعض خصائص عيدهم القديم، ويشارك كثير من المسلمين في ذلك دون علم، كما في دورة الألعاب الأولمبية التي أصلها عيد عند اليونان، ثم عند الرومان، ثم عند النصارى.
5- معرفة الشر سبب لاتقائه واجتنابه، وقد قال حذيفة –رضي الله عنه-:"كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني" ومن المعلوم أن الشر العظيم والداء الوبيل أن يقع المسلم في شيء من شعائر الذين كفروا دون علمه أن ذلك من شعائرهم وأخص عاداتهم التي أمرنا بمجانبتها والحذر منها، لأنها رجس وضلال.(/1)
6- كثرة الدعاوى وقوة الأصوات التي تريد للأمة الخروج عن أصالتها، والقضاء على هويتها، والانصهار في مناهج الكفرة، واتباعهم حذو القذة بالقذة تحت شعارات: الإنسانية والعولمة والكونية والانفتاح على الآخر وتلقي ثقافته، مما حتم معرفة ما عند هذا الآخر –الكافر- من ضلال وانحراف؛ لفضحه وبيان عواره، وكشف التزوير وتمزيق الأغلفة الجميلة التي تغلف بها تلك الدعاوى القبيحة "ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة" [الأنفال: 42]، ولكي تقوم الحجة على أتباع محمد صلى الله عليه وسلم فلا يغتروا وينخدعوا.
7- شكر نعمة المولى –سبحانه وتعالى- على الأمة المحمدية، حيث هداها لأحسن الأعياد وأكمل لها الدين وأتم عليها النعمة. ومن اطلع على شعائر الذين كفروا على اختلاف أديانهم ومذاهبهم ظهرت له هذه النعمة العظيمة، وسيمر في هذا الكتاب شيء كثير من شعائر الكفار في أعيادهم من تعظيم للأوثان واختلاق للأساطير واختراع عيد لكل مناسبة مهما كانت سخيفة، على ما فيها من مظاهر الفجور والتعري، واتخاذ هذا الفجور ديناً يدينون به لمعبوداتهم من دون الله، وشعائر جعلوها من أساس أعيادهم ودينهم، فإذا اطلع المسلم على هذا الضلال قاده ذلك إلى شكر الله تعالى على نعمة الهداية إلى الإسلام، والسلامة مما وقع فيه الآخرون من آثام وآصار وأغلال يتقربون بها، ويحسبون أنهم على شيء، "أولئك الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً" [الكهف:104].(/2)
لماذا فشل مشروع النهضة التغريبي ؟
د. محمد مورو 17/1/1426
26/02/2005
بعد عشرات السنين من اندلاع حركة التحرير الوطني في العالمين العربي والإسلامي ودول العالم الثالث عموماً، وبعد سلسلة من التجارب والمحاولات لتحقيق وبناء النهضة، اكتشفت الجميع قادة ومفكرين أن مشروع النهضة التغريبي، أي الذي استند على وسائل وأساليب وأفكار مستمدة من الشرق أو الغرب قد وصل إلى طريق مسدود، وأنه لم يحقق أياً من أهدافه المرجوة.
وكان من الطبيعي أن يطرح السؤال نفسه، وهو لماذا فشل مشروع النهضة التغريبي ووصل إلى هذا المستوى من الانهيار واللاجدوى؟! وفي رأينا أن هذا المشروع النهضوي الذي استند إلى أ فكار الحضارة الغربية وأساليبها والذي تجاهل خاصية الذات الحضارية لبلادنا كان من الطبيعي والمؤكد أن يصل إلى طريق مسدود؛ لأنه افتقد إلى المقومات البديهية لأية نهضة، ولأنه تجاهل العديد من الحقائق العلمية حول عملية النهضة.
السياق الحضاري
إذا افترضا حسن النية في هؤلاء الذين قادوا محاولات النهضة في بلادنا في تاريخنا المعاصر فإننا نجدهم قد وقعوا في خطأ علمي فادح حينما تعاملوا مع منهجية التغيير بمعزل عن السياق الحضاري لها؛ لأنه في الواقع لا منهج هناك مجرداً من مقولاته ونماذجه؛ لأنه تشكل في أحشاء النماذج التي عالجها واكتسى باللحم من خلال الموضوعات التي ولّدها، والمنهج يقوم ويتشكل عبر عملية معقدة من خلال نمط مجتمعي محدّد مما يحدّد له مبادئه ومقولاته ونماذجه فالمنهج الأوروبي في النهضة تكوّن عبر تاريخ النمط الحضاري الأوروبي، وبالتالي فإن هؤلاء الذين أخذوا منهج التغيير الأوروبي، حتى لو رفضوا نظرياً المقولات الفلسفية الحضارية الأوروبية، إنما هم في الحقيقة يخدعون أنفسهم؛ لأن هذا المنهج خرج من خلال منظومة حضارية شاملة منهجاً ونماذج ومقولات وبالتالي فإن هذا النهج اكتسى وأخذ هذا الطابع الحضاري المميز له، ولكل حضارة شخصيتها المتميزة، ويكاد يكون هؤلاء الداعون إلى ما يسمى بالتطعيم الحضاري يتناسون حقيقة علمية معروفة وهي أن التطعيم في علم النبات مثلاً لا ينجح إلا بين النباتات المتقاربة عائلياً، وبديهي أن التطعيم والتلقيح بين الحضارة الإسلامية القائمة على التوحيد والعدل والحرية ورجاء الآخرة والحضارة الغربية القائمة على الوثنية، والمنفعة اللا أخلاقية والقهر والنهب أمر غير ممكن عملياً وموضوعياً.
إن الذين حاولوا بناء نهضة على أسس منهجية غربية لم يدركوا حقيقة موضوعية هامة، وهي أنهم لا يطبقون هذا المنهج في الفراغ، بل إن شعوباً عاشت تجربة حيّة من الإسلام لفترة طويلة جداً، إننا أمام حضارة إسلامية عريقة متميزة وثرية، حضارة تمتلك أصلاً نظرياً إلهياً، وتمتلك ثروة من التطبيقات الاجتماعية الهائلة من خلال ما حدث طوال التاريخ الإسلامي من علاقات وحالات سياسية واقتصادية واجتماعية ارتبطت بالنص الإسلامي أو حادت عنه وواجهت هذه الحضارة مشكلات في كافة الميادين، وترتّب على تلك المشكلات فقه وثقافة وإجابات نظرية وتطبيقية في مختلف الفروع والمجالات الفكرية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والنفسية، فضلاً عن ميادين العلوم الرياضية والطبيعية والفلكية.
وهكذا فإن القفز على هذا الواقع بكل أوجه الصحة والخطأ والإنجاز، والقصور فيه سبب فجوة هائلة في الوعي والسلوك على حد سواء، وإهدار كل الأساسات فوق التربة أو تحتها، بحيث كان علينا أن نسير منذ البداية وفقاً للمنهج الأوروبي، ناهيك عن أننا نسير في الطريق الخطأ، الأمر الذي يستلزم مئات السنين زمنياً هذا إذا أمكن إخلاء الواقع من الوجدان والتراث الإسلامي وهو مستحيل قطعاً.
إن علم الاجتماع قد أكد على حقيقة بديهية لم يراعِها دعاة النهضة التغريبية وهي أن المنهج العلمي في أساسه أنماط اجتماعية معينة ينبغي أن يتم بمنهج هذه الأنماط ذاتها وليس بمنهج مغاير، وإلا فإن الأخطاء ستكون بالجملة أي أنه لا يمكن استقرار عملية النهضة والتنمية في مجتمعاتنا بمنهج مستمد من نمط الحضارة الأوروبية مثلاً، وبالتالي فإن شرط النهضة هنا هو أن تقرأ الواقع قراءة صحيحة، وشرط الصحة هنا أن تكون القراءة من خلال منهج نابع من هذا النمط الحضاري الذي نحن بصدده، وليس من خارجه.
غياب البعد الثقافي
محاولات النهضة الحديثة في بلادنا تواكبت مع عملية التحرر الوطني منذ الاستعمار ولا شك أن الصراع مع الاستعمار صراع سياسي واقتصادي وعسكري فلا شك أن الغرب الاستعماري قد استعمل ضدنا أقسى الوسائل العسكرية وأبشعها لتحقيق عملية القهر والنهب، وكذلك لم يتورّع عن استعمال كل الوسائل السياسية والاقتصادية في تحقيق أهدافه، وبالتالي كان من الطبيعي أن تشن حركات التحرر الوطني الحرب ضد الاستعمار عسكرياً وسياسياً واقتصادياً.(/1)
ولكن البعد الثقافي لتلك المواجهة كان غائباً، وكأن هذا هو السبب بالتحديد في فشل مشروع النهضة بعد رحيل الاستعمار، بل الوصول إلى طريق مسدود أهدر كل المكاسب التي تحققت في المجالات العسكرية والسياسية والاقتصادية للمواجهة، بل أقسى من ذلك وأمر أصبحنا مهددين بعودة الاستعمار بجيوشه وأساطيله كالمسابق وبآليات أكثر تعقيداً وأكثر كفاءة.
إن البعد الثقافي للمواجهة كان يعني ضرورة تصفية الرواسب الثقافية الاستعمارية حكومياً وشعبياً، لأن هذا البعد الثقافي مرتبط بتحطيم أو بناء المكونات العقدية والفكرية والحضارية والأنماط المعيشية والإنتاجية وأشكال العلاقات الجماعية والفردية وتحطيمها يعني هدم القلعة من الداخل ومسخ الشخصية وجعلها في حالة عدم قدرة على الصمود والمواجهة فضلاً عن تحقيق مشروع النهضة، أما بناؤها بصورة صحيحة فيعني التماسك الفردي والجماعي، والقدرة على المواجهة ـ والقدرة على تحقيق الذات الحضارية وتحقيق مشروع النهضة بالتالي.
التغريب أدّى إلى الاستبداد
ما حدث بسبب التغريب يمكن أن نشبّهه بنوع من الانفصال الشبكي بين الشعوب والنخبة الحاكمة، فأصبحت الشعوب بمعزل حقيقي عن عملية النهضة ولم تستطع النخبة السياسية أو الفكرية بحكم محدوديّتها أن تنجز عملية النهضة. إن الشعوب كانت وما زالت تحمل الوجدان الإسلامي، كانت وما زالت معبأة بالتراث ومفعمة بالعقيدة، ولا يمكن القضاء على هذا الوجدان أو طريقة التفكير بسهولة، وبالتالي فإن فرض مشروع نهضوي غير قائم على وجدان الجماهير وعقيدتها وحسّها الثقافي وتراثها التاريخي يجعل تلك الجماهير لا تفهم هذا المشروع، ولا تتحمس له أو ترفضه وتعاديه أو يحدث لها نوع من ازدواج الشخصية أو انفصامها، وبالتالي يعود إلى سلسلة من الأخطاء والخطايا تجعل مشروع النهضة في مهب الريح، وإذا كانت النخبة المغتربة جادة في محاولة تحقيق نهضة على أساس تغريبي فإن رفض الجماهير لهذا المشروع النهضوي التغريبي أو عدم حماسها له يجعل تلك النخبة تحاول أن تجبر الجماهير على الانخراط والحماس في هذا المشروع، وبما أن التركيبة الثقافية والوجدانية للجماهير لا تستجيب للتحريض الإعلامي النخبوي بهذا الصدد، فإن النخبة الحاكمة تجد نفسها لاجئة في النهاية إلى قمع الجماهير والاستبداد بها وإجبارها بالقهر على الانخراط في هذا المشروع وبالطبع تبدأ المسألة من هذه الزاوية وتنتهي إلى أن يصبح الاستبداد والقهر سمة أساسية للحكم التغريبي، بمعنى أن يصبح للاستبداد لبنته الخاصة والذاتية حتى بصرف النظر عن مشروع النهضة التغريبي أي أن التغريب يوجد الاستبداد خلقاً.
كلمة في مسألة العلوم الطبيعية
من الأشياء التي يتشدق بها دعاة مشروع النهضة التغريبي، أنهم يستهدفون الحصول على العلوم الطبيعية أو التقنية من خلال مشروعهم التغريبي المرتبط بالمنهج التغريبي في النهضة والمنفتح على الحضارة الأوروبية التي أنجزت تقدماً علمياً باهراً.
وينبغي هنا أن نضع الكثير من النقاط فوق الكثير من الحروف في هذه القضية الخطيرة.
ينبغي أن نعرف أن العلوم الطبيعية تنقسم إلى قسمين، قسم خاص بالحقائق العلمية، والمكتشفات العلمية، وقسم خاص بتوجيه هذه العلوم في اتجاه معين، أي لإنتاج سلعة ضرورية أو كمالية مثلاً، للقضاء على مرض أو لنشر مرض، أي لإنتاج أدوات تسعد الإنسان وتساهم في راحته أو لإنتاج أسلحة الدمار الشامل، لإصلاح البيئة والمحافظة عليها أو لتخريبها وتلويثها.
أي أن هناك شقاً علمياً وشقاً قيمياً، والشق العلمي تراث إنساني يجب الاستفادة به وليس تراثاً أوروبياً، ولكن الشق القيمي للمسألة أي توجيه العلوم في اتجاه معين تراث حضاري أي خاص بتوجه وقيم كل حضارة، والحضارة الإسلامية مثلاً عندما كانت متقدمة علمياً كانت توجه هذه العلوم لإسعاد الإنسان وتلبية حاجات كل البشر، بل وكانت تسعى سعياً لنشر العلوم ولا تحجبها عن الآخرين، لأن حبس العلم جريمة في الشريعة الإسلامية الغراء، أما الحضارة الأخرى ولظلمها، حجبت هذا العلم عن الشعوب الأخرى، بل وأصدرت القوانين التي تجرّم حصول الآخرين على تلك العلوم مثل قضية الدكتور مهندس عبد القادر حلمي مثلاً، بل وتغتال العلماء في البلاد الأخرى حتى لا تحدث نهضة علمية فيها كاغتيال الدكتور المشد مثلاً".
إذاً فالعلم كحقائق ومعرفة تراث إنساني ساهمت فيه كل الحضارات والمجتمعات بل إن النهضة العلمية الأوروبية الحديثة استفادت من العلوم والمعارف الإسلامية في تحقيق تقدمها المعاصر، وبالتالي فإن الحصول على العلوم واكتسابها ليس قاصراً على المشروع النهضوي التغريبي، بل العكس هو الصحيح؛ فالحصول على العلم هدف أي مشروع نهضوي إسلامي، أما الشق القيمي في العلوم فهذا أمر مرفوض، أي الشق المرتبط بكيفية استخدام هذه العلوم.(/2)
والعجب هنا، أن مشروع النهضة التغريبي فشل حتى في الحصول على هذه العلوم لسبب بسيط هو أن الحضارة الغربية ترفض إعطاء العلوم للآخرين عن طيب خاطر، وما دام المشروع النهضوي التغريبي مشروع غير تصادمي مع الحضارة الغربية أي متعاون ومهادن لها، فهو لن يحصل على هذه العلوم بل الصحيح أن المشروع الإسلامي للنهضة هو القادر على الحصول عليها؛ لأنه سينتزعها انتزاعاً ثم يستطيع أن يهضمها حضارياً بمعنى أن يوجّهها التوجيه المتفق مع قيمه الحضارية.(/3)
لماذا كان الإسلام حقاً وما عداه باطلاً؟
08-12-2004
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، وبعد،،،
لما كان اختيار الدين هو أعظم وأهم عمل يقوم به الإنسان، وأنه لا يجوز للعاقل أن يتخذ ديناً كيفما اتفق، ولا أن يقلد في دينه أحداً لا آباءه ولا قومه، ولا عموم الناس، ولا غير ذلك. إذ أن هناك دين يقول الداعون إليه (وهم رسل الله) إن دينهم هو الحق وحده دون ما سواه، وأنه كل من اتخذ ديناً غيره فهو خاسر في الدنيا والآخرة ومعرض لعذاب خالق الكون وسخطه.
من أجل ذلك وجب على كل ذي عقل ولب أن يفكر في مقالة هؤلاء الداعين إلى هذا الدين، فإن كلامهم لو كان حقاً وخالفه من خالفه تعرض لما حذروا منه . قال تعالى منادياً المنكرين والمستكبرين {قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به}؟! وجواب الشرط ماذا يكون أمركم وشأنكم لا شك أنكم ستتعرضون للعذاب والخسار.
فأما أن الإسلام هو الحق، وما عداه من دين فباطل، فالأدلة على هذا كثيرة جداً، وهذا ذكر لمجموعة منها:
الكون كله شاهد على وحدانية الرب وعظمته وقدرته:
الكون الذي تعيش فيه كون مصنوع، وهو في غاية الاتساع والأحكام والدقة، بدءاً من الأجزاء الصغيرة (الذرة) إلى الأجرام الكبيرة (المجرة). وكل جزء من هذا الكون مرتبط ارتباطاً وثيقاً بأجزائه الأخرى بحيث أن حصول أي خلل فيه، لو كان صغيراً يسبب فساداً عظيماً في الخلق: فالأرض في موقعها ومدارها والقمر والشمس، وسائر النجوم والكواكب والمجرات، يرتبط بعضها ببعض بنظام هو غايةٌ في الإبداع، وبحساب بالغ الدقة قال تعالى: {الشمس والقمر بحسبان} أي بحساب بالغ الدقة.
وقال تعالى: {وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون* والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم* والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم* لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون}.
ودقة الصنع، ودقة الحركة في هذه الأجرام الكبيرة هو كذلك في كل عنصر صغير من عناصر الوجود، فالإنسان والنبات والحيوان كل فرد منها في نفسه في غاية من الإحكام والنظام، بل كل عضو وجزء من أجزاء كل مخلوق قد صنع بدقة وإحكام متناه، فالعين والأذن واليد والرجل، وكل عضو من المخلوق الحي آية من آيات الله في إحكامه وخلقه ووظائفه، وكذلك كل جزء في النبات من الأوراق والأزهار والساق، والثمار، وحبوب اللقاح، والأنابيب الشعرية الموصلة للماء والغذاء آيات كثيرة لا يمكن استقصاها ولا الإحاطه بها، وكلها في غاية الدقة والإعجاز.
وهذه آيات الخلق التي لا تحصى كثرة من أعظم الدلائل البينات على أن خالق الكون إله واحد لم يشاركه أحد في خلقه، وأنه عليم قدير قائم على هذا الخلق، وأن غيره لا يقوم مقامه فيه أبداً.
وهذه الحقيقة التي يمكن أن يستخلصها ذو عقل حكيم عن طريق النظر بنفسه في هذا الكون قد جاءت كذلك حقيقة خبرية على ألسنة الرسل، ففي القرآن الكريم وجهنا الله إلى هذه الحقيقة في آيات كثيرة جداً من كتابه العظيم القرآن.
قال تعالى: {وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم* إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون} (البقرة:163-164).
وقال تعالى: {إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا، ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليماً غفوراً} (فاطر:41).
وقال تعالى: {حم* تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم* إن في السموات والأرض لآيات للمؤمنين* وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات لقوم يوقنون* واختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها وتصريف الرياح آيات لقوم يعقلون} (الجاثية:1-5).
وأدلة الخلق على وحدانية الخالق وأنه سبحانه الإله الواحد القادر القاهر العليم الحكيم، القوي الحافظ لهذا الخلق هي بعدد كل مخلوقات الله، إذ كل مخلوق في نفسه آية على ذلك فالله هو الذي أحسن كل شيء خلقه، وهو خالق كل شيء.
والخلق كله كتاب مفتوح لمن يقرأ... ولكن قليلاً من الناس جداً من يقرأ صفحات هذا الكتاب بل يسير كثير منهم وكأنهم عميان لا يرون شمساً ولا قمراً، ولا نجوماً، ولا سماءاً ولا أرضاً بل لا يرون أنفسهم قال تعالى: {وكم من آية في السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون}، وقال تعالى: {وفي أنفسكم أفلا تبصرون}.
يستحيل أن يكون هذا الخلق العظيم لغير غاية وبغير هدف:(/1)
لا يمكن أن يتصور ذو لب وعقل راجح أن هذا الكون العظيم، قد وضع لغير حكمة وهدف وغاية، وأنه خلق هكذا لمجرد الخلق والوجود، لأن العليم والحكيم من البشر لا يصنع ويعمل إلا وفق العلم والحكمة، ولله المثل الأعلى سبحانه وتعالى، فخالق هذا الكون وهو الرب العليم الحكيم القوي العزيز يستحيل أن يكون قد أبرز هذا الوجود بغير هدف وحكمة وغاية، بل لا بد أن يكون له سبحانه غاية حكيمة من وراء خلقه لهذا الكون.
ولما كان البشر لا يستطيعون بأنفسهم أن يعرفوا مراد الله من خلقهم وإيجادهم، وخلق السماوات والأرض فإن الله سبحانه وتعالى قد اختار منهم رسلاً أطلعهم الله على غيبه، وأوحى إليهم بحكمته في الخلق ومراده سبحانه وتعالى من خلقهم وإيجادهم في الأرض. وكان كل رسول أرسله الله إلى قوم من البشر يبدأ دعوته إليهم ببيان هذه الحقيقة، وهي هدف الرب جل وعلا ومراده من خلقهم. قال تعالى عن نوح وهو أول رسول إلى أهل الأرض: {لقد أرسلنا نوحاً إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم} (الأعراف:59).
وقال تعالى عن هود: {وإلى عاد أخاهم هوداً قال يقوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره أفلا تتقون}.
وقال تعالى عن صالح: {وإلى ثمود أخاهم صالحاً قال يقوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم} (الأعراف:73).
وهكذا كل رسول أرسله الله إلى قوم كانت هذه مقالته، وهذا آخر الرسل محمد بن عبدالله صلوات الله وسلامه عليه أنزل الله عليه {ألر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير* ألا تعبدوا إلا الله أنني لكم منه نذير وبشير* وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعاً حسناً إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير* إلى الله مرجعكم وهو على كل شيء قدير} (هود:1-4).
وقد أخبر سبحانه عن هدف الرسالات جميعاً فقال جل وعلا: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت}.. وقال سبحانه: {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون}.. وقال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون* ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين}.
وقد أخبرنا سبحانه وتعالى أنه ما خلق من شيء إلا وهو عابد له، مسبح بحمده وأنه لم يشذ عن ذلك إلا الكافر اللئيم من الجن والإنس فقط، دون سائر المخلوقات قال تعالى: {ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب ومن يهن الله فما له من مكرم إن الله يفعل ما يشاء} (الحج:18).
وقال تعالى: {تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن، وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليماً غفوراً} (الإسراء:44).
وقال تعالى: {أن تر أن الله يسبح له من في السموات والأرض والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه والله عليم بما يفعلون} (النور:41).
ولا يشذ عن هذه العبادة الطوعية والهداية الإلهية إلا كافر الجن والإنس دون سائر المخلوقات والعوالم في السماء والأرض، ولكنهم مع ذلك مسلمون لله كرهاً خاضعون لإرادته ومشيئته وقدره سبحانه نافذ فيهم. {أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً وإليه يرجعون} (آل عمران:83).
كل من شك في حكمة الخالق فهو كافر معاند:
والكفار درجات، فأحطهم درجة من شك في وجود الرب الخالق سبحانه وتعالى، وقد قامت أدلة وجوده ووحدانيته في كل ذرة من مخلوقاته: {أفي الله شك فاطر السموات والأرض}.
وهؤلاء أحط دركاً من الأنعام لأنهم ظنوا أنهم يعيشون هذه الحياة الدنيا فقط، وأنه لا بعث ولا نشور، ولا حساب للإنسان عما يفعله في هذه الحياة.
وهؤلاء قد توعدهم الله بالعذاب الشديد في الآخرة قال تعالى: {أفأحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون فتعالى الله الملك الحق...} الآية.
وقال تعالى: {وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين لو أردنا أن نتخذ لهواً لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين}.. وقال تعالى: {وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما باطلاً ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار}.
والمعنى أنه سبحانه وتعالى وهو الرب العليم الحكيم لا يمكن أن يكون قد خلق خلقه سدى ولا عبثاً ولا لعباً، بل خلقه لحكمة عظيمة وأن من شك في هذه الحكمة فهو كافر بالله متهمٌ له بالعبث واللهو تعالى الله عن ذلك.(/2)
وكيف يسوي الله سبحانه وتعالى وهو الملك الحكيم بين من قام بأمره وعبده وحده لا شريك له، وكان من أهل الإيمان والعمل الصالح، وبين الكفار الفجار الأشرار الذين خالفوا أمره، وكذبوا رسله، وعاندوا واستكبروا: {أفنجعل المسلمين كالمجرمين* مالكم كيف تحكمون}.
والدرجة الثانية من الكفار من آمن بوجود الرب، وشك في حكمته في الخلق، ولم يعبد الله وحده كما أمره، واتخذ لنفسه معبوداً سواه، أو معبوداً مع الله. وهؤلاء الذين سووا بين الله وخلقه في الصفات أو الذات، أو الحقوق هم كفا مشركون {والذين كفروا بربهم يعدلون}.
الأدلة على أن الإسلام وحده هو طريق الرب:
والأدلة السابقة جميعها يمكن لعاقل أن يتوصل إليها بعقله وفطرته وبيان ذلك أنه لا يمكن لعاقل أن يدفعأو يماري في أنه مخلوق صغير في كون كبير، وأن هذا الكون في غاية الاحكام والإبداع، وأن كل جزء من هذا الكون مرتبط بغيره ارتباطاً وثيقاً وأنه لا بد وأن يكون لهذا الكون صانع عظيم عليم قوي قاهر.. وأنه لا بد وأن يكون حكيماً ويستحيل أن يكون قد خلق خلقه بغير هدف ولا غاية، وأنه لا بد وأن يكون هناك جزاء في نهاية المطاف، وأن يقام حكم يقتص فيه للمظلوم من الظالم، ويلقى المحسن والمسيء كل جزاءه، لأنه لو لم يكن كذلك لكان الظالم القاهر الباغي العابث المفسد لهواه هو العاقل في هذه الحياة، ولكان التقى البار العفيف الذي يؤدي الحقوق ويمتنع عن الحرام هو الغبي الجاهل... فما دام أنه لا توجد حياة بعد الموت وحكومة في الآخرة، ولا يجازي أحد بما عمل فإنه يكون من السذاجة والجهل الانصراف عن الملاذ، وتحقيق الشهوات وحيازة الخيرات، والعب من كأس الحياة حتى الثمالة، والاستمتاع بمباهج الحياة إلى النهاية، ولو أدى ذلك إلى ظلم العباد ونشر الفساد.
وعلى هذا الأساس يكون الذي خلق هذه الحياة، ونصب هذه السموات،ووضع هذه الأرض، وخلق الإنسان يخلف جيل منه آخر، قد خلق خلقه عبثاً ولعباً، وظلماً ونكداً تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً {أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار}؟!
وقال تعالى: {أفنجعل المسلمين كالمجرمين مالكم كيف تحكمون} وهذه الحقائق حقائق عقلية فطرية لا يحتاج الناس فيها إلى الوحي لمعرفتها لأنها من الضرورات العقلية، ولكن لأن الأبصار تعمى، والفطرة تنطمس بالتعليم المنحرف ولذلك أرسل الله الرسل من أجل بيانها والتذكير بها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [كل مولود يولد على الفطرة وأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه]..
وهنا نصل إلى السؤال الآتي؟ وما الدليل على أن خالق هذا الكون سبحانه وتعالى قد اختار رسلاً بأعيانهم، وبعبارة أخرى ماذا يدلنا أن هذا الذي يدعي الرسالة هو رسول الله حقاً وصدقاً.
والجواب: من حيث دلالة العقل فإنه لا بد لخالق هذا الكون أن يعرف مخلوقاته بذاته العلية، وأن يخبرهم عن نفسه جل وعلا ولماذا خلقهم؟ وفيم أقامهم؟ لأنه سبحانه وتعالى لو لم يفعل ذلك لكان هؤلاء الخلق في عماية عن حقيقة أمرهم، وأصل منشئهم، وصفة خالقهم؟ وماذا يريد من إيجادهم؟ لأن هذا الكون من الاتساع والشمول بحيث لا تحيط به أبصارهم ولا تصل إلى نهايته أقدامهم ومراكبهم؟ وهو كذلك من الدقة والأحكام وخفاء الأسرار بما لا يستطيعون إدراك كنهه. هذا مع قصر أعمارهم، وقلة علومهم، والبشر مع تراكم علومهم جيلاً بعد جيل لم يكتشفوا كثيراً من القوي المذخورة في الكون إلا قريباً، فلم يعرفوا الكهرباء مثلاً إلا مؤخراً، ولليوم لا يعرفون حقيقة الذرات التي بنى منها الكون، ولا يعرفون دقائق الخلق في أنفسهم فما زال جسم الإنسان نفسه في كثير من أحواله ووظائفه ودقائقه مجهولاً مع تقدم آلات الإنسان ووسائله وعلومه، وما زال سر الحياة في الإنسان وهو روحه لا يعلم الإنسان عنها إلا قليلاً: {ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً}.
وهناك عوالم كثيرة خفية تتحكم في حياة الإنسان نفعاً وضراً وهو لا يستطيع أن يراها ولا أن يحيط علماً بها، فإذا كان الإنسان لا يستطيع أن يعرف حقيقة ما يحسه ويراه، فأنى له أن يعرف ما غاب عنه، ولا سبيل له للوصول إليه؟
ومن أجل ذلك فإن الله سبحانه وتعالى قد تكفل بأن يعلم الإنسان منذ آدم لماذا خلقه، والمهمة المناطة به، ويعلمه بدايته ونهايته، والعوالم المحيطة به، وما الذي عليه أن يأخذه، وما الذي عليه أن يدعه؟ قال تعالى: {وعلم آدم الأسماء كلها}.
وقال تعالى: {وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغداً حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين}..(/3)
ولما عصى آدم ربه وأكل من الشجرة أهبطه الله إلى الأرض وعلمه مهمته فيها. قال سبحانه وتعالى: {قال اهبطا منها جميعاً بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى* ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يم القيامة أعمى* قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً* قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها فكذلك اليوم تنسى* وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب الآخرة أشد وأبقى} (طه:123-127).
الرسالات هي طريق الله لهداية الإنس والجن:
وقد اختار الله أن يكون تعليمه للإنسان بطريق الوحي إلى رجال يختارهم الله في كل أمة ليكونوا واسطة بين الله وخلقه ولو أراد الله غير هذا الطريق لفعل فإن الله لا يعجزه شيء كأن يهدى الإنسان بلا واسطة قال تعالى: {ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها}.
وقد أقام الله عجماوات من الحيوانات والحشرات والمخلوقات فيما خلقها له بهداية منه وتوفيق، فهو الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى قال تعالى: {وأوحى ربك إلى النحل ان اتخذي من الجبال بيوتاً ومن الشجر ومما يعرشون}.
ولكن الله سبحانه وتعالى شاء في عالم الإنس والجن أن يختار في كل قبيل منهم رسولاً يرسله إلى جماعته داعياً لهم ومبيناً لهم طريق الرب سبحانه وتعالى.
وعلى كل حال فإن الله سبحانه وتعالى هو الذي له الخيرة وحده وليس لعبيده ولا خلقه القاصرين الضعفاء أن يقترحوا عليه الطريقة التي يعلم بها عباده {والله يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة سبحان الله وتعالى عما يشركون}.
المعاندون يقترحون رؤية الله والملائكة عياناً ليؤمنوا:
واختيار الله لإرسال الرسل طريقة لإعلام عباده كان دائماً مثار استنكار ورد واعتراض من الكفار والمعاندين. فإنهم قالوا لماذا لا يأتينا الله بنفسه لنراه ويكلمنا بما يريد؟ وقال بعضهم لماذا لا يرسل الله لنا ملائكته عياناً لنراهم ويخبروننا بمراد الرب؟ ولماذا يختار الله واحداً منا فيرفعه هذه الرفعة العظيمة، ويشرفه علينا، ونحن مثله. قال تعالى: {وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا}.. وقال تعالى عن تعنت الكفار وطلبهم مقابلة الرب نفسه حتى يصدقوا ويؤمنوا: {وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً* أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيراً* أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً أو تأتي بالله والملائكة قبيلاً} (الإسراء:90-92).
ومعنى قبيلاً أي في مقابلتنا وجهاً لوجه.. وقال تعالى عن قوم نوح في ردهم الإيمان بالله وعبادته وحده: {فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما هذا إلا بشر منكم يريد أن يتفضل عليكم ولو شاء الله لأنزل ملائكة ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين} (المؤمنون:23).
وعن آخرين أنهم قالوا لرسولهم: {وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة وأترفناهم في الحياة الدنيا ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون* ولئن أطعتم بشراً مثلكم إنكم إذا لخاسرون} (المؤمنون:33-34).
والخلاصة أن الكفار في كل أمة اعترضوا بمثل هذه الاعتراضات على اختيار الرب سبحانه وتعالى أن يرسل رسلاً من البشر إلى الناس ليعلموهم ويرشدوهم إلى طريق الرب، والحال أنه ليس للإنسان المخلوق أن يعترض على اختيار الرب سبحانه وتعالى ولكنه الكفر والعقوق والجحود، وكان الواجب على الإنسان أن يبحث فقط في دليل من يدعي أنه رسول من الله خالق الكون، وهل هو صادق فيما قاله أم لا؟ وهذا ما يحتمه ضرورة العقل الصحيح أن ينظر فيما يدعيه من يدعي أنه رسول الله هل هو صادق فيما يقول أم لا؟ وذلك أنه من السهل على كل أحد أن يدعي هذه الدعوى؟ ولو كان كل من ادعاها صدقه الناس واتبعوه واستجابوا لأمره، لاختلط شأن الصادق بالكاذب، ولو لم يمكن التفريق بين الصادق في دعوى النبوة والكذاب لكان هذا من أعظم الفساد والشر لأنه حينئذ ينطمس طريق الرب، ويختلط صراطه مع غيره من طرق الشر والغواية، ولا يعلم على الحقيقة ما يريده الرب جل وعلا مما يدعيه الكذابون الذين يتخذون دعوى الرسالة طريقاً إلى شهواتهم وملذاتهم وتسخيرهم الناس فيما يريدون.
ومن أجل ذلك كان حقاً على الله سبحانه وتعالى أن يؤيد الصادق بالمعجزات الدالة على صدقه وأنه رسوله حقاً، وأن يكذب الكاذب ويفضحه في الدنيا بما يبين لكل ذي عقل أنه كذاب فيما ادعاه، ولو لم يفعل الرب ذلك لاختلط شأن الرسل على الناس ولم يستطيعوا أن يميزوا بين الصادق في دعوى الرسالة والكذاب وهنا ينطمس طريق الله ولا يعرف الناس مراده والطريق إلى محبته رضوانه، وكيف يحذرون سخطه وعقابه.(/4)
ومن أجل ذلك فإنه ما من رسول أرسله الله سبحانه وتعالى إلى الناس إلا وأتى بما يثبت صدقه في دعواه، ويقطع حجة المخالفين له، ولا يترك لمبطل دليلاً إلا دحضه، ولا حجة إلا أبطلها، قال تعالى: {وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين* لو أردنا أن نتخذ لهواً لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين* بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون* وله من في السموات والأرض ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون} (الأنبياء:16-19).
وما من رسول أرسله الله إلا وهو يخبر الناس بمن سبقه ويعلمهم بمن سيأتي بعده من أعلام الرسل والأنبياء لتكون السلسلة معلومة عند كل مؤمن، ولا يدخل فيها الغريب والشاذ والكذاب.
وكان آخر الرسل العظام موسى، وعيسى، ومحمد صلى الله عليه وسلم، وما من أحد منهم إلا كان معلماً بمن سبقه من لدن آدم، ومخبراً بمن بعده، وسيأتي إن شاء الله تفصيل كامل لبشارات موسى وعيسى بمحمد صلى الله عليه وسلم.
لم يوجد رجل في الأرض كلها منذ خلقها الله وإلى يومنا أحبه الناس واتبعوه في تفاصيل حياته ودقائق تصرفاته وأعماله كمحمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم:
وكان خاتم الأنبياء والمرسلين هو محمد بن عبدالله الهاشمي القرشي من نسل إسماعيل وإبراهيم عليهما السلام، وقد كان لهذا الرسول صلى الله عليه وسلم من الشأن والرفعة، وبلوغ الدعوة وقوة التأثير في الأرض، وكثرة الاتباع والانصار، ما لم يكن لنبي ولا رسول قبله، وقام من أدلة إثبات نبوته ورسالته من الآيات والأدلة والمعجزات ما لم يتحقق لأحد مثله، ولا ينكر مثله إلا مطموس القلب جاهل كافر أو حاسد حاقد.
ولم يكن في أمة من أمم الهداية السابقة من قبله من يكون في أمته من المهتدين والمجاهدين والعلماء العاملين، والعباد، والزهاد ولم تجرد سيوف في الحق ما جردت سيوفه، ولم يأرز الإيمان إلى قرية في العالم قط ما أزر إلى المدينة التي كانت دار هجرته، ولم تعمر مدينة في التاريخ قط بالعباد الصالحين الذين يأرزون إليها ويفدون إليها من كل فج في العالم فيطوفون ويسعون ويعتكفون، ويصلون، ويذكرون الله بأصوات مرتفعة بالتكبير والتهليل والتلبية ما عمرت أم القرى التي ولد فيها، وابتدأ فيها دعوته ورسالته، ولا حفظ كتاب في الأرض كلها منذ وجدت الأرض ما حفظ الكتاب الذي جاء به من الله فهو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم يقرأونه آناء الليل وأطراف النهار على مر العصور والدهور، ومنهم من يقرأ الكتاب كله وهو نحو ستمائه صفحة في كل يوم طيلة حياته، ومنهم من يقوم به بالليل على قدميه كل ثلاث ليال ويفعل هذا عشرات بل مئات الألوف ممن لا يحصى عددهم إلا الله في كل عصر من عصور الإسلام.
ولا يوجد رجل في الأرض أحبه الناس من أهل الإيمان كما أحب الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا رجل ذكروا اسمه كما ذكروه ودعوا له وصلوا عليه كما صلوا عليه، ولا يكاد يوجد مكان في الأرض على مدار الساعة إلا ويرتفع فيه صوت المؤذن باسمه مع اسم الله تعالى "أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمد رسول الله".
ولم يوجد رجل قط يتتبع الناس تفاصيل حياته فيأكلون كما يأكل، ويحبون من الطعام والشراب واللباس ما كان يطعم ويشرب ويلبس، وينامون كما كان ينام، ويقولون الأذكار التي كان يقولها عندما يركب ويأكل ويشرب وينام، ويشاهد الهلال والفاكهة الجديدة، ويدخل الخلاء، ويخرج منه، ويأتي أهله، ويحيي من يلقاه كما يفعل أهل الإيمان اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم واتباعاً في كل تفاصيل حياته. هذا فضلاً عن اتباعه في عبادته في صلاته وصومه، وحجه وجهاده، فإن أهل الإيمان يبحثون ويتتبعون أدق أعماله في الصلاة كيف كان يقف، وكيف كان يركع وكيف كان يسجد، وكيف يجلس بين السجدتين، وكيف يتشهد، وكيف يحرك أصبعه في الشهادة.
ويبحثون في تفاصيل حجه ويتبعونه في ذلك، ويجعلون ذلك نسكاً وديناً وشرعاً فيتعلمون كيف رمل في السعي؟! وكيف اضطبع في الطواف؟ وأين وقف عندما شرب من زمزم؟!
وسطوع نور الإسلام في الأرض، وظهور الحجة به على العباد أعظم، وأكبر من سطوع الشمس للعالمين، ولكن عمى البصائر ينكرون، ويجحدون.
إيمان المقلد يقع باطلاً:
ولما كان الإيمان لا يصح إلا بدليل، فالمقلد لآبائه وقومه الذي لم يتحقق في قلبه أن الإسلام حق، وما عداه باطل لا يكون مؤمناً، فإنني أحببت أن أسرد بعض أدلة الإيمان لتكون تثبيتاً للذين آمنوا وزيادة في إيمانهم فإن الإيمان يقوى ويزيد بتضافر الأدلة، ويتجدد بتجدد ورودها إلى القلب، وجدة ما يسمع منها {وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيماناً فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً وهم يستبشرون، وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون} وكذلك لتكون باباً وطريقاً ممن لمن لم يذوقوا للإيمان طعماً أن يجدوا الطريق إليه.
معرفة الرسول صلى الله عليه وسلم هو المدخل إلى الإيمان:(/5)
الإيمان بالرسول هو المدخل إلى الإيمان كله لأن الرسول هو الدال على الله والمخبر به، والهادي إلى طريق الله وصراطه.
ودلالة العقل والفطرة على الإيمان تقف عند حدود اليقين بوجود الله وعلمه وقدرته، ورحمته بعباده ثم يقف العقل عند ذلك فلا سبيل إلى العلم بمراد الله في الخلق وحكمته من إيجادهم، وماذا يكون بعد الموت؟ ولا سبيل للعقل ليعرف جنة أو ناراً، أو ملائكة أو يدرك بدايات الخلق ونهاياته، وكل ذلك لا يدرك إلا عن طريق الرسول ومن أجل ذلك كان الإيمان بالرسول هو الباب والمدخل إلى الإيمان.
الأدلة على أن محمداً بن عبدالله هو رسول الله حقاً وصدقاً:
هذه بعض الأدلة على أن محمداً بن عبدالله صلوات الله وسلامه عليه هو رسول الله حقاً وصدقاً، ونسردها أولاً على وجه الإجمال ثم نأتي إلى تفصيلها وبيانها:
(1) المعجزة الكبرى التي تحدى الله بها المعاندين المكذبين للرسول وجعلها معجزة باقية إلى يوم القيامة وهو القرآن الكريم.
(2) خوارق العادات التي أجراها الله لرسوله صلى الله عليه وسلم مما لا يحصى كثرة.
(3) أخبار الماضين مما لم يطلع عليها الرسول الأمي الذي لم يقرأ كتاباً واتيانه على النحو الدقيق كما هي عند أهلها ونقلتها.
(4) الاخبار المستقبلية التي جاءت وتحققت كما أخبر بها تماماً.
(5) السيرة الشخصية للنبي الكريم التي تدل دلالة قاطعة على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل الصدق والإيمان وأن مثله يستحيل عليه الكذب أو أن يدعي أو يقول غير الحق.
(6) متانة الدين والتشريع الذي جاء به وبناؤه على الحكمة والعلم مما يستحيل صدوره من أمي لم يقرأ ولم يكتب.
(7) كمال الوصف للإله الحق خالق السموات والأرض الذي يستحيل للبشر وحدهم تصوره ولا يمكن أن يكون هذا إلا وحياً.
(8) أخبار الرسول عن كثير من حقائق الموجودات والنبات، وخواص الأشياء في السموات والأرض والإنسان والحيوان مما لم يكن مثله معلوماً قط وقت الرسالة، والتي لم يطلع البشر عليه إلا بعد تراكم علوم هائلة، واكتشاف أدوات دقيقة، ومرور مئات من السنين.
(9) شهادة الشهود بصدقه وأمانته وأول ذلك:
وأول شاهد هو الله سبحانه وتعالى الذي شهد بأن محمداً بن عبدالله هو رسوله حقاً وصدقاً، وكانت شهادته سبحانه بالقول المنزل، وبأفعاله العظيمة التي أيده فيها كما نصره في بدر، وجعل هذا النصر مع قلة عدد المؤمنين وضعفهم وذلهم فرقاناً بين الحق والباطل. قال تعالى: {قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين والله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار}، وجعل سبحانه ذلك دليلاً على صدق رسوله صلى الله عليه وسلم، وكذلك شهادة الملائكة الذين أخبر الله بشهادتهم، والذين نصروه في معاركه وشاهدهم الكفار عياناً بياناً. وشهادة أولو العلم وخلاصة البشر في كل جيل ممن يرفعون أيديهم إلى السماء كل وقت وحين نشهد أن لا إله إلا الله ونشهد أن محمداً عبده ورسوله.
وشهادة أهل الذكر من اليهود والنصارى الذين دمعت أعينهم لما اطلعوا على صدقه وحقيقة حاله، ومسارعتهم إلى الإيمان به، وهذا في كل جيل وقرن من الناس منذ بعث رسول الله وإلى يومنا هذا.
وشهادة العجماوات من الحيوانات والجمادات من النباتات والأحجار، وكل هذا قد كان بأفصح عبارة وأوضح إشارة.
وتحت هذه الكليات من الأدلة تفصيلات كثيرة يخشع عند ذكرها القلب، وتدمع لها العين، ويهتف بها اللسان أشهد ألا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله.
وسيكون تفصيل هذا الإجمال في مقالات آتية إن شاء الله تعالى.
بقلم: عبدالرحمن بن عبدالخالق(/6)
لماذا "نكرههم"؟ ...
...
أحمد دعدوش ...
</TD ...
سؤال محير طرق رؤوس الغرب منذ الحادي عشر من سبتمبر لعام 2001، وما زال معلقا يبحث عن جواب. الكل هناك يسعى لحل هذا اللغز، ولكلٍ طريقته في البحث وزاويته في النظر.
"توماس فريدمان" الكاتب الأمريكي الذي تخصص في قضايا الشرق الأوسط، قام بإعداد برنامج وثائقي من ثلاثة أجزاء في "البحث عن الجذور" سعى من خلالها لتسليط الضوء على جذور الكراهية القابعة في عقول الشباب المسلم والتي قادت تسعة عشر شابا منهم إلى التضحية بأرواحهم في ما سمي بـ "غزوة مانهاتن"، وهي نفسها التي تهدد الغرب كله بالمزيد من الإرهاب والقتل العشوائي في حملة لم يعرف لها التاريخ مثيلا من قبل.
لم يقصّر فريدمان في تقصي أسباب هذه الكراهية عبر رحلاته الكثيفة إلى أنحاء العالم الإسلامي، كما لم يتوان عن لقاء العديد من رجال الفكر والسياسة والإعلام في مختلف الدول التي قصدها، بل إنه وُفّق أيضا للالتقاء بجمع من الشباب المسلم في إندونيسيا عبر حوار مفتوح ظن فيه أنه قد تمكن من الولوج إلى عقول الشباب المسلم، وفتح أرتاجه المستعصية بعصاه السحرية، ولم يلبث بعدها أن قدم لنا عمله الوثائقي الصحفي في ثلاثة أمسيات على قناة أبو ظبي، وذلك في الذكرى الثانية لأحداث سبتمبر، وتبع هذا العرض لقاء جماهيري موسع جمع كلا من فريدمان والمحلل السياسي لقناة أبو ظبي مع مجموعة مختارة من الشباب العربي المقيم في الإمارات ونخبة من المثقفين والمهتمين، فماذا كانت النتيجة يا ترى؟ وكيف أجاب هذا الصحفي المحنك عن السؤال اللغز؟
لا شك في أن الرجل لم يتجاهل الغضب العربي والإسلامي الحانق على جرائم الصهاينة وأعوانهم في حقهم، وقد ذكر ذلك في جرأة عندما حاول أن يقدم الإجابة الأولى للسؤال المحير قائلا بأن هناك الكثير من المسلمين الذين يبررون كراهيتهم لأمريكا بانحيازها لإسرائيل، ولكنه لم يلبث أن فنّد على الفور هذا الرأي بالمقولة الشهيرة: "إنها الديمقراطية".. وسرعان ما أدار عدسة التصوير نحو القادة العرب والمسلمين، وبدأ في عرض مطول يتقصى أخبار الديمقراطية في هذا المكان من العالم وعلى الطريقة الأمريكية، لتتحول مشكلة البرنامج من التساؤل عن أسباب الكراهية التي تقض مضاجهم إلى التأكد من أن التطبيق الشرق الأوسطي للديمقراطية الأمريكية يسير في الطريق الصحيح. وقد أقنع الرجل نفسه بهذه النظرية، ولم يقف مرة أخرى عند الإجابة الأولى التي نقلها عن العرب والمسلمين أنفسهم حول تبرير هذه الكراهية بالظلم الجائر الذي ترزح تحته تلك الشعوب، بل جاء إليهم ليخبرهم بأن المرض ينبع من داخلهم فقط، وأن العلاج لن يكون إلا من الداخل أيضا، وبمساعدة أمريكية على وجه الخصوص.
لم يتأثر الرجل بكل ما قيل في حواره مع حضور الندوة في أبو ظبي الذين حاولوا يائسين للفت انتباهه إلى الجانب الآخر، فقد بقي مصرا على أن أصل الداء في المسلمين أنفسهم، ولا يمكن أن يكون إلا كذلك. وقدّم نظريته تلك إلى الإدارة الأمريكية مشكورا ليبرر بها جرائم اليمين المتطرف، وهو يدرك أن هذا الأخير لا باع له في السياسة ولا في الكياسة، وأن اللغة الوحيدة التي يفهمها هي لغة العصا بدون جزرة، وقد بلورها هذا الرجل بشكل صحفي نزيه، قد يساعد مصاصي الدماء والنفط العراقيين في مهمتهم الإنسانية دون أي شعور بوخز الضمير.
ولكن هل يعقل أن يصل العالم المتحضر الذي قطع ذلك الشوط الطويل من التراكم الحضاري والمعرفي إلى كل هذا الانحطاط؟ هل هذه هي نهاية الحضارة يا ترى؟ وهل بتنا على مقربة من اللحظات الأخيرة للزمن؟
ترى لماذا يصم العالم أذنيه عن الحقيقة؟ ولماذا يصر الظالم على أن يقنع عقله بما تمليه عليه نفسه الأمارة بالسوء؟ أتراه يبحث بذلك عما يسكت به إلحاح بقايا الضمير في البحث عن مبرر لجرائمه؟ أم أنه يقدم محاولة هزيلة لخداع مظلوميه بأنه على الحق وأنهم وحدهم على الباطل، فيلقي باللائمة عليه ويخلص نفسه كالشعرة من العجين؟
إن لم يكن الأمر كذلك فبأي منطق آخر يمكن أن نفهم كيف تحولت "ماما أمريكا" في عيون المسلمين من أصل البلاء إلى بلسم للشفاء؟ وكيف يمكن أن نقنع أنفسنا بأننا لم نستسلم مرة أخرى في الاستجابة لمطالبهم التي لا تزال تنهال على رؤوسنا مطالبة بالإصلاح، ومن طرفنا فقط دون أي شيء آخر؟
على أي حال فإني ما زلت أجد نفسي حائرا تجاه سؤال فلسفي ساذج، إذ غالبا ما أتساءل فيما إذا كان الظالم يشعر بأنه قد خدع نفسه قبل أن يخدع المظلوم عندما يقدم له مبررات كهذه؟ أم أن حماقة هذا الأخير وجبنه عن قول الحقيقة كفيلان بتحويل هذه المبررات إلى حقائق قادرة على إقناع الجميع بأنها عين الصواب؟(/1)
أغلب الظن أن الإجابة التي حصل عليها فريدمان - والمطابقة تماما لكافة الأطروحات الإستراتيجية الأخرى- سوف تبقى على السطح لفترة طويلة ودون منازع، وستظل بمثابة المرجع الفكري لقادة الاحتلال والقتل، وهو أمر سمعناه بوضوح من وزير الخارجية البريطاني الذي قرر عدم ربط تفجيرات لندن الأخيرة باحتلال العراق، هكذا وبدون أي دليل سوى عدم رغبته في تحميل بلاده المسئولية.
أما العقدة المسئولة عن مركب النقص لأذيالهم في الجهة المقابلة، فلست أجد بين يدي أي مؤشر ينبئ بشيء من التغيير في حقها، لذا فإني أعتقد يا سيدي بأنه لن يردع الظالم عن ظلمه شيء، إلا يقظة المظلوم من رقدته، وخروجه للمطالبة بحقه، غير مبال بعضة من "رأس" أو ضربة من "ذيل".(/2)
لماذا لا نعمل؟
المحتويات
مقدمة :
أولاً : العجز والكسل :
ثانياً : خوف الفشل :
ثالثاً : الخوف من تبعة الأخطاء :
رابعاً : تهويل الأمر أو تهوينه :
خامساً : أوهام المستقبل:
سادسا : الورع الزائد:
سابعاً : الانشغال بالأمور المفضولة :
ثامناً : عدم الاقتناع بإمكانية التغيير :
تاسعاً : الانشغال بالنقد :
مقدمة
إن الحمد لله نحمده و نستعينه و نستغفره ونتوب إليه و نعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له و من يضلل فلا هادي له. و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له و أشهد أن محمداً صلى الله عليه و سلم عبده و رسوله. وبعد:-
إن عقارب الساعة لا ترجع إلى الوراء، و نحن أحوج ما نكون في تفكيرنا إلى النظر إلى الأمام دائماً، فهناك قضايا استقرت في أذهاننا و أذهان الناس، وتعتبر مناقشتها وتقريرها و التأكيد عليها رجوعاً إلى الوراء، اللهم إلا إذا كانت وصايا للتذكير وإعادة الحفز فهذا أمر نراه في كتاب الله سبحانه و تعالى كثيراً.
من تلك القضايا مشكلة تطرح كثيراً و نعاني منها في أوساط جيل الصحوة وشبابها، تلكم هي قضية الدعوة إلى الله عز و جل والتي أظن أنها أصبحت قضية واضحة عند الجميع، بل أصبحت في حق شباب الصحوة فرض عين، و الواجب البحث عن الأساليب والوسائل والعمل .
وحينما نأتي نقارن بين هذه القناعة الموجودة عند الشباب و بين أثرها الواقعي، نجد هؤلاء الشباب جميعاً مقتنعين بهذه القضية، ولكننا سنجد أن المسافة و الهوة شاسعة جداً بين أولئك الذين يقتنعون بضرورة الدعوة و العمل و المشاركة و بين الذين يعملون فعلاً، وحتى تدرك صدق هذه الدعوى انظر إلى أي تجمع في أي مكان كطلاب مدرسة عددهم ثمانمائة طالب أو يزيدون أو ينقصون، ستجد فيها عدداً من الشباب المتدينين الذين يشاركونك هذا الشعور و كل واحد منهم يشعر بأن الدعوة إلى الله واجبة عليه وأنه ينبغي أن يساهم فيها، لكن كم هم الذين يعملون من هؤلاء؟ ولو كان هؤلاء يعملون لرأيت أثرهم واضحاً في هذا التجمع الذي يعيشون فيه.
من الطبيعي أن تجد عدداً محدوداً من الناس لا يعملون مع اقتناعهم بأهمية العمل،لكن المشكلة تنشأ حين تتحول القضية من حالات فردية إلى ظاهرة .
وإن الشعور عام بهذه المشكلة بدليل التساؤلات الطروحة مثل قول القائل "إنني شاب، مقتنع بأهمية الدعوة و لكنني لا أعمل ما هو الحل في نظرك؟" فيدل ذلك على الشعور بضرورة حل هذه القضية و بضرورة تحطيم الحواجز التي تحول بيننا و بين العمل.
لكننا نتصور أن الحل إنما يتم بإقناع الناس بالدعوة إلى الله وأهميتها ووجوبها وهذا في الواقع رجوعٌ إلى الوراء في التفكي; إذ أن المخاطبين مقتنعون تماماً بأن الدعوة إلى الله عز و جل في حقهم قد غدت واجبة.
وصحيح أن تذكير الناس بأهمية الدعوة ووجوبها،و تذكيرهم بالقضايا البدهية المستقرة عندهم أمر لا شك في أهميته والنفس تحتاج إليه، و لهذا يأتي التكرار كثيراً في القرآن و السنة.ولكننا بحاجة إلى نقلة نوعية في طريقة التفكير، ومن ثم لغة الحديث لنواكب بذلك متطلبات جيل الصحوة من الشباب، وحتى يشعر المتلقي بالتجديد فيما يلقى إليه، ويشعر من فوّت على نفسه الفرصة حيناً من الزمن، بضرورة تدارك ما فات وأهميته .
من هنا كانت هذه المحاولة للتفتيش من الداخل، ولإثارة الانتباه لبعض ما يعيق شباب الصحوة عن العمل لهذا الدين مع قناعتهم بضرورة ذلك، ثم الوصول من خلال ذلك إلى حلول عملية لهذه المعوقات .
والتي من أبرزها:-
أولاً : العجز والكسل :
ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله عز وجل فيقول : "اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن والعجز والكسل والبخل والجبن وضلع الدين وغلبة الرجال" متفق عليه. ومرجع كل هذه الأمور إلى العجز والكسل،ومرجع بلاء الإنسان أصلاً إلى العجز والكسل. فإن الإنسان حين يمتنع عن العمل إما أن يكون غير قادر على أداء هذا العمل، و هذا هو العجز، أو أن يكون قادراً و لكنه لا يريد أن يعمل وهذا هو الكسل،والإنسان إن كان مصدر قلقه وألمه عن أمر مضى فهذا حزن و إن كان مصدر قلقه عن أمر سيأتي فهذا هم، ومصدر الهم والحزن أصلاً يعود إلى العجز والكسل، لأن الإنسان حين يشعر بأن هناك أمراً أمامه يمكن أن يواجهه فإنه يعيش هماً وألماً وقلقاً، وهذا في الواقع نتيجة العجز والكسل.
إن هذا الأمر الذي أمامك وتتوقعه إما أن تكون قادراً على مواجهته وحل المشكلة فاعمل لذلك، أو أن تكون غير قادر فعلاً فسلِّم أمرك لله، ثم فكِّر كيف تتعامل مع هذا الأمر الواقع، حينها تصل إلى نتيجة,وتنجو من الهم.
وذلك الأمر الذي مضى إن كنت تستطيع أن تعالج آثاره وتخفف منه، فاعمل وبادر, وإن كنت لا تستطيع فسلِّم أمرك لله عز وجل، وفكِّر فيما ينفعك،حتى تتخلص من الحزن.(/1)
فالانشغال بالهم و الحزن إنما هو صورة للعجز والكسل ونتيجة لهما، والمقصود-أخي القارئ- أن العجز والكسل هو الذي يعوق الإنسان عن مصالح دينه ودنياه, وكم يرى الإنسان أن هناك فرصاً كثيرةً يمكن أن تتاح له في أي ميدان من الميادين، ويعوقه عن استغلالها وتحقيق هدفه ومراده إما العجز أو الكسل.
ثانياً : خوف الفشل :
توجد فئة من الناس تجيد تصور الأوهام والفشل, وتسيطر عليها النظرة السلبية،فإذا كنت تريد أن تعمل عملاً أياًّ كان فأمامك احتمالان: إما أن تنجح أو أن تفشل، فلماذا دائماً تغلب احتمال الفشل؟،ولماذا لا تفترض النجاح؟ والإنسان الذي يتصور الفشل في أي مشروع أو عمل لا يمكن أن يعمل أبداً.
تمر بالإنسان مواقف كثيرة يلغى فيها احتمال الفشل;فالناس في المجتمع المتعلم الذي أنت فيه، مروا بعدد من المراحل الدراسية: الابتدائية، المتوسطة، الثانوية، و عدد منهم تجاوزوا المرحلة الجامعية، ، وحين كان أحدهم يدرس كان عنده احتمال قوي أن يفشل ولكن لماذا لم يسيطر عليه هذا الاحتمال ؟ولم نر أحداً من الطلاب تردد في دخول الامتحان حتى لا يفشل ؟ بل إن بعض الطلاب يدخل الامتحان و احتمال النجاح عنده 1% ومع ذلك يدخل الامتحان يبقى المؤشر يتأرجح عنده بين احتمالي النجاح والفشل بداية من دخول القاعة والاطلاع على الأسئلة وحتى ظهور النتائج . بل إن الطلاب المتفوقين هم أكثر الناس خوفاً من الفشل لأن الفشل بمقاييسهم هو مجرد النزول عن الامتياز لذلك فهم من أكثر الناس هاجساً .
والمقصود أن هذه تجربة مرت علينا جميعاً ولم تكن عائقاً لنا عن العمل والدراسة، مع أنه ربما يصل احتمال الفشل عندنا إلى نسبة كبيرة في بعض المواقف الدراسية، ومع ذلك نجحنا واستطعنا أن نتجاوز هذه المرحلة.
وكذلك الأشخاص الناجحون في حياتهم من فئات الناس المختلفة: من تجار، وكتاب، وشعراء، كانت نسبة الفشل أمامهم كبيرة ومع ذلك خاضوا التجربة ووصلوا إلى تلك المستويات المتقدمة فلماذا نقف نحن، ويمضي هؤلاء ؟.
وافترض أنك قمت بأي عمل دعوي، كإلقاء كلمة مثلاً، فما أكبر مصيبة يمكن أن تحل عليك؟ أهي الإغماء مثلاً؟!، افترض أن هذا قد حصل فعلاً فهل تعتبر هذا فشلاً؟بالطبع ليس فشلاً إلا على فرض أن هدفك أن تكون خطيباً ناجحاً أو يتحدث عنك الناس .لكنَّ هدفك أن تبلغ الدعوة وأن تعمل شيئاً في سبيل الله عز وجل، والله سبحانه يحاسبك على العمل ويأجرك عليه، أما قضية النجاح فقضية أخرى، ولو حاولت أن تؤثر على إنسان فنصحته فلم يستجب، فهل هذا يعني أنك فشلت؟
إنك عملت وأجرت وأجرك على الله عز وجل، وإن استجاب من تدعوه فالحمد لله، فلا تدري أيهما خير ؟!، وإذا كان الناس يستجيبون لك فهذا إن شاء الله مدعاة لأن تكون ممن قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: "من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً" رواه مسلم وغيره.
وإذا افترضنا أن أكثر الناس لا يستجيبون، فلعلك أن تكون ممن قال فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم: "بدأ الإسلام غريباً وسيعود كما بدأ غريباً، فطوبى للغرباء" رواه مسلم وابن ماجه وأحمد.
وقد وردت روايات كثيرة في تفسير الغرباء منها "أناس صالحون قليل في أناس كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم".فأنت بين أن يكون الذين يطيعونك أكثر من الذين يعصونك فسوف يحصل لك أجر هؤلاء، وكل خير علموه بسبب دعوتك و ما قدمت لهم سيحصل لك أجره، وإن كان الذين يعصونك أكثر من الذين يطيعونك فلعلك تكون ممن وصفهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالغرباء، ولك إحدى الحسنيين، كما كان المسلمون يقولون في الجهاد، كانوا لا يخافون الفشل في الجهاد و يقولون إن هي إلا إحدى الحسنيين النصر أو الشهادة، فقضية الفشل غير واردة.
ثالثاً : الخوف من تبعة الأخطاء :
فالشخص الأول يخاف أن يفشل ويخاف أن يخطئ، والشخص الثاني يخاف من تبعة الأخطاء فيقول: أخاف أن أقع في خطأ فأتحمل تبعة هذا الخطأ أياًّ كان .فهو مثلاً يخاف أن يتحدث مع الناس ويقول كلمة يزلُّ بها فيأثم، أو يخاف عندما يريد دعوة شخص أوينكر عليه أن ينكر عليه بطريقة خاطئة فتتسبب في كرهه للمعروف وصده عن الخير.(/2)
وانظر إلى الناس الذين كانوا في قمة النجاح بعد الأنبياء أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد مرت بهم مواقف وقعوا فيها في أخطاء كبيرة ومع ذلك لم تكن عائقًا لهم. ومن ذلك قصة أسامة رضي الله عنه، يقول رضي الله عنه: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحرقة من جهينة، قال: فصبحنا القوم فهزمناهم، قال: ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلاً منهم، قال: فلما غشيناه قال: لا إله إلا الله. قال: فكف عنه الأنصاري فطعنته برمحي حتى قتلته قال: فلما قدمنا بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال: فقال لي: "يا أسامة أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله" قال: قلت: يا رسول الله إنما كان متعوذا قال: "أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله" قال: فما زال يكررها عليّ حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم. رواه البخاري ومسلم.
فهذا خطأ وقع من أسامة رضي الله عنه في الجهاد، فهل توقف أسامة عن الجهاد بعد ذلك؟ لا بل كلنا نعرف أنه لما مات الرسول صلى الله عليه وسلم كان قد جهز جيشاً يقوده أسامة، من هو أسامة؟ أسامة هو الذي قتل ذلك الرجل الذي قال: لا إله إلا الله، فلو كان يفكر بنفس التفكير الذي نفكر به لقال : لماذا أكلف نفسي وأتحمل هذه المسؤولية الكبيرة؟ ولكنه كان يقول: هذا خطأ وقعت فيه وانتهى والله عز وجل يغفره لي، وما كان أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم ليصعدوا المنازل العالية وليرتقوا وهم يفكرون بتلك الأفكار أو يعيشون هذه الأوهام التي نعيشها
وخذ على سبيل المثال أيضاً سرية أرسلها الرسول صلى الله عليه وسلم فقاتلوا في الشهر الحرام، و أنزل الله عز وجل فيهم ((يسألونك عن الشهر الحرام قتالٍ فيه قل قتالٌ فيه كبيرٌ وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله..))الآية.البقرة217. ومع ذلك ما صدهم هذا، وما عرفنا أن واحداً من هؤلاء الذين قاتلوا في هذه السرية تخلف عن الجهاد حتى لا يقع في الخطأ نفسه. وهي مواقف كثيرة نراها في سيرتهم، فأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقعون في الخطأ بحكم الطبيعة البشرية لأنه أراد أن يأمر بالمعروف أو ينهى عن المنكر أو يجاهد أو يدعو فوقع في خطأ، ومع ذلك لم يكن الخطأ مسوغاً له لترك العمل.
رابعاً : تهويل الأمر أو تهوينه :
وهما نقيضان، فأحياناً يصور بعض الناس قضية من القضايا على أنها صعبة جداً، ولا يطيقها إلا الناس الكبار. فحين تقول له: لماذا لا تدعو إلى الله؟ يقول لك: الله المستعان، الدعوة تحتاج إلى إنسان يحمل العلم الشرعي، ويجب أن يكون إنساناً حليمًا، ويجب أن يكون إنسانًا شجاعًا وإنسانًا وقورًا، وإنسانًا له قيمته وكلمته عند الناس، ... ...إلخ، وقائمة طويلة جداً من الأمور التي أجزم لك أنها لا يمكن أن توجد في بشر. فمن الممكن أن تجد إنسانًا عنده علم لكنه إنسان سريع الغضب بفطرته، أو تجد إنسانًا حليمًا لكن عنده قصور في العلم أو عنده قصور في قدرته على الإقناع .....إلخ، ولو قرأت في تراجم السابقين لوجدت مثل ذلك كثيراً، وما كان ذلك ينقص أحدهم أبداً، و بقي إمامًا، ورجلاً مشهورًا، واستمر رجلاً يؤدي أدوارًا، والأمة لا تزال تتغنى بتلك الأمجاد، و لا يزال كل إنسان يستشهد بما فعله فلان وفلان من الناس.
ومن الناس من يهوِّن لك القضية، ويقول: هذه قضية سهلة، هذه قضية تافهة،.. الخ، تراه مثلاً يقول لك: الحمد لله، ألقي كلمة بعد الصلاة، وأقرأ عليهم من رياض الصالحين، والذي فيه خير يستمع كلام النبي صلى الله عليه وسلم
والمهم أن كلاهما أمرٌ يعوق الإنسان عن العمل، فالقضية ليست قضية صعبة، ولا هي قضية سهلة، لكن تحتاج إلى جهد وبذل وعمل .
خامساً : أوهام المستقبل:
فبعض الناس يجيد تصور الأوهام و يجيد طرح الاحتمالات والإنسان الذي يعيش على الاحتمالات لا يمكن أن يصنع شيئاً أبداً، وربما كان هذا جزءاً من قضية الخوف من الفشل التي أشرنا إليها قبل قليل، لكن هذا الشخص يطرح لك قضايا أخرى ويبدأ يتخوف من أي عمل، يتخوف من أي مؤثر، ويبدأ يخلق أمام نفسه حواجزا وأوهامًا عجيبة جداً.
وهذا منطق غريب فنحن نقرأ كل يوم سير الأنبياء، و نقرأ كل يوم سير المصلحين، فهل تتصور أنهم كانوا يعيشون على الأوهام التي نعيشها؟ وأنتم تقرؤون في القرآن مواقف إبراهيم-عليه السلام- وكيف بذل وكيف دعا وكيف تحمل، وهو كان يعرف أن الكلمة والموقف الذي كان يقفه سيجني من ورائه التبعات. وهكذا سائر الأنبياء والصالحين في القران, فلو كان أحدهم يفكر بالعقلية التي نفكر بها لم يكن من الممكن أن يقوم بأي دور ولا أي عمل.
سادسا : الورع الزائد:(/3)
فأحياناً يتورع الإنسان عن أي عمل فعندما تقول له قل كلمة أو افعل هذا الأمر، يقول لك : الله المستعان، أنا لست بأهل لذلك!و يرى أن من الورع أن لا يقول هذه الكلمة ...،ولو قلت له: تفعل هذا تورعاً، قال :نعم، ولو سألته فقلت: أنت الآن تدرس وتعلم طلاب العلم وتقول كلامًا وتأخذ عليه أجرًا، فلماذا لم تتورع؟ وأنت تعلم العلم، وتوقع عن رب العالمين وتدرس الناس العقيدة أو تدرس الناس تفسير كلام الله عز وجل، ألم تفكر أبداً أن تكون ممن قال في القرآن بغير ما يعلم؟، ولكن حين يقال لك تكلم في مسجد أو ألقِ موعظة على الناس فإنك تحسب لذلك ألف حساب، وتتخيل أن هذا من الورع، ولو سألته فقلت :أنت الآن تورعت عن القول، لكن ألا يوجد باب آخر في الورع ؟ ألا تتورع عن السكوت، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت"متفق عليه. فبدأ بقول الخير، إذاً فأنت قل خيراً أو أصمت. ولماذا لم تفكر في يوم من الأيام حين تهم بالسكوت أو بالقعود عن العمل أن الورع يدفعك إلى العمل ؟، وأن ترى أن من ورعك أن تعمل؟، ولماذا لم تفكر في أيهما أفضل أن تسكت ولا تعمل شيئاً ورعاً، أو أن تجتهد وتبذل السبب وتعمل ولو وقعت في خطأ، وإذا وقفت بين يدي الله عز وجل قلت له يا رب "لا يكلف الله نفساً إلا وسعها..." الآية.البقرة286. وقد أتيت بما في وسعي واجتهدت، والإنسان إذا اجتهد وبذل ما في وسعه وخطا خطوة فإن كانت غير صائبة فهو مثاب على ذلك، وإن أصابت فله أجران.
والأنبياء هم أئمة الورع وكذلك الذين قص الله عز وجل علينا قصصهم في القرآن، والصالحون السابقون. والله عز وجل أخبرنا في كتابه أنه أخذ الميثاق على الذين آتاهم الكتاب ((و إذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيِّنُنَّه للناس ولا تكتمونه...))الآية.آل عمران187. وكثير من القراء أوتي الكتاب: أوتي القرآن، أو على الأقل القضية التي نحن نريده أن يقوم بها، هو أوتيَها من الكتاب وهو يعلمها ويعلم حكمها. إذاً فقد أُخذ عليك الميثاق أن تبين للناس، وأخذ عليك الميثاق ألا تكتم ما عندك، لا يوجد مجال للورع في هذا الأمر، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "من كتم علماً يعلمه جاء يوم القيامة ملجَّماً بلجام من نار" و"من كتم علماً "هذه نكرة تعم أي علم، فهل هذا الخطاب خاص بالعلماء؟ أي إنسان عنده علم يجب أن يظهره وإذا كتمه سيلجم يوم القيامة بلجام من نار، ولماذا لا تتورع أنت عن هذا؟، لماذا تتورع أن تقول ما لا تعلم وتخشى أن تكون ممن قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: "كنت آمركم بالخير ولا آتيه" رواه البخاري ومسلم. ولم تفكر يومًا من الأيام أنه يمكن أن ينطبق عليك "ألجم بلجام من نار"؟! والله عز وجل يقول في كتابه: ((إن الذين يكتمون ما أنزلنا من لبينات و الهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون))البقرة159. وهذه الآية ليست خطاباً لفئة خاصة من الناس، فكل إنسان يعلم شيئًا أنزله الله عز وجل للناس ويكتمه، مستحق لهذا الوعيد، لماذا لا تتورع يا أخي أن تتنزل عليك لعنة الله؟، أن يلعنك اللاعنون؟.
ولا يكاد ينقضي عجبك وأنت تتأمل سير أمثال هؤلاء، الذين يعتقد أحدهم أن من تمام الورع ألا يقول كلمة، من تمام الورع أن لا يأمر بالمعروف، من تمام ا لورع أن لا ينهى عن المنكر، من تمام الورع أن يغلق عليه الباب و يعيش لوحده، ويقول: أشغل نفسي بالعبادة، والدعوة يقوم بها غيري والحمد لله.
الورع الحقيقي أن تتورع عن السكوت، الورع أن تتورع عن عدم العمل. ونحن بلا شك لا ندعو الناس إلى التهور، ولا ندعو الإنسان إلى أن يقول ما لا يعمل، وأن يتصدر لما لم يتأهل له، لكن ندعو إلى أن يعلم الإنسان أن الورع له ضوابط ووضع معين، فكما هو في الترك فهو أيضاً في الفعل.
سابعاً : الانشغال بالأمور المفضولة :
أحياناً يشغل الإنسان نفسه في أمور مشروعة لكنها أمور مفضولة. وقضية التفاضل بين الأمور قضية نسبية بين الناس، فمثلاً أنت -أيها القارئ- سمعت لعدد من العلماء والدعاة والمتحدثين،وقرأت لكثير من الكتّاب وتدين بالفضل للكثير من هؤلاء، و تعرف أنك استفدت استفادة كبيرة من هؤلاء، لكن لو سألتك سؤالاً، ألا تتصور مثلاً أن هذا العالم الذي سمعت منه أو الكاتب الذي قرأت له أو الشخص الذي استفدت منه كان من الممكن لو فكَّر في التفرغ لقرأ واستفاد أكثر ؟ علماً بأن أكثر الناس شعوراً بالحاجة للعلم والتعلم هم العلماء. وكلَّما زاد الإنسان علماً ازداد علماً بحاجته للعلم وازداد علماً بجهله. فنقول: نعم التعلم فاضل، لكن حينما تنشغل بالتحصيل الذاتي والتعليم الذاتي عن تعليم الناس، وعن الإفتاء، وعن القضاء بين الناس، وعن التدريس، وعن التأليف وعن التصدر للناس فأنت انشغلت بمفضول عن فاضل. وقس على ذلك أمورًا كثيرة. والمقصود أننا يجب أن نفقه مراتب الأعمال.(/4)
وإن من وسائل الشيطان في إضلال الناس أن يشغل الإنسان بالعمل المفضول عن العمل الفاضل. ولا يتصور أحد منا أنه بمجرد أن عمل عملاً مفيدًا صار يعمل ولا حجة لأحدٍ عليه، بل يجب أن نفكر هل هذا هو أفضل عمل يمكن أن نعمله أو لا.
ثامناً : عدم الاقتناع بإمكانية التغيير :
تمت فئة لا تصنع بضرورة التغيير ، وترى أن المجتمع بخير، وأننا أفضل من غيرنا، و الانشغال مع هذه الفئة من إضاعة الوقت، والانشغال بالمفضول عن الفاضل، وهي فئة قد تجاوزها الزمن.
ولكن قد تكون مشكلتنا مع من هو مقتنع بأن المجتمعات الإسلامية فيها فساد، بل وصل به الأمر إلى أن صار عنده يأس من التغيير،وصار يشعر أنه لا يمكن التغيير مطلقاً.
ولهذا نقول يا أخي : طريقنا طريق الأنبياء، والرسول صلى الله عليه وسلم ذكر أنه "كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي وإنه لا نبي بعدي" رواه البخاري ومسلم. لكن هذه الأمة ليس فيها إلا النبي صلى الله عليه وسلم، ويلزم من ذلك أن الأمة مؤهلة أن تقوم بدور الدعوة وحمل الرسالة,ولو لم تكن كذلك لأرسل الله فيهاأنبياء.
وحين جاء النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن في مكة من يقول: لا إله إلا الله. كان هناك ستة من الحنفاء، يعتزلون الناس، لكن البقية في شرك مطبق، وفي تخلف كبير، وكانت البلاد كما قال الرسول صلى الله ليه وسلم: "...وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب..." رواه مسلم. فكيف كان التغير الهائل الذي حصل في الجانب الاجتماعي؟!، والجانب الاقتصادي؟، والجانب العلمي؟، أمة كانت متخلفة بكل صور التخلف ثم تغيرت.
ربما تقول لي: إن هذا نبي ورسول ومؤيد! أقول لك:حين مات الرسول صلى الله عليه وسلم أين وصل الإسلام؟ كان في الجزيرة ولم يتجاوزها، وحين جاء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم تولوا الأمر فوجد الصحابة أمامهم مصيبة كبيرة حصلت بعد النبي صلى الله عليه وسلم وهي الردة، ولم يبق إلا المدينة ومكة والطائف ومن حولها، فقاموا لله و جاهدوا حتى أعادوها للإسلام، وفي سنتين من خلافة أبي بكر، بدأت الفتوحات. وبدءوا يغزون فارس والروم ويفتحون البلاد، وكانت بلاد العراق، وخراسان، ومصر، والشام، بلاداً مطبقة على الشرك ومع ذلك يقول عبد الله بن عمر رضي الله عنه:"ارتج علينا الثلج ونحن في أذربيجان" وأبو أيوب رضي الله عنه دفن تحت أسوار القسطنطينية، وغيرهم. هل كان أهل تلك البلاد يعرفون لغة العرب ؟ لم يكونوا يعرفون لغة العرب، ولم يكونوا عرباً، ومع ذلك استطاع الصحابة أن يغيروا في بلادهم.
وهذه البلاد قبل أن يأتيها الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله، كيف كانت؟ وكيف تحولت بعد دعوته؟. فلو كان الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله يفكر بهذه العقلية التي نفكر فيها ما عمل شيئاً، وهو بشر وإمام مجدد يسر الله عز وجل على يديه هذا التغير الهائل.
وانظر إلى الصورة المقابله وكيف تغيرت مجتمعات المسلمين اليوم تغيرا هائلا نحو الفساد ولإنحراف .
إن هذا التغير يمكن ان يتم في الاتجاه المقابل, فتنتقل المجتمعات من الواقع السيء إلى الواقع الصالح.
إن المجتمعات كلها تتغير حين تكون عندها إرادة. ولقد درسنا التاريخ وعرفنا أن أوروبا التي يقول العالم الآن أنها بلاد العلم والتقدم، كانت في يوم من الأيام في ظلمات وجهل، وكانوا لا يفقهون شيئاً، وفي قمة التخلف في كل مجالات الحياة وميادينها، ثم بدءوا يتعلمون وتغيرت حياتهم.
وبغض النظر عما في هذا التغير من انحراف ضلال، لكنه شاهد على أن المجتمعات إذا أرادت أن تتغير تحقق لها ذلك.
أخر يؤيد ذلك:الله عز وجل أرسل هذه الرسالة الخاتمة وتعبد الناس بهذا الدين، بهذا يعني أنهم قادرون على أن يغيروا حياتهم في ضوء الدين.
إن ثقل الواقع والفساد الذي يعيشه، يخيل لنا أنه لا يمكن أن يتغير الواقع، وأننا غير قادرين على التغيير. ولهذا نستسلم ونقول: الله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله، والمشتكى إلى الله، إلى غير ذلك من العبارات التي استخدمها الناس لترك العمل. إننا لا نعجب حين نسمع هذا الكلام من عامي، أو من رجل جاهل، أو رجل لا يعرف مهمته، لكنَّنا نعجب كل العجب أن يسيطر على الصالحين هذا المنطق من التفكير.
تاسعاً : الانشغال بالنقد :
لا شك أن النقد ضرورة ومطلب، ونحن لا نُسكِت الناقدين ولا نعترض على أي إنسان ناقد، ولا ندَّعي العصمة.
فلا يسوغ: أن نتصور أن حُسن النية، ونبل المقصد، وسلامة الأهداف، يجعلنا نستعصي على النقد، لكن النقد يتحول إلى صورة أخرى، صورة مثبطة عن العمل.
إن هناك نماذج كثيرة من الناس ممن يجيد النقد على حساب العمل. إنه ينتقد رجال الحسبة,وينقد الدعاة إلى الله,وينقد الشباب الصالحين ويجعل هذا النقد تكأة لقعوده,وسلاحا يشهره في وجه من يطالبه بإن يعمل ويقدم جهدا لنصرة دين الله عز وجل.(/5)
وربما كان كثير مما يقوله له أصل من الصحة ,لكنه قد يكون مبالغا فيه, وهب أنه صحيح جملة وتفصيلا, فأين جهد هذا الناقد؟ وأين عمله؟ فلو كان هذا المنتقد جادا لترك هذا الا نتقاد أثره على نفسه وبذل جهده في تعويض نا يراه من تقصير من الاخرين. وكثير من هذه الصور من الأنتقاد يكون باعثها الدفاع عن النفس بهذه الحيل اللاشعورية;فلو أنه أثنى على هؤلاء العاملين وجهودهم لكان ذلك يعنى الاعتراف بالتقصير,والشهادة على نفسه بذلك ,والاعتراف بالخطأ ثقيل على النفس ,فيهرب منه صاحبه إلى اتهام الآخرين وانتقادهم.
والانتقاد يجيدة كثير ممن لا يجيدون العمل ,أو لا يطيقون الاستمرار فيه والصبر عليه .إنك حين تعرض لوحة فنية على فئة من الناس فسوف تجد عددا منهم يكشف فيها عيوبا كثيرة,لكن قدرة هؤلاء النقدين لا يمكن أن ترقى إلى قدرة الفنان الذي أبدع هذه اللوحة,وقل مثل ذلك حين يستمع طائفة من الناس الى خطيب مميز الناس قادرون على اكتشاف مجموعة من الأخطاء التي يقع فيها ,مع أنه قد لا يوجد فيهم من يجيد الخطابة فيهم كما يجيدها هذا الخطيب.
لعلي أكتفي بما قلته، وإن كانت هناك قضايا كثيرة غير ماذكر تعوقنا عن العمل ,ولو فتشنا في أنفسنا لرأينا نماذج من ذلك و لعل هذا الموضوع أن يفتح لنا ميداناً لنفكر في مثل هذه المجالات.
وفي الختام، أسأل الله عز وجل أن يجعلني وإياكم من الدعاة لدينه والعاملين له، وأن يوفقنا وإياكم جميعاً لطاعته، إنه سميع مجيد، وصلى الله على نبينا محمد، وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد ألا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.(/6)
لماذا لا ننتصر؟!
خباب بن مروان الحمد
khabab00@hotmail.com
</TD
أحمدك ربي حمداً يليق بجلال وجهك وعظيم سلطانك ، وأصلي وأسلم على الهادي البشير، والسراج المنير المبعوث رحمة للعالمين .
صلى عليك الله ما جن الدجى وما جرت في فلك شمس الضحى
ورضوان الله على الصحابة الأخيار، والهداة الأبرار،الذين جاهدوا مع رسول الله حق جهاده،فما وهنوا لما أصابوهم في سبيل الله وما ضعفوا،وما استكانوا والله يجب الصابرين .
اللهم فاطر السموات والأرض ،عالم الغيب والشهادة،أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون،اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم،وبعد،،
فإن من سنن الله الجارية،أنه إذا عصى الناس أمره،واستباحوا محارمه، وبغوا وظلموا، وابتعدوا عن صراطه المستقيم،ومنهجه القويم،أن يجازيهم بسوء أعمالهم،وينتقم من كل جبار عنيد،((وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً)) (فاطر:43)
ومن سنن الله أنه لا يغير نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، من الانحراف عن المنهج، وسلوك الطريق الخاطئ، وتضييع الأمانة .
((ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)) (الأنفال:53)
إلى الله نشكو :
في هذه الأيام تجد الناس في مجالسهم يخوضوا ويتحدثوا عن حال الأمة الإسلامية المنكوبة،ومآسيها،ونكباتها،وما أُصيبت به من الهوان والذل خاصة بعد أن رأوا وسمعوا في وسائل الإعلام المتعددة ،صوراً لمآسي المسلمين تفت الفؤاد،وتجرح الخاطر، وتقلق القلب، وتهز البدن.
إنها صور ليست في قطر واحد من أقطار المسلمين ، بل هي صور تتعدد وتتكرر كرات ومرات ، ففي فلسطين وأفغانستان ؛ صور ومآسي ، وفي العراق والشيشان ؛ صور ومآسي، وفي الفلبين وكشمير وبورما والسودان والصومال وأندونيسيا مجازر وجزائر .
في كل جزء من بلادي قصة تروي ضياع كرامة الإنسان
فصورة لرجل كبير السن في فلسطين وقد خط الشيب لحيته فلا تراها إلا بيضاء وهو يرفع يديه يناجي رب الأرض والسماء بأن يهلك الأعداء ويصب عليهم القوارع والفواجع، وأن يدمرهم تدميراً.
وصورة لطفلة صغيرة في أفغانستان تبكي وتشهق من البكاء بحثاً عن والديها اللذين كانا تحت أنقاض البيت الذي هدم عليهما ففاضت روحهما وهما تحت الأنقاض،والطفلة المسكينة تصيح وتصرخ بحثاً عن والديها! وصورة ثالثة لطفل صغير قد أمسك خمسة من اليهود به فأحدهم يكاد أن يخنقه،وأحدهم قد شد شعره بكل ما أوتي من قوة وعنجهية، وآخر يركله بقدمه يريد أن يمشي على قدمه بكل سرعة، فهذا الطفل مجرم وإرهابي!والطفل يبكي ويصيح ولكن أين المغيث ؟!
وصورة أخرى لأم تريد أن تدافع عن ابنها،وفلذة كبدها، بعد أن أمسك اليهود بتلابيب ثيابه ، وهي تترجاهم بأن يفلتوه ويطلقوا سراحه،فما كان من أحد هؤلاء القردة إلا أن فقد صوابه وطار لبه فأمسك بهذه المسكينة بيديه الغليظتين ودفعها على الأرض بقوة فسقطت وهوت على رأسها ثم أطلق عليها عياراً نارياً من سلاحه فجندلها بالدم ثم قهقه ضاحكاً بسخرية قائلاً لها بكل خبث " ابنك لن تراه عينك " .
وصورة أخيرة لرجل شاب قد بلغ الثلاثين من عمره في إندونيسيا قد أسره أعداء الله النصارى فربطوه يديه مع رجليه،وشدوا الحبال الموثوقة على جسمه، ثم أهووا به إلى الأرض لتبدأ المجزرة حيث أنهم جاءوا بالدبابة تمشي رويداً والشاب يصرخ ثم أمَّرُوا الدبابة على جسده الموثوق ببطء لكي يموت ألف مرة إلى أن وصلت الدبابة لرأسه فلم يبق له رسماً ولا أثراً، فقد اختلطت دماؤه بعروقه بلحمه فأصبح كتلة لحم، بل لا أثر له،إنه جسم أصبح لا يرى بعد أن هشمته جنازير الدبابة التي لا ترحم .
لا أريد أخي القارئ أن أستطرد فكأني بك قد استبشعت تلك الصور،ووقف الدم في جسمك،ولم تطق أن تسمع الباقي .
وبعد أن يرى القوم في مجالسهم مثل هذه الصور المبكية، فلن تسمع إلا أنين الزفرات،ولن تبصر إلا سكب العبرات وكثرة التأوهات .
حقاً إنها تبعث القشعريرة في الجسد، فالعين تفيض دمعاً،والقلب يشكو لوعة وهماً،واللسان يتحوقل ويسترجع،بل تخنقه العبرة فيخرس عن الكلام ألماً وغماً .
أين الخلل ؟
لا شك أننا في زمن كثرت فيه النكبات،وحلت به المصائب، والمدلهمات وانتشرت فيه المعاصي والموبقات،وكثرت الأمراض والآفات .
تلك قضية لا يناقش فيها إلا جاهل بواقع أمته،أو رجل مكابر!
إنه سيقرع سمعنا في مثل المجلس الذي ذكرته آنفاً أنه ما حل البلاء علينا إلا لتخاذل الحكام،وضعف الشعوب،وتقاعس العلماء .
وإني أقر وأجزم أن هذا الذي قيل هو جزء، بل سبب من الأسباب الهامة التي جعلت الأمة الإسلامية أمة ضعيفة ووصمت بهذا المثل .
ولكن هل هذا هو السبب الرئيس الذي جعلنا مهانين في الأرض وأصبحت أمتنا توصف بأنها أمة المصائب،أم أن هناك شيئاً آخر قد ضيعناه ونسيناه ؟(/1)
هل سألنا أنفسنا أين يكمن الخلل،ومن أين انتشرت هذه الأزمات؟
* ثمت أمور يجب علينا أن نسألها أنفسنا ونجيب عنها بصدق وواقعية، لماذا تراجع المسلمون وهزموا ، وتقدم غيرهم وانتصروا ؟
لماذا تفكك المسلمون وانقسموا شيعاً كل حزب بما لديهم فرحون،وأعداء الله يرصون الصفوف، ويجمعون الجموع ؟
لماذا حورب الإسلام وأهل السنة والجماعة، وفتح الباب على مصراعيه لأهل العلمنة والشر والفتنة وغيرهم ؟
هل من الصحيح إذا سمعنا مثل تلك المآسي آنفة الذكر أن نصرخ قائلين :
وامصيبتاه؟ أو يرفع أحدنا صوته قائلاً:
قتل امرئ في غابة جريمة لا تغتفر وبيد شعب كامل مسألة فيها نظر
إنني لا أحقر من تلك الصرخات، ولكن هل هي الطريق الصحيح لتصحيح المسار، ومعالجة الأخطاء، والرد على الكفار أعداء الله ؟
ـ لا شكَّ أن الوقاية خير من العلاج،والسلامة لا يعدلها شيء،لكنَّ من المهم أن يعلم أنه ليست المشكلة بأن تجد المرض يدب في جسم إنسان،فإن الجسم معرض للآفات والأمراض،ولكن المشكلة،أن تجد ذلك المرض يدب في جسم الإنسان ويفتك بأعضائه، وينتهب منها السلامة،ومع ذلك فإنَّ الإنسان لا يشعر بذلك المرض، وإن شعرلا يقاومه، بل يندب حظه،ويرثي حاله، ويزعج الناس بأناته، ويوقظ أهله بآهاته،وزفراته.
مثلاً لمثل هذا حال كثير من المسلمين، فهم في الحقيقة لم يكتشفوا المرض الداخلي في أمتهم ولم يعالجوه، ومع ذلك فما تراهم إلا وهم يندبون تلك المصائب، ويبكون هاتيك الفواجع.
دع النياحة وابدأ بالعمل
إذا علمَ ذلك وأن الداء منا فلا بد أن نبحث عن الدواء، ورسول الهدى صلوات الله وسلامه عليه أخبرنا أنه(ما أنزل الله داء وإلا وأنزل له دواء) أخرجه البخاري،وزاد ابن ماجة بسند صحيح:(علمه من علمه وجهله من جهله) ومن الجدير بنا أن نعقل هذه المصائب،ونحاول أن نعالجها .
وقد يتبادر إلى أذهاننا سؤال:هل ظلمنا الله – عز وجل – عند ما أنزل علينا المصائب؟
والجواب؛لا،وحاشا ربنا، فإن الله عز وجل كما قال عن نفسه((إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)) (يونس:44) وقال تعالى:(( وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ)) (فصلت: 46)
وأخبرـ سبحانه ـ أنه حرَّم الظلم على نفسه،فقال:( يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا ) أخرجه مسلم .
وقال تعالى : (( وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعَالَمِينَ)) (آل عمران: 108) وقال تعالى (( وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبَادِ)) (غافر: 31)
إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث،فيقيننا بالله أنه صاحب العدل المطلق والبعيد كل البعد عن الظلم والجور.
ولكن الله عز وجل أنزل علينا قرآناً يتلى إلى يوم القيامة وقد بيَّن فيه أنه ما من مصيبة تحل بالمسلمين إلا بسبب معاصيهم وذنوبهم وتضييعهم حرمات ربهم وأوامره ونواهيه،فقال تعالى:((وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ)) (الشورى:30)
وقال تعالى:(( فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ)) (لأنفال:54)
وقال تعالى:((مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ)) (النساء: 79)
فهذا أول العلاج الذي يجب علينا أن نعرفه حتى نعالج به واقعنا كي نعلم أنه ما من مصيبة وقعت علينا وحلت بديارنا إلا بسبب أنفسنا وذنوبنا وتقصيرنا في حق الله، ومستحيل أن ننتصر ونحن قد ضيعنا الله ونسيناه ولا غرابة بعدها أن ينسانا ربنا((وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ)) (الحشر:19) ((نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ)) التوبة:67)
إن سنن الله لا تتغير ولا تتبدل فالله عز وجل وعدنا بالنصر وأن يهزم عدونا ولكن إن نصرناه وجاهدنا لإعلاء كلمته،وربينا أنفسنا على طاعته، والفرار من معصيته،قال تعالى:((إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ)) (محمد:7)،وأخبر تعالى أنه لن ينصر إلا أهل الطاعة والإيمان لا أهل الفجور والخذلان فقال تعالى:((إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ)) (غافر:51)
وبين لنا سبحانه أنه إن تولينا عن نصرة دينه ورفع رايته،فإنه يستبدل قوماً يقومون بحق الله وبنصرة دينه((وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ)) (محمد: 38)(/2)
قال سيد قطب – رحمه الله -:(لقد كتب الله عز وجل على نفسه النصر لأوليائه حملة رايته وأصحاب عقيدته،ولكن علق هذا النصر بكمال حقيقة الإيمان في قلوبهم ، وباستيفاء مقتضيات الإيمان في تنظيمهم،وسلوكهم، وباستكمال العدة التي في طاقتهم ، وبذل الجهد الذي في وسعهم ، فهذه سنة الله،وسنة الله لا تحابي أحداً،فأما حين يقصرون في أحد هذه الأمور، فإن عليهم أن يتقبلوا نتيجة التقصير، فإن كونهم مسلمين لا يقتضي خرق السنن، وإبطال النواميس ، فإنما هم مسلمون،لأنهم يطابقون حياتهم كلها على السنن ويصطلحون بفطرتهم كلها مع الناموس .
ولكن كونهم مسلمين لا يذهب هدراً كذلك ، ولا يضيع هباءً فإن استسلامهم لله وحملهم الراية وعزمهم على طاعته، والتزام منهجه، من شأنه أن يرد أخطاءهم وتقصيرهم خيراً وبركة في النهاية ، بعد استيفاء ما يترتب عليها من التضحية والألم والقرح ، وأن يجعل من الأخطاء ونتائجها دروساً وتجارب تزيد من نقاء العقيدة ، وتمحيص القلوب ، وتطهير الصفوف ، وتؤهل للنصر الموعود، تنتهي بالخير والبركة، ولا تطرد المسلمين من كنف الله ورعايته،بل تمدهم بزاد الطريق،مهما يمسهم من القرح والألم والضيق أثناء الطريق.
وبهذا الوضوح والصراحة معاً يأخذ الله الجماعة المسلمة،وهو يرد على تساؤلها ودهشتها مما وقع،ويكشف عن السبب القريب من أفعالها ((أوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ)) (آل عمران:165)
فأنفسكم هي التي أخلت بشرط الله وشرط رسوله صلى الله عليه وسلم وأنفسكم هي التي خالجها الهواجس والأطماع،وأنفسكم هي التي عصت أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم((وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ)) (آل عمران: 152)
فهذا الذي تستنكرون أن يقع لكم وتقولون:كيف هذا؟هو من عند أنفسكم بانطباق سنن الله عز وجل حين عرضتم أنفسكم لها )ا.هـ(في ظلال القرآن)
ولهذا ورد في الأثر عن العباس بن عبد المطلب:(ما نزل البلاء إلا بذنب وما رفع إلا بتوبة ) فلنندب ذنوبنا قبل أن نندب مآسينا ولنحارب أنفسنا الأمارة بالسوء وننهاها عن المنكر عندئذ سيحصل النصر وينجلي الغبار والله لا يخلف وعده ((وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)) (النور:55)
أي أُخي: تأمل وانظر إلى بلاد المسلمين:
كم يوجد فيها من ضريح يعبد من دون الله و يطاف عليه ويستغاث بصاحبه ؟
كم هم الذين لا يحكمون بما أنزل الله بل يتحاكمون إلى الطاغوت؟
كم من بدعة تقام في ديار المسلمين صباح مساء ؟
كم من فاحشة تنتهك في ظلام الليل الدامس،وفي الصباح المتفتح الزاهر؟
كم من إنسان يبخس الكيل والميزان ولا يصدق في المعاملة مع ربه ومع الناس ؟
كم من صَرْحٍ لبنوك الربا التي جاهرت الله بالمحاربة والمعصية ؟
كم هم الناس المعرضون عن دين الله وحكمه وأقبلوا على الملاهي والخمور والأغاني والمسلسلات ؟
كم هم الناس الذين لا يصلون ويدعون بأنهم مسلمون ؟
أنظر للشوارع والأسواق فلا ترى – ويا للأسف ـ إلا تخنث للرجال ، وترجل النساء، والغيبة،والكذب، والنميمة ، والغش ، والظلم ، وخفر العهود ، وإخلاف المواعيد ، وأكل حقوق الناس، والعصبية القبلية والعرقية المنتنة، والزنا،واللواط، والنفاق، وسوء الأخلاق ـ إلا قليلاً ممن رحم ربك ـ
ثم مع هذا كله نريد نصر الله ، وأن يهزم عدونا ويكف شره ويكبت أمره !!
عن عبد الله بن عمر – رضي الله عنه – قال كنت عاشر عشرة من المهاجرين،عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ،فأقبل علينا بوجهه،وقال : ( يا معشر المهاجرين – خمس خصال إذا ابتليتم بهن ، وأعوذ بالله أن تدركوهن:ما ظهرت الفاحشة في قوم حتى أعلنوها إلا ابتلاهم الله بالسنين، وشدة المؤنة ، وجور السلطان ، ولا منع قوم الزكاة إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا ، ولا خفر قوم العهد إلا سلط الله عليهم العدو فأخذ بعض ما في أيديهم ، وما لم تعمل أئمتهم بما أنزل الله عز وجل في كتابه إلا جعل بأسهم بينهم ) أخرجه البيهقي والحاكم بسند صحيح .
جزاءً بجزاءِ ، ومثلاً بمثل ، إذا نحن عصينا الله وخالفنا أمره سلط علينا الأعداء والوباء،والضراء((فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)) (النور:63)(/3)
إن الله عز وجل- لما ذكر الأمم الكافرة التي عصت رسله،وخالفت أمره قال عنهم بعد ذلك:(( فكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)) (العنكبوت:40)
فنفسك لم ولا تلم المطايا :
أخي القاري الكريم:قد ورد في الأثر( إذا عصاني من لا يعرفني سلطت عليه من لا يعرفني) وقد قال نبي من أنبياء بني إسرائيل لما رأى ما يفعل بختنصر بقومه:(بما كسبت أيدينا سلطت علينا من لا يعرفنا ولا يرحمنا) .
وورد في المسند ( 2/362) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بسند صحيح (حد يقام في الأرض خير من المطر لأهلها أربعين صباحاً) .
وقد علق الإمام ابن تيمية على هذا الحديث بقوله:(وهذا لأن المعاصي سبب لنقص الرزق والخوف من العدو،كما يدل عليه الكتاب والسنة،فإذا أقيمت الحدود وظهرت طاعة الله،و نقصت معصية الله حصل الرزق والنصر)
وعليه فالنحيب على بلاد للمسلمين ضاعت دون عمل وتوبة صادقة،لا تحقق نصراً ولا تعيد أثراً!
وقد قيل في المثل(إيقاد شعلة خير من لعن الظلام) فلنبدأ في التغيير والعمل ولنترك لوم الزمان والدهر،فهو فعل الفاشلين العاجزين لا فعل الطموحين الناجحين وقد قال الشاعر الإسلامي عدنان النحوي – في أبيات له جميلة قائلاً :
ما لي ألوم زماني كلما نزلت *** بي المصائب أو أرميه بالتهم
أو أدعى أبداً أني البريء وما *** حملت في النفس إلا سقطة اللمم
أنا الملوم فعهد الله أحمله *** وليس يحمله غيري من الأمم
فإذا أردنا أن نغير فلنغير من حالنا ومن فساد قلوبنا وأنفسنا يغير الله حالنا، ويرفع ما بنا من مصائب أرقتنا أو بلايا أقلقتنا .
قال تعالى:(( إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ)) (الرعد: من الآية11)
وقال تعالى:((ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)) (لأنفال:53)
ومن أول الأمور التي نغير بها حال أنفسنا التوبة النصوح، فهي وظيفة العمر، وطريق الفلاح، والتي تفتح كل عمل خير وبر وصلاح .
ومن ثمَّ الأعمال الصالحة،التي تقرب من رضوان الله عز وجل وجنته، وتبعد عن سخطه وأليم عقابه، ورحم الله أبا الدر داء حيث كان يقول للغزاة (يا أيها الناس:عمل الصالح قبل الغزو،فإنما تقاتلون بأعمالكم) ولله در الفضيل بن عياض حين قال للمجاهدين عندما أرادوا الخروج لقتال عدوهم:
(عليكم بالتوبة، فإنها ترد عنكم ما ترده السيوف)
فابذل الجهد واستحث المطايا *** إن صنع النجاح ليس مزاجاً
ليس من يعمر البلاد بزيف *** مثل من يعمر البلاد نجاحاً
أي أخي : هذا هو الطريق الذي أراه يصلح حالنا ويسمو بكرامتنا،ويعيد عزتنا،ويرفع شأننا.
وإن التوبة والعمل الصالح ومحاسبة النفس ومراجعة الذات،وإعداد هذه النفس إعداداً إيمانياً وبدنياً،والارتباط بالله والتعلق به، كل هذا مفتاح للطريق الذي يعيد لنا المجد بنصاعته.
ومن المتوجب علينا معرفته أن إقامة النصر في الأرض،وإعادة الخلافة الراشدة،لا يقدم ذلك لنا مباشرة على طبق من ذهب بل لا بد من الكلل والتعب،والوصب والنصَّب،حتى يأتينا نصر الله بعد أن علم منا الصدق في القلوب،والصلاح في الأعمال،والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً.
عقد مقارنة :
من المعلوم قطعاً أن الكفار أعداء الله – ضيعوا أسباب نصرة الله المعنوية لهم من الإيمان بالله وبرسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولكنهم أبدعوا في صناعة الصواريخ والمتفجرات وأسباب النصرة المادية.
ونحن نعلم كذلك كما قدمت سابقاً أن المسلمين ـ ويا للأسف ـ قد نسوا الله فأنساهم أنفسهم وزاغوا عن الصراط المستقيم ـ إلا قليلاً - وابتعدوا عن طاعة الله والقرب منه وعن أسباب النصرة المعنوية التي تكفل الله لمن فعلها من المسلمين بالنصرة والتأييد ولو كانت قوتهم العسكرية وأسبابهم المادية أضعف من الكفار .
وكذلك فإن المسلمين ضيعوا أسباب نصرتهم المادية فأين هي القنابل الذرية والمتفجرات النووية،وأين الأسلحة والعتاد والقوة والرجال، فلم نسمع لها صفيراً ولا همساً، بل علاها الغبار ولم تستخدم في قتال أعداء الله.(/4)
ولهذا فإن منطق العقل السليم أن يحكم بالانتصار لمن كانت عنده القوة والأسباب المادية ولو كان مضيعاً للأسباب المعنوية على الذي ضيع أسبابه المادية والمعنوية التي تحق النصر والتأييد؛ ولذلك انتصر الكفار أعداء الله على المسلمين الذين ضيعوا أوامر الله فنساهم سبحانه وضيعهم وقد روت لنا كتب التاريخ أنه في أعقاب معركة اليرموك الشهيرة ،وقف ملك الروم يسائل فلول جيشه المهزوم ، والمرارة تعتصر في قلبه ، والغيظ يملأ صدره ، والكآبة بادية على محياه( ويلكم أخبروني عن هؤلاء الذين يقاتلونكم ، أليسوا بشراً مثلكم ؟ ! قالوا : بلى أيها الملك ، قال : فأنتم أكثر أم هم ؟! قالوا:نحن أكثر منهم في كل موطن، قال : فما بالكم إذا تنهزمون ؟!
فأجابه شيخ من عظمائهم:إنهم يهزموننا لأنهم يقومون الليل ويصومون النهار،ويوفون بالعهد،ويتناصفون بينهم) البداية والنهاية ( 7/15)
تلك هي صفات المسلمين؛ولذلك نصرهم الله ولاحت أمام أعينهم أقواس العزة والرفعة في سماء المجد .
فقم بالله أخي لنصرة دينك وأصلح ذاتك فصلاح الذات قبل صلاح الذوات، ومن قاد نفسه قادم العالم، وردِّد:
قم نعد عدل الهداة الراشدين *** قم نصل مجد الأباة الفاتحين
قم نفك القيد قد آن الأوان *** شقي الناس بدنيا دون دين
فلنعدها رحمة للعالمين *** لا تقل كيف ؟ فإنا مسلمون
يا أخا الإسلام في كل مكان *** اصعد الربوة واهتف بالآذان
وارفع المصحف دستور الزمان *** واملأ الآفاق إنا مسلمون
مسلمون مسلمون مسلمون *** حيث كان الحق والعدل نكون
نرتضي الموت ونأبى أن نهون *** في سبيل الله ما أحلى المنون
هذا هو الدواء لمن وقع في فخ الداء :
والذي أراه يحقق لنا النصر ويعز به هذا الدين بعد التوبة إلى الله أمور ثمانية وهي :
1ـ الاعتصام بكتاب الله تعالى وقراءته وتدبره والعمل بما فيه ، والاعتصام بسنة محمد صلى الله عليه وسلم وأن نقدم كلامهما على كلام أي إنسان، ونبتعد عن كل هوى خالف القرآن والسنة .
2ـ الاهتمام والالتفاف على عقيدة أهل السنة والجماعة،وتطبيقها في أرض الواقع،واحذر أخي ممن يثبط عن تعلم العقيدة،أو يجعل تعلمها في مراحل متأخرة فإنه رجل سوء فلا تجالسه.
3ـ الإعداد البدني والإيماني،والجهاد في سبيل الله،فإن الجهاد ينبوع العزة،ومعين الكرامة،وهوالمجد لمن أراد المجد،والعزَّ لمن أراد العز، و(من مات ولم يغز ولم يحدث بها نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق) كما أخبر الصادق المصدوق ـ عليه الصلاة والسلام ـ قال الإمام ابن تيمية(فإذا ترك العبد ما يقدر عليه من الجهاد كان دليلاً على ضعف محبة الله ورسوله في قلبه) مجموع الفتاوى (10/193)
4ـ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والغضب لدين الله – عز وجل – وهذا أمر فرضه الله عز وجل علينا فقال:((كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَر)) (آل عمران: من الآية110)
5ـ الدعوة إلى الله عز وجل وإلى كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم قال تعالى:((ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)) (النحل:125) وقال تعالى : ((قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي))(يوسف: 108)
قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ (فمقام الدعوة إلى الله أفضل مقامات العبد) (مفتاح دار السعادة 1/153) ورحم الله من قال:
إن نفساً ترتضي الإسلام ديناً
ثم ترضى بعده أن تستكينا
أو ترى الإسلام في أرض مهيناً
ثم تهوى العيش نفس لن تكونا
في عداد المسلمين العظماء
(المنطلق للراشد ص 227)
6ـ الالتفاف على جماعة المسلمين الصادقة ولزوم غرزهم، وعلى رأسهم العلماء الربانيون والمجاهدون الصادقون،والدعاة المخلصون، فيجب الحذر من التكلم في أعراضهم أو سبهم وليعلم أن من تكلم فيهم فإنه قد شق الصف ولم يوحده وفرق الجماعة والقلوب .
وقد أورد مسلم في صحيحه في كتاب الجهاد حديث ثوبان رضي الله عنه قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق ، لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك ) وكذا حديث عقبة بن عامرـ رضي الله عنه ـ قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:(لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أمر الله قاهرين لعدوهم ، لا يضرهم من خالفهم ، حتى تأتيهم الساعة وهم على ذلك)(/5)
فصفة عصابة المسلمين وجماعتهم أنها قائمة بنصرة دين بالحجة والبيان، والسيف والسنان ، وسيأتي أناس يخالفونها الرأي بتلك النصرة البيانية أو الجهادية،فأخبر عليه السلام أن تلك المخالفة وذلك التخذيل لن يضرهم لأنهم على هدى مستقيم ، ومنهج قويم ،ولذا ستبقى هذه الطائفة منصورة إلى قيام الساعة، وقد أورد الإمام مسلم في صحيحه حديث جابر بن سمرة مرفوعاً إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ( لن يبرح هذا الذين قائماً يقاتل عليه عصابة من المسلمين حتى تقوم الساعة ) فعلى الثابت على هذا المبدأ،ألَّا يضره كلام مخالفيه وخاذليه،بل ينطق بكل علو وصمود:
ماضٍ وأعرف ما دربي وما هدفي *** والموت يرقص لي في كل منعطف
وما أبالي به حتى أحاذره *** فخشية الموت عندي أبرد الطرف
ماض فلو كنت وحدي والدنا صرخت *** بي قف لسرت فلم أبطء ولم أقف
أنا الحسام بريق الشمس في طرفي *** مني وشفرة سيف الهند في طرف
فلا أبالي بأشواك ولا محن *** على طريقي ولي عزمي ولي شغفي
7ـ محاسبة النفس ، والنظر مرَّة بعد مرَّة إلى عيوبها،حتى لو تابت ورجعت إلى الصراط المستقيم،فإن (كل بني آدم خطاء،وخير الخطائين التوابون) رواه أحمد والترمذي عن أنس وحسنه الألباني ( صحيح الجامع 2/831) وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه:(حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وتزينوا للعرض الأكبر وإنما يخفف الحساب يوم القيامة على من حاسب نفسه في الدنيا)
8- رسم المنهج والتخطيط لنصرة دين الله،على تعاون بين المسلمين فلا يصح عمل بدون خطة،والتنظيم والتخطيط قانون النجاح ومن أجمل ما قرأت في ذلك ما كتبه الدكتور:عدنان النحوي في كتابه(حتى نغير ما بأنفسنا) صـ10(إذا غاب النهج والتخطيط على أساس الإيمان والتوحيد والمنهاج الرباني في واقع أي أمة، فلا يبقى لديها إلا الشعارات التي تضج بها ولا تجد لها رصيداً في الواقع إلا مرارة الهزائم وتناقض الجهود واضطراب الخطا، ثم الشقاق والصراع وتنافس الدنيا في الميدان، ثم الخدر يسري في العروق،ثم الشلل،ثم الاستسلام!)
هذه نقاط ثمانية كاملة،أًرى إن تحققت في واقع المسلمين، فإنهم سيجنون بعدها الفلاح والعز والسؤود في الدنيا والآخرة، وما ذلك على الله بعزيز .
((مَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)) (الأنفال:10)
هذا والله أسأل أن يوفقنا لما فيه صلاح أنفسنا وأمتنا وآخرتنا،وأن يهيئ لنا من أمرنا رشداً،إنه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير.
وسبحانك اللهم وبحمد أشهد أن لا إله إلا أنت،أستغفرك وأتوب إليك، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه إلى يوم الدين.(/6)
لماذا نتدبر القرآن ؟(1_6)
أ. د .ناصر بن سليمان العمر
الحمد لله القائل: "كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ" [ص:29]، "ثم الذين كفروا عما أنذروا معرضون"، أمرهم الله بالتدبر فإذا هم يتولون عن ما جاءت به الأنبياء مدبرين، فسبحان من أعمى الذي أبصر الآيات وحلاوتها، ووجد طلاوتها ومع ذلك حرم تدبرها، فأدبر واستكبر، فلا جرم أن يدبر مع المدبرين يوم يولون مدبرين ما لهم من الله من عاصم، ومن يضلل الله فما له من هاد، وحري بمثل هذا نار تلظى، تدعو من أدبر وتولى. وبعد إخوة الإسلام وحتى لانكون في عداد أولئك المعرضين كان حري بنا أن نعمل على تدبر كتاب ربنا صباح مساء، وذلك سبب كاف.
غير أن لتدبر كتاب الله _جل وعلا_ أسباب أخرى كثيرة، أذكر فيما يلي بعضها مع إشارات يسيرة، أسأل الله أن تكون دافعة لنا إلى العمل على تدبر كتاب ربنا، فمن تلك الأسباب التي تحض على التدبر:
أولاً: ضرورة ربط واقع الناس بالقرآن والسنة، لما لهما من أثر على حياة الفرد والأمة، خاصة وأن الأمة تعيش وهناً وضعفاً لم تمر بمثله في تاريخها، وكلنا يبحث عن العلاج والعلاج في القرآن "إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ" (الإسراء: من الآية9)، وكلنا يرجو السلامة والنجاة من مضلات الفتن التي تتابع والنجاة في القرآن، قال النبي _صلى الله عليه وسلم_ يقول: "تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدا كتاب الله وسنتي".
فرغد الحياة في كتاب الله _جل وعلا_، ومعالجة مشكلات الحياة في ضوء القرآن الكريم من أقوى وسائل الخروج منها، بل من أقوى أسباب رقي الأمة، والعود بها إلى سابق عهدها، الذي كان يعيشه السلف الصالح _رضوان الله تعالى عليهم_ وهذا لا يكون بغير تدبر كتاب ربنا وكلامه الذي أنزله لإصلاح شأننا.
إن أمتنا اليوم تعيش وقتاً حرجاً ومرحلة حاسمة من تاريخها، خاصة بعد الغزو الغربي لأمة الإسلام، وعودة عصور الاستعمار، التي خلت، فبعد أن رزحت الأمة تحت وطأة الاستعمار عقوداً دُرست فيها معالم من علم الشريعة، كانت لا تخفى بين الناس، بدأت آثار الاستعمار تنحسر بقيام الصحوة الإسلامية المباركة في المشارق والمغارب، فلم يجد الأعداء بداً من إعادة الكرة للحيلولة بين الأمة وبين نهضتها.
ولما كان الارتباط بين الأمم السابقة واللاحقة وثيقاً، لتشابه الأحوال والظروف، وتوافق الطبع البشري ، وإن اختلفت العصور والآلات، كان من الطبيعي أن تكون في آيات الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه بل هو تنزيل من حكيم حميد كان لابد أن تكون آياته دروساً تناسب حال من نزل عليهم القرآن، وكذلك تناسب المسلمين في كل زمان ومكان.
وقد قال الإمام الشاطبي _رحمه الله_:
وبعد فإن حبل الله فينا كتابه ... ... فجاهد به حَبل العِدا مُتَحَبِّلا
وأَخْلِق به إذ ليس يَخْلَقُ جِدةً ... ... جديداً مواليهِ على الجِدِّ مُقبِلاً
فهل من تلاين لكتاب ربهم، متدبرين خطاب خالقهم وكلامه لهم، يخرجون بحبله المتين أمة غرقى؟ أسأل الله أن يجعلني وإياكم منهم.
لماذا نتدبر القرآن (2-6)
أ. د .ناصر بن سليمان العمر
الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على رسوله المجتبى، وبعد:(/1)
من الأسباب الداعية إلى تدبر القرآن أمر الله لنا بأن نقف مع آياته وأن نتدبرها، بل ما أنزل الله القرآن إلاّ من أجل أن يُتأمل ويتدبر ليعمل به كما قال –سبحانه_: "كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب "، وقال: "أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا "، وقال _عز من قائل_: "أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا"، وقال _عز وجل_: "حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِم بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ * لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُم مِّنَّا لَا تُنصَرُونَ * قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ * مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ * أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءهُمُ الْأَوَّلِينَ "، وقال _جل شأنه_: "وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ * ِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ" فالتفكر والتدبر والوقوف مع الآيات وتأملها أمر دعت إليه نصوص متظاهرة ولأجله أنزل القرآن، قال الحسن _رحمه الله_: "نزل القرآن ليتدبر ويعمل به". قال ابن القيم في المدارج: " فليس شيء أنفع للعبد في معاشه ومعاده وأقرب إلى نجاته من تدبر القرآن وإطالة التأمل وجمع الفكر على معاني آياته، فإنها تطلع العبد على معالم الخير والشر بحذافيرهما، وعلى طرقاتهما وأسبابهما وغاياتهما وثمراتهما ومآل أهلهما، وتضع في يده مفاتيح كنوز السعادة والعلوم النافعة، وتثبت قواعد الإيمان في قلبه وتشيد بنيانه وتوطد أركانه، وتريه صورة الدنيا والآخرة والجنة والنار في قلبه، وتحضره بين الأمم وتريه أيام الله فيهم وتبصره مواقع العبر، وتشهده عدل الله وفضله، وتعرفه ذاته وأسماءه وصفاته وأفعاله وما يحبه وما يبغضه، وصراطه الموصل إليه وما لسالكيه بعد الوصول والقدوم عليه، وقواطع الطريق وآفاتها، وتعرفه النفس وصفاتها ومفسدات الأعمال مصححاتها، وتعرفه طريق أهل الجنة وأهل النار وأعمالهم وأحوالهم وسيماهم، ومراتب أهل السعادة وأهل الشقاوة، وأقسام الخلق واجتماعهم فيما يجتمعون فيه وافتراقهم فيما يفترقون فيه، وبالجملة تعرفه الرب المدعو إليه وطريق الوصول إليه وما له من الكرامة إذا قدم عليه.
وتعرفه في مقابل ذلك ثلاثة أخرى: ما يدعو إليه الشيطان، والطريق الموصلة إليه، وما للمستجيب لدعوته من الإهانة والعذاب بعد الوصول إليه". اهـ
ولهذا تسمع قول الحق _سبحانه وتعالى_ مقرراً أنه قد أنزله مباركًا ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب : "كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ" (صّ:29)
فهذه (اللام) في (ليَدّبّروا) و( ليتذكر) لام الغاية والحكمة ، فمن لم يأخذ حظَّه من مدخولهما لن يأخذ حظه من بركته ، فعلى قدر سعيك إلى اكتساب حظك من التَّدبُّر والتَّذكُّر يكون حظك من بركة هذا الكتاب العظيم ، وقد وصف الله _جل جلاله_ القرآن الكريم في مواضع بالبركة:
"وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ" (الأنعام:92).
"وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ" (الأنعام:155) "وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ"(الأنبياء:50)
والبركة من الكلمات الحبيبة التي تنشرح لها قلوب العباد ، فإنَّها مرتبطة في وعيهم بالنماء والزيادة ، وقد يغفلون عن معنى الثبات والدوام الذي تتضمنه الكلمة ، فقرر بهذه الكلمة نَعْتينِ للكتاب :
تجدد عطائه ودوام نفعه .
ومن ثَمَّ حثّ على تدبره لاستخراج ما فيه من خير متجدد لا يزول ولا يحول ولا يغيض ، فهو لا يَصْلُحُ لكلِّ زمانٍ ومكانٍ وعصرٍ ومصرٍ فحسب، بل هو يُصلِح كلّ ذلك ويقومه ويقيمه على سواء الصراط:
"إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيرا"(الإسراء:9)
" وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَاراً" (الإسراء:82)(/2)
وأنت إذ تنظر في قول الله _عز وجل_: "كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ" (صّ:29) تر أنّه _سبحانه وتعالى_ قال" ليدّبروا" في قراءة الجماعة ، ولتَدَبَّرُا في قراءة أبي جعفر .
قراءة "أبي جعفر" بالتاء(المثناة الفوقية) هي لكل من يصح خطابه ولا سيما من كان أمة الإجابة وعلى رأسها المخاطب بصدر الآية سيدنا محمد _صلى الله عليه وسلم_. وقراءة الجماعة بالياء (المثناة التحتية) لم تعين مرجع (الواو) كمثل ما جاء التعيين في (ليَتذَكّر) إذ جعله من أولي الألباب "وَلِيَتَذَكّرَ أُولُو الألْبَاب"، إشارة إلى أنَّ التَّذكُّرَ منزلةٌ مُتَرَتِّبَةٌ على حسن التدبر ، فمن قام بشيءٍ من حق التَّدبُّر كان له من التذكر نصيب على قدر لبّه ، وكثيرًا ما يقرِنُ التذكر بأولي الألباب : "يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الأَلْبَابِ" (البقرة:269) واللب هو خالص القلب الذي به يكون التعقل والتفكر والتذكر،والله _عز وجل_ قدْ حَثَّ عبادَه على تدبُّره مقررًا اتِّساقه قائلا_سبحانه وتعالى_ : "أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً" (النساء:82)
فقرر أنَّ ما يكون من عند غير الله _سبحانه وتعالى_ فيه الاختلاف الكثير، أمَّا ما كان من عنده _جل جلاله_ فلا اختلاف فيه البتة ، ولكنْ فيه تصريفُ البيان عن المعاني المحقق لبيان المراد كماله
وفي هذا دعوة ربانية وإغراء كريم بالعكوف على تدبُّر البيان القرآنيّ والوقوف على اتساقه وتناسبه ، فإنه لن يؤمن المرء بأن القرآن الكريم من عند الله _عز وجل_ إيماناً مؤسساً على علم وعرفان إلا إذا استفرغ جهده في هذا التدبّر، فهو من جليل العبادات"(1).
فهلا استجبنا إخوة الإسلام لأمر ربنا، وعملنا على تدبر كتابه لنيل رحماته؟ ولعل ذلك لا يكون إلاّ بتدبر ما ذكر هنا من آيات.
أسأل الله أن ييسر لي ولكم أسباب الاستجابة إلى أوامره، وأن يجعلنا من المتدبرين لآياته.
________
(1) من كلام الدكتور محمد توفيق في كتابه العزف على أنوار الذكر
لماذا نتدبر القرآن (3-6)
أ. د .ناصر بن سليمان العمر
الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على المبعوث بالهدى والخير العميم، وبعد:
إن من أسباب تدبر القرآن والوقوف مع آياته وتأملها... استجلاب طمأنينة القلب في خضم هذا العالم المضطرب "الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ" .. وأي ذكر أعظم من كلام الله، إن القلوب إذا فقهت مراد الله من آياته سار أصحابها إليه باطمئنان وثبات لا تزعزه بدع المحدثين ولا تأويلات الجاهلين ولافتن المضلين، فتأمل المرء للآيات كما قال ابن القيم: "يصده عن اقتحام طرق البدع والأضاليل، وتبعثه على الازدياد من النعم بشكر ربه الجليل، وتبصره بحدود الحلال والحرام وتوقفه عليها لئلا يتعداها فيقع في العناء الطويل، وتثبت قلبه عن الزيغ والميل عن الحق والتحويل، وتسهل عليه الأمور الصعاب والعقبات الشاقة غاية التسهيل، وتناديه كلما فترت عزماته وونى في سيره: تَقَدَّم الركب وفاتك الدليل، فاللحاق اللحاق والرحيل الرحيل، وتحدو به وتسير أمامه سير الدليل، وكلما خرج عليه كمين من كمائن العدو أو قاطع من قطاع الطريق نادته: الحذر! الحذر! فاعتصم بالله واستعن به وقل: حسبي الله ونعم الوكيل".
نزه فؤادك عن سوى روضاته ... ... فر ياضه حِلٌ لكل منزه
والفهمُ طِلِّسْمٌ لكنز علومه ... ... فاقصد إلى الطِلِّسْمِ تحظَ بكنزه
لا تخش من بدع لهم وحوادث ... ... مادمت في كَنَف الكتاب وحِرزه
من كان حارسُه الكتاب ودرعه ... ... لم يخش من طعن العدو ووخذه
لا تخش من شبهاتهم واحمل ... ... إذا ما قابلتك بنصره وبعزه
والله ما هاب امرؤٌ شبهاتهم إلاّ ... ... لضعف القلب منه وعجزه
ياويح تيس ظالع يبغي مسا ... ... بقة الهزبر بعدوه وبجمزه
ودخان زبل يرتقي للشمس يسـ ... ... تر عينها لما سرى في أزه
وجبان قلبٍ أعزل ٍقَدْ رام يأ ... ... سر فارساً شاكي السلاح بهزه
هذا بالإضافة إلى أن تدبر القرآن سبب لتسلية النفس وتثبيتها وحثها على الاقتداء بمن سبقها من أنبياء الله ورسله والصالحين من عباد الله وإمائه، قال الله _تعالى_: "وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ". وبهذا يعلم أن تدبر القرآن يحتاجه المسلم في كل زمان وآن, وليس هو أمر خاص بأيام معدودات في رمضان.
فاللهم ارزقنا الطمأنينة وتحقيق الإيمان، وثبت أفئدتنا وأقدامنا على الإسلام.
لماذا نتدبر القرآن (4-6)
أ. د .ناصر بن سليمان العمر(/3)
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد، فلعل من الحري بنا أن نتساءل لماذا لا نتدبر القرآن وهو كتاب ربنا، لا لماذا نتدبر القرآن!
وإنَّ كتابَ الله أوثقُ شافعٍ وأغنى غناءً واهباً مُتَفَضِّلاً ... ...
صح عند مسلم من حديث أبي أمامة الباهلي أنه قال سمعت رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ يقول: اقرؤوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه، اقرؤوا الزهراوين البقرة وسورة آل عمران فإنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو كأنهما غيايتان أو كأنهما فرقان من طير صواف تحاجان عن أصحابهما، اقرؤوا سورة البقرة فإن أخذها بركة وتركها حسرة ولا تستطيعها البطلة قال معاوية: بلغني أن البطلة السحرة.
وفي مسلم أيضاً من حديث النواس بن سمعان الكِلابي: سمعت النبي _صلى الله عليه وسلم_ يقول: يؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به تقدمه سورة البقرة وآل عمران وضرب لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أمثال ما نسيتهن بعد قال كأنهما غمامتان أو ظلتان سوداوان بينهما شرق أو كأنهما حزقان من طير صواف تحاجان عن صاحبهما.
فلماذا لا نتدبر من كان هذا حاله مع متدبره؟
ولماذا لا نتدبر القرآن، مع إن عليه لحلاوة، وإن فيه لطلاوة بشهادة العدو قبل الصديق.
وما أحسن قول الشاطبي عنه:
وخيرُ جليس لايُمَلُّ حديثه وتِردَاده يزداد فيه تجملاً ... ...
ولماذا لا نتدبر القرآن:
وحيث الفتى يرتاع في ظلماته من القبر يلقاه سَناً متهللاً ... ...
فقد روي الترمذي وأبو داود وابن ماجة وغيرهم أن رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ قال: "سورة من القرآن ثلاثون آية شفعت لرجل حتى غفر له، وهي : تبارك الذي بيده الملك" .
قال ابن حجر في الفتح: "قَوْلُهُ إِنَّ تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ تُجَادِلُ عَنْ صَاحِبِهَا قِيلَ مَعْنَاهُ تُجَادِلُ عَنْهُ فِي الْقَبْرِ رَوَى زَادٌ أَنَّ بْنَ مَسْعُودٍ قَالَ هِيَ الْمَانِعَةُ تَمْنَعُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ إِذَا تُوُفِّيَ الرَّجُلُ يُؤْتَى مِنْ قِبَلِ رِجْلَيْهِ فَتَقُولُ رِجْلَاهُ: إنَّهُ لَا سَبِيلَ لَكُمْ عَلَى مَا قِبَلِي إنَّهُ قَدْ وَعَى بِي سُورَةَ الْمُلْكِ وَيُؤْتَى مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ فَيَقُولُ: وَاَللَّهِ لَا سَبِيلَ لَكُمْ عَلَى مَا قِبَلِي إنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ فِي سُورَةِ الْمُلْكِ قَالَ وَهِيَ فِي التَّوْرَاةِ مَكْتُوبَةٌ سُورَةُ الْمُلْكِ مَنْ قَرَأَهَا فِي لَيْلَةٍ فَقَدْ أَكْثَرَ وَأَطْنَبَ وَقَوْلُهُ فَيَقُولُ بَطْنُهُ وَهِيَ فِي سُورَةِ الْمُلْكِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ بَاطِنَ ظَهْرِهِ فَيَدْخُلَ فِيهِ الصَّدْرُ وَغَيْرُهُ لِأَنَّ الصَّدْرَ هُوَ الَّذِي حَوَى السُّورَةَ وَهُوَ نَحْوُ قَوْلِ الرَّأْسِ إنَّهُ قَدْ قَرَأَ فِي سُورَةِ الْمُلْكِ وَإِنَّمَا قَرَأَهَا بِالْفَمِ لَكِنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الرَّأْسِ".
أفلا يجدر بمن كان ذلك وصفه، وتلك ثمرته، أن نتدبره؟
لماذا نتدبر القرآن (5-6)
أ.د. ناصر بن سليمان العمر
الحمد لله القائل: "لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً" [الأحزاب:21]، والصلاة والسلام على إمام المتقين وقائد الغر المجلين، وبعد:
لقد كان نبيكم _صلى الله عليه وسلم_ يتدبر كتاب ربه، وكيف لا وهو الذي أنزل عليه الأمر بتدبره!
فلماذا لا نتدبر القرآن وقد كان محمد _صلى الله عليه وسلم_ يتدبره، وقد كانت لنا فيه أسوة.
عن حذيفة _رضي الله عنه_ قال: "صليت مع رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ ذات ليلة، فافتتح البقرة، فقلت: يركع عند المئة. ثم مضى، فقلت: يصلي بها في ركعة؛ فمضى. ثم افتتح النساء فقرأها، ثم افتتح آل عمران فقرأها. يقرأ مترسلاً، إذا مرَّ بآية فيها تسبيح سبَّح، وإذا مرَّ بسؤال سأل، وإذا مر بتعوذ تعوذ". [رواه مسلم].
وبكى _صلى الله عليه وسلم_ حين قرأ عليه ابن مسعود من سورة النساء قوله _تعالى_: "فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً" [النساء:41] فهل تتوقع أن يكون ذلك من غير تدبر؟
وكان يدعو الأمة إلى التدبر وفهم معاني القرآن، فحين نزل قوله _تعالى_: "إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآياتٍ لأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ" [آل عمران:190، 191]. قال _صلى الله عليه وسلم_: "ويلٌ لمن قرأها ولم يتفكر فيها".(/4)
وقد سار السلف على خطى نبيهم _صلى الله عليه وسلم_ فأوصوا بالتدبر وضربوا لنا فيه الأمثال فكان ابن عباسٍ _رضي الله عنهما_ يقول: "ركعتان في تفكرٍ خيرٌ من قيام ليلة بلا قلب".
وكان الفضيل – رحمه الله – يقول: "إنما نزل القرآن ليُعمل به فاتخذ الناس قراءته عملاً. قيل: كيف العمل به؟ قال: ليحلوا حلاله، ويحرموا حرامه، ويأتمروا بأوامره، وينتهوا عن نواهيه، ويقفوا عند عجائبه".
وعملياً كان منهم من يقوم بآية واحدة يرددها طيلة الليل يتفكر في معانيها ويتدبرها. ولم يكن همهم مجرد ختم القرآن؛ بل القراءة بتدبر وتفهم.. عن محمد بن كعب القُرَظِي قال: "لأن أقرأ في ليلتي حتى أصبح بـ(إذا زلزلت) و(القارعة) لا أزيد عليهما، وأتردد فيهما، وأتفكر أحبُّ إليَّ من أن أَهُذَّ القرآن (أي أقرأه بسرعة)".
ألا ينبغي أن تكون لنا في هؤلاء ومن قبلهم نبينا _صلى الله عليه وسلم_ أسوة حسنة؟
ألم يبدل الله حالهم بهذا القرآن؟
ألم يشرقوا به ويغربوا فاتحين الأمصار، حاملين خير الدارين للأمم بهذا الكتاب؟
ألسنا بحاجة إلى ما نحل به مشاكل واقعنا المعاصر المعقدة الحادثة؟ بلى والله، ولكن:
ومن العجائب والعجائب جمة ... ...
قرب المراد وما إليه وصول
كالعيس في البيداء يقتلها الظما ... ...
والماء فوق ظهورها محمول
وصدق الله العظيم القائل: "مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ" [الجمعة:5].
اللهم قد حملنا الأمانة كما حملها جنس الإنسان، فأعنا على القيام بها بتدبر القرآن، فأنت المستعان وعليك التكلان، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله.
لماذا نتدبر القرآن (6-6)
أ.د. ناصر بن سليمان العمر
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعامالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله ومن تبعهم مصيباً مخلصاً، وبعد:
إن من أعظم أسباب الهداية إلى الصراط المستقيم تدبر كتاب الهداية، كما أن من أعظم أسباب الضلال الإعراض عن مصدر النور، والتماس بنيات الطريق.
ولهذا كان تأمل آيات ربنا والوقوف معها وتدبرها من الأهمية بمكان، وكيف لانقف وكيف لانتأمل والله _جل ذكره_ يقول في كتابه: "كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْرًا * مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا * خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاء لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا".
ومن الإعراض عن كتاب ربنا، الإعراض عن تدبره، قال الإمام ابن القيم _رحمه الله_: "هجر القرآن أنواع، أحدها: هجر سماعه والايمان به والاصغاء إليه.
والثاني: هجر العمل به والوقوف عند حلاله وحرامه، وإن قرأه وآمن به.
والثالث: هجر تحكيمه والتحاكم اليه في أصول الدين وفروعه واعتقاد أنه لا يفيد اليقين وأن أدلته لفظية لا تحصل العلم.
والرابع: هجر تدبره وتفهمه ومعرفة ما أراد المتكلم به منه.
والخامس: هجر الاستشفاء والتداوي به في جميع أمراض القلب وأدوائها فيطلب شفاء دائه من غيره ويهجر التداوي به".
ثم قال _رحمه الله_: "وكل هذا داخل في قوله: "وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً"".
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "(وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا * وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا) فبين أن من هجر القرآن فهو من أعداء الرسول".
وقال ابن كثير _يرحمه الله_: "وترك تدبره وتفهمه من هجرانه".
وبالمقابل، قال ابن القيم: "ليس شيء أنفع للعبد في معاشه ومعاده من تدبر القرآن وجمع الفكر على معاني آياته؛ فإنها تطلع العبد على معالم الخير والشر بحذافيرها وعلى طرقاتهما وأسبابهما وثمراتهما ومآل أهلهما، وتتل في يده مفاتيح كنوز السعادة والعلوم النافعة، وتثبت قواعد الإيمان في قلبه، وتريه صورة الدنيا والآخرة والجنة والنار في قلبه، وتحضره بين الأمم، وتريه أيام الله فيهم، وتبصره مواقع العبر، وتشهده عدل الله وفضله وتعرفه ذاته وأسماءه وصفاته وأفعاله وما يحبه وما يبغضه وصراطه الموصل إليه وقواطيع الطريق وآفاته، وتعرفه النفس وصفاتها ومفسدات الأعمال ومصححاتها، وتعرفه طريق أهل الجنة وأهل النار وأعمالهم وأحوالهم وسيماهم ومراتب أهل السعادة وأهل الشقاوة.(/5)
فتشهده الآخرة حتى كأنه فيها، وتغيبه عن الدنيا حتى كأنه ليس فيها، وتميز له بين الحق والباطل في كل ما يختلف فيه العالم، وتعطيه فرقاناً ونوراً يفرق به بين الهدى والضلال، وتعطيه قوة في قلبه وحياة واسعة وانشراحاً وبهجة وسروراً فيصير في شأن والناس في شأن آخر؛ فلا تزال معانيه تنهض العبد إلى ربه بالوعد الجميل، وتحذره وتخوفه بوعيده من العذاب الوبيل، وتهديه في ظلم الآراء والمذاهب إلى سواء السبيل، وتصده عن اقتحام طرق البدع والأضاليل، وتبصره بحدود الحلال والحرام وتوقفه عليها؛ لئلا يتعداها فيقع في العناء الطويل، وتناديه كلما فترت عزماته: تقدمَ الركبُ، وفاتك الدليل، فاللحاقَ اللحاقَ، والرحيلَ الرحيلَ.
فاعتصم بالله واستعن به وقل: "حسبي الله ونعم الوكيل".
فوجب علينا أن نقرأ القرآن وأن نتأمله وأن نقف معه حتى لايكون فينا شيء من الإعراض عن كتاب الله أو هجره نسأل الله أن يرزقنا تدبر آياته والانتفاع بها.
فيا أيها القاريِ به مُتمَسِّكَا ... ...
مُجِلاً له في كل حالٍ مُبَجِّلا
هنيئاً مريئاً والداك عليهما ... ...
ملابس أنوار من التاج والحُلا
فما ظنكم بالنَّجْلِ عندَ جَزَائه ... ...
أولئك أهلُ اللهِ والصَّفْوَةِ الملا
جزى الله بالخيرات عَنَّى أئمةً ... ...
لنا نقلوا القرآن عذباً وسلسلاً
والحمد لله أولاً وآخراً.(/6)
________________________________________
لماذا نتعلم؟
رئيسي :علم :الاثنين 6 شعبان 1425هـ - 20 سبتمبر 2004 م
الحمد لله، و بعد،،،
لماذا نتعلم العلوم الشرعية- وهي كل علم يقرب إلى الله، علم الكتاب، وعلم السنة، ويدخل في هذا العلم كل ما أعان على فهم كتاب الله، وفهم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه يحصل لمتعلمه الفضل إذا قصد بهذا التعلم فهم كلام الله، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم- ؟
لماذا نتعلم العلم الشرعي؟؟ لماذا أطال العلماء في الحث على تحصيل العلم والصبر على مضاضة الطلب، وما فيه من الكد والعناء؟ هل هو لتحصيل مكاسب قريبة، وانتزاع مناصب في الدنيا، أم هو لأمر أبعد من ذلك؟
إن طلب العلم الشرعي له مقاصد عديدة من أهمها:
1- بالعلم يعرف الله سبحانه وتعالى: فيعرف ما لله جل وعلا من الأسماء، وماله من الصفات، وماله من الأفعال، هذا فيما يتعلق بذاته جل وعلا.. ويعرف ما يجب له من الحقوق، فإن العلم الشرعي هو السبيل الذي يتعرف به الخلق على ربهم سبحانه، ولا سعادة للناس في حياتهم، ولا لذة لهم في معاشهم إلا بمعرفة الله جل وعلا فان معرفة الله أصل السعادة، فالعلم بذاته يستلزم العلم بما سواه؛ لأن من عرف الله تفتحت له أبواب العلم، وأبصر السبيل، واستضاء له الطريق، فلا يحتاج بعد ذلك أكثر من العلم بالله؛ لأن به يفتتح كل مغلق، ويحصل به كل مطلوب.
أما من لم يعرف ربه فإنه عن كل خير غافل، قال تعالى:{ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ ...[19]}[سورة الحشر]. فتأمل هذه الآية تجد فيها أن الله تهدد من نسيه بأن ينسيه نفسه، ومن نسي نفسه كيف يعرف مصالحها ؟ كيف يعرف فلاحها؟ كيف يستقيم معاشه فضلًا عن معاده؟!
2- إننا نطلب العلم لنعرف به نبينا صلى الله عليه وسلم: فمن أقبل على العلم الشرعي؛ عرف النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا عرفه وعرف ما جاء به؛ تيقن صدق ما جاء به صلى الله عليه وسلم، فإن أهل العلم يعرفون صدق ما أخبر به؛ لأنهم بما معهم من العلم يدركون صحة خبره صلى الله عليه وسلم فيما عقلوه من معاني هذا الكتاب العظيم، وفيما أدركوه من آيات الله عز وجل في الأنفس والآفاق، قال تعالى:{ وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ[6]}[سورة سبأ]. وقال جل وعلا:{ قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا[107]}[سورة الإسراء]. ولا يمكن أن يكون منهم هذا إلا إذا صدقوا بما جاء في الكتاب، فإنهم يخرون تعظيماً لله، وتعظيمًا لكلام الله سبحانه، وتعظيمًا لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من الحق والهدى والنور.
3- العلم الشرعي يعصم العبد من الوقوع في أعظم الظلم وهو الشرك: قال سبحانه:{ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ[18]}[سورة آل عمران]. واستشهاد الله للعلماء بيان لفضلهم وأنه تزكية لهم؛ لأنه لا يمكن أن تقبل شهادة أحد ما لم يكن عدلًا، فاستشهد الله العلماء على أعظم مشهود وهو التوحيد، وكان في ذلك تعديل لهم لأن الله لا يستشهد من خلقه إلا العدول قال سبحانه في بيان ما كان عليه أهل الجاهلية لما فقدوا العلم قالوا:{ وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا[23]}[سورة نوح]. فهذه وصية بعض الجهال من المشركين لأتباعهم، ولمن يسمع نصحهم.. لكنه متى كان هذا؟ كان هذا لما نسي العلم، وارتفع أثره، ولم يبق لدى الناس له وجود؛ عبد هؤلاء الأصنام من دون الله فالعلم يعصم الإنسان من الشرك، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال في بيان معنى هذه الآية:' أَسْمَاءُ رِجَالٍ صَالِحِينَ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ فَلَمَّا هَلَكُوا أَوْحَى الشَّيْطَانُ إِلَى قَوْمِهِمْ أَنْ انْصِبُوا إِلَى مَجَالِسِهِمْ الَّتِي كَانُوا يَجْلِسُونَ أَنْصَابًا وَسَمُّوهَا بِأَسْمَائِهِمْ فَفَعَلُوا فَلَمْ تُعْبَدْ حَتَّى إِذَا هَلَكَ أُولَئِكَ وَتَنَسَّخَ الْعِلْمُ عُبِدَتْ 'رواه البخاري. ومن هذا نفهم أن نسيان العلم سبب لكل شر، بل هو سبب لأعظم الشرور وهو الشرك بالله سبحانه.(/1)
4- نطلب العلم الشرعي؛ لأن به تكمل الأخلاق الفاضلة، وبه يحصل الإنسان محاسن الخصال: ولذلك قال تعالى :{ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ[164]}[سورة آل عمران]. ما مهمته الرسول؟ ما وظيفته؟ ما عمله؟ { يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ} والتلاوة هنا ليست تلاوة اللفظ فقط بل هي تلاوة اللفظ والمعنى، فهو يبين لهم بقوله وفعله ما أنزل الله من الكتاب المبين، {وَيُزَكِّيهِمْ} والتزكية هي التدرج بالنفس إلى أعلى درجات كمالها، فالنبي صلى الله عليه وسلم بعثه الله مزكيًا مكملًا للأخلاق، ولذلك جاء في مسند الإمام أحمد بسند صحيح عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ]. قال أنس رحمه الله:' إذا قل العلم ظهر الجفاء'.
فالخلق الفاضل والسجايا الكريمة تنبع عن العلم الشرعي، فإذا أقبل الإنسان على تعلم كتاب الله، وعلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم تلقيًا بصدر منشرح، وهمة عالية، ورغبة في الخير؛ فإنه لابد وأن تزكو أخلاقه، وأن يظهر للعلم أثر في أخلاقه في قوله في عمله في هديه في سمته في سائر شأنه.
مدح الله في كتابه صفاتٍ كثيرة وأثنى على أهلها، واعلم أن كل صفة مدح الله بها العبد إنما منشؤها العلم، وهذا يبين أهمية العلم، وأن به تكمل الفضائل وتحصل على السبق في ميادين الخير والبر،
وأن من قعد عن العلم فقد قعد عن تكميل أخلاقه لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ] رواه أحمد .
5- نطلب العلم الشرعي لأنه به يعصمنا الله من الفتن: والفتن كثرت في هذا الزمان، وستكثر لأنه كلما تقدم الوقت كثرت أسباب الضلال والزيغ وأسباب الشر على مر العصور كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: [ لَا يَأْتِي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ إِلَّا الَّذِي بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ حَتَّى تَلْقَوْا رَبَّكُمْ] رواه البخاري.
إنما العلم الشرعي حصن يتدرع به الإنسان من الوقوع في شراك الفتن: فتن الشهوات أو فتن الشبهات، قال تعالى في بيان أثر العلم في إزاحة العصمة من كل فتنة:{ وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ...[83]}[سورة النساء]. وهذا شأن المنافقين وعملهم إذا جاءهم أمر من الأمن، أو الخوف أذاعوا به أي أشاعوه ونشروه دون أن يترووا هل في إشاعته مصلحة للمؤمنين وأهل الإسلام، أو لا، قال تعالى:{...وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا[83]}[سورة النساء]. فالعلم سبب للحفظ وصيانة من الوقوع في أسباب الشر.
إن الفتن تكثر مع مرور الوقت كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: [إِنَّ بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ أَيَّامًا يُرْفَعُ فِيهَا الْعِلْمُ وَيَنْزِلُ فِيهَا الْجَهْلُ وَيَكْثُرُ فِيهَا الْهَرْجُ] رواه البخاري ومسلم. وَالْهَرْجُ الْقَتْلُ أي: كثرة القتل في الناس، وانظر حيث ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في بيان أول ما يصاب به الناس بين يدي الساعة فذكر رفع العلم لما لرفع العلم من الشر الذي يصيب الناس، ويبين هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يَقِلَّ الْعِلْمُ وَيَظْهَرَ الْجَهْلُ وَيَظْهَرَ الزِّنَا وَتَكْثُرَ النِّسَاءُ وَيَقِلَّ الرِّجَالُ حَتَّى يَكُونَ لِخَمْسِينَ امْرَأَةً الْقَيِّمُ الْوَاحِدُ] رواه البخاري ومسلم. وهذا يبين لنا خطورة ارتفاع العلم، وأن ارتفاع العلم من المجتمع سبب للوقوع في أنواع الفتن، وأنواع الشرور.(/2)
6- إن التمسك بالعلم والإقبال عليه سبب لأن يقذف الله في قلب العبد النور الذي يحصل به الفرقان بين الحق والباطل: وما أحوج الإنسان إلى أن يقذف الله في قلبه نوراً يمشي به في الناس، يميز به بين الحق والباطل، بين الهدى والغي، بين الرشاد والضلال.. إننا نحتاج إلى هذا النور، وهذا النور سببه ووسيلة تحصيله تقوى الله مع العلم، قال الله سبحانه وتعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ[28]}[سورة الحديد]. فالقلوب إذا ملئت بالعلم تحصنت من الوقوع في الشبهات، وتحصنت من أن تقر فيها الشهوات على وجه الدوام، بل كل شبهة ترد على القلب يردها القلب بقوته وصلابته، وكل شهوة تترك أثرًا في القلب يردها القلب بما معه من الإيمان الصادق، والإقبال على الله، والتوبة والاستغفار، فلا يبقى في قلبه شيء من الشبهات، ولا شيء من الشهوات قال سبحانه وتعالى:{ أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا ... [122]}[سورة الأنعام]. إن الذي أُعطي النور هو الذي استمسك بالعلم الشرعي بالكتاب والسنة، والذي بقي في الظلمات هو ذلك الذي أعرض عن كتاب الله عز وجل، وعن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
7- إننا نطلب العلم لأن الله بيّن في كتابه فضل العلم، وفضل أهله، ورتّب الأجور العظيمة على تحصيل العلم وطلبه: ولذلك ينبغي لمن رغب في تحصيل تلك الفضائل أن يسعى في تحصيل العلوم الشرعية، فإن العلوم الشرعية سبب لتحصيل تلك الفضائل كقوله تعالى:{ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ...[11]}[سورة المجادلة]. فكلما كثر علمك بالله؛ كلما كثر علمك بسنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ كلما ارتفعت درجتك، وعلت قدمك، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:{مَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ] رواه البخاري ومسلم.
إن أهل العلم هم خلاصة الوجود، وهم الذين بهم يحفظ الله الأمة من الزيغ والضلال، فمن أراد مثل هذه الفضائل؛ فليقبل على العلم الشرعي.
8- نطلب العلم لأن العلم من أهم ما يحتاجه من يقوم بالدعوة إلى الله: فلا يسوغ لمن يقوم بالدعوة إلى الله -وهي أشرف المقامات- أن يكون جاهلًا، بل لابد وأن يكون عالماً، عالماً بأي شيء؟ عالماً بما يدعو، عالماً بمن يدعو إليه، فمن علم من يدعو إليه وبما يدعو؛ فإنه داخل في قوله عز وجل:{ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [108]} [سورة يوسف]. فالعلم هو الذي يثمر البصيرة التي أثنى الله عليها في كتابه، وأثبتها الله لرسوله في قوله: :{ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي...[108]}[سورة يوسف]. أي أنا ومن اتبعني على بصيرة ندعو.
إن الناس في هذا الزمان أحوج ما يكونون إلى من يبصرهم بالله.. إلى من يدعوهم إلى الهدى، أهل الإسلام يحتاجون إلى دعوة من أهل العلم ممن عرف كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، يحتاجون إلى من يعلمهم ويفهمهم القرآن، يحتاجون إلى من يعرفهم بالله، ويعرفهم بدينه وما يجب له سبحانه، إن الأمة بحاجة ماسة إلى العلم، بل إن الإمام أحمد رحمه الله قال إن حاجة الناس إلى العلم فوق كل حاجة، يقول رحمه الله:' الناس محتاجون إلى العلم قبل الخبز والماء لأن العلم يحتاج إليه الإنسان في كل ساعة والخبز والماء في اليوم مرة أو مرتين العلم'. كلما كثر علم الإنسان؛ كلما كانت بصيرته ونظره وعبادته وتقواه وصلاحه ونفعه أكبر، ولذلك ينبغي لنا أن نحرص على الاستكثار من العلم، وأن نشيع العلم الذي تعلمناه بين الناس، فإن إشاعة العلم ونشره مما يثبت العلم ويزكيه وينميه.
إن أمتنا الإسلامية في هذا الوقت بحاجة إلى العلم لكثرة ما في بلدان المسلمين من الجهل بالله، وذلك يظهر بمظاهر الشرك الكثيرة المنتشرة في بلاد المسلمين.. يظهر بالبدع الكثيرة التي انتشرت في بلاد المسلمين.. يظهر بتقصير كثير من المسلمين فيما أوجبه الله عليهم، ومن ذلك تقصيرهم في ثاني أركان الإسلام في الصلاة، فإن كثيراً من المسلمين يقصرون فيها، إما: أنهم لا يؤدونها، وإما: أنهم يقصرون فيها بالتأخير، أو بأنهم لا يقيمونها على وجهها.. تظهر حاجة الأمة إلى العلم بما نشاهده من الدعاوى المنحرفة التي تشيع بين المسلمين وتنتشر بينهم، وتروج في أقلامهم وأقوالهم وكتاباتهم وبلدانهم.(/3)
إننا بحاجة إلى أن نبصر المسلمين بدينهم لما تشهده الأمة من هجمة عظيمة على الإسلام في هذه الأيام فان أعداء الإسلام ضاقوا بالإسلام ذرعاً، وبدؤوا يشككون فيه، ويبحثون عما يصور لهم أنه تشوه فيه، أو ضعف، والضعف في عقولهم، والتشوه في أذهانهم، وأما كلام الله، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، فهو الحق المبين لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
9- إننا بحاجة إلى العلم لندعو غير المسلمين: فإن الناظر إلى جمهور الناس يرى أن المسلمين لا يشكلون إلا خمس العالم، وهذا بالنسبة لمجموع الناس عدد قليل، ينبغي للأمة أن تجهد وأن تبذل ما تستطيع في سبيل إيصال هذه الرسالة التي أنقذ الله بها الناس، وأخرجهم بها من الظلمات إلى النور، فهؤلاء يحتاجون إلى دعوة تبين محاسن الإسلام، يبين فيها ما في هذا الدين من جوانب العظمة- وكله عظيم- يبين فيها بطلان ما يدعيه أعداء الإسلام من أن هذا الإسلام فيه وفيه من الشبهات التي يثيرونها وهي في الحقيقة شبه وخيالات، وظنون فاسدة، إما ناشئة عن فساد نية، أو ضعف علم، فإذا كمل العلم، وصحت النية؛ انبهر العالم بما في هذا الدين من النور الساطع الذي يخرجهم الله به من الظلمات إلى النور.
كل هذه الأسباب من أجلها نتعلم العلوم الشرعية، أما ما يتعلق بالعلوم الدنيوية المدنية فإنها واجبة على الأمة لاسيما في هذا الوقت الذي تعيش الأمة سباقاً حضارياً لا يعرف توقفًا.
إننا نحتاج للعلوم بشتى صنوفها في الصناعة، في الطب، في جميع مجالاتها التجريبية والمدنية، وذلك لأن بها يحصل فرض الكفاية التي من خلالها تستغني الأمة عن غيرها، ومن خلالها تخرج الأمة من كونها فتنة للذين كفروا، فإن من صور افتتان الكفار ما عليه المسلمون اليوم من الضعف والانكسار والتقهقر الحضاري الذي جعل المسلمين في آخر الركب.
إن العلوم في شتى أنواعها لم تعلم، ولم تبذل فيها الأموال، ولم يجتهد فيها المربون والمعلمون على مستوى العالم كله لأجل أن تكتسب بها الوظائف، فالعلم ليس وسيلة لتحصيل المكاسب الدنيوية، فإذا كان كذلك فينبغي لنا أن نصحح النية، ومن كان غرضه من العلوم الشرعية خاصة أن يحصل بها المكاسب الدنيوية، فليذهب إلى غير هذا الميدان، وليبحث عن غير هذا السبيل، فانه من طلب علماً مما يبتغى به وجه الله لا يطلبه، ولا يبتغيه إلا لدنيا يصيبها لم يرح رائحة الجنة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قال الله جل وعلا:{ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ[15]أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ[16]}[سورة هود].
هذه لمحة عن جواب هذا السؤال: لماذا نتعلم؟ الذي لابد أن نشتغل في طلب الجواب عنه في مجالسنا، وفي دراستنا، وفي عملنا؛ لأن الجواب عنه يختصر علينا، ويلخص لنا شيئاً كثيراً قد نجهله ووجود هذا السؤال في أذهاننا يفيدنا فائدتين:
الفائدة الأولى: تحديد الغايات، وتحديد الغايات مما يعين الإنسان في السعي إلى تحصيلها .
الفائدة الثانية: أن ننظر ونقيس سيرنا في تحقيق هذه الغاية، فإذا أجبنا على السؤال؛ يمكننا بعد ذلك أن نقيس ما الذي حصلناه؟ ما الذي حققناه مما لم نحققه في سبيل التعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
من محاضرة'لماذا نتعلم؟' للشيخ /خالد بن عبد الله المصلح(/4)
لماذا نخشى من الدشوش؟
عبدالرحمن الوهيبي
دار القاسم
الحمد لله الذي خلقنا من عدم، وأسبغ علينا وافر النعم، والصلاة والسلام على من بعثه الله للعالمين هاديا ومبشرا ونذيرا، وعلى اله وصحبه، وبعد:
فلقد خلقنا الله لعبادته وهي (فعل أوامره سبحانه وتعالى واجتناب نواهيه) فأمرنا بما فيه صلاح ديننا ودنيانا وأمرنا بما يصلح عقولنا وقلوبنا وأجسادنا وأباحه لنا، ونهانا عما يضر بعقولنا وقلوبنا وأجسادنا وحرمه علينا ألا يعلم من من خلق وهو اللطيف الخبير [الملك:14].
أيها المسلم: لقد فتن بعض الناس ببث القنوات التلفزيونية الفضائية وتسابقوا لشراء أجهزة استقبالها بشكل مخيف وبعدد ينذر بخطر على العقائد والأخلاق. لقد عقد مؤتمر في دولة نصرانية ضم أكثر من (100) دولة، وحضره أكثر من (8000) منصر، وكلف أكثر من (21) مليون دولار.. لماذا؟ لدراسة كيفية الاستفادة من البث المباشر في تنصير المسلمين!! وصدق الله ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء [النساء:89]. الآية، قال ابن كثير رحمه الله في تفسيرها: "لشدة عداوتهم يودون لكم الضلالة لتستووا وإياهم فيها". وصدق الله قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون [آل عمران:118].
فيا أيها المسلم: أيسرك أن يكون منزلك مسرحا يستقبل عبر شاشتك الكفر والإلحاد، وتشاهد من خلالها الأفلام الداعرة والقنوات المتحللة والساقطة، وتعرض فيها كؤوس الخمر وصور العاهرات والفاجرات من خلال المسلسلات وعرض الأزياء؟ أترضى بذلك لك ولأهلك؟!
إن كان الجواب: نعم: فكبر على نفسك أربع تكبيرات.. فأنت في عداد الأموات ولا تنس وقوفك يوم العرض أمام جبار السماوات والأرض.
وإن كان الجواب: لا - لكنني أتحكم فيه من خلال (الريموت كنترول!!) فاعلم أن هناك من أخذ التلفاز قديما بحجة التحكم فيه فعجز، ثم أدخل الفيديو وزعم محاولة السيطرة على استخدامه فيما يفيد ففشل، ولذا فأهل الدشوش أعجز وأعجز ألف مرة عن التحكم فيه.
يا صاحب الدش: قد تقول: أريد متابعة الأخبار ومشاهدة المباريات على الهواء مباشرة!! ولهذا فقط نصبت الدش. فنقول لك: هل ما ترى في المباريات والأخبار من مناظر لعورات الرجال والنساء، وما تسمعه من موسيقى ونحوها، أحله الذي خلقك لك؟ أين أمره لك بغض البصر وحفظ السمع؟ ثم ماذا بعد متابعتك ومشاهدتك؟ هل زاد إيمانك.. هل تحركت غيرتك على دينك بسبب مآسي المسلمين؟ هل ازداد بغضك للكافرين؟ هل أقلعت عن فعل المنكرات؟ الواقع يقول: إن حال أهل الدشوش إضاعة للأوقات، ونوم عن الصلوات، وجرأة على المحرمات، واستمراء للمنكرات، وإعجاب بالكفار، وإثارة للشهوات، وتقليد من النساء للكافرات، وإعجاب بالفاجرات، وتثاقل عن الطاعات، فقل لي بربك: ما هي فوائد تلك القنوات؟
يا صاحب الدش: لو أعطيت كأسا فيه عسل كثير وقليل من السم فهل ستشربه؟! الجواب طبعا لا. وأنا أسألك: كم نسبة العسل والسم في تلك القنوات الفضائية؟؟ وأيهما أولى: حماية الأجساد أم حماية العقائد والأخلاق؟؟
يا أهل الدشوش: إن الله هو الذي خلقكم من عدم، وأصح أجسادكم فاستخدمتموها في العكوف على الدشوش ! ! ومنحكم عينين فنظرتم بها إلى ما حرم عليكم ! ! وجعل لكم أذنين فاستمعتم بها إلى ما يسخطه ! ! رزقكم أموالا فاشتريتم بها ما لا يرضيه ! ! أهكذا تشكر النعم؟ !
ألم يرسل إليكم رسولا وينزل عليكم كتابا فهل قرأتموه لتحكموا على أنفسكم بأنفسكم؟ ! منحكم عقولا تميزون بها النافع من الضار، وهيأ لكم علماء يبينون لكم الحلال من الحرام، وقال لكم: وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون [النحل:43]. وقد أفتى العلماء بأن شراءها وبيعها ومشاهدة بثها حرام، فاتقوا الله واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون [البقرة:281]. فحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا واستعدوا للموت وسكراته وللقبر وظلمته وليوم القيامة وأهواله يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه [عبس:34-37].
عودوا إلى ربكم وحكموا دينكم واحذروا تضييع أماناتكم وغش أبنائكم وبناتكيم بإدخال الدش عليهم، فالأمر خطير والحساب عسير، فاتق الله أيها المسلم. أيها العقلاء: إننا نخشى أن تستفيق بعد طول صمت على كارثة تحل بنا أو عقوبة تذهلنا، إننا نخشى أن ننتبه بعد فوات الأوان وإذا بنا أمام جيل ربته القنوات التلفزيونية الأجنبية على كل رذيلة، وحارب كل ما لديه من فضيلة، جيل تحللت أخلاقه وانحرفت عقائده وتزعزعت مبادئه وقيمه، جيل همه شهوة بطنه وفرجه، فيضل الشباب، وتنحرف الفتيات، ويفسد الآباء، ويتمر د الأبناء، فيعص الله الذي خلق، وتكفر نعم الله الذي رزق، والنتيجة وضرب الله مثلا قرية كانت ءامنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون [النحل:112].(/1)
فيا أيها المسلمون: ناصحو جيرانكم وحذروا إخوانكم وخوفوا أقاربكم وذكروهم ببطش الله إن بطش ربك لشديد [البروج:12]. خاطبوا العقلاء وخذوا على أيدي السفهاء وتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا إن الله شديد العقاب [الأنفال:25]. قال عليه الصلاة والسلام: { إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك الله أن يعمهم بعقاب منه } وسنة الله في المعرضين معلومة.
فستذكرون ما أقول لكم وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد [غافر:44].
هذه ذكرى للأمة لعل فيها براءة للذمة وإقامة للحجة، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(/2)
لماذا ندرس حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ؟
الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه وسلم ، أما بعد :
فإن مهمة الرسل عليهم الصلاة السلام مهمة عظيمة شريفة ، يجب أن يعرفها الناس ويفقهوها ، ويعرفوا حقوق هؤلاء الرسل الكرام ويتخذوها منهاجاً ، يهتدون بهديه ، وبخاصة من نسب نفسه إلى الدعوة إلى الله تعالى، حيث يتعين عليه دراسة حياة رسل الله عز وجل ليترسم طريقهم إن أراد الفوز والفلاح في الدنيا والآخرة .
ولما كانت حياتهم عليهم الصلاة والسلام هي حياة الكمّل من الناس، الذين اختارهم الله عز وجل عن علم وحكمة ، واصطفاهم على البشر : كان لا بد أن نتعرف على هذه الحياة المباركة ، التي صُنعت على عين الله تبارك وتعالى ، كما كان لزاماً على من أراد لنفسه النجاة في الدنيا والآخرة فرداً كان أو جماعة أن يدرس هذه الحياة المباركة، وبخاصة في عصور الغربة والغرباء كعصرنا الحاضر ؛ علّها أن تكون نبراساً لحياتنا ، ونجاة لأمتنا مما هي فيه في كثير من البلدان من واقع أليم .
ويمكن إبراز أهمية دراسة حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من خلال أمور كثيرة ، أهمها ما يلي :
أولاً : لأننا مأمورون من الله عز وجل بالاقتداء بهم والتأسي بهديهم .
وفي ذلك طاعة لله سبحانه وعبادة له قبل كل شيء ، ومن هذه الآيات :ما ذكره الله عز وجل في سورة الأنعام من شأن بعض أنبيائه ورسله، ثم ختم هذه الآيات بأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بهديهم، والأمر له صلى الله عليه وسلم أمر لأمته ، قال الله تعالى : ((وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ إنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ * وَإسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاًوَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى العَالَمِينَ * وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إلَىصِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ* ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ * أُوْلَئِكَ الَذِينَ آتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ * أُوْلَئِكَ الَذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إنْ هُوَ إلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ)) [الأنعام : 83 90] .
قال الطبري (رحمه الله تعالى) عند الآية الأخيرة :
((أُوْلَئِكَ الَذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ )) : يقول الله : ((أُوْلَئِكَ)) هؤلاء القوم الذين وكلنا بآياتنا وليسوا بها بكافرين ، هم الذين هداهم الله لدين الحق ، وحفظ ما وكلوا بحفظه من آيات كتابه والقيام بحدوده ، واتباع حلاله وحرامه ، والعمل بما فيه من أمر الله ، والانتهاء عما فيه من نهيه ، فوفقهم (جل ثناؤه) لذلك، ((فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ))، يقول : تعالى: فبالعمل الذي عملوا ، والمنهاج الذي سلكوا، وبالهدى الذي هديناهم ،والتوفيق الذي وفقناهم ((اقْتَدِهْ)) يا محمد ، أي : فاعمل وخذ به واسلكه ، فإنه عمل لله فيه رضاً ، ومنهاج من سلكه اهتدى) [1].
والأمر له صلى الله عليه وسلم أمر لأمته ، لقوله تعالى : (( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً)) [الأحزاب : 21] .
وقال صاحب المنار رحمه الله تعالى :
( فمعنى الجملة على هذا : أولئك الأنبياء الثمانية عشر الذين ذكرت أسماؤهم في الآيات المتلوة آنفاً والموصوفون في الآية الأخيرة بإيتاء الله إياهم الكتاب والحكم والنبوة، هم الذين هداهم الله تعالى الهداية الكاملة ،فبهداهم دون ما يغايره ويخالفه من أعمال غيرهم وهفوات بعضهم اقتد أيها الرسول فيما يتناوله كسبك وعملك، مما بعثت به من تبليغ الدعوة وإقامة الحجة، والصبر على التكذيب والجحود وإيذاء أهل العناد والجحود، ومقلدة الآباء
والجدود ، وإعطاء كل حال حقها من مكارم الأخلاق وأحاسن الأعمال، كالصبر والشكر، والشجاعة والحلم ، والإيثار والزهد، والسخاء والبذل ، والحكم بالعدل) [2](/1)
ومن الآيات التي ورد فيها أيضاً الأمر بالاقتداء بهدي الأنبياء : قوله تعالى : (( قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ العَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إلاَّ قَوْلَ إبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإلَيْكَ أَنَبْنَا وَإلَيْكَ المَصِيرُ )) [الممتحنة : 4] .
قال الشوكاني رحمه الله تعالى :
وقوله تعالى : ((فِي إبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ)) متعلق بأسوة أوبحسنة ، أوهو نعت لأسوة ، أو حال من الضمير المستتر في حسنة ، أو خبر كان، و ((لَكُمْ)) للبيان ، ((وَالَّذِينَ مَعَهُ)) هم أصحابه المؤمنون، وقال ابن زيد : هم الأنبياء) [3].
ومن الآيات الواردة في الأمر بالاهتداء بهدي الأنبياء :
ما شرعه الله عز وجل في سورة الفاتحة في كل صلاة أن ندعوه سبحانه بأن يهدينا صراطهم المستقيم ، وذلك في قوله تعالى : ((اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أََنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ )) .
وأول من يدخل في وصف المنعَم عليهم هم أنبياء الله تعالى وأتباعهم ؛ وذلك لقوله تعالى بعد أن ذكر جملة من الأنبياء الكرام في سورة مريم : (( أُوْلَئِكَ الَذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إبْرَاهِيمَ وَإسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِياً)) [مريم : 58] .
ثانياً : لأن حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام هي الحياة المعصومة
خاصة فيما يتعلق بالعقيدة ، وما أُمروا بتبليغه ؛ ذلك لأن الله تعالى اجتباهم واصطفاهم عن علم وحكمة ؛ قال تعالى : ((وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا)) .
وقال سبحانه عن إبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم الصلاة والسلام : ((إنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ * وَإنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ المُصْطَفَيْنَ الأَخْيَارِ )) [سورة ص : 46 ، 47] ، وقال عن نبيه موسى عليه الصلاة والسلام : ((وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي )) [طه : 39] ، وقال عن علمه سبحانه بمن يختار من رسله : ((اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ)) [الأنعام : 124] .
وقال سبحانه : ((اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ المَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ )) [الحج : 75] ، والآيات في ذلك كثيرة ، والحاصل منها : أن من اصطفاه الله عز وجل واجتباه لرسالته هم أولى بالاتباع والاقتداء ؛ وذلك لحفظ الله عز وجل لهم وعصمته لهم من الزلل والانحراف، ولو وقع منهم الخطأ لم يُقَرّوا على ذلك ، فحري بمن هذه صفاتهم أن يُقتدى بهم ، وتُدرس حياتهم، ويُتعرف على هديهم ؛ وذلك لضمان الاهتداء وعدم الانحراف، لهداية الله عز وجل لهم وعصمته لهم، فيتم الاقتداء من المقتدين وهم في غاية الاطمئنان على صحة ما يأخذونه ويقتدون به وسلامته من الانحراف .
ثالثاً : في دراسة حياة الأنبياء (عليهم الصلاة والسلام) أكبر العظات والعبر للدعاة إلى الله عز وجل في كل مكان وزمان
سواءً ما يتعلق بالإيمان العظيم والتوحيد الصادق الذي عليه أنبياء الله عز وجل، أو فيما يتعلق بأخلاقهم وسلوكهم ، أو بهديهم ومنهجهم ، وصبرهم في الدعوة، والصراع مع الباطل وأهله، وإبراز هذه الجوانب من حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام هو من أهم أغراض ورود قصص الأنبياء في القرآن الكريم ؛ حيث لم تأت لمجرد التسلية والمعرفة التاريخية فقط ، وإنما جاءت للاقتداء والتأسي بتوحيدهم لله والدعوة إليه ، والتعزي بحياتهم وصبرهم وجهادهم ؛ حتى لا تفتر عزائم الدعاة ويضعف صبرهم ، فلهم في هذا السلف المبارك أكبر عزاء وقدوة في الثبات وشحذ الهمم .
يقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى :
(وفي قصص هذه الأمور عبرة للمؤمنين بهم ؛ فإنهم لا بد أن يبتلوا بما هو أكثر من ذلك ولا ييأسوا إذا ابتلوا بذلك ، ويعلموا أنه قد ابتلي به من هو خير منهم ، وكانت العاقبة إلى خير، فليتيقن المرتاب، ويتب المذنب ، ويقو إيمان المؤمنين ، فبها يصح الاتساء بالأنبياء) [4].
رابعاً : وتأتي دراسة حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في عصرنا الحاضر(/2)
ونحن في أشد الحاجة إلى دراستها من أي وقت مضى ؛ وذلك لما يشهده عصرنا من غربة في أحوال كثير من المسلمين وفرقة بين دعاة الحق ، وتسلط الأعداء ، وكيد المنافقين، وتخبط في بعض المناهج الدعوية ما بين يائس، ومداهن ، ومستعجل، وهذا يبرز أهمية التعرف على حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في واقعنا المعاصر؛ لعلّ في الدراسة المتجردة الواعية لهذه الحياة المباركة أن يقي الله سبحانه بها من التخبط والانحراف ، وأن يهدينا بها إلى الصراط المستقيم الذي يوحد صفوفنا ، ويبطل كيد أعدائنا ، ويوصلنا في النهاية إلى النصر والتمكين الذي نصر الله عز وجل به أنبياءه والمتبعين لهم بإحسان .
خامساً : في دراسة حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام
تعرف على سنن الله عز وجل في التغيير، وتعرف على سننه سبحانه في الدفع والمدافعة ، كما أنها تكشف للدعاة إلى الله عز وجل ذلك الصراع الطويل المرير بين الحق والباطل ، وفي هذا أكبر العزاء لأهل الحق ؛ وذلك لإيمانهم بحتمية هذا الصراع ، وأن الدولة والعاقبة في نهاية الأمر للحق وأهله، وهذا كله لا يبرز بوضوح كما يبرز في حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وصراعهم مع أقوامهم : بالحجة والبيان ، والهجرة، والجهاد ، حتى أتاهم الله تعالى بنصره وتمكينه ؛ قال تعالى : ((وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ المُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُوفَضْلٍ عَلَى العَالَمِينَ )) [البقرة : 251] ، وقال تعالى : ((وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ )) [الحج : 40] .
وقال تعالى : ((وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ )) [آل عمران : 140] .
وقال سبحانه عن السنن : (( قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ )) [آل عمران : 137] .
وإن في التعرف على هذه السنن الربانية لأعظم فائدة في تجنب الأخطاء وتوقي موارد الهلكة، ومعرفة أسباب النصر والتمكين .
يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى :
(ومن هذا الباب صارت قصص المتقدمين عبرة لنا ، ولولا القياس واطراد فعله وسنته لم يصح الاعتبار بها ؛ لأن الاعتبار إنما يكون إذا كان حكم الشيء حكم نظيره ؛ كالأمثال المضروبة في القرآن) [5].
ومن السنن التي يمكن التعرف عليها من خلال دراسة حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ما يلي :
1- سوء عاقبة المكذبين للرسل وإهلاكهم .
2- نصره سبحانه لعباده المؤمنين .
3- مداولة الأيام بين الناس من الشدة إلى الرخاء .
4- زوال الأمم بسبب الترف ، والفساد ، وفشو الظلم ، والتجبر على الناس .
5- أن البشر يتحملون مسؤوليتهم في الخير والشر .
6- أن انهيار الأمم وهلاكها يكون بأجل .
7- أن الابتلاء للمؤمنين سنة جارية .
8- تقرير سنة التدافع والصراع بين الحق والباطل [6] .
سادساً : ولعل في دراسة حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بصدق ورغبة في اتباع هديهم سبيلاً إلى الانتظام في سلكهم والسير في قافلتهم المباركة
ولعل الله عز وجل أن يلحق من هذه نيته بركبهم الميمون ، وأن يحشره في زمرتهم ، فيصدق عليه قول الله تعالى : ((وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكََ مَعَ الَذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقاً * ذَلِكَ الفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيماً )) [النساء : 69 ، 70].
نسأله سبحانه أن يفيض علينا رضاه وجنته ، وأن ينعم علينا باللحوق بهذه الصفوة المباركة باتباعنا لهم ، وحبنا إياهم ، وإن قصرت أعمالنا وأحوالنا عنهم كثيراً كثيراً.
فعن أنس رضي الله عنه : (( أن رجلاً سأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن الساعة ، فقال : متى الساعة ؟ قال : (وما أعددت لها ؟) قال : لا شيء إلا أني أحب الله ورسوله ، فقال : (أنت مع من أحببت) ، قال أنس : فأنا أحب النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر، وأرجو أن أكون معهم بحبي إياهم ، وإن لم أعمل أعمالهم)) [7].
يعلق الشيخ السعدي رحمه الله تعالى على صفات عباد الرحمن الواردة في آخر سورة الفرقان .(/3)
ورسل الله عليهم الصلاة والسلام أول من تصدق عليهم هذه الصفات فيقول : (ما أعلى هذه الصفات ، وأرفع هذه الهمم ، وأجل هذه المطالب ، وأزكى تلك النفوس ، وأطهر تلك القلوب ، وأصفى هؤلاء الصفوة ، وأتقى هؤلاء السادة ولله منّة الله على عباده ، أن بيّن لهم أوصافهم ، ونعت لهم هيئاتهم ، وبين لهم هممهم ، وأوضح لهم أجورهم ؛ ليشتاقوا إلى الاتصاف بهم ، ويبذلوا جهدهم في ذلك ، ويسألوا الذي منّ عليهم وأكرمهم الذي فضْلُه في كل مكان وزمان ، وفي كل وقت وأوان أن يهديهم كما هداهم ، ويتولاهم بتربيته الخاصة كما تولاهم ، فاللّهم لك الحمد ، وإليك المشتكى ، وأنت المستعان ، وبك المستغاث ، ولا حول ولا قوة إلا بك ، لا نملك لأنفسنا نفعاً ولا ضرّاً ، ولا نقدر على مثقال ذرة من الخير إن لم تيسر ذلك لنا ، فإنا ضعفاء عاجزون من كل وجه ، نشهد أنك إن وكلتنا إلى
أنفسنا طرفة عين وكلتنا إلى ضعف وعجز وخطيئة ، فلا نثق يا ربنا إلا برحمتك التي بها خلقتنا ورزقتنا وأنعمت علينا بما أنعمت من النعم الظاهرة والباطنة ، فارحمنا رحمة تغنينا بها عن رحمة من سواك ، فلا خاب من سألك ورجاك) [8] .
________________________________________
[1] تفسير الطبري ، ت : شاكر ، عند الآية (90) من سورة الأنعام .
[2] تفسير المنار ، عند الآية (90) من سورة الأنعام .
[3] فتح القدير ، 5/206 .
[4] مجموع الفتاوى ، 15/178 .
[5] جامع الرسائل ، ص 55 2) .
[6] انظر لمزيد من التفصيل : منهج التاريخ الإسلامي ، للدكتور محمد بن صامل السلمي ، ص 58 74 .
[7] البخاري ، ح/6167 في كتاب الأدب ، ومسلم ، ح/2639 في كتاب البر والصلة .
[8] تفسير السعدي ، 3/455 .(/4)
لماذا ندعو .. فلا يستجاب لنا ؟
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على أشرف الخلق سيدنا محمد على اله وصحبه أجمعين:
لقد تكالب على الأمة أعداءها من حدب وصوب , أصبحنا نسمع في كل يوم عن نكبة من نكبات المسلمين ، ونسمع عن التطاول على المسلمين في كل بقعة وكل مكان ، ونسمع عن تدنيس مقدسات الإسلام على أيدي أذل خلق الله ، ونسمع عن تدنيس لقرآننا الكريم ، ونقف لا حيل لنا ولا حول ولا قوة ..
كلما سألت أحدا من المسلمين ما واجبنا تجاه هؤلاء المضطهدين قالو لك : عليك بالدعاء
ولكن السؤال: أكثر من مليار مسلم يدعون لإخوانهم المسلمين لكن الله لم يبدل حالهم ؟!!!
فلماذا ندعو فلا يستجاب لنا ؟
قيل لإبراهيم بن أدهم : ما بالنا ندعو فلا يستجاب لنا ؟
قال : لأن قلوبكم ميتة بعشرة أشياء:
أولها : عرفتم الله فلم تطيعوه , ثانيها : عرفتم الرسول صلى الله عليه وسلم فلم تتبعوا سنته
ثالثها : عرفتم القرآن فلم تعملوا به , رابعها : أكلتم نعم الله فلم تؤدوا شكرها
خامسها : قلتم أن اللجنة حق فلم تعملوا لها , سادسها : قلتم أن النار حق فلم تفروا منها
سابعها : قلتم أن الموت حق فلم تستعدوا له , ثامنها :قلتم أن الشيطان عدوكم ووافقتموه ,
تاسعها : دفنتم موتاكم فلم تعتبروا
عاشرها : اشتغلتم بعيوب الناس وتركتم عيوبكم .)
إخواني في الله ليس بيدنا إلا الدعاء فلا تبخلوا أخواني أن تدعوا لأخوانكم المسلمين في كل مكان
اللهم انصر الإسلام والمسلمين ، اللهم عليك بأعدائنا فإنهم لا يعجزنك ، اللهم انتصر لكتابك الكريم ، اللهم إنهم قد مزقوه اللهم فمزقهم شر ممزق .. الله أحصهم عددا ، واقتلهم بددا ، ولا تغادر منهم أحدا ..
اللهم اجعلهم عبرة لمن يعتبر ، اللهم أرسل عليهم الصواعق المرسلة ، والزلازل المدمرة ، اللهم جمّد الدماء في عروقهم ، اللهم لا حيلة لنا إلا الدعاء ، فلا ترد دعائنا ، اللهم انصر أخواننا المجاهدين في كل مكان اللهم ثبت أقدامهم وانصرهم على القوم الكافرين اللهم أجعل الفردوس أخر مأواهم
اللهم آ مين(/1)
لماذا ندعو .. فلا يستجاب لنا ؟
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على أشرف الخلق سيدنا محمد على اله وصحبه أجمعين:
لقد تكالب على الأمة أعداءها من حدب وصوب , أصبحنا نسمع في كل يوم عن نكبة من نكبات المسلمين ، ونسمع عن التطاول على المسلمين في كل بقعة وكل مكان ، ونسمع عن تدنيس مقدسات الإسلام على أيدي أذل خلق الله ، ونسمع عن تدنيس لقرآننا الكريم ، ونقف لا حيل لنا ولا حول ولا قوة ..
كلما سألت أحدا من المسلمين ما واجبنا تجاه هؤلاء المضطهدين قالو لك : عليك بالدعاء
ولكن السؤال: أكثر من مليار مسلم يدعون لإخوانهم المسلمين لكن الله لم يبدل حالهم ؟!!!
فلماذا ندعو فلا يستجاب لنا ؟
قيل لإبراهيم بن أدهم : ما بالنا ندعو فلا يستجاب لنا ؟
قال : لأن قلوبكم ميتة بعشرة أشياء:
أولها : عرفتم الله فلم تطيعوه , ثانيها : عرفتم الرسول صلى الله عليه وسلم فلم تتبعوا سنته
ثالثها : عرفتم القرآن فلم تعملوا به , رابعها : أكلتم نعم الله فلم تؤدوا شكرها
خامسها : قلتم أن اللجنة حق فلم تعملوا لها , سادسها : قلتم أن النار حق فلم تفروا منها
سابعها : قلتم أن الموت حق فلم تستعدوا له , ثامنها :قلتم أن الشيطان عدوكم ووافقتموه ,
تاسعها : دفنتم موتاكم فلم تعتبروا
عاشرها : اشتغلتم بعيوب الناس وتركتم عيوبكم .)
إخواني في الله ليس بيدنا إلا الدعاء فلا تبخلوا أخواني أن تدعوا لأخوانكم المسلمين في كل مكان
اللهم انصر الإسلام والمسلمين ، اللهم عليك بأعدائنا فإنهم لا يعجزنك ، اللهم انتصر لكتابك الكريم ، اللهم إنهم قد مزقوه اللهم فمزقهم شر ممزق .. الله أحصهم عددا ، واقتلهم بددا ، ولا تغادر منهم أحدا ..
اللهم اجعلهم عبرة لمن يعتبر ، اللهم أرسل عليهم الصواعق المرسلة ، والزلازل المدمرة ، اللهم جمّد الدماء في عروقهم ، اللهم لا حيلة لنا إلا الدعاء ، فلا ترد دعائنا ، اللهم انصر أخواننا المجاهدين في كل مكان اللهم ثبت أقدامهم وانصرهم على القوم الكافرين اللهم أجعل الفردوس أخر مأواهم
اللهم آ مين(/1)
لماذا ندمن ؟
مفكرة الإسلام : سؤال لا بد له من إجابة، كيف يقوم المرء بمطلق إرادته بالقضاء على عقله وفكره؟ وإذا ذهبنا أبعد من ذلك: كيف يقوم المرء بمحض اختياره بالقضاء على مستقبله بالكلية، وتدمير عمله وبيته وأسرته؟
ما هي تلك الدوافع الداخلية التي تعمل في نفس الفرد؛ فتجعله يقدم على تعاطي المخدر، وهو مدرك تمامًا لخطورة هذا الفعل؟
ثم بعد ذلك ما هي الدوافع التي تدفعه خطوة أخرى؛ فينطلق إلى الإدمان وهو لا بد يرى فيه حتفه وهلاك أمره، ما لم تتدراكه رحمة الله تعالى وعنايته؟
للإجابة على السؤال الأول يلزمنا أن نقرر أن الأمر تتداخل فيه عوامل عدة؛ من عوامل بيئية وتربوية والظروف المحيطة بالفرد، كما تؤثر كذلك التركيبة النفسية للشخص [مدى هوائيتها وقوتها أو ضعفها]، ومن ضمن هذه الدوافع الداخلية:
1- الحرص على تناسي الهموم ودفعها، ومحاولة السعي إلى استجلاب السرور بجميع الوسائل، خاصة مع ازدياد الضغوطات.
2- الوهم المتواجد في أذهان المتعاطين والذي يتناقلونه بينهم، وهو أن تعاطي المخدرات والتعامل مع الكحوليات يتسبب في تحصيل لذة جنسية كبرى، وهذا ما أثبتت الدراسات العلمية كلها بطلانه بل والأنكى من ذلك أنها أثبتت نقيضه، فتعاطي المواد المخدرة والكحوليات سبب رئيس من أسباب الإصابة بالضعف الجنسي.
3- استشعار روح الجماعة المرحة، والحرص على التوافق مع المجموع بغض النظر عن مقياس الصواب والخطأ، وعدم الرغبة في الخروج على الإطار العام، خاصة مع كون هذه الجماعة تقف في وجه المجتمع، الذي يتولى مهاجمته وتحطيم أحلامه، ويسعى هو للهروب منه.
4- البعض من المتعاطين للمواد المخدرة يعتقدون أن تعاطي هذه المخدرات يزيد من مستوى إبداعهم ودرجة إتقانهم لعملهم.
5- تعاطي المواد المخدرة لا لشيء إلا بدافع التجربة.
هناك مجموعة من الدوافع أو العوامل التي تهيئ أو تساعد الفرد للوصول إلى مرحلة الإدمان، وهي كالآتي:
1- البيئة الاجتماعية التي يتحرك فيها الفرد، والتي تؤثر في تشكيل ونمو شخصيته، وما تنطوي عليه هذه البيئة من أساليب تربوية فاشلة، تساهم في تكوين شخصية ناضجة، مثل: القسوة أو الإهمال أو الحرمان، سواء من البيت أو المدرسة أو المجتمع.
2- التفاوت الطبقي الشديد في المجتمع، مع وجود أوضاع تنطوي على الحرمان والتنافس غير المتكافئ، هذا بالإضافة إلى عدم وضوح الرؤية الشرعية السليمة للتعامل، والنظر إلى الدنيا.
3- انعدام منافذ السلوك السليم، وعدم وجود مؤسسات تتولى التوجيه للمجتمع والتمييز له بين الصواب والخطأ واختلاط الأمر، حتى على نطاق البيوت والأسر.
4- اضطراب قيم ثقافية واجتماعية وأخلاقية ودينية غير مستقرة ومتغيرة، تؤدي إلى مزيد من الحيرة والشك، وينشأ عنها جو من عدم الثقة، وبالتالي تكون النتيجة الطبيعية الانعزال والانسحاب من المجتمع، والوقوف في جبهتين متضادتين.
5- الحرمان المادي والفقر والجهل، مما يدفع النفس المتعرضة لهذه الضغوط إلى فقدان الاتزان في تصرفاتها ودوافع هذه التصرفات، وكذلك الإقامة في بيئات مختلفة والتنقل المستمر، مما ينشأ عنه عدم استقرار، ويثمر واقعًا يسعى المدمن إلى الهرب منه.
6- ضعف الضوابط الاجتماعية على السلوك المنحرف، مع وجود جماعات تؤيد هذا السلوك وتسهل القيام به، وينطوي هذا على سهولة الحصول على المخدر وتوافره.
7- وجود قيم ومعايير حضرية وثقافية تؤدي إلى حدوث الصراع الطبقي، فبينما تساعد هذه القيم على تحقيق الثراء والتقدم في الطبقات العليا بأساليب مشروعة، إلا أنها تحول دون ذلك في الطبقات الدنيا مما يؤدي إلى بذل الجهد من جانب الطبقات الدنيا لتحقيق النجاح بطرق غير مشروعة، وحيث يفشلون في ذلك يلجئون إلى الانسحاب من المجتمع باللجوء إلى إدمان المخدرات.
8- الثراء الفاحش في الطبقات العليا، والذين يلجئون إلى تعاطي المخدرات كوسيلة من وسائل الترفيه.(/1)
لماذا نزل القرآن بلغة قريش؟؟
أ.د/
جابر قميحة
komeha@menanet.net
ليس من همنا ـ في هذا المقال الموجز ـ البحث في أعماق التاريخ عن أولية اللغة العربية، وأولية شكلها الكتابي، فذلك من مهمات علماء اللغة وفقهائها ـ على أن هذا لن يفيدنا شيئًا في مقالنا هذا، ولكن هناك حقيقتين لا يستطيع أحد إنكارهما، وهما:
1 ـ أن اللغة العربية في أولياتها ـ وهي مرحلة الطفولة الباكرة التي ترجع إلى ما قبل الإسلام بقرون مديدة ـ لم تكن بالصورة التي كانت عليها في أوائل القرن السابع الميلادي الذي نزل القرآن في نهاية العقد الأول منه، بل كانت في صورة أبسط، وأقل مستوى، وأقل مفردات.
2 ـ أنه كان هناك ـ من فجر نشوء هذه اللغة ـ لهجات خاصة متعددة بتعدد القبائل، وتباعد أماكن وجودها في الجزيرة العربية، ونشأ عن هذا التعدد فروق لغوية من أهمها:
أ ـ اختلاف شكل الكلمات في بعض حروفها، كاستبدال الألف والميم (أم) بالألف واللام (أل) أي أداة التعريف، فالحديث النبوي الشريف "ليس من البر الصيام في السفر" يكتبه الحميريون وينطقونه هكذا "ليس من امبر أمصيام في أمسفر".
ب ـ اختلاف نطق بعض الكلمات، كاستبدال "الشين" بالكاف، فيقال (عيناش) و(جيدش) بدلا من (عيناك) و(جيدك). وهذا ما يسمى "بالكشكشة". ومثل استبدال الجميم بالياء، إذا جاء في الكلمة عين، فكلمتا (علي)، و(عشي) تصبحان (علج) وعشج) وهذا ما يسمى بالعجعجة.
جـ ـ الدلالات المعنوية للكلمات فكلمة "أدفأ" تعني جلب الدفء، ولكنها ـ بلغة قبيلة كنانة تعني: القتل وبتضام هذه الدلالات بعضها إلى بعضها الآخر نشأ ما يسمى "بالمشترك اللفظي" الذي يعني أن تكون الكلمة واحدة، ولها معان متعددة، ككلمة (العين) التي تعني: الناظرة، والبئر، والرجل العظيم، والجاسوس.
ولكن هذه الفروق اللغوية لم تقف عقبة أمام التقاء القبائل العربية على "اللغة الأم" التي استكملت عناصر نضجها قبل نزول القرآن بقرن من الزمان على الأقل، والتي تمثلت في لغة قريش التي استطاعت أن تصهر هذه اللهجات في بوتقة واحدة بتفاديه ما يعيبها من ظواهر شاذة، وبذلك أصبحت اللهجة أو اللغة المثالية النموذجية.
ويرى الدكتور إبراهيم أنيس أن هذه اللغة توافر لها الشرطان الأساسيان اللذان لا تكون اللغة مشتركة إلا بهما.
وهذان الشرطان هما:
أ ـ أن تمثل مستوى لغويًا أرقى من لهجات الخطاب في غالب الأحوال، ومن ثم يتخذها الناس مقياسًا لحسن القول، وإجادة الكلام.
ب ـ وهي كذلك - كما يرى هنري سويث - لا يستطيع السامع أن يحكم على المنطقة التي ينتمي إليها المتكلم بهذه اللغة.
وبناء على ما سبق يبدو الخلاف الذي ثار قديمًا وحديثًا، ومؤداه: هل نزل القرآن بلغة قريش خاصة؟ أم باللغة العربية المشتركة آنذاك؟ أقول: يبدو هذا الخلاف لفظيًا؛ لأن لهجة قريش الخاصة كانت تمثل اللغة المشتركة لقبائل العرب كلها، وذلك لعوامل متعددة أهمها:
1 ـ العامل الديني: فمكة هي مركز الكعبة، وبيت الله الحرام، حيث يحج العرب، ويفدون إليها بالآلاف كل عام.
2 ـ العامل الاقتصادي: فقد كانت مكة مركزًا تجاريًا مهمًا في الجزيرة العربية، ومنها كانت تنطلق القوافل في رحلتي الشتاء والصيف.
3 ـ العامل الاجتماعي والأدبي: فقد كانت قريش موضع توقير وتبجيل بين القبائل العربية، وذلك أصلاً ناتج عن مكانتها الروحية، فقصدت "قريش" للتحكيم في القضايا والدماء بين القبائل، والسفارة بينها للسلام، وحقن الدماء.
وكانت سوق عكاظ تقام قرب مكة كل عام، وهي سوق "شاملة" بمعنى أنها كانت تجارية أدبية، فيها بيع وشراء، ومضاربات، ومباريات في الشعر والخطابة، بلغة قريش مما ساعد على إنمائها، وانتشارها.
4 ـ العامل اللغوي الفني: فقد كانت هي أفصح اللغات لخلوها من العيوب النطقية، واللغوية، التي أشرنا من قبل إلى بعضها مثل عنعنة تميم، وتلتلة بهراء، وكشكشة ربيعة، وكسكسة مضر، وعجرفية ضبة، واستنطاء اليمن، وعجعجة قضاعة.
ويعلل ابن خلدون فصاحة لغة قريش، "ببعدهم عن بلاد العجم من جميع جهاتهم، ثم من اكتنفهم من ثقيف وهذيل وخزاعة وبني كنانة، وغطفان، وبني أسد، وبني تميم، وأما من بعد عنهم من ربيعة ولخم، وجذام، وغسان، وإياد، وقضاعة وعرب اليمن المجاورين لأمم الفرس، والروم، والحبشة، فلم تكن لغتهم تامة الملكة بمخالطة الأعاجم، وعلى نسبة بعدهم من قريش كان الاحتجاج بلغاتهم في الصحة والفساد عند أهل الصناعة العربية".
ولعل هذا ما قصد إليه أبو بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ بقوله "وقريش هم أوسط العرب في العرب دارًا، وأحسنه جوارًا، وأعربه ألسنة".(/1)
ولا يعني ذلك أن لهجة قريش في صورتها الكاملة المستقلة تحولت كما هي إلى اللغة العربية المشتركة، بل هي لهجة قريش الصافية مُطعَّمة – أشرنا من قبل - بكلمات من لهجات الآخرين، وهذا ما ذكره الفراء ـ وأورده السيوطي في المزهر "كانت العرب تحضر المواسم في كل عام، وتحج إلى البيت في الجاهلية، وقريش يسمعون لغات العرب، فما استحسنوه من لغاتهم تكلموا به، فصاروا بذلك أفصح العرب، وخلت لغتهم من مستبشع اللغات، ومستقبح الألفاظ".
وربما كان أقدم نص في هذا المعنى هو قول قتادة "كانت قريش تجتني ـ أي تختار ـ أفضل لغات العرب، حتى صار أفضل لغاتها لغتها، فنزل القرآن بها.
وكانت اللهجة القريشية بالمفهوم السابق ـ أي الفصحى العربية ـ ذائعة منتشرة قبل نزول القرآن بكثير، والدليل على ذلك ـ كما يقول الدكتور شوقي ضيف ـ أن أقدم النصوص الأدبية التي وصلت إلينا كأحدثها في مضامينه، وطوابعه الفنية واللغوية.
***
وكان نزول القرآن الكريم بمثابة الضمان الإلهي لبقاء اللغة العربية الواحدة، فقوله تعالى: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) يمنح الضمان للغة العربية التي نزل بها هذا الكتاب الكريم.
ومن ناحية أخرى، أصبح العرب والمسلمون ينظرون إلى اللغة العربية الفصحى نظرة تقدير وتبجيل؛ لأنها الوعاء الذي يحفظ كتاب الله، لذلك تطلعت كثير من الشعوب الإسلامية التي تتكلم بلغات غير العربية إلى تحقيق أمل تعلم اللغة العربية والتحدث بها؛ لأنها لغة القرآن الكريم.
وأصبح البيان القرآني مثلاً أعلى لمن ينشد البلاغة والحكمة، والأسلوب الجليل، وغذى القرآن الأساليب العربية بكثير من التراكيب والصور الجديدة، وأصبح الشعراء والخطباء والكتاب العرب يحلون بيانهم بكثير من آياته وألفاظه وصوره.
وما زالت اللغة العربية ـ لغة القرآن الكريم ـ قوية الكيان، شامخة البنيان على الرغم من المؤامرات التي تعرضت ـ وتتعرض ـ لها في وقتنا الحاضر على المستويين المحلي والعالمي، كالدعوة على استبدال الحروف اللاتينية بالحروف العربية، والدعوة على إلغاء النحو تسكين أواخر الكلمات، والدعوة إلى إحلال العامية محل الفصحى، ولكنها دعوات ماتت في مهدها، وبقيت اللغة العربية، وستبقى حية شامخة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها؛ لأنها لغة القرآن الكريم. الكتاب الخالد الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه.
مراجع المقال:
1 ـ تاريخ الطبري.
2 ـ العصر الجاهلي الدكتور شوقي ضيف.
3 ـ الفصحى بين نظريتين: د. حسن أبو ياسين.
4 ـ في اللغة والأدب. د. إبراهيم بيومي مدكور.
5 ـ في اللهجات العربية. د. إبراهيم أنيس.
6 ـ لسان العرب ابن منظور.
7 ـ اللغة العربية وتحديات العصر. ريمون طحان
8 ـ المدونة في اللغة العربية عبد الحميد حسن.
9 ـ المزهر في علوم اللغة السيوطي.
10 ـ مستقبل اللغة المشتركة. د. إبراهيم أنيس.(/2)
لماذا نقول بأن أركان الإسلام خمسة
رقم الفتوى
10919
تاريخ الفتوى
26/11/1425 هـ -- 2005-01-07
السؤال
لماذا نقول بأن أركان الإسلام خمسة فقط مع أن في الأمم التي قبلنا مسلمين أليس من المقبول أن نقول بأن أركان الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم خمسة أفتونا مأجورين لأن الذي سألني يريد جواباً مقنعاً سواءً بالدليل أو بغيره بحيث يكون مقبولاً عقلنا وشرعاً ؟
الإجابة
الحمد لله وبعد ،،
المقصود بالإسلام المذكور في الحديث الصحيح ( بني الإسلام على خمس ) هو المعنى الخاص للإسلام وهو الذي بعث به النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في القرآن والسنة ( عقيدة وأحكاما )
والإسلام الذي يشير إليه السائل هو الإسلام بمعناه العام والذي هو دين الرسل جميعا وأتباعهم وهو توحيد الله عز وجل والانقياد له بالطاعة والبراءة من الشرك وأهله كما قال تعالى ( )وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ)(الانبياء:25) وهو الذي وصى به ابراهيم بنيه ويعقوب بالبقاء عليه وذلك من قوله تعالى : ( وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)(البقرة:132)وكما في قوله صلى الله عليه وسلم ( نحن معاشر الأنبياء أبناء علات ديننا واحد )
والله أعلم وأحكم(/1)
لماذا نكرههم ...
...
أحمد دعدوش ...
</TD ...
سؤال محير طرق رؤوس الغرب منذ الحادي عشر من سبتمبر لعام 2001، وما زال معلقا يبحث عن جواب. الكل هناك يسعى لحل هذا اللغز، ولكلٍ طريقته في البحث وزاويته في النظر.
"توماس فريدمان" الكاتب الأمريكي الذي تخصص في قضايا الشرق الأوسط، قام بإعداد برنامج وثائقي من ثلاثة أجزاء في "البحث عن الجذور" سعى من خلالها لتسليط الضوء على جذور الكراهية القابعة في عقول الشباب المسلم والتي قادت تسعة عشر شابا منهم إلى التضحية بأرواحهم في ما سمي بـ "غزوة مانهاتن"، وهي نفسها التي تهدد الغرب كله بالمزيد من الإرهاب والقتل العشوائي في حملة لم يعرف لها التاريخ مثيلا من قبل.
لم يقصّر فريدمان في تقصي أسباب هذه الكراهية عبر رحلاته الكثيفة إلى أنحاء العالم الإسلامي، كما لم يتوان عن لقاء العديد من رجال الفكر والسياسة والإعلام في مختلف الدول التي قصدها، بل إنه وُفّق أيضا للالتقاء بجمع من الشباب المسلم في إندونيسيا عبر حوار مفتوح ظن فيه أنه قد تمكن من الولوج إلى عقول الشباب المسلم، وفتح أرتاجه المستعصية بعصاه السحرية، ولم يلبث بعدها أن قدم لنا عمله الوثائقي الصحفي في ثلاثة أمسيات على قناة أبو ظبي، وذلك في الذكرى الثانية لأحداث سبتمبر، وتبع هذا العرض لقاء جماهيري موسع جمع كلا من فريدمان والمحلل السياسي لقناة أبو ظبي مع مجموعة مختارة من الشباب العربي المقيم في الإمارات ونخبة من المثقفين والمهتمين، فماذا كانت النتيجة يا ترى؟ وكيف أجاب هذا الصحفي المحنك عن السؤال اللغز؟
لا شك في أن الرجل لم يتجاهل الغضب العربي والإسلامي الحانق على جرائم الصهاينة وأعوانهم في حقهم، وقد ذكر ذلك في جرأة عندما حاول أن يقدم الإجابة الأولى للسؤال المحير قائلا بأن هناك الكثير من المسلمين الذين يبررون كراهيتهم لأمريكا بانحيازها لإسرائيل، ولكنه لم يلبث أن فنّد على الفور هذا الرأي بالمقولة الشهيرة: "إنها الديمقراطية".. وسرعان ما أدار عدسة التصوير نحو القادة العرب والمسلمين، وبدأ في عرض مطول يتقصى أخبار الديمقراطية في هذا المكان من العالم وعلى الطريقة الأمريكية، لتتحول مشكلة البرنامج من التساؤل عن أسباب الكراهية التي تقض مضاجهم إلى التأكد من أن التطبيق الشرق الأوسطي للديمقراطية الأمريكية يسير في الطريق الصحيح. وقد أقنع الرجل نفسه بهذه النظرية، ولم يقف مرة أخرى عند الإجابة الأولى التي نقلها عن العرب والمسلمين أنفسهم حول تبرير هذه الكراهية بالظلم الجائر الذي ترزح تحته تلك الشعوب، بل جاء إليهم ليخبرهم بأن المرض ينبع من داخلهم فقط، وأن العلاج لن يكون إلا من الداخل أيضا، وبمساعدة أمريكية على وجه الخصوص.
لم يتأثر الرجل بكل ما قيل في حواره مع حضور الندوة في أبو ظبي الذين حاولوا يائسين للفت انتباهه إلى الجانب الآخر، فقد بقي مصرا على أن أصل الداء في المسلمين أنفسهم، ولا يمكن أن يكون إلا كذلك. وقدّم نظريته تلك إلى الإدارة الأمريكية مشكورا ليبرر بها جرائم اليمين المتطرف، وهو يدرك أن هذا الأخير لا باع له في السياسة ولا في الكياسة، وأن اللغة الوحيدة التي يفهمها هي لغة العصا بدون جزرة، وقد بلورها هذا الرجل بشكل صحفي نزيه، قد يساعد مصاصي الدماء والنفط العراقيين في مهمتهم الإنسانية دون أي شعور بوخز الضمير.
ولكن هل يعقل أن يصل العالم المتحضر الذي قطع ذلك الشوط الطويل من التراكم الحضاري والمعرفي إلى كل هذا الانحطاط؟ هل هذه هي نهاية الحضارة يا ترى؟ وهل بتنا على مقربة من اللحظات الأخيرة للزمن؟
ترى لماذا يصم العالم أذنيه عن الحقيقة؟ ولماذا يصر الظالم على أن يقنع عقله بما تمليه عليه نفسه الأمارة بالسوء؟ أتراه يبحث بذلك عما يسكت به إلحاح بقايا الضمير في البحث عن مبرر لجرائمه؟ أم أنه يقدم محاولة هزيلة لخداع مظلوميه بأنه على الحق وأنهم وحدهم على الباطل، فيلقي باللائمة عليه ويخلص نفسه كالشعرة من العجين؟
إن لم يكن الأمر كذلك فبأي منطق آخر يمكن أن نفهم كيف تحولت "ماما أمريكا" في عيون المسلمين من أصل البلاء إلى بلسم للشفاء؟ وكيف يمكن أن نقنع أنفسنا بأننا لم نستسلم مرة أخرى في الاستجابة لمطالبهم التي لا تزال تنهال على رؤوسنا مطالبة بالإصلاح، ومن طرفنا فقط دون أي شيء آخر؟
على أي حال فإني ما زلت أجد نفسي حائرا تجاه سؤال فلسفي ساذج، إذ غالبا ما أتساءل فيما إذا كان الظالم يشعر بأنه قد خدع نفسه قبل أن يخدع المظلوم عندما يقدم له مبررات كهذه؟ أم أن حماقة هذا الأخير وجبنه عن قول الحقيقة كفيلان بتحويل هذه المبررات إلى حقائق قادرة على إقناع الجميع بأنها عين الصواب؟(/1)
أغلب الظن أن الإجابة التي حصل عليها فريدمان - والمطابقة تماما لكافة الأطروحات الإستراتيجية الأخرى- سوف تبقى على السطح لفترة طويلة ودون منازع، وستظل بمثابة المرجع الفكري لقادة الاحتلال والقتل، وهو أمر سمعناه بوضوح من وزير الخارجية البريطاني الذي قرر عدم ربط تفجيرات لندن الأخيرة باحتلال العراق، هكذا وبدون أي دليل سوى عدم رغبته في تحميل بلاده المسئولية.
أما العقدة المسئولة عن مركب النقص لأذيالهم في الجهة المقابلة، فلست أجد بين يدي أي مؤشر ينبئ بشيء من التغيير في حقها، لذا فإني أعتقد يا سيدي بأنه لن يردع الظالم عن ظلمه شيء، إلا يقظة المظلوم من رقدته، وخروجه للمطالبة بحقه، غير مبال بعضة من "رأس" أو ضربة من "ذيل".(/2)
لماذا نهتم بالدّراسات الاجتماعيّة؟
الكاتب: الشيخ محمد بن صالح الدحيم
إن العمل الإنساني والاجتماعي ليس زخرفاً من القول، ولا نافلة من العمل، بل هدف من أسمى غايات الوجود
وتحقيق إنسانية الإنسان، وبناء الحياة وعمارة الكون، والتنمية الاجتماعية استثمار طويل الأجل للعيش الكريم والشخصية المتوازنة، والمجتمعات التي تنمو سياسياً واقتصادياً وصناعياً، ويتأخر نموّها الاجتماعي تكون ضحية الظروف والمتغيّرات؛ إذ تعيش حالة فقدان التوازن، فلا يستطيع إنسان هذا المجتمع أن يكيّف ضغط الواقع مع مقتضيات المبدأ إلا بشيء من التلفيق الذي سرعان ما يتكشّف عن تخلّف، ومن شروط الحياة الاجتماعيّة أن الثغرات لا تُفتح إلا عندما يكون التخلّف.
والتنمية الاجتماعيّة كما أنها نمو وازدياد فهي -في الوقت نفسه- طبّ وقائي وقراءة مستقبليّة لما يجب الخلاص منه، ولما يجب أن نكون عليه.
ثمة أسباب تدعونا للاهتمام بالدراسات الاجتماعيّة أفراداً ومؤسسات ومن أبرزها:
1) التعرف على السلوك والأنماط الاجتماعيّة وتغيّراتها وفق مفاهيمنا الإسلاميّة والعربيّة؛ لأن كثيراً من الدراسات التي حاولت الكشف عن السلوك الاجتماعي تمّت في الغرب وعلى أسس وأصول ومفاهيم غربيّة.
2) إحياء روح التعاون والتكامل ودعم العلاقات الاجتماعيّة (الأخوة، الأبوّة، القرابة، الجوار، الصداقة) وتنمية مفاهيم التقدير والاحترام والتسامح.
3) إحياء روح الوطنيّة والانتماء الصادق والشعور بالحبّ للوطن.
4) إيجاد التوازن الاجتماعي في أنماطه المختلفة وتعدّديّاته المذهبيّة والعرقيّة.
5) حيث إن زيادة عدد السكان لها الأثر الاجتماعي الكبير قبل كل الآثار، وعليه فإن القراءات الاجتماعيّة المستقبليّة ستساعد على رسم الخطط والأهداف الواضحة.
6) رفع مستوى الوعي العام وإثراء ثقافة الحوار البنّاء والنقاش الهادف.
7) مما يحتّم الاهتمام بالتنمية الاجتماعيّة ما نعايشه من ثورة الاتصالات الحديثة، وسباقها الحميم بأشكالها المختلفة؛ مما شكّل تواصلاً اجتماعياً غير مسبوق، وما أحدثه من تغيّرات سلوكيّة ومفاهيم ذهنيّة في دائرتي (السلب والإيجاب).
8) التنمية الاجتماعيّة الجيّدة شرط أساس لتقليص حجم البطالة، وتغيير النظرة السلبيّة للعمل الحرفيّ والمهنيّ.(/1)
لماذا يحرصون على الحقائب المالية! 10/3/1426
أ.د. ناصر بن سليمان العمر
الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على عباده الذين اصطفى، أما بعد: فلا تزال وقفات المقال متصلة مع سورة يوسف _عليه السلام_
ووقفتي الساعة مع قول الله _تعالى_ فيها مخبراً عن نبيه: "قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ" (يوسف:55)، وهنا وقف المفسرون _رحمهم الله_ وبحثوا: هل يجوز أن يطلب الإنسان الولاية كما طلبها يوسف، ثم فرّعوا عليها،هل يجوز لنا نحن أمة محمد _صلى الله عليه وسلم_ أن تطلب الولاية كما طلبها يوسف؟ فذكروا الخلاف في ذلك، فبعضهم قال: لا يجوز، وإنما كان هذا شرع من قبلنا، وبعضهم قال: بل يجوز.
ولكني عندما تأمّلت المشهد وعشت معه بدا لي أن يوسف _عليه السلام_ لم يطلب الولاية، فضلاً عن أن نفرّع عليها ما بعدها، ولا شك أن ما قاله بعض المفسرون له مكانه من الاعتبار والنظر، ولكن ما بدا لي من خلال استقراء النصوص قد يخالف ذلك.
فإن الملك قال ليوسف _عليه السلام_ عندما مثل أمامه: "إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ"، فكأن يوسف هنا لم يبدأ الطلب بل كأنه قال له: إذا كنت تريد أن توليني ولاية فاجعلني على خزائن الأرض، فأنا لا أريد مناصب فخرية لا أريد قصوراً إنما أريد عملاً ينفع الأمة، وينبني على ذلك اختيار أن يوسف لم يطلب الولاية ابتداءً وإنما اختار نوعها لا أصلها، وفرق بين الأمرين، وهذا الذي ظهر لي فالله أعلم.
وهنا يأتي سؤال مهم جداً، لماذا اختار يوسف أن يكون على الخزائن دون غيرها؟
والجواب:
أولاً: أنها من أرفع الولايات، وهي ولاية العزيز، كما ذكر المفسرون، ومن خلالها يستطيع أن يحكم ويأمر وينفذ ما استطاع من شريعة الله.
ثانياً: أنها هي الولاية التي تناسب مؤهلات يوسف "إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ" (يوسف: من الآية55)، وهذا هو التخصص.
ثالثاً: أن لها الأثر العظيم على الناس، وبخاصة أيام الشدائد، حيث تتعلق بجانب المال، ولذلك فإن وزير المالية في أي وزارة له مكانة خاصة، حيث يرتبط مع مصالح الناس، ومن خلالها يستطيع أن يؤدي رسالة ربه.
رابعاً: أنه عرف واقع ذاك البلد وما يحدث فيه من ظلم، والدليل على ذلك أنه سُجن ظلماً والبلد مقبل على أزمة، وقلّ من يعدل أيام المحن، وبخاصة في جانب المال، فكانت تحتاج إلى الحفيظ العليم الأمين.
فبمجموع هذه الأمور يتضح أن هذه الولاية قد تكون من أعظم وسائل تبليغ الدعوة "اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ" لارتباط الناس بالمال، وأثر المال في حياة الناس.
وهذه حقيقة ينبغي أن يعيها من مَنّ الله عليه بالمال وجعله على شيء من الخزائن العامة أو الخاصة فليتق الله فيما وَلي وليتذكر قول نبيه _صلى الله عليه وسلم_: إن الأكثرين هم الأقلون يوم القيامة إلاّ من قال هكذا وهكذا وهكذا، عن يمينه ومن شماله ومن خلفه، وقليل ما هم. [البخاري وغيره] جعلني الله وإياكم منهم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(/1)
لماذا يستهزئون ؟
الحلقة الأولى
من حق المسلمين و من واجبهم أن يستشيطوا غضبا على من نشروا رسوما تسخر من خير خلق الله أجمعين و رحمة الله للعالمين (سيدنا وحبيبنا محمد عليه أفضل الصلوات و أتم التسليم وعلى آله و صحبه) ، و التصدي لهذا المنكر الشنيع يستوجب الوعي التام ، و الإدراك الكامل بالحقائق الكامنة وراء هذه السفاهة الرخيصة التي استفزت مشاعر كافة المسلمين ، فقد علمنا ديننا الإسلامي الحنيف أن تكون أفعالنا عاقلة و رشيدة و حكيمة ، و لا ينبغي لعواطفنا الجياشة أن توصلنا إلى ما لا تحمد عقباه بسبب تصرف أخرق أو فعل أحمق ضرره أكثر من نفعه ، ليستغله الأعداء عونا لهم على حربنا .
إن في القرآن الكريم حقائق هامة تتعلق بهذا الموضوع , نريد التذكير بها ليكون المسلم على بينة من أمره ، و لتكون العواطف تحت سيطرة الشرع والعقل ، ولا يصدر منا ما يعين عدونا على النيل منا أو من ديننا .
الحقيقة الأولى :
أعداء الإسلام يناصبون المسلمين العداوة ، و قد بدت البغضاء من أفواههم و رسومهم ، و ما تخفي صدورهم أكبر ، فالعداوة في الدين قائمة منذ القدم بين الناس , ومن السذاجة أن ننتظر من عدونا في الدين خيرا ، لأن عداوته لنا تدفعه دوما لمحاربتنا عسكريا و اقتصاديا و ثقافيا ، و هذا من طبيعة العداوة التي لم ولن تتغير ولو صعد الإنسان إلى القمر ، ولهذا يأمرنا الإسلام أن نعد لهؤلاء الأعداء ما استطعنا من قوة ، لكي يرهبوا جانبنا و يكفوا عنا سوء ألسنتهم و أيديهم ، وبتقاعسنا عن إعداد القوة مع تشرذمنا ، أعد عدونا لنا ما استطاع من قوة ، و صار يستبيح أرضنا و عرضنا ويعبث بمقدراتنا ، و يسعى جاهدا في طمس هويتنا وتلوينها بصبغته لدرجة أنهم يريدون تعديل القرآن الكريم ، وتطويع مناهج التعليم بما يسمح لهم بالمزيد من السيطرة علينا ، ( ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا) البقرة 215 ، فلا نستغرب أن تظهر تلك الرسوم المنكرة ( شلت يمين راسمها و ناشرها) كحلقة جديدة من مسلسل العداوة للإسلام و المسلمين ، فالحقيقة الأولى هي أن أعداء الإسلام يشنون حربا لا هوادة فيها و هدنة ، و علينا بأمر الله تعالى أن نتصدى لهم بكل ما أوتينا من قوة ، وما غاية الجهاد في الإسلام إلا لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى .(/1)
وقد أخبرنا القرآن و هو أصدق الحديث أن هذه العداوة الدينية وجدت بين كل أتباع دين سماوي و بين من كفر برسالات الله ، فما أن يبدأ أي رسول بتبليغ رسالته ( عليهم الصلاة والسلام) ، حتى يؤمن القليل من قومه ويكفر الكثير ، و تكون القوة المادية في جانب الكفرة ، و قوة الحق في جانب المؤمنين ، و لا يتوقف الكفرة عند كفرهم ، بل يضيفون إليه الصد عن الإيمان ، و يسومون المؤمنين سوء العذاب و الاضطهاد ، و يستخدمون كل ما أمكنهم لإطفاء نور الله ، فقد أحرقوا المؤمنين بالنار ( وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد ) سورة البروج ، و خرج فرعون بجيشه العرمرم ليبطش بسيدنا موسى (عليه السلام) وقومه المستضعفين ، و تم تهديد سيدنا شعيب (عليه السلام) بالطرد من البلدة إن لم يعد في ملة الكفر سورة الأعراف 87 ، و توعد الكفرة سيدنا نوح ( عليه السلام) بالإعدام رجما بالحجارة إن لم يتوقف عن دعوته بعدما اتهموه بالجنون سورة الشعراء 116، وسورة القمر 9 . كما ألقوا بسيدنا إبراهيم الخليل (عليه السلام) في النار للتخلص منه ومن دعوته و انتصارا منهم لأصنامهم سورة الأنبياء 67 ، و قام الكفرة برسالة المسيح (عليه السلام) بقذف السيدة مريم العذراء(عليها السلام) ومباشرة إعدام السيد المسيح لولا أن أنجاه الله تعالى من كيدهم ، و لا يخفى على مسلم ما لاقاه سيد الخلق أجمعين وصحبه من عداوة الكفرة وما نتج عنها من تعذيب وقهر وقتل لبعض أتباعه ، ثم توجوا محاربتهم بمحاولة اغتياله عليه الصلاة والسلام وعلى آله و صحبه ، و لكن الله نجاه من مكرهم وخرج مهاجرا إلى المدينة المنورة ، كما أن اليهود قبل إجلائهم عن المدينة المنورة بادروا بالحرب الإعلامية عن طريق نشر الشعر الذي يهجوا الإسلام و أهله ، و بادروا بالحرب الثقافية عن طريق طرح الأسئلة بغرض إحراج الرسول الكريم ، و بادروا بالحرب النفسية عن طريق النفاق ( و قالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار و اكفروا آخره لعلهم يرجعون ) سورة آل عمران 72، ناهيك عن تحالفهم و تآمرهم العلني مع كفار قريش في غزوة الأحزاب ، ومن خلال ما سبق يتبين أن الكفرة بالدين السماوي يبادرون بالعداوة و البغضاء للرسل و أتباعهم ، علما بأن أي دين سماوي لا يجبر أحدا على اعتناقه (لا إكراه في الدين ) سورة البقرة 254 ، و علما بأن مهمة الرسل تنحصر بداية في التبليغ السلمي و النصح والإرشاد و الحوار بالتي هي أحسن ، و الدعوة إلى الحق و الفضيلة بالحجة والبراهين ، ثم يحذر الناس وينذرهم سوء العواقب إذا استمروا على عمل السيئات وفساد المعتقدات ، و لكن الكفرة عموما لا يعترفون بالحق ، و لا يرغبون في فضيلة ، و لا يسعون لوقاية أنفسهم من غضب الله وعقابه ، و بالجملة فهم رافضون و معارضون لدعوة الرسل ، و يريدون أن يعيشوا حياتهم كما يحلو لهم بلا حسيب و لا رقيب و أن يعبدوا ما شاءوا و يفعلوا ما أحبوا و اعتادوا ، ويعلنون صراحة أنهم في غنى كامل عن منهج الله ، و ما هؤلاء الرسل في نظرهم إلا سفهاء أو مجانين أو ساحرين أو مسحورين أو كاذبين أو كهنة و عرافين أو شعراء أو طالبي شهرة أو طامعين في الحكم والرياسة ، وما أتباعهم إلا أراذل الناس وفقرائهم لا عقل لهم و لا تمييز ، و ما تلك المعجزات للرسل في نظر الكفرة إلا سحر و دجل و خداع و شعوذة ، و ما الدين عندهم إلا أساطير الأولين ، فالكفرة بهذا كله يريدون علو كلمتهم ، و استبقاء سلطتهم ، والمحافظة على مصالحهم الشخصية ، و التمتع بكل ما يريدون من متع و ملذات ، و بما أنهم لا يملكون أي حجة أو دليل على صحة أقوالهم أو مطالبهم ، فإنهم يشعرون بالخطر المقبل عليهم وعلى مصالحهم إذا انتشرت دعوة الرسل ، و لذا يبادرون بالهجوم على الدين السماوي ، مستعملين في ذلك كل ما عندهم من القوى المادية من أنفس و أموال ، و أقوال و أفعال و خيل ورجال، لقد أعلنوا الحرب من طرف واحد ضد الدين ، و أباحوا لأنفسهم فعل أي شيء ممكن للقضاء عليه ، وقد ذكرنا أمثلة واضحة على أفاعيلهم الشنيعة بحق الرسل وأتباعهم ، وللدلالة على انعدام المنطق السليم و الحجج الصحيحة فهم يبررون حربهم الظالمة بأنهم يحافظون على تراث الآباء و الأجداد و عاداتهم ( سورة الزخرف) 21- 22 . وهم بذلك يعلنون جمودهم الفكري و الاجتماعي ، و عدم الاحتكام إلى العقل ، و عدم الرغبة في النقد الذاتي ، و هذه كلها من صفات المجتمع المتخلف ، وقد يبررون حربهم الأثيمة ضد الدين بأن أوضاعهم المعيشية ممتازة و مستقرة و قد وصلوا إلى حد بحبوحة العيش بفضل نظام حياتهم الذي يعيشون به ، فهم يريدون البقاء على ما هم عليه و لا حاجة لهم بمنهج الله الذي يأمر بالعدل و الحق والفضيلة ، وتحقيق الأمن و الطمأنينة و المحبة و السلام بين جميع الناس وليس بين النخبة فقط (سورة هود 87 ) و قد اغتروا و استكبروا عن قبول الحق حتى قالوا (نحن أكثر أموالا و أولادا و(/2)
ما نحن بمعذبين) سورة سبأ35 ، إن الكفرة قد استكبروا لدرجة أنهم يعتبرون فسادهم صلاحا و باطلهم حقا ، واعتبروا القضاء على الدين من أهم واجباتهم التي تحشد لها كل الطاقات . و من أقبح مبررات حربهم ما قالته اليهود (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتب يؤمنون بالجبت و الطاغوت و يقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا . أولئك الذين لعنهم الله و من يلعن الله فلن تجد له نصيرا) سورة النساء 50- 51 .(/3)
إن معاداة الدين ، وبدء الكفرة بشن الحرب عليه ، و اضطهاد أتباعه ظلما و عدوانا ، و السخرية من الدين السماوي و رسله و أتباعه ( وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون ) سورة الحجر 11 ، حقيقة واضحة قديما و حديثا ، و معاداة الإسلام اليوم لا تزال قائمة على قدم و ساق ، و لا يزال أعداء الإسلام يستعملون كل إمكاناتهم لإطفاء نور الله ( و لا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا) البقرة 215 ، و لا يشفع للإسلام عند أعدائه أنه قال ( لكم دينكم و لي دين) سورة الكافرون ، ولم يشفع له أنه قال صادقا (لا إكراه في الدين) سورة البقرة 254 ، و لم يشفع له أنه قال ( فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمصيطر) سورة الغاشية ، ولم يشفع له اتخاذ الدعوة السلمية أسلوبا للبلاغ ، و لم يشفع له تعرض الرسول الكريم و أتباعه لأبشع صنوف الاضطهاد و التعذيب و القمع و التعسف دون أن تصدر منه أية ردة فعل عنيفة طيلة 13 عاما متواصلة ، و لم يشفع للإسلام تسامحه مع أهل الكتاب من يهود أو نصارى ، و لولا نكث اليهود بعهودهم وغدرهم بالرسول الأكرم و التآمر مع الكفرة للقضاء على الإسلام ما قاتلهم النبي عليه الصلاة و السلام ، و لم يشفع للإسلام أنه جعل أهل الكتاب أهل ذمة أي أصحاب عهد الله ورسوله فهم في حماية الله ورعايته و من آذاهم فقد آذى الله ورسوله ، و لم يشفع للإسلام أنه يحرم الظلم بكافة أشكاله و لو كان الظالم مسلما و المظلوم كافرا ، ولم يشفع له أنه حرم الاعتداء ( ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين) سورة البقرة 189 , ولم يشفع له أنه حصر القتال في دفع الظلم و العدوان و إزالة العوائق ضد حقه في تبليغ دعوته لمن يريد سماعها ، و لم يشفع له أنه أمر المسلمين بالجنوح للسلم إن جنح الأعداء له ، فالإسلام لا يشجع على حرب الإبادة و لا يشجع على استمرار القتال مع طرف يرغب فعلا في السلام العادل ، و لم يشفع للإسلام أنه يمنع قتل الأبرياء و غير المحاربين و ينهى صراحة عن قتل الأطفال و النساء والشيوخ ، و لم يشفع له سبقه بتشريع مبادئ القتال و أخلاق الحرب و حسن معاملة الأسرى ( ويطعمون الطعام على حبه مسكينا و يتيما و أسيرا) سورة الإنسان 8 ، و لم يشفع للإسلام احترامه للإنسان و عقله و ماله وعرضه ، ولم يشفع للإسلام سبقه في الرفق بالحيوان و المحافظة على سلامة البيئة ( و لا تعثوا في الأرض مفسدين) سورة هود 84 ، ولم يشفع له اهتمامه الجاد بالمثل العليا ومكارم الأخلاق من عدل وإحسان و حسن جوار و وفاء بالعهود و العفو عند المقدرة ، ولم يشفع له مساهمة علماء المسلمين في شتى ميادين العلم ، و لولا مدارس العلوم في الأندلس لتأخرت نهضة أوروبا و العالم عدة قرون ، بشهادة أهل الإنصاف من علماء الغرب ، فكل محاسن الإسلام التي جاء بها خير الورى عليه الصلاة و السلام لم تشفع له عند خصومه ، بل ازدادوا غيظا على غيظ و غضبا على غضب ، ( أن تمسسكم حسنة تسؤهم و إن تصبكم سيئة يفرحوا بها) سورة آل عمران 120 ، فهم يعملون جاهدين على طمس محاسن الإسلام و رسوله و أتباعه الكرام ، و لم يقفوا عند هذا الجحود البغيض ، بل يسعون بكل زور من القول و منكر من الفعل ليلصقوا بالإسلام كل ما تجود به مخيلتهم الخرفة من تهم باطلة و شبهات ضالة مضلة ، فبسطوا إعلامهم و أقلامهم و أفلامهم بالسوء ، فمنهم من قال أن الرسول الكريم رجل مصاب بالصرع وهو يظن أنه يوحى إليه ، و منهم من يصور الشخصية العربية في صورة الغبي و التخلف و المتعطش للعنف و القتل و المتلهف على الشهوات من خمور و فجور... الخ و المقصود هو إنكار النبوة عن سيد الأنبياء و المرسلين عليهم السلام و التحقير من شأن رسالته و أتباعه ، وبالطبع لم يسلم القرآن الكريم معجزة الرسول الخالدة من غمزهم ولمزهم ، و لم تسلم السنة النبوية الشريفة من طعنهم و لعنهم ، ولم تسلم من ألسنتهم الخبيثة شخصية الصحابة و العلماء الأخيار فهؤلاء هم من اخترع السنة و عدلوا ما في القرآن بالزيادة و النقصان ليتمكنوا من بسط نفوذهم الديني على المسلمين الأغبياء (في نظرهم) ، و ليكون القرآن أكثر ملائمة لعصرهم ، وفي النهاية فالإسلام في نظرهم دين عفا عليه الزمن وتخطاه عصر العولمة ، و تعاليمه إن صلحت في القديم فإنها لم تعد كذلك في عصرنا هذا الذي تسوده القيم الغربية من حقوق للإنسان و تحرير للمرأة و نشر للعلمانية ، فالحرب بيننا و بينهم قديمة و حديثة و يرجع أصلها إلى أنها حرب دينية بلا شك .(/4)
و مع أن الكفر ملة واحدة ، إلا أن الإسلام علمنا أن ننصف الناس و نحسن التفكير و التصرف ، فقد قال تعالى (ليسوا سواء) سورة آل عمران 113 ، فغير المسلمين نراهم أصنافا متعددة ، و يختلف تعاملنا معهم بما يتناسب مع كل صنف ، فمنهم من يحاربنا أو يعين على حربنا ، فهؤلاء هم العدو و علينا أن نعاملهم كأعداء لا كأصدقاء أو حلفاء ، كيف و قد اغتصبوا أرضنا و عرضنا ، و دنسوا مقدساتنا ، وأعانوا عدونا علينا ، و نكثوا عهدنا ، و لم يسلم من أذاهم حجر و لا شجر ، و هاهم الآن يسخرون من نبي الرحمة وإمام الأنبياء و المرسلين ، وقبلها كانوا يعبثون بالمصحف الشريف ، ويريدون تعديله بشطب وحذف ما لا يروق لهم ، فهذا الصنف من غير المسلمين قد بدت البغضاء من أفواههم و أقلامهم و رسومهم المنكرة ، و ما تخفي صدورهم أكبر ، و نحن إن لم نتصدى لهم بكل ما نستطيع فسنرى المزيد المزيد من التطاول و السخرية .
أما الصنف الثاني من غير المسلمين فهم الذين بقوا على دينهم محايدين ، لا لنا و لا علينا ، فهؤلاء نراهم مجالا خصبا للدعوة السلمية و بالتي هي أحسن ، وعلينا أن نعاملهم بالقسط و بالحسنى و يجوز لنا أن نبرهم تعريفا لهم بمحاسن الإسلام ، و ضمانا لبقائهم على الحياد إن لم يعتنقوا الإسلام( لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين) سورة الممتحنة 8 ، كما يجوز إعطاؤهم من سهم المؤلفة قلوبهم تحبيبا لهم في الإسلام ولضمان عدم انحيازهم للأعداء ، و يمكن أن نبرم معهم اتفاقيات اقتصادية و علمية .
و الصنف الثالث من غير المسلمين فهم الذين يتعاونون فعلا مع المسلمين في مجالات كثيرة ، و يساهمون معنا لأجل التقدم و التطور ، و لم يصدر عنهم ما يسيء إلى الإسلام ، فهؤلاء يجب عدم المساس بهم حتى لا نخسر تعاونهم و حفاظا على ألا ينضموا إلى صفوف الأعداء ، وندعوهم إلى ألإسلام بالحكمة و الموعظة الحسنة ، و لا نجادلهم إلا بالتي هي أحسن ، و سيكون لحسن معاملتنا لهم كبير الأثر في احترام الإسلام و أهله ، فنحن نعادي فقط من يعادينا ، ونتصدى لكل من تسول له نفسه المساس بالإسلام و أهله و أرضه ، فهؤلاء هم العدو فاحذرهم ، قاتلهم الله ، كالصهاينة و الصليبين الحاقدين و أئمة الكفر الذين تخصصوا في معاداة اله ورسوله ، فليس كل من خالفك في الدين تعتبره محاربا يجب قتاله ، ولكن من اعتدي عليك منهم فهو العدو الواجب التصدي له( ليس كل من خالفك في الدين عدوا ما دام مسالما و لم يعتدي عليك)، و نحن عندما نذكر هذا الطرح نريد ألا تجرفنا عواطفنا الجياشة للتعدي على من ليس له علاقة بحربنا مع عدونا في الدين ، فيستغل العدو الحقيقي تصرفاتنا غير العاقلة ويستخدمها عونا له على المزيد من تشويه صورة الإسلام و المسلمين ، و ربما أقنع بعض المحايدين فيكسبهم إلى صفه ، و للحديث بقية إن شاء الله .
لماذا يستهزئون ؟
الحلقة الثانية(/5)
خلاصة ما سبق أن للإسلام أعداء يكيدون له ، وهذه سنة الله في خلقه ، (و كذلك جعلنا لكل نبي عدو من المجرمين وكفى بربك هاديا و نصيرا) سورة الفرقان 31 ، (وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس و الجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا و لو شاء ربك ما فعلوه فذرهم و ما يفترون * و لتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة و ليرضوه و ليقترفوا ما هم مقترفون) سورة الأنعام 113،114 ، ونظرا لأن البعض منا يعتقد أن كل من خالفه في الدين فهو عدو محارب ، فقد ذكرت في المقال الأول أن غير المسلمين ليسوا سواء ، وتنحصر العداوة مع القوم الذين يعتدون علينا في دينا أو أرضنا أو عرضنا أو أموالنا أو دمائنا ، بغض النظر عن الطريقة التي ينتهجونها في الاعتداء ، وقد يقول البعض إن الاستعمار و الإمبريالية لا تفرق في عدوانها بين دين و آخر ، فهي تسعى لبسط هيمنتها على من استطاعت من الشعوب و الدول ، ففيتنام ليست دولة مسلمة و قد تعرضت للعدوان الأمريكي ، وقد استعمرت بريطانيا الهند وهي ليست مسلمة ، وكذلك المستعمرات في أفريقيا ذات الشعوب غير المسلمة ، فليس الدين هو المستهدف ، بل المستهدف هو بسط الهيمنة بغض النظر عن الدين ، كما أن الصراع العربي الإسرائيلي يدور حول الأرض و ليس حول الدين ، فلماذا يصر المسلمون على أنهم مستهدفون في دينهم ؟ و إجابة عن هذا التساؤل نقول : إن الغرب عموما له وجهان : فمن جهة فهو يعتنق الدين النصراني ، ومن جهة أخرى فهو علماني يفصل الدين عن الدولة ، ولذلك تجد النصارى المتطرفين منهم يستخدمون العبارات الدالة على الحرب الصليبية ضد الإسلام و أهله ، فهذه الحرب منشؤها العداوة في الدين كما ذكرنا ، و يغذيها التعصب لدينهم مع الجهل بالإسلام ، كما أن بعض المتعلمين منهم يعادوننا حسدا من عند أنفسهم ، وتجد من جهة أخرى عدوانهم علينا لسلب خيراتنا وتدنيس أرضنا و التحكم في مقدراتنا ، ويمكننا القول أن هذا النوع من العدوان من أجل تحقيق مصالح الغرب المادية و الدنيوية ، و يقوده العلمانيون منهم ، الذين لا هم لهم سوى تحقيق مصالحهم تحت شعار ( الغاية تبرر الوسيلة ) ، و هؤلاء فعلا لا يهمهم الدين في شيء إلا إذا اتخذوه وسيلة لتحقيق مصالحهم ، أو كان عائقا أمام جشعهم فيتصدون لمحاربته لهذا السبب ، ولهم في ذلك أساليب غاية في الدهاء و المكر و المخادعة ، تذكرنا بحرب المنافقين على الإسلام ، وبما أن الإسلام لا يرضى للمسلمين أن يكونوا مستعبدين لغير الله ، فيأمرهم بالجهاد ضد من يحتل الأرض و يهتك العرض و ينهب الأموال ، ناهيك عن أن القيم الغربية ليست كلها موافقة للإسلام ، ففي الإسلام نجد عقوبة الإعدام و جلد من يشرب الخمر و قطع يد السارق ، وحد الحرابة ، و جلد الزاني أو رجمه حتى الموت إن كان محصنا ، وغيرها من الأمور التي يراها الغرب لا تتفق مع قيمه التي ينادي بها و يسعى لنشرها في العالم كافة ، وهذا يؤدي إلى التصادم في القيم و المبادئ ،و يشكل خطرا على مصالح الغرب العلماني ، فالغرب العلماني الذي ثار على الدين ( الكنيسة ) بعدما عانى منها ما عانى ، صنع قيمه و قوانينه التي تبيح الحرية الشخصية لدرجة أن يتزوج الشواذ بعضهم بعضا ، ويرى أن مساواة المرأة بالرجل في كل شيء من أبرز معالمه الحضارية ، و لا يحرم الربا ، ولا يجرم الزنا ، ولا يهتم بعقوق الوالدين أو برهم .... الخ الفروقات الواسعة بين تعاليم ديننا و قيم الغرب ، فلا المسلم يرضى بقيم الغرب ، و لا الغرب يرضى بتعاليم الإسلام ، بل يراها عودة لعصور التخلف ، و انتهاكا صارخا لحقوق الإنسان كما يراها هو ، و لذلك تبقى مصالح الغرب مهددة برفض المسلم للغرب من حيث تعارض القيم و المبادئ ، و بذلك يؤول الصراع إلى عداوة دينية من وجهة نظرنا نحن المسلمون ، بينما يقول الغرب نحن لا نحاربكم في دينكم و لكننا نريد الحرية و حقوق الإنسان ، و نريد أن نتعاون معكم في شتى الميادين ، فالغرب العلماني قد أبعد الدين عن الساحة و يظن أن نفس الحالة يمكن تطبيقها مع المسلمين ، فمن منا لم يسمع باتهام الإسلام بأنه سبب تخلف المسلمين عن ركب التطور و التقدم ؟ و من منا لم يسمع بنعيق من يدعو لإقصاء الشريعة الإسلامية عن الساحة ؟ و من منا لم يسمع بدعاة العلمانية من بني جلدتنا ؟ وهكذا نرى أن الصراع بيننا و بين أعدائنا ما هو إلا نتاج العداوة في الدين إما بشكل مباشر أو غير مباشر.(/6)
و من المعلوم أن الحضارة الغربية تسعى لنشر مفرداتها على الجميع بما فيهم المسلمين ، فهم يريدوننا أن نتبع ما اتبعوا شبرا بشبر وذراع بذراع و إلا فنحن في نظرهم متخلفون ونحتاج إلى من يعلمنا الديمقراطية ولو بقوة السلاح ، ونحتاج إلى من يعلمنا احترام حقوق الإنسان و تحرير المرأة ولو بالتدخل السافر في أخص شؤوننا و معتقداتنا ، و ها هم بعد نشر الرسوم الساخرة و المستهزئة برسولنا الكريم يقولون لنا بدل أن يعتذروا ، هذه حرية الرأي و التعبير و نحن نقدسها و لا نتدخل فيها ، و هذه الحرية التعبيرية من أهم مقدسات حضارتنا و ثوابتها ، فجمعوا مع قبح ذنبهم عدم مبالاتهم بمشاعر المسلمين جميعا ، و أتوا بعذر لا يقل عن الذنب قبحا و وزرا، فالغرب العلماني لا يقدس شيئا سوى المصالح ، فدينه هو الاقتصاد و شريعته هي الرأسمالية ، وربه هو المال ، و كلنا يعلم مدى كذبهم فيما يقولون ، فلا يوجد في العالم شيئا اسمه حرية مطلقة ، بل هناك قيود وحدود وخطوط حمراء لا يجوز تجاوزها، فلماذا يضعون القيود عندما يتعلق الأمر بالحديث عن اليهود و محرقتهم ؟ لماذا يسخر الغرب من صناديق الانتخابات عندنا عندما تكون نتائجها 99,99 % ، بينما يجمعون هم بنسبة 100% على صحة ما يقوله الصهاينة ؟ و أين حرية التعبير عندما يقول كبيرهم الذي يعلمهم الكذب : أيها العالم ، إما معي أو ضدي . فهل ترك بذلك للتعبير من حرية ؟ لدينا من العلماء و الباحثين ما يستطيع أن يقدم الدراسات الدالة على أن التوراة و الأنجيل ( الحالية) ليست هي التي أنزلها الله تعالى على موسى و عيسى عليهما السلام ، كما أن من علماءهم المنصفين من يشكك في صحة كتبهم المقدسة ، فأين حرية التعبير ؟ هل يستطيع صحفي أن يمس شخصية العائلة الملكية في بريطانيا أو الدانمرك؟ لقد قالت فرنسا عن الخمار ( ما تغطي به المرأة شعرها وعنقها) هذا رمز ديني ويمنع من ارتدائه في المدارس ، فأين حرية التعبير ، يسمحون للمرأة لبس ما شاءت و خلع ما شاءت من لباس إلا الخمار؟ فالمرأة لها الحق في التعري و لا حق لها في لبس الخمار؟(/7)
إن الفجوة والهوة واسعة بيننا و بين الغرب في القيم و في نظرتنا للأمور ، فما هو مستحب عندهم يكون عندنا حرام أو مكروه ، و التعايش السلمي و حوار الحضارات الذي ينادي به البعض لا يمكن أن ينمو في تربة السخرة والاستهزاء بدين و مشاعر الآخرين ، و كثيرا ما يحدث التحالف بين المتعصبين من أهل الكتاب و بين أصحاب المصالح من علمانييهم في حربهم على الإسلام ( تقاطع المصالح) ، فتسمع من بعضهم مبررات صليبية حاقدة ، و تسمع من غيرهم مبررات علمانية تحت شعارات الحرية و الديمقراطية و حرب الإرهاب ( تعددت الأسباب و الموت واحد) ثم ينضم إلى ذلك الجمع المتعصبون من اليهود الصهاينة ، فتسمع مبررات في محاربة المسلمين غاية في الزور و البهتان و الوقاحة و السفاهة . و مهما كان الأمر فإن الإسلام هو من أكبر دعاة التعايش السلمي مادام مبنيا على عدم العدوان ، و مادام قائما على العدل والاحترام، و نحن نرى بوضوح عندما تعرض المسلمون للعدوان الاستعمار الأوروبي لبلادنا ( الاحتلال البريطاني و الفرنسي لمصر ، والاحتلال الفرنسي للشام و تونس و الجزائر، و الاحتلال الأسباني للمغرب و الإيطالي لليبيا ) و عبر غرس الكيان الصهيوني في فلسطين ، وعبر حرب البوسنا والهرسك ، و عبر الاجتياح الروسي لأفغانستان ، وعبر الشيشان وكشمير ، و ليس احتلال العراق والعبث به تحت مبررات كاذبة و حملة غاشمة بآخر ما في جعبة الأعداء من حقد دفين ، نرى ذلك كله يكشف مدى زيف الحضارة الغربية و يظهر عن عورها و عوراتها ، و تلاعبها بالأعراف و القوانين الدولية ، ومن المضحك المبكي أنهم يقولون جئنا لنشر الديمقراطية و حقوق الإنسان ، و قد شاهد العالم ما يتعرض له الإنسان معاملة مهينة و وضيعة في سجن أبو غريب و معتقل غوانتنامو ، فزعيمة العالم الحر هي أكبر دولة مارقة في مجال حقوق الإنسان ، فهي تنتهك حقوق الإنسان المسلم الذي يعض على دينه بالنواجذ ، و الذي لم يعض عليه ، و لا أريد التطويل في ذكر تناقضات الغرب مع الإسلام و المسلمين من جهة ، و تناقضاتهم مع شعاراتهم التي ينادون بها عندما توضع على محك التطبيق معنا نحن المسلمين من جهة أخرى، ونحن نعترف بأن العالم الإسلامي عموما يعاني من مشاكل كثيرة صنعها بنفسه ، و الغرب يستغل فسادنا ليدلل على حسن ما يفعل و صواب ما يدعي ، فالظلم و القمع و التخويف و الإذلال في الكثير من بلداننا وصل إلى أحقر المستويات ، فمن قارن حالتنا هذه بما يتمتع به الفرد الغربي في بلاده من حقوق فإنه سينحاز إلى ما عندهم من حقوق مقارنة إلى ما نعانيه من ظلم و اضطهاد في الكثير من بلداننا ، إن الإنسان يفضل المرض العارض على الموت ، ولكن إذا كان المرض عضالا ومزمنا و ألمه في تصاعد فإن الإنسان يفضل الموت على هذا الداء العضال ، فنحن المسلمون نعاني من كثرة الأمراض الخطيرة و المؤلمة، و لكنها ليست مؤبدة ، و يحتاج علاجها إلى جهد كبير و عزم صادق ، ولكن إذا تمكنت منا القيم الغربية و تغلغلت في أوصال جسدنا المنهك سلفا ، فقل عندها عظم الله أجركم يا مسلمين ، وكبر علينا أربعا ( وهذا لن يحدث مادام فينا كتاب الله وسنة نبينا خير الورى عليه الصلاة والسلام) .(/8)
و قد تجد دولة غير مسلمة تعتدي على المسلمين في جانب ، و تتعاون في جانب آخر ، و هذا هو الغالب في العلاقة بيننا و بينهم ، فهذه المسألة منوطة بأولي الأمر من علماء و حكام ليتدارسوها لمعرفة المفاسد و المصالح في هذه الحالة وفق الشريعة الغراء ، و ليرشدوا الأمة لما فيه صالح الإسلام و المسلمين . و قد نهانا الله تعالى عن موالاة الأعداء ( يا أيها الذين امنوا لا تتخذوا عدوي و عدوكم أولياء ... الآية ) سورة الممتحنة 1 ، و لم ينهانا عن التعامل بالبر و القسط مع من خالفنا في الدين و لم يعتدي علينا ولم يعن أحدا على عدواننا ، و هذا لا اختلاف عليه عند من يؤمن بالقرآن الكريم ، بيد أن الإشكال يكون عندما تزدوج الدولة غير المسلمة فتعتدي على المسلمين في إحدى البلاد الإسلامية ، وتبرم عقود و اتفاقيات تعاون و مصالح مشتركة مع دولة مسلمة أخرى ، فهناك من يحكم عليها بالعدوان و يرى بطلان التعامل معها ، وهناك من يستدل بذلك على أن العداوة ليست دينية ، و هناك من يمضي قدما في التعامل معها والتعاون بغية تحقيق مصالحه ، فأمريكا تلطخت يدها بالعدوان على المسلمين و إعانة الصهاينة علينا في فلسطين ، و يدها الأخرى ممدودة بتقديم المساعدات المالية لمصر ، و التعاون عبر شركاتها و سفاراتها المنتشرة في بلاد المسلمين ، و كذلك الحال مع بريطانيا و فرنسا و روسيا و غيرها ، فهل على المسلمين مقاطعة كل هذه الدول التي اعتدت علينا أو أعانت على عدواننا ؟ أم نعتبرها ممن نبرها ونقسط إليها ؟ و يزداد الإشكال تعقيدا بوجود الجاليات المسلمة التي تعيش في تلك البلدان ، و بوجود عدد لا يستهان به يرفع صوته معارضا لسياسات بلاده كما رأينا في المظاهرات المليونية ضد الحرب على العراق ، فهل نعادي من يعارض حكومته في عدوانها علينا ؟ أم نعادي الحكومة دون شعبها ؟ أم نعادي البعض دون بعض ؟ و هل نحن جادون في التضحية بمصالحنا الاقتصادية فداء لديننا ؟ خصوصا وأن كل أو أكثر البلدان الإسلامية تعتمد في عيشها و اقتصادها على الأجانب من حيث السياحة و تشغيل اليد العاملة في الشركات الأجنبية و الاستفادة من خبرة الأجانب في تنفيذ المشاريع بمختلف أنواعها ؟ فليست الدانمرك وحدها هي التي تسخر من الإسلام و المسلمين ، بل إن الإعلام الأمريكي مليء بذلك و غيره من الأعلام الأوروبي ، فلماذا أشتد الغضب على الدانمرك و حدها و لم يشمل الدول الكبيرة الأخرى ؟ أنا أرى أن المسلمين قوة عظيمة و بإمكانهم التأثير على أي دولة تسخر من الإسلام و إجبارها على احترام الإسلام و المسلمين شريطة أن تتوحد مشاعرهم و يستمروا في التعبير عما يريدونه بعقل و حكمة و كياسة ، و أن يتحملوا التضحيات اللازمة ، لأن الحقوق لا توهب و لكنها تنتزع انتزاعا ، نعم أن الغضب يشتعل في نفس كل مسلم عندما يهان الإسلام و المسلمين ، و لكننا نتحدث الآن عن خروج هذا الغضب من إلى حيز التعبير و التنفيس ، فهل نحن مستعدون فعلا لتوجيه هذا الغضب العارم والصادق نحو وجهة تفيد ديننا أم نشتت جهودنا في احتجاجات عشوائية تقودها العواطف بلا عقل ، ثم نسكت بعدها و نهدأ و كأن شيئا لم يحدث ، و كأن العداوة ماتت ، و كأن العدو ليس عدوا ، و كأن السخرية و الاستهزاء لن يتكرر ؟(/9)
إنهم يستهزئون لأنهم لا يملكون حجة صحيحة يواجهون بها الإسلام ، و لو كانوا يملكونها لفعلوا منذ زمن بعيد ، إنهم يستهزئون لتفوقهم ماديا علينا و لتخلفنا عن التقدم ، فلا نحن أقمنا ديننا كما أمرنا الله تعالى ، ولا نحن أخذنا بأسباب القوة المادية والتقدم العلمي ، فهم يسخرون منا لاستكبارهم و غررهم بما وصلوا إليه من تقدم في الكثير من الميادين الدنيوية (إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون ، و إذا مروا بهم يتغامزون ...) سورة المطففين ، إنهم يستهزئون لتجريد الإسلام من قدسيته ، و لبيان أنه لا احترام له و لا تقدير ، فأضافوا إلى كفرهم به سعيهم لعدم احترامه ، و في هذا صد كبير عن التفكير بجدية في رسالة الإسلام ، و تكون النتيجة إبعاد الناس عنه ، أنهم يستهزئون لعم وجود رادع يردعهم ، و لأن الوهن أصاب الكثير منا حتى تجرأ علينا رويبضاتهم ، أنهم يستهزئون ليعزلوا العالم الإسلامي عن العالم النصراني ، و يود المستهزئون لو تثور الفتنة بين هذين العالمين بصورة كبيرة و واسعة ، إنهم يستهزئون لأن الإسلام آخذ في الانتشار بين ظهرانيهم ، وهذا يزيد من غيظ قلوب أئمة الكفر ، ففي الوقت الذي يضايقون فيه المسلمين عبر القوانين الجديدة لمكافحة ما يسمونه (الإرهاب) و التقليل من أقامة المسلمين في أرضهم ، و سعيهم الواضح لإلصاق تهمة التطرف بالمسلمين وحدهم دون سواهم ( علما بأن التطرف موجود في كل دول العالم على اختلاف دياناتهم ) ، فإن انتشار الإسلام بات هاجسا لأئمة الكفر و لن يدخروا جهدا للحيلولة دون انتشاره ، أنهم يستهزئون لأنهم لا يحترمون العقل و لا المقدسات ، فكيف ننتظر من حضارة علمانية أزاحت الدين عن الساحة أن تحترم الإسلام ، أنهم يقدسون المال و يمجدون القوة ، و لذلك لم تسلم حتى المسيحية من سخريتهم ، نعم إن الدين الرسمي عندهم هو المسيحية و لكنهم لا يعرفون منها سوى بعض المظاهر و الطقوس و قل من يرتاد الكنيسة عندهم ما لم يكون فيها عقد زواج أو راسم عزاء ، ويظل المال هو الإله الأكثر شعبية عندهم ، أنهم يسخرون بدافع من بعض المتعصبين عندهم للحروب الصليبية ، و التي نلمسها في تصريحات بعض المسئولين عندهم عندما يتحدثون بتلك المفردات العنصرية الحاقدة ، أنهم يسخرون لأن الإسلام يمد أهله بالحقائق التي تعيق تحقيق ما يريدونه من نشر قيمهم و بسط عولمتهم المادية ، فلم يبق للمسلمين من قوة سوى ما يستمدونها من خلال تمسكهم بدينهم ، و هنا يكون استهزاء كالحرب النفسية ضدنا ، أنهم يستهزئون ليفضح الله تناقضاتهم بشكل لا يقبل الجدل ، فقد تبين أن احترام الأديان عنهم يشمل كل ملة و دين ما عدا الإسلام ، و أن حقوق الإنسان لا تنطبق عنهم على المسلمين ، و أن حرية التعبير مكفولة لطرف واحد و صوت واحد ألا و هو كل من يريد التطاول على الإسلام و المسلمين ، و مهما كان سبب استهزاءهم فإن حكم الله نافذ لا محالة ( و لقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون) سورة الأنعام 11 ، و لسوف يحيق بهم وعد الله عاجلا أو آجلا ، على يد المسلمين أو بأمر من عنده ، و ما علينا سوى الصبر و الثبات و التصرف وفق ما تمليه علينا شريعتنا الغراء ، و علينا الحذر التام من منح العدو أي ثغرة يستغلها لزيادة الضرر بنا
ما قبل التصدي للإساءة .(/10)
عندما يتعرض الإسلام و أهله لهجوم ، فمن واجبنا كمسلمين و من حقنا أن نتصدى للعدوان مهما كان مصدره ، ومهما كان أسلوبه أو شكله ، و لا داعي لسرد الأدلة النقلية و العقلية على ذلك لوضوح قضية الدفاع عن النفس و الدين والعرض و المال ، و قد ذكرنا أن أعداءنا يستهدفون ديننا ، فالمتعصبون و المتطرفون منهم يريدوننا أن ننسلخ عن ديننا ، و العلمانيون منهم يريدوننا أن نؤمن ببعض الإسلام و نكفر ببعض ، وكلاهما يسعى لأن نتبع ملتهما ، وهذا هو الهدف الذي يبتغيه الأعداء بنص القرآن الكريم ، و ما كل ما يفعلونه ضدنا سوى مراحل يرسمونها للوصول بنا للانسلاخ عن إسلامنا و لنتبع ملتهم وأهواءهم ، ولذلك نعتبر الرسومات الساخرة جزء من هذا المخطط القديم في أهدافه و الحديث في أسلوبه ، ونحن المسلمين لنا أهداف علينا أن نسعى أليها و نضحي من أجلها و نبذل قصارى جهدنا لتحقيقها ، و إلا فنحن غير جديرين بهذا الدين الإسلامي العظيم ، فرغم عوامل ضعفنا و تشتتنا و اختلافاتنا الداخلية و مشاكلنا الذاتية من جهة ، و رغم قوة أعدائنا المادية وسيطرتهم الحالية على حكوماتنا من جهة أخرى ، فإن ذلك كله لا يمنعنا أن نعمل من أجل ديننا ، وهذه هي فريضة الجهاد لتكون كلمة الله هي العليا ( و إن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم) سورة سيدنا محمد 39 ، فهدفنا هو التعايش السلمي القائم على العدل و السلام و احترام الغير و عدم العدوان منا أو علينا ، و هدفنا هو تبليغ دعوة الإسلام لغير المسلمين بالحكمة و الموعظة الحسنة و المجادلة بالتي هي أحسن ( و وسائل ذلك أصبحت اليوم في عصر المعلومات و الاتصالات ميسرة أن أحسنا لغة الخطاب و التحاور مع الغير ، فنقدم صورة حسنة عن الإسلام قولا و فعلا) و الدعوة للإسلام تحتاج إلى الهدوء و الإقناع وهذا ما تعلمناه من رسول الرحمة عندما أبرم صلح الحديبية مع قريش فاستفاد من الهدنة بأن بعث الرسائل إلى كسرى و هرقل و المقوقس ، و تفرغ لدعوة القبائل التي لم يشملها صلح الحديبية ، فكان الصلح بذلك فتحا مبينا كما نص القرآن الكريم على ذلك في سورة الفتح ، و من هنا فنحن المسلمون في أمس الحاجة إلى التعايش السلمي العادل و المحترم و كذلك نحتاج إلى حرية التعبير بحيث نستعملها في التعريف بدعوتنا و ديننا و نزيل عبرها تلك الصورة المشوهة التي يعمل الأعداء على إلصاقها بالإسلام و المسلمين ( و قد نجحوا في ذلك نجاحا ملحوظا للأسف الشديد ، خصوصا و أن تصرفات بعضنا كانت خير معين لهم على إلصاق الصورة البشعة و المشوهة ) لقد شوهوا صورة الإسلام و أهله ليصرفوا شعوبهم عن الإسلام من جهة ، ومن جهة أخرى ليبرروا حربهم علينا فلا يحتج عليهم الرأي العام ، فبدعوى محاربة الإرهاب يعاني المسلمون ما يعانون من الاعتداء على دينهم و أرضهم و دمائهم و أموالهم و عرضهم ، بعدما نجح الأعداء في إلصاق تهمة الإرهاب بالإسلام و أهله ، فالإسلام يريد التعبير ليدعو الناس للهدى و دين الحق ، وهو الدين الوحيد الذي يقول لمن يحاوره ( قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين) و يقول (أفلا تعقلون) و يقول ( هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا) فهذه النصوص دليل واضح على أن الإٍسلام يطلب من محاوره أن يأتي بأدلته و شهدائه وكل ما يبين صدق دعواه ، وهذه هي حرية التعبير التي علمها لنا الإسلام ، لا حرية التعبير التي يتبجح بها الغرب الذي يقول زعيمه ( إما معي أو ضدي) ، فحرية التعبير التي ننادي بها و نسعى للاستفادة منها في التبليغ ، حرية مكفولة لنا و لمن يحاورنا على حد سواء ، و هدفها هو بيان الحق و الوصول إلى الحقائق عن طريق حسن التحاور و عرض الأدلة و أقامة الحجة و الإتيان بالشهداء و البينات ، لا الحرية التي لا ضوابط لها فيحرم بها الغرب ما شاء من مواضيع وقضايا ، ويحلل بها ما شاء من استفزاز و سخرية من الآخرين ، و عذرا عن هذه الإطالة التي أرى لزوم ذكرها و نحن نتحدث عن أهدافنا و أهداف أعدائنا ، ذلك لأن الحرب لا تشن لمجرد الحرب ، و أنما لكل طرف هدفه الذي يصبو لتحقيقه من وراء هذه الحرب ، و نحن لن ننجح في التصدي لهجمات الأعداء ما لم ندرك هدفنا وهدف أعدائنا ، فمن وصل إلى هدفه فقد فاز ، و بقدر ما تعرقل عدوك عن بلوغ هدفه فقد ربحت ، لذلك أقول نحن أمام واجبين أمام هجمات الأعداء : الواجب الأول هو العمل على تحقيق أهدافنا التي أمرنا الله بها و هي التعايش السلمي المبني على العدل و الاحترام ، و الواجب الثاني هو إفشال ما يصبو العدو لتحقيقه ، و لتكن انتفاضة المسلمين جميعهم على الرسومات المسيئة بداية خير لنتعلم منها كيف نتصدى لأعدائنا و نعمل على تحقيق أهدافنا ، و كما قلت في بداية هذه المقالات ، نحن في أمس الحاجة لأن تكون تصرفاتنا عاقلة رشيدة وفق ما يقره الإسلام و لا يجب أن تذهب بنا العواطف كل مذهب خصوصا و أن الأعداء متربصون بنا ، و ينتظرون أي خطأ منا ليستغلوه في المزيد من(/11)
العدوان علينا .
إن الواجب الأول و هو تحقيق أهدافنا في التعايش السلمي و تبليغ الدعوة للشعوب بالتي هي أحسن ( لأنه لا إكراه في الدين ) يتطلب منا صحوة عظيمة لنلم شملنا و نوحد كلمتنا و نصفي خلافاتنا ، فنحن المسلمون قد انقسمنا كل تقسيم و تنازعنا كل تنازع ، ويعامل الفرد المسلم في دياره معاملة غاية في الاحتقار والمهانة ( في الكثير من الدول العربية و الإسلامية) فعلى أولي الأمر من حكام و علماء أن يبذلوا ما استطاعوا من جهد لترتيب البيت من الداخل ، لقد استشرت خلافاتنا ليس على صعيد البلدان المسلمة فحسب ، بل حتى داخل البلد الواحد ، ولا أبالغ إن قلت أن الخلافات الحادة يصل مداها حتى تحت سقف البيت الواحد ، وليت الخلافات بقيت في نطاق ضيق متسامح ، بل وصلت إلى حد تبادل تهم التكفير و المروق من الدين و العمالة و الخيانة و التواطؤ مع الأعداء ، و كلها تهم خطيرة على تماسك المجتمع و وحدة صفه أمام ما نتعرض له من هجمات شرسة على الإسلام و أصله و أهله بصفة عامة ، فكم من الوقت و الجهد الذي ضاع منا ونحن نختصم بشدة على الكثير من المسائل الفرعية التي أختلف فيها جهابذة العلماء منذ عصر تدوين الفقه ؟ و كم من شحناء قامت و بغضاء نمت بسبب التعصبات الفقهية الضيقة في الوقت الذي يتحالف فيه الأعداء على استئصال شأفتنا(/12)
، فرغم ما بين اليهود و النصارى من مشاكل دينية ، و رغم ما بين المتعصبين النصارى و العلمانيين من اختلافات جذرية ، إلا أنهم اتفقوا على رمينا عن قوس واحدة ، و بقينا نحن نناقش وبحماس متواصل تلك الخلافات المذهبية و الاختلافات الفقهية ، حتى داهمنا سيل الرسومات التي تسخر من أصل ديننا ، و حتى أحاطت بنا قوات الاحتلال من كل جنس و شكل ، فنرجوا أن نترك خلافاتنا الجانبية جانبا أمام هذه الأعاصير المدمرة التي تجتاحنا ، و لو شئت الإنصاف لقلت نحن أول من أهان الإسلام و أهله ، ثم قام الأعداء و بأسلوبهم الخاص للمشاركة في هذه الإهانة و الإساءة ، أليست تقديم الصورة المشوهة عن الإسلام قد صدرت من بعضنا عندما يذهبون إلى بلاد الغير فيعيثون في الأرض فجورا و خمورا و هم محسوبون على الإسلام ، أليست هذه صورة مشوهة و مجانية قدمها أولئك لأعدائنا ؟ ألم يستغل الأعداء تلك العربدة للدلالة على همجية المسلمين و تفاهتهم ؟ أليس ما يحدث في الكثير من بلاد الإسلام من انتهاك صارخ لأبسط حقوق المواطن و ما يتعرض له من اضطهاد و قمع و اعتقال و سجن و تعذيب بحيث يشمئز منه الفرد الغربي لفرط بشاعته و هوله أليس ذلك فاتحا لشهية العدو لفعل الأفاعيل بالمسلمين ؟ كم من المسلمين يستطيع أن يبوح بما يجول في خاطره من نقد لحكومة بلاده ؟ و كم من حكومة مسلمة أو محسوبة على الإسلام تقلدت منصبها بطرق مشروعة ؟ كم من القرارات و القوانين التي صدرت في بعض بلاد المسلمين و هي مخالفة بوضوح لتعاليم الإسلام ؟ كم من المحطات الفضائية العربية التي تحارب الله و رسوله جهارا و ليلا و نهارا عبر ما تبثه من سموم و أفكار و برامج تصل المشاركات فيها إلى الملايين من المشاهدين و المشاركين ؟ كم من التصرفات الخاطئة و المنكرة التي يفعلها البعض منا باسم الإٍسلام ؟ كم من الأصوات المتعصبة و المتطرفة التي غالت لدرجة المروق و هم من بني جلدتنا ؟ كم من مسلم في حيرة مما يفعله المقاتلون في أرض العراق فيسأل هل هم مجاهدون أم إرهابيون ؟ كم من مسلم صفق لدخول الأمريكان و حلفائهم لأرض الرافدين؟ إلى كم من الخونة و العملاء الذين يلحسون أقدام الأعداء و يقدمون لهم كل ما أرادوا من معلومات ليفتكوا بالمسلمين ؟ كم من مسلم أصابه الذعر و الخوف من الأعداء حتى صار يستبعد أن ينتصر المسلمون على هؤلاء الأعداء ، كم من المسلمين من لا يفكر إلا بمصالحه الشخصية ، و كم من مسلم صار على مبدأ العلمانية ؟ الحقيقة تقول : ( في بيتنا خلل ) ، و هذا الخلل كبير و جلي ، و لن ننجح في تحقيق أهدافنا كما يجب و نحن على هذه الحال ( و أطيعوا الله و رسوله و لا تنازعوا فتفشلوا و تذهب ريحكم و اصبروا إن الله مع الصابرين ) سورة الأنفال 47 ، فلابد من طاعة الله ورسوله وعدم التنازع ، و إلا فالفشل و ذهاب ريحنا هو النتيجة المحتومة ، فهل نحن أطعنا الله ورسوله و لم نتنازع ؟ كلنا نتفق كمسلمين على أن الإسلام هو الحل و العز وقوام تقدمنا ونهضتنا ، ثم بعد ذلك نختلف غاية الاختلاف في تطبيق الإسلام ، و لهذا يتوجب على المخلصين من العلماء بيان كيفية التمسك بديننا بلا شطط ولا وكس ، بلا ميوعة و لا تحجر ، بلا إفراط و لا تفريط ، طبعا كل منا سيقول طريقتي في تطبيق الإسلام هي الطريقة الصحيحة المعتدلة ، وهنا لا بد من التفاهم بين أهل العلم على قواعد شرعية صحيحة يعرف الناس بها المصيب من المخطئ ، و المغالي من المفرط ، و هذا واجب العلماء وحدهم ، فهم أهل الذكر الذين نسألهم عما لا نعلم ، فليتقوا الله فينا و لا يزيدوننا خبالا ( حاشاهم من ذلك) وبصلاح العلماء تصلح الأمة ، فالمزيد من البيان و التوضيح يا ورثة الأنبياء ، ولتكونوا أنتم قدوتنا في الاتفاق والتفاهم، علمونا كيف نفهم ديننا ، و كيف يعذر بعضنا بعضا ، أرشدونا كيف نتسامح فيما بيننا طالما أن هناك مجال للتسامح ، أنيروا الطريق للمسلمين أنار الله لكم صراطه يوم الحساب ، كفانا نقدا لاذعا و تقوقعا وتعصبا ، وضحوا لنا كم أن المسلمين يمكنهم التجمع على ثوابت الدين ، و ها هم المسلمون اليوم يشتعلون غضبا على الرسومات المسيئة لنا جميعا ، أليس في هذا إشارة على إمكانية توحد المشاعر حول ثوابت الدين بحيث لا تكون تلك الاختلافات الجانبية مؤثرة في هذا التوحد ؟(/13)
أيها الحكام نحن نعرف الضغوط الشديدة التي تتعرضون لها من قبل أطراف لا قبل لكم بها ، و هذا يؤلمنا كما يؤلمكم ، لأننا نتعرض جميعا لمردوده السلبي ، إننا نحن المواطنين نتعرض لممارسات بالغة الإهانة من قبل الكثير من الأجهزة التابعة لكم و لسلطتكم ، انشروا العدل بيننا ، والله يؤيدكم ، مكنوا المسلمين من ممارسة ما أعطاهم الله من حقوق و تكريم ، لا تسيئوا الظن بنا ، و لن نسيء بكم الظن مادمتم تسعون في نشر العدل و كرامة الفرد المسلم تحت ظل حكمكم ، استشيروا العلماء الصادقين ، و سيروا فينا بسياسة التدرج المدروس مرحلة مرحلة ، فإنما تسير القافلة على سير أضعفها ، استعملونا تحت غطاء ضغط الرأي العام لمواجهة ما تواجهون من ضغوطات خارجية ، أشعرونا بحسنات حكمكم لا بسيئاته ، اكسبونا في صفكم لما فيه خير العباد و البلاد ، لا أطالبكم بأن تكونوا كعمر بن الخطاب ، ولكن أطالب بألا تكونوا كابن عمرو بن العاص الذي استعبد الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا، و لا تنسوا حديث الرسول ( و هل تنصرون إلا بضعفائكم ) أخرجه البخاري ، لماذا يزداد الفقير فقرا و الغني غنى في هذه الأيام ؟ أترضون سادتي الحكام أن يأكل القوي فينا الضعيف و أنتم تعلمون ؟ أترضون بأن يطبق القانون على الضعفاء و يستثنى الشرفاء و أنتم تبصرون ؟ هل يشرفكم أن يجهل المسلم ثوابت دينه في ظل عهدكم بل و ينسلخ عن أصله و فصله و أنتم تسمعون ؟ اسمحوا لنا وبطرق قانونية أن نقول كلمة الحق ، و ليكن هناك فحص لهذه الأقوال فيستفاد من صالحها و يطرح فاسدها مع مناقشة صاحبها و إقناعه بفساده أو خطئه ، فعندما تسأل أي معارضة عن وجودها في أرض العدو تقول لقد فررنا بأنفسنا من البطش و القهر و اضطررنا للتواجد هنا لأن حكوماتنا لا تسمح لنا بالتعبير عما نريد ، ثم نسمع تبادل التهم بالخيانة و الفساد بينكما و العدو يضحك منا جميعا ملء شدقيه . ليكن في مناهج تعليمنا تربية على قول الحق و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر وفق طرق شرعية رشيدة يعبر بها المواطن عما يقول دون ضرر أو ضرار ، بعيدا عن التهجم و الإسفاف و تبادل التهم ، لماذا نعتبر توجيه النقد عيبا مادام بناء ويهدف للمصلحة العامة ؟ لماذا نستنكف عن التخلي عن رأينا و قد تخلى عنه سيد الخلق عليه الصلاة و السلام يوم بدر بخصوص تغيير موقع معسكر المسلمين ، و قد تخلى عنه الفاروق عمر لقول امرأة من عامة الناس ؟ لقد وعى العالم بأسره دور الأعلام الخطير في توجيه الرأي العام فهل يوجهنا أعلامكم الرسمي لما فيه مصلحة العباد و البلاد ، لماذا شجعتم شبابنا على الجهاد في أفغانستان ضد الروس ثم تركتموهم هناك و لم تضعوا برنامجا لهم بعد ما أدوا واجبهم ، ثم صارت كل حكومة تتبرأ منهم كأنهم مصابون بالطاعون و الجذام ؟ لماذا يوصفون بالإرهابيين و ما هم إلا خيرة شباب هذه الأمة لأنهم استجابوا لنداء الجهاد و تركوا الدنيا و ما فيها و هبوا لنصرة المسلمين في أفغانستان ؟ لعل فيما طرحته من تساؤلات ما يغطي جانبا مما يدور في خلد المواطن العادي من أسئلة تنتظر الإجابة من طرفكم الكريم ، و ليس قصدي سوى توضيح ما نحتاجه لإصلاح بيتنا من الداخل .
و أخيرا أيها المواطن العادي ، هل أنت جاد في أصلاح ما فسد في مجتمعك ؟ و هل أنت تحترم أقوال العلماء الأجلاء و مستعد للوقوف عند حدود الله ؟ لقد عمم الرسول الكريم المسؤولية على جميع من في المجتمع المسلم ( كلكم راع و كلكم مسؤول عن رعيته ) و لم يستثني امرأة و لا حتى خادما من تلك المسؤولية ، فلماذا تلعب دور المتفرج فقط ، وتنتظر من الحكومة أن تعمل لك كل شيء ؟ لماذا تطالب الحكومة أن تكون كالفاروق عمر و لا تجعل من نفسك كرعية عمر ، ألم تسمع بالفتاة التي رفضت أمر أمها بخلط الحليب بالماء فقالت لها إن عمر ينهانا عن ذلك ، فقالت الأم و لكن عمر لا يرانا فردت البنت : و لكن رب عمر يرانا . هل تملك أنت هذه المراقبة الذاتية حتى تطالب الحكام بما تطالب ؟ إن كنت تشكو من عدم تطبيق القانون فلا تنسى أن المواطن هو الشرطي و هو القاضي و هو الموظف و هو الضابط و هو المدرس و هو التاجر وهو الطبيب فكلنا مواطنون ، فإن كان هناك من خلل فلأننا ساهمنا فيه ألم تسمع بحديث السفينة التي فيها ركاب في أسفلها و ركاب في أعلاها فمنع أعلاها سقي من بأسفلها ، فأراد من بأسفلها أن يخرقوا السفينة ليشربوا ، فلوا تركهم الأعلون يفعلون ذلك لغرق الجميع ، و لو منعوهم لسلم الجميع ، أن الحكومة تشكو من مواطنيها كما يشكوا المواطن من حكومته و ربما أكثر ، أنت تشكو القمع وهي تشكو حمل السلاح في وجهها من طرف بعض المواطنين ، و هلم جرا ، و كل ذلك يفرح به أعداء الله و رسوله ، و من العجائب أنك أيها المواطن تسب الحكومة بسبب الفساد و الدكتاتورية و في نفس الوقت نجد أن كثيرا من تصرفاتك تعبر عن الفساد و الدكتاتورية ، و لو تقلدت المناصب العالية لفعلت أشد و أنكى ممن كنت تنتقدهم .(/14)
و لابد من التنبيه على أنه رغم وجود كل تلك السلبيات فإن الخير و أهله لا ينقطعون في هذه الأمة المرحومة ، فهناك بعض ولاة الأمور المدركين لخطورة أوضاعنا و يجاهدون لإصلاح مجتمعهم ، و هناك العلماء و الدعاة الذين يصدحون بالحق بأسلوب رشيد و حكيم ، و هناك أفراد مسلمون تمتلئ قلوبهم بحب الله ورسوله و المؤمنين ، و قد تجد الكثير من عصاة المسلمين لا يرضون المساس بمقدسات الإسلام ، وكل هؤلاء رصيد عظيم في التصدي للأعداء ، و يمكننا أن نضيف إلى هذا الرصيد أولئك العقلاء من غير المسلمين الذين يعارضون حكوماتهم في العدوان علينا ، و لا يوافقون على صدام الحضارات ، وقد سمعنا تصريحاتهم المستنكرة على اتخاذ حرية العبير وسيلة للسخرية و عدم احترام مشاعر الآخرين ، و إذ نشكرهم على مواقفهم الإيجابية معنا نوصي باحترامهم و حسن التعاون معهم فيما يسمح به الإسلام ، و لا ننسى أخوتنا في الدين سواء كانوا من الجاليات المسلمة التي تعيش في الخارج ، أو كانوا من أبناء البلد الأجنبي ، فهؤلاء هم في مقدمة الصفوف لمواجه الأعداء ، ذلك لأنهم أدرى منا بطرق التصدي المناسبة لما يقع في بلدانهم من العدوان علينا و عليهم ، وقد سمعت أصواتا منا تدعوهم للعودة إلى بلادهم و مغادرة ديار الكافرين ، و في هذا القول تسرع و تعميم لا نسلم به ، فمن درس التاريخ علم أن اليهود تمكنوا من إنشاء دولتهم الباطلة في فلسطين المحتلة بفضل جالياتهم المنتشرة في أوروبا و أمريكا ، فتغلغلوا فيهما حتى صاروا يتقلدون المناصب العالية ، و صاروا يؤثرون في صنع القرارات ، فتجدهم تحت جنسيات مختلفة و لكنهم يخدمون حلمهم الصهيوني ، و تجدهم بعد تسللهم في حكومات تلك البلدان تمكنوا من إصدار القوانين التي تحمي اليهود و دينهم من أي نقد أو تهجم ، و قد شعر هؤلاء اليهود المتعصبون بخطورة انتشار الإسلام في أوروبا و أمريكا ، و ما سيشكله ذلك من خطر عليهم و على مصالحهم ، فبادروا بحرب خفية و ماكرة تهدف إلى إٌقصاء الإسلام من هناك ، و بما أنهم يتسلطون على الإعلام بمختلف وسائله فقد تحالفوا مع المتعصبين النصارى و مع العلمانيين المعادين لمبادئ الإسلام في حرب لا هوادة فيها ، تشوه صورة الإسلام و المسلمين ، و تصفهم بالإرهاب ، حتى أنهم استصدروا قوانين جديدة تحت غطاء محاربة الإرهاب ، و من تأمل ها يجدها ضد الإسلام و المسلمين على وجه الخصوص ، و كأنها ثوب مفصل تفصيلا ضد المسلمين ، فلا يروق للمتعصبين أن يتواجد الإسلام و يتزايد أتباعه و هم ينظرون ، فإذا كانوا يحاربون الإسلام في دياره فكيف لا يحاربونه و هو في ديارهم ؟ فلا نرى ترك تلك الساحة خالية لهؤلاء المتعصبين بل على المسلمين في الخارج جهاد من نوع قد يختلف عن جهادنا و لكنه يصب في هدف واحد ، فعليهم بالصبر و الثبات و توحيد صفوفهم هناك . و من شاهد مسيرات الاحتجاج على تلك الرسوم المسيئة ، يجد أنها عندنا تتسم بالغليان ، فقد أحرقت بعض المباني و رشق بعضها الآخر بالحجارة ...الخ ، بينما تجد مسيرات المحتجين في الخارج تتسم بالهدوء و الوقار وهذا يدل على فقههم و حسن تنظيمهم و حرصهم على عدم تمكين العدو من الصيد في الماء العكر .
إن الرسوم المسيئة عبارة عن حلقة في مسلسل متواصل ، فلا ينبغي التوقف عند هذه الحلقة و كأنه لا يوجد غيرها ، بل علينا أن نعي الأخطار المحدقة بنا و أن نصارح أنفسنا بكل هدوء و شفافية ، و لهذا أردت التذكير بما سلف قبل أن نتحدث عن التصدي لهذه السفاهات و غيرها في حربنا مع أعداء الله و رسله عليهم السلام ، فالسخرية من رسول واحد تعني عندنا سخرية من كل الرسل و لا فرق ( لا نفرق بين أحد من رسله ) سورة البقرة 284 ، و علينا أن نعمل جاهدين في تقديم الصورة الحسنة بصبرنا و إيماننا و حسن أفعالنا قبل أقوالنا ، و هذا واجبنا في أرض الإسلام على الدوام ، قبل أن نخاطب الآخرين ، فإذا كنا نحن نشوه صورة ديننا بقبح أفعالنا و سوء فهمنا و تطبيقنا و عدم التزامنا ، فهل نلوم الآخرين على تشويهه بعدنا
هدفهم : إطفاء نور الله (الإسلام) ، و أن يخضع المسلم لهم ويتبع ملتهم الفاسدة والباطلة ، فالمتعصبون اليهود يعادوننا حسدا من عند أنفسهم ، ويريدون أن ننسلخ عن ديننا و أن نخضع لهم ، و المتعصبون من النصارى يردون أن يعلو صليبهم فوقنا و حبذا لو تنصرنا مثلهم ، و المتعصبون من العلمانيين يريدون تعديل الإٍسلام و أن نؤمن ببعضه دون بعض وفق ما تقتضيه مصالحهم ومطامعهم .
وسيلتهم : اتخاذ ما أمكنهم من وسائل ، لأن الغاية عندهم تبرر الوسيلة .
رصيدنا : تلاحم المسلمين المخلصين على مختلف مستوياتهم و مذاهبهم و أماكن تواجدهم على التصدي لهم ، وفق ما يسمح به الإسلام ، آخذين بعين الاعتبار ظروفنا الراحلة و إمكانياتنا المتاحة ، معتمدين على الله رب العالمين في أن يسدد خطانا و ينصر كل مجاهد صادق يريد إعلاء كلمة الله لوجه الله و ليس لغرض آخر .(/15)
و بما أن هذه الحرب طويلة المدى ، و شديدة التعقيد ، فإن الصبر و الثبات على ثوابت ديننا و أصوله المتفق عليها من أهم عتادنا في هذه الحرب ، بالإضافة إلى الإيمان و العمل الصالح و التواصي بالحق ، كما أقسم الله تعالى في سورة العصر .
و لابد من ذكر بعض المبشرات على أن الله ناصرنا على أعداءه ما دامت الهزيمة لم تصب قلوبنا ، فالهزيمة هي أن يقتنع المغلوب في قرارة نفسه بأنه مهزوم و أنه لا أمل له في النصر و أن الحق في جانب عدوه و أنه لا معين له و لا سند و لا مدد ، عندها فقط تكون الهزيمة قد تحققت ، و لا يغرنك تقلب العدو في البلاد بجنده و إعلامه و عملائه ، لأنه باطل قام على باطل ، فقريش بكل جبروتها لم تستطع أن تهزم ما في نفس سيدنا بلال بن رباح ( رضي الله عنه) ، فقد أذاقوه كل ما يعرفون من صنوف البطش ليرتد عن دينه ، و كانت موازين القوة المادية في جانب قريش و كان المسلمون قلة و أذلة ، و مع ذلك انتصر ذلك العبد السيد بثباته على دينه و انهزمت قريش أمام صبره و ثباته ، فهذا هو مفهوم النصر و الهزيمة الذي تعلمه الصحابة الكرام من الرسول الكريم ، و نحن لن نتخلى عن هذا المفهوم البسيط والعميق ، و لا يخيفك أخي المسلم ما عند الأعداء من عدة وعتاد ، فقوة الحق أقوى من حق القوة ، ما دمت مؤمنا و متمسكا بدينك و واثق من نصر الله ، فكم من أعزل قواه الله ونصره لأنه على الحق ، و كم من مدجج بالسلاح قد فر وتخاذل و انهزم لأنه لاحق له .
و من المبشرات أن دين الله هو الإسلام (دين كل الأنبياء و الرسل عليهم السلام) الذي لا يقبل الله غيره ، و يخسر من يدين بسواه، و هذا الدين قد اكتمل و ختم على يد سيدنا محمد ( عليه الصلاة والسلام و على آله و صحبه) فقد تكفل الله بحفظه و الدفاع عنه و حمايته ونصره و لو كره الكارهون ، لأنه الوحيد بين الأديان في المحافظة على أصله وفصله بفضل الله ، فالله تعالى ناصر هذا الدين لا محالة إما بأيدي المسلمين إن عملوا بما يرضي الله و جاهدوا في سبيله حق جهاده ، و إما بأمر من عنده لا يخطر على قلب بشر إن كنا متمسكين بديننا و صابرين على تحمل الأذى في سبيله و لكن لا قوة مادية لنا نهزم بها أعداءنا ، فعندها يأتي المدد الإلهي بما لا طاقة لأعتى قوة به ، و لو افترضنا أننا تخاذلنا و انهزمنا في داخل نفوسنا أمام الأعداء و تخلينا عن التمسك بثوابت ديننا ، فإن الله تعالى سينصر دينه و لو تخلينا نحن عنه ، ألم يقل الله تعالى ( و إن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم) سورة سيدنا محمد 39 ، فالله تعالى ناصر دينه لا محالة بقوتنا أو بقوة من عنده ، وبنا أو بغيرنا ، و نعاهد الله عهدا صادقا لا نكث فيه بإذن الله أننا لن نتخلى عن ثوابت ديننا و لن نتخلى عن نصرة نبينا ما دام فينا قلب ينبض . و مع قدرة الله المطلقة في نصرة دينه ورسله إلا أنه أمرنا بجهاد الكافرين و المنافقين ليقوم باختبارنا فيتبين الصادق من الكاذب ، و لينال بعضنا مرتبة الشهادة ، و بعضنا ينال أجر الجهاد و هكذا ( و لو شاء الله لانتصر منهم و لكن ليبلو بعضكم ببعض و الذين قتلوا} وفي قراءة : قاتلوا{ في سبيل الله فلن يضل أعمالهم ، سيهديهم ويصلح بالهم ، و يدخلهم الجنة عرفها لهم ) سورة سيدنا محمد 5- 7 .(/16)
و من المبشرات أن مكانة خير البشر و منزلته و جاهه عند الله و تشريفه و تكريمه يزيد و لا ينقص ، و لا يمكن لمخلوق أن ينال جنابه الشريف و لو بشعرة فما دونها على وجه الحقيقة ، ذلك لأن الاستهزاء الحقيقي يتطلب وجود عيب أو نقص أو خلل أو سوء فيمن يراد الاستهزاء به ، و قد علم العدو قبل الصديق و القاصي و الداني بأن شخصية رسولنا و حبيبنا محمد ( عليه أكرم الصلاة و السلام) شخصية جديرة بالتقدير والاحترام ، فقد ذكر هذا مجموعة من المفكرين المعتدلين و هم غير مسلمين ، حتى جعله بعضهم أنه أعظم شخصية في التاريخ البشري على الإطلاق ، هذا كلام عقلائهم بعد بحث منهم و تمحيص ، و أما ما قام به سفهاؤهم فهو لا عبرة علمية به لأنه لا يستند على أي حقيقة ، و لا يقوم إلا على الزور و البهتان و الخيال المشحون بالحسد و الجحود و البغضاء ، و ما هو إلا تعبير عما في نفوسهم المريضة من حقد دفين و غل مكين على الإسلام ورسوله و أتباعه ، و عندما قلب الحاقدون صفحات التاريخ لم يجدوا فيها ما يصح أن يعاب به الرسول ، فلجؤوا إلى السخرية عبر اختلاق الكذب ، و رسوم ساخرة من وحي خيالهم وشياطينهم لعلهم يملؤون بهاما عندهم من فراغ في هذا الجانب الذي استعصى عليهم ، و لعلهم يشفون غيظهم المتصاعد بسبب تمسكنا بديننا رغم ضعفنا ومشاكلنا الكثيرة ، ولعلهم يجدون في تلك الرسومات تنفيسا عما تكنه صدورهم من أحقاد ، فالقصد من الرسوم هو تشويه صورة نبي الإسلام حتى ينفر الناس هناك من الإسلام و المسلمين ، ناهيك عن استفزاز مشاعر أكثر من مليار مسلم ، أنهم كناطح جبل ليزيحه و لن يحظى إلا بكسر رأسه الأجوف ، لأن رسول الرحمة و الهداية قد اختاره الله و اصطفاه و اجتباه ، و جعله أكمل الناس خلقا وخلقا و مدح أخلاقه وسجاياه ، فمن ذا يصدق في ذمه ؟ و قد شرح الله تعالى صدره ، و رفع ذكره ، و وضع عنه وزره ، و أقسم بحياته ، و تكفل بنصره ، و عصمه من الناس ، وجعل طاعته طاعة لله ، و قد آتاه الله الوسيلة و الفضيلة و الدرجة العالية الرفيعة ، و سيبعثه مقاما محمودا كما وعده ، و لسوف يعطيه من فضله حتى يرضى ، وكان فضل الله عليه عظيما ، و ما نطق الكفار بكلمة سوء في حقه إلا و رد الله بنفسه عليهم و دافع عن رسوله الأفخم و حبيبه الأكرم و خليله الأعظم قائلا له : ( إنا كفيناك المستهزئين ) سورة الحجر95 ، و قد أخبره في كتابه الكريم ( و لقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون ) سورة الأنعام 11 ، فقد تكفل الله بنفسه جل وعلا بإنزال عقوبته السريعة عليهم ( إنهم يكيدون كيدا ، و أكيد كيدا ، فمهل الكافرين أمهلهم رويدا ) فإما أن يكفوا ويتوبوا ، و إما أن يحيق بهم ما يستحقون من هلاك و نقمة ، وقد صرف الله الكافرين عن سب و لعن سيدنا محمد ، ففي صحيح البخاري وغيره أن الرسول الكريم قال لأصحابه الكرام ( ألا تعجبون كيف يصرف الله عني شتم قريش ولعنهم ؟ يشتمون مذمما و يلعنون مذمما و أنا محمد ) ، فهم يصنعون من خيالهم صورة مشوهة و ذميمة فيسبونها ويشتمونها و يستهزئون بها و يحسبون أنهم نالوا من شخصية الرسول الحقيقية ، و ما تلك الصورة إلا محض خيال و وهم كاذب يصبون جام عداوتهم عليها و هي كما ذكرنا لا تمت إلى الحقيقة بأي صلة ، و لا يصدر هذا الرد إلا من شخص واثق من ربه أولا و من نفسه ثانيا ، وفي علم السلوك ( السيكولوجيا) ما يفيد أن الإنسان السوي إذا تعرض لنقد أو سخرية فأنه لا يليق له أن ينفعل ، بل يفكر بكل هدوء في مصداقية ذلك من عدمه ، فأن ثبت صدقه فعليه بإصلاح نفسه ، و إن ثبت كذبه ( كما هي حال قضية هذا المقال ) فعليه ألا يعيرها أي اهتمام لأنها صدرت من شخص فيه خلل ما ، و ما على الشخص السوي سوى أن يمضي قدما في شؤونه و لا تعرقله تلك الأكاذيب عن سعيه فيما يريد ، و قد قال الله تعالى ( و أعرض عن الجاهلين ) سورة الأعراف 199 ، و قال أيضا ( و إن تصبروا و تتقوا لا يضركم كيدهم شيئا إن الله بما يعملون محيط ) سورة آل عمران 120 ، و بما أنه لا سلامة من الخلق ، لدرجة أن الله تعالى لم يسلم من ألسنة خلقه فوصفوه بصفات لا تليق به ( سبحانه و تعالى عما يقولون علوا كبيرا ) ، فكيف يسلم الرسول الكريم من ألسنتهم و هم أعداء الحق والخير والرحمة ؟ و لذلك أمر الله رسوله الكريم بأن يبلغ دعوته إلى الناس و لا يهتم بما يصدر عن أعدائه من سخرية و همز ولمز فهي لا تعدوا نطاق الأكاذيب و الافتراء ، و لو انشغل رسولنا الكريم بهذه التفاهات المقززة لما وجد وقتا و جهدا لتبليغ رسالته العظيمة ، و لصار المستهزئون يبتكرون المزيد و المزيد من أساليب السخرية ليشغلوه عن تبليغ دعوة الحق إلى الناس ، و هذا كما نعرف حدث قبل هجرته الميمونة إلى المدينة المنورة حماها الله ، فكان خير رد على السخرية والاستهزاء هو أن يتفرغ الرسول لمواصلة الدعوة ليحقق المزيد من النجاح في هداية الناس ، و أن يصبر و يثبت على(/17)
الحق الذي بعث به فيزداد عدد المسلمين و لا يتحصل الأعداء إلا على الخيبة و الخزي و العذاب ، و لذلك نرى كفار قريش قد لجؤوا إلى القتال و محاولة القضاء على الإسلام في غزوة الخندق حاشدين كل ما عندهم من قوة و حلفاء ، لأنهم أدركوا أن سخريتهم لم تحقق لهم شيئا ، نعم إن الصدر يضيق من السخرية ( ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون ) سورة الحجر 97 ، ولكن الأولوية للصبر و الثبات ومواصلة الجهاد في تبليغ الدعوة ، لأن نصر الله آت لا محالة بإذنه تعالى ، و كل ما تعرض له النبي الكريم من الأذى سيكون سببا في رفع درجاته عند ربه ، وليكون أيضا قد ضرب القدوة الصالحة والأسوة الحسنة لأتباعه من بعده ، فلا شيء يضيع عند الله تعالى .
و مما نذكر به إخوتنا في الإسلام أن الله تعالى يبتلي المؤمنين في كل زمان ومكان في صدق تدينهم ، فقد ابتلي الصحابة بما لاقوه من ظلم المشركين و أذاهم و بما نالهم من عدوان الحاقدين من اليهود ، و ابتلي من بعدهم بالمغول و الصليبية الحاقدة ، و ابتلي أجدادنا بالاستعمار الفرنسي و البريطاني و الطلياني و الأسباني ، و هانحن في زماننا هذا ينالنا الابتلاء كما نال من قبلنا ، فالله تعالى يريد أن يرى ما نحن فاعلون في هذه المحن و الفتن و هو أعلم بكل شيء ، و ما خروج جماهير المسلمين معبرة عن غضبها و استنكارها الشديد لتلك الرسوم المسيئة إلا دليل واضح على إجماع المسلمين على نصرة نبي الرحمة ، وأنهم مستعدون و متفقون على أن يفتدوا الرسول الكريم بكل غال و نفيس ، و أنهم لا يرضون أن تمس شخصيته الطاهرة و المطهرة بأي شعرة من السوء ، إن اتحاد مشاعر 1.3 مليار مسلم برهم و فاجرهم ، سنة و شيعة ، عربا و عجما ، في هذا الخطب الجلل ، يبشر بخير ، و يبشر رغم مرارة أوضاعنا بأن قلوبنا عامرة بمشاعر الإيمان و المحبة لهذا النبي الكريم ، كما يبشر بان المسلمون عندما يتوحدون يمكنهم أن يهزوا العالم بأسره و يمكنهم أن يقضوا مضجع الأعداء ، الذين دب الرعب في قلوبهم ، و صاروا يبحثون عمن يهدّي لهم البركان الذي انتفض عليهم.(/18)
و من المبشرات ، انكشاف زيف ما يدعيه الغرب من مباديء ، و انكشاف مدى المعايير المزدوجة ، فهل يعقل عاقل أن حرية التعبير تسمح بسب الآخرين و السخرية من مقدساتهم ؟ و لماذا يضعون للصحافة والإعلام خطوطا حمراء في بعض المواضيع دون بعض ، و إذا كانت العلمانية تفصل الدين عن شؤون الدولة فلماذا تتهجم على أديان الناس ؟ كان الأولى بها أن تسكت و تخرس فلا تمدح و لا تذم ، فلماذا أيتها العلمانية تسيئين للإسلام و قد أعلنت الحياد ؟ و لماذا ترفض تلك الصحيفة نشر رسوما عن المسيحية بحجة احترام مشاعر من يدينون بها و لا تحترم مشاعر المسلمين ؟( نحن المسلمون لا نرضى الإساءة لأي رسول) إن هذه الرسومات المسيئة قد فضحت تلك العلمانية ، و كشفت الوجه الحقيقي للغرب ، لدرجة أن عملاء الغرب قد أسقط في أيديهم ، فهم طالما تغنوا بمباديء الغرب ، و طالما رفعوا عقيرتهم النشاز بمدح القيم الغربية و العلمانية ، ولكن الله يأبى إلا أن يكشف كذبهم ، و يفضح غشهم ، و يعري ازدواجية معاييرهم . ليكون المسلم على بصيرة من أمره ، و أمر من يصادق أو يعادي ، و قد قال شاعر :(جزى الله الشدائد عني كل خير ...... عرفت بها صديقي من عدوي) . و منذ سنوات قريبة رأى العالم أمريكا التي تصف نفسها بزعيمة العالم الحر و قد شنت حربا على العراق على أساس من البغي والعدوان و الكذب و الذرائع الملفقة و لم تحترم قانونا و لا أعرافا و لا شرعية دولية ، بل وثبت على العراق وثوب الوحش على الفريسة هي و من تحالف معها من الدول التي تدعي احترام القانون و الحوار ، و زعموا أن العراق خطرا على أمن أمريكا و العالم الحر ..... الخ بينما كان العراق يعاني نتائج الحروب التي خاضها حاكمها السابق ، ويعاني نتائج الحصار الذي أودي بحياة مليون طفل عراقي بريء ، و لما انكشف كذبهم أتوا بكذبة أخرى فقالوا جئنا لتحرير العراق من الاستبداد و تعليمه الديمقراطية و الحرية و حقوق الإنسان ( المباديء البراقة للعلمانية ) و لكن الواقع فضحهم ، و لا تزال فظائع و فضائح سجن أبو غريب تفوح رائحتها المنتنة معلنة مدى تأصل الكذب فيما يدعون ، فهل عمى الألوان أصاب الجميع فلم يفرقوا بين التحرير و الاحتلال ، وبين الاستعمار و التعاون المشترك ، فالحرب في العراق لم تضع أوزارها و شركاتهم تتسابق للفوز بعقود إعمار ما دمروه بعدوانهم في جريمة لم يشهد العالم لها مثيلا ، و لا ننسى زيف مبادئهم عندما فاز الإسلاميون في الجزائر بأصوات الجماهير عبر صناديق الانتخابات ، و وقتها لم يكن هناك تنظيم القاعدة و لا أحداث 11 سبتمبر و لا حرب على الإرهاب ، و لكن فرنسا لم يعجبها فوز الإسلاميين ، فقلب الجنرالات الجزائريون التابعون لفرنسا الطاولة للحيلولة دون وصول الإسلاميين لسدة الحكم عبر ديمقراطية الغرب ، و ها هي حركة حماس التي فازت في انتخابات نزيهة تتكالب عليها الدول الغربية مهددة بقطع المساعدات عن الشعب الفلسطيني ما لم تعترف بوجود إسرائيل و تتوقف عن خيار المقاومة للمحتل الصهيوني ،فأين العرب و المسلمين من دعم الشعب الفلسطيني ؟ و هل يجوز لنا أن نسلمه و نخذله إن كنا مؤمنين ؟ فالغرب لا يحترم الديمقراطية إذا أدت إلى فوز الإسلاميين ، بل ولم يترك الفرصة لها لتعمل و لنرى جميعا نتائج عملها و من ثم نحكم لهل أو عليها ، إن عدم احترام اختيار الشعوب لمن يحكمها دليل واضع على التناقض الفاضح الذي يتخبط فيه الغرب عندما يتعامل معنا ، فهذا و غيره يوضح زيف و بطلان ما ترفع العلمانية من شعارات براقة ، و سهولة نكثهم بمبادئهم تحت ذرائع و أكاذيب لها أول و لا أخر لها ، فنحن على أحسن تقدير أمام عنصرية جديدة ، ينال الغربي فيها كل الحقوق و لا حق فيها للمسلمين ، سوى التدخل السافر في كل شؤونهم والسخرية بمقدساتهم ، و لا يفوتني أن أشكر عقلاء الغرب على ما أدلوا به من تصريحات تستنكر العدوان و تشجب السخرية من مقدسات الإسلام ، فأنا لست ممن يعمم الأحكام جزافا ، فقد ذم القرآن بعض أهل الكتاب و مدح بعضهم
ما هي مطالبنا ؟(/19)
لقد علم العالم بأسره هذه الأيام أن المسلمين لا يرضون بالمساس بالرسول الكريم ، و هذا واضح تماما ، و من حقنا و واجبنا أن نعلن للعالم عن غضبنا الشديد و استنكارنا الكامل و رفضنا المطلق لتلك الرسومات المسيئة ، و بإمكاننا التعبير عن ذلك بطرق سلمية و حضارية ، و لا داعي للتعبير الذي يوصل الرسالة مشوهة أو معكوسة ، ففي الحديث الشريف (إن الله يحب الرفق في الأمر كله) البخاري و غيره ، و نحن إذ نفعل ذلك نفعله طاعة لله و رسوله ، و لإعطاء الصورة الحضارية و السلمية الصحيحة عن الإسلام للمحايدين له و للمتعاطفين مع المسلمين ، و لكي نفوت الفرصة على الأعداء الذين يصفوننا بالهمجية و العنف ، و للحفاظ على مصالح الجاليات المسلمة التي تعيش في الغرب ، و بعد التعبير الواضح و المتزن عن مشاعرنا ، علينا أن نطالب بحقوقنا و نناضل من أجلها ، و تتلخص المطالب في إيقاف ما يسيء للإسلام عبر و سائل الأعلام المختلفة ، وعدم السخرية بمن أرسلهم الله لهداية البشر دون أن نفرق بين أحد منهم ، و تقديم الاعتذار الرسمي من البلدان التي انتهكت حرمة الرسول الكريم ، و إصدار قرارات و قوانين دولية تجرم هذه الإساءة و تحاسب عليها ، و ذلك لضمان عدم تكرر ذلك ، و العمل على إصدار اللوائح والقرارات التي تنظم حرية التعبير بحيث لا تكون ذريعة للسب و السخرية من أي رسول ، و دعم الجاليات المسلمة لتتمكن من بناء منابر إعلامية تقدم فيها الصورة الصحيحة عن الإٍسلام و رسوله و أتباعه موجهة لأهل البلد الموجودة فيه مستفيدين في ذلك من حرية الرأي والتعبير التي تحترم مشاعر الآخرين ، و نطالب بطبع و ترجمة الكتب التي تقدم الإسلام بصورة صحيحة و نشرها عبر شبكة الإنترنت و غيرها ، و لا ننسى محاولة إبراز محاسن الإسلام عبر الأفلام التي تحسن لغة الخطاب بما يقنع المشاهد الغربي ، و لنا في فيلم الرسالة للمخرج الراحل ( رحمه الله) العقاد نموذجا يقتدى به في هذا الجانب الذي يعتبر فارغا أو يكاد ، و الذي يحسن الأعداء استغلاله في تشويه صورة الإٍسلام و المسلمين .
أن تحقيق هذه المطالب يعتمد علينا جميعا حكاما و علماء و عامة و الهدف منه خدمة الدين بالدعوة إليه سلميا و تحسين صورته لمن يبحث عن الهداية م غير المسلمين ، و لاشك أن ذلك دونه صعوبات و عراقيل كثيرة ، كما أنه يستلزم التكاليف الباهظة والجهد الدؤوب ، فإذا لم نبادر وبذلك و نتكاثف لأجله ، فلن يتوقف عدونا عن حربنا و عن الاستهتار بنا و بديننا و رسولنا الكريم ، و ليعتبر كل فرد منا نفسه جنديا لنصرة الإٍسلام و رسوله الكريم ، و ليعمل على تحقيق ما يستطيع منفردا أو متعاونا مع غيره ، بحيث لا تتعارض مساعينا ، و علينا أن نترك الخلافات الجانبية جانبا و نشغل أنفسنا بالدفاع المشترك عن ديننا الواحد .
أن سلاح المقاطعة الاقتصادية يعتبر من الأسلحة السلمية الهامة في تحقيق أهدافنا ، لأن المستهزئين العلمانيين يهتمون بمصالحهم الاقتصادية و يعبدون المال ، و هذه المقاطعة تصيبهم إصابة بليغة يحسبون لها كل حساب ، فعلى كل مسلم غيور بائعا كان أو مشتريا أن يقاطع بضائع الدانمرك ، و حتى لو وجدها معروضة فعليه أن يتجاهلها و لا يشتريها و ليأخذ بديلا عنها من منتجات البلاد التي لم تسيء لديننا ، و ليكن ديننا أهم عندنا من زبدتهم و جبنتهم ، و هذه المقاطعة تستمر حتى نحقق مطالبنا ، و لتكن مركزة على الدنمرك لأنها البادئة بهذه الإساءة ، و حتى تتركز جهودنا في نقطة واحدة و لا تتشتت ، فلو نجحت المقاطعة ضد الدانمرك فقد وجهنا بذلك رسالة شديدة اللهجة لكل من تسول له نفسه المساس بمقدساتنا ، و يمكننا بعد ذلك تصفية حساباتنا مع غير الدانمرك ، فلتكن مقاطعة الدانمرك بداية الضغط على أعدائنا اقتصاديا و سلميا ، فقاطع وحرض على المقاطعة عسى الله أن يكسر شوكة عدونا و ينصرنا عليهم ، و توقف عن دعم صناعة عدوك الذين يسخرون من رسولك الكريم ( عليه الصلاة والتسليم ) .(/20)
إن الحديث عن سلاح المقاطعة يجرنا للحديث عن مدى اعتمادنا على صناعاتنا المحلية و تطويرها و تحسينها لتكون في مستوى حسن أو أحسن ، كما يجرنا للحديث عن مدى التعاون التجاري و الصناعي ( الاقتصادي ) فيما بيننا نحن الدول العربية و الإسلامية و الصديقة التي لا تعادينا ، فنحن نعتمد كثيرا على منتجات الأعداء من أبسط المواد و السلع إلى أعقدها ، و رغم مرور السنوات الطوال على استقلال بلداننا فنحن ما زلنا تحت سيطرتهم اقتصاديا ، إن الغرب يفكر جديا في ترشيد استهلاك الطاقة ، و البحث عن مصادر جديدة لها ، لكي يقلل اعتماده على النفط العربي ، و هم الآن يفكرون في استخدام الطاقة النووية كبديل مقترح ، و هذا يشكل خطورة على الدول المنتجة للنفط ، رغم أن النفط العربي في متناول الصديق و العدو ، و من حق العدو أن يبحث عن طاقة بديلة ، و لكن من حقنا أيضا أن نعيد النظر في السلع و الأنشطة الصناعية التي نحتاجها ، و نبحث عن مصادر جديدة لتوفير احتياجاتنا ، حتى لا نقع تحت ضغط الاتحاد الأوروبي أو ضغط غيره ، وقد يتحمس الكثير منا للمقاطعة الشاملة و العامة لكل منتوج يأتي من عدونا أو ممن يسانده ، و مع احترامنا لهذا الرأي ، فإن الأمور تحتاج إلى وضع خطة بديلة بحيث نستغني عن بضائعهم ، عن طريق تشجيع الصناعات المحلية و تطويرها ، و عن طريق ترشيد الاستهلاك و توعية المواطنين ، و التوقف عن الدعايات المروجة لبضائع الأعداء و من يساندهم ، و عن طريق التعاون مع الدول الصديقة و المحايدة ، و عن طريق التوسع في تبادل السلع و المنتجات العربية و الإسلامية ، ( حجم التبادل بين الدول العربية لا يزيد عن 10% ، بينما أكثر من 90% يكون مع الدول الأجنبية ، فسلاح المقاطعة يتطلب منا أن نكون مستعدين لاستعماله و الاستفادة منه ، و ليست المسألة مجرد عواطف و أماني ، و على المسلمين بمختلف شرائحهم أن يتكاثفوا لتحقيق متطلبات المقاطعة بداية من المواطن المستهلك و مرورا بالتجار و الموردين و رجال الأعمال و الاقتصاد و اصحب الشركات و رؤوس الأموال ، و وصولا إلى أصحب القرارات .
كما أن أهل العلم و الفكر من علماء و مفكرين و دعاة عليهم بيان لزوم احترام مقدسات المسلمين ، و بيان أن حرية التعبير لا تعني الاستهتار و الاستهزاء بالرسل و المقدسات ، و هذا البيان موجه للغرب الذي يدرك عقلاؤه هذه الحقيقة ، و الأعداء يحاولون تغيير مسار القضية على أن المسلمين متزمتون و لا يحترمون حرية التعبير ، فنحن نبين أننا مع حرية التعبير التي لا تهين الآخرين ، و أن السخرية و الاستهزاء ما هو إلا وقاحة و تهجم لا يرضى بها عالم و لا جاهل . و نحن المسلمون أكثر المستفيدين من حرية التعبير العاقلة و المسؤولة ،إذ نحتاج إليها بشدة للتعبير عن محاسن ديننا و عظمة رسولنا ، و علينا بيان أن الرسول الكريم هو أول من تعرض لسلب الحق في التعبير عن رسالته ، حيث قام الكفار بمنعه و محاربته هو و أتباعه لأنهم قالوا ربنا الله.
إن حرية التعبير إما أن تكون مطلقة أو مقيدة ، و لم نجد في أي دولة إطلاق حرية التعبير دون تقييد ، بل لكل دولة قيود و خطوط حمراء لا يجوز الاقتراب منها أو تعديها عند التعبير ، و علينا أن نعمل لجعل مقدسات الإسلام محمية بالقوانين في بلاد الغرب ، كما تحمي قوانينهم الكثير من المواضيع و الشخصيات ، لقد استطاع اليهود إصدار ما يحمي كيانهم و ديانتهم و قضاياهم من أي نقد موضوعي أو غير موضوعي ، لأنهم عرفوا كيف يتعاملون مع كل دولة وجدوا فيها ، فاستطاعوا إصدار القوانين من الداخل عبر تغلغلهم ، فهل نحن عازمون على استصدار ما يحمي الإسلام و المسلمين من قوانين و قرارات ؟ أم نكتفي بحرق بعض الأبنية و الأعلام ؟
نحن مع صراع مع أئمة الكفر في الغرب ، و لسنا في صراع مع كل الغرب ، و لكي نصارع من بالخارج علينا أن نتماسك من الداخل ، فنحن في حاجة إلى مناهج تعليم تغرس في المسلم الصورة الحسنة و الصحيحة و المعتدلة عن الإسلام بلا إفراط و لا تفريط ، بلا جمود و لا ميوعة ، و نحتاج إلى إعلام هادف يبني و لا يخرب ، فنحن لدينا فراغ داخلي رهيب قابل للامتلاء بالجهل و بالغلو و بالعلمانية و بالتعصب و بتقليد الغرب و الخضوع له ، فما لم نتماسك من الداخل عبر حسن الفهم والتطبيق للإسلام فإن الأذى سينالنا لفترة أطول .
إن التعايش السلمي بين الشعوب أمر نرحب به إذا قام على احترام الآخرين و عدم العدوان عليهم ، و علينا أن نعمل على ذلك مع الدول التي لا تعتدي و لا تعاون على عدواننا ، أما من يعادي الإٍسلام و المسلمين أو يعين على العدوان فلا تعايش سلمي بيننا وبينه ، و إنما هو صدام و صراع حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا ، و يومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله .(/21)
و ختاما لا ننسى أن نذكرك أخي المسلم بأن تجتهد في الدعاء لرب الأرض و السماء ، و قدم بين يدي دعائك ما تستطيع من عمل صالح ليكون وسيلة لاستجابة دعائك بأن ينصر الله الإسلام و المسلمين ، اللهم ردنا إليك ردا جميلا ، و اغفر ذنوبنا وثبت أقدامنا و انصرنا على القوم الكافرين ، و لينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز .(/22)
لماذا يعصي الناس ربهم؟
تهاني علي**
لا شك أن هناك أسبابًا تجعل العبد يجترئ على معصية ربه عز وجل، وينسى ما أمره به سبحانه وتعالى، وهذه الأسباب تتنوع، فمنها ما هو نابع من الشخص نفسه، ومنها ما هو نابع من المجتمع من حوله، ومنها ما هو مشترك ما بين الشخص والمجتمع.
وفي هذا المقال نسلط الضوء على أهم هذه الأسباب لنكشفها، حتى نحاول بعد ذلك مقاومتها والتغلب عليها، فالعلاج الناجع يبدأ بالتشخيص الصحيح للمرض، ومعرفة دواعيه وأسبابه ومقاومتها، ثم بعد ذلك تناول الدواء الشافي الذي يطهر العبد من المرض نهائيًّا، ويطرد منه العلل إن شاء الله.
1 - الغفلة عن الهدف:
إن من أشد أسباب الجرأة على المعصية: عدم إدراك المرء للهدف الذي خلقه الله عز وجل من أجله، والغاية التي ينبغي أن يعيش من أجلها.
وكثير من الناس تجد أهدافهم محصورة وقاصرة على الدنيا وعلائقها، كل همهم في الحياة إشباع شهواتهم، وإرضاء نزواتهم، والبعض لا يعلم له هدفًا أصلاً، وإنما يعيش في هذه الحياة هملاً كما يعيش الحيوان، لا يعلم لِمَ خُلق، ولا لِمَ يعيش.
وقد حدد الخالق سبحانه وتعالى للإنسان هدفه وغايته، فقال عز وجل: "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ والإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُون".
إذن، فهدف الإنسان وغايته التي ينبغي أن يعيش من أجلها، هي عبادة الله عز وجل وحده، بالمفهوم الشامل، وبكل ما تحمله كلمة العبادة من معانٍ صحيحة، وهي التي عرَّفها لنا العلماء بقولهم: (إن العبادة هي كل ما يرضاه الله عز وجل من الأقوال والأفعال، الظاهرة والباطنة).
فكل قول باللسان، وكل فعل بالجوارح، وكل شعور وإحساس ظاهر أو باطن، ينبغي أن يُوجَّه لله عز وجل، ويتحول إلى عبادة له سبحانه وتعالى، ويعني ذلك دمج كل الأهداف والغايات المحصورة والقاصرة في هذا الهدف الأكبر، وهذا الدمج يعطي لها امتدادًا ورفعة وسموًّا، يربط الإنسان بخالقه عز وجل، ويجعله ينفلت من جاذبية الطين والماء، ويحلق مع الملأ الأعلى.
2 - ضعف الإيمان:
لا شك في أن ضعف الإيمان بالله عز وجل وباليوم الآخر سبب كبير للإقدام على المعصية، فالعبد يعصي لأنه يحب شيئًا لا يحبه الله أو يبغض شيئًا يحبه الله، أما الإيمان الكامل فيجعل العبد يحب ما يحبه الله عز وجل ويبغض ما يبغضه الله عز وجل، يقول صلى الله عليه وسلم: "لا يُؤمِنُ أحَدُكُم حَتَّى يكُونُ هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جِئْتُ بِه".
والإنسان ساعة المعصية لا يرى الله عز وجل، ولا يرى ثواب المطيعين ولا عقاب العاصين، إنه لا يرى إلا لذة الذنب وتزيين الشيطان له، فهو كالعصفور الذي يرى الحب في الفخ، ولا يرى الفخ الذي فيه هلاكه، فيقتحم مُسرعًا فيهلك والعياذ بالله.
3 - الجهل بالله عز وجل وأمره ونهيه وثوابه وعقابه:
إن الجهل هو السمة المميزة للمجترئين على معصية الله عز وجل؛ لأنهم لو عرفوا ربهم معرفة صحيحة لأحبوه وعظموه وأطاعوا أمره، وعلموا أنه سبحانه وتعالى أهل لأن يُتَّقَى، ولو تعلموا دينهم وشرعهم لوجدوا بغيتهم وسعادتهم فيه، ولو علموا ثواب الله عز وجل وعقابه لرغبوا في الثواب وخافوا من العقاب.
وقد قرن النبي صلى الله عليه وسلم بين رفع العلم وثبوت الجهل وظهور المعاصي في آخر الزمان، فقال صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يُرْفَعَ الْعِلْمُ وَيَثْبُتَ الْجَهْلُ وَيُشْرَبَ الْخَمْرُ وَيَظْهَرَ الزنى".
وقال ابن القيم رحمه الله: إن النفوس الجاهلة التي لا علم عندها قد ألبست ثوب الذل والإزراء عليها والتنقص بها أسرع منه إلى غيرها.
4 - وسوسة الشيطان:
إن الشيطان هو العدو الأول للإنسان، فهو لا يهنأ ولا يهدأ له بال حتى يستدرج الإنسان إلى المعصية، وهو كما أخبر صلى الله عليه وسلم من الإنسان مجرى الدم في العروق.
والشيطان -لعنه الله- يسير معك ويستدرجك خطوة خطوة، ويقتحم بك عقبة عقبة، لا يكل ولا يمل، فقد قطع العهد على نفسه بذلك.
ولقد حدد ابن القيم -رحمه الله تعالى- ثلاث جهات يدخل منها الشيطان على العبد: الإسراف في المباحات، والغفلة عن ذكر الله، وتكلُّف ما لا يعنيه.
5 - الاغترار بعفو الله:
كثير من الناس يقضي عمره يجمع المعاصي والسيئات، ومع ذلك يتعلق بحبال الأماني، وعنده أمل في أن يدخل الجنة بغير حساب، أو لا تمسه النار إلا أيامًا معدودة.
وتجد هؤلاء يتعلقون بأن الله عز وجل غفور رحيم، وأنه يتجاوز عن السيئات ويعفو ويصفح ويغفر، وينسون أن الله عز وجل كما أنه غفور رحيم لمن تاب وأناب، فهو سبحانه وتعالى منتقم جبار لمن عصى واستكبر. وقد قال عز وجل في سورة الحجر: "نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الغَفُورُ الرَّحِيمُ * وأَنَّ عَذَابِي هُوَ العَذَابُ الأَلِيمُ".
6 - القنوط من رحمة الله:(/1)
إن بعض العصاة يستعظمون ذنوبهم، وييأسون من إمكانية غفران الله عز وجل لهم؛ وذلك لأنهم أفنوا سنوات طويلة من أعمارهم غارقين في الرذيلة، لا يتورعون عن حُرمة، مضيعين للفرائض، متبعين للشهوات، متعدين للحدود!!. فيظن الواحد من هؤلاء أنه هالك لا محالة، وأنه سيدخل النار حتمًا، فيجعله هذا الاعتقاد يستمر في عصيانه، ويترك قياده للشيطان يجره حيث شاء!!.
ولقد نسي هذا وأمثاله أن مغفرة الله عز وجل أوسع وأكبر من ذنوبهم وإن كثرت، وأن رحمته سبحانه وتعالى لا تضيق يومًا بخطاياهم وإن تفاقمت، فقد قال عز وجل في سورة الزمر: "قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيم". إن الخوف من الله عز وجل مطلوب، ولكن المبالغة فيه قد تنتهي بالإنسان إلى اليأس من روح الله، والقنوط من رحمته.
7 - الاحتجاج بقدر الله:
من الناس من يقول: ما دام كل شيء بقدر الله، فإن الله إذا شاء أن يهديني اهتديت وأقلعت عن المعصية، وإن لم يشأ أن يهديني فلن أهتدي!!.
وهذه حجة باطلة لا يُقصَد بها إلا الهروب من مواجهة النفس بالحقيقة، فإن الله عز وجل الذي أخبرنا أن كل شيء خلقه بقدر، هو نفسه سبحانه وتعالى الذي أمرنا بطاعته ونهانا عن معصيته، ووعدنا الجزاء الأوفى يوم القيامة.
ولو أن هذا المتكاسل عن العبادة النشيط في المعصية، قيل له: لا تستذكر دروسك، ونم طول العام، ولو قُدِّر لك النجاح ستنجح، أو إذا مرض قيل له: لا تذهب إلى الطبيب ولا تأخذ دواءً، ولو قُدِّر لك الشفاء ستُشفى، لو قيل له ذلك لهب قائلاً: إن كل نتيجة لها سبب يؤدي إليها، ولا بد من الأخذ بهذا السبب لتحقيق هذه النتيجة، فالاستذكار سبب لحصول النجاح، والتداوي سبب لحصول الشفاء!!.
لماذا نحتج بالقدر في أمر الدين والآخرة، ونأخذ بالأسباب ونجتهد في أمور الدنيا؟!.
8 - الاحتجاج بحسن النية:
كثير من الناس يحتجون على انحرافهم ومعاصيهم، وتقصيرهم في القيام بفرائض الإسلام، بحسن نواياهم، وأن الله سبحانه وتعالى رب قلوب، وأنه طالما أن القلب سليم، والنية صالحة فلا تضر المعصية، ولا يضر ترك الفريضة!!.
وقد تضافرت النصوص الشرعية التي تأمر بإصلاح الباطن، مع النصوص الشرعية التي تأمر بإصلاح الظاهر، وبالعبادات والتكاليف الظاهرة، وعلى المسلم أن يجمع بين هذه النصوص وتلك، فيصلح ظاهره وباطنه معًا، فأنت مطالب بإصلاح الاثنين، الظاهر والباطن، وليس أحدهما فقط. يقول عز وجل في سورة الأنعام: "وذَرُوا ظَاهِرَ الإثْمِ وبَاطِنَهُ إنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ". وقديمًا قالوا: الطريق إلى جهنم مفروش بالنوايا الحسنة.
9 - طول الأمل:
طول الأمل معناه أن يعتبر الإنسان أن الحياة ستمتد معه وتطول، وأن الموت لا يزال بعيدًا، وأن في العمر متسعًا لمزيد من اللهو والغفلة، والسير في ركاب الشيطان.
وطول الأمل يجعل الإنسان غافلاً عن حقائق كثيرة، وغفلته عن هذه الحقائق لا يجعلها أوهام، ولا يعفيه من التعرض لها، فإنها ستظل حقائق سواء صدَّق بها أو كذَّب، تذكرها أم غفل عنها. فمن هذه الحقائق: حقيقة الموت، وحقيقة الحياة في القبر في عذاب أو في نعيم، وحقيقة البعث يوم النشور، وحقيقة العرض على الملك الجبار، والسؤال عن القليل والكثير، وحقيقة المرور على الصراط، وحقيقة الخلود، إما في جنة عرضها السموات والأرض، وإما في نار وقودها الناس والحجارة. ومن هذه الحقائق أيضًا: حقيقة ضمان الرزق والأجل، وحقيقة حقارة الدنيا وهوانها على الله عز وجل.
10 - حب الدنيا:
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "حُبُّ الدُّنيَا رَأْسُ كُلِّ خَطِيئَة"، وقال أيضًا صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَحَبَّ دُنْيَاهُ أَضَرَّ بِآخِرَتِهِ، وَمَنْ أَحَبَّ آخِرَتَهُ أَضَرَّ بِدُنْيَاهُ، فَآثِرُوا مَا يَبْقَى عَلَى مَا يَفْنَى".
وقال يحيى بن معاذ: الدنيا خمر الشيطان، من شربها لم يفق إلا بين عساكر الموتى، نادمًا بين الخاسرين، قد ترك منها لغيره ما جَمَع، وتعلق بحبل غرورها فانقطع، وقدم على من يحاسبه على الفتيل والنقير والقطمير، فيما كُتِبَ عليه من الصغير والكبير، يوم تزل بالعُصاة القدم، ويندم المسيء على ما قدم.
11 - اتباع الهوى:
يقول صلى الله عليه وسلم: "الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا، وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ". ويقول أيضًا: "ثَلاثٌ مُهْلِكَات: شُحٌّ مُطَاعٌ، وهَوًى مُتَّبَعٌ، وإعْجَابُ المَرْءِ بِنَفْسِهِ".
وقال السلف: إنما سُمِّي هوى؛ لأنه يهوي بصاحبه في النار. والهوى يدعو إلى تحصيل اللذة الحاضرة من غير تفكير في العاقبة، ويحث على نيل الشهوات عاجلاً، وإن كانت سببًا للألم والأذى في العاجل، ومنع لذات في الآجل.(/2)
12 - اقتحام الشبهات:
والشبهات هي الأمور المختلطة التي لا يعلم كثير من الناس، أحلال هي أم حرام، وقد قيل: الشبهة أخت الحرام. فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الْحَلالَ بَيِّنٌ، وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَن اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ، أَلا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلا وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ".
13 - الكِبْر:
يقول عز وجل في سورة البقرة: "وإذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ العِزَّةُ بِالإثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ ولَبِئْسَ المِهَادُ"، إن هذه صفة الكافر والمنافق الذاهب بنفسه زهوًا واختيالاً، يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: كفى بالمرء إثمًا أن يقول له أخوه: اتق الله، فيقول: عليك بنفسك، مثلك يوصيني!.
وبهذا الداء امتنع عبد الله بن أبي بن سلول عن الإيمان، وبه تخلف الإيمان عن أبي جهل، وكذلك سائر المشركين، فإنهم كلهم لم يكونوا يرتابون في صدقه صلى الله عليه وسلم، وأن الحق معه، ولكن حملهم الكبر على الكفر والعناد.
14 - مخالطة أهل المعاصي وقرناء السوء
قال بعض السلف: ليس شيء أضر على القلب من مخالطة الفاسقين والنظر إلى أفعالهم. وقُل لي من صاحبك، أقول لك من أنت.
ومخالطة العصاة تجعل القلب يألف المعصية ويجترئ عليها، فينساق وراء العصاة وهو لا يدري. والرفيق السيئ قاطع طريق بينك وبين الله، فكلما سلكت درب الله عز وجل حاول أن يصرفك عنه إلى طريق الغواية، وعندما يأتي يوم القيامة سيتبرئ منك، ويلقي باللوم كله عليك، وساعتها تتمنى لو أعطيت لك الفرصة لتتبرأ منه كما تبرأ هو منك، ولكن لا تجد سوى الحسرة والندم، يقول رب العزة سبحانه وتعالى في سورة الفرقان: "ويَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا ويْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إذْ جَاءَنِي وكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإنسَانِ خَذُولاً".
15 - شيوع الفتن وفساد المجتمع:
من الناس من يعرض عن دينه، وينهمك في المعاصي، ويقول: أكثر الناس يفعلون هكذا، لماذا أخالف الكثرة؟ ولماذا أشذ عن المجتمع؟ إني أفعل كما يفعل الناس!! وهل معقول أن هذه الكثرة الغالبة على خطأ؟ وهل سيعذب الله عز وجل كل هؤلاء الناس؟.
أما سمع من يقول ذلك ويغتر بهذه الشبهة الفاسدة، آيات القرآن الكريم التي نزلت تتْرى لتحذر الناس من الاغترار بالكثرة العاصية الهالكة؟؟
يقول عز وجل في سورة الأنعام: "وإن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ"، ويقول في سورة يوسف: "ومَا أَكْثَرُ النَّاسِ ولَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ"، ويقول في سورة الأعراف: "ولَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ".
كما أن النبي صلى الله عليه وسلم أوضح لنا أن الله عز وجل لا يبالي بكثرة العاصين وقلة الطائعين، ولا يضره سبحانه وتعالى أن يعذب أهل الأرض جميعًا إن عصوه، والدليل على ذلك أن نسبة من يدخل الجنة إلى من يدخل النار هي واحد في الألف!!. فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يَقُولُ اللَّهُ: يَا آدَمُ.. فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ.. قَالَ: يَقُولُ: أَخْرِجْ بَعْثَ النَّارِ.. قَالَ: وَمَا بَعْثُ النَّارِ؟ قَالَ: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعَمِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ".
فهل تضمن أن تكون أنت هذا الواحد بين ألف ممن حولك؟؟.
فينبغي للمسلم أن يأنف لنفسه من أن ينعق مع الناعقين، ويسدر مع السادرين، ويحمل المباخر للعصاة الظالمين، ويسير في ركابهم، متخليًا عن دينه وعقيدته، تائهًا في زحامهم، بل ينبغي له أن يقاوم الذوبان في هذه اللجة، مستعينًا بالله عز وجل، وبالرفقة الصالحة والغرباء من أمثاله، يقول صلى الله عليه وسلم: "لا تَكُونُوا إِمَّعَةً، تَقُولُونَ: إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنَّا، وَإِنْ ظَلَمُوا ظَلَمْنَا، وَلَكِنْ وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ: إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَنْ تُحْسِنُوا، وَإِنْ أَسَاءُوا فَلا تَظْلِمُوا".
وليس الضعف وكثرة العصاة بعذر مقبول عند الله عز وجل للمُضِي في طريق المعصية، فأرض الله واسعة، وفي الهجرة مندوحة للمستضعفين، إن لم يستطيعوا حماية دينهم وعقيدتهم، يقول عز وجل في سورة النساء: "إنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ المَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وسَاءَتْ مَصِيرًا".(/3)
فلا تستوحش الطريق أخي الحبيب، لقلة سالكيه، ولكن اطمئن لوعد الله ووعد رسوله، واعلم أنك على الحق المبين.
16 - اختلاط المفاهيم والمصطلحات:
أحيانًا ما يطلق الناس -بحُسْن نية أو بسوء نية- بعض المصطلحات والمفاهيم، ويسمون الأشياء بأسماء معينة، فتكتسب الأسماء أو المسميات معانٍ أخرى تخالف الحقيقة، فتجعل الحرام حلالاً، والمفروض مكروهًا ومُعابًا.
وتشيع تلك الأسماء والمصطلحات والمفاهيم، فيحدث نتيجة لذلك سوء الفهم، وتنشأ الشبهات، وتشتد الخصومات.
من هذه المصطلحات: (التعصب)، و(التطرف)، و(الرجعية)، و(الإرهاب)، و(المجاملة). ومن هذه المفاهيم: (العمل عبادة)، و(روح الشريعة لا نصوصها)، و(الدين يُسر).
ولو نحينا تلك المصطلحات المحدثة، والمفاهيم المغلوطة في ذاتها، أو المغلوطة في فهم معانيها، ورجعنا عن هذه الأسماء العرفية، ورجعنا إلى الأصول الصحيحة لها، لتبين لنا وجه الحق.
17 - سلطان العادة:
وهذا السبب وإن كان أضعف الأسباب فهو أغلبها على الناس، فدين العادة هو الغالب على أكثر الناس، والانتقال عنه كالانتقال من طبيعة إلى طبيعة ثانية. ولذا قيل: "خير عادة ألا تكون لك عادة".
18 - ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن السكوت عن المنكر إذا علم به المرء أو رآه، وكان في استطاعته تغييره دون مفاسد، فإن السكوت على المنكر من أفظع الأمور التي تضيع كرامة المرء في الدنيا وتوجب العقاب الشديد في الآخرة.
وبيّن أن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبب للعنة، فقال عز وجل في سورة المائدة: "لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ"، وقال صلى الله عليه وسلم معلقًا على هذه الآية: "إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمَّا وَقَعَ فِيهِمْ النَّقْصُ، كَانَ الرَّجُلُ فِيهِمْ يَرَى أَخَاهُ عَلَى الذَّنْبِ فَيَنْهَاهُ عَنْهُ، فَإِذَا كَانَ الْغَدُ لَمْ يَمْنَعْهُ مَا رَأَى مِنْهُ أَنْ يَكُونَ أَكِيلَهُ وَشَرِيبَهُ وَخَلِيطَهُ، فَضَرَبَ اللَّهُ قُلُوبَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ، وَنَزَلَ فِيهِمْ الْقُرْآنُ"، وَكَانَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُتَّكِئًا فَجَلَسَ، فَقَالَ: "لا، حَتَّى تَأْخُذُوا عَلَى يَدِ الظَّالِمِ فَتَأْطُرُوهُ عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا".
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجنبنا طرق وأسباب معصيته، وأن يهدينا إلى طريق طاعته وتقواه، وأن يبلغنا رضاه.. اللهم آمين.
** داعية وكاتبة مصرية(/4)
لماذا ينقمون على المجاهدين؟
بقلم: خباب بن مروان الحمد
لن تنضج فصائل العمل الإسلامي بجميع أطيافها، إلاَّ باستمرار التداول فيما بينهم بالنقد والتوجيه، والنصح والتقويم، وتحمُّل بعضهم البعض في نقد الأعمال والتوجُّهات المغايرة للمنهج الإسلامي القويم .
ولا أظن أنَّ أحداً يجادل في أهمية النقد البنَّاء لجميع أشكال العمل الإسلامي سواء الفكرية أو العلمية أو السياسية أو التربويَّة ... فإنَّ العمل البشري سيبقى معرَّضاً للخلل والقصور، ويبقى الكمال لله عزَّ وجل.
وفي هذا الزمن الذي يصح أن يوصم بأنَّه زمن صراع وقتال بين أهل الإيمان وأهل الكفر، فإنَّ فيه للمجاهدين في سبيل الله دوراً كبيراً في الدِّفاع عن حياض الإسلام، ودفع العدو الصائل الذي يفسد الدين والدنيا معاً، ورد كيد العتاة ومغتصبي حقوق المسلمين وبلادهم وأعراضهم.
وحيال جهود المجاهدين، نجد أنَّ هناك أناساً لا يهنأ لهم بال، ولا يقرُّ لهم قرار إلاَّ بالقدح فيهم، ولمزهم، والسخرية منهم، والتندّر بأحوالهم، بل الإقذاع في ذلك وكأنَّهم مجرمون إرهابيُّون!
وحسبي في هذا المقال أن أخاطب من خلاله شريحتين لهما دور واضح في تسفيه جهود المجاهدين، وكثرة البَرَم منهم والحديث في وسائل الإعلام عنهم لتشويه صورتهم، والتنقيص من قدرهم وهما:
1. من يسمُّون أنفسهم بالإسلاميين الليبراليين، الذين يتصدَّرون الوسائل الإعلاميَّة بالقدح واللمز والتشويه للمجاهدين في سبيل الله.
2. بعض المنتسبين لأهل العلم ـ وإن كانوا قلَّة ـ والذين يحقِّرون من جهود المجاهدين، ويقولون لا جهاد حقيقياً وصحيحاً في هذا الزمان، بل جميع الحركات المنتسبة للجهاد حركات عميَّة جاهليَّة!
وحقَّ لنا أن نعجب من هؤلاء القادحين كيف يسمحون لأنفسهم بأن يكونوا نوَّار فتنة، ومشعلي حربٍ ضروسٍ، ضدَّ أناس خرجوا بأنفسهم وأموالهم ابتغاء رضا الله ـ تعالى ـ ؟! فهم معرَّضون للقتل والاستشهاد في سبيل الله، بل هؤلاء المجاهدون يدافعون عن حرمات المسلمين وعن هؤلاء الذين يلمزونهم، ويحتقرونهم.
نعم ... إنَّ المجاهدين غير معصومين فهم بشر تعترضهم الأخطاء، وينتابهم القصور، ويقعون في الزلل، ولا شك في ذلك، بل إنَّهم لا يدَّعون ذلك لأنفسهم، فهم يطلبون من المسلمين المناصرة والمناصحة على حدٍّ سواء.
ولكن هل المنهج العلمي الصحيح يُبيح لهؤلاء اللاَّمزين أن يُقدِموا على لمز المجاهدين، والطعن فيهم واتِّهامهم بالإرهاب والتطرف؟
وهل مثل هذه العبارات يلمس من ورائها نصحٌ وتذكير للمجاهدين ، أو نقد بنَّاء يصبُّ في مصلحة الإسلام والمسلمين؟
والجواب عن ذلك: يستحيل أن يكون الهزء بالمجاهدين وحركات الجهاد في سبيل الله من قبيل النصح، والفرق بين ذلك واضح.[1]
- تقويم الخطأ بالنصح والتوجيه لا بالسخرية والتسفيه :
إنَّ المنهج الصحيح وهو منهج أهل السنَّة والجماعة يقرر أن لا أحد فوق النصح، ولا يعني أنَّه إذا أخطأ المجاهدون في سبيل الله أنَّهم لا يُنصحون ولا يُبيَّن لهم خطؤهم وقصورهم، ولكن تبيين الخطأ شيء واللمز من طرف خفي شيء آخر، وكذلك التبرؤ من بعض الأفعال الخاطئة شيء والتبرؤ من الشخص الفاعل شيء آخر، إنَّها موازنة تقتضي الإنصاف والعلم والعدل.
قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة:(ولهذا كان النبي ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ يستعمل خالد بن الوليد على الحرب، منذ أسلم، وقال: ( إنَّ خالداً سيف سلَّه الله على المشركين) مع أنَّه أحياناً قد كان يعمل ما ينكره النبي ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ، حتَّى إنَّه ـ مرَّة ـ قام ثمَّ رفع يديه إلى السماء وقال: ( اللهم إنِّي أبرأ إليك ممَّا فعل خالد ) لمَّا أرسله إلى بني جُذَيْمة فقتلهم، وأخذ أموالهم بنوع شبهة، ولم يكن يجوز ذلك، وأنكره عليه بعض من معه من الصحابة، حتَّى وَدَاْهُم النبي ـ r ـ ، وضمن أموالهم؛ ومع هذا فما زال يقدِّمه في إمارة الحرب؛ لأنَّه كان أصلح في هذا الباب من غيره، وفعل ما فعل بنوع تأويل)
وكلام شيخ الإسلام دقيق ، فكما أنَّ العلماء يخطئون وكذا التجَّار والأطبَّاء والمهندسون؛ فإنَّ المجاهدين كغيرهم في هذا الأمر، إلاَّ أنَّ الفارق في طريقة تقويم الخطأ ما بين ناصح أو حاقد، فالناصح يبيِّن الحق، ويذكر سبب الخطأ، ثمَّ يذكر الوجه الصحيح لعلاج ذلك، وأمَّا الحاقد فإنَّه لا يفتأ يلمز ويهمز في المجاهدين، وشتَّان شتَّان ما بين الأمرين !
ولننظر لطريقة القرآن الكريم في تقويم أخطاء المجاهدين، فحين لم يلتزم الرماة في غزوة أحد بأمر رسول الله ـ r ـ ونزلوا لأرض المعركة مع أنَّه ـ r ـ أمرهم بأن يلزموا مكانهم، ولا ينزلوا لأرض المعركة إلاَّ حين انتهائها بينهم وبين كفَّار قريش، إلاَّ أنَّهم استعجلوا الأمر ونزلوا لأرض المعركة قبل انتهائها، وبعد هزيمتهم تساءلوا: ما السبب في ذلك؟(/1)
قال الله تعالى: ? أولمَّا أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنَّى هذا قال هو من عند أنفسكم ?، ففي هذه الآية بيَّن ـ سبحانه وتعالى ـ خطأ أولئك المجاهدين، إلاَّ أنَّه ـ عزَّ وجل ـ لم يقدح في عدالتهم، أو يشكِّك في نيَّاتهم.
وذلك لأنَّ هؤلاء لهم دور كبير في نصرة الإسلام، والمنهج الإسلامي في عمليَّة النقد متوازن وموضوعي في الوقت ذاته، فالعتاب وتبيين الخطأ لكلِّ من أخطأ فريضة إسلاميَّة، ولكنَّ ذاك الخلل ينبغي أن يغتفر في الحسنات الكثيرة التي أصاب بها المخطئ، وكثيراً ما كان يركِّز ابن القيِّم ـ رحمه الله ـ على ذلك ويستشهد بحديث رسول الله ـ r ـ: (إذا كان الماء قلَّتين لم يحمل الخبث). وكذلك فإنَّه يقول :" أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم" ، وبهذا يكون الاتزان في منهج التعامل مع أخطاء ذوي الأقدار والمروءات.
وعلى ضوء هذه الآيات والأحاديث ينبغي أن ننتهج بنهجها، وحرّي بنا أن نسير في مضمارها، بدون تلكؤ ولا ارتياب ؛ ذلك أنَّ الآيات والأحاديث كلام ليس بالأغاليط بل هو وحي يوحى، فأين هؤلاء القادحون من هذا؟
* خطورة التشبُّه بالمنافقين في نقد المجاهدين :
إنَّ المرء المسلم ينبغي عليه أن يكون حذراً لدينه في أن يكون مشابهاً للمنافقين في بعض أحوالهم، ومن قرأ سورة الأحزاب بتأمُّل سيجد فيها وصفاً لحال أولئك المنافقين الذين ما فتئوا يقدحون برسول الله والعصابة المؤمنة المجاهدة من الجيل الأول رضوان الله عليهم.
والعجب من هؤلاء المغتابين الهمَّازين للمجاهدين أنَّهم حين يتكلَّمون عن المخالفين لشرع الله، أو الكفَّار عموماً حتَّى المحاربين منهم فإنَّك تجدهم يتوقَّون أشدَّ التَّوَقّي للكلمات التي لا تثيرهم عليهم ولا تستفزُّهم؛ ويطالبون الناس بالعدل معهم، وإنصافهم؛ خشية إثارة مشاعرهم بل يجادلون عنهم ، مع أنَّ الله سبحانه يقول:? ولا تكن للخائنين خصيماً * واستغفر الله إنَّ الله كان غفوراً رحيماً * ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إنَّ الله لا يحبُّ من كان خوَّاناً أثيماً? ويقول ـ تعالى ـ محذِّراً من مغبَّة فعل: ?هاأنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أمَّن يكون عليهم وكيلاً ?.
وفي مقابل ذلك تجد الكلمات التي يقتبسونها من قاموس المجرمين ليطلقوها ويلصقوها بالمجاهدين، وفي حال سماعهم إشاعة عن مجاهد أو اتهاماً له سارعوا بإذاعة ذلك بكل وسيلة ممكنة، وكأنَّ لحومهم مسموح لها التعرُّض بالقيل والقال، فهل هذا عدل وإنصاف؟!
نعم ! إنَّي لا أنكر أنَّه يتوجَّبُ علينا أن نكون متحرِّين لنقاوة الجهاد، وناصحين لإخواننا المجاهدين في كل صقع محتل من أصقاع المسلمين، بألاَّ يصيب جهادهم خللٍ ولا خطأ ولا دخل، ولكن لا يكون ذلك إلاَّ بالأساليب الطيِّبة النافعة، التي لا تستغلُّها الوسائل الإعلاميَّة للقدح فيهم، وتشويه صورتهم.
وقبل الختام :
فقد أجمع علماء الإسلام على حرمة الغيبة والسخرية بالمسلمين، وعدُّوها من كبائر الذنوب، وعلى هذا فإنَّه يجدر بنا أن يكون لدينا دور تجاه الذَّبِّ عن أعراض المجاهدين قدر الإمكان، فإنَّهم قوم خرجوا بأموالهم وأنفسهم لا يبتغون إلاَّ ما عند الله عزَّ وجلَّ من الأجر العظيم، والثواب الجزيل، بل هم حرَّاس الدين وحماته في هذا الزمان وفي كل زمان، فكيف يَليق بنا أن نقدح فيهم وهم الذين كان لهم الدور الكبير في صدِّ عدوان المعتدين؟!
لهذا فإنَّ اللاَّمزين للمجاهدين والقادحين فيهم، لا يقال لهم إلاَّ ما قاله الشاعر العربي الأوَّل:
أقلُّوا عليهم لا أبا لأبيكم من اللوم
أو سدُّوا المكان الذي سدُّوا
لقد وصف رسول الله ـ r ـ المجاهدين بالخيرية فقال:" خير الناس في الفتنة رجل معتزل في ماله يعبد ربَّه ويؤدي حقه، ورجل آخذ بعنان فرسه في سبيل الله يخيفهم ويخيفونه"[2] ؛ بل جعل رسول الله ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ من صفات الطائفة المنصورة طائفة مجاهدة في سبيل الله في عدد من الأحاديث النبويَّة ساق الإمام مسلم فيها ثلاثة أحاديث .
ولنتذكر إنجازات المجاهدين الأبرز في تحقيق المناعة للأمَّة ، بمواردها واقتصادها وسيادتها ، وكيف أنَّهم قاموا بمنع أفكار التمدُّد ـ أو تأخيرها على الأقل ـ في الغزو الصهيوصليبي لديار المسلمين وأراضيهم، وعلى سبيل المثال : فنحن لا ننسى كيف كان اليهود يقولون: أرضك يا إسرائيل من الفرات إلى النيل ، وهم يتمنَّون إقامة أرض إسرائيل الكبرى ، بيد أنَّهم حين رأوا قوَّة المقاومة في فلسطين ، وإضعافهم لقوَّتهم ، بدؤوا يضعون الحواجز والجدار العازل بينهم وبين الفلسطينيين ، وينادون كذلك بأهميَّة تحديد وترسيم حدود إسرائيل ، وهذا لم يتأتَّ إلاَّ بفعل ضربات المقاومة الجهاديَّة في أرض فلسطين .
إنَّها دعوة لنستشعر الأحاديث النبويَّة الواردة في ثواب من ذبَّ عن عرض أخيه المسلم .(/2)
وأخيراً : فإنَّ على المجاهدين أن يكون لديهم رحابة في الصدر لمن ينقد بعض أعمالهم، ولو قسَوْا في ذلك، ولا يكون لديهم حساسية تجاه هذا الأمر، بل يستمعوا لكلِّ ناصح وناقد، ولو اعتدّوْا في نقدهم، فليأخذوا ما وجدوه موافقاً للحقِّ في ذلك، وينتهوا عنه، ويتركوا سخرية المستهزئين، والله الموعد لكلِّ من تربَّص، وكذلك فليحذروا من المخترقين للصفوفهم، أو المتسلِّلين بينها لتشويه صورة جهادهم، فإنَّ ذلك أمر لا تخفى أهميَّته على كلِّ مجاهد. ويوم القيامة ينتظر الجميع وليس عنه مفر، ليحيى من حيَّ عن بيِّنة، ويهلك من هلك عن بيِّنة، وكفى بربِّك هادياً ونصيراً، وإذا كانت لحوم العلماء مسمومة، فإنَّ لحوم المجاهدين كذلك مسمومة وإنَّ هذا العصر عصر الجهاد والمقاومة وهو في أعلى مراتب الأولويات !(/3)
لماذا ينكر علينا الحزبيّون ممارسة النّقد؟
... الحلقة الأولى
بقلم: خميس بن عليّ الماجري(1)
الحمد لله الّذي يطفئ ظلم البدعة بنور السّنّة، ويمحو طرق الضّلالة بسبل الهداية، و يرجم الرّأي والهوى بالدّليل والبرهان، حفاظا على دين الأمّة من التّحريف، وسلامة لعقيدتها من التّبديل، وحماية لوحدتها من التّفرّق. و من رحمة الله تعالى بأمّته ونصرة لشريعته أن جعل خلفاء عدول لرسله يقيم بهم الحجّة وينصر بهم المحجّة فينفون عن شرعه تحريف الغالين وآنتحال المبطلين وتأويل الجاهلين وتزييف المصالحيّين " الذين عقدوا ألوية البدعة، وأطلقوا عنان الفتنة، فهم مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب، متفقون على مخالفة الكتاب، يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم، يتكلّمون بالمتشابه من الكلام، يخدعون الجهّال بما يلبسون عليهم ". من كلام الإمام أحمد.
إنّ الله تعالى لم يجعل لهذا الدّين نسخا، ولا لشيء من شريعته وإن قلّ أو دقّ فسخا، ولكن تناله أيدي المحرّفين أصحاب الشّبهة وعبّاد الشّهوة فينالون من الوحي بالتّبديل وبالإخفاء وبالكتمان، فيتقيّؤون الفكر الطّائش، والرّأي البائس، ويجنّحون بأهوائهم الوضيعة، وعقولهم الخفيفة، ومغامراتهم الفاشلة، فأفسدوا علينا ديننا وما أفسده إلاّ الدّخلاء ـ أسأل الله الهداية للجميع ـ. قال الإمام إبن حزم رحمه الله تعالى :" لا آفة على العلوم وأهلها أضرّ من الدّخلاء فيها وهم من غير أهلها، فإنّهم يجهلون أنّهم يعلمون، ويفسدون ويقدرون أنّهم يصلحون " مداواة النّفوس ص67.
وما أن يفارق المسلم الكلالة و يريد أن يكون فاعلا شاهدا يقوم بواجبه للدّفاع عن دينه من تشويش الملبّسين وتحريف " الوسطيّين “ـ الذين علا صوتهم هذه الأيّام و آتّخذوا دينهم مطيّة لأهوائهم ـ حتّى تقام عليه حملة شرسة ويسلّطون عليه كلّ مفردات التّنظيمات التي تنطق بآسم الدّين فيشهرون عليه سيوفهم التي لم يرفعوها يوما على الملحدين والمرتدّين والعلمانيّين في بلادنا الإسلاميّة العريضة، ويقذفونه بكلّ ألوان السّبّ والشّتيمة ويتعلّلون بتعلاّت فاسدة يريدون بها تلبيس الحقّ بالباطل. وآنظر أخي القارئ إلى الحوارات التي تدور بين الإسلاميّين في مواقع الإنترنت فهو يكشف المستوى المؤلم لواقع الحركة الإسلاميّة الذي تجاوز الأدب والتّواضع للحقّ والإنتصار له والإذعان إليه عوض الإنتصار للأحزاب والجماعات والفرق ولرجالاتهم. إنّ طبيعة التّنظيمات التي تتغطّى بآسم " الله " وتتدثّر بأنّها " الأمينة " على " كلمة الله "، ما إن تنتقد مناهجها وتراجع أفكارها نصرة للمنهج، و نصحا للعباد، وتصحيحا لمساراتهم، وتسديدا لإخلالاتهم، حتّى تتنزّل عليك صكوك الحرمان وتقدّ لك ملصقات النّيران من مثل الوقوف في مربّع الطّاغوت والولاء له والعمالة والخيانة للإسلام والخارجيّة وتصفية الحسابات وحبّ الزّعامة والتّشدّد والتّطرّف والتّشنّج والتّكفير وما إلى غير ذلك من الفوضى حتّى ليخيّل إليك أنّ " إخوان العقيدة " ليسوا في الحقيقة إلاّ مشروع إستبداد أكثر توحّشا من الطّواغيت، ذلك لأنّ خطورتهم تكمن أنّهم يتكلّمون بآسم الله أوّلا وآخرا.
فكيف يكون هؤلاء مشروع مصالحة وسلام وأمن وهم رفعوا السّيف على من خالفهم من إخوانهم، فكيف سيكونون مع الآخرين ؟ فمن يصدّق شعاراتهم التي يرفعونها وهم يؤوّلون ويحرّفون ويزوّرون كلّ قول يخالف مناهجهم المتناقضة وخياراتهم الضّعيفة التي نحتوها بأيديهم فعبدوها مكرّسين عقائد الجبريّة المحافظة على أسوأ " القيادات " وأوهن السبّل .. إنّ من المسلّمات الغريبة في منطق بعض أطياف الحركة الإسلاميّة أنّه ما دامت الحركة مضطهدة و لم تحصل على إستحقاقها السّياسي وطالما أنّ المظلمة ما زالت مسلّطة عليها، فالصّمت عمّا بدا لك من كوارثهم الفكريّة ومناهجهم العمليّة هو " الشّريعة الواجبة " وإن لم تفعل فأعدّ نفسك ضمن قائمة الفريسة السّمينة والأطباق الشّهيّة لذبحهم ضمن الموضة الرّائجة المتساوقة مع الحرب الجديدة على " الخوارج والتّكفيريّين والوهّابيّين "، لا يكبحهم وعيد ولا يخيفهم تهديد.(/1)
فهل يريد هؤلاء أن تؤبّد الكوارث حتّى لكأنّها تصير رصيدهم الوحيد من أجل المحافظة على مصالحهم أو لكأنّهم يناضلون من أجل بقائها لأنّها صارت ركازهم السّياسي الوحيد. والغريب أنّ هؤلاء يعشقون نقد الخصم السّياسي الجاثم على السّلطة دون وخز ضمير، ويعلّقون كلّ الكوارث عليه دون نقد ذاتي أو تحمّل وزر قليل في ذلك،ويزداد الأمر غرابة عندما يشرعون حقّ الإنكار على السّلطة ويجعلون ذلك من مفاخرهم، وتراهم ـ في المقابل ـ ينكرون على كلّ من ينتقدهم، فهذا الأستاذ راشد الغنّوشي يفتخر بأنّ من قيم أفراد المسجونين في البلد أنّهم " تعلّموا في مدرسة الإسلام أنّ السّاكت عن الحقّ شيطان " قاله في الذّكرى الثّالثة والعشرين للإعلان عن حركته "، أمّا من ينتقد مناهجه المختلفة والمتناقضة، فهو عندهم شيطان رجيم. نسأل الله الثّبات والعافية والسّتر. إنّ الحزبيّة الّتي نعرفها جيّدا والّتي أنقذنا الله تعالى منها، عصبيّة مقيتة توظّف جيشا من البله والدّراويش لوأد النّقد وردم النّصح وتعطيل جهاد المبتدعة وتعويقهم بحجج فاسدة وبمقولات ماكرة منها : أنّ الرّدّ على المخالف يهدّد وحدة الجماعة، ويشمت فينا الأعداء، ويغسل الصّابون خارج البيت الواحد، وأنّه غيبة محرّمة، وأنّه يأكل حسناتك، وأنّ هذا يعطي الحقّ لمن تنتقدهم أن ينالوا منك، لماذا لا تردّ على العلمانيّين، لماذا لا تنتقد السّلطة، وأنّك تحرّك المياه الرّاكدة، وأنّك تسبّب الخلاف، وأنّك تريد فضح المسلمين، وأنّ هذا من النّتن، وأنّك تقطع الرّحم، وأنّك سيّئ الخلق، وأنّ هذا فتنة، وأنّ هذا تصفية للحسابات وليس دفاعا عن الدّين، وأنّ هذا من أجل البروز والظّهور و الزّعامة وأنّك تدّعي آمتلاك الحقيقة، وأنّ هذا قدح في " القيادة الشّرعيّة " ، وأنّك تخالف السّنّة الآمرة بالسّتر واللّين واللّطف، وقد يخوّفونك بسوء خاتمتك تهوّكا وتطلّعا على الغيب، وغير ذلك ممّا لا يتصوّر من جعبة المفلسين الّذين يرجمون بالغيب، وكلّ ذلك يعدّ من العاطفة المزيّفة والمجاملات التي تدافع عن الباطل الحزبيّ وتهين الحقّ الشّرعي ّ... كلّ هذا وغيره كثير يقال لكلّ مسلم يذبّ عن تخليط الحزبيّين ونيلهم من الشّريعة، ووالله لقد سلم منهم أعداء الله ورسوله ومن لطّخت أيديهم بدماء المسلمين وأعراضهم، ومدّوهم بالألقاب ومدحوهم بالكلام ومدّوهم بالأموال، لمجرّد كلمات قالوها في " الخصم المشترك ". فلا إلاه إلاّ الله ولا حول ولا قوّة إلاّ باللّه. ووالله لقد آنفرط من حولهم المئات الذين رحتهم أنفسهم فتخلّوا عن كلّ شيئ بما فيها الصّلاة والعقيدة، ولم يتحدّثوا عنهم ولم يأسفوا عليهم، بل كلّ الذي شغلهم وأزعجهم من واصل يجتهد من أجل دينه.
ولا يختلف أهل الحقّ أنّ تلك التّهم التي تنال من المصلحين وهذه الأقوال التي ذكرتها آنفا، فيها الحقّ وفيها الباطل، أو قل هي كلمات حقّ أريد بها باطل، لأنّ فيها من التّلبيس و التّخليط الشّيئ الكثير ليشبّهوا على النّاس دينهم حتّى يروّجوا ما يزعمون من شرع بين النّاس. وهذا هو سبيل المخلّطين في كلّ زمان ومكان وقد رأى أشكالهم شيخ الإسلام ابن تيميّة – رحمه اللّه تعالى – فقال : " لأنّ المضلّل لا بدّ له من أن يتعلّق بدليل شرعيّ ليروّج كلامه لدى النّاس، ولهذا فانّ كلامه الباطل يسمّى شبهة لأنّه يشبه الحقّ بما تعلّق به من دليل... وهذا هو تلبيس الحقّ بالباطل المذكور في قوله تعالى :" ولا تلبسوا الحقّ بالباطل وتكتموا الحقّ وأنتم تعلمون ". البقرة 42..الجامع في طلب العلم الشّريف 1 /657 .
و إنّي على علم أن ّكلّ ناصح سيناله نصيب جمّ من التّهم والتّخليط، ولقد مضت سنّة الأوّلين، ولقد رأينا أنّ أعظم الخلق هم أكثرهم تعرّضا للفتن . قال الشّعبيّ رحمه الله تعالى :" ماذا يتوقّع من هذه الدّنيا الدّنيّة وقد سمّ رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم وأبو بكر الصّدّيق وقتل عمر بن الخطّاب وكذلك قتل عثمان وعليّ وسمّ الحسن وقتل الحسين رضي الله عنهم، وأعطي رأس يحيى بعدما قتل إلى بغيّ من بغايا بني إسرائيل " فإذا وقع هذا بأولئك الأخيار، فكيف لا يصبر من تبع طريقهم ولم يبدّل ولم يغيّر ؟ اللّهمّ إنّا نسألك من فضلك.(/2)
قال العلاّمة بكر بن أبي زيد حفظه الله تعالى: " والّذين يلوون ألسنتهم بآستنكار نقد الباطل، وإن كان في بعضهم صلاح وخير، ولكنّه الوهن وضعف العزائم حينا، وضعف إدراك مدارك الحقّ والصّواب أحيانا، بل في حقيقته من التّولّي يوم الزّحف عن مواقع الحراسة لدين الله والذّبّ عنه، وحينئذ يكون السّاكت عن كلمة الحقّ كالنّاطق بالباطل في الإثم...وأضعف الإيمان أن يقال لهؤلاء : هل سكت المبطلون لنسكت، أم أنّهم يهاجمون الإعتقاد على مرأى ومسمع، ويطلب السّكوت ؟ اللّهمّ لا...ونعيذ بالله كلّ مسلم من تسرّب حجّة اليهود، فهم مختلفون على الكتاب، مخالفون للكتاب، ومع هذا يظهرون الوحدة والإجتماع، وقد كذّبهم الله تعالى فقال سبحانه :" تحسبهم جميعا وقلوبهم شتّى " وكان من أسباب لعنتهم ما ذكره الله بقوله :"كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه " الرّدّ على المخالف ص 75 ـ 76 .
وإسهاما منّي وردّا على هؤلاء الذين يشاغبون بشعارات التّعدّد والحرّيّة والتّنوّع والقبول بالجميع و واقعهم يخالف ذلك وهم ينزعجون من كلّ من ينتقد فكرهم الدّخني المتلوّن، ومناهجهم الضّعيفة الهلكى، أقدّم بين يدي المنصفين والمتواضعين للعلم الشّرعي هذه الورقات أبيّن فيها بالأدلّة الشّرعيّة، أحقّيّة الإنكار على كلّ من خالف الأصول الشّرعيّة ويريدون أن يجعلوها تعسّفا دينا، وقد بنوا إعترضاتهم على العاطفة الجيّاشة للباطل، والعصبيّة البائسة التي تعمي وتصمّ.
وسأتعرّض في هذه الورقات إلى الرّدّ على تهمة النّاصح ب "المتّشنّج " التي يردّدها إمّا جاهل أو حزبيّ متعصّب على كلّ من يذبّ عن الشّريعة المطهّرة، ويرفعون مقالة " لماذا تعنّف في ردّك ولا تليّن " موظّفين العديد من النّصوص التي تستجيب لأهوائهم ويدرجونها ضمن ما يوافق مذهبهم ويغفلون نصوصا أخرى لا تصلح لمناهجهم ـ تماما ـ كما يفعل المبتدعة الذين يمزّقون الشّريعة ويقطّعونها ولا يجمعون بين كلّ نصوصها في المسألة الواحدة، وهذا عين ما فعله اليهود من قبلنا فواجههم القرآن بشدّة وعنف " أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلاّ خزي في الحياة الدّنيا ويوم القيامة يردّون إلى أشدّ العذاب وما اللّه بغافل عمّا تعملون " البقرة.
لقد درج الحزبيّون على الخطإ في منهج التّعامل مع النّصوص الشّرعيّة خاصّة في المسألة الواحدة فيقطّعون بعضها عن بعض ويعملون بما يحلو لهم وما يتماشى مع مذهبهم الذي ضبطوه آبتداء. أمّا أهل العدل والوسط فيعملون بكلّ النّصوص الواردة في المسألة الواحدة ولا يقتصرون على بعضها.
نعم إنّ الأصل أن يخاطب المخالف بلين ولطف لقوله تعالى : ( أدع إلى سبيل ربّك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ) سورة النّحل، الآية 125. ولقوله أيضا :" فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضّوا من حولك " سورة آل عمران، الآية 159. ولقوله أيضا : " فقولا له قولاً ليّنا " سورة طه، الآية 44. ولقوله : ( إدفع بالّتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنّه وليّ حميم ) سورة فصلت، الآية 34.
ولقول الرّسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ - :" من رأى منكم منكرا فليغيّره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان ". رواه مسلم من حديث أبي سعي ولقوله أيضا :" ما كان الرّفق في شي إلاّ زانه، ولا نزع من شي إلاّ شانه "رواه الإمام أحمد ومسلم من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه
ولقوله أيضا: “إنّ الله رفيق يحبّ الرّفق، ويعطي عليه مالا يعطي على العنف " رواه الإمام أحمد وغيره من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه. ولقوله :" يسّروا ولا تعسّروا، وبشّروا ولا تنفّروا " وفي سيرته العمليّة قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ - لمن آذاه وهو في حال الحصار: " ربّ اغفر لقومي فإنّهم لا يعلمون " وقال في حال الغلبة :" اذهبوا فإنّكم أنتم الطّلقاء "...
وهذه النّصوص يخلو للمتحلّلين المحرّفين أن يقرّروها في كلّ موقع وفي كلّ مناسبة وفي كلّ حالة دون منازع، إلاّ أنّهم ينازعون في نصوص التّشدّد والغلظة مع المخالفين والتي سأقدّمها ـ أخي الفارئ بين يديك طول هذا البحث.(/3)
إنّ الحقّ والعدل هو الذي دعت إليه الشّريعة الطّاهرة: فكما دعت إلى اللّين من جهة، فقد دعت كذلك إلى الشّدّة والغلظة من جهة أخرى. وبالتّالي فيؤخذ باللّين والرّفق في موقعه كما يؤخذ بالآخر في موقعه. والذين آشتهروا بتحريف الشّريعة المطهّرة و المجادلة في الباطل لا يشملهم خطاب اللّين لأنّ هؤلاء هم " المفترون " هم الذين عناهم الله تعالى بعدم الفلاح فقال فيهم : " ولا تقولوا لِما تصف ألسنتكم الكذب : هذا حلالٌ وهذا حرامٌ لِتفتروا على الله الكذِب إنّ الذين يفترون على الله الكذِب لا يُفلِحون. 116 متاع قليل ولهم عذاب أليم. 117 " النّحل. وقال : " قل إنّما حرّم ربّي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحقّ وأن تشركوا بالله ما لم ينزّل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ". 33 الأعراف . قال الإمام ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ : " مراتب المحرّمات أربع مراتب وقد بدأ بأسهلها وهو الفواحش ثمّ ثنّى بما هو أشدّ تحريماً منه وهو الإثم والظّلم ثمّ ثلّث بما هو أعظم تحريماً منهما وهو الشّرك بالله سبحانه ثمّ ربّع بما هو أشدّ تحريماً من ذلك كلّه وهو القول عليه بغير علم وهذا يعم القول عليه سبحانه بلا علم في أسمائه وصفاته وأفعاله وفي دينه وشرعه ". الإعلام 1/38 إنّ أمر الأمّة لا يصلح إلاّ بجدّ وشدّة وعزم " يا يحيى خذ الكتاب بقوّة "، ورضي الله تعالى عن الصّدّيق لو لم يكن له في الإسلام إلاّ تلك العزمة العظيمة يوم الرّدّة، ورضي الله تعالى عنه وهو القائل : " لا يصلح هذا الأمر إلاّ شدّة في غير عنف ولين في غير ضعف " ذكره إبن عبد البّرّ في كتاب بهجة المجالس ص 179.
إنّ الجدّ والخشونة منهج شرعيّ وكوني وفطري وطبيعيّ لا بدّ منه حتّى تستمرّ الحياة السّليمة وحتّى تتحقّق الصّحّة والعافية في كلّ مجالات الحياة، فهي الغرس الطّيّب للإبقاء عل حياة طيّبة، و آنظر إلى شدّة الوالد مع ولده أحيانا، وشدّة الطّبيب مع مريضه، وشدّة المعلّم مع طالبه، بل حتّى شدّة النّبيّ مع أصحابه و شدّة الرّسول مع النّبيّ وكفاك شدّة موسى مع هارون. وإن ننسى فلا ننسى شدّة الله تعالى في كم من مناسبة مع أصفيائه من خلقه. فهل يجرؤ جاهل أو حزبيّ متعصّب على القول في الله تعالى ما لا يجوز أو في أنبيائه أنّهم " متشنّجون " ! كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن خرجت !
إنّ تلك الخشونة لا بدّ منها بين الإخوان قلعا لكلّ الأخطاء، وتنظيفا لكلّ الأوساخ. أليس المؤمن مرآة أخيه " ؟ قال شيخ الإسلام ـ رحمه الله تعالى ـ :" المؤمن للمؤمن كاليدين تغسل إحداهما الأخرى، وقد لا ينقلع الوسخ إلاّ بنوع من الخشونة، لكنّ ذلك يوجب من النّظافة والنّعومة ما نحمد معه ذلك التّخشين " الفتاوى 28 / 53.
وقال الشّيخ ابن باز- رحمه الله تعالى ـ في مجموع فتاويه3/203 : "لا شك أن الشّريعة الإسلامية الكاملة جاءت بالتحذير من الغلوّ في الدّين، وأمرت بالدّعوة إلى سبيل الحقّ بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن، ولكنّها مع ذلك لم تهمل جانب الغلظة والشدّة في محلّها حيث لا ينفع اللّين والجدال بالتي هي أحسن. "
وقال أيضا : " جمعت الشّريعة بين الشّدّة واللّين كلّ في محلّه : والخلاصة أنّ الشّريعة الكاملة جاءت باللّين في محلّه، والشّدّة في محلّها، فلا يجوز للمسلم أن يتجاهل ذلك، ولا يجوز أيضاً أن يوضع اللّين في محلّ الشّدّة، ولا الشّدّة في محلّ اللّين، ولا ينبغي أيضاً أن ينسب إلى الشّريعة أنّها جاءت باللّين فقط، ولا أنّها جاءت بالشّدّة فقط، بل هي شريعة حكيمة كاملة صالحة لكلّ زمان ومكان ولإصلاح جميع الأمّة، ولذلك جاءت بالأمرين معاً ! واتّسمت بالعدل والحكمة والسّماحة، فهي شريعة سمحة في أحكامها وعدم تكليفها ما لا يطاق، ولأنّها تبدأ في دعوتها باللّين والحكمة والرّفق، فإذا لم يؤثر ذلك وتجاوز الإنسان حدّه وطغى وبغى أخذته بالقوّة والشّدّة وعاملته بما يردعه ويعرفه سوء عمله، ومن تأمّل سيرة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وسيرة خلفائه الرّاشدين وصحابته المرضيّين وأئمّة الهدى بعدهم عرف صحّة ما ذكرناه". فتاوى الشّيخ ً3/204- 205 .(/4)
إنّ الذي يصف النّاقد النّاصح المصلح بالمتشنّج أو المتشدّد أو السّبّاب أو سيّئ الخلق، أو الغادر، وغير ذلك من مفردات " المحرّفين "، والنّاصح يتبع المنهج المرسوم، هل يستطيع المحرّفون أن يصفوا ربّهم بذلك ـ وحاشاه سبحانه ـ، وقد خاطب أحبابه من الأنبياء والمرسلين والصّحابة بشدّة عظيمة في أكثر من آية ؟ وهل يستطيع أن يصف الأنبياء المنكرين على أقوامهم بهذه الصّفة ـ وحاشاهم ـ ؟ وهل يستطيع أن يتّهم النّبيء صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وعلى آله وَسَلَّمَ بذلك ـ وحاشاه ـ، وهل يمكن أن يقال له ذلك صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وعلى آله وَسَلَّمَ وهو الغضوب في كلّ خطبة يخطبها فهو الّذي تحمرّ عيناه وتنتفخ أوداجه ويعلو صوته حتّى كأنّه منذر جيش.. وهل يستطيع أن يتّهم الأصحاب بذلك ؟ " ورحم الله تعالى رجلا سخن دمه غيرة على هذا الدّين ولو بشطر كلمة، وإنّما الهلاك في ترك ما يقدر عليه العبد من الدّعوة إلى هذا الدّين " العلاّمة عبد الرّحمان السّعدي , القول السّديد ص 36
إنّ الّذي يتّهم المنكر بذلك أحد رجلين إماّ جاهل لا يدرك أخطاء النّاس ويريد لهم الشّرّ لأنّه لا يريد أن ينبّههم إلى خطورة ما هم عليه، وإماّ حزبيّ متعصّب يجاري النّاس في أخطائهم لكسبهم سعيا لجمعهم تحت لوائه ولو على حساب محارم اللّه تعالى لأنّ الغاية عند المحرّفين تبرّر الوسيلة.
وعليه فإنّ المنكر ـ بشدّة وجدّ ـ هو بفضل الله تعالى ومنّته ليس مخالفا للّه تعالى ولا لأنبيائه ولا لأصحايه ولا للسّلف الفاضل، حالة إذ يبيّن حال المحرّفين المخلّطين الذين آتّخذوا دينهم زيغا وضلالا، و الذين يدخلون في الدّين ما ليس منه ويخرجون من الدّين ما هو منه. ولقد صرنا إلى الزّمن الذي إذا أردت أن تذبّ عن الشّرع المطهّر تتّهم أنّك تقوم بمنكر. قال ابن مسعود رضي الله عنهما :" كيف بكم إذا ألبستم فتنة يربو فيها الصّغير ويهرم الكبير وتتّخذ سنّة، فإن غيّرت يوما. قيل : هذا منكر. قيل : ومتى ذلك ؟ قال : إذا قلّت أمناؤكم، وكثرت أمراؤكم ،وقلّت فقهاؤكم، وكثرت قرّاؤكم، وتفقّه لغير الدّين، وآلتمست الدّنيا بعمل الآخرة ". الدّارمي والحاكم
إنّ الدّين فوق كلّ شيء ، و الواجب على العلماء والدّعاة أن يكونوا حماةً لجناب الشّريعة، وأن يتصدّوا لكلِّ غارةٍ على حِماها، وأن يقِفوا في وجوهِ العابثين بها وبأحكامها وثوابِتها، وبيان الحقّ لهم ودعوتهم إليه، إذِ الحقّ هو الضّالّة التي ينشدُها المؤمن لأنّ ممّا أجمع عليه علماء الأمّة إظهار الحقّ الّذي بعث اللّه به رسوله صلّى اللّه عليه و آله وسلّم دون مماراة أو مداهنة، حتّى لا تحسب تلك الأخطاء دينا ولا يتلاعب به فلا يغلو فيه أحد فيتجاوز ما حدّه اللّه عزّ وجلّ، ولا يقصّر فيه فينقص عماّ حدّه سبحانه وتعالى، تصفية لدين الله تعالى ممّا علق به من دخن، حتّى يكون كلّه للّه وحتّى تبقى كلمة الله هي العليا. وعليه فإنّ الرّدود على المقالات الضّعيفة، وتبيّن الحقّ في خلافها بالأدلّة الشّرعيّة من أهمّ الفروض الدّينيّة بل هو الدّين كلّه كما جاء عن سيّد الخلق في قوله : " الدّين النّصيحة " .
وإذا تقرّر ذلك لابدّ أن يعلم أنّ الرّدود العلميّة لا تحطّ من أقدار من شذّ ولا تطعن فيهم إلاّ إذا عرف فيهم شذوذ وأصرّوا عليه ولم يتوبوا منه، لأنّ كلّ رجل رادّ ومردود عليه، ناصح ومنصوح إلاّ إذا أصرّوا على باطلهم وأصبحوا أعلاما في ذلك، فهنا يجب التّحذير منهم وبيان آنحرافهم وبيان جهلهم تجنّبا للفتنة ومنعا لتفريق الأمّة المجتمعة على دين واحد وملّة واحدة . لابد ّمن بيان الأخطاء حتّى لا تحسب من الدّين ولا بدّ من رفع علم الشّريعة على غيرها من أعلام الضّرار. وإنّ بعض النّاس قد تتشابك عنده بعض الأمور وتختلط معاني الأخوّة فينزعج من إعلان نقد الفكر أو الأداء السّياسي ـ مثلا ـ فيمنعك حقّ النّصح والإنكار وأنت تريد الإصلاح، ويذهب به الأمر إلى ظنّ السّوء فيك ويطعن في دينك وخلقك.
إنّ ضحايا الحزبيّة ـ عادة ـ ما يعترضون على النّاصحين لأنّهم ينزّهون رجالهم من الخطأ أو النّسيان أو الضّعف أو الخلل ، أو لعلّ بعضهم يغالي في محبوبه حتّى يعصمه من الزّلل و يجعل سيّئاته حسنات، أو لعلّ بعضهم يقول : إنّ فلانا من النّاس لأنّه يحتلّ موقعا متقدّما ما في موقع ما أو هيئة ما، فلا يجوز إعلان نقده أبدا، في حين أنّهم يبيحون له أن يقول ما شاء، فيمن شاء دون ضوابط أو حياء، وهذا هو منطق غريب عن أصول أهل السّنّة وثوابتها.(/5)
وثمّة من المعترضين على النّاصحين والمشاغبين عليهم والمخذّلين من إذا بيّنت له بالدّليل من العلم خطأ محبوبه وزعيمه، قال لك هذا آجتهاد ونحن لنا آجتهاد، أو في المسألة قولان، وفيها خلاف، أو يدمغك أنّك حرفيّ متزمّت متعصّب بدويّ تقمع حرّية الفكر، وآخر يقول تدّعي العصمة والمرجعيّة والنّطق بآسم الدّين، ويردّدون ما يقوله المحرّفون من العلمانيّين تماما : حقّ الاجتهاد وحرّيّة الرّأي وشعبيّة الاجتهاد، والى ما هنالك من الخرافات وما يريدون إلاّ أن يميّعوا الدّين، بالطّعن في أصوله وفروعه وثوابته و إجماعاته الّتي آتّفقت عليها الأمّة العظيمة منذ قرون. والعجب كيف يتنادى من يسمّون أنفسهم بالدّيمقراطيّين والحواريّين ويشنّون حربا لا هوادة فيها على من لم يظلمهم أبدا، وما كان له من أمر إلاّ أن عالج غثاءهم بالحجّة وأهواءهم بالمحجّة، فآنكشف أمرهم وبدا لكلّ منصف سليم شطحاتهم ورقصاتهم.. وللّه الحمد والمنّة.
إنّ شهرة رجل ما، سواء كان مجتهدا أو خليفة راشدا بل ولو كان نبيّا، لا تسمح له بالتكلّم في الشّرع بما يخالفه، فكيف بالمتطفّلين المتعالمين المتشبّعين بما لم يعطوا، والذين نفخت فيهم القنوات والفضائيّات والتّنظيمات والولاءات لقدرتهم الفائقة على تزيين خطابهم، فألبسوا عمامة العصر " التّنويريّين " وزيّفوا الإسلام بموضات اللّحظة، فمرّة إسلام قوميّ ومرّة إسلام إشتراكيّ وأخرى ديمقراطيّ وطورا مدني وأطوارا حداثي ومرّات إنسانيّ ثمّ إنتهت الموضة إلى وسطي. فهم تماما يشبهون من كان يزركشون ثيابهم حتّى يخدعون النّاس أنّهم حملة علم قال إبن رشد : " كان العلم في الصّدور واليوم صار في الثّياب " المحجّي. خلاصة الأثر 1 / 75. والمتعالمون الجدد تراهم يزركشون الإسلام بالكلمات الرّائجة وبالسّلع الرّابحة الّتي يشترط لها أن تتواطأ مع أهداف الغازي المتحكّم في الأسواق الدّوليّة والبورصة العالميّة. لقد آبتليت الأمّة بالمرضى المتعالمين المتجرّئين على القول على الله بغير علم، وصدق مالك بن نبي ّ رحمه الله تعالى : " والحقيقة أنّنا قبل خمسين عاما كنّا نعرف مرضا واحدا يمكن علاجه، هو الجهل والأمّيّة، ولكنّنا اليوم أصبحنا نرى مرضا جديدا مستعصيا هو التّعالم ".
ولأنّ الّذين أشربت قلوبهم العصبيّة الباطلة للحزبيّة ورجالها الّتي تجعل ما يوافق أهواءهم هو المحكم الذي يجب اتباعه، وما يخالفهم فهو المتشابه الذي يجب تأويله بل تحريفه، فقد هبّوا ينكرون على كلّ من نصح المختلف في الكتاب وأراد تصويبه، فحوّلوا الحوار العلمي إلى محاكمات وطعون في النّوايا. كما عمدوا من جهة أخرى إلى التّلبيس والتّخليط ليشبّهوا على النّاس دينهم حتّى يروّجوه بين النّاس كما قال شيخ الإسلام ابن تيميّة – رحمه اللّه تعالى – : " لأنّ المضلّل لا بدّ له من أن يتعلّق بدليل شرعيّ ليروّج كلامه لدى النّاس، ولهذا فانّ كلامه الباطل يسمّى شبهة لأنّه يشبه الحقّ بما تعلّق به من دليل... ثمّ انّه يحرّف الدّليل عن معناه بتأويله تأويلا شاذّا بغير حجّة، أو بآستنباط فاسد منه ونحو ذلك، وهذا هو تلبيس الحقّ بالباطل المذكور في قوله تعالى :" ولا تلبسوا الحقّ بالباطل وتكتموا الحقّ وأنتم تعلمون ". البقرة 42..الجامع في طلب العلم الشّريف 1 /657 .
لقد رأينا المنهزمين الّذين آثروا منهج السّلامة على سلامة المنهج ينتهزون الفرص الضّائعة فحرّفوا بالإسلام وزاوجوه بكلّ ما يعجبهم ويعترض طريقهم، وكان آخر تخبّطهم أن حرّفوا به نحو التّواطؤ مع أهداف الغزاة، ولقد صدّق الله تعالى تنبّؤ الأستاذ سيّد قطب ـ رحمه الله تعالى ـ الّتي رواها الشّيخ عبد اللّه عزّام في كتابه عملاق الفكر الإسلاميّ سيّد قطب :"وكثيرا ما كان سيّد قطب يردّد ستهبّ في المرحلة القادمة على المنطقة رياح من الإسلام الأمريكي ّ "...
ولقد رأينا من يبدأ أوّل حياته الإسلاميّة داعية إلى هذا الدّين، وفي أواخر حياته يسبق عليه الكتاب فيصبح سياسيّا ويتنكّر للدّين قائلا " للبيت ربّ يحميه " ! نسأل الله الثّبات. إنّ الرّدّ أو النّقد أو التّقييم أو الإنكار أو المراجعة كلّ ذلك يحقّق معنى النّصح ومقصده ومراده ومن هنا آتّجهت نصوص الكتاب الكريم والسّنة الشّريفة، وفروض الدّين إلى توطئة أكتف النّاس مجتمعًا وأفرادًا للجهر بالحقّ وتقبّل تكاليفه، وجَعَلَ الإسلامُ الأمرَ بالمعروف والنّهي عن المنكر، مهمّة الأمّة وواجب كلّ مسلم ومسلمة " كنتم خير أمّة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله " 110 البقرة.(/6)
إنّ الرّدّ والإنكار على المخالف ونقده ومراجعته من الظّواهر السّليمة والصّحيّة في المجتمعات المسئولة والفاعلة والمنتجة، وعلامة بارزة على فلاح الأمم واستمرار نجاحها، وعامل أساسي للتّطوّر والتّقدّم، وهو قبل ذلك أمر ندبت إليه الشّريعة الكاملة ودعت إليه الأخلاق الإسلاميّة العالية ففي القرآن: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّه َ ولتنظرنَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَد...ٍ" 18 الحشر
وهذه إشارة واضحة إلى المراجعة ودعوة صارخة إلى نقد الذاّت قبل المثول أمام الله يوم القيامة ومن ذلك أنّ الله تعالى قد أقسم بالنّفس اللّوّامة فقال : " ولا أقسم بالنّفس اللّوّامة " 2 القيامة . ومعلوم أنّ الله عزّ وجلّ لا يقسم إلاّ بأمر شريف وعظيم .
إنّه إذا أردنا أن يستقيم أمرنا فلا بدّ من خوف من الله تعالى، وإنّ من أعظم تجلّيات ذلك: صدق في قول ونصح للشّريعة، وهو مراد قال عمر الفاروق رضي الله عنه:" لا يقيم أمر الله في النّاس إلاّ رجل يتكلّم بلسانه كلمة يخاف الله في النّاس ولا يخاف النّاس في الله " الآداب الشّرعيّة 1 / 201. ولعليّ بن أبي طالب رضي الله عنه " أمّا بعد، فإنّه أهلك من كان قبلكم أنّهم منعوا الحقّ حتّى آشتري وبسطوا الجور حتّى آفتدي " الآداب الشّرعيّة 1 / 201 . ولا شكّ أنّ من أعظم الظّلم القول على الله دون علم والإفتراء عليه بالباطل، ثمّ يسكت النّاس عن ذلك بكتمان الحقّ والمداهنة فيه وإلى ما هنالك من أمور...
لقد جمعت ـ بين يديك أخي القارئ ـ بعض النّصوص والأحداث الّتي تعظّم مسألة الرّدّ والإنكار وتحرّض على التّقويم والمراجعات لبعض الأخطاء الّتي صدرت من أخيار البشر من الأنبياء والصّحابة والسّلف الفاضل وهم ما هم عليه من خير وفضل لا يخالف فيه أحد، فكيف بالرّدّ على من دونهم ممّن آغترّ بهم كثير من المفتونين لأنّهم تحمّلوا مواقع متقدّمة في جماعات أو أحزاب تعمل للإسلام، وكأنّ هذه المواقع تعطي شرعيّة لكلّ ما يصدر عنهم، أو تضفي عليهم قداسة لا يحقّ لأيّ أحد أن يردّ عليهم أو ينكر، ومن فعل فقد عرّض دينه وعرضه للنّيل والإنتهاك .
جمعت بين يديك ـ أخي العزيز ـ نصوصا مرجعيّة حاكمة تساهم في البناء وتجفّف منابع التّعصّب، لعلّها تقنع من لا يزال مفتونا لباطل الرّجال ويعرض عن حقّ الله تعالى ودينه. وإنّ هدفي من كل ّ هذه الدّراسة المحافظة على وحدة الأمة عقائديّا وفكريّا وسياسيّا، ذلك أنّ الحزبيّات ـ عادة ـ ما تتهارش فيما بينها وتفتتن كلّ واحدة منها بالشّعور بالتّميّز الفكريّ، بآدّعاء أنّ كلّ واحدة منها تمتلك الحقيقة وتحتكرها، وهذا ما يحدث فتنة عظيمة في النّاس، ولذلك أردت أن أرجع إلى الأصول الجامعة للمسلمين قطعا للخلاف و توحيدا للجهود.
وإنّه على كلّ حال اجتهاد أرجو منه الأجر وخطأ مشكور خير من صواب مهجور، فإن أصبت فمن الله تعالى وإن أخطأت فمن نفسي ومن الشّيطان، وأستغفر الله.
إنكار القرآن الكريم وتصحيحه أخطاء الأنبياء عليهم السّلام:
إنّ من أبرز سمات المنهج الإسلامي الحفاظ على هذا الدّين، ومن ثمّ فهو يصف المخطئين بالخطأ، إذا أخطاؤا، و بالانحراف إذا انحرفوا، و بالضّلال إذا ضلّوا، وبالإبتداع إذا آبتدعوا، مهما كان قدرهم، ومهما علت منازلهم، ومهما أضاء نجمهم حتّى لا ينحرف المنهج بهم ولا يجاري أهواءهم، لثبات منهج الله تعالى وقيمه وموازينه، والبشر يبعدون، أو يقربون من هذه القيم والموازين ومن المنهج ، ويخطئون، ويصيبون في قواعدهم، وتصوراتهم إما اجتهاداً، أو عناداً، أو كبراً، أو ادعاء امتلاك الحقيقة المطلقة، ولكن ليس شيئاً من ذلك محسوباً على الإسلام، ومنهجه، إنّما عليهم وحدهم.
لذا كان لزاماً على كلّ من آنتحل نحلة ليس عليها أمر المؤمنين من نقدهم، وتخطيتهم ليبقى منهج الإسلام ثابتاً لا تشوبه شائبة، وخير شاهد على ذلك أنّ القرآن ذكر للأمّة بعضاً ممّا وقع فيه الأنبياء من خلاف الأولى، وسطّر لنا عتابهم كذلك بل قد يشتدّ عليهم في مناسبات عديدة ، وذكره لنا بعد توبتهم منه، وإقلاعهم عنه ومن ذلك:(/7)
1 ـ آدم عليه السّلام أوّل الأنبياء وأبو البشر خلقه الله بيديه، لمّا عصى الله تعالى بأكله الشّجرة وصفه بالعصيان، والغواية وهو أبو الأنبياء فقال تعالى عنه : " وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى " و أيضا في آدم من خلال دعوة أبنائه أن لا يخطئوا خطأه ولا يسمعوا إلى الشّيطان فقال :{ يا بني آدم لا يفتننّكم الشّيطان كما أخرج أبويكم من الجنّة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوءاتهما } سورة الأعراف 27 .وقال تعالى : { فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّة وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ 22 قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ 23 قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُم لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِين 24 } الأعراف.
فهل ذكر القرآن الكريم ذلك من أجل النّيل من آدم عليه السّلام وفضحه وزوجه وغير ذلك ممّا يبرّر به المنحرفون عن المنهج القرآني إذا أنكرت عليهم إنحرافاتهم الفكريّة وآنزلاقاتهم الحركيّة. وإذا كان القرآن الكريم ذكر ذلك في آدم عليه السّلام، فكيف بمن هو دونه صلوات الله وسلامه عليه بمراحل كثيرة ؟!!! ما ذكر القرآن ذلك وكرّره إلاّ تحذيراً من خطر الانحراف عن شرع الله تعالى ولو كان نبيّا.
2 ـ ذكر القرآن لحدث نوح عليه السّلام مع آبنه وحذّره أن يكون من الجاهلين فقال سبحانه: { قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الجاهلين } 46 هود. ممّا جعل نوحا عليه السّلام يردّ قائلا : { قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَك مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِين } 47 هود.
3 ـ وهذا يونس " ذا النون " عليه السّلام إذ ذهب مغاضباً ماذا قال الله عنه وهو نبيّه { وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلآّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ } وحذّر الله تعالى في سورة القلم نبيّه محمّدا صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يفعل فعل ذي النّون عليه السّلام فقال تعالى : { فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ } و قال { وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ * فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مليم * فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِين * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ } كلّ هذا في حقّ يونس حيث وصفه بالّنبذ، والسّقم والدّحض، وكلّ هذا لأنّه ذهب مغاضباً فكيف بمن يحرّف الشّريعة في الأصول والفروع كما هو معلوم.... فهل ذكر القرآن ذلك ليشين به الله تعالى ذا النّون عليه السّلام أم ليبيّن لنا الحقّ الذي ينبغي اتّباعه.
4 ـ أمّا محمّد صلى الله عليه وآله وسلّم فهو صاحب القدح المعلّى في ذلك، وكيف لا، وقد خاطبه الله تعالى في مواضع كثيرة من كتابه يأمره بالاستغفار وبالتّقوى ؟! يقول الله عز وجل : { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ } محمد:19 ، ويقول: { إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ.وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا.فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا } النصر:1-3، ويقول: { إِنَّا أنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا. وَاسْتَغْفِرِ اللهَ إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا.وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا } النساء:105-107 ، ويقول: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ } الأحزاب : 1، ويقول : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ } [التحريم:1]، ويقول: { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ } الأنفال: 67.(/8)
وهكذا عاتب الله نبيّه صلّى الله عليه وآله وسلّم، وأمره بالاستغفار، وبالتقوى، ونهاه عن طاعة الكافرين والمنافقين، ولهذا كان من شأنه صلّى الله عليه وآله وسلّم أمر عجيب، في تواضعه، وقبوله للرّأي الآخر، وإعراضه عن الجاهلين، ورجوعه إلى ما يرى أنّه صواب إذا قاله أحد.
ـ وعاتبه الله عزّ وجلّ في عبس مع إبن أمّ مكتوم.
ـ وفي الأحزاب في زيد { وتخشى النّاس والله أحقّ أن تخشاه } وفي الأذن للمنافقين { عفا الله عنك لم أذنت لهم }. وآشتدّ العتاب والتّأنيب في سورة الإسراء بالخصوص { وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا 73 وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا 74 إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا } 75 الأسراء.
ـ وكان أشدّ الإنكار عليه في أسرى بدر فقال تعالى :{ ما كان لنبيّ أن يكون له أسرى حتّى يثخن في الأرض تريدون عرض الدّنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم 67 لولا كتاب من الله سبق لمسّكم فيما أخذتم عذاب عظيم " 68} الأنفال
ـ وكذلك في قوله تعالى{ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ } 145 سورة البقرة.
قال سيّد قطب رحمه الله تعالى في ظلاله في هذه الآية : "....ونقف لحظة أمام هذا الجدّ الصّارم، في هذا الخطاب الإلهيّ من الله سبحانه إلى نبيّه الكريم الذي حدّثه منذ لحظة ذلك الحديث الرّفيق الودود.. إنّ الأمر هنا يتعلّق بالإستقامة على هدي الله وتوجيهه ؛ ويتعلّق بقاعدة التّميّز والتّجرّد إلاّ من طاعة الله ونهجه. ومن ثمّ يجيء الخطاب فيه بهذا الحزم والجزم، وبهذه المواجهة والتّحذير.. إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ. إنّ الطّريق واضح، والصّراط مستقيم.. فإمّا العلم الذي جاء من عند الله. وإمّا الهوى في كلّ ما عداه. وليس للمسلم أن يتلقى إلاّ من الله. وليس له أن يدع العلم المستيقن إلى الهوى المتقلّب. وما ليس من عند الله فهو الهوى بلا تردّد ".
ـ وما جاء في سورة هود وقد شيّبت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم...؟
ـ وكذلك ما جاء في قوله تعالى: { يا أيّها النّبيّ لم تحرّم ما أحلّ الله لك تبتغي مرضاة أزواجك والله غفور رحيم } التّحريم 1. وهنا أريد أن أردّ على شبهة قد تعلق في ذهن أحد ما وهو يستعرض هذه الآية، وهي أنّ النّبيّ محمّدا صلّى الله عليه وآله وسلم حرّم ما أحل الله. فأقول : ليس ذلك وإنّما تشير هذه الآية وآيات بعدها إلى أمر حدث في بيت النبي صلى الله عليه وسلم عاتبته نساؤه وتظاهرن عليه بدوافع الغيرة المعروفة عن النساء عامة إذ كان صلى الله عليه وسلم قد دخل عند إحداهن وأكل عندها طعامًا لا يوجد في بيوتهن، فأسر إلى إحداهن بالأمر فأخبرت به أخريات فعاتبنه فحرّم صلى الله عليه وسلم تناول هذا الطعام على نفسه ابتغاء مرضاتهن. والواقعة صحيحة لكن اتهام الرسول بأنه يحرّم ما أحل الله هو تصيّد للعبارة وحمل لها على ما لم ترد له.. فمطلع الآية { لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ } هو فقط من باب " المشاكلة " لما قاله النبي لنسائه ترضية لهن ؛ والنداء القرآني ليس اتهامًا له صلى الله عليه وسلم بتحريم ما أحل الله ؛ ولكنه من باب العتاب له من ربه سبحانه الذي يعلم تبارك وتعالى أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم يستحيل عليه أن يحرّم شيئًا أو أمرًا أو عملاً أحلّه الله ؛ ولكنه يشدد على نفسه لصالح مرضاة زوجاته من خلقه العالي الكريم. ولقد شهد الله للرسول بتمام تبليغ الرسالة فقال: { وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ }. وعليه فالقول بأن محمدًا صلى الله عليه وسلم يحرّم ما أحل الله من المستحيلات على مقام نبوته التي زكاها الله تبارك وتعالى وقد دفع عنه مثل ذلك بقوله: { وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إلاَّ وَحْيٌ يُوحَى }. فمقولة بعضهم أنه يحرّم هو تحميل اللفظ على غير ما جاء فيه، وما هو إلا وعد أو عهد منه صلى الله عليه وآله وسلّم لبعض نسائه فهو بمثابة يمين له كفّارته ولا صلة له بتحريم ما أحلّ الله تعالى. "(/9)
فهذه آيات عظيمة وغيرها كثير منهج في التّحرّك والدّعوة تلزم المسلم بالتّمسّك بالشّريعة كلّها وعدم التّنازل عنها قيد أنملة وهي كذلك تبيّن حرص أعداء الشّريعة على انزلاق المسلم حتّى ليريدون أن يوهموهم بأنّهم أخلاّء لهم فوق الصّداقة والتّنسيق والتّحالف لأنّ أعداء الشّريعة يحرصون الحرص الشّديد أن يصرفوا أهل القرآن عنه، ليختلقوا غير ما أوحاه اللّه تعالى حتّى يصير حبيبا خالصا لهم وحتّى يرضوا عنه ويجعلوه ضمن قوائمهم وان كانت في آخرها حتّى يسهل تشطيبها وإسقاطهم عند الآستغناء عن خدماتهم. وآنظر بماذا هدّد اللّه تعالى رسوله في سورة الإسراء، فلولا نعمته تعالى عليه حيث منعه من أن يركن إليهم شيئا يسيرا وهو يطعم في دعوتهم إلى هذا الدّين. لا كما يفعل هؤلاء يتنازلون عن الشّريعة من أجل لا شيء دعك أن يكونوا دعاة إليها .
كلّ هذا في أنبياء شهد لهم ربّهم بالصّدق والكفاءة والأمانة والتّبليغ. فلماذا يعيب علينا بعض النّاس حين نردّ فيما تبيّن لنا خطؤه على المتطفّلين على الشّرع العزيز . فالرّدّ على المخالف منهج قرآنيّ أصيل !!! فبعد هذه النّصوص القرآنيّة هل يجرؤ موحّد على التّهوّك والدّفاع عن المحرّفين ؟؟
تصحيح القرآن الكريم أخطاء الصّحابة رضي الله عنهم
وكما شمل الإنكار والتّصحيح أيضا أخطاء الصّحابة الكرام، ومن ذلك :
ـ قصّة الثّلاثة الّذين خلّفوا { وعلى الثّلاثة الّذين خلّفوا...} 118 التّوبة.
ـ ما حدث لحاطب بن أبي بلتعة الّذي نزل فيه قوله تعالى :{ يا أيّها الّذين آمنوا لا تتّخذوا عدوّي وعدوّكم أولياء } الآية.
ـ ما نزل في حقّ أبي لبابة :{ يا أيّها الّذين آمنوا لا تخونوا اللّه وتخونوا الرسول }
ـ ما نزل في صفيّة زوج النّبيء رضي الله عنها لمّا أظهرت ما أسرّه لها رسول اللّه صلّى الله عليه وآله وسلّم.
ـ ما جاء في قصّة الإفك وما حدث فيها من أخطاء.
ـ ومنها عتاب الله للصّحابة في حادثة أحد والحكم على بعضهم بأنّهم أرادوا الدنيا على الآخرة { وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ }.
ـ وفي الّذين رفعوا أصواتهم عند رسول اللّه صلّى الله عليه وآله وسلّم { لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النّبيّ ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون } الحجرات 2
ـ والذين نادوه من وراء الحجرات بصوت مرتفع ودعوه كما يدعي أحدهم صاحبه، فوصفهم بأنّهم لا يعقلون { إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ } الحجرات 4.
ـ والّذين يأكلون عنده . آنظر الآية 53 من سورة الأحزاب.
ـ والّذي ظاهر زوجته،
ـ وفي الّذي جاء بخبر غير دقيق فوصفه القرآن في سورة الحجرات بالفاسق في قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نادمين } فهنا سمّى من كذب في أمر القوم وأنّهم منعوا الزكاة، فاسقاً لكذبه على رأي من ذهب إلى هذا التّفسير ولم يعترض على سبب النزول، وإذا سمّي من كاد أن يريق دماء المسلمين بلا سبب فاسقاً فكيف بمن يزعزع عقائدهم ويشكّكهم في أمور دينهم ويفتنهم فيه !!.
ـ والمتخلّفين عن اللّحاق بالمهاجرين إلى المدينة النّبويّة { مالكم من ولايتهم حتّى يهاجروا } و { إنّ الّذين توفّاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم...} الآية ..
ـ ما جاء في سورة التّوبة من لوم عظيم للأصحاب وفي سورة التّوبة ومنها قوله تعالى: { لقد تاب الله على النّبيّ والمهاجرين والأنصار الّذين آتّبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثمّ تاب عليهم إنّه بهم رؤوف رحيم 117 والذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً...} وفي سورة الأنفال : { لولا كتاب من اللّه سبق لمسّكم فيما أخذتم عذاب عظيم } 68 الأنفال.
ـ ومنها عتاب الله لمخشي بن حمير في قوله تعالى: { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ 65 لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ 66 } سورة التّوبة. فوصف هنا بالكفر أثناء الحادثة وقبل توبته، ثم تيب عليه وبقيت الآية عظة للمتّعظ.(/10)
ـ وفي قصّة زيد بن الحارثة وأمّ المؤمنين زينب بنت جحش حيث بلغ عتاب الله عزّ وجلّ لمحمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم في سورة الأحزاب مداه إذ يقول تعالى : { وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ } وكانت هذه الآية من أعتبها على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لذا قالت أمّنا عائشة رضي الله تعالى عنها : لو كتم محمّد صلّى الله عليه وسلم شيئاً ممّا أوحي إليه من كتاب الله لكتم { وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ } أخرجه الطبري 22/11وأصله في الصّحيح بلفظ " من حدّثك بثلاث " .
وتحدّثت السّورة عن الأعراب بصنفيهم: { وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يَتّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَماً وَ يَترَبّص بِكمُ الدّوَائرَ عَلَيْهِمْ دَائرَةُ السوْءِ وَ اللّهُ سمِيعٌ عَلِيمٌ 98 وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الآخر وَ يَتّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَتٍ عِندَ اللّهِ وَ صلوات الرّسولِ أَلا إِنهَا قُرْبَةٌ لّهُمْ سيُدْخِلُهُمُ اللّهُ في رَحْمَتِهِ إِنّ اللّهَ غَفُورٌ رّحِيمٌ 99 } التوبة .
وغير ذلك كثير وآقرأ أخي الكريم سورة آل عمران وما فيها من لوم عظيم للأصحاب.. بل قد ينكر مهدّدا زوجات النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال : { يا نساء النّبيّ من يأت منكنّ بفاحشة مبيّنة يضاعف لها العذاب ضعفين وكان ذلك على الله يسيرا } الأحزاب 30.
الخشونة من منهج الأنبياء عليهم السّلام:
إذا كان المنكر لا يردّ إلاّ بالخشونة فلا بأس بذلك. بل لقد شرع الله الحكيم من الحدود والقصاص ما فيه من الشّدّة على النّفس ومن ذلك فرضه للقتال وهو كره للمسلمين ، بل أمر المسلمين أن يقاتلوا إخوانهم من أجل الصّلح فقال :" فإن بغت إحداهما فقاتلوا الّتي تبغي حتّى تفيء إلى أمر الله "
إنّ الأصل في الرّدّ الشّرعيّ على المخالف أن يكون كما أمر الله بالّتي هي أحسن، أمّا إذا آختار المخالف مسلك التّحريف والتّلبيس والعناد بل التّنقّص من مخالفيه ولو كانوا أنبيياء، فيجب أن يكون الرّدّ قاسيا بتقدير الضّرورة وقدرها، فهو قد جنى على نفسه إذ لا يجني جان إلاّ على نفسه، وهو الّذي جلب لنفسه الخصومة والمعاداة، ومن جرّ أذيال النّاس بباطل جرّوا ذيله بحقّ، ألم يقل الله تعالى لحبيبه { ولو تقوّل علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثمّ لقطعنا منه الوتين فما منكم من أحد عنه حاجزين وإنّه لتذكرة للمتّقين } سورة الحاقّة 44 ـ 48.
من أجل ذلك وجدنا شدّة في الأنبياء عليهم السّلام. منهم :
ـ شدّة إبراهيم مع قومه في تكسير الأصنام...
ـ شدّة موسى مع أخيه هارون مع العلم أنّه قد ألان مع فرعون : لقد سجّل القرآن الكريم الإنكار الشّديد الّذي قام به موسى عليه السّلام مع أخيه هارون حين أخلفه قومه، لمّا حرص هارون على وحدة قومه السّياسيّة والإجتماعيّة على حساب العقيدة فأخذه بغضب شديد أمام القوم المرتدّين يجرّه دون اعتبارات زائفة يتوكّأ عليها ما يسمّون أنفسهم فقهاء السّياسة من تأجيل العقيدة، أو لا غسل لصابون العاملين للإسلام ونحن ممتحنون، وغيرها من اعتبارات المحافظين الّتي يتجاهلها القرآن الكريم والأنبياء الكرام ومن آقتدى بهديهم الصّحيح.. وهذا من الاضطراب الشّديد الّذي يقع فيه الحزبيّون حيث تتحوّل الوسائل إلى أهداف والانفتاح إلى الانغلاق والسّعة إلى الضّيق، فكلّ شيء يجب أن يقبل باسم التّنظيم والمصلحة وضغط الواقع وفقه الضّرورة وطبيعة المرحلة، مع أن حفظ الدّين والعقيدة أهمّ من حفظ الجماعة وحفظ النّفس والمال والأخوّة وغير ذلك من التّزيين الّذي يتقنه الحزبيّون. والدّليل قصّة موسى عليه السّلام حين قال لأخيه هارون : { اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ } ولمّا رجع موسى عليه السّلام وجد قومه يعبدون العجل، فقال مخاطباً هارون عليهما السّلام منكرا عليه : { مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلاَّ تَتَّبِعَنِ، أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي ؟ قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي } طه: 92-94 . قال الشّيخ محمّد الطّاهر ابن عاشور – رحمه اللّه تعالى - :" أنكر موسى على أخيه مرّتين وشدّد التّوبيخ بإنكار وتهديد وأنّ هارون أجابه ب " يا ابن أمّ " نداء لقصد التّرقيق والاستشفاع. وهو مؤذن بانّ موسى حين وبّخه أخذ بشعر لحية هارون، ويشعر بأنّه يجذبه إليه ليلطمه، وقد صرّح به في الأعراف بقوله تعالى : { وأخذ برأس أخيه يجرّه إليه }... وعطف الرّأس على اللّحية لأنّ أخذه من لحيته أشدّ ألما و أنكى في الإذلال... انظر التّحرير والتّنوير 16/292(/11)
قلت: فإذا كان كبر على بعض القوم ما أدعو إليه من مشروعيّة التّشدّد الشّرعيّ في الإنكار، والّذي ينعته الحزبيّون بالتّشنّج، فهذه عبارات الشّيخ آبن عاشور- رحمه اللّه تعالى – وهو يفصّل الأمر فيما وقع بين نبيّين أخوين عليهما السّلام، ولم ينكر القرآن على موسى شدّته الشّرعيّة، فهل تقنع القوم الّذين يعرفون الحقّ بالرّجال ويستميتون في الدّفاع عن مواقف الحزب ورجاله ولو كانت مخالفة لموقفه في داخل المؤسّسة فضلا عن مخالفتها للشّريعة.
وآذكر أخي القارئ موقف موسى الآخر وقد ألقى الألواح وفيها هدى لبني إسرائيل.
خشونة النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم وشدّته في الحقّ :
كثرت ردود النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم الشّديدة وتعدّدت فهي مبثوثة في كتب السّنّة حيث أنكر على المخالفين أو المتقاعسين عن أداء المطلوب شرعا سواء لامست المخالفة العقيدة أو العبادة أو الخلق الكريم أو المنهج ومتابعة سنّته الشّريفة .
والملاحظ أنّ شدّته في الإنكار شملت أنواع سنّته الثّلاثة: القوليّة والعمليّة والإقراريّة. فمن إنكاره الشّديد القولي :
ـ قوله صلّى الله عليه وسلّم : "يا معشر من آمن بلسانه ولم يؤمن بقلبه لا تؤذوا المسلمين ولا تتّبعوا عوراتهم فإنّه من يتبع عوراتهم يتبع الله عورته ومن يتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف بيته " .
ـ “لقد هممت أن آمر فتيتي فيجمعوا لي حزما من حطب ، ثمّ آتي قوما يصلّون في بيوتهم ليست بهم علّة فأحرّقها عليهم “.
ـ عن عبدالله بن عمرو بن العاص قال : " سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة الرّجل قاعدا فقال : على النّصف من صلاته قائما قال : وأبصر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قوما يتوضّؤون لم يتمّوا الوضوء فقال : أسبغوا يعني الوضوء ويل للعراقيب من النّار أو الأعقاب . مسند أحمد/ 11 100 . قال المحدّث: أحمد شاكر : إسناده صحيح .
ـ روى جبير بن نفير عن أبيه أنّه قدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأمر له بوَضوء فقال : توضأ يا أبا جبير ، فبدأ أبو جبير بفيه ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تبتدأ بفيك يا أبا جبير فإن الكافر يبتدأ بفيه ، ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بوَضوء ، فغسل كفيه حتى أنقاهما ثم تمضمض واستنشق ثلاثا وغسل وجهه ثلاثا وغسل يده اليمنى إلى المرفق ثلاثا واليسرى ثلاثا ومسح رأسه وغسل رجليه . رواه البيهقي في السنن 1/46 وهو في السلسلة الصحيحة رقم 2820
ـ ما رواه مسلم رحمه الله تعالى في صحيحه عَنْ جَابِرٍ أَخْبَرَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَنَّ رَجُلا تَوَضَّأَ فَتَرَكَ مَوْضِعَ ظُفُرٍ عَلَى قَدَمِهِ فَأَبْصَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ ارْجِعْ فَأَحْسِنْ وُضُوءَكَ فَرَجَعَ ثُمَّ صَلَّى " . صحيح مسلم 243
ـ ويوما ما صلّى الرّسول صلى الله عليه و آله وسلم ثمّ آنصرف فقال:" يا فلان! ألا تحسن صلاتك ؟ ألا ينظر المصلّي إذا صلّى كيف يصلّي ؟ فإنّما يصلّي لنفسه " ...مسلم والنّسائي .صحيح التّرغيب1/ 353 .
ـ ويوما ما صلّى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم فلمّا سلّم ، نادى رجلا كان في آخر الصّفوف ، فقال :" يا فلان ألا تتّقي اللّه ! ألا تنظر كيف تصلّي ؟" ...رواه ابن خزيمة في صحيحه صحيح التّرغيب1/ 353
ـــ في قوله للرّجل الّذي لم يحسن أداء صلاته فقال صلى الله عليه وآله وسلم " لو مات هذا على حاله هذه ، مات على غير ملّة محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم ".
ـ أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم كان ينتبه لأفعال الناس من حوله كي يعلّمهم وقد وقع في رواية النّسائي : أَنَّ رَجُلا دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَصَلَّى وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْمُقُهُ وَنَحْنُ لا نَشْعُرُ فَلَمَّا فَرَغَ أَقْبَلَ فَسَلَّمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ .. الحديث 2/193 صحيح سنن النسائي رقم 1008
وقد ينكر على المخالف حتّى في حال الخطبة وهو يخطب يوم الجمعة فيقطعها ويوجّه أصحابه إلى ما هو أفضل :
ـ روى أبو داود في سننه عن عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُسْرٍ رضي الله عنه قال : جَاءَ رَجُلٌ يَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اجْلِسْ فَقَدْ آذَيْتَ
ـ و عن جابر بن عبد اللّه قال جاء سليك الغطفانيّ يوم الجمعة ، ورسول اللّه صلّى اللّه عليه وأله وسلّم يخطب ،فجلس . فقال :" يا سليك قم فآركع ركعتين . وتجوّز فيهما " ثمّ قال : إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوّز فيهما " . لفظ مسلم وفي رواية كان الإنكار ربّما أشدّ " اركع ركعتين، ولا تعد لمثل هذا " ابن حبّان في الصّحيح4/92 . والدّارقطني في السّنن 2/16(/12)
ـ وعن ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ تَجَشَّأَ رَجُلٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ :" كُفَّ عَنَّا جُشَاءَكَ فَإِنَّ أَكْثَرَهُمْ شِبَعًا فِي الدُّنْيَا أَطْوَلُهُمْ جُوعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ " . قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ سنن الترمذي رقم 2478 وهو في السلسلة الصحيحة رقم 343 ...
ـ و عن زينب بنت أبي سلمة أنّها دخلت على رسول اللّه صلّى الله عليه وآله وسلّم وهو يغتسل ، قالت : فأخذ حفنة من ماء فضرب بها وجهي وقال :" وراءك أي لكاع " المعجم الكبير24 / 281 وقال الهيثمي اسناده حسن . المجمع1/269 .
ـ ردّه صلّى الله عليه وآله وسلّم على من قال له يوم حنين "إعدل " فقال له صلّى الله عليه وآله وسلّم :" فمن يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله ؟ رحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر " .
ـ وردّ ه على الثّلاثة الّذين تقالوا عبادته وأنكر عليهم أشدّ الإنكار حتّى قال لهم : " من رغب عن سنّتي فليس منّي ".
ـ وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى نُخَامَةً فِي قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ فَأَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ :" مَا بَالُ أَحَدِكُمْ يَقُومُ مُسْتَقْبِلَ رَبِّهِ فَيَتَنَخَّعُ أَمَامَهُ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يُسْتَقْبَلَ فَيُتَنَخَّعَ فِي وَجْهِهِ فَإِذَا تَنَخَّعَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَنَخَّعْ عَنْ يَسَارِهِ تَحْتَ قَدَمِهِ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَلْيَقُلْ هَكَذَا وَوَصَفَ الْقَاسِمُ فَتَفَلَ فِي ثَوْبِهِ ثُمَّ مَسَحَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ صحيح مسلم رقم 550
ـ نعم ! لقد أمر الرّسول صلّى الله عليه وآله وسلّم أن نسفّ باللّفظ إسفافاً ما بعده إسفاف لمن تعزّى بعزاء الجاهليّة وأن نقول له : عظّ على فرج أبيك ، وأن لا نستعمل الكناية في ذلك بل اللّهجة الدارجة " عض على هن أبيك ولا تكنوا " وهذا فيمن أخطأ خطاءً ميسوراً في نظر كثير من الناس ، فما بالك بأخطاء الاعتقاد ، والكفر والزّندقة .
نعم ، لقد أمر رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم كلّ من رأى من يتفاخر ويتماجد ويتعصّب لقومه بالباطل أن يقول له دون لفّ أو دوران وبكلّ وضوح:" إذا رأيتم الرّجل يتعزى بعزاء الجاهلية، فأعضوه بِهَنِ أبيه ولا تكنوا" أخرجه أحمد والترمذي، صحيح الجامع: 1787 فقوله صلى الله عليه وآله وسلّم: " عضّ إير أبيك “ أي فرجه ، قال ابن الأثير في " النهاية ": التّعزّي الانتماء والانتساب إلى القوم . " فأعضوا بهن أبيه " أي قولوا عضَّ إير أبيك ا- هـ .
وإيّاك أن تقول هذا لا يليق أو ليس من الأدب أن نقول ذلك فتقع في سوء الأدب مع نبيّك صلى الله عليه وآله وسلّم فتقع في الكفر " وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضلّ ضلالا مبينا " وقال " فلا وربّك لا يؤمنون حتّى يحكّموك فيما شجر بينهم ثمّ لا يجدوا في أنفسهم حرجا ممّا قضيت ويسلّموا تسليما " وإيّاك أن تحدّثك نفسك يشيء لأنّك تتّهم أعبد النّاس وأعرف الناس بالأدب والخلق قال تعالى :" وانّك لعلى خلق عظيم " ...
ـ قول الرّسول صلى الله عليه وآله وسلّم عن أبي السنابل : " كذب أبو السنابل إذا أتاك أحد ترضينه فائتي به أو قال فائتيني ، فاخبرها أن عدتها قد انقضت " رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح .قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى : " ومن تكلّم في الدّين بلا علم كان كاذبا وإن كان لا يتعمّد الكذب كما ثبت في الصّحيحين عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لمّا قالت له سبيعة الأسلميّة وقد توفّي عنها زوجها سعد بن خولة في حجّة الوداع فكانت حاملا فوضعت بعد موت زوجها بليال قلائل ، فقال لها أبو السّنابل بن بعبك : ما أنت بناكحيه حتّى يمضي عليك آخر الأجلين ، فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم :" كذب أبو السّنابل ، بل حللت فآنكحي " مجموع الفتاوى 1 / 449 .
إنّ من المعلوم أنّ النبيء صلّى اللّه عليه وآله وسلّم كان يغضب لمحارم اللّه تعالى إذا آنتهكت ومن ثمّ عقد الإمام النّووي رحمه اللّه تعالى بابا سمّاه: باب وجوب الغضب إذا انتهكت حرمات الشّرع "
مواقف النّبيّ العمليّة المتشدّدة :
نعم لقد خشّن أرحم الخلق بأمّته على الكثير من الصّحابة الكرام ، وهم من هم ، وسيتبيّن لك أخي القارئ أنّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وعلى آله وَسَلَّمَ كما أصحابه الكرام و السّلف الصّالح رضي الله تعالى عنهم في تعاملهم مع المخالفين كانت شديدة ، وكانت شدّتهم أعظم في الإنكار والإغلاظ على المخالفين من أهل الشّبهات أشدّ من الإنكار والإغلاظ على المخالفين من أهل الشّهوات .
1- في منهج التّعبّد :
ـ وظهر هذا في فعل النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم مع معاذ حين أطال الصّلاة بالنّاس قائلا له:" أفتّان أنت يا معاذ " !!! .(/13)
وقد أطال معاذ بالنّاس في الصّلاة ، وكانت أشبه بصلاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ، ولم يمنعه ذلك أن يقول له :" أفتّان أنت يا معاذ " قالها له ومعاذ يصلّي نفس صلاة الحبيب النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلّم ، فكيف لو رأى الرّسول صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم تهوّك المبدّلين وصلاة المحرّفين ...
ـ ومنها عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيِّ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي وَاللَّهِ لأَتَأَخَّرُ عَنْ صَلاةِ الْغَدَاةِ مِنْ أَجْلِ فُلانٍ مِمَّا يُطِيلُ بِنَا فِيهَا قَالَ فَمَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطُّ أَشَدَّ غَضَبًا فِي مَوْعِظَةٍ مِنْهُ يَوْمَئِذٍ ثُمَّ قَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ فَأَيُّكُمْ مَا صَلَّى بِالنَّاسِ فَلْيُوجِزْ فَإِنَّ فِيهِمُ الْكَبِيرَ وَالضَّعِيفَ وَذَا الْحَاجَةِ فتح 7159
ـ وفي الثّلاثة الذين تقالوا عبادة النّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكان ردّه شديدا “فمن رغب عن سنّتي فليس منّي“.
روى مسلم : عَنْ أَنَسٍ أَنَّ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلُوا أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ عَمَلِهِ فِي السِّرِّ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ لا آكُلُ اللَّحْمَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ لا أَنَامُ عَلَى فِرَاشٍ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ فَقَالَ مَا بَالُ أَقْوَامٍ قَالُوا كَذَا وَكَذَا لَكِنِّي أُصَلِّي وَأَنَامُ وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي صحيح مسلم رقم 1041
وكان الآنحراف في القسم مبرّرا لجمع الصّحابة والإآنكار على من حلف بغير اللّه تعالى : عن آبن عمر – رضي الله عنهما – أنّه أدرك عمر آبن الخطّاب في ركب وهو يحلف بأبيه ، فناداهم رسول اللّه صلّى الله عليه وآله وسلّم:" ألا إنّ اللّه ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم ، فمن كان حالفا فليحلف باللّه وإلاّ فليصمت " البخاري رقم 6108
ـ ويغضب على من يريد التّنطّع ويريد أن يلزم نفسه بما لم يلزمه به الشّرع : عن عائشة رضي الله عنها قالت : " كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا أمرهم من الأعمال بما يطيقون . قالوا : إنّا لسنا كهيئتك يا رسول الله ، إنّ الله قد غفر لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر . فيغضب حتّى يعرف الغضب في وجهه ، ثمّ يقول : إنّ أتقاكم وأعلمكم بالله أنا " البخاري رقم 20 .
ـ ومن ذلك عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: إحتجر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حجيرة بخصفة أو حصير ، فخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصلّي فيها . قال : فتتبّع إليه رجال وجاؤوا يصلّون بصلاته . قال : ثمّ جاؤوا ليلة فحضروا ، وأبطأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عنهم . قال : فلم يخرج إليهم ، فرفعوا أصواتهم وحصبوا الباب ، فخرج إليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مغضبا ، فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:" ما زال بكم صنيعكم حتّى ظننت أنّه سيكتب عليكم ، فعليكم بالصّلاة في بيوتكم ، فإنّ خير صلاة المرء في بيته إلاّ الصّلاة المكتوبة " مسلم رقم 1822
ويغضب على من ينتهك حرمة المرأة فيطلّق زوجته وهي حائض: عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنّه طلّق آمرأته وهي حائض على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسأل عمر بن الخطّاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ذلك فتغيّظ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثمّ قال: مره فليراجعها ، ثمّ ليمسكها حتّى تطهر ، ثمّ تحيض حتّى تطهر ، ثمّ إن شاء أمسك بعد ، إن شاء طلّق قبل أن يمسّ ، فتلك العدّة الّتي أمر الله أن تطلّق النّساء " البخاري رقم 5251
ويغضب على من تخلّف في الجمعة وهو يخطب :
ـ عن جابر بن عبد اللّه قال جاء سليك الغطفانيّ يوم الجمعة ، ورسول اللّه صلّى اللّه عليه وأله وسلّم يخطب ، فجلس .فقال يا سليك قم فآركع ركعتين. وتجوّز فيهما ثمّ قال إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والأمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوّز فيهما ... لفظ مسلم وفي رواية كان الإنكار ربّما أشدّ اركع ركعتين، ولا تعد لمثل هذا ابن حبّان في الصّحيح4/92 . و الدّارقطني في السّنن 2/ 16 .
ويغضب على من ينتهك حرمة الرّجل الّذي ينطق بالشّهادتين في ساحة المعركة:(/14)